نعمة المعافاة في الجسد
قال الله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34].
أيها الإخوة في الله: يروي الإمام الترمذي في سننه حديثاً يذكر فيه بعض الأذكار التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها حينما يستيقظ من النوم، وأنتم تعلمون أن الذكر من أبرز خصائصه صلوات الله وسلامه عليه، حتى قالت عائشة في الحديث الصحيح: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله في سائر أحواله) كان ذاكراً لله في كل حركة وسكنة من حركات حياته، ومن ضمن الحركات والمتغيرات اليومية التي تجري على الإنسان يقظته بعد النوم، هذه اليقظة وردت فيها عدة أذكار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: منها: (الحمد الله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور).
ومنها: الحديث الذي أذكره لكم الآن وهو عند الترمذي، وهو قوله صلى الله عليه وسلم حينما يستيقظ من النوم: (الحمد لله الذي عافاني في جسدي، ورد عليَّ روحي، وأذن لي بذكره) ثلاث كلمات، يحمد الله صلوات الله وسلامه عليه على هذه النعم العِظام، نعمٌ جزيلة نتقلب فيها ولا ندري لها وزناً، ولكن العبد الرباني يعرف قيمة النعمة، وخير عباد الله على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعرف قدر النعمة ويعرف قدر مُسديها ومنعمها فيحمد الله الذي لا إله إلا هو عليها، ويقول إذا استيقظ من النوم مُشعراً نفسه ومستشعراً عظمة هذه النعمة يقول: (الحمد لله).
والحمد لله كلمة عظيمة، معناها: الثناء والتمجيد والتعظيم والاعتراف والشكر؛ لأنها تستلزم كل هذه المعاني.
وجميع آيات الثناء على الله عز وجل، تستلزم الشكر والصبر والاعتراف والعبودية والانقياد؛ والحمد لله هي الكلمة العظيمة التي يقولها أهل الجنة بعد فراغ الأمر والحساب حيث يقولون: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74] وأيضاً: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75].
الحمد لله، أي: الثناء المطلق لله، والألف واللام هنا لاستغراق جميع المحامد، أي: كُل حمدٍ وثناء وتبجيل وتعظيم، فإنما نرفعه ونقدمه لله الذي لا إله إلا هو.
إن المسلم في حالة اليقظة من النوم يذكر نعمة الله فيقول: (الحمد الله الذي عافاني في جسدي)، وأنت تتقلب في الليل على فراش في نِعَمِ الله، جميع أجهزتك تشتغل من غير خلل ولا عطب، أجهزة مُعقدة بِدْءاً من رأسك إلى أخمص قدمك، فكم من مفصلٍ وعظم وعِرْق وخلية وجهاز وأداة كلها تعمل، ولو تعطلت واحدة من هذه الأجهزة أو تعطل عِرْق من هذه العروق، أو تعطل مفصل من هذه المفاصل، أو حصل في أحد هذه الأجزاء خلل بسيط لتغيرت عليك حياتك، وأنت تعرف هذا.(75/3)
نعمة الأضراس
إذا آلمك ضرسك كيف تظلم الحياة في وجهك وتصيح وتقول: كل شيء إلا الضرس، لماذا؟ لأنك لا تحس بأي ألم إلا ألم الضرس، ولهذا يضربون به مثلاً في تكاليف العرس التي تثقل كاهل الإنسان فيقولون: (العرس نزعة ضرس) يعني أهم عمل، وأهم وأثقل شيء عند الإنسان.
فالضرس الذي يسوس على الإنسان يجد له ألماً، لكن قبل أن يسوس عليك ضرسك، كم معك من أضراس وأسنان مركبة، صف من فوق وصف من تحت، وهي تشتغل بالليل والنهار، وبعض الناس لا يعطيها إجازة ولو ساعة، فهل هذه نعمة أم لا؟ إي والله نعمة من نعم الله العظيمة أن تبقى لك أسنانك سليمة باستمرار وأنت تستعملها، وتصور من قد خلعت له الأسنان وركب تركيبة.
يقول العلماء: إن هذه الأسنان هي القوة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب الله أن يمتعه بها في قوله: (ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا) لأن عليها وعلى وجودها يترتب أكلك للطعام، فالذي ليس عنده أسنان كيف يأكل الطعام؟ فمن الشيوخ كبار السن من يأكل الطعام ولا يحس له بطعم، والذي عنده تركيبة يأكل الطعام ويمضغه لكن ليس له طعم، فإن الطعم يأتي عن طريق إحساس الإنسان بلذة الطعام عن طريق الأضراس.
فهذه نعمة ضرسك الموجود، وليس هو ضرساً واحداً؛ بل اثنين وثلاثة وأربعة والضواحك والأنياب والثنايا، ولو تعطل منها ضرس واحد لتغيرت عليك حياتك، وقد عافاك الله فيها، فله الحمد والمنة.(75/4)
نعمة السمع
جهازك السمعي (الأذن) نعمة من نعم الله عليك، تستقبل الأصوات عبر هذا الجهاز -المكرفون- وبعدها تنقلها رأساً عبر القناة السمعية إلى الطبلة، ومن الطبلة تهتز وترد هذه الأصوات إلى داخل الرأس، والرأس يرسلها إلى الدماغ، والدماغ يترجم هذه الأصوات ويعلم أن هذا صوت فلان وذاك صوت فلان.
فهذه نعمة من نعم الله عليك، ولو كانت الطبلة مخروقة أو دخلت فيها حشرة وأنت راقد وخرقت هذه الطبلة ما حالك؟ والطبلة عبارة عن غشاء من أرق الأغشية، ولكنه محروس بفضل الله ونعمته، فجميع الأجهزة في الإنسان إذا نام تكون مغطاة إلا الأذن لا تتغطى، لماذا؟ لأنه لو غطيت لما استيقظ الإنسان؛ لأن الله يقول عن أصحاب الكهف: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً} [الكهف:11] لما أراد الله أن يوقظهم أيقظ آذانهم فسمعوا؛ ولهذا إذا أردت أن توقظ شخصاً تأتي عند رأسه وأذنه، وتقول: فلان قم، فيسمعك فيصحو، لكن لا تأتي وتكلمه عند عينه أو رجليه؛ لأن هذه الأذان هي التي تنقل هذه الأصوات، وهي نعمة من الله عليك.(75/5)
نعمة البصر
نعمة العين وما أجلها من نعمة! امتن الله بها في القرآن فقال: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} [البلد:8] فهذه من أعظم النعم، والناس اليوم يصرفون هذه النعمة في معصية الله، والله لو شاء لطمس على أعينهم، ولكنه مدهم بهاتين العينين وطلب منهم أن يستعملوها فيما يرضيه وأن يستعينوا بها على ما يحبه في هذه الدنيا، وبدلاً من ذلك استعملت العين في الحرام عند كثيرٍ من الناس، فسخروا أبصارهم للنظر إلى ما حرم الله بالليل والنهار، ينظرون إلى النساء والجرائد والمجلات والأفلام والمسلسلات، وينظرون إلى الناس بعين الازدراء والاحتقار والحسد على ما متعهم الله به من النعم، وهذه المناظر كلها محرمة، وقد قال الله في القرآن الكريم: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] وقال: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه:131].
فأنت بهاتين العينين اللتين هما من أجلِّ نعم الله عليك ينبغي أن تشكر هذه النعمة، فلا تستعملها في معصية الله، وهي والله الذي لا إله إلا هو من أجلِّ النعم؛ لأنك إذا فقدتها فقدت لذة الحياة كلها، والمرء منّا لا يعرف النعمة إلا إذا سلبها، فمتى يعرف الواحد منا العافية؟ إذا مرض.
ومتى يعرف نعمة الشبع؟ إذا جاع، ومتى يعرف نعمة الحرية؟ إذا سُجن، ومتى يعرف نعمة الغنى؟ إذا افتقر، كذلك لا تعرف نعمة البصر إلا إذا مرضت عينك.
ولو أن شخصاً منا أجرى تجربة بسيطة وأطبق عينه لمدة خمس دقائق، وأنا حاولت يوماً من الأيام أن أطبق عيني وضبطت الساعة وجعلتها مثلاً على الساعة السابعة إلا خمساً وقلت لن أفتحها إلا السابعة، وبعد دقيقة شعرت بضيق كبير، وبإمكانكم أن تجربوا، ضاقت عليَّ الأرض وأريد أن أفتح عيناي؛ لكن قد ألزمت نفسي أني لا أفتح فتراني لا أطالع في الساعة، وفي نفس الوقت أنتظر وبعد فترة بعيدة قمت وفتحت عيني وطالعت وإذا بها لم تمض إلا دقيقة واحدة، وأنا قد أصابني دوار من كثرة الإغماض، وأظلمت الحياة في وجهي، ثم قلت: بقي أربع دقائق فصبرت وصبرت حتى مللت، وأخيراً فتحت قليلاً ولم تمضِ إلا دقيقتان، ولم تنته الخمس الدقائق إلا بعد تعب، لماذا؟ لأنني سُجنت لما أظلمت عليَّ عيني ولم أعد أرى شيئاً.
فأنت عندما تفتح عينيك ترى العالم والألوان والجمال والسماء والأرض والليل والنهار والأشجار والأنهار والبحار والسيارات والطائرات والمباني، وما يزين الناس به بيوتهم من طلاءات ومفارش وكنبات وغرف نوم، وما يُمتِع به الناس أبصارهم من أزواجٍ جميلات، وملابس مزركشات، وسيارات وموديلات، كل هذا من أجل ماذا؟ من أجل نعمة العين، وإلا فالذي لا يبصر ماذا عليه؟ فلو أدخلته في مجلس طوله مائة مترٍ أو مجلس طوله متر تراه يريد أن يجلس فقط.
لكن الذي أعطاه الله نعمة البصر، يقول: أريد مجلساً طويلاً؛ لماذا؟ قال: المجلس الواسع يشرح الصدر، إذا جلست في غرفة طويلة انشرح صدري، أما ذاك الأعمى فإنه لا يدري هل هو في مجلس مائة متر فينشرح صدره أو في غرفة عرضها متراً في متر.
وكذلك الآن الكهرباء لماذا يتفنن الناس بالثريات؟ ولو انطفأت الكهرباء في الليل وهم ساهرون أليس أصحاب الأبصار كلهم ينزعجون وترتبك عليهم حياتهم، ويبحثون عن بديل من كبريت ومصباح، أما الأعمى فلا يدري؛ لأن الكهرباء منطفئة عنده مدى الحياة إلا أن يشاء الله.
وأنت ربي أعطاك عينين، فهذه نعمة من نعم الله عليك، لا تعرف قدرها إلى إذا سلبتها، وهذه النعمة معك في كل وقت، ترى فيها متى شئت على مدار أربع وعشرين ساعة، ألا تعلم أن هذه النعمة أنت مسئول عنها يوم القيامة: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8] فما هو النعيم؟ فهل نتصور أننا مسئولون عن البطون فقط؟ لا، فكل نعمة يجريها الله عليك أنت مسئولٌ عنها بين يدي الله، هل حفظتها أم ضيعتها؟ هل شكرتها أم كفرتها؟ هل سخرتها واستخدمتها فيما يرضي مُسديها ومنعمها، أم استخدمتها فيما يغضبه؟ أليست هذه العين من الله؟ هل أنت اشتريتها أو ركبتها في مصنع أو ورشة؟ هل أمك أو أبوك أخذوها ووضعوها في رأسك؟ فمن الذي أعطاك إياها؟ إنه الله.
إذاً: أليس الله بقادر على أن يسلبك العينين يوم أن كنت في بطن أمك؟ كان بالإمكان أن تخرج وليس لك عيون، فليس بيدك شيء، وكذلك الآن أليس الله بقادر على أن يسلبك هذه النعمة؟ بلى، فمن يعوضك نعمة البصر؟ قد يقول شخص منا: المستشفيات، فنقول له: إن المستشفيات الآن عاجزة عن أن تعمل عمليات لبعض العيون، حتى في أرقى المستشفيات التخصصية للعيون في العالم يأتيهم الأعمى ويقولون: لا يوجد فائدة القرنية عندك ملتهبة لا نستطيع بأي حال من الأحوال، فكيف يأتون لك بعين، فهذه نعمة العين.
إذاً: هل تبيع هذه النعمة؟! حتى تعرف قدرها؟ لنعمل مزايدة على عين من عيون شخص منا، فنعطيه مليون ريال أو مليونين، أو عشرة ملايين، والله الذي لا إله إلا هو -أنا عن نفسي- لو أعطيت الأرض من أولها إلى آخرها وقيل لي: تعال نجعلك ملكاً أو رئيساً على جميع دول الأرض ونأخذ عينك فلن أعطيهم، لماذا؟ لأنك تملك الأرض كلها فأنت أغنى أهل الأرض بعين، وأعطاك الله عينين، فهذه نعمة اشكروا الله عليها.
فأنت تقول في استيقاظك: (الحمد لله الذي عافاني في جسدي) عافاني في أسناني وأذني وعيني وأنفي.(75/6)
نعمة الأنف
ومن نعم الله عليك نعمة الأنف الذي جعله الله في وسط الوجه، وقبل أن يدخل الهواء إلى الرئتين يمر عليه، ويقوم هو عبر الشعيرات الهوائية الموجودة في باطن الأنف بتصفيته وتنقيته من الأتربة والغبار، ولذلك ترى أنك إذا اشتغلت في ذلك اليوم بأي عمل فيه تراب وغبار، ثم جئت تستنثر وتتوضأ فإنه يخرج من أنفك تراب، فهذا التراب لو لم توجد الشعيرات لكان رأسك ممتلئ طيناً؛ لكن الله يحجز عنك هذه الأتربة عن طريق هذه الشعيرات فلا يدخل شيء، فإذا دخل الهواء من الأنف لا يدخل مباشرةً إلى الرئة، كان بالإمكان أن يدخل من الفم، لكن جعل الله له ممراً من الأنف إلى أن ينزل بواسطة البلعوم إلى القصبة الهوائية ثم إلى الرئة باستمرار، وفي هذه الرحلة يحصل تكييف للهواء؛ لأن درجة حرارة الهواء الخارجي -أحياناً- تكون أقل من درجة حرارة الجسم، فحرارة الجسم في الغالب (37 درجة)، لكن تكون درجة حرارة الهواء الخارجي (21 درجة)، فإذا دخل الهواء البارد إلى الرئة فجأة، فإنه يحصل للإنسان زكام، فالهواء يدخل من الأنف والأنف يدفئه باستمرار ويدخل إلى الجسد وهو على درجة حرارة الجسد، ولذا ترون الإنسان في أيام البرد يصير أنفه أحمر، لماذا؟ لأن الشعيرات الدموية الموجودة فيه تعمل أكثر لكي تدفئ الهواء، فلا ينزل الهواء إلا مكيفاً، فهذه نعمة من نعم الله عليك.
وإذا أصبت بالزكام وجلست أسبوعين أو ثلاثة وأنت لا تشم تعيش حياتك كلها بصعوبة جداً، ولا تطعم شيئاً من ألذ المأكولات، ولا تشم شيئاً من الروائح العطرية؛ لأن الحاسة عندك ليست سليمة، هذه نعمة من نعم الله عليك، وفتش في نعم الله عليك.(75/7)
نعمة العقل
ومن نعم الله: نعمة العقل الذي هو مصرف لهذا الإنسان، فإذا سلب من الإنسان العقل كيف يتحول؟ إنه يفقد القدرة على التصرف السليم، فيتصرف تصرفات غير مسئولة أو غير معقولة، ويخاف أهله منه، يُكتِّفُونه ويجلسون عند رأسه، ويقولون: انتبهوا! لا يفتح الباب، لا يقفز من الشُّبَاك، انتبهوا! لا تجعلوا عنده كبريتاً، أبعدوا النار من عنده؛ لماذا؟ لأنه لا يضبط تصرفاته، ولهذا امتن الله علينا بهذه النعمة فقال: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].
فهذه الثلاث النعم لو سلبها الله من البشر، فلا عقول ولا أسماع ولا أبصار ماذا بقي معهم؟ بقيت كتل بشرية لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر، فهل تصنع هذه الكتل حضارة؟ وهل تخترع مخترعات؟ وهل تركب الطائرات؟ وهل تصنع سيارات؟ وهل تبني العمارات؟ وهل تؤلف المؤلفات؟ وهل تبني الجامعات؟ وهل تنتج هذه الحضارات؟ لا.
لماذا؟ لأنه لا عقل يعقل ولا سمع يسمع ولا عين تبصر، ماذا بقي من الناس؟ بقي منهم الأشكال التي لا قيمة لها، لكن هذه النعم من الله تبارك وتعالى.
العقل نعمة من نعم الله الذي لا إله إلا هو؛ لأنه بمنزلة المصرف لك بحيث لا تمشي إلا في الصواب، فبغير العقل لا يدري ماذا يعمل الإنسان، فعليك أن تشكر الله على نعمة العقل.(75/8)
نعمة اللسان
ومن نعم الله: جهاز اللسان الذي هو آية من آيات الله، امتن الله به في القرآن وقال: {وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} [البلد:9] فالهواء الخارج يسمونه في الطب ثاني أكسيد الكربون وهو محروق ليس له فائدة، بحيث لو جلس الإنسان يستنشق ثاني أكسيد الكربون المحروق يموت، وهو يستنشق الأكسجين ويحوله إلى الرئة ويصفي به الدم وبعد ذلك يصعد ثاني أكسيد الكربون، فهذا الهواء الخارج محترق وسام، ورغم أنه سام إلا أنه لا يخرج هباء، وإنما ركب الله تبارك وتعالى في الحلق الأوتار والحبال الصوتية فتستفيد من الهواء الخارج وتتكلم به، ولهذا يقولون: إن الذي يريد أن يقرأ القرآن أو يتكلم فعليه أن يستنشق نفساً طويلاً ثم يقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] فالهواء الذي كان في الرئة ما الذي جعله يصعد ليصبح كلاماً وهو هواء فاسد، لا تعلم أنت ولا أعلم أنا ولا يعلم أحد، لسان يتكلم بكل فصاحة وبيان، ويعرف الكلام وهذا لا يدري كيف، والذي يقرأ كلام ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة وهو يتكلم على نعمة الله في خلق هذا اللسان، يرى العجب العجاب، كيف أن هذه اللحمة التي لا تدري كيف تعرف الأصوات وتتكلم بالأصوات ممكن أن أتكلم لكم الآن بصوتي وممكن أن أقلد لكم صوتاً آخر، فكيف صعد هذا الصوت؟ باللسان، وهذا اللسان يعرف الأطعمة كلها، هذا حار، وهذا بارد، وهذا حلو، وهذا حامض، وهذا فيه لذعة، وهذا فيه حموضة، جميع الأطعمة كلها تعرفها عن طريق لسانك، هذه نعمة من نعم الله عليك.
وبعد ذلك في داخل الفم يقوم بدور عامل الخلطة، فالذي يعمل الخلطة يأتي -مثلاً- بكيس من سمنت ورمل وخرسان وما تصلح إلا بعامل وماء و (كريك)، وهذا هو الذي تعمله أنت الآن، تدخل لقمة رز، ومعها قليل لحم، من الذي يخلطها داخل ويسويها ويقلبها؟ الأسنان تطحن وهذا الكريك (اللسان) يقلب إلى أن تنضبط الخلطة، فإذا كانت مستساغة نزلها على المعدة، والمعدة تقوم بدورها في الهضم، هذه نعمة الله في اللسان.(75/9)
نعمة المريء والبلعوم ولسان المزمار
بعد اللسان في رأس الرقبة توجد (ماسورتان): ماسورة اسمها (المريء) وهو الذي يدخل منه الطعام، وماسورة ثانية اسمها البلعوم، وهي التي يسمونها (القصبة الهوائية) وهي التي يدخل منها الهواء.
وهاتان الماسورتان يقف بينهما جندي نسميه باللسان العامي (الطراعة)، واسمها في الطب: (لسان المزمار).
ومهمته: إذا أتى طعام يفتح مجرى الأكل ويسد مجرى الهواء، وإذا أتى هواء يسد مجرى الطعام ويفتح مجرى الهواء، ولا يسمح بمرور الاثنين في وقت واحد -عسكري مضبوط- وأحياناً يصدر من الدماغ أمر لهذا العسكري بالسماح بدخول هواء ودخول طعام، يعني: شخص يأكل ويتكلم ماذا يحصل عنده؟ يحصل الشرقة، وهي أن العسكري هذا لم يعد يعرف ينفذ أمر من، فهناك هواء يريد أن يدخل ويخرج؛ لكي يتكلم الشخص، وطعام يريد أن يدخل، فتدخل حبة رز في ماسورة الهواء وليس هو بمجرى لها، ولو دخلت هذه واستقرت في الداخل ماذا يحصل؟ يحصل الموت، لا يوجد دواء إلا أن يموت الإنسان مباشرة، حيث إنه لا تستطيع هذه القصبة الهوائية أن تتحمل حبة رز تدخل، فإذا دخلت الحبة هل يموت الإنسان بسبب هذه الغلطة؟ لا.
فالله عز وجل رحيم بهذا الإنسان، فتصدر أوامر من العقل إلى الرئة بوجود جسم غريب دخل عليكم اطردوه، فرأساً يبدأ الإنسان يسعل كثيراً، وهذه هي عملية طرد لهذا الجسم الغريب ولهذه الحبة من هذا المجرى فتخرج، فإذا خرجت قال: الحمد الله ذهبت الشرقة.
هذه نعمة يا أخي! لو عطل الله منك لسان المزمار أو خرب ماذا تعمل؟ يا أخي! كلك آيات من آيات الله: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] أفلا تتفكر من الذي أعطاك هذه الإمكانات وهذه القدرات إلا الله الذي لا إله إلا هو.
المريء نسميه باللسان العامي (القرط) يعني الغضروف، وهي مفتوحة باستمرار، فهي مجرى الهواء لماذا؟ لأن الإنسان يحتاج إلى الهواء باستمرار، فجعلت هذه الماسورة مفتوحة وأنت قائم أو نائم، وأنت ماشٍ أو جالس، في أي وقت مفتوحة والهواء شغال.
وبعد ذلك في المنام ركب الله هاتين الرئتين وركب لها عضلات لا إرادية تشتغل بغير إرادة منك، عضلة الرئة باستمرار تضخ الهواء، لو أن الله جعل عضلة الرئة إرادية بحيث من أراد الحياة يشغل رئته، والذي لا يريد الحياة يوقف، فما رأيكم: هل يشتغل شخص بشيء غير رئته؟ كل منا يريد ألا يقبض؛ لأنه إذا أوقف الرئة مات، لكن جعل الله هذه الرئة تتحرك بالهواء وأنت راقد، والهواء يطلع وذاك ينزل، لا إله إلا الله ما أعظم نعم الله علينا! أما العضلة الثانية لمجرى المريء الخاص بالطعام فماسورة مجوفة ذات عضلات تسمح بنزول الشيء ولا تسمح بخروجه، إذا دخل فيها شيء تنقبض إلى تحت بحيث لا تبقى لقمة في حلقك، بمجرد أن ترميها تقوم العضلة تضغط على تلك وتضغط تضغط إلى أن تستقر في بطنك، ولولا وجود هذه العضلة لاحتاج كل منا إلى أن يدفع كل لقمة ويدخل وراءها سيخاً كيما ينزلها، لكن من وقت ما تبلعها ما الذي يوصلها إلى المعدة؟ هذا فم المعدة مسافة (30سم)، فما الذي يدخل اللقمة إلى هنا؟ أو تشرب على كل لقمة ماء، لكن يمكن أن تكون اللقمة كبيرة، من الذي يمشي لك هذه اللقمة؟ لقد كفاك الله هذه المئونة، وجعل العضلة هذه بمجرد ما تنزل بها الحبة تنقبض إلى تحت لكي تعصرها إلى أن تنزلها وتنفتح بعدها، لكن هذه العضلة لا تسمح بخروج شيء، وهذه العضلة النازلة مفتوحة، لكن لا تسمح بخروج الطعام؛ بدليل أنك إذا قمت بالانتكاس أو مارست حركة من حركات الرياضيين أنه يحصل الانتكاس والمعدة تتشقلب، لكن هل سمعنا أن واحداً انتكس على رأسه ونزل من بطنه إلى الماسورة شيء؟ لم ينزل شيء، لماذا؟ لأن الماسورة هذه إذا انتكس الواحد لا تسمح بنزول شيء، إلا في حالة واحدة وهي حالة الاستفراغ فإذا امتلأت المعدة، وأحس الإنسان بضيق، فالله عز وجل يعطيه قدرة على أنه ينقر حلقه، ونقر الحلق هذا هو عملية تهييج لهذا البلعوم أن هناك طعاماً زائداً دعه يتخلص منه، فيعود الشخص (أع، أع) حتى يخرجه، أو يكون الإنسان مريضاً، فهذه نعمة أيها الإخوة! من نعم الله عليك أيها الإنسان.(75/10)
نعمة المعدة والكبد
ينزل الطعام إلى المعدة التي هي جهاز غريب جداً مكون من اللحم، فمعدة الإنسان ليست مكينة حديدية، بل هي جهاز لحمي، لكن هذا الجهاز اللحمي يهضم اللحم، ولا يهضم نفسه، يعني هناك خاصية أنك تأكل اللحم وتنزله، تقوم هذه المعدة بإفراز مواد حمضية قلوية شديدة مثل الأسيد، يعرف الإنسان طعمها إذا حدث له قيء وقاء وصعد شيء يسمونه مر، يعني: حامض جداً، هذا هو الموجود في معدة كل الناس.
ومن خصائص هذه المادة: أنها تأتي على الطعام النازل إليها فتذيبه وتصهره وتحلله تحليلاً كاملاً، وبعد ذلك ينتقل هذا الطعام المهضوم المنتهي المطحون إلى الأمعاء، والأمعاء تقوم بدور عظيم في عملية استخلاص المواد الغذائية النافعة وتحويلها إلى الجسد واستخلاص المواد الغذائية الغير نافعة وتحويلها كفضلات، وبعد ذلك عبر مواسير طويلة لا يعلمها إلا الله.
هذه المعدة معقدة، فلو رأيتم الآن الذبيحة لما تذبح وترى (الخولاني الكبير)، وترى (العماصير والمرابض) هذه كلها تقوم بأدوار عظيمة، فيك أنت مثلها وأعقد منها.
ومع هذا الجهاز أيضاً الجهاز الهضمي فيه الكبد، وهذا الكبد يقوم بوظائف كبيرة جداً في الجسم، وهو بمنزلة معمل كيماوي معقد الأدوار.(75/11)
نعمة الكلى
بعد ذلك الكلى معلقة في ظهر الإنسان وهي بمنزلة الصفايات، وهي التي تقوم بعملية تنقية الدم من السموم والأملاح والمواد الفاسدة، وإذا فشلت الكلية عند الإنسان استطاعت الكلية الأخرى أن تقوم بهذا الدور، وكان الناس في الماضي قبل المستشفيات إذا فشلت الكلى يموت، لأنه لا يستطيع أن يعيش بغير كلى، لكن في هذا الزمان بعد تقدم العلم والحمد الله استطاعوا اختراع جهاز في المستشفى يسمونه الكلية الصناعية، والكلية الصناعية دولاب كبير يقوم بدور الكلية الصغيرة، فهم يأتون بالإنسان الذي عنده فشل كلوي ويجرون له عملية، ويقومون بسحب الدم منه في ذلك اليوم الذي يريدون أن يعملوا له فيها غسيلاً، في كل ثمانية وأربعين ساعة يغسلون دمه مرة واحدة، يسحبون الدم كله ويرسلونه إلى المكينة -الكلية الصناعية- فتقوم بتصفيته وإعادته مصفى عبر ماسورة ثانية إلى جسده أربع ساعات، والإنسان مستلق على السرير، ملق يديه يشعر بتعب ومعاناة لا يعلمها إلا الله، من أجل أن الدم يسحب كله ويذهب إلى الكلية هذه وتصفيه، أتدرون كم تصفي هذه الكلية؟ تصفي ما نسبته من السموم والأملاح الموجودة فيه عشرة في المائة فقط! وتسعين في المائة موجود في الدم، لكنها تصفي عشرة في المائة التي فيها خطر على جسم الإنسان، والباقي تضر الإنسان على المدى البعيد لكنه لا تستطيع تصفيتها، وأنت ربي معلق لك صفايتين في ظهرك تصفي لك كل أمورك ولا تدري ولا تشكر الله عليها.
ولا يعرف نعمة الكلية إلا الذي ليس عنده كلى، يقول لي أحد الإخوة وقد أصيب بمرض فشل كلوي وجلس سنة وهو يعمل الغسيل هذا، والغسيل يكلف الدولة الغسلة الواحدة أكثر من ألف وخمسمائة ريال، لكن الآن في كل مستشفى كلية صناعية وأدوار تراهم بغير طوابير طالعين نازلين يغسلون بدون دفع أجرة، وهذا من فضل الله عز وجل.
وصاحب الكلية الصناعية يعاني ألماً لا يعلمه إلا الله؛ بل إن شكله يتغير، أحد الإخوة أعرفه قد تغير لونه من البياض إلى السواد، والله قابلته يوماً من الأيام فضحك لي على عادته، لكن أنا تعجبت: من هذا الذي يضحك لي وأنا لا أعرفه، إلى أن قربت وهو يضحك وإذا بي أعيد الذاكرة، عرفت ملامحه لكن اللون ليس لونه، تغير لونه كاملاً، قلت: فلان؟ قال: نعم، قال: ماذا فيك؟ وأنا خفت أن أقول: إنك تغيرت، فيصير في نفسه شيء من أجل المرض، قلت: يا أخي أنا من زمان لم أرك، فاشتبه عليَّ، فقعدت أسأله مالك؟ قال: الحمد لله أنا مصاب بالفشل الكلوي، وأجروا لي عملية، وأخذوا الكلى كلها، وأنا الآن أعمل غسيل كل ثمانية وأربعين ساعة، وقد تغير لونه، ولما سألت الدكتور بعدها، قال: إن المسام في الجلد تتعبأ وتتغير بفعل المواد التي لا تزال في الدم والتي لا تستطيع هذه الكلى الصناعية أن تصفيها، وأنت لا تشعر بهذه النعمة.
أحد الإخوة عمل عملية نقل كلية من أحد أقربائه والآن يعيش بدون غسيل، يعيش بكلية واحدة، ويقول لي: يا أخي! ما أعظم نعمة الله علينا في الكلى، لم يذكر نعمة العين ولا نعمة الأذن، لم يذكر إلا نعمة الكلى، يقول: الحمد لله، قلت: ماذا بك؟ قال: يا أخي! كنت في هم! أذهب مشوار كل يوم أطلع من مكة إلى جدة أغسل كل يوم، ولابد يكون معي مرافق؛ لأني لا أستطيع بعد الغسيل أن أقود السيارة فيرجعني هذا المرافق، كل ثمانية وأربعين ساعة يذهب ويأتي، يقول: راحت حياتي كلها طلعة ونزلة وغسيل، والآن الحمد لله فأنا أجلس في بيتي والكلية الصناعية معلقة في ظهري، قلت ومن قبل كنت تدري بها قال: والله ما شعرت بها إلا الآن.
هذه الكلية الصناعية يتصور بعض الناس الآن منا أو أنا كنت أفهم أن وجود الكلية الصناعية بمجرد أن توضع في جسم الإنسان تعمل مباشرةً، لا.
لا بد أن يتناول يومياً جرعة من الدواء يسمونها مقابل رفض الجسم للعضو الغريب؛ لأن الكلية هذه ليست للجسم هذا، هي غريبة عليه ومحتمل في ساعة من الساعات أن يقول الجسم: من الذي أتى بكِ هاهنا، يرفضها، ورفضها يعني لا يتعامل معها فيموت الإنسان، فماذا يعمل الأطباء؟! يعطونه جرعة يومياً من دواء معين مع قارورة يأخذها في جيبه باستمرار، قلت: ما هذه؟ قال: هذه ثمنها ألف ريال تكفيني شهراً واحداً، ألف ريال شهرياً يعني راتب شخص، قلت: من أين تستلمها؟ قال: أستلمها من المستشفى بالمجان، تصرفها الدولة -بارك الله فيها- للناس بالمجان الذين عندهم فشل كلوي، ويعيشون على هذا المضاد، ويتناول هذه الجرعة بنسب معينة، مرة يكثر ومرة يقلل، بحسب التحاليل، والتحاليل كل شهر حتى يروا هل الجسم راضٍ عنها؟ فيعطونه -إن كان غير راضٍ- زيادة في الجرعة حتى يرضى الجسم، ولكن لابد من هذه المادة، هذا نعمة يا أخي! تذكر نعمة الله عليك، الحمد الله الذي عافاني في جسدي.(75/12)
نعمة القلب
القلب: قلب الإنسان المضخة التي تضخ الدماء إلى الجسد، فيها مواسير وأوردة وشرايين، وبعد ذلك حركة باستمرار، وإذا توقف ماذا يحصل؟ يسمونه سكتة قلبية، لكن الله عز وجل أعطى هذا القلب قوة، ولذلك يقول الأطباء: إن القلب من أهم وأقوى الأعضاء وأجلدها وأصبرها، قليل هم الذين توقفت قلوبهم، لكن نجد آخرين فشلت كلاهم، وعميت أعينهم، وهذا يحصل بكثرة، أما القلب فنادر، لماذا؟ لأن الله أعطاه قوة؛ لكي لا يموت الإنسان بسببه.
فلو أن الله جعل قلباً تقليداً (تايوان) ولله المثل الأعلى، فماذا يصير؟ بمجرد وقوع أقل ضربة في قلبك تموت، لكن لديك قلب (أصلي) لا يقف بإذن الله، وشغال بالليل والنهار، الأمعاء، الكلى، الكبد، البنكرياس، كل الأجهزة، بعدها تأتي إلى جهازك العضلي، جهازك الدموي، جهازك الهيكلي، كل هذه أجهزة عافاك الله فيها، ولو فتشنا الجميع واحداً واحداً لوجدنا أنه معافى من رأسه إلى قدمه، ويذهب إلى بيته فيجد زوجته معافاة من رأسها إلى قدمها، هذه نعمة يا إخواني! وأولادنا معافون كلهم والذي عنده مرض بسيط رأساً الصيدلية مليئة، والأدوية مليئة، والمستشفيات مفتوحة، وفي أي لحظة نذهب لنتعالج، فنقول: الحمد لله الذي عافانا في أجسادنا.(75/13)
نعمة رد الروح بعد النوم
أما النعمة الثانية التي وردت في الحديث فهي: (ورد عليَّ روحي) وهي نعمة أخرى تمديداً لخدماتك؛ لأن الروح تُطرد من الجسد مرتين: طرد نهائي، وطرد مؤقت.
فالطرد المؤقت يكون عند النوم، ولماذا تطرد؟ لكي يستريح الجسد، إذ لا يمكن أن يستريح الجسد ويهدأ والروح متضايقاً؛ لأن الجسد مركوب والروح راكب، وهل سمعتم مركوباً لا ينزل عنه راكبه؟ هذا لا يمكن، فالطائرة لا بد أن تقف ويراد لها صيانة، والسيارة لابد أن تقف، والدابة لابد أن تقف، ليس هناك مركوب يمشي ليل نهار ولا يقف، أبداً، كذلك الجسد مركوب، ولذا إذا بقي الراكب موجوداً يتعب الجسد، ولو جئنا بإنسانٍ راجع من عمل أو دوام أو سفر متعب، سهران مثقل محطم وقلنا له: ماذا تريد؟ يقول: أريد أن أرتاح.
قلنا: كم ساعة تريد أن ترتاح؟ قال: أريد أرتاح أربع أو خمس أو ست ساعات.
قلنا: لا.
نعطيك عشرين ساعة، لكن خذ هذا السرير الجميل، وهذا الفراش الوثير، وهذه البطانية الجميلة، خذ هذا وارقد واجلس عليها؛ لكن لا تنم كلما غمضت عينك وقفناك، فهل يرتاح؟ رغم أن السرير ممتاز، وهو لا يعمل شيئاً، مستلقٍ لكنه لا يرتاح إلا إذا نام، وإذا نزلت الروح من جسده، فإذا ذهبت الروح ونام الإنسان ساعة أو ساعتين وأتينا بعد ساعتين، وقلنا له: هل أنت تعبان؟ قال: لا.
الحمد لله، اللهم لك الحمد ذهب التعب، ارتاح الجسم في النوم وعادت له حيويته ونشاطه عن طريق ذهاب الروح، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن ينام الإنسان حتى يعيش الجسد، ويعود مرةً ثانية لمقاومة أتعاب هذه الحياة، ولكن الروح تخرج خروجاً حقيقياً، فلا تبقى الروح في الجسد، والله يقول: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ} [الزمر:42] يعني: لم تمت موتاً حقيقياً، فيتوفاها الله أين؟ {فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر:42] أي: لا يردها {وَيُرْسِلُ} [الزمر:42] فمعنى الإرسال أنها قد خرجت، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث -وهو متفق مع الآية-: (إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها) هذه الروح خرجت من الجسد وذهبت إلى مكانٍ يعلمه الله لا ندري أين هو الآن، أين تذهب الروح إذا نام الإنسان؟ وردت أدلة أن روح المؤمن تسجد تحت العرش، وأن روح الفاجر -والعياذ بالله- تجتذبها الشياطين وتجول بها ولا تترك بها آفة إلا عذبتها فيها، أما روح المؤمن الذاكر فتذهب تسجد عند الله عز وجل حتى تعود له روحه، فروحٌ تحت العرش وروح في الحمام، كما يقول ابن القيم: أرواح المؤمنين تحت العرش، وأرواح الفسقة والمجرمين أصحاب الغناء والطرب الذين ينامون على المعاصي هؤلاء تذهب أرواحهم إلى الحمام في الأرض، تجول مع الشياطين والعياذ بالله.
الروح إذا خرجت لا يدري الإنسان متى تخرج أولاً، وهناك عالم أمريكي أجرى أبحاثاً دقيقة على النوم، وجاء بإنسان ووضعه في مكان وسلط عليه أجهزة يقيس نبضه وحركته ويضبط كل تصرف يحصل منه، وتركه يُبصر ويريد أن يرى كيف ينام، وجلس عند رأسه وأخيراً وهو جالس يفكر والأجهزة لم يتحرك منها أي جهاز إلا وذاك يرقد داخل الصندوق، وهو جالس يفكر وأخيراً طالت عليه المدة وإذا بالدكتور نفسه قد نام.
وأنا في يوم من الأيام كنت أفكر في النوم فدخلت في الفراش وبعد ذلك أدخلت البطانية تحت رأسي، ودخلتها من تحت (كراعيني) ثم أيضاً دفيتها من تحت جسمي ولفيتها عليَّ وأنا جالس أفكر أقول: الآن يأتي النوم، كيف يأتي النوم ومن أين يأتي هل يدخل من الباب أو (الكترة)؟ والآن قد قفلت على نفسي كيف يخرق البطانية، وأنا أفكر وإذا بي قد نمت وأنا في التفكير ما انتهيت منه فهذه آية من آيات الله.
النوم آية من آيات الله، أخذ الله روحك وكان في الإمكان ألا تعود إليك مرة أخرى، ولكن مدد الله خدماتك وأعطاك فرصة ثانية، وأعطاك إمكانية أخرى لتصحيح وضعك، فرد الله عليك روحك، لماذا تُرد روحك؟ لكي تعصيه، بعضهم يمد يده إلى علبة الدخان قبل أن يفتح عينيه، تراه يبحث عن الدخان ليدخن، وبعضهم يمد يده من وقت أن يستيقظ على الأغنية (يا صباح الخير ياللي معنا) الله لا يصبحك إلا بالخير، مع أنه ما فيه خير، لا حول ولا قوة إلا بالله.
الله رد عليك روحك من أجل ماذا؟ من أجل تصحيح الوضع، كان بالإمكان ألا تصحو، وكم عرفنا أقواماً ناموا وما استيقظوا، فبما أن الله رحمك وأنعم عليك بهذه النعمة ومدَّد في خدماتك، ورد لك روحك من أجل أن تستيقظ فتستغفره وتشكره وتعمل عملاً صالحاً ينفعك بعد موتك لا أن تقوم فتحاربه، والله ينعم عليك برد الروح وأنت تجازي ربك بمعصيته، فتستيقظ على معصية الله وتستعمل نفسك في معصية الله ولا تقوم إلى طاعة الله.
وتبدأ من يوم تستيقظ إلى أن تنام وأنت شغال في المعاصي، ثم تنام على نية القيام على المعاصي، لا حول ولا قوة إلا بالله، هذه مصيبة.
(ورد عليَّ روحي) رد الروح من أجل النعم التي ينبغي أن تعرف قيمتها، فتقول: يا ربِّ! لك الحمد كما رددت عليَّ روحي، من حقك عليَّ ومن واجبي أن أطيعك، لأنك رددت إليَّ روحي.
قال الحسن البصري وقد مر على جنازةٍ ومعه غلام من رواده ومن مريديه، قال لغلامه هذا: [يا بني! ما ظنك بهذا الميت لو ردت له الروح ماذا سيعمل؟ قال: يطيع الله فلا يعصه أبداً] طبعاً أي شخص مات ثم رد الله عليه روحه هل سوف يعصي الله؟ أبداً لا يمكن، قال: [فكن أنت هو] يقول: اجعل نفسك أنت الذي قد حُملت على الخشب وأنك ذاهب إلى المقبرة، وقد تكون أنت أصغر في السن من هذا الميت، وهل يأتي الموت على حسب الأعمار؟ لا.
ولكن الله عز وجل أماته وأحياك أنت، فخذ من موته عبرة واجعل نفسك أنت المحمول على الأعناق، والآن ردت لك الروح فأطع الله ولا تعصه أبداً.
فالله رد لك الروح من أجل أن تطيعه ولا تعصيه أبداً.
وهذه النعمة الثانية.(75/14)
نعمة ذكر الله
النعمة الثالثة: (وأذن لي بذكره) فكم من أناس يقومون معافين في أبدانهم وردت لهم أرواحهم، ولكن لم يؤذن لهم بذكر الله عز وجل، يقومون على غير ذكر الله، ويقطعون سحابة ليلهم ونهارهم في معصية الله؛ لأن الله لم يأذن لهم؛ لأنهم عصوه وخالفوا أمره، وتمردوا على شرعه، وعارضوا أوامره، وارتكبوا مناهيه، يعرفون أمر الله في أعينهم لكنهم نفذوا أمر الشيطان وتركوا أمر الله أمر الله في أعينهم، النظر في المصحف وإلى ملكوت السماوات والأرض، والنظر بها في مصالحك، وغضها عن الحرام، فهم عطلوها من كل ما أمر الله به، واستعملوها في كل ما أمر الشيطان به، ولذلك تجد الذي يحب النظر إلى النساء لا يحب النظر إلى المصحف، ولو قلت له: خذ اقرأ القرآن، قال: شكراً.
وهناك شخص رأيته في المسجد، وهو جالس وأنا أقرأ بجانبه فقمت آخذ مصحفاً وأعطيه، فقال: شكراً، يعني: معبأ حسنات سبحان الله! شكراً للمصحف، من يرد المصحف إلا شخص محروم، ووالله لو أني أعطيته مبلغاً من المال لن يقول: شكراً، لكن المصحف لا يريد، فهذا محروم وقلبه منكوس والعياذ بالله، فعطل عينيه من النظر إلى المصحف لماذا؟ لأن عينيه ترى الحرام، والمسلسلات، والأفلام والجرائد والمجلات، بل إن بعضهم يجلس ساعة وساعتين يشتري بعشرة ريالات مجلة اسمها النهضة، الذي يسمع نهضة الأمة يعني سموها، سؤددها، مجدها، تاريخها وهل تعرفون ما هي نهضته؟ هي نهضة الجنس والزنا والغناء وقلة الحياء، يسمونها النهضة، واليقظة وبعشرة ريال وفيها صور فاتنة وقصص وكلام فارغ، يقرأها من الجلدة إلى الجلدة، لا يدع كلمة إلا وقد قرأها، ولو قلت له: خذ بالله صحيح البخاري قال: شكراً، صحيح البخاري فيه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أصح كتاب بعد كتاب الله، خذ القرآن لا يريده، خذ السنة لا يريدها، خذ مجلة إسلامية لا يريد، لا يريد إلا هذه.
عطل عينه من النظر إلى ما يحبه الله ويرضاه، واستعملها فيما يغضب الله ويأباه.
وعطل أذنه عن سماع القرآن والذكر والمواعظ، واستعملها في سماع الغناء.
وعطل لسانه عن الذكر والشكر والعلم وقراءة القرآن، واستعملها في المعاصي.
فهذا الإنسان لما سار في الخط المعاكس لم يُؤذن له بذكر الله، لكن أنت يا مؤمن يسرك الله لهذا الأمر، وهذه بشرى والحمد لله أننا نرى الإقبال الكثير من قبل الشباب المؤمن.
هناك شخص قبل صلاة المغرب وأنا خارج من بيتي لآتي إلى هنا، أمسكني عند الباب، يظن أن المحل الذي في بيتي حق الأشرطة ملكي، فقال: يا أخي! أنا من أهل بيشة وكان عندي استريو للأغاني، ولكن تاب الله عليَّ، وقررت تغييره من استريو أغاني إلى استريو رباني، وإذا بالنور في وجهه، والولد يتفتق حيوية وإيماناً، يقول: وأنا أرجو الله أن يغفر لي زلاتي فما من بيت إلا عليَّ فيه ذنب، فكم اشتروا مني من أغاني، وأنا الذي أصدرها، وأفسد بيوت المسلمين، واليوم والحمد لله تاب الله عليَّ، وما وجدت كفارة لعملي إلا أني أبيع أشرطة إسلامية بدل الأشرطة الشيطانية، فأرجو منك أنه إذا كان هذا المحل لك تجعل الصبي يساعدني ويدلني على الأشرطة المفيدة، فقلت له: بارك الله فيك وجزاك الله خيراً والحمد الله الذي هداك للإيمان، وهذا هو الوضع الصحيح؛ انتقلت من حزب الشيطان إلى حزب الله، كنت عدواً لله تحاربه واليوم أصبحت ولياً لله تدعو إليه، واعلم أنه ما من شريطٍ يخرج من محلك ويدعى به إلى الله ويطاع الله به إلا ولك مثل أجره، لا يوجد أعظم من هذا العمل، فاحمد الله ولكن يمكن يبتليك الله ويختبرك وما يصير لك رواج ولا مكاسب ولا يأتيك شيء فاصبر فإنك على الحق، قال: لا.
لا توصيني بهذه فقد ذقت المر، فذهبت معه إلى صاحب المحل؛ لأن المحل ليس لي وقلت له: أين عمك؟ قال: عمي غير موجود، قلت: قل له: يقول فلان: هذا الرجل ينبغي مساعدته وإعطاؤه الأشرطة بسعر التكلفة، يعني: ما يكسب منه؛ لأن مثل هذا يعان ويساعد حتى يقوم محله، قال: أبشر إن شاء الله، فالحمد لله.
ينبغي عليك أيها المسلم أن تشكر الله ما دام أن الله أذن لك بذكره.
فأولاً حين فتحت عينك قلت: الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني، أيضاً أذن لك في أن تفكرت في نعم الله عليك فشكرت الله، فقلت: وعافاني في جسدي ورد عليَّ روحي، وبعد ذلك أذن لك في ذكره.
فهذا الحديث أيها الإخوة! فيه ثلاثة ألفاظ لكن فيها عبر وحكم إذا تأملها الإنسان عرف مقدار ما ينبغي أن يقوم به من العمل والإخلاص والتوبة إلى الله من جميع الذنوب كبيرها وصغيرها دقيقها وجليلها، حتى يكون من العباد الصالحين الذين يتولاهم الله في الدنيا والآخرة.(75/15)
أعظم الذكر هو القرآن الكريم
أعظم ما يُذكر الله به هو القرآن الكريم الذي اجتمعنا هذه الليلة بسببه، القرآن الكريم الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] القرآن العظيم الذي يقول الله عز وجل فيه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52] فسمى الله هذا القرآن روحاً، وكأن هذه الأمة جسد، وهذا الروح هو الذي إذا دخل فيها أحياها، وإذا خرج منها فهي ميتة، وهذه هي الحقيقة أيها الإخوة! إن الأمة الإسلامية إذا عاشت على روحها دبت فيها الحياة، وإن عاشت على غير روحها دب فيها الموت، وهاهي اليوم تدب فيها الحياة فتحيا، ويوم أن كانت ليس فيها حياة بالقرآن فهي ميتة: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى:52 - 53].
وسمى الله هذا القرآن: نوراً، وقال فيه: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة:15].
وسماه الله: شفاء فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57] وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} [فصلت:44] وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء:82].
وسماه الله عز وجل: هدى قال تبارك وتعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2].
وأخبرنا أنه يهدي، فقال: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68] من هم؟ {الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:69 - 70].
وأخبر الله أن القرآن يهدي للتي هي أقوم فقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] وهنا (أَقْوَمُ) أفعل التفضيل يعني: هدى الله بهذا القرآن إلى أعظم العقائد وإلى أعظم العبادات وأعظم الشرائع وأعظم الأخلاق وأعظم النظم، فكل ما هدى إليه القرآن فهو أعظم ما يمكن أن تصل إليه البشرية، في كل نظام وأمر ونهي يهدي للتي هي أقوم: {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الإسراء:9].(75/16)
عظمة القرآن وشرف حامليه
هذا القرآن أيها الإخوة! إذا عاش عليه المسلم واقتدى به واهتدى بهداه وقرأه وتلاه وتعبد الله به، ووقف عند حدوده، كان عبداً ربانياً، وكان من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.
وأشراف هذه الأمة هم حملة القرآن، ومسئولية القرآن لا تختص فقط بالطلاب الصغار الذين يدرسونه في المساجد فقط، لا.
فالقرآن مخاطب به جميع أفراد الأمة من صغيرٍ وكبير وشيخ وشاب وكهل، كلهم مطلوب منهم أن يقرءوا القرآن.
وفي هذا المسجد وفق الله جماعة المسجد إلى الإحساس بهذا الدور، وإلى الحاجة إلى هذا الأمر، فجمعوا تبرعات وتقدموا بطلب إلى الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم في أبها، واستعدوا بدفع نصف راتب المدرس، وقامت الجماعة باستقدام أحد المدرسين من الباكستان المتخصصين وتعميده بالعمل في هذا المسجد، وقد بدأ العمل والحمد لله، وبدايته بداية النور في هذا الحي مع هذا المسجد الطيب المبارك، ولا ينبغي أن نحصر القراءة فقط في الصغار الذين يأتون من العصر إلى المغرب، بل ينبغي أن ننظم الأوقات ونرتبها بحيث من العصر إلى المغرب للصغار، ومن المغرب إلى العشاء، ومن الفجر إلى الشروق للكبار، نجلس على يديه، ونتعلم القرآن على يديه ولو كنا مدرسين؛ بل ولو كنا علماء، فإن القرآن لا يؤخذ إلا بالتلقي، القرآن لا يأتي عن طريق قراءة كتاب التجويد.(75/17)
فضل تعلم القرآن وتعليمه
أذكر سنة (1390هـ) يعني قبل تسعة عشر عاماً جاءنا فضيلة الشيخ عبيد الله الأفغاني ليعمل مراسلاً من قبل الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم في مكة، وكنت قد اتصلت أنا والشيخ سليمان بن فايع في تلك السنة بالشيخ صالح القزاز الأمين العام للجماعات في مكة وقلنا له: نريد مدرساً مثل أهل هذا المسجد، قال: أين تريدونه؟ قلنا: في أبها، وفعلاً لا يوجد في أبها تلك الأيام أحد يعرف التجويد، أما الأحكام -ما شاء الله- أنا أعرفها، أحكام النون الساكنة درسناها في رابع أو خامس ابتدائي، لكن تطبيق الأحكام والله ما أدري عنها شيئاً، حروف الإدغام ستة مجموعة في قولك: يرملون، وحروف الإخفاء خمسة عشر مجموعة في أوائل هذا البيت:
صف ذا ثنا كم جاد شخص قد سمى دم طيباً زد في تقى ضع ظالما
والله إنها طلاسم ما أعرف عنها شيئاً، لكن أحفظها لكي إذا أتيت إلى الأستاذ والاختبار الشفوي أقول هذا الكلام فيقول: ناجح في التجويد؛ لأن الأستاذ نفسه الذي يختبرني لا يدري ما هي، أحكام موجودة لكن لا نعرف شيئاً من التطبيق فقلنا للشيخ صالح القزاز: نريد مدرساً، قال: ومن يأتيكم في أبها؟ فقلنا: ابحث، فشاء الله أن عرض الأمر على الشيخ عبيد الله الأفغاني ورفض الشيخ في أول الأمر، وكان يقول: أنا هاجرت من بلادي؛ لكي أعيش في الحرمين الشريفين، فكيف أذهب إلى أرض بعيده غير الحرمين، هذا لا يمكن، ولكن يسر الله رجلاً صالحاً كان جالساً في الحلقة اسمه صالح باخطبة قد توفي رحمة الله تعالى عليه، قال له: أنت مخطئ يا شيخ! كيف تجلس في الحرمين الشريفين، وتترك الدعوة إلى الله، والصحابة لما بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أقطار الأرض لم يقولوا: لا.
نريد الحرمين الشريفين مكة والمدينة وإنما ماتوا في السند والهند، وكنت أنت ممن أدخل الله آباءك وأجدادك على أيديهم، ولو أنهم جلسوا في الحرمين الشريفين لكان من الممكن ألا تكون مسلماً، يقول: فدخل الكلام في رأسي، قلت: نعم صدقت، قال: الآن رُدّ الجميل للذين أتوكم في بلادكم، وأدخلوك في الدين، وواجبك الآن رد بعض الجميل بتعليم أبنائهم القرآن، فتوكل على الله واذهب إلى أبها، فقلت: إن شاء الله، وفعلاً جاء يوم من الأيام ونحن في دار التعليم خرجنا نصلي الظهر وإذا الرجل جالس بعائلته وأثاثه في المسجد وسط (الصوح)، ولما دخلنا رأينا الرجل بهيئته وعمامته، وهو يسأل ومعه خطاب لـ سعيد بن مسفر وسليمان بن فايع، فقلنا: من أنت؟ قال: أنا مدرس القرآن.
قلنا: جزاك الله خيراً، أخذناه في ذلك اليوم وأسكنّاه في بيت، وبعد ذلك سلمناه الطلاب في مسجد برزان -أظن- عشرين طالباً، وجلس الشيخ الأفغاني بعلمه وغزارته -عالم في كل فن ما شاء الله- حوالي أسبوعاً أو أسبوعين وما عنده إلا الأطفال هؤلاء، والشيخ سليمان كان يصلي بنا أحياناً، ولا يجود القرآن، ولكن الشيخ مؤدب ويستحي أن يقول شيئاً.
وفي يوم من الأيام ونحن جلوس في المسجد قال لنا: لا يوجد طلاب آخرون غير الأطفال هؤلاء يقرءون القرآن علينا؟ قلنا: لا يوجد إلا هؤلاء، من تريد يقرأ عليك؟ قال: أنتم اقرءوا القرآن، قلنا: نحن نقرأ القرآن عليك؟! يعني كيف نحن العلماء نقرأ القرآن عليك!! قال: وما المانع؟ قلنا: نحن نعرف القرآن، قال: أنتم صحيح تقرءون القرآن؛ لكن لا تجودون، قلنا: والتجويد نعرفه يا شيخ! أخذناه في رابع أو خامس ابتدائي قال: إذاً بعد الصلاة إن شاء الله نجلس قليلاً، صلينا وجلسنا قليلاً ويوم أن جلسنا قال: اقرأ وكنت أنا وسليمان فقرأتُ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال: قف، قال: (الشيطان) الشين من حروف التفشي، والطاء من حروف الإطباق، و (بسم) السين من حروف الهمس، وإذا بي في بحور لا أدري أين طرفها، قال: أنت -أعوذ بالله من الشيطان الرجيم- أخطأت فيها، و (بسم الله الرحمن الرحيم) أيضاً أخطأت فيها، ووقفنا في تلك الليلة في (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وبسم الله الرحمن الرحيم) وجاء في الليلة الثانية وسمح لنا بالانتقال إلى الفاتحة، وجلسنا في الفاتحة أكثر من خمسة عشر يوماً، ثم بعد ذلك سمح لنا بالانتقال من عند الضحى، ولما رأينا أننا جهلة، لا نعرف شيئاً في كتاب الله جلسنا عند الشيخ، ولكن لم يكن أحد تلك الأيام عنده، ويمدح السوق من ربح فيه، فلم يدرس عنده إلا أنا وسليمان والشيخ أحمد بن حسن وواحد اسمه أحمد بن عبدالله الشهري، هؤلاء الأربعة الذين استغلوا وجود الشيخ، وكان فارغاً في أكثر أوقاته وجلسنا نقرأ عليه أربعة أشهر حتى ختمنا رواية الإمام حفص وشعبة عن الإمام عاصم بن أبي النجود.
الشاهد في الموضوع أن كثيراً من الناس لا يتقنون التجويد، وإذا قلت له: اقرأ على الشيخ، قال: لماذا أقرأ؟! أقرأ وأنا شايب! يرد عليَّ في الفاتحة! إذاً ما رأيك: يصحح لك في الفاتحة، أو تموت وأنت أعمى في الفاتحة وتلقى الله وأنت لا تعرف تقرأ الفاتحة؟! ما هو العيب؟! إن العيب أن تلقى الله وأنت جاهل: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء:72].
فما دامت -أيها الإخوة- الحجة قد قامت عليكم في هذا المسجد أو في غير هذا المسجد؛ لأنه قد يكون من الجالسين كثير ليسوا من أهل هذا المسجد لكنهم ربما في أماكنهم وفي المساجد القريبة من مساكنهم مدارس لتحفيظ القرآن الكريم، أو بإمكانهم الذهاب إلى المدرس في أي مسجد من مساجد المدينة فإنه لا ينبغي له إلا أن يسارع إلى تسجيل اسمه والجلوس على الشيخ، وليس بالضرورة أن يجلس من المغرب إلى العشاء، لا.
اجلس اسمع درسك وامش، إن كان هناك إمكانية من بعد المغرب مباشرة وإن كان شخص سبقك وسجل قبلك، ورأيت أنه لا يسمع لك إلا بعد فترة فيمكن أن تقضي لك عملاً؛ لكن بمجرد قرب الموعد الذي يكون فيه درسك تأتي وتجلس، واجلس مرة ومرتين وثلاثاً وسوف تذوق طعمها إن شاء الله وحلاوتها إذا أصبح لسانك رطباً بذكر الله؛ لأنه ورد في الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به مع السفرة الكرام البررة).
مرتبة ليست بسهلة، فهي أعظم من أي منزلة، وأيضاً في الحديث الصحيح عند البخاري ومسلم حديث عثمان رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) إذا جلست بركبك عند إمام المسجد أو عند معلم القرآن، وأنت تتعلم وهو يرد عليك مرة ومرتين وثلاثاً، فأنت في خير عمل، وفي أشرف شيء في الدنيا، وفي عمل أفضل من عمل الملوك والرؤساء والأمراء والوزراء، فخير هذه الأمة على الإطلاق من تعلم القرآن وعلمه، فالمتعلم له خير والمعلم له خير إن شاء الله، هذا بالنسبة للكبار.(75/18)
مسئولية الآباء في تعليم أبنائهم القرآن
أما بالنسبة للصغار فإن مسئوليتهم تقع على آبائهم إذ لا ينبغي للأب إلا أن يبدأ أول ما يبدأ بتعليم ولده القرآن في هذا المسجد أو في غيره من المساجد الأخرى، وليكن حريصاً على متابعة حضوره، وعلى متابعة استفادته من المسجد، وأيضاً أن يكون لهذا التوجيه تطبيق في البيت ولا يكون فيه تصادم وتعارض بين ما يقال في البيت وما يقال في المسجد؛ لأنه إذا كانت توجيهات الشيخ وتعليماته قرآنية -من القرآن والسنة- وأوامر البيت ضدها، يحصل عند الولد اضطراب في فكره، فالأب يقول له شيئاً، والمدرس يقول له شيئاً، فلا يدري من يصدق؟ وأخيراً يحصل عنده ازدواجية في الشخصية وعدم ثقة في كلام أبيه أو في كلام الشيخ، حتى يغلب له أحد الأمرين، لكن إذا كان أبوه متعاوناً والمسجد أيضاً يربي فإن النتيجة -إن شاء الله- جيل قرآني صالح، وحتى لو مر على الولد في المستقبل فترة من فترات الطيش أو الضلال أو الانحراف، ولكن أساسه على القرآن، فإنه لا بد أن يرجع إليه؛ لأن الكلمات التي ننقشها ونقولها للصغار وهم صغار تنقش في قلوبهم، ويكون لها أكبر الأثر في مستقبل حياتهم بإذن الله عز وجل.
أما تركهم يلعبون في الشوارع فهذا والله ضرره على الآباء أكثر من مصلحته، فينبغي أن تأتي بولدك وتسجله وتضبطه بقوة كما لك قوة عليه في مدرسة النهار، فكل الآباء يضربون أولادهم على هذه المدارس، ولا يسمحون لهم بالتخلف عنها ولو يوماً واحداً، وإذا جاءهم الدفتر من المُعقب أن ولده غاب اليوم، يقطع جلد ولده، لكن لا يتابع ولده في العصر، بينما يجب أن يكون اهتمامك بولدك في العصر أكثر من اهتمامك بولدك في النهار؛ لأن مدرسة النهار يعينها درس العصر وهذا معروف، فمدراء المدارس يقولون: الطلاب الذين يدرسون القرآن في المساجد هم الأوائل عندنا في المدارس، ببركة القرآن؛ لأن الشيطان يأتي عند الأب والأم، ويقول: الولد لا يستطيع أن يذاكر الواجبات في الصباح مدرسة وفي العصر مدرسة، وفي الليل يذاكر، متى يلعب فيخلونه يلعب ويأتي في الصباح لا ذاكر ولا قرأ قرآنا ولا استفاد، ضايع من هذه ومن تلك لا حول ولا قوة إلا بالله.
هذه أيها الإخوة نصيحتي إليكم وإلى نفسي قبل ذلك بمذاكرة القرآن ومدارسته.(75/19)
النجاة والسعادة في الدارين تكون بالإيمان
أما النصيحة التي أوجهها وأسديها لكل من حضر هذا المجلس فهو أن الخيار الأفضل والبديل الصحيح للنجاة من ورطة هذه الحياة هو الإيمان والدين.
الدين رأس المال فاظفر به فضياعه من أعظم الخسران
الدين عزةٌ ورفعةٌ وسلامة وسعادة في الدنيا والآخرة، ولا مخرج لك ولا نجاة لك أيها الإنسان إلا بطاعة الله، والمعاصي ليست ببديل، والغفلة واللعب قد جربناها كثيراً، وسيخرج الإنسان من هذه الدنيا وليس معه في رصيده إلا ما عمل {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40] ألا فلينتبه الإنسان لنفسه وليعرف أنه إن يعمل خيراً يجده، وإن يعمل غير ذلك يندم عليه، والله يقول: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30].
هذا وأسأل الله في الختام لي ولكم التوفيق، وأن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وعلى حسن عبادته.(75/20)
الأسئلة
وأما الأسئلة فسوف أتعرض للقليل منها إن شاء الله على حسب ما يسمح به الوقت.(75/21)
حكم مس المتوضئ للنجاسة
السؤال
ما الحكم فيمن يمسك النجاسة بعد الوضوء، فمثلاً المرأة ما حكم غسلها لأطفالها بعد إزالة الحدث الأكبر، وهل يحق لها الصلاة وقد غسلت أبناءها بيدها أم لا؟
الجواب
إذا مس الإنسان نجاسةً بيده بولاً أو غائطاً فإنه يغسل الموضع الذي وصلت فيه النجاسة، ولا يلزمه إعادة الوضوء؛ لأن نواقض الوضوء ليس منها مس النجاسة، أما إذا مس الإنسان فرجه قبلاً كان أو دبراً بيده فإنه ينقض وضوءه وعليه أن يتوضأ من جديد، والمرأة التي تغسل طفلها فتمس عورته بيدها ينتقض وضوءها، وعليها أن تتوضأ من جديد؛ لأن مس الفرج سواء لها أو لولدها أو لبنتها ينقض الوضوء، فعليها أن تتوضأ من جديد.(75/22)
حكم الحلف بالحرام والطلاق وما شابهه
السؤال
ما رأيكم فيمن يقول: قد حرمت أن حساب الغداء عليَّ؟
الجواب
يعني دخل هو وواحد في مطعم ويريد يحاسب قال: حرام إن الحساب عليَّ، هذه الألفاظ من الأيمان البدعية التي لا ينبغي للإنسان أن تدور على لسانه؛ لأن من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله أو ليصمت، فإذا أردت أن تحاسب فأخبره أنك تريد أن تحاسب، فإذا أردت أن تقنعه فقل له: والله الذي لا إله إلا هو ما يحاسب إلا أنا، فإذا خالفك وحاسب فتطعم عشرة مساكين، بدل ما تطعم واحداً تطعم عشرة، جزاء لك وردعاً لأمثالك.
وإذا كنت تريد أن تحلف عليه وما تريد أن تُكفر تقول: والله الذي لا إله إلا هو إن شاء الله أنه ما يحاسب إلا أنا، فإذا حاسبت الحمد لله، وإذا رفض دعه يحاسب، وأنت ما عليك شيء؛ لأنك ربطت اليمين بمشيئة الله، إذا قلت: والله الذي لا إله إلا هو إن شاء الله أنه ما يحاسب إلا أنا، فليس عليك شيء إذا فجرت، لكن إذا عقدت اليمين وفجرك تطعم عشرة مساكين، أما إذا قلت: حرام أنه لا يحاسب إلا أنا، فقد أقسمت بالحرام، والله عز وجل قد قال في القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] لأن معنى حرام يعني حرام مما أحل الله عليَّ ويمكن يدخل في ضمنها النساء، ويمكن تكون كفارتها مغلظة ككفارة الظهار لكن إذا قصد بها المرأة ففيها كفارة مغلظة، وإذا قصد بها اليمين ففيها كفارة مخففة وهي إطعام عشرة مساكين إذا فجر، ولكن عليه أن يتوب إلى الله من الحرام ولا ينبغي له، ولا داعي للأيمان، لا تحاول أن تقحم نفسك في يمين لا بطلاق ولا بحرام ولا بحناث ولا بربي، دع الأمور ممددة، من أطاعك فالله يجزيه خيراً ومن رفض فالله يعينه.
بعض الناس يجعلك تأكل غصباً ويحلف بالله أنه سيحاسب، فإذا قال: لا والله ما أحاسب إلا أنا، فقل: كثر الله خيرك، وكثر الله من أمثالك، ودعه يحاسب كل يوم، وسوف ترى إذا حلف اليوم فغداً لن يحلف عليك؛ فلماذا تحرج نفسك، وأصبحت مضاربة ولم تعد أكلة، وبعضهم يطلق، فقد جاء رجلان إلى الشيخ عبد الله بن يوسف قال: أنا رحيمه أتيت عنده ودخلت عليه وحرمت ما أريد أن أكلف عليه، وقلت: طلاق أنك ما تذبح لنا، قال هو: طلاق إلا أذبح لكم، وجاءوا الاثنين كل واحد منهم يسأل ما هو الحكم؟ قال الشيخ: أحدكما تحرم عليه زوجته، فبسبب اللحمة أصبحت مشكلة في البيت وهي الطلاق.
وبعض الناس الذي ما زال رأسه يابساً إذا حلفت له بربي سوف يذمه، وقال: والله إنه حلف بربي، كأنه جعلها سهلة، لكن إذا طلقت قال: والله فلان الصادق الذي عزم صحيح، والله إنه يطلق، الله أكبر! هذا والعياذ بالله من تعظيم غير الله، أن يحلف بالله فلا يعظم وأن يحلف بالمرأة فتعظم، يعرض عليهم وجه الله فلا يعظمونه ويعرض عليهم وجه المرأة فيقولون: خلاص قد طلق امرأته، لكن لو أنه حلف بالله فجروه وراحوا، لكن مثل هؤلاء لا يستحقون الإكرام، والله ما يستحق تذبح لهم قطاً، الذي لا يعظم إلا وجه المرأة ولا يعظم وجه الله لا يستحق أنك تذبح له، كيف تذبح له وهو يعظم غير الله عز وجل، لا تحلف على أحد لا بربي ولا بغيره، قل: أنا أريد أن أكرمك يا أخي، فإن قال: جزاك الله خيراً تفضل، وإن قال: لا.
أنا مستعجل، فقل: الله يعينك، أما أن تحرج نفسك فلا.
ثم قضية الذبائح التي نحن الآن عليها، والتي لا تزال متخمرة في رءوسنا فهذه ما أنزل الله بها من سلطان، وليست من الإكرام في شيء، فالإكرام أن تقدم لضيفك ما يكفيه، هذا هو الإكرام بحيث لا يقوم وهو جائع، أما إذا أتاك ضيف فتقوم تذبح له، فهو كم يكفيه من الذبيحة؟! يكفيه ربع كيلو فقط، فتذهب تشتري له خروفاً فيه وهو سيأكل منه ربع كيلو، ثم بعد ذلك تشهر به على رءوس الأشهاد وتعزم الجماعة من طرفهم إلى طرفهم لكي تعلم العرب أنك ذبحت لهذا الرجل والله يحيكم على شرف فلان، وبعد شهرين أو ثلاثة إذا أتيت سوف أذبح لك واحداً، لماذا؟ المصلحة للناس والمضرة عليَّ، فهذا لا يجوز في دين الله، وهذا ليس من الكرم في شيء، وإنما من عادات الجاهلية التي ما أنزل الله بها من سلطان، فإذا جاءك ضيف أكرمه، ونحن لا نحث الناس على البخل، فإن الكريم قريب من الله، قريب من الناس قريب من الجنة، أكرمه وأدخله بيتك وقدم له أحسن طعام، لكن لوحده لماذا تدعو الناس الآخرين؟ قد تقول: والله إنهم محتاجون، هذا الكلام كان قديماً عندما كان الناس لا يجدون في القرية لحمة، فإذا جاء الضيف فرحوا لكي يروا معه قطعة لحمة أو مرقة ولهذا يكثرون المرق، ويكثرون العصيد واللحم، ولا يمد أحد يده على اللحم إلى أن يأتي المقسم، والمقسم هذا يعرف كيف يقسم اللحم على الحاضرين وعلى من في البيوت وعلى النساء، وكل يعطيه قسمه على قدر قيمته في المجتمع ويضع له وينفخ يده كذا.
أما الآن لم نعد نحتاج للحم ففي بيوتنا كلنا ثلاجات، حتى العزوبي أصبح في بيته ثلاجة، حتى العمال في المزارع عندهم ثلاجات، فلا يوجد رجل إلا وفي بيته ثلاجة، لماذا الثلاجة؟ من أجل اللحمة، فهناك لحم ودجاج وسمك في كل ثلاجة.
وبعض الناس يتضايق من عزيمتك له لماذا؟ لأنه أهنأ له أن يأكل لقمته مع زوجته وأولاده من أن يأتي يأكلها معك، فأنت تحرجه في هذه الدعوة وتجعله بين خيارين ويأتي وهو كاره يريد أن يأكل مع أهله أو يرفض وتزعل عليه: والله عزمت فلان وما جاءني، إذن لا أذهب إليه، ويتقاطع الناس بسبب هذه المشكلة، دع الناس في بيوتهم يا أخي، وبدل الخروف الذي تشتريه بثلاثمائة أو بتسعمائة، وطبيخ ويتشحط في دمه وفي سمنه خذ كيلو أو نصف كيلو واطبخها مرة واحدة وقربها للضيف وقل: كل لحالك إلى أن تشبع، ويكمل ويقول: الله يجزيك الخير ويكرمك الجنة، وبعدين يفرح بك إذا رآك بعد شهر وشهرين لكي يعطيك كيلو مثله ويهنأ الطعام، لا خسرت أنت ولا تعب هو، وريحت الناس كلهم في تلك العزيمة.
أحد الإخوان يقول: والله مرة أحدهم ذبح لي خروفين وعزم الناس وبعد ذلك قال: الله يحييكم على شرف فلان.
يقول: وآتي أنا ويعطوني الذنب -السبلة- ماذا أعمل بهذه! إن جئت أقوم من الصحون أريد لحماً ماذا أعمل بالشحم؟ يقول: تركت (السبلة) على رأس الصحن ما أمامي إلا الصحن كيف آكل الآن! أمد يدي من ذاك استحيت، يقول: والله ما غير أكلت سلطة وخبزة وأولئك يصدعون في اللحم والأضلاع وأنا جالس ما عندي إلا الشحمة والاسم لي والمصلحة لهم، ويوم خرجت قلت في نفسي: الله لا يخلف عليك؛ لأنه لم يؤكلني حقيقة؛ لأنه لو أراد إكرامي حقيقة لاشترى بدل الخروفين كيلو لحمة وطبخه وجعل عليه عصيدة أو أرز وسلطة وفاكهة ودعاني آكل أنا ليهناني، فهذا أفضل من هذه الشغلة.
فلا داعي يا إخوان لهذا، وقد انتهينا من هذه الجاهلية، ولا داعي لأن أجمع الناس وأشهر بهم وأحاسبهم، أقول لفلان: لماذا لم تأتِ وقد دعوتك؟ يا أخي لا أريد أن آتي، ليس إجباراً عليّ، أنا أريد أن آكل مع أولادي، أنا أريد أن آكل خبزة وشاي معهم ولا آكل خروفاً عندك، وأنت تحرجني إلا أحضر، مفهوم هذا إن شاء الله، لا تقولوا إني بخيل! والله ما أنا ببخيل إن شاء الله لكن معتدل.(75/23)
أهمية صلاة الفجر مع جماعة المسجد
السؤال
أرجو منك أن تتكلم عن حكم صلاة الفجر في المسجد مع جماعة المسلمين لما نراه من التقصير في هذه الصلاة؟
الجواب
هذه الصلاة أيها الإخوة! هي (ترمومتر) الإيمان الذي تقيس به إيمانك، دخل هذا (الترمومتر) في نفسك هل أنت مؤمن أو منافق عن طريق صلاة الفجر، فإن كنت من أهل الفجر باستمرار فاعلم أنك مؤمن، وإن كان البعيد لا يصلي الفجر في المسجد فاعلم أن البعيد منافق، الكلام هذا من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن البخاري ومسلم قال: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاتي العشاء والفجر) لا تذهب تدور وتقول: أنا مؤمن يا شيخ أو ما أنا مؤمن؟ نقول: أين أنت في صلاة الفجر؟ إن كنت من أهل الروضة والقيام قبل صلاة الفجر تقوم بنصف ساعة وتصلي ركعتين أو أربعاً أو ستاً، وإذا أعانك الله على ثمان وطرقت باب الله في تلك اللحظة التي لا يطرق بابه أحد فيها إلا أجابه، فرصة لك، كل واحد نائم على وجهه وأنت في تلك اللحظة تستغفر الله.
ولهذا جاء في الحديث: (ركعتان في جوف الليل خير مما طلعت عليه الشمس وغربت) خير من الدنيا وما عليها (وينزل ربنا في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا ويقول: هل من تائب فأتوب عليه، هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له) هذا وقتك يا أخي، اغتنم الفرصة لا أحد يدعو في تلك اللحظة، الناس كلهم رقود وأنت جالس تقول: يا رب أستغفرك وأتوب إليك، ولذلك جاء في الآية الكريمة: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18] الله أكبر! ويقول الله فيهم: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:15 - 16] في جنات وعيون آخذين ما آتاهم الله من النعيم لماذا؟ {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:16 - 19].
فقيام الليل من أعظم القربات، وستجد فيها صعوبة أول الأمر لكن مرن نفسك مرة ومرتين وثلاثاً وأربعاً وخمساً حتى يعينك الله ويقبلك، وتقوم بغير داع، كما قال الله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} [السجدة:16] لم يقل: يتجافون، لا.
جنوبهم هي التي تتجافى، فجنب الواحد لا يدعه ينام، يقول الجنب وهو جماد: قم من النوم لم نعد نريد، شبعنا من النوم {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] ثم بعد ذلك تقوم بعد ما يؤذن تذكر الله بالأذكار التي تقال في الصباح، ثم تقرأ القرآن إن كان في وسعك، أو تصلي ركعتي الفجر في البيت ثم تذهب إلى المسجد تصلي، تفتتح يومك بطاعة الله.
يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من صلى البردين دخل الجنة) يعني الفجر والعصر، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من مشى في ظلمة الليل إلى المسجد لقي الله بنور ساطع يوم القيامة) وقال: (بشر المشائين في الظلم بالنور التام يوم القيامة) ويقول عليه الصلاة والسلام: (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي).
ما معنى في ذمة الله؟ يقول العلماء يعني: في عهد الله وأمانه، وأنه إن أماتك أدخلك الجنة، فهل من المعقول أن يدخلك النار وأنت في ذمته؟ أو كيف يعذبك وأنت في ذمة رب العالمين، وإن أحياك أصبت خيراً، وأنت في ذمة الله حتى تمسي: (ومن صلى العشاء في جماعة فهو في ذمة الله حتى يصبح) شيء عظيم يا أخي أنك تقوم بهذا العمل: (من صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله) وقال: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل) {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78] فهذه يا أخي المسلم! من أعظم القربات والعبادات، وتستعين بالله على أدائها بعدة أسباب: أولاً: النوم المبكر، لا تسهر حتى ولو في طاعة، قال العلماء من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها) يعني العشاء، قالوا: إلا في خير، وهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يتحدث في شر حتى يكره الحديث الذي في الشر، كان يكره حتى الحديث في الخير، ولكن جوز بعضهم أنه إذا كان لمدارسة علم أو للأمر بمعروف أو النهي عن منكر ولم يكن ديدنة باستمرار فإنه يمكن أن يسمح له، أما من يسهر من بعد صلاة العشاء إلى الساعة الثانية عشرة أو واحدة يتابع المسلسلات والأفلام والمباريات والأخبار ويلعب (البلوت والورقة والدمنة) ما هذا يا أخي هل خلقك ربي لهذه؟! أين عقلك؟ سبحان الله العظيم! أنت رجل عاقل راشد تعطي عقلك غيرك وتجلس أمام المسلسل.
أحد الأقارب خرج من عندي وبعد أن خرج عرفت أنه ما خرج إلا لأنه أتى وقت المسلسل عن طريق أهله بأهلي، قلت: ماذا به فلان استعجل ما جلس عندنا؟ قالت: استعجل لأنه ما عندكم تلفزيون وهو يريد أن يرى المسلسل، وانعم! ما هو المسلسل الذي يراه، هو كذبة يسمونه رواية كاتب، روائي كذاب أخذ قلمه وصنف كذبة، وبعد ما صنفها قال: والله ما أدعها في الكتاب، بل لابد أن أمثلها، وأتى بثمانية كذابين من هؤلاء الممثلين وقال: نريد منكم أن تخرجوا هذه الكذبة إلى الناس، وأنت في دور الرجل وأنتِ في دور المرأة وأنت دور البنت وأنت دور السواق وأنت دور الخادم، وبعد ذلك دخلهم في استريو وأتوا بكل الوسائل وعملوا كل شيء كأنه صدق، وبعد ذلك طلعوا كل ليلة مسلسل وذاك قاعد ويقول كذا وكذا يتلفت يقول كذا، وبعضهم إذا انتهت الكذبة وكانت النهاية حزينة فيها مرض أو فيها مضاربة جلس طول الليلة حزيناً، لماذا؟! وهناك شخص دخل على امرأته وهي تبكي، قال: مالك تبكين؟! قالت: والله رأيت النهاية المؤلمة للبنت تلك المسكينة، والله لا بنت ولا غيره يا بنت الحلال، كله كذب في كذب، والكذب ما أحد يعيش معه يا إخواني، ولو أقول لكم: إني جئت من بيتي ومررت على حادث مروري مروع بين سيارتين ومات فيها عشرة أنفار، فإنكم تنزعجون لهذا الخبر فعلاً، فإذا غلقت وأقول: ترون هذا كذب والله ما وقع ذلك، ماذا تقولون لي: الله أكبر عليك! تخذلنا وبعد ذلك تقول كذب، فهذه الروايات كلها كذب في كذب، فكيف تعيش على المسلسلات وفيها الكذب كله، فلا تتأخر في النوم مبكراً.
ثانياً: نم على ذكر الله، مستقبلاً القبلة متوضئاً، ناوياً القيام لصلاة الفجر، نم على ذكر الله لا تنم على الأغنية، وبعضهم يقعد يبحث في الإذاعة يدخل لها من شرق إلى غرب ما يدع إذاعة إلى أن يصل إلى أغنية، فإذا وصل إليها نام، وضرب بإبليس في مسمعه وبال وجعله ينام، ولا يقوم يصلي الفجر لو تقوم الدنيا كلها ما يقوم معها؛ لأنه نام على غير ذكر الله، لكن إذا نام على ذكر الله قرأ المعوذتين، والإخلاص، وآية الكرسي وسبح الله ثلاثاً وثلاثين وحمد الله ثلاثاً وثلاثين وكبر الله أربعاً وثلاثين وبعد ذلك: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين) وعند البخاري ومسلم حديث عظيم عن شداد بن أوس رضي الله عنه يقول: (إذا أتيت مضجعك فقل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك، وفوضت أمري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت) ثمان أدعية من أعظم الكلام.
إذا قلته فإن أصبحت قال: (فإن مات من ليلته مات على الفطرة، وإن أصبح أصاب خيراً) فتنام على ذكر الله، وتستقبل القبلة، وقبل ذلك على طهارة، وبعد ذلك تنوي في نفسك أنك تقوم؛ لأن بعضهم ينام وهو ينوي ألا يقوم؛ بل هو مصمم عليها من أول الليل، فكيف ربي يعينه على القيام وهو لا يريد أن يقوم.
ثالثاً: تتخذ الوسائل والاحتياطات والإمكانات التي تعينك، تشتري ساعة منبه، أو تجعل صديقك إذا أتت صلاة الفجر يدق عليك التلفون، ودع التلفون عند رأسك، أو تنبه على المرأة، أو جارك في الشقة، أو جارك في المحل دق عليه.
رابعاً: إذا سمعت طرف إشارة من ساعة أو من تلفون أو صوت مؤذن فرأساً استغل هذه الفرصة واستوِ جالساً، لا تذكر الله وأنت مستلق.
لا.
استو جالساً قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الحمد لله الذي أحياني لأذكر الله.
وبعد ذلك إذا انتهيت وشعرت بأنك ثقيل قليلاً، وأنك تعبان ولا تريد أن تقوم، فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن الشيطان في تلك اللحظة يدعو كل زبانيته وشياطينه ويقول: من فضلكم! هذا لا يقوم انتبهوا دعوا أولئك الرقود المقرطسين، فهم حميرنا، هذه ركائب زينة، لكن هذا الذي يريد أن يقوم فلا تجعلوه يقوم، فيأتي الشيطان يجلب عليك برجله وخيله وشياطينه يكسلك ويقول لك: باقي كثير إلى أن يؤذن، ويأتيك مرة ثانية إذا قمت خذ لك قليل راحة، تريد تقوم وتذهب في البرد في المسجد، يأتيك بكل أسلوب حتى يرقدك، لكن إذا رأيت هذه الإيحاءات وهذه الوساوس فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم رأساً يذهب منك، إذا لم يذهب قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هذه مدفعية ضد الشيطان الرجيم كما يقول الله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200] وإذا عيا قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إلى أن تحس أنك خفيف، كلما أحسست أنك ثقيل قل: أعوذ بالله إلى أن تحس أنك خفيف؛ لأن بعض التعوذات لا تنفع، وبعض الناس يتعوذ لكن لا تصيب الشيطان؛ لأنه غشيم بالتعوذ، مثل الذي معه بندق لكنه لا يصيب الهدف، يضرب وبينه وبين(75/24)
حكم حلق اللحية
السؤال
ما رأي فضيلتكم فيمن يحلق لحيته، ويقول: إنني أحلقها من أجل أن تصبح اللحية كثيفة؟
الجواب
أولاً: يا أخي ما أنا فضيلة إنما أنا أخوك.
ثم دعها كما خلقها الله، لماذا تحارب لحيتك ماذا عملت فيك، بعض الناس ما شغلته إلا لحيته، كأن بينه وبينها عداوة، يصبح على دقنه بالسكين، حتى خضرت لحيته، بعضهم تراها كأنها عتبة مرعية من كثرة الرعي فيها والسلك، دع لحيتك في وجهك، وفر الجهد والفلوس والسكاكين التي تذبح بها لحيتك، ولا تحارب سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
والله يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] اتركها كما خلقها الله، فالله هو الذي خلقك على هذا، وأحد الإخوة يشتكي ويقول: أنا أريد أن أترك لحيتي؛ لكن طلعت مثل الدبابيس والمسامير، فماذا أعمل بها؟ قلت: طبعاً أنت كنت تحاربها، وتريد منها أن تطلع مثل الحرير، بما أنك تعطيها السلاح تطلع لك مثل الرماح، تحاربك تتحداك تقول: والله أنا ضدك، احلقني وأنا أطلع، وكل يوم وهي تحاربك، لكن ارفع عنها السلاح واصبر شهراً أو شهرين، بعد ذلك تعرف أنك لست أنت الأول الذي كنت تحاربها، فتقول: الرجل والله أصبح صديقاً، إذاً نسالمه، فيبدأ الشعر من هنا يصير ليناً ويعلن الهدنة معك ويعلن نزع السلاح عنك، ويعود شعراً جميلاً، لكن ما دمت تحاربه يحاربك، ويتحداك أنت تحلق وهو يطلع، إلى متى؟ إلى أن تموت.(75/25)
قراءة المصحف المترجم بقصد الدعوة إلى الإسلام
السؤال
ما رأيكم فيمن يقرأ المصحف المترجم لغير مسلم، مع العلم أنه يوجد به قرآن عربي جزاكم الله خيراً؟
الجواب
من يقرأ المصحف المترجم لغير مسلم لكي يدعوه إلى الإسلام ويبين له أحكام القرآن وأحكام الدين وشرائع الإسلام هذه دعوة عظيمة جداً ونسأل الله أن يعينه وينفع به.(75/26)
حكم إمامة غير البالغ
السؤال
أنا طالب شاب في ثانوية أحفظ من القرآن قليلاً، ولكن بسبب تراكم المواد عليَّ لا أقدر على حفظ القرآن فما هو الحل، وهناك أخ أصغر مني ولا يحفظ الكثير ولا يحفظ أكثر مني ولكن قراءته أجمل من قراءتي، ويدرس في الصف الخامس فهل يجوز أن يتقدم في صلاة الجماعة وأنا موجود ولا فرق غير أن صوته أجمل من صوتي؟
الجواب
أولاً بالنسبة كونك أنت طالب في الثانوية، نحن لا نطلب من الناس الآن أن يجلسوا على الشيخ ليحفظوا القرآن، نحن نطلب منهم أولاً أن يجلسوا على شيخ ليصححوا تلاوتهم بالقرآن، نطلب الشيء الذي يبقى معه وهو صحيح التلاوة والنظر، ثم يستطيع الواحد على المهل إن شاء الله أن يحفظ ما شاء الله له، وليبدأ بحفظ جزء عم أقل شيء، وجزء تبارك وقد سمع، ولا يحاول أن يغوص في أعماق القرآن ثم يفشل، يحفظ السور التي يسهل عليه حفظها.
وأنت ما دمت طالباً في الثانوية فإن هناك طلاباً في الثانوية وفي الجامعات حفظوا مثلك وأكثر وليس هذا بالصعب لأنه سهل إن شاء الله.
أما مسألة الإمامة لأخيك الصغير الذي في الصف الخامس لأن صوته أجمل منك فالذي يبدو وهو في الصف الخامس أن عمره إحدى عشرة سنة، يعني دخل الابتدائية وعمره ست سنوات، يعني أنه دون البلوغ ولا يجوز إمامة الشاب الذي دون البلوغ بل لا بد في الذي يؤم الناس أن يكون بالغاً، لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) يعني من أهل وجوب الصلاة، الذين وجبت عليهم الفريضة وهم البالغون يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله، فلا نأتي بشخص صغير عمره ست أو سبع سنوات وندعه يؤم الناس في الفرائض، أما في النوافل فيجوز.
وما يحتج به بعض الناس من حديث عمرو بن سلمة رضي الله عنه الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم وجعله إماماً لهم وكان إذا سجد تنكشف عورته فكانت المرأة تقول: [غطوا عنا است صاحبكم] فهذا كان في بداية الإسلام يوم أن لم يكن هناك من يقرأ، فلا يوجد أحد يقرأ إلا عمرو بن سلمة.
لكن بما أن هناك من يقرأ القرآن ولو كان أقل حفظاً وأقل تجويداً، فإنه هو الذي يصلي، ولا يجوز تقديم الصبي الصغير دون البلوغ إلى المسجد إلا في التراويح أو النوافل، أما في الفرائض فلا.(75/27)
من أحكام صلاة المسافر
السؤال
سافرت إلى مكة وفي طريقي دخلت عليَّ صلاة الظهر ونويت أن أقصرها وجمعت مع صلاة العصر، وعند وجوب صلاة العصر عند مدينة الباحة وقفت عند جامع آخر وإذا بهم قد أذنوا لصلاة العصر وأنا قد أديت صلاة الظهر والعصر فهل يلحقني في ذلك شيء؟
الجواب
بما أنك صليت في الطريق ظهراً وعصراً جمع تقديم، وأتيت إلى الباحة وهم يصلون فليس عليك صلاة، ولا تجب عليك؛ لأنك صليت وأنت مسافر، وصليتها وقت وجوبها، وهؤلاء مقيمون تجب عليهم، بإمكانك أنك تقف بسيارتك أو تمشي ولا تعيد الصلاة معهم، لكن لو دخلت المسجد معهم وخفت أنك تتهم في عرضك أنك ما صليت وأردت أن تصلي معهم نافلة، فلا شيء في ذلك إن شاء الله؛ لأنها كما يقول العلماء: نافلة ذات سبب، سببها الدرء عن عرضك، أما نافلة من غير سبب بعد العصر فلا تحل، وقد سألت الشيخ عبد العزيز بن باز في هذا الموضوع قلت: إذا دخل رجل المسجد بعد صلاة العصر ووجد الناس قد صلوا، وأراد واحد من الذين في المسجد أن يتنفل ويصلي معه لكي يعمل له جماعة يتصدق عليه، فهل يجوز بعد العصر، ونحن نعرف أنه يجوز بعد الظهر وبعد المغرب وبعد العشاء لكن بعد العصر وبعد الفجر قال: نعم يجوز بعد العصر وبعد الفجر؛ لأنها نافلة ذات سبب، سببها رغبة المسلم في أن يتصدق على أخيه المسلم فيحصل له أجر الجماعة.(75/28)
حكم المال المكتسب من العمل في الحلاقة
السؤال
لدي محل حلاقة فما الحكم فيه، وما حكم مصدر الرزق هذا؟
الجواب
محل حلاقة أحد أمرين: إما حلاقة لحى أو رءوس، إن كان هذا المحل مخصص لحلاقة الرءوس فقط فليس فيه شيء، أما إن كان فيه حلق اللحى فهذه قلعة لمحاربة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز لك أن تفتح هذا المحل وأي رزق يأتيك من هذا المحل فهو حرام، محل حلاقة أو استريو أغاني أو تصليح أجهزة الأغاني، كل هذه مما يتعاون به على الباطل والله يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].(75/29)
حكم القيافة
السؤال
ما رأيكم فيمن يتبع الآثار ويعرفها وهو ما يسمى (بالمري)؟
الجواب
هذه القيافة معروفة عند العرب، وكانت للعرب قدرة على معرفة آثار الرجال، فيعرفون أثر الرجل من المرأة، وأثر المرأة البالغة من المرأة الصغيرة، وأثر المرأة الحامل من المرأة الغير حامل، ويعرفون أثر الجمل وأثر الحمير، يعرفون كل شيء، لماذا؟ طبيعة الحياة أعطتهم قدرة على أنهم يرون الأرض وأرضهم كلها رمال، والرمال تترك آثاراً، فاستطاعوا بكثرة الممارسة والخبرة أن يعرفوا ذلك، لكن ليس فيها دعاء جن ولا استعانة بالجن ولا فيها شيء إن شاء الله.(75/30)
أفضل الطرق لحفظ القرآن
السؤال
ما هي أفضل طريقة لحفظ القرآن؟
الجواب
أفضل طريقة لحفظ القرآن هي: أولاً: الاستعانة بالله قبل كل شيء.
ثانياً: التكرار، تمسك السورة التي تريد أن تقرأها وتقسمها مثلاً سورة (ق) تقسمها إلى ثلاثة أقسام أو إلى قسمين، ثم تقرأها نظراً مرة ومرتين وثلاثاً وعشراً وعشرين نظراً إلى أن تدخل في رأسك، ليس مرة واحدة وتريد أن ظ من ثاني مرة، اقرأها نظر عشر مرات أقل شيء، بعد عشر مرات تطبق المصحف وتقول كذا {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق:1 - 2] ثم ترى المصحف، حتى تتقن الآيتين، ثم تبدأ بآيتين غيرها، وتربط الاثنتين مع الاثنتين، ثم تبدأ في اثنتين ثم تربط الأربع تلك مع الاثنتين إلى أن تنتهي من الثلث أو النصف الذي حددته، ثم تقرؤه مرة ومرتين وثلاثاً وأربعاً وعشراً عن ظهر غيب، ثم مع المراجعة لا تنساه بإذن الله.(75/31)
حكم من أمر زوجته بكشف وجهها أمام إخوانه
السؤال
لي قريبةٌ تريد تطبيق الحجاب ولكن زوجها يصر على أن تكشف وجهها على إخوانه فبم تنصحني؟
الجواب
أنا لا أنصحك، أنت فيك خير، لكن أنصح هذا الزوج الذي يرزقه الله بمثل هذه الزوجة الصالحة تريد الحجاب، وهو يريد العري والعياذ بالله، هذا محروم شقي، ولا طاعة له، ويلزم هذه المرأة أن تتحجب رغماً عن أنفه، ولو سخط هو وإخوانه وأهله، وإذا أدى الأمر إلى أن تذهب إلى أهلها فإن لها ذلك، ولا تبقى معه، أما أنت فدورك دور إصلاحي؛ لأنك قريب للزوجة، وإذا أتيت تتدخل بين الزوج وزوجته يمكن تزيد الطين بلة، ولكن كن حكيماً عن طريق التوجيه، وشريط، والندوات، وسؤال أهل العلم فتقول له: اسأل يا أخي عن الحكم، عندي تلفون فلان اسأله هل يجوز أم أنه حرام؟ وأنت من أهل الخير، لكن تأتي تقول له: أنت مخطئ فيقول: ما دخلك بيني وبين عيالي وهذه امرأتي وما لك أي علاقة وتصير مشكلة، لكن دعها هي التي تبدأ، فإذا قالت: أنا والله ما أكشف على أحد إلا محارمي، فمن الذي سوف يأتي ويفتح وجهها لكي يراها؟ طبعاً لا أحد.(75/32)
حكم التدخين
السؤال
ما حكم التدخين؟
الجواب
حكم التدخين معروف بأنه محرم بنص الأدلة الشرعية، وفيه سبعة أدلة من القرآن الكريم والسنة تدل على حرمته، ومن أراد المزيد فليرجع إلى شريط في السوق اسمه (القاتل المهذب) في حكم التدخين.(75/33)
حكم خلف الوعد
السؤال
أنا صاحب مهنة وأعد الناس وعوداً ولكني أخلفها فهل عليَّ إثم في ذلك؟
الجواب
نعم.
يجب ألا تعد إلا وأنت صادق، فإذا وعدت بعد أسبوع وأنت تعلم أنك لن تنتهي إلا بعد عشرة أيام فقل: بعد عشرة أيام، لكن بعض الناس يعرف أنه يكذب ويعد من الآن، أما إذا وعدته وأنت جازم على أنك تفي، وبعد ذلك لم تف؛ لأجل أمر خارج عن إرادتك، فتستغفر الله وتتوب ولا تزيد، أما أكثر المهنيين كذابون؛ لأنه يقول: لو صدقت ما أحد يشغلني، مثلاً: إذا كان سباكاً وجاء إلى العمارة ترى ما أريدك إلا تشتغل في عمارتي ما عندك ولا عمل قال: ما عندي شيء فارغ، هات العقد، وأخذ العقد، وأخذ المقدم، وذهب يشتغل في عشرين عمارة، وجعل عمارتك آخر شيء؛ لأنه لو قال لك: نعم.
عندي عمارات قلت: لا أريدك، لا أريدك، والرزق بيد الله وليس بالكذب على الناس.(75/34)
حكم الأذان والإقامة للمرأة
السؤال
هل يجب على المرأة إقامة الصلاة إذا أرادت أن تصلي؟
الجواب
لا.
ليس على المرأة أذان ولا إقامة، لحديث عائشة والحديث صحيح: (ليس على المرأة أذان ولا إقامة) تأتي تصلي مباشرةً لا تؤذن ولا تقيم.(75/35)
حكم مصافحة الأجنبية خجلاً
السؤال
إذا صافحت امرأة وأنا كاره من كل قلبي من غير إجبار؟
الجواب
من الذي أجبرك تصافح النساء وما معنى كاره؟ بعض الناس يقول: إني أستحي من المرأة وأمد يدي لها، لا يا أخي، استح من الله قبل كل شيء، إذا مدت يدها فهذا عيب؛ لأنها تخجل ولن تمد يدها عليك بعد ذلك، لكن تخجل أنت منها وأنت تعلم أن ذلك حرام، ومن مد يده على امرأة لا تحل له جاءت يده يوم القيامة مغلولة إلى عنقه، والنبي صلى الله عليه وسلم أتين النساء يبايعنه على ألا يشركن بالله، مددن أيديهن، فقال: (إني لا أصافح النساء، وإن قولي لامرأة منكن كقول النساء للنساء) وما مد يده إلى امرأة صلوات الله وسلامه عليه.
فأنت إذا دخلت على بيت من أقاربكم وفيه نساء يتكشفن، وهو على العادة وبعض النساء يحسبنها بسيطة، وهذه كالكهرباء، جيب السلك في السلك كيف يكون؟ وهذا جلد بجلد فيها التماس كهربائي، لا تمد يدك إذا مدت قل: لا ما يجوز، لا تصافحيني فهذا درس لها، ولن تمد يدها عليك ولا على غيرك إن شاء الله.
أما الكلام مع ممرضة أو طبيبة تدعو إليها الضرورة، وأنت تغض بصرك، فلو اضطررت أنك تكلم ممرضة تكلمها وأنت غاض لبصرك، فلو أن زوجتك مريضة في قسم النساء وعندها ممرضة، وأنت تريد أن تشكي على الممرضة أو تطلب منها أن تفعل لها شيئاً، فتكلمها وأنت مطأطئ الرأس خجلان، ولكن بعضهم يأخذ في الكلام ويعطي ويقول: إنها ضرورة، فهذه ليست ضرورة، الضرورة أن تكلمها قدر الحاجة ولا تتلفت فيها، وغض بصرك، حتى إذا رأتك خجلت، وعرفت أنك لست ممن يلعبون.(75/36)
السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
هناك بعض الناس لا يعرفون بعض المسنونات الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنرجو منك تبيينها؟
الجواب
نريد عشرين ندوة لكي نبين السنن التي ينبغي تبيينها عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن السنن واردة وموجودة في كتب أهل العلم وعلى الأخ السائل أن يبين السنة التي يريدها، والوقت ضيق وأنا طولت عليكم.(75/37)
حكم القول بأن دراسة القرآن تعيق عن دراسة غيره
السؤال
بعض الناس وخاصة الطلاب يقولون: الدراسة للقرآن تعطل عن دراسة الجامعة ولا ترفع المعدل؟
الجواب
هذا كذب، والله لا يرفع معدلك إلا القرآن، ادرس القرآن والله يرفع معدلك في الجامعة، أما أن تترك القرآن لكي ترتفع معدلاتك في الجامعة، فلا.
ولو ارتفع معدلك في الجامعة فلن يرتفع معدلك في الآخرة، لكن ادرس القرآن فإن الأمة كلها ما أثرت إلا يوم أن كانت تبدأ بالقرآن، وكان أول شيء عند الناس القرآن، وقبل ست سنوات إلى اثنا عشرة سنة كانوا يعلمون أولادهم القرآن، ثم بعد ذلك يدخلونه في العلوم فيفتح الله عليهم، لكن في الوقت الحاضر لا نعلم أولادنا القرآن فيصبحون جهالاً، والعياذ بالله؛ لأن الذي يتعلم القرآن يقيم لسانه ولغته، وينور الله قبله، فيسعده في الدنيا والآخرة، لكن ذلك الأعمى الذي لم يعرف من القرآن شيئاً، فهو أعمى إلى أن يموت والعياذ بالله.(75/38)
حكم إمامة المتنفل بالمفترض والعكس
السؤال
هل يؤم المتنفل صاحب النافلة أم العكس؟
الجواب
كلاهما جائز، فإذا كان المتنفل هذا قارئ جاز أن يؤم صاحب الفريضة إذا كان غيره؛ لأن معاذ بن جبل كان يصلي إماماً بأهل قباء، وكان يصلي مفترضاً مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يعود إلى أهل قباء فيصلي بهم النافلة وهو إمام، فتجوز إمامة المتنفل بالمفترض والعكس، فإذا كنت تريد أن تتصدق على شخص وأنت قارئ، وقدمك تصلي به فصل به، وصلاتك صحيحة إن شاء الله.(75/39)
حكم نسيان القرآن بعد حفظه
السؤال
ما حكم من يحفظ القرآن أو شيئاً منه ثم ينساه؟
الجواب
ورد حديث عند الترمذي ولكنه ضعيف ولا يحتج به، وهو: (عرضت عليَّ أجور أمتي فرأيت فيها القذارة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت عليَّ ذنوب أمتي فلم أر فيها ذنباً أعظم من رجل أوتي شيئاً من القرآن ثم نسيه) والعلماء يقولون: هذا الحديث ليس على إطلاقه وإنما نحمله إذا أردنا الاستشهاد به على من نسي القرآن عن طريق الإهمال وعدم المراجعة والمذاكرة له، يعني شخص حفظ القرآن، ثم بعد ذلك أهمله، فهذا لا شك أنه يأثم لأنه يعتبر هاجراً، أما من يقرأ القرآن وحفظه وداوم عليه باستمرار ولكن يتفلت منه وينساه من غير اختيار منه، وإنما لضعف ذاكرته أو لعدم إحاطته وقدرته على المراجعة الشاملة باستمرار؛ فإن ذلك إن شاء الله معفو عنه ولا يؤاخذ عليه؛ لأنه خارج عن إرادته.
أما من هجر القرآن وتركه وأهمله ولم يرفع به رأساً، وقد حفظه ثم تركه حتى نسيه، لا شك أن هذا يتعرض لوعيد شديد، نعوذ بالله وإياكم من ذلك.
نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل التفرق من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يبقي فينا ولا معنا ولا منا شقياً ولا محروماً، إنه على كل شيء قدير، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(75/40)
من أسباب دخول الجنة
قد منّ الله على عباده الصالحين أن جعل لهم دار كرامة واستقرار في حياة سرمدية أبدية لا موت فيها وقد جعل الله لهذه الدار طريقاً يسير عليه الصالحون في هذه الحياة، وهو عبادة الله وحده بفعل ما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر.
وقد ذكر الله الجنة ونعيمها وما أعد لأهلها من نعيم مقيم وفرحة وسرور؛ لكي يشمر العبد إلى الطاعة، ويحظى بهذا الشرف وهذه المنزلة التي أعدها الله لعباده المتقين.(76/1)
طريق الشقاء وطريق السعادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله: الجنة والنار هما المحلان المعدان والمهيآن للناس {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7].
وقال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:14].
يقول الناظم في إطار هذا المعنى:
الموت بابٌ وكل الناس داخله يا ليت شعري بعد الباب ما الدار
فأجابه الآخر:
الدار جنة عدنٍ إن عملت بما يرضي الإله وإن خالفت فالنار
هما محلان ما للمرء غيرهما فاختر لنفسك أي الدار تختار
وما أظن عاقلاً يسير إلى النار، فالإنسان الآن يحذر من التعرض لعوامل الجو فيواجهها، إن كان الجو حاراً استعمل التكييف، وإن كان الجو بارداً استعمل وسائل التدفئة، وإذا كان في مكانٍ بارد نزل إلى المكان الدافئ، وإذا جاء الصيف وهو في مكان حار ذهب إلى المكان المعتدل، لكن من الناس من يلغي عقله، ويعيش طوال حياته، ويقطع مراحل عمره متزوداً بسخط الله وغضبه ولعنته، متجهزاً إلى النار، في كل يومٍ يخطو خطوة إلى النار، هذا إن دخل النار يجزم أنه ما كان عاقلاً، يقول الله عنهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] يقول: لو كان عندنا عقول وعندنا أسماع ما دخلنا النار، قال الله عز وجل: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:11] أي: بعداً وهلاكاً لهم، ولا يغني عنهم اعترافهم شيئاً.
لكن أهل الإيمان أهل الجنة يقول فيهم ربنا عز وجل بعدها: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12] هؤلاء لهم مغفرة من الله وثواب عظيم.
يا أيها الإنسان: أنت واقف أمام المفترق، الآن أمامك طريقان، وبإمكانك أن تسلك أحد الطريقين، يقول الله عز وجل: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] أي: دللناه على الطريقين، ويقول عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7 - 10].
هذه الجنة غرسها الله بيده، وجعلها مقراً لأحبابه، ووصفها بوصفٍ في القرآن الكريم تطير إليه القلوب شوقاً من باب استعجال الناس، يقول الله عز وجل: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ} [الحديد:21]-نسأل الله من فضله- هذا الفضل ليس أنك تكون في وظيفة، أو منصب، أو عندك عمارة، أو سيارة، أو زوجة، أو رصيد، فهذا فضل حتى الكفار معهم مثله، لكن فضل الله هو أن تدخل الجنة، ولهذا يقول الله عز وجل: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
ويقول عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:133 - 136].(76/2)
صفة الجنة ونعيمها
هذه الجنة -أيها الإخوة- لدخولها أسباب، وقبل أن نعرِّج على الأسباب نريد أن نصفها كما وصفها الله في كتابه لعل القلوب تشتاق إليها:
هي جنة طابت وطاب نعيمها فنعيمها باقٍ وليس بفان
أو ما سمعت بأنه سبحانه حقاً يكلم حزبه بعيان
ويرونه من فوقهم سبحانه نظر العيان كما يرى القمران
هذه الجنة أعد الله عز وجل فيها من النعيم ما لا يمكن أن يتصوره العقل، يقول الله عز وجل: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ} [السجدة:17] كل ما خطر في ذهنك اسرح بالخيال الجنة بخلافه، يقول عز وجل: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
ويقول عز وجل: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان:5 - 6].
ويقول عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55].
ويقول عز وجل: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46].
ويقول عز وجل: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70].
الحبور: هو غاية البسط والمنى، أي: يعيش الإنسان في حبور.
يقول العلماء: السرور حالة من الانبساط لكنها لا تستمر، تنبسط يوماً ثم يأتيك ما يغير عليك.
أحلى اللحظات عندك -أيها الإنسان- أنك في بداية عمرك، إذا تزوجت تعيش شهراً أو أيام العسل، لكن هل يستمر هذا الشهر أو الأسبوع، بعضهم تحصل لهم مشاكل مع زوجاتهم ثاني يوم أو مع عماتهم أو مع أعمامهم فلا يجد السرور، لكن الحبور قالوا: هو السعادة والنعيم الذي ليس له منغص، وهو في الجنة، يقول عز وجل: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:70 - 72].
هذه الجنة وهذا النعيم بالإضافة إلى كونه لا يتصور أيضاً هو نعيم دائم، والنعيم الدائم ليس كالنعيم الزائل، الآن مرحلة الشباب والفتوة والقوة مرحلة من مراحل العمر، أي: فترة ذهبية في حياة الإنسان، لكن هل يستمر الشباب؟ لا.
ستعيش أياماً ثم يأتيك الشيب والشيخوخة، حتى قال الناظم:
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب
يقول: ليته يرجع حتى أريه ما فعل المشيب فيّ.
وقد قيل: إن رجلاً كبير في السن كان يمشي على عصا، وكان يمشي بخطوات ثقيلة، لا يستطيع أن ينقل رجله إلا بصعوبة.
وشاب آخر كان يمشي أمامه ويدق الأرض بأرجله، ويقول: ما بك لا تمشي بقوة؟! قال: الذي قيدني هو الزمن وهو الآن يعد قيدك؛ وسوف يقيدك بعد سنوات.
فالشباب ينتهي، والعافية تنتهي، والسرور ينتهي، والحياة في القصور تنتهي، وكل شيء من متاع الدنيا ينتهي، ويقف الإنسان بعد لحظة من لحظات العمر عند جدارٍ اسمه الموت وليس معه من الدنيا شيء، يقول الله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94].(76/3)
نعيم الجنة لا ينفد
النعيم الذي لا ينفد هو نعيم الجنة -أيها الإخوة- {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71].
يقول العلماء: إن أعظم نعيم يعطاه أهل الجنة حينما يطمئنون على أنهم خالدون فيها، فلا يموتون، ولا يتحولون، ولا يهرمون، ولا يشيبون، ولا يمرضون، وإنما نعيم، وكذلك لا توجد عبادة في الجنة، لا توجد صلاة ولا صيام، قد صليت وقد صمت هنا، ما بقي إلا نعيم في نعيم، وكل ما فيها نعيم نسأل الله وإياكم من فضله.
وأعظم ما جاء في وصفها في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفها أيضاً ابن القيم رحمه الله في كتاب عظيم له اسمه: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، فالروح شبهها ابن القيم مثل الراحلة، والراحلة إذا أردت أن تسري، وتقطع المسافة، فإنه يلزمك أن تحدو لها، والحدو يعرفه أصحاب الإبل؛ الإبل تسري في الليل؛ لأن الشمس تظميها في الصحاري، فيقيلون بها لكن إذا جاء الليل سرت، وإذا سرت تحتاج إلى من ينشد لها بعض الأشعار، فإذا أنشد لها الأشعار همجلت أي: جرت، ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام لـ أنجشة؛ وأنجشة كان يحدو الإبل وعليها النساء، وكان صوته طرياً وندياً وكان يحدو بصوت شجي، فيجعل الإبل تركض ركضاً حتى كادت أن تكسر النساء، فقال عليه الصلاة والسلام له: (رفقاً بالقوارير يا أنجشة) أي: قليلاً من حدوك حتى لا تكسر الجمال النساء اللاتي عليها.
يقول: هذه الروح راحلة والحادي لها ما ذكره الله عز وجل من كلامه ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم من أجل أن تسارع، وتقطع الطريق بسرعة إلى الجنة.(76/4)
صفة أرض الجنة وترابها
يقول ابن القيم في كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: إن سألت عن أرضها -أرض الجنة- وتربتها فهو المسك والزعفران -المسك والزعفران هو التربة والأرضية التي في الجنة-.
وإن سألت عن سقفها -سقف الجنة- فهو عرش الرحمن.
وإن سألت عن ملاطها فهو المسك الأذفر.
وإن سألت عن حصبائها -الحصباء: الحجر- فهو اللؤلؤ والجوهر.
وإن سألت عن بنائها فلبنة من ذهب ولبنة من فضة.
هذه كلها أحاديث.(76/5)
صفة أشجار الجنة وثمارها
وإن سألت عن أشجارها فما فيها شجرة إلا وساقها من ذهب.
وإن سألت عن ثمرها فأمثال القلال ألين من الزبد، وأحلى من العسل.
وإن سألت عن ورقها فأحسن ما يكون من رقائق الحلل.(76/6)
صفة أنهار الجنة
وإن سألت عن أنهارها -أنهار الجنة- فكل رجل من أهل الجنة أو امرأة من أهل الجنة يجري من تحت بيته أربعة أنهار {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد:15] الماء إذا ركد تعفن وأسن، لكن أنهار الجنة لا تأسن.
{وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد:15] اللبن في أول يوم يكون طعمه طيباً، وفي ثاني يوم يحمض، وفي ثالث يوم يزداد حموضة، وبعد أسبوع تنتهي صلاحيته، أما أنهار الجنة فلا يتغير طعمها.
{وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15] ليس كخمر الدنيا؛ فخمر الدنيا يعطل العقل ويضيع اللب، ويحول الإنسان إلى حيوان، يقول الناظم ابن الوردي في لاميته:
واترك الخمرة لا تشربها كيف يسعى في جنونٍ من عقل؟
شخص عاقل يأخذ له شيئاً يجعله مجنوناً يركب على ابنته وعلى أمه وعلى أخته!! من هذا الإنسان؟! هذا ليس بإنسان، ولهذا سميت الخمر: أم الخبائث -والعياذ بالله- وهي من أكبر الكبائر، ومن السبع الموبقات -نعوذ بالله وإياكم منها-.
{وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد:15] وقد لا يفهم عقلك هذا النهر؛ لأنك ما تعودت في الدنيا إلا أن ترى نتفاً بسيطة من العسل، يقول أحد الإخوة: ما شبعنا في العسل غماس، فكيف بأنهار من تحت بيتك؟! لكن {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].(76/7)
طعام أهل الجنة وشرابهم
وإن سألت عن طعامهم؟ {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20 - 21].
وقد ورد في الحديث: أن الإنسان إذا تمنى الفاكهة وهو جالس ينزل الغصن فيتناوله من قرب، يقول الله: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} [الإنسان:14] لا حاجة لأن تقوم، وأنت جالس يأتيك الغصن فتأخذ الحبة ويرجع وأنت نائم، فقد ذللت لك.
وبعد ذلك {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21] وورد أن الرجل يتمنى الطير وهو يسبح في الفضاء فيقع مشوياً في حجره، يرفع له جناحه فيأكل منه حتى يشبع، ثم يرجع ويطير، عقلك لا يفهم هذا، لكن عليك أن تصدق به؛ لأن المخبر به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَلَحْمِ طَيْرٍ} [الواقعة:21] واختار الله عز وجل لحم الطير؛ لأنه أفضل اللحوم، ويدخل فيه لحم الدجاج، لكن لما كثر الدجاج أصبح عندنا من أردأ اللحوم، وإلا لو أنه ليس موجوداً لكان من أفضل اللحوم، لأن أفضل اللحوم لحوم الطيور؛ لأنها تفيد الجسم، وليس فيها أي ضرر، بل هي لذيذة وسهلة الهضم، وتفيد الجسم أكثر من بقية اللحوم الأخرى.
وبعد ذلك: وإن سألت عن شرابهم؟ -شراب أهل الجنة- فالتسنيم والزنجبيل والكافور.
وإن سألت عن آنيتهم؟ فالذهب والفضة؛ ولهذا حرمت علينا في الدنيا؛ لأنها لنا في الجنة.(76/8)
سعة أبواب الجنة وملك أهلها فيها
وإن سألت عن سعة أبوابها -المساحات التي يدخل منها الناس-؟ كلما زادت البوابة سعة كلما كان القصر مشرقاً، ألا ترى باب بيتك الصغير متراً، لكن باب عمارة أكبر منه تجعله ثلاثة أمتار، وإذا كان قصراً جعلوا بابه عشرة أمتار، فأبواب الجنة يقول عنها عليه الصلاة والسلام: (ما بين المصراعين مسيرة أربعين عاماً، وليأتين عليه يومٌ وهو كظيظ من الزحام) -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المزاحمين على هذا الباب- أنت لست لوحدك يا أخي في هذا الطريق، بعض الشباب إذا اهتدى والتزم ظن أنه يسلك الطريق وحده، لا.
معك عباد الله، منذ بعث الأنبياء إلى أن تقوم الساعة وهم مبثوثون في الأرض، يوم القيامة ستأتي لحظة من اللحظات على هذه الأبواب -وهي ثمانية أبواب ما بين المصراعين يعني: فتحة الباب، من المصراع إلى المصراع مسيرة أربعين عاماً- وهي مملوءة بعباد الله الصالحين -اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين-.
وإن سألت عن ظلها ففيها شجرة يقال لها: طوبى، يسير الراكب المضمر جواده في ظل الفنن الواحد مائة عام ما يقطعه، المضمر أي: الذي جوع جواده واستعد للسباق، يسير في الظل الواحد للفنن -للغصن الواحد- مائة عام لا يقطعه.
فكيف بالشجرة كلها؟ وإن سألت عن سعتها فأدنى أهل الجنة يسير في ملكه وسروره وقصوره مسيرة ألفي عام ما يقطع ملكه، لما رواه ابن مسعود رضي الله عنه في صحيح مسلم عن أدنى أهل الجنة منزلة قال: [يعطى قدر الدنيا وعشرة أمثالها، قال: يا ابن أم عبد! تقول هذا أقل منزلة فكيف بأعلى منزلة؟ قال: ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر].(76/9)
صفة خيام الجنة وأهلها
وإن سألت عن خيامها فالخيمة الواحدة من درة مجوفة طولها ستون ميلاً.
وإن سألت عن ارتفاعها فانظر إلى الكوكب الغابر في الأفق لا تكاد تناله الأبصار.
وإن سألت عن لباس أهلها فهو الحرير والذهب.
وإن سألت عن فرشهم فبطائنها من استبرق مفروشة في أعلى الرتب.
وإن سألت عن وجوه أهلها فوجوههم على صورة القمر.
وإن سألت عن أسنانهم -السن- فأبناء ثلاثٍ وثلاثين، والصورة صورة يوسف، والطول طول آدم.(76/10)
سماع أهل الجنة وما أعد الله لهم فيها
وإن سألت عن سماعهم -سماعهم أي: كيف يقضون أوقاتهم؛ لأنهم في الدنيا ليس عندهم سماع، عندهم سماع لكلام الله، سماع للعلم، سماع لخطاب الله، لكن في الجنة ليس من ذلك شيء، لا يوجد إلا سماع خاص، لا يوجد إلا طرب، ولا يوجد إلا التمتع- فغناء أزواجهم من الحور العين، وسماع الملائكة المسبحين، وأعلى من ذلك خطاب رب العالمين.
وقد ورد أنه تركب في شجر الجنة مزامير من مزامير آل داود، في كل شجرة مزماراً، ثم تهب ريحٌ من تحت العرش يقال لها: المثيرة، تهب على تلك المزامير فتعزف تلك المزامير بألحانٍ ما سمعت بمثلها الآذان، ولهذا لا تتصور -يا أخي- عندما تترك الأغاني أنك خسران، لا والله لست بخسران، الخسران الذي يغني، يسمع عواء وصياح أهل النار وهو معهم، لكن أنت إذا تركت الأغاني فإنك سوف تسمع هذا الكلام، تغني لك الحوريات وهن يقلن:
نحن الراضيات فلا نبأس نحن الخالدات فلا نبيد
طوبى لمن كنا له
هذا هو الطرب الصحيح.
وإن سألت عن مطاياهم -أي: المطايا التي يتزاورون عليها- فنجائب أنشأها الله مما شاء، تسير بهم حيث شاءوا من الجنان.
وإن سألت عن حليهم فأساور الذهب واللؤلؤ على الرءوس، وعلى الرءوس ملابس التيجان.
وإن سألت عن غلمانهم -أي الخدم الذين يخدمونهم- فولدان مخلدون كأنهم لؤلؤ مكنون.
هذا الخادم مثل اللؤلؤة فكيف يكون حال المخدوم؟ لا يعلم ذلك إلا الله.
وإن سألت عن زوجاتهم، وهنا ينبغي لك أن تفرح، لماذا؟ لأنك محروم في الدنيا من الحرام، محروم من الزنا، محروم من النظر المحرم، ولك زوجة حلال، أو زوجتين، أو ما استطعت من الزوجات بحدود أربع، لكن إذا ما قدرت فعليك أن تستعف وتصبر، واسمع ما أعد الله لك في الجنة، يقول الله عز وجل: {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة:22 - 23].
ويقول عز وجل: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] وبعد ذلك يقول: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:58].
ويقول عز وجل: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات:49].(76/11)
صفة عرائس الجنات
يقول ابن القيم: وإن سألت عن عرائسهم فهن الكواعب الأتراب، الكاعب: المرأة التي لها ثدي لم يتدل ولا يزال في مكانه، أتراب: في سن واحدة لسن بعجائز ولا صغار كلهن في سن واحدة، اللاتي جرى في أغصانهن ماء الشباب، فالحيوية والشباب تجري في كل عرق من عروقها، فللورد والتفاح ما لبسته الخدود -إذا رأيت وردة أو تفاحة فهذا هو شكل خد الحورية- وللرمان ما تضمنته النهود، وللؤلؤ المنظوم ما حوته الثغور، وللرقة واللطافة ما دارت عليه الخصور، تجري الشمس من محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء البرق من ثناياها إذا ابتسمت، إذا ضحكت في وجه زوجها يضيء في الجنة برق، فيرفع أهل الجنة وجوههم ورءوسهم إلى السماء: ما هذا؟! قالوا: هذه حورية تبسمت في وجه زوجها، مثل البرق -نسأل الله من فضله-.
إذا قابلت زوجها فقل ما تشاء من تقابل النيرين -أي: الشمس والقمر- وإن حادثته فما ظنك بمحادثة الحبيبين، يرى وجهه في صحن خدها وفي صدرها وفي كبدها كما يرى في المرآة التي جرى صقلها، ويرى مخ ساقها من وراء الحلل لا يستره جلدها ولا عظمها ولا حللها، لو اطلعت على الدنيا لملأت ما بين الأرض والسماء ريحاً، حتى لو أن شخصاً مزكوماً في المشرق وهي في المغرب فإنه يشمها، رائحة ليست من روائح الدنيا، لو اطلعت على الأرض لملأت ما بين السماء والأرض ريحاً، ولاستنطقت أفواه الناس تهليلاً وتكبيراً وتسبيحاً، كل شخص ينظر إليها يقول: لا إله إلا الله! شيء مدهش! شيء يثير العجب! ولتزخرف لها ما بين الخافقين، ولأغمضت عن غيرها كل عين، ولطمست ضوء الشمس، ولآمن من على ظهرها بالله الواحد القيوم.
نصيفها -الخمار- على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها، ووصلها أشهى له من جميع أمانيها، لا تزداد على طول الزمان إلا حسناً وجمالاً، ولا يزداد على طول المدى إلا محبةً ووصالاً، مبرأة من الحمل والولادة، والحيض والنفاس، زوجة الدنيا شهر واحد شهر العسل، وبعد ذلك قالت: حملت، إذاً خذ المصائب من يوم أن تحمل، فتتقيأ ثلاثة أشهر، وكذلك تخاصمك على أقل مشكلة، يسمونه وحماً، وبعد ذلك حملت وولدت، ثم تهتم بالولد وجعلتك بعيداً منها، هذه زوجة الدنيا، لكن زوجة الآخرة، لا.
لا يوجد حمل، تأتيها بكراً وتعود وهي بكر، يعود لها كما كانت وكما خلقها الله عز وجل، وبعد ذلك لا يوجد نفاس ولا حيض ولا ولادة، وبعد ذلك مطهرة من المخاط، ومنظفة من البول والغائط والبصاق وسائر الأدناس، لا تزداد مع طول الزمان إلا حسناً وجمالاً، لا يفنى شبابها، ولا تبلى ثيابها، ولا يخلق ثوب جمالها، ولا يمل طيب وصالها، قد قصرت طرفها على زوجها، فلا تطمح لأحدٍ سواه، وقد قصر طرفه عليها، فلا يطمح لأحدٍ سواها، فهي غاية أمنيته وهواه، إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته، فهو معها في غاية المتعة والأماني والأمل، هذا وأيضاً لم يطمثها قبله إنس ولا جان، إذا برزت ملأت القصر نوراً.
وإن سألت عن سنها ففي سن أعدل الشباب.
وإن سألت عن الحدق -حدق العيون-؛ لأن الله وصف العيون في الجنة، فقال: {وَحُورٌ عِيْن} [الواقعة:22] وفي هذا يقول العلماء: إن وصف المرأة بجمال عينيها يدل على أن أجمل ما تملكه المرأة من جمالٍ ومن فتنة عينيها، ولهذا إذا أرادت أن تتحجب ماذا تحجب؟ وجهها، لماذا؟ من أجل عيونها، لكن الشيطان أفتى النساء الآن، فقال: تحجبي وأظهري عيونك، ماذا بقي إذا أظهرت المرأة العينين قتلت عباد الله بالعينين، فإذاً اكشفي؛ لأن الرجل إذا نظر المنظر كاملاً يعطي نظرة وتقييماً للمنظر كله، يمكن أن يكون الأنف ليس جميلاً، أو الفم ليس جميلاً، أو الجبهة أو الخدود أو أي شيء، لكن إذا ظهرت العينين فقط، فمهما كانت المرأة قبيحة فعيونها جميلة، حتى قلت مرة من المرات في محاضرة من محاضرات تبوك: حتى العنز، إذا كان لديك عنز في بيتك وألبستها برقعاً فانظر كيف تكون عيون العنز؛ لأن العنز عيونها جميلة، لكن يخرب عيونها فمها وقرونها ومسامعها، فإذا رأيت منظر العنز كله تقول: عنز، لكن غط قرونها ومسامعها وأنفها، وضع على عيونها برقعاً فعندما تراها تسقط أمامها.
وكذلك بعض النساء تفتن الناس، ولذا الآن -سبحان الله! - الشيطان يشرع للناس ويطيعونه، معظم النساء الآن في الشوارع أخذن بهذه الموضة، كانت خرقاً صغيراً والآن وسعوه قليلاً، والآن بدأنا نرى نساءً أظهرن العينين وأظهرن الأنف، صار مثلثاً ليس متساوياً، وبعد أيام يظهرن الفم، أي تدرج خطوات من الشيطان والعياذ بالله.
فالله وصف نساء الجنة فقال: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة:22] أي عينها حوراء، قالوا: ما هو الحور؟ قال: هو شديد بياض العين مع شدة سعة الحدقة، أي: اللون الأسود وسيع، والعين بيضاء صافية، يحار الطرف فيها، إذا نظرت فيها تحور عينك فلا تستطيع معاودة النظر.
يقول: وإن سألت عن الحدق فأحسن سواد في أصفى بياض في أحسن حور.
وإن سألت عن القدود -أي: الطول- فهل رأيت أحسن الأغصان؟ وإن سألت عن النهود فهن الكواعب نهودهن كألطف الرمان.
وإن سألت عن اللون فكأنهن الياقوت والمرجان.(76/12)
أخلاق نساء أهل الجنة
وإن سألت عن الأخلاق -أخلاق أهل الجنة من نساء الجنة- فهن الخيرات الحسان، يقول الله: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن:70] خيرة يعني: ليس فيها شر أبداً.
خيرات حسان: اللاتي جمع لهن بين الحسن والإحسان.
وإن سألت عن حسن العشرة فهن المتحببات إلى الأزواج، بلطافة التبعل، فما ظنكم بامرأة إذا ضحكت في وجه زوجها أضاءت الجنة من ضحكها.
وإذا انتقلت من غرفة إلى غرفة قلت: هذه الشمس متنقلة في بروج فلكها.
وإن غنت لزوجها فيا لذة الأبصار والأسماع، وإن آنست وأمتعت فيا حبذا تلك المؤانسة والإمتاع.
وإن قبلت فلا شيء أشهى من تلك القُبل.(76/13)
المقصود بالزيادة في الجنة
وإن سألت عن يوم المزيد؟ يوم المزيد هذا عيد أهل الجنة، مثل يوم الجمعة في الدنيا، يقول الله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] هذا المزيد يحصل فيه شيء وهو التجلي: وهو أن الله يراه أهل الجنة في الجنة في ذلك اليوم -نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يمتع أبصارنا بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة، نحن وآباؤنا وأمهاتنا وإخواننا وجميع إخواننا المسلمين-.
إن سألت عن يوم المزيد، وزيارة العزيز الحميد، ورؤية وجهه المنزه عن التمثيل والتشبيه، كما ترى الشمس في الظهيرة، وكما ترى القمر ليلة البدر لما جاء في الصحيحين: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة النصف لا تضامون في رؤيته) وفي هذه الأحاديث وفي هذه الآيات رد وإبطال لمعتقد الذين يعتقدون: أن الله لا يُرى في الجنة، وهم المعتزلة، وبعض الفرق الضالة الذين ينكرون أدلة صريحة صحيحة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تواتر عن الصادق المصدوق، وذلك موجود في الصحاح والسنن والمسانيد من رواية جرير، وصهيب، وأنس، وأبي هريرة، وأبي موسى، وأبي سعيد يقول: فاستمع يوم ينادي المنادي يقول: يا أهل الجنة! إن الله تبارك وتعالى يستزيركم -من أجل المواجهة والمقابلة- فحي على زيارته فيقولون: سمعاً وطاعة.
وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنجائب قد هيئت، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الذي جعل لهم موعداً، وجمعوا هناك فلا يغادر الداعي منهم أحداً، أمر الرب تبارك وتعالى بكرسيه فينصب هناك، ثم نصبت لهم منابر من لؤلؤ، ومنابر من نور، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، وجلس أدناهم -درجاتهم هناك على حسب درجاتهم في الدين هنا- أدنى الناس من يجلسون على كثبان من المسك لا يرون أن أصحاب الكراسي فوقهم بالعطايا -الذي فوق يعرف أنه أحسن من الذي تحت، والذي تحت لا يرى أن ذاك أحسن منه، من أجل لا يصير في قلبه شيء؛ لأن الله يقول: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]- حتى إذا استقرت بهم مجالسهم واطمأنت بهم أماكنهم نادى المنادي: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، وينجينا من النار؟ فبينما هم كذلك إذ سطع لهم نورٌ أشرقت له أطراف الجنة، فرفعوا رءوسهم فإذا الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه وصفاته قد أشرف عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم، فلا ترد هذه التحية بأحسن من قولهم: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى يضحك إليهم ويقول لهم: يا أهل الجنة! فيكون أول ما يسمعون منه تعالى: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني؛ -الله أكبر! - فهذا يوم المزيد؟ فيجتمعون على كلمة واحدة: أن قد رضينا فارض عنا، فيقول: يا أهل الجنة! إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي، هذا يوم المزيد، فاسألوني، فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليه -هذا أعظم نعيم لأهل الجنة، نعبد الله ونوحده ولكن إذا رأيناه زاد نعيمنا، نسأل الله أن يمتع أبصارنا بالنظر إلى وجهه الكريم- أرنا ننظر إليك، فيكشف لهم الرب جل جلاله الحجب، ويتجلى لهم، فيغشاهم من نوره عز وجل، لولا أن الله عز وجل قضى ألا يحترقوا لاحترقوا، ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره ربه محاضرة، أي: مكالمة (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) يتكلم معك رب العالمين، لا إله إلا الله! حتى أنه يقول لبعض أهل الجنة: يا فلان! أتذكر يوم فعلت كذا وكذا -يذكره ببعض معاصيه في الدنيا- فيقول: رب بلى.
ألم تغفر لي؟ قال: بلى غفرت لك؛ بمغفرتي بلغت منزلتك هذه.
فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة! ويا قرة العيون بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة! ويا ذلة وخيبة الراجعين بالصفقة الخاسرة! {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة:22 - 25].
الفاقرة: المصيبة التي تكسر الفقار، وتكسر الظهر، ما أعظم منها وهي النار -أجارنا الله وإياكم من النار-.
هذه الجنة أيها الإخوة! وما فيها من النعيم يقابلها النار، ولذا يقول أحد السلف: لو أن الله تعبدنا بالدين وأخبرنا أن الذي يطيعه له الجنة، والذي لا يطيعه يصير تراباً، لكان حريٌ بنا أن نطيعه من أجل الجنة.
ولو أنه تعبدنا وأعد لنا النار وقال: من أطاعني صيرته تراباً، ومن عصاني أدخلته النار، لكان حريٌ بنا ألا نعصيه، من أجل النار، فكيف والله تعبدنا وقال لنا: من أطاعني أدخلته الجنة ونجيته من النار، ومن عصاني حرمته من الجنة وأدخلته النار!(76/14)
أسباب نيل رحمة الله الموجبة لدخول الجنة
هذه الجنة -أيها الإخوة- يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله) أي: لا تتصور -يا أخي في الله- أن عملك هذا هو ثمن الجنة، لا.
ليس عملك، فكر فيه، هذه الصلاة أديتها بجسدك، جسدك من الذي خلقه؟ الله، أجل أنت تعبد الله بجسدٍ خلقه الله، مالك الذي أنفقته من أين؟ من الله، أجل أنت تنفق من مال الله، كل ما تعمله من عمل صالح لو فكرت فيه، ورجعت في أسبابه تجده من الله، أجل ما من شيء تعمله إلا وهو من الله حتى تأخذ على هذا العمل الجنة.
قال الصحابة: (ولا أنت يا رسول الله؟) لأن الرسول كان أعبد خلق الله، كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، وكان يذكر الله في جميع أحواله، وقد حمل هم هذا الدين، وواجه البشرية لوحده بهذا الدين ونصره الله، فهو أعظم البشر عليه الصلاة والسلام، ما من حسنة تجري في الأرض إلا وله مثلها في دواوينه، كل من عبد الله منذ بعثته إلى يوم القيامة له مثل عمله.
هذا الرسول الكريم قالوا: ولا أنت، يعني: مع ضخامة عملك، ولا أنت؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته).
فالجنة ليس سببها ولا ثمنها عملك، ولكن سببها رحمة الله -نسأل الله أن يشملنا برحمته-.
ولكن هناك أسباب تتعرض نيل رحمة الله عز وجل، فإذا عملت بهذه الأسباب كنت مؤهلاً لنيل رحمة الله التي بموجبها تدخل الجنة.
أما أن تتصور أن هذه الأسباب هي التي تنال بها الجنة فلا، الجنة تنال برحمة الله، والرحمة تنال بالأسباب، فتعرض لرحمة الله بنيلها عن طريق فعل هذه الأسباب، والأسباب كثيرة مذكورة في كتب العلم، جاءت في القرآن وفي السنة، لكني استطعت أن أحصر منها اثني عشر سبباً وهي كالآتي:(76/15)
الإيمان والعمل الصالح
أول سبب وأعظم سبب: الإيمان والعمل الصالح؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:82] الإيمان: وهو التصديق والجزم بالقضايا التي أخبرنا الله عز وجل بها: الإيمان بالله، والإيمان بكتبه وبرسله وبملائكته، وبالبعث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره.
هذه أركان الإيمان الستة.
الإيمان بالجنة، والإيمان بالنار، والإيمان بعذاب القبر ونعيمه، وبالجن، وبالصراط، وبالحوض، وبالكتب، وبمظلة الرحمن، وكل ما أخبر الله به من المغيبات نؤمن بها، معنى الإيمان: الجزم واليقين أي: تعقد قلبك على هذا كقضية لا نقاش فيها ولا شك.
والعمل الصالح: هو فعل طاعة الله وترك المعصية.
فبالإيمان والعمل الصالح تنال الجنة بإذن الله عز وجل.(76/16)
التقوى
التقوى: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، بفعل أمره وترك نهيه.
وقد سئل أحد السلف عنها فقال: [هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل].
وسئل آخر عن التقوى؟ فقال: "أرأيت إذا دخلت في وادٍ كثير الشوك وأنت حافٍ ماذا تصنع؟ قال: أشمر وأجتهد، أجتهد أني ما أضع قدمي إلا في مكان ليس فيه شوك، قال: كذلك الدنيا؛ الدنيا كثيرة الأشواك أشواك المعاصي وأنت تعيش شمر عنها، فلا تقع عينك إلا في حلال، ولا تسمع بأذنك إلا حلالاً، ولا تتكلم بلسانك إلا في حلال، ولا تمد يدك إلا على حلال، ولا تسير بقدمك إلا في حلال، ولا تطأ إلا بفرجٍ حلال، ولا ينزل في بطنك إلا حلال؛ لأنك تقي، ولكن الذي ليس عنده تقوى يقع بعينه في الحلال والحرام، لا يتوقى من الذي ينظر إليه، والذي ليس عنده تقوى يسمع بأذنه الحلال والحرام، ويتكلم بلسانه بالحلال والحرام، ويطأ بفرجه في الحلال والحرام، ويمد يده على الحلال والحرام، ويسير برجله إلى الحلال والحرام، ويملأ بطنه بالحلال والحرام؛ لأنه ليس بتقي.
يقول الله في أهل التقوى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر:45] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} [الطور:17] {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} [النبأ:31] {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [القلم:34].
وكثير من الآيات التي ذكر الله فيها أهل التقوى وأن لهم الجنة -اللهم اجعلنا من أهلها ومن المتقين-.
ومن السنة ما ذكر في سنن الترمذي وفي مسند أحمد حديث صحيح، يقول عليه الصلاة والسلام: (أكثر ما يدخل الناس الجنة: تقوى الله وحسن الخلق، وأكثر ما يدخل الناس النار: الفم والفرج) شيئان يدخلان الجنة، وشيئان يدخلان النار، الذي يدخل الجنة تقوى الله، تضطرب إذا رأيت امرأة في الناس فتتقي الله، لكن إذا رأيتها وطولت النظر إليها، فأين التقوى؟ إذا سمعت نغمة موسيقية ولو حتى مع الأخبار مباشرة تغلقها، هنا التقوى.
الريال الواحد لو دخل عليك كأنه ثعبان نزل في جيبك فأخرجه، لا تريد إلا الحلال، هذا التقي.
الصلاة: إذا سمعت الأذان يتقطع قلبك إذا تأخرت حتى لو كتفت وأنت تريد الصلاة هذا هو التقي.
وماذا مع هذا؟ حسن الخلق، يقول المفسرون: لماذا جاء حسن الخلق مع التقوى؟ قالوا: تقوى الله للتعامل مع الله، وحسن الخلق للتعامل مع الناس؛ لأن من الناس من عنده تقوى، لكن عنده سوء خلق، تجده تقياً لا يسمع الحرام، ولا يأكل الحرام، ولا يمشي في الحرام، لكن أخلاقه سيئة: سيئة مع أهله، سيئة مع العمال عنده، سيئة مع الجيران، سيئة مع الإخوة، سيئة مع الناس كلهم، لا يسلم شخص من شره، هذا -والعياذ بالله سيئ- ولهذا كاد حسن الخلق أن يذهب بخيري الدنيا والآخرة، وفي الحديث: (أقربكم مني منزلة يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبعدكم مني منزلة يوم القيامة كل عتل جواظ جعظري مستكبر) عتل جواظ أي: لا أحد يريده ولا أحد يحبه، ولهذا إذا أردت أن تعرف منزلتك عند الله اسأل: كيف أنت عند الناس هل أنت محبوب؟ هل أنت كريم؟ هل أنت صاحب خلق؟ هل أنت لا تسب ولا تشتم ولا تلعن؟ سبحان الله! بعض الناس تجد عنده جوانب تقوى طيبة، لكن أخلاقه سيئة.
لا بد أن تجمع بين الأمرين: أن تكون ذو تقوى مع الله، وذو خلقٍ حسنٍ مع الناس.
وأكثر ما يدخل الناس النار الفم؛ لأن فيه اللسان وهو منفذ الحرام، والفرج؛ لأن فيه شهوة غالبة، وشهوة طاغية، تتعلق بالنساء، وقد تتعلق أحياناً باللوطية، وهي جريمة منكرة، يقول عبد الملك بن مروان: والله لولا أن الله أخبرنا بخبر قوم لوط ما صدقت أن رجلاً يركب رجلاً؛ لأن هذه الجريمة تأنفها حتى البهائم، ما رأينا حماراً يركب حماراً وهي حمير، ولا قرداً يركب قردا، ولكن الإنسان إذا ضل عن الله وعن سبيل الله، وعن طريق الله عمل هذه الفاحشة، ولذا توعد الله من عملها باللعن، والطرد، والإبعاد عن رحمته: (لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط) والحديث في مسند أحمد سبعة إلا هؤلاء وكررها ثلاث مرات، واللعن هو: الطرد والإبعاد من رحمة الله.
وفي الحديث: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) وعقوبته في الشرع: بعض أهل العلم قالوا: حرقاً، وبعضهم قال: القتل، وبعضهم قال: الرمي كما يرمى الثيب، وبعضهم قالوا: يرمى من أعلى مكانٍ شاهق، كما صنع الله عز وجل في قوم لوط، فإن الله عز وجل أرسل عليهم الملائكة فحملتهم وقراهم إلى أن بلغوا بهم إلى السماء ثم قلبها عليهم، قال الله: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً} [هود:82 - 83] أي: معلمة {عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83].
تلك الحجارة لقوم لوط والظالمين من بعدهم واللعنة ليست بعيدة منهم، وقد ورد أنه إذا ركب الذكر الذكر اهتزت السماوات والأرض، فتمسك الملائكة بأطراف السماء وتقرأ سورة الإخلاص حتى يسكن غضب الرب، هذه جريمة منكرة.
أما جريمة الزنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما عصي الله بذنب بعد الشرك أعظم من نطفة يضعها الرجل في فرجٍ لا يحل له).
وقال أيضاً: (ومن زنى بامرأة في الدنيا كان عليه وعليها في القبر نصف عذاب هذه الأمة).
وقال أيضاً: (والذي نفس محمدٍ بيده إن ريح فروج الزناة ليؤذي أهل النار).
وقال أيضاً: (والذي نفسي بيده إن فروج الزناة لتشتعل ناراً يوم القيامة) -والعياذ بالله-.(76/17)
طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم
الحديث في صحيح البخاري، يقول عليه الصلاة والسلام: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).
الجنة أمامك طريقها من عند محمد صلى الله عليه وسلم إذا أطعته دخلت الجنة، وإذا عصيته رفضت دخول الجنة، طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم كل مما أمر الله به وأمر به رسوله وكله من طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
بعض الناس تثقل عليه طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من حرمانه وخذلانه من التوفيق، وأعطيكم أمثله على طاعة النبي صلى الله عليه وسلم: إعفاء اللحية، الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإعفائها، وقال: (قصوا الشوارب ((أكرموا اللحى ((أرخوا اللحى ((اسدلوا اللحى ((أعفوا اللحى) كل هذه أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، هي ليست قضية شعر، حتى بعض الناس يظن أننا نتعصب عند الشعر، لا -يا أخي- هي قضية انتماء واعتزاز وفخر بمتابعة هذا النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه، وما دام أمرك الرسول وقال: (أعفوا اللحى) أكثر من عشرة أحاديث: (أعفوا اللحى) (أكرموا اللحى) (أرخوا اللحى) (أسدلوا اللحى) وأنت تحلقها، كيف؟!! لا أعفيتها، ولا أسدلتها، ولا أرخيتها، ولا أكرمتها، إكرام اللحية أن تبقى في وجهك؛ لأن وجهك أكرم منطقة عليك، لكن حلقها إهانة؛ لأن الحلق أين يكون؟ إما في دورة المياه، أو في الغسالة، ثم تذهب إلى أماكن النجاسات، أو عند الحلاق، والحلاق إذا حلق اللحية يضعها تحت قدمه، ثم يأتي بالمكنسة ويكنس الشعر، من وجهك إلى المكنسة، وبعد ذلك يأخذها ويضعها في القمامة، هذه لحى المسلمين، وإلى سيارة البلدية ثم تحرق، هل هذا إكرام للحية -يا إخوان-؟ لا يجوز، فلا بد أن تكرم سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، إذا أردت أن تدخل الجنة بإذن الله، ولا يعني كلامي هذا أن الذي يحلق لحيته لا يدخل الجنة، لا.
نقول: الذي يصلي ويقوم بالواجبات الإسلامية، ويطيع الله عز وجل هذا إن شاء الله أنه من أهل الخير، لكن يكمل ذلك بإتباع النبي صلى الله عليه وسلم بإعفاء لحيته؛ لأنه لا توجد مشقة عليه في إعفاء اللحية، فاللحية ليست ثقيلة، والله إنها لا تساوي عشرة جرامات أو عشرين جراماً، خفيفة جداً، المشقة في الحلق؛ لأن الحلق كل يوم وأنت تحلق، أنت تريدها تموت وهي تريد تحيا، فتبقى حية إلى أن تموت، فأنت أعفها مرة واتركها.
أحد الشباب قال لي: أنا أريد أن أترك لحيتي يا شيخ، لكن لحيتي تطلع مثل الدبابيس، قلت: طبعاً مثل الدبابيس؛ لأنك تحلقها، لكن هي تحاربك كلما حلقتها صارت مثل الدبابيس، لكن أعلن الهدنة وألق السلاح وهي سوف تطلع بعد ذلك مثل الحرير، قال: كيف؟ قلت: انتظر فقط واتركها، فتركها وإذا بها بعد ما اطمأنت وعرفت أنه لن يعتدي عليها أعلنت هي الهدنة أيضاً، ونبت الشعر وصار مثل الحرير، لكن عندما تحلقها وتريدها تطلع مثل الحرير، لا.
أنت تؤذيها وهي تؤذيك، مهما كان، فهذه جزء من طاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم: رفع الإزار وعدم إرخاء الثوب، فإن هذا مرضاة لله، وكذلك تقوى لله، (فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك) وكان صلى الله عليه وسلم يأمر الناس بأن يرفعوا أزرهم؛ لأن هذا من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فطاعة الرسول سببٌ من أسباب دخول الجنة، يقول الله عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} [النساء:69 - 70] أي: مع النبيين في الجنة بإذن الله عز وجل.(76/18)
الاستقامة
الاستقامة هي: عدم الانحراف، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] أي: سر مستقيماً من أول الطريق ولا تلف يميناً ولا شمالاً إلا إلى الله، فلا تسمع الأغاني ولا تنظر إلى الحرام، وكذلك لا تأكل الربا، وحافظ على الصلاة في وقتها؛ لأن ذلك هو الطريق إلى الجنة بإذن الله، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] فالاستقامة من أسباب دخول الجنة.
ويقول عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:13 - 14].
وفي مسلم حديث عظيم عن سفيان الثقفي قال: قلت: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل أحداً بعدك؟ قال: قل آمنت بالله ثم استقم) إذا سألك شخص وقال لك: بالله عليك، دلني على طريق توصلني إلى الطائف ولا أضيع فيها، قلت له: امضِ في الخط الفلاني ولا تلف يميناً ولا شمالاً، وإذا رفض السماع منه ثم لف يميناً، فإنه سيصل إلى جدة، لا إلى الطائف.
كثير من الناس الآن يدلهم الشيطان على الطريق إلى جهنم -والعياذ بالله- يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (قل آمنت بالله ثم استقم) رواه مسلم.(76/19)
طلب العلم
ومن ذلك حضور مجالس الذكر؛ فإنك إذا حضرت مجالس العلم فإنك لا تسمع إلا قال الله قال رسوله، ما الذي جاء بك إلى إلى هذا المجلس؟ لا يوجد أي هدف -ولهذا أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يرزقنا وإياكم التوفيق والإخلاص والقبول- يعني: ما أتألى على الله؛ لكن إن شاء الله لا أقول إلا أنكم جئتم لله؛ لأنه لا يوجد فيها نفع من منافع الدنيا، كل شخص جاء من أجل الله عز وجل، لطلب العلم، وحضورك لهذا المجلس تلتمس فيه طريقاً إلى الجنة، يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في صحيح مسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) هذا حديث صحيح.
وفي صحيح مسلم حديث في الصحيح: (وما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، وغشيتهم الرحمة) رحمة الله التي بسببها يكونون من أهل الجنة بإذن الله عز وجل.
فطلب العلم عظيم، ولهذا قال العلماء: طلب العلم طريق إلى الجنة؛ لأنه ينير لك الطريق، وطريق الجنة لا يمكن أن تراه إلا بنور، والنور هو العلم، فإذا قرأت كتاب الله، وقرأت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، قرأت كتب الفقه، والسيرة، والتوحيد، وعرفت الطريق سرت فيه، لكن من الذي لا يسير في طريق الجنة الآن؟ الجهلة بالله، الذي يمر عليه شهر وما يقرأ فيه آية من كتاب الله، ولا يسمع موعظة، ولا يذكر الله، هذا الشيطان يلعب عليه؛ لأنه أعمى يقوده بخشمه إلى النار -والعياذ بالله- لكن إذا جاء إليك وعندك إيمان وعندك علم ما يقدر عليك، لماذا؟ لأن عندك نور {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22].(76/20)
بناء المساجد ابتغاء وجه الله
الحديث في صحيح البخاري: (من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة).
قال أهل العلم: هذا الحديث فيه بشرى، أن من بنى لله مسجداً أنه من أهل الجنة، لماذا؟ قالوا: لأن الله لا يبني لك بيتاً في الجنة ويجعلك في النار، إذا كان بيتك في الجنة فإنك ستدخل فيه.
أجل بناء المساجد من أعظم القربات، لكن بشرط: وهو أن يبتغي به وجه الله، قد يبني شخص مسجداً طويلاً عريضاً؛ لكن يبتغي به ثناء الناس، أو يبتغي به الضرار، كمسجد الضرار الذي بناه المنافقون من أجل محاربة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا.
تبتغي بهذا المسجد وجه الله، تريد بيتاً في الجنة، تريد يعمر هذا المسجد بطاعة الله، يذكر فيه الله، وتحتسب كل ما يؤدى فيه من عمل صالح؛ لأن بناء المساجد من أعظم القربات، ما من مسجدٍ تبنيه لله عز وجل -أيها المسلم- إلا ولك أجر الذي يصلي فيه، وأجر الذي يقرأ القرآن فيه، هذا المجلس المبارك الآن فيه حسنات وجميع هذه الحسنات لصاحب هذا المسجد، فضل عظيم -يا إخواني- وبعد ذلك إذا مت لا ينقطع هذا الأجر عليك، أجل إذا كان عندك إمكانية ابنِ مسجداً في مكانٍ لا يوجد فيه مسجداً، لا تذهب تبني في مكان لا يحتاج فيه إلى هذا المسجد، أو تبني في مكان سيبني فيه غيرك، لا ابن وليكن خارج المملكة؛ لأن بلاد العالم الإسلامي بحاجة إلى المساجد، لقد زرت والله -أيها الإخوة- بعض البلدان الإسلامية وجدتهم والله يصلون ويسجدون في الطين، ما عندهم حتى قطعة فراش على الأرض ويصلون، نحن -والحمد لله- مساجدنا كثيرة، والدولة حفظها الله تبني المساجد، والمحسنين يبنون المساجد في بلادنا، إذا عندك إمكانية ابن، وبعد ذلك تكلفة المساجد في تلك البلدان رخيصة جداً، أي: بعشرة آلاف تبني أكبر مسجد، أو بعشرين ألفاً تبني مسجداً كبيراً -فيا أخي- اختزن من راتبك قليلاً وابن مسجداً ليكون سبباً من أسباب دخولك الجنة.
والحديث في صحيح البخاري: (من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة).(76/21)
الذهاب إلى المساجد
الحديث في الصحيحين: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة، كلما غدا أو راح) هذا العمل وظيفة راقية، شغلة ليست سهلة، ويسمى هذا الرجل من رواد المساجد المرابطين الذين ينتظرون الصلاة بعد الصلاة، إذا ذهب يصلي أعد الله له نزلاً وكذلك إذا رجع من المسجد كان له نزل آخر: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً) ما هي النزل؟ قالوا: ضيافة وكرامة في الجنة -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها-.(76/22)
الإكثار من السجود -يعني: الصلاة-
ورد في صحيح مسلم من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي وقد كان خادماً للنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بت ليلةً عند باب غرفته صلى الله عليه وسلم أنتظره بالوضوء يقول: فلما توضأ خرج فرآني، فقال: يا ربيعة سلني؟ قلت: أمهلني يا رسول الله! فجلس يفكر وبعد ذلك قال قلت: يا رسول الله! أسألك مرافقتك في الجنة) يقول: أريد أن أكون معك هناك، أما نحن الآن فهممنا محدودة في الدنيا وشهواتها وملذاتها.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أو غير ذلك؟ -أي: تريد شيئاً آخر؟ - قال: ما هو إلا ذاك، قال: أعني على نفسك بكثرة السجود) فدل الحديث على أن كثرة السجود -أي: كثرة الصلاة- سببٌ من أسباب دخول الجنة.(76/23)
الحج المبرور
هذا في إمكاننا والحمد لله ونحن نقيم في مكة، وبإمكان المسلم أن يحج كل سنة، لكن المصيبة أن أحد الإخوة أخبرني أنه يعرف قريباً له من أهل مكة إلى الآن ما حج، وعمره ستين سنة، وكلما جاءت سنة قال: السنة الثانية، ماذا بك؟ قال: زحمة، يريد أن نفضي له مكة ثم يحج، خلق من عباد الله الصالحين يزاحمونك في طاعة الله، نعمت المزاحمة، إذا كان شخص بجوارك يزاحمك وأنت تطوف ويزاحمك وأنت تسعى ويزاحمك وأنت ترمي نعمت المزاحمة تلك، بل سأفتح له المجال؛ لأنه ضمني وضمه عمل صالح، لكن بعض الناس تصيبه حساسية من حين ينظر إلى الناس يخاف ويرهب ويصارع، حتى أن بعضهم يذهب يرمي الجمرات وكأنه ذاهب ليصارع، ليس هكذا -يا أخي- إذا كان هناك زحام ارفع رأسك من أجل أن يأتيك الهواء، نعم بعد ذلك امش مع الناس أينما مشوا، المهم لا تسقط فقط، وإذا سقطت ومت تبعث يوم القيامة ملبياً، كل واحد يبعث وهو يخاف وأنت تبعث تقول: لبيك اللهم لبيك، هذا الفضل العظيم هو الحج المبرور وجزاؤه في الصحيحين: (الحج المبرور ليس له جزاء عند الله إلا الجنة) وقال أيضاً: (من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) رواه البخاري ومسلم.(76/24)
قراءة آية الكرسي عقب كل صلاة
لحديثٍ أخرجه النسائي وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: (من قرأ آية الكرسي عقب كل صلاة فليس بينه وبين الجنة إلا أن يموت) حديث صحيح، هذا الحديث كنت أقرؤه ولا أعرف درجته من الصحة، وإذا سألني شخص عنه أكون في شكٍ منه، لماذا؟ لأنه حديث عمله سهل وجزاؤه عظيم: (من قرأ آية الكرسي عقب كل صلاة فليس بينه وبين الجنة إلا أن يموت) وإذا بي أطلع عليه في سلسلة الأحاديث الصحيحة أنه صحيح، وقد رواه النسائي بسندٍ صحيح، قراءة آية الكرسي لا تكلفك وقتاً في قراءتها عقب كل صلاة مهما كنت مشغولاً.(76/25)
المحافظة على السنن الراتبة
لما في سنن الترمذي وصحيح الجامع عن أم حبيبة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى في يومٍ اثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة) وهي: أربع قبل الظهر -يسمونها الرواتب- واثنتين بعدها، واثنتين بعد المغرب، واثنتين بعد العشاء، واثنتين قبل الفجر، هذه اثنتي عشرة ركعة.
يقول ابن القيم رحمه الله: من طرق باب ربه كل يومٍ ثلاثين مرة إذا أوتر بواحدة؛ لأن اثنتي عشرة ركعة هذه رواتب وسبع عشرة ركعة فرائض، أربع في الظهر وأربع في العصر، وثلاث في المغرب، وأربع في العشاء هذه خمس عشرة، واثنتين في الفجر صارت سبع عشرة ركعة، وتكون مع الرواتب تسعاً وعشرين ركعة، فإذا أوترت بواحدة تطرق باب ربك كل يوم ثلاثين مرة تقول له: (اهدنا الصراط المستقيم) يقول ابن القيم: فإنه جدير أن يفتح له -إن شاء الله-.
فهذه اثنتي عشرة ركعة من الرواتب، إذا حافظت عليها بنى الله لك بيتاً في الجنة، فاحفظها -يا أخي- ولا تضيعها؛ لأني أسمع وأعلم أن بعض الشباب يقول: إنها نافلة -أي: سنة- يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، سبحان الله! هي سنة سنها الحبيب، وبها تجبر الصلوات، ويتمم لها ما نقص من عملك الصالح، هل تضمن أنك تصلي العشاء أربع ركعات وما توسوس فيها لحظة؟ لا.
فإذا أتيت يوم القيامة وحوسبت على صلاتك ونقصت الفريضة يقول الله: (انظروا هل لعبدي من نوافل؟) فإذا وجدوا نوافل يجبر نقصك، وإذا لم يجدوا شيئاً خسرت والعياذ بالله.(76/26)
أعمال خاصة بالمرأة
هذا السبب خاص بأخواتنا المؤمنات من النساء، حيث يمكن للمرأة أن تشارك في الأسباب الإحدى عشرة، يمكن أن تبني مسجداً، وأن تكثر من السجود والصلاة، وأن تحج حجاً مبروراً، وأن تقرأ آية الكرسي عقب كل صلاة، وأن تصلي اثنتي عشرة ركعة، وأيضاً الإيمان والعمل الصالح، وتقوى الله، كل هذه أعمال مشتركة، لكن هناك أعمال مميزة لها تدخلها الجنة ليست للرجال.
جاء في صحيح الجامع للسيوطي وصححه الألباني، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت) ثمانية أبواب وهي تدخل من أي بابٍ شاءت، ما هو السبب؟ أربعة أشياء: إذا صلت خمسها، وصامت شهر رمضان، وحصنت فرجها عفيفة لا تعمل شيئاً من الحرام، بعد ذلك تطيع بعلها، ليس عليها جهاد، ولا صلاة في المسجد في جماعة، تكاليف الشرع على الرجل أضعاف أضعاف ما على المرأة، المرأة الله عز وجل رحمها ورحم ضعفها، وكلفها بما تقدر عليه، ولكن مع هذا يقول عليه الصلاة والسلام: (اطلعت على النار فوجدت أكثر أهلها النساء، قالت امرأة: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكفرن العشير، وتكثرن اللعن) العشير: هو الزوج، بدل أن تطيعه تكفره بمعنى: تجحده، وتنسى فضله.
وتكثرن اللعن أي أن غالب النساء إلا من رحم الله كثيرات اللعن، تلعن ولدها وتلعن أبناءها وتلعن زوجها، بل بعضهن تلعن نفسها!! والعياذ بالله.
هذه هي بعض الأسباب الموصلة إلى رضوان الله عز وجل، والفوز بالجنة والنجاة من النار، وهي أسباب سهلة ويسيرة، كما قال عليه الصلاة والسلام لـ معاذ بن جبل: (وإنه ليسير على من يسره الله عليه) ولا تبدو هناك -أيها الإخوة- أية صعوبة، وإنما قد تكون هناك صعوبة في البداية، وإذا سار الإنسان في طريق الإيمان والالتزام فإنه سيجد الطريق سهلاً ميسراً معاناً من قبل الله عز وجل.(76/27)
الأسئلة(76/28)
حكم المحافظة على صلاتي الفجر والعصر دون بقية الفروض
السؤال
يقول: هل يصح للإنسان أن يحافظ على صلاتي الفجر والعصر من غير الفروض الأخرى لحديث: (من صلى البردين دخل الجنة)؟
الجواب
لا.
لا يجوز ذلك؛ لأن الدين يؤخذ جملة واحدة، ولا يجوز التجزئة فيه، فأنت تأخذ بحديث الصحيحين: (من صلى البردين دخل الجنة) وتصلي الفجر والعصر، ولكن عليك أن تأخذ أيضاً بالآيات والأحاديث التي أمرتك بأداء الصلوات الخمس، فإذا أخذت بحديث وتركت حديثاً، أو أخذت آية وتركت آية جزأت، ولا بد من أخذ دين الله كاملاً، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208] فلا بد من أخذ الدين جملة واحدة بدون تجزئة.(76/29)
حال نساء الدنيا مع أزواجهن في الآخرة
السؤال
تقول: ما مصير نساء الدنيا في الآخرة، هل يجمعهن الله بأزواجهن، أخبرنا جزاك الله خيراً؟
الجواب
المرأة التي تعمل الصالحات وتؤمن بالله، وتسلك الطريق الموصل إلى الجنة، وعدها الله عز وجل أن تكون من أهل الجنة بإذن الله، وأعد الله لها في الجنة من النعيم ما يناسب طبيعتها، وبالنسبة إذا كانت متزوجة وزوجها من أهل الجنة فإنه يكون زوجها؛ لأن الله يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] ويقول الله عز وجل في الملائكة: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر:7 - 8] هذا إذا كانت المرأة مؤمنة وزوجها مؤمن متدين.
أما إذا كانت متدينة وزوجها فاجر وهو في النار أعطاها الله زوجاً من أهل الجنة، الذين زوجاتهم في النار؛ لأنك قد تلقى شخصاً طيباً وامرأته خبيثة في النار، ويأتي الجنة وليس معه زوجة، فالله يعطيه من الزوجات الصالحات الذين دخلت الجنة وأزواجهن في النار، قال العلماء: والذي تزوجت برجلٍ ثم مات أو طلقها طلاقاً رجعياً وتزوجت بآخر كان لها زوجين في الدنيا؟ قالوا: تخير فتختار أحسنهم خلقاً، فيكون زوجاً لها في الجنة.
بعض النساء يقلن: لماذا ذكر الله في القرآن الكريم الكثير عن الحور العين للرجال وما ذكر للنساء شيئاً؟ قال العلماء: أولاً: في ذكر الحور العين للرجال ترغيب في طلب الجنة عن طريق بذل الجهد لها، وهو الجهاد في سبيل الله.
ثانياً: قالوا: إن المرأة موطن وطر ولذة ومتعة فوجب إغراء الرجال بهن، دون الحاجة إلى العكس، وإلا للمرأة في الجنة -بإذن الله- من النعيم ما يطيب خاطرها، ولهذا يقول الله عز وجل: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:31].(76/30)
حكم من صلى بالناس وهو جنب سهواً
السؤال
ما حكم صلاة من صلى بالناس وهو جنب سهواً ثم تذكر بعد الصلاة؟
الجواب
عليه أن يغتسل ويعيد الصلاة، أما الذين صلى بهم فصلاتهم صحيحة، ولكن إذا تذكر أثناء الصلاة لزمه الخروج من الصلاة وعدم الاستمرار فيها، بعض الناس يقول: استحيت، لا.
هذه عبادة لا تدخلها المجاملة.(76/31)
توحيد الله من أعظم الأسباب لدخول الجنة
السؤال
توحيد الله من أعظم الأسباب لدخول الجنة، وهو مفتاح الجنة، فبعضهم يقولون: نحن موحدون ويكفي أننا نقول: لا إله إلا الله وندخل الجنة بسلام، فهل هذا صحيح؟
الجواب
صدق أخي الكريم بأن توحيد الله هو السبب الأول، ولهذا ذكرته أنا أول شيء، الإيمان بالله، والإيمان يعني: التوحيد، والموانع التي تمنع الإنسان من دخول الجنة الشرك، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48] وفي آية أخرى: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:116].
وقال تعالى: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72].
وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].
فلا بد من التوحيد، وهذا الكلام مفرغ منه، لا يمكن لأحدٍ أبداً أن يدخل الجنة وعنده شرك، يمكن يدخل الجنة إذا كان عنده معاصٍ، لكن بعد التمحيص في النار، إلا أن يشمله الله برحمته، أما المشرك كما يقول ابن القيم رحمه الله: مثل المشرك مثل الخنزير، لو أدخلت الخنزير من طرف البحر وغسلته بماء البحر وأخرجته من الطرف الثاني، ولهذا ليس للمشرك دخول في الجنة، لكن المؤمن الموحد العاصي، فهذا يعذب بقدر الذنوب ثم يخرج ويدخل الجنة، فحاول باستمرار أنك ترتفع إلى أن تكون خالٍ من الذنوب وإذا وقعت في الذنوب فاستغفر الله تبارك وتعالى؛ لأن أجسامنا لا تقوى على النار.(76/32)
الطريق إلى طلب العلم
السؤال
يقول: إنني أبحث عن طريق العلم فدلني عليه جزاك الله خيراً؛ لأنه لا يوجد لدي كتب علمية شرعية؟
الجواب
أول طريق للعلم حفظ كتاب الله، ابدأ يا أخي بحفظ القرآن، هذا أول مسلك، وهذا يستغرق عليك وقتاً، ابدأ بالمفصل أو بالبقرة وآل عمران، وهكذا تنقل حتى تكمل حفظ القرآن.
احفظ من الحديث النبوي الأربعين النووية هذا أول شيء، ثم زد عليها حفظ بلوغ المرام، أو احفظ رياض الصالحين، أو احفظ اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، حتى تكون ثقافتك الحديثية صحيحة (100%).
اقرأ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هذا طلب علم، وإذا ما كان عندك كتب لطلب العلم فعليك أن تشتري، يجب أن يكون جزءاً من دخلك لشراء كتاب، أو شراء شريط.
من أساليب طلب العلم: سماع الشريط الإسلامي.
ومن أساليب طلب العلم: حضور المحاضرات والدروس الشرعية في المساجد.
هذه كلها من طرق وسائل طلب العلم الشرعي.(76/33)
نصائح رمضانية
أيها الإخوة! نحن الآن على أبواب شهر رمضان الكريم نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يبارك لنا في رجب وشعبان وأن يبلغنا رمضان، فلا ندري -أيها الإخوة- من يبلغ منا رمضان ومن يموت قبل رمضان.
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجبٍ حتى عصى ربه في شهر شعبان
ها قد أظلك شهر الصوم بعدهما فلا تصيره أيضاً شهر عصيان
اتل الكتاب وسبح فيه مجتهداً فإنه شهر تسبيح وقرآن
كم كنت تعرف ممن صام في سلفٍ من بين أهل وجيران وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم حياً فما أقرب القاصي من الداني
ومعجبٌ بثياب العيد يقطعها فأصبحت في غدٍ أثواب أكفان
حتى متى يعمر الإنسان مسكنه مصير مسكنه قبر لإنسان
هذا الشهر الكريم: شهر الخير، والرحمة، والمغفرة، شهر القرآن، والتراويح، والعبادة، شهر يزاد فيه رزق المؤمن، شهرٌ كان صلى الله عليه وسلم فيه أجود من الريح، وكان أجود ما يكون في رمضان، هذا الشهر لنا إخوة في الإسلام في بلادنا هنا وفي خارج هذه البلاد مساكين وفقراء، طول زمانهم رمضان لا يوجد شيء لديهم، يلتحفون السماء، ويفترشون الأرض، يقتاتون قوتاً لا يسمى قوت بهائم، ولا علف المواشي الذي تأكله المواشي الآن، علف المواشي لدينا هو طعام رئيسي عند بعض الشعوب، وقد كان عندنا في يوم من الأيام طعاماً رئيسياً والشيوخ يعرفون أن الواحد منهم ما كان يشبع من خبز الشعير، والآن أصبح علف المواشي، ونحن في نعمة وفي فضل وفي خير، فقد منَّ الله علينا -يا إخواني- بنعم كثيرة: أمن، وعافية، ورخاء، وخير، ورزق رغد يأتينا من كل مكان، ورواتب، وهناك إمكان عند كل شخص منا أن يطعم أو يفطر أسرة من الأسر الجائعة في بلاد الله المنثورة في الأرض، وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (من فطَّر صائماً كان له مثل أجره دون أن ينقص من أجره شيء) إذا فطرت صائماً لك مثل صيامه كله دون أن ينقص من أجره شيء، وكونك تدخل السرور على زوجتك وعلى أولادك مع بداية شهر رمضان فتستلم راتبك وتشتري مدخرات سنتك، فتوسع على أهلك حسن، ولكن أفضل منه أن توسع على أسرة فقيرة، على أسرة لا يدخل السرور عليها طوال العام إلا في هذا اليوم، وهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية قامت بمشروع اسمه مشروع إفطار الصائم، وفرع الهيئة في مكة تصدق على بلدين: البلد الأول بنجلادش ذات الكثافة السكانية الهائلة فعددهم مائة وخمسون مليوناً، خليج البلقان المغطى بالماء طول السنة، والكوارث فيه من تهدم المساكن وغيرها، ويعيشون في فقر وفي حاجة لا يعلمها إلا الله.
والبلد الثاني أوروبا الشرقية يعني: الاتحاد السوفيتي الذي انحل، وأصبحت ديار المسلمين هناك، يعيشون أيضاً في فقر من الشيوعية الحاقدة، وفي أيدينا -أيها الإخوان- فضول أموال، وبإمكاننا أن نساهم في مثل هذه المشاريع، حتى ندخل السرور على قلوبهم، وحتى نقدم بين يدي رمضان حسنة نرجو بها ما عند الله عز وجل، والمشروع المجهز يكفي لإفطار أسرة كاملة خلال ثلاثين يوماً بثلاثمائة ريال، بمقابل عشرة ريالات للأسرة يومياً مكونة من وجبتين: وجبة سحور، ووجبة إفطار وعشاء، وهذه الوجبة مكونة من نصف دجاجة، وكيلو من الأرز وكيلو دقيق، ومتطلباتها حسبت قيمتها أنها تصل إلى عشرة ريالات ولا تزيد، هذه العشرة الريالات ترفع رصيدك وتبقى لك عند الله، وأنت تصرف في رمضان أموالاً طائلة قد تثاب عليها وقد لا تثاب، خاصة إذا كان هناك مبالغة وإسراف وبذخ؛ لأن الناس الآن يستقبلون رمضان على أنه شهر الأكل، وشهر الموائد ويشترون الأطعمة بالكراتين، ويكدسون الأطعمة في السفر، ويأكلون منها القليل ويرمون بالكثير منه، بينما إخوانهم يموتون من الجوع، نقول: ثلاثمائة ريال تفطر بها أسرة، لا تخسر شيئاً بل ترفع رصيدك عند الله عز وجل، ولا تظن أن هذه الثلاثمائة سوف تكون خسارة عليك، يقول الله عز وجل: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39].
وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:245].
ولحديث: (المرء تحت ظل نفقته يوم القيامة).
وقال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96].
ذبح صلى الله عليه وسلم ذبيحة ووضعها في بيته عند عائشة فأخرجتها كلها إلا كتف الشاة فلما رجع قال: (ما صنعت الشاة؟ قالت: ذهبت كلها إلا كتفها، قال: لا.
قولي: بقيت كلها إلا كتفها) أي: الكتف الذي سنأكله هو الذي ذهب، فالذي ذهب عند الله هو الذي يبقى.
وهناك قصة حدثت قبل سنين يحدثني بها رجل ثقة كان مسافراً في تهامة، وفي ليلة من ليالي سفره وكانت الليلة باردة مطيرة مظلمة، فهاجت الريح ونزلت الأمطار وضل الطريق، فدخل في غار من أجل أن ينام فيه ويرتاح، وبينما هو نائم في الغار إذ رأى قبراً، وإذا به يرى في القبر رجلاً وامرأة ومعهم بقرة يحلبونها ويشربون لبنها، غير أنه لاحظ أن هذه البقرة ليس عليها جلد، جلدها مسلوخ ودمها يخرج، وصاحب البقرة يحلب ويتأذى أنه ليس عليها جلد، لكن ماذا يصنع؟ يقول: فسألته: من أنت؟ ومن هذه؟ ولماذا هذه البقرة؟ ولماذا لا يوجد عليها جلد؟ قال: أنا رجل وهذه زوجتي، كنا في الحياة الدنيا في قريتنا، وحصلت مجاعة، وجاع الناس حتى كادوا يموتون من الجوع، وما كنا نملك شيئاً إلا هذه البقرة، فتشاروت أنا وزوجتي على أن نذبحها ونقسمها على الفقراء لوجه الله عز وجل، فوافقتني، يقول: فذبحناها وقسمناها على جميع الفقراء في تلك القرية، ولم يبق بيت إلا دخله شيء من لحمها، غير أننا أخذنا الجلد وبعناه، وما تصدقنا به، يقول: فلما مت أعطاني الله وأعطى زوجتي بدل بقرتنا بقرة في الجنة نحلبها، لكن لا يوجد عليها جلد، يقول: فأنا أتأسف على أنني ما تصدقت بالجلد حتى ألقاه في الجنة، فيا أخي إن الذي تتصدق به لا تظن أنه خسارة والله إنه هو الربح وهو الباقي.
على الأبواب صناديق لـ هيئة الإغاثة، وهذا خطاب من الدكتور أحمد بن نافع المورعي المشرف على هيئة الإغاثة بـ مكة المكرمة وقد أخبرني شخصياً عن هذا المشروع العظيم، وقد انتدب لهذا المشروع مجموعة من العلماء وطلبة العلم والصالحين، وسوف يسافرون بعد أيام قبل دخول رمضان حتى يرتبون عملية تقديم هذه الوجبة لتلك الأسر، ويدخل السرور، ويطلب من تلك الأسر الدعاء لأصحابها، وتصور -يا أخي- إذا أفطر هذا الرجل الفقير الذي لا يعرف العيش، عندما يفطر وزوجته وأولاده وقالوا: اللهم اغفر لصاحب هذا الفطور، أنت في مكة هنا وتأتيك الدعوات كل ليلة من أجل عشرة ريالات.
نطلب من إخواننا المساهمة في إفطار الصائم بثلاثمائة ريال، إن كانت موجودة عندك الآن فضعها، وإن كانت ليست موجودة فسارع هذه الليلة بوضعها في حساب الجماعة أو الهيئة أو في مقر الهيئة الموجود بجوار محطة التسهيلات، واحذر من أن تسوف إلى آخر الشهر، فإنك إذا سوفت غلبك الشيطان وجعلك تبخل في النفقة.
أسأل الله أن يعيننا وإياكم على الإنفاق في سبيله، وأن يتقبل منا ومنكم، وأن يجعلنا وإياكم ممن يدرك هذا الشهر وممن يقومه ويصومه، ويتقبل الله منا إنه على كل شيء قدير.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(76/34)
من أمثال القرآن
إن ضرب الأمثال أسلوب تربوي بليغ التأثير عظيم النفع، ولأهمية هذه الأمثال في إيصال المراد فقد عُني بها القرآن وعنيت بها السنة.
وقد حث الله سبحانه وتعالى على النظر والتأمل في الأمثال التي ضربها، والتي لا يعقلها إلا العالمون.
وقد تناول هذا الدرس أمثالاً تدور حول ثلاثة أصناف، وهم: أولاً: المعرض عن دين الله.
ثانياً: الذي يعلم ولكنه لا يعمل.
ثالثاً: من يعلم ويعمل ثم ينتكس ولا يثبت.(77/1)
أهمية الأمثال في الكتاب والسنة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم ارزقنا حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك.
اللهم ما أعطيتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا على ما تحب، وما زويت عنا مما نحب فاجعله فراغاً وقوة لنا فيما تحب.
لقد طَرَأَ في بالي حديث حب الله عز وجل للعبد، وإلقاء الحب والقبول له في أهل السماء، ثم في أهل الأرض، وقد طَرَأَ في بالي معانٍ كثيرة كنت أتمنى أن تكون موضوع هذا الدرس، وهو: كيف ينال العبد محبة الله؟! لأنه ليس مهماً أن تُحِبَّ أنت، ولكن المهم أن تُحَبَّ، فكم من مدعٍ للمحبة لم ينلها، ولم يصل إليها! ولكنني ملزمٌ بالحديث فيما أعلن عنه من عنوان وهو: (من أمثال القرآن) ولعلها تحين إن شاء الله فرصة أخرى فيما بعد للحديث عن أسباب نيل محبة الله عز وجل.
أيها الأحبة: الأمثلة وضَرْبُها أسلوب تربويٌ بليغ التأثير، جاء في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك ضمن الأساليب المؤثِّرة التي تقرب المعاني، وتوضح الأمور، وقد عُنِي بها القرآن، وعُنِيت بها السنة المطهرة، وجاءت الأمثال كثيرة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى عدَّ بعض العلماء الأمثال التي وردت في القرآن فقط بثلاثة وأربعين مثلاً، كلها لتقريب المعنى؛ لأن المثال وسيلة إيضاح، والمعلم الناجح هو الذي يستطيع أن يستخدم وسائل الإيضاح لإيصال المعاني والمعلومات إلى أذهان الطلاب والتلاميذ، والأمثلة أفضل وسيلة توضح المراد والمعنى؛ لأنها نموذج تقرب المعنى إلى الذي يسمع، فيفهم بضرب المثال أكثر مما يفهم بسرد الكلام، ولو اشتمل السرد على أبلغ المعاني، وعلى أعظم الأساليب، إلا أن المثال يفهم سريعاً، ولذا كثرت الأمثال في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(77/2)
بعض أمثال العرب ومقارنتها مع أمثال القرآن
أيها الإخوة: كم من الأمثال تدور على ألسنة الناس! ولكن في القرآن وفي السنة ما هو أبلغ وأعمق منها:(77/3)
قول العرب: (القتل أنفى للقتل)
من ذلك، قول العرب: (القتل أنفى للقتل): هذا مثال عربي، معناه: أن إقامة الحدود وقتل القاتل تقضي على القتل.
لكن القرآن جاء بعبارة أعظم وأبلغ من هذا المثل، فقال عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179] في القصاص! فهل في الموت حياة؟! كيف يجتمع النقيضان؟ الموت موت، والحياة حياة، فكيف يكون في القصاص حياة؟! نعم.
في القصاص حياة، لكنها حياة لمن؟ حياة ليس لمن يُقْتَص منه، بل حياة للمجتمع؛ لأن القاتل حين يعلم أنه إذا قَتَلَ قُتِلَ توقَّفَ وارتدع عن القتل، فيحصُل بتوقفه وامتناعه عن القتل حياة للأنفس الأخرى؛ لكن القاتل الذي يعلم أنه لا يُقْتَل يتمادى في الطغيان، وينتهك، ويسفك الدماء؛ لأنه يعرف أنه لن يحصل له شيء، ولذا يقول الله في القصاص من الجناة حياة لبقية الناس، وصدق الله عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179].(77/4)
قول العرب: (من جهل شيئاً عاداه)
قول العرب في بعض الأمثال: (مَن جَهِل شيئاً عاداه):- هذا مَثَلٌ واقعي، فالذي لا يعرف السلعة لا يقدرها.
وكما يقول العوام: (إلِّليْ ما يِعْرِفِ الصَّقْر يَشَوِيْه) يظنه حمامة، وهو صقر لا يؤكل؛ لأنه من ذوات المخلب؛ لكنه لا يعلم هل هذا صقر أم حمامة، فيشويه.
وكذلك من يجهل الشيء لا يعرف قيمته، بل ربما يتصدى لمعاداته.
ولكن في القرآن الكريم ما هو أبلغ من هذا المثل، وهو قول الله عز وجل: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس:39] لَمَّا جهلوا دين الله، وجهلوا شريعة الله، وجهلوا حقيقة هذا الدين العظيم، كذَّبوه لعدم إحاطتهم بالعلم به، وإلا لو علموه لما عادَوه، ولهذا إنما تقع الخشية لله عز وجل من العلماء {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] (ومن كان بالله أعْرَف كان منه أخْوَف) ولو أجريت استقراءً لمن تقع منه المعاصي والذنوب والمخالفات تجد أنها تقع من الذين لا يعرفون الله، أما كل من استقرت معرفة الله في قلوبهم فتجد في قلوبهم مثل النار من خشية الله عز وجل.
فـ (مَن جَهِل شيئاً عاداه) ولكن القرآن يقول: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس:39].(77/5)
قول العرب: (ما تزرع تحصد)
من ذلك أيضاً قول العرب: (ما تزرع تحصد): فالذي تزرعه تحصده، والشخص الذي يزرع بُرَّاً ماذا يخرج له؟ بُرٌّ، أليس كذلك؟ والذي يضع بَعَراً، أيخرج له بُرٌّ؟! لا.
سينتظر وينتظر، ثم يكشف الطين ويرى البعر؛ إن كان جيداً لقيه، وربما قد تلف، وحتى إنه لن يلقاه، فما تزرع تحصد.
لكن المثال في القرآن الكريم جاء ببلاغة أعظم، يقول الله عز وجل: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123].
ويقول عز وجل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:89 - 90] شخص يزرع طوال حياته السوء، ويزرع الشر والفساد، ويعمل الإجرام، ويهتك الأعراض، ويسفك الدماء، ويعتدي على الحرمات، ويعاند الجبار، ويترك أوامر الله، ويقع فيما حرم الله، هذا ماذا يلقى؟ هل يتصور أنه يلقى حسنات على هذا الفعل؟! لا؛ لأنه يعمل سوءاً، والذي يعمل السوء يجد السوء، والذي يعمل الحسن يجد الحسن، يقول الله عز جل: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31].
ويقول عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} [يونس:26 - 27] يعمل طوال ليله ونهاره ويكسب، وسَمَّى الله جمع السيئات كسباً، وإلا فهو ليس بكسب؛ لكنه على سبيل التهكم، والشخص الذي يجمع السيئات، كاسب أم خاسر؟! خاسر؛ لكن الله يقول: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} [يونس:27] ماذا يحصل؟! {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [يونس:27] أم أنه يتوقع صاحب السيئات أنه يجد على السيئة حسنة! هل هذا معقول؟! لا.
أبداً.
فيقول الله عز وجل: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123].(77/6)
قول العرب: (لا تلد الحية إلا حية)
من الأمثال أيضاً في لغة العرب قولهم: (لا تلد الحية إلا الحية): الحية لا يأتي ولدها أو ابنتها إلا مثلها حية، لا تتوقع أن يأتيك شيء لطيف من حية.
ولكن القرآن جاء بأبلغ من هذا في قوله تبارك وتعالى على لسان نوح عليه السلام: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:27] متى قال نوح هذا؟ ما قاله ابتداءً، فنوحٌ مِن أولي العزم، عليه وعلى نبينا وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة والسلام، وهو من الخمسة أصحاب الفضيلة والمقام الرفيع، دعا إلى الله مدة قدرها (ألف سنة إلا خمسين عاماً) مارَسَ شتى الأساليب، وأخذ بجميع الأنواع: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} [نوح:5] كان يدعو ليلاً ونهاراً، نحن كم ندعو؟ إذا ألقى أحدنا درساً في الأسبوع قال: والله إني تعبتُ، وإذا جلس مع شخص يتكلم بكلمتين، قال: الحمد لله نحن نعمل لهذا الدين ليلاً ونهاراً: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} [نوح:5 - 8] دعوة علنية {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح:9] دعوة سرية، وبعد هذا العمر الطويل والجهد العظيم يوحي الله إليه ويقول له: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36] كم عددهم؟ في أصح الروايات أنهم (اثنا عشر) رجلاً، ثمرة تسعمائة وخمسين سنة، يقول الله: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40] آمن معه اثنا عشر رجلاً، مع هذا العمر الطويل والجهد المكثف، والأساليب المتنوعة، لم يستجيبوا ولم يدعُ نوح عليهم؛ لكن لما أوحى الله إليه أنهم لن يؤمنوا، دعا الله عليهم؛ لأنه لا فائدة، ومادام أنه لن يؤمن أحد منهم، فلماذا يبقون؟! فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26] لماذا؟! قال: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} [نوح:27] أحد احتمالين: الأول: إما أن يضلوا هؤلاء (الاثني عشر) الذين هم عندي الآن؛ لأن تأثيرهم سيكون بليغاً، والكثرة تغلب.
الثاني: أنهم إذا لم يضلوا الذين آمنوا؛ فإن أولادهم الذين يأتون منهم فجرة وكفرة: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:27] و (لا تلد الحية إلا الحية) كما تقول العرب، إذاً لا معنى لبقائهم، دمِّرهم يا رب عن بكرة أبيهم فاستجاب الله دعوته.
لماذا استجاب الله دعوة نوح؟ لأنه استنفد جميع جهده، فالإنسان لا يعتمد على دعائه لله وينام! لا.
بل إن نوحاً عَمِلَ وعَمِلَ وعَمِلَ، وعدَّد، ونوَّع، وبذل كل ما عنده، ولما عرف بواسطة الوحي أنه لن يؤمن أحد، إذاً فما معنى أن يبقوا أحياء وهم لم يؤمنوا، فلابد من التدمير، فدعا الله، وقال: ربِّ إنِّي {مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10].
فاستجاب الله له الدعوة، وقال تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر:11] * {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً} [القمر:12] ليس فقط مكاناً معيناً، بل الأرض كلها تحولت إلى ينابيع وإلى ماء، حتى موقد النار (التنور) الذي يتوقع أن الماء في كل مكان إلا هو ليس فيه ماء بل فيه نار؛ لكن فار التنور، والأرض كلها صارت ماءً {فَالْتَقَى الْمَاءُ} [القمر:12] ماء السماء على ماء الأرض {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:12] أي: أُحْكِم من قِبَل الرب تبارك وتعالى، وحَمَله الله عز وجل على السفينة ذات الألواح والدُّسُر أي: المسامير {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] تجري برعاية الله.
وقد قال الله تبارك وتعالى: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون:27] أمره الله أن يحمل فيها أهله ومَن آمن معه، فظن نوح عليه السلام أن الأهلية هنا أهلية النسب، فقال لَمَّا رفض ولدُه أن يركب: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45] أنت قلت: يركب أهلي، وهذا ابني أبى أن يركب فلا تغرقه، قال الله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] انظروا القوة في العبارة، لكن الأنبياء يعرفون الله، فنزَّه الله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود:47] يُنَزِّه الله {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي} [هود:47] لا إله إلا الله! يستغفر ويطلب الرحمة من سؤاله لله أن ينجي ابنه، رغم أنه لم يسأل بدافع الأبوة، ولا الحنان، وإنما بدافع الوعد من الملك الديان، أنه من أهله، فظن أنه يركب باعتباره من الأهل.
فصحح الله نظرة نوح عليه السلام.
وقال: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46] الأهلية هنا هي: أهلية العقيدة، وأهلية الملة والدين، وما دام كافراً فليس من أهلك.
ففي هذا إشارة إلى أن العلاقة التي تربط الناس بعضهم ببعض هي علاقة العقيدة بالدرجة الأولى، ثم تأتي بعد ذلك الروابط الأخرى؛ لكن إذا انتفت علاقة العقيدة فلا علاقة قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة:22] لا إله إلا الله!(77/7)
مثل المعرض عن دين الله
أمثال القرآن -أيها الإخوة كما ذكرتُ لكم- كثيرة، ولا يعقلها -كما قال الله في كتابه- ولا يعلمها ولا يفهمها {إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] وفي هذا دعوةٌ لطلاب العلم، وحثٌّ على النظر والتأمل ومعرفة تلك الأمثال، ومعرفة مراد الله منها، حتى يُحْسَب من يتأملها ويعرفها عند الله من العالمين، وفيه إشارة إلى أن مَن لا يعقل أمثال القرآن أنه محسوبٌ في زمرة الجاهلين، وإن كان يحمل شهادة عليا، أو كان في نظر الناس من المثقفين أو من الواعين؛ لكنه لم يعِ أمثال القرآن، فالله ينفي عنه العلم، ويثبت له الجهل، ويعده من زمرة الجاهلين.
وقد اخترتُ -أيها الإخوة- في هذا الدرس بعض الأمثال من كتاب الله عز وجل التي تقرب المعاني، وأكتفي بثلاثة أمثال.
المثال الأول: مثل مَن يُعرض عن دين الله: يُدعى إلى الله، وتوضح له الطريق التي يسلك بها طريق النجاة، وتوضع له المعالم والأنوار والإضاءات التي تدله على الفوز والنجاح في الدنيا والآخرة، فيَصُمُّ أذنيه، ويعمي عينيه، ويعرض عن طريق الهداية، بل يرفض ويهرب، فهذا ضرب الله عز وجل له مثلاً في كتابه الكريم من أسوأ الأمثلة، وشبهه الله عز وجل بالحُمُر الوحشية، فالحُمُر منها حُمُر أهلية، ومنها حُمُر وحشية، ويجمعها لفظ (الحُمُر) أي: حمير، والأهلية: هي التي تُسْتَخدم، وهي التي تُرْكَب ومعروفة عند الناس، والحُمُر الوحشية من فصيلة الحمير؛ ولكنها غير مستأنِسَة، ولا يألفها الناس ولا تألفهم، وهي متوحشة، تعيش في البراري والقفار، هذه الحمير مِن طبيعتها أنها تعيش في حالة عظيمة من الرهبة والخوف إذا رأت الأسد أو السبع، جميع الحيوانات تخاف من الأسود ومن السباع؛ لكن بعض الحيوانات تملك رباطة جأش، وتملك قوة صراع، وإمكانية دفاع، إلا حمار الوحش، من حين يرى الأسد أو السبع على مسافة بعيدة يهرب هروباً يكاد يموت، ويتكسر ظهره، بل وربما لم يره بعد؛ لكن فقط من مجرد الشم.
ويذكر هذا العلماء في كتبهم أنه يفر فراراً عنيفاً، أحياناً يتكسر من كثرة جريه، يحسب أن الأسد قد صار على ظهره، وبينهما مسافة طويلة.
فقد شَبَّه الله عز وجل مَن يكره العلماء، ويكره الدعاة، وينفر من مجالس العلم، ولا يحب سماع كلام الله، ولا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم كالحُمُر، يقول الله عز وجل: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر:49]؟! سؤال استنكاري! لأي شيء يعرضون عن ذكر الله؟! لأي شيء يتجاهلون داعي الله؟! لماذا؟! أليس يعنيهم؟! وما الذي يعنيهم في الأرض غير هذا؟! إن أول ما ينبغي التركيز عليه في اهتمامات العبد: أن يسأل لماذا وجد؟! ولن يخبره لماذا وجد إلا الذي خلقه، ولم يترك الله الإنسان يسأل، بل أرسل الرسل ليبينوا للناس لماذا خُلِقوا؛ لكن الناس الذين أعرضوا لا يريدون، ولهذا يقول الله: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:49 - 51] القسورة في لغة العرب: الأسد، والسبع.
فهؤلاء في إعراضهم إذا رأوا الداعية، أو العالم، أو مجلس العلم، أو دعاهم أحد إلى شيء يفرون، ومن قبل كانوا يفرون بأقدامهم كما تفر الحمير بأقدامها، والآن يفرون بسياراتهم! لماذا؟! قال: جاء (المطوِّع).
(المطوِّع) هذا يطوِّعك، و (المطوِّع): اسم فاعل، أي: يطوِّعك لله، يريدك بدل أن تكون مطوِّعاً للشيطان تكون مطوِّعاً لله؛ لأنك إما أن تكون طائعاً لله، أو طائعاً للشيطان، فهذا يطوِّعك ويجعلك طائعاً، وصفة الطائع صفة كريمة قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] فلماذا تفر منه؟! إن فرار الإنسان من أهل العلم، وإعراض الإنسان عن الدعاة، ورغبته في غير مجالس الذكر، دليل على أن عقليته عقلية الحمير، وأن مرتبته مرتبة البهائم، بل هو أعظم وأذل وأخس، يقول الله تبارك وتعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] لماذا أضل سبيلاً؟ لأن الأنعام سارت فيما سخرها الله عز وجل وخلقها من أجله، أما هؤلاء فهم أضل سبيلاً من الأنعام؛ لأنهم لم يسيروا في الطريق الذي رسمه الله لهم، ولا حققوا الغرض والهدف الذي من أجله خلقهم الله عز وجل.(77/8)
الإعراض أحد أنواع الكفر
أيها الإخوة: الإعراض عن الدين قضية صعبة في حياة الإنسان، بل عده العلماء والمحققون من أهل السنة والجماعة ضمن أنواع الكفر الخمسة، الكفر هو: الجحود، وقد قسمه العلماء إلى خمسة أقسام: القسم الأول: كفر التكذيب.
القسم الثاني: كفر الشك.
القسم الثالث: كفر الجحود.
القسم الرابع: كفر الإباء والاستكبار.
القسم الخامس: كفر الإعراض.
وقالوا عن كفر الإعراض هو: أن يعرض عن الدين، فلا يتعلمه، ولا يهمه أمره، معرض، قد يصل به إعراضه ورفضه إلى أن يكفر بالله وهو لا يشعر، والله عز وجل سماه: ظالماً، بل لا أظلم منه! بصيغة أفعل التفضيل: {وَمَنْ أَظْلَمُ} [الكهف:57] أي: لا أظْلَمُ {مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الكهف:57] أَكِنَّة أي: أغطية، مغطاة {أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الكهف:57] أي: لئلا يفقهوا دين الله {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} [الكهف:57] أي: مخرومة لا تسمع {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:57].
وقال عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة:22].
لا أظْلَم ممن يُذَكَّر بالله ويعرض، هذا نوع من الاستخفاف، وعدم الاهتمام، كيف تعرض عن الله؟! لو قام المذكر وقال: أيها الناس! أنا سألقي عليكم موعظة؛ والذي يجلس إلى آخرها سوف أعطيه (مائة ريال) هل سيقوم أحد؟! لا.
بل الكل سيزحف ويقرب من أجل أن يصل إلى الصف الأول ليستلم (المائة) ولن يقوم أحد، حتى ولو كان عنده عمل فإنه يقول: أقضيه فيما بعد، والذي ولده بجانبه يريد أن يقوم فإنه يجلسه، وإذا قال له: أريد أن أقوم، فإنه يقول له: لا.
اجلس إنها (مائة ريال).
لكنك إذا أقبلت على الله وجلست في بيوت الله أتأتيك (مائة ريال)؟! لا.
ما يأتيك شيء من هذا، بل تأتيك رحمة، ويأتيك غفران، وذكر عند الرحمن، هل هناك أعظم من أن يذكرك الله فيمن عنده؟! يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) هل يوجد أعظم من هذه الأربع في الدنيا؛ أن تغشاك الرحمة، وأن تنزل على قلبك السكينة، وأن يباهي بك الله عند الملائكة، وأن تحفك الملائكة؟! لا يوجد أعظم من هذا؛ لكن من الذي يشعر بهذا؟! الذي قلبه حي.
أما المعرض فلا يحس، لماذا يعرض أصلاً؟! لأنه لا يهمه، (مَن جَهِل شيئاً عاداه) لا يعرف {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس:39] فلما كذبوا بهذا أعرضوا عنه، يقول الله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص:55].
فهؤلاء إذا سمعوا الذكر أعرضوا عنه {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} [المدثر:50] لا يريدونه؛ لأنهم يعيشون بعقلية الحمير، التي لا يهمها إلا الشهوات، فلو أتيت تذكِّر قطيعاً من الحمير وقمت تقرأ القرآن، ما رأيك؟! أيسمع الحمار أم يمشي؟! الحمار لا يعقل، ولا يدري مَن تُذَكِّر، وإذا رأى أنثى رفعَ مسامِعَه وجرى وراءها، وكذلك إذا رأى علفاً همه العَلَف والشهواتٌ؛ لكنه لا يستمع إلى الذكر، فما الفرق بين الحمار البشري المُعْرِض عن ذكر الله، وبين الحيوان الذي لا يسمع ذكر الله؟! لا شيء، بل ذاك أضل؛ لأنه يعرف ويُعْرِض، أما هذا فلا يعقل.(77/9)
صور الإعراض عن ذكر الله
أيها الإخوة: الإعراض عن ذكر الله له صور: إعراض مكاني: بحيث لا يجلس في مكان الذكر.
إعراض قلبي: بحيث يكره الذكر، حتى ولو جلس فهو -أيضاً- كاره، كأنه في سجن، أو قفص، مثل الطير يريد أن يطير، يريد أن ينفك.
إعراض عملي.
إعراض دَعَوي.
إعراض شعوري.
كل هذه تسمى إعراضاً عن الله، وعن ذكر الله، وعن دين الله وفي الحديث المتفق عليه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً مع أصحابه، إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله وذهب واحد فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه) وهذه هي النتيجة الحتمية؛ أن تعرض عن الله، وماذا تريد إذا أعرضت عن الله؟! أيتوجه الله إليك؟! لا.
يقول الله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] يقول: {انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة:127] لكن أقْبِلْ على الله؛ فإن الله عز وجل يُقْبِل عليك يقول تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} [محمد:17] ماذا يصير لهم؟! {زَادَهُمْ هُدىً} [محمد:17] جاء في الحديث القدسي: (يا عبادي! كلكم ضالٌ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم) (ومَن تقرب إلى الله شبراً تقرب الله إليه ذراعاً، ومن تقرب إلى الله ذراعاً تقرب الله إليه باعاً، ومن أتى إلى الله مشياً أتى الله إليه هرولة، وكان الله إليه بكل خير أسرع).
إذاً: حتى تكون أهلاً لمحبة الله، ولرحمة الله، ولتوفيقه، أَقْبِل على الله، أما أن تعرض وتدبر وتستهتر ولا يهمك أمر الله هذه ليست عقليات أهل الإيمان، إنها عقليات البهائم، وبالتالي تكون مصيبة من أعرض عن دين الله عز وجل صعبة جداً، وهذا المثال ضربه الله عز وجل للذين يعرضون عن ذكر الله، يقول الله عز وجل وهو يوصي النبي صلى الله عليه وسلم في ألا يطيع هؤلاء، هذه النوعية منكوسة الفطر، عندها خلل في التصورات، يقول عز وجل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] من أغْفَلَ اللهُ قلبَه عن ذكره، وترك الدين، وأعرض عنه فاحذر منه؛ لأن أمرَهُ فُرُطٌ، أمرُهُ ليس ملموماً ولا مجموعاً، بل انفرطت عليه جميع أموره فغفل عن الله وعن دين الله عز وجل.
هذا هو المثال الأول الذي ضربه الله عز وجل للمعرضين عن دين الله عز وجل، وفي هذا تنبيه لكل عاقل ألا يعرض مهما كان الأمر، هذا خير ساقه الله لك، بل أقبل وابحث عن الذكر.(77/10)
أهمية الذكر وعاقبة المعرضين عنه
إن ذكر الله حياة للقلوب يقول الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] وهذا الدين كله ذكر، والرسول صلى الله عليه وسلم كانت وظيفته الأولى التذكير، يقول الله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] والمؤمن ينتفع بالذكرى، يقول الله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] لا تنفع الناس أجمعين، وإنما تنفع طائفة من الناس هم أهل الإيمان-جعلنا الله وإياكم منهم- وجميع الشعائر والعبادات التي شرعها الله هي من أجل ذكره، فإنك تصلي لتذكر الله، يقول الله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] تصلي لذكر الله، الحج لذكر الله، الصيام لذكر الله، وجميع الشعائر من أجل ذكر الله.
بل شرع الله عز وجل في يوم الجمعة وهو يوم الذكر، ويوم عيد المسلم، ويوم العبادة، ويوم التفرغ من كل الأعمال من أجل الذكر والشكر، شرع الله لنا في هذا اليوم أن نقرأ سُوَراً معينة نص فيها على الذكر، فكان صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجر يوم الجمعة بسورة السجدة والإنسان؛ لأن في سورة السجدة قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة:22].
وفي سورة الإنسان قول الله عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} [الإنسان:29] إن هذا الدين ذكرى {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الإنسان:29].
وشرع للخطيب يوم الجمعة أن يقرأ سورة (ق) في الخطبة، تقول أم عطية في الحديث الصحيح: (ما حفظت سورة ق إلا من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقرأ بها في الخطبة) وهذه سنة تكاد تكون ميتة، ولا أحد يأتي بها من الخطباء إلا القليل، كان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة ق فقط، يقسمها في الخطبتين وينزل، وكفى بها واعظة، لأنها اشتملت على كل أمر العقائد، الخَلْق، والبَدْء، والمعاد، والحشر، والحساب، وعذاب النار، ونعيم الجنة، ولأن فيها قول الله عز وجل: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45].
وشرع الله للناس -أيضاً- أن يقرءوا سورة الكهف -والحديث بِمجموع طرقه ورواياته يصل إلى درجة المقبول، فيُعْمَل به عند أهل العلم- وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، أضاء الله له ما بين الجمعتين) لماذا؟ لأن فيها قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:57].
وشرع للإمام في صلاة الجمعة أن يقرأ بسورة الأعلى والغاشية.
أما سورة الغاشية؛ فلأن فيها قول الله عز وجل: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21].
وأما سورة الأعلى؛ فلأن فيها قول الله عز وجل: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:9 - 10].
أيها الإخوة: الذكرى والعمل بهذا الدين وتذكر أمر الله، وتذكر شريعة الله، وعذاب الله ونعيمه، وعظمته، كل هذا مطلوب، ولا يأتي إلا حينما تسمع من العلماء، وتجلس في مجالسهم، وتقرأ كتب العلم، وتشتري شريط أهل العلم، لماذا؟ حتى تتذكر؛ لكنك حينما تعرض عن الشريط فلا تسمعه، وتعرض عن إذاعة القرآن فلا تسمعها، وتعرض عن الكتاب الإسلامي فلا تقتنيه، وتعرض عن الصحيفة الإسلامية فلا تشتريها، وعن المجلة الإسلامية فلا تقرأها، وعن حلق العلم فلا تحضرها، وإذا أتى يوم الجمعة فإن أكثر المعرضين لا يشهدون خطبة الجمعة، ينام إلى أن يعرف أن الخطبة قد انتهت، فإذا علم أن الخطبة قد انتهت، قام وصلى ركعتين ومشى، فمِن أين تأتيه الذكرى؟! من أي مجال؟! وقد سد جميع الطرق النافذة إلى قلبه.
إن الإسلام يجعل للمسلمين وجبة أسبوعية ممثلة بخطبة الجمعة، ويؤكد على ضرورة الإنصات والاستماع، حتى إنك إذا مسست الحصى والإمام يخطب فقد لغوت، ومَن لَغَا فلا جمعة له، لماذا هذا التأكيد؟ لكي تسمع، ولكي يبلغ الخطيب دين الله؛ لكنّ المصلين لا يأتون إلا بعد الخطبة أو عندما تنتهي، ومما يؤسف له أن في معظم المساجد يبدأ الخطيب والمسجد ليس فيه إلا صف أو صفان، ثم يأتون والإمام يخطب إلى أن يُنْهِي الخطبة والناس ما زالوا آتين! فهذا إعراض، وعدم رغبة، ووالعياذ بالله- وهذه صفة المنافقين الذين يقول الله فيهم: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] ليست لله {يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] والعياذ بالله!(77/11)
مثل من يعلم ولا يعمل
المثال الثاني: مثال لمن يسمع ولا يعرض، يسمع ما شاء الله، ويشتري الشريط، ويسمع الكلام- ولكنه لا يعمل؛ لأن ثمرة السماع هي العمل، نحن لا نريد من الناس أن يسمعوا لمجرد قضاء الأوقات ولمجرد المتعة والتعليقات، وفلان والله ما شاء الله خطيب، وفلان يقول كلاماً وكلاماً! لا.
ليس هذا هو الغرض، وإنما الغرض الحقيقي من وراء الدعوة، ومن وراء الذكر، حلق العلم، ومن وراء كل هذا أن نحمل الأمة على العمل بالعلم، فإذا سمعت ولم تعمل فكأنك لم تعمل شيئاً، علم بلا عمل كشجر بلا ثمر، ما رأيك في شجرة في فناء منزلك من أشجار الزينة، ما شاء الله طيبة؛ لكنها ليست مثمرة، وأنت تموت جوعاً، ماذا تعمل بها؟ لا تنفعك بشيء، فهي شجرة خضراء؛ لكن ليس فيها ثمر.
كذلك من الناس من عنده علم لكن ليس عنده ثمرة، وليس عنده عمل، ولهذا مصيبة الأمة اليوم -أيها الإخوة- ليست في عدم العلم، بل مصيبتها في عدم العمل، وإلا فإن العلم يقدَّم من أول مرحلة دراسية، من السنة الأولى والولد يُعَلَّم: مَن ربك؟! ما دينك؟! مَن نبيك؟! وفي السنة الثانية يُعَلَّم: الأصول الثلاثة، وفي السنة الثالثة يُعَلَّم: المسائل الأربع، وفي السنة الرابعة يُعَلَّم: التوحيد وأنواعه، وفي السنة الخامسة ما بعدها من المسائل، فلا ينجح إلى السنة السادسة إلا وهو -ما شاء الله- قد عرف دروس العقيدة كاملة، وأساسياتها، وعرف الفقه، وأساسياته، وعرف الحديث الأربعين حديثاً النووية وعرف التفسير في المتوسط وفي الثانوي؛ لكن أين العمل؟! لأنه أُخِذَ بنية غير نية العمل فلم يُعْمَل به، النية من العلم الشهادة، فإذا أُخِذَت الشهادة نُسِيَ العلم، يحفظ هذه النصوص الميتة في نظره، إلى أن تأتي ورقة الامتحان ويتقيأ بها على الورقة، واسأله عنها بعد أسبوع تجده لا يعرف كلمة، انتهى غرضه منها، فهو حفظها ووضعها في الورقة؛ لكي يأخذ ورقة زور، شهادة، اسمها شهادة زور، ما دام لا يَعْمَل بما فيها.(77/12)
تشبيه الله لمن يعلم ولا يعمل بالحمار
إن الذي يعلم ولا يعمل ضرب الله له مثلاً من أسوأ الأمثلة، مثل الذي قبله، قال الله عز وجل -والحكاية عن اليهود؛ ولكنها تعم كل من سار على شاكلتهم-: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ} [الجمعة:5] الذي عنده علم ولا يعمل به مثله في كتاب الله كمثل حمار حَمَّلْتَه أسفار العلم، حَمَّلْتَه فتح الباري، وصحيح البخاري، وتفسير ابن كثير، وتنتقل من مكان إلى مكان، وتعال عنده واسأله: ماذا قال البخاري يا حمار! ماذا يقول لك؟! يقول: هات عَلَفاً -بلسان حاله- يقول: عندك علف ائت به، فلا يهمه إلا العلف، فلا يعرف ما الذي فوق ظهره.
فهذا الذي عنده علم لكنه لم يعمل به، ما الفرق بينه وبين هذا الحمار؟! لا شيء، ولذا فإن هذا مثل واضح {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5] وهذا التذييل في الآية مناسب لمعناها، فإن هذا الظالم لنفسه الذي حمل العلم ولم يعمل به جعل بهذا الظلم عَقَبَة وسداً بينه وبين الهداية، فلا يهديه الله، كيف يهديه الله وقد أصبح العلم عنده؟!
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمولُ
العلم معه؛ لكنه ليس مستعداً أن يعمل به، إذاً كيف يهديه الله؟! ما دام أنه هو نفسه رافض أن يهتدي، وهذه مصيبة المصائب.(77/13)
جزاء من طلب العلم لغير الله
أيها الإخوة: إن على طالب العلم أن يأخذ العلم بنية العمل، وبنية القربى إلى الله، والنجاة من عذاب الله، وبنية أن يعبد الله بهذا العلم، وإلا فإن (مَن طلب العلم ليماري به السفهاء، أو ليجاري به العلماء، أو ليبتغي به عرضاً من الدنيا، لم يرح رائحة الجنة) -نعوذ بالله أن نكون من هؤلاء- ليماري به السفهاء، ليجاري به العلماء، ليبتغي به عرضاً من الدنيا، يريد وظيفة فقط، لم يرح رائحة الجنة، أي: يلقى هذه؛ لكن ليس له هناك شيء؛ لأنه لم يعمل من أجل الجنة، ولم يطلب العلم من أجل الجنة، بل طلب العلم من أجل أن يأخذ شهادة فأخذ الشهادة وانتهى الأمر؛ لكنه لو طلب العلم من أجل الله، ومن أجل أن يعرف طريق الله، ولكي يعبد الله على بصيرة وعلى نور، فقرأ كتاب الله، وقرأ سنة رسول الله، ولم يُباهِ، ولم يُجارِ، ولم يُمارِ، ولم يستعلِ، ولم يتكبر، وإنما تواضع، وهذا شأن علماء السلف رحمهم الله، كانوا قمماً في العلم، ومع هذا فهم متواضعون إلى أبعد درجات التواضع، وبعض الناس تجده صفراً في العلم؛ ولكنه مغرور، يظن أنه على شيء، وهو ليس على شيء، وإن علم فإنما يعلم نصوصاً فقط، وهذه النصوص ليست هي العلم، العلم هو العمل، والخشية، والخوف، العلم الرغبة فيما عند الله، أما أن تكون عالماً ولا تخاف الله، عالماً وتجترئ على حدود الله، عالماً وتضيع أوامر الله؟! فلا.
جاءني أحد الإخوة يوماً من الأيام وأنا في أبها، وكان مؤذناً في أحد المساجد، وهو رجلٌ أُمِّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب؛ لكنه يخاف الله، عنده في قلبه خوف من الله، جاءني وهو يشتعل غضباً، قال: يا شيخ! كيف هذا الكلام؟! قلت: نعم.
ماذا هناك؟! قال: أنا مؤذن المسجد الفلاني، وحول المسجد عمارة فيها أربع شقق، يسكنها أربعة (دكاترة) يقول: منذ أن سكنوا إلى الآن لم يدخلوا المسجد، يقول: وكنتُ أتصور عندما أسمع مَن يقول: يا (دكتور)! كنتُ أحسب أنهم (دكاترة) في (المستشفى)، فقلت: هذا ليس غريباً؛ لكني الآن علمتُ أنهم (دكاترة) في كلية الشريعة، يقول: من حين سكنوا إلى نصف السنة ما دخلوا المسجد، أحدهم يدرس تفسيراً، والثاني يدرس الفقه المقارن، والثالث يدرس الأصول، والرابع يدرس اللغة العربية، (دكاترة) يدرسون القضاة ويخرِّجون القضاة؛ لكنهم لا يصلون في المسجد، إذاًَ: فما قيمة العلم عند هؤلاء؟! {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] هذا المثل لا يحتاج توضيحاً.
العلم: العمل، والعلم: الخشية، يقول الشاعر:
إذا لم تستفد بالعلم هدياً فليتك ثم ليتك ما علمتا
العلم يرفعك إلى الله، ويقربك إلى طاعة الله؛ لكنك إذا كنت تتعلم وتزداد ضلالاً وبُعداً عن الله، فإن هذا مصيبة، والعياذ بالله! فهذا المثال الثاني للذين يتعلمون ولا يعملون، وهذا المثال سيئ، كمثل الحمار، والحمار -والعياذ بالله- من الحيوانات التي تضرب بها الأمثال في البلادة والجهل، وأيضاً- فيه خصلة ذميمة وهي نكارة الصوت، يقول الله عز وجل: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19] وفعلاً أي صوت من البهائم تسمعه لا تشمئز منه؛ لكن دع حماراً ينهق بجانبك، يكاد يفجر أذنك، ثم إنه صوت قبيح وخبيث، فكذلك من يحمل العلم ولا يعمل به مثل الحمار، وإذا تكلم فمثل نهيق الحمار، يضرب به المثل في كراهية الصوت، والعياذ بالله! وأيضاً يضرب به المثل في الجهل، إذا رأوا جاهلاً قالوا: أجهل من حمار أهله.
ويقال في المثل العربي: (أخزى الله الحمار، مالاً لا يُزَكَّى ولا يُذَكَّى) الذي عنده حمار، لا هو يُذَكَّى إذا مات، ولا عليه زكاة، فلا مصلحة منه لا في حياته ولا في موته، ويقولون: أخزى الله الحمار مالاً لا يُزَكَّى -تُدْفَع عليه زكاة- ولا يُذَكَّى -فيؤكل- وإنما ليس منه مصلحة، لكنه يزكى في حالة واحدة وهي: إذا كان عرضاً من عروض التجارة، إذا كان هناك شخص يتاجر في الحمير فإن عليه إخراج زكاتها؛ لأن عروض التجارة كلها تشملها الزكاة، لكن لو لم يكن لديه تجارة وإنما يهوى جمع الحمير، وعنده (مائة) حمار فليس فيها زكاة، فيقولون: (أخزى الله الحمار مالاً لا يُزَكَّى ولا يُذَكَّى).
وأيضاً يقال فيه: إنه من ضلاله عنده قياس؛ لكنه يستعمل القياس بطريق الجهل، ولذا إذا رفعت يدك لضربه يخفض برأسه، يحسب أن يدك سوطاً، يقيس كل شيء عنده بالسوط؛ لأنه يخاف من العصا، ويخاف من الضرب، فأي شيء ترفعه، فإنه يظن أنه سوط لضلاله وجهله.
فما ضرب الله عز وجل بهذا المثل لمن لا يعمل إلا على سبيل التبكيت، وعلى سبيل التشنيع والتنفير، حتى لا يصير الإنسان مثل الحمار، حينما يكون له علم ولا يعمل به.(77/14)
مثل من يعلم ويعمل لكنه لا يثبت
المثال الثالث وهو يأتي ثمرة للثاني: مَن عَلِم وعَمِل؛ لكنه لا ثبَت:(77/15)
تشبيه الله للذين لا يثبتون على الدين بالكلب
لقد تَعَلَّم العلم، ثم استجاب للعلم بالعمل وسار في العمل؛ لكنه سار في العمل فترة ثم انتكس، وترك دين الله، هذا ضرب الله له مثلاً من أبشع ومن أسوأ الأمثلة، وهو مثل الكلب -والعياذ بالله- الذي لا يثبت على الدين ولا يستمر عليه إلى أن يموت، هذا لا ينتفع منه؛ لأن العبرة دائماً بالخواتيم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله ويقول: (اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة).
والعبرة دائماً في حياتك أنت بما تختم به حياتك، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام والحديث في السنن: (إذا أحب الله عبداً استعمله، قالوا: كيف يستعمله يا رسول الله؟! قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه) يوفقك لعمل صالح تستمر عليه ثم تموت وأنت عليه، فلهذا يحبك الله؛ لكن توفق لعمل صالح ثم تتركه وتنتكس وتموت على غير العمل الصالح فلا عبرة بما عملت، فلو صليت العشاء أربع ركعات إلى ما قبل السلام بلحظة، ثم انتقض وضوؤك فالصلاة باطلة، رغم أنك صليت أربع ركعات سليمة وليس فيها شيء؛ لكنك ما أكملتها، ولو ما أكملت دقيقة واحدة، بطلت صلاتك.
ولو صمت في رمضان من الفجر إلى قبل غروب الشمس بدقائق ثم أفطرت، فصيامك باطل، بالرغم من أنك صائم (اثنتي عشرة) ساعة؛ لكنك ما أكملت، وكذلك مَن عَبَدَ الله طوال حياته، ثم ترك في آخر لحظة من حياته خُتِمَ له بالنار، وهذا معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) وفي هذا الحديث حث للأمة على أن تتشبث وتتمسك بالعمل الصالح إلى أن تموت، لا تقل: لا والله سأعمل هذه ثم أتوب، فربما لن تتوب، ربما تموت عليها، وليس في هذا مفهوم للسذج والبسطاء الذين يقولون: ما دام أنها هكذا، أنا سوف أعمل بعمل أهل النار، وإذا لم يكن بيني وبين الجنة إلا ذراعاً عملت عمل أهل الجنة! يريد أن يضحك على الله، فلا يصلح هذا، ولا ينفع.
أيها الإخوة: الذين ينتكسون ولا يثبتون على دين الله حتى الممات، هؤلاء ضرب الله لهم بمثال سيئ في كتابه الكريم، وهو قوله تبارك وتعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176] هذه الآية وإن كانت نزلت في رجل من بني إسرائيل اسمه بلعام بن باعوراء، إلا أنه كما يقول المحققون من أهل العلم: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبرنا ويقول: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:175] أخبر أمتك يا محمد! بنبأ ذلك الرجل الذي آتيناه آياتنا؛ آتيناه العلم، وآتيناه الآيات والدلالات الواضحات على عظمة الله، فبدل أن يعمل بها ويستمر عليها انسلخ منها، والانسلاخ عن الشيء هو: تركه مع عدم الرغبة في العودة إليه، إنك إذا خلعت ثوبك تخلعه من أجل أن يُنَظَّف وتلبسه مرة أخرى، ولذا إذا خلعته ماذا تقول؟ تقول: أنا فَسَخْتُ ثوبي أو خَلَعْتُ ثوبي، ولا تقول: سَلَخْتُ ثوبي، لكن إذا سَلَخْتَ جلد الشاة ماذا تقول؟ تقول: خَلَعْتُ جلدها؟ أو فَسَخْتُ جلدها، أو سَلَخْتُ جلدها؟! سَلَخْتُ جلدها، لماذا؟ لأنه لن يعود جلدها عليها، هل حصل أن عاد جلد شاة عليها؟ أبداً مستحيل! وكذلك هذا الرجل لما انسلخ من الدين انسلخ بنية ألا يعود إليه، قال عز وجل: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:175] فماذا حصل لما انسلخ؟ قال عز وجل: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف:175] حين كان يعمل بآيات الله كان في حرز، ولم يكن للشيطان عليه سلطان، وما كان الشيطان يستطيع عليه؛ لأنه محفوظ بآيات الله، محفوظ بدين الله؛ لكن بمجرد أن تخلى عن حرزه، وترك حصنه، وانسلخ عن آيات ربه، تسلط عليه الشيطان، وهذا معنى قول الله عز وجل: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99 - 100].
فإذا أردت أن تبقى في حصن حصين، وفي منعة من الشيطان الرجيم فاعمل بطاعة الله، إذ لا سلطان للشيطان على من أطاع الله، يقول الله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42] فسلطان الشيطان على من اتبعه؛ لكن من يتبع الله ويعبد الله لا سلطان للشيطان عليه، ولهذا حينما لعنه الله وطرده وقال له: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:12 - 18] أنت والذي وراءك في جهنم: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف:19] إلى آخر الآية.
إذاً: متى يتبع الشيطانُ الإنسانَ؟! إذا تخلى عن طاعة الرحمن، أما إذا كان الإنسان ملازماً لطاعة الله فإنه في حصن وحماية ووقاية من الشيطان، وهذا معنى قول الله عز وجل في هذه الآية: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف:175] فإذا أتبعه الشيطانُ ماذا يكون نتيجته؟! {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:175].
الذي يتبعه الشيطانُ هل يمكن أن يدله الشيطان على طريق الهداية؟! أم أنه يدله على طريق الغواية؟! يدله على طريق الغواية بدون شك، وما دام الشيطان معه فإنه يزيِّن له الباطل، ويزيِّن له الشر، ويكرِّه إليه الطاعات، ويكرِّه إليه العمل الصالح، ويزيِّن له كل شر، ويكرِّه إليه كل خير؛ لأنه غاوٍ {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:175].
ثم يقول عز وجل: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} [الأعراف:176] لو شاء الله تبارك وتعالى لَقَصَره وجعله مسلوب الإرادة، وصار آلياًَ؛ لكن الله أكرمه وأعطاه هذه القدرة على أن يسير في طريق الخير، فأخلد إلى الأرض {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} [الأعراف:176] إلى شهواتها، ومُتَعِها، ولذائذها {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف:176] ولم يتبع أمر مولاه، واتباع الهوى من أعظم ما يصدُّ عن دين الله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23].
قال عز وجل: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] ما هو اللهث؟ اللهث هو: إخراج اللسان من الفم عند العطش، وفي حالة التعب، فالكلب يخرج لسانه، إن حملت عليه بالضرب يخرج لسانه، وإن تركته ورحمته يخرج لسانه {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176].(77/16)
تشبيه المنتكس بالكلب في كثرة مساوئه
أيها الإخوة: الكلب ضُرِب به المثل في هذا لسوئه، فإن فيه من السوء ما لا يعلمه إلا الله، ضَرَب الله عز وجل لمن ينتكس ويترك الإسلام والدين ويرجع إلى طريق الغواية مثلاً بالكلب، وفي الكلب من السوء الشيء الكثير: أولاًَ: من سوء الكلب أنه إذا سمَّنته وأطعمته أكلك، وإذا أجعته وضربته تبعك:- ولهذا قالت العرب: (سَمِّن كلبك يأكلك، وأجع كلبك يتبعك) إذا أجعته وأهنته بقي في خدمتك، وإذا سمنته وأكرمته رجع ليأكلك، وهذا سيئ، والعياذ بالله! ثانياً: يُضْرَب به المثل في اللؤم والطمع: تقول العرب: (ألْأَم من كلب على جيفة) لو أن هناك جيفة جمل وجاء كلب لوحده، تراه يأكل وينبح، يخاف ألا يأتيه كلب ثانٍ، والجيفة تكفيه وتكفي (مائة) كلب معه؛ لكنه لئيم، لا يريد أن يأكل إلا هو.
ولذا فالذي يترك الدين لئيم، فيه من لؤم وحقارة ودناءة الكلب ما فيه؛ لأن الله هو الذي ضرب المثال له: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف:176] حينما ينسلخ الإنسان من الدين، ويترك هذه الكرامة وهذه العزة وهذا السؤدد والمجد لأهل الإيمان والعمل الصالح، فإنه يعيش درجةً أسوأ ما يمكن وهي درجة الكلاب والعياذ بالله! ثالثاً: الكلب مِن سوئه: أنه يكره المطر: لا يحب المطر، والسبب كما قال العلماء: لأن الكلب إذا غرق أنتن ريحُه، فإذا ابتل ظهره وصار الماء عليه ظهرت له رائحة كريهة، ولذا أكره شيء عنده إذا رأى المطر، وإذا رأى السحاب بعيداً قام لينبح، ولهذا يقولون: (لا يضر السحاب نبح الكلاب) السحابة في السماء وهو ينبح في الأرض؛ لأنه يريدها ألا تمطر، لا يريد السحابة أن تمطر فينبحها! بعقليته الضالة، وهو من حين أن يرى السحابة فإنه لا يريد المطر حتى لا ينتن ريحه، ولهذا يقول الشاعر وهو يصف امرأته -لأن المرأة من خصائصها، ومن أبرز صفات المرأة الناجحة ذات التبعُّل الحسن مع زوجها، أنها تكون ذات رائحة طيبة، ولذا حُرِّم على المرأة المسلمة إذا خرجت أن تتطيب حتى لا تفتن الناس بريحها؛ لكنها إذا دخلت بيتها يُشْرَع في حقها أن تكون كالزهرة عبقة الرائحة، حتى إذا مر من عندها زوجها يجد لها ريحاً؛ لكن هذا الشاعر كأن زوجته ما كانت تريده، وما كانت تتطيب، فشم رائحتها وإذا بريحها ليس جيداً- فيقول فيها:
ريحُ الكرائم معروفٌ له أرَجٌ وريحُها ريحُ كلبٍ ناله مطرُ
يقول: ريحها مثل الكلب الذي جاء عليه مطر، فطلعت رائحته من جلده -والعياذ بالله- فما أسوأ من الكلب ريحاً إذا ابتل ونزل المطر، رغم أن المطر رحمة، المطر كل الأرض تفرح به، الأرض تستقبله، والنبات ينبت، والزهور تتفتح، والخيرات تكون موجودة، والحيوانات والبهائم ترعى، أما الكلب فلا، الكلب لا يرعى، من حين أن يرى السحابة في السماء يقوم لينبح، ينبحها حتى لا تُنْزِل مطراً على الناس.
فهذا من سوئه، ولذا ضرب الله به مثلاً بأنه يكره الرحمة المهداة، يكره الدين الذي جاء به سيد المرسلين، فهو رحمة وغيث، كما أن المطر غيث الأرض، كذلك الدين غيث القلوب، وهذا الكلب لا يريده ويعرض عنه، وينسلخ منه، فمثله مثل الكلب.
رابعاً: الكلب معروف بالخسة والخيانة:- لو جاء لص يريد أن يسرق بيتاً وفيه كلب، فلو أعطى الكلبَ قطعة لحم فإنه لن ينبح، يقعد ليأكلها؛ لأن ذاك يعطيه؛ فإذا أعطاه اللص لحمة أحسن فإنه يسكت عنه.
ثم إن في الكلب خصلة ذميمة وهي: أنه يسهر في الليل وينام في النهار: لا ينام في الليل، طوال الليل ينبح، فإذا جاء وقت صلاة الفجر نام إلى العصر.
ويوجد في بعض الناس الآن شبهٌ من هذا الشيء، تجده طوال الليل وهو (يفحِّط) في الشوارع، ويسهر على الأرصفة، ويتابع الأفلام، ويشاهد المباريات، وإذا قيل له: نم، قال: والله ما جاءني النوم.
فإذا أتى وقت صلاة العبادة صلاة الطاعة صلاة الفجر آخر الليل، حين نزول الرب تبارك وتعالى، حين نزول الرحمات نام عن صلاة الفجر، وعن صلاة الظهر والعصر، واستيقظ قرب الغروب، وقام وأخذ سيارته وذهب مثل كلب البدو، لا ينام في الليل وينام في النهار، هذا -والعياذ بالله- من عكس الفِطَر، فقد جعل الله الليل سكناً، وجعل النهار معاشاً، فتسكن في الليل، وتنتشر في الأرض في النهار؛ لكنك إذا قلبتَ المسألة، وصرت تسكن في النهار وتنتشر في الليل، فمن الذي ينتشر في الليل؟! يقول العلماء: لا ينتشر في الليل إلا الهوام والسباع الضارة؛ الحيات، والعقارب، والثعابين، والأسود، والنمور، متى تخرج؟ تخرج في الليل، وتكمن في النهار؛ لأنها إذا خرجت في النهار تعرضت للقتل؛ لأنها مؤذية، فتخرج في الليل.
وكذلك هذا الرجل الذي لا يقوم بطاعة الله عز وجل يكمن في النهار، ولا يخرج إلا في الليل، لماذا؟ لأنه حيوان ضار، يذهب فيتعرض لمحارم الناس، ويعتدي على أموال الناس، ويعمل أشياءً تضرهم، ولا يجد مجالاً لأن يعمل هذا الشر في النهار، فيخرج فيه في الليل، ويتشبه بالبهائم والسباع والحيوانات والحشرات الزاحفة، التي تضر الناس ولا تنفعهم.(77/17)
الأصناف الثلاثة الذين شبههم الله بالحيوانات
أيها الإخوة: هذه هي الأمثلة الثلاثة التي ضربها الله تبارك وتعالى لهذه الأصناف الثلاثة: الصنف الأول: مَن يُعرض عن دين الله: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} [المدثر:50].
الصنف الثاني: مَن لا يعرض؛ يسمع ولكنه لا يعمل: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5].
الصنف الثالث: مَن لا يعرض ويعمل؛ لكنه لا يستمر، ولا يثبت، وإنما ينتكس، كما قال الله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} [الأعراف:176].
أعوذ بالله وإياكم أن نكون مثل هذه الأشياء! ونسأل الله الذي لا إله إلا هو أن ينير بصائرنا، وأن يرزقنا العلم والعمل والثبات عليه حتى نلقاه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(77/18)
الأسئلة(77/19)
حكم شرب الدخان
السؤال
إني أحبك في الله، هل لك نصيحة فيمن يشرب الدخان؟ وهل الشيشة حكمها حكم الدخان؟
الجواب
أولاً: أحبك الله كما أحببتني فيه، وأسأل الله عز وجل أن يجمعنا جميعاً تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ببركة الحب فيه؛ لأن الحب في الله عز وجل من أوثق عرى الإيمان، ومن ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله: (ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وافترقا عليه).
أما الدخان فهو من المصائب التي عمت به البلوى، وهو -أيضاً- من الشرور والمصائب -والعياذ بالله- ولا ينبغي لمسلم يخاف الله عز وجل أن يلوث نفسه، أو أن يؤذي ملائكة الله، أو أن يؤذي عباد الله، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، وتأذية بني آدم -أيضاً- معصية لله عز وجل، والناس لا يريدون رائحة هذا الدخان، يقول الشيخ حافظ الحكمي:
آذيتموا ساكنين الأرض فاحتملوا فما أذاكم لأملاكِ السماواتِ؟!
هذا الدخان محرم، وقد نصت الفتاوى العلمية الصادرة من كبار العلماء في هذا البلد، وفي كل بلاد المسلمين على تحريمه من طرق شرعية كثيرة، ودليل واحدٌ يكفي منها؛ لكنها اجتمعت فيه: الدليل الأول على التحريم: أنه خبيث: وما دام خبيثاً، فإنه محرم بنص الكتاب، يقول الله عز وجل: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] وما أظن على وجه الأرض من يزعم أن الدخان من الطيبات أبداً، بل شركته الصانعة، وكل شركة في الدنيا عندما تصنع شيئاً تكتب دعاية له، إلا شركة الدخان، تصنعه وتكتب عليه دعاية ضده، تحذير رسمي: الدخان يضر صحتك، فننصحك بالامتناع عنه، فأعرف الناس بالصنعة صانعها، أهل الدخان الذين صنعوه يقولون: يضرك، فهل هو طيب أم خبيث؟! إن الذي يضر خبيث.
وكل طعام وشراب في الدنيا له مدة صلاحية، بداية ونهاية، إلا الدخان ما له بداية ولا نهاية، فهو فاسد ومن يوم أن صنعوه قالوا: هذا مضر، فكيف تنتظر أنت فيه فائدة وتستعمله؟! ثم إن خبثه يأتي مِن طعمه، ومِن ريحه، ومِن أثره على كل شيء، ليس فيه طريق واحد بالطِّيْب، وإذا مُنِع شربُ الدخان في إدارة رسمية، أو في مكان ما، ولم يجد الإنسان فرصة لشرب الدخان، فأين يشربه؟! في الحمام، أليس كذلك؟! لماذا؟! لأنه خبيث.
لكنه لو لم يجد فرصة للأكل، وعنده (ساندويتش) هل يقدر أن يأكل (الساندويتش) في الحمام؟! لا يستطيع أبداً أن يأكله في الحمام.
لكن لماذا يستطيع أن يدخن في الحمام؟! لأن الخبيث يناسب المكان الخبيث! هل يستطيع المدخن أن يدخن في المسجد؟! لا.
لماذا؟ لأن المسجد طيب، ولا يؤكل فيه إلا الطيب، ولا يقال فيه إلا الطيب، فلا يليق بك أن تأتي بالدخان الخبيث إلى المكان الطيب.
إذاً: ما دام أنك باعترافك أنت -أيها الإنسان- أنه خبيث فهو حرام؛ لأن الله يقول: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] فكيف تكون طيباً وأنت تحب الخبيث؟! لا يحب الخبيث إلا الخبيث، ولا يحب الطيب إلا الطيب، والله قد حرم علينا الخبائث بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172].
ويقول: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:5] بمعنى: حرمت عليكم الخبائث.
فهذا خبيث.
هل هناك شخص في الدنيا يقول: الدخان طيب؟! لا أظن، ولكني ابتُليتُ بمثله، وكنتُ مرة في منطقة جيزان، في مدرسة ثانوية، وبعد أن بينت حكم الدخان قام أحد المدرسين وقال لي: يا أستاذ، قلتُ: نعم.
قال: الدخان ليس حراماً.
قلت: لماذا؟! قال: هات آية في القرآن يقول الله فيها: حُرِّم عليكم الدخان.
قلت له: أنت تأكل الموز والبرتقال والتفاح؟! قال: نعم.
قلت: هات آية في القرآن تقول: أحل لكم البرتقال والتفاح والموز.
قال: لا يوجد.
قلت: وأنا لا يوجد، القرآن ليس كتابُ مطعمٍ، يعطيك الأطعمة كلها، القرآن منهج حياة، قال لك: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157].
فالطيبات: الشحم، واللحم، والأرز، والتفاح، والبرتقال، والعسل، والسمن، كُلْ منها.
والخبائث حرام.
فقال لي -والعياذ بالله وكان رجلاً منكوساً-: الدخان من الطيبات، وما دام أنه من الطيبات فقد قال الله: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:4] أنتم عندكم أيها المتدينون! أن الدخان من الخبائث، أما نحن المدخنون فالدخان عندنا من الطيبات، وما دام أنه من الطيبات فهو حلال.
قلت له: أنت متزوج؟ قال: نعم.
قلت: عندك أولاد؟ قال: نعم.
قلت: إذا رأيت في يد ولدك حلوى أو تمراً أو (بسكويتاً) هل تغضب أم ترضى؟ قال: لا.
بل أرضى.
قلت: وإذا رأيت في يد ولدك (سيجارة) ترضى؟ قال: لا.
قلت: لماذا؟ قال: لأنه بطَّال.
قلت: والبطال ما هو؟ قال: خبيث.
قلت: والخبيث حرام! قال: حرام! وأدخل يده في جيبه، ومباشرة كَسَّر (الباكت) وداس عليه بقدمه وقال: ذهبت من رأسي، انتهت.
ولقيني بعد سنتين في أبها يقبل رأسي، ويقول: والله منذ ذلك التاريخ ما عرفتُه، وتبتُ إلى الله عز وجل منه.
فهي قضية مغالطة فقط، وإلاَّ فكل شخص يعرف أنه خبيث، من أين يأتيه الطِّيْب؟! حتى رائحته؛ أنت الآن إذا سلم عليك شخص وهو مدخن كيف تعمل؟! تقرب منه وتعانقه؟! رائحة ثوبه ورائحة (غترته) ورائحته منتنة، حتى المتزوج الذي يدخن فإن زوجته معه في عذاب، حتى إنه عندما يريد أن يقبِّلها فتهرب منه، لا تريد الاقتراب منه، لماذا؟ لأن رائحة فمه منتنة، والعياذ بالله! هذا الدليل الأول.
الدليل الثاني: أنه حرام لأنه مفتِّر ومسكِّر: فيه كمية من المادة المخدرة، وهذه الكمية قليلة بحيث لا تطغى على العقل؛ لكن: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) لو أتيت بكأس خمر، وأخذت منه (ملعقة) وصببته على كأس ماء وشربها شخص فإنه لا يسكر؛ لأن الكمية قليلة؛ لكن ما حكم الماء المخلوط بالخمر؟ حرام.
فهذا حرام، ويُعْرف تفتيره عند الصائمين، إذا امتنع الصائم طوال اليوم ثم أفطر وشرب واحدة فإنه مباشرة يتخدر، إن أراد أن يقوم ليصلي فإنه يجلس فيقول: لا نصلي هنا.
ماذا بك؟ قال: يا شيخ! دعنا نستريح قليلاً.
تخدر.
إذاًَ: ما دام أنه يخدر ويفتر فهو محرم.
الدليل الثالث: قال العلماء: إنه ضرر على الجسد: فإن منظمة الصحة العالمية بإجماع أطبائها -وليس فيهم واحد مسلم- يقررون أن السرطان الرئوي سببه الدخان، بالإضافة إلى القرحة المعدية، وبالإضافة إلى يُبْس الشفتين، وازرقاق العينين، وفقدان الشهية للطعام، وفقدان الحركة لماذا؟ لأنه نار تشب في نحره، الإنسان يستعيذ بالله من النار في كل حين، وشارب الدخان النار بين عينيه في كل حين، يشرب النار، وينفخ النار، ويبلع النار، ويتدرب على النار، لا يريد أن يصل إلى النار تلك، إلا وقد تدرب عليها والعياذ بالله.
الدليل الرابع: أنه إسراف وتبذير: والله قد بين لنا أنَّ {الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27] فلو أن إنساناً أخرج ورقة (عشرة ريالات) ولفها كما تلف (السيجارة) ثم أشعل النار فيها، فبِمَ يصفه الناس؟! بالجنون، لا يوجد أحدٌ يحرق المال وهو عاقل أبداً.
حسناً والذي يحرق المال ويحرق صدره، كيف يصير؟! مجنوناً أم مجنونين؟! هذا هو شارب الدخان يحرق (ماله) ويحرق جوفه، والعياذ بالله! الدليل الخامس: قال العلماء: إنه لا يُذكر اسم الله عليه: لا يوجد أحد يشعل (السيجارة) ويقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ولا يحمد الله عند خاتمتها، لا يوجد أحد يكمل (السيجارة) ويقول: الحمد لله الذي أطعمني هذا وسقانيه من غير حول مني ولا قوة، وما دام أنه لا يُسمي عليه في أوله، ولا يحمد الله عند خاتمته فليس فيه خير، فهو خبيث.
الدليل السادس: قالوا: يعلم صاحبه خصلة من خصال الحيوان الذي لا تليق بالإنسان: وهي: أن الإنسان إذا أكل طعاماً، ثم بقي منه شيء رفعه، والحيوان إذا أكل طعاماً ثم بقي منه شيء رصَعَه، وهذا شارب الدخان إذا أكمل (السيجارة) وبقي فيها قليل أين يضعها؟! يرفعها أو يضعها في الأرض تحت رجله؟! هذه هي الخصلة، وكأنه دابة والعياذ بالله! إذاًَ: فحكمه التحريم، ولا يجوز لمسلم يخاف الله أن يستمر في تعاطيه، بل عليه أن يتوب إلى الله عز وجل، والقضية أسهل مما يتصور صاحب الدخان، وهي تحتاج إلى تصميم، وإلى إرادة، وإلى استعانة بالله، وإلى صبر، وإلى معاناة؛ خلال يوم ويومين ثلاثة أيام، ثم تنتهي، وتَسْلَم صحتُك، ويَسْلَم مالُك، وترضي ربك، ولا تؤذي عباد الله، ولا تؤذي ملائكة الله، وتكون من عباد الله الصالحين إن شاء الله.(77/20)
الوسواس وعلاجه
السؤال
إني شاب أخاف الله تعالى؛ لكن فِيَّ وسواس عظيم، والله لو أذكره لانهدت الجبال من عظمة ذلك، أرجو من حضرتك -أيها الشيخ- أن ترشدني إلى حاجة تحرزني وتحفظني من هذا الوسواس؟! جزاك الله جنة عرضها السماوات والأرض، وجعل إجابتك على هذا السؤال في موازين حسناتك، والله أعلم.
الجواب
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قد شرع الله عز وجل في كتابه وأمر بالاستعاذة من الوسواس فقال عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:1 - 6] والوسواس داء ومرض يصيب بعض الناس، وسببه الشيطان حين يتملك الإنسان ويستولي عليه ويستحوذ عليه، فيصور له العبادات على أنها غير صحيحة، يتوضأ الإنسان فإذا توضأ أتاه الشيطان، وقال: أنت لم تغسل فمك، ولم تغسل يدك، ولم تمسح رأسك، فيبطل عليه وضوءه، فيقوم فيتوضأ، فإذا توضأ وأكمل جاء إليه مرة أخرى، حتى إن بعضهم ليتوضأ عشر مرات.
وإذا جاء ليصلي وأراد أن يكبر قال هكذا: أأ أأ أأ أحتى تكتمل الركعة ولم يكبر بعد، ثم يقول: الله أكبر.
وإذا كبر جاءه الشيطان وقال: أنت كبَّرت؟! أنت كذاب لم تكبر.
ففسخ الصلاة وعاد: أأ أاللـ اللـ اللـ، فهذا مثل الكرة في يد الشيطان، يلعب عليه إبليس، يفسد عليه عبادته، وطهارته، وتوحيده، من أين جاء هذا التسلط -أيها الإخوان-؟ جاء من ضعف الإنسان.
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: كيف تتخلص من هذه الوساوس؟ أن تعامل الشيطان بنقيض قصده، فإذا جاءك الشيطان وأنت قد توضأت وقال لك: ما سميت الله.
قل: لا.
يا خبيث! سميتُ؛ لأنك هل تتصور أن الشيطان يفسد عليك عملاً فاسداً أم عملاً صالحاًَ؟! عملاً صالحاً، فهو يأتيك عندما يرى أن وضوءك سليم ليفسده عليك، فماذا تصنع؟! تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لا والله لا أتوضأ، إن وضوئي صحيح، والله لو أنه ليس صحيحاً ما جئتني يا شيطان! لكنك ما جئت وتريد أن تفسده عليَّ إلا لأنه صحيح، إذاً: لستُ معيداً للوضوء.
وإذا جئتَ لتصلي وكبَّرتَ، وجاءك الشيطان وقال لك: أعد التكبير.
قل: لا.
كبَّرتُ؛ لأنك لو لَمْ تكبر لَمَا جاءك الشيطان أصلاًَ ليعلمك، والشيطان لا يعلمك إلا في الصحيح لكي يفسده عليك، أما إذا كان ليس صحيحاً في حياتك فلا يعلمك الشيطان.
إذاً: اعمل بنقيض قصد الشيطان، كلما قال لك شيئاً فقل: لا.
إذا قال: ما قرأتَ الفاتحة، فقل: لا.
بل قرأت الفاتحة، وإذا قال: ما قلت في الركوع: سبحان ربي العظيم وبحمده، فقل: قلتُها رغماً عنك.
وهكذا إلى أن يعرف الشيطان أنك تمردت عليه، فإذا عرف أنك لا تطيعه والله لا يأتي إليك، يبحث له عن شخص آخر؛ لكن مادام أنك لعبة في يديه فلن يتركك.
قال لك: لم تتوضأ، قلت: نعم والله، لم أتوضأ، سأعود لأتوضأ.
أو يقول: لم تكبر، قلت: نعم لم أكبر، إذاً أعود لأكبِّر.
ثم يأتيك بالشك، ويقول لك: مَن خلق الله؟! وتقول: نعم من خلق الله؟! ما هذا؟! أعوذ بالله! يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يأتي الشيطان إلى أحدكم فيقول: مَن خلقك؟ فتقول: الله، فيقول الشيطان: مَن خلق الله؟ -ماذا تقول أنتَ؟! - فقل: آمنتُ بالله، لا إله إلا الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) هذه (قنبلة) تنزل بها على الشيطان.
لكن يأتيك الشيطان فتقول: والله عندي وسواس، ماذا تعني بالوسواس؟! ألِعْبَةٌ أنتَ؟! ألست رجلاً؟! هل الشيطان أقوى منك؟! يقول الله: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ} [النساء:76] ماذا؟! {كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] لكنك أضعف من الضعيف، عندما يلعب عليك إبليس.
فنقول -يا أخي الكريم-: هذا داخل ضمن دائرة اختصاصك، ولا تتصور أن شخصاً يأتي من الخلاء، ويدخل في قلبك، ويعطيك اليقين! اليقين عندك، هل أنت على شك من دين الله؟! هل أنت على شك من كلام الله، ومن كلام رسول الله؟! هل أنت على شك من يقينك؟! أأنت على شك من أنك عندما توضأت كنت لستَ عاقلاً؟! الآن إذا جئت لتأكل، وأكلت، وشبعت، وأكملت، وجاء الشيطان يوسوس لك ويقول لك: أنت لم تأكل، قم فكل! هل يأتيك ويقول لك هكذا؟! لا؛ لأنه عارفٌ أنك أكلت ولن تزيد.
إذاً: لماذا يوسوس لك في العبادات، ولا يوسوس لك في العادات؟ إلا لإفساد عبادتك.
فأولاً: أدعو الله الذي لا إله إلا هو أن يعيذني وإياك وجميع إخواننا من الشيطان الرجيم.
ثانياً: جاهد نفسك، واستعذ بالله؛ لأن الله يقول: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200] ما هو النزغ؟ قال ابن القيم: إيعاد بالشر، أو تخذيل عن الخير، هذا هو نزغ الشيطان، يوعدك بشر، أو يخذلك عن طاعة وخير.
إذاً ماذا تفعل؟! تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
إذا مشيتَ في الشارع ورأيتَ امرأة متبرجة فاتنة، والشيطان يقول: انظر إليها، ويلف برقبتك يريدك أن تنظر، فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم مباشرة، فلن تحس بعدها بشيء أبداً.
أي شيء يعرضه عليك الشيطان عامله بنقيض قصده.
إذا كنت في فراشك تريد أن تقوم لتصلي الفجر فإنه يأتي على غاربك، ويركب عليك، ويجعلك تنام؛ لكن قُلْ بعد أن تستوي جالساً: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ نسألك يا ألله أن تعيننا وقم؛ لكن بعضهم يستعيذ وهو نائم، فيقول إبليس: اسكت يا كذاب! أتستعيذ وأنت نائم؟! لا ينفع هذا.(77/21)
تصحيح النية في طلب العلم
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أشهد الله أني أحبك في الله.
أنا طالب في كلية الشريعة، وإني في بداية الدراسة؛ ولكني أخاف أن أكون من طلاب الدنيا، وتراودني نفسي بأن أحول إلى قسم آخر، حتى لا أدخل في الحديث الذي ذكرتَه، أفيدوني جزاكم الله خيراً؟!
الجواب
جزاك الله خيراً، وأحبك الله يا أخي! ونصيحتي إليك أن تبقى في مجالك الذي اخترتَه، وأن تصحح النية والقصد.
وكونك تخشى فهذا من علامات تصحيح النية إن شاء الله؛ لأن الذي يخاف من الشيء يحذره ويتوقاه.
أما ترك هذا المجال واختيار مجال آخر، فإن هذا ليس في مصلحتك؛ لأنه شيء من التذبذب، فما دام أن الله وفقك ودخلت في كلية الشريعة فنِعْمَ المجال خدمة شريعة الله، إنما صحح نيتك وقصدك، وقل: أريد من هذه الدراسة أن أخدم دين الله، وأن أكون داعية إلى الله، وأن أكون عاملاً بهذا الدين.
وكونك تريد أن يكون لك هدف في أن تتزوج أو أن تتوظف، أو أي شيء، فهذا لا مانع منه، أي: الأغراض التي يقصدها الإنسان بعد طلب العلم لوجه الله عز وجل تأتي ثانوية؛ لكن القصد الأول والصحيح أن يكون لله عز وجل.
فننصحك بالاستمرار، وتصحيح النية، وسؤال الله تبارك وتعالى أن يجعل نيتك خالصة، وأن يوفقك لصالح العمل، واستمر في الطاعة والعمل الصالح، وثق بأنك إن شاء الله على خير.(77/22)
حكم استخدام التمائم والذهاب إلى الكهان
السؤال
هناك امرأة كثيرة الخوف، فكل شيء تخاف منه، ثم سَمِعَت عن امرأة في الأردن تعالج الناس، فأرسَلَتْ إليها تريد منها العلاج، فأرسَلَتْ تلك المرأة إليها حرزاً فيه بعض الآيات والأحاديث والأذان، ويوجد فيه حروف وكلمات لا تستطيع قراءتها، فهل يجوز أن تلبس هذا الحرز، أو تنام به، وتدخل به الحمام؟ أم ماذا تفعل؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً؟!
الجواب
أولاً: لماذا كثرة الخوف؟! يجب أن يبقى الخوف خوفاً واحداً، وهو الخوف من عذاب الله؛ لأن من خاف الله أمَّنه الله من كل شيء، ومَن لم يخف الله خوَّفه الله من كل شيء.
فنقول لهذه الأخت: مِمَّ تخافين؟! أتخافين من الموت؟! الموت بيد الله.
أتخافين من المرض؟! المرض بيد الله.
أتخافين من الفقر؟! الفقر بيد الله.
من أي شيء تخافين؟! أتخافين من الطلاق إذا كنت متزوجة؟! فالطلاق أمر يجريه الله على هذا الإنسان على لسان هذا الزوج.
أتخافين ألا تتزوجي؛ وأن يتقدم بك السن دون أن تتزوجي؟! فابحثي عن الزوج عن طريق التقوى قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
مِمَّ الخوف؟! ولماذا تخافين؟! اجعلي الخوف خوفاًَ واحداً فقط: خافي مِن الله أن يراكِ حيث نهاكِ، أو أن يفقدكِ حيث أمركِ، أن يراكِ على معصية، أو أن يفقدكِ عند الطاعة، فإنك إذا خِفْتِي الله، وخِفْتِي عذابه، وخِفْتِي بطشه وشدته وجبروته، فاتقيتيه بوضع نفسكِ في طاعته والابتعاد عن معصيته، أمَّنَك الله في الدنيا والآخرة، فهذا الأول.
الثاني: أما ما صنعتِ من الإرسال إلى تلك المرأة التي في الأردن فمن خلال ما ذكرتِ فإن هذه امرأة كاهنة وساحرة ومشعوذة، ولا يجوز الإتيان إليها، ومن أتى إليها فصدقها فقد كفر بما أنزل على محمد، ومن أتاها ولم يصدقها لم تُقْبَل له صلاة أربعين نهاراً، وهذا الحرز الذي أرسلته هو من التميمة المحرمة الشركية؛ لأن التمائم تنقسم إلى قسمين: قسم محرم وهو شرك، التوِّلة من الشرك، والتميمةُ من الشرك، (من تعلق تميمةً فلا أتم الله له) وهي: التي فيها مثلما ذكرتِ، فيها رموز، وأحرف مقطعة، هذه اسمها: كهانة؛ لأنها تستعين بالجن عن طريق هذه الرموز، ثم تخدع الناس وتضللهم، فتكتب آيات قرآنية، وأحاديث نبوية، وأدعية مأثورة، وتضع الأذان، ثم تحد عليه بدائرة، وتضع رموزاً عليها، فإذا قرأ الإنسانُ الساذجُ الجاهلُ القرآنَ قال: والله إنه من القرآن؛ ولكنه لم ينتبه إلى الذي بجانبه ما هو! فَلِمَ هذه النجمة السداسية؟! ولِمَ هذه الدوائر؟! ولِمَ هذه العلامات؟! كلها شعوذة، وبالتالي فهذه التميمة محرمة.
التميمة الثانية: أن تكون من القرآن، وليس فيها أي حرف، إلا من كلام الله: هذه اختلف العلماء في حكمها: فمنعها قوم.
وأباحها قوم.
والذين أباحوها دليلهم مرجوح.
والذين منعوها دليلهم راجح؛ لأنها: أولاً: لم تُؤْثَر، ولم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: تعرِّض كلام الله للإهانة.
ثالثاً: تحول عقيدة العبد.
إذاً: لا تُعَلَّق، وإنما يُقرأ القرآن مباشرة على المريض، ولا تُعَلَّق تميمةٌ: (فإن مَن تعلق تميمة فلا أتم الله له).(77/23)
الدعوة إلى الله مسئولية الجميع
السؤال
إنه بسببك -بعد الله- اهتدى مِن هذه المحاضرات التي تلقيها أناسٌ كثير، ووفقك الله لكل خير.
والذي أرجوه منك: أن تنبه على الإخوة الدعاة أن يذهبوا إلى الشباب في أماكن اجتماعهم، في (الأحواش) والاستراحات، وإنقاذهم بعد الله من هذه الغفلة التي يعيشونها في السهر على (البلوت) والنظر إلى (الدشوش) فجزاكم الله خيراً؟
الجواب
جزى الله الأخ الكريم خيراً، فإنه بهذا الانتباه واللفت الجيد يضعنا أمام مسئوليتنا أمام الله عز وجل، فإن هذا الدين -أيها الإخوة- هو مسئولية كل مسلم، وبموت النبي صلى الله عليه وسلم وباعتباره آخر الأنبياء وخاتم النبيين حيث لا نبي بعده، نقول: إذاًَ مَن يدعو إلى هذا الدين؟! تدعو إليه أمته، يقول الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] فأتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كلهم دعاة، وهؤلاء الذين يعيشون على الأرصفة، وفي (الأحواش) والبراري والقفار، ويسهرون على اللعب، والأغاني، والأفلام، هؤلاء إخوة لنا في الإسلام، أبناء الفطرة، والدين، ليسوا أصحاب عقائد ضالة، وليس عندهم خرافات، ولا بدع، ولا ضلالات، وإنما عندهم شهوات، وطبقة من الغفلة، والشهوة، ما إن تأتي أنتَ بـ (قال الله، وقال رسوله) إلا وتجد لها تلك الجدوى؛ لكن مَن يقوم بهذا الدور؟! أنت -يا أخي- وبالأسلوب الحسن، وبالعبارة اللطيفة، وبالجد، وبالوصول إلى القلب، لا بالانتهار، والتعالي، والاحتقار لهم، وإنما بالحب لهم، بالسلام عليهم، والابتسامة لهم، وبالعرض عليهم، إذا مررتَ على مجموعة وهم جالسون فقل: السلام عليكم -وهم من حين أن يروك ينفرون منك؛ لأن شكلك واضح أمامهم، وذلك مِن قصر ثوبك، ومِن لحيتك، وتدينك، وهم في فسق، والشيطان يغطي على قلوبهم، فإذا جئت ابتسم أولاً وقل: السلام عليكم، كيف الحال يا إخوان؟! إن شاء الله طيبون.
بعض الناس يأتي ليدعو فيقول -غاضباً-: السلام عليكم، ماذا تفعلون؟! فيقولون: الله أكبر عليه! لا يأكلنا بعينيه! لا -يا أخي- أنت داعية! الداعية يدعو بهذا الأسلوب؟! أنت الآن إذا أرسلك أبوك تدعو شخصاً لغداء أو لعشاء، كيف تدعوه؟ تقول: الوالد يسلم عليك -وتبتسم- ويريدك أن تأتي لتتعشى عندنا إن شاء الله.
لكنك لو جئت إلى عنده وتقول: الوالد أرسلني ويقول: تتعشى عندنا ولكنك قلت ذلك بأسلوب فيه غضب وحدة وقلة احترام.
فسيرفض دعوتك ويقول: لا أريد عشاءك، ولا آتيك.
وإذا كانت الدعوة إلى أرز ولحم تحتاج إلى أسلوب، فكيف تريد أن تدعو شخصاً إلى الله وإلى دينه، تدعوه إلى أن يترك شهواته، ويتمرد عليها، ويستجيب لأمر مولاه، ويخضع لشريعة الله، وأنت تنهره وتغلظ عليه؟! بل ابتسم له وقل: السلام عليكم، كيف حالكم -يا إخوان؟ - طيبون؟! كيف حالك -يا أخي؟ - أنت زميلي في الدراسة! والله إني أحبك من تلك الأيام -ولو أنك لست صادقاً، ولا تحبه؛ ولكنك تحب أن الله يهديه-.
وبعد قليل: انظروا -يا إخواني- والله هذه الحياة فانية وسنموت.
ومباشرة انزل بهم في القبور، نعم؛ لأن القبر لا أحد يستطيع أن يماري فيه، كيف حالنا في القبر -يا إخواني؟ - القبر يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عنه أنه: (روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار).
اللهم إنَّا نسألك من فضلك يا رب.
أيها الإخوان: لِمَن تكون الروضة مِن رياض الجنة؟! ستجدهم هم بأنفسهم يجيبونك ويقولون: للمؤمنين، وللمتدّينين.
ولمن الحفرة مِن حفر النار -أيها الإخوان؟ - قالوا: نعوذ بالله! والله لا نريدها.
حسناً ما تريدونها؟! قالوا: نعم.
إذاً: لِمَ -يا إخواني- لا نطيع الله عز وجل؟! لِمَ لا نقرأ كتاب الله عز وجل؟! ما رأيكم؟! هل آتيكم كل ليلة وكل أسبوع وأنتم جالسون، أعلِّمكم آيةً أو حديثاً، وأمضي.
ماذا يقولون؟! يقولون: جزاك الله خيراً، إذاً السلام عليكم.
ولا تقعد، بعض الناس يقعد معهم إلى أن يغيِّر عليهم، وينكِّد عليهم، حتى يقولوا: والله لم نعد نريد أن نرى وجهه هذا؛ لأنهم ما جاءوا من أجل الذكر، هم جاءوا من أجل أن يلعبوا، ومن أجل أن يطربوا، وأن يسهروا، وأنت إذا جئت، فضع حبة العلاج هذه وامْشِ، ودعهم يلعبون؛ حتى تأتي مرة ثانية، وتضع علاجاً ثانياً، وثالثاً، ورابعاً، وخامساً، إلى أن يهديهم الله.
هذا هو الأسلوب، وليس هذا الأسلوب الذي أقوله فقط، بل هناك أساليب كثيرة، وإخواننا والحمد لله عندهم خبرات، وعندهم إمكانيات في قضية الدعوة؛ لكن من يقوم فقط؟ كل واحد يقول: نفسي نفسي! والدين مَن يدعو إليه أيها الإخوان؟! فأنا أقول: هؤلاء إخواننا، وفي ذمتنا، وفي عُهدتنا ومسئوليتنا، وكما أنقذنا الله، فينبغي أن نمد حبال النجاة لإخواننا حتى ينقذهم الله بأيدينا.(77/24)
مراحل الدعوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم
لقد مرت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدة مراحل؛ من الضعف والقوة، والسر والجهر، والحصار والمطاردة إلى العز والتمكين، وفي هذه المراحل نبراس للدعاة إلى الله تعالى إلى يوم القيامة، وقد تناول الشيخ في هذه المادة المرحلة السرية في الدعوة وبعض جوانبها، والدروس المستفادة منها، كما ذكر المرحلة الجهرية، والتي بدأت بإنذار الأقربين، متناولاً أهم ما امتازت به هذه المرحلة.(78/1)
حكم التقيد بالمراحل التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فهذه المحاضرة تلقى في جامع الشربتلي بمدينة جدة، بعد مغرب يوم السبت الموافق: (25) من شهر محرم الحرام عام (1418هـ) على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
ويأتي هذا الدرس ضمن السلسلة الشهرية المعنونة بـ: "تأملات في السيرة النبوية" وعنوان هذه المحاضرة: "مراحل الدعوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم" إذ مرت الدعوة في حياته صلوات الله وسلامه عليه بمراحل، التي يقسمها العلماء إلى أربع مراحل: المرحلة الأولى: الدعوة السرية والتي استمرت ثلاث سنين.
المرحلة الثانية: الدعوة الجهرية، ولكن مع كف اليد عن القتال، وإنما فقط الدعوة بالكلمة دون المواجهة، واستمرت هذه إلى الإذن بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة.
المرحلة الثالثة: استمرارية الدعوة جهراً مع قتال المبتدئين بالقتال، واستمرت إلى وقوع صلح الحديبية وتوقيع المعاهدة مع المشركين في عام الحديبية.
المرحلة الرابعة: وهي استمرارية الدعوة جهراً مع قتال كل من يقف في طريق الدعوة، ويصد عن سبيل الله عز وجل.
هذه هي المراحل التي مرت بها الدعوة في بداياتها، وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد يتبادر إلى الذهن
السؤال
هل يجب على كل من يدعو إلى الله التقيد بهذه المراحل بمداها الزمني، كما وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم، بحيث لا يدعو أول شيء إلا سراً، ثم ينتقل جهراً؟
و
الجواب
إن ذلك غير مطلوب من الدعاة أن يتقيدوا بذلك؛ وذلك لأن المدى الزمني الذي حددت فيه تلك المراحل تقدير رباني، وليس جهداً بشرياً فقط، فالتقيد بهذه المراحل لا يتلاءم ولا يتماشى مع مرونة الإسلام في معالجة الأمور ومواجهة القضايا.
والسيرة النبوية تمثل حركة الإسلام، وتفتح أمام الدعاة والعاملين للإسلام نماذج كثيرة لخيارات متعددة، بحسب الأحوال والملابسات التي يعيشها المسلم، فقد تقتضي الضرورة في بعض الظروف أن تكون الدعوة سراً، وذلك في البلاد الكافرة التي تحارب الإسلام وتحارب الدعاة، فهناك لابد للمسلمين الذين يريدون نشر الدين أن ينشروا دينهم بطريقة سرية، حتى لا تضرب دعوتهم من قبل الكفار.
أما إذا كانت الدعوة تمارس في بلاد المسلمين، فليس لدى المسلم شيء يخفيه على المسلمين، فنحن عندما ندعو الناس إلى الله لا نقدم لهم شيئاً نخاف عليه أو نخشى منه، نحن نقدم لهم وسيلة النجاة، وندعوهم إلى سفينة الخلاص من ورطة الدنيا والآخرة، والإسلام هو البديل الصحيح، وهو يمثل الخلاص من ورطة الدنيا والآخرة، فما نقدمه للمسلمين إنما هو عملية تذكير لهم، فلا نخاف على شيء ولا نخشى من شيء، وبالتالي لا داعي للسرية؛ لأنك تمارس دعوتك بين المسلمين، وظروف الغفلة والشهوات والشبهات التي أضلت بعضهم تقتضي أن تذكرهم، ولهذا جاء الأمر من الله عز وجل بالدعوة إلى الذكرى، قال عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:9 - 10].
وخلاصة القول في الموضوع هذا: أن قضية الدعوة سراً أو جهراً إنما تقدر بقدرها، بحسب الظروف التي يعيشها الداعية والمسلم في زمانه ومكانه، ولكل حال وزمان علاج يناسبه، وقد لا يناسبه في زمان آخر ولا في مكان آخر.
وسنتحدث إن شاء الله بالتفصيل عن المراحل الأربع مرحلةً مرحلة.(78/2)
المرحلة الأولى: الدعوة السرية
عندما استجاب النبي صلى الله عليه وسلم للأوامر الربانية التي صدرت له من الله بتبليغ الرسالة، جاءت هذه الآيات في أول الوحي واضحة من قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:1 - 7] هذه الآيات من أوائل ما نزل.
الرسول صلى الله عليه وسلم نُبئ بإقرأ، وأُرسل بالمدثر، فكانت بداية النبوة والوحي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] وفي المرة الثانية نزلت هذه سورة المدثر: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2] أُرسل الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات، وقد لخصت هذه الآيات رغم قصر عباراتها، ورغم اختصارها، وهذا كله في الآيات المكية، والذي يقرأ القرآن يلاحظ أن الآيات التي نزلت في مكة تتميز بقوة العبارة وبقصرها واختصارها، بينما الآيات التي نزلت في المدينة تتميز بالإطالة والإطناب في بيان أحكام الشرع، فالآيات الطوال كلها آيات المدينة، بينما المكية كلمتان أو ثلاث فقط: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] المقام لا يقتضي التطويل، إنما يقتضي كلمات معدودة، في تكليف محدود، وفي عمل مشروع، وكانت هذه البداية.(78/3)
ملخص الأوامر الربانية بالدعوة في سورة المدثر
لقد لخصت هذه الآيات مضمون الدعوة التي أنيط بالنبي صلى الله عليه وسلم تبليغها إلى الناس، ولا تكاد جميع السور المكية تخرج عن إطار هذه الآيات التي جاءت في أول سورة المدثر.
ففي قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] المدثر: الذي أخذ دثاره وتلحف بثيابه، وجلس يريد الراحة والسكينة، ويريد الجلوس والأنس، جاءت هذه الآيات لتشير إلى أن زمن التدثر والخلود إلى الراحة، والأنس والسكينة، والجلوس في البيت مع الزوجة والأولاد والأبناء قد ولى، وجاء زمن المجاهدة بكل أبعاده المادية والمعنوية.
والإنسان -أيها الإخوة- يشعر بعظم المسئولية وضخامة الرسالة التي كلف بها النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قاس نفسه وهو يجد الصعوبة ويفشل -أحياناً- في تربية أولاده في بيته، إذا كان عنده ولدان أو ثلاثة أو أربعة ومثلهم بنات، ثم يجد أن هذا فشل في تربيته، وتلك فشل في تربيتها، فيشعر بالمسئولية الكبيرة التي أنيطت بالنبي صلى الله عليه وسلم في هداية العالمين.
ليس في تربية بيته، ولا هداية قبيلته، ولا هداية مدينته، ولا الجزيرة العربية، وإنما {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فيكلف بهذه الرسالة ثم يحملها صلوات الله وسلامه عليه، فيربيه الله عز وجل ويؤهله حتى يؤديها، ويستطيع القيام بها من أول لحظة، وهو يقول: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] انتهى، لا يوجد تدثر ولا جلوس الآن.(78/4)
الأمر بالإنذار وعدم ذكر التبشير
(قم): والقيام هنا قيام حسي وقيام معنوي، وهذا فيه إشارة إلى تكليفه بأمر الدعوة للناس كافة {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2] والرسل عليهم الصلاة والسلام وظيفتهم البشارة والنذارة، كما قال عز وجل في سورة النساء: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً * رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء:163 - 165] فالله عز وجل وضَّح أن الرسل كلهم من نوح إلى محمد وظيفتهم مبشرين ومنذرين، لكن هنا يقول الله: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2] ولم يذكر البشارة، لماذا؟ يوجد هناك سر، رغم أن النبوة تتضمن البشارة والنذارة؛ البشارة بالجنة والسعادة في الدنيا والآخرة، والنذارة من العذاب والنار والدمار في الدنيا والآخرة، لكن حالة النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة تقتضي النذارة فقط؛ وذلك لما كان عليه الناس من الشرك، فقد أمعنوا في الكفر، وتجاوزوا الحدود في الضلالات، فإذا جاء ليعطيهم بشارات قد لا يستجيبون، لكن تقريعهم وتخويفهم من عذاب الله بالنذارة، كان هذا أدعى إلى الاستجابة؛ ولهذا خصها بالذكر، رغم أن بعض أهل العلم يقول: إن النذارة تتضمن البشارة، فهو ينذر من عذاب الله ويبشر بنعيم الله الذي يلحق المؤمن إذا هو استجاب لأمر الله وترك طريق الشيطان.
{قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:2 - 3] وفي هذه العبارة الصغيرة، إشارة إلى أنه ليس في الوجود أكبر من الله خالق الوجود خالق الإنسانية خالق الكون والحياة، فيجب أن يُعَظِّم إذ لا خالق إلا هو، وما دام أنه لا خالق إلا هو، فليس هناك من يستحق التقدير والتعظيم والتمجيد والتقديس والعبادة إلا هو، فتعظيم غيره ظلم {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].
ولذا على الناس أن يعلموا هذه الحقيقة ليتواضع الناس كلهم للكبير المتعال، وفي هذا التوحيد المطلق، يوم أن تعلم أن الله هو الكبير فتوحده، وتخضع لأمره، وتستجيب له دونما سواه، وترفض كل أمر يتعارض مع أمره، فأنت بهذا توحد الله وتعلن العبودية الخالصة له سبحانه وتعالى.(78/5)
الأمر بتطهير الثياب والغرض منه
بعد هذا يقول عز وجل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] وفي هذا إشارة إلى أن الداعية الذي يريد أن يكون مؤثراً في الناس؛ لا بد له أن يبدأ بتطهير نفسه ظاهراً وباطناً، حساً ومعنىً؛ حتى يكون مثالاً لمن يدعوهم إلى الطهارة بكل معانيها، إذ من غير المعقول والمقبول أن تدعو الناس إلى شيء وأنت تخالفه، يقول الشاعر:
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا كيما يصح به وأنت سقيم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وأبلغ من هذا ما جاء في كتاب الله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] أي: أين عقولكم؟ كيف تقرءون القرآن وتنسون أنفسكم وتدعون الناس؟ وأبلغ من هذا قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ} [الصف:2 - 3] أي: عظم إثماً عند الله: {أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3].
ويقول حكاية عن شعيب وهو يخاطب قومه: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] يقول: عيب عليَّ أن أقع فيما أنهاكم عنه {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] فمن مقتضيات الدعوة ومن لوازمها، أن يبدأ الداعية بنفسه حتى يكون صادقاً مع نفسه ومع الناس، وحتى يكون لكلامه تأثير في الناس؛ إذ أن تأثير الأعمال أبلغ من تأثير الأقوال الناس يقبلون القول لكنهم ينظرون ويلاحقون، هل هذه الأقوال مطبقة عند من يقولها؟ فإن وجدوا تطابقاً بين قوله وفعله ألزمهم بفعله، وإن وجدوا تعارضاً بينما يقول وما يفعل، عرفوا أنه كذاب وأنه ممثل، وبالتالي تزول موعظته من القلوب، وتخرج من الآذان لماذا؟ لأنها لم تخرج من القلب، كما يقولون: كلام القلوب يصل القلوب، وكلام الحناجر لا يتجاوز الآذان.
هذه الآية فيها إشارة إلى أن كل داعية لابد عليه إذا دعا الناس، أن يكون متمثلاً لكل ما يدعو الناس إليه، وإلا أصبح عرضة يوم القيامة للعذاب الشديد، فقد جاء في الصحيح: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن من الناس من تندلق أقتابه في النار، ويدور حولها كما يدور الحمار برحاه في النار، فيقول له الناس: لقد كنت تأمرنا بالخير وتنهانا عن الشر! فيقول: نعم، كنت آمركم بالخير ولا آتيه، وأنهاكم عن الشر وأقع فيه) فكان هذا مصيره والعياذ بالله! والتطهر هنا يقتضي التطهر المعنوي والتطهر الظاهري، التطهر المعنوي: تطهير القلب من جميع الرذائل والمعاصي، ومن جميع الصفات الذميمة تطهير القلب من الغل والحقد والحسد والكبرياء، وجميع الصفات التي لا تليق بالمؤمن، وتطهير الظاهر أيضاً من النجاسات الحسية؛ بحيث يكون الإنسان طاهراً في الظاهر والباطن.
وهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء من النجاسات حتى يوجه له هذا الكلام؟! لا، لم يكن فيه شيء صلوات الله وسلامه عليه، فهو خيار من خيار، من بداية حياته، لكن الأمر له ولسائر أمته إلى يوم القيامة، على حد قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ} [النساء:136] هم آمنوا ويدعوهم الله بلفظ الإيمان ويدعوهم إلى الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136] وعلى حد قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1] الله يأمره أن يتقي الله، وهل في الدنيا أعظم تقوى من رسول الله؟ لا.
لكن من باب التأكيد على ما يجب أن يكون، وهذه الآية على شاكلتها.
{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] وهو أطهر خلق الله صلوات الله وسلامه عليه، ما اجتمع له أبوان على جريمة، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا زال الله ينتقيني من أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى أبي، فلم يلتقِ أبوان لي على فاحشة) كيف وهو المصطفى المختار، سيد ولد آدم، خير من سار على الأرض، وصاحب اللواء يوم العرض، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول من يدخل الجنة؟ اللهم صلِّ وبارك عليه.(78/6)
الأمر بهجران الذنوب والمعاصي
قال عز وجل: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5] الرجز: الشرك والمعاصي والذنوب والآثام، وفي هذه العبارة إشارة إلى أن توحيد الخالق يقتضي ويتطلب عدم تعظيم أو تقديس أي شيء لا يخضع لخالق الكون والحياة، ولا يعترف بالألوهية والربوبية والأسماء والصفات لله، وأن المسلم ينبغي له أن يهجره.
ثم قال عز وجل: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] وفي هذا إشارة إلى أن ما خص به من منع إعطاء الشيء ابتغاء شيء أكثر هو أنه مقرون بأجمل الأخلاق وأشرف الآداب، ليكون مثلاً أعلى للبشرية؛ لأنه يدعوها إلى مكارم الأخلاق، ولقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
وقد أوتي صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق أرفع قدر وأعلى نسبة، فإن الكمالات البشرية الموزعة على جميع الأنبياء والرسل وعلى جميع الناس، لم تجمع لشخص واحد إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم، حتى قال الله له بشهادة ربانية عالمية: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] من قائل هذا الكلام؟ إنه الله، الله يشهد له ويقول: يا محمد! إنك لعلى خلق عظيم، عظيم عندي وعندك، ليس عند الله فقط، فيا لها من شهادة! ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: (كان خلقه القرآن) من أراد أن يعرف أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فليقرأ القرآن، القرآن يحتوي على أفضل الكمالات، وهي مترجمة كاملة في تطبيق وسلوك وأخلاق وتعامل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(78/7)
الأمر بالصبر عند التبليغ
في ختام هذه الأمور الهامة التي ترسم معالم الدعوة، ويصل بها الإنسان إلى نصرة الحق والدين، هذه الحقيقة التي هي تحمّل لأمانة الدعوة، كان لابد من توجيه يحفظ له هذا الأمر، وهو الأمر بالصبر، فقال الله عز وجل له: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:7] إذ أن من يتصدى للدعوة لابد أن يتعب، ولابد أن ينصب، ولا بد له من الابتلاء؛ ولهذا لا بد له أن يتسلح بسلاح الصبر؛ ولهذا قدم هنا الجار والمجرور: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:7] قدم الجار والمجرور على العامل المتعلق به وهو الصبر، ما قال: اصبر لربك، التقديم هنا للاختصاص، أي: اجعل الصبر مختصاً بالله؛ لأنه يمكن أن تصبر لربك ولغير ربك؛ لكن لا اجعل الصبر خالصاً لله {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:7] أي: احتسب كل ما ينالك في سبيل الدعوة عند الله عز وجل.(78/8)
استجابة الرسول لأوامر ربه وقيامه بالدعوة سراً
لما وجهت هذه التوجيهات الربانية إلى النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عظمتها، ونهض من فراشه، وأخذ يدعو إلى دين ربه ثلاث سنوات متتاليات سراً، وكان قد أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره واستتر به إلى أن أمره الله بإظهاره بعد ثلاث سنين، كما يذكر ابن إسحاق في السير، ومما يدل على السرية في الدعوة ما جاء في خبر إسلام عمرو بن عبسة رضي الله عنه، حيث قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما بعث وهو في مكة وهو حينئذ مستخفٍ) أي: مستخف بالدعوة، وهذا الحديث في صحيح مسلم، وكان تحركه في بداية دعوته في الوسط الذي يربطه؛ في أسرته، مثل زوجته وأبنائه، ومواليه، وأصدقائه المباشرين الذين كان يطمئن إليهم، ويثق فيهم.(78/9)
أوائل المستجيبين لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم
لهذا يلحظ أن من أوائل من استجابوا إلى الدعوة هم هؤلاء، أول واحدة استجابت زوجته أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، صاحبة العقل الكبير، وصاحبة المواقف العظيمة والأيادي البيضاء، التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوخاها حينما تزوج بها، فما تزوج بها لأي غرض إلا لهذا الغرض؛ العقل والخلق والنظر البعيد، ولهذا اختارها وعمرها أربعون عاماً وهو في سن الخامسة والعشرين، صلوات الله وسلامه عليه، فكانت أول من آمنت به وبرسالته، كما هو مشهور، وقد هونت عليه من أمر الدعوة، وكانت بذلك أول من أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتبشيره بالجنة، إذ قال عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا نصب فيه ولا صخب) وهذا الحديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم.
وأقرأها الله السلام، وبشرها أن لها في الجنة قصراً من ذهب، لا صخب فيه ولا نصب رضي الله عنها وأرضاها.
ومن المستجيبين في بداية الدعوة السرية: علي بن أبي طالب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وختنه، والختن: هو زوج البنت، زوج بنته فاطمة البتول، وأبو الحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين علي بن أبي طالب كان أول المستجيبين من الشباب، وكان يتربى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أولاد أبي طالب كثير، فقد كان ذو عيال، فطلب منه أن يكون علي معه، فكان في حجره وفي تربيته، وتحت كنفه، فكان علي أول من أسلم من الشباب الصغار.
ومن المستجيبين في المرحلة الأولى: المولى زيد بن حارثة، الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم حينما جاء أبوه يطلبه: (إن شئت فأقم عندي وإن شئت فانطلق مع أبيك، فقال: بل أقيم عندك) فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم ببنوته؛ لأن أصل زيد ليس عبداً مملوكاً بل هو حر، لكن أمه أخذته وذهبت من بيت زوجها حارثة إلى بيت أهلها في غضب عائلي، أي: خلاف منزلي؛ لأن بعض النساء جاهلات ما أن يحصل بينها وبين زوجها أي خلاف إلا وتخرج، وهذا من نقص العقل، فلا تخرج المرأة من بيت زوجها إذا حصل شجار، يخرج الرجل ولا تخرج المرأة؛ لأنه إذا خرج يستطيع أن يعود، لكن أنتِ إذا خرجتِ، فمن يرجعك؟ وأهلها يقولون: لا ترجعي حتى يأتي هو يأخذك، وإذا اتصلوا به تعال خذها، قال: لا، الذي ذهب يرجع، والله ما آتي آخذها، وتبقى هي الضحية فلا تفكر المرأة بالخروج من بيت زوجها أبداً بأي خلاف، إلا إذا قررت أن لا حياة مع الزوج، بعد أن تدرس الموضوع دراسة متأنية، وتصدر قراراً نهائياً تعرف فيه أن هذا الزوج لا يمكن أن يكون لها زوجاً، أما لمجرد أي خلاف، خلاف عائلي يسير على مسألة البيت، على مسألة مع الأولاد، وعلى الفور أخذت عباءتها وفتحت (الشنطة) وأخذت أغراضها وخرجت، فمن الذي يرجعها؟! وبعض الأزواج -والعياذ بالله- سيئ الخلق فما أن يحصل بينه وبين زوجته شيء إلا ويقول: الباب يمشي منه الجمل، أي: إن كنتِ مثل الجمل اخرجي، هذا نوع من امتهان المرأة، فلا تريها الباب، اخرج وبعد ذلك ارجع، ومن أعظم الوسائل للقضاء على الخلافات المنزلية خروج الزوج، إذا رأيت الأمر محتدماً والنار مشتعلة بينك وبين العيال، فخذ (غترتك) وامش ويزول الخلاف، وسوف تدخل وإذا هي تضحك وأنت تضحك، لكن إذا جلست منك كلمة ومنها كلمة، وبعض النساء مسكينة ليس معها إلا أن تدافع عن نفسها بلسانها، لا تستطيع أن تضربك ولا أن تطلقك ولا أن تخرجك، فما عندها إلا هذا اللسان، وبعض الأزواج أناني يريد كل شيء له، يقول: اجعلي آخر كلمة لي أنا، لا تردين عليَّ، آخر كلمة أقولها إذا رديتِ أرد، وترد ويرد، وبعد ذلك يجد أن ليس عنده إمكانية، كلما قال كلمة قالت كلمة، فيريد أن يضربها، فإذا ضربها فبعض النساء تضارب، فإذا رأى أن السلاح عندها وعنده سواء، استعمل السلاح النووي وهو الطلاق، فتتحطم الأسرة، ويتشرد الأبناء، وينفرط عقد الحياة لماذا؟ لو فكر الإنسان لوجد السبب تافهاً، لكن أفضل الأمور إذا سمعت بمشكلة حصلت في البيت -وليس هذا انهزام، بل هو رجولة- فاخرج وسيخرج الشيطان، ثم عندما تدخل تقول: السلام عليكم، ذهب الخلاف واضحك وابتسم، (خيركم خيركم لأهله) وهذا ليس عاراً عليك، أفضل الناس الذي يعامل أهله بهذه الأخلاق.
فهذه أم زيد خرجت، وفي الطريق لقيها بعض الناس فضربوها وأخذوا ولدها وباعوه في السوق بيع الرقيق، واشترته خديجة من سوق مكة، ولما تزوجت النبي صلى الله عليه وسلم وهبته له، وبقي أهل زيد يبحثون عنه حتى علموا أنه بيع في مكة، وأتوا يسألون حتى وجدوه في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلوا عليه، وجاء القافّ الذي يعرف الأثر، وقال: هذا الرجل من هذا الرجل، وكانت العرب تعرف بالقيافة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا هو معكم إن أردتموه فهو لكم) وهذا من كرم الأخلاق، لم يقل: هذا عبدي مملوك عندي، لا.
إن كان يريد أن يذهب معكم فخذوه، فجاء زيد وخيره النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (إن شئت أن تقيم عندي وإن شئت أن تنطلق مع أبيك، قال: ما أنا بالذي أختار عليك يا رسول الله! فقال له أبوه: ويحك يا زيد! أتختار العبودية على الحرية؟ قال: نعم.
ما كنت لأختار على رسول الله صلى الله عليه وسلم) فلما قال هذا الكلام أكرمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأنعم عليه بقضية التبني، وخرج به على ملأ من قريش ونادى: إن هذا زيد بن محمد من هذا اليوم وليس زيد بن حارثة، ثم أبطل الله تبارك وتعالى هذا الشيء وأنزل: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5] فنادى صلى الله عليه وسلم وأخبر أن زيداً بن محمد قد عاد كما هو زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، هذا أول من أسلم من الموالي، وقد نزل فيه قوله عز وجل: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5] رضي الله عنه وأرضاه.
وقد قتل شهيداً في غزوة مؤتة، حين أمرّه النبي صلى الله عليه وسلم على المعركة، فكان زيد بن حارثة أميراً على الغزوة وهو مولى، وتحت إمرته جعفر بن أبي طالب، وجعفر ابن عم الرسول، فقال: (إن مات زيد فيأخذ الراية جعفر، وإن مات جعفر فيأخذ الراية: عبد الله بن رواحة، وإن مات عبد الله فالأمر شورى بين المسلمين) وفعلاً ماتوا الثلاثة في غزوة مؤتة وأخذ الراية بعدهم خالد بن الوليد رضي الله عنه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بموتهم وهو في المدينة يخطب يوم الجمعة، فقال: (قتل زيد وأخذ الراية جعفر ثم قال: ثم قتل جعفر وأخذ الراية عبد الله بن رواحة، ثم قال بعدها: قتل عبد الله وأخذ الراية سيف من سيوف الله خالد بن الوليد).
كان زيد هذا من أوائل الذين أسلموا في العهد الأول في الفترة السرية التي كانت في أول دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.(78/10)
أبو بكر الصديق وحادثة الإسراء
من الأوائل: أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وسمي الصديق لأنه يصدق من غير تردد، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما منكم إلا ودعوته فأخذ وفكر إلا أبا بكر) لا يعرف التردد، فما يقول الرسول شيئاً إلا وصدقه، وسمي بـ الصديق لكثرة تصديقه، ولقوة يقينه، وأطلق عليه ذلك اللقب بعد حادثة الإسراء؛ لأنه صدق بشيء لا يصدق إلا بالإيمان.
حادثة الإسراء كانت حادثة ذات منعطف خطير في حياة الدعوة؛ إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة، أسري به ثم عرج به يقظة لا مناماً بجسده وروحه، هذا هو المحقق عند العلماء من أهل السنة، أنه أسري به جسداً وروحاً وليس رؤيا منامية، الله يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] والعبد يقتضي الروح والجسد، وما قال: أسرى بروح عبده وأسري به من أين؟ من مكة المكرمة، إلى أين؟ إلى المسجد الأقصى الأسير الذي نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يخلصه من أيدي اليهود.
والمسافة من مكة إلى الأقصى شهر بالقوافل وأسري به صلى الله عليه وسلم إليه في طرف ليل، وكان يمتطي البراق، والبراق: دابة فوق الحمار ودون الفرس، لكن خطوته عند منتهى بصره، مثل البرق، حتى وصل، وهناك صلى بالأنبياء ثم صعد في المعراج وعرج به إلى أن بلغ سدرة المنتهى، وفرضت عليه هناك الصلوات الخمس، ثم عاد وركب البراق ووصل مكة في نفس الليلة.
وحينما نحدث به اليوم يمكن أن نقبله؛ فقد ابتكرت من وسائل النقل ما يقارب هذه، بإمكان الواحد أن يذهب بالطائرة من جدة إلى الرياض أو من جدة إلى بيت المقدس ويعود في نفس الليلة وينام في داره.
لكن لو حدثنا بهذا قبل زمن، هل يمكن أن تصدق لو قيل لك: هناك حديدة طويلة يركب فيها أربعمائة من الرجال بعفشهم وعوائلهم وترتفع في الليل من الأرض وتصل إلى الرياض خلال ساعة، هل تصدق؟ والله لو ما ركبنا فيها ما صدقنا، فكيف يكون هذا الحديث كأنها مربوطة بحبل وتنظر في الليل وترى الجبل والسهل، لا تعلم عن شيء إلا وأنت قد وصلت، لكن هذا حصل، فلو حدث الناس في هذا الوقت بهذا الأمر يمكن يُقبل، لكن الناس في ذلك الوقت لا يعرفون من وسائل الاتصال والنقل إلا البعير والحصان والحمار والجمل، وهذه الوسائل البدائية التي تقطع الطريق شهراً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: إني ذهبت وعدت في نفس الليلة، وليست الرحلة فقط في الأرض، بل قال: ثم إلى السماء، فلما أخبر الصحابة والناس في الصباح حصل نوع من الرجة، وسمع المشركون وقالوا: والله ما بقي إلا هذه، نقطعها شهراً ذهاباً وشهراً إياباً وأنت تأخذها في ليلة! ثم جاءوا يشككون الصحابة وكل واحد وقف، وجاءوا إلى أبي بكر الصديق وأرادوا أن يهزوه؛ لأن اهتزاز أبي بكر يعني هزة الجميع، وثبات أبي بكر يعني ثبات الجميع قالوا: أو ما سمعت ما يقول صاحبك؟ قال: وماذا يقول؟ قالوا: يقول: إنه أسري به البارحة من بيت أم أيمن في مكة إلى بيت المقدس، وعرج به إلى السماء حتى وصل السماء السابعة، ثم نزل وأصبح في بيت أم أيمن، قال: [إن كان قال ما قال فقد صدق] اللهم صلِّ على رسول الله.
إنها قضية تجرد، قضية تسليم العقل إذا وجد التعارض، ما دام قال الرسول الصادق إذاً صدق ولو لم يصدقه عقلي، فسمي من ذلك اليوم بـ (الصديق).
وحتى لا يهتز ذوو الإيمان الضعيف كان هناك دلائل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلاً ذهب إلى بيت المقدس ورجع، فقد جاء المشركون في عملية زعزعة وقالوا له: صف لنا بيت المقدس، والنبي صلى الله عليه وسلم كانت رحلته قصيرة، ومهمته محدودة، صلى بالأنبياء وصعد، وما جلس يتفقد بيت المقدس يعني: أنتم الآن في هذا المجلس كل شهر وأنتم تحضرون، لو سألتكم: كم عدد الأعمدة في هذا المسجد؟ ربما لا تعلمون، وكذلك كم فيه نوافذ؟ كم فيه أبواب؟ ونحن شهود جالسون؛ لأن هذا لا يسترعي انتباهنا حتى نجلس نحدده، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما جاء من أجل أن يكشف على المسجد، ويستعرض الأبواب والنوافذ والأعمدة، جاء ليؤدي رسالة وصعد، فقالوا له من باب الامتحان: صف لنا بيت المقدس، فالله عز وجل طوى له الأرض وكشف له بيت المقدس أمامه وهو في مكة، فجلس يصفه عموداً عموداً، واسطوانة اسطوانة، وباباً باباً، ونافذةً نافذةً، كأنما يراه، عامل المكان اختصر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يؤمنوا، بل قام أحدهم قال: عندما ذهبت في الليل هل رأيت قافلتنا الآتية من الشام؟ كيف أراها وأنا ذاهب في الليل؟! الذي في الليل لا يري الذي في الأرض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم رأيتها، يقدمها جمل أورق عليه غرارتان حمراوان، تأتيكم يوم كذا قبل صلاة المغرب وبعد العصر، ورأيتها في المكان الفلاني) كيف رآها الرسول صلى الله عليه وسلم؟ الله أوحى إليه في اللحظات التي كانت في ذاك المكان، ولما كانوا ينتظرون بالدقيقة والساعة إذا بالقافلة آتية والجمل أمامها، وسألوا الذي مع القافلة في تلك الليلة أين كنتم؟ قالوا: كنا في المكان الفلاني، الذي حدده الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن هل آمنوا؟! لا.
يقول الله: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146] لم تكن البراهين والدلائل غير كافية، بل لقد كانت كافية لكن الذي لا يريد أن يستمع كيف تفعل به؟ عندما تقول لشخص: هذا (ميكرفون) فيقول لك: لا، هذه سيارة حيرتني، هذا -يا أخي- (ميكرفون) وليست سيارة، فيقول: انظر هذا الكفر حقها وهذا فكيف تقنعه؟ فما ينبغي للإنسان أن يكابر، ولهذا سمي الكفار كفاراً؛ لأنهم يغالطون ويغطون الحقائق؛ فإن الكفر في اللغة: هو التغطية والستر، فالكافر يغطي الحقيقة ويكتمها وأبو بكر الصديق رضي الله عنه سُمي الصديق من يومه ذلك رضي الله عنه وأرضاه.(78/11)
فضل أبي بكر وجهده في الدعوة إلى الله
قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت) هذا الحديث رواه البخاري، وهو كالنص على أنه أول من أسلم؛ لأن سبب الحديث حصول خلاف بسيط، فجاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكيه، فقال: (يا عمر! إن الله بعثني نبياً، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت) وقال عليه الصلاة والسلام: (ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد)، أي: يقدم رجلاً ويؤخر أخرى (إلا أبا بكر ما تردد حين ذكرت الإسلام له) بل قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ذكره ابن إسحاق في السير والمغازي.
وفي إطار هذه السرية التي كانت تحيط بالدعوة في بدايتها، تحرك كل واحد من هؤلاء الذين أسلموا في الوسط الذي يحيط به، فتحرك أبو بكر الصديق وكانت له أبرز حركة؛ لأنه صاحب نفوذ وصاحب مال وصاحب شخصية، له شخصية مرموقة، وله وقار وهيبة، فتحرك في أقاربه وفي أصدقائه، واستجاب له نفر كريم من الصحابة الكرام منهم ستة من العشرة المبشرين بالجنة، أسلموا على يد أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وهم: - عثمان بن عفان، الخليفة الراشد الثالث رضي الله عنه وأرضاه.
- الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه.
- طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه.
- سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه.
- عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه.
- عثمان بن مضعون رضي الله عنه وأرضاه.
- أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه.
- أبو سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنه وأرضاه.
الله أكبر! كل هؤلاء إنتاج أبي بكر، ما أعظم هذا الرجل! كيف كان يؤثر بهذا القدر وبهذه الضخامة! لأنه كان صادقاً، ودائماً الصادق في عمله الذي يؤديه بصدق له تأثير وله خصوصية في فتح قلوب الناس، دائماً كلما كنت صادقاً وصاحب صدق مع الله يجعل الله في عملك بركة، ويضاعف لك الثواب؛ لأنك صادق وجاد، وهكذا كان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.
ومن خلال هؤلاء الكرام الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق أخذ الإسلام ينتشر في مكة وفي خارج مكة، ودخل في الإسلام أناس كثير من بطون قريش ومن مواليها خاصة، وأتباع الرسل دائماً من المستضعفين والموالي؛ لأنهم يجدون في الدين ما يعيد لهم شيئاً من حريتهم وكرامتهم وعزهم، أما أصحاب العظمة وأصحاب المال وأصحاب المكانة، فإنهم يترددون في قبول الدين؛ لأنه يردهم إلى مكانهم الصحيح، وهم يريدون أن يمارسوا الطغيان والتسلط، والكبرياء والغطرسة على الضعفاء، فإذا جاء الإسلام، وقال: الناس سواسية، رفضوا هذا، إلا من كان منصفاً منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وممن اشتهروا بين السابقين في الإسلام من الموالي: بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه، وقد أسلم على يد أبي بكر، وصهيب بن سنان، وعمار بن ياسر ووالده ياسر وأمه سمية بنت خياط، هؤلاء من الموالي الذين أسلموا في بداية الدعوة على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي فترة وجيزة وصل عدد الذين سبقوا إلى الإسلام من بطون قريش إلى أكثر من خمسين نفراً في فترة يسيرة، مع الحركة المنظمة المرتبة، التي كانت تحمل الإخلاص من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قبل أبي بكر الصديق، ومن قبل خديجة، ومن قبل الصحابة الذين أسلموا في البداية، انتشر الإسلام قليلاً حتى أصبحوا أكثر من خمسين رجلاً.
وقد ثبت أن ورقة بن نوفل الذي ذكرنا أنه ابن عم خديجة في الدروس الأولى، جاءت إليه خديجة لتخبره بما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم، وثبت أنه أسلم وكان من المسلمين الأول، وذلك بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيته وعليه ثياب بيض، فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض) رواه أحمد في المسند، وعلق عليه صاحب الفتح الرباني وصحح إسناده، وقال صلى الله عليه وسلم في روايه أخرى: (رأيته وعليه ثياب بيض في بطنان الجنة وعليه السندس) رواه ابن كثير وحسنه أبو يعلى في الطبقات، وقال: (لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين) وقال عليه الصلاة والسلام: (يبعث ورقة يوم القيامة أمة وحده) فكل هذه الأدلة تدل على أن الرجل مات مسلماً.(78/12)
السابقون إلى الإسلام كانوا خيرة أقوامهم
يتضح -أيها الإخوة- من سجل أسماء السابقين إلى الإسلام أنهم كانوا خيرة أقوامهم، ولم يكونوا كما يذكر بعض الناس أنهم كانوا خليطاً من الضعفاء والمستضعفين والأرقاء؛ بل كانوا من خيار الناس حتى ولو كانوا موالي، وهم أصحاب عقول وبعد نظر وشجاعة وثبات على الحق؛ إذ أنه مورس في الإسلام عليهم ضغط كبير، ومع هذا لم يتزعزعوا، ولم يكونوا نفعيين، ولا أسلموا من أجل المصلحة، ولو كانوا لما صبروا على ما أوذوا.
بلال بن رباح أوذي أذىً لا يعلمه إلا الله كان يجرد من ثيابه، ويخرج به إلى الرمضاء في مكة، وحرارة مكة في الصيف لا يتحملها أحد، ثم يخلس من ثوبه، ثم يؤتى به على الأرض التي تشع مثل النار، ثم يوضع على صدره الحجارة، ثم يسحب جلده على الأرض وما بينه وبين الأرض شيء، على أن يرجع عن دين الله، فيقول: أحد أحد ما رأيكم في هذا الرجل؟ هذا قمة في الإيمان وجبل في الدين، ما ثبت على هذا إلا لعظمته في قلبه، حتى قال عليه الصلاة والسلام له: (إيه يا بلال إني لأسمع خشخشة نعليك في الجنة، فماذا تعمل؟ قال: لا شيء يا رسول الله! غير أني كلما أحدثت توضأت، وكلما توضأت صليت لله ركعتين) طاهر دائماً لا يرضى أن يكون على حدث، وهذا فيه إشارة إلى أن المسلم دائماً يكون على وضوء؛ لأن الوضوء سلاح المؤمن، كلما أحدثت لا تخرج وأنت على حدث بل توضأ ولا يكلفك شيئاً، وذلك لأنك قد تفاجأ بالصلاة أو بمصحف تقرأ فيه، أو تفاجأ بأي أمر وإذا بك جاهز، الوضوء سلاح المؤمن، فكن دائماً طاهراً، وإذا جئت لتنام فنم على طهارة، وإذا خرجت من بيتك فكن طاهراً، لا تبقى على حدث لا أصغر ولا أكبر؛ لأنك بهذا تكون جاهزاً ومستعداً لممارسة أي نوع من أنواع العبادة ولا تتردد، فقد تمر على مسجد وترى الناس يدخلون فتدخل، ولا يوجد ماء لكن أنت متوضئ والحمد لله.(78/13)
الدروس المستفادة من مرحلة الدعوة السرية
هناك -أيها الإخوة- بعض العظات والحكم والعبر التي نستخلصها من هذا المقطع من مرحلة الدعوة السرية: أولاً: إلهام الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل ربه بأن يبدأ الدعوة سراً، وذلك إرشاد له وإرشاد للدعاة من بعده، إلى وجوب الأخذ بالحيطة وممارسة الأسباب، إذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم مدعوم بقوة الله ولو بدأ الدعوة جهراً فإن الله سيحفظه، ولن ينالوا منه شيئاً، لكن لبيان منهج الإسلام في الأخذ بالأسباب والاعتماد على مسبب الأسباب، وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان معه ناقة فقال: (يا رسول الله! أطلقها وأتوكل، أم أعقل وأتوكل؟ فقال له: بل أعقلها وتوكل) خذ بالسبب ثم توكل على الله عز وجل؛ لأن ترك الأسباب قدح في العقل، والاعتماد على الأسباب نقص في الدين، إذا اعتمدت على السبب فهذا نقص في الدين، وإذا تركت السبب فهو نقص في عقلك.
يأتي أحدهم ويقول لك: كل، فتقول: لا أريد أن آكل، لماذا؟ أكلت أو ما أكلت الحياة بيد الله، وأنا إذا أكلت لن يزيد عمري، وإذا ما أكلت لن أموت، نقول له: ستموت غصباً عنك؛ لماذا؟ لأن من سنن الله الكونية أن تأكل من أجل أن تعيش، أما إذا لم تأكل فستموت، أتريد أن يغير الله سننه من أجل خاطرك أنت؟! لا.
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62] والله يخبرنا في القرآن أن عيسى عليه السلام يقول لأمه مريم عليها السلام، وهي في حالة المخاض: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم:25] كان يكفي أن تساقط الرطب من غير هز؛ لأن الذي أنبت الشجرة وأعطاها قادر على أن ينزلها من غير هز، لكن الأخذ بالأسباب من أجل أن تعمل هي، تهز النخلة فينزل الرطب.
والوحي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبدأ الدعوة سراً، ففيه دليل على مشروعية الأخذ بالحيطة، وممارسة الأسباب الظاهرة، وما يقرره التفكير والعقل السليم من الوسائل المفيدة، التي تعمل على إنجاح الدعوة، وعلى عدم الزج بها في مواجهات خاسرة وغير منتصرة، خصوصاً عند ضعف الدعوة.
فبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته سراً، وهذا لا يخدش في إيمانه، فضلاً عن أنه يتنافى مع طبيعة الدعوة إلى الإسلام.
العظة الثانية: يقول جمهور العلماء: إن المسلمين إذا كانوا في قلة من العدد أو ضعف من العدة، بحيث يغلب على ظنهم أنهم سيقتلون، من غير أن يكون هناك نكاية في أعدائهم، فينبغي أن تقدم هنا مصلحة حفظ النفس؛ لأن المصلحة المقابلة هي مصلحة حفظ الدين، وهي موهومة أو متوقعة أو منفية الوقوع، وهذا ما يقرره العلماء، وقد قرره الشيخ / العز بن عبد السلام يقول أحد العلماء في تعليقه على هذا القول: إنه من حيث حقيقة الأمر ومرماه البعيد، فإنها في الواقع مصلحة دينية، إذ أن مصلحة الدين تقتضي أن تبقى أرواح المسلمين سليمة، لكي يتقدموا ويجاهدوا ويستمروا في الدعوة؛ لأن في هلاكهم إضراراً بالدين، وفسحاً للمجال أمام الكفرة ليقتحموا ما كان مسدوداً بوجود المسلمين، وهو بهذا يعني: أنه إذا عُرف أن المصلحة ليست في القتال؛ لأن المواجهة معروفة ومكشوفة لنا، إذ أن العدد قليل، والعدة غير كافية، وأن المواجهة ستقضي على المسلمين، إذاً لا داعي للمواجهة؛ لأن ذلك من مصلحة دين الله عز وجل؛ ليبقى في وجود المسلمين قانون يسمونه (قانون التدافع) وهو قول الله عز وجل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ} [البقرة:251]، فيدفع الكفر بالإسلام، فيبقى الكفر موجوداً والإسلام موجوداً، هؤلاء يعملون وهؤلاء يعملون، لكن إذا واجهت الكفر وليس عندك إمكانية للمواجهة، وقضى عليك، خلت الساحة للكفار، ولم يعد هناك شيء من التدافع الذي يرفع الفساد؛ لأن الله يقول: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ} [البقرة:251] ما دام الخير يدفع الشر يحصل فيه أيضاً صلاح، لكن إذا خلا الجو للشر ظهر الفساد في البر والبحر بما تكسب أيدي الناس من الفساد والعياذ بالله! هذه هي المرحلة الأولى وهي الدعوة سراً.(78/14)
المرحلة الثانية: الدعوة جهراً
لقد بدأت بقول الله عز وجل: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] حيث خرج النبي صلى الله عليه وسلم وصعد الصفا وهتف: (يا صباحاه) فقالوا: من هذا؟ فاجتمع إليه كل قريش، ثم قال: (أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب عليه اللعنة: تباً لك ألهذا جمعتنا؟! فنزل قول الله عز وجل: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:1 - 4]) هذا الحديث في الصحيحين، وكانت هذه الصيحة العالية هي غاية البلاغ لقريش، وقد فاصل النبي صلى الله عليه وسلم قومه في الدعوة، وأوضح لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو مقدار الصلة بينه وبين الناس، وأن عصبية القرابة والصلة التي كانت تقوم بين العرب قد زالت في ظل حرارة الإيمان، والإنذار الآتي من عند الله.(78/15)
فوائد ودروس من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم
من هذا نقتبس -أيها الإخوة- بعض الفوائد، ومنها: إن الموقف السلبي لعشيرة النبي صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة، وللعرب القرشيين بصفة عامة من الدعوة في هذه الفترة، فيه رد على من يحاول أن يصور هذا الدين وأن نجاحه كان نتيجة العصبية القومية، ويزعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما كان يمثل بدعوته الدعوة القومية والعصبية، وهذا باطل؛ لأن بعض القوميين العرب حينما بدأت الدعوة القومية -لكن الحمد لله ماتت في مهدها في فترة من الفترات قبل حوالي ثلاثين أو أربعين سنة- نادى الناس بـ القومية العربية والاجتماع حول العروبة وترك القومية الدينية، وقالوا: نحن نبدأ حضارتنا من العرب، وضيعوا على المسلمين مجداً عظيماً هذا فيه رد؛ لأن موقف العرب من الرسول صلى الله عليه وسلم، كان: الرفض والمحاربة والسلبية، ومع هذا انتصر دين الله عز وجل.
إذاً: في تباطؤ الناس عن دين الله، فيه دليل على قوة وتغلغل العادات والتقاليد في المجتمعات التي تعيش فيها ردحاً من الزمن، وهذا وضع يواجهه الدعاة.
يا أخي في الله! ليس من السهل أن تأتي على مجتمع تعارف على شيء من التقاليد والأعراف والعادات، وتريد أن يغيرها الناس بجرة قلم، لأن الناس تعودوا عليها واعتادوها، ولذا من الصعب أن يتركوها، ولذا تواجه أنت وعندك هذا الشعور وهذا الحس أنك تمارس عملاً عظيماً، وعندما يخبو صوت الدعوة المهتدية بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، نجد أن هذه العادات تنشط، لكن إذا بدأت الدعوة المهتدية بالهدي النبوي وبالنور الرباني وبالحكمة؛ فإن هذه العادات والتقاليد تختفي وتزول، لكن تحتاج القضية إلى وقت وإلى صبر، أما المواجهة بسرعة والتوقع للاستجابة الفورية فهذا غير وارد.
أيضاًَ من العبر في هذا المقطع بالذات: أن في خصوصية الأمر بإنذار العشيرة إشارة إلى درجة المسئولية بالدعوة، وأنها تتعلق بكل مسلم، خصوصاً الدعاة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحمل المسئولية تجاه نفسه أولاً، لكونه مكلفاً بعبادة الله عز وجل، ثم تجاه أسرته وأهله لوصفه رب الأسرة والمسئول عنها، ثم تجاه أقاربه وعشيرته لكونه ملاصقاً لهم ومخالطاً لهم، وبينهم وبينه علاقات، وتربطه بهم روابط، فعليه مسئولية أعظم مما على الآخرين البعيدين عنهم، ويشترك مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسئولية كل مسلم مكلف، إذ على المسلم أن يبدأ بنفسه، ثم ينتقل في الخطوة الثانية بمسئوليته تجاه أولاده وزوجته وبناته ووالديه.
وإن دعوة الوالدين تحتاج إلى نوع من اللين والرفق والدراية؛ إذ من الصعب أن يقبل الوالد من ولده لماذا؟ لأن الوالد يعرف الولد بمدى زمني بعيد، يعرفه وهو طفل يؤذي، ويعرفه وهو يدخل المدرسة ويمر بفترة زمنية، ثم يفاجأ به في لحظة من اللحظات وإذا به يوجهني ويعلمني الدين، ويدعوني إلى الإسلام، يقول لي: اتق الله! أعرف هذا اللّعاب من زمن! ولذلك لا يقبل الأب ويرفض ويقول: أنت تعلمني! وربما يضربه.
ولهذا انتبه! إذا أردت أن توجه نصيحة للوالد فلا توجهها من مكان التعالي والشعور بالأستاذية، أو أنك تعلم أباك وهو الجاهل، حتى لو كان عندك شهادة وأبوك لا يحمل أي شهادة فإنه يحتقرك؛ لأنه يعرفك وهو الذي جاء بك.
فعليك أن تعطيه الدعوة لكن تقدمها في قالب مقبول محبوب، تقول: يا أبتي! أنت أعرف مني، وأفضل مني وأنا أستحي وأقول: عيب علي إن أعلمك وأقول لك هذا الكلام، لكن من باب الفائدة، وهذه الفائدة أنا ما أخذتها إلا منك إذا قلت له هذا الكلام، فسيقول: نعم يا ولدي جزاك الله خيراً! ويقول: لا يا ولدي بارك الله فيك، أنا يعجبني هذا الكلام، أنا أكون مسروراً عندما تأتيني نصيحة من ولدي لماذا؟ لأنك أعدت له مكانته وأشعرته بكرامته، لكن عندما تجرده من الكرامة وتشعره بأنك أحسن منه، وأنه جاهل، وتقول له: أنت لم تعرف شيئاً، فيقول: اذهب أنت ودراستك، أنت أصلك ما تفهم، ويغضب ويتصدى لك ويقف في وجهك هذا الأب وكذلك الأم.
إذاً: القضية قضية دقيقة جداً، لابد أن يكون فيها إحساس، لا تخرج الكلمة إلا وأنت تعرف أن لها مكاناً في قلوبهم وإلا فقف؛ لأنه ربما أفضى تعليمك لهم بأسلوب غير صحيح إلى حملهم على أن يتخذوا موقفاً، وربما يخرجون به من الدين وأنت لا تدري، وتكون السبب أنت، ولنا في إبراهيم عليه السلام أعظم الأثر والاعتبار وهو يقول لأبيه: يا أبت! أربع مرات {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ} [مريم:45] {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ} [مريم:44] {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ} [مريم:43] انظروا كيف الأدب في العبارة! قال: إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك، أي: إن عندك علماً لكن ما أتاك العلم الذي عندي، ما قال: أنت جاهل وما عندك علم، بل قال: ما لم يأتك، وفي العبارة هذه إيحاء إلى أنه جاءك علم لكن الذي جاءني ليس عندك، بمعنى: أنا عندي علم وأنت عندك علم يمكن أكثر من الذي عندي فاتبعني، بعد ذلك {أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} [مريم:43] وفي كلمة: "يا أبتِ" نوع من التلطف والترقق وحسن العبارة حتى يدخل في قلب أبيه.
فابدأ -يا أخي- بأبيك وبأمك، وأعظم مجال تستطيع أن تدخل به قلب أمك وأبيك الخدمة والعطاء والبذل؛ لأن الحياة مأخوذة على المعاوضة، فأعط أباك خدمة في البيت وتواجد باستمرار في البيت، وبراً وطاعةً، ولا أزال أذكر قصة أكررها للعظة والعبرة وهي: ملخص القصة: أنه جاءني شاب وأنا في أبها يشكو لي عناد أمه، ووقوفها في وجه الدعوة، فسألته: من يخدمكم في البيت؟ من يقوم بالطبخ والغسيل والكوي؟ قال: أمي، قلت: أريد أن أوصيك وإن شاء الله تنفذ وصيتي، قال: نعم.
قلت: أولاً: لا تدعها إلى شيء من الدين أو الحجاب، فإن الحجاب ليست متمسكة به؛ لأنها لا تعرفه، فقلت له: لا تدعها إلى الحجاب ولا إلى غيره واعمل بوصيتي، قال: حسناً ماذا أصنع؟ قلت: إذا أكلتم وتغديتم وقمتم من السفرة لا تغسل وتذهب لتنام، وإنما اجلس أنت واجمع الصحون ولف السفرة واذهب بها إلى المطبخ، واغسل الصحون أنت بدل أمك، سترفض هي، لكن قل لها: والله ما أغسلهن إلا أنا، فإذا قمت في الصباح قبل أن تذهب الكلية نظف غرفتك، ونظم فراشك، ونظم السرير والبطانية حقك، وراجع دروسك واخرج من الغرفة وهي مرتبة، إذا رأيت أمك تكنس بالمكنسة الكهربائية فقل لها: والله ما أكنس إلا أنا، أريد أن أتعلم نوعاً من الخدمة، واستمر على هذا، ثم أعلمني بالنتيجة بعد ذلك.
يخبرني فيما بعد ويقول: ذهبت إليها، ومن يوم تغدوا كان من قبل يتغدى ثم يغسل ويذهب لينام، لكن هذه المرة جلس حتى قاموا كلهم وهو جالس، فقالت له أمه: قم، قال: لا، أنا اليوم أريد أن أتعلم كيف أغسل الصحون؛ لأني غداً سأصبح عزوبياً، غداً أسافر وأحتاج أن أتعلم، وهذا نوع من الرياضة كوني أغسل الصحون، وأتحرك أحسن من النوم، قالت: لا يا ولدي، الصحون لا يغسلها الرجال، لا يغسلها إلا الحريم، قال: لا والله ما أغسلها إلا أنا، وحمل الصحون ودخل المطبخ وبدأ يغسلها وينظفها، وبعد ذلك في الصباح نظف غرفته، ثم رآها تكنس فقام يكنس مكانها، رآها تكوي يكوي معها ويخدمها، فأحبته لهذا الخلق فأصبح عينها، وبعد ذلك تريد رضاه بأي وسيلة، كان إذا ذهب يصلي يقول لإخوانه: انهضوا صلوا، تقول أمه: ما عليك منهم، صلِ وإلا اجلس، مالك دخل بهم، لما صار يغسل الصحون ويقوم يصلي من أجل تجامله تقول لإخوانه: قوموا صلوا مع أخيكم، هو يصلي وأنتم لا تصلون، من باب المجاملة مرة ومرتين واستمر، وأخيراً قالت له يوماً من الأيام: يا ولدي! قال: نعم.
قالت: ما رأيك إني أستحي من الرجال والناس يأتون إلينا، ما رأيك أتغطى؟ قال: هذا أمر يخصك، قالت: لا والله إني أعرف أنه يؤذيك وأنك غير راضٍ لكنك تستحي، الله يديمك، لكن أعاهدك ألا أكشف على أحد.
الله أكبر! وبعد ذلك صارت تدعو له وتقول: الحمد لله الذي هدى ولدي كي يغسل الصحون، هذه هي الهداية التي عندها، قبل يوم لم يكن يغسل الصحون ولم يكن مهتدياً، لكن لما أصبح باراً ويغسل الصحون عندها هو المهتدي.
فكذلك -يا إخواني- إذا أردنا أن ندعو الآباء والأمهات يجب أن نخدمهم؛ لأننا إذا خدمناهم أخذنا منهم الحب، وبادلونا بالشعور، وفرحوا بالدعوة التي ربتنا هذه التربية، لكن بعض الشباب ما أن يهتدي حتى يقلب ويعكس المرآة لأهله، ولم يعودوا يرونه أبداً أين أنت؟ عندي محاضرة عندي درس مع الإخوة عندي معسكر عندي مخيم خذنا إلى المستشفى، قال: أنا مشغول أعطنا حاجات، قال: عندي زميلي ماذا سيقول أبوك؟ سيقول: الله يقلعه، والله من يوم اهتدى ما نحصل منه على مصلحة.
فيكره الدعوة ويكره الدين.
لكن لو أنه إذا اهتدى الولد لصق بأبيه وخدمه لقال: الحمد لله، الله يوفق الولد، ما رأينا بركته ولا مصلحته إلا من يوم أن هداه الله، فيحب أن يهتدي جميع أولاده.
فهذا -أيها الإخوة- ضمن مسئولية الشاب تجاه والده ووالدته، وتجاه أسرته القريبة، وهذه هي المرحلة الثانية من مراحل الدعوة، وهي الدعوة جهراً، لكن في محيط العشيرة والأقربين.
ونكتفي بهذا، وسوف نواصل -إن شاء الله- الدروس المباركة، ولكن بعد انتهاء العطلة الصيفية، فسوف تتوقف هذه الدروس خلال شهر اثنين وثلاثة وأربعة لعدم وجودي في المنطقة، وسأكون في أبها -إن شاء الله- خلال فترة الصيف، وستبدأ هذه الدروس -إذا أحيانا الله جميعاً- في نهاية الشهر الخامس بإذن الله عز وجل.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يجنبنا جميعاً كل شر، وأن يرزقنا العظة والاعتبار بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يوفق ولاة أمورنا وعلماءنا ودعاتنا وجميع شبابنا وجميع المسلمين إلى خدمة هذا الدين، والحرص عليه والدعوة إليه، والتمسك به، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(78/16)
وصايا أخيرة ودروس تربوية
الدرس الأول: المبادرة إلى الصلاة مع الأذان لأن أي انتظار بعد الأذان من وحي الشيطان، إذا سمعت داعي الله فأي وسوسة تأتي في قلبك بأن تصبر قليلاً، وتنتظر قليلاً، فإنما هي من الشيطان؛ لأن الدعوة من الله، الدعوة (حي على الصلاة) من الله، والدعوة ضدها بالجلوس من الشيطان، فلا تطع الشيطان، بل عندما يقول: الله أكبر، تقول: الله أكبر، توكلنا على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، وتقوم وتشد عزمك، وليس شهراً واحداً بل مدى حياتك حتى تلقى الله.
الدرس الثاني: الصدق وترك الكذب حتى في الصغيرة؛ لأن الكذب يكتب حتى الكذيبة التي يسمونها الكذب الأبيض هذه كذب، فلا تكذب.
الدرس الثالث: وهنا درس تربوي جديد، ونريد -إن شاء الله- أن نتمسك به وليس فيه صعوبة، وهو: تلاوة ورد يومي مقرر من القرآن الكريم، لا يقل عن جزء واحد، أن تقرأ يومياً جزءاً فهذا سهلٌ جداً، هناك أناس يمكن أن يقرءوا عشرة أجزاء، ومن كان له ورد أكثر من هذا فبارك الله فيه وليستمر وليس معنياً بكلامنا، كلامنا الآن ليس معنياً به من عنده ورد يومي يأخذ ثلاثة أجزاء فتراه ينزل إلى جزء، أو يظل على ثلاثة، بل يظل على ثلاثة، وإنما نعني بالجزء لمن لا يقرأ القرآن إلا نادراً؛ لأنه سيكون موضع شكوى من قبل النبي صلى الله عليه وسلم: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30].
كتاب أنزله الله للتدبر والتلاوة، لك بكل حرف تقرؤه من الحروف عشر حسنات (لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) ثلاثون حسنة في هذه الثلاثة الحروف: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فيها ستة وستون حرفاً إذا قرأتها مرة فإن لك ستمائة وستين حسنة الفاتحة فيها مائة وخمسون حرفاً، إذا قرأتها مرة فإن لك ألفاً وخمسمائة حسنة الصفحة الواحدة فيها ستمائة حرف، إذا قرأت صفحة من القرآن لك ستة آلاف حسنة أيُّ تجارة أعظم من هذه التجارة يا إخواني؟! فنريد أن نأخذ بالحد الأدنى مثلما قال العلماء: إن أقل معدل يمكن أن يسلم الإنسان فيه من أن يكون هاجراً للقرآن أن يقرأ القرآن في كل شهر مرة، وبعض السلف كان يقرأ القرآن في كل عشرة أيام مرة، وقرأه بعض الإخوة في كل أسبوع مرة، وكان يقرأ بعضهم في كل ثلاثة أيام مرة، ومن السلف من قرأ القرآن في اليوم الواحد مرة، ومنهم من كان له في كل يوم ختمتان؛ ختمة في الليل وختمة في النهار، وقد تستغربون من هذا، لكن لا تستغربون؛ لأنه كان في أوقاتهم بركة وكان في أعمالهم خير، لكن نحن الآن مشغولون؛ شغلتنا بطوننا، وشهواتنا، وحاجاتنا، وأسواقنا، وذهابنا، وإيابنا، أما هم فما عاشوا إلا لدين الله عز وجل، فنريد -أيها الإخوة- أن نلتزم بهذا القدر إن شاء الله في كل يوم نقرأ جزءاً.
وقد رتب بعض الإخوة ترتيباً لهذا، يقول: إن الإنسان إذا جاء قبل إقامة الصلاة في الخمس الصلوات وقرأ ورقتين فقط، أي: أربع صفحات في خمس صلوات، فسيكون هناك عشر ورقات وهو جزء كامل، فالذي يأتي قبل كل صلاة ويقرأ ورقتين هذا في يومه سيقرأ جزءاً، المهم كما تريد أنت، عليك جزء فقط، تريد أن تأتي به في صلاة واحدة أو في خمس صلوات، المهم لا تنزل عن هذا المعدل، تريد أن تقرأ جزأين أو ثلاثة فخير كبير، ومن زاد زيد له، والذي يريد حسنات أكثر يقرأ أكثر، ويقال يوم القيامة كما جاء في الصحيح لقارئ القرآن: (اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك في الجنة عند آخر آية تقرؤها) فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن.(78/17)
الأسئلة(78/18)
وصايا على أبواب الاختبارات
السؤال
تعلمون أن الاختبارات على الأبواب، فهل من دعوة للطلبة للتسديد والتوفيق؟
الجواب
نعم، ندعو الله الذي لا إله إلا هو أن يعين أبناءنا الطلبة وإخواننا على أداء امتحاناتهم، وأن يرزقهم النجاح في الدنيا والآخرة، ولكن نوصيهم: أولاً: بتقوى الله، فإن تقوى الله عز وجل أكبر معين على مذاكرة الدروس، يقول الله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ} [البقرة:282] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد:28] والشافعي يقول في بيتين من الشعر:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي
ومن أسباب عدم القدرة على هضم العلم المعاصي؛ فإن المعاصي تغلب القلب فلا يعرف العلم، فعليك إذا أردت أن يفتح الله بصيرتك، وأن يفتح الله ذكاءك، أن تكون طائعاً لله متقياً له، حافظاً لحدوده ومجتنباً لمحارمه.
ثانياً: على الطلبة تجنب الغش، فإن الغش حرام مهما كان، لو رأيت كل الصالة تغش فلا تغش: (من غشنا فليس منا) ويترتب على حرمة الغش حرمة الشهادة التي تأخذها، ويترتب على حرمة الشهادة حرمة الوظيفة التي تنالها؛ لأنه ما بني على الحرام فأساسه حرام، إلا من عمل هذا جاهلاً ثم تاب؛ فإن التوبة تجب ما قبلها، لكن تعملها وأنت تدري ثم تقول بعد ذلك: إذا نجحت من الامتحان تبت، لا، أنت تعصي الله على بصيرة والعياذ بالله! ثالثاً: ينبغي للطلاب بذل الجهد واستنفاذ طاقة المذاكرة، وعدم تضييع الأوقات، ووضع جداول وبرامج محددة، كأن تأتي بجدول الامتحانات أمامك، ويوم السبت الموافق: 9/ 2/ تبدأ بمادة كذا وكذا، والأحد كذا وكذا، والإثنين كذا وكذا، تضع جدول للمذاكرة قبلها بثلاثة أسابيع، الأسبوع الأول: أذاكر في يوم السبت المادة التي في يوم السبت، وفي الأسبوع الثاني أراجعها مرة ثانية، وفي الأسبوع الثالث أراجعها مرة ثالثة، ويأتي يوم الامتحان فتراجع المرة الرابعة، وإذا بها مطبوعة في ذهنك، لكن بعض الشباب يضيع الوقت إلى ليلة الامتحان، ثم يأتي يذاكرها مذاكرة واحدة فتتبخر، فيدخل الصالة وليس معه حرف واحد، فلا بد من المراجعة بالتكرار؛ لأن التكرار يؤكد المعلومة في ذهن الإنسان.
أيضاً احذر من السهر، فإن السهر الطويل الممل والمتعب خاصة في الليل، يأتي الشخص فينام ساعة ثم يذهب ليذاكر، فيذهب وهو مقفل (الموجات) نائم، وهذا مجرب، فعليك أن تذاكر في النهار كله وتذاكر جزءاً من الليل ثم تنام، وبعد ذلك تقوم وأنت نشيط قد ذهب منك النوم والكسل، فتؤدي الامتحان -إن شاء الله- بنشاط.
وبعد ذلك الحذر من تعاطي بعض الأشياء، التي نسأل الله ألا تكون في مجتمعنا، لكننا نسمع أن بعض الناس يتعاطون بعض الحبوب المسهرة، وهي نوع من الحبوب المخدرة، التي إذا تعاطاها ذهب منه النوم وجف دماغه، لكن بتعاطيها وقع في الحرام وربما يقع في الإدمان، ويقع في بؤرة المخدرات والعياذ بالله! بهذه الوصية نسأل الله تبارك وتعالى أن يعين أبناءنا وإخواننا، وأن يوفقهم للنجاح في الدنيا والآخرة، كما نذكرهم أن يتذكروا وهم في هذا الامتحان الرهيب يوم القيامة، ولا مقارنة بين الامتحانين؛ فالامتحان في الدنيا في بعض فصول الكتب، أما امتحان الآخرة ففي كتاب: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف:49] زمن الامتحان في الدنيا ساعتان أو ثلاث ساعات، أما زمن الامتحان في الآخرة {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] الذي يدير الامتحان في الدنيا ثلة من البشر، لكن الذي يدير الامتحان يوم القيامة {مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] وبعد ذلك نتيجة الامتحان في الدنيا إما أن تنجح أو دور ثاني وإما تسقط، لكن الامتحان في الآخرة إما الجنة وإما النار: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].(78/19)
كلمة توجيهية للنساء في الدعوة إلى الله
السؤال
هل من كلمة توجيهية تخص بها النساء في السير على طريق الدعوة إلى الله؟
الجواب
كل ما يقال للرجال في أمر الدعوة يقال للنساء أيضاً، ولكن نخص النساء بمزيد؛ إذ أن جانب الدعوة النسوي لا يزال يفتقر إلى الداعيات، وأقدر الناس على الدعوة في صفوف النساء هن النساء؛ لأن المرأة أعرف بشئون المرأة، وبمشاكلها وقضاياها، وإننا نستغرب -أيها الإخوة- أن لا يكون في نسائنا داعيات خصوصاً بعد ظهور العلم، وتأهل الكثير من النساء كثير من النساء الآن يحملن (الدكتوراه) ويحملن (الماجستير)، ويحملن الشهادات الجامعية، ومع هذا لم نجد فيهن داعيات لماذا؟ هذا أمر مستنكر، فلابد أن يقوم في النساء من يدعو إلى الله، وهذا عمل عظيم، ولو استعرضنا تاريخ السلف والتراجم، وسير الأعلام من الأمم؛ لوجدنا أن كثيراً من الصالحات كنَّ داعيات وعالمات وفضليات، ولا يتسع المقام لذكرهن وحصرهن، يتقدمهن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها التي روت أكثر من خمسة آلاف حديث، وحفظت للأمة هذه الثروة الضخمة لدين الله عز وجل.(78/20)
حكم ترك الصلاة في المسجد بعد رمضان
السؤال
ما حكم من يصلي الفجر في رمضان، وطوال العام لا يصلي في المسجد؟
الجواب
بئس الرجل الذي لا يعرف الله إلا في رمضان! من يصلي الفجر في رمضان عليه أن يصلي الفجر في كل أيام السنة في المسجد، وإلا فهو -والعياذ بالله- منافق معلوم النفاق؛ لأن الذي يبين لك هل أنت مؤمن أو منافق هي صلاة الفجر، فإن كنت من أهل صلاة الفجر بانتظام فهذه علامة الإيمان، وإذا كان العبد لا يصلي الفجر في المسجد فهذه علامة النفاق.(78/21)
حكم صلاة تحية المسجد وقت الكراهة
السؤال
رأيتك تصلي نافلة قبل أذان المغرب ولم يبق إلا دقائق، وهذا الوقت نعرف أنه وقت تكره فيه الصلاة، فهل هناك دليل على ما فعلت رحمك الله.
خاصة وأن الناس شاهدوك وفعلك محبوب عندهم، أرجو التوضيح؟
الجواب
النافلة المنهي عنها في وقت النهي هي النافلة المطلقة، أما النافلة ذات السبب فإنها تشرع في وقت النهي وفي غيره، وقد عد العلماء من ذوات الأسباب ركعتي تحية المسجد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) فإذا دخلت المسجد في وقت نهي فهناك قولان للعلماء: القول الأول: أنك تصلي؛ لأنك مأمور بعدم الجلوس إلا بعد الصلاة، وهذا أرجح عند العلماء.
والقول الآخر: أنك تجلس ولا تصلي؛ لأنه منهي عن الصلاة في هذا الوقت، وهذا القول مرجوح؛ لأنه اجتهادي، أما القول الأول: فهو نصي، والنصي مقدم على الاجتهادي، الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) وبعض الناس اجتهد فوقف، لا جلس ولا صلى، وهذا لم يقل به أحد من أهل العلم، فأنت بالخيار، إما أن تصلي أو أن تجلس، أما أن تظل واقفاً لا صليت ولا جلست فهذا اجتهاد من عندك، فأنا صليت عملاً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، بالأرجح الذي قرأته وعرفته من كلام أهل العلم.(78/22)
اختصاص الأنبياء بالصلاة والسلام والصحابة بالرضوان
السؤال
سمعت شخصاً يقول: عيسى عليه الصلاة السلام، أو يذكر أحد التابعين فيقول: رضي الله عنه فهل في هذا شيء؟
الجواب
لقد تكلم أهل العلم عن خصوصيات الصفات بالنسبة للأنبياء، فهم مخصوصون بالصلاة والسلام، وإن كان السلام يطلق في العموم على كل مسلم، لأننا نقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، إذا لقيتك قلت: السلام عليك، لكن إذا ذكرت رجلاً من الناس بعينه فلا ينبغي لك أن تقول: فلان عليه الصلاة والسلام، فإن هذا مختص به الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، أما بالنسبة لـ (رضي الله عنه) فهذه مختصة بالصحابة؛ لأن الله قد أخبرنا بأنه قد رضي عنهم، ومن بعدهم من التابعين لا يترضى عنهم وإنما يترحم عليهم، فتقول في التابعين: الحسن رحمه الله سعيد بن المسيب رحمه الله، لكن أبو بكر رضي الله عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن بعدهم من التابعين وغيرهم إلى يوم القيامة نقول: رحمهم الله، ورحم الله الجميع.
عمر بن عبد العزيز من التابعين وهو ملحق بالخلفاء الراشدين، حتى عده المؤرخون الخليفة الخامس، لكن الترضي عنه لا؛ لأن الترضي يعني أنك ألحقته بالصحابة، وشرف الصحبة شرف لا يناله أحد مهما كان عمله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الصحابة لا يدانون، يقول: (لو أنفق أحدكم مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) ولهذا أجمعت الأمة وأطبقت على أن الصحابة كلهم عدول؛ لأن الله اختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولكن عمر بن عبد العزيز رحمه الله معروف بفضله، ما نقول: رضي الله عنه، نقول: رحمه الله، وعمر بن عبد العزيز رحمه الله عُدّ من الخلفاء الراشدين؛ لأن خلافته كانت على منهج الخلفاء الراشدين، ولم يأت أحد بعد خلافة علي على منهجه إلا هو رحمه الله، وجمعنا بهم في جنات النعيم.(78/23)
تنبيه على موضوع يتعلق بالعقيدة
أختم جلستي بهذا الموضوع وله علاقة بالعقيدة وهو مهم جداً هذه ورقة دائماً نراها ولا تأتي إلا أيام الامتحانات، وهذا شيء مجرب، فمن المعلوم منذ عشرات السنين أنها ما تثار من قبل أعداء الله إلا وقت الامتحان، لإيجاد بلبلة وإشغال للشباب وللطلبة وهذه القصة تقول: فتاة تبلغ من العمر ستة عشر عاماً، مرضت مرضاً شديداً عجز الأطباء عن علاجها، وفي ليلة القدر بكت الفتاة بشدة، ثم نامت وفي منامها أتتها السيدة زينب وأعطتها شربة ماء، ولما استيقظت الفتاة من نومها وجدت نفسها وقد شفيت تماماً، ووجدت قطعة قماش مكتوب عليها أن تنشر هذه الرسالة وتوزع على ثلاثة عشر فرداً، ووصلت هذه الرسالة إلى عميد بحري فوزعها فحصل على ترقية خلال ثلاثة عشر يوماً، من عميد إلى لواء، ووصلت إلى تاجر فأهملها فخسر تجارته وجميع ثروته في ثلاثة عشر يوماً، ووصلت إلى عامل فحصل على ترقية، وحلت جميع مشاكله في ثلاثة عشر يوماً ما هذه الورقة؟! أرجو منك يا أخي أن تقوم بنشرها وتوزيعها على ثلاثة عشر فرداً، الرجاء عدم الإهمال.
الإمضاء: أم الفتاة، من هي أم الفتاة؟ قالوا وقلنا، من التي كتبت؟ ومن هي الفتاة؟ ومن أمها؟ ومتى حدثت؟! كل هذا أساطير وكذب، ومن هو التاجر الذي فقد ثروته؟ ومن هو العميد حتى نراه ونهنيه؟! لكن كلها كذب في كذب ما الغرض من هذا -أيها الإخوة-؟ الغرض كما بين العلماء أن يقوم أحد الناس السطحيين الذي في عقله خفة، فيقوم يصورها ثلاث عشرة صورة، ويرسلها ويرقب أنه يترقى، فإذا غلق الثلاثة عشر يوماً وما وجد الترقية؛ بنى على هذه الخرافة أن الدين الذي جاء عن الله وعن رسول الله خرافة، لأن هذه السيدة زينب منسوبة إلى البيت، وهذه كلها خرافة، إذاً كل الدين خرافة هذا هو الغلط؛ إظهار الدين شعوذة وكذب وأساطير.
أيها الإخوة: هذا ليس من دين الله، والذي يوزعها أجهل خلق الله، الذي يوزعها ويتبناها جاهل -والعياذ بالله- فعلى من وجدها أن يمزقها، وأنا أول من يمزقها، تقرباً إلى الله؛ حتى لا تقع في يد أحد يذهب يصورها وقد مرت علي فألام عليها يوم القيامة، والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(78/24)
السعادة وأسبابها
إن ما يدور في العالم من صراع وقتل وتشريد إنما هو ناتج عن فقد الشعوب والمجتمعات لمفتاح الحياة، والكثير منهم ما يزالوا ينقبون عنه في شتى مناجم الحياة المادية وهذا المفتاح هو السعادة التي لا يعرف مواطنها إلا خالقها.
ولما ظن كثير من البشر أن السعادة في غير الطريق الذي وصفه الله لهم أضاعوا العمر في البحث عن كل ما هو فانٍ، مما أثار تساؤلات كثير منهم فترددوا في حيرتهم، بل واختاروا طريق الموت والانتحار هرباً من الحياة التي فارقتها السعادة.(79/1)
السعادة حقيقتها وحقيقة أهلها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أولاً: أقدم شكري وعظيم امتناني إلى أخي الدكتور/ يحيى؛ عميد الكلية، وإلى الإخوة القائمين على نشاط التوجيه والتربية الإسلامية في هذه الكلية وعلى توجيه الدعوة لترتيب هذا اللقاء الذي أشعر -وأنتم كذلك تشعرون- بأهمية الحاجة إليه؛ لأن القلوب تحتاج إلى سماع العلم الشرعي والتوجيه الإسلامي أعظم من حاجة الأرض إلى نزول الغيث, فكما أن الأرض إذا انقطع عنها المطر أقفرت وأقحلت وانعدم خيرها وكثر شرها، كذلك القلوب إذا انقطع عنها الوحي الرباني والهدي السماوي فإنها تقسو وتتحجر ويكثر شرها وينعدم خيرها, وما ترونه اليوم من ممارسات غير صحيحة من قسوة في القلوب، وتحجر في العيون، وجرأة على المعاصي، وكسل في الطاعة، واستخفاف بالأوامر الربانية كل ذلك نتيجة لعدم الاستماع إلى الهدى الذي جعله الله عز وجل شفاء لما في الصدور: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:57 - 58].
ولا أشعر -أيها الإخوة- بغربة في مثل هذه المجالس، خصوصاً في أماكن التربية والتعليم؛ فلقد قطعت فيها عمراً طويلاً؛ أكثر من نصف عمري, بل أشعر بالأُنس والراحة والبيئة الصحيحة التي عرفتها طوال حياتي.
الحديث عن السعادة حديث مشوق؛ لأنها مطلب كل إنسان وبغية كل كائن، والناس يختلفون بفئاتهم ومشاربهم وأشكالهم وعقائدهم وتصرفاتهم وأفكارهم يختلفون في أشياء كثيرة، لكنهم يتفقون في شيء واحد وهو البحث عن السعادة: المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والعربي والعجمي، والأسود والأبيض، والمثقف والأمي، والكبير والصغير كل واحد يبحث عن السعادة, ولا أظن على وجه الأرض أحداً يود أن يكون شقياً, وما ترونه اليوم من تطاحن وصراعات في العالم كله من أجل البحث عن السعادة, ولكن المشكلة -أيها الإخوة- أن معظم البشر وأكثر الناس ضلوا الطريق وتاهوا عن القصد، وما عرفوا الطريق الموصل إلى السعادة.(79/2)
اللاهثون وراء السعادة من طريق الماديات
لقد ظن بعض الناس أن السعادة في المال فقطعوا مراحل أعمارهم بتجميعه حتى حصلوا عليه, فلما حصلوا عليه كان المال سبباً لشقائهم, إذ المال وحده لا يكفي لإسعاد الإنسان, وإنما هو وسيلة من الوسائل التي تحقق السعادة, لكن إذا جعله الإنسان غاية وحصل عليه وجد الشقاء بعينه في المال.
ابنة المليونير اليوناني التي ورثت خمسة آلاف مليون من أبيها -وهذا المبلغ يهز الدنيا- ربما يحلم الإنسان باقتنائه، وربما يموت ملايين البشر ولا يحصلون عليه, ولكن هذه ترث في صفقة واحدة بعد موت والدها خمسة آلاف مليون, وتمتلك جزراً كاملة وسفناً وطائرات وعمارات وشركات، ومع هذا لم تحقق لها هذه الثروة السعادة, فقد تزوجت بإنسان روسي وعاشت معه في غرفتين قبل سقوط الاتحاد السوفييتي -لأن الأنظمة الشيوعية لم تكن تسمح بأكثر من غرفتين- وكانت هي التي تطبخ الطعام بنفسها, وسئلت فقيل لها: كيف تعيشين هذه الحياة؟ قالت: أبحث عن السعادة.
وظلت سنة كاملة تبحث عن السعادة فلم تجدها فطلقته؛ لأنها اشترطت يوم أن تزوجت أن تطلقه, وتزوجت بآخر فرنسي وتزوجت بأمريكي وتزوجت من كل النوعيات لتبحث عن السعادة ولم تجدها, وأخيراً وجدت مقتولة في بيتها! قيل: إنها منتحرة, لم تغن عنها الملايين شيئاً ولم تحقق لها الملايين سعادة, وهذا مقرر في كتاب الله؛ يقول الله سبحانه وتعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا} [التوبة:55] بعض الناس يتصور العذاب بالمال في الآخرة، لا.
ليس في الآخرة فقط، بل في الدنيا والآخرة {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة:55].
سبحان الله! المال الذي هو أمل كل واحد، والذي هو رغبة كل إنسان يتحول عذاباً في الدنيا؟ نعم.
عذاب في الحياة الدنيا وفي الآخرة، كيف يكون المال سبباً في العذاب في الحياة الدنيا؟
الجواب
من ثلاثة أمور: الأمر الأول: طريقة تحصيله: لا يأتي المال بالمجان, إذ لا بد من تعب وسهر وتفكير, ولا بد من مخاطرات وسفرات, والذي ينام لا يأتيه شيء, لكن ذلك الذي يشتغل ليل نهار هو الذي يرزق بالمال.
الأمر الثاني: طريقة تشغيله: وبعدما يأتيه المال يأتيه هم وتعب في حفظه وتشغيله واستثماره وتحريكه.
الأمر الثالث: القلق والحزن عند ضياعه: ثم يأتيه هم آخر عند مفارقته والحزن والقلق عند ضياعه, فالمال بطبيعته عذاب للإنسان, وليس طريقاً للسعادة.
وبعضهم ظن أن السعادة في الرتب والمناصب واحتلال أرفع الدرجات، فيحاول أن يحصل على أحسن المؤهلات, فلما وصلوا إليها لم تتحقق لهم السعادة, ولست في هذه العجالة بحاجة إلى التدليل, فالذي ذاقها أو عرفها يعرف أنها ليست لإسعاده.
وبعضهم ظن السعادة أن يرتمي في أحضان الغانيات ويستجيب لنداء النزوات والشهوات ويعيش حياة العاطفة؛ حياة الفن, والرقص, واللعب, والحب, والغرام, ظناً منه أن هذه هي السعادة.
ولكنها في الحقيقة بعينها كانت عنوان الشقاء, فإن سألنا أهل الاختصاص فإنهم يجيبون بأصوات مرتفعة، فرائدة الغناء العربي تقول في إحدى أغانيها: (الحب عذاب) والعندليب الأسمر يقول: (حبك نار، وقربك نار، وبعدك نار، نار يا حبيبه نار) يعني هذا أقسى ما في الحياة من عذاب، بل توعد الله مثل هؤلاء بالعذاب في الآخرة بالنار ولقد حصل عليه في الدنيا قبل أن يلقاه, وهذا معنى قول الشاعر:
فما في الأرض أشقى من محب وإن ظن الهوى حلو المذاق
تراه باكياً في كل حين مخافة لوعة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ويبكي إن دنوا خوف الفراق
إذا كانت الحبيبة بعيدة يبكي؛ لأنها بعيدة عنه, وهو متشوق إليها، وإذا قربت منه يبكي توقعاً منه إنها سوف تفارقه.
فتسخن عينه عن التداني وتسخن عينه خوف الفراق
فالقضية عذاب من أولها إلى آخرها, وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم العظيم الداء والدواء الذي أدعو الشباب إلى اقتنائه وقراءته؛ لأن فيه جواباً على كل التساؤلات التي في النفس البشرية حول هذا الأمر من العاطفة والحب، إني أظن ألا أحد من الناس إلا وعنده هذا المرض -مرض الحب- والحب طبعاً عاطفة في النفس البشرية التي خلقها الله, لكنه جعلها لشيء آخر غير ما يفهمه الناس, فالحب حب الله، وحب رسوله، والقرآن، والجنة، والدين هذا هو الحب.
أذكر أن شاباً من شباب الصحوة وهو الآن يعمل دكتوراً في الجامعة في كلية اللغة في أبها، ويوم أن كان في المدرسة الثانوية كان عنده مدرس علم النفس، وكان دائماً يتكلم عن الجنس والحب والغرام، ويفسر الحياة كلها على هذا المنوال, لأنه من تلاميذ فرويد , وفرويد هذا أنجس موجود على وجه الأرض؛ رجل خبيث مغمور في الجنس من رأسه إلى قدمه، لأن علماء التربية والنفس أكثرهم يأخذون هذه الأفكار والمناحي من تصرفات النفس البشرية بعيداً عن الهدي الذي يهذب النفس البشرية، فإن أعظم من يتكلم عنها صانعها وهو الله جل وعلا, فالجهاز أحسن من يتكلم عنه ويصفه هي الشركة التي صنعته, لكن لو أتينا بصاحب البنشر وقلنا: أعلمنا بأسرار هذا الجهاز, فإنه لا يعرف أسراره, ولكن يقول: لا يوجد زيت, ولا شحم, ولا هواء هذا عمله, وكذلك الذي يتحدث عن النفس الإنسانية وهو لا يعرفها سيكون حديثه كلام فارغ وهراء, وقد ابتدأهم ذلك الأول الذي قال: إن الإنسان قرد، اسمه " دارون " وهو قرد وأبوه قرد ابن قرد.
والدارونية سقطت، وأصبحت هناك نظريات جديدة اسمها: الدارونية الحديثة -يعني بعيدة كل البعد عن نظرية دارون - لأن الأبحاث والآثار أثبتت أن الإنسان إنسان منذ خلقه الله، وأنه لم يتطور؛ وهذا البحث بعيد كل البعد عن نظرية دارون التي قال فيها: إن الإنسان كان خلية، ثم تطور وتطور إلى أن أصبح إنساناً, ولما سئل: ما دامت القضية قضية تطور فلماذا بقي الإنسان إنساناً ولم يتطور؟ قال: سيتطور, قالوا: متى؟ قال: بعد خمسة آلاف مليون سنة! كبّر الكذبة حتى لا يدركها أحد, قالوا: ما الذي يحدث بعد هذا؟ قال: يصير فأراً -يقول: يتطور الإنسان حتى يصير فأراً بعد هذا- طبعاً سقطت هذه النظرية وقامت نظريات أخرى كنظرية ماريا منتسوني , ونظرية فروبل في اللعب, ونظرية المشروع الدونديوي, ونظرية دوركايم في العقل الجمعي, ونظرية ماركس التي سقطت في التطبيق العملي، وهي نظرية: لا إله والحياة مادة.
نظرية فرويد هذا تعني أن الحياة كلها جنس, حتى يفسر الطفل، يقول: عندما يرضع ثدي أمه فإنه يمارس عملية الجنس -والعياذ بالله- وهذا المدرس كان من تلامذة فرويد، فدائماً يدغدغ مشاعر التلاميذ وهم في سن المراهقة -ثالث ثانوي- ويتكلم معهم عن الجنس، وتمر نصف ساعة أو ساعة كلها في الجنس, فيحبه الطلاب, فأحد الطلاب قال: يا أستاذ قال: نعم.
قال: لماذا الملتزمون لا يحبون -وكان يوجد أربعة من الطلاب في الفصل ملتزمين-؟ لأن بقية الطلاب كل واحد منهم له محبوبة, إلا هؤلاء الأربعة الملتزمين لا يحبون, قال: يا أستاذ لماذا المطاوعة لا يحبون؟ فقال الأستاذ الشيطان الرجيم: أولئك قوم مات في قلوبهم الوجدان, يقول: الوجدان في قلوب هؤلاء ميت, ومعقدون مكبوتون -يعني في الدين- وليس عندهم وجدان حي, فقام الشاب المبارك -الذي أسأل الله أن يوفقه وهو كان عميد كلية اللغة والآن مدرس في الكلية- وقف وقال: لا يا أستاذ.
نحن لم يمت الوجدان في قلوبنا, نحن نحب ولكننا نحب الله ورسوله والدار الآخرة, وأنتم تحبون ولكنكم تحبون ما يحب الحمار, ماذا يحب الحمار؟ يحب هذا الشيء, أي: إذا رأى أنثى رفع مسامعه وجرى وراءها، هذا عمله، وهؤلاء يعيشون حياة البهائم كما قال الله سبحانه وتعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].
فالسعادة -أيها الإخوة- ليست في الحب, ولا في الاستجابة لنداء الشهوة والنزوة.(79/3)
تعريف السعادة
ما هي السعادة؟ السعادة في تعريفها عند العلماء هي: الشعور بالأمن والراحة والطمأنينة في هذه الحياة التي هي مشاهدة، وأيضاً في المستقبل الذي هو محجوب عن الإنسان، هنا مربط الفرس, فإن الذي ليس عنده عن الآخرة علم، ولا عمل لها، وهو يعلم أنه سائر إليها لا يشعر بسعادة, لماذا؟ لأنه على يقين من الموت, ولا يوجد أحد في الدنيا يقول: لا أريد أن أموت, بل تموت رغماً عنك, والرحلات ماشية الآن, وكل يوم تسمعون عن موت أناس، فما بعد الموت؟ الآخرة, وما بعد الآخرة؟ وهنا المشكلة, فالذين يقولون: لا يوجد شيء، نقول لهم: من قال لكم: إنه لا يوجد شيء؟ من الذي مات وذهب إلى الآخرة واكتشف أنه لا يوجد شيء ورجع ليقول لنا: لا يوجد شيء هل أحد فعل ذلك؟ لا.
نحن عندنا يقين حينما نقول: يوجد شيء بعد الموت؛ لأن الله أرسل رسولاً وأنزل عليه كتاباً، وضمَّن هذا الكتاب أخبار الآخرة, وضمَّن هذا الكتاب أيضاً إعجازاً ليدل على أنه من عند الله, ولا يمكن أن يكون من عند بشر, فأنت عندما تقرأ القرآن وتلمسه وتحس به وتستشعره تعرف أنه من عند الله, فالله تعالى يقول فيه: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت:51] أي: كفى بالقرآن معجزة, ويقول عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري: (ما من نبي قبلي إلا أوتي ما على مثله آمن البشر, وإني أوتيت أكثرهم -أي: القرآن- وإني أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) وقد تحققت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم فهاهو دينه باق على وجه البسيطة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -وحاشاه- كذاباً لما بقي دينه, فكم من أناس ادعوا النبوة وكان لديهم من الإمكانات ما يؤهلهم بأن يقودوا أممهم في الباطل الذي انتحلوه, لكن هل بقيت دعواتهم؟ فقد ادعى النبوة شخص اسمه مسيلمة! من يعرف أباه أو جده؟ أبوه الكذاب، اسمه: مسيلمة الكذاب , ادعى النبوة وكان عنده رجال وجيش ومقاتلون أشداء أشاوس، لكن لا يوجد الآن على وجه الأرض خبر على أن مسيلمة رسول الله، حتى أولاده من صلبه لو سلسلنا ذريته ووجدنا من ذريته شخصاً لقلنا له: أنت فلان بن فلان بن فلان بن مسيلمة الكذاب.
وطليحة بن خويلد الأسدي ادعى النبوة أيضاً، وهو من طي من بلد حائل , ولكنه أسلم بعد ذلك -سبقت له من الله الحسنى وأسلم- قام وادعى النبوة وقاتل الصحابة في حروب الردة وقتل اثنين من الصحابة: قتل زيد بن أرقم وعكاشة بن محصن رضي الله عنهم وأرضاهم, ومع هذا أسلم ورجع وقاتل في معارك إسلامية عظيمة واستشهد.
والأسود العنسي أيضاً ادعى النبوة في اليمن , وسجاح بنت الحارث ادعت النبوة حتى النسوة ادعين النبوة! ولكن هل بقيت دعواتهم؟ لا.
لماذا؟ لأنها باطلة, لماذا بقيت دعوة الإسلام ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم؟ كم على وجه الأرض اليوم ممن يشهد أن محمداً رسول الله؟ أكثر من ألف مليون مسلم يشهدون وتكفينا الشهادة, صحيح أن الأمة الإسلامية الآن ضعيفة ومقهورة وغير رائدة ولا قائدة، لكنها لا تضيع عقيدتها, ولهذا تجد حتى أضعف الناس إيماناً إذا سمع أن هناك أي تعرض أو إساءة لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم يثور ويغضب ولا يمكن أن يرضى, ويقول: كيف يهان الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وهذا دليل على أنه رسول الله.
ضمَّن الله هذا الكتاب الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم الخبر عن الآخرة, وعمل الناس للأعمال التي تنفع بعد الموت, ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت) ما الذي ينفع بعد الموت؟ العمل الصالح, وأما المال فلا ينفع بعد الموت إلا من كان مؤمناً؛ لأن الله يقول: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:37].
فالسعادة في تعريفها: شعور داخلي بالأمن والطمأنينة والراحة والسكينة في الحياة الدنيا وما بعد الموت، فالمال يوفر لك الراحة والسعادة في الدنيا فقط, والزوجة والأولاد والمنصب والمكانة الاجتماعية كلها توفر لك الراحة لكن في الدنيا فقط, وفي الآخرة لا توفر لك السعادة فيبقى القلق, والإمكانات المادية توفر الراحة للكائن الجسدي فقط, ويبقى الكائن الروحي هنا في قلق, وحيرة, واضطراب إلى أن يجد الغذاء الذي من أجله وجد، والذي في عالمه وجد، وهو غذاء الروح؛ أي: إذا وجد الإيمان وجدت السعادة هذه هي السعادة وتعريفها.(79/4)
أسباب السعادة
أما أسبابها وكيفية الحصول عليها فتكمن في الآتي:(79/5)
الإيمان بالله والعمل الصالح
أول عنصر من عناصر السعادة: هو الإيمان بالله والعمل الصالح: وقد جاء هذا مصرحاً به في كتاب الله عز وجل، يقول الله سبحانه وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] وهذه الكلمة: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ) يعرف أهل اللغة ما فيها من المؤكدات؛ فاللام المؤكدة والنون المثقلة شديدة التوكيد (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)، ما هي الحياة الطيبة؟ ليست حياة البطون ولا الفروج ولا الشهوات, إنها حياة القلب -والنفس- وقد كان حياً قبل أن يعمل الإيمان والعمل الصالح؟ قالوا: كانت حياته حياة خبيثة؛ بعيدة عن الله, فليس بحي بل هو ميت، والله تعالى يقول: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً} [الأنعام:122] كان ميتاً بالكفر والمعاصي والذنوب (فأحييناه) بالإيمان, ولا يستوي الحي والميت كما قال الله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [فاطر:19] * {وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر:21] * {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22]، فرق بين هذا وذاك, فمن يعش حقيقة الإيمان ليس كمن يعيش حياة اللهو, ولهذا يقول الله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ} [الرعد:19].
فالإيمان هو أساس السعادة؛ وهو عنصر السعادة الأول, فإذا وجد الإيمان وجدت السعادة ولو لم توجد البقية, وإذا فقد الإيمان والعمل الصالح فقدت السعادة ولو توفرت للإنسان جميع أسباب السعادة الأخرى؛ لأنه هو الأساس, وهل يمكن أن تقوم عمارة بغير أساس؟ لا.
بل أول شيء الأساس, ثم بعد ذلك يمكنك أن تكمل الدور الثاني والثالث والرابع فلا يمكن أن تبني الدور الثاني في الهواء بدون أساس وقواعد, ولذلك الناس الآن يبنون عمارة السعادة في الهواء؛ يبنون السعادة بالمال، وبالزوجة، والمنصب، والأفلام والمسلسلات، والتمشيات، يبنون سعادة في البر والبحر والرحلات، لا.
ابدأ السعادة من تحت, ابنِ سعادتك على الإيمان والعمل الصالح، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} [النحل:30] ما هي الحسنة هذه؟ قالوا: هي الحياة الطيبة التي يعيشها المؤمن, ويقول الله سبحانه وتعالى في آية أخرى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، لا تطمئن القلوب بالمال, المال تنتفخ به الجيوب وترتفع الأرصدة, وبالأكل تطمئن البطون, وبالزوجات تطمئن الفروج, لكن القلوب لا تطمئن إلا بذكر الله -أي: دين الله- ولهذا جاء بإشارة هنا وسبقها بأداة الإشعار (ألا) للاستهلال {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] * {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ} [الرعد:29] قال العلماء: طوبى جنة الدنيا وبعدها قال سبحانه: {وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:29] أي: الجنة.
طوبى لهم، أي: في هذه الدنيا العاجلة، ولهذا يقول أحد العلماء: إن في الدنيا جنة من لم يذقها لم يدخل جنة الآخرة.
ويقول آخر: مساكين أهل هذه الحياة؛ جاءوا إليها وخرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قالوا: وما أطيب ما فيها؟ قال: التلذذ بطاعة الله.
وآخر يقول: والله لو يعلم أهل الجاه والسلطة ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليه بالسيوف.
كان شيخ الإسلام رحمه الله مسجوناً في سجن القلعة بـ دمشق، يقول ابن القيم: كنا إذا أظلمت علينا الدنيا وضاقت بنا النفوس ذهبنا إليه نزوره في القلعة, فوالله ما هو إلا نراه حتى نشعر بالسعادة.
وكان شيخ الإسلام يقول: المسجون من سجنه هواه, والمأسور من أسره شيطانه.
ثم يقول: ما يصنع بي أعدائي؟! إن جنتي وبستاني في صدري, أنى سرت فهي معي.
إن قتلي شهادة, وإخراجي من بلدي سياحة, وسجني خلوة.
فما يصنع بي أعدائي أكثر من هذا؟! انظروا! يعيش في سجن ومع هذا يشعر بالسعادة, من الذي أدخل السعادة في قلبه؟ إنه الإيمان والعمل الصالح, بينما لو لم يكن عنده إيمان ولا عمل صالح وهو يعيش في قصر فإنه يشعر بالضيق, هأنتم ترون الآن في أوروبا وهم يعيشون في ناطحات السحاب ولكنهم في عذاب.
يخبرني أحد الإخوة ممن يقيم في السويد، يقول: السويد من الدول الإسكندنافية الراقية: فـ الدنمارك والسويد والنرويج مستوى الدخل فيها مرتفع, والحياة والمعيشة شيء لا يتصوره العقل, والدولة تصرف لكل واحد منهم مبالغ، وضماناً صحياً واجتماعياً، وتصرف رواتب ضخمة, والآلات مطورة ومسخرة، والنظافة معممة لدرجة أنك لا تجد عقب سيجارة ولا قصاصة ورق في شوارعهم, بل حتى الكلاب تعرف أنظمة السير؛ يأتي الكلب ويقف عند الإشارة حتى تؤشر ويمشي، والبقر تغتسل في هولندا كل يوم مرتين -حمام في الصباح وحمام في الليل- ومع هذا يقول لي الأخ: هم في أسوأ حياة يعيشونها, يقول: لا ينامون إلا بفعل الحبوب والمخدرات, وإذا نام الإنسان في (24) ساعة نصف ساعة أو ساعة يأتي إلى زملائه في المصنع أو المكتب أو العمل ويبشرهم بأنه نام في البارحة, وعندنا يضع الشخص رأسه (8) ساعات بدون حبوب أو أي منوم وهذا من فضل الله, لماذا؟ لأنه مؤمن بالله, وإن كان إيمانه ضعيفاً فهو أفضل بكثير من فقدان أولئك للدين.
مليونير أمريكي يدعى روكفلر اشترى جزيرة من جزر المحيط الهادي , وغرس فيها وسواها وضبطها، ثم قال: أريد أن أجلس فيها, قالوا: لماذا؟ قال: ضجيج المصانع وأزيز الطائرات وهدير الناس أزعجني! أريد أن أنام, فذهب، وعندما وصل إليها وجدها هادئة لا صياح فيها ولا صراخ, فجلس نصف ساعة وركب طيارة وقال: لا تصلح! يبحث عن السعادة.
وبعضهم ينتحر لماذا؟ لأن المادة تضغط عليه حتى تفجر النفس الداخلية, فلا يجد مخرجاً من هذا العذاب الذي هو فيه إلا بالموت, ويسأل نفسه: لماذا أنا أعيش؟ فتجيبه النفس: تعيش من أجل أن تأكل, ويقول: لماذا آكل؟ فتقول: تأكل من أجل أن تعيش, فيقول: أعيش لآكل وآكل لأعيش! وبعدها تموت, قال: ما دمت سأموت فسوف أموت الآن, فيقدم على الانتحار؛ وأعلى نسبة للانتحار هي في تلك الدول؛ لأنهم فقدوا الإيمان بالله والعمل الصالح.
فأعظم شيء هو الإيمان, فبالإيمان والعمل الصالح تجيب على التساؤلات التي تنبعث داخل النفس البشرية عن الحياة: ما هذه الحياة؟ من أين جئت إليها؟ ولماذا؟ وما دوري؟ وبعد أن أموت أين سيذهب بي؟ هذه التساؤلات لا تجيب عليها الماديات أبداً.
لا يجيب عليها إلا الدين, فإذا عرف الإنسان حقيقته وأنه جاء ليعبد الله، وأنه بعد هذه الحياة سيلقى الله, فإنه يجد أمناً وطمأنينة.
مثلاً: فأنتم بعد المحاضرة يذهب كل واحد إلى بيته أو عزبته, وما عندكم الآن أي قلق, لماذا؟ لأنكم تعرفون إلى أين أنتم ذاهبون, فكل واحد يخرج ويقود سيارته أو يركب مع زميله ويمشي, ولو أخذنا شريحة من نفسه وحللناها لوجدناها طبيعية وليس عنده أي قلق أو هم, لكن لو خرج شخص من هنا وعند باب الكلية اعتدي عليه من قبل مجموعة مسلحة، وغطوا عيونه ورموه في صندوق السيارة, ومشوا به وأخرجوه إلى منطقة بعيدة في صحراء, ثم فكوا الرباط الذي على عينه, وبعد ذلك جئنا لنحلل نفسيته أهي مطمئنة أو قلقة؟
الجواب
قلقه، لماذا؟ لأنه لا يعرف أين يذهب, وتبدأ عنده الاحتمالات: ماذا يريدون مني؟ يقتلونني، أم يسجنونني، أم يرمونني؟ لماذا جئت إلى هنا؟ ويبدأ القلق يتزايد.
هذا مثال مصغر لطبيعة الحياة.
ولكن عندما تذهب إلى مكان باختيارك وتعرف إلى أين أنت ذاهب باختيارك تكون مطمئناً, ولكن عندما تؤخذ إلى مكان ليس لك فيه رأي ولا تدري ما الذي سيحصل لك فإن القلق يبدأ بالسيطرة عليك، فهل أنت -أيها الإنسان- يوم جئت إلى هذه الحياة كان باختيارك أم جيء بك رغم إرادتك؟ وبعدها عندما تمضي فترة العمر ثم تموت، أتموت باختيارك أم رغم إرادتك؟ الجواب: رغم إرادتك، فأنت جئت بغير اختيارك وكذلك تموت بغير اختيار، وحينها يبقى عندك القلق إلى أن تعرف لماذا جئت؟ وإلى أين تذهب بعد أن تموت؟ أما سؤالك: لماذا جئت قد أخبرك الله تعالى بجوابه، وحل لك المشكلة وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وأخبرك أن بعد الموت حياة، وبعد الحياة حساب وجزاء، قال تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31] {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] والزيادة: هي النظر إلى وجه الله الكريم في الدار الآخرة: {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:26] * {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [يونس:27] هل تتصور وأنت تعمل السيئات أن يكون جزاؤك مثل جزاء الذي يعمل الصالحات؟ لا.
هذا سوء ظن بالله, ولهذا يقول الله وهو يستبعد هذا عن الناس: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] * {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الجاثية:22] لا يمكن أ(79/6)
الإيمان بالقضاء والقدر
ومن أسباب إيجاد السعادة عند الإنسان: الإيمان بالقضاء والقدر.
والقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان وهو: سر الله في خلقه، والخوض فيه يعرض الإنسان لخطورة الوقوع في إحدى فئتين ضالتين وهما: الجبرية أو القدرية؛ أما الجبرية فقد سلبوا العبد فعله, وأسندوا فعل العبد لربه، وقالوا: العبد مجبور, فإذا زنا قالوا: مجبور؛ لأن الله كتب عليه فعلها, وإذا سرق قالوا: مجبور؛ لأنه ليس إلا كالسعفة في مهب الريح, فجعلوا العبد آلة ليس لها أي تصرف.
وقابلتهم فرقة أخرى -والمذاهب والنحل كلها ردود فعل؛ لأن الابتعاد عن الكتاب والسنة يفعل ردود فعل للتصرفات المقابلة- وهم القدرية الذين سلبوا الرب فعله وأسندوا الفعل كله للعبد وجعلوا العبد هو الذي يخلق فعله وليس لله أي شأن ولا إرادة ولا مشيئة في فعل العبد, وكلا الأمرين باطل.
وأهل السنة والجماعة هدوا إلى الحق، وهو: أن للعبد مشيئة وللرب مشيئة, ولكن مشيئة العبد داخلة ضمن مشيئة الله, والله تعالى يقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] وأن العبد مسئول عن تصرفاته, إذ لا يمكن أن يحاسبه الله عن غيره وهو غير مسئول عنه, فأنت نفسك لو جئت على ولدك وقد كسر جهازاً فإنك تعاقبه, ولكن لو أن الجهاز وقع من نفسه والولد واقف عنده ولم يلمسه, أتعاقب الولد؛ لأنه كان واقفاً عند الجهاز؟ ولو عاقبته فسوف يقول: لماذا تضربني؟ أنا لم ألمسه، فهو الذي سقط فجأة, وحينئذٍ لا تستطيع أن تعاقبه؛ لأنك تعرف أنه لم يذنب, وكذلك الله سبحانه وتعالى, أيريد الناس أن يكون الله ظالماً؟! ينزهون أنفسهم عن الظلم ويسندونه إلى الله! ويقولون: إن الله يعذب بغير اختيار من الإنسان! واعتقادهم هذا خطأ.
لأن الله إذا سلب القدرة أسقط التكليف, فإذا احتلم الإنسان في رمضان وهو يقظان، أي: مارس عملية إخراج المني بنفسه، ما حكم صيامه؟ إذا أخرج المني عامداً فسد صومه, لكن لو نام واحتلم وخرج المني في حال نومه لا يفسد لأن الأول بتعمده فسد صيامه وأثم, وذاك تم بغير اختياره فصيامه صحيح وعليه أن يغتسل ويصلي ولا شيء عليه.
والصلاة فرضها الله، ومن أركانها القيام ولكن عندما تكون مريضاً، من الذي أمرضك؟ حينها يقول الله تعالى: صل قاعداً, وكذلك في كل التكاليف.
فالإيمان بالقضاء والقدر عند أهل السنة والجماعة أن تؤمن بأن الله سبحانه وتعالى قد كتب المقادير، وقدر الأمور في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الخلق، هذا هو التقدير, والقضاء هو الذي يتم الآن في عالم الواقع.
ونضرب مثلاً ولله المثل الأعلى: إذا أراد مهندس أن يبني عمارة فإنه لا يبنيها عشوائياً بل لا بد أن يصمم لها مخططاً -ولله المثل الأعلى- وهذا من باب تقريب المعنى, وكذلك لما أراد الله خلق الكون والحياة وضع له تقديراً -أي: مخططاً- ثم بعد ذلك يتم التنفيذ, ولكن هذا العلم الإلهي كما يسمونه العلماء: سابق لا سائق, أي: أن الله علم أن (زيداً) من الناس وأنه سوف يخلق وأن هذا المخلوق اسمه زيد، وسوف يبلغ سن التكليف وتصله أوامر الشرع فيستجيب لها باختياره، ويهتدي ويلتزم ويتمسك فتكون نهايته الجنة، فيكتب أنه سعيد ومن أهل الجنة.
فهذا سبق علم لا سوق, أي: ما ساقه الله سوقاً بحيث نقول: ليس له اختيار, بل كان عنده اختيار ويقدر أن يكون فاسداً، وكذلك يقدر أن يكون مجرماً، لكنه اختار طريق الهداية.
وكذلك علم الله أن (عمراً) من الناس، وأنه سيخلق ويبلغ سن التكليف، ويسير في طريق الانحراف والجريمة والكفر والفساد، ثم يموت على هذا، فعلم الله أن هذا سيكون فكتب عليه الشقاء بحسب سابق علمه.
هل يوجد أحد من البشرية الآن في الدنيا يعلم ماذا سيحدث غداً؟ لا.
لكن الله يعلم ما سيحدث غداً؛ لأن الله إذا كان لا يعلم ما يكون غداً فكيف يكون رباً وهو لا يعلم؟ جل جلاله وحاشاه! ولذلك من صفاته تعالى أنه عليم وأنه علام الغيوب, وأنه يعلم ما سيكون إلى يوم القيامة, وأنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض وما تحت الثرى, وأنه أيضاً يعلم السر وأخفى, السر: الذي في قلبك يعلمه الله, أخفى: الذي سوف تسره وأنت لا تعلمه فإن الله يعلمه الآن, إذ لا يغيب عن علمه شيء: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] فالله يعلم أن فلاناً سيكون فاسداً وكتب عليه أنه سيكون شقياً لا سوقاً وإنما سبق علم وصفة كمال في الرب سبحانه وتعالى.
فالإيمان بالقضاء والقدر يشعرك بالأمن والراحة، لماذا؟ لأنك وأنت تعيش في هذه الحياة تكون عرضة للإصابة بأشياء لا ترضيك؛ إما بموت حبيب، أو بمرض قريب، أو بمصيبة، أو بكارثة، أو بحادث، فإذا عرفت أن هذا الشيء مكتوب, وأن الله قدره, وأن الله سيثيبك عليه إن صبرت وتلقيت هذه المصيبة والكارثة بصدر رحب، وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون, اللهم اجبرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها, فسينزل الله على قلبك طمأنينة ويمنحك السكينة، وتتحول هذه المحنة في حقك إلى منحة, لماذا؟ لأنك استعضت الله فيها, وجعلت عوضك عند الله منها, وفي نفس الوقت ادخرت ثوابها؛ لأن الله لا يظلم مثقال ذرة, فإذا أصابك بمصيبة فإنما ليرفع درجتك أو ليكفر خطيئتك, أو ليخفي لك من الثواب ما لا يعلمه إلا هو.
ولهذا ورد في الحديث أن أصحاب المصائب والبلايا في الدنيا يأتون يوم القيامة فيجدون حسنات كأمثال الجبال، فيقولون: يا ربنا! بم هذه الحسنات التي ما عملناها؟ فيقال: بالبلاء الذي تعرضتم به في الدنيا, فيتمنى أصحاب العافية أنهم عاشوا في غير عافية, فالعافية ذهبت، وبقي أجر أصحاب البلاء, وهذا يأتي -أيها الإخوة- عن طريق الإيمان بالقضاء والقدر, فإنك تجد الذي عنده إيمان بالقضاء والقدر لا يتحرك ولا يضجر ولا يجزع مهما جاءه من خبر: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] * {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23].(79/7)
ذكر الله سبحانه وتعالى
ومن الأسباب التي تجلب السعادة للإنسان: ذكر الله سبحانه وتعالى.
فإن ذكر الله شرح للصدر وإزالة للهم؛ لأن القلوب بيد الله، فإذا ذكرت الله ذكرك الله وشرح صدرك وذكرك فيمن عنده, ولهذا أمر الله سبحانه وتعالى بذكره في كل الحالات, وبين أن أهل العقول السليمة يذكرونه في كل المناسبات: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191].
إن ذكر الله من أعظم الأدوية لأمراض القلوب, ولذلك إذا رأيت إنساناً ذاكراً فإنك تحكم عليه بمحبة الله وسلامة قلبه, (مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله كمثل الحي والميت) وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس ذكراً لله, تقول عائشة رضي الله عنها كما في صحيح البخاري: [كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله في سائر أحواله] , فما كان يفتر لسانه عن ذكر الله ولما جاء عبد الله بن بسر في حديث في سنن الترمذي، قال: (يا رسول الله! دلني على عمل يدخلني الجنة وينجيني من النار وأوجز -يقول: قلل فأنا لا أريد كثيراً, أريد شيئاً بسيطاً- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) يقول العلماء: إن هذه الإجابة دليل من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم, فإنه دله بحديث بسيط على عمل عظيم, فإن الذي لا يزال لسانه رطباً من ذكر الله هو الذي جمع الدين كله, فهل هناك شخص يزني أو يسكر أو يتناول المخدرات أو يروجها أو يسعى إليها ولسانه رطب من ذكر الله؟ من ذا الذي يعمل هذه الجرائم إلا من لسانه قاسٍ عن ذكر الله, أما الذي لسانه رطب من ذكر الله تجده مع الله في كل حين وفي كل وقت.
فذكر الله من أعظم أسباب السعادة.
ومن أعظم أنواع الذكر: قراءة القرآن, فإن القرآن -كما ذكرنا- يقول الله تعالى فيه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} [فصلت:44] ويقول سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] فأنزله الله عز وجل شفاء لما في الصدور وهي القلوب, فالقلب لا يطمئن إلا إلى ذكر الله, وإذا جعلت لك موعداً مع الله في تلاوة كتابه ومناجاته، يقول أحد السلف: "من أراد أن يناجي ربه فليقرأ القرآن أو ليقم إلى الصلاة", كأنك تناجي الله سبحانه وتعالى، وأنت بهذه المناجاة والتلاوة والقرب من الله تعرض نفسك لأعظم سبب من أسباب السعادة.(79/8)
قضاء الفراغ في عمل مباح أو طاعة ما
من أسباب السعادة: أن يكون لك عمل تقضي فيه وقتك وتجمع منه مالاً تقضي به حاجاتك هذا من السعادة؛ لأن البطالة وعدم وجود العمل يولد للإنسان حاجة وفقراً, (كاد الفقر أن يكون كفراً، فإنه بئس الضجيع) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم, إذ لابد أن يكون هذا العمل مباحاً أو طاعة، أما أن يكون حراماً فلا.
لا تبحث عن عمل حرام يسبب لك دخلاً حراماً, وإنما يجب أن يكون العمل شرعياً ومباحاً في الشريعة, ومن أفضل الأعمال التي تزاول على الحياة وظيفتكم أنتم في هذا المعقل العلمي؛ وظيفة التربية والتعليم, فالمعلم هذا ليس صاحب وظيفة وإنما صاحب رسالة, ولهذا إذا دخل في هذا المجال فعليه أن يستشعر الرسالة, وأن يعلم أنه ليس مرتزقاً ولا طالب عيش, بل صاحب رسالة وطالب علم يحمل أمانة ومسئولية, وسوف يتخرج بعد أيام ليسلم أمانة -وهم فلذات أكبادنا- فحينما تستلم التعليم وتدخل الفصل وأمامك ثلاثون طالباً، هؤلاء أمانة الله في عنقك يوم القيامة, فقد جاء بهم آباؤهم وسلمتهم الدولة لك من أجل أن تشكل منهم لبنات صالحة في المجتمع, ولن يكونوا صالحين إلا بصلاحك أنت؛ لأنك القدوة والمثل لهم, ولأن المدرس هو الموجه والمربي وليس الأب, ولذلك الأب إذا سأل الولد فقد يقوم أو قد لا يقوم, لكن المدرس إذا أراد أن يسأل الطلاب، هل يقوم واحد أم الكل؟ أي: إذا قال المدرس: من يجيب على كذا وكذا؟ كل يتشرف أن يلبي غرض الأستاذ وأن يخدمه, لماذا؟ لأنهم يحترمونه ويقدرونه, وإذا قال الأستاذ كلاماً وقال الأب كلاماً، من يصدق؟ يصدق الأستاذ.
قبل فترة كان عندي طفل في السنة الثالثة الابتدائي ويثق في ويعرف أن عندي قدرة علمية وأقدر أن أقنعه، ولذا فبيني وبينه علاقة على الرغم أنه في الثالثة الابتدائي, ومرة قال الأستاذ كلمة -وجهة نظر في قضية من القضايا- وجاء الطفل وقال لي: قال الأستاذ: كذا قلت: لا.
هذه وجهة نظره، لكن الصحيح: كذا وكذا قال: لا، أبداً.
الأستاذ أحسن.
فالأستاذ في نظره أكثر علماً وفهماً، لماذا؟ إنه يقول لي: لو أنك تربيني لكنت درستني في البيت، ولكنك تذهب بي إلى الأستاذ لأنه هو المربي, أي: أنت -مغذي فقط- تعطيني الأكل والشرب والكسوة والتربية اتركها له, ولهذا كان دورك أيها المعلم دور عظيم في بناء الأجيال والأمة, وإذا استلمت على هذا أجراً كان هذا أفضل أجر وعمل, ولهذا يقول الشاعر:
قم للمعلم ووفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا
أرأيت أفضل أو أجل من الذي يبني وينشئ أنفساً وعقولاً؟ المهندس يبني العمارات, والطبيب يبني الأجسام, والمهندس الزراعي يعمل في الأرض, لكن أنت المدرس، ماذا تبني؟ تبني العقول والأجسام والأرواح والقلوب, فمهمتك عظيمة ودورك عظيم, ومهنتك أحسن الوظائف, هذه نعمة من نعم الله عز وجل.
فيجب عليك حتى تكون سعيداً أن يكون لك دخل وعمل مباح، ومثل عملكم ليس مباحاً فقط، بل مشروع ومطلوب وهذا جزء من السعادة, وإلى جانب ذلك ما تتميزون به من مميزات: فوقت العطلات كبير, والدوام قليل, فأنتم تذهبون الساعة السادسة والنصف وترجعون الساعة 12 وكل واحد في بيته, وعطلة رمضان كاملة, والحج تأخذون إجازة قبله, والصيف كله إجازة, وهكذا كل العام أكثره إجازات وهذه من نعم الله عليكم, فهذه نعمة ستشعروها أنتم ولا تغبطون غيركم.
وبعض الشباب يغبط طالباً -مثلاً- في كلية الأمن, يقول: ذهب كلية الأمن ليتخرج ضابطاً, والطبيب كذلك ويقولون: طبيب وعليه الزي الأبيض، والسماعة حول عنقه، ويدخل والناس طوابير على بابه ويكشف لكن اسمعوا ماذا تقول الطبيبة في مجلة اليمامة قبل سنوات، تقول: الساعة السابعة تدق وتدق معها أعصابي وقلبي وراحتي, ثم أخرج وألبس معطفي الأبيض وأركب خلف السائق وأذهب وكأني أذهب إلى قبري أو زنزانتي -أي: غرفتي- وعندما أدخل وأجد الناس ينتظرونني أشعر أنهم يغبطونني وأنا أغبطهم على أنهم ليسوا في مكاني, وتقول: وأجلس على الماسة وأضع السماعة في رقبتي وكأنها حبل مشنقة يلتقط روحي, تقول: وهكذا أجلس طوال حياتي! خذوا شهاداتي! وأوراقي! وأرصدتي! أعطوني جزءاً من السعادة، أريد أن أسمع كلمة ماما! تريد أن تتزوج ويأتي لها طفل صغير يقول: ماما! هذه هي السعادة.
أجل أنت في سعادة في هذا العمل إن شاء الله, وكل إنسان في موقعه الآخر في أي جانب من الحياة سيكون سعيداً إن شاء الله بعمله إذا أداه على الوجه الشرعي، وخدم فيه الأمة على الوجه الصحيح، وأخذ هذا الراتب واستعان به على طاعة الله، فهذا أيضاً يحقق له جزء من السعادة؛ لأننا نتكلم عن السعادة بجميع صورها, إذ لا نريد السعادة في جانب دون الآخر.(79/9)
الإحسان إلى الناس
ومما يجلب السعادة للإنسان: الإحسان للناس.
بقدر ما تحسن ويكون مردود السعادة في قلبك, وكذلك الإساءة؛ بقدر ما تسيء يكون الشقاء في قلبك, فتعود على الإحسان بالكلمة الطيبة, فالكلمة الطيبة صدقة, وبإمكانك أن تدخل الفصل من دون أن تسلم لتبني شخصية! وبإمكانك أن تدخل وأنت مبتسم وتقول: السلام عليكم صباح الخير يا أولاد كيف حالكم، طيبون؟ وحينها كل الطلاب تنشرح صدورهم لك ويحترمونك ويألفونك ويصغون لمادتك, لكن إذا دخلت وتقول: قيام جلوس امسح اللوح اسكت أين الواجبات؟ قال: (الله أكبر على هذا الأستاذ العفريت! من أين جاء لنا؟) لماذا لا تحسن؟ تحسن إلى زوجتك, وأولادك, وجارك, والفقير, والمسكين, وكل أحد, فالإحسان هو مطلب شرعي، والله كتبه في كل شيء حتى في الموت، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان في كل شيء؛ فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) هو موت لكن لابد من الإحسان فلا تشق على الذبيحة حتى تعذبها، لكن حدّ الشفرة واذبحها بسرعة, حتى في الموت لابد من الإحسان, فكيف في العافية؟! فالإحسان إلى الناس والتفضل عليهم بالخير وبالكلمة الطيبة وبالهدية وبالبسمة قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن بأخلاقكم، وإن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم) فمن الناس من هو مليونير في الأخلاق يسع الناس كلهم, وكل واحد يحبه, ومن الناس من هو فقير ليس عنده شيء من الأخلاق، وكل واحد يكرهه, لماذا؟ لأنه من اكتسب كراهية الناس بتصرفاته وسلوكه, وبالتالي تجده في نفسيته معقداً، وتجده في شقاء وعذاب، لماذا؟ لأنه أساء إلى الناس! لكن كلما أحسنت إلى الناس كان المردود بالسعادة عليك أنت أولاً، ولهذا يقولون: إن إحسان الخلق بذرة أنت من يأكلها؛ تأكل ثمرتها أنت وليس الناس, صحيح.
إن حسن الخلق ينال الناس لكن أنت الذي تجني الثمرة الكبرى.(79/10)
النظر إلى الدون في الدنيا وإلى الأعلى في الدين
ومن أسباب السعادة: أن تنظر إلى من دونك في المستوى المادي وفوقك من المستوى الديني.
فإذا كنت تمشي على قدمين لا تنظر إلى صاحب السيارة وانظر إلى من يمشي وهو معوق ليس عنده أرجل -يمشي في عربية- وقل: الحمد لله! عندي أرجل أمشي عليها, وإذا كانت عندك سيارة موديلها (85 أو 86) فانظر إلى الذي يمشي برجليه ولا تنظر إلى الذي عنده سيارة موديلها (96 أو 97).
ودائماً انظر إلى من هو دونك في المستوى, فإذا كنت تعيش في بيت إيجار فانظر إلى من يعيش في الكوخ أو العراء ولا تنظر إلى صاحب الفلة والقصر؛ لأنك كلما نظرت إلى من هو دونك كلما عظَّمت نعمة الله, أما إذا نظرت إلى من هو فوقك فستجد فوقك كثير؛ لأن الله قَسَّم الأرزاق بين الناس، ورفع بعضهم فوق بعض درجات, لماذا؟ لكي يتخذ بعضهم بعضاً سخرياً؛ لأن الناس لو كانوا كلهم في درجة واحدة لتعطلت الحياة, وحينها من يكنس الشوارع؟ ومن الذي يقوم بالواجبات الأخرى؟ ويؤدي الخدمات؟ فلو كان الناس كلهم أغنياء كما يقال: إذا كنت أميراً وأنا أمير من يسوق الحمير! فتنعدم الحياة, فيتبين لنا أن الله رفع هذا ووضع هذا من أجل أن تمضي الحياة, فأنتم تجدون صاحب العمارة الذي يبنيها -مثلاً- عشرة أدوار وهو واقف تحت, وهناك مليس يليس في الدور العاشر على خشبة صغيرة؛ يد فيها الخلطة ويد فيها الملعقة وتراه يعمل كأنه جالس, ولو أتينا بصاحب العمارة ورفعناه بالونش إلى مكان هذا المليس وقلنا له: ليس هذا الجدار, ماذا يفعل؟ بلا شك أنه سيقع على رأسه, ولا يستطيع أن يمسك نفسه فضلاً من أن يعمل.
فالله جعل هذا من أجل أن تعمر الحياة, فانظر دائماً إلى من هو دونك في المستوى المادي الدنيوي, لكن انظر إلى من هو فوقك في المستوى الديني الشرعي, فإذا رأيت إنساناً عابداً انظر إليه وإلى من يماثله, فالذي يأتي إلى المسجد قبل الأذان سابق مثله, والذي يصوم الإثنين والخميس من كل أسبوع صم مثله, والذي يكثر من قراءة القرآن, ويدعو إلى الله, ويحب الخير ويدعو إليه؛ عليك أن تنافسه فيه, لماذا؟ لأنك تنافس فيما يبقى, وتزداد رفعة ودرجة عند الله سبحانه وتعالى.(79/11)
حسن اختيار الصحبة
ومن أسباب السعادة: حسن الاختيار للصحبة.
إذا كان صاحبك طيباً فإنه يدخل الراحة والأمن والسعادة عليك؛ لأنه لا يجرك، ولا يدعوك إلا إلى الخير؛ إن غضبت استرضاك, وإن كسلت نشطك, وإن عصيت جعلك تطيع.
المهم أنه طيب معك, لكن إذا كان زميلك سيئ -والعياذ بالله- فإنه يجلب لك السوء من كل جانب، ولهذا يقول:
فلا تصحب أخا الفسق وإياك وإياه
فكم من صاحب أردى مطيعاً حين آخاه
يقاس المرء بالمرء إذا ما المرء ما شاه
وللناس على الناس مقاييس وأشباه
وللقلب على القلب دليل حين يلقاه
والآخر يقول:
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه وكل قرين بالمقارن يقتدي
وإذا أردت أن تعرف الرجل فاسأل عن أصحابه, فإن كان أصحابه طيبون فهو طيب، وإن كانوا سيئين فهو سيء ولو كان طيباً في نظرك, لماذا؟ لأننا ما رأينا أبداً غراباً يمشي مع الحمام, ولكن رأينا الغراب مع الغربان, ولا رأينا قرداً يمشي مع الغزلان, فكل واحد يمشي مع صنفه, وحتى تكون سعيداً ابحث لك عن رفقة صالحة؛ ولهذا عليه الصلاة والسلام في توجيه نبوي كريم في الصحيحين يقول صلى الله عليه وسلم: (مثل الجليس الصالح وجليس السوء كمثل حامل المسك ونافخ الكير) حامل المسك لا تجد منه إلا خيراً، إما أن يحذيك -أي: هدية- أو تشتري منه شيئاً، أو تجد ريحاً طيبة, لكن نافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، يضع شرارة على ثوبك، أو أن تخرج وقد وجدت رائحة كريهة من عنده -والعياذ بالله-.
فعليك بحسن الصحبة والاختيار للصاحب, ولكن كيف تختار الصاحب؟ يجب أن تكون هناك مميزات للصاحب الذي تختاره، أولاً: أن يكون صاحب دين وعقيدة والتزام, وخلق كريم, ومبادئ وفضائل, وشهم وشجاع لكن إذا رأيت إنساناً -والعياذ بالله- شهوانياً أو قذراً, أو فاسقاً, أو يحب المعاصي ويكره المساجد, فهذا لا تقربه، لماذا؟ لأنك سوف تردى بردائته -والعياذ بالله- فلو قيل لك: أحد زملائك مصاب بداء الإيدز, هل ستجلس معه؟ لن تجلس معه, ولن تكلمه حتى في التلفون لأنك تخاف أن يأتي الفيروس عبر التلفون! تخاف من الإيدز, لماذا؟ تقول: انتهى أمرك.
أنت مصاب بالإيدز.
وكذلك الذي عنده إيدز في إيمانه, وكوليرا في عقيدته, وسل في أخلاقه, هذا أخطر عليك من ذلك, فابتعد عنه ولا تصحب إلا الرجل الصالح الذي يعينك على طاعة الله حتى تكون سعيداً.
وكم من إخوة وشباب عاشوا على الشقاء بجميع صوره وأشكاله بسبب صحبة السيئين! أذكر فيما أذكر من قصص الحياة, شاب -عندنا في المنطقة الجنوبية - له زميل سيئ والاثنين سيئين, وكان الشاب يستعد لنومه وإذا بزميله السيئ يطرق عليه الباب وتستجيب الأم, فيقول: أريد فلاناً, قالت: نائم, قال: أيقظيه, قالت: يا ولدي الآن نصف الليل فالساعة (12) ليلاً، وهو الآن نائم, قال: أيقظيه الأمر هام, فذهبت إلى ولدها وقالت: فلان يريدك في أمر هام, فنزل عليه, قال له: أنا عندي موعد الليلة -يسميها صيدة, يصطاد محارم الله- وأنا عندي صيدة الليلة وأريدك أن تمشي معي من أجل أن تحميني, قال: أبشر, فرجع البيت ولبس ثيابه وأخذ المسدس في جنبه وركب وإياه في السيارة، وذهبوا إلى المكان الذي يصطادون فيه المحرم -الإنسان يصطاد طاعة الله في هذه الحياة وهؤلاء يصطادون محارم الله ومحارم المسلمين- وأمره بالوقوف في مكان معين عند شجرة، وقال: اجلس هنا إلى أن أطلبك وجاء واقتحم جدار البيت وفتح الباب ودخل, فشعر صاحب البيت بأن هناك شخصاً فتح الباب, فقام وأسرج الكهرباء, وخرج وطارده بالحجارة والعصا لكن لم يلحقه فقفز وهرب, ففتح الباب وخرج يبحث عنه وإذا به يفاجأ بالحارس فطارده, فلما أدرك أنه رآه أخذ المسدس وقتل صاحب البيت! اجتمع الناس على إطلاق الرصاص وقبض على الجاني وحقق معه, وذكر الأمر، وقال: أنا كنت نائماً في البيت وجاءني فلان ودعاني وأعطاه نفس الكلام , ثم قبض على زميل السوء فأنكر كل ذلك, قال: أبداً.
لا أعرفه ولا يعرفني، وعندي شهود على أني في تلك الليلة التي يدعي هذا أنني جئت ودخلت عليه أني كنت في القرية الفلانية سامر عندهم من المغرب إلى الفجر, وفعلاً أتى بشهود، قالوا: إنه كان عندنا وأنه ما خرج ولم يثبت عليه شيء, وهذا الرجل -طبعاً- حكم عليه بالإعدام وانتظر في السجن فترة طويلة ثم اقتيد إلى ساحة القصاص وقتل! انظروا كيف الشقاء -أيها الإخوة! - من جرّه إليه؟! الزميل السيئ وقس على هذا.
فاحذر يا أخي من صديق السوء.(79/12)
الزوجة الصالحة
ومن العوامل التي تدعو إلى السعادة: الزوجة الصالحة.
طبعاً كل واحد يقول: يا الله: ارزقنا من فضلك يا رب! طبعاً نحن نقول هذا الكلام -أي: عن الزوجة الصالحة- ونعني به الشباب الذين سوف يتزوجون إن شاء الله، حتى يضعوا مقاييس وضوابط الاختيار؛ لأن الزوجة ليست بيعة ليل ولا صفقة سيارة، لا.
الزوجة مصير، ولهذا ينبغي أن يكون اختيارك مبني على أسس قويمة لا على مجرد نظرات عاطفية، أو نزوات نفسية وجنسية، لا.
ولهذا حدد النبي صلى الله عليه وسلم الضوابط التي يضعها الرجل في نظره وهو يختار، قال صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها, فاظفر بذات الدين تربت يداك) تربت يداك، أي: تلطخت يداك بالتراب, كناية عن الخسارة, فالذي عنده زوجة ليس عندها دين خاسر, فاجعل همك الأول هو الدين، ثم لا مانع أن تبحث عن بقية المقومات كالجمال وغيره, ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في السنن: (الدنيا متاع -أي: لذة ومتعة- وخير متاعها المرأة الصالحة) ثم ذكر مقوماتها الثلاث: (إن نظرت إليها سرتك) وهذه تعني الجمال، والجمال نسبي, فبعض الناس يريد ملكة جمال وهو نفسه ليس ملك جمال إذا أردت واحدة جميلة أولاً انظر إلى نفسك: هل أنت جميل أو نصف بنصف؟ ثم خذ واحدة على مستواك؛ لأنك لو مكثت تبحث عن أجمل واحدة فلن تجدها, وإذا وجدتها فسوف تعيش معها في عذاب؛ لأنها كلما نظرت إليك زفرت، تقول: ابتلاني ربي بهذا الجني! لكن اختر واحدة مثلك في الجمال حتى لا يرفع أحد نفسه عن الثاني؛ ولأن البحث عن المثاليات في الزوجة الجميلة قد لا تبلغها, والجمال أحياناً يكون مكتسباً ليس خلقياً -فقط يكون وهمياً- وجمال الخلق يغطي كل عيب, وجمال الدين يغطي كل العيوب.
ولعلك ترى بعض العمارات الضخمة والطويلة والعريضة, ولها بروزات ولها انحناءات لكنها ليست جميلة وليس لها قبول, بينما تجد عمارة بسيطة لكنها جميلة ومقبولة.
فالقضية قضية قابلية، فأنت ابحث عن الجمال لكن النسبي, ولا تضع شروطاً خيالية مفصلة كأنك في مصنع؛ طول في عرض, بل البعض الآن يشترط فحصاً طبياً؛ لا سكر ولا ربو يريد واحدة جاهزة, لا.
تزوج على بركة الله ولكن اجعل همك الأول هو الدين والخلق، فإذا توفر هذا فهو المهم.
قال عليه الصلاة والسلام: (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة، إن نظرت إليها سرتك -وهذه تمثل الجمال- وإن أمرتها أطاعتك -وهذه تمثل الخلق- وإن غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك -وهذه تمثل الدين-) فإذا وفر الله لك هذه الزوجة فاحمد الله عليها, أو تزوجت ولم تجد؛ لأن بعض الناس يغلط أو يقدر له أن يغلط في أول حياته ويتزوج بواحدة ثم يستمر في الغلط حتى يموت, لا -يا أخي- فقد جعل الله تعالى لك مجالاً آخر أي: إذا ما نجحت في الأولى تنجح في الثانية, ولهذا يقول الله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] وما جعل الله في التعدد فرصة إلا لمثل هذه الأشياء؛ لأنه من الصعب أن تجري اختيارات واختبارات دقيقة للزوجة التي ستأخذها، إنما هي بالتوفيق والحظ وهي قسمة ونصيب, مثل ما كانوا يقسمون اللحم قبل العزائم على الضيوف فواحد يكون حظه (كرشه) وآخر لحمة, وكل واحد ونصيبه, فالجميلة مشكلة والقبيحة مشكلة؛ لأن بعض الناس لو عنده زوجة جميلة يبلغ الناس, فتطول أعينهم إلى زوجته, وبعضهم عنده زوجة قبيحة فيظهرها للناس فيرحمونه، وكلما رأوه قالوا: مسكين! ولهذا هي امرأتك فاسترها.
فإن كانت جميلة فهي لك وإن كانت قبيحة فهي عليك.(79/13)
مقابلة السيئة بالحسنة
ومن أسباب السعادة: مقابلة السيئة من الناس بالحسنى.
وهذه من أعظم أسباب السعادة وهو: معالجة الأمور بالهدوء, وعدم الاندفاع، يقول صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة) أي: ليس الشجاع الذي ينفعل ويندفع ويتصرف تصرفات سريعة بدون نظر، وإنما هذا أجبن الناس (إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب) لأنك حينما تغضب ستكون تصرفاتك دائماً غير مسئولة وغير معقولة ويترتب عليها مشاكل, فإذا مسكتها سلمت, لكن إذا اندفعت وراءها ندمت, وقد علمنا صلى الله عليه وسلم في سنته أشياء كثيرة، منها: 1/ جاءه الأعرابي وبال في المسجد وهذا عمل ليس بهين, ولو رأيناه الآن لقطعناه قطعة قطعة والصحابة كذلك، قالوا: لماذا تأتي لتنجس المسجد؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم لما سمعهم ينتهرونه أسكتهم، وترك الرجل حتى انتهى, ولما انتهى دعاه والصحابة قد أرادوا الفتك به وضربه بالسيوف, قال: (يا أخا العرب! إن المساجد لم تبن لهذا) يقول: هذه ليست أماكن الوساخة والنجاسة، وإنما بنيت لذكر الله وعبادته، فإذا أردت أن تصنع شيئاً فاذهب إلى مكان آخر, ثم دعا بذنوب من ماء وصبه على بول الأعرابي وانتهت المسألة, والأعرابي هذا المسكين، قال: (اللهم اغفر لي ولمحمد ولا تغفر لأحد معنا)، يقول: هؤلاء لا تغفر لهم؛ لأنهم أرادوا قتلي! انظر! كيف حوله صلى الله عليه وسلم من إنسان جاهل إلى إنسان يحبه ويدعو له, ويخصه بالدعاء من بين الناس, ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم تركهم في نهره وضربه، ما الذي سيحصل؟ أولاً: فبدلاً من أن يكون البول في نقطة فسيجعله في المسجد كله؛ لأنهم سيطاردونه والأعرابي لن يتوقف عن البول.
ثانياً: سيسببون له مرضاً؛ لأن الإنسان إذا أخرج البول ثم حبسه يحصل عنده اختلال في المثانة, وبعد ذلك يسبب كراهية له وللصحابة؛ لأن الرجل سيقول: أهذا دين؟ يضربونني من أول ما أتيت؟! وربما ارتد إلى دينه ولا يسلم, فالهدوء في علاج القضايا هو أسلم طريقة.
2/ جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسترد ديناً عنده، وقال: إنكم يا بني عبد مناف قوم مطل -أي: تماطلون في القضاء- فقام عمر فأراد أن يقطع رقبته؛ لأنه ما سب الرسول، بل سب نسب الرسول كله, قال: (لا يا عمر! كان الأولى بك أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن الطلب) ثم أعطاه وتركه يمشي.
3/ كان الخليفة عمر بن عبد العزيز يمشي في الطريق، ومن غير قصد دق أحد المارة وهو يمشي, ولم يعلم الرجل أنه أمير المؤمنين، قال: أأنت أعمى؟ قال: لا.
فأخذ العسكري الذي معه وسل السيف يريد قطع رأسه, قال: لماذا؟ قال: تكلم عليك, قال: لا.
وإنما سألني: أنت أعمى؟ فقلت له: لا.
لست بأعمى, وانتهت المسألة, والله تعالى يقول: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] * {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
وأذكر قصة وقد ذكرتها في مناسبة ولكن نعيدها اليوم؛ لأنها حصلت في جدة: كنت في مراجعة إحدى السفارات فدخلت في شارع، وهذا الشارع ليس له منفذ -يعني مقفول- فمشيت بالسيارة حتى وصلت إلى النهاية، ولا أستطيع أن أدور بالسيارة لضيق الطريق فرجعت على الوراء من أجل أن أخلص من هذه المشكلة, ثم جاء شخص صاحب سيارة ورآني وأنا أرجع على الوراء والإضاءة مسرجة، وكان من المفروض أن ينتظرني حتى أرجع, لكن أنا أرجع وهو جاء من خلفي, فأخذ يؤشر لي أن أمشي للأمام -كأن بيته في الأمام- وكان غاضباً فالساعة (2 ونصف) نهاية الدوام، وهو جائع أيضاً, فأنا نظرت وقد أخطأ علي ولا شك؛ لأنه لما رآني أرجع على الخلف كان من المفروض أن ينتظرني حتى أخرج, حينها لم أجد خياراً إلا أن أجنب له حتى يمشي, وكنت أتوقع أن يقابل هذا التصرف مني بقوله: شكراً؛ لأني عملت معه تصرفاً لائقاً, لكن ماذا حصل؟ جاء الرجل حتى حاذاني وأرخى الزجاج ونظر إليّ وقال: أنت لا تفهم يا قليل الحياء وسبني وسب الأب والجد -يعني (كلام أقذع من كل قذيعة) - حقيقة اشتعلت من الغضب! ولكن رفعت نفسي قليلاً وقلت: لا.
أدفع بالتي هي أحسن, فلما انتهى قلت له: أقول لك, قال: نعم.
قلت: أسأل الله أن يدخلك الجنة وينجيك من النار! يعلم الله -أيها الإخوة- أن هذه الكلمة أحدثت فيه هزة لكأني صببت عليه ماء, فلقد كان يتكلم وعيونه بارزة، ووجهه محمر، وعروقه منتفخة من الغضب, ولكن عندما قلت له الكلمة هذه برد, وأطفأ السيارة ونزل إليَّ وسلم علي يدي ورأسي وهو يقول: من أين أتيت؟ قلت: جئت من مكة ولي معاملة هنا وأرجع إلى مكة , قال: جزاك الله خيراً, يا أخي! أنا أسبك وأشتمك وأنت ترد علي بهذا الرد؟ قلت: ماذا أفعل؟ كان من المفروض أن أجنب لك من أجل أن تمشي، ولكن أخطأت في الرجوع! فأنا آسف لأني أخطأت! قال: لا والله ما أخطأت, بل أنا المخطئ، فقد كنت مهموماً وعندي مشكلة في العمل, ثم جئت ووجدتك أمامي، أنا آسف يا شيخ! ويقول: الاسم الكريم؟ قلت: فلان, قال: هل من الممكن أن تعطيني العنوان؟ قلت: تفضل, قال: تتغدى معي اليوم؟! فبدلاً من أن يضاربني يدعوني! فذكرت قول الله عز وجل: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] فسلمت من شره, لكن ما رأيكم لو نزلت عليه وضاربته, طبعاً هو رجل مثلي ربما يضربني أو أضربه, وربما يقتلني أو أقتله, حينها قد يبيت أحدنا في السجن والآخر في القبر, أو يكون كلانا في القبور من أجل ماذا؟! لكن بكلمة واحدة هدأت المشكلة, ولهذا يقول الشافعي رحمه الله في بعض أبياته:
لما عفوت ولم أحقد على أحد أرحت نفسي من هم العداوات
إني أحيي عدوي عند رؤيته لأدفع الشر عني بالتحيات
وأملأ الوجه بشراً حين مقدمه كأنما قد حشا قلبي موداتي
والإمام الشافعي كان جالساً في يوم من الأيام في حلقة من حلقات العلم فدخل عليه رجل أحمق يسبه ويشتمه، فما رد عليه بكلمة واحدة, فلما انتهى، قالوا له: يرحمك الله يا إمام! ألا دافعت عن نفسك؟ قال لهم ثلاثة أبيات:
قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم إن الجواب لباب الشر مفتاح
والصمت عن جاهل أو أحمق شرف وفيه أيضاً لصون العرض إصلاح
أما ترى الأسد تخشى وهي صامتة والكلب يخسى لعمري وهو نباح
الكل يخاف من الأسد وهو صامت, والكلب يرجم وهو ينبح, فهل الكلام والنباح دليل على أفضلية صاحبه؟ لا.
الأفضلية في الدفع بالتي هي أحسن، هكذا علمنا الإسلام وعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوتي من الحلم والأخلاق بأعلى قدر, حتى قال لـ ابن عبد قيس: (إن فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة) الحلم: الصبر على الناس, والأناة: عدم الاستعجال في اتخاذ القرار.(79/14)
كثرة الدعاء واللجوء إلى الله
ومن الأسباب التي تجلب السعادة للإنسان: كثرة الدعاء واللجوء إلى الله لشعورك بالافتقار خصوصاً عند الحاجة.
فأكثر صلتك بالله تعالى؛ لأنك إذا شعرت بأنك تدعو الله، وأنك تلح عليه؛ أكسبك هذا الشعور فرجاً ونصراً يبعث في قلبك الأمل والطمأنينة.(79/15)
عدم التفكير في مشاكل المستقبل
ومن أسباب السعادة: عدم التفكير في مشاكل المستقبل.
من الناس من يعيش مشكلة ليس لها وجود أصلاً -مثلاً- عنده ولد يحبه، ويقول: ولدي هذا لو يخرج من البيت فتصدمه سيارة طيب الحمد لله! الولد سالم ولم تصدمه سيارة، فلماذا تعيش في مشكلة غير موجودة؟ أو في هم غير موجود؟ اجعل لكل حادثة حديثاً, وعندنا مثل عامي يقول: "خلي الدموع لحزة البكاء" إذا جاء البكاء فاسكب الدموع في ذلك اليوم، لكن تدمع ولا يوجد بكاء غلط, وكذلك بعض الناس تجده في قلق وعذاب ومشاكل لماذا؟ يخاف أن يمرض وأن يأتيه السرطان، أو أن يفصل من الوظيفة, أو أن ينقل في قرية, لا تخف على شيء في المستقبل, دع المستقبل لله, وفوض أمرك إلى الله سبحانه وتعالى! وإذا حدثت المشكلة فاصبر لها، واطلب من الله عز وجل العوض عنها.(79/16)
إنجاز العمل أولاً بأول
العمل الذي يطلب منك اليوم أنجزه ولا تؤخره لغد؛ لأن غداً فيه عمل جديد, فكل يوم له عمله، فإذا أخرت عمل اليوم إلى الغد جئت في اليوم الثاني وقد تراكمت عليك الأعمال, وإذا أخرته لليوم الثالث صار عمل ثلاثة أيام وإذا تراكمت الأعمال على الإنسان وجاء في لحظة من اللحظات وأراد أن ينجزها وجدها كثيرة، وحينها يشعر بالقلق والاضطراب والحزن, لكن عندما ينجز عمله أولاً بأول بحيث يخرج من مكتبه وليس على مكتبه أي معاملة إلا واحدة تحت الإجراء, لكن هذا عندما يكون كل شيء أولاً بأول, بحيث يأتي في اليوم الثاني وهو نشيط للوظيفة, ولكن عندما يأتي والأعمال متراكمة، يقول: (الله أكبر على هذه المعاملات)، هات الجريدة لنعرف أخبار الكرة أمس، ويضيع الوقت مع صديقه: أين ذهبت أمس وكوم فوق كوم حتى يأتي يوم من الأيام فيه يَفْصِل أو يُفصَل.
وكذلك الطالب الذي يذاكر أولاً بأول: اليوم درست مادة وذهبت الليلة للمذاكرة.
وبعض الناس يتصور المذاكرة أنها حل الواجبات فقط، لا.
هذه اسمها حل الواجبات، وأما المذاكرة فهي ثلاثة أقسام: أولاً: مراجعة الماضي, ثانياً: حل الواجب, ثالثاً: تحضير المادة للغد, -مثلاً- عندي غداً مادة الفقه في باب القرض والأستاذ سيدرسنا غداً، إذاً أقرؤه الليلة وأراجع شرحه، بحيث يأتي الأستاذ وأنا جاهز حتى يضع الأستاذ بذر العلم والأرض عندي محروثة, ولكن عندما أترك التحضير إلى أن يأتي الأستاذ ويكون شرحه للدرس مثل الألغاز لا أفهمه؛ لأني لم أحضر المادة, فأنجز عملك وواجباتك أولاً بأول حتى تشعر بالسعادة.(79/17)
تنظيم الأوقات وترتيب الأمور
وأخيراً وليس بأخير: من أعظم أنواع السعادة: تنظيم الأوقات وترتيب الأمور، وجعل حياتك كلها منظمة, بحيث لا يكون هناك فوضوية في حياتك, فبعض الشباب تجده في غرفته عندما تدخلها تقول: هذه الغرفة نام فيها عفريت: مخدته في زاوية وسرواله في زاوية وكتاب هناك ودفتر هنا وإبريق الشاي هنا له ثلاثة أيام لم يغسله وفنجان مرمي هنا بينما تجد طالباً آخر عندما تدخل غرفته: السرير منظم، والدفاتر وحدها والكتب وحدها, وكل شيء منظم، هذا نوع من السعادة, وعندما تدخل غرفتك وهي بهذا الشكل تعيش سعيداً, لكن عندما تدخل غرفتك وهي بذلك الشكل الغير المنظم تشعر بالشقاء, لكنك عندما تريد كتاباً من عند شخص منظم سرعان ما يجده, وعندما تريد كتاباً من عند شخص غير منظم تجده يستعرض المكتبة من أولها لآخرها، وبعد ست ساعات يأتي بالكتاب، ولكن لو نظم الكتب: كتب العقيدة وحدها, والفقه وحدها, والسيرة وحدها, والأدب وحدها, والثقافة الإسلامية وحدها, فيصنفها حسب التصنيف المعروف أو التصنيف الجديد فستجده سعيداً, ولو أردت أي كتاب سرعان ما يأتي به هذا نوع من السعادة.
هذه -أيها الإخوة- بعض المفاهيم في السعادة، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا جميعاً السعادة, وأن يسكب في قلوبنا الإيمان، وأن يدلنا على العمل الصالح حتى نحقق أكبر قدر من السعادة.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما أقوله حجة لي وليس عليّ، وأن ينفعكم به وينفعني، إنه ولي ذلك والقادر عليه, والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(79/18)
معوقات على طريق سعادة الأسرة
الأسرة هي الخلية الأولى في البناء الاجتماعي، وهي العش الهادئ الذي ينعم بالعيش فيه جميع أفراد الأسرة؛ لذا فإن صلاح الأسرة صلاح للمجتمع، وذلك يغيض أعداء الله عز وجل، مما جعلهم يسعون إلى تفكيك الأسرة وهدم كيانها وذلك بوضع المعوقات في طريق سعادة الأسرة، وهذه المعوقات تتمثل بالمخدرات والأفلام والرفقة السيئة وغيرها، ولكن من تمسك بهدي الله وبسنة رسوله نجا من تلك المعوقات وأسس أسرة صالحة تعين على صلاح المجتمع المسلم.(80/1)
الأسرة وأهمية إصلاحها
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛ الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وأسعد الله أوقاتكم في الدنيا والآخرة، وجمعنا الله وإياكم في الدنيا على طاعته، وفي الآخرة في دار كرامته ومستقر رحمته.
في البداية: أشكر مكتب الدعوة والإرشاد بمدينة الرياض على هذا النشاط من الدعوة، وعلى هذا الأسلوب الفريد، والذي يحصل به التجديد، وتحصل به المصلحة والفائدة، حينما يعيش المسلم يوماً إسلامياً متكاملاً يعايش فيه إخوانه، ويتعرف فيه على أحبائه، في أقدس البقاع، وفي أحب الأماكن إلى الله عز وجل، وليأخذ أنموذجاً من الحياة الإسلامية المتكاملة من بداية النهار إلى نهايته، لا ليعيش هذا اليوم فقط، ثم يرجع إلى حياته الأولى، حياة اللهو والعبث واللعب، ولكن ليقضي حياته الجديدة بعد ذلك اليوم بمثل ما قضاها في مثل هذا اليوم، طبعاً بإضافة العمل، لا نريد أن يُفهم من هذا أن يجلس الإنسان في المسجد طول حياته؛ لكن نقدم في يوم الإجازة أنموذجاً بكيف يُستغَل الوقت فيما ينفع، وفي أيام العمل نضيف ساعات العمل الرسمي أو ساعات الكسب المعيشي إلى برنامجنا، ونحن بهذا أيضاً نعبد الله عز وجل.
فأشكرهم، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك في جهودهم، وأن يجعل ثوابها في موازين حسناتهم.
ولما كان الموضوع متعلقاً بالأسرة، والمعوقات في طريق سعادتها، فإن هذا هو الموضوع المختار للحديث عنه.
فالأسرة هي الخلية الأولى في البناء الاجتماعي، وهي العش الهادئ الذي ينعم بالعيش فيه جميع أفراد الأسرة، والمكونة من الأم، والأب، والأبناء، والبنات، وحينما تظلل تعاليمُ الإسلام هذه الأسرة فإنها تعيش في سعادة ورفاهية، مواجهة مصاعب الحياة ومشاكلها بالطرق الوقائية، وبالأساليب الشرعية، ذات الحلول الإيجابية.(80/2)
مسئولية الوالدين عن الأسرة
إن ما نلاحظه في زماننا هذا، وفي كل زمان من التمزق الأُسَري، ومن الفشل العائلي، ومن تشرد الأبناء والبنات، وضياعهم، وإهمالهم، حتى يقضوا حياتهم في غاية البؤس والضياع والفشل والسقوط، وما نشاهده هو نتيجة لجهل الأبوين، وهما قطبا الأسرة، مع نوع من الأفضلية، فالأب: هو المدير العام لشركة الأسرة، والأم: هي نائبة للمدير العام، والأولاد والبنات: هم العاملون في هذه الشركة، والله عز وجل يقول في مسئولية الأسرة: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] ويقول في قضية الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] ثم قال: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228].
لا تعني هذه الدرجة بأنها أفضلية، وإنما درجة مسئولية، ولا يعني في أي إدارة أنك إذا وجدتً مديراً ونائبه، أن المدير أفضل من نائبه، فربما النائب في قدراته وإمكانياته ودينه أفضل من مائة مدير؛ لكن شاء الله أن يكون هذا مديراً، وهذا يكون نائباً للمدير، وكذلك شاء الله أن يكون مدير الأسرة هو الزوج، ونائبه هي الزوجة، ولا يمكن أن تتدخل في صلاحياته، هو الذي يضع لها صلاحيات، ويحدد لها واجبات على ضوء التكاليف الشرعية، والأوامر الربانية، فإذا جهل الأب وجهلت الأم بالطرق الشرعية لتربية أبنائهما، وأهملا هذا الأمر العظيم الذي هو من أوجب الواجبات باعتباره مسئولية كبيرة فسيواجهون السؤال عنها يوم الوقوف بين يدي الله؛ فيُسأل الإنسان عن أولاده، عن فلذة كبده، عن أمانته؛ أحفظها أم ضيعها؟ يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (كلكم راعٍ، وكل راعٍ مسئول عن رعيته، فالرجل راعٍ في أهل بيته ومسئول عن رعيته) فهذا الحديث إذا مر علينا فإنا نأخذه بمأخذ السطحية، لا نغوص في أعماق النص، ونعرف ما معنى المسئولية؟ المسئولية تعني: أن الإنسان مسئول وموقوف بين يدي الله، فيسألك الله عن ولدك هذا: لماذا لم تعلمه دين الله؟ لماذا لم تربه على منهج الله؟ لماذا لم تكن له قدوة؟ بعض الناس تكون عنده رغبة في أن يكون ولده صالحاً؛ لكن هو نفسه لم يأخذ نفسه بالصلاح، فيعكس عدم صلاحه على ولده، ويأتي ولده فاسداً، وعندما يُسأل يوم القيامة هل يقول: إنه بنفسه؟ لا.
ليس بنفسه، بل أنت الذي أفسدته بسلوكك، وبعدم التزامك فانعكست هذه الأخلاقيات والسلوكيات السلبية على ولدك، ولو كنت صالحاً لأصلح الله عز وجل ولدك.
ويقول عليه الصلاة والسلام في بقية الحديث: (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها) وهذه الرعاية تقتضي الاهتمام بكل ما من شأنه المساس بمصلحة هذه الأسرة، في الكبير والصغير، والدقيق والجليل، في الدنيا والآخرة في الاجتماع في الاقتصاد في كل شئون الأسرة، مسئولة عنها، ولكنها تعني أول ما تعني: الاهتمام بالجانب المهم في حياة الأسرة، ألا وهو: جانب الإيمان جانب الدين جانب العقيدة والسلوك والأخلاق، ويوم أن يحصر الناس اهتماماتهم في تأمين الطعام والشراب، والكساء والسكن والسيارة، وتُهمل تلك الجوانب المهمة، فإن الأمة تنعكس وتنتكس وتتردى، وتعيش حياة البؤس والشقاء، فكم وجدنا من أسر تعيش في قصور عالية، وتركب سيارات فارهة، وتلبس ملابس عظيمة، وتأكل الأصناف المتعددة؛ لكن الجهل يخيم على هذه الأسرة، والفُسق يسيطر عليها، والشقاق والنفاق -والعياذ بالله- والتمزق العائلي! لماذا؟ لغياب الشريعة، ولغياب دين الله عز وجل في الهيمنة، وكم رأينا أسراًَ تعيش في أكواخ، وتلبس أسمالاً بالية، وتأكل طعاماً ناشفاً، وتمشي على أقدام حافية، ولكن بالإيمان والدين تكون الرابطة بين الزوجين وبين الأولاد والبنات قوية، وتظللهم السعادة في الدنيا قبل السعادة في الآخرة.
ويوم أن يحصر الناس اهتماماتهم فقط في المأكل والمشرب فإن الأسر تتردى، وتعيش حياة البؤس والشقاء، وتنتشر المشاكل والمآسي، وهو ما نلاحظه اليوم في كثير من المجتمعات في هذا الزمان.(80/3)
فضل حِلَق الذكر
حتى تعيش الأسر في سعادة وراحة وأمن واطمئنان، فإن هناك أسباباً، ووسائل، وأيضاً هناك موانع ومعوقات تحول دون تحقيق السعادة لهذه الأسر، وتؤدي إلى تحطيم كيانها، وزعزعة سعادتها، وهي كثيرة جداً، ولكن الإخوة المشرفين على هذه الندوة، وعلى هذا اليوم الإسلامي المبارك، الذي تقطفون فيه من الحسنات منذ أن دخلتم من الساعة السادسة إلى الساعة الثامنة -بإذن الله- ما يُسجَّل على واحد منكم سيئة واحدة في ديوان السيئات -بإذن الله عزَّ وجلَّ- إذْ كيف يُسجل عليك سيئات وأنت جالس مع الله! تذكر الله تأكل باسم الله تقوم إلى الصلاة تسمع العلم يدخل في رأسك كلام الله وكلام النبي صلى الله عليه وسلم؟! ومن أين تأتيك المعاصي؟! ما نظرتَ إلى حرام! وما سمعتَ حراماً! وما تكلمت بحرام! وما آذيتَ مسلماً! فأنت في روضة من رياض الجنة، والملائكة منذ أن دخلتَ وهي تصلي عليك وتقول: اللهم اغفر له اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، وتخرج وأنت (مليونير) في الحسنات، هذه نعمة أم ليست بنعمة يا إخوان؟! وكثير من الناس يقضي مثل هذا اليوم؛ لكنه يقضيه في معصية، وفي لعنة، وفي غضب -والعياذ بالله- يذهب إلى الوديان، وإلى الجبال، ولا مانع من أن يذهب إذا كان في أمرٍ حلال؛ لكن يذهب ومعه المنكرات والمعاصي، والدخان والشِّيشة، والأفلام والتبرج -والعياذ بالله- وضياع الصلوات، واللعن والسب، والكلام الساقط، ويرجع وهو (مليونير) في السيئات، متوج بغضب الله ولعنته والعياذ بالله.
أنت في يوم وهو في يوم، لكن شتان ما بين اليومين مثل ما بين السماء والأرض، يوم معك فيه الملائكة، يوم يباهي بك الله عز وجل في الملأ الأعلى؛ لأنك جالس في مجلس ذكر، والحديث في صحيح البخاري: يقول عليه الصلاة والسلام: (إن لله ملائكة سَوَّاحة -متجولة- تطوف حلق الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله حفوهم إلى عنان السماء، ثم يصعدون إلى الله عز وجل، فيسألهم وهو أعلم: كيف وجدتُم عبادي؟ قالوا: وجدناهم يهللونك ويسبحونك ويقدسونك، فيقول الله: فما وجدتموهم يسألونني؟ فيقولون: وجدناهم يسألونك الجنة؟ فيقول الله: وهل رأوها؟ قالوا: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ قالوا: لازدادوا لها طلباً وفيها رغبة، فيقول الله عز وجل: فما وجدتموهم يستعيذون بي؟ -اللهم إنا نستعيذ بك من عذابك ومن النار- فيقولون: وجدناهم يستعيذون بك من النار، فيقول الله: وهل رأوها؟ قالوا: لا، فيقول الله: فكيف لو رأوها؟ قالوا: لازدادوا منها هرباً وخوفاً، فيقول الله: أشهدكم أني قد غفرتُ لهم) اللهم إنا نسألك من فضلك في هذه الساعة يا ربي أن تغفر ذنوبنا، وأن تستر عيوبنا، وأن تغفر ذنوب آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا، وزوجاتنا وجيراننا وجميع إخواننا المسلمين.
ودائماً -يا أخي! - إذا دعوتَ فكبِّر الدعوة، لا تجعلها صغيرة، إذا دعوت فادعُ لك، ولوالدَيك ولإخوانك، ولزوجاتك ولذرياتك، ولجيرانك ولجميع المسلمين، وقد تقول: إنها كثيرة، لكن ما عند الله أكثر، ليس كثيراً على الله، اطلب فإنك تطلب غنياً، يقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي في صحيح مسلم عن أبي ذر الغفاري: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني، فأعطيتُ كل واحد مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) إذا أدخلتَ إبرة الخياطة في البحر وأخرجتها هل تنقص البحر؟ اذهب وقس طرف البحر وانظر كم نقَّصت الإبرة، لا إله إلا الله! {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] غني عظيم، ولذا إذا طلبت الغني فكثِّر واطلب، والله عز وجل يحب العبد الملحاح، ويحب الذي يُكثر الدعاء؛ لأنه غني تبارك وتعالى، نسأل الله أن يدخلنا في واسع رحمته.
- المعوقات التي تحطم كيان الأسرة:- إن هناك معوقات كثيرة، اختار الإخوة المشرفون على المجلس وعلى اليوم الإسلامي منها ثلاثة فقط، وهي: أولاً: المخدرات.
ثانياً: الأفلام.
ثالثاً: الأصدقاء.
هذه قنابل على الأسرة، هذه معاول في هدم كيان الأسر وسعادة الأسر: المخدرات الأفلام والأصدقاء.(80/4)
المعوق الأول في طريق سعادة الأسرة: المخدرات
المعوق الأول: وهو أخطرها، وأشدها فتكاً، وأعظمها تحطيماً للأسر والمجتمعات والدول والشعوب: آفة المخدرات:- المخدرات هي التي لا يقف ضررها عند حد، بل يتجاوز كل حد، ولا يسلم من أثرها أحد؛ لأنها شرور لا يعلمها إلا الله.
إن الفرد، والمجتمع، والشعب، والدولة، بل العالم كله ليعاني الآن من آثارها، وأضرارها، حتى أجمعت الأمم كلها -كافرها ومسلمها، كبيرها وصغيرها- على محاربة المخدرات؛ لقناعتها بأن أضرارها بالغة لا تُقاس؛ في الدين، والصحة، والاجتماع، والأمن، والاقتصاد، ومن أجل ذلك تحارَب على كافة المستويات.
وكيف تُحَطَّم الأُسَر عن طريق المخدرات؟ تُحَطَّم الأُسَر يوم أن تُمارَس المخدرات عن طريق أول جُرعة، وقد جرِّب ذلك، وكثير من الناس وقعوا مع أول خطوة، وانتهوا عند أول حبة تناولوها، يجلس أحدهم في المقهى، وهي مساجد الشيطان، إذا أردتَ أن ترى مساجد إبليس فاذهب إلى المقاهي، سترى المؤذن، وهو: المغني، وترى المآذن، وهي: الشِّيَش، وفوقها النار، وترى المصلين وهم قابعون على الكراسي، وكل منهم مادٌّ رجله، والشيطان يلعنهم ويسخط عليهم، ويبول في آذانهم، ويوم القيامة يتبرأ منهم، ويقول لهم: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:22] يقول: ما أخذتكم بحبل ولا بكتاب ولا غيرهما، هل يجد الشيطان أحدهم إلى القهوة؟ لا.
{إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22].
من الناس من يترك زوجته وأطفاله ويخرج من بعد العشاء ولا يرجع إلا الساعة الثانية عشرة ليلاً أو الواحدة ليلاًً، وأين هو؟ وهو يعبي جمراً أحمر -والعياذ بالله- ولا يطرب إلا لقرقرتها فوق رأسه، والشيطان يكبر ويهلل من عليها، يكبر تكبيرة شيطانية، تقرقر فوق رأسه فيحس لهذه القرقرة أنغاماً أعظم عنده من ترتيل القرآن، لا إله إلا الله! وبعد ذلك؟ أيضاً يمارس نوعاً آخر من العبادة، يلعب (الورق، وكبُّود، والدِّمنة، والكَيْرَم) ويضيع حياته -والعياذ بالله- ثم يتفل الشيطان في وجهه، ولا يعود إلى البيت إلا والشيطان فوق رقبته؛ لأن الشيطان الآن متطور، كان في السابق يمشي، أما الآن فأصبح يركب سيارات؛ لكنها ليست من حديد، وإنما سيارات بشرية، يقول الله: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} [المجادلة:19] استولى عليهم واستعمرهم، وقرطسهم ووضعهم في جيبه: {فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19].
يأتي الرجل ويجلس في القهوة، وذاك يضحك وهو منبسط، فيسأله الرجل ويقول: ماذا بك يا أخي؟ فيقول: هناك شيء ليس عندك، فيقول: وما هو؟ فيقول: ذُق لترى، ذُق فقط، فيقول: وما هذا؟ فيقول: هذا يجعلك ترى مصر وأنت هنا، فيقول: هات ننظر، وأخذ حبة وبلعها، فيقول: بكم هذه الحبة؟ فيقول: بعشرة، أو بخمسين، أو بمائة، وبدأ في الانزلاق، فيجيء في اليوم الثاني فلا يستطيع أن يصبر! ولا بد من حبة، فيحرم أولاده من مصروف المدرسة؛ لكي يشتري حبة، ويجعل ولده وبنته في المدرسة بدون فُسحة، يشحذون من الأولاد: أعطني قطعة جبنة! أعطني قطعة (ساندويتش)! فيقال له: لماذا؟ فيقول: أبي لم يعطني شيئاً، فيقال له: لماذا؟ فيقول: ليس عنده نقود، وهو عنده نقود، ولكن اشترى بها مخدرات، وبعد ذلك تستمر الانزلاقة إلى أن يفتقر الرجل، ويصبح راتبه كله في المخدرات، ولا يعطي أولاده شيئاً، فيموتون جوعاً، لماذا؟ لأنه لا يستطيع، فتنتهي رواتبه، وإذا لم تكفه فإنه يذهب ليسرق، يسرق حلية زوجته، ويدخل على المرأة، ويقول: انظري! أنا متورط أنا زهقان هناك أزمة أسرعي أعطيني (بِنْجِرة) أو أعطيني خاتماً، أو أعطيني قطعة من حليك؛ لأنني محتاج محتاج (ومزنوق إلى رقبتي) وهو فعلاً كذلك ورطة إبليس -والعياذ بالله- في هذه المأساة، وما ظنك عندما تضيع الأسرة بهذا الزوج الفاشل، فالأولاد يضيعون؛ لأنه لا يعرف عنهم شيئاً، والبنات يضِعنَ، والزوجة إذا كانت بلا دين ربما تضيع، وتذهب لتشتغل، إما بعمل مهني، أو ربما تبيع عرضها من أجل أن تكسب شيئاً تقتات به هي وأولادها بسبب هذا الخبيث الذي تدهور في بؤرة وحفرة المخدرات.(80/5)
أعراض إدمان المخدرات
هذه المخدرات، نعرف أعراضها، في كثيرٍ ممن يتعاطاها؛ لأنها ظاهرة، فمجرد أن تراه تعرف أنه من أهل المخدرات، كيف؟ - أولاً: الشعور بالخمول:- خامل حتى في عمله، حتى في دوامه، يأتي الساعة التاسعة والنصف، وإذا جاء أرخى ظهره على الكرسي، فيقال له: ما بك؟ فيقول: أنا متعب، لا أدري ماذا بي، فيقال: ما الذي أتعبك؟ أين كنت؟ هل كنت تجاهد؟ فيقول: لا ولكن متعب لا أدري ماذا بي، أحس نفسي أنني لستُ بجيد؛ لأنها خَدَّرَتْكَ المخدرات، فالشعور بالخمول دائماً وباستمرار، فهو خامل لا يستطيع أن يأخذ حتى ورقة، حتى في العمل نفسه، فتقول له: اكتب المعاملة هذه، فيقول: حاضر، فيكتبها: سعادة مدير عام كذا وكذا، أو مدير كذا وكذا، مرفقة المعاملة المتعلقة بفلان، نأمل الاطلاع والإحاطة والتوجيه، فقط وتخلص منها؛ لكن هل درسها، وعرف مضمونها، والتي رأينا، والتي لها خيارات، الخيار الأول الخيار الثاني يقدم معلومات، فيأتي المسئول يقرأها، هل هي كاملة من خلال المعاملة كلها أم لا؟ فهذه ليست موجودة، لماذا؟ لأنه كسلان تعبان مخدر يشعر دائماً بالخمول والكسل والاكتئاب، ودائماً هو غضبان ومكتئب وأعضاؤه كلها مرتخية والعياذ بالله.
ثانياً: اتساع حدقة العينين:- وأيضاً ظاهرة تراها فيه فتعرفها، وهي: اتساع حدقة العينين، عيونه موسَّعة، لماذا؟ نتيجة الاكتئاب والشد العضلي والنفسي فتتوسع عيناه؛ لأنه لا ينام، فتتوسع عيناه كأنها عينا سكران والعياذ بالله.
- ثالثاً: ارتفاع درجة الحرارة:- عندما تلمسه تجد حرارته مرتفعة باستمرار، فتلتهب تأثير هذه الحبوب.
- رابعاً: الصداع:- - خامساً: الدوار:- - سادساً: تصلُّب المعدة:- - سابعاً: الضعف العام في كل جسده:- - ثامناً: جفاف الفم:- - تاسعاً: الرغبة في النوم:- فرغبته دائمة في النوم، يرقد ويرقد إلى أن يقوم وقد تقلبت عيونه، وانتفخت، وأصبحت عينه الواحدة مثل الساعة من كثرة النوم، وإذا جاء في الصباح ليلبس أحذيته، فإنه لا يدخل حتى رجله بأكملها، يدخل نصف رجله، ويسحبها في الشارع سحباً، ويرمي بـ (غترته) على كتفه، وحتى زراره الذي على رقبته لا يشده، فلا فراغ لديه لذلك؛ لأنه يراه متعباً له، فيقول: كيف أشد زراري ثم أفتحه فيما بعد؟! لا.
أتركه مفتوحاً من الآن، لا إله إلا الله!! ثم بعد ذلك يستمر في التدهور إلى درجة أنه لا يعرف من هو.
قال لي أحد المسئولين في إدارة المخدرات: إن هناك شخصاً من المتعاطين سئل وقيل له: ما اسمك؟ فقال: هاه؟! ماذا تقول؟ قيل: ما اسمك؟ قال: أنا؟! دعني أتذكر! مَن أنا؟! لستُ أدري! لا إله إلا الله! هل هناك تحطيم أعظم من هذا التحطيم؟! من إنسان لا يعرف من هو؟! لا يعرف ما اسمه، أهو علي، أم عبد الله، أم سعيد، أم محمد؟! أي خير تأمله، أو أي شيء تريده من هذا الإنسان الذي لا يعرف من هو؟! أتريده أن يستمر في القيام بدوره في أسرته, أو في مجتمعه، أو في وطنه؟! كيف سيكون؟! سيكون مسكيناً وكرة يلعب بها الشيطان، كما يلعب بها الصبيان، وهو ما تسعى إليه دول الكفر في أن تورِّد لنا هذه السموم حتى تقضي علينا، وأنتم تعرفون أن من يقرأ التاريخ، يعرف كيف استطاعت بريطانيا أن تحطم وتستعمر الصين عن طريق المخدرات، إلى أن أتى رئيسٌ لهم وقضى على المخدرات، وإذا بـ الصين تنهض، وتصبح الدولة الخامسة العُظمى في العالم، وتفجر الذرة، وتكتشف القنبلة الذرية.
هذا بعد ماذا؟ بعد تَحررها من رِبْقة المخدرات.
لقد أنعم الله على الإنسان بالعقل؛ ليكون مسئولاً عن تصرفاته، وليقوم بتكاليف الدين، ولذا فإن مناط التكليف العقل، يقول عليه الصلاة والسلام: (رُفع القلم عن ثلاثة:) الحديث، وهذا من خصائص الدين الإسلامي، أنه إذا كان هناك عقل فإن هناك مؤاخذة، وإذا ارتفع العقل ارتفعت المؤاخذة، لماذا؟ لأن العقل هو الذي يضبط تصرفاتك: (رُفع القلم عن ثلاثة:) والمخدرات بأشكالها وأنواعها وجميع أصنافها المختلفة، تقوم بإفساد العقل، والقضاء عليه، وتعطيله عن القيام بدوره، وتحويل الإنسان من إنسان عاقل إلى إنسان مجنون، يقول ابن الوردي:
واترك الخمرة، لا تشربها كيف يسعى لجنون من عقلْ
وقد نشأت المخدرات منذ القدم، عن طريق تعرف الإنسان على بعض النباتات والأعشاب، وتناولها، ثم الاستمرار عليها، حتى يحدث لديه الإدمان، وهو الاعتماد الجسدي والعقلي عليها، ولذا تفتح الدولة الآن مستشفيات، اسمها: مستشفيات الأمل؛ لأن صاحب المخدرات لا يستطيع أن يتركها من عنده، بل لا بد من علاج؛ لأن المخدرات أصبحت جزءاً من تركيبته الجسدية، وأصبحت جزءاً من تركيبة دماغه وعقله، بحيث أنه إذا لم يجدها فإنه لا يستطيع العيش؛ ألا ترون بعض المدمنين إذا لم يجد المخدرات كيف يتصلب، ويحرك يديه، ويصعد عينيه، ويتلوى، ويقع في الأرض، ويتقلب، ويمدد رجليه ويديه؟! لماذا؟ لأنه نقص عليه شيء، فلا يحاول أن يعود إلى وضعه إلا عن طريق المخدرات، فتصبح المخدرات بعد الإدمان جزءاً من التركيب الجسدي والنفسي.
إذاً: هو يبدأ بجرعة صغيرة، ثم ثانية، ثم ثالثة، ثم لا يلبث أن يقع فريسة للمخدر، ويعجز عن الإقلاع عنه، وإذا لم يتناوله تعرَّض للآلام والتشنجات.(80/6)
نشأة المخدرات
وقد نشأت المخدرات منذ القدم، عن طريق تعرف الإنسان على بعض النباتات والأعشاب، وتناولها، ثم الاستمرار عليها، حتى يحدث لديه الإدمان، وهو الاعتماد الجسدي والعقلي عليها، ولذا تفتح الدولة الآن مستشفيات، اسمها: مستشفيات الأمل؛ لأن صاحب المخدرات لا يستطيع أن يتركها من عنده، بل لا بد من علاج؛ لأن المخدرات أصبحت جزءاً من تركيبته الجسدية، أصبحت جزءاً من تركيبة دماغه وعقله، بحيث أنه إذا لم يجدها فإنه لا يستطيع العيش؛ ألا ترون بعض المدمنين إذا ما وجد المخدرات كيف يتصلب، ويحرك يديه، ويصعد عينيه، ويتلوى، ويقع في الأرض، ويتقلب، ويمدد رجليه ويديه؟! لماذا؟ لأنه نقص عليه شيء، فلا يحاول أن يعود إلى وضعه إلا عن طريق المخدرات، فتصبح المخدرات بعد الإدمان جزءاً من التركيب الجسدي والنفسي.
إذاً: هو يبدأ بجرعة صغيرة، ثم ثانية، ثم ثالثة، ثم لا يلبث حتى يقع فريسة للمخدر، ويعجز عن الإقلاع عنه، وإذا لم يتناوله تعرَّض للآلام والتشنجات.(80/7)
أسباب تعاطي المخدرات
وهناك أسباب تدفع الناس إلى الوقوع في المخدرات، سواءً كانوا رجالاًَ أو نساء أو أولاداً أو بناتاً.
فبعض الناس لا يقع فيها مباشرة من عنده، بل لا بد من شخص يغرر به، ويخدعه ويمكر به، ويقول له: أتريد أن أريك شيئاً ينفعك، ويفعل بك كذا، فيقول: نعم، فيقول: خذ.
فيقع.
إذاً: ما هي هذه الأسباب؟ هذه الأسباب هي: - السبب الأول: ضعف الوازع الديني، وعدم الخوف من الله:- هذا أول سبب، إذ أن الذي يخاف من الله، وعنده إيمان، -فوالله- لا يتناولها، ولا يقرب منها، ولا يتعرف عليها؛ لكن البيئة الخصبة، والمجال الرحب لزرع وشيوع المخدرات هو ضعف الوازع الإيماني، وعدم المراقبة والخوف من الله عز وجل.
- السبب الثاني: مجاراة أصدقاء السوء، ورفقاء الباطل، والمجاملة لهم:- فالدخان يبدأ بأول سيجارة، والخمر يبدأ بأول كأس، والمخدرات تبدأ بأول حبة عن طريق المجاملة، فبعض الناس يجلس مع هؤلاء الأصدقاء والرفقاء، فيفتح أحد الأصدقاء والرفقاء الباكِت، ويخرج منه السيجارة مثل المدفع، ويقول له: تفضل.
يريد أن يكرمه، بل يريد أن ينسفه بمدفعه الشيطاني -والعياذ بالله- فيقول: شكراً، فيقول: لا يا شيخ! جرِّب لا بأس لا يهمك شيء، أنا عندي الكثير منه يظن أنه رفض؛ لأنه ظن أنه بخيل! (بينما هو) لا يريدها ولا يريد صاحبها.
أحد الناس وهو دكتور، كنت أنا وهو نتكلم في موضوع الدخان، وهو يعلمني بجميع أضراره، وبينما نحن نتكلم إذا به يدخل يده في جيبه من غير شعور وهو يتكلم معي، ويخرج الباكِت، ويخرج منه السيجارة، ثم يقدَّم لي، فقلتُ: لماذا هذا؟ انتبه! فقال: آسف آسف والله نسيت! فالعادة أصبحت (أوتوماتيكياً) تبعاً للشيطان، فيخرجها بدون شعور منه، والعياذ بالله.
- السبب الثالث: الاعتقاد بزيادة القدرة على السهر، وزيادة الإنتاج:- وهذا اعتقاد باطل، فالبعض يعتقدون أن الذي يشرب المخدرات يستطيع أن ينتج أكثر، ويسهر أكثر، ولذا يشربها السائقون في أيام المواسم، مواسم الحج والأعياد، لا يريد أن ينام في ليل ولا في نهار، فيأخذ حبوباً، ثم يعود فينام نومة لا يقوم منها إلى يوم القيامة، يريد أن يسهر ساعات، فيرقد أياماً وليالي -والعياذ بالله- إما في حادث مروري، وإما أن يقع في السجن، وإما أن تحدث له نكبة؛ لأسباب تعاطيه هذه الحبوب التي يسمونها: (حبوب الكونغو).
- السبب الرابع: الاعتقاد الخاطئ بأن للمخدرات علاقة بالجنس:- فيكون لدى المتعاطي ضعف جنسي، لا يستطيع أن يمارس عملية الجنس مع زوجته، فيقول له شخص: أتريد أن تكون قوياً، فيقول: نعم.
فيقول: إذاً: خذ لك هذه الحبوب، فيبرُك ويتعطل، ولم يعد يقدر على فعل شيء بالمرة، لا -يا أخي- إذا أردت أن تكون كذلك، فأولاً عليك بالتحصن من الحرام، غُض بصرك عن الحرام، صُنْ سمعك عن الحرام، لا تنظر إلى الحرام؛ لأن النظر والسماع يصرف جزءاً من شهوتك؛ ولكن إذا أمسكت نفسك عن الحرام، وصرفته في الحلال، فستقوى، وأيضاًَ: كُلْ مما رزقك الله من الطيبات، كل من الشحم واللحم، والبر والسمن والعسل، والتمر، وهذا يجعلك رجلاً بدون مخدرات.
- السبب الخامس: الاعتقاد الخاطئ بأنها علاج للأرق والقلق:- فبعض الناس لا يأتيه نوم في الليل، فيقول: كيف أنام؟ فيقال له: خذ لك حبوباً ونم.
وهي في الحقيقة ليست منومة، وإنما هي مزعجة والعياذ بالله.
- السبب السادس: إيهام المتعاطي بأنها تنسيه مشاكله، وأنها تقضي على آلامه وأوضاعه:- وهذا خطأ، وكما يقال: (دخِّن عليها تنجلي)، فالأصح: دخِّن عليها تضيق وتشتد، لا أنها تنجلي.
- السبب السابع: وفرة المال:- وخصوصاً عند الشباب الصغار الذين لا يبالي آباؤهم بالمبالغ التي في أيديهم.
إن الشباب والفراغ والجِدة مفسدة للمرء أي مفسدة
فإذا كان عمر الشاب خمسة عشر عاماً أو عشرين عاماً، وأبوه يرمي بالأوراق المالية في جيبه، ولا يحاسبه، وهو لا يعرف قيمة المال، لأنه لم يتعب فيه، ويذهب فيشتري، وربما يتعاطى، فيقع -والعياذ بالله- وهو قليل التجربة، وأيضاً ناقص الأهلية، ولا يستطيع أن يميز بين الحق والباطل، وبين الشر والخير، فيقع في هذه البلية.(80/8)
آثار المخدرات على صحة الإنسان
وللمخدرات -أيها الإخوة- آثارها العظيمة المدمرة على صحة الإنسان، وعلى بدنه، وعقله، فهي: 1 - تؤثر تأثيراً قوياً على الجهاز العصبي.
2 - تؤثر على الجهاز الهضمي.
3 - تسبب هبوطاً في القلب.
4 - تذهب العقل.
5 - تفقد الوعي.
6 - توهن الصحة.
7 - تقلل من قدرة الإنسان على القيام بالواجبات، فيصبح شخصاً مهزوزاً كسولاً سطحياً متواكلاً مهملاً منحرف المزاج، تهتز صورته في المجتمع، وتضعف الثقة فيه، فتسيء الأمة الظن به.(80/9)
آثار المخدرات على أمن الأمة
أما آثارها الأمنية، على الأمة، فهي: 1 - أثبتت الدراسات الأمنية وجود رابطة قوية بين متعاطي المخدرات وأصحاب الجرائم؛ جرائم السلب، والقتل، والاغتصاب، والسطو، من أجل ماذا؟ من أجل الحصول على المخدرات، فإن كان المدمن لا يتورع عن السرقة، والنهب، ولا يتورع عن السلب والاغتصاب، من أجل الحصول على هذه المخدرات.
2 - لا يتورع عن إفشاء أسرار بلاده لأعدائه؛ في سبيل أن يأخذ شيئاً من هذه المخدرات.
3 - ثبت أن نسبة كبيرة من حوادث السير المرورية؛ يكون سببها تعاطي المخدرات عند السائقين الذين يتوهمون أنها تزيد من قدرتهم على السهر ومواصلة السفر.(80/10)
آثار المخدرات على الاقتصاد
أما الآثار الاقتصادية فواضحة جداً؛ وهي: 1 - تعاطيها يؤدي إلى الإدمان -كما أسلفنا- وهذا يتطلب صرف مبالغ طائلة، دون أي جدوى.
2 - شيوع البطالة.
3 - عدم قيام المدمنين بأعمالهم المنوطة بهم، فيتعطل الإنسان، وينخفض مستوى المعيشة، وتتدهور الأمة، وينتشر الفقر، ويتأثر الاقتصاد، وتحصل الويلات والنكبات، ولذا فإن الدول المتأخرة الآن والفقيرة، سواءً أكانت عربية أو غير عربية، إسلامية أو غير إسلامية، الداء الوبيل الذي يقضي عليها هو: المخدرات.(80/11)
آثار المخدرات على المجتمع
أما أضرارها الاجتماعية، فإن انتشار المخدرات في أي مجتمع يؤدي إلى الآتي: 1 - تدمير المدمنين.
2 - وبالتدمير يحصل عجزهم عن القيام بواجباتهم الأسرية.
3 - وبالعجز يحصل انتشار الفقر والجهل والمرض، وتتفشى الجرائم والفساد الخلقي وهتك الأعراض.
كل ذلك بأسباب هذا الداء الخطير.
والحمد لله ففي بلدنا ومجتمعنا، وفي ظل قادتنا -بارك الله فيهم- يُحارب هذا الداء محاربة شديدة، ويُضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه أن يسير فيه، سواءً أكان هذا تعاطياً، أو ترويجاً، أو تهريباً، أو بيعاً، كل هذه جرائم، ليس فيها إلا السيف الأبتر.
ولذا فإن مسئولية كل فرد فينا -أيها الإخوة- أن نكون عيناً على هذه الجريمة، ولو كان المجرم ولدك، فلا تتستر على من سمعت أو علمت أن عنده شيئاً من هذه المخدرات، والله إذا تسترت وسكت، ولو كنت لست مسئولاًَ فأنت مسئول عن هذه الأمة، كلكم مسئول، فإذا علمت أو سمعت عن زميل، أو قريب أو بعيد، أو ولد أو أب، أو زوجة أو بنت، أو أي إنسان في الدنيا مهما كانت صلتك به، إذا علمت أن عنده من هذه شبهة، فبلغ به رأساً سلطات الأمن، وإذا لم تبلغ وتسترت عليه فأنت -والله- خائن لله ولرسوله ولهذه الأمة، وربما تُبتلى أنت إذا سكت، فإنه ربما بعد سنوات ستجد المرض في ولدك، أو في ابنتك، أو زوجتك، أو فيك أنت، لماذا؟ لأنك رضيت بالمنكر، وهذه أمانة، أضعها ويضعها ولاة الأمر في عنق كل مسلم، كل منكم على ثغرة من ثغور الدين، فلا يؤتى الإسلام من قِبَله.
فالمسئولية ليست مسئولية رجال مكافحة المخدرات فقط، ولا رجال الأمن فقط، بل هي مسئوليتهم في الدرجة الأولى، وكذلك مسئوليتك أنت في الدرجة الثانية مثلهم، كمواطن وكمسلم، يهمك أمن هذه البلاد، ويهمك أمر سعادة الأسر، ويهمك أمر الأمة بشكل عام.
فعليك أن تكون عيناً على هذه الأمور، وما إن تسمع شيئاً إلا وتذهب إلى ولي الأمر، وتبلغ، وطبيعي أنه لن يُفشى اسمك، فتقول لهم: أنا بلغت، ولكن لا تقولوا: إنه قالها فلان.
فطبيعي أنهم لن يقولوا: قالها فلان، وإنما سوف يقبضون على الجاني، ويقضون على المنكر -بإذن الله-، ويكون لك شرف أنك ساهمت في القضاء على هذه الجريمة، وهذه المعضلة الاجتماعية الخطيرة.(80/12)
المعوق الثاني في طريق سعادة الأسرة: الأفلام
المعوق الثاني: وهو مهم جداً جداً، وهو: معضلة الأفلام:- الأفلام؛ وما أدراك ما الأفلام؟ لقد أحدثت هذه الأفلام هزة عميقة كبيرة في الأسر وفي نمط الحياة الاجتماعية فيها، حين أصبح مجرد تجمع الأسرة حول بعضها ضرباً من ضروب المستحيلات، فما عاد أحدٌ يجد الأب، ولا الأم، ولا الأولاد، كلٌّ في داره على الفيديو، يتلقى ويتعلم من دروس الكفر والضلال -والعياذ بالله- وحين أخذت القيم التي تبثها الأسرة في الأطفال في الاضمحلال والانتهاء؛ لتحل محلها القيم المقتبسة والمستوردة من أفلام رعاة البقر، ومسلسلات العنف، وتمثيليات الجنس، وحلقات الجريمة والبوليس، وهي دائرة ضخمة من الآثار الوخيمة، تصنعها الأفلام، ويتشبع بها أفراد الأسرة كل يوم، وتتغير -تبعاً لذلك- أنماط في حياة الأسرة كلها، فوقت النوم أيضاً يتغير، وكان الناس في الماضي ينامون بعد صلاة العشاء، وكانوا عندكم في نجد هنا إذا سمعوا النجار سهر بعد صلاة العشاء، دقوا عليه الباب، وأخذوا غترته وحرقوها وصبوا الماء على ناره، ويقولون له: أتسهر بعد العشاء؟! أمعقول أن تضيع الفجر؟! أما الآن فقد أصبح النوم بعد العشاء جريمة، إذا سأل شخص آخر وقال له: متى ترقد؟ فقال: بعد العشاء، قال: أعوذ بالله! أترقد بعد العشاء؟! أفيك خبل حتى لا تسهر؟ وإذا قال له: ومتى ترقد أنت؟ قال: ما أنام إلا الساعة الواحدة، بعد انتهاء الفيلم، أو بعد المسلسل (الذي يسلسل عقله والعياذ بالله)، حتى أصبح المسلسل موعداً، فيقال: متى العشاء: بعد الأخبار أم بعد المسلسل؟ فيقال: العشاء بعد المسلسل.
أصبح المسلسل حدثاً اجتماعياً، لا بد أن نحرص عليه، وبعضهم تجد أن عنده زائراً، أو هو زائر عند آخر، فإذا جاء وقت المسلسل قال: أستأذن، فإذا قيل له: ماذا هناك؟ قال: المسلسل، لا أريد أن يفوتني، فإذا قيل له: لماذا؟ قال: وقف المسلسل البارحة عند نقطة هامة، وأنا -يا أخي- أعيش في دوامة، أريد أن أراها.
ما هذه النقطة الهامة، أتدرون ما هي؟ هي كذب في كذب، تجد سبعة كذابين أو ثمانية، أو عشرين كذاباً جمَّعهم كذاب، وألف لهم كذبة في ورقة، وسماها: مسرحية، وأتى بهم، ووزع عليهم الأدوار، وقال: أنتَ في دور الأب، وأنتِ في دور المرأة، وأنتِ في دور البنت، وأنتَ في دور الولد، وأنتَ في دور الخادم، وأنتَ في دور السائق، وجلس معهم شهرين أو ثلاثة أو أربعة، وهو يعلمهم الكذب، ويصنع لهم كذباًَ في كذب، وبعد ذلك، أخرج هذه الكذبة إلى الناس، وإذا بالناس يعيشون معها.
حتى أن من الناس من يعود إلى بيته فيجد زوجته تبكي، فيقول لها: ماذا بك تبكين؟ فتقول: هل رأيتَ النهاية المرة والأليمة التي حصلت لتلك المسكينة؟ فيقول: يا فلانة، والله لا نهاية ولا شيء، والله إنها كذب في كذب كيف تعيش بعقليتك على الكذب، أنا الآن لو قلتُ لكم وأنا في مجيئي الآن، جئت -مثلاً- من شارع المطار إليكم، فلو قلتُ لكم، وأنتم تثقون بكلامي: لقد مررتُ بحادث مروري مروِّع، كانت ضحيته العشرات من الناس، أربع أو خمس سيارات اصطدمت كلها، وبعد ذلك جاء المرور وسألوا الجرحى، وساهمتُ أنا معهم، أما تتأثرون بهذا الخبر؟! مباشرة ستقولون: إنا لله وإنا إليه راجعون، فإذا أكملتُ الخبر، قلتُ: لا تصدقوه فهو كذب، فماذا ستقولون لي؟ ستقولون: الله أكبر عليك، لماذا تخذلنا يا شيخ؟ لماذا تعلمنا الكذب؟! وتشد أعصابنا بالكذب؟! هذه المسلسلات، وهذه الأفلام كلها كذب في كذب.
فالنوم أصبح في هذا الوقت من بعد العشاء أعجوبة الزمان، وحتى نمط الطعام أصبح متغيراً، لم يعد مثل الأول، ونمط الاستضافة، فبعض الناس تأتي إليه تريد أن تدق عليه بابه، وتريد أن تسمر معه، فيشغل لك فيديو، ويقول: اسمر مع الفيلم، فتقول له: يا أخي! أنا جئت لأزورك، أم جئت لأزور الفيلم؟ أريد كلامك، لا أريد الفيلم، فيقول: لا.
الفيلم مهم، انظر إليه، بمعنى: انصرف، لا يريدك أن تجلس معه، لا حول ولا قوة إلا بالله! واختفت الحياة الهادئة، وتعود الناس على الضجيج والصخب، وحصل الاضطراب في الأعصاب.(80/13)
أضرار مشاهدة الأفلام
أدى إدمان مشاهدة تلك الأفلام إلى الآتي: 1 - انعدام الحس الإيماني.
2 - استمراء الأخطاء الظاهرة، وعدم إنكارها.
3 - صار الناس يتقبلون أن يروا رجلاً يحتضن شابة؛ لأنه يمثل دور أبيها مثلاً؛ وصدَّقوا ذلك، وهو في الحقيقة ممثل، وهي ممثلة، لا هو أبوها، ولا هي ابنته، ويضمها ويقول: يا حبيبتي! ويا ابنتي، وهي ليست ابنته حقيقة؛ لكن صدق الناس أنها ابنته.
4 - أيضاً صار الناس لا يتحرجون من مشاهدة رجل وامرأة في وضع الزوجين، مع أنهما ممثلان وليسا بزوجين.
5 - صار الحس الإسلامي متبلداً، لا أحد ينكر أن يرى المرأة حاسرة الرأس، كاشفة الصدر والرقبة والساقين والذراعين.
6 - لا يتحرج المسلم ولا المسلمة من مشاهدة من يشرب أكواب الخمر، ومن يمارس جرائم الاغتصاب والسرقة والقتل، والسباب والشتائم بأقذع الألفاظ؛ لأن تلك الأشياء كلها مُعَلَّمَة من تلك الأفلام.
7 - لم يعد لفراش الزوجية وغرفة النوم ذاك الاحترام، والحشمة، والسرية.
كان الناس يعيشون ويموتون وهم لا يعلمون شيئاً عن غرفة النوم، إلا مع أزواجهم إذا تزوجوا، أما الآن فقد أصبحت حياة الأزواج مكشوفة في الأفلام بصورة مبتذلة، وفي إسفاف بالغ، حين يُرى الزوج وزوجته على السرير، والولد الصغير، ولهذا يقول عزَّ وجلَّ: {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [النور:58] لكم ثلاث عورات، لا يمكن أن يدخل عليكم أحد إلا بإذن حتى الأطفال.
الثلاث العورات هي: الأولى: {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} [النور:58] والثانية: {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} [النور:58] والثالثة: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور:58] لماذا؟ لحرمة الغرف، ولحرمة سرير النوم؛ حتى لا يفاجئك الإنسان وأنت على وضع لست مستعداً فيه؛ لكن اليوم! هل بقي على الطفل شيء يخفى عليه بعد هذه الأفلام، بل ينظر إلى الفيلم، ويقول: إذاً أمي وأبي يفعلون هكذا، وربما أكثر، فهل عاد للأسر كيان؟ أبداً؛ لأنه يرى الدروس العملية أمامه في الأفلام، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
إن الإنسان -أيها الإخوة- يكَوِّن قيمه الأساسية عن الحياة من تقليده لوالديه، ولذا جاء في الحديث، والحديث في صحيح مسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) ويقول الله عز وجل في الحديث القدسي: (إني خلقتُ عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين).
هذا التأثير ينحصر في الوالدين، وفي الأهل في البيت، لكن عندما يكبر الولد، يتأثر بالمؤثرات الأخرى، مثل: المدرسة، والمجتمع، والشارع، والزملاء، والكتاب، والجريدة، والمجلة، والشريط، كل هذه المؤثرات في الماضي، أما في هذا الزمان فقد أصبحت هناك وسائل عظيمة تؤثر في نفسية الطفل مبكراً، أكثر مما يؤثر فيه والداه، وكذلك المجتمع، هذه المؤثرات هي: الأفلام، أعاذنا الله وإياكم من شرها.
حينما يقضي الطفل أو يبقى مشدوداً ساعات طويلة لمتابعة الفيلم، فإن مفاهيم هذه الأفلام تنعكس عليه، وتنغرس في نفسه، في حين أنه لا يستطيع أن يميز بين الضار والنافع، ولا بين الخير والشر.
بجانب سكوت الآباء والأمهات، بل تعلق الآباء والأمهات، فبعض الآباء يقول: الأولاد شغلونا وما ريَّحونا، فإذا قيل له: فماذا تصنع؟ قال: أحضر لهم فيلماً لكي يناموا عليه، وبعضهم يقول: أشاهد الفيلم معهم، فينتقل هذا طبيعياً إلى الأبناء، بحيث تصبح مواقفهم مشابهة لمواقف آبائهم، ثم لا يقبلون فيها جدلاً ولا يسمعون حولها نصيحة.
إن الأطفال بطبيعة الحال لا يستطيعون إنتاج تلك الأفلام، ولا يقدرون على شراء أجهزتها، وهم عاجزون عن القيام بدور الرقابة على أنفسهم، والمسئولية في كل ذلك على الآباء.
إن المسئولية تحتم على الآباء حماية أطفالهم من أي ضرر نفسي، أو أخلاقي، أو عقائدي.
والعاطفة، والرغبة، والرحمة، والشهوة الجنسية لا ينبغي أن تطغى على تصرفات الآباء؛ لأنهم وإن استطاعوا أن يتحكموا في تصرفاتهم هم إلا أن هذا التحكم غير موجود عند الأطفال، فعليهم التضحية؛ لأن الطفل أمانة في أعناقهم سيُسألون عنها يوم الوقوف بين يدي الله.(80/14)
أخطار غياب المسئولية عند مشاهدة الأطفال للأفلام
إن إهمالهم لهذه الأمانة سيؤدي إلى وقوعهم ووقوع أسرهم في الأخطار العظيمة التي منها ما يأتي، وأرجو التركيز قليلاً حتى نعرف الخطر:- - أولاً: زعزعة ثقة أفراد الأسرة في الإسلام:- وذلك؛ لأن الفرد منهم يشاهد كفاراً، وإذا لم يكونوا كفاراً وكانوا عرباً فإنه يشاهد فَسَقَةً ومجرمين لا يعرفون الله، وبالتالي يأخذ القدوة منهم، ومن أخلاقهم.
- ثانياً: زعزعة ثقته في آداب الإسلام:- فحينما تقول للفرد: إن هناك حجاباً في الشرع، يقول: ما الحجاب؟ وأنا طول عمري، منذ أن كان عمري سنة إلى أن صار عمري خمس عشر سنة أو عشرين سنة، ما شاهدتُ امرأة في هذه الأفلام متحجبة؟! ما هو الحجاب؟ وحينما تقول: الدخان ليس طيباً، قال: كيف يكون الدخان ليس طيباً، وذاك الفلاني يجلس على المكتب، وهو في دور المدير، أو في دور المستشار، أو في دور الخبير ويدخن، ويعطي الأفكار؟! فهذا قدوته تجده يتصور أنه لا يمكن أن يكون مديراً أو مسئولاً إلا إذا دخَّن، ولذا يدخن قبل أن يكون مديراً؛ أخذاً من القدوة السيئة.
- ثالثاً: تعليم الأسرة أخلاقيات هؤلاء، والتدرب عليها، وأخذ حركاتهم وأعمالهم ولغتهم، حتى تصرفاتهم:- كانت المرأة في الماضي وهي تتكلم مع الرجل تتكلم بالمواجهة، فتقول: أعطنا كذا، وأعطنا كذا، لكن في الأفلام اليوم تعلمت المرأة حتى كيف تقف أمام زوجها، إذا كان واقفاً جاءت إليه وأقبلت بظهرها وقالت له: من فضلك، أعطنا لحماً، وأعطنا أرزاً، وأعطنا كذا، حتى ينهرها من كتفها، ويقول لها: التفتي، لا ردك الله، ماذا بكِ؟ فتقول: أما رأيت تلك كيف تتكلم مع زوجها؟! تعطيه ظهرها، وتتكلم معه، من باب الترقي والتطور، من أين تعلمت هذا؟! تعلمته من الفيلم، تريد أن تكون راقية، تريد أن تكون متطورة، ما عرفت التطور إلا من هذا؟! ما أخذت القدوة إلا من هؤلاء الأرجاس والأنجاس والعياذ بالله.
- رابعاً من أخطارها: عدم إنكار المخالفات، واستباحة تلك المحرمات:- فلا تُنْكَر المخالفات ولا استباحة المحرمات.
- خامساً: تفجير كوامن الشهوة في نفس الإنسان، وإشعالها:- وذلك حينما يرى الأجساد العارية، ويرى السيقان، ويرى الخصور، ويرى النهود، ويرى الرقاب، ويرى الابتسامة، ويرى الشعور، والحركات البهلوانية التي تغريه وتحرقه، وهو مسكين، ماذا يفعل؟ سيقتل نفسه، إما أن يذهب ليفعل جريمة الزنا، أو يفعل جريمة اللواط، أو يفعل جريمة العادة السرية، أو يبقى مكبوتاً؛ لأنها تُشْعل فيه كوامن الشهوة، ولا يجد لها تصريفاً، فربما كان من غير زوجة.
- سادساً: دعوة الشباب إلى السفر إلى الخارج:- لأنه يرى هذه الحياة، فينظر إلى مجتمعه المسلم فلا يرى لها صدىً ولا يرى لها انعكاساً، فيحاول أن يجد هذا الشيء الذي رآه في الفيلم، فيراه في الحقيقة، فيطلب من والده النقود، أو يكون موظفاً فيأخذ رواتب إجازته، ويذهب لقطع جواز، وقطع تذكرة، ويذهب إلى الخارج ليمارس الخمر، ويمارس الزنا، ويضيع الدين، ويرجع -والعياذ بالله- وهو بلَبِنَة واستِمارَة، ما عاد له دين، أصبح خصوصي جهنم -والعياذ بالله- ضيَّع دينه وأخلاقه، بل بعضهم يعلق الصليب في رقبته، تأتيه الغانية والزانية، فتقول: مِن أجل خاطري فقط، منظرك ليس جميلاً إلا أن تأخذ هذا العقد في رقبتك.
فيعلق الصليب، وبعضهم أشياب والصليب في رقبته، لا إله إلا الله.
- سابعاً: تعويد أفراد الأسرة على الاستهتار:- وعدم إقامة أي وزن لأي شيء.
- ثامناً: شغل الشباب عن التحصيل العلمي، وقضاء الأوقات فيما لا فائدة فيه:- فلا علم ولا فائدة.
كل هذه أخطار تحيط بالأسَر إذا أهملت هذه الآفة، وإذا استمرئت في أسر المسلمين.(80/15)
وسائل علاج المجتمع من ظاهرة الأفلام
لعل سائلاً يسأل فيقول: ما هو العلاج لهذه المعضلة الاجتماعية؟ فنقول: هناك عدة وسائل للعلاج: - الوسيلة الأولى: إشعار الأطفال في بيتك بقيمة الوقت:- وأن الوقت هو عمر الإنسان، وأن إهدار الوقت في غير مصلحة ضرر عليه، وخسارة لا تعوَّض، وعلى الأب أن يكون قدوة في هذا الاستغلال للوقت، وما هذا اليوم الإسلامي إلا أنموذجاً لكيفية استغلال الوقت فيما فيه مصلحة أو فائدة.
- الوسيلة الثانية: تعويد الأطفال على النوم المبكر ليلاً عن طريق عدم السماح لهم بالنوم نهاراً:- علِّم زوجتك أن توقظ الأولاد بعد صلاة الفجر، ويذهبون إلى المدرسة، وبعد رجوعهم من المدرسة -إذا كانوا يدرسون، أو إذا كانوا صغاراً- امنعهم من النوم، والذي ينام صبوا عليه الماء، لكي لا يأتي العشاء إلا وهو يريد أن ينام؛ لكن أن ينام طوال اليوم، ثم يأتي في الليل فيظل ساهراً إلى الفجر، وهو يتقلب أو يطالع في الأفلام، هذا خطأ، فقد قلب آية الله عز وجل، الله جعل الليل سكناً والنهار معاشاً، وهذا قلبها فجعل النهار نوماً والليل -والعياذ بالله- سهراً، فلا يسهر في الليل إلا الحيوانات السائبة، فالليل لا يخرج فيه إلا الحيات والعقارب، وهذه هي التي تؤذي الناس.
- الوسيلة الثالثة: إشعار الأطفال بأهمية القيام بالواجبات الدينية، وأنها أقدس ما يُحرص عليه، وزرع محبة الصلاة، والقرآن، والذكر -مثل أذكار الصباح والمساء- في قلوب الأطفال، وقد أخبرني رجل شاب أن لديه ولدين، أحدهما في ثالثة ابتدائي، والثاني في أولى ابتدائي، فقال: إن ولده ذهب إليه وأخذ يعلمه ويقول: يا أبي! لا بد أن نصلي في المسجد كل الصلوات، والأغاني هذه يجب ألا نسمعها.
قال: فقلت له: من الذي قال لك؟ قال: قال لي الأستاذ، قلت: حسناً.
قال: وكنت أتصور أن الولد يضحك أو أنه لن يلتزم بما قال؛ لكن الولد -ما شاء الله- التزم، وأصبح بمجرد أن يسمع أي نغمة يقوم مباشرة ليقفل الجهاز، قال: وأرجع من الدوام الساعة الثانية والنصف، وأجده متوضئاً وجالساً يرقبني، ومن مجرد أن نتغدى يقول: هيا نصلي يا أبي! قال: ثم صبرت عليه في أول أسبوع، وفي الثاني، وبعد شهر، قال: نعم أريده أن يكون ملتزماً؛ ولكن قليلاً قليلاً، لا مثل هذا، فهذا لا لعب بالمرة، قال: يُصِرُّ على ألا أصلي إلا في المسجد، وأنا أريد أن أصلي في البيت أحياناً؛ لأنني آتي من الدوام متعباً، وفي الصباح لا أستطيع أن أصلي الفجر في المسجد؛ لأنني أسهر في الليل، قال: وإذا بالولد -ما شاء الله- لا يأتي الفجر إلا وهو مستيقظ، ويأتي يطرق عليَّ الباب ويقول: الصلاة يا أبي، الصلاة يا أبي! قال: وأخيراً: ضاق الأمر بي مع هذا الولد.
فقلتُ: وماذا فعلتَ؟ قال: والله في ضيق منه، قلتُ: لا إله إلا الله! في ضيق منه، يوم أن جعله الله قرة عين لك في الدنيا والآخرة؟! يكون سبباً لهدايتك إلى الجنة، لا تقتل هذه المفاهيم فيه! إياك! احذر! إذا قتلتها قتلك الله في الدنيا والآخرة، وسلطه الله عليك، وسلط الله عليك من ينتقم منك في الدنيا والآخرة، كن عوناً له على طاعة الله عز وجل.
- الوسيلة الرابعة: تذكير أو إخبار الأولاد بالحلال والحرام:- أ- علِّم أولادك دائماً ما هو الحلال، وما هو الحرام، وما هو الخير، وما هو الشر، وما نتائج كل شيء، وقل لهم: النظر إلى النساء حرام، وسماع الأغاني حرام، والنظر إلى الأفلام حرام؛ لأن هذه تؤدي إلى الزنا، والزنا يغضب الله، ونهاية الزنا العذاب في الدنيا والآخرة.
ب- أعطهم ثقافات إسلامية في وقت مبكر؛ حتى تحميهم وتصونهم من الوقوع في هذه الجرائم.
جـ- عودهم على نبذ الأغاني والمعازف، وعلى إنكارها، وإغلاق الأجهزة عند سماعها، والمسابقة لإخماد صوتها.
د- عودهم على النقد الإيجابي، وقوة الملاحظة، وسرعة الانتباه.
هـ- أخبرهم أن معظم هذه الأفلام مورَّدة من ديار الكفر، وأن الكفار أعداء للإسلام، وأنهم يحرصون على إفساد المسلمين، وأسر المسلمين، ولم يقدموا لنا خيراً قط.
هل تتصورون أنتم أن يورِّد لكم الكفار خيراً؟ لا والله، يقول الله عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
وعليك أن توفر البدائل في بيتك لأولادك، مثل: 1 - الكتب، والمطالعة، والقصص للأطفال.
2 - توفير جهاز تسجيل مع أشرطة منوعة، والسماح للأولاد بتشغيلها.
فلا مانع من أن تشتري جهازاً بمائتين أو ثلاثمائة ريال، وتعطيه أحد أولادك، وتقول: هذا لك، والأشرطة هذه لك، شغلها على كيفك، وأنت يا فلان لك جهاز آخر، ولك شريط آخر، مع مراقبتهم ومعرفة الأشرطة التي يسمعونها.
3 - توفير جهاز الكومبيوتر لتعليمهم بعض الأنظمة التعليمية المفيدة.
4 - توفير بعض اللعب الرياضية في فناء المنزل إذا كان لديك حوش أو سطح؛ كالمراجيح والدراجات، وألعاب المهارات، والتي تحتوي على فك وتركيب، فهذه الألعاب تشغل الطالب أو الطفل، وتأخذ جزءاً من وقته في غير ما ضرر.
5 - إلحاق أولادك بالمعاهد والمراكز الصيفية، والمراكز القرآنية المنتشرة في المساجد، وهذه أعظم ما يُربى عليه الأطفال، وما تسمعونه اليوم مما يسميه الناس بالصحوة الدينية والصحوة الإسلامية، هذه لها أسباب، فمن أعظم أسبابها: مدارس تحفيظ القرآن الكريم.
ولذا ترون أن أعظم الشباب وأكثرهم عندما تسأل أحدهم: أين كنتَ؟ يقول: درست القرآن في مسجد كذا، وربما ترك الدراسة؛ ولكن بقي للقرآن أثر في نفسه حتى رجع إلى ما كان قد عُوِّدَ عليه وأُقْرِئَ في بيوت الله تبارك وتعالى.
6 - الترويح عن الأطفال والأسر في الإجازات الأسبوعية بالخروج معهم في نزهة لقضاء بعض الوقت الممتع في الخلاء، مع المحافظة -طبعاً- على الصلوات، ومع تستر الأسرة، وعدم التعرض لمجامع الرجال والاختلاط بالرجال.
ز- محاولة ربط الأولاد بشيء من التأمل في مخلوقات الله عز وجل، كزيارة حدائق الحيوان، وكذلك زيارة الأودية، والشعاب، والأشجار، والجبال، والتأمل في مخلوقات الله، والنظر في السماء، والسحب، والنجوم، والكواكب، والقمر، والشمس، هذه كلها تستدعي تقوية الإيمان في قلوب هؤلاء الأطفال.
ح- إسناد بعض الأدوار الأسرية إلى الأولاد، قسم تكاليف الأسرة على أولادك، اجعل واحداً من أولادك مختصاً بأن يحضر الماء باستمرار، إذا كان الماء يأتي عن طريق الوايتات، أو واحداً مختصاً بأن يحضر الخضروات أو الفواكه إلى البيت، وواحداً مختصاًَ بأن يأتي بحاجات البيت التي ليست من الخضروات ولا من الفواكه، وواحداً مختصاً بأن يوصِّل أهله إلى المستشفى أو إلى المدرسة، وزع الأدوار حتى تشغل فراغ الأولاد في شيء يعود عليك بالنفع.
ط- التعويد على أذكار الصباح والمساء، وسرد القصص المناسبة لهم عند النوم، خصوصاً قصص السيرة، فحينما يريدون أن يناموا تدخل معهم إلى الغرفة، وتقول: تعالوا، قبل أن ننام نأخذ كتاب: (صور من حياة الصحابة) للشيخ عبد الرحمن رأفت، و (صور من حياة التابعين)، فهذان من أعظم ما أُلِّف، فتأخذ لهم سيرة صحابي، خبَّاب بن الأَرَت مثلاًَ، أو عائشة رضي الله عنها، وأي واحدٍ من الصحابة، تقرأ لهم سيرته؛ لتنطبع هذه المفاهيم في أخلاقهم بدلاً من المفاهيم الشيطانية.
وقد يقول قائل: إن الوقت متأخر، فأولادي قد تشرَّبوا حب الأفلام وغرقوا في إدمانها، فكيف الخلاص؟! ونحن نقول له: إن من يتق الله يجعل له مخرجاً، والبداية: هي الإخلاص لله، والصدق مع الله، ثم التوكل عليه، والسير في طريق مرضاته بشيء من اللين والصبر والحكمة، وما نريد إلا الإصلاح ما استطعنا، وما توفيقنا إلا بالله.
وأنا أوصي بالصبر واللين والحكمة، فبعض الآباء يتأثر من سماع موعظة، ثم يأتي إلى البيت، فيريد أن يقلب الحياة رأساً على عقب بمجرد قلم أو بإصدار أمر، حياة مضى عليها عشر سنوات يريد أن يقلبها في لحظة واحدة، فلا بد من وقت للتغيير، أنت الآن إذا دنوت على سفرة الأكل، وفيها الأرز، واللحم، والإدام، والفواكه، ومن كل شيء، وأنت مستعجل، فهل تستطيع أن تأكلها كلها في لحظة واحدة، أم أنه لا بد لك من وقت؟ بل لا بد لك من وقت، وقت للإدام، ثم وقت للأرز، ثم وقت للفاكهة، ثم وقت للغسيل، فرغم أنك مستعجل إلا أن الوقت لا بد منه، أقل شيء ربع ساعة، أو نصف ساعة، كذلك لا بد من وقت للتغيير، وليس مباشرة، فالذين يغيرون مباشرة يفاجَئون في النهاية بالفشل، لكن لو تدرج وصبر، وكان حكيماً، واستغل الثغرات، واستغل الفرص والمناسبات، فيعطي كلاماً طيباً، فإنه سينفع الله به؛ وإذا ما حصل النفع اليوم، فسيحصل بعد شهر، أو بعد سنة، أنا أرى بعض الأسر، الأب يمارس دور الدعوة مع الزوجة والأولاد من سنوات، وما حصلت الهداية إلا بعد سنوات، ولو أنه استعجل من أول الأمر، وحطم وفعل وطلق وطرد، لكانت الأسرة قد انتهت منذ زمن، ووجدوا ألف بديل للشر؛ فالولد إذا طرده أبوه، ذهب إلى رجل أشر منه، وأفسده أكثر، والمرأة تطلقها فتأخذ رجلاً مثلها ربما يفسدها أكثر، لكن قلل من الشر، وعالج الشر، واصبر ما دمتَ تجد للإصلاح مجالاً.
هذا هو المعوق الثاني، وهو: الأفلام.(80/16)
المعوق الثالث في طريق سعادة الأسرة: أصدقاء السوء
المعوق الثالث -وهو ما أختم به هذا الدرس- وهو معوق: الأصدقاء:- والصديق والصاحب له أثره الكبير والبالغ على حياة الإنسان، وبعض الناس يتصور الصديق أنه صديق الولد، بل صديق الأب أول شيء، ثم صديقة الأم، ثم صديق الولد، ثم صديقة البنت، يجب أن يكون هذا الصديق والصاحب صالحاً.(80/17)
أضرار الرفيق السيئ
فإن من الأسر من تتحطم على يد صديق للأب فاسد، يفسد هذا الرجل ذلك الصديق، ويذهب به في السهرات، ويقضي على وقته في الضياع واللعب، ثم يسمم فكره، ويضيع دينه، حتى يُكَرِّهه في بيته، ويُكَرِّهه في أولاده وفي بناته، ثم تتحطم الأسرة بأسباب ذلك الزميل السيئ.
وأيضاً: من الأسر من تتحطم بأسباب صديقة سيئة لامرأة في البيت، قد يكون الرجل صالحاً، والأولاد طيبين؛ لكن هذه المرأة جلست مع جارة خبيثة، قالت لها: كيف زوجك؟ قالت: طيب، قالت: أيعطيك شيئاً؟ أيعطيك ذهباً مثل زوجي، قالت: لا.
ما أعطاني شيئاً، قالت: أعوذ بالله منه، انظري زوجي كل مرة وهو يبدل لي، إذاً: لا خير فيكِ ولا خير فيه.
فرجعت المسكينة وهي ملغمة ضد زوجها، فبمجرد أن يدخل ويقول: السلام عليكم، تجيبه: وعليكم السلام، فيقول: أما تقولين: وعليكم السلام، حياك الله، كيف حالك؟ -إن شاء الله- ما تعبت اليوم؟! فتقول وهي زعلانة: وعليكم السلام فقط، فيقول: ماذا هناك؟ فتقول: ماذا هناك يا فَسْل؟ أنت ما منك مصلحة، فقط دوام ونقود، ما أهديت لي يوماً واحداً قطعة ذهب، ولا شيء، فلانة رأيتُ معها كذا، وفلانة معها كذا، وفلانة معها كذا، فيقول: الله أكبر عليك! ماذا بك؟ ما الذي حصل؟ ومباشرة يقول لها: والله لن أعطيك حتى حذاءً، فتقول: والله لتعطيني وإلا فلن أجلس، فيقول: والله لن أعطيك، سواءً جلست أم لم تجلسي.
فضربها، وطلقها، وأخرجها من البيت، كل هذا بسبب من؟ بسبب تلك الزميلة السيئة، فزميلة سيئة تدمر الأسرة.
تجلس إحداهن مع بعض النساء، فتكون إحدى هؤلاء النساء عفيفة شريفة طاهرة، ثم تسألها وتقول: أعندكم تليفون؟ فتقول: نعم.
فتقول: أتكلمين أحداً؟ فتقول: من أكلم؟ أكلم أهلي، وأكلم جيراني، وأكلم أبي، فتقول: لا.
أما تكلمين أحداً يفتح نفسك ويوسع صدرك؟ أنت مسكينة، أنت مقتولة، فقط جالسة هكذا؟ فتقول: أبداً، فتقول: لو صنعتُ لك شيئاً فإنك تنبسطي بالمرة، وبعض النساء جاهلة، لا تخاف من الله، وليس عندها خشية من الله، ولا عندها أيضاً حرص على عرضها، ولا عرض زوجها، ولا عرض أبيها، ولا عرض قبيلتها، فتذهب مباشرة وتعلم تلك المسكينة، وتقول: دعينا نكلم شخصاً الآن يكلمني دائماً، دعيني أدق عليه، فتدق وتكلمه، وتقول له: معنا ضيفة جديدة، تفضل، وتعطيه إياها، وهكذا تذهب تدق على التليفون ليلاً ونهاراً، حتى تضيع وتسقط في ميادين الضلال والفساد -والعياذ بالله- بسبب مَن؟ بسبب تلك المرأة السيئة.
وكم من ولدٍ سيئ يقع ضحية لسلوكيات صديقه، وكم من بنت كذلك.(80/18)
الحرص على انتقاء الرفيق
يجب أن يحرص المسلم على انتقاء الرفيق، كما يحرص على انتقاء الطعام، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحذيك، أو أن تبتاع منه، أو أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، أو أن تجد منه ريحاً خبيثة).
فحامل المسك: هو حامل الإيمان، حامل الدين صاحب القرآن صاحب الخوف من الله والخشية والمراقبة له.
ونافخ الكير: هو حامل المعاصي حامل الشر حامل الغناء حامل الربا حامل الزنا حامل المنكرات، هذا يحرق ثيابك في الدنيا ويحرقك في الآخرة، وأيضاً: تجد منه ريحاً خبيثة، وهي ريح الكفر والضلال -والعياذ بالله- ولذا يحرص الإسلام على تربية أفراده وأتباعه على أن يحسنوا اختيار أصدقائهم.
يقول الناظم:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدِي
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردِي
ويقول الناظم الآخر:
فلا تصحب أخا الفسق وإياك وإياهُ
فكم من فاسق أردى مطيعاً حين آخاهُ
يُقاسُ المرءُ بالمرء إذا ما المرء ماشاهُ
وللناس على الناس مقاييس وأشباهُ
وللقلب على القلب دليل حين يلقاهُ
يقولون: إذا سألت عن أبي زيد، فقل: مَن قرينُه، وإذا أردت أن تكون رجلاً فسِر مع الرجال، وإذا أردت أن تكون مؤمناً فسر مع المؤمنين، وإذا أردت أن تكون فاسقاً فسر مع الفاسقين؛ ولذا يذكر الله عز وجل في القرآن قصة مروِّعة عن رجل كان له صديق سيئ -والعياذ بالله- وخليل فاسق قاده إلى الكفر حتى أدخله النار، يقول الله ويخبرنا عن حالة هذا الرجل، وهو يوم القيامة يعض على يديه، ويأكل يديه من بنانه إلى كتفه ندماً على علاقته بهذا الرجل الفاسد، يقول: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27 - 29] هذه الآية نزلت في عقبة بن أبي معيط -عليه لعائن الله المتتابعة- رجل من كفار قريش، كان له صاحب يدعوه إلى الكفر، ويؤلبه عليه، ويثبته عليه، ثم سافر صاحبه هذا، فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع الرسول، وسمع القرآن، وكاد أن يسلم، لكنه ما أسلم، ولما رجع صاحبه من الشام سأل زوجته: ما صنع عقبة؟ قالت: لقد صبأ.
أي: أسلم، فقطع حديثها، وخرج في نفس الوقت إلى بيت عقبة، ودق عليه، وقال: أصبأت يا عقبة؟ قال: لا.
ما صبأت! قال: بلى صبأت.
قال: لا ما صبأت، قال: والله لا أصدقك حتى تذهب إلى محمد، فتبصق في وجهه.
قال: أبشر.
فخرج معه وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في المسجد الحرام، فجاء إليه وبصق في وجهه الشريف صلوات الله وسلامه عليه، فجعل يمسح البصاق من وجهه، وهو لا يستطيع أن يصنع شيئاً؛ فهنالك رجع عقبة إلى الكفر، وبقي حتى قتل في يوم بدر، ثم دخل النار، وتذكر من الذي ورطه هذه الورطة، وإذا به زميل السوء، قال عز وجل: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ} [الفرقان:27] أي: عقبة {عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان:27] يعض: ندماً وأسفاً؛ لأن الشخص إذا فاته شيء وخسره وتألم عليه وتندم ماذا يفعل؟ يعض أصابعه، ويقول: آه، يا ليتني ما فعلت كذا؛ لكن هذا لا يعضها، بل يأكلها أكلاً إلى كتفه؛ لأن الورطة ورطة ضخمة، إلى جهنم {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27 - 29].
لذا فإنه ينبغي ويتحتم على جميع أفراد الأسرة بدءاً بالأب، فالأم، والأبناء، والبنات، أن ينتقوا الرفقاء والأصدقاء، ينتقوهم من أفضل الناس من المساجد من أهل الإيمان: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي).
إذا حرصنا على هذه الأمور وتحاشيناها، وحرصنا على مجانبة المخدرات، وعدم استعمالها وإحضار الأفلام، واختيار الأصدقاء، فإن الأسر -إن شاء الله- ستكون في سعادة وفي حياة كريمة في الدنيا، ثم ينتقلون -بإذن الله- إلى السعادة الأبدية، في دار عرضها السماوات والأرض.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يثبتنا على دينه، وأن يحشرنا على سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(80/19)
الأسئلة
.(80/20)
حدود مسئولية الأب في حماية الأسرة من مشاهدة الأفلام
السؤال
لدي رغبة في إقناع أهلي وأبنائي وبناتي بأضرار الأفلام؛ ولكن يوجد عند جيراني وأقاربي تلك الأفلام، وربما يذهب من أريد إقناعهم إلى أولئك الجيران فيشاهدون تلك الأفلام، فيذهب ما وصلتُ إليه من إقناع، فما هو الحل؟
الجواب
إذا حصل الإقناع للأولاد وللزوجة، فمعناه: الرفض لهذه الأفلام سواءً كانت في بيتك، أو في بيت جيرانك أو في بيت أقاربك؛ لكن يبدو أن الذي حصل عندك الأمر فقط، فالأمر شيء والإقناع شيء آخر، قد يأمر الإنسان بإبعاد هذه الأشياء مع بقاء الرغبة في نفوس أهل البيت فيها، فمطلوب منك أن تمنعها سواءً رغبوا أم لم يرغبوا، لكن إذا حصلت القناعة فهي أفضل، وإذا لم تحصل القناعة عندهم وقد حُلت بينهم وبين الفساد، ثم ذهبوا إلى الجيران أو إلى الأقارب وسمعوها وأنت لا تعلم فقد برئت ذمتك، ولستَ بمسئول؛ لأن مسئوليتك في حدود بيتك، أما بيوت الناس فالناس هم المسئولون عنها، ولكن ينبغي أن تنصحهم أيضاً، وأن تقلل الزيارة لمثل هذه البيوت، أو تمنعها بالكلية إذا كان ذلك ممكناً، لكن إذا كان لا بد من زيارة الأقارب، ولا شك أنه لا أحد يستطيع أن يقطع أهله ولا أقاربه، فلتكن في أوقات لا يكون فيها أفلام، كبعد العصر، أو في الصباح، ولمدة بسيطة، كربع ساعة أو نصف ساعة، ثم تأخذ أهلك وعيالك ثم تركب سيارتك وتمشي؛ حتى لا يؤدي بقاؤهم إلى شيء من التعارض مع ما سبق أن وجهتهم به.(80/21)
مشاهدة المرأة للرجل في أفلام المصارعة خطر عليها
السؤال
لو قلنا للشباب: إن هناك مصارعة للنساء في التليفزيون، فماذا يكون موقف الشباب وهم ينظرون إلى النساء وهن عاريات؟ إذاً: ما موقف النساء وهن ينظرن إلى الرجال في المصارعة الحرة وهم عراة، وقد سُئلَتْ إحدى الفتيات عن المصارعة، فقالت: إن أكثر النساء يحرصن عليها، ويتمتعن بالنظر إليها؟
الجواب
حقيقة، هذه من الأشياء التي ينبغي أن يحول الإنسان بين أهله وبينها، أن تنظر المرأة إلى الرجال؛ لأن المصارع إنسان ذو قوة في جسده، وذو عضلات مفتولة، وذو جسم صحيح، فإذا رأتْه المرأة وكانت قليلة إيمان ودين، فإنها تفتتن به؛ لأنها ربما تنظر بعده إلى زوجها، وإذا به مثل المشمشان، لا عضلات، ولا جسم، ولا شيء، ثم تجري مقارنة بينه وبين ذاك، وتقول: أين هذا من ذاك؟! فتكره زوجها؛ لأنها تظن الرجال كلهم مثل هذا المصارع، فما ينبغي لك أن تسمح لزوجتك بأن تنظر إلى المصارعة الحرة، ولا ينبغي أيضاً -إن شاء الله- أن تكون هناك مصارعة للنساء، فهذه آخر الموديلات، أن يكون هناك مصارعة نساء والعياذ بالله.(80/22)
حكم الغناء
السؤال
ما حكم الغناء، مع العلم أنه يكثر في مجالس المسلمين، وفي سياراتهم، وفي بيوتهم؟
الجواب
حكم الغناء كما وضَّح أهل العلم من الأدلة الشرعية في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو التحريم، وهناك مؤلفات كثيرة، وأشرطة منتشرة تسوق الأدلة الواضحة من الكتاب والسنة، ومن أقوال السلف، ومن أقوال الأئمة -أئمة العلم- على أن الغناء حرام.
أما من القرآن: فيقول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} [لقمان:6] وأقسم عبد الله بن مسعود وقال: [والله الذي لا إله إلا هو أن لهو الحديث في هذه الآية هو الغناء].
ويقول الله عز وجل عن الشيطان: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء:64] قال العلماء: صوت الشيطان هو المزامير والأغاني.
والله يقول: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:59 - 62] سامدون، أي: مُغَنُّون، فالسمود في لغة العرب يعني: الغناء، يقول الرجل لجاريته: اسمدي لنا يا جارية.
أيضاً: وردت الأحاديث الصحيحة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، منها حديث في صحيح البخاري، يقول عليه الصلاة والسلام: (ليكونن من أمتي أقوام في آخر الزمان يستحلُّون الحِرَ، والحرير، والخمر، والمعازف).
وحديث صحيح في السنن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسير مع ابن عمر في طريق، فسمع مزماراً لراعٍ، فأمره، فوضع يديه في أذنيه، وما زال يقول لـ ابن عمر: أتسمع؟ أتسمع؟ حتى إذا قال: لا أسمع، أبعد يديه صلى الله عليه وسلم عن أذنيه).
ووردت أحاديث ليست في الصحاح، وإنما هي في السنن، وفي الضعفاء ولكنه يُحتج بها، منها: ما روى الترمذي والحديث ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، فلينتظروا ريحاً حمراء، وزلزلة وخسفاً ومسخاً منها: إذا كان المغنم دولاً، والأمانة مغرماً، والزكاة مغنماًَ، وأطاع الرجل زوجته وعقَّ أمه، وأدنى صديقه وأقصى أباه، وتُعلَِّم العلم لغير الدين، وارتفعت الأصوات في المساجد، وظهرت القينات والمعازف، وأُكرم الرجل مخافة شره، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فلينتظروا عند ذلك ريحاً حمراء وزلزلة وخسفاً ومسخاً).
ومنها أيضاً: حديث ضعيف ولكنه يُحتج به؛ لأنه يؤيده من الأحاديث القوية ما يسنده، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (من استمع إلى مغنٍّ أو مغنية صب الله في أذنيه الآنك يوم القيامة) أي: الرصاص المذاب.
هذه وغيرها من الأدلة الكثيرة كلها تحرم الأغاني والمزامير؛ لأنها من اللهو المحرم، الذي يصد عن ذكر الله، والذي يحرض على الزنا، والذي يدعو إلى الفساد.
أما كونه منتشراً في كثير من بيوت المسلمين: فلا يُستغرَب ذلك؛ فإن الخير والشر موجود إلى يوم القيامة، ولكن -والحمد لله- نلمس ونسمع الآن أن الشر هذا بدأ يتلاشى في كثيرٍ من الأسر، وأنتم تسمعون الآن في السيارات عندما تقفون عند الإشارات، بعد أن كنتم تسمعون كل الإذاعات في السيارات تشتغل على الأغاني، تسمعون الآن -من فضل الله- سيارة فيها قرآن، أو سيارة فيها شريط إسلامي، وربما تسمع سيارة أو سيارتين فيها أغاني؛ لكن صاحب الأغاني تجده يرخيها، ويتستر بها، ويخجل منها، أما صاحب القرآن فيرفعه معتزاً، وفخوراً بأنه يسمع كلام الله، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونسأل الله أن يزيد المسلمين تبصيراً، وهداية في أمور دينهم، وأن يتركوا هذا الشر، وهذه الأمور التي جربها الناس كثيراً فلم يجنوا منها شيئاً، يقولون: هي دقدقة فقط لا غير، فبعض الناس يظل يغني حتى يؤلمه رأسه، ثم ماذا بعد ذلك؟ والله لا شيء، أولها: سخط الله، وآخرها: جهنم -والعياذ بالله- بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن، يقول ابن القيم:
برئنا إلى الله من معشر بهم مرض من سماع الغنا
فعشنا على سنة المصطفى وعاشوا على دَنْدَنا دَنْدَنا
والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(80/23)
نعمة الإيمان
إن نعم الله كثيرة لا تحصى، ومن أهم النعم التي أنعم الله بها علينا نعمة الإيمان، الإيمان الذي به ننال مرضاة الله عز وجل، وبه ندخل الجنة، وبه النجاة من النار وقد تحدث الشيخ عن الإيمان مبيناً ثمراته وآثاره، ثم تكلم عن حقيقة الإيمان، وأنه اعتقاد وقول وعمل، ذاكراً بعد ذلك وسائل تقوية الإيمان والحصول عليه.(81/1)
حقيقة النعمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، سيدنا وحبيبنا وإمامنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره وسار على دربه واتبع شريعته ودعا إلى ملته.
أما بعد: فسلام الله عليكم -أيها الأحبة- ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله جميع أوقاتكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى كما جمعنا في هذا المكان الطاهر، وفي هذه الليلة المباركة، وبعد أداء هذه الفريضة، وجمعنا على ذكره وعبادته بمنه وكرمه ورحمته، أسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجمعنا في جناته جنات النعيم، وآباءنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وزوجاتنا وذرياتنا، وجميع إخواننا المسلمين برحمته إنه أرحم الراحمين.
أيها الأحبة: كلمة النعمة أخذت مفهوماً مغلوطاً وخاطئاً، إذ أنها إذا ذكرت لم يتبادر إلى أذهان الناس إلا النعم المادية؛ نعمة المال، والعافية في الأبدان، والزوجة والأولاد، والوظيفة، والعمارة، والمزرعة، والأموال، هذا هو مفهوم النعمة عند الناس، وهذا المفهوم غير صحيح، إذ أن هذه الأشياء التي نظنها نِعَمٌ هي في مفهوم الشرع متاع، يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} [غافر:39]، ويقول عن الكفار: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات:46]، ويقول عنهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12]، ويقول عز وجل: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً} [لقمان:24] أي: في هذه الدار المحدودة القليلة {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان:24].
أما النعمة في نظر الشرع فليست هذه الأشياء، إنما هي نعمة الإيمان والدين والقرآن والهداية، من أنعم الله عز وجل عليه بهذه الأشياء فقد أنعم عليه بأعظم نعمة في الدنيا والآخرة، ولو لم يملك مالاً، ولو لم يحتل منصباً، ولو تعسرت عليه جميع أمور الدنيا؛ لأن هذه الدنيا ليست بشيء
فليست هذه الدنيا بشيء تسرك حقبة وتسوء وقتا
وغايتها إذا فكرت فيها كفيئك أو كحلمك إن حلمتا
وتطعمك الطعام وعن قليلٍ ستطعم منك ما منها طعمتا
تفر من الهجير وتتقيه فهلا من جهنم قد فررتا
ولست تطيق أهونها عذاباً ولو كنت الحديد بها لذبتا
هذه الدنيا نسبتها إلى الآخرة ضئيلة جداً، جاء ذلك في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (ما الدنيا في الآخرة -أي: ما نسبة الدنيا إلى الآخرة- إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم -أي: في البحر- ثم ينزعها) أدخل إصبعك في البحر وانزعها، وضع تحتها صحناً وانظر بم ترجع، إنها سترجع بقطرات، هذه القطرات هي نسبة الدنيا، وذاك المحيط هو نسبة الآخرة، أجل ليست شيئاً وأهل النار إذا دخلوا النار يخبر الله عز وجل عنهم أنهم يقسمون يقول عز وجل: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55] وتسألهم الملائكة: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون:112 - 113] ليسوا متأكدين، {فاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:113 - 114].
إذاً: النعمة الحقيقية نعمة الدين، يقول عز وجل في آيات كثيرة في القرآن: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:69]، هذا هو الذي أنعم الله عليه، من هو؟ الذي أطاع الله وأطاع رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن هم الذين أنعم الله عليهم؟ إنهم أربعة أصناف: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} [النساء:69 - 70]، أي: هذه النعمة والفضل أن يجعلك طائعاً وعابداً له، وينعم عليك كما أنعم على هؤلاء الأصناف الأربعة: النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، ومَنْ غير هؤلاء؟ بقي اليهود، والنصارى، والفسقة، والعصاة، والمجرمون، والمنافقون، والكفار، والمشركون، ولماذا لم ينعم الله على هؤلاء؟ لأن هؤلاء مغضوب عليهم، ولهذا أمرنا الله عز وجل وفرض علينا في كل صلاة من صلواتنا بل في كل ركعة أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط مَنْ؟ قال تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، اللهم اسلك بنا صراطهم يا رب العالمين {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] انتبه! فإنك في كل صلاة تقول: يا رب لا تسلك بي طريق المغضوب عليهم، وهم اليهود ومن شابههم ممن علم ولم يعمل، يقول سفيان بن عيينة رحمه الله: من تشبه من العلماء باليهود ولم يعمل ففيه شبه من المغضوب عليهم، أي شخص يعرف دين الله ولا يعمل به فإن الله يغضب عليه كما غضب على اليهود؛ لأنهم كانوا يعرفون هذا الدين كما قال عز وجل: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} [الأنعام:20]، ويقول الله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} [البقرة:89] الدين معروف عندهم، {كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]، {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] فغضب الله عليهم.
{وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] من هم الضالون؟ هم الذين يعبدون الله على جهل وضلال، وعلى غير هدى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء كثيرون جداً، أصحاب الطرق الصوفية يعبدون الله، تجد مع الواحد منهم مسبحة يسميها الألفية، وبعض المسابح الحبة فيها كبيرة ويطقطق بها ما هذا؟ قال: أسبح، من قال لك أن هذا تسبيح؟ وقد كنت وأنا أبحث في هذه المسألة في رسالتي (الدكتوراه) وكانت عن التصوف، فقرأت كلاماً لواحد منهم وهو يقول: لقد منَّ الله عليَّ بأن ذكرت ربي في جلسة واحدة مائة ألف مرة بذكر خاصة الخاصة لأن عندهم تصنيفاً للناس، هناك عوام العوام، أنا وأنت ذكرنا ليس شيئاً، لا إله إلا الله، أما هم فيقولون: لنا ذكر خاص ذكر الخاصة، وهو ذكر الله باللفظ المفرد: الله الله الله الله، الله كلمة فقط، لكن أين الصفة التي معها؟ هذه لا تفيد ذماً ولا مدحاً، وليس في الدين كله ذكر الله جل جلاله بالاسم المفرد، لا يوجد إلا سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر، لا إله إلا الله، إنا لله وإنا إليه راجعون، لابد من شيء مع الكلمة، هم يقولون: لا، الله فقط، لا نقول شيئاً غير هذا، لماذا؟ قالوا: هذا ذكر الخاصة.
أما خاصة الخاصة، وهم: الناس الذين يقولون عنهم: وَصَلَ، أي: وصلوا إلى جهنم، فهم مستعجلون عليها! قالوا: هؤلاء ذكرهم فقط هو ذكر الضمير، يقول: أنا لن أقول مثل قول العوام: لا إله إلا الله، ولا الخاصة الذين يقولون: الله، أنا أقول: هو هو هو هو، مائة ألف مرة، فقلت: أجرب كم سأستطيع أن أقولها، فقلتها تقريباً عشر مرات وإذا بي صرت أنبح مثل الكلب، من الذي يقول: هو هو هو؟ إنه الكلب، هذا ذكرهم، زين لهم سوء أعمالهم فرأوه حسناً، هؤلاء يعبدون الله على جهل وضلال، ولا يقبل الله منهم عبادة إلا بشرطين: الشرط الأول: الإخلاص؛ أن يكون العمل خالصاً، وهذه متوفرة عندهم، نعرف أنهم مخلصون ليس عندهم رياء.
لكن الشرط الثاني معدوم عندهم، وهو: المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذان الشرطان مأخوذان من كلمة التوحيد.(81/2)
أهل الإيمان هم أهل النعمة
أيها الإخوة: الذين أنعم الله عليهم هم أهل الإيمان والدين، وقد أنعم الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بأعظم نعمة وقال له: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح:1 - 2]، ما هي النعمة التي أتمها على نبيه؟ أهي نعمة الأكل؟ لا، فقد مات ولم يشبع من طعام البر، اللهم صلِّ وسلم عليه، بل مات ودرعه مرهون في ثلاثين صاعاً من شعير عند يهودي، الشعير الذي نجعله الآن علفاً للبهائم، هذا الذي كان يأكله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن موجوداً بكثرة إنما بالدين، وكان يدخل الهلال والهلال والهلال شهران وثلاثة أشهر، ستون يوماً، ولا يوقد في بيوت آل محمد نار، نحن الآن بيوتنا تشتعل ناراً، كل بيت فيه موقد وفيه ست عيون، وكل عين تلتهب بالقدور، لكن هل هذه نعمة؟ لا! بيت محمد لا يوجد فيه نار لكن فيه نور وهدى، من بيت محمد صلى الله عليه وسلم انطلقت معالم الإنسانية والهدى والنور على العالم كله.
((وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ)) [الفتح:2].
بماذا؟ بالملابس؟ بالفرش والكنبات؟ لا.
إنه صلى الله عليه وسلم كان ينام على الحصير، حتى قام يوماً وقد أثر الحصير -هذا الحصير الذي من سعف النخل- أثر في جنبه، فرآه عمر فبكى، وقال: (يا رسول الله! ذكرت ملوك العرب والعجم وما هم فيه من النعم، وأنت أعظم خلق الله وأفضل خلق الله، ليس عندك فراش يا رسول الله! قال: يا عمر! ما لي وللدنيا، ما أنا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها، ألا يرضيك يا عمر أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟) {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً} [القصص:83].
أما قصوره صلى الله عليه وسلم (وفلله)، وغرف نومه، ومساكنه ومجالسه، فكانت حجرات ضيقة تحددها الأحاديث في صحيح البخاري، تقول عائشة: (كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل، فإذا سجد كففت قدمي وإذا وقف مددتهما)، لا تكفي الغرفة لشخص واحد يصلي وآخر راقد، أما غرفنا نحن اليوم فإنها غرف طويلة عريضة، شخص من أقاربي أدخلني في (فيلة) بناها، وذهب يريني غرفة النوم فإذا بها عشرة في عشرة، قلت: ما هذه؟ قال: هذه غرفة نوم، قلت: لماذا هل عندك سباق؟ أنت لست بحاجة إلى غرفة بهذا الحجم، أنت تريد أن ترقد أو تطارد؟ قال: أنا أريد أن أتوسع، قلت: والقبر ماذا عملت له؟ هل وسعته؟ قال: يا شيخ! تلك لم يأت وقتها بعد.
والله إنها مصيبة في ذلك اليوم، إذا أخرجوك من بيتك وأنت منكوس رأسك إلى تحت، ووضعوك في الحفرة عندها ماذا ستقول؟ هل ستقول: لم يأت وقتها بعد؟! النبي صلى الله عليه وسلم كانت نظرته أبعد من هذه الحياة، ولذا أنعم عليه، يقول الله عز وجل: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:6 - 11] أي: بدين الله وهداه.
وأنعم الله على الصحابة، يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ عرفة في حجة الوداع فينزل عليه قوله سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3]، ما هي النعم التي أتمها على الصحابة؟ إنها نعمة الدين {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]، ويقول للصحابة: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:7 - 8] فضل ونعمة أن الله يجعل قلبك مشروحاً للدين، مفتوحاً للإيمان، يحب الإيمان والصلاة والصوم والذكر والعبادة؛ لأن هناك أناساً حُرِمُوا هذه النعمة، فأسوأ شيء عندهم طاعة الله، وأكره صوت عندهم الأذان، وأسوأ منظر عندهم أن يروا عالماً أو داعية أو مسجداً، وإذا دخل المسجد ضاق؛ لأنه كره إليه الإيمان، محروم من نعمة الهدى والنور.
أجل يا أخي! النعمة الحقيقية نعمة الإيمان، قد يقول قائل من الناس: لماذا؟ قال العلماء: إنما تعرف النعم بآثارها، الناس اليوم يسمون المال نعمة، قالوا: لأن الذي عنده مال يستريح، يستطيع أن يشتري سيارة، ويعمر عمارة، ويتزوج بزوجة، ويأكل من كل ما لذ وطاب، ويكتسي ويفرش، هو مستريح أربعة وعشرين ساعة، أجل أنا في نعمة بالمال والمال نعمة في الدنيا، هذا صحيح، لكن إذا مت هل ينفعك المال؟ لا.
لا ينفع الإنسان في قبره إلا التقى والعمل الصالح
يا من بدنياه اشتغل وغره طول الأمل
وقد مضى في غفلة حتى دنى منه الأجل
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
ما الذي ينفع في القبر؟ الإيمان والعمل الصالح، مثل الذي بنى هذا المسجد ينفعه بعد الموت، أسأل الله أن يجعل لمن بناه بيتاً في الجنة، والله هذا هو العمل الصالح وهذه هي التجارة الرابحة مع الله، لكن القصر الذي أبنيه أو البيت لن ينفعني إلا إذا عمرته بذكر الله، ولم أدخل فيه معصية لله، وكان مملوءاً بالطاعات، وإذا عمرته بالمعاصي وأدخلت آلات المعاصي، كانت العمارة والبيت وبالاً عليَّ في الدنيا والآخرة.(81/3)
ثمرات الإيمان وآثاره
أيها الإخوة: إن نعمة الإيمان أعظم نعمة؛ لأن أثرها بعيد المال ينفعك في الدنيا لكن لا ينفعك بعد الموت المنصب ينفعك في الدنيا لكن إذا مت لن تدخل بمنصبك الأولاد والزوجات ينفعون في الدنيا لكن لن ينفعوك عند الموت، وإنما يتركونك ويذهبون، فالذي ينفعك في الدنيا والآخرة هو الإيمان والعمل الصالح.
ويظن بعض الناس أن الإيمان ينفع فقط في الآخرة، وأن الإيمان والدين يضيق على الإنسان، ويحرم الإنسان من لذائذ الحياة، ولذا تجد الواحد منهم يقول: الآن أشبع وبعدها الأمر سهل.
لا، إن الإيمان -يا أخي- لا ينفعك في الآخرة فقط، وإنما تسعد به في الدنيا والآخرة، وقد يقول قائل: كيف أسعد بالإيمان في الدنيا؟ اسمع آثار الإيمان عليك في الدنيا:(81/4)
معرفة الهدف والغاية من وجود الإنسان
إن الإيمان يقدم لك -أيها الإنسان- التفسير الحقيقي لهذه الحياة، هذه الحياة -أيها الإخوة- لغز محير حارت في فهمه العقول، وعجزت كل النظريات والفلسفات أن تعرفه، وعاش الإنسان في عذاب وشقاء، وهو لا يدري من أين جاء؟ ولا يدري لماذا جاء؟ ولا يدري إلى أين بعد أن يموت؟ حتى قال شاعر الكفار:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟ كيف سرت؟
كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري ولماذا؟ لست أدري لست أدري!!
تصوروا شخصاً يقطع رحلة العمر كلها وهو لا يدري لماذا يعيش! أنت الآن لو كنت مسئولاً في الأمن أو في المرور ورأيت سيارة على طريق الدمام، وأوقفت السائق وقلت له: من أين أتيت؟ قال: لا أدري، قلت: أين أنت ذاهب؟ قال: والله لا أدري، لماذا تمشي؟ قال: والله يا أخي لا أدري، ما هو رأيك هل تسمح له بالمشي؟ لا.
وإنما تقول له: توقف، فإن هذا أحد رجلين: إما مجنون، أو سكران، وهل يسمح للمجنون والسكران أن يسير في الطريق العام؟ لا، لماذا؟ لأنه سيسبب كارثة للناس، هذه رحلة ثلاث ساعات إلى الدمام، يمنع أن يمشي الشخص فيها وهو لا يدري أين يمشي، فقولوا لي بربكم: من يقطع رحلة العمر ستين سنة أو سبعين سنة وهو لا يدري لماذا يعيش! ولا يعرف من الدنيا إلا كما يعرف الحمار! لو سألنا الحمار وحققنا معه وقلنا: يا حمار! لماذا تعيش هنا؟ لقال: لآكل وأشرب وأرقد، وإذا رأى الأنثى رفع أذنيه وأسرع نحوها، هذه حياة البهائم، بعض البشر الآن يعيش بعقلية الحمار، يأكل ويشرب وينام وإذا رأى الأنثى أسرع، ما رأيكم هل هذا إنسان؟! ما الفرق بين الاثنين؟ ليس هناك فرق، ولهذا الله يقول: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] ليته كالأنعام بل هو أضل من الأنعام، هذا كلام الله يا إخواني.
فالإيمان يقدم لك التفسير ويعلمك من أنت؟
دواؤك فيك وما تبصر وداؤك منك وما تشعر
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
أنت أكرم مخلوقات الله، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأمرك بطاعته ونهاك عن معصيته، وأنزل عليك كتبه، وبعث إليك رسله، وهيأ لك جنته، وحذرك ناره، أي تكريم أعظم من هذا التكريم؟! وتترك هذا كله وتذهب إلى الشيطان وتعبده وتطيعه، إنها والله خسارة كبيرة.
فأول شيء من آثار الإيمان أن الإيمان يعلمك لماذا جئت.(81/5)
حصول الأمن والطمأنينة
بالإيمان يحصل لك الأمن والطمأنينة، والله لا يسكن القلب ولا تستريح النفس في الدنيا، ولو تمتعت بجميع متعها ولذائذها، والله لا تستريح إلا بالإيمان، والذي لم يجرب فليجرب؛ لأن الله يقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] فلا تطمئن القلوب بالأموال، ولا بالأكل، ولا بالزوجات، ولا بالسيارات، ولا بالعمارات، انظروا إليهم في أوروبا الآن، الكفار يعيشون قمة الحياة في الأمور المادية، لكن هل حققت لهم المادة سعادة؟ يعيشون أسوأ عيشة؛ الانتحار الأمراض النفسية التفكك الأسري التحلل الاجتماعي الجنون المسرحي والتمثيلي والكروي، الفساد العام، بسبب ماذا؟ بسبب بعدهم عن الإيمان؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] معيشة ضنكاً ولو عنده (مليارات) لماذا؟ لأن الأموال ترفه عن الجسد، أما القلب فماذا سيضع له؟ يدخل له (شيكاً)، أو يجعله في (فيلة) أو يعطيه طعاماً خاصاً؟ لا، القلب له طعام آخر، من السماء، إنه الإيمان، دخل إلى القلب فاطمئن {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد:28].(81/6)
ضبط المسار وتحديد الاتجاه
بعد ذلك الدين يضبط مسارك ويحدد اتجاهك في الحق؛ في الصلاة والزكاة والصوم، في العمل الصالح، في وظيفتك ومصلحتك وشئونك، وإذا دعيت إلى منكر فإنك تقول: لا، من الذي جعلك تقول لا؟ إنه الإيمان، ولو لم يكن عندك إيمان لعصيت، ولذا نرى الذين وقعوا في الجرائم لو ذهبت إليهم في السجون وقلت للواحد منهم: ماذا عملت؟ لقال: أنا قاتل، لماذا قتلت؟ قال: الشيطان، يجعلها على إبليس ولا يلوم نفسه، والثاني روج للمخدرات لماذا تروج هذا الداء الوبيل الذي يفتك بالأُسَرِ، ويقضي على الإنسانية؟ قال: الشيطان، والثالث يسرق لماذا تسرق؟ قال: الشيطان، وذاك زنى لماذا تزني؟ قال: الشيطان، متى تسلط عليهم الشيطان؟ عندما ابتعدوا عن الإيمان؛ لأن الله يقول: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [النحل:99] الشيطان لا يتسلط على المؤمن أبداً؛ لأن المؤمن ينظر بنور الله، وإذا جاءه الشيطان عرض أمر الشيطان على الإيمان فرأى أنه باطل، فلا يأتيه أبداً حتى ولو دعي، لكن الأعمى الذي ليس عنده إيمان يلعب عليه الشيطان، ويقوده حتى يوقعه، أوقعه في المعصية تخلى عنه.
أجل إن أعظم شيء يسعدك في الدنيا هو الدين والإيمان؛ لأنه يحميك.(81/7)
ولاية الله للعبد
من آثار الإيمان: أن الله يتولاك في جميع شئونك، يقول الله عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257] أما ترضى -يا أخي- أن يكون الله عز وجل وليك؟! يرزقك من حيث لا تحتسب، يجعل لك من كل عسر يسراً، ومن كل ضيق فرجاً، ومن كل همّ مخرجاً، يتولاك الله عز وجل، يقول في الحديث القدسي، والحديث ذكره ابن القيم في الجواب الكافي، يقول الله: (وعزتي وجلالي ما اعتصم عبد من عبادي بي فكادته السماوات والأرض إلا جعلت له منها مخرجاً، وعزتي وجلالي ما اعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني إلا أسخت الأرض من تحت قدميه، وقطعت عنه أسباب السماء ثم لا أبالي في أي وادٍ هلك) أترضى هذه العيشة؟!(81/8)
التثبيت بالقول الثابت في الدنيا والآخرة
تأتيك آثار الإيمان بعد الموت، إذا كنت في سكرات الموت فإن الدنيا كلها ترفضك، والإيمان يقول: أنا معك، ويثبتك الله بالقول الثابت {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم:27] لم يقل: يثبت التجار أو العظماء أو الأثرياء، وإنما يثبت الله الذين آمنوا في تلك اللحظات الحرجة، التي تزيغ فيها الأبصار من هول الموقف، والإنسان يرى ملائكة العذاب أو النعيم، وهو يعالج سكرات الموت فيثبته الله عز وجل فيقول: لا إله إلا الله، هذه الكلمة، وقد جاء في الحديث الذي في سنن النسائي وابن ماجة وأبي داود والترمذي بسند صحيح: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) من يقولها عند الموت؟ الذي ثبته الله عليها في الحياة، وبعد ذلك تدخل القبر فيجعل الله قبرك روضة من رياض الجنة، ويثبتك ويلهمك حجتك، إذا سئلت: من ربك؟ قلت: ربي الله ما دينك؟ ديني الإسلام من نبيك؟ نبيي محمد صلى الله عليه وسلم، من الذي ثبتك وأنت في القبر؟ إنه الله {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27] اللهم ثبتنا يا مولانا بالقول الثابت في الدنيا والآخرة.
يوم القيامة يخرج الناس من قبورهم، والمعالم الكونية قد تغيرت السماء انفطرت والكواكب انتثرت، والبحار فجرت، والنجوم بعثرت، والشمس كورت، كل شيء متغير، يخرج الإنسان عارياً حافياً، حتى القطعة التي قطعت منه يوم ختن تعود له يوم القيامة، يبعثون عراة حفاة غرلاً بهماً غير مختونين، قد تعلقت قلوبهم بالله {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} [غافر:18]، القلب ليس ثابتاً قد ارتفع من مكانه {كَاظِمِينَ} [غافر:18] مكظوم من قلبه، انظر عندما تدخل الطائرة في مطب هوائي ثم تنزل، كيف سيكون حالك؟ تقول: هه هه! يرتفع قلبك من مكانه من الخوف، فهؤلاء ليس للحظة واحدة، بل طوال وقتهم في الموقف وقلوبهم مرتفعة، يقول الله: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18].
في ذلك اليوم إن كنت من أهل الإيمان يظلك الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وتأخذ كتابك بيمينك؛ لأنك من أهل اليمين، وتوزن فترجح موازينك؛ لأن لك وزناً ولك قيمة، عندك توحيد وصلاة وزكاة وعمل، بعد ذلك ترد الحوض فتشرب شربة لا تظمأ بعدها أبداً، وبعد ذلك يقال لك ولأمثالك: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:70 - 72].
هذه آثار الإيمان يا إخواني! ما رأيكم هل هي مفيدة وجيدة أم لا؟ هل إذا آمنت تخسر؟ والله لن تخسر شيئاً، ماذا خسرت؟! خسرت الزنا، وهل الزنا خسارة؟! لا والله، بل تركه كرامة، هل خسرت الخمر، وقلة الدين، وقطع الصلاة، وعقوق الوالدين، والمخدرات؟ هذه كلها محرمة؛ لأن الله لم يحرم شيئاً إلا وفيه ضرر، ولم يبح شيئاً إلا وفيه نفع، الخير كله في دين الله، والشر كله ليس في دين الله، فأنت رابح في الدنيا، ورابح عند الموت وفي القبر والحشر، ورابح يوم تدخل الجنة، لكن عندما تترك الدين أو تضيع من الدين ماذا ستربح؟ تغني، حسناً غني، وماذا بعد ذلك؟ أدخلوك النار، قم واترك الغناء، واعلم أنه ليس بديلاً يا أخي اتق الله! النعمة الحقيقية نعمة الإيمان.(81/9)
حقيقة الإيمان
ما هو الإيمان؟ ما دام أن هذا الإيمان له آثار طيبة، فما هو الإيمان؟ الإيمان -أيها الإخوة- ليس كلمة تقال باللسان، ولكنها حقيقة ذات أعباء وتكاليف، كلمة لها قيمتها ووزنها وثمنها، الإيمان عند أهل السنة والجماعة يتكون من ثلاث حقائق: حقيقة لفظية، وحقيقة قلبية، وحقيقة عملية.
الحقيقة الأولى اللفظية هي: الإظهار والإشعار بكلمة الإخلاص وكلمة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله، هذه أول شيء، قبل أن يصلي الإنسان يجب أن يشهد أن لا إله إلا الله، لو صلى بغير (لا إله إلا الله) لم تنفع؛ لأن شروط الصلاة تسعة أولها: الإسلام، وهذا لم يسلم حتى الآن، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن، قال له: (ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وإذا أراد أي إنسان أن يدخل في الدين، فإن أول شيء أن يعلن كلمة التوحيد، قال العلماء: لأنها عقد يوقعه العبد مع ربه على ألا يعبد إلا الله ولا يتبع إلا رسوله، هذه اتفاقية إذا طبقها طوال عمره فإنه عند الموت سيقول: لا إله إلا الله؛ لأنه طبق الاتفاقية، وإذا كان عند الموت ولم يقل (لا إله إلا الله) فمعنى ذلك أنه لم يطبق الاتفاقية بل نقض العقد.
وقد ذكر ابن القيم قصصاً كثيرة عن أناس ماتوا ولم يقولوا لا إله إلا الله، وفي هذا العصر يخبرنا الثقات عن أقوام قيل لهم قولوا: لا إله إلا الله، فلم يقولوها شخص كان يدخن فلما جاءه الموت قال له الذين كانوا عنده: قل (لا إله إلا الله) وهو يلفظ الروح، قال: هبوا لي دخاناً، يريد أن يشرب الدخان قبل أن يوضع في القبر، قالوا: لا يوجد دخان، سوف تموت، قل (لا إله إلا الله) قال: والله لا أقولها، أنا بريء منها، ثقلت على لسانه هذه الكلمة.
وشاب آخر كان يقود سيارته بسرعة جنونية، ووقع له حادث مروري وقطع (الدركسون) بطنه، وأتوا عليه وهو يلفظ أنفاسه فلقنوه وقالوا: قل (لا إله إلا الله) فقال: هل رأى الحب سكارى مثلنا؛ لأن الشريط كان يغني، وكان طوال الطريق يستمع إلى المغنية وهي تقول: هل رأى الحب سكارى مثلنا، قالوا: قل (لا إله إلا الله) سوف تموت، قال: أعطني حريتي أطلق يدي، ومات على هذه الكلمة؛ لأن من عاش على شيء مات عليه.
إذاً: الحقيقة الأولى اللفظية هي: لا إله إلا الله محمد رسول الله، تقولها.
الثانية: حقيقة قلبية، وهي أن تعتقد بقلبك بصدق، أن تصدق ما نطق به لسانك؛ لأن من قال: (لا إله إلا الله) وقلبه لم يعتقدها بصدق فهؤلاء هم المنافقون، فالمنافقون قالوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة:8]، قال الله عز وجل: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] إنهم كذابون {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:9] فلا بد أن يتواطأ القلب واللسان، تقول (لا إله إلا الله) بصدق من قلبك أنه لا إله إلا الله، و (لا إله إلا الله) ينتظم فيها التوحيد بفروعه الثلاثة، أي: لا خالق ولا رازق ولا محيي ولا معطي ولا مميت إلا الله، وأيضاً لا معبود بحق إلا الله، فلا تدعو، ولا تذبح، ولا تخشى، ولا ترجو، ولا تستغيث، ولا تستعين، ولا تتوكل، ولا تخاف إلا من الله، و (لا إله إلا الله) تقتضي أيضاً توحيد الأسماء والصفات؛ لأنها متلازمة، أن تثبت الأسماء والصفات لله كما أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم كما يليق بجلاله، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تأويل ولا تعطيل، وإنما على حد قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] سبحانه وتعالى.
وبعد ذلك محمد رسول الله، الكلمة الثانية هذه لا تتبع أحداً في العبادة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تعبد الله إلا بالدليل، لا بالاستحسان، ولا بالهوى ولا بالعادات، ولا باتباع آبائنا ومشايخنا وأوليائنا، إنما قال الله وقال رسوله، هذا هو الدين، والذي ليس عنده قال الله وقال رسوله فليس عنده دين.
الحقيقة الثالثة: حقيقة عملية؛ وهي تأتي برهاناً ودليلاً على صدق ما نطق به اللسان، واعتقده القلب، وهي أعمال الشرع، وذلك مثل الصلاة، فإنها حقيقة لفظية وقلبية وعملية، شخص يقول: (لا إله إلا الله) ولكن لا يصلي هذا نقض إسلامه وإيمانه، وأصبح في نظر الشرع كافراً؛ لأن ترك الصلاة كفر (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)، لا بد من العمل، والعمل جزء من الإيمان، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة، بخلاف المرجئة، فإنهم يقولون: العمل ليس له علاقة بالإيمان، لا يضر مع الإيمان ذنب، ولا ينفع مع الكفر عمل، وضيعوا دين الله، وكثير من الناس الآن عقيدته عقيدة المرجئة وهو لا يدري، تجده لا يعمل أي عمل، وإذا قلت له: لماذا لا تعمل؟ قال: يا شيخ! والله أنا قلبي مؤمن بالله.
كنت مرة في زيارة لبعض الدول، وحينما دخلت الفندق سمعت موسيقى صاخبة مؤذية، فنظرت وأنا في المصعد وإذا بالذي يغني في الفندق وعنده أجهزة كثيرة، رجل رأسه أصلع كبير وطويل وعريض وهو يحرك يديه، فذهبت غرفتي وجلست، ولما جاءت الصلاة نزلت لأصلي في مصلى الفندق، ورجعت وإذا بالرجل واقفاً، فدعاني أحد المسئولين الذين استضافوني وأعطيته التذاكر، وإذا بهذا الشخص يسلم عليَّ، فقلت له: أنت الذي كنت تغني بالليل؟ قال: نعم، هل أعجبك؟ قلت له: أنت مسلم؟ قال: نعم أنا مسلم، قلت: هذا الغناء الذي تغنيه هل ينفعك بين يدي الله عز وجل إذا مت غداً؟ قال: لا والله لا ينفع، اعترف وعلم أن الغناء لا ينفع، قلت: كيف تعيش على حياة تعرف أنها لا تنفعك إذا مت؟ قال: والله يا شيخ أنا قلبي نظيف، قلت: قلبك نظيف فقط، ليس عندك غير القلب النظيف؟ قال: نعم، قلت: أنا وأنت الآن لو مكثنا في الفندق عدة أيام، وأردنا أن نخرج من الفندق بعد ذلك وقالوا: ادفعوا الأجرة، قلنا: لا، قلوبنا مؤمنة بأن هذا فندق، والله أنا مؤمن إيماناً جازماً أن هذا الفندق ممتاز وخمسة نجوم، لكن لن أدفع الأجرة، ما رأيكم هل ينفع هذا؟ سوف يقولون: هات الأجرة أو السجن، وهذا يريد الجنة بقلب نظيف ولم يصل لله ركعة، فانتقلت معه إلى سؤال آخر، قلت: أنت تصلي؟ قال: لا والله لن أكذب عليك، قلت: لماذا؟ قال: إن أمي تصلي، أمه تصلي بالنيابة، قلت: إذا ماتت أمك هل سيضعونها معك في قبرك، أو أنت معها في قبرها؟ قال: لا، كل واحد له قبر، قلت: وكل واحد صلاته له، أم أنه ستخرج أمك من القبر إذا سألوك وتقول: إني أُصلي بدلاً عنه؟ قال: ادع لي يا شيخ، قلت: أسأل الله أن يهديك، وتركته ومشيت، وانقطع الصوت، ولم أعد أسمعه ثلاثة أيام وأنا في الفندق، والرجل جالس ولم يعد يغني، وعندما أردت أن أمشي وأنا أستلم أغراضي من عند موظف الاستقبال، قال لي الموظف: متى تمشي يا شيخ؟ قلت: الآن إن شاء الله، قال: حسناً، قلت: لماذا؟ قال: هذا المغني يا شيخ كل فترة يقول: متى يمشي الشيخ؟ متى يمشي الشيخ؟ إنه مسكين محصور من أجل وجودي، يريدني أن أمشي من أجل أن يرجع للغناء.
هذه هي عقيدة المرجئة، لكن عقيدة الإسلام عند أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
هذا هو التعريف الصحيح للإيمان.
وإذا نقص من العمل شيء فما هو الحكم؟ هذه مسألة مهمة ينتبه لها طلبة العلم، إذا أنقص شخص من العمل شيئاً، فإن أهل السنة والجماعة يقولون: ننظر إلى الشيء الناقص، فإن كان تركه كفراً مثل الصلاة انتقض إيمانه، وإن كان تركه ذنباً ومعصية -كبيرة كانت أو صغيرة- فهو فاسق بمعصيته مؤمن بإيمانه، داخل الدائرة، لا يصير كافراً، تحت مشيئة الله في الدار الآخرة، وهذا يسمونه في العقيدة: الفاسق الملي، أو صاحب الكبيرة، بخلاف الخوارج والمعتزلة، فإن الخوارج يقولون: إذا ترك الإنسان أي شيء من العمل كفر، وهو في النار في الآخرة، والمعتزلة يقولون: إذا ترك شيئاً من العمل فلا يكفر ولا يبقى مسلماً، إذاً ماذا يصير؟ قالوا: يبقى في منزلة بين المنزلتين، معلق لا كافر ولا مؤمن، أين هو في الآخرة؟ قالوا: في الآخرة هو في النار.
وهذا باطل، والحق ما كان عليه الدليل من كتاب الله ومن سنة رسوله، وهو عقيدة أهل السنة والجماعة؛ لأن الذين وقعوا في الكبائر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أقام النبي صلى الله عليه وسلم الحدود لتطهرهم، وأخبر أنهم في الجنة، فهذا ماعز جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ بشر مسكين وقع في الغلط، لكن إيمانه مثل الجبال، جاء وقال: (يا رسول الله! إني زنيت فطهرني) لم تأت به الهيئة ولا الشرطة، وإنما جاءت به الشرطة الداخلية؛ القلب الحي المعمور بالإيمان (طهرني يا رسول الله! قال: أبك جنون؟! قال: لا يا رسول الله! قال: لعلك قبلت، لعلك كذا قال: لا والله يا رسول الله! قال: ارجموه.
فقال واحد من الصحابة: لعنه الله! يستره الله ويفضح نفسه، قال: لا تقول هذا، فوالذي نفسي بيده إنه لينغمس الآن في أنهار الجنة).
والمرأة التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاعترفت بالزنا فرجمها، قال عنها: (لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم).
فمعنى هذا: أن الذي يقع في الذنب لا يكفر، لكن يصير عاصياً صاحب كبيرة وصاحب ذنب، وهو تحت مشيئة الله في الدار الآخرة إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له.
والإيمان يزيد وينقص، وذلك بالعمل، فهل عمل الناس كلهم سواء؟ ليس عمل الناس سواء، أنتم الآن قبل المغرب وجئتم وجلستم في المسجد، في روضة من رياض الجنة، ومجلسكم تحفه الملائكة، وتسمعون كلام الله، فإنه يزداد إيمانكم، أليس كذلك؟ لكن لو أنكم -عافاكم الله وحاشاكم- جلستم في مجلس آخر فيه ضرب عود وطرب، فهل يزيد الإيمان أم ينقص؟ بل ينقص، يخرج كل واحد منكم يبحث ل(81/10)
وسائل تقوية الإيمان
بقيت مسألة أخيرة يقول فيها أهل العلم: كيف نحصل على الإيمان؟ ما هي وسيلة الحصول على الإيمان؟ أين يباع؟ في أي سوق؟ في أي صيدلية؟ نقول: الإيمان بضاعة الله يهبه من يشاء اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا لكن له أسباب، فأنت الآن في البيت تقول: اللهم ارزقني يا رب، لكن هل تظل راقداً أم تخرج لتشتغل؟ لو جلست في البيت وقلت: اللهم أنت الله لا إله إلا أنت أعطني قرص خبز وصحن فول هذه الليلة يا رب العالمين، وجلست في البيت، فهل سيأتيك قرص خبز من السماء وصحن فول؟ لا، لا بد أن تتحرك وتذهب إلى صاحب الفول وتعطيه ريالين، وصاحب الخبز تعطيه ريالاً وتأخذ منه، لا بد من الأسباب، بعض الناس تجده على المعاصي وإذا قلت له: يا أخي! اتق الله، قال: يا شيخ! سيهدينا الله يهديك الله وأنت شارد! بعض الآباء الآن يترك ولده نائماً، ولا يوقظه لصلاة الفجر في المسجد، وإذا جاء وقت المدرسة أيقظه، لماذا لا توقظه للصلاة؟ قال: الله يهديه والمدرسة؟ قال: تهديه العصا، لماذا أصبحت المدرسة مهمة أما الصلاة فليست مهمة عنده؟ لماذا لا تتركه بالنسبة للمدرسة وتقول: الله يهديه، يدرس أو لا يدرس؟ لا، المدرسة لها مستقبل وعلم، حسناً والصلاة أليس لها مستقبل ونور وهدى؟ قال: لا، هذا لا زال صغيراً، لا زال صغيراً والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع) وأنت لم تأمره، وصار ابن عشر سنين ولم تضربه إذا لم يصل، وحينها يصير رجلاً وهو لا يصلي، ويأتي الأب يشكو ويقول: ولدي لا يصلي؛ نعم لا يصلي لأنك لم تعلمه وهو صغير، ولم تؤدبه وهو صغير.
أيها الإخوة: الإيمان له عشرة أسباب أذكرها باختصار:(81/11)
تلاوة القرآن وحفظه
أول سبب وأعظم سبب تحصل به على أعلى مستوى وأعظم قدر من الإيمان: تلاوة القرآن وحفظه لأن الله جعل القرآن مادة الإيمان، يقول سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، والقرآن نور، يقول الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [النساء:174]، ويقول عز وجل: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة:15 - 16] أي: طرق الفلاح في الدنيا والآخرة، وما ترون اليوم في عالم الناس من جفاف في القلوب، ومن جمود وتحجر في العيون، ومن جُرأة على المعاصي، ومن كسل في العبادة، سببه الأول والأخير بُعد الناس عن القرآن، بعض البيوت يدخل الشهر ويخرج ولم تقرأ فيه آية أين الأسر التي تجتمع على القرآن؟ أين هم أيها الإخوة؟! يدخل الشخص بيته ويقول: هات القرآن يا امرأة! تعال يا ولد! تعال اقرأ آيتين من القرآن الكريم، وبعد ذلك تأخذ التفسير، لكن الآن يدخل الواحد إلى داره وإذا بشخص ينظر إلى المسلسل، وآخر يستمع إلى الأخبار، وآخر إلى الأغاني والشر نازل من القناة فاتحة الذراعين هكذا، ترحب بالشرور التي تلتقطها وتستقبلها، ويشتريها الواحد منا بعشرة آلاف من أجل أن يفسد أهله بما يسمونه (الدش)، صدقوا! إنه دش مليء بالشر والفضيحة أين القرآن؟ كيف يأتي الإيمان بهذا الأسلوب؟ أول شيء تلاوة القرآن وليست التلاوة هي القراءة التي نقرؤها نحن الآن، التلاوة هي أن تقرأ القرآن كما أنزله الله، تقرأ القرآن على شيخ، تبحث عن معلم للقرآن في أي مسجد، وتجلس عنده وتقول: يا شيخ! أريد أن أقرأ القرآن، والقرآن ليس صحيفة أو كتاباً بل هو كتاب ربك، الله يقول: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4] وترتيل القرآن: هو معرفة مخارج الحروف ومواضع الوقوف، يقول ابن الجزري:
والأخذ بالتجويد حتم لازم من لم يجود القرآن آثم
لأنه به الإله أنزل وهكذا منه إلينا وصلا
وهو أيضاً حلية التلاوة وزينة الأداء والقراءة
وهو إعطاء الحروف حقها من صفة لها ومستحقها
إلى آخر الجزرية فعليك أن تعرف تلاوة القرآن حتى تتلذذ بكلام الله، وبعد ذلك تدبر، كل آية تفكر فيها، ماذا يريد الله؟ وبعد ذلك تحفظ، تبدأ الحفظ من سورة (ق) إلى الناس، هذا اسمه المفصل، وبعدها احفظ البقرة وآل عمران؛ لأن حفظهما -أي: البقرة وآل عمران- بركة يقول عليه الصلاة والسلام: (البقرة أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة) أي: السحرة لا يقدرون على البقرة، والبيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان، (إن البقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة كغمامتين أو كغيايتين يستظل بهما صاحبهما يوم القيامة)، فاحفظ البقرة وآل عمران -أقل شيء- والمفصل، وما استطعت عليه من السور، حتى يجعل الله في قلبك الإيمان.
أما إذا لم تحفظ القرآن فمن أين يأتيك الإيمان؟ ما الذي تريده أنت؟ ألست ترجو النجاة؟ يقول الشاعر:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
فالذي يريد الإيمان يبحث عنه يا إخواني! الآن الذي يريد أن يشتري أرضاً ماذا يعمل؟ تراه يرابط في مكاتب العقار كل عشر دقائق ينتظر، وإذا نظر إلى الجريدة ينظر الإعلانات التي تخص الأراضي، وعمله وهمته الأرض حتى يجد أرضاً، وإذا أراد أن يبني فتراه في الأماكن والعمارات التي لا زالت تبنى، يدخل العمارة هذه وينظر كيف المخطط، وكيف المجلس والغرف، وكيف التفصيل والتشطيب، ويسأل هذا، وأين المهندس الجيد؟ وأين المنفذ الجيد؟ ومن الذي عنده أدوات؟ عمله هذا لأنه يريد عمارة، والذي يريد زوجة تراه يفكر في الزواج، ويسأل ويرسل أمه عند المناسبات والزواج، لتبحث له عن زوجة جميلة، ويقول: دعونا نتزوج والذي يريد الإيمان ما هو رأيكم؟ هل يبحث عنه أم لا؟ يبحث عنه، لكن كيف تحصل على الإيمان؟ عن طريق القرآن أولاً.(81/12)
معرفة أسماء الله وصفاته
ثانياً: عن طريق معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى فإن الله عرف نفسه عند خلقه بأسمائه وصفاته وأوضحها في القرآن الكريم، وجعلها تذييلاً مناسباً في أغلب آيات القرآن، والحديث في صحيح البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)، ما معنى: من أحصاها؟ هل هو من أحصاها عند الجهلة يقول: هو الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ؟ فقط هذا الإحصاء؟ ليس هذا هو الإحصاء، لكن قالوا: من أحصاها أي: من فهمها وعمل بمقتضاها وحققها، هذا هو الذي أحصاها ولو لم يحفظها، وما هو مقتضاها؟ أن ينطبع فيك أثر لكل صفة لله، إذا عرفت أن الله رزاق: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} [الذاريات:58] آمنت بأن رزقك على الرزاق، لكن إذا ذهبت لتبيع الدخان في دكانك، وجاءك شخص وقال لك: الدخان لا يجوز بيعه يا أخي فلا تبعه، وقد تكون ممن يشرب الدخان، يقول بعضهم: لا يا شيخ! الدخان مضر وأنا لا أشربه، لكن والله لا نبيعه إلا لأنه يجلب المشتري؛ بمعنى أنه يرزق، إن الذي يجلب المشتري هو الله، الآن عقيدتك هذه فاسدة، تعتقد أن الدخان هو الذي يأتي بالمشتري، إذاً راجع توحيدك وإيمانك، لا يجلب المشتري إلا الله سبحانه وتعالى، ولا تبع الدخان فإن الذي حرمه حرم ثمنه، ولو أنك ممن تشرب الدخان لكان ذنبك واحداً، لكن عندما تبيع الدخان فما من (سيجارة) تباع من دكانك إلا وعليك إثمها إلى يوم القيامة، تأتي (والكراتين) على ظهرك -والعياذ بالله-، فلا بد من تحقيق الأسماء والصفات.(81/13)
دراسة السنة النبوية
الثالث من الأسباب: دراسة سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإن السنة المطهرة هي الشارحة للقرآن والموضحة له، والمطلقة لما قيد القرآن، والموضحة لما أبهم، يقول عليه الصلاة والسلام: (أوتيت القرآن ومثله معه) أي: السنة.
وتبدأ بالصحيح حتى تكون ثقافتك الحديثية موثوقة، ولا تكلف نفسك قضية كل حديث ومن أخرجه، ابدأ بكتاب اسمه اللؤلؤ والمرجان في ما اتفق عليه الشيخان؛ هذا الكتاب اكتفى فيه المؤلف بجمع ما في الصحيحين المتفق عليه، الحديث الصحيح الذي لا شك في صحته، وعند حفظك لهذا الكتاب تصبح أحاديثك كلها صحيحة، وإذا سألك أحد: أين هذا الحديث؟ تقول: في البخاري ومسلم، متفق عليه، دون أن تشغل ذهنك؛ لأن قضية معرفة الحديث كله ومن أخرجه هذه ليست عملية سهلة، لا يستطيعها إلا أفراد من الأمة ومن كبار العلماء، لأن كل حديث له سند، وكل حديث له راوٍ، وكل حديث له مخرج، فأنت في بداية الطلب وطن نفسك على حفظ البخاري ومسلم، وبعد ذلك إذا أردت الصحيح في غير البخاري ومسلم فلا مانع.(81/14)
دراسة السيرة النبوية
الرابع: دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فإن سيرته وأحواله وشمائله وأخلاقه ترجمة عملية للإسلام، تقول عائشة وقد سئلت عن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، قالت: (كان خلقه القرآن).
فإذا أردت أخلاق الرسول فاقرأ القرآن، فإنه صلى الله عليه وسلم كان متمثلاً القرآن في كل حركته؛ في بيعه وشرائه، وسلمه وحربه، ونومه ويقظته، وأكله وشربه، وسفره وإقامته، وتعامله مع نفسه وأولاده وزوجاته، وقد جمع الله له جميع الكمالات البشرية حتى شهد الله له وقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] الكمالات موزعة في الأنبياء وفي البشر، لكن هي عند محمد مكتملة، يقول الله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [الأنعام:90] أي: الأنبياء {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] الذي تراه عندهم اقتد به كله يا محمد صلى الله عليه وسلم.
وأذكر لكم حديثاً في البخاري، يقف الإنسان عنده موقف المتعجب: كان عنده صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فأرسلت زوجة له أخرى طعاماً في إناء مع غلام لها، ففتحت الذي عندها الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا بالغلام ومعه الطعام، فقالت: ما هذا؟ قال: هذا طعام من فلانة -ضرتها- لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضبت وضربت يد الغلام، فسقط الإناء وانكسر وانتثر الطعام، والرسول صلى الله عليه وسلم ينظر الوضع، فماذا فعل صلى الله عليه وسلم؟ انظروا إلى الإنسان العظيم، لو أنه واحد منا لأخذ العصا وقام بضربها، وقد يطلقها وتحدث مشكلة، لكن لم يغضب وإنما قال: (غارت أمكم، غارت أمكم، غارت أمكم) قدر لها صلوات الله وسلامه عليه هذا الموقف؛ لأن الباعث عليه هو الحب والغيرة، وأيضاً الأحقية، تقول: هذا اليوم لي، فليس من حق أي شخص أن يطعم الرسول في بيتي، أنا أطعم الرسول صلى الله عليه وسلم وتلك تلاحقني بالطعام حتى في بيتي! ثم قام الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ إناءً من بيتها وجعل فيه طعاماً غير الذي جاء به الغلام، فأرسله إلى صاحبة الطعام الأول وقال: (طعام بطعام، وإناء بإناء) رده إلى صاحبته وانتهت المشكلة.
بعض البيوت -أيها الإخوة- تحترق وتدمر، ويحصل الطلاق، وتشتت الأسرة بكلمة واحدة تقولها المرأة، أو بتصرف يعمله الولد، فيرتكب الرجل حماقة ويغضب، فتراه يضرب ويطلق ويعتدي على امرأته المسكينة، ويجعل نفسه بطلاً وهو في الخارج دجاجة لا يساوي شيئاً، لكن عند المرأة أسد، فلا تستأسد على امرأتك، لا يكرم امرأته إلا كريم ولا يهينها إلا لئيم (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) ولا تتصور أنك عندما تكون طيباً في بيتك ستصبح ممتهناً أو ذليلاً، لا والله! بل هذا من أعظم معاني الرجولة، لكن بشرط: ألا تضيع وتذوب شخصيتك فيحصل الخطأ في بيتك وأنت لا تستطيع أن تغيره، كن متوازناً، هناك بعض الرجال يُطلق الحبل للمرأة حتى أنه لم يعد يأمرها بشيء، فتخرج متى أرادت، وتأتي بالذي تريد، تركها تفعل ما تشاء فهي سائبة، وبعضهم تجده شديداً، والشرع وسط في التعامل، تعطيها حقها وتكرمها، ولكن يجب أن تكون صاحب القرار في الأسرة، ولك الأمر فيها، لا يحدث شيء إلا بأمرك؛ لأنك صاحب الأسرة وربها ووليها.
هذا هو الرابع وهو دراسة سيرته صلى الله عليه وسلم، وأحسن ما ندل الناس عليه هو كتاب اسمه: مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمة الله تعالى عليه.(81/15)
ذكر الله تعالى
الخامس: ذكر الله فإن ذكر الله أعظم وسيلة من وسائل قوة الإيمان، وإن من أحب شيئاً أكثر ذكره، إن الذي يحب أي شيء ما يريد أن يذكر إلا هو، والذي لا يريد الشيء لا يريد ذكره، لو أن شخصاً تبغضه وتكرهه وذكره آخر ماذا ستقول؟ اسكت، اتركنا منه، لا تذكره لي، لكن إذا ذكر لك شيئاً تحبه سوف تقول: نعم، ماذا حدث؟ تريد منه أن يذكره، يقول الشاعر:
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس
مجنون ليلى قيس بن الملوح كان يمشي في الصحراء وليس معه أحد في الليل الأسود، وليلى عند أهلها وهو لوحده في أرض وتجده يقول: ليلى ليلى ليلى، فيحس براحة عندما يذكرها لأنه يحبها.
وأنت أما تحب ربك؟! إذا كنت تحب ربك فاذكره، ولهذا جاء في الحديث: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت) والفرق بين المؤمن والمنافق الذكر؛ لأن المنافق لا يذكر الله إلا قليلاً، والمؤمن يقول الله فيه: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35].
ذكر الله -أيها الإخوة- من أعظم وسائل تقوية الإيمان؛ وذلك بالمحافظة عليه؛ بأن تتعلم أذكار الأحوال والمناسبات، وتشتري كتاباً وتحفظ أذكار الصباح والمساء، والنوم واليقظة، ودخول المنزل والخروج منه، والأكل بداءة ونهاية، ولبس الثوب كل شيء في حياتك له ذكر في السنة تحفظه وتتعلمه وتحافظ عليه؛ لأن هذا يزيد إيمانك بالله، ويجعلك دائماً مع الله، يقول الله في حديث قدسي: (وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه).(81/16)
التفكر والتأمل في مخلوقات الله
السادس من وسائل تقوية الإيمان: النظر والتدبر والتأمل في مخلوقات الله في الكون.
فإنك بها تزداد إيماناً، كما قال عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:6 - 8].
التأمل في مخلوقات الله في الكون يؤسس ويقوي الإيمان؛ لأنك ترى عظمة الله في مخلوقاته، ولو فكرت في جزئياتك أنت أيها الإنسان في نفسك وما أودع الله فيك من الآيات؛ لرأيت العجب في كل ذرة من ذراتك أو خلية من خلاياك {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].(81/17)
الحرص على الطاعات
السابع من وسائل تقوية الإيمان: الحرص والاجتهاد في طاعة الله لأنه وكما قلنا: إن الإيمان يزيد بالطاعات، فالطاعات زاد، اجعل نفسك الأول دائماً، في الصلاة الأول من حين يؤذن وأنت في الصف الأول، وفي الدروس العلمية فاجعل نفسك الأول، والزكاة إذا كان لديك مال فكن الأول، والحج والعمرة إذا أتيح لك فكن الأول، والصوم كذلك، كل عمل صالح تجد أن فيه إيماناً سارع إليه، من أجل أن يزيد إيمانك، فهذا من أعظم الوسائل.(81/18)
الحذر من المعاصي والذنوب
الثامن من وسائل تقوية الإيمان: الحذر من جميع الذنوب والمعاصي؛ لأنها تحرق الإيمان، فهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعاصي، فإذا سمعت أغنية نقص إيمانك شئت أم أبيت، وإذا نظرت إلى امرأة لا تحل لك نقص إيمانك، وملأ الله عينيك ناراً يوم القيامة: (من ملأ عينيه من الحرام ملأهما الله من جمر جهنم) إذا تكلمت بالغيبة والنميمة نقص إيمانك، إذا وقع الشخص في الزنا -أعاذنا الله وإياكم (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) - ينسلخ من الإيمان، وإذا تاب ونزع يرجع.
فاحذر ثم احذر من المعاصي، وأبواب المعاصي سبعة: العين لا تنظر بها إلى الحرام، والأذن لا تسمع بها الأغاني والحرام، واللسان لا تتكلم به في الحرام، واليد لا تمدها على حرام، والرجْل لا تمشي بها في حرام، والبطن لا تدخل فيها حراماً من دخان أو جراك أو خمر أو حشيش أو مخدرات أو ربا أو أي حرام، فإن الله طيب ولا يقبل إلا طيباً، والجنة دار الطيبين، فلا تكن خبيثاً، بعض الناس -والعياذ بالله- يعيش على الخبث ويشمه ويأكله، وأيضاً يوقع نفسه في الخبث! بعد ذلك فرجك لا تطأ به إلا الحلال؛ لأن الحرام ليس لك، أنت مسلم مؤمن والله يقول لك: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32]، (ومن زنا بامرأة في الدنيا كان عليه وعليها في القبر نصف عذاب هذه الأمة) (وما عصي الله بذنب بعد الشرك أعظم من نطفة يضعها الرجل في فرج لا يحل له) (والذي نفس محمد بيده إن ريح فروج الزناة ليؤذي أهل النار) (والذي نفس محمد بيده إن فروج الزناة والزواني لتشتعل عليهم ناراً يوم القيامة) تتحول فروج الزناة والزواني إلى براكين من نار تشتعل من أجل لذة محرمة، فلا تفعل {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] ولم يقل الله: لا تزنوا، بل قال: لا تقربوا، أي: كل ما يوصل إلى الزنا لا تقترب منه، فلا تنظر؛ لأن النظر بريد الزنا، ولا تسمع الغناء؛ لأن الغناء رقية الزنا، ولا تتكلم مع النساء؛ لأن الكلام مع النساء في الباطل أولاً: لا يجوز للمرأة أن تكلم الأجنبي إلا عند الضرورة، وإذا تكلمت عند الضرورة فبصوت معروف، يقول الله: {وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] ولا تخضع في العبارة، لأن الله يقول: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] لأن بعض النساء صوتها يفتن أكثر من مظهرها.
والأذن تعشق قبل العين أحياناً
فإذا جاءت مكالمة وأنت في البيت فرد أنت، لكن بعضهم جالس وتجده يقول: ردي يا امرأة! وأنت يا كرتون ماذا تعمل؟! تجعل الرجال يتحدثون مع امرأتك، تكلمهم امرأتك وأنت قاعد! فترد المرأة، فإذا ردت: (ألو) فلان، وقالت: لحظة، فهذه طعنة؛ لأن الرجل يتأثر بالصوت يا إخواني! فلا ترد امرأتك أبداً وأنت موجود وإنما ترد أنت، وإذا كنت غير موجود فيرد الولد الصغير، الولد غير موجود ترد الطفلة، لا يوجد أحد في البيت إلا المرأة فترد؛ لأن بعض الرجال يقول: لا تردي أبداً، لا، ليس هناك شيء، لأن الله يقول: {وَقُلْنَ} [الأحزاب:32] أمر الله أن تقول لكن ترد بالمعروف: من؟ السلام عليكم، وعليكم السلام، فلان موجود؟ لا، أين ذهب؟ لا أدري، انتهى، ماذا سيقول ذاك الذي يسمع الصوت، سيقول: الله أكبر عليها لكن إذا ردت وقالت له: من؟ وأين ذهب؟ وغير موجود، ومن أنت؟ ومن تكون؟ وفتحت تحقيقاً صحفياً، وجاء الشيطان إليه وقال: انظر الناس الطيبين، انظر المرأة الممتازة، انظر الزوجة، ويمكن أن زوجها مسكين يراها طيبة لكن صوتها ضعيف، يمكن صوتها مثل (شكمان المرسديس)، فإذا سمع صوتاً لهذه وصوتاً لتلك فهذه فتنه الشيطان.
أجل.
لا تخضع المرأة في القول، تحفظ لسانها إلا بالمعروف، فالله حرم الزنا وحرم كل شيء يوصل إليه، حرم الزنا وحرم التبرج، فما هو التبرج؟ هو أن تحمل المرأة زينة وتتبرج بها أمام الناس من أجل أن تلفت أنظارهم، إما في لباس، أو كحول، أو ذهب، أو عطر، أو حذاء عالٍ، أو شعر، أو غطاء خفيف، أو برقع، تطعن بعيونها في عيون الناس -والعياذ بالله- وتقول: أنا متحجبة، ليس هذا حجاباً وإنما هذا كذب، الحجاب أن يحجب كل شيء، أما أن تغطي بعضاً وتبدي عينيك فإن أجمل ما في المرأة عيناها، ولو كشفت وجهها لكان أسهل في الأثر من كشف عينيها، والشعراء لم يتغنوا إلا بالعيون، لم يتغنوا بالخشم أو بالأذن، يقول أحدهم:
إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
والناس يقولون: والله إن عيونها تذبح، نعم، والشاعر الغنائي يقول:
عيونك قطعت قلبي كما حبحب على السكين
صدق! لماذا قطعت قلبك؟ لأنك نظرت إليها، والله يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] وأنت إذا رأيت إلى المرأة نظرت بعيونك وتعصي ربك، ربك يقول لك: غض وأنت تفتح (من ملأ عينيه من الحرام ملأهما الله من جمر جهنم) والمرأة التي تخرج من أجل أن تلفت الناس إليها ما من عين تنظر إليها إلا سمرها الله بكل نظرة مسماراً من النار، فأكثري أو أقلي أيتها المرأة، بعض النساء تخرج وهي سليمة وترجع وهي ملغمة مسامير من كل جهة.
فيها بقدر ما نظر الناس إليها، ولذا المؤمنة لا تخرج أبداً، وكانوا في الماضي يقولون: المؤمنة لها خروجان: الخروج الأول إلى بيت أبيها أو إلى بيت زوجها، والخروج الثاني إلى قبرها، واليوم لها في كل يوم عشرون خروجاً، حتى إن بعض النساء تجعل عبايتها عند الباب كل لحظة وهي تريد أن نخرج، وإذا قيل لها: اجلسي، قالت: يضيق صدري يضيق صدرها من البيت، ويتوسع صدرها في الشارع! ويتوسع صدرها في الحديقة والمعارض والأسواق؛ لأنها تنظر وتتمشى، وتبيع عرضها وعرض أبيها وعرض زوجها، أما المؤمنة فيضيق صدرها في السوق وفي كل مكان، ولا ينشرح صدرها إلا في بيتها وسترها وعرشها ومملكتها، والله يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] لم يقل: اجلسن، بل قرن، والقرار هو الجلوس مع عدم القيام، مثل الجبل المستقر الذي لا يتزحزح من مكانه، قال الله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] فلابد -أيها الإخوة- أن نحذر المعاصي ونحذر الوقوع فيها.(81/19)
الحرص على الرفقة الصالحة
التاسع: أن تحرص على رفقة صالحة وأهل خير.
ابحث في جيرانك وزملائك في المدرسة أو العمل عن الشباب والرجال الصالحين وترتبط معهم في علاقة، وتجلس أنت وهم تزورهم ويزورونك، تذكرهم ويذكرونك، وتستأنس بهم، وتعاونهم ويعاونونك على طاعة الله؛ لأن الطريق طويل ولا بد من الرفيق، والله عز وجل عندما بعث موسى ماذا قال موسى؟ قال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:29 - 32] لماذا؟ {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً} [طه:33 - 35].(81/20)
الحذر من قرناء السوء
والأخير: احذر من قرناء السوء.
قرين السوء من الزملاء، أو الجيران، أو الأقارب، أو الأنساب، إذا كان فاسقاً، قليل دين، قاطع صلاة، يشرب الخمر، يزني، خبيثاً، فاحذره وانزع يدك منه، وإذا رأيته في طريق فاذهب من طريق أخرى، ولا تقل: هو ولد عمي، أو ولد أخي، أو جاري، لا، هذا يحمل مرضاً، ما رأيك إذا كان هناك شخص قريب لك وفيه داء (الكوليرا) أو (الإيدز) أو الطاعون أو (السل) هل تجلس معه؟ بل تهرب منه، فاعلم أن هذا أخطر منه، هذا عنده مرض في عقيدته وأخلاقه وإيمانه، انزع يدك منه، ولا تقل: أنا سوف أذهب معه من أجل أن أهديه، أنت لا تزال في طور لا يسمح لك بمصاحبته، حتى تصير داعية وعالماً، حينها يمكنك أن تدعو هذا الشخص وغيره إلى الله، لكن أخاف أن تدعوه ثم يدعوك هو، وقد تصير مثله.
هذه -أيها الإخوة- وسائل العلم العشرة التي -إن شاء الله- إن عملت بها وحققتها زاد إيمانك، وحصل لك اليقين، وتحصلت على السعادة في الدنيا والآخرة.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يرزقنا إيماناً صادقاً، وعملاً صالحاً، وتوبة قبل الموت، ومغفرة بعد الموت، وتوفيقاً وهداية لهذا الدين.
اللهم إنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، يا حي يا قيوم! يا فارج الهم! يا كاشف الغم! يا أرحم الراحمين! فرج كرب إخواننا في الشيشان، اللهم فرج كربهم، اللهم انصرهم على عدوهم، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدام أعدائهم الروس، اللهم أنزل عليهم بأسك الشديد، وعذابك الأكيد فإنهم لا يعجزونك.
اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت غالب لا تغلب، لك جنود السماوات والأرض، لا يعجزك شيء في الأرض ولا في السماء، نسألك باسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، أن تنزل نصرك المبين على إخواننا.
يا من أمرت الحوت يلفظ يونساً وسترته بشجيرة اليقطين
يا من أحلت النار حول خليله روحاً وريحاناً بقولك كوني
يا رب إن السيل قد بلغ الزبا والأمر في كاف لديك ونون
باسم الفراخ الزغب يحنو جناحهم فقدوا الأب الحاني بغير منون
بصراخ أم فجعوها بابنها لم يرحموها وهي كالعرجون
يا رب إنا مثلهم في كربة فارحم عباداً كلهم ذو النون
هذا الدعاء أيها الإخوة! ويتبع الدعاء شيء وهو المال، الله أمر بالجهاد بالمال والنفس فقال: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [التوبة:20].
إخوانكم يريدون منكم الدعاء والمال، إنهم يعيشون ضائقة لم يعرف لها مثيل عبر التاريخ البشري، واليوم نشرت صور الإجرام الذي لا يعرفه البشر أبداً، ولا يمكن أن يتصور العقل؛ رأينا فيها حرقاً للأرض، وتدميراً للبيوت، وقتلاً للنساء، واستباحة للأعراض، وهم يعيشون الآن -نساء وأطفالاً وعجائز وكباراً وشباباً- في (أنقوشيا) في خيام يحوطها الثلج، نحن بردنا في الرياض كم يوم، وكل شخص عنده ثياب وشملة وعباءة ودفاية ومكيف، ومع ذلك يقول: والله أحس ببرد، ودرجة الحرارة ستة أو سبعة، هؤلاء عندهم أربعون تحت الصفر، ولا يوجد معهم لا ثلاجة، ولا غسالة، ولا ماء، ولا أكل، ولا دواء، ولا بيت، والنار والطائرات والمدمرات تقتلهم، وما هو ذنبهم يا إخواني؟ ليس إلا لأنهم يقولون: لا إله إلا الله.
إنهم إخوانكم في العقيدة، أنتم تقولون (لا إله إلا الله) وهم يقولون (لا إله إلا الله)، أين نجدة الإيمان يا إخواني؟! أين نصرة الإيمان؟! لا يريدون رجالاً هم يريدون مالاً ودعاء، رجالهم كثير لكن يريدون مالاً يشترون به طعاماً لهم ولنسائهم وأطفالهم، ويشترون به سلاحاً من أعدائهم ليدمروهم به، ولا تتصوروا أن كل ما تسمعون صحيحاً، إخوانكم أسود، وهم قد باعوا أنفسهم من الله، إما إسلام ونصر وإما موت، وقد أقسموا ولبسوا أكفانهم، لكن تأخر النصر لتأخر الدعاء والدعم منكم.
أيها الإخوة: على الأبواب مؤسسة الحرمين والندوة العالمية للشباب؛ وهما مؤسستان إسلاميتان موثوقٌ فيهما وفي القائمين عليهما، يقومان بأخذ الأموال منكم وإيصالها لإخوانكم، يقول أحد المسئولين في مؤسسة الحرمين: أحياناً نوصل الإعانة في نفس الليلة، كيف ستوصلها أنت؟ هل تستطيع أن توصلها؟ لا تستطيع، لكن هم يأخذونها منك وبالهاتف لهم مكاتب هناك.
فادفعوا وتبرعوا هذه الليلة لإخوانكم، إخوانكم يستضيفونكم هذه الليلة، لو جاءك أربعة من الشيشان وأنت ذاهب إلى بيتك، ودقوا عليك الباب وقالوا: نحن من الشيشان جائعون نريد عشاءً، هل تطعمهم أم لا؟ تطعمهم لو تقطع من جلدك لهم، الآن أنا باسمهم أقول: إخوانكم ضيوفكم هذه الليلة، عشوا إخوانكم واملئوا الصناديق، أسأل الله أن يفتح عليكم، كما أسأله سبحانه وتعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يحفظ لنا في هذه البلاد ديننا وأمننا ونعمتنا واستقرارنا، وأن يوفق ولاة أمورنا وعلمائنا ودعاتنا، وشبابنا وشاباتنا، وذكورنا ونسائنا لما يحبه ويرضاه، وأختم بهذا.
وانظروا الأسئلة عندي فهي كثيرة، لكن نريد لها شهراً، فأنا أكتفي بما حصل وأعتذر عن الإجابة، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(81/21)
الهجرة الأولى إلى الحبشة
ابتلاء المؤمن في دينه محنة، والهجرة إلى الله منحة، وعاقبتها فرحة، وحين ضاقت الأرض بإيمان المؤمنين؛ شدوا رحالهم إلى أرض الحبشة -في هجرتهم الأولى- فراراً بالدين.
وقد مهدت هذه المادة لموضوع الهجرة بكلام عن أسئلة كفار قريش التي أخذوها من اليهود، ووجهوها للرسول صلى الله عليه وسلم لامتحان نبوته.
وفي ختام هذا الدرس خواطر مهمة متعلقة بموضوع صيام رمضان.(82/1)
أسئلة قريش للرسول صلى الله عليه وسلم للتأكد من نبوته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الأحبة في الله! هذه المحاضرة تلقى في جامع الشربتلي بحي الربوة بمدينة جدة، بعد مغرب يوم السبت الموافق 13/شعبان/1418هـ على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام.
وقد جرى تقديم الموعد عن المعتاد في آخر كل شهر، وذلك لظروف الامتحانات، فإن السبت الأخير من هذا الشهر والموافق 27 يأتي في وسط الامتحانات، فرأى الإخوة في مركز الدعوة والإرشاد أن ييسروا على الناس حتى لا ينشغلوا، وحتى لا يحصل لهم حرج بين ضياع الدرس، أو ضياع متابعة أبنائهم، أو أداء امتحاناتهم إذا كانوا هم ملتحقين بإحدى المدارس، وكان هذا الرأي مناسباً إن شاء الله، ولكن ربما يفوت على بعض الإخوة الذين لم يطلعوا على الإعلان؛ لأننا لم نعلن في الدرس الماضي عن هذا الأمر نظراً لعدم التذكر.
يأتي هذا الدرس ضمن السلسلة الشهرية المعنونة بتأملات في السيرة النبوية، وعنوان هذه المحاضرة بالذات: من أحداث الهجرة الأولى إلى الحبشة.
وقد جاءت الهجرة في بداية الاضطهاد والحرب الضروس التي كان يشنها كفار قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أتباعه من المؤمنين، وكان هذا في بداية السنة الرابعة من البعثة، حيث اشتدت الوطأة، ولم تزل تزداد يوماً بعد يوم حتى تفاقمت في أواسط السنة الخامسة، وضاق الأمر بالصحابة، وفكروا في حيلة تنجيهم من هذا العذاب الأليم، وفي هذا الوقت الحرج نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم سورة الكهف رداً على أسئلة طرحها المشركون على الرسول صلى الله عليه وسلم للتثبت من مصداقيته؛ لأنهم أرسلوا وفداً من مكة إلى يهود المدينة وقالوا: أنتم أهل كتاب، وهذا الرجل يدعي أنه نبي فارجعوا إلى كتبكم، فإن كان نبياً اتبعناه، وإن كان متقولاً كذاباً حاربناه، فنظر اليهود في كتبهم وعلموا أنه زمان نبي؛ لأن اليهود كانوا يعرفون صفات النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله عز وجل: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} [الأنعام:20] ليس عندهم أي شك، لهذا قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] قالوا لوفد قريش: اسألوه عن ثلاثة أمور فإن عرفها فإنه نبي، وإن لم يعرفها فإنه متقول؛ سلوه عن فتية آمنوا بربهم وزادهم الله هدى، وسلوه عن رجل صالح يحكم الأرض، وسلوه عن الروح، هذه الأسئلة الثلاثة لا يمكن أن تعرف إلا عن طريق الوحي، فرجع المشركون وقابلوا النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وعرضوا عليه هذه الأسئلة، والرسول صلى الله عليه وسلم: {مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].(82/2)
أهمية تعليق الوعد بمشيئة الله
من كمال ثقته صلى الله عليه وسلم بربه أن الله لن يتخلى عنه، قال لهم: غداً آتيكم بالجواب، ونسي صلى الله عليه وسلم أن يقول: إن شاء الله؛ لأن مشيئة الله مطلوبة في الأمور المستقبلية؛ ولأن الحكم والمشيئة والإرادة له، ولا يوجد أحد في الدنيا يملي على الدنيا شيئاً، حتى ولو كان رسوله.
فلما نسي أن يقول: إن شاء الله، وذهب الكفار، وجاء اليوم الثاني ولم يأتِ الوحي في الليل، وكان الوحي لا ينقطع لحظة، ففي كل حدث يأتي الوحي، لكن في أحرج المواقف وفي موقف مصيري يترتب عليه إسلام مكة أو كفرها ما جاء الوحي.
فلما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: أين الإجابة، قال: ما أتاني شيء من السماء، قالوا: بطل سحر ابن أبي كبشة.
أبو كبشة هذا زوج حليمة السعدية، من بني سعد، فكانوا ينسبون الرسول إليه من باب الاستضعاف والاحتقار له، قالوا: بطل سحره، يعني: ليس بنبي، إذ لو كان نبياً لجاءه الوحي، وضاق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صادق ويحتاج إلى هذا الموقف لكي يثبت صدقه، وينصر دين الله، لكن الوحي تخلى عنه، قال: غداً، ونسي أن يقول: إن شاء الله، وجاء اليوم الثاني ولم يأتِ الوحي الثالث الرابع الخامس ومرت على النبي صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة وانقطع الوحي من السماء -لا إله إلا الله!! - وهذا من باب التربية؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو المربي والمؤدب للنبي صلى الله عليه وسلم، يقول في حديث: (أدبني ربي فأحسن تأديبي) فغلطة مثل هذه جاء فيها تأديب بقطع الوحي خمسة عشر يوماً، يقول الله سبحانه وتعالى بعدها: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24].
مهما كان الأمر في يدك، ومهما كان في قدرتك، فإن الأمور التي في قدرتك ومشيئتك مقيدة بقدرة الله ومشيئة الله، فقد تشاء أنت ولكن الله لا يشاء، وقد تريد شيئاً أنت ولكن الله لا يريد، فمن تغلب إرادته، ومن تغلب مشيئته، أنت أم الله؟ الله.
ويكون هذا في الأمور المستقبلية التي سوف تأتي، أما الأمور الماضية فلا ينبغي أن تقول: إن شاء الله، لماذا؟ لأن الله قد شاء، فلو أن شخصاً سألك: هل حضرت بالأمس درس الشيخ الفلاني؟ وأنت حضرته، تقول: نعم.
لا تقل: إن شاء الله، لماذا؟ لأنك قد حضرت الدرس وقد شاء الله، ولكن لو سألك: ستحضر الدرس الليلة؟ لا تقل: نعم.
قل: إن شاء الله؛ لأنك قد لا تحضر، وربما تخرج وفي الطريق يصيبك حادث أو عارض أو مانع! فلا تقولن لشيء مضى وانتهى: إن شاء الله، لكن في المستقبل لا تجزم على أي أمر، وهذا أدب نبوي من الله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:23 - 24].
يقال: إن رجلاً نزل السوق ومعه دراهم يريد أن يشتري له دابة، فلقيه صاحبه، قال: إلى أين؟ قال: أريد السوق، قال: ولم؟ قال: أشتري دابة -يركب عليها- قال: قل: إن شاء الله، قال: ولماذا أقول: إن شاء الله؟ النقود في جيبي والحمير ملء السوق، فلا داعي للمشيئة، فأنا سوف أنزل وأشتري، قال: حسناً، فنزل الرجل إلى السوق وسلَّط الله عليه لصاً فسرق النقود من جيبه! ولما جاء إلى مكان بيع المواشي واشترى له دابة وفاصل وانتهى، أدخل يده ليخرج الدراهم فلم يجد شيئاً -قد أخذها الرجل- فترك البيعة ورجع بدون دابة، وصاحبه كان يراقبه على الطريق يريد أن يرى ماذا اشترى، ولما مر قال: أين الدابة؟ أما اشتريتها؟ قال: سرقت الفلوس إن شاء الله، لكن الآن لا تنفع كلمة إن شاء الله -لا تنفع في الماضي- فكان لا يتكلم إلا بإن شاء الله، لماذا؟ لأنه وقع على قلبه، وأخذ درساً قوياً، بحيث لا يفعل شيئاً حتى في الماضي إلا ويقولون له: تغد! قال: تغديت إن شاء الله، لماذا؟ لأنه أخذ درساً.(82/3)
سؤال قريش عن أصحاب الكهف
النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا الدرس الرباني نزلت عليه سورة الكهف، وجزء من سورة الإسراء المتضمنة للجواب على هذه الأسئلة الثلاثة: 1/ يسألونك عن الروح.
2/ وعن أصحاب الكهف.
3/ وعن ذي القرنين.
وهذه السورة تضمنت ثلاثة أحداث -أو ثلاث قصص- وفيها إشارات بليغة وتربية عظيمة للمؤمنين، وقصة أهل الكهف تحكي إيمان فتية من الشباب، وفي هذا لفت نظر للشباب على أنه ليس أنتم أول من يهتدي ويلتزم؛ لأن القضية سلسلة من الصالحين منذ بعثة الأنبياء إلى يوم القيامة، يقول الله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13] ترشد هذه القصة -قصة أصحاب الكهف- إلى أن الهجرة وترك مواطن الكفر والعدوان حين يخاف المسلم من الفتنة على دينه أنه أمر مشروع متوكل على الله عز وجل، فأصحاب الكهف لما حوربوا وأوذوا اعتزلوا قومهم، وهجروا ديارهم، وخرجوا إلى الكهف، يقول الله عز وجل: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} [الكهف:16] فهذه القصة فيها دلالة على مشروعية الهجرة، وكأن السورة وهي تنزل في هذا الوقت الحرج تلفت أنظار الناس إلى أنه ما دامت الأرض قد ضاقت بكم في مكة ولم يكن عندكم قدرة على مواجهة هذا الباطل حسناً غيروا الموقع، اخرجوا إلى أرض الله! أرض الله واسعة كما خرج هؤلاء الذين هم: {فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13].(82/4)
قصة الخضر وموسى عليه السلام
القصة الثانية: قصة الخضر وموسى عليه السلام، التي أوحت بأن الأمور لا تجري على حسب الظاهر منها، بل ربما يكون الأمر خلاف الأمر الظاهر، وفيها إشارة لطيفة إلى أن الحرب القائمة بين المستضعفين من المسلمين وبين الأقوياء والكبراء والعظماء من المشركين ستنعكس تماماً، وستكون النتيجة بخلاف الظاهر ستكون الغلبة في النهاية لأهل الإيمان وستكون الهزيمة على أهل الكفر كما حصل في قصة موسى مع الخضر؛ لأن موسى وقف خطيباً في بني إسرائيل، وقال: ليس على الأرض من هو أعلم مني -ولم يستثن- ولم يقل: إن شاء الله، فالله سبحانه وتعالى أوحى إليه، قال له: يوجد في الأرض من هو أعلم منك، قال: أين هو يارب؟ قال: في مجمع البحرين؛ ومجمع البحرين منطقة يلتقي فيها البحر الأبيض المتوسط بـ المحيط الأطلسي في مضيق يسمى: مضيق جبل طارق - طارق بن زياد - وأين هذا الموقع؟ أتدرون أين؟ في جنوب أسبانيا وشمال المغرب، هذا الجبل جبل طارق، لكن أين هو اليوم؟!! -الله المستعان- كيف ضعفت الأمة، قال له ربه: هذا العبد الصالح في مجمع البحرين، وأين كان يعيش موسى؟ كان يعيش موسى في فلسطين، فكانت رحلة شاقة؛ يقطع فيها هذه المنطقة من طرف آسيا إلى غرب إفريقيا؛ يقطع مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب كلها، قال: رب: أريد أن أطلب العلم عنده، قال: اذهب، فخرج موسى عليه السلام -والقصة في الصحيحين - وذكرها المفسرون عند ذكر الله عز وجل لأصحاب الكهف في سورة الكهف: خرج موسى ومعه فتاه يوشع بن نون، وسأل الله أمارة، قال: رب: إذا لقيته فكيف أعرف أنه هو؟ قال: العلامة أن تعود الحياة إلى هذا الحوت، وكان معهم حوت مملح مقدد جاهز للأكل -ميت من زمان- قال: إذا عادت الحياة إلى هذا الحوت ستجد هذا العبد الصالح الذي هو أعلم منك.
ومشى وقطع الرحلة الطويلة سيراً على الأقدام، حتى إذا وصلوا إلى مجمع البحرين، قال لغلامه: {قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} [الكهف:62] يقول: تعبنا، وفعلاً سفر متعب، قال: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً} [الكهف:63] يقول: في ذلك المكان اتخذ الحوت سبيله في البحر {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف:64] يقول: هذا الكلام الذي نريد، يقول موسى: هذه هي الأمارة، أي: عودة الحياة للحوت -أو الدخول في الماء- نريدها: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً * فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [الكهف:64 - 65] وهو الخضر عليه السلام، والخضر ليس نبياً كما يزعم بعض الناس، لا.
ليس نبياً، وإنما هو عبد صالح من عباد الله، آتاه الله عز وجل علماً لدني، أي: من لدن الله سبحانه وتعالى {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [الكهف:65] فعرض عليه موسى أن يستصحبه، قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ} [الكهف:66] من أجل أن يطلب العلم على يده، فقال له الخضر: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:67]؛ العلم يحتاج إلى صبر، وفي هذا إشارة لطلبة العلم الذين يستعجلون في نيل العلوم والمدارك والمعارف ويريدون أن يكونوا علماء في أسبوع أو في جلسة، لا.
العلم يحتاج إلى نفس طويل، وإلى ممارسة وصبر، وإلى جلوس في حلق الذكر، وإلى قراءة للكتب، وإلى المواصلة والبحث ثم في النهاية يأتيك العلم.
ومثل طلب العلم كمثل النحلة إذا دخلت البستان، فهل مباشرة تضع عسلاً؟ لا.
بل تذهب وتبحث عنه في الأوراق والشجر والأزهار إلى أن تأتي بشيء بسيط، ثم تذهب وتبني وهكذا حتى يصير عسلاً، وكذلك العلم: يأتي بالطلب وبالممارسة وبالصبر وبالاحتكاك، وبإيجاد الحس العلمي عندك، أي: يكون عندك حس مرهف للعلم، وشغف، ورغبة، ولا تريد أن تجلس أي وقت إلا للعلم، فإذا دخلت بيتك، لابد من كتاب، وإذا خرجت لتتمشى لابد من كتاب، وإذا جلست لابد أن تفتح إذاعة القرآن؛ لأنك تريد علماً، ولا يمكن أن تضيع دقيقة من دقائق وقتك، فعندما يكون عندك حس علمي فسوف تصبح عالماً بهذا الموضوع، أما أن يكون العلم على هامش حياتك إن جاء وإلا تقضي أوقاتك أكثرها في سهر وكلام فارغ ولعب، ثم تريد أن تصبح عالماً! العلم لا يأتي إلا مع التعب.
فهذا موسى عليه السلام يقول له الخضر عليه السلام: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:67] فقال له موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} [الكهف:69] إن شاء الله أكون جاداً؛ لأنه بعد مشوار طويل وبعد سفر من طور سيناء إلى المغرب، قال: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} [الكهف:69] فقال له الخضر: بشرط: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} [الكهف:70] لا تسألني! وبعض طلبة العلم بمجرد أن يحضر المحاضرة يقدم السؤال! اصبر حتى تنتهي المحاضرة، فربما يأتي جوابك على لسان المحاضر أثناء الكلام، فأنت لا تستعجل.
فمشى معه على هذا الشرط.
ومروا وهم يريدون البحر، فاستأجروا سفينة وركبوا، وبينما هم جالسين، قام الخضر وأخرج مسماراً من حقيبته ومطرقة وخرق السفينة، وبدأ الماء يدخل، فاستغرب موسى، وهذا العمل لا يُسكت عليه؛ لأن هذا عمل تخريبي، قال له: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف:71] فذكره: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:75] ألم أخبرك من قبل أنك لن تستطيع أن تصبر: {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً} [الكهف:73 - 74] ثم مروا بقرية عندما نزلوا من السفينة وإذا بأطفال يلعبون في الساحة، فعمد الخضر إلى واحد من الأطفال وأمسكه من رقبته ونزع رأسه من رقبته -قطع رأسه- فما صبر موسى على هذا العمل، فموسى نبي ومصلح، وهذا قتل، ولهذا قال له: {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف:74] زكية: يعني معصومة صغيرة لم تفعل شيئاً، ففي الأولى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف:71] (إمرا) يعني: يبعث على المرية وعلى التفكر، كيف تخرق السفينة؟ لكن هنا لا توجد مرية، فهنا قتل واضح، فقال له الخضر: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:75] وقال في الأولى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:72] لكن هنا أظهر الضمير {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:75] ألم أقل (لك) أي: من أول طلبك لصحبتي؟ فقال له موسى: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي} [الكهف:76] يقول: هذه آخر مرة: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} [الكهف:76].
{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف:77] كانوا بخلاء؛ لم يضيفوا حتى هؤلاء الغرباء، فرجعوا جائعين متعبين مسافرين، ليس عندهم أكل، فرأى الخضر جداراً آيلاً للسقوط، فقام الخضر وشمر عن ساعده وهدم الجدار وبدأ يعيده من جديد، فاستغرب موسى! أناس لا يضيفونا ونبني لهم الجدار بغير مقابل: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف:77] أي: قاول عليه مقاولة وخذ عليه أجراً، لكي نأكل ونشرب، أما أن يطردونا ونحن نبني جدرانهم بدون مقابل فهذا شيء لا يقبله العقل، فقال له الخضر: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78] يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أخي موسى لو صبر لأرانا من عجائب علم الله ما لا نتصور) ثم قال لموسى؛ لأنه مستعجل: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف:78 - 79] وظاهر الأمر أن خرق السفينة يؤدي إلى إغراقها، لكن حقيقة الأمر أن خرق السفينة يؤدي إلى النجاة بها؛ لأن هذا الملك الظالم الذي كان يأخذ السفن عندما جاء يريد أن يأخذها وجد الماء يدخلها، وأهلها ينزفون الماء، قال: دعها.
هذه لا تصلح، فهو خرقها لينجو بها لا ليغرقها، فالأمر ليس على ظاهره، فظاهر الأمر تدمير وإفساد، ولكنه في حقيقته نجاة هذا الأول.
{وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف:80 - 81] كان بعلم الله أن هذا الولد الذي يعتبر زهرة من زهرات الحياة لوالديه وفلذة كبدهما، يعلم(82/5)
سؤال قريش عن ذي القرنين
أما القصة الثالثة التي تضمنتها سورة الكهف فهي: قصة ذي القرنين، وهي تفيد أن الله سبحانه وتعالى هو الذي له الملك من قبل ومن بعد، وأنه يورث الأرض من يشاء من عباده، وأن الفلاح إنما هو في سبيل الإيمان لا في سبيل الكفر، وأن الله لا يزال يبعث من عباده بين آونة وأخرى من يقوم بإنجاء الضعفاء، وإهلاك الطغاة من الكفار والمشركين {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} [الكهف:83 - 84] مكن الله سبحانه وتعالى لذي القرنين في الأرض وجعله يحكم الأرض كلها؛ كان يأتي إلى مغرب الشمس وإلى مطلعها، وكان له ملك لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
هذه القصص -أيها الإخوة- بدأت تعطي أثرها في الصحابة في قضية تهيئتهم وتجهيزهم لمفارقة مكة والخروج منها فراراً بدينهم، خصوصاً بعدما نزلت سورة الزمر وفيها قول الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} [الزمر:10] ولما نزلت قال الصحابة: حسناً للذين أحسنوا بالإيمان لهم في هذه الدنيا حسنة، أين الحسنة التي للصحابة، وهم يعذبون، ويقتلون، ويضربون، ويسجنون، ويسحبون -كما سمعتم في الدرس الماضي- أين الحسنة؟ قال الله تعالى بعدها: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].(82/6)
هجرة المسلمين الأولى وعودتهم منها
وفي كل هذه الظروف كانت الهجرة الأولى إلى الحبشة فراراً بالدين من بلاد الفتنة إلى بلاد الأمان، روى ابن إسحاق من حديث أم سلمة رضي الله عنها؛ لأنها كانت من المهاجرات، قالت: لما ضاق الأمر علينا بـ مكة وأوذي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان القوم لا يقدرون عليه -في السنة الرابعة والخامسة والسادسة ما قدروا على الرسول- لماذا؟ لأنه كان هناك أحد يمنعهم، وهو أبو طالب؛ كانت هناك منعة من قومه، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتكى الصحابة الضعفاء، قال: (إن بأرض الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد -رجل عادل اسمه: النجاشي - فالحقوا ببلاده -يقول: هاجروا إليه- حتى يجعل الله لكم مخرجا) تقول أم سلمة: [فخرجنا إليها، حتى اجتمعنا بها فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمنا على ديننا ولم نخش منه ظلما] الله أكبر! هذا الرجل صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم لما مات في مكة صلاة الغائب، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه تدل على أنه أسلم، وكلمة: النجاشي لقب يطلق على من يحكم الحبشة، مثل كلمة: فرعون، تطلق على من يحكم مصر، ومثل كلمة: قيصر أو كسرى، أو شاهين شاه، فكان هذا الحاكم اسمه النجاشي، لكن الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو ذلك الرجل الذي آوى الصحابة ونصرهم، فلما مات صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وسوف يأتي معنا إن شاء الله بيان إسلامه وأنه دخل في دين الله سبحانه وتعالى.
طبعاً يروي ابن سعد في الطبقات أنهم خرجوا متسللين -سراً- لأن مكة لا تسمح لهم بالخروج، فخرج كل منهم منفرداً، وكانوا أحد عشر رجلاً وأربع نساء، وفي بعض الروايات أنهم كانوا عشرة، وفي بعض الروايات أنهم كانوا اثنا عشر، لكن الذي عليه جماهير المؤرخين أنهم كانوا أحد عشر رجلاً وأربع نساء، حتى انتهوا إلى الشعيبة، والشعيبة على بعد ستين أو سبعين كيلو من مكة المكرمة، وكان منهم الراكب ومنهم الماشي، ووفق الله عز وجل للمسلمين عندما وصلوا إلى الشعيبة بسفينتين للتجار، فحملوهم إلى أرض الحبشة بنصف دينار، وكان مخرجهم في شهر رجب في السنة الخامسة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى الفور خرجت قريش في آثارهم لملاحقتهم، ولكنهم لم يصلوا الشعيبة حتى وجدوهم قد ركبوا ورحلوا فلم يدركوهم والحمد لله.(82/7)
أسماء بعض المهاجرين
وكان من ضمن هؤلاء المهاجرين أبو سلمة ابن عبد الأسد، زوج أم سلمة بنت أبي أمية أم المؤمنين فيما بعد؛ لأن أبو سلمة هذا ابن عبد الأسد مات، ولما مات قالت زوجته كلمة سمعتها من الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا جبره الله في مصيبته وخلف عليه خيراً منها) تقول: فلما مات أبو سلمة تذكرت الدعاء، وقلت في نفسي: ومن هو خير من أبي سلمة؟! تقول: لا أحد في الدنيا مثل أبي سلمة لكنها قالته تصديقاً بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد أيام؛ بعد أن انتهت من العدة وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبها، لتصبح زوجاً له وأماً للمؤمنين إلى يوم القيامة ما هذا الفخر العظيم! ولما اعتذرت قالت: (يا رسول الله! إني أغار -قالت: إني أغار وأخاف أن أكسر خاطرك أو أغضبك- وعندي صبية -أولاد- قال: أما غيرتك فسيذهبها الله، وأما أولادك فهم مع ولدي) اللهم صلِّ وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً كان ضمن المهاجرين عثمان بن مضعون رضي الله عنه وأرضاه، ومصعب بن عمير الشاب العظيم الذي قتل شهيداً في يوم أحد، وعثمان بن عفان رضي الله عنه، ومعه زوجته رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم بنت خير البشر كانت أيضاً مهاجرة مع زوجها إلى الحبشة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في عثمان وفي رقية: (إنهما أول بيتٍ هاجر في سبيل الله بعد إبراهيم ولوط) قال إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99] فكان أول بيت هاجر بعد إبراهيم ولوط بيت عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم.(82/8)
سبب عودة المهاجرين إلى مكة
وعرفت هذه الهجرة في التاريخ الإسلامي بالهجرة الأولى إلى الحبشة، طبعاً لم يمكث هؤلاء إلا قليلاً، واستقبلهم النجاشي وآواهم وأكرمهم، وما أرسلت قريش في تبعهم بشيء، لكنها أرسلت في الهجرة الثانية الكبيرة التي كان فيها عدد كبير حول المائة وسوف يأتي تفصليهم إن شاء الله، لكن في هذه المرة جلس الصحابة المهاجرون فترة بسيطة، من السابع من شهر رجب إلى شهر شوال فقط؛ رجب وشعبان ورمضان وشوال، أربعة أشهر.
ثم عادوا، ورجعوا من الحبشة إلى مكة، ولماذا عادوا؟ لأن هناك شائعات وأخبار بلغتهم أن أهل مكة قد أسلموا، والأخبار كانت تنقل آنذاك بطرق ووسائل بدائية من الصعب التثبت منها؛ جاءتهم إشاعة وهم في الحبشة أن مكة قد دخلت في دين الله، فقالوا: ما دام قد أسلم أهل مكة فلماذا نبقى هنا؟ نرجع إلى أهلنا وديارنا، فرجعوا ولما اقتربوا من مكة علموا أن الذي بلغهم من الخبر ليس إلا إشاعة، وعرفوا أن نار العداوة لا زالت مستعرة في قلوب الكفار، فرجع بعضهم إلى الحبشة وبعضهم دخل مستخفياً، وبعضهم دخل في جوار رجل من قريش -في جوار رجل، أي: في وجه رجل- وإذا أجار رجل رجلاً آخر فلا أحد يستطيع أن يصل إليه، خصوصاً إذا كان المجير هذا شخصية اعتبارية لها مكانتها الكبيرة في المجتمع.(82/9)
خطأ تاريخي حول سبب رجوع المهاجرين إلى مكة
وهناك زعم تاريخي باطل سوف نرده إن شاء الله بالأدلة، وهذا شائع عند كثير من الناس ولا يفهمون القول الحق فيه؛ يزعم بعض المؤرخين أن سبب رجوع المؤمنين من الحبشة كان لوقوع هدنة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، وبين الإسلام وبين الكفر، وسبب هذه الهدنة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تقرب إلى المشركين بمدح أصنامهم، والاعتراف بمنزلتها، إذ زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المشركين سورة النجم لما نزلت حتى وصل إلى قوله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم:19] اللات: صنم من أصنام قريش، والعزى: شجرة كانت تُعبد من قبل قريش، ومناة الثالثة الأخرى: صنم من أصنام قريش، ألقى الشيطان -تقوَّل الشيطان- في آذان المشركين كلمة اعتراضية فهموا منها أنها من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي كلمة: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهم لترتجى، ففهموا هم أنها من الرسول، وإذا كانت من الرسول فهي مدح للأصنام، وأن شفاعتها ترتجى، وأنها تضر وأنها تنفع، فسجد وسجد كفار مكة عند هذه الآية، فلما بلغهم ذلك وهم في الحبشة ظنوا أن القوم قد أسلموا لهذه القصة المزعومة المكذوبة.
هذه القصة رواها كثر من المؤرخين؛ فقد رواها ابن سعد في الطبقات، والطبري في تاريخه، والبيهقي في الشعب، ولكن لم يروها أحد من أصحاب الكتب الستة المعتبرة: لا البخاري ولا مسلم ولا النسائي ولا أبو داود ولا الترمذي ولا ابن ماجة، ولم يروها أيضاً الإمام أحمد في مسنده ولا غيره من أصحاب الكتب المعتبرة والمعتمدة في النقل، وهي باطلة كما يقرر العلماء، متناً وسندا.
أولاً: من حيث السند: يقول ابن كثير عند هذه الآيات: قد ذكر كثير من المفسرين قصة الغرانيق ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم، هذا كلام من؟ كلام ابن كثير، يقول: كل الطرق التي جاءت بها طرق مرسلة، والمرسل ضعيف لا يعتمد عليه ولا ينقل فيه خبر.
والقاضي عياض له مآخذ أخرى على القصة من حيث المتن والسند، يقول: أما المأخذ الأول: فيكفيك أن هذا الحديث لم يخرجه أحدٌ من أهل الكتب الصحيحة، ولا رواه ثقة بسند صحيح، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته، وإنما أولع به بعض المؤرخين المولعين بكل غريب، والمتلقفين لكل صحيح وسقيم، ومن حكيت عنه هذه المقالة لم يسندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية.
هذا من حيث السند.
ثانياً: أما من حيث المتن: فإن هذه القصة مردودة بالقرآن الكريم، يقول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42] وقد أبعد الله عز وجل وضمن بهذه الآية الغواية عن عباده المرسلين بوحي الشيطان، وقد أقر رئيس الشياطين -وهو إبليس- بأنه ليس له سلطان على عباد الله المخلصين، فإذا لم يكن له سلطان على عباد الله فمن باب أولى أن لا يكون له سلطان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يمكن أن يتقمص الشيطان شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وأن يوحي عنه بمثل هذا الكذب؟ لا.
غير صحيح، فليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، وأي الناس أصدق إيماناً وأعظم توكلاً عليه من الأنبياء ومن أخصهم محمد صلى الله عليه وسلم؟! حسناً لماذا سجد المشركون لما قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآيات عليهم؟ هنا العلة، هم بالفعل سجدوا، المشركون سجدوا عندما نزلت هذه السورة، والسبب كما يقوله المفسرون: ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم في جماعة من المسلمين والمشركين في الحرم، وخواتيم هذه السورة فيها قوارع تطير منها القلوب، فلما أخذ صوت الرسول صلى الله عليه وسلم يهدر بها ويزبد ويرعد بنذيرها، وصل إلى قول الله عز وجل: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى * هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى * أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:53 - 62] كانت روعة الآيات وعظمة القرآن قد صدعت قلوبهم، فما تمالكوا أمام قوة البيان وقوة التلاوة إلا أن خروا ساجدين مع غيرهم من المسلمين، حتى إن الوليد بن المغيرة وكان كبير السن لا يستطيع أن يسجد، أخذ حفنة من البطحاء وسجد عليها وهي بيده، فلما أفاقوا بعدما رأوا الناس ساجدين وجدوا أنفسهم ساجدين مع المؤمنين الذين سجدوا لله، وأما هم فسجدوا من باب التأثر البالغ بالقرآن الكريم، فلما رفعوا رءوسهم أحسوا أنهم قد أخطئوا، وأنهم قد أقروا الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، فندموا على ما كان منهم، فأحبوا أن يعتذروا عن غلطهم، وقالوا: ما سجدنا لإله محمد إلا لأنه أثنى على آلهتنا وقد عرفتم القصة؟ يقولون: نحن ما سجدنا إلا لأن محمداً ذكر آلهتنا بخير؛ فنحن سجدنا له من باب المجاملة مثلما قالوا: نعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة، فأنزل الله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:1 - 5].
كانت هذه -أيها الإخوة- هي الأسباب الحقيقية لعودة الصحابة من الهجرة الأولى إلى مكة المكرمة، وهذا هو التفسير الصحيح للحدث الذي مر بـ مكة المكرمة وهو سجود المشركين مع المؤمنين عند نزول هذه السورة، وعند قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الآيات.
وهنا -أيها الإخوة- تنتهي أحداث هذا المشهد وهو الهجرة الأولى إلى الحبشة.(82/10)
خواطر على أبواب رمضان
يأتي بعدها أحداث الهجرة الثانية إلى الحبشة ولكنا نرجئ الحديث عنها إن شاء الله إلى الدرس القادم الذي سيكون بإذن الله في آخر شهر شوال نظراً لأن شهر رمضان كما هو معروف؛ شهر عبادة، وتقوى، وصلاة، وقراءة للقرآن، وفيه تتوقف الدروس كما كان السلف رحمهم الله تعالى؛ كانوا إذا دخل رمضان يوقفون جميع حلقات العلم؛ لأنه شهر القرآن، يقول الناظم:
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب حتى عصى ربه في شهر شعبانِ
ها قد أضلك شهر الصوم بعدهما فلا تصيره أيضاً شهر عصيانِ
اتل الكتاب وسبح فيه مجتهداً فإنه شهر تسبيح وقرآنِ
كم كنت تعرف ممن صام في سلفٍ من بين أهل وجيران وإخوانِ
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم حياً فما أقرب القاصي من الداني
ومعجبٍ بثياب العيد يقطعها فأصبحت في غدٍ أثواب أكفانِ
حتى متى يعمر الإنسان مسكنه مصير مسكنه قبرٌ لإنسانِ
وفيما تبقى معنا من الوقت -أيها الإخوة- نريد أن نتحدث عن قضيتين:(82/11)
حكم تخصيص ليلة النصف من شعبان ببعض العبادات
القضية الأولى: ما اعتاده بعض الناس من أداء بعض العبادات في ليلة النصف من شعبان أو يوم النصف من شعبان.
كلنا يعلم -أيها الإخوة- أن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الناس للعبادة، وأن هذه العبادة التي خلقهم الله عز وجل لها لا يمكن أن يعرفوها من عند أنفسهم، فبعث الله أنبياء ليعلموا الناس كيف يعبدون الله تعالى، يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [النحل:36] وختم الله الأنبياء بالرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر الناس بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] وجعله القدوة والمثال والأسوة الحسنة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] لكن لمن؟ {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] فالذي يرجو ما عند الله، ويرجو النجاة يوم القيامة، ويذكر الله كثيراً هو الذي يكون له قدوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين وبلغه للأمة، وما مات صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ووقف في يوم عرفة والقرآن ينزل عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] أي: لا يوجد دين بعد هذه الآية؛ لأن الله تعالى أكمل الدين، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة: (ألا هل بلغت؟ قالوا: اللهم نعم، قال: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد) ونحن نشهد أنه بلغ الأمانة، وأدى الرسالة، ونصح الأمة، فجزاه الله عن الإسلام أفضل ما جزى نبياً عن أمته، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
والذي يريد أن ينجو يلزمه أن يتابع الرسول صلى الله عليه وسلم، أما الزيادة على الرسول صلى الله عليه وسلم بأي عمل مبتدع ليس عليه أمر الله ولا أمر الرسول فإنه يلزم منه ثلاثة أمور كلها سيئة: أولاً: أن الله ما أكمل الدين، وأن الآية هذه غير صحيحة، والذي يقول بذلك يكون كافراً، أي: الذي يقول: إن الله ما أكمل الدين وأن هذه الآية غير صحيحة، ما حكمه في الإسلام؟ الكفر، لماذا؟ قد لا يقولها بلسانه ويقولها بفعله -أي: يعمل شيئاً ليس عليه أمر الله تعالى، ويقول: هذا من الدين، أجل.
فالله عز وجل لما قال هذه الآية لم يكمل الدين.
وهذا خطأ! ثانياً: يلزم من الابتداع تنقص جناب النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ما أدى الرسالة؛ فما دامت هذه من الدين والرسول لم يبلغها فإن الرسول قد كتمها -أي: أن الرسول لم يعلم الناس بها- وهل في الدنيا أحد يقول: إن الرسول ما بلغ الرسالة؟!! لا.
فالذي يقول: إن الرسول ما بلغ الرسالة يكفر.
ثالثاً: يلزم من البدعة لزوم ثالث، وهو: ضياع الدين! فإن الله حفظ لنا الدين بالوحيين: الكتاب والسنة، ولكن إذا أدخلنا فيه الرأي قام كل واحد برأيه؛ لأن أفكار الناس وآراء الناس واستحسانات الناس لا تنتهي؛ وليس لها حدود، فكل واحد يأتي لنا بدين، وربما بعد سنوات يأتينا ويقول: لا.
نريد أن نحيي ليلة السابع والعشرين من شعبان، لماذا؟ قال: لأننا نحيي ليلة السابع والعشرين من رمضان، فقياساً عليها نحيي هذه الليلة، نقول له: لا.
لا يجوز؛ لأنه لا يوجد دليل فالله قطع الطريق على من يريد أن يفسد على الناس دينهم بوجوب الاعتصام بالكتاب والسنة، لماذا؟ لأن الدين في الكتاب والسنة، وهذه الليلة -ليلة النصف من شعبان- لم يرد في إحيائها، ولا قيامها، ولا صيام يومها الخامس عشر دليل من كتاب أو سنة، وبما أنه لم يرد دليل فالتعبد فيها بدعة، وبعض الناس يحتج بدليل فيه مقال في سنده، لكن بعض العلماء يجمعون طرقه ورواياته ويضمون بعضها إلى بعض، فيرتفع إلى درجة الصحيح، كما صنع الشيخ الألباني، فقد جمع رواياته وقال: إن بعضها يشد بعضاً، ويحصل بمجموعها نقل الحديث إلى درجة الصحيح، لكن الحديث ليس فيه دليل على مشروعية القيام أو صيام ذلك النهار، لأن الحديث فيه خبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة: (إن الله يغفر في ليلة النصف من شعبان بعدد شعر غنم قبيلة كلب) قبيلة كلب هذه من قبائل العرب، كانت مشهورة بكثرة أغنامها، ولهذا يضرب بها المثل بكثرة مواشيها، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله في تلك الليلة يتجلى بالمغفرة والرحمة والرضوان على عدد كبير من الأمة بعدد شعر غنم هذه القبيلة، فالحديث أفاد خبر أن الله يغفر في هذه الليلة، وإذا قبلنا وسلمنا بصحته فنحن نأمل أن يغفر الله لنا مع من يغفر له في تلك الليلة، لكن ليس في الحديث دليل على مشروعية قيام ليله، أو صيام نهاره، أو إحيائه أو الاحتفال به، لماذا؟ لأن الحديث لم يتضمن هذا، فالحديث أخبر أن في هذه الليلة مغفرة، ولكن الرسول لم يقل: فقوموا ليله، أو صوموا نهاره، أو أحيوه، ولم يأمرنا، وبما أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمرنا فعلينا أن نقف، لماذا؟ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7].
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر في الصحيحين: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: إذا عملت عملاً وهو رد عليك، ماذا يصير هذا، سنة أم بدعة؟ بدعة؛ لأنه مردود عليك، فينبغي -أيها الإخوة- أن نقف عند كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
نحن في هذا الزمن والحمد لله زمن الصحوة؛ صحوة الأمة والعودة إلى دين الله، ولكننا نريد أن تكون صحوة على نور الكتاب والسنة، لا صحوة على ظلمات البدعة، والخرافات والأباطل؛ نريد صحوة راشدة، تتمسك بالوحيين -الكتاب والسنة- حتى تكون صحوة صحيحة إن شاء الله! فنريد أن نلفت الإخوة إلى هذا إذ لا ينبغي لأحد أن يقيم وزناً لأي احتفال أو أي صيام يحصل في هذا اليوم أو تلك الليلة.
أما شهر شعبان فإن صيامه مشروع لما ثبت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم رمضان وشعبان حتى نقول: لا يفطر، وكان يفطر حتى نقول: لا يصوم) فإذا رأينا إنساناً يصوم من شعبان لا ننكر عليه، أو كان من عادته أنه يصوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهور الأخرى وصامها في شعبان لا ننكر عليه؛ لأنها عادته، أو كان يصوم الإثنين والخميس من كل أسبوع وصادف يوم الخامس عشر من شعبان يوم الإثنين وصامه؛ لأن عادته أن يصوم كل إثنين وخميس فلا حرج عليه، لكن إذا كان لم يكن من عادته وصام يوم الإثنين، لأنه يوم الخامس عشر، نقول: لا.
هذا ليس عليه دليل هذا بدعة؛ لأنه يلزم أن يكون هناك دليل عليه.
هذه -أيها الإخوة- القضية الأولى التي أردت الحديث عنها.(82/12)
فضل شهر رمضان
نحن -أيها الإخوة- على أبواب شهر كريم، وموسم عظيم من مواسم الخير والرحمة، يتيحه الله عز وجل للمؤمنين كل عام، وفيه تفتح أبواب الجنان فلا يغلق منها باب، وتغلق فيه أبواب النيران فلا يفتح منها باب، وهذا معناه -أيها الإخوة- دعوة للناس بأن أبواب الجنة مفتوحة فتفضلوا بالدخول، ودعوة إلى أن النار لا يدخلها أحد، فالأبواب مغلقة، ولو أردت أن تدخل النار فهي مغلقة أمامك؛ لأن بعض الناس مصر على أن يدخل النار -أي: بإصراره على المعاصي وعلى الكفر- ولهذا فالباب مقفل، لماذا؟ رمضان كريم! وبعض الناس يقعد عند باب النار حتى يأتي العيد -والعياذ بالله-.
ثم تغل فيه مردة الشياطين -المردة والجن والعفاريت الذين يغوون الناس، كلهم مسجونون- قال لي شخص من الناس: أرى بعض الناس حتى في رمضان على الشر وعلى المعاصي؟ قلت: هذا لأنه هو نفسه شيطان، وأما شيطانه فإنه مسجون، لكن هو ليس مسجوناً، فأصبح مجرماً بدون شيطان -أي: هو شيطان أصلي والعياذ بالله- ثم متى تنتهي المهلة؟ تنتهي ليلة العيد، ولكن من فضل الله في رمضان أن يعود الناس للدين، فالذي ما كان يصلي في المسجد يأتي ليصلي، والذي ما كان يقرأ القرآن يقرأ القرآن، والذي كان فاسقاً تجد عنده نشوة، لماذا؟ لأن الشيطان محبوس، ويأتي الناس للعمرة، وتجد حياة للإيمان، لكن ليلة العيد يطلق المساجين -مساجين الشيطان- وحينها تعال وابحث عن الناس في ثاني العيد -صباح صلاة الفجر في ثاني يوم العيد- وانظر إلى المسجد كم يصلي فيه، مع أن المسجد في الليلة التي قبلها يوم تسعة وعشرين -أو ثلاثين- مليء بالمصلين، ولما انطلق السجناء أمسك كل واحد قرينه، قالوا: نم.
فقد انتهى رمضان، لا تصل في المسجد، ولهذا لا يصلي في المسجد إلا أولئك الذين عندهم قوة وتحرر من الشيطان.
هذا الشهر العظيم -أيها الإخوة- يضاعف فيه الأجر، ويزاد في رزق المؤمن، فمن عمل فيه حسنة كانت كمن عمل ألف حسنة، ومن أدى فيه فريضة كانت كمن أدى سبعين فريضة، وفيه يتجلى الله سبحانه وتعالى بالمغفرة على الناس ففي كل يوم يعتق ألف ألف عتيق من النار -يعني: مليون- كلهم قد استوجبوا النار، وفي آخر ليلة يعتق بقدر من أعتق من أول الشهر.
ويدعو النبي صلى الله عليه وسلم دعاء على من لم يغفر له في رمضان والحديث صحيح: (صعد الرسول صلى الله عليه وسلم المنبر يوماً من الأيام, وقال: آمين، آمين، آمين -ثلاث مرات- قال الصحابة: يا رسول الله! تقول: آمين وما سمعنا أحداً حدثك، قال: حدثني جبريل، قال لي: يا محمد! قل: آمين، قلت: آمين، قال: رغم أنف من أدرك رمضان ولم يغفر له، قل: آمين، فقلت: آمين) هذا دعاء بأن يرغم أنفه، أتدرون ما معنى رغام الأنف؟ الرغام: هو التراب المسحوق الدقيق الذي إذا وضعت يدك فيه فإنه يغبرها، رغم أنفه، أي: تمرغ أنفه بالرغام -يعني خاسر- وعندما تقول: سأضع أنفك على التراب، يعني: إهانة كاملة (رغم أنفه من أدرك رمضان ولم يغفر له) وإذا لم يغفر لك في رمضان فمتى يغفر لك؟ وإذا كان شيطانك محبوساً في رمضان وعييت إلا أن تكون شيطاناً، فسوف يأتيك شيطانك في شوال حتى تصبحا شيطانين -أنت وقرينك- وبعض الناس -والعياذ بالله- لا ينشط في الشر إلا في رمضان، بل بعضهم لا ينشط إلا في العشر الأواخر من رمضان! الناس في القيام وفي التهجد وهو على المحارم وعلى الزنا، والغناء، والفجور، بل بعضهم يقطع تذكرة سفر من أول العشر ليكمل العشر في الشر -والعياذ بالله- والفساد! بينما يأتي الناس من جميع أقطار الأرض إلى هنا ليعتمروا في رمضان! ولو ذهبت للحجز في الخطوط السعودية فلن تجد مكاناً، لماذا؟ لأن أهل الشر خرجوا لإكمال! خرجوا للعمرة ولكن في بلاد الضلال -والعياذ بالله-.
(قال: قل: آمين -الثانية- قال: رغم أنف من أدرك أحد أبويه أو كلاهما فلم يدخلاه الجنة، قل: آمين، فقلت: آمين) وجود أمك أو أبيك فرصة لا تعوض وليس لها ثمن أن تدخل الجنة عن طريق برهما، من أين تأتي بأم وأب إذا مات أبوك وأمك، ما معك إلا هما، فلا تضيع فرصتك، أبوك وأمك لن يعيشا طويلاً، وهم ضيوف عندك الآن، وبهما أكرمك الله وجعل لك باباً.
يذكر أن شخصاً ماتت أمه فقعد يبكي، ولما قالوا له: يرحمك الله، أنت تعرف أن الموت حق؟ قال: لا أبكي من الموت، ولكن أبكي أن باباً من أبواب الجنة قد أقفل في وجهي.
يقول: ليس معي طريق، كان معي طريقين وقد أُغلق أحدها علي وهو باب أمي، فالله الله في استغلال هذا الباب، فإنه لو ماتت أمك أو مات أبوك وأنت غير بار بهم فستبقى حرقة في قلبك إلى يوم القيامة.
الثالث: قال: (رغم أنف من ذكرت عنده يا محمد فلم يصلِّ عليك) اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صلاة دائمة ما دام الليل والنهار وعلى آله وصحبه وسلم.
فهذا رمضان فرصتك أيها المسلم، ولقد كان السلف رحمهم الله يفرحون برمضان، فقد كانوا يسألون الله أن يبلغهم رمضان ستة أشهر، فإذا انتهى رمضان طلبوا الله ستة أشهر أن يتقبل عملهم في رمضان، فهم ما بين سؤال للقبول، وسؤال للبلوغ، أي: مرابطة على رمضان المبارك، يفرحون برمضان لاعتبارات: أولا: لصيامه.
ثانياً: لقيامه.
ثالثاً: لتلاوة القرآن فيه.
هذا شغل السلف: يصومون النهار ويقومون الليل، ويقرءون القرآن في كل وقت في الليل والنهار، وكانوا يختارون لأعمالهم الجهادية رمضان، فمعركة بدر كانت في رمضان، والفتح كان في رمضان، وعين جالوت كانت في رمضان لماذا؟ لأنه شهر القوة، والإيمان، والجهاد، والنضال.(82/13)
مفاهيم خاطئة عن رمضان
لقد غابت هذه المفاهيم -أيها الإخوة- عن كثير من الناس في هذا الزمان، وأصبح الناس يفرحون برمضان لا لأنه شهر الصيام والقيام والتلاوة، يفرحون لأشياء أخرى، منها: أولاً: يفرحون برمضان؛ لأنه شهر الطعام -شهر الأكلات- وإذا رأيت الناس في أواخر شعبان ومع بدايات رمضان ظننت أنهم كانوا صائمين طوال العام، وأنه دخل الشهر الذي يأكلون فيه، بينما دخل الشهر الذي يصومون فيه، والمفروض بمنطق العقل أنك ما دمت تأكل طوال السنة وجاء رمضان فلا حاجة لشراء الفائض من المأكولات، لماذا؟ لأنك ستصوم، ولكن الناس عندما جاء رمضان اتجهوا لتكديس المأكولات لرمضان، وبدأت البيانات تصدر من أمهات البيوت وربات الأسر، وكل واحدة تطلب المشتريات، إذ لا بأس بطلب أعداد بسيطة، لا بكميات ضخمة -كراتين- كرتون شربة، وكرتون مكرونة، وكرتون قطر الموز، وكرتون جيلي بالكراتين، وترى الأسواق وأماكن بيع المواد الغذائية تستعد بالبضائع الجديدة وتنشرها في مقدمة الأسواق، وتخرجها أمام المحلات التجارية، ويستعد الناس بالمبالغ الطائلة التي توفر طول السنة، ويقولون: (سنة ما تخدم شهر؟!) لابد أن نأكل، رمضان كريم! دعنا نأكل فقط! رمضان كريم لكي تصير كريماً! وليس لتأكل وتترك الفقراء والمساكين بدون طعام.
ويملئون البيوت بالخيرات وإذا بدأ رمضان أتاك الرجل وهو منشغل طوال اليوم، في حين تكون المرأة نائمة إلى الظهر، ومن الظهر إلى المغرب تكون المرأة مشغولة بالطبخ! إعلان عن حالة طوارئ في المطابخ النيران تشتعل، وبعض المواقد فيها عشرة عيون، وكلها تشوي وتقلي وتطبخ والمرأة قائمة على قدم وساق، والأولاد، والبنات، والخادمات، والرجل أحيانا يشارك ويمر عليهم للإشراف، يقول: (نفزع، تريدون نقلب، ونشوي، ونعرك، ونعصد، ونعصر في شيء؟) وإذا كانوا غير محتاجين لمساعدته قالوا له: اذهب وأشتر من السوق شيئاً حلواً -حلاوة- أو حنيذاً على الطريق، أو خضاراً أو حتى إذا أتت السفرة ترى أمامك سفرة فيها عشرات الأنواع من الأطعمة، والإنسان ليس في بطنه إلا معدة بسيطة؛ لكنه الجشع والطمع وعدم معرفة الحكمة من فرض الله لهذا الصوم.
فالرجل بناءً على الاهتمام بالمشتروات لا يمكنه أن يقرأ، متى يقرأ؟ هو في الصباح نائم إلى الساعة العاشرة، ثم يذهب إلى الدوام ولا يرجع إلا الساعة الثالثة، فإذا صلى العصر ذهب لشراء الإفطار حتى المغرب فليس هناك وقت للقراءة، والمرأة متى تقرأ؟ لا تقرأ؛ لأنها من الصباح إلى الظهر نائمة، وبعد ذلك إلى المغرب وهي تطبخ، ومن المغرب إلى السحور وهي تأكل، فمتى تقرأ القرآن؟ لا وقت للقراءة، فإذا أتى وقت الإفطار وجدت أمامك سفرة تكفي لأن تكون طعاماً رئيسياً تعجز عن هضمها بطون الجمال فما بالك بمعدة الإنسان! المفروض في السنة أن يفطر الإنسان على تمرات، هذه التمرات والماء -أو اللبن- تقوم بعملية ترويض للمعدة؛ لأن المعدة وقد توقفت ساعات طويلة عن الأكل يحصل فيها ضمور وكسل، فتحتاج إلى تشغيل؛ لكن بطريقة بسيطة (يعني: تحميها مثلما تشغل السيارة، عندما تشغل السيارة تقول: دعها تسخن، لكن لو شغلت ومشيت مباشرة فلن تمشي السيارة)، فأنت تحميها بتمرات وبفنجان ماء -أو لبن- ثم تذهب لتصلي، وعندما ترجع للعشاء تكون معدتك قد أصبح عندها قدرة على الهضم واستعادت نشاطها، ولكن عندما تكبسها مباشرة مع الفطور بالأكل الكامل الذي هو من أعقد الأكل، مثل السنبوسة؛ لأنها محشوة باللحم والبيض والخضار ومقلية بالسمن -فهذه كلها شحوم- وكم يأكل الإنسان؟ هذا الفطور فقط، أربعون قطعة سنبوسة -هذه أكلة المقتصد- وأربعون قطعة من (لقمة القاضي) وثلاث صحون شربة، وكوب عصير برتقالاً، وعصير فراولة، وعصير (قمر الدين) وبعد ذلك يصلي، ثم بعد الصلاة يأتي ليجد سفرة مملوءة بشتى أنواع الطعام ولا بد أن يأكل سواء كان راضياً أو مكرهاً؛ لأن المرأة قد تعبت، وتصيح عليه وتقول: أنا فعلت هذا لمن؟ أتعب طوال يومي من أجل أن تتفرج عليه؟ والله تأكل، والله تأخذ من هذه، فيقول: طيب طيب طيب إلى أن يعبئ معدته ولا يستطيع أن يقوم، وبعضهم لا يستطيع أن يقوم ليغسل، ويقول: اسحبوني أو أعطوني الماء! كيف يصلي التراويح يا أخواني؟!! المؤذن بعد ساعة ونصف من المغرب يؤذن لصلاة العشاء، لكن في رمضان بعد ساعتين، لماذا؟ لكي يتعشى الناس فإذا بدأت الصلاة في المساجد لا يستطيع أن يقوم قال: ابحثوا لنا عن إمام يصلي بنا صلاة مقبولة -يعني: ينقرها في خمس دقائق- وإذا وجدوا إماماً يصلي صلاة طيبة فيها تلاوة وفيها قيام وذكر، مثلما كانت عائشة تقول في رواية البخاري ومسلم، تقول: (ما كان صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره عن إحدى عشرة ركعة، لكن قالت: فلا تسأل عن طولهن وحسنهن والقراءة فيهن وركوعهن وسجودهن) صلاة وليست مسابقة صلاة صحيحة! لكن يبحث له عن إمام ينقرها نقر الغراب، (الله أكبر، سمع الله لمن حمد، وإذا خرج قال: الله يذكره بالخير، جزاه الله خيراً، هذا هو الإمام الميسر) وإذا صلى مع إمام يصلي صلاة صحيحة قال: الله أكبر عليه! كسر أرجلنا، وكسر ظهورنا، هذا فتان كسر ظهرك؛ لأن بطنك ممتلئة؛ لأن الحمولة زائدة في بطنك، ولو أن بطنك خفيفة لكنت عرفت كيف تصلي، إن مشكلة الصلاة هي مشكلتك أنت في الأكل.
فإذا انتهت الصلاة -صلاة التراويح- ورجع البيت طلب التعتيمة، والتعتيمة هذه سفرة كاملة من الحلويات والمكسرات والمجمرات والمحمرات التي لا يستطيع أحد أن يعدها إلى أن يأتي السحور، فإذا أتى السحور قال: السحور يريد له شيئاً جامداً؛ لأننا سوف نبقى بعد ذلك صائمين، ما هو هذا الجامد؟ قال: شيء يبقى في البطن -لا تهضمه بسهولة- إما عريك وسمن، وإما عصيد ومرق، طيب وكم تأكل، قال: آكل قليلاً، لكن متى؟ قال: قبل الأذان بربع ساعة، لكي ينتهي ونحن نكمل، حتى لا تفوت أي دقيقة.
بل أخبرت الإخوة في الأمس أني كنت في المسجد فجاءني سؤال من شخص يسأل في التلفون، يقول: يا شيخ هل نمسك مع (الله أكبر) في بداية أذان الفجر، أو مع آخر الأذان: لا إله إلا الله؟!! لا حول ولا قوة إلا بالله! يريد أن يأكل حتى مع الأذان، فقلت له: أنت في المغرب إذا أذن تفطر مع (الله أكبر) أو مع (لا إله إلا الله) قال: أفطر مع الله أكبر، قلت: وأمسك مع الله أكبر، فقوله: (الله أكبر) يعني طلوع الفجر، لا يجوز أن تأكل أيها الإنسان! فطوال الليل وهو يأكل، بالله عليكم أهذا شهر صيام -يا أخواني-؟! ومن ضمن أهداف الصيام صحة البدن، وهذا أسلوب علاجي جديد يمارس الآن في الدول الغربية، فإذا رأوا شخصاً عنده علل وأمراض، يقولون: العلاج بالصيام (ممنوع الأكل) لأنهم لا يصومون، ونحن عندنا العلاج بالصيام دين؛ نأخذ كل سنة شهراً لنعطي المعدة إجازة، لنخرج يوم العيد وهي صحيحة ونشيطة، لكن الآن يحصل العكس، فعندما شغلناها بهذه الكميات فإننا نخرج من رمضان والمعدات كلها منتهية، بل إنك في أول أسبوع من رمضان -طبقوا كلامي فوالله إني طبقته أنا ورأيته بعيني- في أول أسبوع اذهب إلى المستشفى وانظر، تجد الأطباء ليس هناك طبيب من أطباء الأقسام أحد، لا حنجرة ولا أذن ولا عظام ولا عيون ولا شيء، إلا أطباء الباطنية، لوحات كلها باطنية، وعلى كل طبيب عشرة مرضى، وكل واحد يقول: بطني يا دكتور بطني! بطنك من يدك يا أخي، اترك الطعام في السفرة، لماذا تأخذه في بطنك ثم تذهب تشتكي، وبعضهم لا يمشي إلا وهو يحبو، وبعضهم يأخذ له مشروبات غازية، ما هذه؟ قال: هذه تهضم، وهي لا تهضم، هذه تخربط بطنك -أيها الإنسان- فأحسن شيء -أيها الإخوة- أن نقتصر على القليل من الطعام، وأن نوفر المال هذا لننفق على الفقراء، يوجد مساكين -أيها الإخوة- في مجتمعنا لا يجدون شيئاً، أعرف كثيراً والله في مكة من الأسر من يمر عليهم الشهر ولا يشمون رائحة اللحم، إلا يوماً في الشهر عن طريق صدقة من جمل -كيلو أو نصف كيلو- يطبخونها ويشمونها فقط، ونحن نرمي -أيها الإخوة- هذه النعم في الزبائل في رمضان وفي غير رمضان! وأنا لا أقول للناس: لا تنفقوا.
أنفقوا لكن في مجال الخير، وليس في الإسراف، وليس في رمي هذه النعم في صناديق النفايات، هذا المفهوم الأول -أيها الإخوة-.
المفهوم الثاني: أن بعض الناس يفرحون برمضان غالباً؛ لأنه شهر السهرات، قال بعضهم: رمضان كريم، ولياليه نريد أن نحييها، (فبضعهم يشكل بشكات البلوت، وبعضهم يشكل بشكات اللعب بأي نوع من أنواع اللعب) فيجعلون ليالي رمضان المباركة؛ ليالي الرحمة، وليالي التنزل الإلهي بالمغفرة، يجعلونها تضيع في الورق، فيتقابلون من بعد صلاة العشاء إلى الفجر للعب (كبوت وخمسين ومائة وسرى وديمن وشرية واسبيت، ويقول كذا، ما هذا؟ قال: خاص، شغلة أطفال، يقولها واحد عاقل كذا، ينزل لسانه مثل لسان التيس، ما هذا الشغل -يا إخوان-؟ وبعضهم يزعل ويرمي الورقة في وجهه، قال: أنت أصلك مغفل وما تعرف تلعب) عجيب! الله أكبر أيها الإخوة! هذا والله من الباطل الذي لا ينبغي أن تضيع الأوقات فيه، وبعضهم على الكيرم، يقول: أنقشها حبة حبة، لعاب أنا مرة، إسرائيل تفجر الذرة ونحن ننقشها حبة حبة، الله المستعان! لا إله إلا الله! ما عندنا إلا (الورق) (والكيرم).
وبعضهم على اللعب، لا عليك! فالذي يلعب ألعاباً رياضية أخف منهم فليس هناك مانع، لأن الرياضة فيها منفعة، فاللهو ينقسم إلى قسمين: لهو ليس منه مصلحة وهو اللعب بالورق وهو الذي يقتل وقت المسلم من غير مصلحة، بل تجلب العداوة والبغضاء بين قلوب من يلعبها، ولهو فيه مصلحة، وهو الرياضة، كلعب كرة القدم، والطائرة، بشرط ألا تلعب في وقت صلاة أو وقت تراويح وألا تلعب مع فسقة أو تكشف عورتك لا مانع، فالرياضة طيبة؛ لأن لها أصلاً في الدين، والنبي صلى الله عليه وسلم سابق عائشة والسباق رياضة، وصارع ركانة الباهلي والمصارعة رياضة: (والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) أي: إذا عندك قوة في جسدك فأنت أفضل؛ لكن بشرط: أن تكون قوة -أيضاً- في الحق، وا(82/14)
الأسئلة(82/15)
خطورة ترك الصلاة
السؤال
أنا شاب من الشباب المتهاونين بالصلاة، وأحيانا تمر علي أيام ولا أصلي، وأحس بضيق في صدري خصوصاً عند المغرب وعند الصباح، وسألت رجلاً فقال لي: إن سبب ذلك هو قلة الدين، ولأنك لا تداوم على الصلاة، ولكن قال: إذا أردت أن يذهب الله همك فداوم على الصلاة في أوقاتها، ولكن كلما تذكرت ذنوبي يزيد همي، ويزيد بعدي عن الله سبحانه وتعالى؛ لأنني كنت على خطر وأعمل المعاصي، فأرجو توجيهي إلى الطريق؟
الجواب
بلا شك أن تركك للصلاة معناه الكفر والخروج من الملة، وأنت مستحق للعذاب، وكذلك مستحق للعنة الله ورسوله؛ لأنه ليس بين المسلم وبين الكافر فرق إلا ترك الصلاة، يقول عليه الصلاة والسلام: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) ويقول: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر).
وهذا الذي أرشدك ودلك رجل صالح، فقد أرشدك إلى الطريق الصحيح.
وسبب ما بك من قلق وضيق هو بسبب بعدك عن الله؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [طه:124] أي: عن ديني {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] فأنت تشعر بالهم والغم، لماذا؟ لأنك بعيد عن الله، وبعض الناس يشعر بالهم والغم لبعده عن الله، فيداويها بالداء، فيذهب ليغني أكثر، ويزني أكثر، ويسهر أكثر، يقول: أريد أن أرتاح! لا.
أنت تريد أن تكحلها فتعميها.
فإذا أردت أن يذهب الله ما في قلبك فلا تعمل المعاصي، لكن تب إلى الله، فر إلى ربك، عد إلى الله، اقرأ كتاب الله، تب إلى مولاك، صل في المسجد يذهب الله ما في قلبك، لماذا؟ لأن الله يشرح صدرك بالقرآن، يشرح صدرك بالدين {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد:28] {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125].
فيا أخي في الله! تب إلى الله، يا صاحب السؤال! تب إلى الله من هذه اللحظة، وارجع إلى مولاك، وأعلن التوبة بين يدي خالقك، وتمسك بالطاعة وتب إلى الله واترك المعاصي، واستغل فرصة وجودك في هذه الأيام المباركة مع قدوم شهر رمضان لتبدأ صفحة جديدة مع الله سبحانه وتعالى، وأبشر بالتوفيق والنور والفوز والسعادة في الدنيا والآخرة.(82/16)
الاستعداد للامتحان أولى من حضور الدروس في المساجد
السؤال
أنا طالب في إحدى المراحل الدراسية، وعندما أسمع بمحاضرة ستقام في أحد المساجد أحضرها وأترك المذاكرة أيام الاختبارات، فهل هذا طريق صحيح؟
الجواب
الواجبات إذا تزاحمت عند أهل العلم يقدم الواجب الأهم الذي لا يقبل التأجيل، عندك غداً امتحان وعندك الليلة درس علمي، كلها واجب، فطلب العلم واجب، والامتحان واجب؛ لأنك في طلب مراحل العلم، تأخير الدرس العلمي، أو تأخير الامتحان؟ الدرس العلمي يسجل، وتستطيع شراءه من السوق بخمسة ريالات، ولكن الامتحان لا يتأجل من أجل خاطرك؛ لأنك كنت في الدرس العلمي، وهذا ليس بصحيح.
الصحيح أن تؤجل حضورك للدرس وتذهب للمذاكرة إذا كان وقت الدرس ستقضيه في المذاكرة، أما إذا كنت سوف تقضيه في السوق فالدرس أولى؛ لأن بعضهم لا يذاكر ولا يحضر الدرس، فيضيعها كلها، أما إذا كان بإمكانك أن تجمع بين الأمرين بحيث تنظم وقتك، فتقول: سوف أذاكر من بعد الظهر إلى العصر، ومن العصر إلى المغرب، ومن المغرب إلى العشاء للدرس، وبعد العشاء إلى الساعة العاشرة للمذاكرة، ثم أنام، وإذا كان عندك إمكانية للجمع بين الأمرين فهذا خير؛ لأنك جمعت بين الواجبين، وأما إذا تعارض الواجبان فخذ بالواجب الذي لا يقبل التأجيل وهو الامتحان.
وأسأل الله لي ولك ولجميع أنبائنا التوفيق والنجاح في امتحانات الدنيا والآخرة.(82/17)
أهمية تنظيم الجلوس أثناء الدروس
السؤال
يقول: أرجو لفت الأنظار لإخواننا الحاضرين في المجالس العلمية لما يحصل منهم من التزاحم والقرب من المحاضر عند بدء المحاضرة مما يؤدي إلى ازدحام المصلين في صلاة العشاء.
الجواب
هذا الأمر حقيقة -أيها الإخوة- يحدث، والأولى أن يلزم كل إنسان مكانه أثناء صلاة المغرب، فإذا بدأت المحاضرة فإن الميكرفونات موجودة، والصوت واسع، وبإمكان أي واحد في المسجد أن يسمع، فلا داعي للاقتراب؛ ولأنه: إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، فلا مانع أن يقترب المستمع حال المحاضرة، لكن إذا أقيمت الصلاة فليرجع إلى مكانه ولا يحدث مشكلة في الصف، فإذا صليت المغرب في الصف الأخير، وأذن للعشاء فارجع مكانك، وبعض الناس لا يقومون إلا عندما تقام الصلاة، فعندما يرجعون إلى أماكنهم يحصل زحام لأهل الصف الأول، فيحصل بهذا ضرر عليهم وإيذاء، والله عز وجل قد نهى عن الضرر، ونهى عن إيذاء المسلم.(82/18)
حكم تغطية يدي المرأة ورجليها أثناء الصلاة
السؤال
هذه أخت في الله، تقول: أرجو توجيه كلمة للأخوات بخصوص تغطية أيديهن وأرجلهن في الصلاة.
الجواب
المرأة في الصلاة كلها عورة إلا وجهها، أي: إذا صلت المرأة في بيتها في غرفتها وليس معها أحد -لا يراها أحد إلا الله- فإنها كلها عورة إلا وجهها، فلا ينبغي أن يبدو من المرأة إذا قامت إلى الصلاة شيء إلا الوجه فقط، وإذا صلت المرأة ورجلها مكشوفة فقد كشفت عورتها، وستر العورة شرط من شروط الصلاة، والذي يكشف عورته في الصلاة فصلاته غير صحيحة؛ لأن حدود عورة الرجل من السرة إلى الركبة، وحدود عورة المرأة المرأة كلها عورة إلا في الصلاة إذا لم يرها أجنبي، أما إذا رآها أجنبي فكلها عورة حتى وجهها.
لكن هناك تساهل كبير في النساء، تأتي المرأة لتصلي وترى يدها ورجلها عارية، ورأسها عارياً، ثم تصلي كأنها في المعرض، قالت: لا يوجد أحد ينظر إلي! لا أحد ينظر إليك؟! لكنك بين يدي الله! أنت في الحضرة الربانية وقفت بين يدي الله عز وجل، ومطلوب منك أن تتستري ماذا تتستر به؟ تأخذ درعاً، أو شرشف صلاة يفصل لهذا الغرض، ويكون كبيراً، وساتراً، يغطيها كلها، ويزيد على يديها ورجليها، بحيث تكون وهي تصلي -كأنها خيمة- لا يُرى منها شيء هذه هي المرأة المؤمنة، أما تلك التي تصلي على هواها وأرجلها ظاهرة، فإن صلاتها غير صحيحة، وبالتالي تكون آثمة -والعياذ بالله-.(82/19)
حكم لبس الخاتم للرجال
السؤال
قلت في بعض المحاضرات: إن لبس الخاتم للرجال منهي عنه؛ لأنه من صفات النساء، فنرجو مراجعة المسألة.
الجواب
طبعاً الخاتم للرجل مباح في حالة وبنوع معين، وقد جاء في الحديث أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده خاتم من ذهب، فنهاه عنه، قال: (ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة) فذهب الرجل وغيره بخاتم من حديد، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ما لي أرى عليك حلية أهل النار) لأن حلية أهل النار الحديد، فذهب الرجل وغيره بخاتم من صفر، فجاء فقال: (ما لي أرى عليك ريح الأوثان) لأن الأوثان كانت تحلى بالصفر، قال: (يا رسول الله! إنه لا بد لي من خاتم، أنا رجل صاحب أعمال -رجل أعمال- ولي مكاتبات، ولا تقبل المكاتبات إلا بالختم، قال: اتخذه من فضه ولا تتمه مثقالاً) المثقال في الوزن يوازي أربعة جرامات، فأباح الشرع للرجل الذي يضطر إلى الخاتم أن يكون عنده ختم وفيه اسمه كأن يكون قاضياً، أو ملكاً، أو تاجراً لا تقبل منه المعاملات إلا بختمه فيباح له أن يتخذ خاتماً، ولكن يجب أن يكون من يسير الفضة فلا يكون أربعة جرامات، بل أقل منها، ولا تتم مثقالاً، أما إذا كان الغرض من الخاتم هو الزينة مثلما نرى بعض الناس الآن، نقول له: لا.
لماذا؟ لأن زينة الرجل ليست في الخواتم.
زينة الرجل في المروءة والشهامة والشجاعة والرجولة، أما المرأة فزينتها في أصابعها؛ لأنها امرأة، والله تعالى جعلها حلية للنساء، لكي تظهر أمام الزوج بالمظهر اللائق، يقول الله عز وجل: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] المرأة في الخصام تختفي ولا تظهر -أي: إذا دخل عليك البيت من يريد أن يسرق أو يريد أن يفعل شيئاً، من الذي يخرج، أنت أم المرأة؟ هل تقول لها: انظري من هو، أو اخرجي عليه، لا.
بل هي التي تقول: اخرج أنت، لماذا؟ لأنك أنت الرجل، وهذا هو المطلوب منك.
طيب إذا خرجت على الرجل ويداك مليئة بالخواتم، والسلاسل على رقبتك، هل يخاف منك؟ لا.
سيقول: ربما هذه هي المرأة! مثل بعض الإخوة يقول: إنه رأى ناساً من هؤلاء الذين يسمون أنفسهم: الجنس الثالث، رجال وليسوا برجال، لا يريدون أن يكونوا رجالاً، والله خلقهم رجالاً لكن يريدون أن يكونوا نساء، فتأنثوا كالنساء -والعياذ بالله- خرجوا مرة، يقول لي: إلى الصحراء من أجل أن يذبحوا، ولما أتوا يريدون أن يذبحوا الكبش ما استطاعوا أن يذبحوه، فرأوا أناساً جالسين فجاءوا عندهم فقالوا: هل عندكم شخص يذبح لنا؟ أليس عندكم سفاح؟ يسمون الذباح سفاحاً، قال: وماذا تريدون منه؟ قالوا: يذبح لنا الخروف، قال: ألم تذبحوه؟ قالوا: لا والله، نحن (نقبصه) من الصباح فلم يمت! قام شخص (نشمي) قال: أنا سأذبحه، فكبر عليه وذبحه ورجع، فأتوا إليه قائلين: هل عندكم أحد يقشره -يقشره يعني يسلخه، يحسبونه برتقالة تقشر- ما هذا؟ هل هؤلاء رجال؟ لا حول ولا قوة إلا بالله! والله أعلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(82/20)
صفة الجنة
إن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وإن كانت الشريعة قد وصفت لنا الجنة بمسميات هي مشابهة لبعض المسميات في الدنيا، لكنها ليست مثلها على الحقيقة؛ فإن كان الاسم نفس الاسم، فليس المسمى كالمسمى.
ثم إن الجنة ليست إلا لمن أطاع الله؛ فمن أطاعه كان مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وأما من عصاه فله نار جهنم وما فيها من عذاب وخزي عظيم.(83/1)
وصف الجنة ونعيمها
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فيا عباد الله! لقد خلقنا الله عز وجل لعبادته، وبين لنا الغرض الذي من أجله أوجدنا على ظهر هذه الحياة، فقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58] وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64].
ووعدنا إن نحن أطعناه واستجبنا لأمره في الدنيا؛ بالسعادة في الدنيا، والفوز والفلاح في الآخرة.
فأما في الدنيا فيقول عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] والحياة الطيبة التي يعنيها القرآن هي حياة القلب، والقلب لا يمكن أن يهدأ ويستريح ويبتعد عن القلق والحيرة والاضطراب والضلال إلا في ظل الإيمان بالله.
أما في الآخرة فقد قال الله عز وجل بعد هذه الآية: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] في الجنة ونعيمها، وحورها وقصورها، وبساتينها وأنهارها، ففيها ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرءوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] وكل ما خطر في ذهنك فالجنة ونعيمها بخلاف ذلك، وليس في الدنيا من الجنة إلا الأسماء، فهناك قصورٌ ولكنها ليست كقصور الدنيا، وهناك حور -يعني: نساء- ولكن لسن كنساء الدنيا، ويكفيهن وصف الله عز وجل لهن بقوله: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] وقوله عز وجل: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] وقوله تبارك وتعالى: {كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة:23] {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات:49] {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:58].(83/2)
بساتين الجنة وأنهارها وقصورها
في الجنة بساتين وأنهار ولكن ليست كبساتين الدنيا ولا كأنهارها، فبساتين الجنة: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [الرعد:35] {لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:33] لا مقطوعة ولا ممنوعة بثمن: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:23 - 24].
وأما أنهارها: {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد:15] لكل مسلمٍ ومؤمنٍ في الجنة -جعلنا الله وإياكم من أهلها وآبائنا وأمهاتنا وأزواجنا وذرياتنا وإخواننا وأخواتنا وجميع إخواننا المسلمين- لكل مؤمن في الجنة قصرٌ تجري من تحته الأنهار، وهي أربعة أنهار: النهر الأول: نهر من لبن لم يتغير طعمه؛ وتغير طعم اللبن طبيعة فيه إذا مرت عليه ليالٍ تغير إلى الحموضة، ثم إلى الفساد والتسمم، ولكن لبن الجنة لا يتغير طعمه، ولا يحمض ولا يتسمم.
النهر الثاني: نهر من خمر لذة للشاربين، وخمر الجنة ليس كخمر الدنيا، فخمر الدنيا يذهب العقول، ويحول الإنسان من عاقل إلى مجنون.
واترك الخمرة لا تشربها كيف يسعى في جنون من عقل
الخمرة تذهب عقل المكلف فيرتكب الحرام، ويقع في الجرائم، ويرتكب المآسي لذهاب عقله، ولذا سميت: أم الخبائث، وتوعد الله عز وجل من شربها في الدنيا ومات ولم يتب أن يسقيه من طينة الخبال: (قيل وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال: عرق أهل النار) وقال صلى الله عليه وسلم: (من شرب الخمرة في الدنيا ومات ولم يتب سقاه الله من نهر الغوطة.
قيل: وما نهر الغوطة؟ قال: نهرٌ يجري في جهنم من فروج المومسات) يعني: الزانيات، ومن شربها حرم عليه خمر الجنة، ومعنى حرمان خمر الجنة أي: حرمان دخولها، إذ لا يعني أنه يحرم من خمر الجنة أن شارب الخمر المدمن عليها يدخل الجنة ويمنع من خمر الجنة، لا.
ولكن الحرمان يعني الحرمان الكلي من دخول الجنة؛ لأن الجنة ليس فيها شيء ممنوع على أهلها، فخمر الجنة لا يذهب العقول وإنما شراب طاهر لذيذ {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان:21] {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات:47] لا تغتال العقول، ولا تحدث الإنزاف، وإنما خمر لذة للشاربين، جعلنا الله وإياكم من أهلها.
النهر الثالث: نهرٌ من عسلٍ مصفى، ليس عسل أقراص، نحن الآن كما يقول بعض الإخوة: (ما شبعنا في العسل غماس) فكيف به أنهاراً؟ نهر يجري من تحت بيتك من عسلٍ مصفى ليس فيه أخلاط وإنما هو أصفى من الشمس.
النهر الرابع: نهر من ماء غير آسن؛ لأن ماء الدنيا إذا ركد أسن، وإذا أسن تغير طعمه ولونه وريحه وفسد، ولكن ماء الجنة غير آسن، هذا كله نعيم وعد الله تعالى به أهل الإيمان.
أما القصور: ففي الجنة قصور يحدثنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: (للمؤمن في الجنة خيمة من درة مجوفة طولها ستين ميلاً في السماء، وله في الخيمة الواحدة اثنتين وسبعين زوجة -سبعين زوجة من الحور العين واثنتين من نساء الدنيا- لا ترى واحدة منهن الأخرى) من طول المسافة بينهن.(83/3)
أرض الجنة وترابها وحشيشها
وأما أرضها وترابها وحشيشها: فالأرض ذهب، والتراب مسك، والبناء لبنةٌ من ذهب ولبنة من فضة، والحشيش هو الزعفران الذي نشتريه الآن وقيمة الخمسة جرامات بخمسين ريالاً وهو زعفران الدنيا.
لا تركنن إلى الدنيا وما فيها فالموت لا شك يفنينا ويفنيها
واعمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن ناشيها
ترابها ذهبٌ والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
أحمد دلالها والرب بائعها وجبريل ينادي في نواحيها
من يشتري الدار في الفردوس يعمرها بركعةٍ في ظلام الليل يحييها
تلك المنازل في الآفاق خاويةً أضحت خراباً وذاق الموت بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
والله لو قنعت نفس بما رزقت من المعيشة إلا كان يكفيها
والله والله أيماناً مكررةً ثلاثةً من يمينٍ بعد ثانيها
لو أن في صخرةٍ صما منمنمة في البحر راسيةٍ ملس نواحيها
رزقاً لعبد براه الله لانفلقت حتى تؤدي إليه كل ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
النفس تجزع أن تكون فقيرةً والفقر خيرٌ من غنى يطغيها
فغنى النفوس هو العفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها
هذه الجنة، وهذا بعض وصفها، ومهما وصف الواصف فقد وصفها الله في كتابه، ووصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، ولكن الأوصاف والحقائق تختلف، والله تعالى يقول: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].(83/4)
الأعمال الصالحة سبب لتعجيل البشارة في الدنيا والآخرة
يحدثنا شاهد عيان نثق بعلمه وأمانته من المشايخ أنه حضر القصة وعاصر أحداثها بنفسه، والقصة وقعت في مدينة بريدة في القصيم، ومدار القصة: أن شاباً نشأ وترعرع في عبادة الله، لا يعرف من الدنيا شيئاً إلا القرآن والمسجد، ولم يقف في حياته لحظةً واحدة مع صبي يلعب معه، وإنما منذ بلغ ست سنوات وهو مع أبيه في المسجد، وكان يلازم المسجد باستمرار، ويقرأ القرآن باستمرار حتى حفظ القرآن وعمره تسع سنوات، وإذا سئل عنه: أين هو؟ قالوا: في المسجد، ماذا يصنع؟ قالوا: يقرأ القرآن.
ولما جاءت مرحلة الدراسة الابتدائية ذهب إلى المدرسة وجلس أسبوعاً فيها، ثم عبر عن رغبته لوالديه بعدم الرغبة في الدراسة، فقالوا له: لماذا؟ قال: لم أستفد فقد ضيعت الحفظ، أريد أن أجلس في المسجد للقرآن والذكر، فجلس في المسجد وحفظ القرآن -كما قلت- وكثيراً من الكتب الإسلامية، وإذا نظرت إليه تذكر الله من جلاله وبهائه ونور إيمانه، ولما توفي والده بقي في كفالة عمه، وحينما بلغ السادسة عشرة من عمره مرض، واستمر مرضه أسبوعاً كاملاً، ثم توفي رحمة الله تعالى عليه، وكانت وفاته في الساعة الحادية عشرة قبل الظهر، أي: في الضحى، فأراد عمه وهو الذي يشرف على تمريضه أن يذهب إلى الجماعة ليطلب منهم المسارعة في دفنه ولكنه كان متعباً، فأراد أن ينام قليلاً حتى يؤذن لصلاة الظهر ثم يحضر الناس في الصلاة ويطلب منهم أن يدفنوه بعد الصلاة، فما إن نام عند الولد في غرفته إلا وهو بتلك المرأة، يقول: جاءت امرأة ومعها نساء من خلفها فأيقظتني وقالت: يا شيخ! نسألك بالله إلا عجلت علينا بهذا الشاب، قال: ومن أنتِ؟ قالت: أنا زوجته من الحوريات في الجنة، ونحن على أحر من الجمر ننتظره وأنت تنام وتحبسه عنا، فنسألك بالله إلا عجلت به علينا، قال: فاستيقظ من نومته وقام ودعا الناس وسارع في دفنه وتجهيزه، وحينما دخل الناس إلى الغرفة وجدوا لها رائحة ما شموا مثلها في الدنيا، قالوا: يا شيخ! عندك رائحة عظيمة في هذه الغرفة، ما هذه الرائحة؟ قالوا: رائحة طيب العود، لكن ليس كطيب عود الدنيا، عود يختلف عن كل أطياب الدنيا، قال: إنها رائحة الحورية، لازالت رائحتها تعبق الغرفة وتطيبها، قال: ومكثت هذه الرائحة أكثر من شهرين.
فكل ما خطر في بالك فالجنة بخلاف ذلك، جعلنا الله وإياكم من أهلها.
لقد أمرنا الله بطاعته قال عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] شرط وجوابه، من هنا شرطية: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [النساء:69] هذا الشرط،
و
الجواب
{ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:69] ما أعظمها من نعمة أن ينعم الله عليك بالجنة، وأن تكون مع الرفقة، مع من؟ {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69] من بقي غير هؤلاء؟ ما بقي إلا القتلة والفجرة والزناة والخمارون والمجرمون، ثم قال يصفهم: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69].
ويقول عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71] ليس الفوز أن تحصل على شهادة، وتحتل منصباً، وتتزوج بجميلة، وتسكن عمارة فارهةً، وأن تركب سيارة حديثة، هذا فوز ولكنه فوز مؤقت، وأما الفوز العظيم الأبدي فهو الذي يقول الله تعالى فيه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71] نسألك اللهم من فضلك.
ونهانا عن معصيته ومخالفة أمره، وتوعدنا إن نحن عصيناه بناره؛ نار حرها شديد، وقعرها بعيد، ومقامعها وسلاسلها وأغلالها حديد، نارٌ أوقد الله عليها ثلاثة آلاف عام، ألف سنة حتى احمرت، وألف سنة حتى ابيضت، وألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة.(83/5)
جهنم وما فيها من عذاب لأهلها
جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم مرة من المرات وهو يبكي، قال: (ما يبكيك يا روح القدس؟! قال: جئتك وقد أمر بمنافيخ النار -يشب عليها فهي تضطرم وتشتعل- قال: أتخشى وأنت من الله بالمكان الذي أنت منه؟ -يقول: تخاف يا جبريل؟ - قال: وكيف لا أخشى وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكى جبريل، فناداهما من السماء تبارك وتعالى: إني قد أمنتكما من عذابي).
يقول الله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] ما لم يكونوا يتوقعون، وما لم يكن يخطر لهم على بال: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ} [إبراهيم:15 - 17] يتبلعه فلا يقدر أن يبلعه؛ لأنه ماء صديد وقيح ودم، كيف يشربه؟ {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:17].(83/6)
إحاطة العذاب بأهل النار من كل مكان
يأتيه الموت من الفراش {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} [الأعراف:41] وتصوروا كلمة (مهاد)! فيها تهكم، وسخرية، واستهزاء، وهل في جهنم مهاد؟ {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف:41].
يأتيهم الموت من الهواء والظل: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة:43] والهواء: من سموم، والطعام: من زقوم، والشراب: من غسلين، والأنكال والسلاسل والأغلال، يغل الإنسان في النار -أعاذنا الله وإياكم منها وآباءنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وجميع المسلمين- فتجمع أقدامه مع رقبته ويديه، يقول الله تعالى: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن:41] ثم يقذف في النار.
نار تسود وجوه أهلها من ظلمة المعاصي، ينادون وهم في طباقها ودركاتها: يا مالك! قد أثقلنا الحديد، يا مالك! قد نضجت منا الجلود، يا مالك! أخرجنا منها فإنا لا نعود.
فلا يجيب عليهم، وعدم الإجابة فيه نوع من الرفض وعدم الاهتمام، قال العلماء: لا يجيبهم قدر الدنيا من يوم أن خلقها الله إلى يوم يفنيها مرتين، ثم يرد عليهم، يقول: {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] يعني: مكانكم فيها، ليس هناك خروج، لماذا؟ قال: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78].(83/7)
عظيم خزيهم بسبب أعمالهم
قال تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:79 - 80] الرسل تكتب ذنوبك وأنت تعمل في الذنوب، والملائكة تحول ذنوبك إلى قبرك، وأنت غافل، فمن الناس من يحول ذهباً، ومنهم من يحول بعراً، ومنهم من يحول جمراً، والله لا يظلمك بشيء، فما تعمله تجده {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] لا تريد أن تنظر إليه، وهذه الحوالات تجمع وتخزن في القبر فإذا مات الإنسان رأى حوالاته، يقول أحد السلف: لا تحول إلا شيئاً يسرك رؤيته، لا تحول زناً، ولا غناء، ولا زوراً، ولا فجوراً، ولا حراماً، وحول عملاً صالحاً حتى إذا رأيته فرحت.
مثله مثل الطالب -مع الفارق في القياس- الذي يجتهد في أيام الامتحان ويصبر على المنام، بل بعضهم يترك حتى الطعام، ويعكف على قراءة الكتب في الليل والنهار، فإذا به يفرح عندما تقدم له الشهادة فيقرأ أول مادة: القرآن الكريم (100%) التوحيد (100%) وكلما قرأ مادة ونظر علامتها استبشر وفرح، فإذا انتهى منها كلها قال: تفضلوا، انظروا الشهادة، إنها تبيض الوجه، فيرفع رأسه، ويأكل طعامه، ويلتذ في منامه، ويرتاح في عطلته، وكلٌ يجله ويبجله.
لكن البليد المهمل الذي عاش على الرفض للكتب، وعدم المذاكرة، واللعب والفوضى، إذا جاءت الشهادة يرفع رأسه ويريد شهادة بالكذب، ويأتي مع الناس ويقول: ربما تخطئ اللجنة، ربما ترحمني لجنة الرحمة، فإذا أخذ الشهادة ونظر فيها، وإذا بها تسود الوجه -والعياذ بالله- القرآن الكريم (20)، والتوحيد (15%)، والإنجليزي ثلاثة أصفار متتالية؛ لأنه ما نجح في اللغة العربية فكيف ينجح في اللغة الإنجليزية؟ فإذا أخذ الشهادة مزقها وذهب إلى البيت، قالوا له: طلعت النتائج؟ قال: لا.
ما زال التصحيح جار.
يرسل ليحضر النتيجة، ثم أعلنوها قبل أن آتي فما سمعتها، لكن: اسمي سمع، يمهد يريد أن ينزل الخبر بالتقسيط، لا يريد أن يقول لهم بصراحة، يريد أن يقول لهم الخبر بالتدريج، ثم يقول: غداً أذهب، وفي اليوم الثاني ذهب ورجع -وهو يعرف النتيجة- يقول: أبشركم! سلامات الحمد لله سلامات لم أرسب إلا في ثلاث مواد -وهو راسب في ثلاثة عشر مادة- ثلاث مواد فقط، وغيري كلهم ساقطين، أما أنا فليست إلا ثلاث، وإن شاء الله في الدور الثاني أنجح.
هذا الفاشل في الدنيا مع أنه يوجد دور ثاني وسنة ثانية ومخرج من كل الدراسة، لكن الآخرة لا دور ثاني ولا سنة ثانية ولا فرصة أخيرة! وإنما من ضيعها وجازف بها وخاطر؛ خسر الدنيا والآخرة.
فالمؤمن يوم القيامة يأخذ كتابه بيمينه، والفاجر يوم القيامة يأخذ كتابه بشماله ويقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:25 - 29] فأنت تحول العمل إلى القبر، وعلى ضوء العمل تحاسب، والناظم يقول:
يا من بدنياه اشتغل وغره طول الأمل
وقد سها في غمرة حتى دنا منه الأجل
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
ألست على يقين أنك ستسكن القبر؟! ثم ألست على يقين أنك ستعامل في قبرك على ضوء ما حولت من عمل، أم تريد أن تخدع نفسك؟! أتريد أن تجني من الشوك العسل؟! أتريد أن تحصل على جنة بالبعر؟! أتريد أن تنجو من النار بالعمل السيئ؟! هذا محال.
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46].(83/8)
شديد عذاب الملائكة لأهل النار
يقول أهل النار: يا مالك! يدعونه فيقول: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] قالوا: لا جدوى.
تعالوا نتوسط بصغار الموظفين؛ لأن مالك المدير العام -أي: المسئول الأول في النار- ما ضحك ولا يعرف الضحك، مخلوق من سخط الله، وتحته رؤساء الأقسام تسعة عشر، قال الله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] يعني مسئولين، غلاظ شداد: غلاظ في الخلقة، شداد في الأخلاق، خلقتهم غليظة وأخلاقهم شديدة؛ لأنهم مخصصون للعذاب {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
ورد في الحديث أن الله تعالى إذا قال للملائكة -حينما يؤتى بالفاجر-: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] أنه يبتدره سبعون ألف ملك يقومون لكلمة (خُذُوهُ) -ليس ملكاً واحداً فقط- وإن الملك الواحد ليأخذ سبعين ألفاً في النار، لكن عندما يقول الله تعالى: (خُذُوهُ) يقوم للأمر سبعون ألف ملك، (فَغُلُّوهُ) الغل: وضع القيد في الرقبة مع اليدين والرجلين، ثم بعد ذلك: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:31 - 32] تدخل من فمه وتخرج من دبره حتى يشتوى في النار مثل الدجاج في المشواة، لماذا يا رب؟ قال: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة:33] هذا سبب، أي: ليس عنده خوف من الله، ولا مراقبة لله عز وجل: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:34 - 37].
ثم بعد ذلك يقولون: نرى صغار الموظفين لعلهم يتوسطون أو يشفعون، فأخبر الله تعالى في سورة غافر - سورة المؤمن- عن الخطاب الذي يقوله أهل النار لخزنة النار قال عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49] يريدون يوماً واحداً فقط يريدون تخفيفاً من النار حتى يوماً واحداً {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى} [غافر:49 - 50] بلى.
جاءت الرسل، والكتب، والبينات؛ لأن الملائكة لا تتصور أن أحداً يبلغه دين الله ويرفضه، وهل خلقك ربي إلا للدين؟! هل خلقك الله سبهللاً أنت والأنعام سواء؟! تأكل وتشرب وتنكح وتنام وتقوم وتقعد وتسير؟! أنت لك ميزة، لك رسالة وهدف، أنت مخلوق للعبادة، وقد سخر لخدمتك هذا الكون؛ فلا تتصور الملائكة أن أحداً يأتيه الدين ويرفضه: {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:50] يعني: تصيحون أو لا تصيحون فصياحكم في ضلال لا يُنتبه له ولا يُسمع لكم.(83/9)
توبيخ الله تعالى لأهل النار فيها
لما يئسوا من مالك وخزنة النار توجهوا بالدعاء إلى الله يطلبون من الله الرحمة وقد ذكر الله القصة في سورة المؤمنون، قال عز وجل: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [المؤمنون:103] ما خسروا بيوتهم ولا خسروا أولادهم {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:103 - 104] (الكلوح) هو تقلص الشفة العليا إلى الرأس، ونزول الشفة السفلى إلى السرة، مثل الذبيحة: إذا أخذت رأس الذبيحة وشويته في النار، ماذا يحصل عندها؟ تتقلص الشفة العليا إلى الرأس وتنزل الشفة السفلى إلى تحت وتبدو أسنان الذبيحة، قال الله تعالى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [المؤمنون:104] أي تقفز النار على وجوههم؛ لأن أعز شيء عند الإنسان وجهه! فلو تأتيك الضربة في ظهرك، أو رجلك أو يدك أهون من أن تأتيك في وجهك، ولهذا إذا جاءك شيء تنكره تتقيه بوجهك لا.
لكن النار تقفز في الوجه: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا} [المؤمنون:104 - 106] لكنهم ما عرفوا ربهم إلا في النار، ولا تنفع هذه المعرفة في ذلك اليوم، فلو عرفوا ربهم في الدنيا لكان أهون، فلو قالوا: ربنا في الدنيا لقال الله لهم: لبيكم، ولاستجاب الله لهم ولهداهم، ولكن ربهم في الدنيا هو الهوى، والشهوات، والشيطان، واللهو واللعب! ولكنهم في النار لما ذاقوا العذاب ومسيس النار قالوا: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:106 - 107] يقولون: أرجعنا يا رب لنعمل صالحاً حسناً لماذا لا يكون من الآن؟ والذي يؤخر التوبة ويسوف فيها نقول له: هل تريد أن تعيش على المعاصي حتى تدخل النار وتقول هذه الكلمة؟! هل هذا منطق العقلاء؟! لا والله.
ليس منطق العقلاء، فمنطق العقلاء: أنك من الآن -قبل غدٍ- تتوب وترجع وتصحح الوضع مع الله، وتصحح المسار إلى الله، وتنتقل بكامل حياتك إلى الله، وتكون جندياً من جنود الله، وعابداً، وذاكراً لله، وخائفاً من الله، وملتزماً بشرعه، حينها تنجو من عذابه، ولكن عندما تفرط وتهمل ثم يكون المصير ذلك، ثم تقول: ربنا أخرجنا منها لنعمل صالحاً فإن ذلك لا ينفع.
{قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:106 - 108].
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفسي بيده! ما ينطق أحدهم ببنت شفة، وما هو إلا الشهيق والزفير) من قبل كانوا يتكلمون مع الخزنة، ومع مالك، ومع الله، لكن إذا قال لهم الله تعالى: {اخْسَأُوا فِيهَا} [المؤمنون:108] أي: في النار {وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] فلا يوجد لهم أمل! فهذه النار أعاذنا الله وإياكم منها، وأجارنا الله وإياكم منها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين؛ فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.(83/10)
خوف الأنبياء من خزي يوم القيامة
الحمد لله على إنعامه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم.
أما بعد: يقول إبراهيم عليه السلام وهو يدعو ربه تبارك وتعالى في سورة الشعراء، حينما جاء على الأصنام التي كانت تعبد من دون الله؛ فأنكرها وحقرها ثم دمرها وحطمها، ثم بعد ذلك ابتهل إلى الله تعالى وقال: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [الشعراء:87 - 102] أي: رجعة إلى الدنيا {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:102 - 104].
فإبراهيم عليه السلام مع حسن المؤهلات وطول الخبرة، وعلو المنزلة عند الله، فالمؤهلات: نبي.
والخبرة: دعوة طويلة.
والمنزلة: أبو الموحدين.
والمكانة: نجاه الله من النار بالخطاب المباشر لها، قال: (قلنا) بدون واسطة، ولكن وحي رباني مباشر إلى النار: {قُلْنَا يَا نَارُ} [الأنبياء:69] النار خاصيتها الإحراق، لكن الذي منحها الخاصية أبطل هذه الخاصية، فالله تعالى هو الذي منحها الخاصية بالإحراق، فلما أراد ألا تحرق قال: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً} [الأنبياء:69] لكن ليس برداً يميت {بَرْداً وَسَلاماً} [الأنبياء:69] على من؟ {عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] هذا والله لشأن عظيم أن يثني عليه ربنا ويقول في سورة الصافات: {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات:109] يقول: سلم الله عليه! ووالله إن هذه هي السعادة، ويقول: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:104 - 105] ما أعظمها من منزلة! ومع كل هذه المكانة والقدر يقول: يا ربِّ لا تخزني يوم الدين، فإذا كان أبو الموحدين إبراهيم عليه السلام يخاف من الخزي فكيف بي وبك يا أخي؟! إبراهيم الذي حمل إلى النار وهو مكتف في المنجنيق فتأتي الملائكة وتعرض خدماتها عليه وتقول: ألك حاجة يا إبراهيم؟ فيقول: أما إليكم فلا، وأما إلى ربي فنعم، في أصعب الظروف، وفي أحلك المواقف يصر على التوحيد، لكن أكثر الناس اليوم موحد بالعافية، وإذا جاء المرض أشرك بالله، وهذا معنى قول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] إذا جاءه المرض ذهب إلى الكاهن والمشعوذ يشكو الله يشكو القوي على الضعيف! لا إله إلا الله!!(83/11)
يوم القيامة وما يحصل للعصاة فيه من خزي
{وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء:87] إن من أعظم الخزي أن يقف الإنسان بين يدي الله يوم القيامة مسود الوجه، ومعرف غير مجهول ولا منكر، وإنما يعرف وينادى عليه بنداءٍ يسمعه أهل الموقف كلهم: ألا إن فلان بن فلان قد شقي شقاوةً لا يسعد بعدها أبداً.
فيعرف أهل الموقف أن فلاناً شقي، فيسود وجهه ثم تسقط (فروته) ما بين قدميه خجلاً من الله من شدة الخزي! ثم يساق إلى النار! كيف يساق؟ يسحب، قال الله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [القمر:48] لا يسحب على بطنه أو ظهره أو رجليه، بل على وجهه: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء:97] {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48] ذوقوا حرارة النار فيحصل للإنسان وهو يقاد إلى النار من الخزي والمقت ما لو قُسم على أهل الأرض لكفاهم.
يقول الله تعالى في أول سورة غافر: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ * ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:10 - 12].
يقول المفسرون حول هذه الآيات: المقت أي: الكراهية للنفس، فلان يمقت نفسه، أي: يكره نفسه ويسخطها.(83/12)
الاستدلال على وقوع الخزي في الآخرة بخزي الدنيا
الدليل الأول: يحصل للإنسان حينما يرتكب سلوكاً يؤدي به إلى موقف مشين، مثلما لو جيء بالزاني وجلد بالسوط، وقد رأيت أنا بعيني زانياً بكراً -أي: غير محصن- يعني: ما رجم ولكن جلد مائة سوط، أخرج بعد أن صف الناس وجيء به من السيارة وأنزلوه، فلما نزل كان الناس كلهم يريدون أن ينظروا إليه، ففي هذا الموقف المخزي المشين وهو خجلان كان قد تلثم بغترته فكان لا يرى الناس إلا عيونه، لكن المنفذ للحكم الشرعي مأمور هو أن يعريه حتى يراه الناس؛ لأنه لم يستح حين زنى فكيف يستحي هنا؟ إذ ليس هذا بمكان حياء، مكان الحياء قبل إقدامك على حرمات الله وارتكابك لمحارم الله، وتجرؤك على محارم المسلمين فهناك يجب أن تستحي! أما هنا فلا حياء (وما عصي الله بذنبٍ بعد الشرك أعظم من نطفة يضعها الرجل في فرجٍ لا يحل له).
فجاء المنفذ وأخذ الغترة والقبعة من فوق رأسه، وظهر رأسه ثم جاء اثنان وأمسكاه من الأمام، وجاء رجل بعصا من الخيزران وبدأ يضرب في ظهره، وفي مقعدته، وفي سيقانه، وكان يمد للعصا؛ لأن الرجل لا يثبت مكانه، بل يتحرك، فهو يتلوى من الألم، فالجلاد يضربه في الأسفل، فإذا مال ضربه في الأعلى، فإذا رجع ضربه في الأسفل وهكذا.
المهم أنه بقي يتألم ويتلوى كالثعبان في هذا الموقف حتى أشفق الناس عليه ورحموه كلهم، ولكن الله تعالى يقول: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ} [النور:2] لا ترحمه؛ لأن الذي عذبه هو أرحم الراحمين! والذي أمر بجلده وسلخ جلده هو أرحم الراحمين، ففي موقف مشين كهذا يتمنى أنه ما عرف الزنا.
الدليل الثاني: لو أن إنساناً قتل آخر ثم قبض عليه وحكم عليه بالإعدام، وأخرج إلى ساحة القتل والقصاص في يوم الجمعة، وخرج من سيارة الشرطة، ثم نظر إلى الموقف والناس كلهم مصطفون ينظرون هذا الموقف، فعيون الناس كلها تريد أن تراه يريدون أن ينظروا إلى هذا الذي قتل، وهو ينظر إليهم ويتأمل فيهم ويعرف هو أن كل هؤلاء الناس سوف يذهبون بعد لحظات إلى بيوتهم؛ يأكلون ويشربون مع زوجاتهم وأولادهم، وينامون في بيوتهم ويباشرون مصالحهم ويعودون إلى أعمالهم، أما هو فأين سيذهب؟! سيذهب وهو يقاد إلى المقصمة إلى الموت، فيموت حينما يراهم، ويموت حينما ينزل من السيارة، ويموت في كل لحظة وخطوة ونظرة، ثم يجلس ويكتف وهو يموت، وفي لحظة من لحظات الخزي التي لا يعلمها إلا الله، ولو أخذنا من قلبه شريحة وحللناها ورأينا ما هو شعوره في تلك اللحظات؟ وماذا يدور في ذهنه؟ هل هو في حالة من السعادة؟ أم في حالة من الشقاء في الدنيا وينتظر أيضاً ما أعده الله للقتلة في النار؟ لأن القتل في الدنيا لا يقضي على المسألة، فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: (إن المقتول يبعث يوم القيامة ويده في تلابيب قاتله، ورأسه في يده الأخرى، وأوداجه دماً ويقول: يا ربِّ! سل هذا لم قتلني بغير حق؟) والله تعالى يقول في سورة النساء وهي من آخر ما نزل من القرآن؛ لما سئل ابن عباس عن توبة القاتل قال: كيف يتوب، وكيف نحكم بتوبته والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93] كيف تكون توبته؟ ثم إن القتل الذي حصل للقاتل هذا وفاء بحق الورثة؛ فإن الورثة بمجرد موت المقتول أصبح الحق لهم، فهم بالخيار بين أخذ الدية أو القصاص، لكن هذا الذي قتله القاتل قتل بغير حق، فالقاتل هذا مقتول بحق، لكن الأول مقتول بغير حق، ولهذا يقول الله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32] ويقول عليه الصلاة والسلام: (أول ما يقضى يوم القيامة في الدماء) ويقول: (لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) الدم الحرام ثقيل ليس بسهل، والدماء ليست سهلة عند الله يوم القيامة.
فهذا القاتل كيف يكون شعوره وهو ذاهب إلى الموت؟ وهل من الموت مهرب؟ لكن من يقاد إلى النار ويسحب على وجهه إليها يتذكر وهو في طريقه فيعرف أن سبب هذا المصير هو معصية الله، ورفض دين الله، فيمقت نفسه، ويسخط نفسه، فتناديه الملائكة، وكلمة (ينادون) يسميها العلماء: فعل مضارع مبني للمجهول، لماذا لم يُبنَ للمعلوم؟ لأن المخاطبين مجهولون عند الله -أي: ليس لهم قيمة- فبنى الله الفعل للمجهول لجهالة المخاطبين: {يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ} [غافر:10] وسخط الله وغضبه {أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [غافر:10] لماذا؟ قال: {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10] ترفضون الدين {قَالُوا رَبَّنَا} [غافر:11] قولهم: (ربنا): مثل تلك الأولى {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} [المؤمنون:107] لكن في غير مكانها في الله، (رَبَّنَا) سألوا الله بصفتين عظيمتين من صفات الله عز وجل وهي: صفة الإحياء والإماتة، قالوا: (ربنا) يا من تحيي وتميت! لقد أحييتنا اثنتين وأمتنا اثنتين -أي: كنا أمواتاً في الأصل فأحييتنا في الدنيا، ثم أمتنا ثم أحييتا- فما دمت قادراً على الإحياء والإماتة نطلبك أن تميتنا المرة الخامسة، يريدون الموت ولا يريدون الحياة {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11] هل هناك إمكانية للخروج من النار؟ فلا يجابون هذا، ويعرض عن جوابهم، ولا يقال لهم بعدم الخروج؛ لأن الخروج مستحيل، وإنما يقال لهم السبب الذي من أجله دخلوا، فيقال لهم: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12].
فيا إخوتي في الله! هذه مشاهد حية من القرآن مما سيحدث في القيامة، مشاهد ملموسة لكأننا نراها بأعيننا، والله قد نقلها لنا من أجل أن نأخذ العبرة والعظة ولا نسوف ونماطل ونجازف حتى نصير إلى ذلك المصير المشئوم أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
ألا وصلوا على خير خلق الله محمد بن عبد الله فقد أمركم بذلك مولاكم فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم انصر دينك وكتابك، اللهم انصر دينك وكتابك، اللهم انصر دينك وكتابك، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمر الكفرة واليهود والملحدين وأعداء الدين، اللهم من أراد بهذه البلاد وبغيرها من بلاد المسلمين شراً أو كيداً فاجعل شره في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، وأنزل عليه بأسك الشديد، وعذابك الأكيد، فإنه لا يعجزك.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولاتنا من خير من أطاعك واتقاك، اللهم اهدهم إلى هداك، واستعملهم في رضاك، وأعنهم على طاعتك، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك في هذه الساعة بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى، أن تعتق رقابنا من النار، ورقاب آبائنا وأمهاتنا وأزواجنا وذرياتنا، وجميع إخواننا المسلمين.
اللهم نوَّر على أهل القبور قبورهم، اللهم اغفر للأحياء ويسر لهم أمورهم، اللهم اشف مرضى المسلمين، وفرِّج هم المكروبين، واكتب الصحة والسلامة لنا ولكافة عبادك المؤمنين في برك وبحرك أجمعين.
اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا غيث الإيمان في قلوبنا، وغيث الأمطار في بلادنا وأوطاننا، اللهم أنزل علينا من بركات السماء، اللهم أنزل علينا من بركات السماء، اللهم أنزل علينا من بركات السماء، اللهم إن بالبلاد والعباد من اللأواء والشدة والضيق ما لا نشكوه إلا إليك فلا تحرمنا يا مولانا من فضلك فإنك أنت أرحم الراحمين، وأنت أكرم الأكرمين، وأنت أجود الأجودين.
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، واغفر لنا يا مولانا إنك أنت الغفور الرحيم.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(83/13)
أحوال السعداء يوم القيامة
إن السعداء يوم القيامة في أمان الله وظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله؛ ذلك بإنهم استسلموا لله وخضعوا وانقادوا له، وصبغوا حياتهم كلها بصبغة الإيمان، فجميع تصرفاتهم على ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة لا تنال بجمع مال، ولا جاه، ولا شرف، ولا قصور، ولا زوجة، ولا غيرها من متاع الدنيا الزائل، إنما تنال بطاعة الله سبحانه وتعالى، وتكمل هذه السعادة عندما يرضى الله سبحانه وتعالى عن العبد.(84/1)
أحوال الناس يوم القيامة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله: حتى لا ينخدع الإنسان لا بد من بيان أن هذه الدار دار كسب وتحصيل، وأن الجزاء الذي يحصل عليه الإنسان في الآخرة إنما يكون على ضوء ما كسبه وحصله في هذه الدار، فهذه الدنيا مزرعة وحصادها في الآخرة، ومن يزرع خيراً يجد خيراً، ومن يزرع شراً يجد شراً.
ومن رحمة الله عزَّ وجلَّ أن جعل الآخرة وما أعد فيها من النعيم حصاداً للكسب الذي يستطيع كل إنسان أن يعمله، فلو أن الآخرة تنال بالمناصب لحازها أقوام وحرم منها آخرون.
ولو أن الآخرة تنال بالأموال لاستحوذ واستولى عليها الأثرياء والتجار.
ولو أنها تُحْجَز بالجاه والسلطة والقوة والعضلات والطول والعرض لحرم منها الفقراء والضعفاء والمرضى؛ ولكن من رحمة الله عزَّ وجلَّ أن جعل الآخرة يُحصل عليها بأسهل طريق، وبأقل قدرة وهو: العمل الصالح، وهذا بإمكان كل أحد أن يعمله.
فلا ينفع الإنسان هناك جاه، يقول الله عزَّ وجلَّ عن أهل النار وهم يستلمون كتبهم بشمائلهم: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]، ولا ينتفع الإنسان هناك بمال {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] ولا ينتفع الإنسان هناك بثناء الناس عليه، والله لو أثنى عليك أهل الأرض كلهم، وذمك الله فلن ينفعوك بشيء، ولو ذمك أهل الأرض كلهم وأثنى عليك الله ما ضروك بشيء.
فيجب أن تركز اهتمامك على العمل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا يا آل محمد فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً -ويقول:- يا فاطمة! لا يأتيني الناس بالأعمال وتأتوني أنتم بالأحساب) فلا يغني حسب يوم القيامة: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون:101] أبو جهل القرشي، وأبو لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم فحمة من فحم جهنم.
وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر، هؤلاء من ملوك الآخرة، وقد كانوا يباعون بيع الرقيق؛ لكن أعلى قدرهم الإسلام، وأولئك أحرار وصناديد ومن خيار العرب؛ لكن أوضعهم وأنزل قدرهم الكفر والعياذ بالله.
فاحرص يا أخي على العمل، والله لا ينفعك بعد هذه الدار إلا العمل الصالح، التعامل معك هناك سيكون على ضوء عملك هنا، يقول الله عزَّ وجلَّ: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31].
وأحوال الناس يوم القيامة تنقسم إلى ثلاثة أحوال: 1/ أحوال أهل النار من الكفار، أعاذنا الله وإياكم من طريقتهم وشأنهم.
2/ أحوال العصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ممن لهم توحيد؛ لكنهم خلطوا هذا التوحيد بمعاصٍ وسيئات وبذنوب وكبائر؛ لكنهم ضمن دائرة الإسلام، وما خرجوا من الدائرة.
3/ وأحوال السعداء -جعلنا الله وإياكم منهم- الذين استسلموا لله، وخضعوا وانقادوا، وصبغوا حياتهم كلها بصبغة الإيمان، وبرمجوا جميع أوقاتهم وليلهم ونهارهم، وبيوتهم ومزارعهم ومعاملهم وأسواقهم، وجميع تصرفاتهم كلها على ضوء الكتاب والسنة.
ولا يعني هذا أنهم ملائكة لا يخطئون! لا.
بل قد تزل بهم القدم؛ ولكن إذا أخطئوا تابوا واستغفروا؛ لأن الله تبارك وتعالى غفور رحيم، يقول عزَّ وجلَّ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31].
ويقول: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32] واللمم: ذنوب وصغائر يُلِمُّ بها العبد المكلف من غير إصرار ولا تعمد؛ لكن تجده وهو ماشٍِ تقع عليه مثل الغبار الذي يلطخ سيارتك؛ لكن تمسحه مباشرة، لا تنزل بنفسك وتأخذ تراباً وتضعه على الزجاج، وتقول: هذا غبار، لا.
بل شيء عارض، نظرة أو خطرة أو كلمة أو زلة مرت منك كل هذه تجتنبها لكنك تقع فيها، قال عزَّ وجلَّ: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32] ثم قال عزَّ وجلَّ: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] واللمم بسيط، والله عزَّ وجلَّ يغفره {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32].
وقد سبق الكلام على أحوال أهل النار، وأحوال العصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والآن سيكون الكلام عن أحوال السعداء جعلنا الله وإياكم منهم.(84/2)
من أحوال السعداء في الآخرة: أنهم لا يخافون ولا يفزعون
السعداء يوم القيامة لهم حالة، وهذا الكلام كله في عرصات القيامة لم نأتِ إلى الجنة ولا إلى النار، نحن لا نزال في يوم القيامة يوم الوقوف اليوم الذي طوله خمسون ألف سنة، منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ألف وأربعمائة وإحدى عشرة سنة، أي: واحد على خمسين من يوم القيامة.
يوم القيامة يوم طويل، لا يعلم طوله إلا الله عزَّ وجلَّ، خمسون ألف سنة من أيام الآخرة، وليست من أيام الدنيا، واليوم من أيام الآخرة بألف سنة {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] واضرب ألفاً في خمسين ألف، فهل تضيِّع هذا اليوم كله بالمعاصي خمسون سنة ليست عند الله إلا مثل واحد على عشرين من يومٍ من أيام الآخرة.
في ذلك اليوم للناس من السعداء والموفقين والأتقياء لهم حال ولهم أحوال متعددة.
الحالة الأولى من أحوالهم: أنهم لا يخافون ولا يفزعون حين يفزع الناس، يقوم المؤمن من قبره وهو آمن كأنه رائحٌ وداخلٌ الجنة.
الناس في الدنيا تعودوا أن يحصل لهم هلع وفزع وخوف واضطراب لأي شيء من متغيرات الحياة، فإذا هبت ريح عاصفة وحملت الأشجار وقلعتها، وهدَّمت البيوت، كيف سيكون وضع الناس؟! إذا نزلت أمطار عاتية وهدَّمت البيوت، كيف سيكون وضع الناس؟! إذا حصلت حوادث سيارات، وإذا حدثت نكبات، ووقع زلزال أو خسف أو حروب وغزو وضرب، كيف سيكون حال الناس؟! سيكونون في حالة عظيمة من الخوف؛ ولكن يوم القيامة تدمر السماوات والأرض كلها -ليس فقط حدثاً بسيطاً- بل كل الدنيا تتغير معالمها، {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار:1 - 4].
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:1 - 3] كل هذه تتغير؛ ولكن أهل الإيمان وهم يرون هذه الأحداث تتغير لا يخافون، عندهم أمن وطمأنينة في قلوبهم، لماذا؟ لأنهم أولياء الله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] هم أولياء الله في الدنيا، فصار الله ولياً لهم في الآخرة، كانوا كما يريد الله في الدنيا، فكان الله لهم كما يريدون في الآخرة.
عملوا بطاعة الله استعداداً لذلك اليوم، فيؤمِّنهم الله في ذلك اليوم، حينما يُبَعْثَر الناس من القبور تستقبلهم الملائكة وترحب بهم، وتطمئن قلوبهم، وتهدئ من روعهم، وتقول لهم: {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف:49].
يقول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101] أي: عن النار {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء:102 - 103] والله يسميه الأكبر؛ لكن أهل الإيمان لا يحزنهم، مهما كان الفزع {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103] الملائكة تطمئنهم، وتقول لهم: لا تخافوا: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103] أي: إن الله يدخلكم فيه الجنة، ليس هناك خوف عليكم، الله أكبر! والفزع هو: شدة الهلع والخوف الذي يحصل للعباد حينما يُبَعْثَرون من قبورهم، تصور وأنت تسير وإذا بالقبور تهتز، والناس يخرجون من القبور شاخصةً أبصارهم، عراةً حفاةً غُرْلاً بُهْماً غير مختونين والشمس تدنو من الرءوس، والعرق يسيل على قدر أعمال العباد، والأمر متغير؛ لكنّ أهل الإيمان مطمئنون، لا خوف عليهم اليوم ولا هم يحزنون.
في ذلك اليوم ينادي منادي الرحمن أولياء الرحمن: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:68 - 69].
ويقول الله عزَّ وجلَّ: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس:62 - 64].(84/3)
خوف المؤمن من الله في الدنيا جعله يأمن يوم الفزع الأكبر
السر في هذا الأمن الذي يشمل الله به عباده السعداء والأتقياء: أن قلوبهم كانت في الدنيا عامرة بالخوف من الله، فكانوا يراقبون الله في كل تصرفاتهم، كانت مراقبة الله بين أعينهم، ولا يجد صعوبة في هذا، تُتاح له الملذات والشهوات؛ ولكن الخوف من الله يقف حاجزاً بينه وبين معاصي الله.
قد يخلو بامرأة، ونفسه تدعوه، وتركيبته الجنسية تدعوه؛ ولكن خوفه يحجزه، ولهذا جاء من ضمن السبعة: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال -ما الذي منعه؟! - فقال: إني أخاف الله) فهذا الخوف من الله كان يعمر قلوب أهل الإيمان، يموت جوعاً ولا يمكن أن يأكل حراماً.
هناك شخص من الشباب يخبرني بهذه القصة، مجلة إسلامية اسمها: التربية الإسلامية، وقد قرأتها بنفسي، وهي موجودة لديَّ، والقصة مفادها: أن شاباً كان يدرس في القاهرة في الأزهر، وكان يسكن في مدينة البعوث الإسلامية التي يسكنها الغرباء الذين يأتون من شتى أقطار الأرض -ومرَّ هذا قبل أربعين سنة أو ثلاثين- وكان هذا الشخص رجلاً تقياً ولكنه فقير لا يملك شيئاً، وضاقت به الأرض حتى مرت عليه أيام وليالٍ وهو لا يستطيع أن يحصل على لقمة العيش، فخرج يومًا من الأيام من مسكنه قاصداً الأزهر لطلب العلم قبل صلاة العصر، وفي الطريق شَمَّ وهو يسير من أحد البيوت رائحةََ طعام شهي يقطع القلوب، وهو سيموت جوعاً، فطرق الباب يريد أن يطلب منهم فلم يستجب أحد، فدفع الباب، فانفتح، فدخل فناء البيت، ثم دعا، فلم يستجب له أحد، فطرق الباب الداخلي، ثم دفعه فانفتح الباب، ونادى، فلم يستجب له أحد، فشاهد أمامه صحفة فيها نوع من الطعام الذي شم رائحته وليس عنده أحد، فدفعه الجوع والحاجة والاضطرار إلى أن يدخل ويأكل وحده من الأكل، وكان الطعام كُبَّة من العيش والبطاطس؛ محشية باللحم ومقلية، كانت رائحتها شهية جداً، أشبه بالسنبوسة، فأخذ واحدة، وعندما حملها وأراد أن يأكلها نظر إليها، فجاءه الخوف من الله فقال: لقمة تأكلها الآن وهي حرام، ولا تدري مَن صاحبها! لا.
وبعد أن أرجعها جاءه الجوع والحاجة، سيموت، فأخذها، فلما أخذها جاءه الخوف، وبقي في صراع وتنازع، النفس تقول: كُلْ، والقلب والعقل يقولان: لا تأكل.
أخيراً انتصر على نفسه ووضعها، وخرج من أجل الله، ودخل المسجد، وصلَّى العصر، وجلس في مجلس الشيخ، وبينما هم جلوس إذا بتلك المرأة تدخل المسجد وتقف على باب المسجد، وتطلب الشيخ أن يأتيها، فجاءها الشيخ، فقالت له: يا شيخ! أنا امرأة أرملة؛ توفي زوجي منذ سنوات، وترك لنا مالاً وفيراً، وخلَّف بنتاً، والآن بلغت سن الزواج، وأوصَى أبوها أَلا أزوجها إلا برجل يخاف الله عزَّ وجلَّ، فأريد أن تختار لي مِن طلابك هؤلاء مَن تعرف فيه وفي قلبه مخافة الله.
قال: حسناً! فرجع الشيخ ونظر في الشباب وهم جلوس كلهم في الحلقة، وتقع عينه على ذلك الرجل التقي -لأن التقوى لها آثار في الوجه وفي كل شيء- فدعاه، وأخذه إلى خارج الحلقة وقال له: تريد الزواج؟ قال: يا شيخ! منذ ثلاثة أيام والله ما ذقتُ طعم العيش، وتريدني أن أتزوج؟! ليس عندي شيء يا شيخ! قال له: لا شأن لك، كل شيء موجود.
قال: إذا كان كل شيء موجود فليس عندي مانع.
فأخذه وجاء به إليها، قال: هذا أرضاه لابنتكِ زوجاً؛ لأنه تقي يخاف الله.
قالت: أنا أعددتُ طعاماً جاهزاً، أريدك أن تأتي أنتَ وطلابُك وهُوَ لنأكل من هذا الطعام، وتكتب العقد.
فأخذتِ الشيخَ والطلابَ وهذا الطالبَ وهي تمشي أمامهم، ومشت بهم من طريق إلى طريق إلى أن أدخلتهم في ذلك البيت، وتأتي بالصَّحفة وتضعها أمامهم، ويشاء الله أن تكون الصَّحفة والجهة التي فيها تلك اللقمة من عند ذلك الطالب، ويمد يده عليها ويأكلها حلالاً، ومعها زوجة؛ ولو أنه أكلها لَمَنَعَتْه تلك من نعمة الدنيا، بل ربما تمنعه من نعمة الآخرة.
فالذين يخافون الله عزَّ وجلَّ يجدون صعوبة، فأنت إذا كنت موظفاً وبجانبك موظف آخر، وتراه يسيّر عمله بالرشوة، ويربح في اليوم ما توفره أنت في سنة؛ ولكنك لا ترضى أن تأكل ريالاً حراماً، تجد فيه صعوبة عليك؛ لكن اصبر، هذا يأكل حراماً، يأكل ناراً حمراء، يأكل لعنة الله: (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما) أما والله إن ريالاً حلالاً عندك أعظم من مليون، بل أعظم من الدنيا بأسرها وهي حرام؛ ما قيمة الدنيا وهي حرام إذا ملأت بها بطنك، وقدمت على الله وأنت آكل للحرام؟ عبادتك باطلة، وزوجتك وأولادك أكلوا الحرام، وحياتك كلها حرام في حرام لكن عندما تأكل ريالاً حلالاً أعظم بركة من مليون ريال حراماً.
فهؤلاء هم الذين كانوا يقومون الليل، ويصومون النهار، ويستعدون للوقوف بين يدي الله عزَّ وجلَّ، هؤلاء خافوا من الله، ولما خافوا من الله أمَّنهم الله يوم القيامة، يقولون: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان:10] ماذا حصل؟! {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} [الإنسان:11].
{إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] كنا في أهلنا ومع أزواجنا وفي بيوتنا؛ لكن في قلوبنا شفقة وخوف {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [الطور:27] أي: أمَّننا الله (وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:27 - 28].
قال الله عزَّ وجلَّ جزاءً لهم على خوفهم: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:11 - 12].(84/4)
لا يجمع الله بين أمنين ولا خوفين
وفي الحديث الذي يرويه أبو نعيم في الحلية: عن شداد بن أوس، يقول النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا الحديث صحيح؛ صححه الألباني في السلسلة -: (يقول الله عزَّ وجلَّ: وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين، ولا أجمع عليه خوفين، إن هو أَمِنني في الدنيا أخفته يوم أجمع فيه عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمَّنته يوم أجمع فيه عبادي) أتريدها كلها سواءً؟! لا.
لا يصلح، خِف من الله هنا تأمن من الله هناك.
أما أنك لا تخاف الله هنا، فسوف يخوِّفك الله عزَّ وجلَّ هناك، ثم أجرِ مقارنة، فلا بد من واحدة تجري على رأسك، ليس لك مهرب، ما دُمتَ غُلِبْت فلا بد من أن تخاف هنا أو تخاف هناك، أو تأمن هنا، أو تأمن هناك، فما هو الأفضل لك والأسلم؟ أن تخاف ستين أو سبعين سنة وتأمن أبد الآبدين؛ أم أن تأمن ستين أو سبعين سنة، وتشرب وتأكل، وتنكح وتزني وتفجر، وتنام وتتمشَّى، ثم يخوفك الله أبد الآبدين؟ ما هو المنطق والعقل؟ المنطق والعقل إذا تَدَخَّلا سيقولان: لا والله، خَفْ سبعين سنة أو ثمانين سنة أو مائة سنة، ولا تخف الأبد كله.
الناس الآن واقعون مع أنفسهم في دراستهم، تجد الطالب الواقعي يجتهد ست سنوات ابتدائي، وست سنوات متوسط وثانوي، وأربع سنوات جامعة من أجل أن يأخذ الشهادة الجامعية ويتوظف، ليعيش في هذه السن التي بذل فيها الدراسة (6 + 6 =12 + 4 =16) سنة، يريد أن يعيش حياة كريمة بعد التخرج، كم مدتها؟ أربعين أو خمسين أو ستين سنة، ثم يموت.
فالذي يأمن الله هنا يخوِّفه الله هناك، والذي يخاف الله هنا يؤمِّنه الله هناك، وكلما كان العبد أكثر إيماناً وإخلاصاً وتقوى كلما كان أكثر أمناً يوم القيامة، فأهل التوحيد هم أحسن طبقة، الذين ما خلطوا إيمانهم بشرك، يقول الله عزَّ وجلَّ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] الذين آمنوا ولم يلبسوا، أي: ولم يخلطوا، أو لم يغلِّفوا إيمانهم بشيء من الظلم؛ وهذه الآية عندما نزلت قال الصحابة: (يا رسول الله! وأيُّنا لا يظلم نفسه؟ قال: الظلم: الشرك، أما سمعتم قول الله عزَّ وجلَّ: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} [لقمان:13]) فالشرك ظلم، فالذي يلبس إيمانه بشرك هذا ليس بمؤمن، يخرج من التوحيد؛ لكن إذا وحَّد ولم يلبس إيمانه بشيء من الشرك فـ: {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
هذا أول حال من أحوال يوم القيامة، وهو: الأمن.
والأمن مطلب رئيس من مطالب البشر حتى يستريحوا، فلو أعطيت جميع لذائذ الدنيا وأنت خائف فإنك لا تريدها، أليس كذلك؟! لا تريد حياة إلا وفيها أمن، إذا طرق الباب عليك طارق، وعرفت أنه يريد منك سرقة أو قتلاً أو تخويفاً، أو شيئاً وأنت تأكل أو تشرب أو تنام، فإن النوم يذهب منك، والأكل لن تهنأ به، والعافية لم تعد تأتيك، وتبقى في قلق، لماذا؟ من الخوف! فهذا الخوف ينزعه الله منك يوم القيامة وتُبْعَث آمناً: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40].
أتريد أن تأتي آمناً يوم القيامة؟ خَفْ مِن الله في هذه الدنيا، في حالتين: عند ورود أمره عليك.
وعند ورود نهيه عليك.
إذا ورد عليك أمر الله فخَف من الله، ونفِّذ أمره، وإذا ورد نهيه عليك فخف من الله عزَّ وجلَّ وانْتَهِ عما نهاك، فإذا عملت هذين الأمرين فأنت خائف من الله، أما إذا تركت الأوامر، ووقعت في النواهي، وادعيت أنك تخاف الله فهذا خوف الكذابين، ولا ينفعك، فالذي يخاف من الشيء يبتعد عنه، والذي يخاف من المعاصي يرفضها، والذي يخاف من العذاب لا يسير في طريقه، وكذلك المؤمن الذي يريد أن يأتي آمناً يوم القيامة لا يقع في شيء مما يخوفه الله عزَّ وجلَّ به يوم القيامة.(84/5)
من أحوال السعداء في الآخرة: أن الله يظلهم في ظله
السعداء الذين يظلهم الله في ظله: الحالة الثانية من حالات أهل السعادة الأتقياء -جعلنا الله وإياكم وآباءنا وأمهاتنا وإخواننا المسلمين منهم- أنهم يظلهم الله في ظل عرشه مع الأمن، أي: هم آمنون والشمس تغلي، فالأمن يحتاج إلى نوع من الراحة، فالله أراحهم بأن أظلهم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، حين يكون الناس في الموقف العظيم في الوقت الطويل، أنت الآن عندما تقف ساعة أو ربع ساعة في طابور، أو في انتظار موظف، أو في مراجعة، تشعر بأن ركبتَيك قد آلمتاك، وربما تكون في ظل، ولهذا تحتاج إلى أن ترتاح، فتبحث عن كراسٍ، وتقول: ضعوا للمراجعين كراسٍ، كيف لنا أن نظل واقفين؟ لكن يوم القيامة لا تنتظر ساعة ولا ساعتين ولا يوماً ولا سنة ولا ألف سنة، بل هو خمسون ألف سنة، وكل يوم من هذه الأيام بألف سنة، والناس كلهم وقوف.
اسمه: يوم الموقف، لا يوجد أحدٌ جالساً، من الذي يجلس يوم القيامة؟! لا يوجد جلوس، بل وقوف، موقف عظيم، ثم إن مع الموقف وهج شديد، وحرارة متناهية تصهر أدمغة الناس وتغلي منها رءوس العباد، كما يغلي اللحم في القدور، لا توجد مظلة ولا يوجد أحدٌ يمنعك منها، ثم إنهم يذوقون من العذاب والألم ما تنوء بتحمله الجبال الراسيات، ويكون فريق من أهل الإيمان -اللهم اجعلنا منهم يا رب- هانئين مرتاحين في ظل عرش الرحمن، لا يعانون من الكربات والأهوال شيئاً، هؤلاء هم أصحاب الهمة العالية، والعزيمة الصادقة، والموقف الجاد، الذين تمثلت هممهم وعقائدهم وجديتهم في التزامهم الصادق بعقيدة الإسلام، وبقيم وبعبادات وبسلوك الإسلام.(84/6)
من السعداء: الإمام العادل
الذين يطبقون الإسلام في كل تصرفاتهم، فالله عزَّ وجلَّ يؤمنهم يوم القيامة، وهم أصناف كثيرة، ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، منها: حديث عند البخاري ومسلم: قال صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله: منهم: إمام عادل).
والإمامة هنا: تشمل كل إمامة، ابتداءً من الإمامة الكبرى وهي: ولاية الأمر العام على المسلمين إلى الولاية الصغرى وهي: ولايتك على بيتك، فأنت إمام، والملك إمام ومسئول، وإذا عدل كان ممن يظلهم الله في ظل عرشه، ومن تحته رئيس الوزراء، ونائب رئيس الوزراء، والوزراء، ووكلاء الوزارات، ومديرو عموم الوزارات، ورؤساء ومديرو الإدارات، ورؤساء الأقسام، والموظفون، وأيضاً: القائد والجندي، كل واحد منهم إمام، حتى العريف يجب أن يعدل فيمن تحته، إذا كنت عريفاً وعندي عشرة أنفار أو عشرون نفراً، فيجب أن أكون عادلاً معهم، وإذا راعيت أحدهم على حساب الآخر أكون خائناً للأمانة، متى كنتَ من هؤلاء يجب أن تكون عادلاً.
إذا كنتُ رئيس قسم وعندي موظفون، يجب أن أتيح لهم الفرص بالتساوي، وإذا كنت مدرساً يجب أن أعامل الطلاب بالتساوي.
أو رجل عندي زوجتين يجب أن أعامل الزوجتين بالتساوي.
أو عندي أولاد يجب أن أعامل أولادي بالتساوي.
إذا عدلت أمنتَ، وإذا جُرْتَ أو ظلمت خسرت؛ لأن الظلم ممحوق، والله عزَّ وجلَّ قد حرمه، يقول الله عز وجل: (يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالَموا) رواه مسلم.
والظلم عاقبته وخيمة، وهو ضد العدل، والعدل سبب للتمكين، فإذا عدلت وأنت ملك مكَّن الله ملكك، وإذا عدلت وأنت وزير مكَّن الله وزارتك، وإذا عدلت وأنت مدير مكَّن لله إدارتك، وإذا عدلت وأنت مدرس مكَّن الله تدريسك، وإذا عدلت وأنت زوج مكَّن الله زواجك، وإذا عدلت وأنت أب للأولاد مكَّن الله أبوَّتك، أما إذا ظلمت زلزلك الظلم، الظالمون يتولى الله عقوبتهم من فوق سبع سماوات في الدنيا والآخرة.
فالإمام العادل الذي يملك القوة والسلطة؛ ولكنه لم يدفعه هذا الملك وهذه السلطة إلى الطغيان وإلى البطش، بل أقام العدل بين العباد، وحكّم سلطان الشرع الإسلامي من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا يوم القيامة في ظل عرش الرحمن.(84/7)
من السعداء: شاب نشأ في عبادة الله
الصنف الثاني: شاب نشأ في عبادة الله -أسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم- وهذه نلمسها -والحمد لله- وصورتها منتشرة ومشهودة في هذا الزمان، وهي المعبر عنها: بـ (شباب الصحوة).
انظروا! كنا نعاني من الشباب، وكنا نصيح من الشباب، وكان الخطباء يقولون: اللهم أصلح الشباب! اليوم الحمد لله استجاب الله الدعاء في الشباب، ونحن نراهم بالآلاف يستقيمون على منهج الله، هؤلاء الشباب الذين نشئوا في طاعة الله، ما تلطخت صفحاتهم، وما تلوثت حياتهم منذ أن عرف الله ما عرف زنىً، ولا عرف غناءً ولا خموراً، ولا شركاً ولا وثنيةً، ولا عرف شيئاً من هذا منذ أن نشأ، وإذا به ينشأ مثل الزهرة الجميلة المتفتحة تنبت في المنبت الحسن، وتؤتي الثمار الحسنة، فشكلها جميل، ومضمونها جميل، فهذا يظله الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
والعلماء يقولون: إن الله عزَّ وجلَّ جعله شاباً، ما قال: وشيخاً نشأ في طاعة الله، لماذا؟ لأن الشاب يجد معاناة، ويجد تعباً، الآن عندما تمر أنت ومعك رجل كبير في السن أمام امرأة متبرجة فتغض ويغض، فأنت تغض لكن ليس غضك مثل غض ذاك الكبير، فهو يغض وقد شبع من هذه الأشكال، أما أنت تغض والشيطان في قلبك يقول: انظر؛ لكن غصباً تغض بصرك، إذاً يظلك الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
فهذا الثاني، أسأل الله أن يجعل جميع شباب المسلمين منهم.(84/8)
من السعداء: رجل قلبه معلق بالمساجد
الثالث: الذين يعمرون مساجد الله بالصلاة، حتى لكأنهم مربوطون بالمساجد، قال: (ورجل قلبه معلق بالمساجد) أي: مربوط، حتى إذا خرج جسده فإنه يخرج من مكانه لكن قلبه في المسجد، جسده في البيت يأكل لكن قلبه في المسجد، ينام وقد وقَّت الساعة على صلاة الفجر، يذهب إلى الدوام وقلبه في المسجد، لا يسمع الأذان إلا وقد قام، قال عليه الصلاة والسلام: (ورجل قلبه معلق بالمساجد) لأنه يجد الأمن والطمأنينة، والأنس والراحة واللذة في بيت الله عزَّ وجلَّ، أكرم مكان يكون عند المؤمن إذا دخل المسجد، الله أكبر ما أعظم تلك اللحظات! وإذا أردت أن تعرف إيمانك أو عدمه فقسه بهذا المقياس.
أما المنافق فيضيق من المسجد مثل الطير في القفص، والمؤمن يرتاح في المسجد مثل السمكة في البحر، لا يجد أنسه إلا هناك، ولولا أنه مطلوب منه أن يعيش بأمر الدين خارج المسجد لَجَلَس في المسجد طيلة عمره، لكنه يسحب نفسه إذا خرج، وإذا رأيته وجدته آخر من يخرج من المسجد، وإذا جاء فهو أول من يجيء؛ لكن ذاك بالعكس فهو آخر من يأتي، وأول من يخرج، لماذا؟ لأنه لا يجره إلى المسجد إلا شيء كخيوط بسيطة والعياذ بالله.(84/9)
من السعداء: المتحابون في الله
الصنف الرابع: المتحابون في الله.
وهذه لا يجدها أحد إلا أهل الإيمان، أما أهل المعاصي ففيم يتحابون؟ أيتحابون في الله؟ لا.
ليسوا متحابين في الله، ولذا قال في الحديث: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه).
وهنا يجب أن ننبه إلى أن المحبة في الله لها ضوابط، لا نريد أن تُمْتَهَن هذه الكلمة وأن تستعمل حتى في المعصية، بعضهم يقول: أنا أخوك في الله، وأحبك في الله، وهما يسهران على المعاصي، لا.
بل قال: (اجتمعا عليه وافترقا عليه) أي: على طاعة الله، فتجمعهم الطاعة، وتفرقهم الطاعة.
أما أن يجتمعوا على المعصية، فهذه أخوة في الشيطان وليست أخوة في الله، فإذا عُمِرَت مجالسه، وعُمِرَت افتراقاته معه على طاعة الله عزَّ وجلَّ، فهو أخ في الله.(84/10)
من السعداء: رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله
أيضاً مِن هؤلاء الذين يظلهم الله في ظل عرشه: مَن حال الخوف بينه وبين ممارسة الزنا رغم قوة الدوافع: أولاً: تدعوه، الرجل ليس بحاجة إلى أن يدعوه أحد، هو يبحث عن هذا إذا لم يكن عنده إيمان؛ لكن المؤمن لا يبحث عن هذا الشيء ويعتصم بالله، فتأتيه امرأة تدعوه: (ورجل دعته امرأة).
وماذا بعد ذلك؟ ثانياً: (ذات منصب) أي: لا يخاف، ولا ينكشف أمره.
وماذا بعد ذلك؟ ثالثاً: (وجمال) إذاً هناك شيء مُغْرٍ.
ومع هذا يقول: (إني أخاف الله).
هذا يظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.(84/11)
من السعداء: رجل تصدق بصدقة فأخفاها
وأيضاً من السبعة: الرجل الذي يرزقه الله مالاًَ فينفقه في سبيل الله عزَّ وجلَّ، ويواسي به الفقراء، ويعطي منه المحتاجين؛ ولكنه حتى يكون خالصاً فهو يُخْفِيه، ولا يخبر به أحداً إلا الله، حتى شماله لا تدري بما أنفقت يمينه، وهذا كناية عن التستر الكامل في عدم إظهار الصدقة؛ لأنها كلما كانت سراً كانت خالصة (ورجل أنفق نفقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه).(84/12)
من السعداء: رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه
السابع: صاحب القلب الرقيق، صاحب القلب الخائف من الله، الذي إذا ذكر عظمة الله وقوة الله، وذكر عذاب الله عزَّ وجلَّ فاضت عيناه، وبكى وخشع من هذا الموقف الجليل.
(ورجل ذكر الله خالياً) أي: لوحده، ليس مع الناس؛ لأنه إذا كان مع الناس ربما يدخل في نفسه شيء، لماذا؟ لأن الناس تُهَيِّجُه، ربما ينبسط من نظرة الناس؛ لكن بينه وبين الله، عندما لا يراه أحد، ولا أحد يهيَّجه إلا نفسه، ولكن هيجه خوفه من الله ففاضت عيناه، وتقاطرت وسالت القطرات من عينيه على خديه، ولا يراه إلا الله، فيسجله الله بتلك القطرات من ضمن أصحاب المظلة الربانية.
أيها الإخوة في الله: هؤلاء هم الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
وأيضاً وردت أحاديث أخرى في أن المتحابين في الله يظلهم الله عزَّ وجلَّ في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
وأيضاً ورد حديث في صحيح مسلم أنَّ: (مَن أنظر معسراً، أو وضع عنه، أظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله) شخص عليه دين لآخر، فجاء صاحب الدَّين إليه وقد أزف الموعد فقال له: هاتِ النقود.
فقال: والله لا أملك شيئاً.
قال: لا يهمك، كم تريد مهلةً؟ قال: أريد سنة.
قال: لك سنة.
أنْظَرَه وأمْهَلَه؛ لكي يأتي بحقه، لم يذهب يشتكي بالحقوق ويشده، ويقول: ضعوه في السجن حتى يسلم، أريد حقي الآن، بل قال: ما دام أن الله مُوَسِّعٌ عليَّ، وهذا أخي في الإسلام فأنا أصبر عليه؛ لكن أرجوك أن تهتم يا أخي بحقي.
فأعطاه سنة.
أو قال له أيضاً: عندك عشرة آلاف! أتدري؟! قال: نعم.
قال: أعطني خمسة آلاف، ولك سنة، وخمسة آلاف الله يعينك عليها، (من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله).
وجاء في مسند أحمد بسند صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَن نفَّس عن غريمه -أي: في أجل- أو محا عنه -أي: ترك له- كان في ظل عرش الله يوم القيامة).
هذه الحالة الثانية.
الحالة الأولى: الأمن.
الحالة الثانية: الظل، يظل الله عزَّ وجلَّ المؤمن في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.(84/13)
من الأعمال التي تنال بها السعادة
السعداء يوم القيامة هم الذين يعيشون في أمن وطمأنينة وسعادة بلا خوف ولا هم ولا فزع، الذين يسيرون في حاجات الناس في الدنيا ويقضونها، ليس له شغل إلا البحث عن مطالب الناس، وأغراض الناس، وحوائج الناس، ويسعى فيها، ويساهم في حلها ابتغاء وجه الله، يقول الله عزَّ وجلَّ: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114].
ومِن أعظم ما يفرِّج كربات العبد يوم القيامة: سَعْيُ العبد في فك كربات الناس في هذه الدار، والتيسير عليهم، وإقالة عثراتهم، ففي صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).
ما دمتَ في عون أخيك فالله في عونك، وبالمفهوم المخالف: إذا كنتَ ضد إخوانك المسلمين فالله ضدك.
ومن الناس من لا يتمنى أن يكون في عون الناس، بل يتمنى أن يكون شوكة وعائقاً في سبيل مصالح الناس والعياذ بالله.
وروى البخاري أيضاً: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرَّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة).(84/14)
التيسير على المعسرين
ومن السعداء يوم القيامة في حالة الكربات: الذين ييسرون على المعسرين.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما حديثاً: أنه أَخْبَر عليه الصلاة والسلام عن رجل ممن كان قبلنا يداين الناس -يبيع للناس بالدين- فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسراً تجاوز عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، قال: (فلقي الله، فتجاوز عنه).
وروى النسائي وابن حبان والحاكم وصححه: (أن رجلاً لم يعمل خيراً قط، وكان يداين الناس فقال لغلامه: خذ ما تيسر واترك ما تعسر، وتجاوز لعل الله أن يتجاوز عني، فلما مات قيل له: هل عملت خيراً قط، قال: لا.
إلا أنه كان لي غلام وكنت أداين الناس، فإذا بعثتُه يتقاضى ديني قلت له: خذ ما تيسر ودع ما تعسر، وتجاوز لعل الله أن يتجاوز عني، قال الله: قد تجاوزتُ عنك).
وفي مستدرك الحاكم أيضاً: عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتى الله عزَّ وجلَّ بعبد من عباده آتاه الله مالاً فقال له: ماذا عملت بمالك في الدنيا؟ قال: لا شيء يا رب! إلا أنك آتيتني مالاً فكنتُ أبايع الناس، وكان من خلقي أن أُيسِّر على المعسر، وأُنْظِر المعسر، قال عزَّ وجلَّ: أنا أحق بذلك منك، تجاوزوا عن عبدي هذا).
فالذين ييسرون على المعسرين ييسر الله عليهم يوم القيامة.(84/15)
الذين يعدلون في أهليهم وما وُلُّوا
ومن السعداء أيضاً: من يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلُّوا.
وفي صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام فيه: (إن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يداه يمين، وهم الذين يعدلون في حكمهم وفي أهليهم وما وُلُّوا)، أي: في أي عمل وُلُّوه فإنهم يعدلون فيه، هؤلاء لهم منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، وهم على تلك المنابر في ساعات العرض والنشر.(84/16)
الشهادة والرباط في سبيل الله
أيضاً من الذين يأمنون يوم القيامة ولا يخافون ولا يفزعون: الشهداء والمرابطون: ففي الترمذي: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (للشهيد عند الله ست خصال) الشهيد هو الذي يموت لتكون كلمة الله هي العليا؛ لأن الصحابة قالوا: (يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل في سبيل الله، فأيهم في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
فالشهادة يجب أن يُعْرف مفهومها، فالذي يُقْتل في سبيل الله شهيد، والمتردي شهيد، والحريق شهيد، والغريق شهيد، والمبطون شهيد، والمطعون شهيد، والمرأة الحامل التي تموت أثناء الولادة شهيدة؛ لكن بشرط أن يكونوا مؤمنين، وحصل لهم شيء من هذه الآفات والمحن، فهم شهداء، أما إذا كانوا فسقة وعصاة وغير مؤمنين، ووقع لهم شيء من هذه الأمور فهو عذاب عاجل وما عند الله أشد؛ لكنّ الشهداء هم الذين ماتوا في سبيل الله، أو المرابطون الذين يرابطون على حدود الإسلام والمسلمين، هؤلاء لا يخافون يوم القيامة، الآن حتى الفن أصبح له شهيد، مات العندليب الأصفر أو الأخضر أو الأسمر، فسموه شهيد الفن، ويموت لاعب في الكرة فيقولون: شهيد الرياضة، والآن يقاتلون ويعادون ويجرمون في الأرض ويقولون: شهداء، لا.
هؤلاء ليسوا بشهداء، هؤلاء ملاعين؛ لأنهم ملئوا الأرض جوراً وظلماً، وإذا ماتوا يقال لهم شهداء.
فالشهيد من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
وللشهيد عند الله ست خصال: أولاً: يغفر له في أول دفقة من دمه لا تنزل أول قطرة في الأرض إلا وقد غفر الله له.
ثانياً: يُرى مقعده من الجنة عند الموت.
ثالثاً: يؤَمَّن من عذاب القبر: لا يأتيه في القبر فتنة ولا سؤال، سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) أي: أنه أخذ الفتنة مقدماً في الدنيا.
رابعاً: يأمن من الفزع الأكبر: إذا قام الناس من قبورهم يوم القيامة يقوم وهو آمن.
خامساً: يُكْسَى تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما عليها.
سادساً: يزوَّج اثنتين وسبعين حورية، ويشفع في سبعين من أقربائه، لا يدخل الجنة لوحده، بل يُرجع إلى الموقف ويأخذ سبعين من أهل بيته، كلهم قد استوجبوا النار.
والشاهد في هذا الحديث: أن الشهيد يأمن يوم القيامة من الفزع الأكبر، وهو الفزع الذي ينال الناس كلهم إلا من استثناهم الله.
ومثل الشهيد: المرابط الذي يرابط على ثغور المسلمين ولو لم يحارب؛ لكنه موجود، لو جاء الحرب فهو الأول، وإذا لم يكن هناك حرب فهو مرابط، فرباطه هذا يؤمِّنه يوم القيامة؛ لما روى الطبراني بسند صحيح عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رباط يوم خير من صيام الدهر، ومن مات مرابطاً في سبيل الله أمن من الفزع الأكبر، وغذي عليه برزقه وريح عليه من الجنة، ويجري عليه أجر المرابط حتى يبعثه الله) هذا أجر الذي يرابط في سبيل الله عزَّ وجلَّ.
ومن إكرام الله عزَّ وجلَّ للشهداء: أن الله يبعثهم وجروحهم تتفجر دماً؛ اللون لون الدم، والريح ريح المسك، ففي صحيح البخاري قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده لا يُكْلَم عبد في سبيل الله -والله أعلم بمن يُكْلَم في سبيله- إلا جاء يوم القيامة اللون لون الدم، والريح ريح المسك).
وجاء في سنن الترمذي وسنن النسائي وسنن أبي داود بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قاتل في سبيل الله فواق ناقة -والفواق: فترة ما بين الحلبتين؛ لأن الناقة تحلب ثم تترك إلى أن يزداد لبنها، ثم تحلب مرة ثانية، فمن قاتل فترة زمنية قدر فواق الناقة- فقد وجبت له الجنة، ومن جُرِح جرحاً في سبيل الله أو نُكِب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت دماً، لونها لون الزعفران، وريحها ريح المسك).(84/17)
كظم الغيظ
أيضاً من الذين يؤمِّنهم الله يوم القيامة: الكاظمون الغيظ، الذي يُسْتَثار ويُزْعَج ويُراد منه أن يغضب؛ ولكن أعصابه في ثلاَّجة -كما يقولون- كالجبل؛ لأن من الناس من هو مثل حبة الشعير، أقل حرارة تجعله ينقلب، هذا الذي ينفخ أو ينفث فيحرقُ نفسَه، ويحرق البيت ولا يبالي، ومن الناس من هو راسٍ، لا يتحرك أبداً، وإنما يتصرف تصرفات حكيمة.
فمن الناس من يثور لأتفه الأسباب ويطلق زوجته، ويضرب أولاده، ويلعنهم، ويفتعل مشاكلَ مع مديره، بل بعضهم يقتل، وبعضهم يفعل جرائم، ثم إذا رجع عقله قال: يا ليتني ما فعلتُ! لكن كن هادئاً، واكظم غيظك، فإن في كظم الغيظ منفعة في الدنيا والآخرة.
والمواقف الصعبة التي تمر بالإنسان ويصاب فيها الإنسان بالأذى كثيرة، وقد يكون مصدر هذه المواقف والأذى قريباً أو صديقاً أو محسناً؛ ولكن الأذى إذا سمعه الإنسان وأصابه ألَمَّ به في أعماقه؛ ولكن يضبط نفسه، ولا يطلق لنفسه العنان، ويضبطها، ويكتم غيظه، فقد عَدَّ الإسلام هذا الأمر من الأخلاق، يقول الله عزَّ وجلَّ: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:133 - 136].
فالله عزَّ وجلَّ يمنحك إذا عملت معصية وتبت منها الجنة على هذه المعصية، وعلى توبتك إلى الله عزَّ وجلَّ.
فكظم الغيظ خلق يجب أن تعود نفسك عليه؛ لأن يوم القيامة يدعو رب العزة والجلال من كظم غيظه على رءوس الخلائق، ثم يخيره من أي الحور شاء.
يروي أبو داوُد والترمذي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه، دعاه الله على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره في أي حور العين شاء).
إذا كظمتَ غيظاً وأنت قادر؛ لكن خوفك من الله ومن أجل الله كظم غيظك، ليس جبناً ولا ضعفاً ولا خوراً، وإنما عقلاً وحكمةًَ وتؤدةً، ودائماً الذي يكظم غيظه يجد راحة، ويجد نتائج حسنة، والذي يندفع ويسرع يجد عذاباً ونتائج سيئة.
فما أعظم من كظم الغيظ! فكاظم الغيظ يدعو الله عزَّ وجلَّ صاحبَه على رءوس الخلائق، ثم يخيره من أي حور العين شاء.(84/18)
القيام بالأذان
ومن الذين لهم حالة مميزة يوم القيامة، وهي أن أعناقهم طويلة المؤذنون: الناس كلهم يبعثون على وضعهم الأول إلا أهل الأذان، يأتون ورءوسهم فوق الرءوس، ورقابهم أطول الرقاب، ويعرفهم الناس من بين سائر أهل الموقف، وإذا كل رجل رأسه فوق رءوس الناس، وتراه ينظر إلى الناس، والناس من تحته.
فإذا سألته: لماذا رأسك طويل؟ قال: كنت أقول: (لا إله إلا الله).
ولهذا الأذان من أعظم القربات إلى الله، وقد نزلت فيه آية في القرآن الكريم، وهي قول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33] هذه الآية نزلت في بلال وفي المؤذنين، وفي كل من يدعو إلى الله عزَّ وجلَّ، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33] انظروا، يبين الله لكم فضيلة الأذان؛ وأن الناس كلهم نائمون في صلاة الفجر، بينما تسمع الأذان فتفتح النافذة وإذا بهذا يؤذن، وذاك يؤذن، والآخر يؤذن، والدنيا كلها تؤذن؛ إذاً هؤلاء أفضل الناس، الناس كلهم رقود وهؤلاء يذكرون الله، الناس كلهم نائمون وهؤلاء يقومون، فأول من يتوضأ المؤذن، وأول من يفتح المسجد المؤذن، وأول من يفتح الكهرباء المؤذن، وأول من يشغل الميكرفون المؤذن، وأول من يفتح النوافذ من أجل أن يخدم الناس المؤذن، وأول من يرتب المصاحف ويرتب الفرش المؤذن، ثم يأتي ويقول: الله أكبر، ويكررها خمسة عشر صوتاً، أليس هذا بفضل؟! نعم.
فضل عظيم لا يبلغه أحد.
ولذا اختلف العلماء وفاضلوا بين عمل الإمامة والأذان أيهما أفضل؟ فقال قوم: الأذان أفضل.
قيل: لماذا؟ قالوا: لحديث: (أطول الناس أعناقاً يوم القيامة المؤذنون).
وللآية الكريمة: أن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّه} [فصلت:33].
ولأن المؤذن يأتي أول الناس، ويقرأ أكثر الناس، ويصلي أكثر الناس، ويخرج آخر الناس، مَن يخرج آخر الناس؟ المؤذن، فهذا من أفضل الناس.
وقال آخرون: الإمامة أفضل.
قيل: كيف ذاك؟ قالوا: أفضل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختارها، فكان إماماً ولم يكن مؤذناً، ولا يختار صلى الله عليه وسلم إلا الأفضل، إذ لا يمكن أن يصير هو في شيء مفضول؛ لأنه يعرف موازين الأعمال ومقاديرها، فما دام أنه صار إماماً فهو أفضل.
وبعضهم توسط في المسألة وقال: الإمامة أفضل أحياناً، والأذان أفضل أحياناً.
قيل: متى؟ قالوا: إذا كان الإمام عالماً بدين الله، خاشعاً في صلاته، قدوة في عبادته، محافظاً على إمامته، كان عَمَلُه أفضل؛ لأنه إذا أحسن فله ولهم.
إذا صليت وأحسنت فلك أجر من صلى خلفك دون أن ينقص من أجورهم شيء.
إذاً فهذا أفضل.
قالوا: والأذان أفضل إذا كان الإمام غافلاً أو جاهلاً أو غير قدوة، كما هو معروف عند كثير من الناس، بعض الأئمة يتمسك بالإمامة كما يتمسك بألذ شيء، لماذا؟ لأجل الراتب؛ لكنه لا يتقن الفاتحة، ولو تقدم شخص عليه ضاربه ولو في المسجد: كيف تتقدم وأنا عندي بطاقة وأنا إمام؟ يا أخي، هذا أقرأ منك، (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله).
لكنه يخاف أنه يقدمه، فيذهب في الغد ويقدم في وزارة الأوقاف ويأخذ الراتب ويتركه، فتراه يرابط على الإمامة وهو ليس أهلاً لها.
أو يكون جاهلاً، أو غافلاً في صلاته؛ يكبر ويصلي؛ ولكنه لا يشعر أين هو! يسرح فيبيع ويشتري، ويأخذ ويعطي والناس وراءه، حتى إن بعض الناس يصلي ويسهو والسهو هذا يرد يا إخوان.
تصوروا أنه لا يوجد إمام إلا ويغلط، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سها يوماً في صلاته، قال العلماء: إنه لا يسهو في صلاته من تفكيره في الدنيا؛ لكن لبيان مشروعية هذا، وأنه أمرٌ قد يقع، فسها يوماً في صلاة الظهر فصلى ركعتين ثم سلم، فالصحابة سكتوا؛ لأنهم يعرفون أنه لا يسلِّم إلا بوحي، فكان هناك شخص اسمه: ذو اليدين من الصحابة، أي: يداه طويلتان، كانت يداه إلى ركبتيه من طولهما.
قال: (يا رسول الله! أقُصِرَت الصلاة أم نسيتَ؟ قال: لَمْ تُقْصَر ولَمْ أنسَ، قال: بل نسيتَ، فقال الصحابة: بلى، نسيتَ يا رسول الله! فاستدرك، واستقبل القبلة، وصلى ركعتين، ثم سجد للسهو، وسلَّم).
فالسهو يَرِدُ؛ لكن بنسبة قليلة نادرة، فالرسول عليه الصلاة والسلام سها مرة في حياته كلها، وأنت تسهو مرة في عشر سنوات، أو في خمس سنوات، أو في سنة؛ لكن الذي يسهو كل يوم، ما رأيكم في هذا الإمام؟ كل يوم في صلاة الظهر إذا كانت أربعاً فإنه يجعلها خمساً، والمغرب ستاً، أو اثنتين.
أين أنت يا إمام؟ فإذا بالمسكين يبيع ويشتري، ويحل المعاملات، ويعمل كل شيء.
وبعضهم يزيد والجماعة لا يدرون، فلا يسبحون ولا أحد يشعر به؛ لأن كل واحد في وادٍ، نعم.
لماذا؟ لأن الصلاة مُهْمَلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! حتى قال بعض أهل العلم: إن خشوع الإمام يؤثر على خشوع المصلين.
خشوع الإمام إذا كان صالحاً فإن قراءته تؤثر في المؤمنين، وإذا كان الإمام غير خاشع فالذين وراءه لا يخشعون إلا مَن عظم الله عزَّ وجلَّ.
فهؤلاء المؤذنون فضلهم عند الله عظيم، فهم أطول الناس أعناقاً يوم القيامة لما روى مسلم في صحيحه، قال عليه الصلاة والسلام: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة) وعليك ألا تتصور أن طول رقاب المؤذنين مثل رقاب الجِمال، لا.
بل هي طول جمال، لا طول تشويه، وطبعاً الآن يتفاخر الناس بطول العنق، إذا أراد شخص أن يتزوج قال: ما شاء الله عنقها مثل عنق الغزال؛ لكن إذا كانت رقبتها لاصقة برأسها، فإنه يقول: هذه لا تصلح.
فعنق المؤذن يوم القيامة ليس طوله طول تشويه، لا.
بل طول جمال، يزيد الله في عنقه جمالاً حتى يكون مميزاً بين الناس؛ لماذا؟ لأنه من أهل من رفع لا إله إلا الله على الأرض.
وأيضاً لماذا يكون عنقه طويلاً؟ لأن عمله جليل وعظيم، فأطال الله عنقه ليُعرف بهذا العمل العظيم.
والمؤذن يشهد له كل شيء سمع صوته يوم القيامة، كل شيء يسمع أذانك وأنت ترفع الأذان في الدنيا يشهد لك يوم القيامة، والحديث عند البخاري وهو صحيح، يقول عليه الصلاة والسلام لـ عبد الرحمن بن صعصعة وكان رجلاً يأتي عند الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجلس أياماً يتعلم ثم يرجع، وكان صاحب غنم، يجلس في باديته يرعى غنمه ثم يجيء، وهكذا، قال: (يا عبد الرحمن، إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك وأدرَكَتْك الصلاة وأذَّنْتَ فارفع بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة) حتى الحجر، والشجر، والبحر، والجبال، كلها تأتي يوم القيامة تقول: نشهد أن هذا العبد وحَّدك في الدنيا.
فتصور شهادة الناس، وخاصة بعد هذه المكبِّرات، هذه مِن نِعَم الله على الإنسان، ولذا أوصي أي شاب تتاح له فرصة الأذان أن يؤذن.
بعض الناس يقول: لا أريد الأذان.
لماذا؟! قال ارتباط.
قَدِّر أنها ارتباط؛ لكنه ارتباط على كرامة، ارتباط على ثواب وأجر، ليس على إهانة، إذاًَ أمسك الإمامة! لا أريد الإمامة.
لماذا؟ مسئولية وارتباط.
إذاًَ لمن يعطوا الإمامة والأذان إذا أنت تركتهما؟ أمسكها واربط نفسك عليها، ليس هناك مشكلة، يوم أن تكون مؤذناً في مسجد فستكون مرتبطاً؛ لأنك ليس عندك شغل.
إذا جاء وقت الأذان وأنت في الفصل أو في المدرسة فمباشرة استأذن واذهب للأذان، وإذا جاء وأنت نائم فقُم، إذا جاء وأنت معزوم فاذهب.
ما أعظم الأذان؛ لأنه يربطك بالمسجد! ثم إنك تؤذن قبل العشاء بثلث ساعة، ثم تجلس إلى صلاة العشاء، ومعك ثلث ساعة كم ستقرأ فيها؟ وبعد أذان الفجر إلى وقت الإقامة نصف ساعة، كم ستقرأ؟ المهم أنه سيصبح لك فضل لا يعلمه إلا الله عزَّ وجلَّ.(84/19)
من شاب شيبة في الإسلام
ومن الذين لهم وضع خاص مميز يوم القيامة: الذين يشيبون في الإسلام.
يقول:
إن الملوك إذا شابت عبيدهمُ في رِقِّهم أعتقوهم عتقَ أبرارِ
شخص يقول: يا رب! إن الملك في الدنيا إذا شاب العبد عنده وأصبح شائباً أعتقه، يقول: تعبت وشبت في الخدمة، أنا أعتقك عتق أبرار.
يقول: فيا رب، أعتقني، فقد شاب رأسي وأنا في رقك يا رب العالمين.
الشيب في الإسلام نور يوم القيامة، كل شعرة في وجهك تأتي يوم القيامة بمنزلة المصباح تضيء لك يوم القيامة، لِمَا روى الترمذي والنسائي عن كعب بن مرة في الحديث، -وهذا صححه الألباني في صحيح الجامع - قال عليه الصلاة والسلام: (مَن شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة).
بعض الناس يلطخ هذا النور، إذا بيَّض وجهُه بهذه الشعرات البيضاء من أجل أن تكون دليلاً على وقاره، ونوره يوم القيامة، عَمَد إلى المزيل أو الصباغ الأسود وسوَّد وجهَه، وعندنا إذا أردنا أن نسب شخصاً نقول له: سوَّد الله وجهك، وهذا يسوِّد وجهه بيده، وهذا حرام في دين الله عزَّ وجلَّ؛ لأن هناك حديثاً في صحيح الجامع، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يكون قومٌ في آخر الزمان يصبغون بالسواد كحواصل الحمام، لا يجدون الجنة، ولا يدخلونها، ولا يجدون ريحها).
والنبي صلى الله عليه وسلم قال في أبي قحافة: (غيروا شيب رأسه، وجنبوه السواد).
فإذا شاب وجهك فافرح؛ لأن بعض الناس عندما يرى الشيب في وجهه يخاف! ماذا بك؟ يقول: الناس سيقولون: شائب! إذا جئتُ لأتزوج لا أجد من يزوجني، وإذا رأتني امرأة ووجدتني شائباً قالت: هذا لم يعد عنده فائدة، ولم تعد عنده مصلحة، والناس يقولون: شيبة.
لا يا أخي! بل كلما زاد شيبك زاد وقارك، إياس بن قتادة بلغه الشيب ورأى شيبة في لحيته -وكانت لحاهم طويلة- فلما نظر إلى لحيته رأى الشيبة، فذهب إلى أولاده قال: [يا بَنِيَّ! إني أرى الموت يطلبني وإني أراني لا أفوته، وقد بلغني نذيره -يقول: وصلني نذيره ومرسوله- وقد وهبتُ لكم شبابي، فهبوا لي شيبتي] يقول: تعبتُ عليكم في شَبَّتِي فاتركوا لي شيبتي لنفسي أعبد الله، ثم اعتزل دنياه وسلمها لأولاده، كأنه قد مات، وجلس يعبد الله بالليل والنهار حتى هزل وضعف، فجاء إليه أولاده وقالوا: [يا أبتاه! إنك تموت هُزَالاً، قال: لأن أموت مؤمناً هزيلاً خير لي من أن أموت منافقاً سميناً].
فالشيب: (مَن شاب شيبةً في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة).
ويروي البيهقي في شعب الإيمان، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشيب نور المؤمن، لا يشيب رجل شيبة في الإسلام إلا كانت له نوراً، وكان له بكل شيبة حسنة، ورُفِع له بها درجة).
وللحديث شواهد، ففي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: (لا تنتفوا الشيب)؛ لأن بعض الناس لا يصبغه، وإنما يزيله من أساسه: (لا تنتفوا الشيب فإنه نور يوم القيامة، ومن شاب شيبةً في الإسلام كان له بكل شيبةٍ حسنة، ورفع له بها درجة) وهذا الحديث رواه ابن حبان بإسناد حسن.
وروى ابن عدي والبيهقي في الشُّعَب عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشيب نور في وجه المؤمن، فمن شاء فلينتف نوره) أتريد أن تطفئ نورك؟ إذاً فانتف حتى تأتي يوم القيامة ووجهك مظلم، لكن دع النور في وجهك، حتى تأتي يوم القيامة ووجهك مشع بنور الله عزَّ وجلَّ.(84/20)
المحافظة على الوضوء
من الذين لهم وضع خاص يوم القيامة: أصحاب الوضوء جعلني الله وإياكم منهم.
أهل الوضوء هؤلاء لا أحد يراهم إلا وهم مستعدون للصلاة، هؤلاء استجابوا لله، وأقاموا الصلاة، وأتوا بالوضوء كما أمرهم الله، وكما سن لهم نبيهم صلوات الله وسلامه عليه فهؤلاء يُدْعَون يوم القيامة بآثار وضوئهم غُرَّاً مُحَجَّلين.
الغر: بياض في الناصية؛ أي: في الجبهة.
والحجال: بياض في القوائم.
أهل الإيمان يُعْرَفون يوم القيامة بالوضوء، غُرٌّ يُبَيِّض الله وجوهَهم بآثار الوضوء، ويُبَيِّض الله أقدامَهم وأيديهم بآثار الوضوء، والحديث في صحيح البخاري، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن أمتي يُدْعَون يوم القيامة غُرَّاً مُحَجَّلين من آثار الوضوء).
يقول ابن حجر في شرح هذا الحديث: غُرَّاً، أي: جمع أغر أو ذو غرة، وأصل الغرة: لُمْعة بيضاء تكون في جبهة الفرس، ثم استعملت للجمال ولطيب الذكر، يقال: يوم أغر، جبين أغر، دهر أغر، أي: ليس مظلماً؛ فكذلك المؤمن يوم القيامة وجهه وجهٌ أغر.
كيف ولماذا غُرَّاً؟ مِن آثار الوضوء.
وأيضاً هذه اللُّمعة في جبين أو في جبهة الفرس أو الحصان نوع من الجمال، عندما ترى حصاناً أدهم أو أبيض، وبجانبه حصان أدهم؛ لكن في جبهته لمعة بيضاء، أما تعطيه جمالاً؟ بلى تعطيه.
وكذلك المؤمن يوم القيامة يُعطى جمالاً.
ومُحَجَّلين: أيضاً من التحجيل، وهو بياض يكون في قوائم الفرس، والتحجيل للمؤمن حليةٌ وجمالٌ له وزينةٌ يوم القيامة، يقول عليه الصلاة والسلام: (تبلغ الحلية من المؤمن مبلغ الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته) وقد قيل: إنه من إدراج الراوي، وقيل: من الحديث، أي: يبالغ في إطالة الغرة؛ فإنه يأتي معروفاً بها يوم القيامة، وبهذه الغرة والحلية والجمال النوراني يتميز أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أهل سنته يوم القيامة، وبها يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من بين سائر الخلائق؛ لأن أمة الرسول ليست الأمة الوحيدة التي تبعث يوم القيامة، الأمم منذ آدم إلى يوم القيامة يبعثون كلهم، وتأتي أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيعرفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بآثار الوضوء وبالغرة في جبينهم، وبالتحجيل في قوائمهم، يقول عليه الصلاة والسلام، وقد مر يوماً على مقبرة -والحديث في صحيح مسلم - قال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنَّا قد رأينا إخواننا فقال الصحابة: أوَلَسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني، قالوا: كيف تعرف يا رسول الله من لم يأت بعد من أمتك؟ قال: أرأيتم لو أن رجلاً له خيل غُرٌّ مُحَجَّلة بين ظَهْرَي خيول دُهْمٍ بُهْمٍ ألا يَعْرِف خيله؟! قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غُرَّاً مُحَجَّلين من آثار الوضوء، وأنا فَرَطُهُم على الحوض) وفرطهم أي: السابق لهم، والفَرَط هو الذي يسبقك، يقول: أنا فَرَطُهُم أي: أنا أسْبقهم، وأتقدمهم، وأرحب بهم على الحوض يوم القيامة.
ويروي أحمد في المسند بسند صحيح، عن أبي الدرداء قال: قال صلى الله عليه وسلم: (أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة، وأنا أول من يؤذن له برفع رأسه يوم القيامة، فأنظُرُ إلى ما بين يدي، فأعرف أمتي من بين الأمم، ومن خلفي مثل ذلك، وعن يميني مثل ذلك، وعن شمالي مثل ذلك، قال رجل: يا رسول الله! كيف تعرفهم من الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال: هُم غُرٌّ مُحَجَّلون من آثار الوضوء، ليس أحد كذلك غيرهم، أعرفهم أنهم يؤتَون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم حين تسعى بين أيديهم ذراريهم) نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا وإياكم مِمَّن يُؤَمَّن من الفزع الأكبر يوم القيامة، وممن يظلهم الله في ظل عرشه يوم القيامة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم.(84/21)
الأسئلة(84/22)
حكم حلق اللحية والإسبال
السؤال
أنا رجل في الأربعين من عمري، أحب أهل الخير ومجالستهم، ويشهد الله على ما في قلبي؛ ولكنني أحلق لحيتي وأطيل ثوبي، فهل يعتبر هذا مخالفة للشرع؟
الجواب
يا أخي الكريم! يا من تجاوزت الأربعين! ويا من بلغت أشدك وقربت من النزول؛ لأن الدنيا مثل الجبل، صعوداً إلى رأس الجبل، ثم تنزل من الجهة الثانية، فبعد الأربعين قد بلغ المرء أشده، يعني: لم يعد هناك صعود إلى فوق، لم يعد إلا نزول، فأنت الآن صعدت إلى القمة والآن ستنزل إلى الحضيض.
وأيضاً رزقك الله حب أهل الخير ومجالستهم، فإن حب الخير حب لله، وحب أهل الخير حب لله، ومجالسة أهل الخير مجالسة لله، والشر كل الشر في كراهية أهل الخير، والسوء كل السوء في الإعراض عن أهل الخير.
كن عالماً أو متعلماً أو محباً أو مجالساً، ولا تكن الخامس فتهلك، وهو المعرض والكاره والعياذ بالله.
وما دمت تحب أهل الخير وتجالسهم، فلم يبقَ عليك إلا أن تعمل، ومِن العمل أَلا تحلق لحيتك، وألا تسبل ثوبك، فإنك إن حلقت لحيتك وأسبلت ثوبك فقد وقعت في مخالفة شرعية؛ لأن الأحاديث والأوامر جاءت بالنهي عن حلق اللحية، وجاءت بالنهي والتحريم عن إطالة الثوب بالإسبال، فماذا ينفعك حلق اللحية؟ يعني: بمن تريد أن تتشبه؟ لماذا تعرض نفسك للعذاب وأنت في غنى عنه؟ الذي يحلق لحيته يجد مشكلة مع لحيته، يريد أن يخصص لها كل أسبوع نصف ساعة إن كان بيده، وإن كان عند الحلاق فساعتين، ذهاب إلى الحلاق، وجلسة، وانتظار، ودبغ للحيته، ثم حلق، ثم نقود! ولِمَ كل هذا؟ دع وجهك يا أخي مليئاً، لحيتك في وجهك بدون تعب، هذا في الدنيا، وأما عذابها: فلا شك أنك تخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وتعرض نفسك للعذاب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من رغب عن سنتي فليس مني).
ولما رأى الرجلين اللذين كانا حليقين واللذين جاءا من اليمن وهما كافران، قال لهما بمجرد أن رآهما: (مَن أمركما بهذا؟ قالا: ربنا -يعنيان: كسرى- قال: أما أنا فقد أمرني ربي بإعفاء لحيتي وقص شاربي) فهي من أمر الله.
وقال: (خالفوا المجوس) (خالفوا المشركين) (قصوا الشوارب وأعفوا اللحى) (أكرموا اللحى (أرخوا اللحى) (أسدلوا اللحى).
وأنت رغم كل هذه الأوامر تحلق لحيتك؟ لماذا هذا يا أخي؟ ارفع عنها السكين، وأعلن معها الهدنة؛ فإنك بهذا تقيم سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك إسبال الثوب من المَخِيْلَة، وإسبال الثوب سبب للعذاب، والحديث في صحيح مسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: -وذكر منهم- والمسبل إزاره)، فلا تسبل ثوبك، ولكن اجعل ثوبك إلى نصف الساق، فإن لم تقدر فإلى الكعب، أي: لك مساحة، من نصف الساق إلى الكعب، أكثرُ مِن نصف الساق غُلُوٌّ، دون الكعب وما تحته تفريطٌ، فلا تكن مُفْرِطاً ولا مُفَرِّطاً، بعض الشباب يرفع ثوبه فوق نصف الساق إلى ركبته، وبعضهم يرخيه إلى الأرض، والإسلام وسط وعدل، اجعل ثوبك في المستوى المعروف الذي أتاحته لك السنة، وأسأل الله لي ولك ولجميع المسلمين الهداية.(84/23)
من أوتي القرآن ورأى غيره أفضل منه
السؤال
ذكرتَ في بعض المناسبات أن مَن أوتي القرآن ورأى أن غيره أفضل منه، فقد ازدرى الدين، أو ازدرى نعمة الله، فهل يعتبر ذلك أيضاً فيما لو أننا رأينا أحداً من العلماء أو من الدعاة أفضل منا؟ أرجو توضيح ذلك!
الجواب
لا.
لا يعتبر هذا، الاعتبار هو: مَن أوتي القرآن والعلم والدين، ثم رأى أن غيره من أهل الدنيا ومن أهل المادة ومن أهل الشيء الفاني أفضل منه.
أما إذا رأيت أن غيرك من أهل العلم أفضل منك في القراءة، أو في القرآن، أو في العلم، فالناس يتفاضلون، ولهذا جاء في الحديث: (انظروا إلى من هو دونكم في الدنيا، ومن هو فوقكم في الدين، حتى لا تزدروا نعمة الله عزَّ وجلَّ).(84/24)
معنى قوله تعالى: ((ويؤثرون على أنفسهم))
السؤال
ما معنى قول الله عز وجل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]؟
الجواب
معنى هذه الآية: أن الله عزَّ وجلَّ يصف الصحابة الأنصار، ويصف من سار على أسلوبهم وشاكلتهم إلى يوم القيامة بالإيثار، وهو إعطاء الغير هذا الشيء مع الحاجة إليه.
يُؤْثِرُون أي: يُفَضِّلُون، ويُقَدِّمُون غيرهم في الفضل والخير على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، تجده جائعاً وهو يتصدق، وعارٍ وهو يكسي، وفقير وهو ينفق، وهذا أعظم شيء، فالصحابة رضي الله عنهم كانوا هكذا، ليس عندهم شيء ويعطون الناس، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى} [الإنسان:8] ماذا؟ (حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:8 - 9].(84/25)
حكم أخذ راتب الخميس والجمعة من الدولة
السؤال
هناك أناس يذكرون أن راتب يومي الخميس والجمعة حرام على الموظف! هل هذا صحيح؟
الجواب
لا.
هذا ليس بصحيح، وهذا من الغلو، يوما الخميس والجمعة عطلتان رسميتان أتاحهما النظام وولي الأمر لترتاح فيهما؛ لكي تباشر عملك فيما بعد وأنت نشيط، فتأخذ راتبهما حلالاً، وليس فيه شيء إن شاء الله.(84/26)
معنى ((إنما يخشى الله من عباده العلماء))
السؤال
ما معنى قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]؟
الجواب
معنى هذه الآية، والناس كثيراً ما يغلطون فيها: بعضهم يقول: إنما يخشى اللهُ من عباده العلماءَ، يعني: أن الله يخاف من العلماء، وهذا خطأ، بل {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ} [فاطر:28] لفظ الجلالة هنا: مفعول مقدم، أي: إنما تقع الخشية لله من العلماء: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] فالعلماء فاعل مؤخر، ولفظ الجلالة مفعول مقدم، وقُدِّم للاختصاص، فإنها لا تقع الخشية إلا لله، كما قُدِّم المفعول على الفاعل والعامل في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:4] لَمْ يقل الله: نستعين بك ونعبدك؛ بل قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:4] فتقديم المعمول على العامل من أجل بيان الاختصاص، وهذا سبب تقديمه هنا.(84/27)
الدخول بالبنات يحرم الأمهات والعقد بالبنات يحرم الأمهات
السؤال
تزوجتُ ثم طلقتُ قبل الدخول بها، وهذه الزوجة ابنة عمي، فهل تصبح أمها بعد الطلاق من المحارم؟
الجواب
نعم.
تحرم عليك الأم قبل الدخول ببنتها؛ لكن لا تحرم عليك البنت بالعقد على أمها، إذا تزوجت بامرأة وعقدتَ عليها، وكان لها بنت ولم تدخل بالأم فالبنت لا تصبح أنت محرماً لها، فالأمهات يحرمن بالعقد على البنات، والبنات يحرمن بالدخول على الأمهات.(84/28)
يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب
السؤال
لي أخت من الرضاعة رضَعَت معي مدة طويلة، فهل أنا محرم لها؟ وهل يجوز أن تكشف وجهها لي أثناء الطعام؟ وهل توبتي مقبولة من المعاصي التي كنت أعملها، واليوم والحمد لله رجعت إلى الله، وما هو رأيكم؟
الجواب
أختك من الرضاعة التي رضعتَ من أمها، أو رضَعَتْ هي من أمك مدة شرعية وهي: خمس رضعات، أصبحت أختك كأختك من النسب، فتحرم عليك، ويحل لها أن تكشف عليك، وتنظر إليها، وأنت محرم لها كما لو كانت أختك من النسب، غير أنك لا ترثها ولا ترثك، فيحرم فقط النكاح، ويجوز أن تكشف عليك.
أما توبتك من الذنوب فإنها مقبولة إن شاء الله إذا توفرت فيها شروط التوبة الصحيحة، وهي: 1 - الإقلاع عن الذنب.
2 - الندم على ما فات.
3 - العزم على عدم العودة إليه.
4 - إذا كان متعلقاً بآدمي فتتحلل من صاحبه.(84/29)
أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل
السؤال
أنا امرأة أسال عن حكم: أنني في بعض الأيام لا أصلي التهجد بسبب أن ابنتي صغيرة، وأكون في بعض الليالي والأيام مريضة؟
الجواب
ليس هناك شيء؛ إذا كانت هناك امرأة تتهجد في الليل؛ لكن حصل عندها أن ابنتها مريضة، وسهرت عليها، وما عندها وقت لتقوم وتصلي، فما عليها شيء إن شاء الله، وإن كان أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، والمؤمن إذا عمل عملاً فيستحب له أن يداوم عليه حتى لو كان قليلاً، ولا يكون كالمُنْبَتِّ الذي لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع؛ ولكن هذه المرأة طالما وأن لها عذراً في تركها فلا شيء عليها إن شاء الله، وعليها أنها تستمر حينما يذهب هذا العائق.(84/30)
الرضاعة تحرم على الراضع
السؤال
أنا شاب أردت أن أخطب ابنة عمي؛ ولكني وجدتُ أن أخي رضع مع أخيها من أمها، فهل يجوز لي الزواج منها أم لا؟ ووالدتي لا تدري كم عدد الرضعات التي رضعها أخي وأخوها؟
الجواب
إذا كان أخوك هو الذي رضع من تلك المرأة، فإنه يصبح أخاً لجميع الأبناء الذين خرجوا من صلب هذا الرجل ورضعوا من لبن هذه المرأة، أما أنت فلا.
وليست لك علاقة، ويجوز أن تتزوج بالبنت التي رضع أخوها مع أخيك، إلا إذا كانت هي رضعت من أمك، أما إذا كان رضاعاً متبادلاً فقد أصبحت أختك، أما فقط من أمها فالرضاع يحرِّم على الراضع، ولا ينتشر إلى غيره.(84/31)
حكم استعمال صبغة الشعر
السؤال
كثير من الناس يستخدمون صبغات للشعر في الرءوس والأذقان، منها: الأسود، ومنها: الأحمر، فما حكم استعمال هذه الصبغات؟
الجواب
لا يجوز استعمال أي صبغة إلا ما بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وجنِّبوه السواد)؛ ولكن الحناء وهو معروف، والكتم وهو مادة توضع على الحناء وتخلط بها ثم توضع على اللحية فتبدو اللحية بُنّية اللون، ليست حمراء ولا سوداء، وإنما بين السواد والحمرة، فهذا ليس فيه شيء، أما السواد الخالص أو الألوان البراقة التي تستخدمها النساء؛ كألوان المكياج، فهذا لا ينبغي، وطبعاً السواد يحرُم على الرجل والمرأة، فكما هو محرّم على الرجل فكذلك المرأة يحرم عليها إذا كانت عجوزاً أن تذهب لتلطخ رأسها وقصتها بالسواد حتى تبدو كأنها شابة؛ لأن التغرير محرّم، سواءً على الرجل أو على المرأة.(84/32)
الفرق بين الهدية والرشوة
السؤال
ما الفرق بين الهدية والرشوة؟
الجواب
الفرق بين الهدية والرشوة أن الهدية ليس لها مبرر إلا الحب أو الصلة، أو المعرفة، تهدي لشخص بينك وبينه معرفة، أو صداقة، أو محبة، وليس لك من ورائها أي منفعة دنيوية.
أما الرشوة فتقدمها لشخص ولكن لك عنده غرضٌ، إذا كان موظفاً أو مديراً أو أميراً، أو كان في أي وظيفة ولك معاملة عنده، وتعرف أنها لا تمشي إلا بشيء، فتقدم له هدية، فإذا أكمل العمل انتهى، هذه هي الرشوة تلبس ثوب الهدية، وهي ممقوتة ومحرمة.
أما إذا كان شخصٌ بينك وبينه صداقة، فأهديت له فليس فيه شيء: (تهادوا تحابوا).(84/33)
مجالسة تارك الصلاة
السؤال
لي زملاء لا يصلون، وأنا أجلس معهم، وآكل معهم، وأذهب إلى الصلاة وأتركهم، وأنا أعرف أنهم لا يصلون، فماذا أفعل، وبماذا تنصحني؟
الجواب
أنصحك بسرعة مفارقتهم ما داموا لا يصلون فإنهم كفار، ولا يجوز مؤاكلة الكافر ولا مشاربته ولا الجلوس معه، وإذا كنت قد نصحتهم فالحمد لله، وإذا كنت لم تنصحهم فامكث معهم فترة تنصحهم، وبيّن لهم خلال فترة زمنية معينة الحكم الشرعي، فإن استجابوا فالحمد لله، وإن لم يستجيبوا فاتركهم واذهب، فإنهم قومٌ ذو جرب، ونخشى عليك أن يصيبك مِن جَرَبِهم.(84/34)
بيان الأجانب والمحارم من الأقارب
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تكشف على زوج خالتها، وزوج عمتها، وأخو زوجها، وزوج أخت زوجها، وزوج أختها، وعم زوجها، وخال زوجها، وابن عم والدها؟
الجواب
لا؛ لأن زوج خالتها أجنبي، ولو طلق خالتها لجاز له أن يتزوجها، وزوجُ عمتها كذلك؛ لأن زوج عمتها أجنبي عنها، لو طلق عمتها لجاز له أن ينكحها، وأخو زوجها لا يجوز لها أن تكشف له، بل هو الحمو، والحمو الموت، والحديث في الصحيحين: (الحمو الموت، الحمو الموت، الحمو الموت).
وزوجُ أخت زوجها وزوج أختها لا تكشف عليهما؛ لأنهم أجانب عنها، وعمُّ زوجها أخ لأبي الزوج لا يجوز أن يكشف عليها؛ لأن زوجها لو طلقها لجاز لذلك الأول أن يتزوجها، وخالُ زوجها: لا يجوز، وابنُ عم والدها: لا يجوز كذلك.
كل هؤلاء من الأقارب الذين لا يحل لهم، وهناك ضابط في الموضوع، وهو: أن المحرمات على قسمين: 1/ محرمات على التأبيد.
2/ محرمات على التوقيت.
فمن حرمت على الإنسان على التأبيد جاز له أن يكشف عليها.
ومن حَرُمَت مؤقتاً لَمْ يَجُز، الآن زوجتك محرمة عليَّ الآن؛ لأنها في عصمتك؛ لكن لا يجوز لها أن تكشف لي؛ رغم أنها محرمة عليَّ، لأنك لو طلقتها لجاز لي أن أنكحها، أليس كذلك؟ وكذلك امرأة أخيك محرمة عليك؛ لأنها امرأة أخيك، لكن لو طلقها أخوك أو مات عنها لجاز لك أن تنكحها.
أما التي يجوز لها أن تكشف عليك -سواءً كانت مزوجة أو غير مزوجة- فهي التي لا يجوز أن تنكحها إلى الأبد؛ لأنك مَحرم لها.(84/35)
حكم اللعن
السؤال
ما حكم لعن الزوج لزوجته وما حكمه مازحاً؟
الجواب
لا يجوز لعن الزوج لزوجته، وهو محرم، ولا يجوز لعن الزوج لأي شيء أو الزوجة أو غيرهما، فاللعن هو: الطرد والإبعاد عن رحمة الله.
وصدق السائل: هناك بعض الناس يمزح ويقول لزوجته: اسقيني الله يلعنكِ، أين السقاء؟ أين العشاء ما جاءنا اليوم؟ ما للعشاء اليوم ليس حسناً؟ الله يلعنك! فتقول: أنت أنت متكبر الله يلعنك! ويضحكون واللعنة تمشي، هؤلاء سماهم النبي صلى الله عليه وسلم (الصَّقَّارون)، تحيتهم: اللعنة.
فلا يجوز اللعن، لا جاداً ولا مازحاً، ومن وقع فيها فليتُب إلى الله عزَّ وجلَّ؛ ولكنه ليس طلاقاً كما يفهم بعض الناس، بعض الناس يقول: لعنتُ زوجتي، ما رأيكم؟ نقول: أخطأتَ وأذنبتَ، وعليك أن تسترضيها، وأن تستغفر الله, وأن تحسن إليها، أما أنه طلاق فلا، الطلاق له عبارات وله كنايات، إذا لم يقع بالعبارات الصريحة فبالكنايات التي يُفهم منها حصول الطلاق، أما هذا فليس طلاقاً.(84/36)
حكم تطويل الأظافر
السؤال
ما حكم تطويل الأظافر؟
الجواب
تطويل الأظافر مخالفة للسنة؛ لأن من السنة: (خمسٌ من الفطرة: وذَكَرَ منها: تقليم الأظافر).
وانظروا إلى البشرية يوم أن حادت عن السنة، عادت إلى شريعة القطط والكلاب، فتنظر إلى المرأة وقد أطالت أظافرها وكأنها قطة، ثم صبغتها باللون الأحمر وكأنها كانت تنْخُش دماً، وصبغت فمها باللون الأحمر وكأنها طلته بدم، ويرون هذا جمالاً! ما هذا الجمال؟! هذا جمال القطط والكلاب والعياذ بالله.
فلا ينبغي لك أن تطلق أظافرك، ولا أظافر زوجتك، بل عليك أن تتعاهدها وتقلِّمها لِمَا في ذلك من الضرر.
والعلماء يحققون ويقولون: إن في التقليم مصالح كثيرة: أولاً: أن الأقذار والجراثيم تستقر تحت الأظافر، فلا تستطيع أن تظل تخلِّل وتنظِّف أظافرك كل مرة؛ لكن قلمها، وانتهى! ثانياً: إذا حصل خصام أو مضاربة وعندك أظافر فهذه تصير مثل الأسلحة؛ ومثل السكاكين، انظر إلى أولادك إذا تخاصموا وفيهم أظافر، كيف ترى بعضهم يخمش بعضاً، وكأنهم تجارحوا بسكاكين، وكذلك إذا خاصمتَ امرأتك وعندها أظافر فإنها تخمش وجهك، وترسم في وجهك خريطة بأظافرها، فاجعلها تُقلِّم أظافرها، حتى إذا حدث شيء تكون في أمان، أي: لن يحصل لك شيء وإن وصلك منه شيء لا يسيل دمك.(84/37)
حكم قطيعة رحم من وصلته فطردك وقطعك
السؤال
رجل يقاطع أرحامه، وعندما يذهبون إليه يطردهم، ويسألهم بالله أَلا يذهبوا لزيارته، ولا يدخلوا بيته، فماذا يفعلون؟ هل يستمرون في ذلك أم يقاطعونه؟
الجواب
هذا الرجل مخطئ وآثم، وقد باء بإثمهم وإثمه؛ لأنه ينبغي لك إذا وجدت أيَّة بادرة من الناس الذين بينك وبينهم شيء أن ترحب عندما تراهم، قل: أهلاً، حياك الله، لتكبر فيه نفسَه التي عندها حماس أنها تلغي الصلة التي بينك وبينه.
أما أن يأتيك إلى بابك، ويدق عليك، وتقول: قولوا له ليس موجوداً، أو تجبه من أعلى، أو تقول له: أنت مطرود من بيتي، فهذا قد برئت ذمته، ويكون على هذا الشخص الإثم من الطرفين، وأنت يا من عملت ماذا تفعل؟! استمر في المناسبات والأعياد، ودعه يقول لك: مطرود، قل: حسناً! اللهم فاشهد عليه أنني جئت إلى بابه.
فهنا يبوء بإثمك وإثمه.(84/38)
معنى التعدي في قوله: (من تعدى فقد أساء وظلم)
السؤال
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن تعدى فقد أساء وظلم) هل المقصود به الزيادة على الغسلات الثلاث في الوضوء، أم الزيادة على أعضاء الوضوء المحدودة؟ أرجو التوضيح!
الجواب
هذا الحديث ورد في صحيح مسلم بالأمر في الاقتصاد أثناء الوضوء ولو كان على نهر، وعليك أن تتعود على الاقتصاد حتى في بيتك، فإذا جئت لتفك الصنبور فليكن بقدر حاجتك إلى الماء , وإذا لم تحب أن تغلقه بحيث يكون مستمراً ففكه قليلاً، وهكذا.
أما أن تفك الصنبور إلى آخر شيء، وتظل تغسل، فإنك تغسل بقليل في يديك، والباقي مثله عشر مرات يذهب في غير يديك، فهذا من الإسراف.
ثم تغسل مرة أو مرتين، والسنة ثلاثاً، ومن تعدى أي: تجاوز العدد، فقد أساء وتعدى وظلم، والمجاوزة والتعدي والظلم ممقوت في دين الله عزَّ وجلَّ، والمقصود به: الزيادة على الثلاث، والزيادة أيضاً على الأعضاء، مثل: شخص يريد أن يغسل رجليه فيغسلهما إلى بطنه، لا.
هذا لم يعد غسلاً، وبدلاً من أن يمسح رأسه يدخل رأسه تحت الصنبور ويغسله، لا.
هذا أيضاً تعدٍّ، تقيَّد بالشرع ومارسْ حدود العبادة فيما أحل الله، وفيما أباح الله تبارك وتعالى.(84/39)
حكم توكيل المؤذن في الأذان
السؤال
أنا مؤذن في جامع ولي أشغال؛ ولكنها ليست دائمة، ووكَّلتُ شخصاً معروفاً باستمراره في المسجد غالب وقته قبل الأذان وبعد الصلاة؛ فغالب الوقت لا أذهب إلى الأذان اعتماداً على الله ثم على ذلك الرجل الذي قال لي: أيُّ يوم تغيب فيه عن المسجد أنا وكيلك فيه على الأذان!
الجواب
المهم أن يكون المسجد عامراً سواءً بك أو بمن توكله، لا تضيع فريضة الله، فإذا كان عندك شغل؛ لأنه لا يوجد شخص في الدنيا يسلم من الأشغال، حتى الملك يأخذ له إجازة، ويرتاح من عمله قليلاً، والوزراء يأخذون إجازات، ولا يوجد شخص يمكث على عمله (100 %) لا بد أن ينتاب الإنسانَ ظرفٌ؛ إما أن يسافر أو يذهب أو تحصل له ضيافة أو يذهب إلى عمرة أو إلى حج أو يستضاف، فهذه العوائق ترد على البشر، لا نريد أن نقول للإمام والمؤذن: كونا مواظبين لا تذهبا، أو لا تتركا، لا.
بل إذا حصل عندك ظرف من هذه الظروف وأنت إمام أو مؤذِّن فوكِّل.
ولكن الممقوت أن تكون موجوداً ولا تؤذن، أو تكون موجوداً ولا توكِّل، أو تذهب ولا توكِّل، فيضيع المسجد، هذا لا يجوز في دين الله وأنت آثم به.
لكن ما دام الأمر قائماً، والعمل تام بفعلك، أو بفعل وكيلك، فليس هناك شيء إن شاء الله.(84/40)
جمال طول رقاب المؤذنين
السؤال
بالإمكان أن توضح جمال طول الرقاب بالنسبة للمؤذنين؟
الجواب
قد بيَّنتُ دون أن نتعرض لغير الجميل؛ لأن العبرة هي التقوى كما تعلم، جزاك الله خيراً.
وأنا لا أتعرض لنوعٍِ من التجريح للذي ليس رقبتُه طويلة؛ لأن ربي هو الذي خلق الرقاب، لستُ أنا، ولا الشخصَ نفسَه الذي خلق رقبته؛ لكني أبيِّن أن طول الرقاب نعمة من نعم الله وجمال، فإذا منّ الله عليك بأن كانت رقبتك طويلة في الدنيا، وأيضاً رقبتك طويلة في الآخرة من الأذان فهذا جمالٌ، أما إذا لم يجعل الله عز وجل رقبتك طويلة، فما عليك إلا أن تصبر على خلق الله عز وجل، وليس معنى هذا: أن فيك عيباً أو قدحاً! لا.
فإن الخالق لك هو الله، والذي يعيب الصنعة إنما يعيب الصانع.
أسأل الله الإعانة والتوفيق.(84/41)
وقرن في بيوتكن
خلق الله الخلق ليعبدوه، وأرشدهم إلى سبل طاعته، وفتح لهم أبواب النجاة، وركب فيهم ما يوصلهم إلى بر الأمان بسلام؛ فجعل فيهم عقلاً يفكر، ونفساً تلوم، وجسداً يعمل، وروحاً متعلقة بخالقها، وقلباً هو ملاك ذلك ليرشدهم إلى ما فيه الخير والصلاح، فهذه خمسة أجزاء للإنسان تعمل فيه كيما يطيع ربه.(85/1)
الغاية من خلق الإنسان
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيتها الأخوات في الله: ما معنى أن يعيش الإنسان سبهللاً؟ وما قيمة الإنسان إذا لم يكن لعيشته هدف أو غاية؟ وتتنوع الغايات والأهداف في حياة الناس بحسب توجهاتهم ومعتقداتهم.(85/2)
استحالة خلق الإنسان عبثاً
لقد ظن قومٌ أن هذه الحياة فرصة للأكل والمتع والشهوات واللذائذ، فتنافسوا على الرغيف، وقضوا حياتهم في تلبية نزواتهم وشهواتهم ومتعهم ولذائذهم، وهذه الأهداف أهداف هزيلة وضئيلة لا قيمة لها؛ لأن الإنسان يشارك فيها الحيوان، والحيوانات لا تتجاوز أهدافها في هذه الحياة هذه الأهداف.
والله تبارك وتعالى يعيب على الكفار أن تكون تحليلاتهم لهذه الحياة عند هذا المستوى، فيقول جل ذكره: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12]، ويقول عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] ويقول سبحانه وهو يخبر أن هؤلاء هم الذين ذرأهم الله للنار: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
إذاً: ليست الأهداف من خلق الإنسان أن يأكل ويشرب، ويتمتع وينكح وينام؛ هذه أهداف البهائم إذاً ما الهدف؟ هل يعيش الإنسان من أجل أن يموت؟ لأن نهاية الحياة الموت، لقد كان عدماً قبل أن يأتي، فلو كان الغرض من خلق الإنسان أن يموت لتركه الله في الأصل؛ عدماً، إذ ما معنى أن يأتي عبر تلك المراحل الشديدة، تسعة أشهر في معاناة وحمل وكره من قبل الأم، ثم وضع في كره، ثم إرضاع سنتين في تعب، ثم تربية إلى أن يكبر، ثم مجاهدة في الحياة وتعب ومعاناة وأمراض، وكد وكدح، والله تعالى يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] والكبد: هو المعاناة، ثم بعد ذلك يموت وتنتهي الرحلة ولا يكون أي غرض غير هذا؟! أيخلق الإنسان من أجل أن يعاني ويتعب، ويكد وينصب ثم يموت؟ لا والله! إن الله عز وجل منزه عن العبث، يقول الله عز وجل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116] ويقول عز وجل في آية أخرى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} أي: عبثاً: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: هذا زعم الكفار: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27].
ويقول تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:16 - 18].(85/3)
أمران يحددان للإنسان الغاية من خلقه
إن الإنسان لا معنى لوجوده، ولا قيمة له ما لم يفهم أمرين رئيسين، فإذا فهمهما تحدد سيره، واستقام خطوه على درب الحياة، هذين الأمرين هما: الأمر الأول: أن يعرف من هو.
والأمر الثاني: أن يعرف لماذا خلق.
إذا فهم وعرف هذين الأمرين فإنه بلا شك تتغير نظرته إلى الحياة، ويتغير منهجه، ويعرف أنه مخلوق مميز، يقول الشاعر في الإنسان:
دواؤك فيك وما تبصر وداؤك منك وما تشعر
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
الإنسان مخلوق مميز بنص القرآن، يقول الله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأنزل عليه كتبه، وبعث إليه برسله، وهيأ له جنته إن أطاعه، وتوعده بناره إن عصاه.
هذه وظيفة الإنسان، لا يمكن أبداً أن يعرفها إلا من خلال معرفة الأمرين اللذين سوف نذكرهما إن شاء الله: من أنت أيها الإنسان؟ والذي يؤسف له -أيتها الأخوات- أن الإنسان رغم تطوره وثورة المعلومات التي يوصف بها هذا العصر، ورغم العلم والتكنولوجيا، وغزو الفضاء، وتفجير الذرة، وتطويع المادة رغم كل هذه العلوم إلى الآن لا يعرف نفسه! صحيح أنه يعرف الكائن الجسدي، وهذا ليس الإنسان فقط، فالكائن الجسدي جزء واحد بسيط من مكونات الإنسان، لكن البشرية اليوم لا تعرف إلا هذا الكائن، تعرف الهيكل العظمي المربط بتلك الأعصاب، والمغطى بتلك اللحوم والعضلات، الذي تجري بداخله تلك العروق، ومركبة فيها تلك الأجهزة: سمعي، وبصري، وهضمي، وتنفسي، وتناسلي، وعظمي كل هذه الأجهزة! هذا هو الإنسان في نظر الناس الآن، وهل هذا هو الإنسان؟ لا.
هذا جزء من الإنسان، وهذا الجزء لا يتعلق به مدح ولا ذم، ولهذا لم يأت في كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله مدح الناس بناءً على أجسامهم، بل ذم الناس إذا نظروا إلى هذا المعيار أو هذا المقياس، قال عز وجل في المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] أجسام لكنها خشب؛ نظراً لأن قلوبهم خاوية من الإيمان، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
وجاء في القرآن في آية واحدة في سورة البقرة ثناء على الجسم لكن تبعاً للإيمان والعلم، وذلك في قصة طالوت، قال الله عز وجل: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] فإذا آتى الله الإنسان بسطة في العلم والإيمان وزاد الجسم كان ذلك طيباً لقوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير) لكن جسماً بغير دين ولا علم ولا إيمان لا يغني ولا ينفع:
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتبعبت نفسك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
لم تكتسب إنسانيتك أيها الإنسان من جسدك، ففي البهائم والحيوانات من هو أقوى من الإنسان، البعير أكبر جسماً من الإنسان، والأسد أقوى عضلات من الإنسان، والفيل أضخم جسماً من الإنسان، وهناك حيوانات أكثر ذكاء من الإنسان، الثعلب من أذكى المخلوقات، وهو أذكى من الإنسان، الثعلب بدهائه وبمكره يستطيع أن يغلب الإنسان في كثير من الأمور، بل حتى البعوضة تمتص دم الإنسان ولا يستطيع أن يمتنع منها.
إذاً! ليس سر التكريم في الإنسان هو الجسد؛ الجسد هو بمنزلة الجهاز، وهذا الجهاز لا يعمل بمفرده، لا بد من تشغيل له، وهو الذي سوف نتحدث عنه إن شاء الله الآن.(85/4)
أجزاء الإنسان الخمسة أهميتها ودورها
فأولاً: من الإنسان؟ الإنسان مكون من خمسة أجزاء رئيسية:(85/5)
الجزء الأول: الجسد
وهو أقلها شأناً، بدليل: أنه إذا تخلت الأجزاء الأربعة البقية عن الجسد لا يبقى له قيمة.
إذا مات الإنسان ما الذي يخرج من الإنسان؟ عينه موجودة في الجهاز البصري، وأذنه موجودة في الجهاز السمعي، وقلبه موجود، وكليتاه موجودتان، ورئته موجودة، والكبد موجود، وجميع الأجهزة موجودة، لكن من يأخذ هذا الإنسان ولو بريال واحد؟ لا أحد يشتريه، وإنما يحول مباشرة إلى المقبرة وينتهي ما لك قيمة إلا بقدر ما للأشياء الأخرى الأربعة من قيمة! هذا الجسد الذي ذكرناه لسنا بحاجة إلى الإطالة في موضوعه؛ نظراً لأن الناس قد اهتموا وبالغوا فيه، وجعلوا كل اهتماماتهم مركزة على حماية الجسد؛ إذا مرض الجسد عالجوه، وإذا جاع الجسد أطعموه، وإذا عطش سقوه، وإذا برد أدفئوه، وإذا احتر بردوه حياة الناس حياة جسد، لكن الحياة الأخرى التي هي أجزاء الإنسان هي التي أهملت في حياة الناس ولهذا يعيشون حياة أقرب إلى البهيمية منها إلى الإنسانية المكرمة، والتي يقول الله تعالى فيها: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] هذا الجزء الأول، أي: الجسد.(85/6)
الجزء الثاني: الروح
وهذه الروح هي الطاقة المشغلة لجهاز الجسد، فما دامت الروح موجودة في الجسد فإنه يعمل، وإذا ما خرجت الروح يتوقف الجسد عن العمل؛ مثل التلفاز عندما ينقل الصورة، يعمل عن طريق طاقة الكهرباء، إذا فصلنا الكهرباء لا يعمل، رغم أن الشاشة موجودة واللاقط موجود، والعدسة التي تنقل الصورة موجودة، لكن فصلنا الطاقة التي تشغل كل هذه الأجهزة.
وكذلك الجسم الجسم موجود، لكن إذا خرجت الروح التي كانت تشغل هذا الجسد توقف، ولهذا تسمعون عن عمليات زرع الأعضاء، تخرج الروح من جسد إنسان فيأخذون قلبه ويزرعونه في قلب إنسان آخر لا تزال الروح فيه، فيشتغل القلب في الإنسان الجديد، رغم أنه قد توقف في الإنسان الأول، ما الذي أوقفه هنا؟ عدم وجود المشغل وهي الروح، ولماذا اشتغل هناك؟ لأن الروح موجودة إذاً الحياة ليست في القلب، الحياة في الروح، وكذلك الكليتان؛ تؤخذ من الشخص الذي يراد نزع الكلية منه وقد توقف، فيأخذونها ويضعونها في إنسان حي فتعمل، من شغلها؟ إنها الروح.
إذاً ما هي الروح؟! هذا شيء استأثر الله بعلمه، ولم يخض فيه حتى سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه، ولما سأله اليهود عن الروح فوض أمره إلى الله وقال: حتى أتعلم من ربي، وجاءه الجواب من الله عز وجل في سورة الإسراء: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85].
ولما استأثر الله بعلم الروح بقي الناس إلى يومنا هذا، وإلى قيام الساعة لا يعلمون شيئاً عن الروح، ولو أمكن الوصول إلى حقيقتها ومعرفة أسرارها لما خفيت على الإنسان في هذا الزمان، خصوصاً بعد الكشف العلمي الهائل، الذي اكتشفوا فيه حتى الفيروسات وصغار الجراثيم.
يوجد الآن ميكروسكوب إلكتروني يكبر الأجزاء والأجسام، يكبرها ثلاثة مليون مرة، فلا يوجد شيء خفي الآن، لكن الروح هل استطاعت البشرية اليوم أن تعرف عنها شيئاً؟ ما عرفت، وقد قرأت قبل فترة أن طبيباً في أمريكا أجرى أبحاثاً على الروح، وأحضر مريضاً في ساعاته الأخيرة يلفظ أنفاسه، وسلط عليه أجهزة دقيقة لقياس الحركات التي تدخل عليه وتخرج منه، عبر الأجهزة، وعبر صناديق زجاجية وهذا رصد دقيق وبعد ذلك مات الرجل ولم تسجل تلك الأجهزة أي حركة، بمعنى أن الروح لا يمكن ضبطها من قبل الإنسان ولا معرفة سرها؛ لأن الله عز وجل قال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85].
وما دام من أمر الله فلا يمكن أن يطلع عليها أحد إلا بأمر الله، ومن الذي يطلع عليها؟ كان من الممكن أن يطلع عليها النبي صلى الله عليه وسلم، عن طريق الوحي، فهو المبلغ عن الله وما بلغنا شيئاً عن الروح، ولكنه صلى الله عليه وسلم أخبرنا بحديث واحد فقط، قال صلى الله عليه وسلم: (أول ما يتبع الروح البصر).
وأمرنا إذا حضرنا جنازة ميت أن نغمض عينيه إذا مات؛ لأن الروح إذا خرجت فالبصر يلحقها، ولهذا تجد عيني الميت مشخصة إلى الأعلى، فأمرنا الشرع أن نطبق عينيه وأن نغمض عينيه، هذا كل ما نعرفه من الروح، أما أين هي؟ وما حقيقتها؟ ومتى تأتي؟ ومتى تذهب؟ فقد أخبرنا الله عز وجل أن الروح يحصل لها مفارقة للجسد في حالتين: الحالة الأولى: حالة الموت.
الحالة الثانية: حالة النوم.
فحالة الموت تفارق الجسد نهائياً، ولا تعود إليه إلا يوم القيامة.
وحالة النوم: تفارق الجسد مفارقة مؤقتة، وتبقى على اتصال بالجسد، لكن تجد النائم لو وضعت عند أنفه رائحة عطر هل يشمها وهو نائم؟ لا.
ولو فتحت عينيه ووضعت أمامه منظراً لا يراه وهو نائم، ولو تكلمت عند أذنه بكلام بسيط لا يسمع وهو نائم لماذا؟ لأن الذي يسمع ويشم ويرى غير موجود وهي الروح، تريده أن يشم؟ تريده أن يسمع؟ تريده أن يرى؟ أيقظه يشم الرائحة، ويسمع الأصوات أين كانت الروح أثناء النوم؟ لا ندري، وقد كنت مرة وأنا أتهيأ للنوم أفكر كيف يمكن أن يأتي النوم؟ ومن أي باب يدخل، ومن أي شباك يأتي؟ وبقيت أفكر وجعلت البطانية تحت قدمي، ثم جعلت البطانية من عند رأسي ثم أدخلتها من تحت جنبي الأيسر، وأفكر الآن.
كيف أنام؟ وفجأة وإذا بي أنام وأنا لا أدري، يقول الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر:42].
ولهذا جاء في الحديث أن العبد إذا قام من النوم يقول: (الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور) ويقول إذا أتى لينام: (باسمك ربي وضعت جنبي، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها -أي أعدتها- فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين).
هذا كل ما نعرفه عن الروح، أما غير ذلك فلا نعرف، هذه هي سر من أسرار الله التي لا نطلع عليها، ولن نطلع عليها، ولم يطلع عليها أحد إلى يوم القيامة، هذا الجزء الثاني من أجزاء الإنسان.(85/7)
الجزء الثالث: النفس
وهذه النفس يسميها العلماء مستشار أول للقلب، إذا أراد القلب أن يعمل عملاً أو يصدر أوامر إلى العين أو الأذن أو اللسان، أو اليد، أو الرجل، أو الفرج، أو البطن أو إلى أي تصرف من أعضاء الجسد، قبل أن يصدر تأتي النفس تقدم له مشورة.
ولكن المصيبة في النفس أن استشاراتها ومقاييس الاستشارة عندها الشهوات والمتع والراحة والانفلات وعدم القيود؛ لأنها تحب الدعة والنوم والكسل.
هذه النفس، وهذه طبيعتها، ثم لا تأمر بالخير، وقد بين الله تبارك وتعالى لنا هذا في كتابه وقال جل ذكره: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53] بالسوء: أي السيئات، بالشر، هذه طبيعة النفس الإنسانية، تأمر بالسوء، ما موقفك أيها الإنسان من هذه النفس؟ موقفك منها المجاهدة، والمعاندة، والتربية، وحملها وقسرها على الحق، حتى ترتقي وتترك الأمر بالسوء، وتصبح نفساً ثانية وهي النفس اللوامة، وهي المعبر عنها الآن في كتب علم النفس بالضمير.
النفس اللوامة في الشرع هي التي تسمى وخز الضمير، أو ألم الضمير؛ أي: أن الواحد يعمل سوءاً ثم تؤلمه نفسه، أي: يحس بألم في الداخل، وهذا اسمه: الضمير الحي.
ويوجد ضمير ميت، وهو صاحب النفس الأمارة بالسوء، ضميره ميت، يعمل الجرائم يقترف المحرمات يزني يسرق يروج المخدرات يعق والديه يقطع الصلاة ولا يحس لماذا؟ لأن الضمير عنده ميت، نفسه أمارة بالسوء، وواحد آخر لا يعمل الخير، ويحب الخير، لكن أحياناً يقع في الشر فيستيقظ عنده الضمير، وتسمى في الشرع النفس اللوامة، ثم يعاتبها فترتقي إلى المرتبة النهائية والأخيرة، وهي النفس المطمئنة التي سكنت واطمأنت على أمر الله.
وهي معروفة عند الناس الآن بنفوس الملتزمين؛ إذا قال: رجل ملتزم، أي: مؤمن سكن على أمر الله، لا يجد أبداً راحته ولا أنسه ولا لذته ولا حياته ولا طمأنينته إلا في طاعة الله، ألذ لحظة عنده حين يقرأ القرآن، أو يصلي صلاته، أو يسمع المحاضرات، أو يفعل خيراً أو يقرأ كتاباً، أو يسمع شريطاً، أو يدعو إلى الله، أو يوجه هذا ألذ شيء عنده.
هذه نفس اطمأنت، وما معنى اطمأنت؟ أي سكنت وارتاحت إلى أمر الله، ورضي الله عنها وأرضاها عن نفسها، رضي عنها فأقامها على الصراط، ورضيت فاستمرت واستقرت وثبتت على الحق، وفي هذا دعوة إلى الثبات، وعدم الانتكاس، ولهذا في تلك اللحظة يجزي الله تبارك وتعالى هذه النفس الجنة، فيقول لها تبارك وتعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30] نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من هذه الأنفس.
ومجال الإصلاح في الشرع حولها، يقول تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] ويقول: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7 - 10] ولا بد من المعاندة لهذه النفس؛ لأنها كالطفل:
النفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
لا يوجد طفل في الدنيا سمعنا أنه انفطم من على ثدي أمه بنفسه وباختياره، لأنه عاش على هذا الشيء، كذلك النفس لابد أن تفطميها أيتها الأخت بقوة عن المعصية؛ لأنها نفس تحب الخروج في الشوارع، وتحب المنتزهات، والحدائق، والتسوق، والنظر إلى وجوه الرجال، والأفلام والمسلسلات هذه كلها أعمال غير شرعية، وتكره البيت، وتكره ما يحبه الله.(85/8)
أثر قوله تعالى (وقرن) على النفس المؤمنة
يقول الله تعالى: {وَقَرْنَ} [الأحزاب:33].
قال العلماء: ما قال الله تعالى: اجلسن، امكثن، لا؛ لأن الماكث والجالس لابد أن يقوم، لكن قال الله تعالى: {وَقَرْنَ} [الأحزاب:33] ولهذا عندما ترى جبلاً تقول: جبل جالس، أم جبل نائم؟ لا، تقول: جبل مستقر، والله تعالى يقول: استقري في بيتك كما يستقر الجبل مكانه، الأصل أن تبقى المرأة في بيتها ولا تخرج، حتى قال العلماء: ليس للمرأة خروج إلا مرتين في عمرها من بيتها: المرة الأولى: إلى بيت زوجها.
الثانية: إلى قبرها.
والآن، كم تخرج المرأة من بيتها في اليوم الواحد؟! لا إله إلا الله! والله إن الإنسان ليحس بألم شديد حينما يسمع أن المرأة لا تحب البيت؛ كلما دخلت البيت قالت: (متضايقة زهقانة قلقانه تريد أن تسجنني؟) دعنا نخرج بسبب ماذا؟ دوافع النفس الأمارة بالسوء، والواحدة لو قسرت نفسها على هذا، وألزمت نفسها، وقالت: يا نفس والله لا تخرجين، حتى ولو طاعة إلى المسجد لا تخرجين؛ لأنه ما الهدف من الخروج إلى المسجد؟ الصلاة؛ الصلاة للأجر الأكثر، هل الأفضل للمرأة أن تصلي وأجرها أكثر في بيتها أم في المسجد؟ لا شك والحديث قد أجاب على هذا: قال عليه الصلاة والسلام: (عباد الله! لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ثم قال: وبيوتهن خير لهن) وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، وصلاتها في غرفتها أفضل من صلاتها في سائر بيتها، وصلاتها في مخدعها -في المكان الذي تنام فيه- أفضل من صلاتها في غرفتها) لماذا؟ لأن المرأة جوهرة، ودرة، والشرع يحفظ هذه الجوهرة، ولا يريد أن تصل إليها عين، ولا تمتد لها يد إلا يد زوجها الذي استحلها بكلمة الله، لكن يوم تتبذل وتسترخص وتخرج، تصبح كالمنشفة التي يمسح فيها كل قذر قذارته، هذا يمسح بها عينه، وذاك يده، وذاك قلبه، وذاك أمنيته، وترجع وهي قد لوثت، وقد دنست وقذرت، وفُتنت وفَتنت، وعصي الله بسببها.
ما من امرأة تخرج من بيتها وتعرض نفسها للنظر إلا وهي ترتب للناس المعصية، كأنها تدعو إلى معصية الله، كل من ينظر لها أما عصى الله؟ نعم.
ثم من الذي جعل هذا الإنسان الذي في الشارع يعصي الله؟ لو جلست في البيت ما عصي، لن يذهب إليها وينظرها في بيتها، لكن لما خرجت متزينة متعطرة استشرفها الشيطان، وإذا تعطرت وذهبت حتى إلى المسجد فهي زانية، لماذا؟ لأن الله عز وجل أمرها بهذا: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] لكن لما لم تقر فإن نفسها نفس أمارة بالسوء، فلا بد من المجاهدة لهذه النفس، والله تعالى يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] قال العلماء: زكاها بطاعة الله، وبالتجنيب لها عن معصية الله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10]، قالوا: دنسها بحرمانها من طاعة الله، وبوقوعها في معصيته، وقد تقول قائلة: إن طاعة الله فيها مشقة، ومعصية الله فيها راحة ولذة، أي: كونها تخرج وتتمشى في الأسواق وتجلس على (البلاجات) وفي الحدائق، والأرصفة، وعلى البحر، وتشم الهواء، هذه بسطة ومتعة صحيح فيها بسطة، لكنها بسطة ملغمة من الداخل بغضب الله وسخطه.
فلا بسطة مع اللعنة، ولا متعة مع الوعيد، والعذاب البسطة الحقيقة مع رحمة الله تعالى ورضاه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] وكونها تجلس في البيت فيه صعوبة، لكنك تنتظرين ما أعده الله لك عنده في جنة عرضها السماوات والأرض، ويكون هذا إذا حرمت السير في الشوارع، والجلوس على الأرصفة، والتنزه في الحدائق، والجلوس على الكورنيش، فلن تحرمي إذا مت من الجلوس على ضفاف أنهار الجنة، في جنة عرضها السماوات والأرض: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
هذا إذا كنا مؤمنين بهذه الجنة، أما إذا لم يكن مع المرء إيمان فسينفلت، وبالتالي سيرى الحقائق هذه بعد أن يموت: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227] هذا هو العنصر الثالث.
والثاني: الروح، وهذه ليس لنا فيها علاقة، الجسد جسد لا تغير أنت فيه شيئاً، لا أحد يستطيع أن يأخذ جسداً بمزاجه، الله خلق الجسد، ولا أحد يحدد طوله، أو عرضه، أو لونه، أو جنسه لا.
هذه فرضت عليك وما معك إلا الذي معك، ولهذا لا يجوز للإنسان أن يعيب خلقة إنسان آخر؛ لأن العيب هنا يكون للصانع، لا يجوز شرعاً أن تأتي إلى أحد وتقول له: اسكت يا متين، أو يا قصير، أو يا طويل، أو يا أسود، أو يا أبيض، أو يا أعور لا! لأن عيب الصنعة عيب للصانع، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سمع أبا ذر وهو يقول لـ بلال: [يا بن السوداء] طيب! من الذي صبغ وجه بلال بالسواد، وجعل أبا ذر أبيض؟ أبو ذر ما لوَّن نفسه في بطن أمه، ولا بلال لوَّن نفسه في بطن أمه؟ لا.
الله جعل هذا أبيض وهذا أسود، فلماذا تعترض على الله، وتقول: اسكت يا أسود أو يا عبد؟ فلما سمعه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك امرؤٌ فيك جاهلية) يعني: ما فيك إسلام؛ لأن الجاهلية ضد الإسلام: (فقال: يا رسول الله! أعلى مشيب رأسي؟ قال: نعم).
وهو من السابقين في الإسلام.
فقام رضي الله عنه وأرضاه ليمحق هذه الجاهلية، وليستأصلها من نفسه، هذا المؤمن الصادق وضع خده الأبيض النظيف على الأرض، ثم قال: [يا بلال! والله لا أرفع خدي من الأرض حتى تطأ بقدمك السوداء على خدي الثانية]، ولم يقم حتى جاء بلال وأخد بيد الغفاري العربي حتى ذهبت وذابت تلك النزعة الجاهلية التي يُقَوِّمُ الناس فيها بعضهم بعضاً بالسواد والبياض.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ما قال أبيضكم ولا أحمركم، ولقد أعلن الإسلام وحدة الجنس البشري، وأعلن أن الناس كلهم لآدم: (كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى) هذا الجسد.
الثاني: الروح وقلنا ما فيها.
الثالث: النفس، وهنا يبرز دور الإنسان في تربية نفسه، ويتفاوت الناس ويحصل بينهم التفاوت، مثل ما بين السماوات والأرض، بحسب قيامهم بمجاهدة أنفسهم وبتربيتها على الحق وقصرها عن الباطل.
واحدة من الأخوات تحدث عن تجربتها في قضاء الوقت، تقول: انتهت العطلة الصيفية وشعرت بوفرة في الوقت، تقول: فقررت أن أحفظ سورة البقرة وآل عمران خلال فترة الصيف؛ لأنها تقول: سمعت أن (سورة البقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة كغمامتين، أو كغيايتين، أو كصنفين من طير، تظلان صاحبهما) فتقول: أريد أن آتي يوم القيامة تحت مظلة هاتين السورتين، وبدأت وقررت لنفسها أن تحفظ في كل يوم صفحة، مع المراجعة.
وفي نهاية المدة تقول: والحمد لله وفقت وحفظت سورة البقرة وآل عمران، هذه موفقة، ليس عندها وقت للفراغ، ما يعاني منه النساء الآن من وقت فراغ سببه جهلهن بالواجبات المطلوبة منهن.
عندِك فراغ وأنت لا تحفظين شيئاً من كتاب الله؟ أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تعرفين شيئاً من أحكام دينك في فقهك الذي يتعلق بعبادتك أيتها المسلمة؟ عندك فراغ وأنت أم أولاد وزوجة رجل؟ أما تشعرين أن الزوج هذا يشغلك؟ المتزوجة حملت عبئاً بهذا الزوج، وتكاليف تحتاج إلى جهد: خدمة الزوج، الإشراف على طعام الزوج وملابسه، والجلسة معه، والمؤانسة له، وهذه كلها تحتاج إلى وقت، لكن بعض النساء أهملت هذا كله، زوجها مثل العامل عندها؛ لا تهتم بطعام ولا بشراب ولا بأكل، ولا بمؤانسة، ولا بجلسة، أولادها مع الشغالة، ومطبخها على الخادمة، وهي تقول: أنا زهقانة، زهقانة من ماذا؟! تركت الواجبات، قومي بواجباتك أنت، قومي بواجباتك في المنزل، وقومي بواجباتك في الأطفال، لا تدعي الأطفال للخادمة.
وإن من المآسي والله ما يفطر القلب! تتصل بي إحدى المدرسات وتشتكي، تقول: إني مدرسة دين، وتقول لي طالبة من الطالبات: يا أستاذة أنا أحب المسيح، قالت: لماذا تحبين المسيح؟ قالت: لأنه ابن الله، قالت: يا ابنتي ليس هو ابن الله، هذا رسول الله، قالت: لا لا لا.
أنت لا تعرفين، قالت: من قال لك؟ قالت: الخادمة.
الخادمة النصرانية وضعت عقيدة النصارى في قلب هذه البنت، وأصبحت البنت داعية في المدرسة وتدعو الطالبات في السنة الخامسة والسادسة، تقول لهن: إن المسيح ابن الله، وتحب المسيح، متى تسلطت الخادمة على البنت؟ في ظل غياب الأم المشغولة بالمكياج، والموديلات، وبالسهرات والتمشيات، والشغالة تربي ابنتها على النصرانية.
أيتها الأخت ليس عندك فراغ، الواجبات أكثر من الأوقات إذا عرفت تلك الواجبات.(85/9)
الجزء الرابع: العقل
والعقل يسميه العلماء مستشار ثانياً للقلب، لكن مقاييس العقل مقاييس المصالح، والمفاسد، والنتائج، والمقدمات، والآثار، ليس مثل النفس، النفس شهوات، لكن العقل لا ينظر للشهوة، وإنما ينظر للأثر والنتيجة، وينظر للمصلحة والمفسدة، لكن أحياناً لا يستجاب لإشاراته، يشير على القلب ولكن ضغط النفس أكبر من ضغط العقل، فيرفض القلب وتستمر النفس في الضغط حتى تنفذ آراءها، وأضرب على هذا مثالاً: الذي يدخن أليس عنده قناعة من عقله أن التدخين مضر؟ لا يوجد أحد في الدنيا يقول: التدخين ينفع، حتى الشركة التي صنعت الدخان كتبت عليه: التدخين مضر بصحتك، ولا يوجد طعام في الدنيا أو صناعة في الدنيا تصنع إلا ولها دعاية إلا الدخان، شركته تكتب عليه دعاية ضده، ولا يوجد طعام إلا وله تاريخ بداية ونهاية إلا الدخان فاسد من يوم ما صنعوه، وليس له تاريخ نهاية؛ لأنه فاسد من أول ما صنع، ومع هذا تجد الرجل يدخن، لماذا؟ لأن نفسه أقوى من عقله.
العقل يقول: هذا يضر، والنفس تقول: لا يضر (دخن عليها تنجلي) والضرر يمكن أن نكافحه، وهو يعرف أنه لا يقدر أن يكافحه، سرطان الرئة يأتي من الدخان، وكثير من الأمراض ما لها علاج سببها من الدخان.
إذاً العقل هنا ليس مطاعاً في ظل هيمنة النفس، متى يطاع العقل؟ قال العلماء: إذا ضعفت النفس قوي العقل، إذا كان مستنيراً بنور الكتاب والسنة، فإن العقل يقول لها: لا.(85/10)
الجزء الخامس: القلب
مثلاً تأتي شهوة الزنا، النفس تقول: فرصة، يأتي العقل ويقول: لا.
حرام، تأتي النفس وتقول للقلب: حرام صحيح لكن الله غفور رحيم وهكذا بكل الاستشارات إلى أن يأتي القلب وهو الملك الأخير، والعضو الأخير ملك الجوارح، هذا هو صاحب القرار الأول والأخير في اتجاه الإنسان، ولو ترون الآن البنت إذا التزمت أو الولد إذا التزم ما الذي يتغير فيه؟ قلبه.
حصلت عنده قناعة في قلبه أن الطريق الصحيح هو الدين، مباشرة أصدر أمره إلى العين: لا تنظر إلى التلفاز، الأذن: لا تسمع الأغاني، وإلى اللسان: لا تتكلم بالغيبة ولا النميمة، وأصدر أمره إلى الفرج: لا تعمل الزنا، وأصدر أمره إلى اليد: لا تمتد للحرام وهكذا.
وإلى الجسد أنه يشتغل في طاعة الله، كان لا يصلي والآن يصلي، ما كان يتهجد والآن يقوم ليتهجد، لماذا؟ صلح القلب، يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) ولهذا جاء الشرع بإصلاح القلوب، يقول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
وأخبر كثير من الآيات أن الأمراض تصيب القلوب كما تصيب الأجسام، قال عز وجل: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10].
فيا أخواتي في الله: هذه هي الأجزاء الخمسة للإنسان، جسد لا أهمية له ولا قيمة، وروح لا نعرف عنها شيئاً، ونفس مهمتنا إصلاحها، وعقل ننوره بكتاب الله، وقلب نعالج أمراضه بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأنتن اليوم -أيتها الأخوات- في استقبال عطلة، وهذه العطلة نعمة من نعم الله على المرأة، وأذكر أنني ألقيت محاضرة في مكة في مجمع نسوي في الجمعية الخيرية، بعنوان: المرأة ومشكلة الفراغ، وأريد أن تسمعن هذا الشريط؛ لأنني تحدثت فيه عن هذه المشكلة التي هي في الحقيقة غير موجودة أصلاً بل مفتعلة، ونتجت بسبب بعد المرأة عن قيامها بواجباتها ومسئولياتها، وترتب على هذا وجود فراغ عندها، فملأت الفراغ هذا بالباطل، وبالتمشيات وبالغدوات والروحات والأفلام والمسلسلات.
وبالتالي حصلت لها مشاكل كثيرة، فأريد أن تستمعي إلى هذا الشريط بمشيئة الله، وتضعن برامج لملء الفراغ بما هو مفيد في الدنيا والآخرة.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه.(85/11)
الأسئلة(85/12)
حكم الدعاء لتارك الصلاة بعد موته
السؤال
إذا مات إنسان وهو لا يصلي إلا نادراً فهل يجوز الدعاء له بالرحمة والمغفرة؟
الجواب
لا.
لا يجوز الدعاء له؛ لأن تارك الصلاة كافر، والترك سواء تركها كلياً أو ترك بعضها وصلى بعضاً، لو ترك صلاة واحدة كفر، وبالتالي لا يجوز أن يدعا له بالمغفرة؛ لأن الله عز وجل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الدعاء لعمه، وقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].
وقد تبين لنا في الدليل الشرعي أن تارك الصلاة كافر وبالتالي لا يجوز الاستغفار له.(85/13)
الرياء تعريفه وكيفية التخلص منه
السؤال
إذا كان الإنسان يشعر بالرياء، ويتردد في أي عمل يعمله، فكيف يجعل عمله خالصاً لوجه الله؟
الجواب
هذا من أساليب الشيطان؛ أن يأتي إلى الإنسان وهو يريد أن يعمل عملاً صالحاً، فيرده عن فعل هذا العمل من أجل الناس، فيهرب من الرياء فيقع في الرياء، لأن العلماء يقولون: الرياء يكون بأمرين، إما بفعل العمل من أجل الناس، أو بتركه من أجل الناس.
فإن فعلت العمل تقصد الناس أصبحت مرائياً، وإن تركت العمل هذا من أجل ألا يقول أحد: إنك مراءٍ فأنت مراءٍ؛ لأن الذي حملك على ترك العمل هو خوف من الناس.
وإذا أردت السلامة فهي أن يستوي في نظرك وجود الناس أو عدمه، وأن تعمل العمل الخالص لوجه الله، ولا يهمك وجود الناس أو عدمه، والله أعلم.(85/14)
علامة رضا الله عن العبد
السؤال
كيف يعرف الإنسان أن الله سبحانه وتعالى راضٍ عنه، فعندما أذنب ذنباً أستغفر الله من ذلك الذنب وأصلي ركعتين، لكني أخاف من غضب الله عز وجل، وأشعر أن الله لن يغفر لي، فماذا أفعل؟ وكيف يتخلص الإنسان من الوسواس؟
الجواب
يعرف الإنسان أن الله عز وجل رضي عنه إذا أطاعه؛ لأنه كما جاء في الحديث القدسي: (يقول الله: إني إذا أطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية، وإذا عصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد).
فعلامة رضا الله عن الإنسان أن يطيعه بفعل أمره وترك نهيه، هذه العلامة، أما إذا اقترف الإنسان معصية أو وقع في خطيئة، فهذا شيءٌ لا يستغرب، فإن الإنسان خطاء بطبعه، ليس معصوماً، والعصمة للأنبياء، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) ويقول في الحديث الآخر: (لو لم تذنبوا فتستغفروا فيغفر الله لكم لأتى الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم) والله تعالى يقول: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:49].
فإذا أخطأت أو اقترفت معصية فإن الأمر يستوجب سرعة التوبة، وبهذا يقول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
فعليك أن تتوبي، أما كونك تشعرين بالألم فهذا من مقتضيات التوبة؛ لأن من شروط التوبة الندم؛ لأن الإنسان كلما تذكر ذلك الذنب صار في قلبه لوعة وحسرة وندم وأسى، لماذا أفعل كذا؟ ولماذا أعصي الله؟ لماذا أعمل هكذا؟ هذا الندم هو الذي يجعل التوبة مقبولة إن شاء الله، لكن يجب أن يكون عندك يقين وتصديق لوعد الله، والله لا يخلف الميعاد، والله يقبل التوبة، ويعفو عن السيئة.(85/15)
حكم النذر فيما لا يُملك
السؤال
طفلة صغيرة مرضت وكادت أن تموت، وكانت امرأة تعالجها، وقالت: إن شفيت فهي لابني، فوافقت أمها في تلك اللحظة، ولكن الآن لا ترغب الأم ولا الابنة مصاهرتهم فما الجواب بعد أن نذرت الأم وشفيت البنت من ذلك المرض وكبرت أفتونا مأجورين؟
الجواب
لا يلزمها الوفاء بهذا النذر؛ لأنها لا تملكه، فالذي يزوج هو الأب؛ أو الولي، أما الأم التي قالت: نذرت أن أزوج بنتي لفلان فإنها لا تملك ذلك، والأم لا تزوج؛ لأن شرط النكاح أن يكون هناك ولي، والولاية للرجل، والمرأة لا تزوج نفسها ولا تزوج غيرها، فهذه نذرت بشيء لا تملكه وعليها أن تستغفر، وعليها أن تكفر كفارة يمين؛ تطعم عشرة مساكين أو تكسوهم أو تعتق رقبة.
فإن لم تجد هذا كله فتصوم ثلاثة أيام كفارة اليمن، أما أن يلزمها الوفاء فلا؛ لأنها نذرت بما لا تملك.
إن كان النذر من الأب فإنه يلزمه الوفاء به إذا كان هذا الولد أهلاً لزواجه، يعني: نذر أنه إذا شفى الله هذه البنت أن يزوجها بفلان، ثم كبرت هذه البنت وأصبحت في سن الزواج وفلان هذا أهلٌ للزواج؛ يرضى الوالد دينه وخلقه، فإنه يلزمه الوفاء بنذره بشروط، الشرط الأول: موافقة البنت؛ لأن الزواج أمر يتعلق ويختص بها، فلا يجوز في الشرع أن ترغم على شيء لا تريده.
والشرط الثاني: أن يوافق الولد بذلك، فإذا وافق الابن ووافق الوالد، ولم يكن هناك مانع شرعي، وكان أهلاً للزواج لزمه الوفاء بذلك.
أما إذا انتفى شيء من هذه الشروط بأن تكون البنت قالت: لا أرضى، أنت نذرت يا أبي لكني لا أرضى بأن أتزوج بهذا الولد، أو الولد ذهبوا إليه وكلموه، فلم يوافق، فهل نغصبه، ونقول: لا.
تعال وتزوج؛ لأن أباها قد نذر؟ أو كانت هناك موانع شرعية، كأن يكون قليل دين؛ لا يصلي، أو فاسق، فهناك على الوالد أن يطعم عشرة مساكين كفارة يمين.(85/16)
حكم من نسي التشهد الأول
السؤال
ما حكم من نسي التشهد الأول: هل يعيد، أم يسجد سجود السهو؟
الجواب
المفترض أن يجلس بعد ركعتين في صلاة المغرب أو العشاء لكن قبل أن ينتهي إلى الوقوف وذكر فيلزمه أن يرجع، لكن إذا استتم واقفاً -انتصب- فلا يرجع، لماذا؟ لأنه لا يرجع من ركن إلى واجب، ثم يكمل صلاته وقبل السلام يسجد سجدتي السهو.(85/17)
حكم لبس العدسات الطبية الملونة
السؤال
هل يجوز لبس العدسات الملونة الطبية؟
الجواب
إن كان الغرض من هذه العدسات تحسين النظر، كأن يكون في المرأة خلل في نظرها، أو قصر في النظر، كما تركب نظارة تركب عدسة، فاختارت لوناً معيناً من العدسات فلا مانع، كما تركب النظارة فهي ليست مجبورة على أن تركب لوناً أبيض أو أحمر أو أسمر تركب أي لون، هذا إذا كان الغرض تحسين القدرة على النظر، أما إذا كان نظرها سليماً (100%) وليس الغرض إلا مجرد تغيير لون العين، بدلاً من أن تكون العين عسلية تريد أن تكون زرقاء وهي التي ترى في الظلام، فهذا محرم، لماذا؟ لأنه تغيير لخلق الله، والله عز وجل يقول: إن الشيطان يقول: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119] الله أعطاك هذه العين فلماذا تغيري عيناً ثانية، هل أختيارك أفضل من اختيار الله؟! ولهذا كثير من النساء سعين إلى تغيير اللون الطبيعي للونها وركبت عدسة، ويقول لي بعض الأطباء: إن هذه العدسات تركب وتؤدي مع الزمن إلى إصابة العين بالسرطان؛ سرطان العين، وهذه عقوبة والعياذ بالله، فنقول للمرأة: لا تركبي شيئاً، إلا إذا كانت عينك ضعيفة ولا ترين ووضعتي نظارة أو عدسات لاصقة لتقوية النظر فلا مانع، ضعي لك أي لون تريدين؛ لأن الغرض هنا ليس تغيير النوع، وإنما تقوية النظر.(85/18)
حكم السفر إلى خارج البلاد وضوابطه
السؤال
ما حكم السفر إلى خارج هذه البلاد لغرض النزهة، وما هي الضوابط للسفر؟
الجواب
هل في الأرض بلاد أفضل من بلادنا؟ العالم كله يزورنا، فلماذا نزور نحن العالم؟ هل النزهة التي نعنيها يمكن الحصول عليها بعيداً عن الإثم؟ أم أننا نريد أن نمتع أبصارنا وأجسادنا بشيء من المعاصي والذنوب قد حمانا الله عنها ونريد أن نذهب إليها؟ أنا أقول: أيها الأخوة والأخوات: إنه لا ينبغي لا للمرأة ولا للرجل أن يسافر إلى خارج هذه البلاد إلا سبب شرعي، قال العلماء وهو: العلاج، أو الدراسة، أو التجارة.
بشروط منها: أن يأمن على نفسه الفتنة، وأن يكون قادراً على إظهار شعائر دينه، وألا يعرض نفسه للمعاصي، ولكن هل يمكن هذا؟ مستحيل، المعصية تلاحق الإنسان ولا زال في الطائرة أو الطريق، إذا أردت النزهة ففي بلادنا والحمد لله ما هو موجود في الخارج وأكثر وبعيد عن الإثم.
منطقة الطائف، أبها، بل الذين جاءوا إلى أبها وأنا من أهل أبها، جاءوا من الخليج والرياض ومكة، يقولون: والله إن المناظر الموجودة في هذه المنطقة ليست موجودة في الدنيا كلها، بل واحد من الناس كويتي، يقول: أنا كنت أقضي كل سنة نزهتي أنا وأولادي في سويسرا، ولكني والله وجدت في بلادكم من الجمال ما هو أفضل من هناك.(85/19)
خروج المرأة من بيتها حكمه وشروطه
السؤال
هل خروج المرأة للدعوة وللعمل لخدمة الإسلام ممكن أن يكون مباحاً، أم أنها آثمة إذا خرجت؟
الجواب
جزى الله الأخت خيراً على هذا السؤال.
خروج المرأة الأصل هو القرار في البيت، لكن هناك أحوال ينبغي أن تخرج فيه المرأة مثل هذا الخروج؛ الخروج للدعوة.
ومثل خروجها للتعليم، لمن ندع بنات المسلمات والمسلمين.
لا بد من وجود المرأة في المدارس للتعليم.
ومثل العلاج والاستشفاء، أين تعالج المرأة؟ ومثل زيارة الرحم إذا كانت أمها وأبوها وإخوانها موجودين فتزورهم، وزيارة الأقارب، والجيران، فالجيران يتزاورون بينهم وهذا مطلوب هذه الأمور مستثناة من عموم النهي، يعني: تخرج المرأة فيه لكن بالشروط الشرعية، وهي: أن تتحجب الحجاب الشرعي الكامل: لأن الحجاب عند المرأة دين وليس تقليداً ولا موضة ولا عرفاً، المرأة تلبس عباءتها والغطاء على وجهها والقفازات في يدها، كأنها تصلي وتصوم، وتمارس عبادة، تنفذ آية من كتاب الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59].
آية من الآيات مثل آية الصلاة، والزكاة، والصوم والحج، فإذا شعرت المرأة بأنها تمارس قضية عقدية شرعية من دين الله، وهي تحتجب بالحجاب الشرعي كاملاً، بحيث لا يرى لها شعرة ولا ظفر، ولا رائحة، ولا كعب، ولا ثوب ضيق، ولا عباءة خفيفة، ولا وجه شفاف، ولا عيون مفتوحة من هنا، وتبدوا كالغراب الأسود من رأسها إلى قدمها، هذه المرأة المؤمنة، ثم تختار الوقت الذي لا يكون فيه رجال، وإذا قابلها الرجال فلا تحتك بهم، وهي تمشي لا تلتفت، لأنها إذا التفتت التفت إليها، ثم لا تمشي في وسط الطريق، بل تمشي في طرفه، لكي تقع عليها الأنظار من جهة واحدة، لكن حين تمشي في الوسط تنظر لها العيون من هنا ومن هنا، بل تختار الوقت الذي لا يخرج فيه الرجال، هذا لا بأس به إن شاء الله.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(85/20)
تنبيهات على أخطاء بعض الزوجات
الحياة الزوجية تمثل اللبنة الأولى في المجتمع، ومن أعظم أسباب السعادة في الدنيا الزوجة الصالحة، ولذا فقد حرص الإسلام على بناء هذه الأسرة البناء الصحيح، الذي تحصل به سعادة الدنيا والآخرة، وأوجد الحلول للمشاكل والعقبات التي تعتري هذا البناء، ولكن لابد من تنبيهات قبل البناء حتى يكون البناء صحيحاً على وفق ما جاءت به الشريعة الإسلامية، وهذه المادة تتناول الأخطاء التي قد تقع فيها بعض الزوجات وسبل معالجتها واجتناب الوقوع فيها.(86/1)
أهمية الحياة الزوجية في المجتمع
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، سيدنا وحبيبنا وإمامنا وقدوتنا محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره وسار على دربه، واتبع شريعته ودعا إلى ملته وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فسلام الله عليكم -أيها الأحبة- ورحمته وبركاته، وأسأل الله سبحانه وتعالى كما جمعنا في هذا المكان الطاهر وفي هذه الليلة المباركة وبعد أداء هذه الفريضة العظيمة على ذكره وعلى طاعته وعلى عبادته، أسأله بأسمائه الحسنى وبصفاته العلى أن يجمعنا في جناته جنات النعيم، وآباءنا، وأمهاتنا، وإخواننا، وأخواتنا، وزوجاتنا، وذرياتنا، وجميع إخواننا المسلمين، برحمته إنه أرحم الراحمين.
هذه المحاضرة تلقى بجامع حطين بإسكان الحرس الوطني بمدينة الرياض حرسها الله، بعد مغرب يوم الإثنين الموافق للأول من شهر ذي القعدة عام (1420هـ) على صاحبها أفضل السلام وأزكى التسليم.
عنوان الدرس كما أعلن أخي أبو نادر حفظه الله وبارك فيه ومتع بحياته، وزاده نشاطاً وحرصاً وقدرة على العمل لهذا الدين: "تنبيهات على بعض أخطاء الزوجات" وهذا العنوان فيه خطأ، والخطأ مني إذ أمليته بهذا الوضع وإلا فالوضع الصحيح أنه: "تنبيهات على أخطاء بعض الزوجات" ليس على بعض أخطاء الزوجات، والقارئ أو السامع اللبيب يدرك الفرق بين المعنيين فإن العنوان المعلن: تنبيهات على بعض أخطاء الزوجات، يعني: أن المرأة كلها أخطاء ونحن ننبه على بعض الأخطاء، بينما العنوان الأولى أن يكون والصحيح أن يكون: تنبيهات على أخطاء بعض الزوجات، إذ ليس كل الزوجات عندهن هذه الأخطاء، فمن الزوجات من وفقهن الله سبحانه وتعالى لمعرفة حق الله سبحانه وتعالى عليها فقامت بعبادته، وأيضاً وفقها الله لمعرفة حق رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها فقامت باتباع سنته والعمل بشريعته.
وأيضاً وفقها الله لمعرفة حق والديها، وحق زوجها، وحق أولادها وبناتها، وحق مجتمعها بشكلٍ كامل، فهذه حسنة الدنيا وجنة ما قبل الموت، قد يقول قائل: ولماذا أخطاء الزوجات فقط هل يعني أن الأزواج ليس لهم أخطاء؟ نعم.
لهم أخطاء، وربما تكون أخطاء بعض الأزواج أكثر من أخطاء بعض الزوجات؛ لأن الزوج إذا أخطأ واستغل أيضاً قدرته ورجولته وسيطرته وإمكانياته في تمرير خطئه، وفي الاستمرار والاستكبار والدكتاتورية على امرأته، أما المرأة مسكينة قد تخطئ لكنها تعود وترجع، ولو أنها ليست راضية وذلك نظراً لضعفها.(86/2)
سبب تقديم الزوجة على الزوج عند عرض المشاكل
أما لماذا بدأت بالزوجات بالذات ولم أبدأ بالأزواج؟ فلأن الزوجة متخصصة في عملية الأسرة، فهي ربة الأسرة وهي مديرة البيت، والزوج ليس إلا مشرفاً أو موجهاً، ولكن البدايات أو المبادرات، إما بالإصلاح أو بالإفساد، إنما تكون من المرأة.
فالمرأة عنصرٌ هام في قضية استمرار الحياة الزوجية ونجاح الأسرة وبناتها، فبدأنا بها وإذا رأى الإخوة في الإرشاد أن نثني بمحاضرة أخرى بنفس العنوان: تنبيهات على أخطاء بعض الأزواج فليس عندي مانع حتى نكون قد أنصفنا النساء، وحتى لا يقلن: لماذا أنتم تنبهون على أخطائنا، وأنتم لا ترون أخطاءكم ولا تنبهون على أخطائكم؟ وبعض النساء تقول: أنتم يا أيها الرجال! مثل البعير ومثل الجمل لا ينظر إلى عوج رقبته، إذا سألت البعير: يا بعير! كيف رقبتك؟ قال: مثل المسطرة، وهو لم ينظر إليها، وإذا نظر إليها خجل، لكنه لا ينظر بعيونه إلا إلى البعيد، لا ينظر إلى رقبته الملتوية من تحت رأسه، فنحن نقول ومن باب الإنصاف: نعم للرجل أخطاء، ولهم موعد إن شاء الله في مناسبة قادمة للتنبيه عليها.(86/3)
الحياة الزوجية تمثل اللبنة الأولى في المجتمع
الحياة الزوجية والتي تمثل البناء الأسري، والبناء الأسري يمثل اللبنة الأولى في المجتمع العام، وعلى ضوء نجاح الحياة الزوجية يتحقق نجاح الأسرة، وعلى ضوء نجاح الأسرة يتحقق أيضاً نجاح المجتمع بأسره، هذه الحياة تعتمد وتقوم على أسس وعلى ثوابت من أهمها الدين في الرجل وفي المرأة، والعقل، فإن من الرجال من عنده دين لكن لا عقل له لكنه معتوه.(86/4)
الحقوق متبادلة
كذلك من الناس من عنده دين لكن ليس عنده عقل، ومن النساء من عندها دين لكن ليس عندها عقل، فلا بد من الدين الصحيح والعقل الراجح مع صفاء الود وقوة الثقة والشعور بالمسئولية تجاه كل طرف، فهناك حقوق للزوج يجب على المرأة أن تقوم بها، وهناك حقوقٌ للزوجة يجب على الرجل أن يقوم بها، والحياة قائمة على هذا، وعلى قضية التبادل، تبادل المصالح، أنت لك حقوق وعليك حقوق، تريد حقوقك أن تأتيك، فأد ما عليك، لكن تريد أن تأتيك حقوقك وأنت لا تقوم بالحقوق التي عليك، لا أحد يعطيك ولا أحد يطيعك، إذا أتيت إلى السوق تشتري عيشاً وليكن قرص تميز فعلى الخباز حق أن يعطيك، ويخبز لك، وعليك حق أن تعطيه الريال، لكن لو قلت: هات القرص، قال: هات الريال، قلت: ما عندي، قال: وأنا ما عندي، تريد تأخذ ولا تعطي، لا أحد يعطيك! كذلك زوجتك إذا أردت أن تعطيك حقك فأعطها أنت حقها.(86/5)
الزوجة الصالحة من أعظم أسباب السعادة في الدنيا
إن الزوجة الصالحة -أيها الإخوة- من أعظم أسباب السعادة في الدنيا، والله سبحانه وتعالى قد جعلها آية من آياته الدالة على قدرته وعظمته، فقال في كتابه الكريم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة) وهذا واقع -أيها الإخوة- فإن الله عز وجل إذا وفق الرجل إلى زوجة صالحة فإنها تجعل حياته كلها في سعادة، حتى ولو كان فقيراً، وحتى لو كان مريضاً، ولو افتقد كثيراً من مقومات الحياة فإن هذه الزوجة تستطيع أن تعوضه عن كل شيء، لكن ليس مع فقدان الزوجة الصالحة عوض، ولو امتلك الإنسان الملايين واحتل أعلى المناصب، وسكن أرفع العمارات وحياته كلها جيدة لكن امرأته ليست صالحة، فإن هذه المرأة تحول حياته كلها إلى جحيم، ولهذا قال بعض أهل العلم في قول الله عز وجل: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] قالوا: حسنة الدنيا المرأة الصالحة، وحسنة الآخرة الجنة.
فالمرأة الصالحة من أعظم أسباب السعادة التي يعيش فيها الإنسان في هذه الحياة، ولذا عني الإسلام بتربيتها وتوجيهها وتأهيلها لأن تكون زوجة صالحة، وجعل هذا من مسئوليات الآباء ومن مسئوليات الأمهات، ولكن في ظل غياب التربية الإسلامية سواء في البيوت أو في المدارس ربما تقع بعض الأخطاء من بعض الزوجات لا بد من معرفتها حتى لا ينهدم عش الزوجية وتتحطم الأسرة ويتشتت شملها ويضيع أفرادها، وقد قلت هذا الكلام منذ سنوات، واقترحته على بعض المسئولين: ألا يعقد لرجلٍ على امرأة في زواجٍ إلا بعد أن يحضر دورةً تدريبيةً في الحياة الزوجية، دورة للرجال، ودورة للنساء، كيف يتعامل الرجل مع الزوجة؟ وما هي حقوق الزوجة؟ وأيضاً دورة للبنت كيف تتعامل مع الزوج؟ وبعد أن يجتازوا الدورة بنجاح ترسل الشهادات إلى المحكمة من أجل عقد النكاح، وذلك لتلافي الفشل الذريع الذي نلاحظه هذه الأيام في كثير من الزوجات، وقد ارتفعت نسبة الطلاق في كثيرٍ من المدن، حتى أخبرني من أثق فيه أنها تصل في بعض المدن إلى (70%)، يعني من كل مائة حالة زواج سبعون حالة تنتهي بالطلاق وثلاثون تنجح، هذا يدل على أن هناك خللاً.(86/6)
مشكلة الطلاق
ومعنى الطلاق -أيها الإخوة- ليس أمراً سهلاً، معنى الطلاق: مشكلة على البنت ومشكلة على أسرتها ومشكلة على الزوج الذي تزوج ودفع مالاً ثم ما لقي شيئاً، ومشكلة على المجتمع كله.
وأيضاً له ردود فعل على البنت حينما ترى هذا الزوج وتفشل في إدارته، والزوج حينما يرى هذه البنت ويفشل في التعامل معها يصطدمون في نفوسهم، وربما تتحول نفوسهم إلى نقمة على الزواج، ونأتي إلى البنت فنقول: هل تريدين الزواج؟ قالت: لا ما دام الرجال هكذا والله لا أعرفهم، وتترك الزواج، والولد: هل نزوجك؟ قال: قد رأيت شيئاً من العذاب، الحمد لله الذي خلصني منها، فهذا ليس بسبب الزواج، إنه فشلك أنت وفشلها في إقامة هذا العش الزوجي.(86/7)
الأخطاء التي تقع من بعض الزوجات
-أيها الإخوة- ننبه إن شاء الله في هذه الليلة على تلك الأخطاء التي قد تقع عند بعض الزوجات، ونريد أن تتناولها المرأة بشكلٍ موضوعيٍ وعملي، وأن تجعلها أمام عينها وتعرض نفسها عليها، بحيث إذا وجدت أو علمت أن فيها شيئاً من هذه الأخطاء فتسارع إلى تصحيحها، قد لا توجد كل هذه الأخطاء في امرأة، قد يوجد في امرأة خطأ واحد من هذه العشرة، وفي أخرى اثنان، وأخرى فيها خمسة، وأخرى يمكن (100%) فيها كلها، ولكن تزول بالمحاولة الجادة -أيها الإخوة- فالطبع بالتطبع، والتدريب بالتدرب، والعلم بالتعلم، والصبر بالتصبر، فعلى المرأة أن تزيل هذه الأخطاء وتحدث بدلها العمل الصحيح حتى تنجح في حياتها الزوجية.(86/8)
المبالغة في طلب الكمال في الزوج
أول خطأ وهذا موجود عند الفتيات قبل الزواج: المبالغة في طلب الكمال في الزوج الخاطب.
فتريد بعض النساء زوجاً مفصلاً على مقاساتها: تريد طوله كذا وكذا، وعرضه كذا وكذا، ولونه كذا وكذا، وراتبه كذا وكذا، ومرتبته كذا وكذا، إذا ما جاء خاطب تقول: لا يصلح لي، وما أفلح هذا الخاطب الأول، وجاء الثاني وما توفرت فيه الشروط، وجاء الثالث والرابع، وفاتها قطار الزواج وبلغت في سن الأربعين وأصبحت في حالة يرثى لها، وصارت تعلن في الجرائد ولا أحد يستجيب لها؛ لأسباب المبالغة.
إن الزوج رزق وقسمة ونصيب، إذا جاء فابحثي عن الأساس فيه وهو الدين (إذا أتاكم من ترضون -ماذا؟ - دينه وأمانته فزوجوه) تزوجي، أما أن تريدي شخصاً مفصلاً فيلزمك أن تذهبي إلى الورشة لإعطائهم مقاسات شخص من أجل المقاس، هذا غير وارد؛ لأنك أنت أيضاً يا من تطلبين الكمال لست كاملة، ولست أيضاً مفصلة على مقاس ذاك الذي سوف يأتي، ولكن هناك خطوط تقابل بين الرجل وبين المرأة، ويحصل بعد ذلك مع الحياة الزوجية ومع الاندماج والانسجام المعيشي يحصل استكمال بقية الأمور التي يحصل فيها نوع من الخلاف والنفرة، هذه النظرة تنشأ في أذهان بعض النساء لتأثرهن بالقصص الخيالية، ومشاهدة الأفلام والمسلسلات، والتي تصور الحياة الزوجية جنة خالية من المشاكل، وهذا وهم، فإن المشاكل شيءٌ طبيعي في حياة الأسرة، بل كما يقول أحد العلماء: المشكلة في حياة الأسرة مثل الملح في الطعام، هل تأكل طعاماً بدون ملح؟ لا.
ولذا تجد الرجل هو وزوجته مثل السمن والعسل لكن بعد ذلك تجدهم قد غضبوا قليلاً وقعدوا يومين وثلاثة وتراضوا، وصار للرضا بعد هذا الغضب طعم وفيه نوع من التجديد، لكن يجب أن يكون الملح على المقاس وليس كثيراً؛ لأن بعضهم حياته كلها ملح من يوم أن يتزوج إلى يوم يطلق، والبنت من يوم تذهب إلى أن تموت وهي ملح في ملح، لا.
فإذا كثر الملح في الطعام أفسده، وإذا قل أيضاً سمجت الأطعمة وسمجت الحياة.(86/9)
استعجال بعض النساء في طلب الطلاق
إن الحياة الزوجية لا بد أن يحصل فيها من المشاكل شيء؛ لأن التطابق الكامل (100%) بين الرجل والمرأة مستحيل ولا يوجد، فلا بد أن يبقى شيء من الاختلاف، حتى في أكرم بيت على وجه الأرض، بيت النبوة بيت الرسالة، ومع الزوج المثالي -صلوات الله وسلامه عليه- مربي الإنسانية والبشرية كلها، كان يحصل في بيته ومن بعض أزواجه بعض الأخطاء، ولكن ما كان يصعدها بل كان يحتويها ويقضي عليها في مهدها.
قد حدث في يوم من الأيام خلاف بسيط بينه وبين أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فذهبت إلى أبيها، فجاء أبو بكر ليصلح الشأن، شأنه شأن الآباء الصالحين الذين يحتوون المشاكل ولا يصعدونها، فلما أراد أن يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم ويبين المشكلة استعجلت عائشة رضي الله عنها وقالت: [أقسم عليك بالله ألا تقول إلا الحق] تقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل يتوقع أن الرسول يقول غير الحق حتى تقسمين عليه؟! فقد استعجلت من باب ضعفها وعجلة النساء، فغضب أبو بكر لهذا الكلام وقام عليها فلطمها في وجهها، قال: [يا عدوة نفسها! أويقول رسول الله غير الحق؟!] هل يقول غير الحق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقامت من الضربة ولاذت بظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسيت الخلاف بينها وبين الرسول فلاذت تحتمي بالرسول، فمنع صلى الله عليه وسلم أباها وقال له: (ما لهذا دعوناك يا أبا بكر) يقول: دعوناك من أجل أن تصلح وليس من أجل أن تضرب، وانتهت المشكلة، فالمشاكل تحصل، والتي تتصور من النساء أن الحياة الزوجية ليس فيها مشاكل هذه مخطئة وبالتالي سوف تفشل، وأكثر ما يقع الفشل في بداية الحياة الزوجية، إذ تستعجل بعض النساء بمجرد أنها ذهبت مع زوجها وبدأت تتمارى معه فتستنكر بعض التصرفات تظهر لها بعض الأخلاق فكانت هي تحلم بشخص مثالي فتصاب بصدمة وبردة فعل، وبالتالي تقول: أنا كنت أتصور أنك وأتصور أنك وإذا بك كذا، ثم تذهب إلى أهلها فتشتكي، فيقول لها أهلها: اقعدي، وتطلق بعضهم من الشهر الأول، وهذا من الأخطاء الشائعة.
فلا بد من الصبر، ولا بد من إعطاء المسألة زمناً؛ لأن العامل الزمني عامل مهم -أيها الإخوة- أنت الآن إذا كنت مسافراً وقدمت لك وجبة الطعام وتريد أن تأكل وموعد الطيارة قريب هل بإمكانك أن تأكل السفرة كلها في لقمة واحدة؟ ما رأيكم في شخص قال: والله أنا مستعجل وأخذ الرز على فمه وصبه كله، كم يدخل في بطنه؟ لقمة، والبقية أين تذهب؟ على ثوبه وعلى وجهه، ما أكل شيئاً، لماذا؟ هذا الصحن يحتاج إلى ربع ساعة تأكله، وأنت مستعجل ما دخل في فمك إلا لقمة والباقي ذهب كله إلى الخارج، كذلك الحياة الزوجية تحتاج إلى عامل الزمن، أعطها فرصة، وأعطيه فرصة حتى يحصل انسجام؛ لأنك سوف تنكرين عليه حتى في قضية النوم، يمكن لما ينام تنظرين فيه وهو نائم: ما هذه النومة؟ إنها ليست جيدة، لماذا؟ لأنك جديدة لم تأتلفي معه، أو قد يشخر لأن بعض الأزواج مبتلى بالشخير وهي كانت تنام في بيتها لا يُشخر فيه أحد، وهو رجل من حين بدأ ينام وهو يشخر، قالت: أزعجنا هذا، نقول: اصبري قليلاً وبعد ذلك لا تنامين إلا على الشخير، يصبح الشخير هذا مثل الموسيقى عند رأسك، إذا لم تسمعيه لا يأتيك النوم.
كذلك تناول الطعام، قد يأكل الرجل بيده بينما هي تتناول الطعام طول حياتها بالملعقة وأخوها يتناول بالملعقة، لكن زوجها تعود أن يأكل بيده، فتستغرب من طريقة أكله بيده، فنقول لها: اصبري قليلاً فستأكلين بيديك مثله، وهكذا أيها النساء! لا بد من الصبر في قضية الحكم على الزوج بالصلاح أو بعدمه.
ولذا تشاهدون -أيها الإخوة- أن الزواج الذي يمر بالسنة الأولى غالباً يكتب له النجاح، فيمر عليه سنتان أو ثلاث من النجاح فيتجاوز فترة التجربة والخطر، وبعد ذلك إذا جاء ولد أو بنت فإن ذلك مدعاة إلى الاستقرار والثبات.
لكن بعض الرجال يحكم على امرأته وهي ليس معها شيء، فيتعامل معها بشدة وقسوة وشتم، فيتحكم ويضرب من أول أسبوع ومن أول شهر، فتفشل الحياة الزوجية، وهي أيضاً تتعامل معه من أول أسبوع فيكرهها وتفشل الحياة الزوجية، فالمبالغة في طلب الكمال في الرجل أو في المرأة هذا من الأخطاء الشائعة.
فنقول لأخواتنا في الله: لا تبالغن واقنعن بما رزقكن الله سبحانه وتعالى، فلعل في ذلك خيرٌ كبير تحمدينه في مستقبل أيامك إن شاء الله.
وكم تلقيت من الاتصالات من كثير من الفتيات يتأسفن على حياتهن الأولى مع أزواجٍ طلقوهن، لأنهن استعجلن في الحكم على أزواجهن وطالبن بالطلاق، وبعد ذلك بقيت فترة طويلة عند أهلها وهي مطلقة مرفوضة، ثم تزوجت وتجري مقارنة بين ذاك الذي ما رضيت به وبين الجديد الذي جاء، وإذا بينهما مثلما بين السماء والأرض، تقول: ليتني صبرت على قسمي الأول، لكن رفضت، فعلى الإنسان أن يصبر على نصيبه الأول، فقد يكون فيه الخير، فالاستعجال في الرفض وطلب الطلاق خطأ.(86/10)
عدم الطاعة للزوج
الخطأ الثالث من بعض الزوجات: الاستنكاف وعدم الطاعة للزوج، والشعور بالأنفة، واعتبار طاعتها للزوج نوعاً من الامتهان والاحتقار لكيانها.
وهذا الوهم والخطأ يأتي أيضاً من مشاهدة بعض النساء للأفلام والمسلسلات، وسماعها للأفكار التي ترد من بلاد الكفار والتي توحي للمرأة أنها كالرجال وأن من حقوقها أن تمارس كل ما يمارس الرجل، وأنه ليس للرجل عليها سلطان ولا هيمنة، هذه أفكار ليست من الإسلام -أيها الشباب وأيها الرجال وأيتها النساء- الإسلام جعل القوامة للرجل، ليس تفضيلاً، ولكن تحميلاً للمسئولية؛ لأن هندسة الأسرة تقتضي وجود مسئول، إذا لم يوجد مسئول في الأسرة تضيع الأسرة، مثل المدرسة أليس فيها مدير؟ هل تصلح مدرسة بلا مدير؟ لا تصلح، ولهذا حين يغيب المدير يوماً واحداً تنظر المدرسة كلها والمدرسين كلهم خارج المدرسة والفراشين يذهبون وكذلك الطلاب، تقول: ماذا هناك؟ يقولون: المدير لم يحضر اليوم، لكن إذا جاء المدير كل شيء يكون مضبوطاً؛ لأن الدفتر عنده، والأوراق عنده، والتلفون عنده، والتقييم عنده، كذلك السيارة هل تمشي بدون سائق؟ لا.
وهل تصلح مدرسة بمديرين؟ لا.
هل تصلح سيارة بقائدين لها؟ نصنع سيارة ثم نضع فيها مِقْوَدين ونقول تحركا، هذا يريد أن يذهب يميناً وهذا يريد أن يذهب شمالاً، كيف ستمشي السيارة؟ لا بد من قائد واحد، كذلك الوزارة هل يصلح فيها وزيران؟ لا.
لا بد من وزير واحد، يصلح نائب الوزير لكن الوزير واحد فقط، وإذا كان وزيران فسدت الوزارة؛ لأن هذا يصدر قراراً وذاك يلغيه فتفسد، والدولة هل يصلح فيها ملكان؟ لا.
بل ملك وولي عهد، رئيس جمهورية ونائب رئيس الجمهورية، بل الكون كله هل يصلح فيه إلهان؟ لا.
يقول الله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، وفي الآية الثانية يقول: {إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91] فالكون محكوم بإله واحد، وتبدأ المسئولية من الأسرة محكومة الأسرة بمن؟ بمسئول واحد، من المؤهل أن يكون صاحب القرار في الأسرة: الرجل أو المرأة؟ إنه الرجل، لا نقول هذا استبداداً أو استعلاء، ولكن الله عز وجل خلق الرجل وجعله وأعطاه صلاحيات يصلح أنه يكون رب الأسرة، فعنده ميزان، وعنده القوة، وعنده القدرة، وعنده الشجاعة، وعنده التصرف، فلو كنت نائماً أنت وزوجتك في البيت وبينما أنتما نيام وإذا بكم تسمعون صوتاً فوق البيت أو فتح باب، من الذي يقوم؟ الرجل أو المرأة؟ المرأة ستقول له: قم هناك صوت، إذا قال: اذهبي وانظري، سوف تقول له: أنت الرجل قم، ولهذا تجد المرأة إذا جاءها خاطب وقيل لها: هذا الزوج متدين، وجميل، وثري، وكل ميزات الزوج فيه، غير أن فيه خصلة واحدة، قالوا: ماذا فيه؟ قالوا: ضعيف الشخصية جبان، ماذا تقول المرأة؟ تقول: لا أريده ما دام أنه جبان وضعيف الشخصية، أنا أريده رجلاً ولا أريد امرأة مثلي فتطرده؛ لأنها تبحث عن هذا.
وكذلك الرجل إذا جاء يريد أن يتزوج امرأة فإنه يريد امرأة لا يريد رجلاً مثله، ولهذا إذا قيل له: هذه امرأة جميلة ودينة، لكنها مترجلة، كأنك تنام مع رجال، قال: لا والله.
لا أريد رجلاً أريد امرأة.
فكذلك الحياة الزوجية تقتضي طبيعتها أن يكون لها آمر، الآمر من هو؟ الزوج، والمأمور من هو؟ الزوجة، فلا بد من الطاعة، أليس المدرس يطيع المدير؟ لأن المدير لديه حق التصرف الإداري لضبط الأمور، فالحياة لا تستمر إلا بالطاعة، وكذلك الحياة الزوجية لا تصلح إلا بالطاعة.
فنقول للأخت المسلمة: إذا أردت أن تنجحي في حياتك الزوجية فاسمعي وأطيعي لزوجك، ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام وهو يبين أن طاعة الزوجة تبلغها الجنة، -وهو في مسند أحمد - يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أيما امرأة صلت خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت) فطاعة الزوج ربع الطريق إلى الجنة، وليس بأمر هين فلا بد أن تطيعي زوجك.
ومعنى الطاعة ليست الطاعة فيما تحب المرأة، إذا أطعتيه فيما تحبين فلست طائعة، ولكن الطاعة له فيما تكرهين أيضاً، يقول لك: نمشي عند آل فلان وأنت لا تريدين ذلك، فتقولي: حسناً أو جاء عنده ضيوف فعليها أن تقوم بواجب الضيافة، الله يحييك ويأتي بهم، فماذا يصير بعد هذه الطاعة؟ عندما تطيع المرأة الزوج دائماً فإنه يتحول هو إلى أن يكون عبداً لها.
لكن إذا كانت الزوجة عاصية لزوجها فإنه سيستخدم معها أسلوب العناد ثم الطلاق، فإذا طلقها فإنها ستندم حين لا ينفع الندم.
إن الطاعة مطلوبة من المرأة، قد تقول المرأة: إن هذا امتهان، لا.
أبداً، إن طاعتك له تجعله عبداً لك.
لقد زفت امرأة من نساء العرب ابنتها إلى زوجها، وأوصتها في ليلة العرس وقالت: يا ابنتي! لو أن أحداً يستغني عن الرجال بأبيه لكنت أغنى الناس بأبيك -لأنها بنت رجل- ولكن للرجال خلق النساء وللنساء خلق الرجال، لا تريد المرأة إلا زوجها، لو جلست في بيت أهلها ثلاثين سنة كأنها غريبة كأنها على جمر، إلى أن يأتي فارس أحلامها وتذهب معه، فما تعيش المرأة إلا مع زوج، ثم قالت لها: يا بنيتي! إني أوصيك بوصايا فاحفظيها عني تسعدي في حياتك: كوني له أمةً يكن لك عبداً، كوني له أمة يعني: قينة، فالقينة عند سيدها أي شيء يقول لها، فتقول له: حاضر سيدي، كذلك الزوجة عند زوجها مثل القينة، ماذا يصير هو بعد ذلك؟ يكن لك عبداً، عندما تطيعينه مرة ومرتين وعشراً وثلاثين ويعرف منك هذه الطاعة فإنه يستحي أن يكون سيئاً معك، فلا بد من أن يكون طيباً، يطيعك مثلما أطعتيه ويعطيك ما تطلبينه؟ لأن المبادرة منك أنت.
كنت قبل فترة في الصيف الماضي في أبها، واتصلت بي امرأة من المدينة تشكو عليَّ من زوجها وقسوته وسوء معاملته، فسألتها عن تصرفاتها، فوجدت أنها هي السيئة، فقلت لها: الخطأ منك، قالت: هذه طبيعتك؛ لأنك ضد النساء، فأنت تحملنا دائماً الخطأ، قلت: ومن أنتِ حتى أحملك، أنا لا أعرفك يا بنت الحلال ولا أعرف زوجك، لكن أنا ناصح مخلص لك، أنا أعطيك وصفة استخدميها لمدة شهر، وبعد شهر أخبريني بالنتيجة وسوف نرى من المخطئ أنا أو أنتِ، قالت: هات، قلت: من الآن من حين يدخل لا تسأليه أين كنت؟ لأنها كانت تقول له كلما دخل: أين كنت؟ وتمكث تحقق معه نصف ساعة مثل الضابط مع العسكري، فيقول: أنا أدخل بيتاً أو أدخل سجناً.
بعد ذلك أي شيء يأتي به من السوق ولو يأتي بتراب، فيعطيك إياه قولي: (الله يوفقك)، (الله يعطف عليك)، (الله يملأ يدك)، عظمي الذي يأتي به؛ لأن بعض النساء لو تأتي لها بالهلال قالت: إنك لا تحسن أن تشتري، إنك دائماً لا تشتري إلا الرخيص، فيقول بعد ذلك: والله لا أشتري لها شيئاً، لكن عندما تشتري لها شيئاً رديئاً وتأتي به وتقول: (الله يوفقك)، فسيذهب ويشتري لها أفضل؛ لأنه يجد تقديراً لهذا العمل.
فقلت: أولاً إذا أتى لك ولو يأتي بالتراب قولي: طيب جيداً، وأي أمر يوجهه إليك قولي: حسناً، أي شيء ولو يقول: أمسي واقفة ولا تنامي، قولي: حاضر، لا يسمع منك كلمة لا، وبعد شهر أخبريني، قالت: حاضر.
وبدأ الصيف في أبها، وبحثت بعد شهر في مكة، وبحثت عن التلفون الذي اتصلت به فلم تجده، وأخيراً تسأل حتى وجدت الهاتف النقال، واتصلت بي وأنا في أبها، قالت: إني أخبرتك قبل أشهر من المدينة وبعد شهر اتصلت بك يا شيخ في مكة لكن ما وجدت تلفونك وأخذت رقمك من المركز الدعوي والإرشاد في المدينة، قلت: خير إن شاء الله ماذا الذي حصل؟ قالت: الله يجزيك عني خيراً، قلت: ماذا الذي حصل؟ قالت: والله إن زوجي الآن صار مثل اللبانة في فمي، ومثل الخاتم في يدي، أشكله كما أريد، بماذا؟ قالت: بتوصياتك، صرت طائعة وصار أطوع مني، وصرت طيبة وصار أطيب مني، تقول: حتى البيت ما كان يحب البيت يدخل في غرفة لوحده، الآن تقول: إذا عنده حصة فراغ وهو مدرس تقول، حصة فراغ (45 دقيقة)، يخرج ويركب السيارة ويذهب إلى البيت يقضيها مع زوجته حصة الفراغ فكيف بطول اليوم تقول: لا يخرج، لماذا؟ لأنه وجد السكن.
فبعض النساء تقول: زوجي يسهر، وزوجي يذهب مع رفقائه، زوجك أعانه الله يهرب منك، ولكن لو أنك طيبة والله لا يتخذ له رفيقاً فأنت الرفيق وأنت الصاحب وأنت الحبيب، لماذا؟ إذا صرت أنت طيبة، إنما إذا دخل ونظر إلى المشاكل من حين أن يدخل، وهي تتلفت فيه، ماذا بك تأخرت؟ لقد شغلك رفاقك عنا إنك تروح وتذهب، ولا تأتي بشيء، دائماً يداك خاليتان، أين العشاء؟ اذهب واشتر العشاء من السوق! هل تصلح هذه الزوجة؟ فيذهب ليبحث عن رفقائه ويهرب منها ولا يأتي إلا آخر الليل، إذا علم أن زوجته قد نامت، دخل بهدوء من أجل ألا تصحو فتقوم تشتمه من حين تعلم أنه جاء، فهذه تحول البيت إلى جحيم -والعياذ بالله- فهذه المرأة قالت لي: جزاك الله خيراً، والله أنا اتبعت وصيتك ونجحت نجاحاً كبيراً، قلت: الحمد لله.
لقد قالت المرأة لبنتها: (كوني له أمةً يكن لك عبداً، وكوني له أرضاً يكن لك سماءً، وكوني له مهاداً يكن لك عمادا، ثم قالت: واحفظي عني عشر خصال: الصحبة بالقناعة -ليس هناك طمع، فإن المرأة إذا طمعت في زوجها وفي أمواله يكرهها؛ لأنه يعتبرها عدوة، فاقبلي ما جاء به إن أتى بعشرة أو إن أتى بألف فاقبليه- الصحبة بالقناعة، والمعاشرة له بالسمع والطاعة) فهاتان اثنتان، والتفقد لموضع عينه وأنفه فلا يرى منك قبيحاً، ولا يشم منك إلا أطيب ريح؛ لأن الزوج يؤذيه المنظر القبيح ويؤذيه أيضاً الريح القبيح، يريد أن يشم المرأة وكأنها مزهرة أو كأنها ريحانة، لكن بعض النساء ريحهن منتنة إذا جاءت عندك هربت من ريحتها -والعياذ بالله- البصل والثوم والوساخات في رأسها، فإذا جاءت تريد أن تخرج لبست من أجل أن تذهب للحفل أو تذهب لحفلة الزواج، فلا بد من الاستعداد أقل شيء نصف ساعة قبل أن يأتي من عمله هذه النصف الس(86/11)
المبالغة في الغيرة على الزوج
ومن الأخطاء التي تقع فيها بعض النساء المبالغة في الغيرة على الزوج، والغيرة مبعثها الحب، فلا تغار امرأة إلا على زوجٍ تحبه، أما الذي لا تحبه فلا تغار عليه، لكن الغيرة لها حدود ولها نسبة، فإذا تجاوزتها انقلبت إلى مشكلة تؤدي في النهاية إلى الطلاق، وذلك عن طريق التخيل فتتخيل زوجها حتى وهو يسير في الشارع حين تتخيل أنه نظر إلى امرأة قالت: ماذا بك تنظر إلى المرأة، وهو لم ينظر إليها، ولكنها جعلته ينظر إليها من باب العناد، فلقد غضضت بصري خوفاً من الله وأنت تقولين: لماذا تنظر إليها!! فهي بذلك تفسد زوجها، فلا ينبغي للمرأة أن تغار الغيرة المبالغ فيها؛ لأن هذا يؤدي إلى طلاقها، وفي إحدى الوصايا لأحد الحكماء يقول: (إياك والغيرة فإن الغيرة مفتاح الطلاق).(86/12)
الإهمال في خدمة الزوج
ومن الأخطاء الإهمال في خدمة الزوج، ووضعه في آخر اهتمامات المرأة، فبعض النساء تهتم بالطبخ والكنس والغسيل وتنظيف البيت ولا تهتم بالزوج، فالزوج نفسه يريد اهتماماً مثلما تهتمين بشئون البيت الأخرى أيضاً الزوج نفسه يريد اهتماماً بوضعه الخاص، وفي نفسه فيحتاج إلى ما يزيل عنه أثر الجهد والتعب طوال اليوم وذلك بالقيام -مثلاً- بتدليك رجليه وظهره ومفاصله، فهذه تجعلك في مقام رفيع عنده، وتزيد من أواصر المحبة والألفة، فلا بد من الاهتمام بالزوج، الاهتمام به في عمله، وفي حالته النفسية، وفي كل ما يتعلق به من راحة ومن دواء، إذا كان مريضاً وأتى بعلاج فتهتمي بمواعيد إعطائه العلاج وتعطيه إياه في وقته، فما رأيكم في هذه الزوجة إذا كانت هكذا؟ بل إن بعض الزوجات تتصل بزوجها إذا كان مسافراً وتقول له: انتبه لا تنس الدواء فإن موعده الساعة كذا وكذا، هذه حسنة في الدنيا، لكن بعض الزوجات إذا أتى العلاج أخذته ورمت به، وإذا قال: أعطني الدواء قالت: أشغلتنا بالدواء لا أنت مت ولا أنت تعافيت، أعوذ بالله!!(86/13)
إهمال المرأة لحقوق أقارب الزوج
من الأخطاء: إهمال المرأة لحقوق والد الزوج وأقارب الزوج، فتتخذ من أمه عدواً، وتتخذ من أبيه عدواً، وتتخذ من أقاربه أعداء، وتضخم أخطاءهم، وتتصيد زلاتهم، ثم تشتكيهم دائماً عليه، وتغار من أمه فتجعله في موقف محرج، هذه تشكي أمي عليَّ ماذا أعمل في أمي؟ أذهب أبدلها؟ ليس هناك تبديل، هل أخرج أمي من البيت؟ لا.
ليس معقولاً، فمهما رأيتِ من أمه لا بد أن تسكتي ولا تشكي عليه؛ لأنه ليس بإمكانه أن يعمل شيئاً فلا يستطيع أن يضرب أمه ولا يخاصم أمه وأباه أيضاً، بل إذا جاء قدرية وقولي: أمك طيبة الله يجزاها الخير، وأمك فاضلة، وأبوك فاضل، وأقاربك كلهم طيبون، وأنا أقدرك في قدرك، فاحترميهم على الأقل، واحترمي هذه الأم إذ لو لم يكن من بركات هذه الأم إلا أنها جاءت لك بهذا الزوج، من الذي جاءك بهذا الزوج؟ أليس هذه الأم؟ فهي مباركة وفيها خير كبير، احفظي لها هذا الفضل، وأكرميها لهذه المنزلة التي جعلت هذا الولد زوجاً لك، لكن تشتكينها عنده وتضخمين خطأها: أمك فتحت الباب وضربت به هكذا، أمك أسرجت المصباح وما أطفأته إلا بعد الفجر وذلك من أجل أن يغضب على أمه، فلا يجوز أن تضخم أخطاء الأقارب أو تهملهم، بل تحترمهم احتراماً لزوجها.(86/14)
كثرة التسخط، وعدم مراعاة وضع الزوج ومشاعره
ومن الأخطاء: كثرة التسخط وعدم مراعاة وضع الزوج ومشاعره، ودائماً التسلط على سلبياته، وكثرة المقارنة به بالرجال.
تتسخط على زوجها وتقول: لم يعطنا، ولم يأت لنا بكذا، آل فلان اشتروا (طقم كنب) وما أتى لنا هو بذلك، وآل فلان (دهنوا) البيت وما أتى لنا هو، آل فلان آل فلان، إن كل إنسان له ظروف، ففلان يمكن أن يكون راتبه كبيراً وراتبي قليل فماذا أعمل؟ هل أذهب وأستلف مبلغاً كبيراً كل شهر من أجل أن ألبي طلباتك وأظل مثل فلان؟ أما تعلمين أن كلمة آل فلان أنها طعنة في شخصية الرجل؟ وأنها تؤلمه؛ لأنه كأنها تقول: أنت لست جيداً مثل فلان، ففلان أحسن منك، وهذا من جهالة المرأة، فلا يجوز أن تتسخط المرأة على زوجها، ولا أن تتجاهل وضعه بل عليها أن تقدر ظروفه وتقبل منه ما تيسر، وأن تشاهد دائماً إيجابياته، وأن تغض الطرف عما فيه من سلبيات ومن أخطاء، ولتحذر كل الحذر من مقارنته بالرجال، وأن تقول: لست مثل فلان ولا مثل علان، هذا كله لا ينبغي من المرأة المسلمة العاقلة.(86/15)
المنّ على الزوج
وهذا يحصل من المرأة الموظفة، فإذا شاركت بشيء من راتبها في خدمة الزوج أو في مصاريف البيت فإنها تحفظ له وتمنها عليه ولو بعد سنة، والأصل في النفقة أنها على الزوج والمرأة ليست ملزمة شرعاً، لكن بموجب الود والرحمة والتعايش بين الزوجين ينبغي ألا تكون المرأة أنانية، ترى زوجها مهموماً بالديون وبمشاكل الحياة بينما هي تحتفظ براتبها، فإذا أرادت أن يحبها زوجها، وأن يعيش معها، فلتتفاعل معه وتقوم بجزء من مصاريفه، وإذا اشترى سيارة -مثلاً- تقول هذه عشرة آلاف، وإذا رمم البيت قالت: هذه عليّ، وإذا خرجوا يتمشون قالت: العشاء اليوم عليّ، فإذا رأى الرجل المرأة بهذا الوضع أحبها ووثق فيها، لكن إذا رآها أنانية لا تعطيه شيئاً، عرف أنها زوجة أنانية وبالتالي يتخلص منها في أي يوم من الأيام أو يتزوج عليها، فما نريد هذا من المرأة، ولا نريد أيضاً من الرجل أن يطمع في مال المرأة، فالمال لها لكن يجب أن تكون هي أيضاً كريمة وغير أنانية، وإذا أعطته شيئاً فلا تمن به عليه، فإن المن يؤذي الرجل، والمرأة إذا منت على زوجها بأي شيء كأنها تقدح في رجولته، وكأنها تقول: إنك ليس عندك شيء، وأنت فقير وأنا الذي أعطيتك.(86/16)
إرهاق الزوج بكثرة الطلبات
من هذه الأخطاء: إرهاق الزوج بكثرة الطلبات والمقاضي والتفصيل للموديلات، وكل حفلة لها موديل، وكل تمشية لها ذوق، وتحلف ألا تلبس هذا الثوب فقد شاهدوه عليها، تحسب أن الناس قد تلفتوا إلى ثوبها والله ما دروا عن شكلك ولا عن ثوبك لو لبستيه مائة امرأة فلا أحد يتلفت في الثياب من كثرتها، لكن بعض النساء عقليتها ضعيفة.(86/17)
كثرة الارتباطات والزيارات والمناسبات
كذلك كثرة الارتباطات والزيارات والمناسبات، وكثرة العلاقات الاجتماعية، عندما يكون الزوج مشغولاً بعمل، أو التزامات، أيضاً هو بشر يريد أن يرتاح، لكن بعض النساء لا تراعي الظروف، بمجرد أن يدخل يريد أن يرتاح قالت: اذهب بنا إلى آل فلان، ماذا هناك؟ قالت: صديقتي أريد أن أزورها، اليوم الثاني قالت: وفلانه عندها قهوة عزمتني، واليوم الثالث قالت: بنت جدتي في الحي الفلاني، والرابع قالت: وبنت جدة عمة خالتي في كذا!! أصبح الزوج كأنه سائق (تكسي) هذا الضعيف فقط لهذا المرأة التي عذبته.
بل اجمعي الموضوع إلى أقصى شيء، ولا تذهبي إلا للذي لا بد منه وفي المناسبات، وإذا عرضت عليه ذلك فتأكدي أن هذا الأمر لا يزعجه وإن كان عنده شغل فاتركيه يرتاح؛ لأن توسيع دائرة الارتباطات والمناسبات والزيارات والعلاقات الاجتماعية يجعل الزوج يزهق، الناس اليوم خاصة -يا إخواني- ليس عندهم أوقات، أولاً: تباعدت الخطا، وكثر اتساع الناس، وكثرة المشاكل والمشاغل، وأصبح الإنسان بحاجة إلى أن يرتاح في بيته، فعلى المرأة أن تراعي هذا الوضع؛ لأنه من أهم الأوضاع.(86/18)
سوء تصرف الزوجة عند تزوج الزوج بأخرى
آخر خطأ وقد أخرته لأهميته: وهو سوء التصرف الذي يقع من بعض الزوجات حينما يحصل لزوجها أن يعدد، أي: أن يتزوج عليها.
نحن في الأصل لا نلوم المرأة إذا كرهت أن يخطب أو أن يتزوج عليها زوجة، هذا شيء طبيعي، فالإنسان لا يحب الشراكة في شيء، كل واحد يريد أن يكون له شيء خاص، حتى لو كان قلماً تقول: قلم لك أنت وأخيك، لك يوم وله يوم، يقول: لا أريده، إما لي أو لا أريده، لكن قضية التعدد شيء أباحه الله سبحانه وتعالى وجعله حلاً، بل بعض أهل العلم يقولون: إن التعدد من محاسن الشريعة، ومن أحسن مما مهد الله إليه، لماذا؟ لأنه إن لم يكن هناك تعدد فلن يكون بعد ذلك إلا الزنا، فقد يتزوج الإنسان من امرأة ويكون عنده من الرغبة في الأمور هذه ما لا يجده في امرأته فماذا يصنع؟ يعيش محروماً مكبوتاً، أم يذهب إلى الزنا؟ لا.
الشرع يقول: تزوج {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] أو يتزوج الإنسان بامرأة مريضة فإذا كانت مريضة فله أن يطلقها من أجل أنها مريضة، أو يتزوج ويقوم بشأن زوجته المريضة؟ أو أن يتزوج بامرأة -مثلاً- عقيم لا تنجب، فإذا طلقها وتعارف الناس عليها أنها عقيم فمن يتزوجها، أو يعيش بدون أولاد؟ فالحق أن يتزوج.
أولاً: ينبغي للمرأة أن تعمل كل ما في وسعها من أجل تحقيق الرفاهية والحياة السعيدة لزوجها حتى لا يلجأ إلى التعدد، ونحن نعرف أن الرجل لا يلجأ إلى التعدد إلا من خلل عند المرأة، فالسعيد مع امرأته لا يعدد أبداً، لكن إذا حصل منها شيء ذهب يعدد، وإذا عدد ما الذي يحصل؟ تحصل تصرفات غريبة من بعض النساء، منهن من تعترض على الله في الشرع وكأنها تلوم الله لماذا أباح التعدد؟ وهذا يؤدي بها إلى الكفر؛ لأنه اعتراض على شريعة الله، يقول الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [محمد:9] فماذا حصل؟ {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9] ويقول عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
منهن أيضاً من تذهب إلى السحرة إذا عرفت أنه تزوج وقالت: زوجي تزوج أريدك أن ترده إليَّ، قال: أبشري، والله ما أجعله يعرف أحداً إلا أنت، فتعطيه مبلغاً من المال وبعد ذلك يكرهها هي؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس:23] (ومن حفر حفرة لأخيه وقع فيها)، هي عملت في السحر لكي تؤذي تلك الزوجة الثانية وتلك ما لها ذنب فهي امرأة خطبها رجل وجاءت بعقد شرعي وما جاءت هي، بل هو الذي ذهب إليها، فما هو ذنبها؛ لأنها تزوجت؟! لا.
فيعود الكره والبغضاء والكراهية لهذه ويطلقها بعد ذلك.
ومنهن من تسلك مسلكاً خبيثاً فتقترب من الجريمة والزنا وتقول: ما دام زوجي ذهب إلى زوجته الثانية فسأبحث عن صديق، فتقع فيما حرم الله، وتصيبها لعنة الله في الدنيا والآخرة، والعياذ بالله! ومنهن من تذمه وتشوه سمعته وتبالغ في ذكر معايبه، وتغري وتشحن أولاده ضده، وإذا اتصل أحد بها قالت: إنه ليس فيه خير، فتزيد المخاصمة بينه وبينها، وبذلك يقتنع بأن زواجه بالأخرى هو الحل الصحيح، وأن هذه لا تصلح أن تكون زوجة.
ومنهن -أيضاً-من ترتكب حماقة أكبر وهي أن تهجر زوجها وتهدم بيتها وتشرد أولادها وتذهب إلى أهلها، فيطلقها، وبعد ذلك بدل أن تربي أولادها تربي أولاد الناس، إما أن يتزوج بها شخص عنده أولاد، أو تقعد في بيت أخيها أو بيت أختها تربي أولاد الناس، وبالتالي تضيع مصالحها كلها.(86/19)
العلاج
.(86/20)
الصبر هو الموقف الصحيح الذي يجب على المرأة فعله
أما الموقف الصحيح الذي يجب أن تقفه المرأة إذا حصل مثل هذا أن تصبر وأن تسترجع، وأن توطن نفسها على الوضع الجديد، وأن ترضى بقضاء الله وقدره، وأن تحكم العقل، وأن تنظر في العواقب، وأن تحذر من إيذاء الزوج أو الزوجة الجديدة، وأن تطرح كلام الناس، وتقطع الهاتف، ولا تتصل بأحد أو لا تجيب على أحد بهذا الموضوع، وأن تغير وضعها مع الزوج من حيث التعامل؛ لأنه أصبح الآن في الميدان منافس، فليست لوحدها، فهناك الآن منافس آخر، فغيري جلدتك وغيري وضعك، وابذلي جهداً أفضل، وابذلي تعاملاً أكمل على أساس أنه يمكن أن يرجع لك زوجك؛ لأن بعض الزوجات تشتكي تقول: والله من حين تزوج علينا أنها أخذته، وشغلت عقله، وهذا طبيعي؛ لأنها عرفت كيف تتعامل معه، وأنتِ لا زلت تتعاملين معه على الموضة القديمة، على المعاملة الأولى الذي قد ذهبت وانتهت، وعندما يوازن بينك وبين الجديدة يجد أن هناك فرقاً فيعود ويذهب، لكن لو أنك تغيرت فسيرجع، وربما يضحي بزوجته الثانية، فبعض النساء تقول: أنا سوف أتغير لكن أريده يبعدها، لماذا يبعدها؟ لقد (وقع الفأس في الرأس)، والمسألة ليست لعبة، يقول شخص من الإخوان: إنه تزوج بامرأة على زوجته الأولى فتغيرت زوجته الأولى، وبدأ الاحتفاء والاهتمام، وبدأت الرائحة الطيبة في البيت، وبدأ الطعام الجيد واللباس الجيد والتعامل الجيد، يقول: كنت أدعوها قبل ذلك فلانة، فتقول: طاعون، يقول: الآن فلانة، تقول: لبيك، يقول: أدخل الباب فأشاهد أولادي فإذا بهم طابور -مثل السلم- كلهم بانتظاري، أشم الرائحة من طرف البيت، يقول: قلت لها: أين هذه الأخلاق سابقاً؟ أين هي من زمان؟ والله لو أنك من زمان هكذا ما تزوجت، قالت: حسناً الآن أنا جيدة، قال: لا تصلح الآن، ليست المسألة لعبة، هذه بنت رجل أتيت بها بوجهي ولن أطلقها.(86/21)
الاعتقاد أن الدنيا ليست دار راحة وكمال
أيضاً مما ينبغي أن تعرف المرأة التي حصل لها التعدد أن تعرف أن الكمال وأن الراحة الكاملة ليست في هذه الدنيا، وإنما هي في الآخرة، فلتصبر على وضعها الجديد مع زوجها، ولتسأل الله سبحانه وتعالى أن يعينها على التكيف مع الوضع الجديد، حتى تنجح في حياتها الزوجية، وحتى يستمر لها نصف زوجها، فإن بقاء نصف أحسن من لا شيء.
وفي الختام: أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق النساء لحسن التعامل مع الرجال، وأن يوفق الرجال أيضاً لحسن التعامل مع النساء، وأن يقيم الأسر المسلمة على الحق وعلى التعاون على ما يرضي الله سبحانه وتعالى، كما أسأله أن ينصر دينه وأن يعلي كلمته، وأن ينصر إخواننا المجاهدين في فلسطين، وفي كشمير، وفي الشيشان، وفي جميع ديار المسلمين، وأسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ لنا هذه البلاد المباركة، وأن يحفظ لنا ديننا وأمننا ونعمتنا واستقرارنا، وأن يجعل كيد من يريدنا بشرٍ في نحره وتدبيره في تدميره، وأن يوفق ولاة أمورنا وعلماءنا ودعاتنا وشبابنا وشاباتنا وجميع المسلمين، وأن يوفقهم إلى خدمة هذا الدين، ومناصرة هذا الدين، والدعوة إليه، والذب والذود عنه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(86/22)
الأسئلة
.(86/23)
حكم الدعاء على الولد
السؤال
عندي زوجة -والعياذ بالله- تدعو على الأولاد ليلاً ونهاراً، ولو يفعل الأطفال شيئاً فإنها تبادرهم بالدعاء أو السب والشتم، حتى إن بعض الأطفال بدأ يقلدها بالدعاء، يقول: ما حكم هذا الدعاء؟ وهل هو مستجاب؟ وما نصيحتكم لهذه الزوجة، أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب
هذا خطأ من الأخطاء الشائعة عند بعض النساء، وعند بعض الرجال أن يدعو الرجل أو تدعو المرأة على ولدها أو على زوجها أو على بنتها لخطأ حدث أو لمشكلة وقعت، هذه المخالفة مخالفة شرعية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حذر عن هذا في الحديث الصحيح قال: (لا يدعو أحدكم على أهلٍ ولا مالٍ ولا ولد، فربما وافقت ساعة استجابة) كونه يمكن أن يستجاب؛ لأنك تدعو، وقد توافق ساعة إجابة، والمرأة وهي تدعو على ولدها ليست صادقة، فبعض النساء تقول: الله يهلكك، وهي لو تدخل شوكة في رجله تتمنى أنها في وجهها، لكن الحمق والغضب يجعلها تقول مثل هذه الألفاظ: (الله يهلكك)، (الله يكسرك)، هذا كله لا يجوز، بل قولي بدل (الله يهلكك) (الله يهديك)، وبدل (الله يكسرك) (الله يصلحك)، لكن بعضهن ما يسكن قلبها إلا بالدعوة القبيحة تقول: لو قلت الله يصلحك ما سكن قلبي.
كانت هناك امرأة ولدها يؤذيها في الحوش وهو يقول: سوف أذهب، تقول: لا.
لا تذهب، قال: أذهب، قالت: (الله يجعلها في وجهك)، فخرج من باب البيت ويريد البقالة أمامها ومع مجيء سيارة بسرعة قطعته تقطيعاً، تقول: من حين أن سمعت صرير إطار السيارة عرفت أن الله استجاب دعوتي، وأن الله جعلها في وجهه ومات، تقول: أنا التي قتلت ولدي ليس هو الذي قتل نفسه، فقد استجاب الله دعوتها، وهذه المسكينة الآن تعيش حياة بأمراض نفسية، وقد جلست فترة طويلة في المستشفى، والآن بعد سنوات لا تزال تعيش آلام هذه الكارثة لأسباب الحمق، فلا يجوز ولا ينبغي الدعاء على الأولاد.
ونحن ننصح هذه المرأة أن تتوب إلى الله، وألا تدعو على أحدٍ من أولادها وألا تدعو على زوجها، بل تدعو لهم فغيري الكلمة القبيحة بالكلمة الجيدة، (الله يهديك)، (الله يصلحك)، (الله يوفقك)، وتعود الإنسان على هذا يجعله إن شاء الله يستمر عليه.(86/24)
حكم الحلف بالطلاق
السؤال
إذا قال رجل لامرأته: (عليّ الطلاق).
هل تكون هذه المرأة طالقاً أم لا؟ وأضيف أيها الشيخ إن بعض الرجال يستخدم هذه الكلمة في حلفه غالباً، فما توجيهكم لهؤلاء؟
الجواب
الحلف بالطلاق لا يجوز؛ لأن (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله) وإذا حلف الرجل على امرأته بالطلاق فقد علق طلاقها على هذا الشيء الذي حلف عليه، وهذا الذي يسميه العلماء الطلاق المعلق، فإن وقع هذا الشيء وقع الطلاق، كأن يقول لامرأته: عليّ الطلاق ما تخرجي لأهلك، إن الله جعل الطلاق في يده لكن من حماقته جعل الطلاق في يد المرأة، بحيث لو أرادت أن تطلق نفسها تذهب، أو كأن يعزم أناساً ويقول: عليَّ الطلاق أن تموت شاتكم أو أن أذبح لكم، فيذهبون، إذا ذهبوا وما ماتت شاتهم ولا ذبح لهم أيضاً وقع الطلاق، هذا يسمونه الطلاق المعلق، وهذا عليه جماهير أهل العلم، وفتوى هيئه كبار العلماء.
وهناك تحفظ لبعض العلماء ومنهم عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه يقول: يسأل عن نيته أثناء الطلاق: فإن كانت نيته الطلاق وقع، إذا وقع ما حلف عليه، وإن لم يكن في نيته الطلاق وإنما في نيته المنع فهي كفارة يمين.
هذا القول قال به الشيخ عبد العزيز بن باز ومعه بعض العلماء، لكن الذي عليه جماهير العلماء، والأئمة الأربعة، وكثير من العلماء أنه يقع الطلاق، وقد ناقشت سماحته رحمة الله تعالى عليه في هذه المسألة وقلت له: يا شيخ كيف نسأل الرجل نقول: نيتك الطلاق أو نيتك اليمين وهو يطلق؟ وهل يفتقر الطلاق إلى النية؟ والحديث في السنن: (ثلاث جدهن جد، وهزلن جد) فلو أن شخصاً جالس مع زوجته يتعشون ويريد يسامرها أو يضحك معها أو يمزح أو يريد يفجعها قال: أنت مطلقة.
ما رأيكم في هذا الطلاق يقع أو لا يقع؟ رغم أن نيته ليست الطلاق بل نيته المزاح، قلت للشيخ هذا الكلام، فسر به لكنه قال لي مأخذاً بعيداً قال: أحياناً يطلق الإنسان وليس للزوجة علم، يعني: هي في بيتها مع أولادها وهو ذهب يشتري لهم تيساً وتخاصم هو وصاحب التيس وطلق أنه يشتريه، وبعد ذلك ذاك قال: والله ما أبيعه، طلق أنه ما يبيعه، فماذا نعمل بهذه المرأة المسكينة إذا قلنا لها: وقع هذا الطلاق، وقع الطلاق عليها بغير ذنب، يقول: فبمثل هذه الحالة نرى ألا يقع حفاظاً عليها، فهذه نظرة من نظرات البعد والرحمة بالأمة، وهذا ما تميز به سماحته رحمة الله تعالى عليه.(86/25)
نصائح لمن عق والديه
السؤال
أرجو أن تعلق على هذه المشكلة وهي: أن هناك ابنة عاقة لأمها وترد عليها بأبشع الألفاظ وتقول: ليس لك دخل بي، ولا تأكل معها وهي على هذه الحال أكثر من ثمان سنوات، وكانت في بداية المشكلة أن الأم إذا اشتكت إلى والدها قال أمام البنت: أنت تخطئين عليها، حتى وصلت إلى هذه الحال.
فأرجو من فضيلتكم أن توجهوا نصيحة لهذه البنت ولأمثالها، علماً بأن الأم والبنت معنا الآن في هذه المحاضرة؟
الجواب
أولاً العقوق من أعظم ومن أكبر الكبائر، والحديث في الصحيحين من حديث أبي بكرة قال عليه الصلاة والسلام: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين -قرنه الله بالشرك- وكان متكئاً فجلس وقال: ألا وقول الزور ثلاث مرات) فهو من أكبر الكبائر، وبر الوالدين من أعظم الطاعات والقربات، بل قرن الله برهما بعبادته قال عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36] {وقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] فالبر قربة، والعقوق مصيبة، وقد يعاقب العاق في الدنيا إلى جانب العقوبة التي تنتظره في الآخرة، فعقوبته في الآخرة النار -والعياذ بالله- أما عقوبته في الدنيا العاجلة فإن الله يسلط عليه من أولاده من يزيد في عقوقه على ما عق به أمه وأباه.
وهذه البنت هي اليوم بنت لكنها غداً سوف تتزوج وسوف يأتيها أولاد، وسوف يكيلون لها بمكيال أمها ويزيدون.
فقد كان هناك شخص يضرب أباه ويسحبه من القصر إلى الباب، ويغلق الباب عليه ويتركه في الحوش، وصبر هذا الأب حتى مات، ودارت الدنيا إلى أن صار هذا الولد شيخاً وجاء له ولد فكان يضربه من فوق القصر ثم يسحبه إلى الباب الداخلي ويخرجه من الحوش، ثم يخرجه إلى باب الشارع ويتركه في الشارع، فيقول لولده: يا ولدي والله إني كنت أضرب أبي إلى هنا دعني هنا، قال: لا.
كنت تضرب أباك إلى هنا وأنا سوف أزيدك، وأدعك في الشارع هناك، فبروا آباءكم يبركم أبناؤكم.
فالبر مكيال إن توفِّه يوفَّ لك، وإن تنقصه ينقص عليك، وأنت -أيتها البنت- عقوقك لأمك محسوب عليك وغداً يأتي من يعقك أكثر وأكثر.
ومن عقوبات عاق الوالدين وعاقة الوالدين: عدم التوفيق، فلا يوفق الله عاق والديه أبداً بل كلها في وجهه.
وكذلك عدم التيسير في الأمور، ومحق بركة الرزق، ومحق بركة العمر، ومحق بركة الأولاد، فأمور العاق كلها -والعياذ بالله- معسرة.
فننصح هذه البنت بالتوبة إلى الله، واستغلال حياة والدتها فإنها ضيفة ولا تعلم كم ستعيش، ومن أعظم الآلام في النفس أن يموت أبوك أو أمك وأنت غير بار بهما؛ لأنه إذا مات من أين تأتي بأب؟ تشتري أباً من أجل أن تبره؟ هي فرصة واحدة فاتتك، فلا تضيعي هذه الفرصة -أيتها البنت- وعليك بالتوبة والرجوع إلى أمك وتقبيل قدمها وطاعتها وبرها، وعدم استنكاف أي أمرٍ تقوله.
ونشير إلى عبارة وردت في السؤال: أن الذي جعل البنت هذه تعق أمها هو أسلوب أبيها، فقد كانت البنت إذا شكت إلى أبيها يقول للأم: أنت المخطئة على ابنتك، فقلل من شأن الأم، وشجع البنت على العقوق، وهذا من الأخطاء الشائعة عند الرجال، لا ينبغي لك أن تتكلم على امرأتك أمام أولادها؛ لأن هذا ينزل من شخصيتها، ويقلل من اعتبارها في أذهانهم، بل عليك دائماً أن ترفع من شأن امرأتك، وإذا كنت وهي لوحدكما تقول: أنت أخطأت، لكن ما أريد أقول لك أمام الأبناء فأنت مخطئة ولهم حق وهكذا.(86/26)
إجابة الزوج إلى الفراش أوقات الصلاة
السؤال
زوجي يطلبني إلى فراشه في أوقات الصلاة وهو يتخلف عن الجماعة فهل تعتبر موافقتي له معصية للخالق أو لا؟
الجواب
أولا: ينبغي أن تنصحيه وتناصحيه حتى لا يتخلف عن الجماعة؛ لأن تخلفه عن الجماعة مدعاة للنفاق -والعياذ بالله-، كما جاء في الحديث: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق).
ثانياً: إذا طلبك في هذا الوقت فبعد أداء الصلاة، قولي له: نصلي أولاً، وإذا كان الوقت يسمح بممارسة هذا العمل ثم القيام منه إلى أداء الصلاة بحدود الوقت قبل خروجه فلا بأس؛ لأن وقت الصلاة فيه وقت على التخيير ليس كله وقتٌ ضيق خاصة في العشاء، لكن إذا جاء يطلبها في وقتٍ والوقت فيه ضيق وما بقي إلا أن يخرج الوقت فلا (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).(86/27)
حكم معاملة الزوجة معاملة سيئة
السؤال
إنها زوجة تزوجت منذ شهور، ومن أول ليلة من زواجها وحتى الآن يقول لها الزوج: أنا لا أريدك، ولا أحبك، وندمت من الزواج منك، وتقول: وجدت منه معاملة سيئة وضرباً وتهديداً، حتى إنه حاول مراراً قتلي، ويقول لي كلمات بذيئة مع أني أرجو فيه الخير، وكان يقول: سوف أصبر عليك للظروف وخوفاً من المشاكل العائلية، وإلا لفارقتك من أول ليلة، تقول: ماذا تنصحونني مع أني حاولت أن أحببه في نفسي وبذلت ما بوسعي لإسعاده، ولكن يقابلني بالجفاء، وإن أحسن يوماً أساء أياماً، فأنا أفكر في الطلاق مع أني سوف أكون أماً -إن شاء الله- لأني أرى أني أصبر نفسي على شخصٍ لا يرغب بي، وكان يقول لي مراراً: إذا أردت الفراق فلا تستطيعي أن تطلبي الفراق، فما الحل أرجو مساعدتي والدعاء لي وله وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الله المستعان! لا حول ولا قوة إلا بالله! نسأل الله عز وجل أن يعينك على هذا الزوج، هذا الزوج أولاً أحمق؛ لأن التعبير: بأنني لا أريدك، وأنا أكرهك، وأنا أريد أتزوج عليك، أريد أطلقك، هذا لا يليق بالرجل العاقل، حتى لو كان لا يريدها، فإنه لا ينبغي له أن يعبر؛ لأنه يكسر خاطرها، ويحطم مشاعرها، ويقطع كل حبل يمكن أن يكون بينه وبينها نفسياً، بل عليه أن يصبر هو وتصبر هي، أما ما دام بهذه الهيئة وبهذه الكيفية ويعبر ويضربها ويفكر حتى كما تقول في قتلها فقضية الاستمرارية مع هذا الوضع أنا أرى ألا تتم، وإنما تصبر بمقدار فإن رأت تحسناً مع مرور الزمن -يعني يغير من وضعه- وهي تبذل كما هي تقول: إنها تبذل جهدها في سبيل رضاه، عليها أن تبالغ في رضاه وفي السمع والطاعة وتنفيذ الوصايا التي ذكرناها، وتصبر أيضاً مع ملاحظته؛ فإن كانت تجد أن هناك تحسناً فهناك أمل؛ لأنها تقول: إن فيه خيراً، وإن كانت ترى أنها كلما صبرت ازداد سوءه فلا، بل تطلب الطلاق قبل أن يزيد أكثر، حتى ولو كانت أماً؛ لأن معنى ستكون أماً كأنها حامل الآن، فبواحد أو بخمسة أو بستة، فتصحح الغلطة من أولها؛ لأن ليس كل زواج -أيها الإخوة- يستمر، لا.
ستبقى قضية الطلاق، فما شرعها الله إلا لأنه قد يكون لك بنسبة قليلة مثل هذه النسبة من إنسان بهذا الوضع يعيش هذه النفسية السيئة يحطم مشاعر هذه الزوجة يهينها يضربها يقول: أنا لا أحبها، أنا غلطان أني تزوجت بها، هذا لا يستحق أن يكون زوجاً، هذا أحمق وجاهل، وعليه أن يتقي الله سبحانه وتعالى، وعليها أن تصبر بمقدار ما تأمل أن يحوله الله عز وجل ويهديه، فإذا رأت أن الصبر لا يزيده إلا عناداً فلتعالج الوضع بطلب الطلاق ولتذهب إلى أهلها، وسيجعل الله لها مخرجاً وفرجاً وعوضاً صالحاً بإذن الله.(86/28)
الكتب المفيدة في كيفية التعامل مع الزوج
السؤال
أرجو أن تذكر بعض الكتب والأشرطة في كيفية التعامل مع الزوج؟
الجواب
أفضل كتاب أنا اطلعت عليه قريباً لإحدى الأخوات في الله تقول: " رفقاً بالرجال أيها النساء " الحديث: (رفقاً بالقوارير) موجه للرجال، هذه أخذت من الحديث ووجهت رسالة إلى النساء تقول: رفقاً بالرجال أيها النساء.
وكتبت مواضيع لم تسبق إليها، وهي دكتورة في الجامعة الإسلامية في كلية التربية في المدينة المنورة للبنات، امرأة موفقة تلمست أخطاء النساء وصاغتها بأسلوب بياني رفيع وبلهجة مؤثرة، وهو موجود في الأسواق.
أيضاً هناك كتب كثيرة تتعلق بالمرأة وفن التعامل، وبإمكان المرأة أن تزور أي مكتبة وتطلع على القسم المتعلق بهذه المواضيع؛ لأنه لا يحضرني الآن أسماؤها وإن كانت كثيرة.(86/29)
علامات الشقاء
إن الشخص الذي يمنِّي نفسه بالأماني الكاذبة والباطلة، ولم يترجم تلك الأماني إلى عمل؛ ستنقلب كل أمانيه إلى شقاوة وتعاسة في الدنيا والآخرة، فشقاوة الدنيا تتمثل في الهموم والغموم وضيق الصدر، أما شقاوة الآخرة فيكفيه فيها أن يحرم رحمة الله عز وجل ويحجب عن النظر إلى وجهه تعالى، على ما ينتظره من العذاب والويل والنكال ولا حول ولا قوة إلا بالله.(87/1)
الهداية لا تنال بالأماني الكاذبة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: إذا أراد الله بعبده خيراً سدده ووفقه وهداه: {وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:41] {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:146] {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام:25] {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء:60] الهداية والالتزام بالدين والانصياع لأمر الله والاستجابة لداعي الله خلق المؤمن: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64] ما أنزل الله الكتب، وما أرسل الرسل، وما أقام الحجج، وما بين البراهين إلا من أجل أن يستجيب الناس لداعيه، يقول الله عز وجل: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ} [الشورى:47] ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24].
إن الحياة الحقيقية إنما تنبع من مقدار استجابتنا لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وليس لنا خيار في أن نستجيب لأمر الله أو لا نستجيب، ولا نملك أن نتصرف وفق أهوائنا، بل لا بد من الاستجابة وإلا فالنار، يقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] ولكن لا يريد أن يمشي على الاستقامة فقال: أريد أن ألف، فقال له الله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36] عرض نفسه للدمار، الدمار في هذه الدار، والدمار يوم يموت، والدمار يوم يقبر ويتحول القبر إلى حفرة من حفر النار، ويوم يبعث يقوم وقلبه يتقطع خوفاً وهلعاً من مصيره الأسود، وكذلك يوم يدخله الله النار ويقول: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] يقول الله عز وجل: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} [هود:105 - 108] نسأل الله من فضله.
ما أعظمها والله -يا أخي- أن تكون سعيداً في الدنيا وسعيداً في الآخرة: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] أي: عطاء غير ممنوع ولا منقوص، بل هو كامل {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ * فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ} [هود:108 - 109] يعني: الكفار {مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود:109] سوف يصليهم العذاب، ويتم عليهم التدمير، وسوف يتعرضون للدمار والنكال في الدنيا والآخرة، وسوف يجزيهم الله نصيباً وافياً غير منقوص.
الهداية مطلب لكل من يريد أن يهتدي وأن يسعد ولكن:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن
كل واحد يريد العلياء، وكل يريد أن يعمل جيداً لكن لا تحصل هذه بالأماني، إن الأماني هي رءوس أموال المفاليس؛ المفلس الذي ليس معه شيء يعيش على الأمنيات، يقول: معي عمارات وطائرات، ومعي سيارات وعندي شركات، أمل! فقل له: أخرج شيكات سجلاً! نرى الرصيد ليس هناك شيء.
فالمفلس في الدنيا رأس ماله الأماني، والمفلس في الآخرة رأس ماله الأماني، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن الكيس العاقل الفطن الحازم: (الكيس من دان نفسه) أدانها: استذلها وسيرها في الخط الصحيح رغماً عنها؛ لأن النفس أمارة بالسوء، النفس تكره القيود وتكره الالتزام، تحب التفلت، تحب الفضول، تحب الكسل، تحب البطالة، يقول الناظم:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فاصرف هواها وحاذر أن توليه إن الهوى ما تولى يصمي أو يصم
ويقول الله عز وجل في أهل الكتاب لما جلسوا في مجلس مع الصحابة قالوا: نحن أصحاب كتاب، ونحن أصحاب رسالة سابقة والجنة لنا، قال المسلمون: بل.
الجنة لنا؛ نحن أصحاب كتاب، ورسولنا خاتم الرسل، وكتابنا خير الكتب والجنة لنا، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء:123] هذه ليست بالأمنيات: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء:123 - 124].
وقالت اليهود: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111] فقال الله تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة:111] يعني: أماني الكذابين {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى} [البقرة:111 - 112] هذه كلمة (بلى) للإضراب: أي: الانتقال عن الشيء إلى آخر ضده، بلى يعني: كلامكم هذا غير صحيح ولكن {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة:112] يعني: اتجه إلى الله -حول الموجة- إذ كان متجهاً إلى الشيطان، والهوى، والشهوات، واللعب، والزنا، والغناء، والنساء، والسمرات يعني: عبد هواه، لكن حول وجهته {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة:112] لأن بعض الناس الآن لا يسير إلى الله بل يتبع الشيطان وهو لا يعلم، وأحياناً يعطي لربه لفتة فقط، إذا أذن التفت لله قليلاً، لكن بعد الأذان يلتفت للشيطان ساعات طوال، يعني: هواه واتجاهه ووجهه وكيانه ليس إلى الله؛ فإن الله تعالى يقول: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ} [البقرة:112] أي: من استسلم؛ وخضع وانقاد ووقف بين يدي الله وقال: رب.
تبت إليك، أنت ربي وأنا عبدك، تبت إليك، وهأنذا بين يديك، أسير في طاعتك ولا أقع في معصيتك: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة:112] وماذا؟ {وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة:112] هذه هي الاستجابة الصحيحة، وأما الأماني فلا تنفع، فهل يمكن في الدنيا أن تحصل بالأماني على شيء؟ هل يمكن أن تأخذ شهادة الثانوية العامة بالأماني وأنت نائم في البيت؟ هل يمكن أن تأخذ شهادة الجامعة بالأماني؟ تقول: يا رب.
أتمنى أن تعطيني شهادة الجامعة وأنا جالس في سنوات الابتدائي، تقوم في الصباح كل يوم، وتذهب في البرد، وتجد ألم الضرب من الأستاذ، وتجد حمل الكتب والواجبات والحفظ والمذاكرة، وتتعب رأسك بهذه الدروس التي تجهد الرءوس، لكن تصبر حتى تأخذ الشهادة الابتدائية، ثم تدخل المتوسطة، ثم تدخل الثانوي، ثم تدخل الجامعة، عمر! ست سنوات ابتدائية، وأربع سنوات متوسطة، وأربع ثانوي، حتى تصير أربعة عشر عاماً تعليماً، وبعد ذلك يقولون: أنت جامعي، ابحث عن وظيفة تفضل! لكن لو أن شخصاً قال: هذه الدراسة دوختني، ما فائدتها؟ قال: أنا سوف أقعد في البيت.
ماذا يفعل؟ هل هذا تأتي له وظيفة؟ لا يحصل على شيء، إذا توظف يكون فراشاً أو كاتباً، لا يجد وظيفة؛ لأنه ما صبر على ذل التعلم حتى ينال عزته؛ لأن كل شيء تنال به ذلاً تجني منه عزاً، ولكن إذا ما رضيت وتمردت وأردت أن يحصل لك مجد بالأماني فإنها لا تنفع، الأماني هي رءوس أموال المفاليس، والهداية والدين أمنية، كل واحد يريد أن يكون مهتدياً وبعضهم يقول: أريد أن أتدين أريد أن أهتدي، نقول له: إذا كنت تريد أن تهتدي فلا بد أن تسلك سبيل الهداية، يقول الشاعر:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
السفينة لا تجري إلا في ماء، وأنت إذا أردت النجاة يجب أن تسلك طريقها وأن تسلك مسالكها.
فمثلاً: إذا كان الشخص عنده زرع في هذه البلاد، وأراد أن يدخل السيل في زرعه فما الذي يلزمه؟ أن يعمل المجاري، ويتتبع رأس الشعب، وكلما رأى السيل جارياً أصلح طريقه، وجاء إلى عند الزرع وفتح المجرى، وبعد ذلك قام وقال: يا رب! ارزقنا.
يا رب! أمطر علينا.
يا رب! أنزل علينا السيل، فيأتي المطر فيدخل إلى الزرع، لكن ما رأيكم إذا وجد شخص أغلق على الزرع، وجاء على الشعب من أعلاه إلى أسفله يقطعه من هنا ومن هنا، وقال: يا رب! اسقني بالسيل، اسق زرعي.
إذا نزل السيل لا يصل إلى الزرع منه قطرة؛ لأنك أنت الذي عملت بيدك، أنت حجبت السيل بيدك.(87/2)
غيث السماء ورسالة الأرض
الهداية واردة، سيل السماء قد نزل علينا، هاهو كتاب الله بين أيدينا الآن، هو السيل العظيم، وهو الغيث الذي أغاث الله به القلوب، وأنار به العقول، وأحيا به الأمم، أنزل الله علينا نوراً مبيناً؛ يقول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [النساء:174] ويقول تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود:1] ويقول جل ذكره: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [المائدة:15 - 16] ويقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
أنزل الله الغيث من السماء، وبعد ذلك أرسل الله معه النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب:45 - 46].
فجاءت الرحمة المهداة من السماء وهي القرآن، وجاءت الرحمة المسداة من الرسول صلى الله عليه وسلم، القرآن يهدي إلى الله، والرسول يهدي إلى الله، واستجاب من استجاب، وأعرض من أعرض؛ من فتح قلبه للنور والهداية دخل في الإيمان، يقول الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ الله} [الزمر:22]؛ ويل لهم ثم ويل لهم ما أصبرهم على النار! كيف يدمرون أنفسهم؟! كيف يحاربون ذواتهم؟! كيف يتعرضون لسخط مولاهم وما هم بصابرين على النار؟! من يتحمل -يا إخواني- جمرة واحدة إذا كانت الجمرة الواحدة من جمر جهنم أعظم من جبال الدنيا بأسرها؟ لما قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24] قال رجل: (يا رسول الله! أحجارة الدنيا مثل أحجار جهنم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لصخرة من صخر جهنم أعظم من جبال الدنيا بأسرها) صخرة واحدة أعظم من جبال الدنيا بأسرها، فأين أنت -يا أخي- وكم نسبتك؟ كم تتحمل من عذاب النار؟ لم تعاند الله؟ لم تحارب الله مولاك؟ لم تحاربه وهو قادر عليك؟ ولهذا يقول الله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25 - 26] ليس هناك أحد أبداً يعذب مثل عذاب الله، وليس هناك أحد يمسك ويسجن ويقبض مثل سجن الله، كل سجن في الدنيا منها مخرج، آخر شيء أنك تموت ثم تقبر، لكن أين تموت، وأين تهرب من الله؟ {يَقُولُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} [القيامة:10] أين المهرب؟ يقول الله تعالى: {كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:10 - 15].
الهداية -يا إخواني- مطلب، ولكن من الناس من لا يستجيب لها ولا يريدها -يعرض عنها- وإذا وقعت في طريقه عقبة، أو وضع حاجزاً بينه وبين الهداية تركه الله؛ لأن الله ليس بحاجته، الله ليس بحاجة إلى عبادتنا، لم يخلقنا ربنا تبارك وتعالى ليتكثر بنا من قلة، ولا يتعزز بنا من ذلة، ولا لننفعه، ولا لندفع ضراً عنه تبارك وتعالى، بل هو الضار النافع، يقول في الحديث القدسي والحديث في سنن الترمذي وهو حديث صحيح: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا -إلى أن قال- يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني) كم أنت -يا أخي- حتى تضر ربك؟ وكم نسبتك إذا عصيت الله؟ أتظن أنك بالمعصية تبلغ السماوات والأرض؟ المعصية ضدك فقط، والطاعة لك فقط، أما الله فلا تضره معصية العاصين ولا تنفعه طاعة المطيعين، ثم أيظن العاصي أنه يبقى على هذا الوضع إذا دخل النار؟ لا.
وألف لا؛ لأنه لا يتحملها، تأكله النار على مسافة أميال، فالله يضخم جسده ويزيد في طوله وعرضه حتى تجد النار ما تأكل.
ولهذا ورد في الحديث: (إن ضرس الكافر مثل جبل أحد) من منكم ذهب المدينة ورأى جبل أحد؟ جبل كبير من أكبر الجبال في المدينة، الضرس للكافر الواحد مثل الجبل، فكيف الرأس؟ إذا كان الضرس مثل الجبل إذاً كيف الرأس وبقية الجسم؟ ورد في السنن حديث رواه الحاكم في صحيح الجامع قال: (مقعد الكافر في النار مثل ما بين مكة والمدينة) ما بين مكة والمدينة أربعمائة وعشرون كيلو متر! هذا الكرسي للكافر الواحد في النار، وورد أيضاً: أن للكافر سبعة جلود، ما بين كل جلد وجلد مسيرة ثلاثة أيام، وغلظ الجلد الواحد مسيرة ثلاثة أيام، وتبدل هذه الجلود من شدة الإحراق في كل يوم أربعمائة مرة، قال الله عز وجل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جلودهم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء:56] لماذا؟ {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] لماذا أورط نفسي في هذه الورطة الكبيرة من أجل ماذا؟ من أجل المعاصي، ومن أجل الذنوب، من أجل قلة الدين.
ثم هل ترى أن صاحب الجنة -جعلنا الله وإياكم من أهلها وزوارها وضيفانها- أنه يبقى هكذا حتى يدخل الجنة؟ لا.
بل تتغير الأمور، مثلما يزاد في جسد صاحب النار لكي تأخذ النار وتبقي منه، أيضاً يضخم في جسد صاحب الجنة لكي يجد نعيماً.
أولاً: السن ثلاث وثلاثون، والحُسن حسن يوسف، والطول طول آدم ستون ذراعاً، والذراع أظنه ثلاثة وثلاثين أو أربعة وثلاثين سنتيمتراً، يعني: أصل المتر ثلاثة أذرع، أي أن طولك عشرون متراً وأكثر، في سبعة أذرع.
وبعد ذلك في الجنة يتنعمون نعيماً ليس بعده نعيم -نسأل الله من فضله- يعطى المؤمن في الجنة قوة مائة رجل في القدرة على النكاح، ويزوجه الله باثنتين وسبعين حورية؛ اثنتين من نساء الدنيا وسبعين ممن أنشأهن الله إنشاء، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً} [الواقعة:35 - 37] يعني: متحببات {أَتْرَاباً} [الواقعة:37] يعني: سواء {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:38].
وبعد ذلك نعيم ليس مثله نعيم، يقول الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] هذه لأهل الجنة.
ولا ينامون، فلا يوجد نوم؛ لأن النوم محرم على أهل النار حتى لا يستريحون من العذاب، وكذلك محرم على أهل الجنة حتى لا يفوتهم شيء من النعيم، فهذا لا ينام فيستريح، وهذا لا ينام فيفوته شيء، كيف ينام؟ ولذلك ورد في الحديث: (إن المؤمن يمكث في الجنة عند زوجته نصف نهار) ونصف النهار من أيامنا يعادل خمسمائة سنة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] اليوم من أيام الآخرة كألف سنة، فيجلس عند الزوجة الواحدة خمسمائة سنة وهو عندها في نعيم، ثم يشرق في الجنة مثل البرق فيقولون: ما هذا؟ فيقال: حورية تبسمت في وجه زوجها، فيرفع رأسه فتقول له الحورية: يا عبد الله! يا ولي الله! أما لنا فيك نصيب؟ تقول: أطلت عند هذه، أما جاء الدور عندنا؟ فينتقل من هذه إلى هذه، وهكذا يدور على زوجاته في الجنة! نعيم في نعيم في نعيم، نسأل الله لنا ولكم من فضله.
يضيع الإنسان هذا النعيم من أجل ماذا؟ من أجل أن يزني بامرأة زانية دانية خبيثة فاجرة؛ فيورط نفسه في ورطة ما بعدها ورطة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من زنى بامرأة في الدنيا كان عليه وعليها في القبر نصف عذاب هذه الأمة) هذا الذي في القبر فقط، إنما هذا فطور مقدم، هذه الوجبة السريعة الخفيفة: (كان عليه وعليها في القبر نصف عذاب هذه الأمة).
وورد في الحديث قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفس محمد بيده إن ريح فروج الزناة ليؤذي أهل النار) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن فروج الزناة لتشتعل ناراً يوم القيامة) تتحول إلى لهب ونار، كيف والله تعالى يقول: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] وقال تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] الزنا جريمة تعافها العقول، ولكن قليل الدين؛ الذي ما عنده خوف من الله يمارسها، ويظن أنه مبسوط ولم يعلم أنه مدمر، والله ليس فيه خير؛ لأنه لو كان به خير لاستحى من الذي يراه.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة وا(87/3)
أسباب الهداية
الهداية -يا إخوتي- في الله مطلب لكل كائن، ولكن لها أسباب:(87/4)
الاستعداد النفسي والمجاهدة
أولاً: لا بد من الاستعداد النفسي للهداية، لا بد من أرضية قابلة للهداية؛ فلو أنك أردت أن تزرع فإنه ليس كل أرض تصلح للزراعة، لو أتيت بالحب الصالح والماء العذب، وجئت إلى أرض سبخة -تعرفون السبخة التي في تهامة، بجوار البحر- وحرثتها ورميت الحبوب فإنها لا تنبت، لماذا؟ لأن الأرضية غير صالحة؛ ليست أرض زراعة، لكن تبحث عن الأرض الصالحة للزراعة وتضع فيها الحبوب وتسقيها بالمياه وتنبت بإذن الله، فأرضية الهداية التي يمكن أن تستقبل الهداية هي انفتاح القلب، فافتح قلبك وحول الموجة إلى الله واتجه إليه، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم) اطلب من الله الهداية، اطلب من الله في سجودك، اطلب من الله في ليلك ونهارك، دائماً وأنت في كل مناسبات: يا رب! اهدني.
إذا كان سيد الهدى كما تقول عائشة رضي الله عنها في الحديث الصحيح: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته بالليل بقوله: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) سيد الهدى يقول: اهدني.
والناظم يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
فالأرضية أن تستعد لتكون مهتدياً، وبعد ذلك تطلب الهداية، وبعدما تطلب الهداية تجاهد نفسك في طريقها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} [العنكبوت:69] ماذا؟ {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] أجل.
ما تأتي الهداية إلا بعد المجاهدة، الهداية ثمرة للمجاهدة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} [العنكبوت:69] والمجاهدة هي المعاناة.(87/5)
إجابة داعي الله من الاستعداد النفسي للهداية
ثانياً: عندما تسمع الأذان وأنت نائم في البيت فتشعر أنك مسئول عن هذه الدعوة، لمن هذه الدعوة؟ المؤذن يقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، فمن يدعو؟ من يخاطب؟ أيخاطب البقر؟! يخاطب الخيول؟! يخاطبك أنت أيها المسلم! يقول: الله أكبر من النوم، الله أكبر من الزوجة، الله أكبر من الفراش، الله أكبر من الهدوء والراحة، قم إلى الكبير، فإذا لم يقم الواحد، قال المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله، رغم أنفك أيها الإنسان! يا من لا تستجيب لهذا الرب العظيم، هو الله لا إله إلا هو، أشهد أن لا إله إلا الله (يكررها مرتين).
فإذا لم ينهض الواحد قال المؤذن: أشهد أن محمداً رسول الله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وقامت به الحجة، واتضحت به المحجة، حتى تركنا على الطريق الواضحة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
فإذا لم يقم الشخص قال المؤذن: حي على الصلاة، استحي من الله وقم، حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، فإذا ما نفعت هذه وقد بلغت اثني عشر صوتاً قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، يعني: الله المستعان، لا إله إلا الله، خمسة عشر صوتاً يناديك مولاك وخالقك وبارئك وفاطرك إلى أن تأتي إلى بيته بخمسة عشر صوتاً ولا تأتي، بالله عليكم ما هو حكم هذا؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من سمع حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح ثم لم يجب لم تقبل منه الصلاة التي صلاها) وقال: (لأن تمتلئ أذن ابن آدم رصاصاً مذاباً خير له من أن يسمع حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح ثم لا يجيب) ويقول: (من سمع حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح ثم لم يجب فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً).
أنت هنا وأنت تسمع الداعي، وأنت في الفراش تأتيك الداوفع الإيمانية فتقول: أف! إنه يناديك، وتأتيك النوازع الشيطانية فتقول: يا شيخ! نعم وستصلي بعد، والمعبود باقٍ، والله في كل مكان، وأنت بعد ما زلت شباباً، ولو تقوم الآن لخرب النوم، ولا يأتيك النوم إلا بتعب، وسوف يفوتك الدوام، ودوام الله بسيط؛ لكن دوام البشر أيقنا بعقوبة البشر فلم نتأخر عن دوام البشر، لكن دوام الله لمَّا ضعف إيماننا بقوة الله وعظمته وشدته وبأسه ضيعنا دوام الله.
أما المؤمن فيقوم، وهو في قيامه إلى الله ماذا يحصل له؟ أول شيء يحصل له تعب وذبول، لكن مع المعاناة والمجاهدة فهذا تحصل له هداية، فبقدر المجاهدة تأتي الهداية: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] فيجاهد في اليوم الأول ويعطيه ربه الهداية بقدرها، ويجاهد في اليوم الثاني ويعطيه ربه بقدرها، ويجاهد في اليوم الثالث ويعطيه الله وكلما جاهد أعطاه الله، حتى تكتمل له الهداية، فإذا اكتملت له الهداية لا يكون هناك صعوبة عنده، ينام طوال الليل، وإذا جاء وقت الصلاة فكأنما يوقظه رجل، يقوم بدون ساعة وبدون إيقاظ من أحد، تقول له: من أيقظك، قال: والله انتبهت، الله الذي أيقظني! تصبح العبادة والصلاة عنده أمراً راسخاً في ذهنه وفي حياته، تصبح صفاتٍ لازمة له، وملكات راسخة في حياته، بحيث لو عطلها لا يستطيع أن يعيش، تصبح الصلاة له مثل الماء للسمك، هل يستطيع أن يعيش السمك من غير الماء؟ لا.
أبداً! وهل يستطيع الإنسان أن يعيش من غير الهواء؟ لا.
أبداً! وهل يستطيع المسلم أن يعيش من غير صلاة؟ لا.
أبداً!! ولكن متى أتت هذه؟ بعد المعاناة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] المجاهدة مطلوبة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] ويقول الله عز وجل: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] لما انصرفوا عن ربهم أزاغ الله قلوبهم وطردهم والعياذ بالله! فأنت وأنت تقوم إلى الصلاة تعلن الحرب على الشيطان، وتعلن التمرد على أوامره، وتعلن الاستجابة لمولاك، وتعلن الذل والعبودية لخالقك، فتقول: الله أكبر، أذهب إلى الله، فتخرج من بيتك كما جاء في الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (من توضأ في بيته فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا كتب له بها حسنة، وحط عنه بها خطيئة، ورفعت له عند الله درجة) ثلاثة أشياء -وأنت وحظك- بيتك بعيد أو قريب كل شيء بحسابه، لا تحسب عندما يكون بيتك قريباً من المسجد أو بعيداً أن المسألة ضائعة، لا.
فكل شيء بحقه؛ الذي يمشي ألف خطوة ليس كالذي يمشي مائة خطوة، وكل شيء بحسابه عند الله، والذي يمشي بسيارته ويروح بها أيضاً أفضل، لماذا؟ لأنه بذل جهداً وعناء ومالاً وبترولاً، والسيارة يمكن أن تخرب مع كثرة التشغيل في الأجواء الباردة، لكن يقول: لا يهمني في سبيل إرضاء ربي أن أذهب إلى الله عز وجل.(87/6)
أذكار النوم والفزع إلى الصلاة
ثالثاً: ومن آداب الإسلام في قيامك لصلاة الفجر أولاً: أن تنام على ذكر؛ لأن من نام على الذكر أيقظه الله للصلاة كما جاء في الحديث.
ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه زاد المعاد قال: إذا نام العبد حضره ملك وشيطان.
إذا جاء ينام جاء الملك والشيطان يريدون أن يروا ماذا يعمل هذا المخلوق؟ قال: فإن ذكر الله ونام على طهارة واستقبل القبلة وذكر الله؛ تولى الملك حراسته وفر منه الشيطان، فلا يزال الملك عنده يحرسه كما يحرس الرجل الرجل حتى يوقظه لصلاة الفجر، يقول: فإن نام على غير ذكر الله كأن نام على الأغاني؛ بعضهم يأخذ الراديو ويقلب قنواته حتى يجد أول شيء أم كلثوم، فإذا وجدها نام، وإذا ما وجدها فإنه يقلب القنوات إلى أن يجدها، ثم يضع رحاله عندها، وبعض الشباب يقول: أين أم كلثوم ليست موجودة، كيف نعيش؟! الله أكبر يا أهل التكافل، يا هذا الشباب، كيف تعيش؟! لا إله إلا الله! أصبحت قرآنك؟! هي رسولك هي هدايتك؟! عجوز شمطاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فإذا نام على غير ذكر الله -نام على الأغاني والغفلة، أو رمى بنفسه- جاء الملك إليه وقال: ما هذا؟ هذا يستحق حراسة؟ هذا جيفة، فيتركه، فإذا رأى الشيطان النوبة فارغة جاء وأمسكه، قال: وأخذ روحه، فلا يزال يعذبه طوال الليل، الذي يسمونه (الجثام) باللهجة العامية يعني: أن الواحد يشعر بضيق في النوم، يقول: شخص كبس على صدري، يسمونه (كابوس) ويرى أحلاماً مزعجة، ويرى أنه على رأس جبل وأنه يسقط في بئر ووديان، المهم يعذبه طوال الليل، فإذا جاءت صلاة الفجر رد روحه له، فيشعر في تلك الساعة بلذة في النوم فيصبح ألذ شيء عنده تلك اللحظة، فإذا جئنا لنوقظه للصلاة فإنه لا يستطيع أن يقوم؛ طوال الليل وهو يعذب! فمهما أيقظوه لا يستيقظ، بل بعض الناس يوقظ ولده حتى إذا دخل الحمام يوقظه، يقول: قم صل، قال: حسناً، وأخذ بيده وساعده، مسكين يريد أن يأخذ به إلى الجنة، لكن رفض هذا المخذول، حتى يدخله الحمام.
يقول لي شخص من الناس: والله إني أدخلته الحمام فأغلق على نفسه ونام على الكرسي، وأذهب أصلي وأنظر في المسجد أين الولد؟! وإذا هو ليس موجوداً، أدخل البيت وهو ليس موجوداً في فراشه، فأقول: أين الولد؟ وإذا به في الحمام! طرقت عليه الباب في الحمام وإذا به يفتح، قلت: ماذا بك؟ قال: دخلت ونمت.
يستاهل! لا إله إلا الله!! أين دين الإنسان؟! ما الذي جعله يجلس هكذا؟! وبعض الشباب يحلف بالله، يقول: والله لا أحد يوقظني، وأبوه يقول: أيقظتك فيقول: ما أيقظني أحد؛ لأنه نام على غير ذكر الله.
فإذا أردت أن تقوم الفجر فلتنم أولاً على ذكر الله تعالى.
وبعد ذلك كلما انقلبت في الليل فاذكر الله؛ كلما انقلبت من جنب إلى جنب قل: لا إله إلا الله، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، كلما انقلبت من جنب إلى جنب يذكرك الله تبارك وتعالى.
ثم بعد ذلك نم على نية صلاة الفجر، يعني: أوجد في نفسك النية أنك لابد أن تقوم مبكراً مهما كنت متعباً، مهما كنت مسافراً، مهما كنت مريضاً: لابد أن أقوم لصلاة الفجر إن شاء الله.
فإذا جاء الفجر وسمعت المؤذن فمنذ أن تسمع المؤذن فقل أول شيء: أشهد أن لا إله إلا الله -جدد إيمانك- ثم قل: الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور، ثم بعد ذلك قم واستعذ بالله من الشيطان الرجيم، لا تجلس؛ لأن الشيطان كما جاء في الحديث: (يعقد الشيطان على ناصية أحدكم إذا نام ثلاث عقد ليصرفه عن صلاة الفجر: فإذا قام وذكر الله انحلت عقدة -لكن بقي اثنتان لأنه لا يكفيه الذكر- فإذا قام وتوضأ انحلت الثانية، فإذا خرج وصلى انحلت الثالثة فيرجع طيب النفس نشيطاً)، لكن إذا نام ولم يذكر الله لا يقوم، وإذا ذكر الله وجلس في فراشه لكن لم يقفز بقوة، تشعر وأنت في الفراش أن قوة خارجة عن قوة إرادتك وهي قوة الشيطان تريد أن تصرفك وتجعلك تنام، لكن اشعر بأن أمامك عدواً يريد أن يكبسك على النوم، وأنت مطالب بأن تقوم، فقم بقوة وصارع الشيطان، وقم بقوة إلى الله واستعن بالله تبارك وتعالى! لكن من الناس من لا يفعل هذا الأسلوب مع نفسه، ولا يفعله حتى مع أولاده، بل يمكن أن يصلي هو ولكن يمر على الأولاد فيغطيهم يقول: دعهم ينامون عندهم مدارس، نخاف أن نعقدهم من الصلاة.(87/7)
أهمية تربية الأبناء على الطاعة
شخص يقول: أنا لا أريد أن آمر الأولاد بالصلاة، لماذا؟ قال: أخاف أن يتعقدوا، قلت: أنت تأمرهم بالمدارس؟ قال: إيه والله.
قلت: لماذا ما تخاف أن تعقدهم من المدارس؟ يتعقدون من الصلاة ولا يتعقدون من المدارس؟!! الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) تضربه من أجل المدارس؛ لأنك تريد وظيفة وشهادة وتريد منصباً، ولكن لا تريد أن تعقده في دين الله، تريد أن يكون مفلساً، تريده ضالاً وضائعاً لا حول ولا قوة إلا بالله!! إنك مسئول بين يدي الله يوم القيامة عن هذا الولد الذي بين يديك، والله إنك مسئول بين يدي الله، وسوف يأتي يوم القيامة آخذاً بتلابيبك يسحبك في عرصات القيامة، يقول: رب! أنصفني من هذا الظالم، فيقول: يا رب! ما ظلمته، قال: والله ظلمني، هذا أبي كان يغذيني ويؤكلني ويشربني، ويداويني ويكسوني ويعلمني، لكن ما كان يأمرني بالصلاة، والله تعالى يقول: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] ويثني ربنا على إسماعيل عليه السلام فيقول جل ذكره: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:54 - 55] مر أهلك بالصلاة، وظيفتك ورسالتك ومهمتك أن تنقذه من عذاب الله عز وجل، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] نحن الآن لا نقيهم النار! نحن نقيهم الجوع؛ يكد الواحد ليل نهار لكي يؤمن لأولاده الأكل هذا طيب، ونقيهم العطش، والبرد فنبني لهم عمارات، ونقيهم التعب فنشتري لهم سيارات، نملأ لهم الثلاجات، لكن: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] غير موجودة، كأن مسئوليتنا فقط في حشو بطونهم، وكسي جلودهم، وترفيههم، وأما دين الله فلا نهتم به، أين هذا يا إخوان؟! أين عقولنا؟! فلا بد -أيها الأخ- أن تشعر بمسئوليتك تجاه أولادك في حمايتهم من عذاب الله، أترضى أن تدخل الجنة وولدك يدخل النار؟ أترضى أن تقف يوم القيامة في درجات الجنة وتتفرج على أهل النار وهم كالبحر وولدك وفلذة كبدك يتقلب في النار فيدعوك ويلعنك ويسبك ويقول: أنت الذي ورطتني بهذه الورطة؟ لماذا -يا أخي؟ - خذ بيده، أيقظه وإن غضب، بعض الناس يقول: والله لا أقدر أن أوقظه، الولد أصبح معه وظيفة، ولو أمرناه يصلي لشرد علينا وأخذ النقود، الرزق عليه وليس على الله؟! لا إله إلا الله! إذا شرد هو فأين الله؟! إذا أخذ راتبه وما أعطاك، أين الذي خلقه؟ من الذي أعطاك إياه حتى تخاف من الرزق يا أخي؟ {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذريات:58] أرض الله قبل كل شيء يرض عنك الله ويُرضي عنك كل شيء، لكن ترضي الولد في سخط الله يسخط الله عليك ويسخط عليك كل شيء! وبعد ذلك هذا الولد الذي ترضيه الآن والله لا يرضى عنك أبداً، إنك كلما ترضيته بمعصية الله يبحث لك عن معصية أكبر حتى يورطك في الدنيا والآخرة، لكن برئ ذمتك منه، ولا تخرج إلى المسجد إلا وهو الأول شاء أم أبى، فإذا أبى فليس ولدك، فإذا قال: لا أصلي، فقل: اخرج.
نوح عليه السلام وهو نبي، لما ركب السفينة وكان الله قد وعده؛ قال الله تعالى: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [المؤمنون:27] فلما رفضوا وكذبوا بنوح صنع السفينة، وأوحى الله عز وجل إليه فقال: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:11 - 12] التقى ماء السماء بماء الأرض، التقت السماء بالأرض بالماء، فما بقي أحد على وجه الأرض إلا سفينة نوح، ومن فيها؟ الذين آمنوا، وجاء نوح إلى ولده وقال: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:42 - 43] وبعد ذلك قام نوح بناءً على الوعد السابق الذي قال الله له {وَأَهْلَكَ} [هود:40] وهو يعتبر أنه ولده فقال له: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:45] ولدي {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45] أنت الذي وعدتني أن أركبه، فيا رب نجه {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:45 - 46] سبحان الله! أجل، الصلة والأهلية والقرابة ليست قرابة النسب، وإنما قرابة العقيدة والدين؛ فما دام أنه كافر فليس من أهلك، ما دام لا يصلي فليس ولدك: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود:46] الله أكبر، ما هذا التهديد! يقول المفسرون: إن في هذا عتاباً عظيماً لنوح عليه السلام وهو من أولي العزم من الرسل، وهو أول الأنبياء والرسل، ولكن الله عاتبه؛ لأنه طلب الشفاعة في كافر، فقال له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] الله أكبر! نبي يكون من الجاهلين! لكن انظر ماذا قال نوح: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47] يقول: يا رب، أخطأت حينما شفعت لهذا، وظننت أنه من أهلي، ولكن ما دام أنه ليس من أهلي إني أعوذ بك وألتجئ بجنابك: {أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:47 - 49].
عليك أن تتخذ موقفاً حازماً وجاداً من أولادك في بيتك فيما يتعلق بالصلاة؛ لأن الصلاة تركها كفر يخرج الإنسان من الملة، (لا يوجد أنصاف حلول في الصلاة) فالذنوب والمعاصي الأخرى تحت مشيئة الله في الدار الآخرة إن شاء غفر، وإن شاء عذب عليها، لكن الصلاة عمود الدين، لا يقوم الإسلام إلا بعموده، ولا يقبل إسلام عبد إلا بصلاته، ومن ترك الصلاة كما جاء في الحديث، والحديث في صحيح مسلم قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) وقال: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) والحديث في سنن أبي داود، فإذا ترك الصلاة وهو في بيتك فلماذا تؤاكل الكافر وتشاربه، وتصرف عليه وهو جالس معك؟ لا بد أن تحدد الموقف.
ولا يصلي في البيت، البيوت ليست مواطن للصلاة، البيوت للنساء، والرجال في المسجد يقول الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:36] ماذا؟ {رِجَالٌ} الله أكبر ما أعظم هذا اللقب! أثنى عليهم الله بالرجولة، وامتدحهم بهذا الشرف وقال: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37] لماذا؟ قال: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:37 - 38] فلا بد من المجاهدة والمعاناة حتى تحصل الهداية.(87/8)
الاهتمام بتربية البنت المسلمة
رابعاً: وأيضاً لا ينبغي أن تكون مجاهدتك فقط لأولادك الذكور دون الإناث بهدايتهم وتربيتهم، وأيضاً عليك مسئولية كبيرة تجاه أولادك من الإناث؛ لأن البنت أمانة في عنقك، ينبغي أن تحول بينها وبين وسائل الفساد والإفساد، إذ ينبغي أن تنشئها النشأة الإسلامية الصالحة، ينبغي ألا تتيح لها أي فرصة للتفلت؛ لأن النساء حبائل الشيطان، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (كونوا مع خيارهن على حذر) يعني: الطيبة الجيدة الممتازة كن على حذر منها، فكيف بغيرها؟ لا بد أن تكون حذراً من النساء، يقول الشاعر:
لا تتركن أحداً بأهلك خالياً لو كان في النساك مثل بنان
مثل ثابت البناني.
إن الرجال الناظرين إلى النسا مثل الكلاب تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحوم أسودها أكلت بلا عوض ولا أثمان
العرض أغلى شيء فلا تجازف به، ولا تأمن أحداً على عرضك، لا تأمن سائقاً؛ بعض الناس يركب بناته ونسائه مع سائق يقول: اذهبوا تسوقوا، يودع الذئب مع الغنم، يقول: اذهب وارع الغنم يا ذئب، ما رأيكم هل الذئب يرعى الغنم؟ يتسمن، ما يأخذها كلها، ينظر أسمن واحدة يتسمن بها، والله تبارك وتعالى قد حرم على المسلمة أن تكشف وجهها أو تبدي زينتها في آية محكمة من كتاب الله في سورة النور، يقول الله عز وجل: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] كم زوج في الشرع، واحد أو الجماعة؟ الحي كله، والأقارب كلهم يرون المرأة، إذا رأوها معناها: اشتراكية في العرض، ولكن بعولتهن فقط {أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور:31] أبوها {أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] يعني: أبو زوجها (عمها) لأنه محرم لها {أَوْ أَبْنَائِهِنَّ} [النور:31] ولدها {أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] ولد بعلها من غيرها؛ لأنها عمته ومحرم عليها، لا يجوز أن ينكحها بعد أبيه: {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ} [النور:31] أخوها {أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} [النور:31] ثمانية أصناف فقط.
هؤلاء يا رب من الأقارب، لا يوجد شخص من غير الأقارب؟ قال: بلى، يوجد أربعة من غير الأقارب يجوز أن تكشف عليهم المرأة، قال: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور:31] يعني: المرأة تكشف على المرأة.
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور:31] يعني: المرأة التي عندها عبد مملوك تكشف عليه؛ لأنه لا يمكن أن يكشف عورتها؛ لأنه يخاف منها وهي سيدته، هذان صنفان وثمانية هناك صاروا عشرة.
بقي اثنان: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور:31] يعني: التابع للزوج الذي تبعك في خدمتك مثل: الخادم، ومثل السائق، ومثل الراعي، ومثل العامل، ولكن بشرط: أن يكون هذا الخادم وهذا الراعي وهذا العامل مخصي، هذا شرط بنص القرآن، يقول الله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ} [النور:31] ما هي الإربة؟ هي الرغبة في النساء، يعني: الشهوة، المضروب المدقوق هذا الذي ما عنده شهوة فهذا يجوز؛ لأنه مثل المرأة، لكن الذي ليس بمدقوق ولا مضروب، وسائق يدخل على النساء في المسالك وفي الغرف، ويفرش ويطلع وينزل، ويذهب بها إلى السوق ما هذا؟ هذا أخطر شيء على النساء والأعراض، يقول:
أصون مالي بعرضي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض في المال
العرض تاج على رأس الإنسان، إذا انكسر انكسر إلى يوم القيامة، لا حول ولا قوة إلا بالله! بقي صنف واحد وهو: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31] الطفل الصغير الذي لا يعرف الجميلة من القبيحة، رخص الشرع أن يكشف على المرأة المسلمة؛ لأنه ما منه خطر، أما الطفل الذي يعرف ولو كان صغيراً فإنه لا يجوز: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31] ثم قال: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] حرم الله على المرأة إذا لبست زينتها ومشت في الشارع أن تضرب برجلها أو بيدها أو بجسمها حتى لا لا تهتز في مشيها فتحدث هذه الاهتزازات في الصيغة والحلي فتنة في قلب الذي يراها ولو كانت متحجبة {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] ثم قال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
فمسئوليتك -يا أخي المسلم- مسئولية عظيمة جداً تجاه أولادك في أمرهم بطاعة الله، وتجاه بناتك في أمرهن أيضاً بطاعة الله، وفي صيانتهن عن معصية الله، كن سداً منيعاً أمام شهوات النساء ورغباتهن؛ لأن من أطاع امرأته فيما تشتهي كبه الله في النار على أنفه، يقول الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] ولكن إذا انقلبت الآية وأصبحت المرأة هي القوامة، وأصبح الرجل هو المسير مثل التيس أينما توجهه يتوجه، انتكست الأرض، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم كرماءكم، وكانت أموركم في رءوسكم، فظاهر الأرض خير من باطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأموركم في رءوس نسائكم، فباطن الأرض خير من ظاهرها).
بعض الناس لا يستطيع أن يعزم أحداً حتى يشاور المرأة، يخاف أن يعزم فتعطيه بالعصا: أشغلتنا بالعزائم، كل يوم عندنا ضيف، ما هي الفائدة لنا في العزائم؟ فيأتي ويذهب يناديها: ما رأيكم نعزم فلاناً أو لا نعزم؟ فإن قالت: نعم، ذهب ما شاء الله، وإن قالت: لا.
ما استفدنا منه؟ قال: صدقت، قد خسرنا مع هؤلاء ذاهبين راجعين دون فائدة، ما يستطيع أن يبت في بصلة ويشتريها إلا بأمر المرأة، تسيره وتديره.
شخص من الناس زوج ابنته، ولما أراد أن يقيم الزواج رفضت المرأة وقالت: والله ما تزوج ابنتي، لماذا؟ بنات العرب عملن وعملن وأنا ماذا بها؟ ليست ناقصة عنهن، قال: أبشري، لا حول ولا قوة إلا بالله! الله المستعان! إنا لله وإنا إليه راجعون! (من أطاع امرأته فيما تشتهي كبه الله في النار على منخره).
أنت رجل لك القيادة، والريادة، والسيادة، ولك الرأي، نفذ الأمور كيفما تريد، لا تنتظر أحداً، نفذ الأمور على الحق ولو غضب كل من يغضب، المهم الحق، وإذا رأيت الحق ظهر أمامك فسر فيه ولو غضبت النساء، إذا غضبت اليوم لا ترضيها؛ تغضب اليوم وغداً ترضى، لكن إذا أغضبت ربك وأطعت المرأة غضب الله عليك في الدنيا والآخرة، لا حول ولا قوة إلا بالله! فاسلك سبيل الهداية، ولكن كما أسلفت، لا بد أولاً من الأرضية التي تستطيع أن تستوعب بها هداية الله لك، والأرضية كما قلت لكم هي القابلية، والاستعداد النفسي، كل شخص يقول: أنا والله أريد أن أهتدي، لكن يهتدي وهو مكانه، ما تحول إلى الله، ما توجه إلى الله، ما أحدث في حياته تغييراً، أنت عندما تريد أن تتوب إلى الله من الأغاني ماذا يلزمك؟ يلزمك أولاً أن تقلع من سماعها، وتذهب إلى البيت فتأخذ كل الأشرطة التي عندك وتمسحها وتغيرها كلها إلى مواعظ ومحاضرات وإلى أناشيد إسلامية وإلى كلام طيب، وبعد ذلك تجزم وتعقد العزم على أن لا تسمع هذه الأغاني مهما كانت الأسباب، هذا معنى أنك تائب، لكن: صدقت والله، صحيح أن هذه الأغاني حرام، لكن يا أخي دعنا نسمع قليلاً! هذه ليست توبة، واسمها: توبة الكذابين.
والتائب من الذنب العائد فيه كالمستهزئ بربه.
تستهزئ بربك وتضحك على الله! تستغفر الله بلسانك ثم بعد ذلك تعود للمعصية في اليوم الثاني، لا يصلح، لا بد من التوبة النصوح، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8] أي: صادقة جازمة، تشعر فيها بالانتقال من حياة الجاهلية إلى حياة الإسلام، من حياة المعصية إلى حياة الطاعة، من حياة الظلمة إلى حياة النور، من حياة الغناء إلى حياة القرآن، من حياة النظر إلى النساء إلى حياة النظر إلى المصحف، هذا هو التائب الحقيقي، والمجاهد لنفسه، هذا أول شيء تعمله للهداية التي تحتاج منك إلى الاستعداد والأرضية والقابلية.(87/9)
التحلي بالصبر بجميع أنواعه
خامساً: الهداية تحتاج منك إلى الصبر، الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة.
ويوم أن تتحقق لك هذه الأشياء، وتحصل لك الهداية، ويقذف الله في قلبك النور انتهى الأمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الحديد:28] رتب الله تبارك وتعالى الإيمان والتقوى فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} [الحديد:28] ماذا يحصل؟ {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} أي: نصيبين {مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد:28] نصيب في الدنيا ونصيب في الآخرة: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد:28] ما معنى (نُوراً تَمْشُونَ بِهِ)؟ إيماناً تمشون به.
الآن إذا خرج شخص من هذا المسجد في الظلام في هذه الشعاب ومعه ضوء، وشخص ليس معه ضوء، الذي معه الضوء كلما مر على حفرة يجتنبها، وكلما مر على شوكة تجنبها، وكلما مر على حجر حاد عنه؛ لأن عنده نوراً، لكن الشخص الذي ليس معه ضوء فينزل من الشعب ماذا يحصل له؟ لا يصل حتى تكسره حجر تدقه شوكة تضربه زجاجة يضربه مسمار لماذا؟ لأنه يمشي بدون ضوء، وكثير من الناس الآن يسيرون في الحياة بدون نور الإيمان فتضربه حجر الزنا؛ يقع في طريقه في الزنا، ويسقط في حفرة الربا، ويسقط في حفرة العقوق، ويسقط في حفرة الغناء، وبعد ذلك لا يعلم: {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر:8] {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة:18] {أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:59] هذا لا يصل إلى الآخرة؛ لأنه معطل في هذه الحفر، أما المؤمن فإن معه نور، إذا رأى حراماً تجنبه، وإذا رأى امرأة أمامه لا يستطيع أن ينظر إليها، لماذا لا ينظر؟ لأنه يعلم أن من ملأ عينيه من الحرام ملأهما الله من جمر جهنم، ويعلم أن الله قد أمره في القرآن وقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] ويعلم أن من غض بصره احتساباً لوجه الله أبدله الله إيماناً يجد حلاوته إلى يوم يلقاه.
التقيت بشاب وجدته في المسجد قبل صلاة المغرب يبكي -جالس في الروضة يبكي- فقلت: السلام عليكم، وإذا بالدمع ينهمر من عينيه وله أزيز، فسلمت عليه، ماذا فيك يا أخي؟ خيراً، قال: اتركني يا شيخ! قلت له: كلمني، أنا أظن أنها مشكلة مادية، أو أن أهله خاصموه، الرجل في وادٍ وأنا في وادٍ آخر، قال: دعني يا شيخ! تركته، وبعد ما سلمنا وصلينا وانتهى من البكاء، قلت: أرجوك أن تخبرني، أنا لابد أن أشاركك في مصيبتك، وسأحاول أن أنفعك -يا أخي- ما هي المأساة التي عندك؟ قال: أكلمك خارج المسجد.
ولما خرجنا من المسجد أمسكني وقال: أنا يا شيخ من عادتي باستمرار بعد العصر أنني في البيت ما أخرج إلى أن تأتي الصلاة وأخرج أصلي، لكن أهلي اليوم طلبوا مني أن أذهب إلى السوق يقول: فذهبت إلى السوق ودخلت في مكان أشتري قطعة قماش يقول: ولما دخلت وجدت نساء كن يشترين أقمشة في نفس الدكان، فقلت لصاحب الدكان: هل هذا القماش عندك؟ قال: نعم.
يقول: فأخذ مني النوعية وذهب يبحث عنها ويقول: وبينما أنا واقف ووالله ما نظرت إلى النساء، وهن موجودات، يقول: خائف من الله ما حاولت أن أنظر -لكن واحدة منهن تحرشت بالولد، الولد شاب وسيم لكنه يخاف الله- يقول: وجاءت من ورائي إلى أن قابلتني وجلست تتلفت فيِّ، يقول: لما تلفتت فيَّ أغراني الشيطان في تلك اللحظات، يقول: فجلست أتلفت فيها، يقول: ثم تذكرت خوف الله فغضيت بصري، وأخذت القماش وخرجت، وعندما جئت إلى المسجد قعدت أحاسب نفسي لماذا تلفت فيها؟! أين أنا من الله؟! أما أعلم أن الله يراني في تلك اللحظات؟! يقول: فتضاءلت نفسي أمامي، فشعرت أن الله قد أوجب علي عذابه وسخطه ووباله فأنا الآن في مصيبة لا يعلمها إلا الله، ووالله إني أبكي من الساعة الخامسة قبل الأذان! لا إله إلا الله!! ما الذي جعله يعمل هكذا؟ الخوف من الله، وهو شاب مثل أي شاب عنده من نوازع الشر وعوامل الجنس والرغبة في النساء مثل أي إنسان، ليس ملكاً من الملائكة، لكن الإيمان يحجز، الإيمان يحول بين العبد وبين المعاصي والذنوب، فلا بد -يا أخي المسلم- من الصبر على طاعة الله في ممارستها باستمرار، والصبر عن معصية الله في البعد عنها باستمرار.
نسأل الله أن يثبتنا وإياه على الإيمان، وعندما عرض الكلام لي خنقته العبرة وازداد عليه البكاء؛ لأننا صلينا، لكن لما أعادها تذكر عظمتها، وأنه أخطأ في جنب الله فزاد البكاء، فقلت له: هون على نفسك -يا أخي- واستغفر الله، ودخلنا المسجد وتناولت المصحف، وفتحت له على سورة آل عمران في قول الله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] ما هي صفاتهم؟ قال: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [آل عمران:134 - 135] يعني: مثل هذه {أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] يعني: مثل حالة الولد هذا، صحيح أنه لما متع نظره ارتكب جريمة، لكنه لما ذكر الله واستغفر وتاب وندم ولم يصر على ما فعل قال الله عز وجل: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:136].
والله -يا إخواني- لما قرأت عليه الآية، وصلنا إلى الآية: {جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ} [آل عمران:136] وإذا به يضحك، تبدل بكاؤه إلى ضحك واستبشار، وقلت: ما بك؟ قال: الحمد لله، ربي يعطيني جنة، أعصيه ولكني أستغفر وأتوب فيرزقني بالجنة، قلت: {خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:136] هذا رب كريم ورب عظيم جليل، يثيب على الحسنة بعشر أمثالها، فأنت لما تبت بدل الله سيئاتك حسنات وقبلك تبارك وتعالى.(87/10)
علامات الشقاء الدنيوية والأخروية
الطريق إلى الله واضح، والهداية مطلوبة من كل مسلم، وثمرتها السعادة في الدنيا والآخرة، ولقد علق الله على الهداية كل خير وصلاح، وكل فوز وفلاح، وكل سعادة في الدنيا والآخرة، ولكن الذي يرفض طريق الله عز وجل، ولا يريد هداية الله، أبى إلا أن يسير في الذنوب، وأبى إلا أن يرتكب المعاصي، وأن يهجر المساجد والقرآن، وأن يهجر الدين، وأن يكون عبداً للشيطان ولياً للعصاة مجرماً هارباً فاراً من الله تعالى، هذا يعرض نفسه للدمار في الدنيا قبل الآخرة، أما في الدنيا فقد ذكر ابن القيم رحمه الله بعض علامات الشقاء التي تحصل للإنسان إذا حصل منه الانحراف، فذكر أن من علاماتها:(87/11)
قلة التوفيق
أولاً: قلة التوفيق.
لا يوفق العاصي، يجد النحس دائماً في وجهه باستمرار، التوفيق مجانب له؛ في كل طريق لا يجد معه توفيقاً من الله عز وجل؛ لأن التوفيق هو قرين العمل الصالح والهداية والطاعة، أما المعاصي والذنوب فإن صاحبها غير موفق لا في الدنيا ولا في الآخرة.(87/12)
فساد القلب
ثانياً: فساد القلب.
وإذا فسد القلب فسد الجسد كله، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله) ففساد القلب يعني: فساد العين، وفساد الأذن، وفساد اللسان، وفساد اليد، وفساد الرجل، وفساد الفرج، وفساد البطن وفساد كل شيء، يصبح مركب فساد من رأسه إلى قدمه، لماذا؟ لأنه فاسد في قلبه؛ ولأن القلب هو ملك الجوارح، فينتج قلة التوفيق وفساد القلب.(87/13)
نفرة الخلق
ثالثاً: نفرة الخلق وحشة من هذا الإنسان، تستوحش منه حتى الأرض التي يمشي عليها، حتى اللقمة التي يأكلها، حتى الثوب الذي على جسده، حتى السقف الذي يظله، ينفر منه حتى أبوه وأمه وزوجته وحتى نفسه؛ تتمنى نفسه الداخلية أنها ليست معه، لماذا؟ لأنه قد نفر من الله عز وجل، فنفرة الخلق هذه عقوبة وعلامة من علامات الشقاء، يقابلها: المؤمن يكون محبوباً للخلق، المؤمن كل شيء يحبه، حتى الأرض التي يمشي عليها.(87/14)
قسوة القلب
رابعاً: قسوة القلب.
يصير القلب مثل الحجر، يقول الله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] لكن قليل الدين العاصي الفاجر يقرأ القرآن وكأنه يضرب به في الجبال، لا يخشع ولا يتصدع ولا يخضع ولا يلين قلبه، بل يسمعه ويعرض عنه، قسوة في قلبه، يقول الله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74] لكن قلوبهم أشد من الحجارة، بل هي أشد قسوة، فقسوة القلب من أين تأتي؟ من ثمرة الذنوب والمعاصي، فمن علامات الشقاء: قسوة القلب، وإذا بالعين متحجرة فلا يمكن أن تقطر دمعة، والقلب قاس لا يمكن أن يتحرك حركة، مثل (الأمبير) الذي يعتبر مقياس الهواء أو الكهرباء إذا كان عاطلاً لا يتحرك، ضعه في الهواء وهو عاطل يعطيك نتيجة خاطئة، لكن عندما يكون صالحاً أقل اهتزاز يعطيك إشارة.(87/15)
لباس الذل
خامساً: لباس الذل.
ما هو لباس الذل؟ ألا يحب كرامة نفسه، مستعد أن يهين نفسه في كل مجال في سبيل الشهوات والمعاصي، ربما يذهب فيهين نفسه في أي مكان؛ لأن العزة ثمرة الهداية، يقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} [فاطر:10] ويقول عز وجل: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18] فلباس الذل يقول فيه الحسن البصري: [والله لئن هملجت بهم البغال، وطقطقت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق نواصيهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه].(87/16)
فساد الرأي
سادساً: فساد الرأي.
ليس هناك توفيق في رأيه، سواء في الدين أو الدنيا، فيكون رأيه فاسداً لأن الإرسال عنده معطل؛ لأن الله ينور بصيرتك إذا غضضت بصرك؛ إذا كنت موفقاً ومؤمناً جعل الله لك نوراً تمشي به، وإذا لم تكن ديناً وأصبحت مفسداً يكون رأيك فاسداً، وتكون الطريق التي تسير فيها فاسدة والعياذ بالله.(87/17)
محق البركة في الرزق والعمر
سابعاً: محق البركة في الرزق والعمر.
والبركة يقول عنها العلماء: إنها ليست بالكم ولكن بالكيف، فمن الناس من عنده كمٌ كثير هائل، لكن ليس فيه كيف ولا بركة؛ فلا بركة في رزقه، يطرد ولا يلحق، ولا بركة أيضاً في عمره، بل كلما زاد عمره زاد إثمه.(87/18)
ضيق الصدر
ثامناً: ضيق الصدر.
الكآبة تعلوه، والحزن يخيم عليه، والضيق في صدره وداخله يسيطر عليه، ولذا تراه يريد دائماً أن يهرب من هذا الضيق بما حوله من الأشياء، يريد أن يغني لكي ينفس عما في صدره، يريد أن يلعب ويشتري الجرائد ويقرأ الصحف ويقرأ الفكاهة، يريد أفلاماً؛ يريد مسرحيات مضحكة؛ لأن في صدره عذاباً وضيقاً فيزداد الطين بلة بما يهرب إليه من الذنوب، ولو هرب إلى الله لفرج الله كربه.(87/19)
خفاء الحق
تاسعاً: خفاء الحق.
فلا يرى الحق واضحاً، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه).
ومن آثار علامات الشقاء: أن الحق يكون خافياً على صاحب الشقاء، فلا يجد الحق، ولذا لا يقدر أن يسلك فيه وهو لا يعرفه، أما المؤمن فالحق واضح أمامه ويسير فيه، بل تلتبس الأمور على العاصي والفاجر، وتنعكس عنده الموازين وتنقلب المفاهيم فيرى الحق باطلاً والباطل حقاً.(87/20)
إضاعة الوقت
عاشراً: إضاعة الوقت.
يضيع وقت العاصي والشقي من غير مصلحة، ليس في وقته بركة، لا يستثمره في طاعة: فلا يقرأ فيه قرآناً، ولا يذكر فيه ربه، ولا يدخل فيه مسجداً، ولا يعمل فيه معروفاً، ولا يقرأ فيه كتاباً إسلامياً، وإنما كل وقته هباء، منهم من يجلس من بعد صلاة العشاء إلى الساعة الحادية عشرة أو الثانية عشرة أو الساعة الواحدة على ماذا؟ قال: على ورقة (صن أربعة) ومائة وخمسين، ما هو (الصن)؟ ولد وبنت وشايب، وأرقام، وضرب في الأرض، وأربع وخمس وساعات تقضيها على ماذا؟ أين عقلك؟ خلقك ربي لتلعب (صن) أم خلقك لتعبده؟ يقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] هل تستطيع أن تأتي يوم القيامة فتقول: والله يا رب أنا ألعب (بلوت نمرة واحد) أنا إذا جلست لا أقوم من مكاني إلى (نمرة عشرين) تستطيع أن تقول هذا الكلام لتبيض وجهك أمام الله عز وجل؟! والله إنه لخزي لك في الدنيا قبل أن تكون في الآخرة، هذا من أسباب الشقاء -إضاعة الوقت- كيف تضيع وقتك؟! منهم من يسمر إلى الساعة الثانية في الليل وبعد ذلك يذهب البيت وما قد صلى العشاء؛ لأنه بدأ السمرة بعد المغرب، يقول: نريد أن نستغل الليل من أوله، يقول: خذ الليل بأوله، يعني: دعنا نسمر من أول الليل، الله أكبر! وبعد ذلك سمر إلى الساعة الواحدة، وبعد ذلك رجع إلى البيت يمكن يصلي صلى العشاء! ولكن بعد أن رفعت أعمال العباد وسجلت في دواوينهم وهو ما زال مؤخراً للصلاة، ثم صلى أربع ركعات لا نعلم عنها، وأما صلاة الفجر! الله يخلف عليه فيها، فليس هناك صلاة فجر، وبعد ذلك الدوام؛ الدوام الساعة العاشرة، وقد يكون مسئولاً أو رئيس قسم أو مدير إدارة ويتجمع المراجعون وأصحاب المصالح عند بابه وغرفته وهو لم يأت حتى الساعة التاسعة إلى العاشرة! ثم جاء وعيونه متورمة، وأذنه قد بال فيها الشيطان كما جاء في الحديث: (إذا نام العبد عن صلاة الفجر بال الشيطان في أذنيه وقال له: نم، عليك ليل طويل) يقول له: نم مكانك.
فلا حول ولا قوة إلا بالله! فيدخل وهو خبيث النفس كسلان، عيونه منتفخة، ومزاجه حاد، وأذناه مسددتان بفضلات الشيطان، فإذا جلس على كرسيه جلس متكاسلاً، فإذا دخل المراجع، قال: عندك رقم أنت؟ كأنه يريد أن يأكله، يقول المراجع: من أتانا بهذا؟! حسبنا الله، ماذا بالرجل؟ فتشاهدهم يصفون ويسمعونه، وكل شخص يذهب وراء الثاني يريدون أن يمضوا مصالحهم، يخافون أن يضاربوه فيعقدها عليهم، لماذا؟ لأنه إذا أراد أن يعقد المعاملة يستطيع أن يبحث فيها عن علة: هذه ناقصة هذه اذهب صادق عليها هذه اذهب صححها هذه قديمة وأوجد له سبعين عذراً لكي يصرفهم من عنده، فهذه ثمرة البلوت؛ لأنه ضيع وقته بالليل في معصية الله، فضيع وقت المسلمين وضيعوا حياته كلها ولا حول ولا قوة إلا بالله!(87/21)
منع إجابة الدعوة
حادي عشر: منع إجابة الدعوة.
وذلك لأن الاتصال بينه وبين الله مقطوع، والدعاء معراج تعرج عليه الحاجات من العباد إلى الله عز وجل، وأنت ليس معك إلا مولاك وخالقك؛ لأنك تعبده وتلجأ إليه، يقول الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} [البقرة:186] أي: أول شيء قبل أن أستجيب لهم يجب أن يستجيبوا لي في ديني، يستجيبوا لي في أمري، يستجيبوا لي في نهيي، يستجيبوا لي في طاعتي، يستجيبوا لي بترك معصيتي: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] فإذا حصل لهم الرشاد فإني قريب.
تذكر كتب العلم قصة لصحابي جليل هاجر من مكة إلى المدينة، وفي الطريق اعترضه قاطع طريق.
وقال له: إلى أين؟ قال: إلى المدينة.
قال: الطريق هذه التي أنت فيها لا توصلك، وهناك طريق مختصرة أقرب.
قال: نعم.
مسكين هذا! قال: تعال من هنا، يريد أن يأخذه إلى بعض الطريق لكي يقتله، فأخذه حتى أتى به إلى ذلك الوادي؛ وإذا فيه آثار عظام الناس الذين قد ذبحهم هذا الخبيث.
فقال له: ترى العظام هذه.
قال: نعم.
قال: والله هذه عظام الذين قد فتكت بهم، فالآن إني عازم على قتلك.
قال: ولم؟ خذ ما معي وخذ حماري ومتاعي وأعتقني لوجه الله.
قال: أريد روحك، وأما متاعك وحمارك فأمر ليس فيه نقاش؛ لكن نريد قتلك.
قال: عازم لا محالة؟ قال: عازم لا محالة! قال: أجل، فإني أسألك وأطلب أن تأذن لي بأن أصلي ركعتين.
قال: صلِّ ما بدا لك.
فقام وتوجه إلى القبلة وصلى ركعتين، وذاك واقف والسيف في يده ينتظره حتى ينتهي من الصلاة ويصلب رأسه ويقتله، ثم رفع يديه إلى السماء وقال هذا الدعاء -ذكره صاحب كتاب: حياة الصحابة - والقصة صحيحة في السنن قال: يا رحيم يا ودود! يا غفور يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا فعال لما تريد! أغثني! أغثني! أغثني! هذه القصة ذكرها المفسرون عند قول الله عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] قال: يا رحيم يا ودود! يا غفور يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا فعال لما تريد! أغثني! أغثني! أغثني! قال: وإذا بذلك الفارس الذي ينشق عنه الغبار على حصانه، وفي يده رمح، حتى جاء إلى ذلك الرجل الواقف فضربه بالرمح في صدره فخرج يلمع من ظهره؛ فخر على الأرض صريعاً، وهو ما زال يدعو الله، فقام الرجل إلى الفارس هذا وقال: من أنت فقد أغاثني الله بك، أمن الإنس أم من الجن؟ من أين جئت؟ لا أحد في الصحراء، فقد أغاثني الله بك! قال: أنا من سكان السماء الرابعة، يقول: دعوت دعوتك الأولى فاضطربت السماوات، ثم دعوت الدعوة الثانية فسمع لأبواب السماء قعقعة -تفتحت كل أبواب السماء، دعوة من مخلص مضطر- ودعوت دعوتك الثالثة فسألت الله أن يجعل شرف نجدتك على يدي، فأذن لي في ذلك فقتلته.
يقول: ثم اختفى، فخر هذا ساجداً لله عز وجل، وقام فركب حماره ورجع على أثره فذهب إلى المدينة.
فإجابة الدعوة هذه كرامة من الله للمؤمن، لكن الشقي الفاجر لا يقبل الله دعوته، يعيش معزولاً عن الله، تصوروا إنساناً يعيش في الدنيا وهو مقطوع الصلة بالله، مبتوت عن السماء، كيف يعيش هذا؟ إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك أن تكلني إلى نفسي طرفة عين) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ أن يكله الله إلى نفسه طرفة عين، فكيف بمن يكله الله إلى نفسه طول حياته؟ لا إله إلا الله! فهذه علامات الشقاء تحل بالعدو لله العاصي؛ القليل الدين؛ البعيد من الله، تحل به في الدنيا.
وأما الباقي فهو ما ينتظره من عذاب الله يوم يموت، وما ينتظره من عذاب الله في القبر، وما ينتظره من عذاب الله يوم الحشر، وما ينتظره من عذاب الله في النار أعاذنا الله وإياكم من النار ومن أهلها! أسأل الله تبارك وتعالى أن يهدينا وإياكم سواء السبيل، اللهم ألهمنا رشدنا، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، اللهم استعملنا فيما يرضيك، اللهم استعمل جوارحنا في مرضاتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم احفظنا بحفظك، واكلأنا بعين رعايتك، اللهم من أراد هذه الديار وغيرها من ديار المسلمين بسوء أو شر أو كيد فاجعل كيده في نحره واجعل تدبيره في تدميره، اللهم أنزل عليه بأسك الشديد، وعذابك الأكيد، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم فإنهم لا يعجزونك.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(87/22)
الأسئلة(87/23)
حكم الذهاب إلى المستشفى والتحدث مع الممرضات
السؤال
ما رأيكم فيمن يذهب إلى المستشفى، وكثير من الممرضات فلبينيات، وقد يتكلم مع الممرضة أو ينظر إليها؟
الجواب
لا يبرز دور المسلم ويعرف مدى خوفه من الله، وهل هو مراقب لله يغض بصره عن محارم الله إلا في مثل هذه الأماكن، فعندما تذهب إلى المستشفى وترى الفلبينيات جالسات هنا يبرز دورك، هنا تعرف إيمانك، فإما أن تغض بصرك أو تفتح عينيك، مثل الساعات، إن كنت غضضت بصرك فأنت مؤمن؛ هل هناك من أحد يستطيع أن يفتح عينك من أجل أن تتلفت؟ لا، عينك في رأسك ووفق إرادتك.
تخاف من الله غض بصرك، ولا تحمل الناس مسئولية عينك، تقول: إذا رأيت النساء كاشفات فأنا سوف أتلفت، لا.
ما أمرك الله أصلاً بغض البصر إلا لأنه يعلم أن أناساً يتكشفون، ولو أن كل الناس يتغطون ما جاء أمر بغض البصر، ولكن غض البصر دليل على أنه سيكون أناس يعرضون فتنهم، ويبيعون أعراضهم، وأنت مأمور بأن تغض بصرك، قال الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30].
فإذا ذهبت إلى المستشفى أو إلى السوق أو إلى أي مكان فيه تجمع للنساء ورأيت النساء فغض بصرك، واعلم بأن نظر الله إليك أسرع من نظرك إلى المنظور إليه، تصور في تلك اللحظات التي تتلفت أن الله يراك، وأن هذه من محارم الله، وأن الله حرم عليك أن تنظر إلى محارمه تبارك وتعالى، يقول الشاعر:
عِفُّوا تعف نساؤكم في المحرم وتجنبوا ما لا يليق بمسلم
إن الزنا دين فإن أقرضته كان القضا من أهل بيتك فاعلم
من يزن بامرأة بألفي درهم في بيته يزنى بربع الدرهم
والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(87/24)
ومن لم يحكم بما أنزل الله
الحكم بما أنزل الله لا يقتصر على الحاكم فقط، بل كل مسلم يتحتم عليه أن يحكم بما أنزل الله في كل شأن من شئون حياته، بأن تكون كل أفعاله وأقواله وحركاته وسكناته محكومة بأمر الله، ومعروضة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبهذا يصير المسلم قد حكم بما أنزل الله فيرجى له بذلك النجاة من عذاب الله، أما الحاكم فالوعيد في حقه أشد والتبعة عليه أثقل؛ لأن حكمه لا يتوقف في تأثيره على خاصة نفسه، وإنما يتجاوزه إلى عامة من ولاه الله أمرهم.(88/1)
مدلول الحكم بما أنزل الله
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على دربه واقتفى أثره واتبع سنته، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا عباد الله: إن حكمة الخلق والإيجاد، ونعمة الرزق والإمداد حكمةٌ بالغة فما تغني النذر، حكمةٌ أوضحها الله عز وجل في محكم التنزيل، فقال عز من قائل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58] الحكمة التي من أجلها خلق الله العباد، وخلق الله الكون، وسخر سماواته وأراضيه، وشمسه وقمره، وجباله وسهوله، وأنهاره وبحاره وجميع الكائنات، الحكمة التي من أجلها أوجد هذا العالم هي: حكمة العبادة، وهذا واضح من كلام الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
واهتمام الإنسان بأي عملٍ آخر غير هذه الحكمة وضعٌ للشيء في غير موضعه، واهتمامٌ بما ليس له أهمية.
إن الأهمية الأولى والحكمة العظيمة، والسر الذي من أجله خلقك الله أيها الإنسان! أن تكون عبداً لله، خاضعاً لشريعة الله، متلقياً لجميع أمورك ونواهيك من الله، تسير على نور من الله، تحكّم منهج الله في كل تصرفاتك، في ليلك ونهارك، في سرك وجهارك، في مسجدك ومكتبك، في بيتك وسوقك، مع نفسك وزوجك، مع أولادك ووالديك، مع جيرانك وأقاربك، تُحَكِّمْ شريعة الله في كل حركةٍ من حركاتك، وفي كل سكنةٍ من سكناتك، عينك تحكمها بأمر الله، أذنك تحكمها بأمر الله، لسانك تحكمه بأمر الله، يدك تحكمها بأمر الله، رجلك تحكمها بأمر الله، فرجك تحكمه بأمر الله، بطنك تحكمها بأمر الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47].
كثيرٌ من الناس يحمل هذه الآية على الحكام والمسئولين فقط، ويقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] وما علم أن مدلول الآية أوسع من ذلك، أنها تشمل الحاكم والمحكوم، وتشمل الرجل والمرأة، وتشمل الوالد والولد، وتشمل المدرس والطالب، وتشمل المدير والموظف، وتشمل الضابط والجندي، تشمل كل إنسان: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].(88/2)
تحكيم أمر الله في البصر
إن لله حكماً في كل شيءٍ من تصوراتك، لله حكمٌ في عينك، يقول الله عز وجل في حكم العين: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] هذا حكم الله -الذي لا إله إلا هو- موجهٌ لك، يا من رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً! يا من دخلت في دائرة الإيمان! يا من تسربلت بسربال الإيمان! هذا أمرٌ من الله موجه لك، يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ} [النور:30] (قل): فعل أمر، قل يا محمد! للمؤمنين، فمن الذي يستطيع أن يخرج نفسه من دائرة أهل الإيمان؟ ويصبح في دائرة المنافقين، أو في دائرة الكفار، أو في دائرة المجرمين حتى لا يكون مخاطباً بهذه الآية: (قل للمؤمنين)؟ هذا أمر الله، وحكمه عز وجل، لا تظنن أنك متروك أو مضيع، إنك محكومٌ في كل جزئية من جزئياتك، وفي كل تصرف من تصرفاتك، وفي كل عمل من أعمالك، في ليلك ونهارك وفراشك وطعامك، وفي إتيانك لزوجتك، وفي دخولك إلى بيتك، وفي خروجك من منزلك، وفي دخولك إلى عملك، وفي ركوبك لسيارتك، وفي سماعك للمطر، وفي رؤيتك للشمس، وفي بداية النهار، وفي نهاية النهار: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].(88/3)
الإذعان لأمر الله في غض البصر
قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] إن تمردك على أمر الله في بصرك في النظر إلى ما حرم الله ومتابعة محارم المسلمين، والتلصص على حرمات الله، هذا تمردٌ على حكم الله، فأنت لم تحكم بما أنزل الله في عينك.
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرورٍ عاد بالخطرِ
كل الحوادث مبداها من النظرِ ومعظم النار من مستصغر الشررِ
إن كثيراً من الناس لا يقدرون لهذا الأمر أهميته، فأمر غض البصر مهم، ولذا نص الله عليه في القرآن، وخاطب المؤمنين على حدة، وخاطب المؤمنات على حدة، فقال في المؤمنين: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وكأن قائلاً يقول: لِمَ يا رب؟! أريد أن أمتع بصري، أريد أن أتمتع بالنظر إلى الجمال الذي أوجدته في النساء -الجنس الآخر- لماذا يا رب! توجد الجمال ثم تقول: أغض بصري؟!! فالله عز وجل يعلمك مصلحتك، وما هو الأفضل لك، قال عز وجل: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] أزكى لك وأفضل وأرفع، وأجل وأعف وأنظف أن تغض بصرك؛ لأنك إذا نجست عينك بالنظر إلى محارم الله أغضبت الله عز وجل فإنه يراك حين تنظر إلى حرماته.
قيل للحسن البصري: [بِمَ نستعين على غض البصر؟ قال: بعلمك بأن نظر الله إليك أسرع من نظرك إلى المنظور إليه] أنت تنظر والله ينظر، أنت تجترئ على حرمات الله وتمتع نظرك بالتلذذ بمحاسن امرأة لا تحل لك، والله ينظر إليك ويغضب عليك ويسخط عليك، ويمقتك من فوق سبع سماوات، يمقتك لأنك عبدٌ شهواني، عبدٌ هابط، عبدٌ شيطاني، تريد معصية الله، تريد التمرد على أمر الله بعينك، رغم أن العين ليست منك، ما ركبتها في رأسك، ولا ركبتها أمك لك، ولا اشتريتها من السوق، ولا من المستشفى.(88/4)
البصر من أجلِّ نعم الله فليضبط أمره
إن العين التي عندك من أجلِّ نعم الله عليك: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10].
هب أنك أعمى! كيف تستطيع أن تتمتع بمتاع هذه الحياة؟ إن الأعمى المسكين يعيش في عالم والناس في عالم آخر، ولذا جاء في الحديث: (إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة) ليس هناك عوض مع الصبر والاحتساب إلا الجنة؛ لأنك إذا أغمضت عينيك وحاولت أن تجرب دقيقة أو دقيقتين أو ثلاثاً فلا تفتح عينيك.
تقول: أين الباب؟ أين حذائي؟ أين سيارتي؟ كيف أقودها؟ كيف أصل إلى بيتي؟ كيف أرى زوجتي؟ كيف أنظر إلى طعامي؟ كيف أتلذذ بالنظر إلى أولادي؟ كيف أنظر إلى فراشي؟ كيف أنظر إلى غرفة نومي؟ كيف أقرأ كتابي؟ كيف أقوم بمعاملاتي؟!! كل هذا بنعمة البصر، هذه نعمة لا تعدلها نعمة، لكن قيدها الله بالنظر فيما أحل، وفيما يحب، وكثيرٌ من الناس استعمل هذه النعمة فيما يسخط الله؛ ما نظر بها يوماً في كتاب الله، ما نظر بها يوماً في ملكوت الله، وما نظر بها يوماً فيما يرضي الله، وإنما خصصها ليلاً ونهاراً، بالنظر في محارم الله، سواءً في المجلة، أو في الفيلم، أو في السوق، أو في الحرام، فعينه مخصصة لمحاربة الله، هذا لم يحكم بأمر الله.(88/5)
غض البصر أزكى لصاحبه في الدنيا والآخرة
قال تعالى: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] كيف يكون غض البصر أزكى لك؟ نعم.
أزكى لك في الدنيا وأزكى لك في الآخرة، أما في الآخرة فإنك إذا غضضت بصرك عن محارم الله أطلقت بصرك بالنظر إلى وجه الله في الدار الآخرة، وهل بعد هذا نعمة؟ هل هناك أعظم من أن تنظر إلى الله كما تنظر إلى القمر ليلة النصف لا تضام في رؤيته كما جاء في الحديث الصحيح، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة النصف لا تضامون في رؤيته) وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] أي: مشرقة وجميلة، تعلوها نضرة النعيم، يعلوها الجمال والبهاء، يعلوها الرضا والرضوان من الرحمن تبارك وتعالى، يقوم أهل الإيمان يوم القيامة ووجوههم مسفرة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38 - 39] مسفرة بنور الإيمان، ضاحكة بالرضا عن الله، مستبشرة بوعد الله عز وجل: {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:39] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] أي: مشاهدة، وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] الحسنى هي: الجنة، والزيادة هي: النظر إلى وجهه الكريم.
{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] ما يشاءون: كل ما يخطر في بالك، بل أعظم مما يخطر في بالك، يقول الله عز وجل: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ} [السجدة:17] فلا تعلم أنت ما في الجنة، فيها نساء لكن لا كنساء الدنيا، وتعلم أن في الجنة خموراً لكن ليست كخمور الدنيا، وتعلم أن في الجنة قصوراً شاهقات لكنها ليست كقصور الدنيا، وتعلم أن في الجنة ثماراً لكن ليست كثمار الدنيا، وتعلم أن في الجنة أنهاراً لكنها ليست كأنهار الدنيا، كل ما في الجنة، وكل ما خطر في بالك فالجنة بخلاف ذلك، هذا ما يشاءون: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] هذه نعمة في الآخرة، لكن لمن غض بصره في الدنيا عما حرم الله.
تريد أن تملأ عينيك بالنظر إلى وجه الله وأنت قد ملأتها وأفسدتها ونجستها بالنظر إلى الزانيات والداعرات والمتبرجات، لا يمكن أبداً، العين المريضة القذرة التي لا ترتاح ولا تطمئن إلا إذا نظرت إلى ما يحرم الله عز وجل هذه العين لا تستطيع أن تنظر إلى الله، عين مريضة، ولذا جاء في الأثر: (من ملأ عينيه من الحرام ملأهما الله من جمر جهنم).(88/6)
ثمرات غض البصر، وعواقب إطلاقه
إن لله حكماً في كل شيءٍ من تصوراتك، لله حكمٌ في عينك، يقول الله عز وجل في حكم العين: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] هذا حكم الله -الذي لا إله إلا هو- موجهٌ لك، يا من رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً! يا من دخلت في دائرة الإيمان! يا من تسربلت بسربال الإيمان! هذا أمرٌ من الله موجه لك، يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ} [النور:30] (قل): فعل أمر، قل يا محمد! للمؤمنين، فمن الذي يستطيع أن يخرج نفسه من دائرة أهل الإيمان؟ ويصبح في دائرة المنافقين، أو في دائرة الكفار، أو في دائرة المجرمين حتى لا يكون مخاطباً بهذه الآية: (قل للمؤمنين)؟ هذا أمر الله، وحكمه عز وجل، لا تظنن أنك متروك أو مضيع، إنك محكومٌ في كل جزئية من جزئياتك، وفي كل تصرف من تصرفاتك، وفي كل عمل من أعمالك، في ليلك ونهارك وفراشك وطعامك، وفي إتيانك لزوجتك، وفي دخولك إلى بيتك، وفي خروجك من منزلك، وفي دخولك إلى عملك، وفي ركوبك لسيارتك، وفي سماعك للمطر، وفي رؤيتك للشمس، وفي بداية النهار، وفي نهاية النهار: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].(88/7)
ثمار غض البصر في الآخرة
كل عين تبكي يوم القيامة إلا ثلاثاً: عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ حرست في سبيل الله، وعينٌ غضت عن محارم الله، ثم مع النظر إلى وجه الله الكريم تنظر إلى النعيم، تنظر إلى زوجاتك من الحور العين: حور مقصورات في الخيام، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، في الجنات قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، كأنهن الياقوت والمرجان، بل إنهن كأمثال اللؤلؤ المكنون، وكأنهن بيض مكنون، إذا نظرت إليها رأيت وجهك في كبدها، كبدها مرآتك، وكبدك مرآتها، تجلس عندها قدر نصف يوم من أيام الآخرة خمسمائة سنة، ثم يشرق في الجنة برق يضيء، فيقول الناس: ما هذا؟ قالوا: هذه حورية تبسمت في وجه زوجها، تريد هذه وأنت تتلفت وتتلصص، فكثير من الناس ليس عنده عمل، يخرج إلى السوق لا يبيع ولا يشتري إلا مع الشيطان، لماذا تخرج؟ قال: أنظر، ماذا تنظر؟ تنظر إلى معصية الله! تنظر إلى غضب الله! تنظر إلىلعنة الله! وبعض النساء كذلك تخرج ليس لها عمل إلا أن تنظر، والله خاطب الرجال بهذه الآية وقال: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] أفضل لهم، فلو أنك غضضت بصرك لأعطاك الله اثنتين وسبعين حورية، جاء وصفها في القرآن وفي السنة بما لا يتصوره العقل، يكفيك أن الله يقول فيهن: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات:49] {كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة:23] {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:58].
تصور زوجتك مثل الياقوتة والمرجانة، هل رأيت في حياتك ياقوتة، لقد حاولت يوماً وأنا أدخل عند بائع الجواهر واللآلئ قلت له: أرني من فضلك قطعة من الياقوت أو المرجان، فأعطاني قطعة صغيرةً لا تزن ستين أو سبعين جراماً في صندوق مذهب، فقلت له: بكم هذه؟ قال: هذه بمئات الآلاف.
فنظرت إليها حقيقة، فسلبت بصري من جمالها، ومن شكلها، ومن عظمتها، قلت في نفسي: فكيف بالزوجات في الجنة كأنهن الياقوت والمرجان.
بالله هل من حقك أن تضيع هذه من أجل خبيثة تنظر فيها؟ يقول:
فاسمع إذاً أوصافها وصفاتها تلك المنازل ربة الإحسانِ
هي جنة طابت وطاب نعيمها فنعيمها باقٍ وليس بفانِ
ويقول ابن القيم رحمه الله في الميمية:
فيا خاطب الحسناء إن كنت راغباً فهذا زمان المهر فهو المقدمُ
فكن مبغضاً للخائنات لحبها لتحظى بها من دونهن وتسلمُ
وصم يومك الأدنى لعلك في غدٍ تفوز بعيد الفطر والناس صومُ
الصائم الآن عن الحرام يشعر بمعاناة، يرى النساء ويغض بصره، فقط هي أيام وليالٍ إلى أن تموت وتفطر في الجنة إن شاء الله، أما ذاك الذي يفطر أتدرون ما مثله؟ مثل من يصوم يوماً في رمضان ومن يفطره، الصائم في نصف النهار يحس بألم الجوع، ويعاني من لذعة العطش، ويريد الأكلة التي كان قد تعودها كل يوم الساعة الثالثة أو الثانية والنصف، لكنه يصبر ويضغط على أعصابه ويذهب ينام، وبعضهم إذا دخل البيت يكون غضبان؛ لأنه صائم، ثم إذا جاء المغرب، ووضعت الموائد، وصفت الصحون، وقدم الماء البارد، والشراب البارد، والطعام الجميل، شعر بفرحة ليس بعدها فرحة، ولهذا جاء في الحديث: (للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه).
أما ذاك الذي لم يصبر وقال: لن أصوم، وكفر -والعياذ بالله- وأفطر في نصف النهار، وذهب البيت وأكل، إذا أتى المغرب هل له فرحة؟ ليس له فرحة، بل عليه لعنة في قلبه، وإذا مات هل له فرحة؟ ليس له فرحة، بل عليه غضب من الله تبارك وتعالى، فأنت يا مسلم! غض بصرك عن محارم الله عز وجل حتى تمتع بصرك بالنظر إلى وجه الله في الدار الآخرة، وبالنظر إلى زوجاتك من الحور العين، وبالنظر إلى قصورك وأنهارك، وإلى ثمارك وبساتينك، وإلى ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
هذا في الآخرة.(88/8)
ثمار غض البصر في الدنيا
في الدنيا هل يوجد شيء؟ نعم.
يوجد شيء الآن قبل الآخرة، جميع ثمار ونتائج الدين لا تنتظرك في الآخرة فقط، بل هي مقدمة في الدنيا قبل الآخرة، يقول الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النساء:134] من أراد الدنيا فعليه بالدين، ومن أراد الآخرة فعليه بالدين، ومن أراد الدنيا والآخرة فعليه بالدين، ومن ضيع الدين ضيع الدنيا والآخرة، يقول الله عز وجل: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} [الشورى:22] ويقول: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى:44 - 45].
عليك بالدين، والدين يرتب لك جميع أنواع السعادة في الدنيا والآخرة، ولو تصورت -بوحي من الشيطان- أنه يحرمك من الأغاني يحرمك من الأغاني لكن أبدلك الله بالقرآن الكريم، يحرمك من النظر إلى النساء، لكن الله أبدلك بالنظر إلى زوجتك الحلال.
وفي الدنيا إذا غضضت بصرك فإن الله يفتح بصيرتك، والبصيرة نورٌ يقذفه الله عز وجل في قلب من شاء من عباده: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] والذين لا ينظرون بنور الله، ولا يبصرون طريق الله، فالله أعمى بصيرتهم لما أطلقوا أبصارهم فيما حرم الله، كيف يفتح الله بصيرته وهو ينظر في الحرام؟ لكن غُض بصرك ليفتح الله بصيرتك، وقد جاء في الحديث، يقول عليه الصلاة والسلام: (من غض بصره احتساباً لوجه الله أبدله الله بإيمانٍ يجد حلاوته إلى يوم يلقاه) فهذا معنى البصيرة: أن تعرف مصلحتك، وما فيه خيرك وسعادتك في الدنيا والآخرة، فتسير في الطريق الصحيح؛ لكنك إذا أطلقت بصرك في الحرام طمس الله بصيرتك، وحصل لك عمى، حصل لك عدم معرفة لمصالحك، ولا حتى تعرف مصلحة نفسك.
الذين يدورون بفلك الشيطان، ويسيرون في ركاب الشيطان، والشيطان يركب عليهم ويستعملهم في طرق الضلال، هؤلاء يقول الله فيهم: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19] نسي الله فأنساه الله مصلحة نفسه، فدمرها وأهلكها، وعرَّضها للعذاب في الدنيا والآخرة، ولو ذكر الله لذكره الله بمصالح نفسه، ولعرف مصالحها في الدنيا والآخرة: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] من غض بصره فتح الله بصيرته.
هذا أولاً.
ثانياً: أوجد الله عز وجل في قلبه محبة لزوجته إذا كان متزوجاً، وإذا كان غير متزوج فحتى يتزوج، فإذا حفظت بصرك وعندك زوجة فإنك تراها من أعظم النساء، لماذا؟ لأنك لا ترى غيرها، ولذا جاء في الحديث: (إذا رأى الرجل منكم ما يعجبه في امرأة فليأتِ أهله، فإن معها الذي معها).
فأنت حين تغض بصرك عن الحرام تدخل بيتك فترى زوجتك ملكة جمال، لكن لما تنظر في الأسواق وترى الموديلات والأشكال والألوان، والطول والعرض والجمال، وتدخل على امرأتك: هل تتصور أن تكون زوجتك فيها جميع جوانب الجمال الذي في السوق؟ فعندما تراها تنظر في عيونها وإذا عيونها ليست مثل عيون تلك، وإذا طولها ليس مثل طول تلك التي كأنها غصن، وإذا بعرضها ليس بمثل عرض تلك التي هي رشيقة الجمال فتكرهها، فإذا كرهتها كرهتك، وإذا كرهتك بحثت عن غيرك كما بحثت عن غيرها، وتسوء العشرة، ويتحطم كيان الأسرة، ويتشرد الأولاد، وتفسد الحياة، وتصبح الحياة حياة بهيمية بأسباب عدم غض البصر.
لكن يوم أن تغض بصرك تدخل عليها فتتلفت فيها وتقول: ما هذا الجمال؟! ما هذه العظمة! لأنك لا ترى غيرها، تظن أن ليس في الدنيا إلا هذه المرأة، ووجود العشرة والرابطة بين الزوج والزوجة هدف وغرض من أغراض الدين؛ لأنه إذا تفاهمت الأسرة وعاشت في وئامٍ وانسجامٍ وحبٍ وتفاهمٍ انعكست الآثار على الأفراد، وانعكست بالتالي على المجتمع والدولة كلها، وأصبحت الأمة كلها كأصابع الكف متماسكة قوية لكن يوم أن تتحطم الأسرة يتحطم المجتمع، وإذا تحطم المجتمع تحطمت البلاد، وساءت الأخلاق، وتحللت الروابط، وانقسمت القلوب، وحصل الفساد والطرد والغضب واللعنة من الله تبارك وتعالى.
كيف تستطيع أن تحب زوجتك إذا لم تغض بصرك؟ يقول الناظم:
إن الرجال الناظرين إلى النسا مثل الكلاب تطوف باللحمانِ
إن لم تصن تلك اللحوم أسودها أكلت بلا عوضٍ ولا أثمانِ
لا تتركن أحداً بأهلك خالياً لو كان بالنساك مثل بنان
المصلحة الأولى: أطلق الله بصيرتك وفتح قلبك، ثانياً: أوجد الحب والألفة بينك وبين وزوجتك.(88/9)
إطلاق البصر يجلب لصاحبه الويلات
ليس في الدنيا أصلح من غض البصر للقلوب؛ لأن الذي لا يرى شيئاً قلبه مرتاح، يرى زوجته، وإذا أرادها فهي موجودة عنده، يمد يده عليها، لكن الذي ينظر ثم لا يستطيع أن يقدر على شيء يقول:
وأنت إذا أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظرُ
رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ
ترى أشكالاً كثيرة من الذي بينك وبين عرضه، لا تقدر عليها كلها، ولا تصبر عنها كلها ولهذا يقول الشاعر:
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتلُ
الذي جلب الموت لي في قلبي وطعنني وضربني ضربة في قلبي هي: عيني.
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتلُ
يا رامياً بلحاظ السهم مجتهداً أنت المصاب فلا ترمِ بما تصبِ
وكثير من الناس يخرج من بيته ليس في قلبه هم ولا غم، فإذا رأى امرأة غانية متبرجة -والعياذ بالله- ورأى جمالها وأشارت إليه أو أشار إليها، وتابعها ثم ركبت سيارتها وذهبت ورجع هو إلى البيت رجع وهو مريض، يدخل البيت عند أهله يقدمون له العشاء فيقول: لا أريد عشاء، وهو يزفر الزفرة تقض صدره، ولا يأتيه النوم، ما الذي حصل؟ حريق في قلبه، من الذي أحرقه؟ عينه، طعن نفسه بعينه، لكنه لو غض بصره لأرضى ربه، ولأراح قلبه.
كنت سائراً في طريق من المسجد إلى منزلي ومعي شابٌ مؤمن -ولا أزكي على الله أحداً- وفي الطريق قابلنا اثنتين من الفتيات وكن متبرجات، عليهما عباءات قصيرة وكعوب عالية وثياب مشقوقة، المهم من النظرة الأولى غضيت، وهو معي ولم أقل له شيئاً، جلست أرقبه، وإذا به يغض، وفي الطريق وبعدما تجاوزناهن، نظرت إليه وقلت: ما رأيك: النظر أحسن أم الغض أحسن؟ قال: والله الغض أحسن.
قلت: لماذا؟ قال: لو أني نظرت لكنت الآن مريضاً، لكن صبرت قليلاً، وانتهيت وليس في قلبي شيء، وهكذا -أيها المسلم- تريح قلبك، والله يقول: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30].
والله يعلم مصلحتك ويعلم مضرتك، فهذا أزكى لك أفضل لك أرفع لك أعف لك أهنأ لك أكسب لك في الدنيا والآخرة أن تغض بصرك، فهل حكّمت أمر الله في هذا؟(88/10)
غض البصر يحتاج إلى مجاهدة شديدة
قليل من يحكّم أمر الله، بل حتى من الملتزمين، من الناس الذين فيهم خير من تجده يصلي، وتجد ثوبه قصيراً على السنة، وربما تجده متمسكاً بالسنة في لحيته، وفي أموره كلها، لكنه إذا رأى المرأة نظر إليها، الله يقول: غضوا، وهو ينظر إلى الحرام، لماذا؟ لأنه مسكين وقلبه مريض، ولا حول ولا قوة إلا بالله! غض بصرك ستشعر بمعاناةٍ وتعبٍ وقوة خارجة عن قوتك وعن إرادتك وتصرفك، إنها قوة الشيطان؛ لأن الشيطان لا يصطاد الناس من طريقٍ أعظم من طريق العين، يقول لك: انظر فقط، وبعد هذه تتكرر النظرة، ثم خطرة، ثم سلام، ثم كلام، ثم مواعيد، ثم لقاءات، ثم جرائم وزنا، ثم جهنم، بدأت بالنظر وانتهت بالنار.
لكن لو أنك أغلقتها من أول مرة لاسترحت، كما في المثل: "نافذة يأتيك منها ريح أغلقها واستريح" هذه عينك نافذة على الحرام، يأتيك منها ريح الزنا والحرام، أغلقها واسترح، وافتحها على كتاب الله، افتحها على النظر في ملكوت الله، افتحها بالتأمل في مخلوقات الله، والله يقول في هذا: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ} [ق:6] ليس نظراً كما تنظر الدابة والبهيمة إلى ما تأكل عند قدميها فقط.
بعض الناس لا يرفع يوماً من الأيام بصره إلى السماء، يمكن يدخل الشهر وينتهي، بل السنة وتنتهي، وهو لم يرفع بصره ليقول: لا إله إلا الله سبحانك يا رب ما أعظمك! بل عيونه دائماً في المعارض والدكاكين والنوافذ والمجلات، لا يرفع بصره؛ فهذا مسكين مربوط إلى الأرض، مربوط هابط متلطخ بالقاذورات، قال الله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:6 - 8] انظر الله يقول: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت:20] {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101].(88/11)
البصر نعمة قد يسلبها الله منك
لا تنظر فيما حرم الله، فالله عز وجل قادر على أن يطمس بصرك، يقول الله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} [يس:66] ومن عاث بالدنيا هنا ببصره فيما حرم الله أعمى الله قلبه في الدنيا والآخرة، وحشره يوم القيامة أعمى، كما قال عز وجل: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء:72] أعمى: ليس أعمى البصر، لكن أعمى عن الدين، لا ينظر إلى القرآن ولا يرى إلا الحرام.
ويقول عز وجل: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126] نسيتها وتعاميت عنها، وكذلك اليوم تنسى وتعمى وتؤمر بالسير على الصراط وأنت أعمى، وتدخل النار أعمى، قال الله عز وجل: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء:97].
بالله الذي لا إله إلا هو أسألك بالله يا أخي، يا مؤمناً! هل بقي لك مبرر أن تنظر في الحرام، وتشاهد الأفلام، وتخرج إلى الأسواق والمعارض وتنظر أعراض المسلمين، تحرق قلبك تذهب إيمانك تغضب ربك تطمس بصيرتك؟ كلما نوَّر الله قلبك بقليل صلاة ذهبت لتطمسها بعشر ساعات في الحرام، ولهذا يقول كثير من الناس: ما بالنا نصلي ونصوم ولا نتعظ، وقلوبنا قاسية؟! لا تنفعك صلاة عشر دقائق، وأنت جالس خمس ساعات أمام الفيلم والمسلسل، ترى النساء، وترى الحرام، ماذا تنفعك لحظات تقضيها مع الله تهدمها وتمسخها بساعات تقضيها في الأسواق تنظر إلى الحرام بعينك؟ ما هذا؟ لا بد من حماية مع البناء، تبني صلاة وصياماً وتقوى وأيضاً تحمي من الهدم، تحمي من المعاصي، هذه العين فقط: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] احكم بما أنزل الله في عينك وعلى هذا قس.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.(88/12)
تحكيم أمر الله في السمع
الحمد لله على إنعامه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا عباد الله: حكموا القرآن، حكموا سنة النبي سيد ولد عدنان صلوات الله وسلامه عليه، حكموه في كل شيء، حكموه في أبصاركم، حكموه في أسماعكم.(88/13)
السمع نعمة قد يحمل الخير أو الشر إلى القلب
إن هذه الأذن مأمورة وصدر فيها حكم من الله يقول الله عز وجل: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] ويقول عز وجل عن عباد الرحمن: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55].
هذه الأذن مسئولة عما سمعت، وهذه الأذن مصبٌ وقناةٌ تحمل الخير أو الشر إلى القلب، كما أن العين قناةٌ يمكن أن ترسل عن طريقها الخيرات والتأملات والآيات، ويمكن أن يرسل عن طريقها الآهات والحسرات والعذاب والعياذ بالله.
وهذه الأذن كذلك يمكن أن تكون قناة لإحياء قلبك أيها المؤمن! عن طريق سماع كلام الله، إذا سمعت خطاب الله الذي أنزل لك القرآن: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت:51] {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة:15] {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى:54 - 53] إنه كتاب كريم {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] هذا القرآن العظيم خاطبك الله به من أجل أن تسمعه أولاً، ثم تفهمه، ثم ترتله، ثم تطبقه وتعمل به وتدور معه في فلكه، هذا كتاب الله، لكن يوم أن عاشت الأمة في غير ميادينها ضيعت القرآن، فكثير من بيوت المسلمين يدخل اليوم وينتهي ما قُرئت فيه آية، وإن قُرئت فعلى سبيل الصدفة، وإن قرئت في بعض المحلات تبركاً لمدة دقيقتين، ثم يضع الشريط على المنكرات والأغاني والعياذ بالله.
فلما عاشت الأمة في غير ميدانها الطبيعي هجرت كتاب الله واستبدلته، وسمعت شيئاً لا يرضي الله، وهذه الأذن مسئولة يوم القيامة.(88/14)
من تحكيم شريعة الله في السمع: عدم سماع الأغاني
ذهل حكمت شريعة الله في الأذن؟ هل سمعت بها ما يرضي الله أم استمعت بها ما يغضب الله؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم والحديث صحيح في السنن: (كان يسير يوماً من الأيام مع عبد الله بن عمر وفي الطريق سمع راعياً معه بوق -بوق الراعي لا يفتن ولا شيء، إنما يسلي به الراعي عن نفسه في الجبال- فلما سمعه صلى الله عليه وسلم، وضع إصبعيه في أذنيه حتى لا يسمعه) ويقول في الحديث الصحيح عند البخاري: (ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحرَ والحرير والخمر والمعازف) حتى غدت أمتنا أمة الغناء والطرب، لا أمة القرآن، ولا أمة الجهاد والسيف، ثقافتنا الموسيقية والغنائية أعظم من ثقافتنا القرآنية، إذا أريد إجراء مسابقة وطلب من المتسابقين قراءة آية قاموا كلهم يتلفتون: هل فيكم مطوع؟ وأنتم ألستم بمؤمنين؟! ألستم مسلمين؟! أليس القرآن كتابكم؟! ألم يخاطبكم الله به؟!! لكن إذا جيء بعازف العود أو البيانو أو الكمنجة وقالوا له: اعزف طرفاً من أغنية، ثم لمن هذه الأغنية؟ ومن واضع كلماتها؟ ومن ملحنها؟ ومن أداها؟ ارتفعت الأصابع حتى تشق السماء كلها، كل واحد يقول: أنا أنا أنا وماذا رأيت وماذا عرفت؟ ثقافة ضحلة، ما عرفت كتاب الله، إذا سئلوا عن آية أو حديث أو حكم شرعي لا يعرفون، وإذا سئلوا عن هذا الهراء ارتفعت الأصابع، لماذا؟ يعيش أكثر الناس مع الغناء عند النوم، لا ينام إلا على أغنية، يظل يدير الراديو من مكان إلى مكان حتى يجد سهرة الليلة، يسهر مع الشياطين، يسهر مع غضب الله، لا يريد أن يسهر مع الله، لا يريد أن يختم حياته ويومه بذكر الله، ما يدريه لعله أن ينام ولا يستيقظ منها إلا إلى جهنم والعياذ بالله.
شابٌ وقع له حادثٌ مروري وقطع بطنه (الدركسون) ووجدوه والسيارة منكوسة، ورأسه مدلى إلى أسفل، ولا يزال في الرمق الأخير لم يمت، ولكن كبده قد انتهى وهو لا زال حياً وإذا بهم يمسكونه وهو مع الشريط يغني ويقول:
هل رأى الحب سكارى مثلنا؟!!
لا والله ما رأى الحب أفشل ولا أسكر منك، نعم.
لا يوجد أسكر منك، يغلق الحب مع أهل الحب والفن.
يا أخي في الله! إن هذه الأذن أمانة في رأسك، وهي نعمة من نعم الله عليك، هب أنك -عافاك الله- فقدت هذه الحاسة، وجلست في المجالس مثل الكرتون، يتكلم الناس ويتضاحكون، وتقول أنت: ماذا تقولون؟ قالوا: نحن نتكلم، قال: علموني ماذا تقولون، جاءوا إليه فأخبروه ولكنه قال: لا أدري ماذا تقولون، اكتبوا لي، فأذنك هذه حساسة تسمع كل شيء وهي نعمة من نعم الله عليك عليك أن تتقي الله فيها.(88/15)
تحكيم أمر الله في اللسان
لسانك جارحة خطيرة فحكم فيها شريعة الله، لا بد أن تحكم أمر الله في لسانك؛ لأن هذا اللسان نعمة من نعم الله: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8 - 9] وربما شاهدت في حياتك معوقاً لا يتكلم، أو عنده تأتأة أو عجمة لا يتكلم، فإذا أراد أن يتكلم لا يستطيع، وأنت لسانك سهل على الأغاني واللعن والسب والشتم، والغيبة والنميمة، ولو شاء الله لعطل لسانك، لكنه أطلق لك اللسان من أجل أن تقرأ القرآن، وتتعلم السنة، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتدعو إلى الله، وتذكر الله بهذا اللسان؛ لأن اللسان وسيلة هدم سلبية، ووسيلة بناء إيجابية، به يدخل الإنسان النار وبه يدخل الجنة، يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في صحيح البخاري: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة) ويقول: (أكثر ما يدخل الناس النار: الفم والفرج) ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب).(88/16)
حال الناس مع ألسنتهم
كثير من الناس الآن في مجالسهم وفي سمراتهم يتكئون على الأرائك، ويأكلون من النعم، ثم يخوضون في أوامر الله، يغلطون العلماء ويسبونهم، ويتكلمون في أعراضهم ويستهزئون بهم، ويضحكون عليهم، ثم ربما يكون له ولد صالح في بيته فيستهزئ بولده، عنده أربعة أو خمسة (مخنفسين) وواحد مؤمن مهتد طيب، لكن النكتة واللذعة والسخرية بهذا، أنت يا مطوع! تعال يا مطوع! يضحكون عليه، قالوا: هذا مسكين معقد، ولدنا هذا والله إننا خائفون عليه، لأنه مسكين مخرف، كان اجتماعياً، كان مرحاً منبسطاً أليفاً، أما اليوم فمسكين مع المطاوعة يقرأ ويقعد ويذهب في غرفته لوحده، مسكين عقدوه! والله أنت المسكين! والله أنت الضائع.
حتى أن بعض الناس يقول: أنا والله لا أريد أن يصبح ولدي متديناً، لماذا؟ قال: أريد أن يصبح متديناً مثلي، وما هو دينك أنت؟ ألك دين عند الله؟ دينك ودينه من عند الله على كتاب الله وسنة رسول الله، وما هو دينك؟ قال: ديني أنا سهل، أنا أصلي في البيت، صحيح أننا نحب الحرام؛ لكن والله قلوبنا طاهرة، نسمع الأغاني التي ليس فيها شيء يا شيخ! ولو سمعناها والله ما كأنها شيء، وننظر إلى النساء ونجلس سوياً، لكن قلوبنا طاهرة، وأيضاً الله غفور رحيم، يريد واحد متفلت من دين الله عز وجل بحجج شيطانية، وبأمانٍ باطلة، وبغرور ومكر من قبل الشيطان والعياذ بالله.(88/17)
من تحكيم أمر الله في اللسان عدم الخوض في الباطل
لسانك هذا انتبه منه، لا تخض به في أعراض العلماء، فإن لحوم العلماء والدعاة مسمومة، وعادة الله في الذين ينالون منهم معلومة، انتبه كل شيء إلا هؤلاء، فإن لهم حصانة شرعية، حصانة ربانية، من نال منهم ناله الله: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:29 - 34] ذاك في طباق جهنم يتقلب مثل الفحمة السوداء، وذاك في درجات الجنة يضحك عليه، وما أتى بك؟: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر:42 - 45] هكذا الخوض وهو: الحركة الغير متزنة، والمضطربة، يخوض أكثر الناس الآن حياته مثل الثور في الحلبة، إن جلس مع الطيبين خاض معهم، وإن جلس مع السيئين خاض معهم، ومن حيث يفتح المجلس له القدم السابقة فيه.
يا أخي! كن متميزاً بإيمانك، احفظ لسانك فلا تطلقه إلا فيما يحبه الله تبارك وتعالى ويرضاه، واحذر فإن الرجل كما جاء في حديث بلال بن الحارث عند مسلم: (أن رجلاً جاء إلى أخٍ له ينصحه -الرجل هذا صالح وأخوه فاسد- فوجده على معصية، وجاءه مرة أخرى فوجده على معصية فنصحه، ثم جاءه الثالثة فوجده على المعصية فنصحه -لكن رغم أن البواعث حسنة، وأن المقاصد طيبة، وأنه يريد أن يغير منكراً لكن تجاوز الحد- فقال: كل يوم آتيك وأنت على المعاصي، والله لا يغفر الله لك -حلف أن الله لا يغفر لأخيه العاصي، وهذا نوعٌ من التجاوز والتدخل في صلاحيات الله- قال الله عز وجل: من هذا الذي يتألى علي؟ قد غفرت له وأحبطت عملك) إذا كان هذا الرجل الصالح تجاوز الحد رغم أن نيته طيبة وقصده حسن فهذا لا يشفع له، فكيف بمن يتجاوز الحد في حرمات الله، وفي أعراض المسلمين ونيته فاسدة وعمله فاسد؟! يأكل لحوم الناس.
كثير من كبار السن الآن أراحهم الله في هذه الحياة، ما عاد معه قليب ولا بئر ولا زبير ولا غنم ولا مزرعة، وإنما يأتيه راتب التقاعد عند سن معين، يقولون: شكر الله لك، خدمت الدولة وقمت بالواجب، وأديت الدور، فالآن خذ راتبك واقعد، تفرغ لعبادة خالقك ومولاك، واقطف آخر ثمرات حياتك فيما يرضي الله، لكن من الناس من يتفرغ للمعاصي، تجده يؤذي أهل بيته، يقعد مثل (الرادار) على امرأته وأطفاله، كلما انكسر فنجان أو انفتح باب، أو أضيئت لمبة، أو انفك صنبور، قام يضارب، لطم المرأة، وضرب الولد، وصاح، قالوا: الله أكبر عليك، يوم كنت في الوظيفة كنا لا نراك إلا ضيفاً، أما الآن نكدت علينا، فمن يوم تقاعدت ما عاد معك أوامر إلا علينا؛ لأنه يمكن كان آمراً أو مسئولاً أو ضابطاً أو غيره، وكان يأمر وينهى، الآن لا يأمر وينهى إلا المرأة والأولاد.
وبعضهم تخصص في الغيبة، يجلس باستمرار من بيت فلان إلى فلان، ويفعل له متكأً على بابه: وتعال يا فلان! نجلس قليلاً، وجلس هو وإياه، ماذا قال فلان؟ وماذا فعل فلان؟ فلان طويل وفلان عريض وفلان متين وفلان سخيف وفلان مسواك وفلان شبرين وفلان أبو أرجل طويلة وفلان الأعور وجلس يأكل ويشرح ويقطع ويحضر من لحوم المسلمين.
وبعضهم يغتاب وينم ويكذب -والعياذ بالله- وقال لي شخص: إن رجلاً بلغ من العمر ستين سنة، وأحيل قبل عشر سنوات ولكنه الآن متخصص، يقول: والله ما معه عمل منذ أن يخرج من غرفته إلا على الفيديو والدخان، حتى -والعياذ بالله- ساءت صحته من كثرة التدخين، وحتى نشفت عيونه، يقول ولده: والله إني أقوم أصلي صلاة الفجر، وإني أمر عليه في غرفته وهو لا يزال ساهراً على الأفلام، وأرجع من الصلاة وقد حط رأسه لينام إلى المغرب، وهكذا لا إله إلا الله! فيا عبد الله: اتقِ الله في لسانك وحكم شريعة الله فيه، لا تتكلم بكلمة إلا بعد أن تزنها بميزان الشرع، فإن كانت ترضي الله فقلها، وإن كانت تغضب الله فردها، وماذا عليك؟ لماذا تُخرج شيئاً يضرك، أما تعلم أن المرء مخبوءٌ تحت لسانه (لسانك حصانك إن صنته صانك وإن أهنته أهانك) يقول:
احذر لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبانُ
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الأقرانُ
وفي الحديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).(88/18)
تحكيم أمر الله في الفرج(88/19)
الفرج وسيلة تدمير وتعمير
الفرج وسيلة من وسائل التدمير، أو من وسائل التعمير، إن استغلها الإنسان في الحلال، وصرف هذه الشهوة فيما يرضي الله، في زوجةٍ حلال؛ كان هذا العمل طاعة لله، قال عليه الصلاة والسلام: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له عليها أجر؟ قال: نعم.
أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر، كذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر) فلك أجر إذا أتيت زوجتك، وحصنتها وعفيتها، وحصنت نفسك، وعفيت نفسك، وابتغيت الولد، وحصل النسل الذي يكاثر بهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، ولكن إذا عطلت الزواج وذهبت في الزنا والحرام -والعياذ بالله- أهلكت نفسك وأفسدت حياتك؛ لأن الزنا موبقة وكبيرة، يقول الله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] ويقول في الحديث: (ما عصي الله بذنبٍ بعد الشرك أعظم من نطفة يضعها الرجل في فرجٍ لا يحل له) وفي الأثر: (من زنى بامرأة في الدنيا كان عليه وعليها في القبر نصف عذاب هذه الأمة) وفي الحديث: (أن الزناة والزواني يعذبون في النار في تنور أعلاه ضيق وأسفله واسع) والحديث في البخاري من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه وأيضاً ورد في الأثر: (أن الزناة والزواني يعلقون في النار بفروجهم يوم القيامة) موطن لذة وبسطة الآن، لكن تعلق بكلوب بفرجك أيها الزاني! إلى السماء والعياذ بالله.
وجاء في الأثر: (إن الزاني يوقف بين يدي الله يوم القيامة فيقول الله له: أزنيت؟ قال: لا يا ربِّ) -وينكر يظن أنه عند الهيئة أو عند القاضي، ما علم أنه عند ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، عند من لا تخفى عليه خافية- فيقول الله: (ألا يرضيك أن نقيم عليك عشرة شهود: قال: بلى يا رب! رضيت، فيختم الله على لسانه وتبدأ الجوارح تشهد، فيقول اللسان: أنا للحرام نطقت، والعين تقول: وأنا نظرت، والأذن تقول: وأنا سمعت، واليد تقول: وأنا بطشت، والرجل يقول: وأنا سعيت، والفخذ يقول: وأنا حضرت، والفرج يقول: وأنا عملت، والأرض تقول: وأنا حملت، والملائكة تقول: وأنا اطلعت، والله عز وجل يقول: وأنا سترت) سترناك لعلك تتوب، وأمهلناك لكن لا زال كثير من الناس يتمادى.(88/20)
من تحكيم أمر الله: منع الفرج عن الحرام
بعض كبار السن يأتي الشيطان ليقبله في جبينه، ويقول: فديت وجهاً لا يفلح أبداً، شيخ كبير في السن ويقطع تذكرة ويخرج خارج المملكة ويترك زوجته وأولاده ويذهب إلى بانكوك وغيرها من الدول من أجل أن يأتي من هناك بنمرة واستمارة على جهنم والعياذ بالله! قد توج نفسه بغضب الله ولعنته وسخطه في الدنيا الآخرة، الزنا موبقة، الزنا مهلكة -والعياذ بالله- اتق الله يا عبد الله! اتق الله في فرجك، فلا تزن به، ولا تمارس به جريمة أخرى أعظم من الزنا وهي جريمة اللواط التي يقول الله فيها: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:80] لا يوجد أحد يعملها حتى الحمير والكلاب والقردة والخنازير لا تفعلها، ما رأينا في حياتنا كلباً يركب كلباً، ولا حماراً يركب حماراً، ولا قرداً يركب قرداً، إنما تمارس هذه الأشياء في الذكور والإناث أما الحيوانات البشرية إذا تمردت على الله، وتحكم فيها الشيطان رأينا من يفعل هذا -والعياذ بالله- ولهذا عاقب الله أمة عملت هذا العمل بأن أرسل عليهم الملائكة، فغرس جبريل جناحه حتى بلغت تخوم الأرض، ثم قلب الأرض كلها، أربع مدن، وكل مدينة فيها (مائة ألف نسمة) بجبالهم وأشجارهم وبيوتهم ودوابهم حتى سمعت الملائكة في السماء عواء كلابهم ومواء قططهم، قال الله: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر:74] {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:82 - 83].
كذلك شهوة الفرج يقحمك الشيطان في جريمة أخرى وهي جريمة العادة السرية المسماة عند الناس بهذا الاسم، واسمها في الشرع باسم: نكاح اليد، ونكاح اليد محرم؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5 - 6] أي: الأمة المملوكة {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:6 - 7] وفي الحديث في الصحيحين يقول عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للطرف وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء) ولم يقل: فعليه بيده، يقول بعض أهل العلم: إن نكاح اليد والعادة السرية أشد حرمة من الزنا واللواط؛ لأن الزنا واللواط قد لا يتيسر للإنسان، أما يده التي يعمل بها فإنها معه في كل وقت، وبعض الناس ما شغلته إلا يده والعياذ بالله، فيعطل حياته ويغضب ربه، خلقك الله إنساناً سوياً فأصبحت كالحيوان البهيمي.
شهوة الفرج شهوة عارمة طاغية، وعليك أن تتقي الله، وأن تعتصم بالله، لا تنظر إلى الحرام، لا تسمع الحرام، لا تقرأ القصص الغرامية، لا تعاكس في الهاتف، لا تجر على نفسك شيئاً يشعل فيك هذه الشهوة، بل اقرأ كلام الله وسنة رسول الله، قم في الليل وصل، اذكر الله، اعتصم بالله: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101].(88/21)
تحكيم أمر الله في البطن
شهوة البطن أوجدها الله في الإنسان لبقاء الجنس، من أجل أن يعيش الناس، إذ لو لم يأكل لمات، ولكن الشيطان أوقع الناس في الشرور والآثام عن طريق الأكل الحرام، كثير من الناس يريد أن يكون صاحب ثراء وملك وأرض ومزرعة وسيارة عن طريق الحرام، فيأكل الحرام إما بالرشوة، أو الربا، أو السرقة، أو الكذب، أو الاحتيال والعياذ بالله، حتى يكون ثرياً ولكن من الحرام، يثري هنا، ويرفع أرصدته هنا، ولكنه يخسر هناك، وينقص رصيده عند الله حتى يكون مغضوباً عليه في نار جهنم.
فيا عبد الله: اقنع بالحلال، والله لدرهم حلال أعظم من مليون حرام؛ لأن: (كل جسمٍ نبت من سحت فالنار أولى به) والشيطان إذا رأى الشاب يتعبد قال لأعوانه وزبانيته من الجن: انظروا مطعمه ومشربه، فإن كان مطعم سوء أو مشرب سوء فدعوه فقد كفاكم شر نفسه، يقول: دعوه يصلي ويصوم ما دام يأكل حراماً، والحديث -كما تعرفون- في الصحيح، يقول عليه الصلاة والسلام: (رب رجل أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء وهو في سفر: يا رب! يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يُستجاب له؟!) كيف يستجيب الله لك ورصيدك مرتفع في البنوك الربوية؟ كيف يستجيب الله لك وأنت تأكل راتبك حراماً؛ لأنك لا تعمل، لا تأتي الدوام إلا الساعة التاسعة، وتخرج الساعة واحدة، وجالس على الطاولة في مكالمات وقراءة الصحف والشاي والفطور والحكايات، وأعمال العباد متراكمة على طاولتك، ومصالح المسلمين عندك، وكلما جاء مراجع، قال: تعال لي غداً، (غداً) عندك سهلة لكنها عند المراجع كأنها سنة، خاصة عندما يأتي والمكان بعيد.
فيا أخي! اتق الله وكُلْ حلالاً، يجب أن تكون محافظاً على الدوام، ولا تتأخر إلا بعذر شرعي، وبإذنٍ من ولي أمرك، من المسئول عنك، رئيس قسمك، أو مديرك أو رئيس وحدتك، أو قائدك، يجب أن تلتزم حتى يكون لمالك طعماً تأكله ويكون فيه بركة، اتق الله في هذه الأمور، وحكِّمْ شريعة الله في هذه الأمور: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].
ألا وصلوا على خير خلق الله محمد بن عبد الله، فقد أمركم بذلك مولاكم فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، ودمر اليهود والكفرة والملحدين وأعداء الدين، اللهم أنزل عليهم بأسك الشديد، وعذابك الأكيد، فإنهم لا يعجزونك، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم احفظ علينا أمننا ونعمتنا وطمأنينتنا واستقرارنا، اللهم من أرادنا في هذه الديار، أو في غيرها من ديار المسلمين بسوءٍ أو شرٍ أو كيدٍ أو مكرٍ فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، وأنزل عليه بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، اللهم نوَّر على أهل القبور قبورهم، اللهم اغفر للأحياء ويسر لهم أمورهم، اللهم فرج هم المكروبين، اللهم اشف مرضى المسلمين، واقض الدين عن المدينين، وعاف جميع المسلمين وسهل عودة المغتربين والغائبين برحمتك يا أرحم الراحمين! عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعضكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(88/22)
الأعداء الأربعة
إن الإنسان في هذه الدنيا في صراع دائم ومعاناة وابتلاء، ولعل أهم أبواب هذا الصراع: صراعه مع أربعة أعداء، فأولهم وأكبرهم وأشدهم عليه الشيطان الرجيم، الذي تتمثل وظيفته في الحياة في إضلال الإنسان بأساليبه المختلفة، ثم تأتي بعد ذلك الدنيا وما فيها من البلايا التي قد تضل الكثير، ثم النفس التي بين الجنبين النفس الأمّارة بالسوء والتي لا تدل على خير أبداً، ورابع أعداء الإنسان الهوى، وما أدراك ما الهوى! نسأل الله أن ينصرنا على أعدائنا(89/1)
الإنسان وصراعه في الحياة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الأحبة في الله! يعيش الإنسان في هذه الحياة في صراع دائم، وفي معركة مستمرة، وفي معاناة، وفي تعب، يقول ربنا عز وجل: {يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6].
ويقول عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] أي: تعب، ونكد، ومعاناة.
وهذا الصراع والمعترك هو مقتضى الابتلاء الذي يمحص الله به بين المؤمنين والمنافقين، وبين الصادقين والكاذبين، وبين المدعين للدعوة التي لا تثبتها أدلة ولا براهين، وبين الصادقين الذين يدعون ويبرهنون على صدق دعواهم، فجاءت هذه الامتحانات، وجاء هذا الصراع، وجاءت هذه المعارك.
وفَهْمُ الإنسان لهذه الحقائق يجعله يستشعر أهمية دوره في الصراع، ويهيئ نفسه للمواجهة، ويعرف أنه مطلوب منه ألا يقف مكتوف الأيدي أمام أولئك الأعداء، بل ينبغي له أن يواجه ويثبت ويصبر ويرابط، حتى تأتي ساعة النصر وهي ساعة دخول الجنة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المنتصرين فيها.
يقول ربنا عز وجل: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] هذا هو الفوز، وهذا هو النصر: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] إذا دعيت باسمك، ويسمعك أهل الموقف، ويقال لك: ألا إن فلان بن فلان قد سَعُد سعادة لا يشقى بعدها أبداً؛ سيَبْيَضُّ وجهُك؛ وتأخذ كتابك بيمينك؛ وتباهي بهذه الشهادة الربانية وبهذا الكتاب المليء بالحسنات، وتقول لأهل الموقف: {هَاؤُمُ اقْرَءوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20] ويقول الله عز وجل: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:21] بدلاً عن عيشة الدنيا التي هي عيشة تعب ومعاناة ومكابدة وبلاء، وعيشة صبر على طاعة الله وعن معصية الله وعلى أقدار الله، يقول الله مخبراً عن أهل الجنة: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:26 - 28].
فأهل الإيمان وأهل التصديق الذين خافوا الله في هذه الحياة، والذين رابطوا على حدود الشرع، والذين واجهوا الأعداء المتربصين بالنفس البشرية، وقاموا بالمرابطة عليها حتى ماتوا، يوم القيامة توضع عنهم هذه الأحمال، ويقول الإنسان: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20].
فيقول الله: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:21 - 24]، جزاءُ بدلٍ وتعويض، أتضيع أعمالك هنا؟! أتريدها أن تضيع؟! لا والله، وذاك المضيِّع المتسيِّب، الضال الضائع الذي انغمس في شهواته وسيطرت عليه شبهاته هل يضيع؟! لا، لا بد له من يوم، يقول الله عز وجل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الجاثية:21 - 22].
فهذه المعارك الضارية والصراعات الطاحنة تدور في عدة جبهات مع النفس والإنسان؛ ولكن أبرز هذه المعارك تدور مع أربعة أعداء، جاء خبرهم في كتاب الله عز وجل، وإلا فالأعداء كثيرون؛ لكنهم يندرجون في النهاية تحت هؤلاء الأعداء الأربعة:(89/2)
العدو الأول: الشيطان
أول عدو وأبرز وأشر عدو: الشيطان أعاذنا الله وإياكم منه: أخبرنا الله عز وجل عن عداوته في القرآن الكريم: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87]؟! يقول الله عز وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] لماذا؟! قال: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].
ويقول الله عز وجل: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60].
ويقول لآدم: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه:117] انتبه! {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117] وحصل ما حذر الله عز وجل آدمَ منه؛ لأن إبليس وسوس وأخرج أبانا آدم من الجنة، وحصل له الشقاء؛ لكنه تاب وعاد فتاب الله عليه وهداه.(89/3)
عداوة الشيطان للإنسان قديمة قِدَم الحياة
هذا العدو اللدود عداوته قديمة قِدَم الحياة، فمنذ بدء الخليقة قص الله عز وجل في القرآن الكريم خبر إبليس وآدم عليه السلام، وقصها في عدة مواضع من السور، وجاءت بأشكال وبعدة نماذج في العروض، وكل خبر يأتي بصيغة، من أجل التنويع والترغيب والتشويق في قضية سماع هذه الأخبار؛ لكن في سورة الأعراف جاءت القصة كاملة مستكملة للخبر من أول ما حصل إلى آخر شيء.
وقص الله علينا خبراً بأنه اقتضت حكمته خَلْق آدم، وقال للملائكة: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:71 - 72].
فالملائكة استجابوا لأمر الله وسجدوا؛ ولكن إبليس رفض أمر الله عز وجل واعترض عليه وقال: لِمَ أسجد لهذا وأنا أفضل منه؟! {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] وظن إبليس أن النار أفضل من الطين، وهذا ظن خاطئ وزعم كاذب؛ فإن النار وسيلة إحراق وتدمير، والطين وسيلة حياة وتعمير، فالطين أفضل بملايين المرات من النار، فطينة آدم أفضل من طينة الشيطان؛ فقال الشيطان: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء:61] {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76].
فالله عز وجل قال له: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص:77 - 78].(89/4)
أثر الذنوب والمعاصي على الإنسان
يقول ابن القيم رحمه الله: يا قليل العزم! أُخْرِجَ أبوك آدم من الجنة بذنب، وطُرِدَ إبليس ولُعِنَ بذنب، وأنت عند الباب، وما زلت في الخلاء ومعك مائة ذنب، فكيف تريد أن تصل؟! لا إله إلا الله! ويقول: يا قليل العقل والعزم! الطريق شاق، ناحَ فيه نوح، وذُبِحَ فيه يحيى، وأُلْقِي في النار إبراهيم، وشُجَّ فيه وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقُتِل فيه الشهداء، وأنت تريد الجنة وأنت راقد على فراشك بدون تعب! {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة:214] حتى الرسول نفسه كاد أن يشك: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
هذا ابتلاء، والذي يظن أنه يمكن له أن يتجاوز الطريق من غير ابتلاء فظنه خاطئ، يقول الله تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2] أي: أيظن الناس أن يتركوا لهذه الدعوة دون امتحان؟! فهذا مناهض لسنة الله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3] أما تدري أن الأوامر الشرعية جزء من الابتلاء؟! اختبرنا الله بالأوامر الشرعية، وقد ابتلاك الله بخمس صلوات، ومنها صلاة في أحسن وقت للنوم؛ وقت الفجر، ابتلاك الله لكي يعلم هل أنت صادق فتقوم لتصلي، أم كاذب فتنام، ولهذا كانت صلاة الفجر أثقل الصلوات على المنافقين.
ويقول أحد العلماء: إن صلاة الفجر هي مقياس الإيمان، فإذا أردت أن تعرف درجة إيمانك فاسأل نفسك عن صلاة الفجر، فإن كنت من أهلها بانتظام والتزام فاعلم أنك مؤمن، وإن كنت بعيداً نائماًَ عن صلاة الفجر، فاعلم أنك منافق والحديث في الصحيحين.
منافق لماذا؟! لأنه ما وجد عنده صدق مع الله، وقد يدَّعي أنه سهران، أو أنه تعبان، أو لا يستطيع القيام، كل هذه أعذار واهية؛ لكن لو قيل له: يوزع في المسجد ألف ريال يومياً في الصباح، ومن صلى جماعة في المسجد فله ألف ريال، والله لتقاتلوا على مائة، أما الألف فهي كثيرة، ولو قيل: صدر أمر أن من صلى الجماعة في المسجد كان له مائة ريال، سواءً كان كبيراً أو صغيراً، ذكراً أو أنثى، فوالله ليناموا في المساجد، وليأتين بعضهم في نصف الليل، ولتقاتلوا على الصف الأول، لماذا؟! لأنها مائة ريال، أيْقَنَّا بقيمة المال، ودخل حب المال في قلوب الناس، فيأتون من أجله؛ لكن يوم أن يسمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بشر المشائين في الظُّلَم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) فإنه لن يأتي إلا أهل الإيمان -اللهم اجعلنا وإياكم منهم- أما الذي في قلبه مرض ما الذي سيوقظه؟! إيمانه ضعيف ومريض لا يستطيع أن يقوم لصلاة الفجر؛ لأن الشيطان يبول في أذنيه.
فالأوامر الشرعية جزء من الابتلاء، ابتلانا الله بالصلوات والصيام: وهو حبس النفس عن الشهوات في أيام رمضان، وبالحج والزكاة: وهي الاستعلاء على المال وإخراجه.
وبالجهاد في سبيل الله، هذه كلها ابتلاءات وامتحانات.
ابتلانا الله عز وجل بالنواهي والمحرمات رغم أنها محببة إلى النفوس، حرم الزنا، والنفس تميل إليه، حرم الخمر والربا، حرم جميع المنكرات، ابتلاء واختبار لنا.
ابتلاك الله بالأقدار، فالقدر خيره وشره كله من الله عز وجل، وقد يبدو القدر شراً عندك، لكنه عند الله خيراً: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19].
هذا البلاء هو سنة الله في الكون، قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62].(89/5)
أساليب الشيطان في إضلال الإنسان
تبدأ الصراعات مع العدو اللدود، العدو الأول: الشيطان.
وسوف أذكر لكم الآيات التي وردت في سورة الأعراف كاملة ليتبين لك وجه عداوة الشيطان! وكيف يأتيكَ! وما هو أسلوبه في إضلال الإنسان! يقول ربنا عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف:11].
ولهذا انظروا إلى الطائعين وانظروا إلى العصاة، فالملائكة كلهم أطاعوا وسجدوا فماذا حصل لهم بطاعتهم؟! مكثوا ملائكة مقربين يسبحون له الليل والنهار لا يفترون.
إبليس كان من طائفة من طوائف الملائكة اسمها: طائفة الجن، لم يسجد، وعصى، ماذا حصل له؟! الطرد والإبعاد، واللعنة والعذاب، والدمار إلى أبد الآبدين.
وهكذا الطائع في الدنيا من بني آدم له القربى والزلفى، والحب والتوفيق، والهداية والولاية، وكل خير في الدنيا والآخرة.
والعاصي ماذا يجد؟! الغضب والطرد، واللعن والتدمير في الدنيا والآخرة.
فعاقبة الطاعة في صالح الإنسان على كل الاتجاهات، وعاقبة المعصية ضدك أيها الإنسان في كل الأحوال، يقول الله عز وجل: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف:11].
يقول المفسرون: إن الله عز وجل لم يطرد إبليس لمجرد أنه لم يسجد، فعندما قال له: اسجد، فأبى لم يطرده مباشرة وقال: اخرج؛ لأنك ما سجدت؛ ولكن الله سأله وهو يعلم ليقرره على فعله: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12] ما الذي منعك من السجود مع الملائكة؟ {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، يقول العلماء: إن هذا -كما يسمونه- الكفر الإبليسي، وهو تخطئة الرب، وتصويب العبد، أي: كأن إبليس يقول: إن أمرك يا رب أمر غير صحيح؛ لأنك تأمرني وأنا الفاضل بالسجود للمفضول.
وهذا غلط، فالله عز وجل لما خطأه إبليس؛ قال له عز وجل: {فَاهْبِطْ مِنْهَا} [الأعراف:13] مباشرةً: {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف:13].
{قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الأعراف:14 - 15] انظروا الانتقام والعداوة والحسد: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الأعراف:16] يقول: ما دمت أغويتني وأخرجتني من الجنة، وكتبت عليَّ اللعنة، من أجل هذا سأريك في ذرية آدم: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16] يقول: أنا سأخرج؛ ولكن سأقعد لهم على الطريق، أي: على طريق الإسلام والدين، وما قال: سأقعد لهم على طريق الضلال، لا؛ لأن أهل الضلال قد أصبحوا صَحْبَه معه، مقيدين له، ولهذا الذي يزني، هل يأتيه الشيطان ويقول له: لا تزنِ، هذا عيب عليك وحرام؟! لا.
بل يقول: امشِ يا رجل! اليوم دنيا وغداً آخرة، كذلك الذي يشرب الخمر، والذي يعمل أي جريمة، لا يأتي الشيطان إليه ليحاول أن يرده عنها؛ لكن الذي يصلي يثقل الشيطان عليه الصلاة، والذي يزكي يعظم عليه الزكاة، والذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يخوفه الشيطان، لماذا؟! لأن هذا من أعمال أهل صراط الله المستقيم، والشيطان قاعد عليه: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ} [الأعراف:16 - 17] انظروا من أين يأتي الشيطان! أعوذ بالله! {لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} [الأعراف:17] أي: من الأمام {وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف:17] محاصَرة من جميع الطرق والاتجاهات، من أمامك الشيطان يوسوس، ومن ورائك الشيطان يوسوس ويدفع، وعن يمينك شيطان، وعن يسارك شيطان، إذاً أين تذهب؟! إلى الله، وما قال إبليس: ومن فوقهم؟! لا يستطيع، ولهذا قال الله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] أي: إذا حاربك الشيطان من كل اتجاه وما استطعت عليه ففر إلى الله، يقول الله عز وجل في شأن الشيطان: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42].
وقال عز وجل: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99 - 100].
فبين الله عز وجل أن الشيطان قال: {لَآتِيَنَّهُمْ} [الأعراف:17]، وهذا الكلام مؤكد بعدة مؤكدات: بلام التوكيد وبنون التوكيد المثقلة المشدودة.
{مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] يقول: يا ربِّ! هؤلاء الذين أخرجتني بسببهم سوف أضلهم، وأستحوذ على أكثرهم، ولن تجد أكثرهم من الشاكرين، قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ:20] أي: أنهم صدقوا ظن إبليس فيهم: {فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20].
قال الله عز وجل: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:18] كأنه يتحدى الله ويقول: سوف أُرِيك فيهم! قال: اخرج، والذي يتبعك أنت وهم: {لَأَمْلَأَنَّ} [الأعراف:18] آخذكم كلكم في جهنم، الشيطان ومن تبعه، ليس هناك تحدٍّ، اذهب فأنا سأرسل لهم وسأنبههم وأخبرهم، ولكن إذا لم يريدوا إلا أن يتبعوا الشيطان فجهنم مستودع ومثوى الجميع من الشياطين وأتباعهم، وانظروا مبدأ التحدي هنا، يقول الله عز وجل لإبليس حين قال: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} [الأعراف:16]، و {لَآتِيَنَّهُمْ} [الأعراف:17]، قال عز وجل: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:18].(89/6)
أسلوب الشيطان في وسوسته لآدم في الجنة
ثم جاءت وسائل الحماية لآدم والرحمة، واتجه الله بالخطاب إلى آدم فقال له: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:19]، وفي هذا إيحاء وتلميح كأنه يقول: يا آدم! إذا كنت تريد أن تخرج من الجنة من أجل الطمع، فما تطمع فيه وترغبه موجود في الجنة: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:19].
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف:20] جاء الشيطان إليهما من الباب الذي يعرف أنه سوف يصطادهما؛ ولأن آدم ليس من أهل الجنة بالأصالة وإنما هو بالتبعية، وليس مخلوقاً من الجنة، بل هو مخلوق من الطين من الأرض، والله وضعه في الجنة، فخاف آدم أن يخرج من الجنة؛ لأنه ليس من أهلها، فجاء الشيطان من هذا الطريق وقال له: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ} [الأعراف:20] أي: من الملائكة، {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20] تريد أن تكون من الملائكة يا آدم! وتريد أن تكون من الناس الذين هم مخلدون في الجنة؟! قال: نعم.
قال: إذاًَ السبب هذه الشجرة، لو أكلت منها ستصير من الملائكة ومن المخلدين.
وهل صدق إبليس في هذا الكلام؟! هذه الشجرة من أكل منها يخرج من الجنة، يقول: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] وهي شجرة الخروج من الجنة، ولهذا إبليس يزين الباطل للناس، ويقدمه في صورة حق، يجعل الباطلَ حَقَّاً، ويجعل الأسودَ أبيض، ويجعل الظلامَ نوراً، والكفرَ تَحَرُّراً، ويجعل العُرْيَ والتَّفَسُّخَ انطلاقاً، ويجعل الغناء فنَّاً، ويجعل الخمرَ مشروباتٍ روحيةً، ويجعل الربا فوائدَ وعوائدَ بنكيةً، يغير القضايا والمسميات، ويقدم الشرور بقوالب حتى تنطلي على الناس، هذا وحي إبليس، ولهذا الشيطان لو جاء إلى آدم وقال له: يا آدم! إذا أكلت من هذه الشجرة ستخرج من الجنة معي، فهل يأكل منها آدمُ؟! لا؛ لكنه جاءه من طريق الإضلال، قال عز وجل: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20] وبعد ذلك دعَّم هذا بقسمٍ فقال: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] وكذب والله من أنه ناصح، ويحلف بالله، ولهذا دائماً الذي يريد أن يضلك تراه يضحك عليك ويكذب ويحلف جيداًَ ويقول: إني والله في مصلحتك، دعنا نروِّج المخدرات، صفقة واحدة من المخدرات تغنيك طيلة حياتك عن وظيفتك، ويحلف بالله أنه في مصلحتك، وتُقِرُّ وإذا برأسك قد أصبح يرفرف! هذه هي مصلحتك! أي مصلحة بعدما يُقْطَعُ رأسُك أيها الإنسان إذا هرَّبتَ أو روَّجت؟! هذه مصيبة؛ لكن من الذي يضل الناس بهذه الأساليب؟ الشيطان وأتباع الشيطان من الإنس والجن: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] ثم قال عز وجل: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:22] أي: أسقطهما وأوقعهما في أكل الشجرة بالغرور، أي: بالكيد والمكر: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ} [الأعراف:22] وكلُّ شجرِ الجنة ما يأكله الإنسانُ منها ليس له فضلات إلا العرق، إلا هذه الشجرة من يأكلها لا بد أن يخرج فضلات، والجنة ليس فيها مكان للفضلات، ليس هناك حمامات في الجنة، فلما أكلا من الشجرة مباشرة خلق الله لهما السوأتان، ولما خُلِقَت السوأة كان لا بد أن يستتروا! أين يذهبون ليستتروا؟! لا يوجد شيء يستتروا به، رجعوا إلى أوراق الجنة، قال عز وجل: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا} [الأعراف:22] أي: قاما مباشرة واستعجلا: {يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف:22] وفي هذه اللحظات ناداهما الله: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالا} [الأعراف:22 - 23] هذه هي الكلمات التي يقول الله عنها: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37] هذه هي الكلمات التي تلقاها من الله: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف:23].
أما إبليس {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} [الحجر:36] يتحدى، عندما قال الله: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الحجر:34] قال: أنْظِرْنِي إذاًَ، ولا تمتني {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الحجر:37].
أما آدم عليه السلام فلا، لما أخرجه الله قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف:23].
ولهذا أنت إذا عصيتَ وأخطأتَ وقصرتَ قل: {رَبِّ اغْفِرْ لِي} [الأعراف:151] لكن أن تعصي وتذنب، وتقول: لا.
أنا طيب، وأحسن من غيري.
فهذه مقالة إبليس، لا بد أن تصلح وضعك مع ربك، ولا تعصيه؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء:115] أي: نتركه {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115].
فآدم عليه السلام قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف:23] أي: خالفنا أمرك، ووقعنا في معصيتك: {ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف:23 - 24].
ثم قال الله عز وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر:6] إلى آخر الآية.(89/7)
كيف تجعل من نفسك عدواً للشيطان
إن مقتضى العداوة مع الشيطان ما دُمْنا عرفنا هذا التاريخ الحافل بالمكر والدهاء، فلا نطيع الشيطان؛ لأنه عدوك هل تتصور أنه يدلك إلى الخير؟ إذا تصورت أن عدوك من الممكن أن يدلك إلى الخير أو يدعوك إلى الخير فأنت لا عقل لك أبداً؛ لأن هذا عدوك، والعدو يكيد المكائد، ويبرم الحبال، ويخطط لتدميرك، عدوٌّ هذا، كيف تتصور أنه يدلك على خير؟! فإذا اتخذت الشيطان صديقاً وهو عدو دمَّرَك، ولهذا يقول الله عز وجل: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف:50] كيف تتخذ الشيطان صديقاً واللهُ قد حذرك من عداوته؟! قد يقول قائل: متى اتخذتُه صديقاً؟! أنا لستُ صديقاً للشيطان! نقول له: المعيار في يدك، لتعلم أنك صديق للشيطان أو عدو له؛ فإذا أطعته فأنت صديقه، وإذا عصيته فأنت عدوه، وكيف تعرف هذا؟ تعرف أن أوامر الله هي مكاره الشيطان، ونواهي الله هي محاب الشيطان، أي: كل أمر لله عكسه نهي للشيطان، وكل نهي لله أمر للشيطان.
نهاك الله عن الزنا، والشيطان يأمر بالزنا ويأمر بالفحشاء.
نهاك الله عن الخمر والشيطان يأمرك به.
أمرك الله بالصلاة، والصلاة لا يريدها الشيطان.
أمرك الله بالقرآن، والقرآن لا يريده الشيطان.
أمرك الله بالجهاد، والشيطان لا يريد الجهاد.
إذاً: كل أمر لله إذا قمتَ به، وكل نهي لله إذا انتهيتَ عنه فاعلم أنك اتخذت الشيطان عدواً.
أما إذا ضيعت أوامر الله ووقعت فيما حرم الله، فاعلم أنك اتخذت الشيطان ولياً من دون الله؛ لأنك أطعته وعصيت الله: يأمرك الله فلا تطيعه، ويأمرك الشيطان فتطيعه! يأمرك الله بالقرآن فلا تسمعه، ويأمرك الشيطان بالأغاني فتسمعها! يأمرك الله بالصلاة فلا تقوم، ويأمرك الشيطان بالمنام فتنام! يأمرك الله بالبيع الحلال فلا ترضى به، ويأمرك الشيطان بالربا فترضى به.
يأمرك الله بالزواج فلا تتزوج، ويأمرك الشيطان بالزنا فتقع فيه.
هذه أوامر الله، وتلك أوامر الشيطان أين أنت؟ وفي أي ميدان أنت؟ هل أنت مع أوامر الله وعند نواهيه فلا تعمل شيئاً؟ إذاً: فأنت اتخذت الشيطان عدواًَ، وهذه سمة وكرامة لك أن تكون عدواً للشيطان.
أما إذا وقعت في الأخرى؛ أوامر الله ضيعتَها -أيها الإنسان- والنواهي وقعت فيها، فالبعيد صديق الشيطان وهو لا يدري، بل عبد للشيطان وهو لا يدري، يقول تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60].
إذاً مقتضى العداوة أن تجند نفسك لمحاربة الشيطان.
قد يقول قائل من الناس: وما أدراني أن الشيطان هو الذي يأمرني أو ينهاني؟! نعطيك مثالاً من الشرع، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن للملَك لَمَّة، وإن للشيطان لَمَّة -أي: إيعاز، أمر- فلَمَّة الشيطان إيعاز بالشر، وتوهين عن الخير -تضعيف وتخذيل- ولَمَّة الملك إيعاز بالخير، وتخذيل عن الشر) فأي إيحاء تشعر به في نفسك، وأن فيه معصية لله فإنه مِن الشيطان.
مثلاً: أذن المؤذن وأنت نائم على الفراش، فسمعتَ المؤذن، ولِمَن يؤذن المؤذن؟! للبقر، أم للحيوانات، أم للجبال؟! يؤذن لك: حي على الصلاة، أي: أنت يا مسلم قم فصلِّ، في تلك اللحظات يحصل صراع في داخل نفسك بين أن تقوم أو تنام، فإن نمت فهذا مِمَّن؟! مِن الشيطان، والقيام من الله.
فمع من أنت؟! فإن كنتَ قلتَ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، واستعذت بالله، وقمت، فقد أعانك الله.
وإن قلتَ: لا يزال الوقت متسعاً، فقد أطعت الشيطان، وركب الشيطان على رقبتك، وقال: نَمْ، عليك ليل طويل، إلى أن تفوت الصلاة، فإذا فاتت الصلاة بال الشيطان في أذنك.
(سئل النبي صلى الله عليه وسلم: عن رجل ينام الليل ولا يقوم لصلاة الفجر، قال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه) وقس على هذا كل أوامر الله، أي شيء تريد أن تنفذه من أوامر الله، وتجد في نفسك تردداً عنه فاعلم أن الشيطان هو الذي ردَّدك، وأي شيء من المحرمات والمعاصي تجد في نفسك تشويقاً ودفعاً إليها فاعلم أنه من الشيطان.
إذاً ماذا تفعل؟! عامله بنقيض قصده: إذا خذَّلك عن الصلاة، قُمْ فصَلِّ.
إذا قال: لا تقرأ القرآن، اقرأ القرآن.
إذا قال: لا تذهب إلى حلقة العلم، اذهب إلى حلقة العلم.
إذا قال: لا تتصَدَّق، تصَدَّق.
إذا قال: لا تزُرْ الرحم، اذهب فزُر الرحم.
إذا قال: لا تأمُرْ ولا تَنْهَ، فمُرْ وانْهَ.
إذا قال: غَنِّ، لا تُغَنِّ.
فقط اجعل من نفسك عدواً للشيطان، حتى ييئس منك؛ لأنه إذا جرَّب معك المرة الأولى والثانية والثالثة والرابعة، عرف أنك متحرر منه وضده، فيقول: هذا لا تتعبوا معه، فليس فيه حيلة.
أما بعض الناس فقد أصبح حماراً للشيطان يركب على غاربه، ويلعب به كما يلعب الطفل بالكرة، يأخذ به يميناً وشمالاً، لا يملك من أمره شيئاً، تقول له: هيا إلى المسجد.
يقول: والله لا أقدر أن آتي الآن.
لماذا؟! لأن الشيطان ركب على عاتقه.
لكن إذا قلت له: هيا إلى الملعب.
يقول لك: طيب! هيا.
أو قلت له: هيا إلى المنتزه وإلى التمشية والفيلم، أو هيا إلى أي شيء في طاعة الشيطان.
يقول لك: هيا.
أما الشيء الذي في طاعة الله، فلا! لماذا؟! لأن الشيطان يقوده من فوق رأسه، يلف به على الشمال دائماً، وإذا قيل له: لف يميناً.
قال: لا.
اليمين ليس جيداً.
هذا عبد للشيطان: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60].(89/8)
عاقبة طاعة الشيطان
وحذارِ يا أخي أن تحسن الظن بالشيطان! ولا تتصور أن الشيطان يأمرك بخير أبداً؛ لأنه عدو لك، وإذا أحسنت الظن بالشيطان كان مصيرك كمصير رجل يذكر أهل العلم قصته: رجل كان يحمِّل مسئولية الإضلال على الناس، ويدافع عن الشيطان، ويقول: أنتم تعصون وتعملون المعاصي وتقولون: الشيطان، أنتم الذين تعصون، والشيطان لم يعمل شيئاًَ.
فانبسط الشيطان من هذا المنصف، وجاء إليه في المنام وقال له: جزاك الله خيراً، ما أنصفني أحدٌ إلا أنت، أنت الذي تدافع عني فجزاك الله خيراً، أنا لا أعمل شراً، ولا أدعو إلى الشر، فالناس هم الذين يعملون الشر ويحملونني المسئولية، وأنا مسكين لا أعمل شيئاً! بل أنا أعمل الخير، وأبرهن لك على عمل الخير بأن أحملك الآن، وأوصلك لتعتمر عمرة هذه الليلة.
وهو في المنام فوق الفراش.
قال: جزاك الله خيراًَ، ولكن كيف تذهب بي؟! قال: اركب على ظهري.
فأركبه على ظهره، وطار به، يريد أن يأخذه في عمرة إلى مكة في الليل، وفي الطريق وهما في الصحراء أراد هذا الرجل أن يخرج إلى الخلاء فدقَّ رأس الشيطان، قال: يا شيطان! قال: نعم.
قال: أريد الخلاء، قف بي، دعني أذهب إلى الخلاء.
قال: لا عليك، ضعها في مكانك، لا يهمك، ضعها على ظهري.
قال: كيف أضع الأذى والنجاسة على ظهرك؟ قال: لا يهمك، والله لن أدعك تنزل إلى الأرض، أنت رجل مخلص، ورجل مُدافعٌ عني، أَوَأَدَعُك تنزل إلى الأرض؟! والله لا تنزل.
فصبر ذاك وصبر، فغلبته بطنه، فما كان منه إلا أن وضعها على ظهره، وإذا به يضعها على الفراش.
قال: لعنك الله يا شيطان! نعوذ بالله منك يا شيطان! لعنك الله يا شيطان! فالشيطان يلعب عليك -يا أيها الإنسان- ونهاية هذا المكر وهذه اللعبة أنك يوم القيامة -أيها البعيد- يتخلى عنك الشيطان، يقول الله عز وجل في سورة إبراهيم في الخطبة التي يلقيها الشيطان على أتباعه في النار، إذا استقر أهل النار في النار وكبيرهم إبليس، فهو قائد المجرمين، يجتمع بهم ويقول لهم كما قال الله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [إبراهيم:22] اعتراف، يقول: وعدكم الله وعد الحق على ألسنة رسله، وفي كتبه بالجنة، ونهاكم عن النار؛ لكني وعدتكم فأخلفتكم: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:22] يقول: ما لي قوة عليكم: {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22] لا إله إلا الله! يقول المفسرون: إن هذا الكلام على أهل النار أعظم من كل عذاب، فعذاب النار عذاب مادي إحراق؛ لكن عذاب الكلام عذاب معنوي، عذاب نفسي؛ شخصٌ يدخلك في مصيبة إلى مسامعك، ثم يقول: أنت الذي أخطأت، أنا ما قلت لك، أنت الذي أطعتني! كيف سيكون ألمك وألم هذا الكلام عليك؟! فهذا الشيطان يقول للناس: {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} [إبراهيم:22] أي: لن أفزع لكم، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22] لن تفزعوا لي: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22].
وأهل الإيمان قال الله فيهم: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [إبراهيم:23] نسأل الله وإياكم من فضله.(89/9)
كيفية تحصين النفس من الشيطان
فيا أخي! جنِّد نفسك من الآن لمحاربة الشيطان، وستستمر في الصراع مع الشيطان فترة طويلة كل العمر؛ ولكن لن تبقى الضراوة والحدة والقوة على درجة واحدة، الآن باعتبار أن الشيطان مسيطر على قيادة الإنسان وفي توجيه الإنسان سيجد صعوبة في البداية؛ لكن إذا فك هذه الرُّبُط والقيود منه وتركه وصارعه وَهَنَتْ وضعفت إلى أن تأتي لحظة من اللحظات لا يستطيع الشيطان فيها أن يضلك أبداً بأي ضلال، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن عمر رضي الله عنه، قال: (إيه يا ابن الخطاب! والذي نفسي بيده ما سَلَكْتَ فجَّاً إلا سَلَكَ الشيطان فجَّاً آخر).
لم يستطع الشيطان أن يمشي في الطريق الذي يمشي فيه عمر فضلاً عن أن يوسوس له أو يضله، لماذا؟ لأنه تحرر نهائياً من رِبْقة الشيطان.
وكذلك كل مؤمن إذا التحق بالله وأيقن بالله، وأخلص العبودية له عز وجل فإن الله يَحميه، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42].
وكما قال عز وجل: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99 - 100].
فمقتضى العداوة أن تجنِّد نفسك للصراع على مخالفة أوامر الشيطان والوقوع في نواهيه بالإتيان بأوامر الله، وترك نواهيه.(89/10)
العدو الثاني: النفس
العدو الثاني، والجبهة الثانية: هي جبهة النفس: نفسك أنت.
نفسي ضدي؟! نعم.
لا إله إلا الله! إذاًَ من هو الذي معي! ما دام أن الشيطان ضدي، ونفسي ضدي؟! أي: أنك أنت ضد نفسك! يقول الشاعر:
إبليس والدنيا ونفسي والهوى ما حيلتي وجميعهم أعدائي
لك حيلة مع نفسك! أن تتحرر وتتمرد على نفسك.
النفس البشرية خالقها هو الله، يقول الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7] أي: وما خَلَقَها وفَطَرَها وأَوْدَعَها، {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:8 - 10].
نفسك هذه التي يُتَحَدَّث عنها أعظم حديث، الذي يتحدث عنها هو خالقها تبارك وتعالى؛ لأنه أعرف بصنعها: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:14].
هو صانعها.
الجهاز مَن يعرف مشاكله وعطله، ويعرف إصلاحه إلا شركته الصانعة أليس كذلك؟! وإذا خرب أعطيناه للذي صنعه؛ لكنه إذا خرب وأعطيناه لغير صانعه أفسده.
وإذا خرب المسجل وأعطيناه لمهندس السيارة، وقلنا: أصلحه، فقام وشحَّمه ونفخه هواءً.
ما رأيكم؟! يصلح المسجل أم يخرب؟! يخرب؛ لأنه ليس هو الذي صنعه.
وإذا خربت ساعتك وأعطيتها للنجار، فقام وأدخل فيها مسماراً في الوسط، فإنه يفسدها.
كذلك النفس البشرية، مَن الذي خلقها؟! الله.
ومَن الذي يعالجها ويصلحها؟! الله.
وإذا أعطيناها لغير الله، ماذا يحصل؟! تفسد.
ولهذا النفس البشرية اليوم فَسَدَت؛ لأنها عُوْلِجَت عند غير خالقها.(89/11)
الذين أفسدوا النفس البشرية
يوجد علم قائم الآن يسمى: علم النفس، يسميه بعض المشايخ: (علم العَفْس والرَّفْس) لأن علماء النفس هؤلاء أجهل الناس بالنفس، ولا يعرفون النفس البشرية؛ لأنهم كفار لا يعرفون هدى الله.
شخصٌ اسمه: فروبل، من علماء النفس، يقول: إن الحياة قائمة على اللعب.
يقول: دع الناس يلعبون؛ لأنه يحب اللعب.
وشخص ثانٍ اسمه: فرويد، هذا أنجس عالم على وجه الأرض، يقول: إن الحياة قائمة على الجنس.
لأنه مُرَكَّبٌ مِن جِنْس مِن رأسه إلى قدميه.
وآخر اسمه: دوركهايم عالم من علماء النفس في فن الاجتماع، يقول: إنه لا يحكم الحياةَ الدينُ ولا المبادئُ؛ وإنما يحكمها العقل الجماعي.
يقول: إذا الناس اتفقوا على شيء أو أمر، فهم يسيرون فيه.
يقول: ألا ترى قطيع الغنم تمشي في طريق، ويتقدمها أحدها فيه ميزات، فيمشي شِمالاً فتمشي كل الغنم وراءه، ألا ترى مجموعة الطيور في السماء أحدها يمشي أمامها، وكلها تمشي وراءه.
يقول: والناس كذلك.
ومن قال لك يا هذا أننا قطيع من الغنم أو من البقر؟! هذه هي نظرته للبشرية، على أنهم قطيع من قطعان الحياة.
وآخر اسمه: ماركس، هذا الذي سقطت نظريته المادية الشيوعية.
هؤلاء الذين تحدثوا عن النفس البشرية من غير عِلْم، فأفسدوا الحياة، وفسدت النفس البشرية بنظرياتهم الباهتة.(89/12)
صفات النفس
والحديث عن النفس البشرية أصدق حديث عنها إذا جاء عن الله؛ لأنه هو الذي خلقها ويعرف أسرارها، وقد ذكر الله عز وجل النفس البشرية في القرآن وبيَّن أن لها ثلاث صفات: 1/ نفس أمارة بالسوء.
2/ نفس لوامة.
3/ نفس مطمئنة.
فالنفس الأمارة بالسوء هي: طبيعة النفس، {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53] ليست آمرة، بل أمَّارة، صيغة مبالغة، أي: لا تأمر إلا بالسوء، ولا تحب إلا الشر، تكره القيود، وتحب الدَّعة والتفلُّت والنوم، تريد الاسترخاء والضياع والضلال واللعب، ألا ترى أنك عندما تصلي التراويح في المسجد في رمضان مع إمام يطيل الصلاة، وأطول صلاة الآن لا تستغرق نصف ساعة، أو ساعة إلا ربع، أو ساعة على الأكثر، كم تحس فيها مِن التعب مِن نفسك؟! وهي تتعبك في رجليك وركبتيك ونفسك، وتنظر فتقول: يا ألله يا ربِّ! وتنظر في الساعة، وتقول: طوَّل الإمام، إلى أن تخرج وقد تَمَلَّخْتَ، وإذا خرجت من المسجد وذهبت إلى السوق لتتقضَّى فإنك تمر في السوق أربع ساعات متنقلاً من معرض إلى معرض، ومن دكان إلى دكان، وترجع إلى البيت كأنك تمشي على ورد، ولا تحس بتعب، مَن تعَّبك في المسجد، وريَّحك في السوق؟! إنها النفس الأمارة بالسوء.
لماذا؟! لأنها تعرف أن جلوسك في المسجد فيه خير، وجلوسك في السوق فيه سوء، وضياع لحياتك، نظرة، خطرة، غفلة، مشكلة، معصية، إذاً هي ترغِّبك في الشر وتبعدك عن الخير، {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53].
هذه أصل طبيعة النفس، كل نفس بشرية أمارة بالسوء، لكن يتدخل الشرع وتأت أوامر الدين على هذه النفس فتغير من طبيعتها، وتجعلها أمارة بالخير، فتقاومُ النفس وتقول: لا.
لن آمر بالخير، سأبقى آمر بالشر؛ لكن يُعَيِّي الإنسان أن يأمرها بالخير إلا غصباً، ثم بعد ذلك تحصل مرحلة ثانية، فتصير هذه النفس لوامة.
ما معنى لوامة؟! قال العلماء: تدعو إلى الباطل، ثم تلوم عليه، تدعوك إلى الباطل، فإذا فعلتَه جاءت النفس وقالت لك: أين إيمانك؟! أين دينك؟! أين أنت؟! ألست مؤمناً؟! ألست متديناً؟! تزني؟! تسكر؟! تكذب؟! أين خوف الله؟! هذه هي اللوامة، وهذه مرتبة جيدة، أحسن من النفس الأمارة؛ لأنها تلومك قليلاً؛ ولكنها ترتقي بالمجاهدة، وبالعسف لهذه النفس، وبالتدريب، وبالمعاندة لها، إلى أن ترتقي إلى النفس المطمئنة؛ وهي النفس التي اطمأنت إلى الله، وسكنت إليه، اطمأنت إليه عقيدةً، واطمأنت إليه عبادةً، فاطمأنت إليه، فانتقلت من الجهل إلى العلم، ومن الظلام إلى النور، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الكذب إلى الصدق، ومن الشك إلى اليقين، ومن حياة اللعب والفوضى إلى حياة الجد والانتظام، سكنت نفسك، اطمأنت، هذه النفس إذا اطمأنت يقال لها عند الموت: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي} [الفجر:27 - 28] فقد أديتِ واجبكِ، وقمتِ بمسئوليتكِ {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر:28] إلى فاطرك وخالقك، إلى الذي استجبتي لأمره، وانتهيتي عن نهيه، {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً} [الفجر:28] في حقيقتها {مَرْضِيَّةً} [الفجر:28] أي: مرضي عنها من قبل خالقها وفاطرها، {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:29 - 30] نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من هذه النفوس.
لكن متى تكون نفسك مطمئنة؟! تحتاج منك إلى جهد وجهاد، تحتاج منك إلى تدريب هذه النفس، ومخالفة لهوى النفس، يقول الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] نهاها.
النفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ
الآن الشباب الذين نسميهم: الشباب الملتزم؛ شباب الصحوة، هؤلاء أناس كانوا عاديين، يسمعون الأغاني، ويفعلون المنكرات، ويتكاسلون عن الصلوات، وربما يتركونها، إي نعم؛ لكن حصل عندهم يقين، ويقظة في القلب، وشعور، وعرفوا أن الطريق الصحيح ليس هذا، وأن الطريق الصحيح هو الإسلام، فقرروا التوبة، وفَطَمُوا نفوسهم عن المعاصي، ما الذي حصل؟! لا شيء، كان الشخص منهم ينظر إلى الحرام، فقال: والله لن أنظر.
كان يسمع الغناء، فقال: والله لن أسمع.
كان ينام عن الصلاة، فقال: والله لن أنام، سأقوم لأصلي.
ماذا حصل؟! هل حصل شيء؟! لا.
النفس عندما رأت الجد منه استكانت؛ لأن النفس -كما يقول ابن القيم - كالفرس، إن وجدت خيَّالاً ماهراً مشت واستسلمت وأذعنت، وإن وجدت خيَّالاً عاثراً ولا يعرف، رَفَسَتْه، وأسقطته، وداست على بطنه ومشت عليه.
لماذا؟! لأنه ليس بماهر.
وكذلك أنت كن ماهراً مع هذه النفس، زُمَّ خطامها، ولذلك جاء في الحديث عند أحمد والترمذي: يقول عليه الصلاة والسلام: (الكيِّس -العاقل صاحب اللب- مَن دان نفسه -أي: أدانها، دائماً هي المدينة أمامه- وعمل لما بعد الموت، والعاجز مَن أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني).
النفس العدوة ينبغي لك أن تنصِّب نفسك لمجاهدتها، أي: تحارب نفسك، أنت تحارب نفسك، تحاربها على طاعة الله، تحاربها ضد معصية الله، تلزمها إلزاماً، تضربها بسوطِ التخويف بالنار، تشدها بشوقِ الترغيب في الجنة، مَنِّها بما في الجنة، خوِّفها بما في النار، ستجدها تمشي معك، وإذا مشت استرحت؛ لأن مِن الناس مَن هو حمارُ نفسه، تهدبه نفسُه في كل مكان، ومِن الناس مَن نفسُه حماراً له، يمشِّيها كيفما يريد.
هذه هي النفس، وهذه أقسامها، ثلاثة أقسام: 1/ نفس أمارة بالسوء: وهي نفس الفاجر.
2/ نفس لوَّامة: وهي نفس المسلم الضعيف.
3/ نفس مطمئنة: وهي نفس المؤمن القوي، الذي نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا وإياكم من أهل هذه النفوس.(89/13)
العدو الثالث: الدنيا
العدو الثالث، والميدان الثالث من ميادين الصراع: ميدان الدنيا:- هذه الحياة الدنيا بما فيها من مغريات وشبهات وشهوات وملهيات، هذه عدو لك، وأبرز أعداء الدنيا: المال والبنون، يقول الله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:28] مالك عدوك وأنت تجمعه، وولدك الذي من صلبك عدوك، الدنيا كلها عدوك، لماذا؟ لأن هذه الدنيا تريد أن تصرفك عن الحقيقة التي خُلِقت من أجلها، فتعيش بعيداً عن ميادين الجدية، تعيش لاهياً وعابثاً وعاجزاً، تتفانى وتتصارع على الشهوات، وتغرق في شهوات البطون، وتستمتع بشهوات الفروج، فتقضي حياتك في غير طاعة الله عز وجل فتخسر.(89/14)
حقيقة الدنيا
هذه الدنيا حذرنا الله عز وجل منها، ومثَّلها العلماء، يقول ابن القيم: إن الدنيا كامرأة عجوز شوهاء.
الدنيا مَثَلُها مَثَل عجوز، نحن الآن في آخر عمر الدنيا، تحسبونها جديدة؟! انتهت، الآن لم يعد منها إلا أيامٌ يعلمها الله، فالنبي آخر نبي صلى الله عليه وسلم، والكتاب آخر كتاب، والأمة المحمدية آخر الأمم، وما بقي إلا الساعة، حتى قال عليه الصلاة والسلام: (أنا نبي الساعة).
وقال: (بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين، وكادت أن تسبقني) فالدنيا عمرها طويل.
فشبَّهها العلماء: كامرأة عجوز مُسِنَّة قد عميت عيناها، وسقطت أسنانها، وانحنى جسمها، وتجعد وجهها، وانحنى ظهرها، وشاب رأسها؛ ولكنها لا زالت تحب التصابي.
فهي عجوز ليس معها سن، ولا معها شعرة سوداء في رأسها، وظهرها مُعْوَج، وحالتها تُشْكَى إلى الله، ومع هذا تعطَّرت، وتخضَّبت -تَحَنَّت- ولبست الذهب، ثم تَحَجَّبت، حتى لا يراها الخُطَّاب، فلو رأوها على حقيقتها فلن يلاحقها أحد، فأخذت لها غطاءً وحجاباً، وجاءت إلى هؤلاء الذين لا يعرفونها وقالت لهم: هكذا يرفع الشيخ حاجبَيه مِرَاراً، من تحت العباية، فيقتربون منها وإذا بها معطرة وإذا بصوت الذهب، فكلما اقتربوا منها أفلحت قليلاً، تفلح قليلاً، ولا أحد يدرك هذه الدنيا إلا عند نقطة الموت، فإذا صارت عند الموت قالت: انظروا إلي! فتكشف وجهها.
فيقولون: الله أكبر عليكِ! ظهرتِ أنك بهذا السن في الحياة ونحن نطاردك؟! والله لو علمنا ما طاردناك، ولهذا يقولون عند الموت: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] يقول: رب أرجعني، لماذا؟! قال: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً} [المؤمنون:100] لأن هذه الدنيا غرَّته، ضيعته العجوز الخبيثة هذه، لم يعلم بسِنِّها، ولا بوجهها، ولا بشكلها، غرَّته رائحتها، خدعته زينتها، خدعته إشارتها؛ لكنه لو عرف حقيقتها ولو علم بشكلها والله لن يتبعها.
ولهذا يقول أصحاب قارون لما خرج في زينته وهم لا يعرفون حقيقة الدنيا: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79]؛ لكن أهل العلم ماذا قالوا؟! {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80] فأهل العلم بالحقيقة، أهل العلم بالدنيا، هؤلاء يعرفون أنها غدارة، خداعة، مكارة، ترضع؛ ولكنها تفطم، تعطي؛ ولكنها تمنع، تحيي؛ لكنها تميت، انظروا إلى عملها بأهلها! تجد الشخص بينما هو في عزته ومَنَعَته وسلطته وشغلته وإذا به يقال له: انزل، تفضل، هذا القبر الآن، وهو في قوته وإذا به يموت بين أولاده، وإذا به يخرج من قصره فيرجع إلى قبره، في نوره فيخرج إلى ظلامه.
يقال في كتب العلم: إن ملكاً من ملوك الدنيا كان يمشي في خيله ورَجِله وموكبه، فجاءه ملك الموت في هيئة رجل ذو أسمال بالية وثياب مقطعة، فاعترض الموكب وأمسك بخطام الحصان وقال للملك: انزل، ادنُ مني.
قال: مَن أنت حتى تجرؤ على هذا؟! قال: أنا ملك الموت.
قال: أمهلني.
قال: لا أمهلك حتى لحظة.
فقبض روحه، وخرَّ بين قوائم فرسه، هذا عمل الدنيا بالناس، تمهلهم؛ لكن تأتي بهم من قريب، وليس معنى ترك الدنيا أو معاداة الدنيا أننا لا نعمل فيها! لا.
هذا الفهم ليس فهماً شرعياً، ومعنى عداءك للدنيا، أي: عداءك للدنيا التي تضلك عن الله، أما الدنيا التي تعينك على طاعة الله فهي ليست دنيا إنها دين، وإذا توظفت وقبضت المال من حلال، واستعنت به على طاعة الله، فوظيفتك هذه وظيفة دينية؛ لأنك تخدم بلدك، وتساهم في بناء مجتمعك، وتسد ثغرةً من ثغرات المسلمين، وتؤدي واجباً من واجبات الأمة، وفي نفس الوقت استعنت بهذا المال على طاعة الله؛ أنفقت منه على زوجتك وعلى أبنائك، وأكرمت منه ضيفك، وأعطيت الفقير منه، وقمت بالواجبات، وأخرجت الحقوق والزكوات، هذا المال وهذه الوظيفة تعتبر دِيناً.
إذا كنت تاجراً وصدقت في تجارتك، ولم تكذب، ولم تغش، ولم تخدع، وأوردت للناس أي: لم تحتكر البضائع على الناس، فتجارتك هذه دِيناً.
إذا كنت مزارعاً وجلبت الأرزاق للناس، فزراعتك هذه دِيناً.
إذاًَ: الدنيا التي نحذر الناس منها هي: الدنيا الصادَّة عن الله، التي تصرفك عن طاعة الله، الدنيا التي تستخدمها وتستعين بها على معصية الله، أما دنيا تسخرها في طاعة الله فنِعْمَ المال الصالح في يد العبد الصالح، يقول عليه الصلاة والسلام لـ عثمان بعد أن جهز جيش العسرة: (ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم) جهز ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ولما قَدِمَت على المدينة قافلته وتجارته، وقام التجار يرابحون فيها، وأعطوه في الريال ريالاً، أي: الربح - (100 %) - قال: قد جاءني أكثر، قالوا: نعطيك في الريال ريالين -أي الربح: (200 %) - قال: جاءني أكثر، فما زالوا به حتى أوصلوها إلى خمسة ريالات، -أي الربح: (500 %) قال: قد جاءني أكثر، فاجتمعوا وقالوا: مَن ذا الذي أعطاه أكثر، وهو لا يكذب؛ ها نحن تجار المدينة، هل أحدٌ منا أعطاه أكثر من خمسة؟ قالوا: لا.
فجاءوا إليه، فقالوا: من ذا الذي أعطاك أكثر؟! لا يوجد أحد منا أعطاك أكثر! من الذي أعطاك؟! قال: أعطاني ربي، الحسنة بعشر أمثالها، هي لله -ثلاثمائة بعير محملة بالبر والطحين بأحلاسها وأقتابها كلها لله- قال عليه الصلاة والسلام: (ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم).
إذاًَ: هذه الدنيا ما رأيكم فيها؟! دنيا أم دين؟ دين.
وطريق مجاهدة الدنيا ومصارعتها أن تنظر إليها بالمنظار الرباني، فتأخذ منها ما أحله الله، وتستعين بها على ما يحبه الله، وتتوقى وأنت تسير فيها، فلا تضع قدمك إلا في أمر يحبه الله، ولا تنظر بعينك إلا في أمر يحبه الله، ولا تسمع بأذنك إلا ما يحبه الله، ولا تتكلم بلسانك إلا فيما أحله الله، حتى تسلم من آفة الدنيا.(89/15)
وقفة مع قوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)
والله عز وجل قد أنبأنا عن حقيقة الدنيا على صيغة العلم، يقول ربنا عز وجل في سورة الحديد: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد:20] هذه حقيقة الدنيا، الله يتحدث عنها وهو أعلم بها.
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الحديد:20].
لعب؛ أكثر الناس يحب أن يلعب.
لَهْو.
زينة؛ تغيير ملابس، تغيير سيارة، تغيير مفارش، تغيير موكيت، فقط زينة.
تفاخر؛ أنا في رتبة كذا، أنا في مكان كذا، أنا عندي سيارة أحسن، أنا عندي كذا، أنا عندي رصيد، هذه هي الحياة الدنيا.
وما مَثَلُها؟! قال الله {كَمَثَلِ غَيْثٍ} [الحديد:20] أي: نبات {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ} [الحديد:20] وهل هناك غيث في الدنيا يستمر أخضر؟! لا، بل لا بد لكل أخضر أن يغْبَر {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرَّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} [الحديد:20] هذا مَثَل الحياة للإنسان، غيث في فترة الشباب، ثم فترة الكهولة والشيخوخة، وهي مصَفِّر، ثم تصير حطاماً، ثم تموت، {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الحديد:20] لمن؟! لمن لم يعرف أمر الله ولم يسِر على طريق الله {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} [الحديد:20] لأهل الإيمان {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:20 - 21].
هذا هو العدو الثالث؛ الدنيا، فانتبه منها! فلا تخدعك، فتجمع المال من الحرام، وترفع أرصدتك؛ لكن في النار، وتدخل عليك دخولاً من نار، انتبه! لا تأكل إلا طيباً، ولا تكنِز إلا طيباً، ولا تقع بقدمك إلا في طيب، حتى تسلم، أما الحرام فإنه لا يورِّث إلا الناراً -والعياذ بالله-، يقول عليه الصلاة والسلام: (كل لحم نَبَتَ من سحت فالنار أولى به).(89/16)
العدو الرابع: الهوى
الميدان الرابع والأخير عدو لدود: الهوى أي: المزاج والكيف، كما يقول بعض الناس: أنا على كيفي! أنت على كيفك؟! لا.
أنت عبد، هل علمتم بعبد يمشي على كيفه؟! أم إنه يمشي على كيف سيده؟! ما رأيكم؟! العبد المملوك يمشي على كيفه وهواه، أم على كيف سيده؟! على كيف سيده.
وأنت ماذا أنت؟! عبد، نعم عبد.
عبد لِمَن؟ لمن خلقك، فلا ينبغي أن تكون على هواك، يجب أن تكون على مراد مولاك؛ لأنك إذا سرت على هواك ضللت، وإذا سرت على أمر مولاك هُدِيت، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] الذي اتخذ إلهه مولاه، ماذا حصل؟! قال الله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] لما اتخذ إلهه هواه أضله الله على علم {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23] كيف سيرى، القلب مختوم، والسمع مختوم، والبصر عليه غشاوة، وهذا على علم، يعصي الله على علم، قال الله: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23].
انتبه! أخطر الأشياء عليك الهوى، المزاج، يجب أن يكون هواك ومزاجك موافق للشرع، ولهذا جاء في الحديث: يقول عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به) أي: يكون مرادك وهواك ومزاجك موافقاً ومتبعاً لشرع الله ولما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الإيمان، أما أن يكون هواك ضد الشرع، ومزاجك ضد تكاليف الأمر والنهي، فهذا هوى شيطاني.(89/17)
النهي عن اتباع الهوى في القرآن
لقد حذرنا الله عز وجل من اتباع الهوى في القرآن العظيم في آيات كثيرة: يقول الله عز وجل عن بلعام بن باعوراء -رجل من بني إسرائيل كان من عباد الله الصالحين، أوتي العلم، لكن ما اتبع مولاه، بل اتبع هواه- فالله عز وجل ضرب به مثلاً كالكلب، يقول الله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:175] أي: على أمتك، أخبرهم بنبأ ذاك {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف:175] أي: الدالة علينا، فماذا حصل؟! {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:175] ما قال الله: فتَرَكها، لا.
بل {فَانْسَلَخَ} [الأعراف:175] والانسلاخ من الشيء أي: تركه إلى الأبد، الآن إذا ذبحت لك شاةً وسلخت جلدها، ما معنى سَلْخِ جلدِها؟ معناه: لن يعود عليها أبداً بأي حال من الأحوال، ما قلتُ: أنا وضعتُ ثوبها، وأنت إذا خلعت ثوبك هل تقول: أنا سلختُ ثوبي؟! لا.
بل تقول: خلعتُ، بمعنى: أنه قابل لأن أغسله وأرده؛ لكن إذا سلختَ جلد الشاة فلن يرجع عليها.
وكذلك هذا الرجل انسلخ من الدين بقصد ألا يعود إليه، قال الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:175] فماذا حصل؟! {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف:175] لما انسلخ من آيات الله تسلط عليه الشيطان، ما كان يستطيع الشيطان عليه وهو معتصم بالله؛ لكن لما انسلخ عن آيات الله قال الله: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} [الأعراف:174 - 175] وماذا؟! {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] بئس مثل القوم والعياذ بالله.(89/18)
الحذر من اتباع الهوى
احذر -يا أخي- من اتباع الهوى! اجعل هواك دائماً ومزاجك وفق شرع الله، قبل أن تتصرف لا تقل: يا هواي ماذا تريد؟! لا.
بل قل: يا ربَّ ماذا تريد؟ ماذا قال الرسول في هذه المسألة؟ ماذا قال الشرع في هذا الأمر؟ فإن قال شيئاً، فقل: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285] ولا يسعك أمام أمر الله وأمام أمر رسول الله إلا أن تقول: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285] {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] هكذا المؤمن، لكن المنافق يقول: سمعنا، ولا يقول: وعصينا، الكافر هو الذي يقول: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة:93].
تقول له: حجب زوجتك.
يقول: صحيح؛ لكن قلوبنا نظيفة.
تقول: اعفِ لحيتك.
يقول: صدقتَ؛ لكن الإيمان في القلوب، وليس في اللحى.
تقول: لا تسمع الأغاني.
يقول: هذا والله صحيح؛ لكن والله إني أسمعها من هنا وتخرج من هنا.
ضيَّعتَ الشرع بـ (لكن) هذه، كل شيء يعمله بـ (لكن)، فإذا جئت إلى النار قل: لكن في ذلك اليوم، لم تعد معك (لكن)، فالله يقول: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:15 - 16].
فاحذر -يا أخي- من اتباع هواك! يقول الله عز وجل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] إذا اتبع العبدُ مولاه انتظم أمرُه، وإذا اتبع العبدُ هواه انفرط، وعَبَّر الله عن أمره بأنه فُرُط، أي: غير مجموع، مشتت، مثل المسبحة إذا انفرط حبلها، كيف تكون؟! أتظل معك في يدك، أم أين تذهب؟! تتشتت، وتذهب كل حبة في أرض، وترى شيئاً، وتضيِّع شيئاً.
كذلك إذا كنتَ مجتمعاً على الشرع والدين، منتظماً مع الله، عينك وأذنك ولسانك وقلبك مع الله، رجلك تمشي في طاعة الله، يدك تبطش في طاعة الله، مع المسجد، مع الكتاب، ستمشي منضبطاً؛ لكن إذا لم يكن معك دين، وليس ثَمَّ إلا الهوى، فلا تدري من هو الذي أنت معه! مرة مع الشيطان، ومرة مع الشرق، ومرة مع الغرب، ومرة مع الأبالسة، ومرة مع المغنين، ومرة مع الشياطين، بمعنى: أنك لا تدري.
لماذا؟! لأن الأمرَ فُرُطٌ، {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].
ويقول عز وجل: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ} [القصص:50] أي: لا أضلَّ على وجه الأرض ممن اتبع هواه {بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50] ظالم وأي ظالم! وضال وأي ضال! مَن يتبع هواه، ويترك أمر مولاه.(89/19)
وقفة أخيرة مع الأعداء الأربعة
هؤلاء هم الأعداء الأربعة: 1/ إبليس.
2/ النفس الأمارة بالسوء.
3/ الدنيا.
4/ الهوى.
جنِّد نفسك -يا أخي- إن كنت تريد النجاة، وليس بينك وبين أن تضع عن كاهلك السلاح وأن تُلْقِي عن نفسك الصراع إلا أن تموت! وما أقرب أن تموت! فقد تموت هذه الساعة، وقد تموت الليلة، وقد تموت غداً، وقد تموت بعد شهر أو بعد سنة أو بعد سنوات، المهم أنك ستموت، ففترة الصراع محدودة؛ لكن فترة العذاب غير محدودة، فالذي يقول: والله لا أقدر أن أصارع! هذه صراعات صعبة! أظل أصارع الشيطان، وأصارع النفس؟! لا والله، أتركهم، أتركهم أمامي كلهم، فهذا صحيحٌ أنه ينبسط؛ لكنه يعذب عذاباً لا يُعَذَّبُ به أحداً من العالمين.
ففترة الصراع محدودة ثم تنتهي، أما فترة العذاب فغير محدودة، ويتمنى الإنسان في الآخرة أنه يرجع، كما قال الله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12].
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يزكي نفوسنا، وأن يقبل صالح أعمالنا، وأن يتجاوز عن تقصيرنا، وأن يهدينا إلى كل سبل الخير، وأن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يوفق المسلمين وحكامهم إلى كل خير، وأن يصرفهم عن كل شر، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(89/20)
الضعف والتراخي في حياة الملتزمين
إن الإنسان الملتزم كغيره، يعتريه الفتور والضعف، إذ أن هناك الكثير من المؤثرات التي تحدد مسار ونمط حياته، ومن هذه المؤثرات ما هو خارجي يتعلق بالمجتمع المحيط، ومنها ما هو متعلق بشخص الملتزم.
لذلك فإن الملتزم إذا لم تزدد حصيلة التزامه؛ فإنها ولابد ستتناقض، وهذا التناقض والفتور من الأدواء التي لابد لها من علاج، وهو ما يتناوله الشيخ حفظه الله في هذه المادة بالتفصيل والبيان.(90/1)
النعمة الحقيقية في الدنيا هي نعمة الدين
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله: من أعظم ما يمن الله به على الإنسان نعمة الطاعة ونعمة الدين ونعمة الإيمان، ومن أعظم العقوبات التي يعاقب بها الإنسان حرمانه من هذه النعمة، ووقوعه في مصيبة المعصية، وفي مصيبة المخالفة، والناس يفهمون من النعمة أنها المال، والعافية، والمنصب، والولد والزوجة، والسيارة والعمارة كل هذه نعم، لكنها نعم تزول.
أما النعمة الحقيقية التي امتن الله بها على عباده المؤمنين فهي نعمة الإيمان، يقول عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:69] (أنعم الله عليهم) من هم؟ {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] من بقي بعد هؤلاء؟ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟ ما بقي بعدهم إلا كل فاسد وسيئ، والعياذ بالله! فينعم الله على النبيين بنعمة الدين برغم أنهم يعيشون ويموتون وهم في فقر حتى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، سيد البشر، وخير من وطئ الأرض، وصاحب اللواء يوم العرض، وأول من يدخل الجنة، وصاحب الشفاعة الكبرى يوم القيامة، عاش صلوات الله وسلامه عليه عيشة بسيطة لدرجة أنه ينام على الحصير، ويقوم وقد أثر الحصير على جنبه الشريف، وما شبع من طعام بر ثلاث ليال متوالية، ومات ودرعه مرهون في ثلاثين صاعاً من شعير، وتقول عائشة: [كان يمر الهلال والهلال والهلال ولا يوقد في بيت آل محمد نار.
فقال عبد الله بن الزبير: فما طعامكم يا أماه؟ قالت: كان طعامنا الأسودان: التمر والماء] ومع هذا فهم في نعمة ليست نعمة البطون، فكم من الناس من بطنه ممتلئ لكن بالحرام ممتلئ بالربا، وكم من الناس جسمه سمين لكن إلى النار، يتسمن لجهنم، وكم في الناس من سيارته فارهة لكن تقوده إلى جهنم، وكم من الناس من عنده منصب لكن منصب سوف يورده إلى النار، والعياذ بالله! فما هي النعمة الحقيقية؟ إنها نعمة الدين، والذي يبدل هذه النعمة يستحق العذاب، إذا جاء الدين والإيمان فأمسكه وتشبث به، أعظم من تشبث صاحب المال بماله، إذا أعطي شخص مليون ريال أو مليونين كتعويض في أرض أو في مزرعة أو في عمارة فماذا يصنع بها؟ تراه يستلمها في الصباح، فانظر إليه وهو يصلي الظهر، لا يعرف كم صلى، ولا يعرف كم يصلي في المغرب، وكم يصلي في العشاء، ولو سألته يقول: والله مدهوش لماذا؟ إنها مليونا ريال أين يذهب بها؟ فلا ينام الليل، لكن ما رأيكم لو أن شخصاً استلم مليوني ريال وعند باب البنك أو عند باب المؤسسة بدأ يمزقها ويرمي بها ماذا يقال لهذا الإنسان؟! مجنون، فالناس عقلاء مع الدنيا، يعرفون قدر نعمة المال فلا يصرفون منه ولا يضيعون ريالاً إلا بحقه، ويعرفون قيمة النعم كلها ويقدرونها، لكن لا يعرف كثير من الناس قدر نعمة الإيمان، فإذا أعطاه الله الإيمان تراخى فيه وشتته، لا حفظه ولا نماه يقول الله فيه: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:211] إذا أعطاك الله نعمة الإيمان وبدلتها بعدما جاءتك النعمة وذقت طعم الإيمان فإن الله شديد العقاب.
وما أعظم من مصيبة الحرمان من الطاعة والخذلان بالمعصية يقول الله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36].(90/2)
صفات طالب الآخرة
طالب الآخرة كما يقول ابن القيم رحمه الله: طالب الدار الآخرة لا يستقيم له سيره، ولا يمكن أن يحصل على مقصوده إلا بأمرين رئيسيين: الأمر الأول: حبس نفسه على طاعة الله.
والثاني: حبس نفسه عن معصية الله، فإن الطاعة فيها تعب وفيها مشقة، ولكن تحتاج إلى صبر، والمعصية لها طعم ولها ملذة، ولكنها ملغمة من الداخل بالحسرة والعذاب، ملغمة بالوعيد الشديد والعذاب الأكيد، وهي مزينة ومغلفة من الخارج بشيء ينطلي على أصحاب العقول السقيمة وأصحاب النفوس المريضة.
أما أهل الإيمان فإنهم ينظرون بعين البصيرة لا بعين الطبيعة؛ لأن عين البصيرة تريك السم قبل أن ترى ما عليه من حلاوة.
أما عين الطبيعة فإنها تنخدع ولا تنتبه إلا والإنسان في طباق جهنم، والعياذ بالله!(90/3)
من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه
لا بد من حبسين: حبس على طاعة الله، وحبس عن معصية الله، وستعيش في هذين الحبسين في نوع من المعاناة والتعب، ولكن اصبر وصابر ورابط واتق الله لعلك تفلح هذه وصية الله، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] تصبر على ماذا.
على النوم، تصبر على الرز واللحم، على الأغاني والطرب؟ لا.
بل تصبر على المر، أين المر؟ في معاناة الطاعات، كونك تقوم نصف الليل، تقوم آخر الليل لصلاة الفجر، كونك تخرج زكاة مالك، كونك تبر والديك، وتصل رحمك، وتدعو إلى الله، وتريق دمك في سبيل الله، تصبر على دين الله، وأيضاً تصبر عن المعصية، تصبر على المخالفة، تغض بصرك وقلبك يتقطع عن النظر، لكن تقول: والله لا أنظر لو يتقطع قلبي، تصد وتصون سمعك عن الأغاني وقلبك يتقطع على أغنية كنت قد عرفتها من الماضي وكنت تعيش معها لكن لما آمنت واستقمت والتزمت والله لا أسمع، تصون وتحفظ بطنك عن الحرام ولو تأكل من الطين لكن لا تقدر أن تأكل الحرام، ريال حرام لا تستطيع أن تأكله (ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه).
يذكر أهل العلم أن رجلاً حج بيت الله الحرام من بلاد مصر في الزمن القديم قبل حوالي مائة سنة، وفي مكة انتهت مادته، وبحث عن عمل يقتات منه فلم يجد، ومرت عليه أيام وليال ما ذاق طعم العيش، حتى صفر جلده من الجوع، وخرج من بيت الله الحرام في ظهر يوم وإذا به يجد أمامه منديلاً أخضر ساقطاً في الأرض، ضالة، فحمله وفتحه وإذا بداخله عقد من اللؤلؤ ثمنه مائة ألف درهم -وهو يكاد يموت جوعاً- فربطه، وقال في نفسه: والله إن فرحتي به لا تعدل حزن صاحبه عليه.
ثم أدخله في جيبه، وإذا بذلك الرجل يصيح على باب المسجد وفي الساحات المحيطة: من وجد منديلاً قال: تعال، كيف هو؟ قال: أخضر.
قال: ما بداخله؟ قال: عقد لؤلؤ.
قال: أهو هذا؟ قال: نعم.
قال: خذه بارك الله لك.
فقام ذاك وأخرج من جيبه ألف درهم وأعطاه قال: هذه مني لك هدية.
قال: والله ما كنت لآخذها منك وقد رفضتها، ولكن لا آخذها إلا من الله.
لا العقد ولا الألف وهو يكاد يموت جوعاً! وتركها لله.
ومرت الأيام والليالي ووجد عملاً بسيطاً وحصل منه على دخل بسيط، ثم رحل إلى جدة وركب البحر وذهب إلى أرضه، وفي وسط البحر هاجت الريح وزمجرت، وتلاطمت الأمواج وتحطمت السفينة، وغرق كل من في السفينة، ونجّى الله هذا الرجل على خشبة تشبث بها وهو يذكر الله بالليل والنهار، وجلس في البحر أياماً، ثم قذفته الأمواج على شاطئ البحر وجلس يمشي، ثم دخل قرية من القرى فوجد فيها قوماً فيهم دين وفيهم خير -وكان صاحب علم عنده قرآن وعنده دين- فجلس عندهم أياماً، ثم قدموه فصلى بهم، ثم أحبوه وألفوه فعرضوا عليه أن يقيم عندهم فوافق على الإقامة عندهم، وعقد لهم الحلقات والدروس في الصباح وفي المساء للأطفال والكبار، وبعد فترة قالوا له: يا شيخ! أنت أصبحت واحداً منا، نريد أن نزوجك فهل تقبل؟ قال: نعم.
ولكن ليس عندي شيء.
قالوا: كل شيء موجود: البيت موجود، والمهر موجود، والزوجة موجودة، لكن عليك أن توافق.
قال: موافق، بارك الله فيكم.
فوافق، وبعد صلاة العشاء عقد في المسجد على الزواج ثم دخل بيته -بيت الزواج المهيأ- وحينما دخل البيت ودخل غرفة النوم وإذا بتلك الفتاة الجميلة التي ليس لها مثيل تقف أمامه، وإذا في صدرها ذلك العقد الذي رآه في مكة، عقد اللؤلؤ معلق في رقبتها! فلما رآه رجع قال: أين أبو البنت؟ قالوا: موجود، فجاء وسلم عليه، وقد مرت سنين، قال: يا شيخ أسألك بالله أنت حججت؟ قال: نعم.
قال: حصل لك شيء في الحج؟ قال: نعم.
قال: ما هو؟ قال: أنا رجل ثري وعندي مال ولا أملك في هذه الدنيا إلا هذه البنت، وحججت بيت الله الحرام وأخذت لها هدية هذا العقد، وبعد ذلك وقع مني على باب الحرم وبحثت عنه، وبعدها لقيته عند شخص من أهل الخير الله يذكره بالخير ويجزيه عني خيراً، ورده لي وأعطيته ألف درهم فرفضه، وبعد ذلك عقدت العزم ونذرت أني إن لقيته زوجته بهذه البنت، ولكن انتظرت ولم ألقه فزوجتها بك أنت، ولو لقيته قبلك لزوجته قبلك.
قال: أنا ذلك الرجل، تذكره وإذا به يعرفه فتسالما وتعانقا، وقال: أنا ذلك الرجل.
(من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه).(90/4)
الصبر على طاعة الله وعن معصية الله
فالصبر على طاعة الله والصبر عن معصية الله حبسين، تحبس نفسك، ولا تزال في المعاناة والحبس إلى أن تموت، وعند الموت يطلق قيدك، وتخرج من حبسك، وترى منزلك من الجنة، ويقال لك: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]؛ لأن الناس إذا قيدوا أنفسهم في الدنيا بطاعة الله أطلق الله لهم العنان في الجنة يسرحون ويمرحون، ويتنعمون بكل ما لذ وطاب.
أما الذي انفلت هنا، وأعرض عن القيد الرباني، وعبد شهوته، يعيش على مزاجه وهواه هذا خاسر حقاً، ينام كما يشاء، ويأكل ما يشاء، وينكح ما يشاء، ويتصرف كما يشاء، وليس لله عليه أمر ولا نهي، لا يعرف لله أمراً، ولا يتقيد ولا يقف لله عند نهي، ولكن سوف يقبض عليه عند الموت، فالناس عند الموت رجلان: رجل مطلق ومفكوك من القيد وداخل الجنة وهو المؤمن.
ورجل موثوق مقبوض عليه ومدخل إلى النار وهو الفاجر والعياذ بالله! يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الملائكة تقول له: (يا أيتها النفس الخبيثة -كانت في الجسد الخبيث- اخرجي إلى سخط من الله وغضب) ويقول الله: {كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:11 - 13] وقبلها {يَقُولُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} [القيامة:10] أين المفر؟ ما لك مفر من الله؛ لأن الله يمنعك من كل شيء ولا يمنعك من الله شيء.
وجدير بالعاقل -كما قلت لكم- إذا أنعم الله عليه بنعمة الإيمان أن يصبر عليها ولو أن فيها معاناة؛ لأن زماننا هذا، زمن المشقة في المحافظة على الدين (يأتي على الناس زمان يكون فيه القابض على دينه كالقابض على الجمر) الذي يقبض على الجمرة لا يضحك، ولا ينام، الذي يقبض على الجمر تتقطع يداه، تراه يبكي، يتلوى، لكن لا يفكها أبداً، لا يفك دينه، ولو تقطع، ولو حرق، ولو تفتت لا يمكن أبداً لماذا؟ لقد ذاق طعم الإيمان، والحديث في الصحيحين: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان منها وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار) وفي مسلم يقول صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً).
ولكن نرى ونلمس ونلاحظ ضعفاً وتراخياً وفتوراً، بل تراجعاً وانهزاماً، بل رأينا سقوطاً وردة في صفوف قوم ساروا على الطريق ثم ما رابطوا، وما صبروا ولا صابروا، وما اتقوا الله حتى يفلحوا، وإنما رأوا المسافة بعيدة، وهم ضعاف، والعقبة كئود، وهم هزال، والثمن غال وهم بخلاء، فرجعوا عن طريق الله وباعوا أنفسهم للشيطان، صعب عليهم الصعود في عقبات الإيمان، وسهل عليهم التردي في دركات الكفر والنفاق والمعاصي والشهوات والملذات، ولكن غاب عن أذهانهم عاقبة تلك وعاقبة تلك، عاقبة الصعود: الجنة، وعاقبة الهبوط: النار {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] زكاها: رفعها إلى فوق {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10] أنزلها إلى تحت، النزول سهل والطلوع صعب، لكن تالية الطلوع عزة، ترون الآن الذي يدرس ست سنوات ابتدائي وست سنوات ثانوي، وثلاث أو أربع جامعة، وبعدها ماجستير، وبعدها دكتوراه، وبعدها يتعب ويعاني لكن تراه وقد صار في منصب، وفي مرتبة عالية ومكانة سامقة.
وذاك الذي ترك الدراسة من أول ابتدائي عندما دخل وضربوه قال: والله ليس لي حاجة في هذه الدروس، أريد أن أبقى مع أهلي، وهذا مسكين جلس يعاني من آلام الجهل والذل إلى أن يموت فالمؤمن يصبر، يصبر على المر والذي أمر منه حتى يلقى الله، وذاك الذي نزل وما صبر سوف يلعق المرارة، يلعقها في النار؛ لأنه ما صبر على طاعة بسيطة، وقد ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى يوم القيامة برجل من أقل أهل النار عذاباً من له نعلان من نار يغلي منهما دماغه، ويعيش في ضحضاح من النار -وهو أبو طالب - ولا يرى أن في النار أشد عذاباً منه) وفعلاً يا أخي! والله ما نتحمل كوب الشاي الحار، والله ما نتحمل حرارة الجو إلا بمكيف، ما نتحمل حرارة أي شيء، لأننا ضعفاء، إن أجسامكم على النار لا تقوى قال: (فيؤتى بالرجل فيقال له: أتود أن تفتدي مما أنت فيه من العذاب بملء الأرض ذهباً؟ قال: نعم يا رب) لو أن له مثل الأرض وملء الأرض بجبالها وصحاريها وعماراتها ذهباً أحمر لو كان له ذلك لفدى بها نفسه من النار.
(قال الله عز وجل له: قد طلبت منك ما هو أهون من ذلك: تعبدني ولا تشرك بي شيئاً، وتطيعني ولا تعصيني) فهل هذا أسهل أو ملء الأرض ذهباً؟ إن طاعة الله أسهل، لكن يحرم المخذول من هذا العمل والعياذ بالله فيندم ندامة ليس بعدها ندامة.
يسير كثير من الناس في الطريق، ثم يتساقطون ويتراجعون ويضعفون، وخوفاً من أن يكون هذا الضعف موتاً فسنتحدث عن هذا الموضوع وقد سبقنا إليه كثير من أهل العلم، فقد تحدث عنه شيخ الإسلام ابن تيمية كظاهرة مرضية يتعرض لها المسلم، وتكلم عنه الشيخ ابن القيم رحمه الله في مجمع كتبه، وتكلم عنه في هذا الزمن اثنان من العلماء الأول: الدكتور محمد بن نوح في كتاب له اسمه: (آفات على الطريق) والشيخ الآخر هو عالم من الكويت اسمه الشيخ جاسم بن مهلهل في كتاب له اسمه: (الفتور صوره وأسبابه وعلاجه) وقد أجادا في عرض الموضوع، وقد اقتبست بعض العناصر من هذين الكتابين ومن كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وأضفت عليها ما فتح الله به عليَّ؛ من أجل التحذير والتنبيه لإخواننا المؤمنين المسلمين الذين فتح الله قلوبهم وشرح صدورهم ونور أبصارهم، ودلهم على الطريق، فعليهم أن يتمسكوا بالطريق ولا يرجعوا ولا يتراخوا ولا يضعفوا ولا يتركوا التمسك بالطريق حتى يقفوا عند باب الجنة، ويقال لهم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73] هناك يقولون: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74].(90/5)
أسباب الحديث عن الضعف والتراخي في حياة الملتزمين
إن اختياري لهذا الموضوع نابع من حديث في صحيح البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة الوقوع فيه).
هذا كان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسمونه صاحب الوضوح والكلمة الصادقة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستأمنه على السر، وهذا الرجل هو الذي جاء بالخبر أيام ليلة الأحزاب، لما تحزب المشركون قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من يأتيني بخبر القوم) فسكتوا جميعاً؛ لأن الضعف البشري ينتاب كل إنسان، والظروف التي كانت تحيط بالصحابة تلك الليلة ظروف صعبة لا تتحملها الجبال: خوف، وفقر، وبرد، ومطر، ورياح عاتية، وجوع، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من يأتيني بخبر القوم وله الجنة) فلم يقم أحد، وهم كلهم يريدون الجنة لكنهم لا يستطيعون القيام، فقواهم انتهت، وإمكانياتهم البشرية تعطلت، لا يستطيع أحد أن يقوم، يقول: (فكررها فما قام أحد، فقال: قم يا حذيفة) اختار الرسول لهذه المهمة الصعبة حذيفة، يقول: (والله لولا أنه نص علي ما قمت) لكن قد قال: قم، ما بقي لي إلا أن أقوم.
يقول: (فقمت، فدعا لي، قال: اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه يقول: فأذهب الله ما بي من الجوع، وأذهب الله ما بي من البرد، وأذهب الله ما بي من الخوف، فذهبت) والرسول صلى الله عليه وسلم يعرف الرجال ويعرف من يختار (يقول: فجئت، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: اذهب إليهم وأتني بخبرهم ولا تحدث شيئاً، فذهبت في الليل، ودخلت في صفوف المشركين، ولما دخلت لاحت لي فرصة لقتل أبي سفيان ولكن تذكرت قول الرسول: لا تحدث شيئاً فما فعلت شيئاً، فلما جلسنا قام أبو سفيان وألقى خطبة فيهم وقال: ليعرف كل صاحبه فإن المجالس مدخولة).
يقول لهم: كل منكم ينظر من بجانبه، من هو، لئلا يكون هناك غريب يسمع كلامنا، ويأخذ أخبارنا، فماذا صنع حذيفة؟ قال للذي بجانبه: من أنت؟ من أجل ألا يقول له ذلك: من أنت؟ قال: (أتغدى به قبل أن يتعشاني) انظروا كيف الذكاء، فقام أبو سفيان وخطب فيهم وقال: هلك الخف والكراع والحافر.
الخف: يعني الإبل، والكراع: يعني الغنم، والحافر: يعني الخيول، يقول: والرياح عاتية، والقدور مقلوبة، والأمطار شديدة، والخلخلة قد حصلت بعدما تخلى اليهود وتخلى بعض القبائل عنهم، ما أرى إلا أن نرحل، فأشار عليهم بهذا الرأي فوافقوا ورحلوا، ورجع حذيفة بن اليمان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليخبره بخبر رحيلهم {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25] قال الله: {وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة:26].
هذا حذيفة يقول: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم.
فقلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن.
قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهتدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.
قلت: يا رسول الله! صفهم لنا؟ قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا.
فقلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك الزمان؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.
قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام.
قال: فاعتزل تلك الفرق كلها لو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك) من هذا الحديث ومن سؤال حذيفة عن الشر نتكلم عن هذا من أجل الذي في نفسه ضعف يقوي نفسه، ومن كان قوياً فأسأل الله أن يقويه حتى يلقى الله.(90/6)
خطورة الضعف الديني على المسلم
الضعف أيها الإخوة! والهزال -الهزال الديني- داء ومرض خطير جداً على المسلم؛ لأنه يخشى عليه أن يموت من ورائه؛ يموت إيمانه، وإذا تساهل به ولم يسع إلى علاجه أدى به إلى الانتكاس والانحراف والضلال، ومن الضروري أن يحرص المسلم على الثبات؛ لأنه مهم أن تهتدي ولكن أهم من الهداية أن تثبت لماذا؟ لأنك كلما سرت في طريق الإيمان شرح الله صدرك ونور بصيرتك، وحبب إليك الإيمان، وزينه في قلبك، وجعلك من الراشدين، وكره إليك الكفر والفسوق والعصيان، واكتسبت خبرة وتجربة في طريق الإيمان، فكيف يجوز لك أن ترجع عن الطريق؟ هذا خطأ، فكلما مشى الإنسان في طريق زادت رغبته فيه، أما رجوعك هذا فهو معارض للمعقول، فليس معقولاً أن ترجع وقد ذقت طعم الإيمان وسرت في طريق الإيمان.
يقول الله عز وجل وهو يأمر المؤمن بالثبات والأمر موجه للنبي صلى الله عليه وسلم وهو عام للأمة كلها: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] ويخبر الله عز وجل أن عباده يقولون: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8] هذه دعوتهم، و (رحمة): يعني ثبات {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما أثر عنه في السنن: (يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على طاعتك وعلى دينك).
وكان يقول في دعائه -وهو في السنن أيضاً-: (اللهم اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم ألقاك).
وفي الترمذي حديث حسن يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله.
قالوا: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: يوفقه إلى عمل صالح ثم يقبضه عليه) هذا معنى استعماله، أن الله يسددك على الدين، ثم يثبتك عليه حتى تموت وأنت على العمل الصالح؛ لأن العبرة بالخواتيم.
ولما مرض عبد الله بن مسعود رضي الله عنه -مرض الموت- بكى رضي الله عنه، قيل له: [ما يبكيك؟ قال: والله ما أبكي إلا أن الموت قد أتاني على فترة وكنت أود أن يأتيني في حال اجتهاد] قال: جاءني وأنا متعب وكنت أود أنه جاءني يوم أنا في أحسن درجات الإيمان وأحسن درجات الجد والاجتهاد والجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، لكن نود أن يفهم الناس شيئاً وهو: أنه من الطبيعي في حياة البشر أن يحصل ضعف، ويحصل نوع من الكسل والفتور؛ لأن الإنسان لا يبقى على درجة واحدة، فالإنسان جهاز عجيب فما هو مكينة تضبطه على معيار واحد لا.
وما سمي الإنسان إنساناً إلا لنسيانه، ولا القلب إلا أنه يتقلب، وإن هذه القلوب لها إقبال ولها إدبار، وصعود وهبوط، ومد وجزر، تقوى وتضعف هذه حالات القلوب.
ولهذا جاء في الحديث -والحديث في مسند أحمد - يقول عليه الصلاة والسلام: (إن لكل عمل شرة) كل عمل تسير فيه له قوة، وحرارة، ورغبة، فأنت عندما تبدأ في الوظيفة تبدأ بنشاط ولكن بعد شهرين أو ثلاثة يضعف ذلك النشاط.
إذا اشتريت سيارة فإنك تحبها، وكل يوم وأنت تنظر إليها، وتمسحها في الغداة والعشي، وبعضهم ينفخ المفتاح قبل أن يدخله في المغلقة، من أجل ألا يكون عليه غبار، وينظفها، ولكن بعد شهرين أو ثلاثة تكون وسخة؛ لأنه ليس لديه وقت ليمسحها.
وإذا تزوج شخص لا تسأله عن أيام الزواج، لكن بعد أسبوع أو أسبوعين إذ بالمشاكل قائمة فكل عمل في الدنيا له شرة، وله حدة، وله قوة (ولكل شرة فترة) وهذا حديث في مسند أحمد (إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد هدي، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك) يعني: هناك مستوى أدنى، السنة المستوى الأدنى فيها، والسنة المستوى الأعلى فيها وأنت بين المستويين تصعد إلى المستوى الأعلى في السنة، وإياك أن تطلع، لأنك إذا طلعت قفزت من المستوى الأعلى في الدين، وتنزل إلى المستوى الأدنى في السنة، ولكن لا تنزل، فإذا نزلت خرجت من الدين، وأن تتراوح حينما تنشط وتأتي بالفرائض، وتأتي بالرواتب، وتأتي بالنوافل، وتأتي بقيام الليل، تأتي بركعتي الضحى، وإذا ضعفت مرة تخليت عن ركعتي الظهر، وإذا ضعفت مرة كسلت عن قيام الليل، لكن لا يمكن أن تترك الرواتب ولا الفرائض؛ لأنها آخر خطوط الدفاع عندك، آخر خط للدفاع عندك الفريضة والراتبة، بعدها انتبه! إذا تركت الفريضة والراتبة كفرت، وإذا تركت الراتبة ضعفت وهزلت؛ لأنه من ترك الراتبة فإنه يوشك أن يترك الفريضة، فكثير من الناس الآن يصلي الفرائض ثم يخرج ماذا بك؟ قال: يا شيخ! قد صليت المكتوبات.
حسناً وهذه من الذي سنها؟ إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال: (عليكم بسنتي) إن هذه هي خط الدفاع من أجل أن تأتي يوم القيامة إذا حوسبت ونقصت فرائضك قال الله: انظروا هل لعبدي من نوافل، هل تضمن أنك صليت العشاء أربع ركعات وما وسوست فيها لحظة واحدة؟ لا.
فقد لا يحسب لك إلا ركعة واحدة وثلاث ركعات في الخلاء، ويمكن أن لك اثنتين واثنتين في البيت، فاجعل لك رواتب، فأنت إذا نزلت في مستوى فإنك لا تغادر هذا المستوى إلى النزول إذ ليس من المعقول أن تكون فترتك إلى غير ذلك.
روى مسلم عن حنظلة بن الربيع الأسيدي -هذا كاتب الوحي، غير حنظلة بن عامر الأسدي غسيل الملائكة، شهيد يوم أحد.
أما هذا فاسمه حنظلة بن الربيع الأسيدي، وهو كاتب وحي النبي صلى الله عليه وسلم وهذا في مسلم - يقول: خرجت يوماً فلقيت أبا بكر الصديق فقلت له: يا أبا بكر! نافق حنظلة، نافق حنظلة، قال: وما ذاك؟ قال: نكون مع رسول الله يحدثنا بالجنة والنار حتى لكأننا نراها رأي العين، فإذا خرجنا منه عاسفنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنكون على وضع آخر غير الوضع الأول! فقال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه -وكان عنده إيمان مثل الجبال ما قال: إنك معقد لا- قال: وأنا والله مثلك، هيا إلى رسول الله، فذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبراه قال: (يا حنظلة! لو أنكم تبقون كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة يا حنظلة) يعني: يرتفع إيمانك إلى أعلى درجات؛ لأن تكون من الملائكة بحيث تصافحك الملائكة في الطرقات، وينزل إلى أن تكون محافظاً على الطاعات، محافظاً على الفرائض، لكن مبتعداً عن المعاصي وعن الكبائر والمنكرات هذا معنى الضعف والتراخي البسيط الذي هو من طبيعة البشر.
قد تنشط في الصوم فتصوم أياماً، لكن تأتي عليك فترة من الفترات فتقول: والله ما استطعت أن أصوم، لكن الفريضة لا تتركها، قد تنشط في النفقات والزكاة والإخراج والإعطاء، لكن يأتي يوم من الأيام ليست عندك شيء فلا تنفقه، ولكن لا يمكن أن تترك الزكاة إذا كان عندك نصابها وتحققت عندك شروطها.
فقد تنشط في قراءة القرآن فتقرأ في كل يوم عشرة أجزاء، بعد كل فريضة جزئين، وفي اليوم الواحد عشرة أجزاء، يعني في الثلاثة أيام تختم القرآن، لكن يأتيك شغل، ويأتيك ضعف، وسيأتيك فتور فتقرأ في كل يوم جزءاً واحداً، بمعنى أنك في الحد الأدنى؛ لأن الذي لا يختم في كل يوم جزءاً هاجر للقرآن الكريم، أريد من إخواننا أن يعلموا هذا المستوى، لا بد أن تختم في كل يوم جزءاً بمعنى أنك تختم القرآن في كل شهر مرة؛ لأنه من مرت عليه ثلاثون ليلة وما ختم فيها كتاب الله فهو هاجر لكتاب الله عز وجل، وهذا ليس صعباً، بل هو سهل جداً تأخذه في ثلث ساعة أو في نصف ساعة مع التدبر والتأمل والتجويد، لكن الشيطان يضيع أوقاتنا -والعياذ بالله- حتى نخرج من أربع وعشرين ساعة وما قرأنا فيها جزءاً من كتاب الله عز وجل ثم نقول: لم تقسوا قلوبنا؟ تقسوا قلوبنا لأننا أعرضنا عن مادتها وحياتها وعن سبب لينها وهو كتاب الله تبارك وتعالى.(90/7)
مظاهر الضعف الديني
لعل سائلاً يسأل ويقول: ما مظاهر الضعف؟ نريد أشكاله؟ كيف أعرف أنني ضعيف أو لا؟ مظاهره كثيرة من ضمن ذلك:-(90/8)
سوء الترتيب في أولويات العمل في الدين
من مظاهر الضعف: سوء الترتيب في أولويات العمل في الدين، فترى الواحد يتحرز تحرزاً كبيراً من النجاسة، ولكنه لا يتحرز من الغيبة والنميمة والبهتان، إذا شعر بأن جزئية بسيطة من النجاسة في ثوبه جاءه قلق وهذا طيب، لكن تراه يجلس في المجلس من حين يجلس إلى أن يقوم وهو يغتاب ويأكل ويبهت وخصوصاً في العلماء؛ فبعض طلبة العلم هداهم الله مجالسهم مشرحة فيها لحوم العلماء، وهذا من أكبر الأخطاء على من ينال من العلماء؛ لأن العالم أو الداعية بشر يمكن أن يخطئ والخطأ يرد عليه، ولكن إذا أخطأ بعد اجتهاد فله أجر، وإذا أصاب بعد اجتهاد فله أجران، ولكن أنت يوم أن أردت أن تشرح لحمه وأن تأكل عرضه حصل عليك الإثم؛ لأن لحوم العلماء مسمومة، ودماؤهم مصونة، وعادة الله في الذين ينالون منهم معلومة.
فأنت عندما لا تتحرز من البسيط ثم تقع في الكبير، هذا يدل على ضعف في إيمانك، هذه ظاهرة تدل على أن عندك ضعفاً، إذ لو أن عندك قوة في دينك وإيمانك ما تحرزت من الصغير ووقعت في الكبير، بل حرصت على عدم الوقوع في الكبير أولاً والصغير ثانياً.
وتراه يكثر من الصدقة لكن أمواله في البنوك في الربا، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، يقول الناظم:
أمطعمة الأيتام من كسب فرجها لك الويل لا تزني ولا تتصدقي
أمواله حرام ويبني مسجداً أمواله حرام ويتصدق على الفقراء والمساكين.
يا أخي: الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ريال حلال تنفقه والله إنه أعظم عند الله من مليون حرام؛ لأن الله يقبل منك الريال الحلال ويربيه كما يربي أحدنا فلوة حتى يكون كالجبل.
وأما الحرام فإن الله يقول: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].
أيضاً: تجده يتصدق ولكن لا يبالي بتحليل لقمة العيش في عمله الوظيفي، يجيء الساعة التاسعة والنصف ويخرج الساعة الواحدة، يضيع ساعتين من الدوام في أولها وساعة ونصف في آخر الدوام ماذا بك؟ قال: ما عندي عمل!! هذا مسكين، هذا أكل راتباً حراماً، فلابد أن تحضر في أول دقيقة وتنصرف في آخر دقيقة إذا كنت تخاف الله، ولا تتذرع بأنه ما عندك عمل، فإن هذه الوظيفة مرابطة إن كان عندك عمل فاعمل، وإن كان ليس عندك عمل فاستعد للعمل، أما أن تتذرع بأنه ليس عندك عمل لا.
فأنت مستأجر سبع ساعات، أجير عند الدولة، تأخذ راتبها في آخر الشهر، إلا إذا كنت تتأخر وتأتي آخر الشهر تحسب ساعات العمل وتقول: هذه لي والباقي لكم.
لكن من الذي يعملها الآن؟؟ لو خصموا عليه عشرة ريالات أرغى وأزبد وأقام الدنيا وأقعدها، لكن كل يوم يخصم ساعتين أو ثلاث من الدوام ويضيعها من مصالح المسلمين، والذي ترونه الآن من تراكم المعاملات وضياع حقوق الناس كلها بسبب عدم قيام الموظفين بالدوام الرسمي، والله لو أن الموظفين يحضرون أول الدوام وينصرفون آخره، ما تتأخر معاملة عند شخص يوماً واحداً، لكن بعض المعاملات تقعد في مكتب الموظف أسبوعاً أو شهراً أو شهرين لماذا؟ لأنه يأتي متأخراً، وبعدما يأتي يقول: هات الشاي يا ولد، ثم يأتون إليه بالفطور نصف ساعة فطور وكلام! وبعدها يقرأ الجرائد وبعدها قال: أذن الظهر، وخرج يصلي، وبعد صلاة الظهر يأتي المراجعون قال: يا جماعة بعد الظهر ماذا تريدوني أن أعمل؟ أنا مكينة؟! أنا تعبت يا جماعة، تعالوا غداً، ويؤخر معاملات الناس، لكن لو جاء مبكراً هل يظل جالساً إلى أن يأتيه النوم؟ لا.
أنا أعرف بعض الموظفين الطيبين يعملون سبع ساعات تماماً، سبعة ونص وهو على الطاولة يقول: والله إني أفرح بالمراجع إذا جاء، وأفرح بالسكرتير عندما يأتيني بالمعاملات، وأفرح بالكاتب الوارد عندما يحضر المعاملات، لماذا؟ يقول: من أجل أن أتسلى على الأقل، فأقرؤها من أساسها، أقرأ الورقة الأولى والثانية والشروحات ودورة المعاملة وأخرج بنتيجة وأعطيه إجراء ولا تعود عليَّ، لكن ذاك الذي يمررها لا يقرأ آخر كلمة ويقول: لإجراء اللازم.
وبعض الموظفين يكون مسئولاً أو مديراً أو رئيس قسم يقول للسكرتير: اشرحها من عندك، واعطني أوقع فيها، والله ما درس فيها ولا شيء لماذا هذا؟ لأنه ما صرف وقت دوامه في خدمة المسلمين وبالتالي ترتب على هذا أكله للحرام، وتراه ينفق ويتصدق وهذا من ضعف دينه، إذ لو أن في دينه صلابة وقوة لحرص على أن تكون لقمة عيشه حلالاً.
وأيضاً ترى بعض الناس يتهجد طوال الليل لكن ينام عن صلاة الفجر، يقوم مثلاً الساعة الثالثة والنصف أو الرابعة ويصلي، فإذا بقي على الفجر نصف ساعة جاءه الشيطان قال: باقي نصف ساعة نم قليلاً، ونام ومنها إلى الساعة السادسة والنصف أو السابعة هذا مسكين والله لو صلى الدهر كله وما صلى الفجر في المسجد فما له من عمله إلا الخيبة؛ لأن صلاة الفجر في المسجد علامة الإيمان، وعدم الصلاة للفجر في المسجد علامة النفاق والحديث في الصحيحين تعرفونه: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاتي العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً) وتراه يبالغ في رفع ثوبه وتقصيره ولكن لا يهتم بنظافة عينه، ثوبه قصير لكن عينه خربة ينظر إلى النساء، هذا أيضاً هزيل في دينه، إذا رأى امرأة نظر إليها ويعرف أن الله عز وجل يراه.
وتراه يبالغ في تسريح لحيته وتنظيفها ولا يهتم بتنظيف قلبه من الحقد والحسد والغيظ والغضب والأمراض الخطيرة التي تحرق الدين والإيمان، يغضب على فلان، ويحسد فلاناً ويسب فلاناً.
يا أخي! اللحية هذه مظهر من مظاهر الرجولة وسنة من سنن النبوة لكنها يتبعها أشياء أخرى، يتبعها أشياء في القلب، فإذا تممت باطنك بصلاح ظاهرك كان أفضل، لكن إذا كان الظاهر صالحاً والباطن سيئاً -والعياذ بالله- هذا يدل على أنه ما عرف الحقيقة، وأنه هزيل في إيمانه، وضعيف في دينه؛ وبالتالي يخشى عليه إذ لا تغني عنه هذه المظاهر شيئاً.
ومثل هؤلاء مثل إخوة يوسف عليه السلام لما رجعوا بعدما رموا أخاهم يوسف في الجب رجعوا إلى مصر، وكانت تمر إبلهم في المزارع، والمزارع من هنا ومن هنا، وعندهم دقة لا يريدون الجمل أن يأكل من المزرعة فكانوا يكممون أفواه الإبل -نسميها فدامة- وهي قطعة من الخيش من أجل ألا يأكل لماذا؟ قال: حرام يأكل من هذا! وقذف يوسف في الجب حرام أم حلال؟! ومثل بعض الذين قتلوا الحسين كانوا يسألون ويستفتون عن حكم دم البعوضة ولا يستفتون عن حكم دم الحسين وإراقته هذا من سوء الترتيب في العمل الإسلامي.(90/9)
الجدل والمراء والتعصب للرأي
أيضاً: من صوره: الحوار والجدل والمراء والنقاش والتعصب، إذا وجدت إنساناً وهو جالس في مجلس من المجالس وهو طالب علم وجالس يتحفز إذا تكلم كأنه يضارب، ما بقي إلا أن يأخذ العصا ويضرب به فاعلم أنه مسكين ضعيف لماذا؟ لأن الحوار والنقاش إذا كان لله فإنه يكون -أولاً- بحثاً عن الحق لا انتصاراً للنفس؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن، وهو أولى الناس بها إذا وجدها، إذا ضاع عليك بعير ولقيه شخص لك ماذا تقول له؟ تقول له: جزاك الله خيراً أو تقول له: مالك ولبعيري؟ كان عليك أن تتركه.
شخص تباحثت أنت وهو فجاء الحق على لسانه ماذا تقول؟ تقول: جزاك الله خيراً، إنني أبحث والله عن الحق وما دام أنك وجدته قبلي الله يجزيك الخير، أنا أبحث عن الحق، والحق ضالتي، أنا أبحث عنها.
لكن إذا كان النقاش لغير الله تولدت الحساسات، وتولدت الخصومات، وتحفز الواحد، وانتفخت أوداجه، وبرزت عيونه، وارتفع صوته وقام، وما بقي إلا أن يضارب، تقول له: بالدليل يقول: لا.
هذه الآية الكريمة معناها كذا.
هذا الحديث.
قال: ما هو بصحيح، قال العلماء فيه غير ذلك؛ لأن هدفه الانتصار لنفسه لا الانتصار للحق.
وما موقفك أنت من هذا؟ إذا وجدت مجلساً مثل هذا فقم، وقل السلام عليكم، يقول المسلم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] وبعد ذلك: هناك ثواب لك، يقول صلى الله عليه وسلم: (أنا كفيل ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً) والمجادلة يقول الله فيها: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ويقول: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] بالتي هي أفضل ليس بالمضاربة، والشافعي يقول: ما ناقشني عالم إلا غلبته، ولا ناقشني جاهل إلا غلبني.
قالوا: كيف؟ قال: العالم يناقشني بالدليل فأغلبه بالدليل، والجاهل يناقشني بالصميل وما عندي صميل؛ لأن ذلك لا يريد أن يغلبك غصباً فهذا من أسباب الضعف أن ترى الحوارات، وإذا رأيت واحداً ما بقي إلا أن يفتري على الله أوقفه؛ لأن الله عز وجل نهى عن سب آلهة الكفار رغم أن سبها طاعة لله، لكن حتى لا يسب الكفار إله النبي صلى الله عليه وسلم فقال الله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] فأنت لا توصلها مع هذا إلى درجة تجعله يمكن أن يكفر فيرد آية أو حديثاً، وإنما قل: شكراً، جزاك الله خيراً وأنت على حق، ونسأل الله أن يهدينا وإياك إلى سواء السبيل، وقم.(90/10)
الترف العلمي
من مظاهر الضعف الديني: المراء والجدل العقيم والترف العلمي، فما هو الترف العلمي؟ أن يملأ الإنسان مجلسه بالأشياء التي لا تنفعه، شخص يسأل ويقول: هل الملائكة ترى الله؟ قلت: يا أخي! ليس هذا من شأنك ترى الله أو ما ترى الله، هل تتعبد إلى الله بهذا؟! شخص من الناس سألني قال: هل خلقت الجبال قبل الأرض أو الأرض قبل الجبال؟ قلت: كم أركان الإسلام؟ قال: لا أدري؟ قلت: اسألني هذا السؤال يا أخي! أما الجبال قبل أو الأرض كلها من آيات الله، والله تعالى {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] فهذا من الترف العلمي: أن يخوض الناس في قضايا لا تنفعهم، يسمونه العلم الفضلة، الذي العلم يكون به لا ينفع والجهل به لا يضر، لماذا تتعلمه؟ تعلم ما ينفعك في دينك وآخرتك إذا كنت من أهل الإيمان القوي إن شاء الله.(90/11)
التجاوز والتبذير في المباحات
أيضاً: من مظاهر الضعف: الإسراف والإغراق والتجاوز والتبذير في المباحات، فلا يكفيه ثوب بستين ريالاً، لابد من ثوب بثلاثمائة، ولا يكفيه (كوت) يأخذه من البالات بخمسة عشر أو بعشرين بل يريد (كوتاً) بأربعمائة لماذا؟ قال: تفصيل!! وبدل أن يأخذ أحذية بخمسة وعشرين أو بثلاثين يأخذ أحذية بأربعمائة لماذا؟ قال: هذا لماع.
لا يا أخي! يجب أن تتواضع وأن تكون معتدلاً، لا نقول لك أن تلبس كيساً بل البس ثوباً أبيض، والبس غترة حسنة، والبس ملابس طيبة لكن كن معتدلاً، والزيادة التي عندك صرفها وأرسلها إلى إخوانك الذين يموتون جوعاً.
تذكر الصحف اليوم أن المجاهدين في شمال أفغانستان يبيعون أسلحتهم ليشتروا طعاماً لأبنائهم، ونحن نرمي الطعام في الزبالات، الله أكبر!
تموت الأسد في الغابات جوعاً ولحم الضأن تأكله الكلاب
الكلاب الآن لا تأكل الرز إلا مطبوخاً ولا تقول شكراً لا نريد، الكلاب شبعت والأسود في غابات الأفغان تموت جوعاً ويبيع الواحد سلاحه من أجل ألا تموت زوجته وأطفاله أين نحن -أيها الإخوان- من إخواننا؟! ألا إنا لله وإنا إليه راجعون! هنا وهناك عليكم بالتبرع والمساهمة لإخواننا -أيها الإخوة- لا نغفل عن إخواننا؛ لأننا إن غفلنا برهنا على أننا لسنا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى (المؤمن للمؤمن كالبيان يشد بعضه بعضاً) كيف -يا أخي- تنام، وكيف تشبع، وكيف يضيمك بطنك من الأكل، وأخوك يموت من الجوع ويبيع سلاحه من أجل أن يعشي ابنته أو ولده؟! هناك مائتا طفل يموتون يومياً من الجوع! ونحن نموت من الشبع، تفقعت بطوننا! لا إله إلا الله فالإسراف والإغراق في المباحات كلها مظاهر بعض الناس اليوم يهتم بشكله ويمكث أمام المرآة ساعة، يتزين ويجمل نفسه.
يا أخي!! والله لو تمكث تتزين فإن جمالك ليس هو بهذا الشكل، جمالك في مروءتك وفي دينك وقوتك ويقينك وزهدك وورعك، أنتم ترون بعض العلماء الآن مثل الشيخ عبد العزيز بن باز -الله يمتعنا بحياته- لا يهتم بشكله، ثوبه قد رأيتموه، وغترته، وبشته، لكن ما رأيكم فيه؟ لا أحد يراه إلا يمتلئ قلبه حباً في الله تبارك وتعالى، لماذا؟ لأن المظهر ليس كل شيء، وعلى الإنسان أن يهتم بمظهره ولكن في حدود المعقول، بحيث لا يصبح المظهر شغله الشاغل، فلا تسرف ولا تكثر ولا تغرق في المباحات.(90/12)
قسوة القلب وتحجره
أيضاً من مظاهر الضعف والتراخي: قسوة القلب وتحجره، وعدم تأثره بالقرآن، وعدم تأثره بالموت، وعدم زيارته للقبور هذا ضعف من القلب، يقول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22].
وعلامة لين القلب أو قسوته الطاعات، فالذي يقوم بالطاعات ويترك المعاصي هذا قلبه لين، والذي قلبه متحجر يؤثر تحجر قلبه في الطاعات فلا يأتي بها، ويؤثر تحجر قلبه في المعاصي فيمارسها.(90/13)
عدم الجدية في تلقي أمر الله
أيضاً من مظاهر الضعف والتراخي: عدم الجدية في تلقي أمر الله، فينهار إيمانه ويتآكل لماذا؟ لا يأخذ الأمر بجدية، فيسمع المؤذن ويقوم يصلي، لكن ليس جدياً أن هذا أمر الله، وأن هذه فريضة الله ويقوم بسرعة، يسمع أن العادة السرية حرام بأدلة من الكتاب والسنة لكن ما هو جدي في رفضها وإنما تجده مرة يترك ومرة يقع، ما عنده قوة، يسمع أن النظر إلى المحرمات حرام ولكنه ينظر، يسمع أن الأغاني حرام ولكن يحاول أن يسمع، ما هو جدي، إذ يجب أن تأخذ الدين بقوة؛ لأن الله يقول: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] هذا دين ثمنه الجنة، وليس بلعب، لا تأخذه وأنت تمشي وتعرج لا، بل خذه بقوة، يقول الله: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف:145] يجب أن تبادر إلى ترك ما هو حرام مثل الأغاني فتقول: لا أسمعها، ولا أنظر إلى ما حرم الله، وسأبادر إلى الصلاة في المسجد هذا معنى القوة في الدين، لكن الضعف والتذبذب والتراخي هذا يجعلك ترتج، والمرجوج دائماً سهل أنك ترمي به، وإذا جئت إلى شخص ثابت فإنك تراه ثابتاً، والشيطان واقف لك بالمرصاد، فإن رآك ثابتاً رجع، وإن رآك متذبذباً جعلك تسقط وإذا بك في جهنم ولا حول ولا قوة إلا بالله! هذه بعض مظاهر الضعف.(90/14)
أسباب الضعف والتراخي في التدين
أما أسبابه فكثيرة، منها وأهمها وأخطرها:- من أسباب الضعف: الغلو والتشدد وعدم الاعتدال والسير في الطريق الذي رسمه النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤدي عدم الاعتدال إلى الانقطاع؛ لأن المْنْبَتَّ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، من هو المْنْبَتَّ؟ المنبت: هو الذي يريد أن يسافر -مثلاً- من هنا إلى جدة على الجمال، ومعه جمل، وكانوا يأخذونه على مرحلتين، لكنه قال: سآخذها في مرحلة واحدة ومشى وفي نصف المرحلة إذا بجمله يموت ومات هو جوعاً، فلو أنه قعد يستريح ويتعشى وصل، ولهذا قالوا: المنبت (يعني الذي يتجاوز الحد) لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، لا هو قطع الطريق ولا هو أبقى لنفسه ولا جمله وإنما قطع ظهره وما قطع المسافة.
فالمتشدد الغالي الجافي، الذي يتنطع ويتجاوز السنة، ولا يُفهم -أيها الإخوة- التشدد أنه السنة، بعض الناس الذي هو ضعيف متسيب تارك للدين إذا رأى أهل السنة قال: هؤلاء متنطعون، فأهل السنة الذين يقيمون أوامر الله هؤلاء ليسوا بمتنطعين، لكن من هو المتشدد؟ المتشدد له صور، ولكن قبل الصور نبين الأدلة على التحذير من التشدد، يقول عليه الصلاة والسلام فيما أخرج الإمام أحمد: (إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو) ويقول صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون) رواه مسلم وفي البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الدين يسر، ولم يشاد الدين أحد إلا غلبه).
وصور أو مظاهر التشدد ما ثبت في البخاري، عن عثمان بن مضعون: أن ثلاثة من النفر سألوا عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءوا إلى بيت الرسول وسألوا عن عبادته، فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فلا أنام الليل أبداً، والثاني قال: وأما أنا فلا أتزوج النساء أبداً، وأما الثالث فقال: وأما أنا فلا أفطر الدهر أبداً -أصوم دائماً-.
فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخبر عرف أن هذا يتعارض مع منهج النبوة، ومع طبيعة الإسلام والدين، وأن هذا دين النصارى الرهبانية؛ فناداهم وقال: (ما بال أقوام يعملون ويقولون كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني) فمظاهر التشدد أنك تصوم الدهر كله وهذا مظهر لا ينبغي لك فعله، ومن مظاهر التشدد أنك تقوم الليل كله وهذا لا ينبغي لك، فلنفسك حق ولأهلك حق ولعملك حق ولهذا الذي يقوم الليل كله من العشاء إلى الفجر بعد ذلك يترك القيام كلياً، لكن لو قام نصف ساعة فصلى ركعتين أو أربعاً أو ستاً أو ثمان أو أحد عشر وهي أعلى شيء وهو الهدي النبوي! ما أعظم من ذلك! لأن الدين وسط، والله يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] والوسطية تعني الاعتدال في بعض مفاهيمها.
أيضاً: من صور الغلو ما نسمع، حيث سمعنا وما ندري هذا الكلام صحيح أن هناك أناساً يقولون: لا نستخدم الكهرباء في بيوتنا! لماذا؟! قال: لأن الكهرباء هذه آلة تشغل عليها آلات الباطل، والهواء الذي نستنشقه أنت أليس أهل الباطل يستنشقونه؟ والماء الذي أنت تشربه أليس أهل الباطل يشربونه؟ والأرض التي تسير عليها أليس أهل الباطل يسيرون عليها؟ هذا منكر وهذا لا يجوز يا أخي! فالكهرباء نعمة من نعم الله يمكن أن تستخدمها في طاعة الله، ويمكن أن تستخدمها في معصية الله، مثل الماء يمكن أن تستخدمه في طاعة الله فتشربه وتستعين به على الطاعة، ويمكن أن تشربه وتستعين به على المعصية، ومثل الزاد الذي تأكله، فالمؤمن يأكل من نعم الله ويقوم بها في طاعة الله، والفاجر يأكل من نعم الله ويقوم بها في معصية الله، كل النعم في الدنيا سلاح ذو حدين إن استعملتها في الخير فهي خير، وإن استعملتها في الشر فهي شر.
يقول لي أحد الأشخاص: بأنه جاء إلى مسجد والناس يكادون يموتون من الحر في مدينة من المدن التي فيها جو حار يقول: والمكيف مقفل، والمراوح مقفلة، والإمام يصلي بهم وعرقهم يصب وهم في حالة من التعب لا يعلمها إلا الله! يقول: صلى معهم ركعتين في التراويح ولما سلم قال لهم: شغلوا المكيف والمروحة فقال له الإمام بعد أن تلفت فيه قال: من أين جئت أنت؟ قال: جئت من الأرض أريد أن أصلي معكم.
قال: لا.
المكيف ما نشغله.
قلت: لماذا؟ قال: لأنه يفسد علينا خشوعنا سبحان الله العظيم! هذا من التشدد في الدين، بل على العكس الذي يفسد عليك خشوعك الحر، فإذا كيفت الجو وصار الجو بارداً وجميلاً فإنك تخشع في قلبك، لكن عندما تكون كأنك في فرن كيف تخشع؟ تريد أن تنفك من الصلاة بأي وسيلة فهذا من مظاهر الغلو والتشدد.
ومن مظاهر الغلو والتشدد: الغلو في رفع الثوب، من الشباب من يقصر ثوبه؛ لأن إسبال الثوب حرام، فما تحت الكعبين ففي النار، والإسبال من المخيلة (وثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب).
وفي الحديث: (نعم الرجل خريم الأسدي لولا طول ذمته وإسبال إزاره) ومعك مجال من نصف الساق إلى فوق الكعب فبإمكانك أن ترخي ثوبك إلى فوق كعبك، لكن من الناس من يغلو ويرفع ثوبه إلى ركبته، فقد رأيت أحد الشباب ثوبه إلى ركبته كأنه (فنيلة) وليس ثوباً! قلت له: يا أخي تعال تعال ماذا بك؟ قال: هذه السنة.
قلت: لا.
ليست السنة، أين السنة؟ هل السنة إلى نصف الساق؟ قال: نعم.
قلت: تعال، فلما قمت بقياس ما بين كعبه إلى ركبته، وإذا به بقي شبر بينه وبينها، قلت له: ليست السنة هكذا يا أخي؟ لماذا تريد أن تظهر أمام الناس أنك متدين؟ هذا رياء، تريد أن تلبس ثوب شهرة؟ (من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة) لماذا يا أخي! نضع على أنفسنا علامة استفهام بين الناس؟ عندما نشعر الناس بأننا جنس غيرهم؟ نحن من المسلمين، ونحن يجب أن نتعايش في حدود ما يسمح به الإسلام والدين، فإذا أباح الإسلام لي أني أنزل ثوبي إلى الكعب فمن حقي أن أنزل ثوبي إلى فوق الكعب، أما أن أرفعه إلى الركبة فهذا تشدد ما أنزل الله به من سلطان، وراقبوا هذا الذي ثوبه إلى الركبة سنتين أو ثلاثاً وتعالوا وانظروا وإذا بثوبه تحت رجله وقد ترك الدين بالكلية لماذا؟ لأنه غلا، ومن تجاوز الحد انقلب إلى الضد.
ومن مظاهر التشدد: المبالغة في رفع اليدين ووضعها على الصدر، فقد ورد حديث في البخاري عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على اليسرى) وفي الزيادة: (على صدره) في صحيح ابن خزيمة، زيادة على شرط البخاري (على صدره) والصدر يبدأ من عظام القفص الصدري إلى نهايتها، لكن لماذا تجعلها على عنقك؟ هذا غلو، أم تريد أن تشعر الناس أنك من أهل السنة؟ فهذا رياء، بل سر في الوسط؛ لأنك وسط.
أيضاً: من مظاهر التشدد ما نلمسه عند بعض الإخوان في المراصة في الصفوف، إذا جاء في الصفوف الأصل في السنة أنك تقف وبعد ذلك تقترب من الذي بجانبك مما يلي الإمام، وذاك يقترب من الذي بجانبه مما يلي الإمام، بحيث يتراصون ويتقاربون ولا يبدون ولا يبقون فرجة، فإن الفُرَج إذا بقيت بين الصفوف دخل منها الشيطان كالحذف يعني: كالبهمة الصغيرة، هذا الأصل، لكن بعض الناس لا يريدك أن تقترب منه، فإذا قربت منه ابتعد عنك، فتضطر أن تصلح خطأه فتفتح رجليك ثم يبتعد منك فتفتح رجليك انفتاحاً شديداً.
وهذا لا ينبغي بل على كل مسلم أن يكون قريباً من أخيه المسلم.
أيضاً من التشدد والمبالغة: ما نلمس عند بعض الإخوة وهو يسجد، المجافاة سنة، أن تجافي بين عضديك وجنبيك، وبين بطنك وفخذيك فهذا من السنة، لكن بعض الإخوة يبالغ ويمتد كأنه سينام، وبعضهم يربض كما تربض الشاة، فكلا الأمرين خطأ سواء كان تساهلاً أو تشدداً.(90/15)
عدم إعداد النفس وترويضها
السبب الثاني: عدم إعداد النفس وترويضها على معوقات الطريق، أي: أَشْعِر نفسك وأنت تهتدي أنه لا بد لك من صبر؛ لأن الطريق صعبة، يقول ابن القيم: يا قليل العزم إن الطريق شاق، والعقبة كئود، ناح فيها نوح، وألقي فيها في النار إبراهيم، وذبح فيها إسماعيل، وشج فيها وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل فيها عمر وطعن، وضرب فيها عثمان وذبح، وضرب فيها علي وذبح، وجماجم الشهداء إلى يوم القيامة لو جمعت لكانت مثل الجبال.
فالإيمان لابد له من جهد، فعليك أن تعود نفسك وتروضها وتعدها ابتداءً لهذه المسائل، ولذا نلمس ونجد في القرآن الكريم التأكيد على هذه الناحية، يقول الله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:28] ويقول: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179] يعني: بالبلاء، ويقول: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3] ويقول عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:3] فلا بد من الابتلاء، فقد تبتلى بزوجة سيئة، أو تبتلى بأب عنيد، أو بأم عنيدة، أو ببلاء، أو بمدير، أو بزميل، تبتلى بمجتمع لا بد أن تصبر حتى إذا فاجأتك العقبات في الطريق وإذا عندك استعداد على أن تثبت حتى تلقى الله عز وجل.(90/16)
الاستهانة بالذنوب
من أسباب الضعف: الاستهانة بالذنوب خصوصاً الصغائر حتى يسقط العبد من عين الله، ويسود قلبه، يروي الإمام مسلم حديثاً صحيحاً يقول عليه الصلاة والسلام: (تعرض الذنوب على القلوب عوداً عوداً كالحصير، فأيما قلب أنكرها صقل، وأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، حتى تصير القلوب على قلبين: على أسود مرباد كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وعلى أبيض كالصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض) انظروا كيف ترد الذنوب على القلب كالعود، كالحصير عوداً عوداً، وأي قلب يرد الذنب ويعرض عنه يصقل، وأي قلب يقبل الذنب ينقط نقطة واثنتين وثلاث وأربع إلى أن يسود قلبك، وذاك تمسحه حتى يظل قلبك مثل الصفا لا تضرك فتنة ما دامت السماوات والأرض.
وفي الحديث الآخر في مسند أحمد يقول عليه الصلاة والسلام: (إياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على المرء حتى تهلكه).(90/17)
التفريط في الواجبات
من أسباب الضعف: التفريط في الواجبات وفي عمل اليوم والليلة، كالنوم عن الصلاة خصوصاً صلاة الفجر، أو ترك السنن الراتبة، وعدم المحافظة على أذكار الصباح والمساء، وهذه من أعظم ما يحفظ الله به المؤمن: الاستدامة على الذكر، أذكار الصباح والمساء وأذكار الأحوال والمناسبات هذه من كثرة ذكر الله؛ لأنك ما دمت ذاكراً فالله معك، يقول الله: (أنا مع عبدي ما ذكرني أو تحركت بي شفتاه) والله يقول: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وما دمت تذكر الله فالله يذكرك، وإذا ذكرك الله لا يستطيع الشيطان عليك، فالتفريط في أذكار الصباح والمساء وترك الأذكار سبب من أسباب الضعف.(90/18)
عدم تنظيم الأوقات
أيضاً: عدم تنظيم الأوقات، أوقات لقائه بإخوانه في الله، وإضاعتها في جدالات، وكلام، والنيل من الناس هذا كله خطأ، فإذا اجتمعت بإخوانك في الله فلابد من التنظيم، ولا تكثر وتجعلها كل ليلة، (زُرْ غِباً تزدد حباً) اجعلها ليلة في الأسبوع أو ليلتين في الأسبوع، وبعد ذلك من حين يدخلون تحضر القهوة وبعدها تبدأ بالقرآن ويقرأ سورة ثم تفسيرها ثم البخاري نقرأ حديثاً ونحفظه ونراجع شرحه في فتح الباري ثم نقرأ سيرة صحابي ونأخذ مسألة فقهية، ثم ينتهي اللقاء، السلام عليكم، بأمان الله! ولا نضيع الوقت في غيبة ونميمة وندعي بأننا طلبة علم بل هؤلاء طلبة جهل، ويعيشون على هذا الوضع سنين طوالاً وتسأل بعضهم في أبسط جزئية من مسائل العلم لا يعرفها لماذا؟ لأنه أضاع حياته في النيل من الناس وبالكلام، وفي فلان طويل وفلان عريض فهذا لا ينبغي أيها الإخوان! هذا يؤدي بالتالي إلى الضعف والتراخي.(90/19)
تغلب هموم الدنيا على هموم الآخرة
أيضاً من أسبابه: غلبة هموم الدنيا على هموم الآخرة؛ فهموم الدنيا شيء طبيعي أنك تهتم بوظيفتك، وتهتم بزوجتك، وتهتم بأولادك، لكن يجب أن يكون اهتمامك بآخرتك أعظم، ففي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (من أصبح والدنيا همه فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح والآخرة همه جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة).(90/20)
سوء البداية
ومن أسباب الضعف والنكوس والتراجع: سوء البداية، فإن حسن البدايات تؤدي إلى حسن النهايات، فالذي يبتدئ هدايته بسبب مادي لغرض، يريد أن يتزوج وما أحد يزوجه إلا إذا كان متديناً فيتدين ومن حين يتزوج يضع الدين، يقول:
صلى وصام لأمر كان يقصده لما انتهى الأمر لا صلى ولا صام
يجب عليك أن يكون قصدك في هدايتك وبدايتك ما عند الله تبارك وتعالى؛ لأن ما عند الله يبقى، وما عند الناس يفنى.(90/21)
عدم استشعار المسئولية التاريخية عن هذا الدين
أيضاً: عدم استشعار المسئولية التاريخية عن هذا الدين، وأنه المنقذ للبشرية، المنقذ للناس هم فيه، فهو دين الله، وعليك ما دام أن الله ثبتك عليه وهداك إليه أن تشعر بمسئوليتك، ودورك في إنقاذ من شاء الله إنقاذه، فتنقذ نفسك، وتنقذ زوجتك، وأولادك، ووالديك، وجيرانك، وإخوانك، وزملاءك، وتحمل هموم الدين، وتعيش لهذا الدين، وتموت في سبيل الدين، هذا يجعل الله عز وجل يثبتك على الدين، لكن عندما لا تشعر بدورك ولا تشعر بمسئوليتك، وترى أنك متورط بهذا الدين فإنه ينقلب عليك إبليس والعياذ بالله.
هذه أيها الإخوة بعض الأسباب.(90/22)
العلاج
أما العلاج فيكمن في عشرة أشياء، سوف أوردها باختصار لضيق الوقت:-(90/23)
استشعار المسئولية في حمل هذا الدين
أولاً: يجب أن نعمق مفهوم المسئولية في هذا الدين، فمسئوليتنا تنحصر في العمل وليس في النتيجة، فإن الله سيسألنا: لماذا لم نعمل لكن لن يسألنا: لماذا لم ننجح؟ لأن الله يقول: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة:105] ولو لم يستجب لك أحد فليس ذلك عليك، فقد دعا نوح ألف سنة إلا خمسين عاماً وما استجاب له إلا اثنا عشر رجلاً، ومارس كل أساليب الدعوة، فعليك أن تستشعر المسئولية في أن مسئوليتك فقط في العمل؛ لأن بعض الناس يدعو فإذا لم يستجب له أحد قال: لن أدعو إلى الله، فقد دعيت ولم يستجب لي أحد.
يا أخي: ليس عليك الاستجابة، عليك أن تدع على الله النجاح، مثل المزارع يبذر وعلى الله الزرع، أما أن تدعو وتريد رؤية النتيجة أو تترك فهذا خطأ.(90/24)
إيجاد روح الجدية في قلب المؤمن
ثانياً: إحياء روح الجدية في قلب الإنسان المؤمن، فليس الأمر بالهزل، والقضية ليست سهلة، إنها قضية جنة أو نار، يقول الإمام أحمد وقد سئل متى يجد المسلم طعم الراحة فقال: إذا وضع قدمه اليمنى في الجنة.
إذا وضعت رجلك في الجنة فهناك الراحة، أما قبلها لا ترتاح أبداً، لا ترتاح بأي شيء، وهذا الشعور يصرف ويدفع المسلم إلى أن يبذل كل جهد وأن يستغل كل فرصة، وأن ينتهز كل مناسبة من أجل العمل الصالح وما ينفعه بين يدي الله.(90/25)
تنظيم الأوقات وترتيب البرامج وتنويع النشاطات
ثالثاً: تنظيم الأوقات، وترتيب البرامج، وتنويع النشاطات، ومواعيد العبادة، ومواعيد الزيارة، والالتزام بها بشكل دقيق، فمثلاً: بعد المغرب زيارات إلى العشاء لإخوانك في الله تزورهم أو يزورونك، أما بعد العشاء فلا يزرك أحد ولا تزر أحداً إنما لزوجتك ولأمك ولأبيك ولأهلك ولنفسك ثم تقرأ وتصلي وتتعبد، ثم تنام، وبعد الفجر في المسجد، من الصباح إلى الدوام، وبعد العصر لأهلك تمشيهم، وتفرجهم، وتباسطهم، وتنزل معهم مستشفى، أو تذهب معهم إلى نزهة إلى مكان ليس فيه منكر هذا البرنامج الجيد، لكن بعض الناس تجده يزور أخاه في الله الساعة الثانية عشرة من الليل! يطرق الباب نعم، قال: والله ما جاءني النوم أريد أن أسهر معك.
ما شأني منك؟ ما أتاك النوم اذهب ونم أو اقعد، لماذا تأتي تسهرني؛ لأنه ما جاك النوم؟! إنك ما زرتني في الله، بل أزعجتني في الله والعياذ بالله! لا بد من تنظيم البرامج، ولا بد من الالتزام وترتيب الأوقات، فوقت الحفظ حفظ، ووقت السنة سنة، ووقت الزيارة زيارة، وقت النوم نوم.
فما رأيكم الآن في المدارس لو أتوا في أول السنة وقالوا للمدرسين: يا مدرسين! لا يحتاج الأمر إلى برنامج ولا جدول دراسي ولا مناهج، كل منكم يأخذ له مجموعة من الأطفال ويعلمهم إلى آخر السنة كيف يكون التعليم؟ فوضى، لكن من أول السنة كل مدرس يقسم له برنامج منظم ومقسم على أشهر السنة، ثم يتابع ذلك البرنامج حتى تنتظم العلوم.
فالبرامج وترتيبها شيء مهم، والمسلم مرتب، إن الذي ينظم متاعه لا يتعب، إذا رتبت كتبك فإذا أردت كتاباً تلقاه، لكن بعض الناس لا يدري في أي مكان وضع الكتاب، وإذا أراد أن يبحث لا يجد الكتاب فيترك البحث.
لماذا؟ لأنه ليس مرتباً.
تجد المرأة التي لا تعرف أن تدبر منزلها إذا دخلت مطبخها فإن الأدوات ليست مرتبة، فإذا سألها زوجها: أريد ملعقة؟ ذهبت تبحث عنها بين القدور.
أريد سكيناً.
ذهبت تبحث عنه بين الأكواب، لكن لو أنها منظمة ووضعت كل شيء في مكانه، تفتح كل درج وتنظر كل شيء في مكانه؛ فترتاح.
فنحن مأمورون -أيها الإخوة- بالترتيب في حياتنا.(90/26)
البعد والحذر من المعاصي والذنوب
أيضاً: البعد والحذر من المعاصي والذنوب، كبيرها وصغيرها، وخصوصاً قرناء السوء، فإنه -والله- ما من شر يقودك إليه أحد إلا قرين السوء
عن المرء لا تسل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي(90/27)
الحرص على الطاعات وقرناء الخير
خامساً: الحرص على الطاعات، والمواظبة على الأذكار، إنها محرِّك إيماني، ومنشط ديني ينشطك، والحرص على قرناء الخير وزملاء الإيمان، الذين يزيدك مجلسهم طاعة لله وقربة إلى الله عز وجل.(90/28)
الاعتدال والتوسط والحرص على السنة
سادساً: الاعتدال والتوسط والحرص على السنة، يقول عليه الصلاة والسلام: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك) سواء الزيغ بالتقصير أو بالتجاوز، لا تتجاوز ولا تقصر وإنما (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، فإنه من يعش منكم فنسيرى اختلافاً كثيراً، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).(90/29)
التدرج في الدعوة
سابعاً: من وسائل العلاج: التدرج في الدعوة وتقديم الأهم على المهم، والمداراة، ومراعاة مصلحة الدعوة وأنت تدعو، فإذا أتيت إلى شخص يدخن لكن لا يصلي، فلا تقل له: لا تدخن يا أخي؛ لأنه لو ما دخن وهو لا يصلي أو ما دخن كله سواء، لكن إذا صلى أول شيء، فتبدأ بالأهم، لا نقول لك: اسكت عن الدخان لكن أجله فقط، قضية تقديم الأهم على المهم، فإذا صلى قل له: عليك أن تترك الدخان، أنت تصلي عليك أن تعفي لحيتك، أنت تصلي عليك أن تغض بصرك، لكن تكلمه في الدخان وفي حلق اللحية وهو لا يصلي! وافرض أنه أعفى لحيته وهو لا يصلي ماذا نقضي به؟ إنه كافر ولو عنده لحية مثل لحية أبي جهل.
فالإيمان له أساسيات، نبدأ بالأساسيات حتى إذا ضمناها بدأنا في الأشياء الثانية التي تأتي من دين الله عز وجل، تقول عائشة رضي الله عنها -والحديث في البخاري - تقول: [إنما نزل أول ما نزل من القرآن سور فيها الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، ودخلوا في دين الله، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول ما نزل لا تشربوا الخمر، لا تزنوا، لقال الناس: لا ندع الزنا، ولا ندع الخمر] أول ما نزل: تقوية الإيمان، ذكر الجنة، وذكر النار، وأخبار الرسل، واليوم الآخر كل هذه جاءت في أول القرآن، وبعد ذلك لما حيت القلوب، وثاب الناس إلى الدين وآمنوا بالله، نزل الأمر مباشرة، ونزل النهي مباشرة لماذا؟ لأنهم آمنوا بالله الذي لا إله إلا هو.(90/30)
الإكثار من ذكر الموت
وبعد ذلك من وسائل علاج الفترة: الإكثار من ذكر الموت وزيارة القبور -أيها الإخوة- وتوقع وقوع الموت في كل الأحوال، اركب السيارة وأنت تشغلها قل: قد لا أنزل منها، اخرج من البيت إلى الدوام وقل: قد لا أرجع إليه، وضع رأسك على الفراش وقل: ربما لا أستيقظ منه.
فعلى الإنسان المداومة على هذه الفكرة، والإكثار من ذكر الموت، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نهى عن زيارة القبور ثم أمر فقال: (إني كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم بالآخرة) والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده.
وكان ل ابن السماك -وهو إمام من أئمة العلم- كان له قبر في بيته، إذا قسا قلبه نزل فيه، ثم يقفل عليه، ثم يدعو أولاده يقول: رب ارجعون رب ارجعون فيفتح له الأولاد، فيقوم ويقول: يا ابن السماك اعمل صالحاً قبل أن تقول: رب ارجعون فلا يفتح لك أحد.
يقول الله: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].(90/31)
الاهتمام بالرقائق والقصص والأحداث
تاسعاً: الاهتمام بالرقائق والقصص والنكت والأحداث، هذه منثورة في كتب العلم، وموجودة في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وفي كتب شيخ الإسلام ابن القيم، وفي كتب ابن الجوزي؛ لأنها تحرك القلوب، وتؤثر فيها وتدفعها، وفي السير: سير أعلام النبلاء للذهبي من أعظم ما ألف، أيضاً هناك كتب صغيرة اسمها صور من حياة الصحابة للدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا، وصور من حياة التابعين هذه من أعظم ما ألف في السيرة؛ لأن كل كتاب يحتوي على ثمان أو سبع سير للصحابة، أو ثمان أو سبع سير للتابعين، تأخذ الكتاب وأنت تريد أن تنام في الليل تقرأ سيرة أحد الصحابة كيف عاش في الإسلام، هذه الملح والطرائف والرقائق تقوي الإيمان وتثبت وتعالج ما فيك من ضعف.(90/32)
النظر والاعتبار بأخبار الذين انحرفوا بعد الهداية
أيضاً: أن تتعرف بالرجوع بالذاكرة إلى الوراء على تاريخ الذين هداهم الله ثم تراجعوا وسقطوا، كيف كانت نهايتهم، وكيف أصبحوا في وضع لا يحسدون عليه، وكيف هانوا على الله وعلى الناس لهوانهم على أنفسهم، وكيف تأخذ منهم العبرة؟ مثل شخص كان مؤمناً وديناً وطيباً ثم انسلخ وفسد ووقع في المخدرات وقبض عليه، والآن زوجته ضائعة، وأولاده ضالون، وهو مسجون وينتظر القتل كل يوم، ولو أنه استقام على الدين ما كان في هذا الوضع الذي لا يحسد عليه، فتأخذ أنت من نفسك عبرة وتقول: الحمد لله الذي جعل لي منه عبرة ولم يجعلني أنا للناس عبرة.
هذه أيها الإخوة! مجمل الأسباب التي يمكن للمؤمن أن يأخذها، وأنا أرجو من إخواني الكرام ألا تمر هذه المحاضرة مر الكرام عليهم، بل لا بد من مراجعتها، وسماعها، والوقوف عند كل جزئية منها، ومراجعة النفس ومحاسبتها عليها، فإذا وجد الإنسان خللاً أو تقصيراً أو فتوراً فليصلحه، وإذا وجد قوة وثباتاً فليزد فيه، وأسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يزيدنا وإياكم ثباتاً على دينه.
اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، اللهم اجعل خير أعمارنا آخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، اللهم اجعل خير أعمارنا آخرها وخير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم نلقاك، اللهم اجعل خير أعمارنا آخرها وخير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم نلقاك، اللهم احفظ علينا أمننا وطمأنينتنا ونعمتنا واستقرارنا، اللهم من أرادنا في هذه الديار أو غيرنا من ديار المسلمين بسوء أو شر أو كيد أو مكر فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، وأنزل عليه بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم آمنا في دورنا، واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، ووفقهم لما تحبه وترضاه، واجعلهم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وأسأل الله عز وجل لي ولكم التوفيق في الدنيا والآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(90/33)
الأسئلة(90/34)
حكم عمل النساء بمهنة التمريض
السؤال
يسأل الأخ عن مهنة التمريض: هل هي جائزة بالنسبة للنساء؟
الجواب
مهنة التمريض من المهن التي تحتاجها الأمة؛ لأن المرأة المسلمة تتعرض للمرض وتدخل المستشفى وتحتاج لمن يقوم بخدمتها في عملية التمريض، وإذا تركت المرأة لتمرض وتعالج من قبل الرجال ترتب على هذا مفسدة، لذا لزم أن يوجد من النساء من يقمن بهذه المهنة ولكن بشروطها: الحجاب، وعدم الاختلاط بالرجال، وعدم النظر أو الكشف عليهم حتى ولو كان طبيباً، إذا دخل الطبيب ليعالج المريضة والممرضة موجودة لزمها أن تحتجب وأن تنتقب ولا يرى منها شيئاً، إذا خرج الطبيب أو عمال النظافة أو الزوار أو الأقارب للمريضة هذه فإنها تكشف، وقد رأينا والحمد لله الآن بعض الفتيات الملتزمات مارسن مهنة التمريض واستطعن أن يقمن بها وهن ملتزمات بالدين ولا يكشف عليهن أحد، والحمد لله، ونسأل الله أن يوفقهن.(90/35)
حكم زيارة الرحم الذي لا يصلي
السؤال
يقول: زيارة الأرحام واجبة، ولكن حينما يكون رب الأسرة من الأرحام لا يصلي فهل يجوز زيارتهم خاصة أن الذي لا يصلي كافر ولا تأكل ذبيحته؟
الجواب
الذي لا يصلي من الأرحام بعد نصيحته، وبعد دعوته، وبعد تبصيره، وإصراره على المخالفة وترك الصلاة، ينبغي هجره في الله، وبغضه في الله، فإن البغض في الله والحب في الله من أوثق عرى الإيمان {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ} [المجادلة:22] فإذا كان هذا القريب فاجراً كافراً لا يصلي مثل هذا -والعياذ بالله- فلا ينبغي لك أن تزوره، إنما ينبغي لك أن تدعوه أولاً، وأن تبصره وأن تعطيه أشرطة، وأن تدعوه فإذا قرر واتخذ موقفاً منك وقال: ليس لك دخل في هذه المواضيع.
فاقطعه، كما قال إبراهيم: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] ولكن إذا كان عنده أقارب لك أنت في بيته فلا تقطعهم أنت بقطيعته وإنما تزورهم في الأوقات التي لا يكون فيها موجوداً مثلاً: عمك أخو أبيك، وعنده أيضاً عمتك أخت أبيك ساكنة معه فزيارتها طيبة، لكن متى؟ في الأوقات التي لا تلتقي بها مع هذا الرجل، فتسلم عليها وتهدي لها حتى تخرج من إثم القطيعة.(90/36)
اختلاط الرجال بالنساء في كلية الطب
السؤال
نحن في كلية الطب ونحن ملتزمون والحمد لله، ولكننا نعاني في المستشفى من وجود الطرف الآخر، وأحياناً نكلمهن وننظر إليهن بحكم طبيعة العمل فما الحل؟
الجواب
الطبيب المسلم الملتزم يستطيع أن يعيش بإسلامه وإلتزامه في أي بقعة وفي أي مجال، اقذفه في البحر واكتبه سالماً؛ لأنه يخاف الله، ووجوده في المستشفى ووجود طبيبات أو ممرضات فينبغي له أن يعمل على الحيلولة إذا كان له أمر، دون التقاء الرجال بالنساء، وإذا لم يكن له أمر فلا أقل من أن يعمل على حيلولة نفسه بغض بصره، فيغض بصره ولا أحد يستطيع أن يقول لك: افتح عينك ولو كانت ممرضة، وقد ذكرت لكم قصة عن طبيب كان يشرف على علاجي في مستشفى عسير المركزي، وكيل كلية الطب، أستاذ في الباطنية وهو من إخواننا في الله، وقد كان يكتب لي الوصفة ومعه ثلاث ممرضات، والله جلس معي أكثر من نصف ساعة وهو يتكلم معي، ويكتب، ويأخذ، ويقرأ التحاليل، وما نظر نظرة واحدة إليهن، وإنما كانت عينه كلها في الورق، يكتب، يكلمها وهو يكتب، لكن بعض الناس لا يتكلم وهو يضحك، يتلفت فيها، يقول: نحن مضطرون لا.
أنت لست مضطراً أن تضحك مع المقابل، أو تنظر إليها أو تعصي الله عز وجل.(90/37)
نصيحة للنساء اللاتي يحضرن إلى المسجد بأطفالهن
السؤال
نصيحة للنساء اللاتي يأتين إلى المسجد ومعهن الأطفال فيحصل منهن التشويش.
الجواب
هذا الكلام قد قلناه في أكثر من مناسبة، وقلنا للمرأة: عليها أن تتقي الله، إذا أرادت أن تأتي لحضور مجالس العلم فعليها ألا تأتي بأطفالها؛ لأن مجالس العلم لها حرمة، ولها قداسة، والأطفال لا يعرفون حرمة هذه المجالس، يصيحون ويعبثون ويسببون لها القلق ولا تستفيد، فلا تسمع المحاضرة ولا تتابع، وتشوش على زميلاتها اللاتي عندها من المؤمنات اللاتي ما عندهن أطفال، وتشوش على الرجال فتأتي تريد أجراً فتخرج بوزر كبير والعياذ بالله.
نقول لها: إذا كان عندها أطفال تجلس في بيتها، وتطلب من زوجها أن يأتيها بالمحاضرة في شريط تسمعه بدون إثم إن شاء الله، وإذا كان عندها أطفال كبار تستطيع أن تتركهم في البيت فتأتي، وإذا كانت لا تستطيع فنقول: أجرها حصل بنيتها إن شاء الله.(90/38)
كيفية الخلاص من المعاصي
السؤال
أنا شاب ملتزم والحمد لله، أصلي وأصوم، وأكثر من النوافل، وأقوم الليل، ولكن غلبت عليَّ معصية كلما تركتها عدت إليها حتى أنني نذرت عند الكعبة أن أتركها ثم عدت إليها، فكيف الخلاص من هذه المعصية؟
الجواب
الخلاص يا أخي المسلم! يأتي عن طريقك أنت، ليس هناك شيء نستطيع أن نضعه فتترك المعصية، لكن إيمانك، وشعورك بخوفك من الله، تذكرك عذاب الله، تذكر إذا أردت أن ترتكب المعصية أنه يمكن أن يختم لك بها فتختم لك سوء الخاتمة، هل عندك ضمان أنك تعيش بعد المعصية؟ لا.
ليس عندك ضمان.
يا أخي: اتق الله وخذ القضية بجد، واستشعر عظمة من تعصيه، ثم تذكر بعد المعصية كيف ألمها ومرارتها ولذعتها في قلبك، هل يعدل هذا الألم لذتها؟ لا.
والله لا يعدلها، فإن ألم المعصية لا يعدل لذتها، بل اللذة قصيرة والألم مرير في الدنيا والآخرة.
نقول: اتق الله، وما دام نذرت ثم غدرت فعليك أن تكفر كفارة وتتوب إلى الله ولا تعُد -إن شاء الله- إلى المعصية.
كلمة، أو قصاصة ورق تنتشر بين الناس، عبارة عن صورة أخذت بالكمبيوتر للقصبة الهوائية وللرئة اليمنى، يقولون: إنهم لاحظوا من خلالها أن فيها مكتوب (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وحقيقة المتأمل فيها يرى أنه فعلاً مكتوب "لا إله إلا الله محمد رسول الله" ونحن إن صدقت هذه فهذه آية من آيات الله تزيدنا إيماناً، رغم أننا مؤمنون بدونها، لسنا في شك، ولسنا بحاجة إلى أن نتمحّك وإلى أن نبحث عن أدلة،
يا عجباً كيف يعصى الإله أو كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
إن كل ذرة من ذرات الكون، وكل خلية من خلايا هذه الحياة تشهد أن لا إله إلا الله، فإذا جاءتنا شهادة مثل هذه زادتنا إيماناً، وإن ثبت أن هذا غير صحيح فلا ينقص إيماننا ولا يضعف إيماننا بلا إله إلا الله، لا إله إلا الله محمد رسول الله عليها نعيش، وعليها نموت، وعليها نبعث إن شاء الله، ونسأل الله أن يجعلنا من أهلها.(90/39)
حكم إظهار الطاعات للناس
السؤال
نقلت إلى مكة فوجدت كل تسهيل والحمد لله، وأنا الآن بـ مكة أصلي في الحرم، وأصوم الإثنين والخميس من كل أسبوع، وهذا اليوم أبشرك أنني صائم -الحمد لله، جزاه الله خيراً- كما أرجو أن تعلن عن رقم هاتفك في هذه المحاضرة.
الجواب
جزاه الله خيراً، طبعاً ليس هناك اسم، ولا يريد إظهار اسمه، وحتى لو ذكر اسمه ما ذكرناه؛ لأنه لا يجوز للمسلم أن يظهر عمله للناس حتى لا يكتب عمله من الرياء، لكن يطلب مني رقم الهاتف، فالهاتف موجود ولكنني لا أريد أن أخبركم به؛ لأنني لو أخبرتكم به تعبت، ولكن من احتاج إليه فليبحث عنه وسيلقاه، والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(90/40)
واجب الآباء تجاه الأبناء
أناط الله عز وجل بكل أب وأم مهمة عظيمة، اعتنى بها الشرع، وحض عليها الوحي، ودعا إليها أهل العقول وأولو الألباب، ألا وهي تربية الأبناء، وقد تكلم الشيخ بشيء من التفصيل عن هذا الواجب، ذاكراً ما ينبغي فعله على الآباء وماهية المسئولية الملقاة على عاتقهم والمناطة بهم، والموازين الشرعية التي بها وعليها يسير المنهج التربوي للأبناء.(91/1)
المسئول عن تربية الأبناء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة في الله: حياكم الله، ومرحباً بكم في روضة من رياض الجنة، وحلقة من حلقات العلم تحفكم فيها الملائكة، وتغشاكم فيها الرحمة، وتنزل عليكم فيها السكينة، ويذكركم الله فيمن عنده، إن حاجة القلوب إلى مثل هذه المجالس أعظم والله من حاجة الأرض إلى المطر، فكما أن المطر هو غيث الأرض، فإن العلم الشرعي هو غيث القلوب، فإذا حرمت القلوب غيثها الرباني وهداها السماوي أقفرت وتحجرت وانعدم خيرها، وكثر شرها، مثلها في ذلك مثل الأرض إذا حبس عنها الغيث وحرمت من المطر أقفرت وانعدم فيها الخير، وكذلك القلوب! وما ترونه من جفافٍ في الأرواح، وقسوة في القلوب، وجمودٍ في الأعين، وجرأةٍ على المعاصي، وكسلٍ وتراخٍ في الطاعات، كل ذلك بسبب حرمان القلوب من سماع العلم الشرعي؛ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولا بقاء لك -أيها المسلم- ولا لدينك ولا لحياة قلبك إلا بالاعتصام بكتاب الله، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما عن موضوع المحاضرة فهو موضوعٌ مهم يتعلق بكل مسلم؛ لأنه موضوع إعداد وتربية الأجيال، إعداد الأمهات في مصنع رهبان بالليل فرسان بالنهار.
والبيت المسلم هو أول محضن يعد ويصنع فيه الرجال، ولذا عني الإسلام وألزم الرجل والمرأة بمسئولية مشتركة تجاه هؤلاء الأبرياء الذين يأتون وفي أمانتنا وأعناقنا مسئولية تربيتهم.
وعنوان المحاضرة: (واجب الآباء).
والمعني بالآباء هنا ضمناً: الآباء والأمهات، فإن الدور مشترك، والمسئولية موزعة بين الرجل والمرأة، فكلاهما يبني ويحمي ويوجه، حتى تستقيم الثمرة، ونخرج للمجتمع رجالاً صالحين وفتيات صالحات.
وهذه المسئولية السائل فيها هو الله، وثمرة ونتيجة المسئولية: إما نجاح وإجابة صحيحة وإبراء لذمتك، وقيام بعهدتك أمام الله، فتكون مسئوليتك هذه ناجحة وثمرتها الجنة، وإما خذلان وخيبة وخسران، وسقوط وعدم قيام بالواجب، فتكون نتيجة هذا التقصير النار وبئس القرار.
فهي ليست مثل مسئوليات الدنيا، فمسئوليات الدنيا عليها عقوبات، لكنها ليست كعقوبة مسئولية الآخرة؛ إنها جنة أو نار، وسعادة أبدية أو شقاءٌ أبدي.
قد ورد في حديث في الصحيحين يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته -ثم حدد وقال- فالرجل راعٍ في أهل بيته ومسئولٌ عن رعيته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسئولٌ عن رعيته، فكلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته).
وهذا الحديث من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، ومن مبادئ الإسلام العظيمة، حتى عده بعض أهل العلم ربع الإسلام، لماذا؟ لأنه حدد دوراً واضحاً لكلٍ في موقعه، أنت مسئول ليس فقط كأب، ليست المسألة كما تريد، تقول: أريد أولاداً من أجل أن ألاعبهم وأراقصهم وأتمشى معهم، الأمر ليس بيدك، وأنت أب من أجل أن تكون مسئولاً أمام الله عن تخريج جيل مسلم، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث).
ولهذا ينبغي أن تشتغل وتعمل الصالحات قبل أن تموت فينقطع عملك، أنت الآن لك فرصة وإمكانية أن تتزود بالصالحات، وتجمع الحسنات، وتتوب من المعاصي والسيئات إلى أن تموت، فإذا مت انقطع ذكرك إلا من ثلاث، وهذه الثلاث أصلها منك.
الأولى: صدقة جارية، من الذي يضعها؟ أنت، أو ولدك من بعدك يتصدق بها على نيتك.
الثانية: أو علمٌ ينتفع به وهذا منك.
الثالثة: أو ولدٌ صالحٌ يدعو لك، والولد الصالح من أين يأتي؟ أيأتي من مشاهدة الفضائيات؟! والتربية على مشاهدتها، ورؤية الأفلام والمسلسلات الخليعة؟! هذا لا يصير صالحاً، بل يأتي مصيبة عليك، وعلى أمته وبلده والإسلام والمسلمين.(91/2)
حقيقة التربية
قال: (أو ولد صالح يدعو له) ليس صحيحاً -أيها الإخوة- ألا يفهم الرجال والنساء من دورهم في التربية إلا دور التغذية والعلاج والكسوة والنزهة والتدريس والوظيفة وأن يعطوا هذه الجوانب جُلَّ اهتمامهم ثم يضيعوا الجانب الرئيسي والمهمة الأساسية لهم، وهي تربية أبنائهم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول الله سبحانه وتعالى وهو يحدد المسئولية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [التحريم:6] نداء يستلهب فيك مشاعر الإيمان، كأن الله تعالى يقول: ما دام أنكم مؤمنون فانتبهوا لهذا الأمر، وما هذا الأمر؟ يقول أحد السلف: [إذا سمعت الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك؛ فإنه إما خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه].
فالله سبحانه وتعالى يناديك بأحب دعاء، وبأعظم نداء، وهو نداء الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ} ابدأ بنفسك أولاً؛ لأن الذي لا ينقذ نفسه لا ينقذ غيره، والذي ليس فيه خير لنفسه ليس فيه خير للناس: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} لم يقل الله تعالى: قوا أنفسكم وأهليكم جوعاً، ولم يقل: قوا أنفسكم وأهليكم مرضاً، ولم يقل: قوا أنفسكم وأهليكم برداً، ولم يقل: قوا أنفسكم وأهليكم حراً، فهذه جوانب ثانوية، وأما الشيء الأساسي فهو أن تقي نفسك وأهلك من النار، وأنا أسألكم بالله: هل من يضع (الستلايت) على بيته وقى أهله النار أم أوردهم إياها؟ لقد أورد النار على أهله.
أورد النار في (الستلايت) يفتح ذراعيه للسماء ليرحب بالشر! إذا أتيت لترحب بضيفك وأنت تحبه تقول: ألف مرحب، وهذا يرحب بالشر من جميع قنوات الفضاء الفضاء مملوء بقنوات الشر، وهذا يقول: تعال مرحباً، ثم يصبه على زوجته وأولاده، ويدفع خمسة عشر ألفاً أو عشرين ألفاً إيجاراً على نفسه إلى جهنم.
لا يريد أن يدخل النار إلا بإيجار، لا إله إلا الله!! أين عقول المسلمين؟! أين أهل لا إله إلا الله؟! أين أهل التوحيد؟! أين أهل إياك نعبد وإياك نستعين؟! أين الغيرة من قلوب الرجال، عندما ترى الرجل يترك أولاده وبناته وزوجته يرون المنكر يصطنع أمامهم؟! هذا يغث وهذا يقبل وهذا يعانق ثم يذهب لينام ويترك أولاده على الشر والعياذ بالله! إن أول مسئولية تتعلق بذمتك أيها المسلم: أن تقي نفسك وأولادك النار، والله سبحانه وتعالى يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه:132].
أكثر اهتمام الآباء الآن أنه يرزق الأولاد، والله تعالى يقول: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً} [طه:132] ألا توجد عندك ثقة في كلام الله؟! يقول: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه:132] (نحن) أي: الله تعالى: {نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه:132] أي: الرزق مكفول، مهمتك ووظيفتك هي أمر أهلك بالصلاة والرزق سوف يأتي، أما أن تضيع الصلاة ثم تذهب لتبحث عن الرزق ولا تدري أصلى أولادك أم لا؟ وهل زوجتك صلت ولا تسألها، فأنت لا يوجد عندك ثقة في الله عز وجل، وكأنك تقول: لا يا رب رزقي ليس عندك، أنا الذي لا بد أن أجلب رزقي ولو ضاع ديني -والعياذ بالله- {نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].
ولهذا أيها الإخوة: حرصت الشريعة في كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيان وتوضيح مسئولية الآباء والأمهات تجاه الأولاد والبنات، حتى لا يفهم الناس فهماً مغلوطاً، ويظنون أن المسألة بسيطة، لا.
فمن يوم أن تزوجت وأصبح لك أولاد أصبحت مسئولاً، فينبغي عليك أن تراقب نفسك وتصرفاتك، وتعرف كيف تتكلم، وتأكل؟ وكيف تشرب؟ وماذا تتناول؟ وأين تذهب؟ وأين تجيء؟ وكل الأخلاقيات التي عندك لها انعكاساتها الخطيرة على أولادك! لا تكذب؛ لأن أولادك سيصبحون كذابين لا تسرق؛ لأن أولادك سيصبحون لصوصاً لا تدخن؛ لأن أولادك سيأتون مدخنين لا تضع الصلاة؛ لأن أولادك سيأتون مضيعين للصلاة لا تغن؛ لأن أولادك سيأتون مغنيين لم يعد الأمر مقتصر عليك أنت فقط، بل أصبح لديك سلسلة وراء ظهرك، ليتك قعدت فاسداً لوحدك! ولكنه فاسد وأحضر معه طابور المفسدين، والعياذ بالله.
كذلك الأم لقد عقمت أرحام النساء عن أن تخرج لنا رجالاً أمثال خالد وطارق، أين هؤلاء أيها الإخوة؟! هؤلاء من أين تخرَّجوا؟! من الأمهات الصالحات، ولكن إذا كانت الأم فاسدة وكذابة فسوف تأتي ابنتها وولدها أكذب منها؛ الأم قليلة دين لا تصلي وسوف يأتي أولادها مثلها الأم تحب الأفلام والمسلسلات سيكون أولادها كذلك الأم تحب الأغاني والبنات ستحب الرقص.
إذا كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص(91/3)
ميزان الشريعة في اختيار الزوجة
إذا طبَّل الأب رقص الأولاد، ونكبت الأمة في شخص مثل هذا الرجل، وفي هذه الأسرة المنكوبة والمنحوسة، التي ما تأدبت بكتاب الله، ولا ربت أعضاءها على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد عني الإسلام بهذه المسألة وأولاها كثيراً من الاهتمامات، ونظم أمر الأسرة من بداية الخطوات، وهذه أول خطوة؛ يبدأ الإنسان الحياة الأسرية بخطوة اختيار المرأة، وعلى ضوء توفيق الله له، وحسن اختياره للزوجة، يتحدد أيضاً مصير حياته الزوجية والأسرية، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام للأمة: (تنكح المرأة لأربع).
وهذا الحديث في البخاري، يقول: المرأة تطلب لأربع خصال، إذا أراد أحد الناس أن يتزوج فليبحث عن خصال إذا وجدت في المرأة: (لمالها، ولجمالها، ولحسبها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) يعني: إذا لم تبحث عن ذات الدين تربت يداك، أي: امتلأت يداك بالتراب، ومعناه: أنت مترب وليس معك شيء، ما معك إلا الخسارة، إذا معك زوجة معها مال، وعندها حسب وجمال لكن ما عندها دين؛ فإنك مترب؛ لأن الدين رأس المال، فاستمسك به فضياعه من أعظم الخسران.
وكل شيءٍ فإن الدين جابره وما لكسر قناة الدين جبران
كل نقص وكسر وقلة، إذا وجد دين فإن الدين يغطي كل شيء.
الدين هو رأس المال، إذا ضاع رأس مالك ماذا بقي معك من الربح؟! قال عليه الصلاة السلام: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولجمالها، ولحسبها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) هذا بالنسبة للمرأة إذا أراد الرجل أن يتزوج.
وإذا أراد رجل عنده بنات أن يزوجهن، من يختار؟ جاء في حديث رواه الحاكم بسند صحيح، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) فوضع الشرع ميزاناً للاختيار، بحيث لا تتعب والحمد لله! إذا كان عندك عيال وتريد أن تزوجهم فابحث عن صاحبة الدين، وإن كان عندك بنات وتريد أن تزوجهن فابحث عن صاحب الدين.
لكن إذا ما عندك دين، ولا عندك ميزان شرعي؛ لا تدري من تزوج، إن جئت لتزوج ولدك ما عرفت من تزوجه، وإن جئت لتزوج ابنتك ما عرفت من تزوجها؛ لأنه ليس عندك موازين، ولا ضوابط شرعية تميز بها الرجال وتختار من الذي يصلح، فأعطاك النبي صلى الله عليه وسلم الميزان: (إذا أتاكم من ترضون دينه).
لم يقل: من ترضون دراهمه، أو رتبته، أو مكانته، فهذه كلها أشياء جانبية، إذ أول شيء هو الدين.
وبعض الناس إذا جاءه صاحب الدين قال: ماذا أفعل به؟ دينه له وأنا أريد مالاً.
مسكين! تريد مالاً؟! اليهود يريدون مالاً.
يا أخي: المال ينتهي ولا يبقى إلا الدين، ابحث عن صاحب الدين، فإنه يكرمك، ويحترمك ويقدرك، ويحفظ أمانتك، إن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها، لكن الذي يعطيك المال -ويملأ بطنك- وبعد ذلك يريك عاقبتك، إذا رآك من طريق راح من طريق آخر، وإذا دخلت عليه في البيت ما قام لك، يمد يده لك وهو جالس: ماذا تريد؟! بل من عند الباب يقول: دعوه ولا يأتي! تقول له: ابنتي عندك، قال: اذهب.
قد أعطيناك مالاً، دفعنا الثمن؛ لأنك رجل صاحب مال، وقد أخذت المال، فماذا تريد غير المال؟ لا، الشرع يقول: (إذا أتاكم من ترضون دينه) وأيضاً أضاف النبي عليه الصلاة والسلام إلى الدين الخلق، فإن من الناس من له دين ولكن خلقه سيئ، وهذا نقص في دينه، فإن الخلق من الدين، بل هو جمال الدين، وكان سيد العابدين صلوات الله وسلامه عليه أكرم الناس خلقاً، حتى مدحه الله تعالى وقال له: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
ولما سئلت عائشة عن خلقه العظيم؟ قالت: (كان خلقه القرآن) إذا أردت أن تعرف خلق محمد صلى الله عليه وسلم اقرأ القرآن، فالقرآن ممثل في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا نشأت الأسرة الإسلامية على هذا الأساس من حسن اختيار الزوج، وجد الزوج الصالح، والزوجة الصالحة، زوج تقي نقي عابد مصلح، يخشى الله ويخافه، ويرجو ثواب الله، وأيضاً زوجة صالحة، ذاكرة شاكرة قائمة صائمة بارة تقية مطيعة لله ثم لزوجها، زوجةٌ مدركةٌ لمسئوليتها الله أكبر!! ترفرف السعادة على هذه الأسرة؛ لأنها بنيت على صلاح، يقول الله عز وجل: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة:109].(91/4)
الأسس التي تقوم عليها مسئولية التربية
إذا أتيت لتبني بيتك على أساس قام بنيانك، وإذا أتيت تبني على كثيب سيسقط: {عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة:109] أي: مشرف على السقوط والانهيار، فأسس بناءك الحياتي والأسري على أساس الدين، واختر الزوجة الصالحة.
قد يقول قائل: أنا قد تزوجت، فماذا أعمل الآن؟ أو يقول قائل: هذا كلام أتانا وقد فات الأوان، نقول: تدارك المسألة.
كيف؟! أصلح نفسك: تب إلى الله، وغير وضعك، ثم بعد ذلك انتقل إلى زوجتك، بالهدوء وباللين وبالصبر وبالتعليم وبالإرشاد ليس بالعنف والقوة والتشنج والمضاربة، إنما بالتي هي أحسن، وستجد بعد فترة إن شاء الله أنك وجدت الأسرة المسلمة، حتى لو كان البناء في البداية غير سليم فبالتوبة يمكن تدارك الوضع، وإعادة ترتيب الأوراق، وتصحيح الوضع مع الله سبحانه وتعالى.(91/5)
تحصين البيت من أول ليلة
تبدأ المسئولية من أول ليلة وهي التي يسميها الناس: (ليلة العمر) حينما يدخل الرجل بزوجته، في تلك الليلة تكون الشهوة عارمة، وحصول لحظة اللقاء المنتظرة شيء مهم في حياة الرجل والمرأة! لكن الله سبحانه وتعالى يعلم المسلم في تلك اللحظات ألا ينسى في غمرة الفرحة والانشراح والانبساط أن يذكر الله، وأن يسأل الله أن يجنبه الشيطان وهو يأتي زوجته لأول مرة، ففي الصحيحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن قضي بينهما ولد لم يضره الشيطان).
لا تنس هذا في أول ليلة وفي كل ليلة؛ إذا أتيت أهلك فقل هذا الكلام؛ لأنك بهذا الدعاء تعتصم من الشيطان، وتعصم أولادك ونسلك من الشيطان، وإذا لم تقله فإن الشيطان يشاركك في النكاح، وقد ورد أن الشيطان يلتوي على إحليل الرجل ويجامع معه كما يجامع، ويشرك في الولد، فيكون نصف الولد لك ونصفه لإبليس، ولهذا ترى بعض الآباء إذا رأى ولده، يقول: هذا شيطان؛ هذا ليس مني.
هكذا من طبعه وتصرفاته، يقول: أعوذ بالله! هذا شيطان! لعلك نسيت أن تقول: باسم الله في تلك الليلة، فلا تنس، فمن السنة في ليلة الدخلة، إذا دخلت عليك زوجتك فأول شيء تضع يدك على ناصيتها، أي: جبينها وتقول: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه).
فتعلم هذه الآداب -يا أخي- ثم صلِّ ركعتين إذا دخلت عليك زوجتك، وقل لها: صلي ركعتين لله، -ما في شيء- لأن صلاتك في تلك اللحظات تدل على دوام تعلقك بربك، ثم بعد ذلك ادع الله لها أن يصلحها، وقل لها: أن تدعو لك، ثم قل لها: أنا جديد وأنت جديدة، فأي شيء لا تريدينه أعلميني به، وأنا أيضاً الذي لا أريده سأعلمك به، لتستقيم حياتنا الزوجية على التفاهم، وعلى أن يأتي الإنسان منا ما يحب الآخر، وأن يجتنب ما يكره الآخر.
وهذه الحياة عندما تبدأ بداية بهيمية؛ لا تبدأ بباسم الله، ولا توكلت على الله هذا -والعياذ بالله- مما يسبب فشلاً في الحياة الزوجية.
وصلاح الأولاد من أعظم النعم، يخبر الله سبحانه وتعالى أن عباد الرحمن يقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74] قال العلماء: قرة العين هو الولد الصالح، والزوجة الصالحة، التي تقر بها عينك؛ لأن الذي عنده أولاد فاسدون عينه لا تقر، وإنما تزوغ، عنده خوف وقلق واضطراب، لا يدري ما جرى على أولاده، أو أين ذهبوا، أو مع من سهروا، أو متى يأتون في الليل فتراه في قلق دائم! لكن الولد الصالح في بيت والده، ولا يخرج إلا بإذنه، ودائماً بجانبه، كأنه ظل له؛ لا يمشي إلا وهو معه، ترى أباه قريرة عينه، منبسط، لماذا؟ لأن ولده صالح، فأهل الإيمان يقولون: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] اللهم اجعل لنا يا رب العالمين من هذا رصيداً.
وكذلك البنات، والحديث في مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث -وذكر منها-: أو ولد صالح يدعو له) والولد هنا يشمل الذكر والأنثى؛ لأن الولد في الشرع إذا أطلق فمعناه الذكر والأنثى، كما قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة:233] أي: البنات والذكور، فالبنات والنساء إذا سمع k: ( أو ولد صالح) قلن: والبنات ألا يدعين لآبائهن؟ نعم يدعين، فالولد يشمل الجنسين، وجميع تكاليف الشرع موجهة إلى الجنسين، إلى المرأة والرجل على السواء، إلا ما اختصت به المرأة من أحكام، أو اختص به الرجل من أحكام، فهذا واضح ومبين في مظانه ومواضعه.(91/6)
التشاؤم من البنات من أخلاق الجاهلية
إذا كانت الذرية من البنات، فلا ينبغي للإنسان أن يتخلق بأخلاق أهل الجاهلية ويحزن؛ لأن الذي يهب البنات والذكور من هو؟ الله سبحانه وتعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} [الشورى:49 - 50] أي: يخلطهم.
فالذي يحدد نوعية الذكر والأنثى ليس الأب وليست الأم، أو الطبيب، أو المستشفيات، أو الدول، أو الحكومات الذي يحدد ويقارن ويوازي بين أعداد الذكور والإناث في كل مجتمع هو رب الأرض والسماوات! ولو ترك الله سبحانه وتعالى أمر تحديد الذكور والإناث للناس لاختار كل واحد الرجال إذا حملت زوجتك ماذا تريد؟ وسألناك تريد ذكراً أم أنثى؟ كل واحد يقول: أريد ذكراً، حسناً جاءك ذكر، والثاني ذكر والثالث كذلك كلهم ذكور! إذاً، من أين نزوج هؤلاء الذكور؟ الدنيا كلها رجال ولا يوجد نساء، إذاً! تنقرض الحياة فالله يهب لك أنت ولداً ويهب لذلك بنتاً، وهناك نسب متقاربة في جميع الشعوب، وعندما -مثلاً- تنظر الإحصائيات يقول لك: عدد السكان (10) مليون؛ الذكور (5) مليون وزيادة، والإناث (4) مليون وزيادة، أحياناً يكون الإناث أكثر؛ لأن الرجال يتعرضون دائماً للموت في الكوارث والحروب والحوادث؛ لأن الرجال هم الذين ينتقلون، حتى حوادث المرور الآن تجد أكثر من يموت الرجال؛ نظراً لأن أسفارهم كثيرة، وفي الحروب كذلك يموت الرجال، فالله سبحانه وتعالى يزيد في النسبة دائماً لكي يوازن: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً} [الشورى:49].
فإذا وهبك الله بنتاً فلا تضجر من هبة الله؛ لأنك إذا تضجرت فإنما تعترض على الواهب، بل بعضهم يغضب من المرأة: أنتِ ما عندكِ خير! ما عندك إلا بنات! كل مرة بنت بنت بنت؟! أليست هي قد أتت بالبذر منك؟ أنت من تضع بذرة البنات، وإذا كنت رجلاً فضع بذرة رجال! واحد اسمه أبو حمزة رزق بنتاً، ثم بنتاً، ثم بنتاً، ثم بنتاً فتزوج ثانية يريد أولاداً فإذا بها تلد بنتاً، فإذا به غضبان ويمر على تلك مرة، ويمر على أم تلك البنات نادراً وفي يوم من الأيام قالت:
ما لـ أبي حمزة لا يأتينا غضبان ألا نلد البنينا
والله ما ذلك في أيدينا كالأرض نغرس ما يزرع فينا
تقول: نحن كالأرض نزرع الذي يوضع، ضع براً يطلع براً، ضع شعيراً يطلع شعيراً، ضع بعراً يطلع بعراً، فأنت تبذر ولكن من الذي يخرج؟ الله سبحانه وتعالى، يقول عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} [الواقعة:58 - 61].
فإذا رزقك الله البنات فاحمد الله، ولا تتخلق بأخلاق أهل الجاهلية، فالجاهليون إذا أتتهم بنات غضبوا، قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ} [النحل:58 - 59] يهرب من الجماعة: {مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:59].
ولا تزال هذه الصفة -وهي صفة الجاهلية- في رءوس كثيرٍ من الناس إلى يومنا هذا، ولهذا إذا جاء له ولد جاءوا يبشرونه: أبشر برجل، فيرفع رأسه، وإذا أتت بنت لا يقولون: أبشر، يقولون: راعية غنم، أي: هذه مسكينة ضعيفة، ولا يستطيع أن يذبح ولا يعزم ولا يفرح لماذا؟ امرأة سبحان الله!! هذه صفة من صفات أهل الجاهلية، لا يا أخي الكريم! فلعل الله أن يجعل البنات أكثر بركة من الرجال، فبعض البنات عند أهلها أبرك من عشرة رجال، بل بعض الناس يقول: أتمنى لو أن كل أولادي من البنات؛ لربيتهم بيدي وزوجتهم وانتقيت الرجال انتقاء، آخذهم من عيال العرب، وأزوجهم حتى صاروا أحسن من أولادي! لكن أولادي تعبت عليهم، ولما كبروا قالوا: نخرج، أين تذهبون؟ قالوا: نحن رجال، لسنا بناتاً تربطنا في البيت؟ طيب، أين تذهبون؟ فذهبوا إلى المخدرات والمقاهي والأرصفة، والفساد والانحراف والجريمة وما استطعت أن أربيهم، قالوا: نحن رجال، لا.
لستم رجالاً، لو أنك رجل لكنت في بيت والدك؛ الرجل هو الذي في بيت والده، فلا يذهب يلعب في المقاهي، والمنكرات، ويقول: أنا رجل ليست هذه هي الرجولة، الرجولة والمروءة في خدمة الوالدين، الرجولة في التمسك بطاعة الله وفي رفع رأس الوالدين.
أما أن تكون رجلاً طويلاً عريضاً لكنك خائب، فليس فيك خير، وأنت قليل دين، تجلس في المقاهي طوال يومك مع قرناء السوء، وتضيع دينك وصلاتك، وتقول لي: رجل؟! لا.
مفاهيم الرجولة ليست هذه -أيها الإخوة- ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت امرأة ومعها بنتان تسأل فلم تجد عندي شيئاً غير تمرةٍ واحدة).
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد.
لا إله إلا الله!! تصوروا الحالة يا إخواني، أكرم بيت على وجه الأرض؛ بيت محمد بن عبد الله ليس فيه إلا تمرة واحدة! تقول: بحثت ولم أجد غير تمرة واحدة، فأعطيتها -تصدقت بها وهي واحدة فقط- قالت: (فأخذتها وشقتها نصفين ثم أعطت كل واحدةٍ منهن نصفاً، ولم تأكل شيئاً، ثم خرجت -قالت عائشة -: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته) تقول: أعلمته أن امرأة جاءت تطلب وما عندها إلا تمرة فأعطتها، وكانت الأم جائعة، لكنها فضلت أن يأكلها بناتها ولا تذوقها هي، فأخبرته فقال صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن؛ كنَّ له ستراً من النار) رواه البخاري ومسلم.
وفي مسلم حديث آخر، يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (من عال جاريتين -أي: من ربى بنتين- حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو هكذا -أي: مثل الإصبعين- وضم بين أصابعه).
من عال جاريتين، أي: من رزق بنتين وعالهما، وكان ملازماً لهما ورباهما وأحسن إليهما؛ جاء يوم القيامة مع النبي صلى الله عليه وسلم.(91/7)
اختيار الاسم الحسن للأبناء
إذا رزقك الله سبحانه وتعالى ولداً أو بنتاً فإنه يستحب للوالد أن يختار لابنه اسماً حسناً، حتى لا يعير بالاسم السيئ، ابحث لولدك أو بنتك عن اسم جيد مثل العرب؛ العرب كانوا يسمون أولادهم أسماء ضخمة، كصخر، وطلحة، وفهد، ونمر، وليث، وسبع، وحنظلة أي: الأسد.
لأن الاسم له دلالة على المسمى، فسم ابنك اسماً طيباً، وأحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن، أو غيرهما من العبودية، عبد العزيز، عبد الخالق، عبد اللطيف، عبد الوهاب، عبد الكريم، عبد الرزاق، أي: اسم تُعبِّد فيه ولدك للرحمن سبحانه وتعالى، وإذا عبدته لله، عبد الله أو عبد الرحمن فهذا أفضل، وإن لم يكن فمن أسماء الأنبياء: محمد، إبراهيم، نوح، موسى، عيسى، إسحاق، آدم، أي اسم.
وإن لم يكن فمن أسماء الصحابة: عمار، مصعب، خالد، صهيب أي اسم من أسماء الصحابة، إذا ذكر اسمه ارتفع رأسك، وحذار من الأسماء التي فيها أنوثة ورخاوة، فإنها تبعث على الرخاوة، لا تجعل لولدك إلا اسماً قوياً.
أحد الأعراب كان في البادية يمشي على حصانه، فرأى في وسط الصحراء بيتاً بدوياً، فمر بالبيت ونادى من على الباب، فخرجت عليه تلك المرأة الجميلة، فأغواه الشيطان ودخل عليها وكأنه راودها، قالت: انتظر، وخرجت فوق مرتفع تنادي، قالت: يا ليث! يا فهد! يا نمر! يا ذئب! يقول: وما أكملت الكلام إلا وأربعة شباب كل واحد منهم على حصانه مثل الأسود: نعم.
نعم.
نعم.
قالت: هذا ضيفكم غدوه وأحسنوا قراه وإذا بهم عيال هذه المرأة، كان كل واحد في عمل.
ولكن عندما سمعوا نداء أمهم جاءوا، فذبحوا له وغدوه ومشى، وحين خرج من عندهم قال: والله ما أظن هذا الوادي إلا وادي السباع، يقول: هذا الوادي ليس فيه ناس وإنما فيه سباع؛ وهم الرجال الذين قابلوه، وهذا شأن العرب فقد كانوا يسمون الأسماء القوية، وكانوا يسمون الأسماء التي فيها الحنان للموالي والعبيد عندهم، يسمونهم: مبروك، مبخوت، يقولون: إذا سمينا أولادنا قسونا، وإذا سمينا موالينا ترققنا؛ لأنه للخدمة، فكيف بمن يسمي أولاده في هذا الزمان بأسماء مثل: سوسو، نونو، حوحو، حلال، دلال، طلال ما شاء الله، كيف سيكون هذا الولد إذا كان اسمه مثل اسم الجن والعياذ بالله؟ ويحرم تسمية الإنسان باسمٍ معبد لغير الله، كمن يسمي عبد الرسول أو عبد النبي، فلا يجوز، فالعبودية لله، كما يحرم التسمية بأسماء النصارى، مثل: بطرس، وجرجس، وديانا، وسوزان، ونارمين، ودارين، وشيرين، وجيهين، وخذ من هذه الأسماء ولا حول ولا قوة إلا بالله! كما يحرم التسمية بأسماء الشيطان، مثل: خنزب، وإبليس، وولهان، ويكره كراهية تسمية البنات بالأسماء التي تثير الشهوة وتشبق بهن؛ لأن الاسم يلفت النظر مثل: عبير وشادية وفاتن كذلك لا ينبغي تسمية الأولاد بأسماء الحيوانات كمن يسمي ولده حنشاً، أو كلباً، أو قطاً، أو قرداً أما من يسمي أولاده بأسماء السباع فلا بأس؛ لأنها فخر أن يقال لك: يا ذئب! أو يا نمر! أو يا فهد! أو يا ليث؛ لأن هذه من الحيوانات الشجاعة المفترسة، أما الحيوانات المبتذلة النجسة كالكلاب والقردة فهذه لا ينبغي التسمية بها.
إذا جاء الولد وسُمي، فإنه يؤذن في أذنه ويقام في الأخرى، ويعق عنه في اليوم السابع، ويحلق رأسه ويتصدق بوزن الشعر ورقاً بما قيمته (50) ريالاً، ثم يعق ويذبح عن الولد شاتان وعن البنت شاة، ويجوز عن الولد شاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين شاةً شاةً.
والعقيقة حكمها حكم الأضحية من جهة شروطها، يجب أن تكون سليمة من العيوب، وتُذبح وتُقسم ثلاثة أقسام: قسمٌ يؤكل، وقسم يهدى، وقسم يتصدق به على الفقراء؛ لأنها عبادة ونسك ولا ينبغي التهاون في ذلك، ثم بعد ذلك إذا بدأ الصغير ينطق فإنه يبدأ بتعليمه لا إله إلا الله؛ لأنه يبدأ الغلام ينطق وعمره سنتان، يقول: ماما، بابا، علمه أن يقول: لا إله إلا الله، الله أكبر، باسم الله، علمه ولو لم يعلم بعد، مرة مرتين ثلاث أربع فما يصير عمره ثلاث سنوات إلا وهو يقول: لا إله إلا الله، لكن بعضهم يعلمه اللعن، والسب وما زال صغيراً، وإذا سب أو لعن قال: هذا صغير هذه جميلة من فمه، إذا قال: منعون يا بابا، يقول: جميل، هذه حلوة، ومنعون تكبر وتصبح ملعوناً إذا كبر الابن، لا فأنت علمه الآداب ولو كان صغيراً.(91/8)
الرحمة والشفقة بالأبناء
من أسس التربية: الرحمة والشفقة وزرع ذلك في الأسرة، ليس من الإسلام الغلظة ولا الشدة، ولا العبوس والاكفهرار دائماً في البيت، لا بد من اللين، لا بد من إيجاد رابطة بينك وبين أولادك، حتى يحبوك ويألفوك ويشتاقوا إليك وينتظروا الساعة التي تدخل فيها البيت، إذا دخلت فاحمل الصغير وداعب الكبير، واسأل عن ذاك، وخذ ذاك، وضم هذا نوِّع من المداعبة، قبِّل هذا؛ لأن هذا من السنة.
ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قبَّل الحسن والحسين، وكان عنده رجل من العرب اسمه الأقرع بن حابس، انظر الأسماء، وصحابي آخر اسمه القعقاع بن عمرو، طلب أحد قادة الجيوش مدداً من عمر بن الخطاب فأرسل القعقاع وحده، قال: إنك طلبتني مدداً فأرسلت إليك القعقاع وهو يعدل ألفاً، وإن جيشاً فيه القعقاع لا يهزم، اسمه فقط يقعقع قلوب الرجال، القعقاع بن عمرو، وهذا اسمه الأقرع بن حابس من رجال العرب ومن دهاتهم، فقال الرجل لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقبل: (أتقبلون صبيانكم؟ قال: نعم، قال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من لا يَرحم لا يُرحم).
إذا لم تقبل أولادك فمن يقبلهم؟ هل تريد أن يأتي شخص من الشارع يدق الباب ويسلم عليهم غيرك؟! قبِّل أولادك؛ لأن الرحمة واللين والعطف من أهم عوامل التربية، ولكن لا يعني هذا -أيها الإخوة- ألا يكون للرجل جانب حزم وهيبة ومكانة في قلوب أهله، يجب أن يجمع الإنسان بين اللين والحزم، فيشد ويحزم ولكن من غير عنف، ويلين ويهون ولكن من غير ضعف؛ إذا رأى الحق لان، وإذا رأى الخطأ أو الباطل حزم، هذا هو المنطق الشرعي في تربية الأولاد.(91/9)
حماية الأبناء من أوقات انتشار شياطين الإنس والجن
من الشرور التي تفتك بالأولاد، والتي حذر منها الشرع: أذية الشياطين التي تنتشر مع المغرب، وقد جاء التوجيه النبوي بكف الأولاد والصبيان عن الانتشار وإدخالهم ساعة غروب الشمس، فلا تدع الأولاد في الشارع، لماذا؟ قال: لأنها ساعة انتشار الشياطين.
وأولى من هذا أيضاً حمايتهم من انتشار شياطين الإنس، وانتشار شياطين الإنس بعد العشاء، إذا رقد الناس خرجت شياطين الإنس: ماذا تريد؟ قال: والله أريد أن أغير الجو، وخرج يتمشى على سيارته أو يفحط، أو يجلس في زاوية أو قهوة، ويأخذ واحداً من الصغار الأبرياء، ويعلمه الفساد وقلة الدين، فاحذر على ولدك، لا ينتشر بعد المغرب لملاقاة شياطين الجن، ولا يخرج بعد العشاء لملاقاة شياطين الإنس، اجعل ولدك معك في بيتك.(91/10)
إدخال السرور على الأولاد
أيضاً من عوامل التربية: إدخال السرور والعطف على قلوب الأولاد ومداعبتهم، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج لسانه للحسن، فيرى الصبي حمرة لسان النبي صلى الله عليه وسلم فيهش له، هذا ذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة.
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل علينا ولي أخ صغير يكنى أبا عمير وله طائر يلعب به، فمات الطائر، فدخل النبي يوماً فرأى الولد حزيناً، فقال: ما شأنه؟ قالوا: مات نغره -أي: طيره- قال: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟) يسليه ويداعبه صلى الله عليه وسلم.
وقد أخرج الترمذي والنسائي وصححه الحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوماً إلى صلاة الظهر أو العصر ومعه الحسن، فتقدم ووضعه عند قدمه اليمنى، ثم كبر للصلاة ولما سجد امتطى ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، فأطال السجود حتى همَّ القوم بالتسبيح، لكنهم ما كانوا ليسبحوا خشية أن يكون أوحي إليه بشرع جديد، فلما انتهت الصلاة قال: (إن ابني هذا ارتحلني -أي: ركب على ظهري- فكرهت أن أزعجه حتى نزل).
اللهم صلِّ وسلم على رسول الله، انظروا رحمة الرسول بالأطفال! يركب على ظهر الرسول ولا ينزله حتى ينزل، كيف وضعنا الآن في الصلاة، بعضنا إذا صلى ومر ولده أمامه ضربه على وجهه، فينظر الصغير في أبيه لماذا ضربتني؟! من أجل أنك تصلي، إذاً: لا أحب هذه الصلاة، فتنشأ في نفس الولد هذا عقدة ضد الصلاة بسبب ضربك له، بينما الرسول يركب على ظهره وهو إمام وما أنزله أين أنت من هذا يا أخي في الله؟! وكذلك بعض النساء إذا أتت لتصلي وسمعت أولادها يبكون لا تنتبه، ومن السنة أنها إذا كانت تصلي وسمعت أولادها يبكون تأخذهم، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالناس إذا سمع بكاء الصبي عجل بالصلاة وخفف، لما يسمع من بكاء الصبي صلى الله عليه وسلم.(91/11)
تعليمهم الآداب ولو كانوا صغاراً
من السنة تعليم الطفل الآداب ولو كان صغيراً، ففي الحديث في البخاري ومسلم عن عمرو بن سلمة أنه قال: (كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم فجعلت يدي تطيش في الصحفة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا غلام! سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك).(91/12)
الحرص على تعليمهم الأعمال الصالحة
هذه الآداب الثلاثة: سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك، هذا هو أدب الرسول صلى الله عليه وسلم.
من أهم أسس التربية: الحرص على إلزام الأولاد بأداء الصلاة؛ من السن الشرعي وهو السابعة، يقول عليه الصلاة والسلام: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) وبالرغم من أن الطفل في السابعة ليس بمكلف، ولا يلزمه تكليف شرعي؛ لأنه لم يبلغ سِنَّ الرشد، لكن الشرع يعمل على تربيته وتدريبه من السابعة حتى إذا بلغ سن الرشد، كان جاهزاً مدرباً على أداء الصلاة.
وهذا يجب أن يكون موضع اهتمام الآباء والأمهات؛ لأن أمر الصلاة أمر هام، وهي ملازمة للإنسان مدى حياته، فإذا نشأ وهو لا يصلي ثم بلغ سن الرشد، وما درب عليها من الصغر فإنه يصعب عليه أن يصلي، ولهذا نجد بعض الآباء الآن يشكو من ولده، يقول: ولدي أصبح رجلاً وهو لا يصلي! ولو بحثنا في الأسباب لوجدنا أنه يوم كان صغيراً ما كان يأمره، كان يقول: حتى يكبر خالف المنهج النبوي! أما الذين التزموا بالسنة وألزموا أولادهم بالصلاة في الصغر فلم يجدوا صعوبة؛ لأنهم كبروا وهم يصلون، حتى لو جاءه شيء من الانحراف لكنه لا يترك الصلاة، لماذا؟ لأنه تعودها وسيجد صعوبة في السنة السابعة أو الثامنة، أو التاسعة أو العاشرة ويجد صعوبة، لكنها تصبح طبيعة له، وعادة لا يستطيع أن يتركها، فهذا مهم ويجب أن نؤكد عليه أيها الإخوة!(91/13)
العدل بين الأولاد في العطية والتعامل
من أسس التربية: العدل والتسوية في العطية والتعامل بين الأولاد؛ لأنك إذا جُرت فإنك تحمل هذا الذي ظلمته على عقوقك، ففي الصحيحين أن والد النعمان بن بشير جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يريد أن يشهده على عطية أعطاها لبعض ولده، فقال: (يا بشير! أكل بنيك أعطيت مثل هذا؟ قال: لا، قال: اذهب فأشهد غيري فإني لا أشهد على زور) هذا زور؛ أن تعطي ولدك وتترك الثاني، حتى لو كان ولدك الثاني لا يقدم لك خدمة ولا يبرَّك ولا يحسن إليك، فلا ينبغي أن تعاقب العاق بحرمانه من حقه، لا.
فالذي يعاقبه هو الله، أما أنت فتعطيه حقه الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى له، وإذا وهبت واحداً منهم دون الآخر فقد ظلمت وجرت، وهذا مما يسبب لك سوء الخاتمة، والعياذ بالله.
قد يلاحظ الإنسان على بعض أولاده شيئاً من الأخطاء، مما لا يرتاح له، فلا ينبغي للإنسان أن يثور وينفعل ويتأثر ويدعو على ولده، كما يفعل بعض الناس، بل عليه أن يصبر ويتحمل ويغض الطرف ويدعو للولد بالهداية؛ لأن في الحديث عند مسلم عن جابر رضي الله عنه قال فيه عليه الصلاة والسلام: (لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، فتوافقوا ساعة يُسأل فيها الله فيستجيب لكم).
لا تدع، بل لا تقل: الله يهلكك الله يجعلها في وجهك الله ينتقم منك، وأنت كاذب غير صادق، وما تريد أن يهلكه الله، ولا أن ينتقم منه، بل قل: الله يهديك الله يصلحك الله يوفقك يا ولدي! الكلمة الطيبة أحسن من الكلمات الباطلة؛ لأنك قد تقول هذه الكلمة وأنت لا تقصدها، فقط تريد أن ما في قلبك، لكن الله ليس على ما تريد، قد تقولها وتخرج مباشرة.
يخبرني أحد الناس في قصة له: عنده ولد يدرس في الجامعة، والولد هذا صالح ملتزم متدين مبارك، ومن أحسن الشباب، ولكن سبحان الله! يقول: نحن نائمون، وإذا به يأتي، يقول: يا أبي! قال: نعم، قال: أنا تعبت من المذاكرة وأريد أن أخرج وأعمل جولة بالسيارة ثم أرجع، قلت له: يا ولدي! لا تخرج الله يهديك؛ الناس الآن نائمون، وأنت لابس ثوب نومك الآن، لماذا تريد الخروج؟ قال: فقلت له: لا.
يقول: فما راجعني.
الولد بار وطيب، فذهب ولكن عندما رجع رأته أمه، قالت: ماذا بك؟ قال: طلبت من أبي أن أخرج لأروج عن نفسي فرفض، قالت له: اصبر، أنا أجعله يوافق، طبعاً الأم لها ضغط، فدخلت الأم وكلمت الأب، وقالت له: ولدنا طيب، وفيه خير، وأنت دائماً تعقده، دعه يخرج ليغير جو المذاكرة ويرجع الآن، ولا زالت تضغط عليه حتى وافق، قال: فليذهب (الله لا يرده) يقول: قلتها والله وما أنا صادق، وبودي أن الشوكة التي تدوسها رجله تدخل عيني، لكن يقول من إحراجها لي، ومن إحراجه هو لأمه جاءني غضب شيطاني.
قلت: فليذهب (الله لا يرده) يقول: وكأنها خرجت من فمي وباب السماء مفتوح، وراح الولد وجلسنا ننتظر ساعة -هو قال: نصف ساعة- ونحن ننتظر ساعتين ثلاث ساعات أذن الفجر وما أتى الولد، يقول: انطعن في قلبي مثل الرمح وعلمت أنها الدعوة، ويقول: أخرج أصلي الفجر وأرجع البيت، أسأل: جاء؟ قالت الأم: ما جاء، يقول: ذهبت للشرطة، أبلغ: ولدي خرج وإلى الآن ما عاد، هل عندكم علم؟ قالوا: لا علم لنا، اتصلوا بالأجهزة، قالوا: يوجد حوادث مرورية، ووفيات في المستشفى، يقول: ذهبت إلى المستشفى، فتحوا الثلاجة وإذا بابني بثوب النوم آخر واحد عند باب الثلاجة، حصل له حادث مروري في منعطف وهو راجع، يقول: فأخذت الولد وأخرجناه ودفناه، ولكني عرفت أنني أنا الذي قتلت ولدي! أنا الذي دعوت عليه واستجيبت! يقول: فإن أندم على شيء في حياتي فعلى تلك الكلمة! فانتبه يا أخي، لا تقل: الله يهلكك، لا تقل: الله يجعلها في وجهك الله لا يردك لا.
بل قل: الله يردك الله يهديك الله يصلحك الله يوفقك، والكلمة واحدة تريدها حسنة أو سيئة، لكن الحسنة أحسن من السيئة.
والبعض منا يلفت نظري إلى أن هذا الأسلوب ربما يكون أكثر عند النساء وهو حق؛ لأن بعض النساء ما تتورع في الدعاء، تدعو على ولدها، أو زوجها، أو دابتها، أو خادمتها، أو تدعو على كل شيء بل بعض النساء تدعو على لقمتها إذا وقفت في حلقها، قالت: (الله يجعلك بلاء) -والعياذ بالله- ما يسلم منها أحد، فلا تدعي أبداً على شيء، وادعي الله بالصلاح وليس بالدمار، والعياذ بالله.(91/14)
عدم التناقض والازدواجية في توجيه الأبناء
آخر شيء أيها الإخوة -وأختصر باعتبار أن الوقت انتهى- أركز عليه هو: أنه لا ينبغي أن يكون هناك تناقض وازدواجية في التوجيهات التي توجه إلى الولد من الأم والأب، لا بد أن يكون هناك نوع من التوافق، فإذا قال الأب أمراً فيجب أن توافقه الأم في الحق، أما إذا قالت الأم أمراً ثم عاكسها الأب، أو قال الأب أمراً ثم عاكسته الأم، أو الأب مدرس يربي في المدرسة ويخالفه في البيت، فيحصل للولد نوع من التذبذب، ونوع من الخلل في التفكير؛ لأنه لا يفرق بين الصحيح والغلط؛ أبوه يأمره بكذا، وأمه تأمره بكذا، المدرس يقول له: كذا، والشارع يقول له: كذا.
فيحصل عنده نوع من التردد، وهذا يؤدي إلى التأثير على نشأته، ويحصل له بسببه بلبلة واضطراب في نفسيته، وبالتالي ينشأ مهزوزاً غير واثق مما يُلقى عليه، لا بد أن يحصل هناك تكامل وتوافق وعدم اختلاف، أو ازدواجية في التوجيهات والتعليمات التي توجه إلى هؤلاء الأولاد.(91/15)
الاستمرار في الدعاء لهم
من أهم الأشياء التي نختم بها المجلس -أيها الإخوة- هو: الدعاء دائماً باستمرار، خاصة من يحتاج من أولادك إلى نصيحة أو دعوة فخصه، اللهم اهد فلاناً في صلاتك وفي كل مكان، اللهم اهد فلاناً، بل خصه بدعوة باسمه، اللهم اهد أحمد، اللهم اهد محمداً، اللهم اهد عبد الله، لعل الله سبحانه وتعالى في لحظة من اللحظات يستجيب الدعاء ويقبل الله دعوتك ويهدي ولدك.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يهب لنا من أولادنا وذرياتنا قرة أعين، وأن يصلح لنا جميعاً الأبناء والبنات والزوجات، وأن يجعلهم قرة أعينٍ لنا في الدنيا والآخرة، كما نسأله سبحانه وتعالى أن ينصر دينه، وأن يُعلي كلمته، وأن يُبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ يعز فيه أهل الطاعة، ويُذل فيه أهل المعصية، ويُؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر، إنه سميع الدعاء.
كما نسأله سبحانه وتعالى أن يوفق ولاة أمورنا وعلماءنا ودعاتنا، وشبابنا وشاباتنا، وبناتنا ورجالنا ونساءنا، وجميع المسلمين إلى خدمة هذا الدين والدعوة إليه، والحماية له والذود عنه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(91/16)
الأسئلة(91/17)
نصيحة للعابثين بالممتلكات العامة
السؤال
تعلمون حفظكم الله أن الحكومة وفقها الله تعالى تنفق الأموال الطائلة على هذه المدينة السكنية وعلى غيرها، وهناك أطفال بل شباب يعبثون بهذه الممتلكات من تكسير للإنارة، وتخريبٍ في دورات المياه التابعة للمساجد والمرافق العامة، وكتابة على الجدران بكلام لا يليق بالمسلم، علماً بأن هؤلاء الشباب من الساكنين في هذه المدينة، فما توجيهكم لآباء هؤلاء الشباب، أفيدونا مأجورين؟
الجواب
من أسوأ ما يمكن -أيها الإخوة- وقوع مثل هذه التصرفات؛ لأنها تدل على تقصير من قبل الآباء في تربية أبنائهم، وعلى انحراف وشذوذ وسوء خلق من قبل الشباب أو الأطفال الذين يمارسون هذا العمل؛ لأن الأموال والمقدرات العامة التي تختص بعموم المسلمين من واجب المسلم أن يحافظ عليها؛ لأن محافظتك عليها محافظة على الحق العام.
ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم إبعاد الأذى عن الطريق صدقة؛ لأن الطريق ملك للجميع، فلا ينبغي لك أن تضع الأذى فيه، أو أن تقصر على نفسك فتترك الأذى فيه، بل احمله وارفعه؛ لأنه من الإيمان، وفي مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم ويوجه: (اتقوا اللعانين، قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟! قال: التخلي في طريق الناس وظلهم) أي: يذهب -الله يكرمكم- ويقضي حاجته تحت ظل شجرة، والشجرة هذه يجلس الناس تحتها، فيقضي حاجته تحتها، فإذا جاء من يريد أن يجلس، ماذا يصنع؟ يلعن، يقول: الله يلعن من فعل هذا، فالرسول يقول: (اتقوا اللعانين) أي: المكان الذي يؤدي إلى لعنكم، أو الطريق، فيكون الطريق نظيفاً وإذا بك تقع رجلك في النجاسة، فعندما تشعر به تقول: الله يلعن من فعلها، فاتقِ اللعانين.
كذلك لما يأتي طفل صغير طائش ويعمل له من هذه (المناطيب) ويأتي يصيد الإنارة أما يراه الناس؟! بعض الناس يراه، لكن يقول: هذا لا يتعلق بي، هذا حق الحكومة، لا يا أخي الكريم، يجب أن تكون عيناً للدولة على هذه المقدرات؛ أي طفل تراه أمسكه ولا تسلمه إلا للإدارة، دعه يُسجن ويُضرب على يده، ويحمل والده، حتى نحفظ هذا الحق، نحن في نعمة ما فيها أحد يا إخوان! يجب أن نشكر الله عليها، انظروا إلى تحتكم وفوقكم وكل الدنيا، لا يوجد أحد له مثلما أنتم فيه من الأمن بالأوطان، والعافية في الأبدان، والأرزاق، والرواتب والخيرات فنحمد الله عليها يا إخوان! ونسأل الله أن يزيدها ولا ينقصها، ولكن إذا فرطنا فيها وضيعناها وضيعنا أولادنا وكسرنا ممتلكات الحكومة، إلى متى والحكومة تصلح ما تخربه أنت؟ فلا يجوز أيها الإخوة؛ لأن هذا من سوء التربية، والعياذ بالله.(91/18)
تعهد الآباء لأبنائهم برفقة من الصالحين
السؤال
كثير من الآباء هداهم الله لا يبحث لابنه عن صحبة صالحة تعينه على توجيه أبنائه، ويصف أبناءه الذين يذهبون إلى أولئك الصالحين بالتطرف والتشدد، فما توجيهكم لهذا النوع من الآباء هداهم الله؟
الجواب
أولاً: أسأل الله سبحانه وتعالى أن يظلنا جميعاً في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، بالحب فيه والبغض فيه؛ لأن الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان.
أما مسألة الرفيق، فإن الرفيق والزميل له تأثيره البالغ على نشأة الولد، وتوجيهاتك أيها الأب للولد خاصة إذا تجاوز الخامسة عشرة والسادسة عشرة تقابل بعدم الرضا والقبول، ويتقبلها الشاب بشيءٍ من عدم الانصياع، ولذا أفضل الأشياء أن تسلط عليه من تثق فيه من الإخوان في الله من الطيبين، تقول: أريد ولدي أن يأتي معكم، اربطوا معه علاقة، فيأتون إليه ويأخذونه، ويذهب معهم، ويجالسهم حتى يتأثر بهم.
لكن الأخ الآن كأنه يشكو من أمر مناقض وهو أن بعض الآباء إذا رأى ولده مع الطيبين يقول: لا تذهب مع فلان وفلان وفلان؛ هؤلاء متشددون، ما معنى متشددون؟ الحمد لله، ما عندنا تشدد، الالتزام والصحوة في بلادنا منضبطة، ما عندنا تطرف ولا انحراف، كل شباب الصحوة والحمد لله ملتزمون بالجادة؛ لأنهم مرتبطون بالعلماء.
وإذا أشكل على الواحد شيء ذهب يسأل، والعلماء عندنا والحمد لله موضع ثقة، نثق في علمائنا ونأخذ ديننا منهم؛ لأنهم مبلغون عن الله، وهم ورثة الأنبياء، وهم موقعون لأحكام الشرع، فالصحوة في بلادنا منضبطة، وليس عندنا غلو ولا تطرف، والحمد لله.
وما قد يظهر من نماذج نادرة لا يعني أنها صفة ظاهرة، وأنها صفة غالبة على شبابنا، فلماذا تحرص على ألا يذهب ولدك مع الطيبين؟ أنت كأنك بهذا تقطع الطريق على ولدك، فلا يذهب مع أهل الخير، إذاً يذهب مع السيئين، وغداً يصبح مع المخدرات، وأنت بنفسك أهلكت نفسك وولدك، فدعه يذهب مع أهل الخير، ولن يجد منهم إلا خيراً بإذن الله.(91/19)
حكم مشاهدة الأفلام والمسلسلات
السؤال
هناك بعض الناس يشاهدون التمثيليات والمسلسلات على تلك الشاشات، فما توجيهكم لأولئكم القوم؟ وهل يجوز للنساء مشاهدة ذلك؟
الجواب
التمثيليات والمسلسلات من أخطر وسائل التربية على النساء والأولاد والبنات؛ لأنها دروس عملية، تعلم الأخلاق والآداب والتصرفات والعقائد والدين، وهؤلاء الممثلون الذين يؤدون هذه الأدوار كلهم ممن لا خلاق لهم في دين الله سبحانه وتعالى.
فلا ينبغي أن يكون هؤلاء هم قدوتك، بحيث لا تأخذ أخلاقك إلا منهم؛ لأنها تتأثر العيون والقلوب بما ترى من هذه الأشياء، بل ينبغي مقاطعتها، وعدم استماعها فهي أخطر على دين العبد من الغناء، فالغناء يفسد عليك القرآن ويفسد عليك الأخلاق، لكن هذه تفسد كل شيء.
ثم إن هذه المسلسلات والأفلام لا تعبر عن الحقيقة فهي كذب، هي روايات يكتبها رجل مسرحي كذاب، ثم يدعو له عشرين أو ثلاثين كذاباً يمثلون هذه الكذبة، ثم يسجلونها في أستديو، ثم يعلنونها للناس، ويعيش الناس على الكذب.
وبعض الناس يذهب إلى بيته وإذا بزوجته تبكي: ماذا بك؟ قالت: النهاية الحزينة؟! ووالله لا يوجد نهاية مرة ولا حزينة، فهو كذب في كذب! فلا تعش على الكذب والخزعبلات، وكن رجلاً لا تسمع إلا الخير والحق.
أما أن تقول: نقضي وقتنا معها، وما عندي وقت، لكن يوجد وقت بما هو أفيد لك من هذا، وخصوصاً النساء، بعض النساء -والعياذ بالله- ثقافتها كلها ثقافة مسلسلات وأفلام، حتى تعلم النساء من الأفلام والمسلسلات ما لم تعرف في الماضي، فالمرأة تكلم زوجها وتقول له: كذا، تجعله وراءها أعطي لنا لحم اليوم، من أين جئتِ بهذه الكلمات؟ من المسلسل!! كانت في الماضي تقول له: أعطنا معك لحمة، وتكلمه من صميمها ومن مسمعها، أما اليوم فقد تعلمت على الممثلات.(91/20)
مدة تربية الآباء للأبناء
السؤال
متى تنتهي مهمة الآباء تجاه الأبناء نحو إرشادهم وتوجيههم؟ هل تنتهي بعمرٍ معين، أم ماذا؟
الجواب
لا تنتهي المسئولية حتى تموت، ولكنها تتدرج، يقول أحد المربين: داعب ولدك سبعاً، وأدبه سبعاً -من سبع إلى الرابعة عشرة شد عليه- وآخه سبعاً، من الرابعة عشرة إلى واحد وعشرين آخه، أي: عامله معاملة الإخوة، وبعد واحد وعشرين راقبه، فما بقي من عمرك.
وأما الوصية التي يقولها بعض الناس: ثم ألقِ له الحبل على الغارب! فهي غير صحيحة، فهو ليس حماراً تلقي حبله على غاربه.
وإنما: وراقبه ما بقي.
ما بقي من العمر بعد الواحد والعشرين راقبه ووجهه وادع له، ولكن عليك أن تراعي مشاعره؛ لأنه رجل، وأكرمه إذا رأيت منه جوانب حسنة، وأيضاً اغضب عليه إذا رأيت منه جوانب نقص، فيراه في وجهك، ومن يوم أن يرى أنه قصر أشعره بالصدود عنه قليلاً؛ لأنه يحس.
أراك يا أبي غضبان نعم غضبان، لماذا لم تصلِّ اليوم في المسجد؟ لكن إذا صلى معك الفجر، ولقيته: السلام عليكم! الله يوفقك ويحفظك والله يا ولدي أنا راحتي عندما أراك تصلي معي، وأنت تعلم أن صلاتك لك، لكن أريد لك الخير، أنت قطعة مني؛ لكن بعض الناس عنيف مع أولاده، إذا جاء ليوقظ ابنه من النوم، قال: قم قم قم الله يجعلها في وجهك يا حمار! ويركله في رجله، ويضربه في رأسه، بالله كيف يصلي هذا؟! يصلي وهو حمار، يصلي وأنت تدعو عليه أن الله لا يوفقه، فهذا إذا قام يصلي يروح في الحمام ويمكث ساعة حتى ترجع من المسجد وهو لا زال في الحمام، ولا يخرج، يقعد في الباب ويقول: صليت، لكنك إذا جئت توقظه: فلان! فلان! الله يهديك الله يرزقك الله يحفظك قم الله يوفقك، فينشط حتى ولو كان كسلان.(91/21)
التواكل في التربية
السؤال
هل لكم من توجيه فيمن يقول: إن كان حظي طيباً أصلح الله لي ذريتي، وإن كان حظي سيئاً أصبحوا فاسدين وأهمل الأسباب؟
الجواب
هذا من التواكل، ففي الحديث الذي في السنن أنه جاء رجل إلى الرسول، وقال: (يا رسول الله! أطلق ناقتي وأتوكل، أم أعقلها وأتوكل؟ قال: اعقلها وتوكل) وأنت ربِ أولادك على الخير، واسأل ربك أن يجعل حظك جيداً معهم، أما أن تهملهم وتقول: حظي سيئ، فلا، حظك سيئ؛ لأنك أنت سيئ، ما عرفت كيف تسير مع الرجال.(91/22)
مسألة: قول القائل: أتزوج غير ملتزمة لتلتزم على يدي
السؤال
ما رأي فضيلتكم فيمن يقول: أتزوج امرأة غير ملتزمة وغير مستقيمة، وتلتزم على يدي وتستقيم بإذن الله فيما بعد؟
الجواب
هذه مجازفة، والقضايا المصيرية لا ينبغي المجازفة فيها، فإنك تقول: يمكن تلتزم، لكن هناك الاحتمال الثاني، وهو أنها ربما لا تلتزم، ماذا تعمل وقد رزقت منها الذرية، فتبقى غصة في حلقك حتى تموت؟! ولهذا: الغلطة في المرأة من أسوأ ما يمكن، يقال: ثلاثة لا تخطئ فيهن: الخطأ في اختيار المرأة، والخطأ في البيت، فلو فصلت لك عمارة لا تغلط؛ لأنها أمام عينك، والثالثة نسيتها.
إبراهيم لما جاء إلى إسماعيل في مكة فما وجده، قال لامرأته: كيف أنتم؟ قالت: في شر حال، وهم كانوا في أحسن حال؛ لكنها شريرة -والعياذ بالله- منظارها في الحياة أسود، وهم كانوا في خير ونعمة، لكن نظرتها سوداء، قالت: نحن في أبأس حال، قال: إذا جاء إسماعيل فسلمي عليه وقولي له: أن يغير عتبة بيته.
وحين جاء قالت: جاءنا شيخ ثم وصفته له، وقال لك: غير عتبة بيتك، قال: أنت طالق بالثلاث أنت عتبة البيت، وبعد سنوات تزوج إسماعيل، وجاء إبراهيم مرة أخرى، فلم يجد إسماعيل، وقد كان مسافراً للصيد، قال: كيف أنتم؟ وكانوا في سنةٍ قاحلة وشديدة، لكن المرأة طيبة وفيها خير، قالت: نحن في أحسن حال، والحمد لله على كل حال، قال: قولي له إذا جاء: أن يثبت عتبة الدار.
بعض النساء لو ما عندها في بيتها لقمة وجاء زوجها وسأل: عندكم شيء؟ قالت: الخير كثير والحمد لله، ولو ما عندها شيء، وبعضهم لو كل شيء موجود وجاء زوجها بضيف واحد، قالت: لماذا تأتي به؟ ولماذا ما أخبرتنا؟ والله ما عندنا شيء، وتقوم ترمي الطعام في القمامة وتجعله يذهب ويشتري من المطعم فهذه شريرة، والعياذ بالله.
فالمرأة ينبغي أن لا تجازف في قضية اختيارها، اعقل وتوكل، ابحث لك عن صاحبة دين تسلم، إنما تأخذ واحدة على أمل أنك تهديها فهذا من المجازفة، إلا أن بعض أهل العلم يقول: إذا وجدت امرأة تظهر رغبتها في أن تلتصق برجل صاحب دين، وأنها مستعدة لأن تخضع لجميع أوامر الشرع، وأنها تائبة إلى الله، فهذا لا بأس، لماذا؟ لأنها أعلنت التوبة وأعلنت الرغبة في الاستقامة، أما واحدة تعرف أنها فاسدة من أول نظرة وتقول: سأهديها، فهذه مجازفة.(91/23)
هل لحياتنا معنى؟
إن الله خلقنا لهدف، ونحن لا نعرفه لأننا لم نخلق أنفسنا، والذي يخبرنا بالحكمة من خلقنا هو خالقنا سبحانه، وقد ذكر الله هذه الحكمة في كتابه الكريم؛ فقال جل وعلا: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ).
وفي هذه المادة يتحدث الشيخ عن الغاية من الخلق، والهدف من الحياة، متحدثاً عن أجزاء الإنسان: الجسد، النفس، العقل، القلب، وذاكراً بعض الأمراض التي تصيب النفس البشرية: كالشبهة، والشهوة، والغفلة؛ مع بيان خطرها على القلب(92/1)
فضل المساجد وفضل بنائها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله: قبل البدء في المحاضرة أود أن أشير في هذه المناسبة الطيبة التي نصلي فيها في هذا المسجد لأول مرة بذكر لمحةٍ عن فضل بناء المساجد؛ لأنها بيوت الله، ومشاعل النور، ومنطلق الدعوات، ومهابط السكينة، وأماكن الذكر والعبادة، والبقاع الطاهرة التي يحبها الله عز وجل، فهذه البيوت يكفيها شرفاً أن الله أضافها إلى نفسه، فهي بيوت الله عز وجل، أذن أن ترفع، وأن تبجل وتعظم وتقدس وتطهر، وأخبر أنها محطات لتزويد الناس بالإيمان، وذكر في سورة النور بعد أن ذكر أنه نور السماوات والأرض أن هذه الأنور توجد في هذه المساجد، فقال عز وجل: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} [النور:35] أي: في قلب عبده المؤمن: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ} [النور:35] أي: هذا المصباح: {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] نور المشكاة، على نور المصباح، على نور الزجاجة، على نور الزيت الصافي، نور على نور، هذا مثل نور الله في قلب عبده المؤمن، نور الله، مع نور القرآن، مع نور الرسالة، مع نور العبادة، مع أنوار الملائكة: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35].
وكأن سائلاً يسأل ويقول: يا ربِّ أين هذا النور؟ قال بعدها: {فِي بُيُوتٍ} [النور:36] هذه الأنوار في محطات الإيمان والنور: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36 - 38].
فهذا الزيت يوقد من شجرة، أي من زيت شجرة مباركة، وهي شجر الزيتون: {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} يعني الشمس تضربها في الشروق والغروب، وهذا يؤثر على صفاء زيتها، فيأتي زيتها أصفى من الشمس يكاد يضيء: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35].
فهذه المساجد -أيها الإخوة! - يبشر الرسول صلى الله عليه وسلم من وفقه الله لبنائها بالجنة.
ويقول العلماء: إن من بنى مسجداً لله فإنه من المبشرين بالجنة، لحديثٍ في الصحيحين يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله، بنى الله له به بيتاً في الجنة) قال العلماء: لا يمكن أن يبني الله لك بيتاً في الجنة ويدخلك النار، فمعنى أن يبنى لك بيتاً في الجنة أن يدخلك الجنة، وإلا فما قيمة بيت وأنت لا تسكنه؟! وما معنى بيت لا تدخل فيه؟! وقال العلماء: إن هذا من المبشرات بالجنة، لكن بشرط: (يبتغي به وجه الله)، قال العلماء: هذا قيد يخرج به من يبني مسجداً للرياء أو للضرار، أو للمباهاة، لأن هذا لم يُبن لله؛ ولكن من بنى مسجداً خالصاً لوجه الله يبتغي به ما عند الله، بنى الله له به بيتاً في الجنة، فنسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجزي من بنى هذا المسجد خيراً، وأن يجعل له بيتاً في الجنة، هو ومن أعانه، ومن ساهم معه، ومن أشار عليه، ومن جعله باسمه، ومن صلى فيه، ومن عمل فيه صالحاً إلى يوم القيامة فإن فضل الله واسع.(92/2)
الغاية من خلق الإنسان
أيها الإخوة في الله! ما معنى أن يعيش الإنسان؟ وما قيمة حياة الإنسان إذا لم يكن لهذه الحياة غاية وهدف؟ وما غاية الإنسان وهدفه من هذه الحياة؟ لنضع المسألة على طاولة البحث، ونقول: هل هذه غاية أن تأكل، وتشرب، وتتمتع، وتنام، وتنكح، وتصبح، وتمسي، وتتوظف، وتعيش؟ هل خلقك الله لكي تأكل، وتشرب، وتتوظف، وتبني، وتتزوج، وتذهب للعمل، وترجع، وتتمشى، وتسهر، وتنام كما هو برنامج أكثر الناس الآن؟! في الوقت الحاضر أصبحت برامج أكثر الناس لا تتجاوز هذه الأمور، يبدأ برنامجه من الساعة الثامنة -ولا يصلي الفجر- يغسل وجهه، ويركب سيارته، ويذهب إلى العمل، ويفطر أثناء العمل، ويتغدى في البيت، وينام إلى الساعة الخامسة، ويقوم يتمشى إلى المغرب، ومن المغرب إلى العشاء في السوق، ومن العشاء إلى الساعة الثانية عشرة أو الواحدة أو الثانية بعد منتصف الليل يلعب أو يشاهد أفلاماً، أو يطالع قنوات، ثم ينام إلى الساعة السابعة.
هذا برنامج أكثر الناس.
فهل خلقك الله لهذا؟ إننا إذا قلنا: إن الله خلق الإنسان لهذا، فكأننا نقول: إن الإنسان نوع من القطيع الحيواني؛ لأن الحيوانات لا تمارس إلا هذه الأعمال، ويبقى هناك فروق نوعية، يعني: كون الحمار يعيش في (زريبة)، أو البقرة تعيش في حظيرة، وأنت تعيش في عمارة أو شقة، أما الهدف فواحد، أنت تنام وهي تنام أنت تأكل وتشرب وهي تأكل وتشرب، ولا فرق في الأهداف والأفكار والاهتمامات.
لكن ليس هدفك من الحياة أن تعيش لتأكل، ولهذا عاب الله عز وجل على الكفار هذا الهدف، وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} [محمد:12] هؤلاء يأكلون ويتمتعون كالبقر، ثم قال: {وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] ويقول عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].
يا ليت أنهم كالأنعام، فالبقر تذبحه أو تحلبه أو تحرث عليه، والحمار تركب عليه، والجمل تشد على ظهره، لكن العاصي ماذا تعمل به؟ ليس حماراً تركبه، ولا بقرةً تحلبها، ولا جملاً تشد عليه، ليس فيه خير إلا فساد في فساد، قال عز وجل: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] فليست الغاية من خلقك أن تعيش وتأكل وتشرب، وإنما هذه غاية البهائم.
إذاً: ما الغاية؟ بعد النظر والتأمل وجد أن الغاية هو أن يموت الإنسان؛ لأن كل واحد يعيش ولا بد أن يموت، فهل خلقك الله لكي تموت؟ فأنت كنت ميتاً أصلاً، ولو أن الله أوجدك لكي تموت لما خلقك، ولجعلك ميتاً، ولما جعلك تمر عبر هذه الأطوار تسعة أشهر حملاً في بطن أمك، ومعاناة وتعب، ثم وضع في كره وتعب، ثم في تربية ورضاع، ومعاناة، ومكابدة للحياة: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] لكي تموت في النهاية وتنتهي المسألة؟! لا.
هذا عبث، والله منزه عن العبث يقول الله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] أي: أتظنون أن الله خلقكم عبثاً، وأنكم لا ترجعون إلى الله؟! ثم قال عز وجل: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون:116] تعالى الله، وتنزه، وتقدس عن العبث: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116].
ويقول في آية أخرى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص:27] أي: عبثاً {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27]، ويقول عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء:16] لاعبين: أي عابثين.
{لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:17 - 18].
نعم.
ليس لحياتنا معنى -أيها الإخوة! - إذا كنا نظن أننا خلقنا من أجل أن نأكل ونشرب، أو خلقنا من أجل أن نموت.(92/3)
هدفنا في الحياة
من أجل أن يكون لحياتنا معنى، ويكون لوجودنا قيمة، وتكون لحياتنا أهدافاً لا بد من معرفة أمرين رئيسيين: الأمر الأول: أن تعرف -أيها الإنسان! - من أنت.
والأمر الثاني: أن تعرف -أيها الإنسان! - لماذا خلقك الله، وما الغرض من خلقك.
أولاً: تعرف من أنت أصلاً، والمصيبة أيها الإخوة! أن البشرية اليوم رغم التطور العلمي، وثورة المعلومات، وزمن الاتصالات، وتفجير الذرة، والسباحة في الفضاء، والغوص في الماء، وتطويع المادة، إلا أن البشرية لا تعرف من الإنسان إلا جزءاً بسيطاً من أجزائه، تعرف الجسد فقط، وهل الإنسان هو الجسد؟! الإنسان أشياء، والجسد هو أقل أجزاء الإنسان شأناً وقيمةً، ولا قيمة له إذا تجرد عن الأشياء الأخرى الرئيسية فيه، لكن البشرية لا تعرف إلا هذا الجزء البسيط، ولهذا إذا مرض الجسد عالجوه، وإذا عطش سقوه، وإذا جاع أطعموه، وإذا أصابه الحر بردوه، وإذا برد أدفئوه، فالحياة لديهم جسد في جسد، وعنايتهم به فقط.
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتطلب الربح مما فيه خسرانُ
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ
فأنت لن تكتسب إنسانيتك ولا كرامتك من جسدك، ففي البهائم من هو أقوى منك، الأسد أشد عضلات، والجمل أكبر جسماً، والفيل أضخم حجماً من الإنسان.
إذاً أنت لست إنساناً بهذا الجسد، أنت إنسان بأشياء أخرى، ما هي هذه الأشياء؟ لقد جهل الإنسان نفسه، حتى قال الشاعر:
دواؤك فيك وما تبصر وداؤك منك وما تشعر
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
أنت خلق مميز، يقول الله فيك: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأنزل عليك كتبه، وبعث إليك رسله، وأعد لك جنته إن أطعته، وتوعدك بناره إن عصيته، هذه كلها سبل تكريم لك أيها الإنسان! ثم تظن أن الله خلقك لكي تأكل وتشرب، مثل البقرة أو الحمار!! لا.
أنت مخلوقٌ مميز، لكن المصيبة أن الإنسان لا يعرف نفسه.(92/4)
وظائف ومهمات أجزاء الإنسان الرئيسية
أجل.
من هو الإنسان أيها الإخوة؟! وحتى نعرف الإنسان الإنسان مكون من خمسة أجزاء رئيسية:(92/5)
الجسد
الجزء الأول -وهو المعروف عند الناس الجسد-: وهو: عبارة عن هيكل عظمي مربط بعضلات وغضاريف وأعصاب، ومغطى بجلد، ومركب عليه أجهزة: جهاز بصري لرؤية الأجزاء والأجسام، وجهاز سمعي لمعرفة الأصوات، وجهاز تنفسي لاستنشاق الهواء، وجهاز هضمي، وجهاز دموي، وجهاز تناسلي وغيرها.
هذا الذي يسمى الجسد جزء واحد فقط من الأجزاء وهو غير مهم كأهمية بقية الأجزاء؛ لأنه لم يتعلق به ذم ولا مدح في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يأت في القرآن مدح أهل الأجساد بناءً على أجسادهم، لا.
بل جاء الذم، قال الله في سورة المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4] أي: لعنهم الله؛ لأن الذي يهب الأجساد هو الله سبحانه وتعالى، الذي أعطاك الجسد القوي أو الضعيف، الجسد الأبيض أو الأسود، الجسد المتين أو النحيف، الجسد الطويل أو القصير؛ هو الله، فكيف نلومك أو نمدحك أو نذمك أو نثني عليك بشيء ليس منك أصلاً، فالجسد هو من خلق الله، ولم يتعلق به مدح ولا ذم؛ بل يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح من حديثه يقول: (إن الله لا ينظر صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم) ولم يأتِ في القرآن ولا في السنة مدح للجسد إلا في حالة واحدة جاءت تبعاً للعلم والإيمان والدين في سورة البقرة، يقول عز وجل في طالوت: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] فهذا خير أن يعطيك الله علماً وإيماناً مع جسم قوي، لكن الجسم بلا دين ولا إيمان يذم ولا يمدح، فهذه أجسام المنافقين والكفار، وأنتم ترون بعض الكفار فيهم قوة وعضلات، لكن قوة إلى النار، وعضلات إلى جهنم والعياذ بالله، فهذا هو الجسد الجزء الأول من الإنسان، ولسنا أيها الإخوة! بحاجة إلى التطويل فيه فإن الناس يعرفونه ويهتمون به، وبالتالي لا يحتاجون إلى مزيد توصية، لكن التوصية والتأكيد على الأجزاء الأربعة الباقية.(92/6)
الروح
الجزء الثاني من أجزاء الجسد الرئيسية: الروح.
والروح بمنزلة الطاقة المشغلة للجسد، مثل الميكرفون، الميكرفون مكون من أجهزة: لاقط، وعصا، وجهاز (إمبرفاير) و (هورن)، هذا الجهاز يكبر الصوت، لكن الذي يشغله الطاقة الكهربائية، إذا فصلنا الطاقة الكهربائية، هل يشتغل ويكبر الصوت؟ لا.
لأن المشغل له الكهرباء، والجسد المشغل له الروح، إذا فصلنا الروح فهل يشتغل الجسد؟ وإذا مات الإنسان والجهاز السمعي موجود لكنه لا يسمع، والجهاز البصري -عينيه ستة على ستة- موجود لكنه لا يرى، والقلب موجود لكنه لا ينبض، والكلية موجودة لكنها لا تصفي الدم، والرئة موجودة لكن عملية الشهيق والزفير لا تعمل، لماذا كل الأجهزة توقفت؟ لأن الروح معزولة.
إذاً: ما هي الروح؟ قف! إنها شيء استأثر الله بعلمه، وحجبه عن البشر، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل فيها شيئاً، بل لما سأله اليهود عن الروح قال الله له: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85] ولم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في سنته عن شيءٍ من أسرار الروح إلا بخبر واحد وهو أن الميت إذا مات تبعها البصر، ولهذا أي ميت تأتي وتراه بعد الموت ترى عينيه شاخصتين إلى الأعلى، لماذا؟ لأن الروح خرجت وصعدت إلى الله فيتبعه البصر، ولهذا يشرع لمن حضر الميت أن يغمض عينيه؛ لأن عينيه شاخصتان إلى السماء، ولن تغمض إلا إذا أغمضتها أنت؛ لأن المشغل للتغميض خرج.
تساءل من الذي يجعل عينك تغمض كل لحظة؟ ولماذا تغمض عينك كل لحظة؟ لأن عدسة العين عليها غطاء وفيها مادة ملحية، وتتعرض العدسة لعوامل الجو فتنشفها، فلا بد من عملية تمسيح لها، وفي نفس الوقت إعطاءها مسحة من الدمع لكي تظل دائماً مصقولة، فلو أن الله جعل عينك مفتوحة، وجعل عملك أنك تمسح عينك، فلن يكون لديك عمل إلا تمسيحها، كل لحظة تقفل وتمسح، لكن الله ركب لك على عينيك جفنين يعملان تلقائياً (أوتوماتيك)، بل بعضهم يدخل (مباراة) فيمن يفتح عينه لا يغمضها، ويقول: عينك في عيني، لا تغمض، فمن يغمض فعليه كذا! ولن يطبق؛ لأن عينه احتاجت أن يغمض غصباً عنه لكي يمسح العدسة، لكن عندما تموت أنت، وتفتح عينك، وتخرج الروح، فلا توجد روح تطبق جفنيك، بل تحتاج إلى شخص من الموجودين لكي يغمض عينك، ويغلق فمك، لكي لا تبقى فاغر الفم، شاخص العين.
فالروح لا يعرفها أحد، بل استأثر الله بعلمها، وما دمنا لا نعرفها فلا يجوز لنا الخوض فيها، ولو أن الروح شيءٌ مادي يمكن معرفته لكان الناس قد وصلوا إليها، خاصة في هذا العصر -عصر العلم- فعندهم أجهزة دقيقة تكبر الأشياء، وأنا رأيت (مجهراً إلكترونياً) يكبر ثلاثة ملايين مرة، يعني المليمتر الواحد -الذي هو واحد على عشرة من السنتيمتر- يجعله ثلاثة (كيلو).
فلو أن الروح شيء مادي لرأيناها تحت المجهر، لكن اسأل في الشرق، واسأل في الغرب، واسأل في الجامعات عن الروح، الجميع لا يدري.
وقد قرأت قبل فترة بحثاً لعالم أمريكي أجرى أبحاثاً على الروح، ورصد حالة مريض يحتضر وركَّب عليه أجهزة ترصد أي حركة تدخل فيه أو تخرج منه، في صندوق زجاجي، وفجأة يموت الإنسان ولا تسجل جميع الأجهزة شيئاً، بمعنى: أن الروح شيء لا يعرفه البشر، ولا يعلمه إلا الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85].
فعلاقة الروح بالجسد علاقة تشغيل، وتنفصل من الجسد في حالتين: الحالة الأولى: حالة النوم.
الحالة الثانية: حالة الموت.
ففي حالة النوم تنفصل، ولكنه انفصال قريب، وتترك الجسد بدليل أنك لو أتيت إلى النائم ووضعت عند أنفه عطراً هل يشم وهو نائم؟ لا.
وإذا فتحت عينيه ووضعت أمامه منظراً أو يديك وهو نائم هل يراك؟ لا يراك، تتكلمون في المجلس وهو نائم لا يسمعكم، رغم أن الأذن التي تسمع موجودة، والعين التي ترى موجودة، والأنف الذي يشم موجود، لكن الروح التي تجعلك تشم، وترى، وتسمع غير موجودة، أين هي؟! خارج الجسد، قريبة أم بعيدة؟ قريبة، فإذا أردتها أن تعود، توقظه وتقول: يا فلان يا فلان! فيقول: نعم، نعم.
أين كانت؟ لا تدري، أعطه العطر، يشم، ولماذا شم الآن، ولم يشم حال النوم؟ لأن الذي يشم كان غير موجود أين تذهب الروح عندما تنام أنت؟ لا تدري، قال العلماء: تبقى قريباً من الجسد بحيث إذا دعيتها تعود، ولهذا قال الله وهو يسمي النوم وفاة: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر:42] يتوفى الأنفس: أي يميتها، حين موتها: أي: عند الموت.
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث الاستيقاظ من النوم: (إذا قمت تقول: الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور).
لكن لماذا النوم لا يمكن أن يكون إلا بخروج الروح؟ قالوا: لأن الروح راكب، والبدن مركوب، ولا يمكن أن يرتاح المركوب والراكب عليه، فهل يمكن أن ينام حصانك وأنت راكب عليه، طبعاً لا؛ بل لا بد أن تنزل عنه، ولهذا إذا دخلت بيتك الآن وأنت آتٍ من سفر، أو آتٍ من العمل متعب، مثقل، محطم، وقلت لزوجتك: دعوني أنَمْ، لا أريد أكلاً، لا أريد أن أرى أحداً، أريد أن أنام، أريد أن أرتاح فقط، فقالت لك زوجتك: تفضل، ادخل على السرير والمكيف والغرفة هادئة لكن استرح ولا تنم تمدد لكن لا تنم، وكلما غمضت عينك دقت الباب لئلا تنام، ما رأيك هل ترتاح؟ ولو تقعد أربعين ساعة لن ترتاح، لكن نَمْ أربع ساعات -وأنت نائم ينزل الروح الذي هو الراكب- ثم توقظك زوجتك، ستجد أنه قد ارتاح جسدك، تقوم وأنت تقول: ما شاء الله لا إله إلا الله، الحمد لله، أصبح جسمك قوياً، لماذا؟ لأن الراكب نزل، فالله عز وجل يُبعد الروح عن الجسد في النوم لكي يرتاح هذا الجسد.
يا إخوان! النوم آية من آيات الله، يقول الله: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الروم:23] فلو أن النوم غير موجود ما كان الناس ليعيشوا، وتصوروا حالة الطلاب أيام الامتحانات كيف بهم إذا سهروا، وكذلك السائقين أيام المواسم، كيف تتحطم قوتهم؛ لأنه سهران ليلتين أو ثلاث، وبعضهم يتناول هذه الحبوب لكي يسهر ويدمر نفسه لكن الله جعل النوم سباتاً، (سباتاً) أي: قاطعاً لنا من دنيانا لكي ننام حتى نستطيع أن نعيش وأن نواصل السعي في حياتنا ونحن بأجسام طيبة، هذه -أيها الإخوة- هي الروح.(92/7)
النفس
الجزء الثالث من أجزاء الإنسان: النفس.
والنفس يقول العلماء: إنها مستشار أول للقلب، فإذا أراد القلب أن يعمل شيئاً استشارها، فإذا كانت النفس أمارة بالسوء أشارت عليه بالسوء، والنفس في طبيعتها وأصلها أمارة بالسوء، كما قال الله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53] ولهذا مقاييس هذه النفس هي: الشهوات، الملذات، المتع، الراحة، النوم، الفسحة، الرحلة، السهرة، اللعب، هذه كلها تحبها النفس، وهناك أشياء أخرى لا تحبها النفس: القيود، التكاليف، الصلاة، الزكاة، الصيام، قراءة القرآن لا تحبها النفس، مع أن الجهد المبذول في هذه الطاعات بسيط قياساً على الجهد المبذول في تلك الغفلات، لكن النفس هذه طبيعتها، لا تحب هذا، وانظروا الطالب أيام الامتحان يكره الكتاب، ويحب الجرائد بالرغم من أنه ليس عنده امتحان في الجريدة، بل عنده امتحان في الكتاب؛ لكن الكتاب كأنه حيات وعقارب لا يريد أن يراه، وإذا به إذا رأى مجلة أو جريدة قرأها وانبسط معها، لماذا؟ لأن النفس لا تحب القيود، تحب الدعة والانفلات.
فهذه النفس أيها الإخوة! يقول العلماء: إنها هي المجال الأول للإصلاح الإنساني، فالله يقول في كتابه الكريم: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8] أي: كل نفسٍ لديها القدرة على أن تكون تقية أو فاجرة، ثم يأتي دورك أنت في تربية نفسك، قال عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10] قالوا: تزكيتها بطاعتها الله وببعدها عن معصيته، وتدسيتها بوقوعها في معصية الله وحرمانها من طاعة الله عز وجل.
دورك أيها الإنسان! هو إصلاح هذه النفس، كيف الإصلاح؟ بالمجاهدة، قال عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] جاهد النفس وعاندها، إن كانت تريد النوم عن صلاة الفجر فلا تدعها، أو كانت تريد الغفلة عن الذكر فلا تدعها، أو تريد الجريدة وتترك القرآن؛ لا.
بل لا تترك القرآن، وإذا كانت تريد أن تنظر إلى الحرام؛ لا.
وقل لها: والله لا تنظرين، أو كانت تريد أن تسمع الأغاني؛ فقل لها: لا لن تسمعي! الله أكبر! أنت ضد نفسك، جهاد في جهاد، فإذا رأت هذه النفس أنها مع إنسان قوي فستستسلم، وترتقي من درجة الأمارة بالسوء حتى تصبح -كما قال العلماء- نفساً لوامةً.
فما معنى اللوامة؟ هي المعبر عنها في علم النفس الحديث بـ (الضمير)، يقولون: رجل عنده ضمير حي، وآخر ضميره ميت، الذي ضميره ميت؛ هذا هو الذي نفسه أمارة بالسوء، يزني ويسكر ويعمل كل جريمة؛ لأن قلبه ميت لا يحس، أما الذي ضميره حي هذا فيه خير، وإذا عمل جريمة تلومه نفسه تقول: لماذا عملت؟ هذه اسمها لوامة، تأمره بالشر ثم تلومه عليه.
فيردها الإنسان ويؤدبها ويهذبها مرة أخرى، ويعاندها مرة أخرى إلى أن ترتقي إلى المرتبة النهائية؛ وهي: النفس المطمئنة.
والنفس المطمئنة: وهي التي سكنت إلى أمر الله، واطمأنت إلى طاعة الله، فلا تحب إلا الله، ولا تحب إلا رسول الله، ولا تحب إلا شريعة الله، ولا تحب إلا بيوت الله، إذا دعيت إلى طاعة الله فرحت، وإذا عرضت عليها معصية الله نفرت، هذه نفس مطمئنة، لماذا؟ رضيت عن الله، ورضي الله عنها، يقول الله لها يوم القيامة: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:27 - 28] راضية في ذاتها، مرضيٌ عنها من قبل خالقها وبارئها: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:29 - 30] هذه النفس هي الجزء الثالث وهذه مهمتها، يقول العلماء: إن النفس مثل الدابة، إما أن تركب عليها، وإلا ركبت عليك، فإن ركبت عليها وقصرتها على أمر الله سرت بها إلى الله، وإن ضعفت أمامها ركبت عليك نفسك، وأوردتك إلى النار والعياذ بالله.(92/8)
العقل
الجزء الرابع من الأجزاء: العقل.
والعقل يقول العلماء: إنه مستشار ثانٍ للقلب، لكن مقاييس العقل غير مقاييس النفس، استشارة النفس منطلقها الشهوات والمتع والملذات، أما العقل فلا، استشاراته تنطلق من المصالح المفاسد النتائج الآثار فالعقل يفكر! فإذا قالت النفس فكرة للقلب، فإن كانت قوية أثرت في القلب، والقلب مريض لا يستطيع أن يحمل هذه الفكرة ويردها فيأتي العقل ليقول: لا هذا خطأً، فتقول له النفس: هذا ليس خطأً، فيطيع الإنسان نفسه.
وأضرب لكم على هذا أمثلة: شرب الدخان، فالذي يدخن أليس في قرارة نفسه قناعة أن الدخان مضر، وهل يوجد شخص في الدنيا يدخن وهو لا يعرف أنه ضار؟ لا.
الجميع يعرف أنه ضار، ويقرأ على علبة الدخان (التدخين يضر بصحتك) جميع الشركات المصنعة في العالم تصنع مصنوعاتها وتكتب عليها دعاية لها إلا الدخان، فإن شركاته تصنعه وتكتب عليه دعاية ضده، وأيضاً فإن جميع المأكولات والمشروبات في الدنيا إذا صنعت كتب عليها تاريخ صلاحية بداية ونهاية، إلا الدخان من يوم صنعوه كتبوا عليه أنه يضرك من ذاك اليوم.
إذاً لماذا الإنسان يدخن؟ يفكر في عقله يقول: الدخان والله ضار، الدخان يسبب لك مرضاً، الدخان يتلف مالك، فيأتي القلب يريد أن يطيع العقل، فتقول النفس: دعك من هذا الكلام، الناس كلهم يدخنون، لو أنه حرام لم تسمح الدولة بدخوله، فيقول القلب: صدقتِ، لماذا يلغي عقله؟ لأن نفسه أمارة بالسوء.
متى يكون للعقل هيمنة؟ قالوا: لا يكون للعقل هيمنة إلا في ظل سلامة القلب وضعف النفس -أي: صلاح النفس- فيأتي العقل ليقول: هذا حلال نواصل فيه، وهذا حرام نبعده، لكن إذا قال: هذا حرام قالت النفس: لا.
ليس حراماً، الله غفور رحيم.
أيضاً من الأمثلة: الزنا جريمة موبقة، وكل إنسان يعرف أنها حرام، فيأتي القلب ليستشير النفس في الزنا، فتقول: فرصة لا تفوتك، ويشاور العقل فيقول: احذر! هذه جريمة، إذا ضُبطت تفصل من وظيفتك، ويسقط اعتبارك، وتصبح من أهل السوابق، تسجن ويجلد ظهرك بالسوط، احذر! وأتى إلى النفس، قال: يقول العقل كذا وكذا وكذا، قالت: هذا إذا ضبطوك لكن من يضبطك كن رجلاً حذراً، لا أحد يراك، قال القلب للعقل: النفس تقول كذا، قال العقل: وإذا لم تضبط في الدنيا، سيضبطك الله في الآخرة، فالله عز وجل يراك، قال عند النفس: يقول العقل: كذا، قالت: الله غفور رحيم، تب بعدها، الناس كلهم يتوبون: (ولو لم تذنبوا فتستغفروا) وتأتيك بالأدلة، فيقع الإنسان في الجريمة بسبب قوة النفس وضعف القلب، والضعيف لا يصنع شيئاً، صحيح أن القلب ملك الجوارح، لكن إذا كان ملك الجوارح مريضاً، كما لو كنت رب أسرة وأنت مريض، هل تستطيع أن تسيطر على أولادك؟ فالولد الذي يأتي الساعة الثانية عشر وأنت مريض لا تقدر أن تتحرك من فوق السرير ماذا تفعل به؟ تتوعده إلى أن تتعاف من المرض، وإذا لم تتعاف فلن تستطيع أن تعمل شيئاً، والمرأة تخرج بغير إذنك، فتقول: أنا مريض الآن ما عليكِ، انتظري حتى أتعافى والله لأكسرنَّ ظهركِ، لكن هل تستطيع أن تكسر ظهرها وأنت مريض؟ لا.
فلو قمت تضربها ضربتك، والولد إذا كنت مريضاً وتقوم لتمسكه أزاحك عن الباب وتركك.
فالقلب إذا كان مريضاً فإن الأعضاء تتمرد، فالعين تنظر ولا تبالي بالقلب، والأذن تسمع ولا تبالي بالقلب، والنفس تأمر بالسوء ولا تبالي بالقلب، وكل الجوارح تتمرد، لماذا؟ لأن هذا القلب مريض.(92/9)
القلب
القلب: هو العضو الخامس والأخير، ويسمى ملك الجوارح، وسيد الأعضاء، وكما جاء الحديث في الصحيحين: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) إذا صلح القلب صلحت العين، والأذن، وصلح اللسان والفرج، وصلحت اليد والرجل، وصلحت الحياة كلها؛ الآن الشباب الملتزمون -نسأل الله أن يبارك فيهم- ما الذي تغير في حياتهم؟ تغير القلب، حصل عند أحدهم قناعة في قلبه أن الطريق الذي كان فيه غير صحيح، وأن الطريق الصحيح هو الدين والإيمان فالتزم، ولما أن التزم، أصبحت عينه لا تنظر إلى النساء، لم يركباً عين جديدة؛ بل هي عينه الأولى لكن! - من حين يرى امرأة يغض بصره! لماذا تغض الآن ومن قبل ما كنت تغض؟ لأن القلب صلح، وأذنه التي كانت تتابع الأغاني في الإذاعات من يوم يسمع نغمة يغلقها، هل غير أذنه في السوق واشترى أذناً جديدة؟ لا.
هي نفسها، لكن الذي تغير هو قلبه، أما يده التي كانت تبطش بالحرام، وبطنه التي كانت تأكل الحرام، وفرجه الذي كان يقع في الحرام، ورجله التي كانت تمشي في الحرام هي نفسها، فما الذي تغير؟ تغير القلب: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) هكذا يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم.
فهذا القلب لا يسيطر على النفس، ولا يقبل تأشيرات العقل إلا إذا كان سليماً معافىً.
فإذا سلم القلب قبل نصائح العقل، ورفض أوامر النفس، وصلحت حياة الإنسان كلها.
معنى هذا أن القلب يمرض، نعم، القلب يمرض، وتعتريه العلل، وتصيبه الآفات كما تصيب أي جارحة من الإنسان، وعلامة مرضه عدم قيامه بواجبه، فمثلاً هذه اليد دورها في الجسم العمل، فإذا تعطلت، تقول يدي مريضة، والعين دورها النظر، فإذا عميت تقول: عيني مريضة، والأذن دورها السماع، وإذا لم تسمع تقول: أذني مريضة، والقلب ما هو دوره؟ معرفة الله، معرفة دين الله، معرفة رسول الله، محبة الله، وإذا لم يعرف الله ولا عرف الدين فهو مريض لا يقوم بدوره، فمتى يقوم بدوره؟ إذا كان سليماً، وهل ينتفع الإنسان بقلبه إذا كان مريضاً؟ لا.
قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] ويثني الله على إبراهيم فيقول: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84] سليم من ماذا؟ ما هي الأمراض التي تصيب القلب حتى نتجنبها؟ قال العلماء: أولاً القلب يصاب بالعمى -نعوذ بالله وإياكم من عمى القلب- قال الله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] قلبك الذي في صدرك هو عبارة عن مضخة، تضخ الدماء، وهذه وظيفة مادية ليس لنا علاقة بها، لكن القلب الذي نعني به: اللطيفة الروحية التي أودعها الله في هذه المضغة، والتي بها نعرف الحياة كلها.
فالقلب يضخ الدماء كوظيفة مادية، لكن له وظيفة أخرى، وهي: حب الله ومعرفته، ولذا تنظر إذا فرحت ما الذي يتأثر فيك؟ قلبك، يكاد قلبك يطير من جوفك من الفرح، وإذا حزنت يكاد يموت قلبك تقول: والله كأنه والله طعنني في قلبي، وإذا سمعت خبراً سيئاً كموت حبيب أو قريب، أو حادث، تقول: امسك قلبي، قلبك مضخة الدم لم يصبه أذى، لكن قلبك المعنوي اللطيف الذي أودعه الله في صدرك، فالقلب يسلم ويمرض، ويبصر ويعمى.
إذاً: ما علامة عماه؟ قالوا: ألا يرى طريق الله، يقول الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأحقاف:26] أفئدة: قلوب، ويقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] وقال الله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179] كيف لا يسمعون؟ هم يسمعون لكن لا يسمعون ما يحب الله، هم يرون لكن لا يرون طريق الله، هم يفقهون لكن لا يفقهون دين الله، كأن هذه الأجهزة ليست موجودة عندهم؛ لأن الله يقول: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأحقاف:26] لماذا؟ {إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ} [الأحقاف:26] فجحودهم عطل هذه الجوارح، ما فقهوا بأعينهم إلا ما تفقهه البهائم، ولا سمعوا بآذانهم إلا ما تسمعه البهائم، ولا فكروا بقلوبهم إلا في شهواتهم كما تفكر البهائم، لكن ما تفكروا فيما هو مطلوب منهم، وما هو المطلوب منك أيها الإنسان؟ مطلوب منك أن تعرف الله، وتعرف دينه، ونبيه، وأن تسير على منهجه، وأن تعبده حق عبادته، فإذا تعطل القلب عن هذا فهو مريض.(92/10)
أمراض القلوب
إن أمراض القلوب عديدة؛ لكن أخطرها ثلاثة، إذا أصيب بواحد منها انتهى -مثل السرطان ليس له دواء- والعياذ بالله.
المرض الأول: مرض شبهة.
المرض الثاني: مرض شهوة.
المرض الثالث: مرض غفلة.(92/11)
مرض الشبهة
مرض الشبهة من أخطر أمراض القلوب على الإطلاق، لكن ما هي الشبهة؟ قال ابن القيم: رب شبهة أورثت شكاً في دين الله.
شك في الله ووجوده، شك في الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه، شك في الجنة والنار والبعث بعد الموت وعذاب القبر، والدين هل هو صحيح أو غير صحيح؟ هذه شبهة.
من يزرع هذه الشبهة؟ الشيطان.
لماذا؟ ليزعزع الإيمان.
فكيف يكون العلاج؟ كيف أعالج قلبي، بل كيف أحصن قلبي ضد مرض الشبهات؟ قالوا: علاجها اليقين بأخبار الله، فإن الله قد أخبرنا عن نفسه، وناره، والبعث، والملائكة، والجن.
هل أحد أصدق من الله؟ {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام:115] صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام، لا مبدل لكلمات الله، الله أخبرنا؛ أَلاَ نَثِقُ في خبر الله! أيها الإخوة؟! إذا جاءنا خبر من وكالة أو من جريدة مباشرةً نصدق، والله يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] فعلينا أن نتلقى الأخبار الإلهية باليقين، واليقين هو منتهى درجات التصديق، أي أن يستيقن القلب ويثبت ويطمئن على هذا الكلام أنه حق، فالله يقول في القرآن الكريم: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23] (الحق) البعث.
ويقول في آية أخرى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس:53] إنه حق: أي البعث.
ويقول: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] إن كان مستحيلاً بالنسبة لكم فهو يسير عند الله، فعالج يا أخي الكريم مرض الشبهات باليقين، وطمئن نفسك أن كل خبر يأتيك من الله ورسول لله تقبله، ولو عارضته الدنيا بأسرها.
وهناك حديث في الصحيحين يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم ليرفعه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر دواء) رواه البخاري ومسلم، وهذا الخبر وقف أمامه شراح الحديث في الماضي موقف المتعجب، أنهم لا يدرون ولا يعرفون كيف يكون في جناح الذباب داء، وفي الثاني دواء، ولا يوجد في ذلك الوقت جامعات، ولا أجهزة رصد علمي، ولا بحوث، ولا كشف، فكان غاية ما يقول الشراح في هذا الحديث: الله أعلم بمراده.
لا ندري ما في هذا الحديث لكن نصدق به، جاء العلم والكشف والبحث العلمي، وجاءوا بالحديث وهذه صورة من صور الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة، وجاءوا بالذباب، وعملت التجربة في جامعة الملك عبد العزيز، في مركز الإعجاز العلمي للكتاب والسنة، جاءوا بالذباب في جهاز ووضعوا في الجهاز ماء وهذا الماء معقم بدرجة كبيرة بحيث لا يوجد فيه جرثومة واحدة، وأدخلوا ذباباً بملقط من خرق في صندوق، تحرك حتى تعب ثم وقع في الماء، فلما وقع في الماء التقطوه، وأخذوا عينة من الماء وحللوها فوجدوا أن فيه ملايين الجراثيم بمجرد أن غمس الذباب جناحه الذي هو ملئ بالداء، وبعد قليل أرجعوا الذباب وغمسوه كاملاً، ثم رفعوه، وأخذوا عينة أخرى من الماء نفسه، وحللوها فجدوا أن جميع المكروبات التي كانت فيه قد ماتت كلها.
من أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا؟ هل لديه بحث علمي في الصحراء أو في مكة؟! هو لا يعرف كتابة اسمه صلوات الله وسلامه عليه؛ فهو أُمّي لو وضعت أمامه (أ، ب) لا يعرف ما هي! لكنه عالم البشرية كلها، والمعلم الأمثل للإنسانية لا يعرف أن يكتب حرفاً، لكن علمه الله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5].
هذا المعلم للإنسانية كلها لا يعرف أن يكتب أو يقرأ المكتوب، فكيف يستطيع أن يعرف مثل هذا لولا أن الله أعلمه به؟ فنحن إذا أخبرنا الله بخبر أو أخبرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم علينا أن نسلم ونصدق، ولا نبحث ولا ندخل في قلوبنا الشكوك؛ لأن الشك هذا هو القنبلة التي تنسف الإيمان من القلب، وإذا أصيب القلب بداء الشك ذهب الإيمان وتزعزع اليقين، وخسر الإنسان في الدنيا والآخرة.
هذا مرض القلب الأول: الشبهة.(92/12)
مرض الشهوة
المرض الثاني: مرض الشهوة، وهذا وإن كان خطيراً إلا أنه أخف من الأول، قال ابن القيم: وهو مرضٌ يورث تقديم الهوى على أمر الله، فإن الإنسان يحصل في قلبه صراع بين شهواته وبين أوامر الله.
ومن أمثلة ذلك: شهوة النوم عن صلاة الفجر، أحسن النوم عند الإنسان نوم الفجر، لكن في هذا الوقت أمر الله بالصلاة في المسجد، فيحصل صراع بين أمرٍ لله، وشهوة للنفس بالنوم، فماذا يحصل عندك؟ إن كان قلبك مريضاً نِمتَ، وإن كان قلبك سليماً قمت للصلاة، ولهذا يفترق الناس في صلاة الفجر بين سليمٍ ومريض، المريض هو المنافق، يقول عليه الصلاة والسلام: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاتي العشاء والفجر) وإذا أردت أن تسأل وتعرف هل أنت مسلم أو منافق فاسأل نفسك عن صلاة الفجر، إن كنت من أهلها بالتزام؛ فاعلم أنك مؤمن، وإن كان (البعيد) لا يعرف صلاة الفجر فليعلم أنه منافق، وليس بينه وبين عذاب الله إلا أن يموت، لماذا؟ لهذا الحديث: فإنه فرق بيننا وبين المنافقين بصلاة الفجر، ولذا نرى أقل نسبة في صلاة المسلمين في صلاة الفجر، لماذا تصلي المغرب والعشاء ولا تصلي الفجر؟ لأن القلب مريض، ولو أن القلب سليم لصلى صاحبه مباشرة، ولو أُعلن أن من صلى الفجر في المسجد جماعة فله مائة ريال، هل يصلي في البيت أحد؟!! والله لا ينامون إلا في المساجد، خاصة (الشيبان)، سوف ينامون في الصف الأول، وإنه سيأتي هو وأولاده يأمرهم بالصلاة، لماذا؟ من أجل مائة ريال!! لكن الآن يصلي وأولاده لماذا لا يصلون؟ قال: يهديهم الله، لكن إذا أتت المدرسة من يهديهم: الله أو العصا؟ العصا تهديهم، فتوقظه للمدرسة، لماذا؟ لأن حب المدرسة وحب الدنيا في قلبه، يقول: قوموا ادرسوا لكي تكونوا رجالاً، لتتخرجوا من المدارس وتحصلوا على وظائف، ولا تصبحوا ضائعين؛ لكن لا تقوموا تصلوا، (دعْهُ ينام مسكين!) مسكين عن الصلاة! لا حول ولا قوة إلا بالله، لماذا؟ لأن القلب مريض والعياذ بالله.
الشهوة هنا هي التي تتصارع مع الأمر الرباني، فإذا غلب أمر الله شهوتك فقلبك سليم، وإذا غلبت شهوتك أمر الله فقلبك مريض.
- شهوة الأغاني تتعارض مع أمر الله في حفظ السمع، فإن كنت حفظت سمعك وتركت هذه الأغنية فقلبك سليم، وإن كنت ممن يسمعون فقلبك مريض، وكل الشهوات قِسها على هذا؟ إذاً: كيف تعالج؟! قلنا: إن علاج مرض الشبهة في اليقين، وعلاج مرض الشهوة بالصبر على صلاة الفجر، فالذي يصلي الفجر يتعب لكن عليه أن يصبر والله يعينه، نعم.
لا يوجد إنسان يقوم يصلي الفجر إلا ويحس بتعب؛ لأنه يقوم في وقت يحتاج فيه إلى النوم والراحة والدفء، ولكن يغالب نفسه ويقوم يصلي، لكن هل يبقى معه شيء من التعب؟ فالذين صلوا الفجر من قديم هل بقي معهم شيء من التعب؟ ذهب التعب كله وبقي الثواب، والذين ناموا عن صلاة الفجر ارتاحوا لكن هل بقي شيء من الراحة؟ ذهبت الراحة وبقي العذاب.
وهكذا الدنيا ستنتهي ملذاتها كلها، وتنتهي الصعوبات كلها، وتجد نفسك في يوم من الأيام أمام جدار اسمه الموت.
تصطدم فيه اصطداماً غير متوقع، ثم تنزل في محطة اسمها القبر، ثم يُقال لك: خذ كشف الحساب ويوم القيامة يقال لك: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] وقال تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] يقول المؤمن: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] وذاك يقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة:25] يا ليتني ما رأيت الفضائح التي فيه، كل فضيحة عملتها موجودة في هذا الكتاب: {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:26 - 27].
وحتى تتغلب على مرض الشهوة عليك أن تتسلح بسلاح الصبر، اصبر على أوامر الله، واصبر عن المحرمات، والشجاعة كما يقولون: صبر ساعة، اصبر قليلاً، وأنت لو لم تصبر على المذاكرة لا يمكن أن تنجح، ولو لم تصبر على تعب العمارة هل يمكن أن تبني؟ ولو لم تصبر على جمع المال حتى تشتري سيارة، هل يمكن أن تشتري سيارة؟ إذاً: لماذا لا تصبر على الدين؟ تصبر على كل شيء إلا على الدين! فلا بد من الصبر أيها الإخوة! ولهذا فإن الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، ولا دين لمن لا صبر له، كما أنه لا حياة لمن لا رأس له.
وقد ذكر الله في القرآن الصبر في أكثر من تسعين موضعاً، وأمر الله به، وأمر به الرسول، يقول الله للرسول: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:96] {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] إذاً لا بد أيها الإخوة! -حتى نعالج ونواجه الشهوات- من الصبر؛ لأن هذه الشهوة مركبة فينا، والله يقول: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران:14] حتى الملتزم في نفسه دافع للشهوات، لكن لما غلب نفسه بالصبر فكانت نفسه تذل، ولو أعطى لنفسه فرصة وتخلى عن الصبر لوقعت في الشهوات فيختلف الناس من رجل لآخر بحسب ما عنده من الصبر، وهنا يثبت في الميدان أهل الإيمان، فيصبرون على طاعة الله، ويصبرون عن معصية الله، ويصبرون على أقدار الله المؤلمة.
وابن القيم رحمه الله يتحدث في هذا الموضوع بكلام عجيب، ويقول: الصبر ينقسم من حيث هو إلى ثلاثة أقسام: صبرٌ على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبرٌ على الأقدار المؤلمة.
ثم ينقسم مباشرة من حيث العبد إلى ثلاثة أقسام: صبرٌ وتصبرٌ واصطبار، صبرٌ في البداية، تصبر في تعب، اصطبار هو التلذذ بالبلوى باعتبارها اختيار المولى.
يعني تتلذذ وأنت تمارس شيئاً من أوامر الله، أو تترك شيئاً من معصية الله، هذه منزلة لا تبلغها إلا بعد تعب.
ثم قال: وهو ثلاثة أقسام من حيث تعلقه بالآخرين: صبرٌ بالله، وصبرٌ عن الله، وصبرٌ لله، يقول: وأسوءها الصبر عن الله.
صبر بالله أي تصبر مستعيناً بالله، وصبر لله أي من أجل الله، وصبرٌ عن الله وهو أسوأ أنواع الصبر أن تشغل نفسك بما يصرفك عن الله، مثل من يشتغل الآن بالأغاني، وبالأفلام والمسلسلات، من أجل أن يصبر عن الله، لا يريد ذكر الله، ولا يريد أخذ نفسه لحظة إلى الله، فهو يتصبر بهذه الشهوات وبهذه الملهيات، وبهذه الفتن، لماذا تتصبر؟ قال: دعنا نعيش، يتصبر عن من؟ عن الله، الله خلقك له فتتصبر عنه، لا حول ولا قوة إلا بالله.
فهذا المرض الثاني مرض الشهوة.(92/13)
مرض الغفلة
المرض الثالث: مرض الغفلة وهذا خطير؛ لأنه سجن للقلب، يصرف الإنسان عن الهداية، فلا يمكن أن يهتدي الغافل، يقول الله عز وجل: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:146] (عن آياتي) أي عن دلالاتي وهدايتي.
لماذا؟ قال عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146].
ما هي الغفلة؟ قال العلماء: هي نسيان الله وأمره ووعده ووعيده.
فتنسى الله وتنسى وعده ووعيده وجنته وناره ولقاءه والموت والكتاب والسنة والبعث، وتعيش ملفوفاً في دولاب الحياة، تصبح وتمسي وتتمشى وتأكل وتشرب غافلاً إلى أن تموت، فإذا مِت استيقظت، قال الله: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] يرى لكن لا ينفع، والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، إذاً انتبه عند الموت: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] لماذا ترجع؟ قال: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100] لماذا لا تعمل الآن، تعمل السيئات إلى أن تموت، ثم تقول: ارجعون، قال الله: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
- هذه أيها الإخوة! هي الخمسة الأجزاء الرئيسية، جسدٌ لا يتعلق به مدحٌ ولا ذم، أنت طويل أو أبيض أو أسود، أو سمين أو نحيف، إن هذا ما يزيد عند الله ولا يعطيك شيء عند ربك.
وروح لا تعرف عنها شيئاً.
ونفس ينبغي مجاهدتها وتربيتها على أمر الله.
وعقل ينبغي تنويره بالقرآن والسنة.
وقلب عليك الحرص على سلامته من مرض الشبهات، ومرض الشهوات، ومرض الغفلات، يقول ابن تيمية رحمه الله عند قول الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] قال: لا تنال الإمامة في الدين إلا بالصبر واليقين.
الصبر عن الشهوات، واليقين ضد الشبهات.
هذا أيها الإخوة! هو الأمر الأول.(92/14)
الحكمة من خلقنا
أما الأمر الثاني: فهو لماذا خلقك الله؟ هناك احتمالان: إما أن الله خلقك عبثاً، أو خلقك لغرض، فهل خلقك الله عبثاً؟ لا.
وقد أبطل الله هذا الزعم كما سيأتي.
إذاً: الله خلقك لهدف، فما هو هذا الهدف؟ هل تعرفه أنت؟ لا.
لماذا؟ لأنك لست أنت الذي خلقت نفسك حتى تعرف لماذا جئت، ولكن يعرفك الذي أتى بك، الذي خلقك يعرف لماذا خلقك، تسأل الذي خلقك وقد أجاب الله من غير سؤال وقال لنا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فهذا هو الهدف.
إذاً ما هي العبادة؟ هل هي الصلاة والزكاة والصوم؟ لا.
ليست هذه هي العبادة فقط، فما هي العبادة التي وردت في الشرع؟ هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
فوظيفتك في الحياة هي العبادة، إذا قمت بهذه الوظيفة تسمى رجلاً صالحاً، مثلاً جهاز الميكرفون، إذا كبر الصوت نقول: جهاز صالح، أما إذا شغلناه بالكهرباء ولم يكبر الصوت، نقول: جهاز فاسد، أنت صالح إذا سرت في وظيفتك، وما هي وظيفتك؟ العبادة، فأنت رجل صالح، وإذا ضيعت وظيفتك -العبادة- تصير رجلاً فاسداً.
مثلاً المكيف وظيفته تبريد الهواء، وإذا لم يبرد الهواء، نقول: مكيف خربان، أما إذا برد الهواء، فنقول: مكيف صالح.
السيارة وظيفتها حمل الناس، إذا لم تمش نقول: سيارة خربانة.
وأنت إذا ما عبدت الله نقول: إنسان فاسد، لكن أصلح نفسك، إذا لم تصلح نفسك ومت وقدمت على الله وأنت خربان ماذا يحصل؟ يحصل لك تصليح، لكن أين؟ في ورشة اسمها جهنم، يقول الله تبارك وتعالى: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:18] يقول الشيطان: سوف أضلهم، قال: اذهب أنت وإياهم، كلكم في جهنم، هذه ورشة النار، من الذي يدخلها؟ الفاسد، أما الصالح، لا.
الذي يأتي: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
ويقول الله عز وجل: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:31 - 35] نسأل الله وإياكم من فضله.
وظيفتك أيها الأخ الكريم! العبادة بمفهومها الشامل، وعليك أن تجري نوعاً من الرصد والمحاسبة لنفسك لتعرف أين أنت من العبادة؟ هل أنت عابد أم فاسد؟ وابدأ بالجوارح واحدة واحدة، خذ عينك وقل: يا عين أنتِ عابدة، أمرك الله بالنظر في ملكوت السماوات والأرض، وأمرك بالنظر في القرآن الكريم، ونهاك عن النظر في الحرام، هل أنت عابدة يا عين، أم فاسدة؟ الجواب لديك تعرفه أنت.
إن كانت عينك تنظر الأفلام والمسلسلات والنساء في الشوارع والطرقات فعينك فاسدة لا تشتغل في الهدف الذي خلقها الله من أجلها، وإن كانت عينك تغض عن المحارم وتنظر في كتاب الله، وتنظر في السماوات والأرض فتعتبر عينك صالحة.
تأتي إلى أذنك وتقول: يا أذن ما وظيفتكِ؟ سماع الحق: القرآن، العلم، الدين، هل تسمعين هذا، أم تسمعين السماع الثاني: سماع الغناء، والخنا، والغيبة، والنميمة، والساقط من القول، فإن كانت الأولى فهي أذن سليمة، وإن كانت الثانية فهي أذن مريضة.
فاسدة، تأتي إلى البطن ماذا يأكل، تأتي إلى اليد أين تمتد، تأتي إلى الفرج أين يقع، تأتي إلى الرجل أين تمشي، تأتي إلى اللسان ماذا يتكلم به، تأتي إلى الجسد كله أين يشتغل، هذه المعاصي تأتي إلى الطاعات، فأنت مأمور بالصلاة هل صليت؟ مأمور بالزكاة هل زكيت؟ مأمور بالصيام هل صمت؟ مأمور بالحج هل حججت؟ مأمور بالدعوة هل دعوت؟ مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هل أمرت ونهيت؟ مأمور بالحب في الله هل أحببت في الله؟ هذه أوامر الله، إذا سرت في هذا أنت صالح عابد لله، وإذا لم تسر في هذا فأنت البعيد الفاسد، وقد ضيع الحكمة والغرض الذي من أجله خلقه الله.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يرزقنا وإياكم قلوباً سليمة، وألسنة صادقة، وأن يوفقنا وإياكم للعبادة والعمل الصالح، وأن يتوب علينا جميعاً مما نمارسه أو نقع فيه من الأخطاء والمعاصي، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(92/15)
الأسئلة
.(92/16)
حكم تكرار الفاتحة للإمام والمأموم
السؤال
ما حكم تكرار قراءة الفاتحة في الصلاة للإمام إذا سها؟ وما حكم تكرار المأموم لها؟
الجواب
إن سجود السهو يشرع للزيادة أو للنقص أو للشك، أنا قد زدت الفاتحة، ولكن زيادتي ناتجة عن شكٍ، فقد حصل في قلبي أنني لم أقرأ الفاتحة كاملة في القراءة الأولى، وتيقن عندي أنني لم أقرأ فأعدت قراءتها، ولا حرج في هذا ثم سجدت للسهو، والسجود للسهو للعلماء فيه كلام، أنه يكون مرةً قبل السلام، ومرةً بعده، والتفصيل فيه أنه إذا كان السجود من أجل نقص في الصلاة فيكون السجود قبل السلام، وإن كان السجود للسهو من أجل الزيادة -مثلما حصل عندنا- فيكون بعد السلام، وإذا خشي الإمام أن يؤدي سجوده للسهو بعد السلام إلى لبسٍ عند المصلين يدفعهم بحكم عدم فهمهم لقواعد المسألة أن يقولوا: سبحان الله! فليسجد قبل السلام؛ لأن قضية قبل أو بعد الأمر فيها واسع.
السؤال: ما حكمي أنا كمأموم قرأت الفاتحة في المرة الأولى، فهل أقرأ مرة أخرى أو لا أقرأ؟ الجواب: ليس هناك مانع، إن قرأت مرة أخرى فخير على خير، وإن لم تقرأ تكفيك قراءتك الأولى؛ لأن قراءة المأموم للفاتحة مطلوبة؛ لأنها ركن لا بد من الإتيان به، لحديث عبادة بن الصامت: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وهو في الصحيحين.(92/17)
نصيحة بمناسبة الامتحانات
السؤال
ما الذي تنصح به الطلاب مع قرب موسم الامتحانات؟ وبم تنصح الآباء والأمهات؟
الجواب
أولاً: أنصح الآباء والأمهات والأبناء والبنات أن يتذكروا بالامتحانات الامتحان الرهيب الذي سوف نقف فيه بين يدي الله يوم القيامة.
تذكروا أيها الإخوة! أن المُمتحِن هو الله، وأن الكتاب الذي نمتحن فيه كتاب: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] وأن زمن الامتحانات الذي هو ساعة، أو ساعة ونصف، أو ساعتان، أو ثلاث ساعات سيكون ذلك اليوم يوماً مقداره خمسون ألف سنة، وأن صالة الامتحانات ليست مكيفة، وإنما في عرصات القيامة، تغلي فيها أدمغة العباد كما يغلي اللحم في القدور، فلنتذكر هذا الامتحان الرهيب ولنعد له من الآن، ثم إنه ليس هناك دور ثانٍ، إما نجاح وفوز وفلاح إلى أبد الآبدين، وإما رسوب إلى أبد الآبدين، لا يوجد تعويض بخسارة الآخرة، والله يقول: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
أما ما ننصح به الشباب بخصوص الامتحانات: فأولاً: الاستعانة بالله، وإخلاص النية من أجل طلب العلم، فلا يكون طلبك للعلم من أجل الشهادة، أو من أجل الوظيفة؛ لأنه في الحديث: (من تعلم العلم ليماري به العلماء، أو ليجاري به السفهاء، أو ليبتغي به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة) وليكن غرضك من هذا العلم أن تتزود به لمعرفة دينك، ولنصرة الحق أو الموقع الذي أنت فيه، وتستعين براتب الوظيفة على طاعة الله تبارك وتعالى.
ثانياً: أن تجتهد في ألا تغش؛ لأن الغش محرم والحديث في الصحيح: (من غشنا فليس منا) والغش كلمة عامة في كل شيء، والله أمرنا بالصدق، ونهانا عن الخيانة، والغش في الامتحان خيانة، والغش في البيع والشراء خيانة، والغش في العمل المهني خيانة، والغش في الورشة خيانة، فلا تكن غاشاً، والله أمرنا حيث قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] وما من خائنٍ إلا يوم القيامة تمثل له خيانته وغدرته لواء يعقد على استه ثم يُرمى بخيانته في النار والعياذ بالله، فأنت اتقِ الله لا تغش ولو حرفاً واحد.
ثالثا: نظم وقت المذاكرة بحيث تذاكر في أوقات مناسبة، وحذار من السهر ليلة الامتحان، هذا شيء مجرب وأنا صاحب تجربة ورجل تربية، عشت عشرين سنة مدرساً ومدير مدرسة وأعرف هذا، وعشت طالباً، إلى الآن لا زلت أعتقد وأنا في الدكتوراه أن ليلة الامتحان تحتاج للنوم المبكر، ذاكر من قبل لكن إذا جاءت ليلة الامتحان نم مبكراً لتستيقظ وذهنك متفتح ومرتاح، تذهب إلى الامتحانات فتأتي المعلومات كلها؛ لكن تسهر إلى الفجر ثم تذهب الامتحان فتطير المعلومات كلها، ولا تبقى معلومة، تحاول أن تتذكر وتبحث فلا تجد حرفاً واحداً، فإذا خرجت ورقدت وقمت وإذا بك تتذكر المعلومات، من الذي أبعد المعلومات؟ الإعياء والتعب والسهر، فلا بد أن تنام.
أما الآباء والأمهات فعليهم تهيئة الأجواء المناسبة للأبناء والبنات في المذاكرة وعدم إشغالهم بأي شيء، وأيضاً الرفق في قضية المذاكرة، بعض الآباء يُعقد ولده من المذاكرة، يأخذ العصا ويضربه ويقول له: ذاكر، والعصا عنده، وكلما رفع رأسه قال: ذاكر لماذا لا تذاكر؟ ثم يضربه، فهذه ليست مذاكرة، هذه مضاربة، حتى إن بعض الأولاد يوهم أباه أنه يذاكر، ولكنه لا يقرأ شيئاً بل يتمتم فقط، ولكن من أجل أبيه أو من أجل الضرب، فالمذاكرة ليست هكذا.
اختر أوقاتاً معينة للمذاكرة، ثم خلل هذه الأوقات بجزء من الفسحة واللعب، فإذا ذاكر نصف ساعة أو ساعة، فقل: ما شاء الله! خذ لك عشر دقائق تستريح خلالها انزل عند الباب تمشَ في الغرفة انظر من النافذة، المهم أن تعطيه شيئاً لكي يجدد نشاطه، وأنا والله أعرف أحد الأقارب سجن ولده في غرفة وأتى بالعصا، وتركه في الزاوية، قال: والله لا تقوم حتى تحفظ الدروس كلها، وكلما قام من مكانه ضربه، وعندما أتى آخر الامتحان أتى بالشهادة وإذا فيها ثلاث عشرة مادة راسب فيها.
قلت: جزاك الله خيراً والله ما قصرت في هذه المذاكرة مع ولدك، لو أنك تركته لرسب في واحدة أو اثنتين، لكن بالعصا رسب في ثلاث عشرة، يا ليتها واحدة أو اثنتين، لماذا؟ لأن المذاكرة لم تكن سليمة.
فلا نريد أن نعقد الأبناء من العلم بهذا الأسلوب الجاف والغليظ، وإنما بالتي هي أحسن، ثم بالمناقشة وخاصة إذا كنت تقرأ ناقشه، فليست المسألة مسألة حفظ فقط، إنما هي مسألة فهم، إذا فهم الدرس والمادة رسخت في ذهنه يأتي بها إن شاء الله، في الامتحان.(92/18)
الحياة الحقة في الاستجابة لله ورسوله
السؤال
لقد كنت في طاعة الله مرتاح القلب، مطمئن النفس، ولكن جالت بي النفس عن طاعة الله ووقعت بمحارم الله، فحال الله بيني وبين قلبي فلا أدري ماذا أفعل.
الجواب
يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] الله أكبر! كيف يحول بينك وبين قلبك؟ إذا لم تستجب لله؛ لأن الله يقول: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] بمعنى أن حياتنا إنما هي من مقدار استجابتنا لله ورسوله، المستجيب لله والرسول مائة في المائة حي مائة في المائة، المستجيب خمسين في المائة خمسين في المائة حياة وخمسين موت، الذي لم يستجب لله فهو ميتٌ، والعياذ بالله، والأخ هذا ذاق حياة الإيمان، واعترف بنفسه أنه كان مرتاح القلب والنفس، ثم جالت به النفس فوقع في المحارم، والحل أن يستجيب لله مرة ثانية، وأن يعود كما كان سائراً على منهج الله، وأن يثبت، وأن يطلب من الله تبارك وتعالى الثبات، وأن يصبر على ذلك.(92/19)
الفرق بين: الروح والنفس والقلب
السؤال
ما هو الفرق بين الروح والنفس والقلب؟
الجواب
الروح والنفس والقلب ثلاثة أعضاء، لكن هناك تداخل في الواجبات، مثل أن تقول: ما الفرق بين عريف وجندي ووكيل رديء؟ كلهم عسكر، لكن هذا أكبر رتبة، وهذا له تخصص، هذا يمسك نوبة وهذا على الجسم كله، وذاك يمسك أكثر منه، وهكذا.
فالقلب سيد الجوارح، هو الأول والأخير في الجسم إذا صلح صلحت الجوارح الأخرى، العقل كذلك له دور، النفس لها دور، لكن العقل مستشار -كما ذكرت لكم- يشير بالمصالح والمفاسد، والنفس تشير بالشهوات، والقلب يميز الإشارات بحسب صلاحه وقوته، إذا كان قوياً يأخذ رأي العقل، وإذا كان مريضاً يأخذ رأي النفس وهكذا.(92/20)
حكم القول بأن الإنسان مسير أو مخير
السؤال
كيف تقولون لمن يقول: إن الإنسان مسير، وليس مخيراً؟
الجواب
قضية (مسير، ومخير) هذه واضحة جداً، وأنا أبين لكم بمثال: الإنسان هل هو مسير أم مخير؟ أقول لكم: الإنسان مسير ومخير، ففيما لا يستطيع عليه وليس من اختصاصه هو مسير، مثل الخلق، لما خلق الإنسان مسير هو أم مخير؟ لا شك أنه مسير، هل اختار هو خلق نفسه؟ لا.
في اختيار اللون والنوع والبلد والشكل والطول والعرض وذكر وأنثى وأبيض هل هو مسير أم مخير؟ مسير، ثم إذا بلغ سن التكليف يبدأ عنده هنا التخيير {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8] إلى أن يموت، فإذا مات يصبح مسيراً، يموت رغماً عنه، وضربت مرة على هذا مثال: إذا ركبت الطائرة من جدة إلى الرياض، أنت في الرحلة في الخط نفسه من جدة إلى الرياض مسير ولست مخيراً، لا تقدر عندما تصل القصيم تقول: (وقف يا ولد، على جنب) وإذا رأيت مزرعة أو وادياً أو جبلاً وقلت: والله نريد نقيل فيها، هل يمكن؟ لا.
الرحلة مسيرة متجهة من جدة إلى الرياض، والركاب كلهم مسيرون، لكنك مخير وأنت في الكرسي من حقك أن تنام، أو تستيقظ، أو تقرأ جريدة، أو تقرأ في المصحف، أو تفتح النافذة التي بجانبك وتنظر، أو تسترخي قليلاً، أنت في هذا مخير.
فهكذا الحياة من البداية في الخلق إلى الموت أنت فيها مسير، لكن أثناء الرحلة وفي حدود دائرتك أنت مخير، تستطيع تصلي وتستطيع ألا تصلي، تستطيع تغني أو تقرأ القرآن، أو أن تتزوج أو تزني، أو تشرب الخمر أو تشرب الحليب، أو تعمل الطيبات أو تعمل السيئات، هذه بين يديك، ولهذا لست مسيراً في هذا؛ لأنك إذا كنت مسيراً في هذا كيف الله يؤاخذك وأنت مسير؟ لا يؤاخذك الله إلا في الأمر الذي خيرك فيه تبارك وتعالى.(92/21)
كلمة للنساء
السؤال
هل من كلمة للنساء؟
الجواب
بل كلمات للنساء.
أولاً: كل ما نقوله للرجال فهو موجهٌ بالتبعية للنساء؛ لأن دين الله موجه للمرأة والرجل، ونخص النساء بمزيد وصية، ونقول لهن: إن المرأة نقطة قوة الأمة أو نقطة ضعف، قوة إذا آمنت، وضعف إذا خربت، إذا فسدت المرأة أفسدت الحياة كلها، ولهذا يغزو أعداء الله الأمة عن طريق المرأة، إذا فسدت أفسدت زوجها، وأفسدت أولادها، وأفسدت مجتمعها، وتصوروا كيف تقوم المرأة بدور الإجرام في المجتمع إذا فسدت، فنقول لها: اتقي الله في أمتكِ وفي دينكِ وفي بلادكِ وفي نفسكِ، وعليكِ أن تتمسكي بدين الله، بدءاً بالعبادة والمعاملات، ثم بالحجاب والقرار في البيوت وعدم الخروج وزرع الفتن بين الناس؛ لأن المرأة مكانها الصحيح والطبيعي البيت، ولا تخرجي إلا مضطرة وبآدابٍ شرعية، أما أن يكون محلها دائماً السوق والحديقة وغيرها والبيت مهجور لا تأتيه إلا للنوم أو للأكل، هذا انتكاس في الفطرة، والله يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33].(92/22)
حكم بناء المساجد بأموال محرمة
السؤال
هل يجوز بناء المساجد من الأموال الربوية؟
الجواب
( إن الله طيب ولا يقبل إلا طيباً)، فإذا بنى الإنسان مسجداً من مال حرام فإنه لا يثاب عليه، لكن الناس لو صلوا في هذا المسجد فإن صلاتهم صحيحة، ولا يتعلق بهذا حرمة، لماذا؟ لأنه عمل صالح، وهم استفادوا منه في أداء عبادتهم، أما كونه صالحاً بالنسبة له فلا؛ لأن الأصل غير مشروع كما يروى عن أبي حنيفة أن رجلاً كان يسرق التفاحة ويتصدق بها، فرآه أبو حنيفة وقال: ماذا بك تسرقها وتتصدق بها؟ قال: أسرق فتكتب سيئة، وأتصدق فتكتب عشر حسنات، واحدة من العشر مقابل السيئة يبقى لي تسع -انظروا العقلية التجارية- قال: قبحك الله ما أجهلك، تسرق فتكتب سيئة، وتتصدق فلا يقبل الله صدقتك، فتبقى في ظهرك سيئة، يريد أن يربح ولكن السيئة في رقبته، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، والناظم يقول:
أمطعمة الأيتام من كسب فرجها لك الويل لا تزني ولا تتصدقي(92/23)
وقت صلاة الوتر
السؤال
أشهد الله أنني أحبك في الله ومشكلتي أنني أعاني من فوات صلاة الوتر فإنني تعودت أن أصليها قبل صلاة الفجر للأفضلية، لكني أنام ولا أقوم إلا مع الأذان وهذا الأمر يتكرر فما نصيحتك؟
الجواب
كما ذكرت أن صلاة الوتر أفضلها أن تكون آخر الليل، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً) ولكن إذا خشي الإنسان -ويعرف نفسه- أنه لا يقوم، أو يثقل عليه النوم حتى طلوع الفجر فإن الأفضل له أن يصليها في أول الليل.
ولهذا يا أخي الكريم! النصيحة لك ولي ولكل مسلم، بما أننا نعرف أننا لا نستيقظ لصلاة الفجر إلا مع الأذان أن نصلي الوتر قبل أن ننام، وهذا الهدي كان يصنعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.(92/24)
كيفية ملء الفراغ
السؤال
كيف يربي الإنسان نفسه ووقته مملوءٌ بالفراغ؟
الجواب
أصل شعور الإنسان بالفراغ لعدم معرفته بالواجبات المطلوبة منه، وإلا لو عرف ما هو المطلوب منه لما صار عنده وقت؛ لأن الواجبات أكثر بكثير من الأوقات، لكن هو يقول: أنا فارغ، فارغ وهو لا يقرأ من القرآن حرفاً، ولا يعرف من السنة حديثاً، ولا يعرف من العلم باباً، ولا يجالس العلماء، ولا يدري عن حلقات العلم، ولا مجالس العلم، ولا دروس العلم، ولا يقوم بأي دور في أسرته، وتربية أولاده ولا في مصالحه، ويقول: إني فارغ، ولهذا يقضي وقته كله في النوم وفي التسكع وفي ضياع الأوقات.
فلا بد -يا أخي- أن تبحث عن عمل تصرف فيه الوقت، يعود عليك هذا العمل بالنفع في الدنيا والآخرة.(92/25)
حكم صلة الأخ الصالح بأخيه العاق
السؤال
عندي أخ لا يصلي، ويقترف جميع المنكرات مثل سماع الأغاني وغيرها، وأنا مقاطع له، وكذلك هو عاق لوالديه ومع ذلك أبي يحبه، وكذلك أمي، فهل أنصحه أم أتركه؟
الجواب
هذه المصيبة -أيها الإخوان! - التي يعاني منها الشباب الملتزم أنه ملتزم وطائع وطيب ومن أحسن الناس في البيت، ومع هذا الأب لا يهتم به ولا يحبه، ويرى ذلك العاصي يقدره، وهذا ابتلاء، وامتحان، وتجد الأب دائماً يمارس الضغط على هذا، ويعرف أنه نقطة الضعف فيه أنه يكون عاقاً، ولهذا تراه يهدد الملتزم يقول: سأغضب عليك، يعرف أنه الولد الطيب لا يريد أباه أن يغضب عليه، لكن ذاك قدره أنه غضب أو رضي، فهو يحاول أن يرضي الولد العاصي، فهذا امتحان وهو أيضاً ظلم من قبل الوالدين.
أما موقفك يا أخي! من هذا الأخ النصيحة والاستمرار معه، والدعاء له، حتى يهديه الله أو يحدد موقفه، ما دام أنه يستجيب منك ادعه والهداية بيد الله، ولا تحدد لها وقتاً، ولكن إذا رفض هو النصيحة ولم يستجب منك هناك تتركه وتبغضه في الله عز وجل.
نكتفي -أيها الإخوة! - بهذا، ونعتذر من الإخوة الذين لم نجب عن أسئلتهم لضيق الوقت أو لعدم المناسبة.
والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(92/26)
رحلة الحياة
تحدث الشيخ حفظه الله عن الرحلة التي يمر بها الإنسان، منذ أن يوضع نطفة في رحم أمه إلى أن يستقر قراره إما في جنة أو نار، مبيناً ما يتخلل هذه الرحلة من محطات رئيسية، وهي: عالم الأجنة في الأرحام، وعالم الدنيا، وعالم البرزخ، وعالم القيامة.(93/1)
رحلة الإنسان من البداية حتى النهاية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأحبة في الله: يلقى هذا الدرس في مسجد الشوربتلي بمدينة جدة بعد مغرب يوم السبت الموافق (29) من شهر محرم من عام 1417 للهجرة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام, وهو ضمن سلسلة التأملات القرآنية وعنوانه: رحلة الحياة.
وتأملات هذه الليلة في آيات كريمة جاءت في كتاب الله تضمنت رحلة الإنسان منذ أن يوضع نطفة في رحم أمه إلى أن يستقر قراره إما إلى الجنة أو النار, رحلة مضنية وشاقة, رحلة لم يؤخذ للإنسان فيها رأي, فهو يخلق دون رأيه, ويموت دون رغبته, ويبعث رغم أنفه, ثم يحاسب ويجازى على سلوكه في هذه الحياة, ثم يوجه في النهاية إما إلى الجنة إن كان من أهل الإيمان -نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم- أو يوجه ويسحب على وجهه إلى النار إن كان من أهل الكفر والفسوق والعصيان -أعاذنا الله جميعاً منهم-.
هذه الآيات جاءت في سورة المؤمنون يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:12 - 16] هذه الآيات تضمنت مراحل خلق للإنسان, ومراحل سفره, بدأت أول مرحلة يوم خلق الله عز وجل آدم من طين, ثم جعل هذا الطين في سلالته وذريته, يتم عن طريق النطفة -الحيوان المنوي- وهذه الرحلة الطويلة تتم عبر خمس مراحل: المرحلة الأولى: عالم الأجنة في الأرحام.
المرحلة الثانية: عالم الحياة الدنيا.
المرحلة الثالثة: عالم البرزخ في القبر.
المرحلة الرابعة: عالم القيامة.
المرحلة الخامسة والأخيرة: الجنة أو النار.
هذه خمس مراحل من يستطيع أن يفلت منها؟ من يستطيع أن يقول: أنا لا أريد أن أموت أريد أن أجلس في هذه الدنيا إلى آخر شيء؟ هل يطاع في طلبه هذا؟ لا.
زرت في مرة من المرات ثرياً من الأثرياء في مكة لأعرض عليه مشروعاً من مشاريع الخير, وبعد أن وعظته قال لي: لا بد من البعث؟! -يعني: لا مناص من البعث؟! - قلت: لا بد أن تبعث.
قال: والذي يريد أن يموت ولا يريد أن يبعث.
قلت: الذي لا يريد أن يبعث فليدفع عن نفسه الموت، حتى لا يبعث، إذا أتاه ملك الموت فليقل: لا أريد أن أموت, أريد أن أبقى هنا.
قال: ولكن ملك الموت لن يوافق.
قلت: وكذلك يوم القيامة تبعث رغماً عن أنفك، فكما تموت تبعث؛ فحقائق الخلق والموت والبعث جاءت في هذه الآيات متلازمة مترابطة: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12] هذا بداية الخلق, ثم بعدها مراحل الخلق المختلفة, ثم بعد ذلك {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون:15] واللام هنا تسمى لام التأكيد, يعني: هذا شيء لا بد منه, وتأمل في واقعنا اليوم هل يستطيع أحد أن يفلت من الموت؟ لا.
بل يموت الكبير والصغير، والملك والمملوك، والأمير والمأمور، والغني والفقير، والراعي والرعية، والذكر والأنثى، كل الناس يموتون، والله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:34 - 35].
ثم بعد الموت قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:16] ثلاث حقائق مترابطة يلزم من وقوع الأولى وقوع التي تليها, فما دام أنك خلقت إذاً لا بد أن تموت, وما دام أنك مت إذاً لا بد أن تبعث, ولو افترضنا أن رجلاً خلق نفسه ثم قال: أنا لن أموت، لقلنا: إذاً يمكنك ألا تُبعث؛ لأنك استطعت أن تمتنع من الموت، ولكن ما استطعت أن تمتنع من الخلق بل خلقك الله رغماً عنك ولا استطعت أن تمتنع من الموت بل تموت رغماً عنك, ولن تستطيع أن تمتنع من البعث بل سيبعثك الله عز وجل رضيت ذلك أم أبيت, ولهذا لما جاء العاص بن وائل أحد صناديد كفار مكة، مر على المقبرة وأخذ عظماً قد رمّ، وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفتّه بين يديه وقال: يا محمد! تزعم أننا سوف نعود بعد أن نكون عظاماً؟! فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم في منطق الواثق بربه الذي لا تزعزعه الشبهات, ولا تهزه الكلمات قال: (نعم ويدخلك الله النار) وفعلاً تحققت نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم ومات هذا الرجل كافراً وسوف يدخل الله العاص بن وائل النار؛ لأنه مات على الكفر وكذب بالبعث, ونزل الوحي من السماء في آخر سورة (يس) يبين هذه الحادثة يقول الله عز وجل: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] ضرب لنا مثلاً بالعظم ونسي التأمل في حال خلقه حينما كان تراباً {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] من يحيها وهي رميم؟ قال الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79] الذي خلقها أول مرة أيعجزه أن يردها مرة أخرى؟ سبحان الله! أين عقل الإنسان؟!! {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79].
وسنتناول -أيها الإخوة- المحطات الخمس بالتفصيل.(93/2)
عالم الأجنة في الأرحام أول محطة للإنسان
أول محطة تسافر فيها -أيها الإنسان- وتستقر فيها هي: عالم الأجنة في الأرحام ثم عالم الطفولة.(93/3)
مراحل تكوين الجنين في بطن أمه
ومدة الرحلة تسعة أشهر في الغالب, تبدأ باللقاء بين الرجل والمرأة, حين يفرز الرجل هذه الحيوانات المنوية وتفرز المرأة بويضة, والبويضة هذه تفرز على مدى الدورة الشهرية، في كل دورة شهرية تفرز بويضة واحدة, ويكون هناك فترة للإخصاب يعني: تكون المرأة قابلة للحمل, وتكون البويضة حية, يأتي الرجل امرأته الحلال وتتسابق تلك الحيوانات المنوية إلى تلك البويضة المستقرة في أعلى قناة يسمونها: قناة فالوب، وهي ليست قناة فالوب إنما الله هو الذي خلقها ولكن فالوب هو الذي اكتشفها, وتعلق بهذه البويضة القناة وسماها الله: قراراً مكيناً {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:13] يعني: محمي محفوظ, يقذف الرجل في الدفقة الواحدة أعداداً هائلة من الحيوانات المنوية، قد تصل في بعض الأحيان إلى 400 مليون حيوان منوي, يموت معظم هذه الملايين في الطريق ولا يصل إلا القوي, فإذا وصل أول واحد عند البويضة أغلقت عليه, وتأتي البقية تدور حولها فلا تلقى مكاناً فتموت بعد ربع ساعة إلا الذي دخل البويضة فإن الله يكتب له الحياة.
ويختلط هذا الحيوان المنوي مع تلك البويضة ويبدأ التشكيل الإنساني يقول الله عز وجل: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان:1] (هل) هنا ليست استفهامية ولكنها تقريرية بمعنى: قد أتى {لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [الإنسان:1] فأنت عمرك الآن ثلاثون سنة, اسأل نفسك قبل ثلاثين سنة: ماذا كنت؟ لم تكن شيئاً مذكوراً, وبعدها كيف جئت؟ قال الله عز وجل: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] أمشاج: أخلاط, نبتليه: نختبره.
بعد ما يحصل هذا الاختلاط والامتزاج بين النطفة والبويضة تستمر أربعين يوماً وهي على حالتها لا تتغير, بعد أربعين يوماً تتطور وتنتقل من مرحلة النطفة إلى مرحلة العلقة فتصير لحمة على شكل علقة, والعلقة: دابة تعيش في المياه الراكدة, يعرفها أهل القرى، وسميت علقة؛ لأنها تعلق في ألسنة المواشي والبقر إذا شربت من الماء, ولقد رأيتها بعيني مثل تلك العلقة بالضبط التي أخبر الله عنها, وقد رُصدت حركة تكون الجنين منذ كونه نطفة إلى أن يخرج من بطن أمه، وتقرر وتبين بالعلم الحديث أن خلق الإنسان يتم بتلك الخطوات التي جاءت في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خطوة خطوة, مما يدل على أن هذا كلام الله, وأن هذا الرسول رسول من عند الله حقاً.(93/4)
العلم الحديث يقرر ما ذكره القرآن عن مراحل تكوين الجنين
في مؤتمر الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة الذي عقد قبل سنوات في القاهرة، دعي إلى هذا المؤتمر أكبر عالم على وجه الأرض في علم الأجنة، علماً أن هذا العالم ليس مسلماً ليلقي محاضرة عن تكون الجنين -وطبعاً يتكلم عن علم- ولما انتهى من محاضرته قام أحد علماء المسلمين وقال له: إن ما ذكرت من الحقائق العلمية قد جاء بها كتاب الله وجاءت بها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم ذكر له الآيات التي في سورة المؤمنون, وذكر له حديث البخاري ومسلم: (إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك) الحديث, ولما انتهى قال: أهذا عندكم في الكتاب والسنة؟ قال: نعم.
قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
والله ما أخبر نبيكم بهذه الحقائق إلا الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم بهذه الحقائق قبل وجود الجامعات، ومراكز البحث العلمي، وأجهزة الرصد والتصوير التلفزيوني، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف شيئاً عن تلك الحقائق، فقد كان يعيش في البادية لا يقرأ ولا يكتب، بل حتى الحرف لا يعرفه صلوات الله وسلامه عليه, ثم يخبر بحقائق علمية ما اكتشفت إلا في القرن العشرين في عصر العلم وعصر الذرة وعصر الأجهزة مما يدلل على أن هذا الكتاب الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82].
بعد أربعين يوماً أخرى تنتقل العلقة إلى مضغة وسميت مضغة؛ لأنها أشبه ما تكون بلقمة وضعت تحت الأضراس ثم مضغت، وقد رأيتها -أيضاً- بعيني كأنها لقمة مضغت, وهذه المضغة هي بداية تكون سلسلة العمود الفقري للإنسان, وبعد أربعين يوماً تتحول هذه المضغة إلى عظام, يركب الهيكل العظمي للإنسان كاملاً حتى الأضلاع، وقد رأيتها كأنها دبابيس مشكلة، كل عظم مع الثاني وكل مفصل مع الثاني، وبعد ذلك تكس هذه العظام باللحم ثم ينشئه الله خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين.
ولو قمت بمقارنة بين تلك النطفة المنوية وبين ذلك الإنسان، لوجدت أنه لا نسبة ولا تناسب بينهما، ولكن كما قال الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14].
يهيأ لهذا المخلوق الجديد في بطن أمه ويزود بإمكانات لاستقبال هذه الحياة, فيخلق له رغم أنه لا يمشي بهما في بطن أمه, وتركب له اليدان وهو لا يستعملهما, ويعطى عينان وهو لا ينظربهما؛ لأنه ليس في بطن أمه نور, بل يخلق الجنين في ظلمات ثلاث يقول الله عز وجل: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر:6] ((يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ)) أي: مراحل ((فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ)) ظلمة الرحم, وظلمة البطن, وظلمة المشيمة, لكن مع ذلك الجنين له عينان لماذا العينان في الظلام؟ من أجل أن يستخدمهما إذا خرج من بطن أمه, وتخلق له أذنان بالرغم أنه ليس هناك أصوات في عالم الأرحام, وأيضاً يخلق له جهازاً تنفسياً كاملاً من الأنف إلى الرئة كما أوجد الله له جهازاً هضمياً من البلعوم إلى المريء، وتتم عملية تنفس الجنين وتغذيته عن طريق الحبل السري, المتصل ببطن الجنين مع أحشاء الأم حيث يتم إمداد الجنين بثلاثة أشياء عبر الحبل السري وهي: الطعام, والهواء, والماء, سبحان الله الذي لا إله إلا هو!! وبعد أن يصبح جاهزاً يخرج إلى الحياة.
من الذي أخرجه؟ إنه الله سبحانه وتعالى يقول الله عز وجل: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس:20] يكون وضعية الجنين في بطن أمه على هيئة الجالس, وجعل الله عز وجل وجهه من جهة العمود الفقري لأمه, لماذا؟ لأن البطن قد يتعرض لكدمات أو لضغط أو لضربة أو شيء ما يصيبك شيء تصيبك في النقرة, لكن بطنك وفمك وعينيك من جهة عظام أمك محمي, لأنك في القرار المكين {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:13] وجالس متكئ هنا الطحال ومن هناك الكبد, ويعيش في راحة إلى أن تأتي ساعة الخروج فيقلبه الله عز وجل, فهذا المخاض -الطلق- الذي تعانيه المرأة هو: عملية قلب الجنين من أجل أن يخرج رأسه أولاً, وإذا خرجت رجلاه أو يداه أولاً تعسرت الولادة, ولا يخرج إلا بعملية تفتح فيها بطن الأم, ولكن الله يقلبه وينزل رأسه ويخرج هذا الجنين.
لو استطعنا أن نتحدث مع هذا الجنين قبل أن يغادر عالم الأرحام وقبل أن يخرج إلى الحياة, وقلنا له: أيها الجنين! سوف تخرج من هذا الرحم ومن هذه الظلمات ومن هذا الضيق إلى دنيا واسعة فيها سماوات وأرض وشمس وقمر وجبال وأنهار وبحار وأشجار وعمارات وطائرات وسيارات إذا حدثناه بهذا الكلام هل يصدق؟ سيقول لنا: أنتم تعيشون على الخرافات, أنتم رجعيون تؤمنون بالخرافة, سماوات! أرض! شمس! قمر! أين هي؟! وينظر إلى بطن أمه فلا يرى إلا الطحال والكبد ويقول: ليس هناك شيء إلا بطن أمي, ولا يؤمن بأي شيء آخر؛ لأنه لم ير شيئاً.
قلنا له: شكراً هذه معلوماتك، وأنهينا الحديث معه, وخرج إلى الدنيا، وبعد أن عاش أربعين أو عشرين سنة جئنا وقلنا له: يا فلان! قال: نعم.
قلنا: أجرينا معك محادثة وأنت في رحم أمك وقلنا لك: بأنك سوف تخرج إلى الدنيا هذه واسمع كلامك, ولما سمع كلامه قال: لقد كنت مخطئاً, فلمَ أنكرت؟ قال: لأني قست الدنيا على عالم أمي, وكنت أظن أن ما في الدنيا إلا بطن أمي, ثم تبين لي أن هناك دنيا واسعة ومعلوماتي كانت غلط.
كذلك أيها الإخوة! حينما نحدث الناس عن الجنة والنار، والبعث، والصراط، والحوض، وعن الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وعن الحقائق الإيمانية في الآخرة إذا حدثناهم بها فعليهم أن يعرفوا أنهم لن يستطيعوا أن يدركوها كما لم يستطع ذلك الطفل أن يدرك هذه الحياة؛ لأن نسبة عالم الدنيا إلى عالم الآخرة كنسبة عالم الرحم إلى عالم الدنيا, ولكن عليهم أن يؤمنوا بها، والذي يكذب ويقول: أين الجنة وأين النار؟ مثل ذلك الطفل الذي يقول: أين السماوات والأرض؟ ولكن لما رآها آمن بها، وكذلك الإنسان يوم يموت يرى الجنة ويرى النار، ويتمنى أن يرجع إلى الدنيا من أجل أن يصحح الوضع مع الله, ومن أجل أن يعبد الله، ولكن لا يجاب, ولذلك يقول الله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة:12]-نظرنا كل شيء- {فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] وقال سبحانه في سورة الأنعام: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:27 - 28].(93/5)
مراحل عالم الطفولة
وبعد ذلك يخرج الجنين, ويلاحظ عند خروج الجنين ثلاثة أشياء:(93/6)
ملاحظات في عالم الطفولة
أول شيء يخرج باكياً، ليس هناك طفل في الدنيا يخرج ضاحكاً, الأطفال جميعهم عربي وعجمي وسعودي وهندي وأمريكي إذا خرج إلى الدنيا فإنه يبكي, لماذا؟ قال العلماء: كان في بطن أمه في ضيق وخرج إلى السعة, كان في الظلمات وخرج إلى النور, المفروض أنه لما يخرج إلى السعة يضحك, لكن لماذا يبكي؟! لا يوجد مولود في الدنيا يخرج وهو لا يبكي, إلا عيسى عليه السلام فإنه خرج محفوظاً بأمر الله لم يقدر عليه الشيطان.
أما كل مولود فيخرج باكياً كما أوضح الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان ينزغ الإنسان في جنبه الأيسر إذا خرج) كأنه يعلمه ويشعره ببدء المعركة, فيبكي الطفل.
- أن الولد يخرج قابضاً كفه, لا يوجد أحد يخرج ويده مفتوحة, لماذا؟ قالوا: هذا يعبر عن حرصه على الدنيا وعن استعداده للصراع.
- أن القابلة أو الممرضة أول عمل تعمله بعد خروج الجنين, قطع الحبل السري بالمقص، أي: تقطع رزقه الذي أجراه الله له وعاش عليه تسعة أشهر, لكن الله لم يقطع رزقه، إذا قطعوا رزقه الذي كان يأتيه عن طريق الحبل السري من أمه نقل الله الطعام من الحبل السري إلى الثدي, فتجد الأم ثديها ناشفاً ولا يوجد فيه شيء, ولكن ما أن يضع الطفل الصغير فمه على هذا الثدي ويمصه حتى تحن عليه الأم وتشفق عليه وترحمه، ثم يترجم هذا الحنان وهذه الشفقة في لبن من أحسن هيئة وأحسن كيفية لا حار ولا بارد، ولا حلو ولا حامض, من أخرجه من بين الدم والعروق؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو.
ولقد قال العلماء والأطباء: إن أفضل لبن يتغذى به الطفل هو لبن الأم؛ لأن الله خلقه وجعله دواءً له, وعدول الأم عن إرضاع ولدها من ثديها إلى الحليب الصناعي خطأ, ويترتب على ذلك مشاكل كثيرة تعاني منها الأم نفسها؛ لأن بعض الأمهات تقول: أنا لا أريد أن أرضع ابني أو ابنتي, لماذا؟ قالت: أريد أن أحافظ على رشاقتي, تريد أن تبقى رشيقة دائماً, ولكن أثبت الطب الحديث أن عدم إرضاع الطفل يسبب للمرأة أمراضاً منها سرطان الثدي، فسرطان الثدي عبارة عن خلل في نمو الخلايا الموجودة في الثدي، ويترتب عليه انتشار غير حميد يسمونه بالانتشار الخبيث، ثم يؤدي إلى استئصال الثدي كله بسبب عدم إرضاع الأم ولدها من ثديها.
أيضاً رابطة الحنان والحب والرحمة والشفقة بين الأم والابن تنعدم بسبب الإرضاع عن طريق الحليب الصناعي؛ لأنها إذا أرضعته وحنت عليه وضمته إلى صدرها وربته يمتلئ قلبها رحمة وحباً وتعلقاً به, وهو أيضاً يبادلها نفس هذه المشاعر وينعكس هذا على بره بها إذا كبر, فيصبح باراً لها قائماً بواجبه نحوها لماذا؟ لأنه يرد لها شيئاً من الجميل, ولكن من أول ما جاء المولود تركته وجعلته يرضع من الحليب الصناعي؛ ولذا تجد بعض الأولاد لا يحس أن أمه أمه, ولا يحن إليها ولا يرحمها ولا يحبها وهي أيضاً لا تحبه لهذا السبب, فلا بد أن ترضع الأم ابنها.(93/7)
نداء للشباب قبل الزواج
الله تبارك وتعالى أمر بتهيئة هذا المولود وإعداده قبل الزواج ليقوم بالرسالة التي خلقه الله عز وجل لها وهي العبادة, فيوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم إذا أراد أن يتزوج أن يكون له هدف في الزواج: وهو أن يبحث عن ذات الدين يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في البخاري: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها, فاظفر بذات الدين تربت يداك) وهذه دعوة من النبي صلى الله عليه وسلم على من لم يوفق في ذات الدين, كأنه امتلأت يداه بالتراب, يعني: إذا لم يكن عنده ذات الدين، فليس عنده زوجة ما عنده إلا تراب، صحيح أن الإنسان يود أن تكون امرأته ذات دين ومعها شيء من الجوانب الأخرى هذا مطلوب مثل: أن تكون جميلة، وذات مال, وذات حسب ونسب, لكن أهم شيء أن تكون ذات دين، فإن حصلت على ذات الدين فقد جاءتك البركة من كل جانب ولو قصر عليها شيء من الجمال, أو قصر عليها شيء من الحسب, قال تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة:221] ولو كان ما عندها مال, لكن افرض أنها ذات مال أو ذات جمال أو ذات حسب وليس عندها دين والعياذ بالله فهذه لا خير فيها, مهما بلغت وكانت, إذاً عليك مسئولية وهي أن تتزوج ذات الدين، لكن من الذي يهيئ ذات الدين ويعدها؟ الآباء, ولهذا مسئولية إعداد البنات مسئولية الوالدين عندما يقول الشرع للشاب: لا تتزوج إلا ذات الدين.(93/8)
مسئولية الوالدين في تربية البنات
أيها الآباء! ربوا بناتكم تربية دينية من أجل يتزوج بها صاحب الدين, لكن من أين يتزوج صاحب الدين إذا كانت البنات فاسدات؟! قد يضطر أن يتزوج بالفاسدة، وبالتالي تقوم الأسرة على أساس فاسد, ويأتي نسل وجيل فاسد تفسد معه الحياة, لكن الإسلام يقول لمن أراد الزواج: تزوج ذات الدين، ومعنى هذا: أيها الأب! رب ابنتك على الدين, وأنشئها نشأة إسلامية, وأيتها الأم ربي ابنتكِ على الصلاح والتقوى، فالدور الرئيسي في التربية للأم، فإذا كانت الأم صالحة كان الأبناء صالحين, وإذا كانت الأم فاسدة فالأبناء فاسدون, فالأم التي تكذب يكون أولادها كذابين, والأم التي لا تصلي فأولادها لا يصلون, والأم الخائنة يكون أولادها خونة, والأم الزانية يكن بناتها زانيات، لماذا؟ لأنهم يتخلقون بأخلاقها, من أين جاءنا خالد وعمار وصهيب؟ من أين جاءنا الأبطال؟ إلا من الأمهات الصالحات, ومن أين جاءنا الخنافس والحشرات الذين ملئوا الدنيا بالفساد إلا من الأمهات الفاسدات.
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
والرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: (فاظفر بذات الدين) حث على الدين بشكل أكبر لماذا؟ لأن دينها لها ولك ولأولادها.
إذاً مسئولية إعداد البنت مسئولية مشتركة بين الأب والأم, فالذي يربي بناته على الفسق والمعاصي يتسبب في إيجاد أمهات فاسدات وجيل فاسد، وعليه إثمه بين يدي الله, بل بعض الآباء الآن يضع لوحة فوق البيت ويقول للناس: لا تقربوا مني فبناتي لا يصلحن لكم -هذا لسان حاله- فالذي يركب (الدش) فوق بيته, هذا كأنه يرسل برقية ورسالة إلى الأزواج بفساد هذه الأسرة فإذا أراد أن يتزوج سأل: كيف بناته؟ قالوا: والله فوق بيته (دش)، قال: لا أريد بناته, لماذا؟ لأن فوق البيت (دش)، قد علمهم الفساد، فليس من فساد في الأرض إلا وقد أخذوه ودرسوه في الليالي الحمراء والسوداء, فما يأتي أحد يتزوج إلا واحد مثله, أما صاحب الدين فلا يأتيه, فإذا جاء السيئ وأعطيته ابنتك فقد قطعت رحمها, وسوف يريك النجوم في وسط النهار، يعني: سوف ترى منه كل ما تكره، لكن إذا ربيت ابنتك على الدين وحفظتها من مساوئ الأخلاق، وهيئتها بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اخترت لها صاحب الدين، وأخذها هذا الرجل إن أحبها أكرمها وإن كرهها لم يظلمها, فإذا قامت الخلية الأولى من خلايا المجتمع وهي الأسرة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سعدت الحياة.(93/9)
من آداب الإسلام في ليلة الزفاف
بعد ذلك إذا تزوج الرجل بذات الدين يعلمه الإسلام آداباً: أول أدب في أول ليلة والتي يسمونها ليلة العمر -ليست القضية قضية شهوة ولا غرائز، لا.
إنما قضية شرع ودين- أنك إذا دخلت عليها في غرفتها أن تضع يدك على ناصيتها وتقول: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه, وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه) كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تصلي لله ركعتين شكراً لله على هذه النعمة, وبعد ذلك إذا أردت أن تأتي أهلك فلا تنس أن تذكر الله قال صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يأتي أهله فيقول: باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ثم رزق ولد لم يقربه شيطان) ولذلك ترون بعض الأولاد كالشياطين لربما نسي أبوه أن يسمي تلك الليلة, لذلك تجد الأب نفسه يقول: والله ولدي هذا شيطان.
وتجد ولداً آخراً هادئ طيب صالح مهتدي، لا تأتِ وأنت كالبهيمة ما عندك دين، لا.
أنت لك عقل أنت مسلم، تذكر اسم الله إذا أتيت أهلك، في تلك اللحظات يطغى على الإنسان جانب الشهوة والنزوة فينسى أن يذكر اسم الله, فلا تنس هذا الذكر: باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا.
وورد في الحديث أن الرجل إذا لم يذكر الله في هذه اللحظات يأتي الشيطان وينعقد على إحليل الرجل -قضيب الرجل- ويجامع المرأة مع الرجل, فيأتي الولد مشترك بينهما والعياذ بالله.(93/10)
من السنن النبوية الواردة من حين الولادة إلى بلوغ سن الرشد
بعد أن تلد الأم وليدها، من السنة أن يكون أول صوت يدخل في أذن الولد هو الأذان؛ حتى يطرق سمعه أول كلمة: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر إلخ، بعد ذلك إذا بدأ يتكلم تعوده على كلمة: لا إله إلا الله, قبل (ماما وبابا وجدة) وغيرها من الكلمات فينبغي أن تعوده قول: لا إله إلا الله لا إله إلا الله لا إله إلا الله وتعلمه هذه الكلمة, بعد أن يكمل السادسة من عمره ويبدأ في السابعة تعوده على الصلاة للحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع) اختلف أهل العلم في تحديد وقت هذه السبع الواردة في الحديث هل يكون في بداية السبع، أو إذا انتهت السبع؟ قالوا: لسبع يعني: إذا بدأ, ومن الناس من قال: أنه إذا أكمل السبع, لكن الأولى والأقرب للصحة: أنه إذا بدأ السابعة.
فإذا بدأ في السابعة تقول له: تعال يا ولدي! أنت الآن دخلت السنة السابعة لا بد أن تصلي, الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نعلمك كيف تصلي؟ فتأخذ الإناء وتأخذه إلى مكان الوضوء وتريه كيف يتوضأ؟ وتأخذه معك في صلاة الظهر, وتقول له وأنت ذاهب إلى المسجد: يا ولدي! نحن ذاهبون إلى المسجد وهذا بيت الله بيت العظيم بيت الجليل, لا يجوز لأحد أن يجري فيه، ولا يتكلم، ولا يصيح، ولا يعبث بالمصاحف، ولا يلعب، ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً, وإنما يجلس بأدب؛ لأن البعض يأخذ ولده إلى المسجد لكن يأخذه من غير تعليم, فيعبث الولد في المسجد، ويمزق المصاحف، ويجري، ويتحول المسجد إلى حديقة أو روضة أطفال, لا.
إذا جئت بالولد فأت به وعلمه, ثم أمسكه بيدك ولا تمش وحدك وتتركه في طرف الصف, صل بجانبه من أجل أن تراقب تصرفاته, وعليك أن تتابع ولدك وتقول: هل صليت يا ولد؟ اسأله باستمرار عن كل صلاة؛ لأن الله يقول: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] ليس مرة فقط وإنما تابعه بشكل مستمر {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه:132] الرزق على الله، يقول الله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} [طه:132] هذه وظيفتك, فكثير من الناس الآن اهتمامه بالرزق فقط, الرزق على الله, ووظيفتك أنت الصلاة, لو أن مسئولاً كبيراً قال لك: تعال هذه المهمة نفذها ومسألة الرزق هذه عليّ لا تهتم, ماذا تقول؟ تقول: حاضر أنا مستعد؛ لأن هذا المسئول متكفل برزقي، فكيف تثق في الناس ولا تثق في ربك؟! الله يقول: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه:132] رزقك على الله فعليك أن تهتم بالصلاة.
وعند دخوله العشر سنوات، تنتقل من مرحلة الأمر والتعليم إلى مرحلة المتابعة والعقوبة، ليس بالضرب مباشرة, في البداية تتابعه؛ هل صليت يا ولد؟ قال: نعم.
صليت، تسأله: أين صليت؟ قال: في المسجد, من صلّى بكم؟ قال: فلان الفلاني, ماذا قرأ في الركعة الأولى؟ ومن صلّى عن يمينك ويسارك؟ لتعرف هل هو صادق أم كاذب؟ ويعلم أنه متابع, وبعد ذلك إذا رأيت قصوراً فلا مانع من الضرب؛ لأن هذا هو توجيه النبي صلى الله عليه وسلم المعلم الأول للإنسانية (واضربوهم عليها لعشر).
بعد ذلك يصل سنه خمسة عشر عاماً ويبلغ عند ذلك سن الرشد, وبلوغ سن الرشد يكون بإحدى ثلاث: إما بالاحتلام، أو بالإنبات -بأن ينبت شعر في العانة- أو ببلوغ الخامسة عشرة سنة, إذا حصلت إحدى هذه العلامات حصل الرشد عنده وأصبح مخاطباً بتكاليف الشرع, ولذلك يلزمك أن تشعره أنه أصبح الآن مسئولاً عن جميع تصرفاته مخاطباً بتكاليف دينه، وأنه الآن مؤاخذ, والبداية كلها كانت عملية تدريب وتعليم فقط, أما الآن لم تعد عملية تدريب بل أصبحت مؤاخذاً, فإذا وقعت في أي خلل فإنك مستحق لعقوبة الله عز وجل.(93/11)
المرحلة الثانية: مرحلة التكليف
تكلمنا عن المرحلة الأولى وهي: عالم الأجنة في الأرحام, والمرحلة الثانية هي: عالم الحياة الدنيا ويبدأ ما بين سن التكليف إلى لحظة الوفاة, والناس يقضون هذه المرحلة منقسمين إلى فريقين:(93/12)
حياة المتقين
فريق قطع مراحل حياته متزوداً بكل ما يرضي الرب عز وجل, ممتثلاً أوامر الله عز وجل مجتنباً لنواهيه, مصدقاً بأخباره, عاملاً بأمره، منتهياً عن نهيه, يدور مع الكتاب والسنة, يسير حياته على وفق أمر الله, فلا ينظر إلا إلى ما أحل الله, ولا يسمع إلا ما أحل الله, ولا يتكلم إلا بما يرضي الله, ولا يمد يده إلا فيما أحل الله, ولا يطأ بفرجه إلا فيما أباح الله, ولا يسير بقدمه إلا فيما يحبه الله, ولا يُدخل بطنه إلا ما أحله الله, تفكيره في ليله ونهاره كله مع الدين, وليس معنى قولنا: إنه مع الدين أنه لا يعيش في الدنيا، لا.
سيكون تاجراً لكن تاجر صادق بر, سيكون موظف لكن موظفاً أمين صادق, وسيكون كل شيء في الحياة بالدين؛ لأن الدين يصلح دنيا العبد وآخرته، سيترك فقط الخبائث والشرور والآثام والمعاصي, وهكذا يعيش إلى أن تنتهي أيامه.(93/13)
حياة الغافلين
فريق آخر قطعوا مراحل حياتهم متزودين بسخط الله, ينتقلون يوماً بعد يوم فيما يسخط الرب, ينظرون بأعينهم إلى ما حرم الله ولا يبالون بالحلال والحرام, يسمعون بآذانهم كل فحش وخنا من غير أن يبالوا أهذا حلال أم حرام؟ يتكلمون بألسنتهم في كل ما يريدون من غير قياس لحلالٍ أو حرامٍ, يطئون بفروجهم في الحلال والحرام, يأكلون في بطونهم الحلال والحرام, يمدون أيديهم إلى الحرام, يسيرون بأقدامهم إلى الحرام, يعيشون وهم يتقلبون في المعاصي والذنوب حتى يموتوا وهم على ذلك, هؤلاء هم كما قال الله: (شر البرية) والفريق الذي ذكرناه آنفاً والأولين هم (خير البرية) يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6] أي: شر الخليقة, فهم شر مَن خلق الله, أعوذ بالله من هذه العيشة أن تعيش في الدنيا وأنت على الشر والمعاصي.
أما أولئك قال الله عز وجل عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:7 - 8] ثم تنتهي الحياة في الدنيا في المرحلة الثانية.(93/14)
عالم البرزخ
المرحلة الثالثة: وتأتي المرحلة الثالثة من الحياة وهي: عالم البرزخ في القبر.
وعالم البرزخ يختلف عن عالم الدنيا كاختلاف عالم الدنيا عن عالم الأرحام, يوضع الناس في قبورهم وينعم أهل الإيمان ويعذب أهل الكفر والفسوق والعصيان, ظاهر القبور تراب وباطنها نعيم أو عذاب, كيف؟ قد يكون ما بين القبرين إلا نصف متر, أحدهما: في روضة من رياض الجنة، والآخر: في حفرة من حفر النار ليس بينهما فاصل إلا شيء يسير، كيف؟ يجيب على هذا السؤال ابن القيم رحمه في كتابه الروح يضرب مثالاً لذلك فيقول: ينام الرجلان على سريرين مختلفين, ويرى الأول رؤيا حسنة، يرى أنه تزوج وأنه دخل بزوجته, وعاش معها ليلة العمر, ويرى الثاني رؤيا سيئة، رأى أن رجلاً اعتدى عليه بسكين وجعل يطعنه في بطنه وفي قلبه وفي جسمه مضت ليلته وهو يُطعن, فعاش طوال الحلم والليل في عيشة سيئة, وفي الصباح جاء شخص وأيقظ الأول وقال له: قم, ولما قام وإذا به ما عنده المرأة, فيتلفت فإذا بالسرير والفراش ما عليه أحد, ماذا سيقول؟ يقول: ليتك ما أيقظتني، لقد كنت في حلم رائع، كنت أتمنى لو مكثت فيه سنة.
وذاك إذا جاء شخص أيقظه: يا فلان قم, أول ما يقوم يقول: الحمد لله وينظر إلى جسمه هل هناك طعن ودم, فإذا به لم ير شيئاً.
ما لك؟ قال: الحمد لله، والله لقد كنت في حلم مزعج، رأيت شخصاً يطعنني بالسكين طوال الليل في قلبي وبطني وفي صدري وفي جنبي, الحمد لله أن هذا حلم وليس بحقيقة.
فهذا تنعم في النوم، وهذا تعذب في النوم، ولكن من التي تنعمت وتعذبت عندهم؟ إنها الروح, تنعمت روح هذا في المنام فانعكس نعيم الروح على الجسد، وشعر الجسد باللذة بالرغم أنه لا توجد امرأة, وذاك تعذبت روحه في المنام بالطعن فتعذب الجسد بالرغم من أنه لا يوجد طعن في الجسد, كذلك الناس في قبورهم، صاحب الإيمان في قبره روحه تنعم, رغم أن جسده أصبح تراباً, لكن يتنعم الجسد عن طريق الروح, وذاك صاحب الكفر تتعذب روحه في قبره ومع أن البدن قد أصبح تراباً, إلا أنه يناله العذاب حتى تقوم القيامة.
وتتم مساءلة للإنسان في قبره في هذه المرحلة عن طريق ملكين من الملائكة هما: منكر ونكير, يسألان الرجل ويقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ومن رحمة الله أن الله كشف لنا الأسئلة وأخبرنا بالامتحان؟ وقال: الأسئلة ثلاثة: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ الجواب سهل: ربي الله, ديني الإسلام, نبيي محمد صلى الله عليه وسلم, لكن من الذي يقول هذه الكلمات الثلاث؟ لا يتكلم هناك إلا الصدق {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] يلهمه الله حجته ويقول: ربي الله, وديني الإسلام, ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم -اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة- يا أخي! ما أعظم أن يثبتك الله وتقول هذه الكلمات.
جاء في حديث البراء بن عازب -في مسند أحمد وفي سنن أبي داود والحديث صحيح- مرفوعاً قال: (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبالاً على الآخرة، نزلت من الجنة ملائكة معها حنوط من الجنة وكفن من الجنة، فيجلسون له مد البصر، ثم يأتي ملك الموت فيقول: يا أيتها الروح الطيبة -كانت في الجسد الطيب- اخرجي إلى روح وريحان وإلى رب غير غضبان, فتخرج روحه وتسيل كما تسيل القطرة من فم السقاء، فلا يدعوها في يده طرفة عين حتى يضعوها في ذلك الحنوط والكفن, ثم يصعدون بها إلى السماء، فتفتح لها أبواب السماء، حتى يوصل بها إلى الرب، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين -أي: احجزوا له مكاناً في عليين أعلى درجات الجنة- وأعيدوا روحه إلى جسده فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى, فتعاد روحه إلى جسده، حتى إنه ليسمع قرع نعال الذين دفنوه ويأتيه الملكان فيقعدانه، ثم بعد ذلك يسألانه ويقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيثبت الله المؤمن ويقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم, فيقولان له: صدقت, وينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي, افرشوا له من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة, فيأتيه من روحها ونعيمها ويقول: رب أقم الساعة، وينام كما ينام العريس) نسأل الله أن يجعلنا وإياكم مثل هؤلاء.
أما الآخر والعياذ بالله قال: (وأما العبد الفاجر إذا كان في انقطاع عن الآخرة وإقبال على الدنيا، نزلت من النار ملائكة معها مسوح من النار، فيجلسون له مد البصر, ويأتيه ملك الموت ويقول: يا أيتها الروح الخبيثة -كانت في الجسد الخبيث- اخرجي إلى سخط من الله وغضب, فتتفرق روحه في جسده، ثم يجذبها كما يجذب السفود من الصوف المبلول, فتخرج ثم لا يدعوها في يده طرفة عين, حتى يأخذوها فيضعوها في تلك المسوح، ثم يصعدون بها إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها -لا يسمح لها بدخول السماء- ثم قرأ رسول الله قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]) إذا دخل البعير من ثقب الإبرة دخل الجنة, وهذا يسمونه التعليق على المستحيل أي: مستحيل أن يدخل الكافر الجنة.
قال: (ثم يقول الله عز وجل: أعيدوا روحه إلى الأرض، واكتبوا كتابه في سجين، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى, فتعاد روحه ترمى من السماء -يقول الله عز وجل: {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]- فتعود روحه إلى جسده، ويأتي الملكان ويقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيضله الله ولا يعرف الجواب -قال الله: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]- فيقول: هاه هاه هاه لا أدري, فتقول: كذبت لا دريت ولا تليت, وينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي, ثم يضرب بمطرقة من حديد, ثم يضيق عليه في القبر حتى تختلف أضلاعه، ثم يفتح له باب إلى النار ويقال له: نم كما ينام اللديغ).
هذه فترة البرزخ, ولهذا القبور على صنفين -كما ذكرنا- وعذاب القبور حق، وقد أُمرنا بالاستعاذة من عذاب القبر، ففي الصحيحين أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة -والأمر موجه إلى الناس والأمة أيضاً- أن يقولوا قبل السلام وبعد الانتهاء من التشهد: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) فمن السنة أن تقول هذا الذكر؛ لأنه أمر به صلى الله عليه وسلم.(93/15)
عالم يوم القيامة
ثم تأتي بعد ذلك المرحلة الرابعة من هذه الرحلة الطويلة, وهي: عالم يوم القيامة.(93/16)
القيامة وتغير معالم الكون المشهود
هذا اليوم يوم عظيم سمي بأسماء كثيرة في القرآن الكريم: يوم القيامة, يوم الآزفة, يوم الزلزلة, الطامة, الصاخة, القارعة, لماذا؟ لأنه يحصل فيه تغيير لمعالم الكون المشهودة التي نراها الآن ويتبدل كل شيء, قال تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير:1 - 2] وقال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار:1 - 4] وقال سبحانه: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} [الانشقاق:1 - 3] فكل شيء يتغير, ولا يبقى مكانه, فيحصل للإنسان رهبة وخوف, فالآن لو هبت رياح أو أعاصير أو طغى البحر على البر كيف يكون الناس؟! كيف يكون خوفهم، فكيف إذا رأوا السماوات والأرض تدمر، والشمس تكور، والبحار تسجر؟!! يقول الناظم في هذا المعنى:
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
قد كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير
وإذا الجبال تقلعت بأصولها ورأيتها مثل السحاب تسير
وإذا البحار تأججت نيرانها ورأيتها مثل الحميم تفور
وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت فتقول للأملاك: أين نسير؟
فيقال: سيروا تشهدون فضائحاً وعجائباً قد أحضرت وأمور
وإذا الجنين بأمه متعلق يخشى الحساب وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المقيم على الذنوب دهور؟
فمن هول يوم القيامة يكون الولدان شيباً، الولد الصغير يشيب، فكيف أنا وأنت؟ قال سبحانه وتعالى: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} [المزمل:17] وقال تعالى: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} [المزمل:18] وقال سبحانه: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] وقال سبحانه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام:30] وقال سبحانه: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:18 - 19].(93/17)
نشر الصحف
في ذلك اليوم الرهيب يحصل للناس أهوال عظام وأمور جسام, أول تلك الأمور تطاير الصحف، تطير كتب الناس في السماء، ويؤمر كل واحد أن يأخذ كتابه, فآخذ باليمين وآخذ بالشمال, يأتي الشخص فيأخذ الكتاب باليمين إن كان من أهل اليمين -جعلنا الله وإياكم منهم- ونظر فيه رأى الحسنات كلها؛ لأن السيئات يغفرها الله للمؤمن, فإذا رآه قال: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] يقول: انظروا شهادتي! مثل الطالب الذي يأتي بالشهادة وهي مملوءة بالعلامات الكبرى والدرجات الممتازة, فيذهب يريها لأبيه ولأمه ويخبر الناس كلهم, بعض الطلاب يقف في الشارع وهو لا يعرف أحداً من الناس, كل من مر يقول له: انظر شهادتي, فيقال له: وما شأني أنا بشهادتك؛ لكن من بالغ فرحته يجب أن يعلم الناس كلهم بخبر نجاحه وإن كانوا لا يعرفونه.
لكن البليد الذي شهادته كلها دوائر حمراء وساقط لا يظهرها لأحد, وإذا ذهب إلى البيت وقد أعلنت النتيجة وسأله أبوه أو أمه: أين النتيجة؟ قال: لم تظهر بعد -وهي قد ظهرت- بعد يومين أو ثلاثة أيام, وفي اليوم الثاني يقول: ما طلعت, فيقول أبوه: زملاؤك ظهرت نتائجهم لماذا أنت؟ يقول: ربما ظهرت سوف أذهب استلمها غداً, يريد أن ينزل الخبر بالتقسيط, لكيلا يفاجئ الأب بالخبر, وبعد ذلك لما يدخل البيت يقول: الحمد لله أبشركم, قالوا: خير, قال: سقطت في مادتين فقط, وهي ثمان وليست اثنتين ثم يقول: الأمر يسير وهذه المادتان سوف أنجح فيهما خلال الصيف, ولكن الذي لم ينجح في سنة لا ينجح في شهرين، الفاشل فاشل, والذي همته دنيئة همته دنيئة.
كذلك أهل الإيمان إذا نجحوا يوم القيامة {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] لكن لمن يظهرها؟ أتدرون من يسمع بهذا الخبر؟ أهل المحشر كلهم, كل من على أرض المحشر يسمعون خبر نجاحك إذا قلت لهم: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:19 - 24].
فالذي لا يأخذ كتابه بيمينه يأخذه بشماله, هو لا يريد أن يأخذ الكتاب بالشمال, فيحاول يأخذ الكتاب باليمين فيضرب على كتفه فتسقط يمينه, فلا تبقى إلا شماله فيأخذ الكتاب بالشمال، فإذا أخذه رأى السيئات؛ فيرى قطع الصلاة والزنا والخمور واللواط والربا وعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام والحلف الفاجر والكذب والغيبة والنميمة يرى كل شيء عمله, يقول الله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] وقال سبحانه: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] ويقول سبحانه: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6] من منكم يذكر ماذا عمل قبل شهر؟ ماذا تغدينا ذلك اليوم؟ لا ندري, من زرنا؟ لا ندري, من زارنا؟ لا ندري, هل صلينا الفجر في المسجد؟ لا ندري, هل عصينا الله في ذلك اليوم؟ لكن الله سبحانه يعلم ذلك كله، (أحصاه الله ونسوه) يقول الله سبحانه: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:13] أي: الكتاب {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:13 - 14] فعندما يرى الفضائح يخفيها ويقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:25 - 27] فصاحب المال يقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:28] وصاحب السلطان يقول: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:29] فيقول الله للملائكة: {خُذُوهُ} [الحاقة:30] فيبتدره سبعون ألف ملك, إذا قال الله: خذوه فلا يقوم ملك واحد وإنما سبعون ألف ملك, الملك الواحد يقوم يأخذ بيده سبعون ألف فيلقيهم في النار من قوته, لكن لتنفيذ الأمر, ماذا يفعلون به؟ {فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] والغل: هو وضع القيد في اليدين والرجلين والرقبة, {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن:41] {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة:31] أي: أوصلوه, {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32] تدخل من فمه وتخرج من دبره, يقول في الحديث: (والذي نفسي بيده لو أن حلقة من هذه السلسلة وضعت على جبال الدنيا لأرفضتها) وهي سبعون ذراعاً، لماذا سبعون ذراعاً؟ لأن حجم الإنسان يومئذٍ كبير ليس بالشكل الذي عليه الآن, فالإنسان الذي في النار والعياذ بالله كما في الحديث الصحيح الذي ذكره السيوطي في الجامع: (أنه يضخم الإنسان حتى يكون مقعده في جهنم مثل ما بين مكة والمدينة) المقعد أربعمائة وعشرون كيلو متراً, وضرسه مثل جبل أحد , هذا الضرس الواحد فكيف بالرأس؟! جبل أحد واحد كيلو متر، هذا الضرس, عد اثنين وثلاثين ضرساً يعني: اثنان وثلاثون جبلاً والرأس مثل اثنين وثلاثين جبلاً من مثل جبل أحد تقريباً إذاً كيف الجسم؟! أما حجم الجلد فهو مثل سبعة جلود ما بين الجلد والجلد مسيرة ثلاثة أيام، وكل جلد غلظة مسيرة ثلاثة أيام, تبدل في كل يوم أربعمائة مرة من شدة الاحتراق، قال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] لماذا تورط نفسك هذه الورطة كلها ولديك طريق للسلامة، طريق سهل ميسور جداً هو عبادة الله سبحانه، في الصحيحين يقول عليه الصلاة والسلام: (يؤتى بأقل أهل النار عذاباً فيقال له: هل تود أن تفتدي مما أنت فيه بملء الأرض ذهباً, فيقول: نعم ربي, قال الله: قد طلبت منك أهون من ذلك أن تعبدني ولا تشرك بي شيئاً, وتطيعني ولا تعصيني فرفضت) وإنه ليسير على من يسره الله عليه.
{ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوه} [الحاقة:31 - 32] ما السبب؟ قال سبحانه: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة:33].(93/18)
وزن الحسنات والسيئات
بعد ذلك يأتي الهول الثاني وهو هول الوزن قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] إن الله لا يظلم مثقال ذرة, لا تتوقع أن الله يضع حسناتك في موازين غيرك, أو يضع سيئاتك في موازين غيرك لا, والله إن حسناتك لك وسيئاتك عليك, قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام:160] وقال سبحانه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:89 - 90].(93/19)
الحوض وهيئته
وبعد الوزن يأتي الحوض, والحوض ماؤه أشد بياضاً من اللبن, نهر أعطاه الله للرسول صلى الله عليه وسلم: (أحلى من العسل، وأشد بياضاً من اللبن، وعدد كيزانه -الكئوس- كعدد نجوم السماء, من شرب منه شربة واحدة، لم يظمأ بعدها أبداً) قال العلماء: كيف يشرب في الجنة من أنهار الماء والخمر واللبن وهو لم يظمأ؟ قالوا: يشرب للتنعم ولا يشرب من العطش؛ لأن العطش انقطع عند الحوض, وإنما تشرب هناك من أجل الراحة والتنعم بما في الجنة من نعيم -نسأل الله للجميع من فضله-.(93/20)
الصراط وصفته
بعد ذلك يأتي الصراط: وهو جسر ممدود على متن جهنم, دحض مزلة -أي: يسقط- أدق من الشعر, وأحد من السيف, وأحر من الجمر, وليس هناك طريق إلى الجنة إلا منه, ووسائل المشي عليه هو العمل, يقول صلى الله عليه وسلم: (منكم من يمر كالبرق, ومنكم من يمر كلمح البصر, ومنكم من يمر كشد الخيل, ومنكم كأجاويد الركاب -أي: الإبل- ومنكم كشد الرجل الذي يجري, ومنكم من يخطو خطوة ويسقط في الثانية, ومن الناس من يخطو خطوة والثانية في جهنم)؛ لأنه ما سار في طريق الله خطوة واحدة, الزم الصراط هنا تمشي هناك, أما من ضيع الصراط هنا فإن قدمه لا تثبت على الصراط هناك، والله تعالى يقول: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] وقال سبحانه: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:126 - 127].(93/21)
الذين يظلهم الله في ظله
بعد ذلك تدنو الشمس من الرءوس، حتى يكون ما بين الشمس ورءوس العباد مسافة ميل, قيل: إن الميل: مسافة, وقيل: ميل المكحلة, حتى إن أدمغة الناس تغلي كما يغلي الماء في القدور, والمظلة لا تكون إلا لسبعة أصناف يستظلون بمظلة الرحمن: (إمام عادل, وشاب نشأ في عبادة الله, ورجل معلق قلبه بالمساجد -أي: يلازم الصلاة في المساجد- ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال -أي: إلى الزنا- فقال: إني أخاف الله رب العالمين, ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه, ورجل أنفق نفقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه, ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه) هؤلاء يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.(93/22)
المرحلة الأخيرة: الجنة أو النار
وبعد ذلك أيها الإخوة! ينتهي الفصل بين الناس والحساب والجزاء وينقسم الناس إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير, يساق أهل الجنة إلى الجنة سوق التكريم والتشريف الذي جاء في سورة الزمر يقول الله عز وجل: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:73 - 74].
ثم يساق الفريق الثاني -أعوذ بالله وإياكم من ذلك- إلى النار كما قال الله عز وجل: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الزمر:71] من باب التقريع والإهانة والنكاية بهم, كيف دخلتم النار؟! ألم يأتكم كتاب من الله؟! ألم يأتكم رسل يتلون عليكم كتاب الله وينذرونكم هذا اليوم يعلمونكم أن هناك يوم بعث؟! لأن الملائكة لا تتصور أن أحداً يدري بيوم القيامة ولا يعمل لذلك اليوم: {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:71 - 72].(93/23)
نعيم الجنة
أيها الإخوة! في الجنة من النعيم ما لا يتصوره العقل, أنت يا أخي في الله! يا أيها المؤمن! الملتزم بدين الله لا تتصور وأنت تترك المعاصي والشهوات أنك خسرت شيئاً، لا والله, والله ما تترك شيئاً من أجل الله إلا عوضك الله في الجنة ما هو أعظم منه, إذا غضضت بصرك عن النساء في الدنيا فتح الله بصرك للنظر إلى وجهه في الدار الآخرة, وأيضاً فتح بصرك للنظر إلى الحوريات في الجنة، اثنتين وسبعين حورية, الواحدة منهن خير من الدنيا وما عليها, إذا حصنت سمعك من سماع الأغاني في الدنيا تسمع يوم القيامة خطاب رب العالمين، يحدثك الله عز وجل كما يحدث أحدكم الآخر, وتكلم الله ليس بينك وبينه ترجمان, وتسمع أيضاً غناء الحور العين, ورد في الحديث: (أن الله عز وجل يركب في ورق الجنة مزامير من مزامير آل داود، ثم تهب ريح من تحت العرش يقال لها المثيرة, هذه الريح تمر على تلك المزامير فتعزف بألحان ما سمعت بمثلها الآذان, ثم يغني الحور العين على أنهار وضفاف حضيرة القدس يسبحن الله بكرة وعشياً, فيطرب أهل الجنة طرباً لم يطربوا مثله قبله ولا يطرب أحد مثله) هذه الأيام إذا لم تسمع الأغاني قالوا: أنت معقد, لماذا لا تسمع الأغاني؟ اسمع أغاني ومتع نفسك لكن تذكر الأغاني هناك, أما هؤلاء الذين يسمعون الأغاني التي حرمها الشرع سماهم الرسول صلى الله عليه وسلم كلاب أهل النار, جاء عمرو بن قرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! ائذن لي في دفي بكفي -أي: ائذن لي بضرب الدف بالكف من أجل الكسب- يقول: ما وجدت كسباً غير هذا؟ قم قاتلك الله، ثم قال لما ولّى: هؤلاء وأمثالهم -أي: هذا المغني وأمثاله- يبعثون يوم القيامة عرايا لا يستترون بهدبة، كلما قاموا صرعوا) فأنت لا تخسر شيئاً ولكن تخسر الشر, والهون، وتكسب الرضا في الدنيا والآخرة, والخلود في جنة عرضها السماوات والأرض (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).(93/24)
عذاب النار
أما الأشقياء أجارنا الله منهم فيساقون إلى النار, وفي النار أيها الإخوة في الله! ما لا يتصوره العقل، يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] فيها السلاسل والأغلال, فيها الحيات والعقارب, الفراش نار, والدفاء نار, والطعام زقوم, والشراب حميم, والظلال يحموم, يصيحون في النار صياحاً مرتفعاً يقول الله عنهم: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] فيقول الله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر:37] لقد عمرناكم في الدنيا وأعطيناكم فرصة للذكرى والعمل {وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37] بعد ذلك يدعون الخزنة -الخزنة: الملائكة المسئولة عن النار- يقول الله عز وجل حاكياً حال الكفار في النار: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49] يريدون إجازة ليوم واحد فقط من العذاب, فتقول الملائكة: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:50] وبعد أن ينقطع رجاؤهم من الخزنة يرفعون الشكوى إلى خازن النار وهو مالك ويقولون كما قال الله: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} ماذا قالوا؟ أخرجنا، هم يعلمون أنه ليس هناك خروج لذا يقولون: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} يعني: موتنا، الموت أهون من هذه الحياة {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] يعني: هذا مكانكم المناسب لكم، لماذا؟ قال: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78] وبعد ذلك ينقطع رجاؤهم إلا من الله فيرفعون الشكوى إلى الله يقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:106 - 108] يقول عليه الصلاة والسلام: (فوالذي نفس محمد بيده ما يتكلم أحدهم ولا ينبس ببنت شفه، وإنما هو الشهيق والزفير) ما عاد في ولا كلمة، فإذا قال الله: (قَالَ اخْسَئوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} ما في كلام، لماذا؟ قال: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:109 - 110] كنتم تضحكون عليهم في الدنيا أما في الآخرة: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:111].
وبعد أن يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، جاء في الحديث: (أنه يؤتى بالموت على هيئة كبش، ثم يوقف بين الجنة والنار، ويدعى أهل الجنة ويقال لهم: هل تعرفون هذا؟ قالوا: هذا هو الموت, ويقال لأهل النار: أتعرفون هذا؟ قالوا: هو الموت, ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت, ويا أهل النار خلود فلا موت) فلا يكون نعيماً على أهل الجنة أعظم من هذا النعيم؛ لأنه طمأنهم على أنهم خالدون في هذه النعمة, ولا يكون عذاباً أشد على أهل النار من هذه الكلمة؛ لأنه قطع أملهم في الخروج من النار -نعوذ بالله جميعاً من عذاب النار-.
أخي في الله: أنت تسير وليس لك خيار إلا أن تسير فاسلك الطريق الصحيح, ولا تقل: إن طريق الإيمان والدين فيه مشقة، فهي مشقة تعقبها راحة وسعادة أبدية, ولا تغتر بما في طريق الفسق والمعاصي من اللذات، فإنها لذات مؤقتة تعقبها حسرات وعذاب طويل.
وهذا الكلام الذي نقوله أيها الإخوة ليس قصصاً ولا أساطير، وإنما هو حقائق جاءت في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يسع المسلم العاقل إلا أن يستجيب لداعي الله حينما قال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:13].
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يسلك بنا جميعاً سبيل الأبرار, وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يجنبنا ما يسخطه ويأباه.
كما نسأله في هذه الليلة المباركة أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماًَ, وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يبقي فينا ولا معنا ولا منا شقياً ولا محروماً.
اللهم احفظ لنا ديننا وأمننا ونعمتنا واستقرارنا.
اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحبه وترضاه، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(93/25)
الأسئلة(93/26)
تحديد نوعية الجنين ليس من علم الغيب
السؤال
تقدم الآن الطب ووجد جهاز يعرف نوع الجنين ذكر أم أنثى قبل الولادة؟
الجواب
هذا ليس من أمور الغيب، أما بالنسبة لقول الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59] هذه المفاتح خمس من ضمنها: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان:34] فالعلم المذكور هنا ليس علم كونه ذكراً أو أنثى, وإنما العلم به في كل شئونه في حال كونه نطفة, لكن بعد أن تطور من نطفة إلى علقة ثم إلى مضغة ثم أصبح جهازاً كاملاً وله جهاز تناسلي خاص بالذكر، أو جهاز تناسلي خاص بالأنثى، أُمر ملك من الملائكة بنفخ الروح، ونوعه ذكر أو أنثى، وكتابة عمله وأجله وشقي أو سعيد, حينئذ لم يعد العلم عند الله وحده، بل أصبح العلم عند الله وعند الملائكة, وما دام أن الملائكة استطاعت أن تعرف نوعيته أصبح بإمكان الإنسان أيضاً أن يعرف بإمكانيته الحديثة نوع الجنين، وهذا ما حدث الآن عن طريق التصوير التلفزيوني الصوتي, يضعون الجهاز على بطن الأم ويرون في الشاشة نوعية الجنين إذا كان ذكراً أو أنثى طبعاً في مراحل نهائية من الخلق, لكن قبل ذلك لا يستطيعون أن يعرفوا شيئاً، وليس هذا تعارض مع ما ثبت في كتاب الله وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.(93/27)
حكم طفل الأنابيب
السؤال
ما حقيقة طفل الأنابيب وما حكمها الشرعي؟
الجواب
المقصود بطفل الأنابيب: أن المرأة التي لا تحمل يكون عندها موانع مرضية من عملية تكُّون النطفة مع البويضة في الأنبوب التي تسمى: قناة فالوب, يأخذون الحيوان المنوي من الرجل، ويأخذون الخلية من امرأته ويضعونها في أنبوب حتى يحصل التلقيح, فإذا اكتمل التلقيح يعيدونها في الرحم وتحمل بها, هذا هو المراد بطفل الأنابيب.
حكمها الشرعي: أفتى العلماء بحرمة ذلك.
لماذا؟ لأنه من الصعب ضبطها، فقد يوضع حيوان منوي لرجل آخر, قد يكون الرجل نفسه ليس عنده حيوانات منوية، لكن من أجل الربح المادي يأتي إلى الطبيب فيقول الطبيب: نعم نفعل لك بالأنبوب, ويأخذ الحيوان المنوي منه أو من أي إنسان، ما يدري الأب أن هذا حيوانه المنوي نفسه أم لا؟ وقد تكون البويضة ليست من الأم, وبالتالي يصعب السيطرة على الموضوع, فسداً للذريعة وقطعاً لها منعت، وقد أفتى بذلك سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ والشيخ ابن عثيمين، والشيخ أبو بكر الجزائري , وقد اطلعت أنا على دراسة أعدها أحد الدكاترة في هذا الموضوع، فمن الصعب جداً ضبط هذه القضية، وبعض الأطباء يحاول أن يظهر هذا الموضوع حتى ولم يكن يفعل ذلك لماذا؟ من أجل سبق طبي، أو ربح مادي، أو شهرة وغير ذلك، حتى ولو لم يكن الموضوع صحيحاً.(93/28)
درجة حديث: (لا يتمنين أحدكم الموت)
السؤال
ما صحة حديث: (لا يتمنين أحدكم الموت ولكن ليقل: اللهم إن كانت الحياة خيراً لنا)؟
الجواب
هذا الحديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم, وفيه توجيه للأمة أنه إذا نزل بك مرض أو نزلت بك مصيبة أو نزل بك شيء ما ألا تقول: اللهم إني أسألك الموت, لا تدري، فلعلك تسأل الموت وتدخل النار بهذا الموت, ولكن قل: (اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي, وأمتني إذا كانت الوفاة خيراً لي).(93/29)
الفرق بين امتحان الدنيا والآخرة
السؤال
يا شيخ: نرجو منك أن تدعو لنا في الاختبارات؟
الجواب
جزاك الله خيراً على اهتمامك بالامتحانات, لكن يجب أن تكون اهتماماتك بالامتحانات الكبرى التي هي أعظم من امتحانات الدنيا, نرى الناس لما آمنوا بامتحانات الدنيا أصبحوا جادين فيها، المرأة والرجل والبنت والولد وكل الناس مهتمون ليتنا نهتم بالآخرة كما نهتم لامتحانات الدنيا.
ثم ما نسبة امتحانات الدنيا إلى امتحانات الآخرة؟ امتحانات الدنيا في بعض فصول الكتب, أما امتحان الآخرة ففي كتاب {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49].
امتحان الدنيا زمنه ساعة ونصف أو ساعتين أو ثلاث ساعات بالطويل, أما امتحان الآخرة ففي يوم كان مقداره خمسين ألف سنة, وأنت واقف للحساب.
امتحان الدنيا يشرف عليه ثلة من البشر يرحمون ويخطئون ويصيبون ويغفلون, لكن امتحان الآخرة يشرف عليه {مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
رئيس اللجنة في الدنيا بشر, لكن الذي يسأل الناس يوم القيامة رب البشر لا تخفى عليه خافية: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
ونتيجة امتحان الدنيا نجاح من سنة إلى سنة, أو من مرحلة إلى مرحلة، وإذا لم تنجح فهناك دور ثاني, وإذا ما نجحت في الدور الثاني هناك سنة أخرى, وإذا ما نجحت في السنة الثانية فاترك الدراسة فهناك سبعون مهنة وشغلة, لكن امتحان الآخرة نتيجته واحدة إما الجنة وإما النار, ولا يوجد دور ثاني ولا فرصة ثانية قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
فليكن تركيزك على امتحان الآخرة، ولا مانع من امتحانات الدنيا والتركيز فيها حتى تنجح.
وأسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يوفق جميع الطلاب للنجاح في الدنيا وفي الآخرة.
كما أوصيهم بالابتعاد عن الغش, انتبه (من غشنا فليس منا) طبعاً كل الكلام الذي نقوله للرجال هو موجه للنساء؛ لأن (النساء شقائق الرجال) لا يغش الطالب ولا تغش الطالبة, ولو غفل المراقب فإن الله يراقبك من فوق سبع سماوات, هذه معلومات أعطيت لك من أجل أن تدرسها أيها الطالب وتختبر فيها وتنجح, ولكن إذا ما درستها وأخذتها في ورقة ودخلت تنقلها وأخذت شهادة زور وكذب, فلا يصلح هذا (من غشنا فليس منا) ويقع الغشاش في لعنة الله ورسوله -والعياذ بالله-.(93/30)
حكم موتى أطفال المسلمين والكفار في الآخرة
السؤال
من مات في سن الطفولة هل يدخل الجنة؟
الجواب
نعم.
أبناء المؤمنين وأبناء المسلمين يدخلون الجنة بإذن الله.
أما أبناء الكفار فلأهل العلم كلام طويل, ومن ضمن أقوال أهل العلم: أنهم يدخلون الجنة، وبعضهم قال: يكونون خدماً لأهل الجنة, وبعضهم قال: إنهم يبلغون سن التكليف يوم القيامة ويرسل لهم الرسول ويبلغون بالرسالة يوم القيامة فتقام عليهم الحجة يوم القيامة مع أهل الفترة، ومع من لم تبلغهم الدعوة, هناك أناس عاشوا في فترات ما بين الرسل أي: بعد أن تنتهي دعوة الرسول, والفترة الثانية في رسالة أخرى، هناك أناس عاشوا ما بلغتهم الدعوة, الله عز وجل لا يدخلهم النار إلا بعد قيام الحجة, وهناك أناس يعيشون في الأرض ما بلغتهم الدعوة, مثل من يعيش في أدغال أفريقيا أو في صحراء، ما بلغه دين وما عرف الله وما عرف الرسول ولا عرف الإسلام, هذا لا يدخل النار؛ لأن الله يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] وقال في آية أخرى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] فمن لم تقم عليه الحجة فالله لا يدخله النار حتى يقيم عليه الحجة؛ لأن الله عدل, والله منزه عن الظلم تبارك وتعالى.(93/31)
الفرق بين تحديد النسل وتنظيم النسل وحكمهما
السؤال
كيف نرد على من يقول: يجب تحديد النسل بعدد معين من الأبناء؟
الجواب
دعوة تحديد النسل أو منع النسل دعوة خبيثة موجهة من أعداء الإسلام, ومركز بها على المسلمين؛ لأنهم يرون كثرة المسلمين شيء مخيف بالنسبة لهم, فيخوفونهم بالرزق ويقولون: إن بعد سنة ألفين ستقع كارثة ويموت الناس, وهذا كلام لا أساس له من الصحة، فالذي خلق الناس هو الذي يرزقهم؛ لأن الماء من السماء, والأرض هي التي تنبت, والله هو الذي ينزل الغيث والله يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود:6] لكنها دعوة تحمل هذا التغليف، وهي في حقيقتها دعوى لإضعاف المسلمين وإلى تقليل نسلهم, فلا يجوز تحديد النسل ولا منعه.
أما تنظيم النسل، ما هو تنظيم النسل؟ يعني: بدل أن تحمل زوجتك كل سنة, تجعلها تحمل سنة وتجلس سنتين أو ثلاث سنوات من أجل يقوم الولد ويمشي، هذا ليس فيه مانع, لماذا؟ لأنه ليس منعاً وإنما هو تأجيل أو تنظيم، ودليله: حديث جابر في مسلم قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل) والعزل: هو القذف خارج الرحم, وهو نوع من تنظيم النسل لكن نوع بدائي, فإذا أراد الإنسان ألا تحمل امرأته في فترة معينة من الفترات على أساس أن يكبر أطفالها؛ لأن بعض النساء تعاني؛ لأنها في كل سنة تحمل, ما إن تضع حتى تحمل, ويأتي هذا بعد ذاك حتى يصيروا ستة أو سبعة أطفال فالبعض محتاج إلى رضاعة كاملة، والبعض الآخر محتاج إلى رعاية وعناية، فتنظيم النسل يسهم في حل هذه المشكلة.(93/32)
مسألة تعلق الروح بالجسد
السؤال
هل تخرج الروح عند النوم، أم أنها تبقى في الأرض؟
الجواب
الروح لها تعلق بالجسد في حالتين: حالة النوم وحالة اليقظة, تتعلق الروح تعلقاً كاملاً حالة اليقظة, وتعلق جزئي في حالة النوم, ولهذا الله يقول: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى} [الزمر:42] بمعنى أن الأخرى التي لا زالت حية أنها خرجت لكن قريبة, ولذلك ترون النائم إذا نام وجئت بعطر عند أنفه هل يشمه وهو نائم؟ لا.
افتح عينه وضع منظراً أو صورة هل يراها؟ وتكلم عند أذنه بصوت خفيف هل يسمع؟ لا.
رغم أن السمع موجود والبصر موجود والأنف موجود, لكن الذي يشم ويبصر ويسمع هي الروح, والروح غير موجودة ولذلك عندما تتكلم بجانبه لا يسمعك, إذا أردت أن يسمع أيقظه: فلان قم قم فإذا استيقظ أعطه الريح الطيب تجد أنه يميز هذه الرائحة الطيبة، أعطه الصورة تجد أنه يميز هذه الصورة أو هذا المنظر, وتجد أنه يسمع كلامك, من الذي سمع الروح أين كانت الروح؟ كانت قريبة عنده, لماذا قريبة؟ من أجل تعود, فلماذا تخرج؟ من أجل يرقد, إذا لم ينام لم يجد الراحة.
جاء شخص من العمل تعبان يريد أن ينام محطم من الشغل, تمدد على السرير فإذا قلت له: ما بك؟ قال: والله أريد أن أرتاح أريد أن أنام, فإذا قلت له: ما عندي مانع، ما الذي يرتاح فيك؟ قال: جسمي عضلاتي أريد أن أتمدد, تمدد وارتاح عشرين ساعة ليس عشر ساعات لكن لا تنام, وكلما أغمض عينيه أيقظه, يقول: هلا تركتني لآخذ قسطاً من الراحة، تقول له: أنت مرتاح ماذا فعلت بك؟ أنت متمدد على السرير والمكيف شغال ومرتاح لكن لا تغمض عينك, هل يرتاح؟! لا يرتاح إلى أن ينام, ما معنى النوم؟ خروج الروح, بعد أربع ساعات أيقظه, قال: الحمد لله لا إله إلا الله ما شاء الله, نشيط! لماذا؟ لأن روحه خرجت, ما لم تخرج الروح فلن يشعر بالراحة أبداً.
ولهذا الواحد أحياناً يغالب نفسه في أيام المواسم وأيام العمل وأيام الامتحانات, بعض الطلاب لا ينام فإذا دخل صالة الامتحان أتاه النوم, بحث للأفكار والمعاني والأسئلة التي أمامه فلا يراها ينام على الطاولة, ويصاب البعض بالانهيار ولهذا يوصي المدرسون والتربويون أنه لا داعي أن تسهر ليلة الامتحان, ذاكر أول السنة من أجل أن تنجح إن شاء الله.
أكتفي بهذا والله أعلم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛(93/33)
إن الله مع الصابرين
الصبر خلق قويم وأساس مهم، لا يصل الإنسان إلى مراده، ولا يتجاوز الأخطاء إلا به.
وعندما تستحكم الأزمات، وتتعقد الأحوال، وتتوالى المحن ويطول ليلها، يقوم الصبر بدوره الجميل في تثبيت النفس وإحياء آمالها.
ولم يؤت الأولون والآخرون شيئاً خيراً من الصبر، فعلى المسلم احتساب أجر الصبر على هذه الحياة بجميع ما فيها من منغصات.(94/1)
الصبر من أرفع الأخلاق وأعظمها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا اليوم هو يوم السبت الموافق (13/محرم/1411هـ) وفي مسجد أبي بكر الصديق بمدينة أبها يلقى هذا الدرس.
والإنسان وهو يعبر رحلة الحياة، يحتاج إلى تربية وتهذيبٍ وتأديب، حتى يتجاوز عقباتها، وينجو من مخاطرها وآفاتها، ويصل إلى ساحل النجاة.
وحين يسير الإنسان في خط عشوائي من غير دليل يدله، ولا هادٍ يهديه، يقع ضحية التضليل، ويسقط في مهاوي الردى، ولا يصل إلى النجاة لا في الدنيا ولا في الآخرة.
أما حين يهتدي الإنسان بهدى الله، ويسير على منهج الله، ويتأدب بالآداب التي جاءت في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يعبر الحياة ويتجاوزها بسلامٍ وأمان، ويصل إلى ساحة النجاة وساحلها في دار الخلد والجزاء، نسأل الله جميعاً من فضله.
وهناك آداب جاء الإسلام ليربي الإنسان عليها، ويرتقي إلى قمتها، وإلى أعلى درجات الفضائل، فيها أدب عظيم، يغفل عنه الناس، وهو أساس مهم وخلقٌ قويم لا يصل الإنسان إلى مراده، ولا يتجاوز الأخطار إلا به، والناس في غفلةٍ عنه إلا من رحم الله، وهذا الخلق: هو الصبر.
وعنوان الدرس (إن الله مع الصابرين) ويكفيك شرفاً أن يكون الله معك، إذا كان الله معك فما يضرك؟! من الذي يكيدك في الدنيا والله معك؟! ومن الذي ينفعك إذا الله ضرك؟! ومن الذي يضرك إذا الله نفعك؟! ومن الذي يمنعك إذا الله أرادك؟! ومن الذي يريدك إذا الله منعك؟! ومن الذي يحييك إذا الله أماتك؟! ومن الذي يميتك إذا الله أحياك؟! ماذا بأيدي الناس أيها الإخوة؟! الرزق الحياة الموت الصحة المرض الإعطاء المنع كل شيءٍ بيد الله.
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
إذا وجدت الله وجدت كل شيء، وإذا فاتك الله فاتك كل شيء، ويكفيك يا صابر أن الله مع الصابرين.
فليرض عني الناس أو فليسخطوا أنا لم أعد أسعى لغير رضاك
ذقت الهوى مراً ولم أذق الهوى يا رب حلواً قبل أن أهواك
دنياك غرتني وعفوك غرني ما حيلتي في هذه أو ذاك
إذا وجدت الله وكان الله معك فلن تضرك الدنيا كلها، يقول الله في الحديث القدسي: (وعزتي وجلالي ما اعتصم عبد من عبادي بي فكادته السماوات والأرض إلا جعلت له منها مخرجاً، وعزتي وجلالي ما اعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني إلا أسخت الأرض من تحت قدميه، وقطعت عنه أسباب السماء، ثم لم أبالِ في أي أودية الدنيا هلك) ماذا ينفعك يا أخي! إذا تخلى الله عز وجل عنك؟! فيجب أن يكون تركيزك واهتمامك على أن يكون الله معك وأعظم حالة تداوم عليها ويكون الله معك فيها: أن تكون من الصابرين.
لأنه عندما تستحكم الأزمات وتتعقد الحبال وتتوالى المحن ويطول ليلها، يقوم الصبر بدوره الجميل الجليل في تثبيت النفس، وفي إحياء آمالها، ولذا نادى الله عز وجل عباده المؤمنين بالنداء الأزلي الحبيب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] والمعنى: يا من آمنتم بالله! لأن لفظة (يا أيها الذين آمنوا) فيها إشعال للقلوب، وفيها إلهاب للعواطف، أنتم مؤمنون فلماذا لا تستجيبون؟! ولهذا إذا سمعت: (يا أيها الذين آمنوا) فافتح نظرك وارع سمعك واعلم ماذا يريد الله منك؟ يا من آمنتم بالله: استعينوا على إقامة دين الله بفعل الطاعات وترك المعاصي، والصبر على أقدار الله المؤلمة، بماذا؟ استعينوا على ذلك بالصبر الجميل، والصلاة المصحوبة بالخشوع والطمأنينة والإخلاص.(94/2)
ضرورة الصبر
إن الصبر ضرورة، إذ لا يمكن أن يعيش الإنسان بغير صبر، إذاً فهو ضرورة لازمةٌ للإنسان، فمن صبر ظفر، فلولا الصبر ما حصد الزارع زرعه، أليس كذلك؟ فالمزارع عندما يضع الحب يلزمه أن يصبر أربعة أشهر، يصبر وهو يحرث، ويصبر وهو يبذر، ويصبر وهو يسقي، ويصبر وهو يحمي، ويصبر وهو يحصد، ويصبر وهو يدوس، ويصبر وهو يكيل، ويصبر وهو يخبز، ثم يأكل، متى جاء الأكل؟ جاء بعد مراحل متعددة، لكن لو لم يصبر، وقال: لا والله لا أتعب، أظل أحرث وأضع الحب وأنتظر أربعة أشهر؟! لا والله بل نتركها، ماذا يحصل له؟ هل سيجد حباً؟ لا.
فلولا الصبر ما حصد زارعٌ ثمراً، وما جنى غارسٌ جنياً، عندما تفكر بعين العقل وتقول: أنا الآن سأغرس شجرة وعمري أربعين سنة، الشجرة هذه عمرها عشر سنوات، متى أحصد منها؟! لا تفكر في ذلك، بل اغرسها وتوكل على الله.
مر رجلٌ على غارس شجرٍ وعمره أكثر من السبعين سنة، فقال له: كيف تغرس هذه وأنت ستموت قريباً؟ قال: نغرس ليأكل أبناؤنا؛ لأن آباءنا غرسوا قبلنا فأكلنا.
وهكذا لا بد من الصبر، ولولا الصبر ما جنى غارسٌ ثمراً، ولولا الصبر أيضاً ما حصل طالبٌ على شهادة، يمر الطالب أثناء العام الدراسي بمراحل مريرة من المعاناة والتعب، ويصبر على ألم قيام الصبح وهو يقوم الساعة السادسة والنصف، في البرد القارس، ومع كثرة النوم يذهب إلى المدرسة، وكأنه يمشي على وجهه، لكنه يصبر، ويدخل على المقعد البارد أمام المدرس الجافي أو المدير الغليظ الشديد، وأمام المناهج المعقدة التي كأنها حيات وعقارب يراها، لكنه يغصب نفسه ويصبر، ولو أنه قعد ونام إلى الساعة العاشرة كل يوم، هل سيأخذ شهادة ويحقق مرتبة ومنصباً؟ لا.
لكن بالصبر حصل ذلك، فما يحصل الطالب على الشهادة إلا بالصبر، ولا يحصل الموظف على المنصب أو الرتبة إلا بالصبر، ولا يحصل التاجر على الربح في البضاعة إلا بالصبر، المهم أن كل الناجحين في الدنيا إنما حققوا آمالهم بالصبر، وكل الفاشلين في الدنيا إنما فشلوا بعدم الصبر.
انظر وتأمل تجد أن الصبر سبب كل نجاحٍ في الدنيا، وأن عدم الصبر سبب كل فشلٍ فيها، فالفاشل في دراسته لم يصبر، والفاشل في زراعته ما صبر، والفاشل في تجارته ما صبر، والفاشل مع زوجته ما صبر، والفاشل مع أهله وأمه وابيه ما صبر، ولكن بالصبر تنال أعلى الدرجات في الدنيا يقول:
إني رأيت وفي الأيام تجربةً للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقلَّ من جد في أمر يحاوله واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
ما من شخص جد في طلب شيء واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر، يخبرني رجل قال: كنت أعمل جندياً، حارساً في محكمة، وكان الكتَّاب والموظفون وبعض القضاة يرسلونني لأحضر لهم الفطور، فأحضر لهم الخبز في الصباح، إنه عمل متعب ومضني، فشعرت بذلة في نفسي، فطلبت العلم ليلاً وحصلت على الشهادة الابتدائية، ثم دخلت المعهد العلمي، وكان راتبي آنذاك وأنا في الجندية (150)، وفي المعهد العلمي (210)، وتركت الجندية والتحقت بالمعهد، وحَصَلْتُ على شهادة الثانوية العامة، ثم دخلت كلية الشريعة وحصلت على الشهادة، ثم أخذت الماجستير، ثم أخذت الدكتوراه، وإذا بهؤلاء كلهم يتوسطون بي.
فهذا الرجل لو بقي جندياً إلى أن يموت فسيلعق آلام الذلة طوال حياته، لكن عندما صبر على التعلم ومعاناته حقق له مستقبلاً طيباً، وهكذا -أيها الإخوة- لا بد من الصبر، وإذا كان هذا في أمر الدنيا فكيف لا يكون مهماً في أمر الآخرة.
إذا كانت الدنيا الدنيئة التافهة التي لا تزن عند الله جناح بعوضة، وهي بالنسبة لما خلق الله في هذا الكون شيء بسيط، ومع ذلك لا تحصل المقصودات ولا تنال المطالب فيها إلا بالصبر، فإنه لا يمكن أن تنال الآخرة العالية والجنة الرفيعة، بحورها وقصورها ونعيمها، وما أعد الله فيها، لا يمكن أن تنال إلا بالصبر.
وليس كصبر الدنيا، ليس كصبر الطالب على الدراسة، ولا كصبر التاجر على التجارة، ولا كصبر الزارع على الزراعة، لا.
إنه صبرٌ من نوعٍ آخر، إنه صبرٌ من الصبر، وهو مشتق من الصَّبِر الذي له مرارة متناهية.
- والصبر: هو حبس النفس على الشدة والضيق وما تعانيه مع الألم والمعاناة، وهو صبرٌ وتصبرٌ واصطبار، أوله الصبر ثم التصبر ثم الاصطبار، وهو صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ عن معصية الله، وصبرٌ على أقدار الله المؤلمة.
لا شك أن طالب الدنيا لا بد له من الصبر، وكذلك طالب الآخرة لا بد له من الصبر، وقد حمل الأمانة التي ناءت بحملها السماوات والأرض والجبال: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] الله أكبر! (وأشفقن منها) أشفقت السماوات والأرضين والجبال، وجئت أنت أيها الإنسان لتحمل الأمانة.
قال لي أحد الناس يوماً من الأيام: أنا ما حملت الأمانة.
قلت: كيف؟ قال: أنا والله ما أذكر يوماً من الأيام أني تحملتها فوق ظهري.
قلت: لا، أنت حملتها وأنت لا تدري.
قال: كيف؟ قلت: أليس عندك القدرة على أن تطيع الله وتعصيه؟ قال: نعم.
قلت: هذه الأمانة، هل عند السماوات قدرة على أن تعصي الله؟ قال: لا.
هي مسخرة، قال الله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [لقمان:29] وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية:13].
فسحب القدرة وجعل المخلوق هذا لم يحمل أمانة، أصبح إنساناً (ميكانيكياً) في العبادة، لكن عندما أعطاه الله القدرة على أن يسلك طريق الخير والشر، حمل الأمانة، أمانة ماذا؟ أمانة الاختيار الصحيح، فأنت الآن تستطيع أن تعصي الله؟ قال: نعم.
قلت: وتستطيع أن تطيعه؟ قال: نعم.
قلت: إذاً أنت حملت الأمانة، بينما السماوات والأرضون لم تستطع، وأشفقت منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً لنفسه، جهولاً بحق ربه ومعرفته بالله عز وجل.
فما دام أنك حملت الأمانة وعندك القدرة على الاختيار بأن تسلك سبيل الخير أو سبيل الشر، فلا خيار لك في أن تطيع الله تبارك وتعالى.(94/3)
اقتران الصبر بالقيم والمبادئ الإسلامية دليل عظمته
إن المتتبع للمواطن التي ذكر الله عز وجل الصبر فيها في القرآن الكريم يتبين له عظمة الصبر ومنزلته عند الله عز وجل؛ فمنها: أن الله عز وجل قرن الصبر بجميع القيم والمبادئ العليا في الإسلام، فما من مبدأ في الإسلام كريمٍ إلا والصبر معه، إذ لا يمكن أن يحقق هذا المبدأ إلا بالصبر.(94/4)
علاقة الصبر باليقين
قرن الله الصبر باليقين، واليقين هو قوة الإيمان، قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
لأن الإنسان في هذه الدنيا يتسلط عليه شياطين الإنس والجن عن طريق الشهوات والشبهات، شهواتٍ تورث تقديم الهوى على طاعة الله، وشبهاتٍ تورث شكاً في دين الله، فلا يتغلب على الشهوات إلا بالصبر، ولا يتغلب على الشبهات إلا باليقين.
وكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ولهذا لا تنال الإمامة في الدين إلا بالصبر واليقين، قال عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً} [السجدة:24] متى جعلهم الله أئمة يهدون بأمر الله، ويدعون إلى الله، ويوجهون الناس إلى الله، ويدلون الخلق على خالقهم، ويحببون الله إلى خلقه، والخلق إلى الله؟ هذه وظيفة ليست سهلة: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [السجدة:24] متى؟ {لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24] أي: بعد أن صبروا: {وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
فهذه من أعظم الكماليات أن يكون عندك يقين، ومن أعظم الدرجات العليا أن يكون في قلبك تصديق، ولا يمكن أن يكون إلا بالصبر واليقين: {لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
وأصحاب الشهوات المضللون الذين يخدعون البشرية بما يضعون لها من شحوم الشهوات، حتى ينزلقوا عليها إلى النار -والعياذ بالله- هؤلاء يريدون للإنسان العنت، يقول الله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} [النساء:27] ماذا؟ {أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] الله يريد أن يتوب وأن يغفر لكم، وأن يفتح ميادين الرحمة لكم، ولكن المضللون الذين يتبعون الشهوات، يريدون أن تميلوا إلى شهواتهم، ليس ميلاً يسيراً وإنما ميلاً عظيماً.
أما الشبهات وهي التي يزرعها الشيطان في قلب الإنسان وفي عقيدته من شكوك وأوهام، مثل هذا الرجل الذي قال لي: أنا لم يأخذ الله عليَّ الأمانة، هذه شبهة، وهي كفيلة بأن تنسف عقيدته من أسفلها، فإذا شك في هذا فمعنى ذلك أنه كفر بالقرآن، ولو صلى وصام، فهذه شبهة.
فما تنال الإمامة إلا بإبعاد الشبهة، والقضاء عليها عن طريق اليقين الصادق.(94/5)
علاقة الصبر بالشكر
أيضاً قرن الله عز وجل الصبر في القرآن الكريم بالشكر، وهو ضد الصبر، يعني: نقيض له.
الصبر يكون على الآلام، والشكر يكون على المنح والهدايا والعطايا من الله، ولكن الله جعل الصبر والشكر في آيات أربع معاً، لماذا؟ لأن الإنسان لا ينفك في كل أحواله من نعمةٍ أو محنة، أو عطية أو بلية.
فتجد في نفس اللحظة تأتيك رحمة من الله، تصور أنك تمشي في الطريق فيصطدم بسيارتك رجل ما، فهذه فتنة ومصيبة، ثم تنزل وتلقى الرجل ليس فيه شيء، هذه رحمة من الله، هذا حادث كفيل بأن يموت هذا الرجل فيه.
فالله ابتلاك بفتنة فتصبر عليها، وفي نفس الوقت أكرمك بأن نجاك منها، وذلك بنجاة هذا الإنسان ولم يصب بشيء، تنقلب سيارتك وتنزل منها، وترى السيارة، ومن يراها يقول: لم يبق فيها أحد سليم، ولكن الله سلمك، ينكسر الحديد ويتحطم ولا ينكسر فيك عظم، هل أنت أقوى من الحديد؟! إنها منحة من الله عز وجل، فالله قرن الصبر والشكر معاً فقال عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم:5] وصبار هنا صيغة مبالغة، ليس صابر فقط، بل صبار يعني: على كثرة البلايا يصبر على قضاء الله وقدره.
يقول عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان:31] وقال عز وجل عن قوم سبأ الذين جاءتهم المصيبة من الله تعالى، بعد أن كفروا وأعرضوا وبدلوا نعمة الله كفراً، فأرسل الله عليهم سيل العرم، وبدلهم بجنانهم -التي كانوا يأكلون منها من كل نوعٍ وفاكهةٍ- جنتين ذواتي أكلٍ خمطٍ وأثل وشيء من سدرٍ قليل، قال عز وجل: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:17] ثم قال: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:19].(94/6)
علاقة الصبر بالتقوى والحق والرحمة
- وربطه الله عز وجل بالتقوى، وجعله قرين لها، قال عز وجل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186] وربطه بالحق قال عز وجل: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] وربطه بالرحمة فقال عز وجل: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17].(94/7)
علاقة الصبر بأخلاق الإسلام كلها
يشتمل الصبر على أخلاق الإسلام كلها، إذ لا أمر ولا نهي إلا والصبر أساس فيه، وانظر إلى جميع الأوامر التي أمر الله بها.
- الصلاة مثلاً: ما الذي يعينك عليها؟ الصبر، كونك تقوم من بيتك، ومن عشائك أو من فراشك وتذهب وكذلك تترك عملك، أو تغلق دكانك، وتتوضأ في البرد وتذهب إلى المسجد وهو بعيد، وتأتي فهذه تحتاج إلى أطنان من الصبر.
- والزكاة حينما تخرجها: ما الذي يجعل حب المال يخرج من قلبك، ويستعلي عليه حب الله ورسوله؟ الصبر.
- والحج: حينما تخرج من بيتك، وتقطع الفيافي والقفار وتقف في عرفات، وترمي الجمرات، وتدخل في الزحام، وتعرض نفسك للموت أكثر من مرة أو مرات هذا كله بالصبر.
- الصيام: حينما تصبر عن الطعام، وعن شهواتك، وعن زوجتك -وأنت تعاني هذا كله- بالصبر.
برك لوالديك، صلتك لأرحامك، صبرك على الناس، كل هذه الأوامر تأتي بها عن طريق الصبر على دين الله عز وجل.
بعد ذلك الشهوات كلها: كالعفة: ما هي العفة؟ عندما نقول: فلان رجلٌ عفيف، أو فلانة امرأة عفيفة، فالعفة: هي الصبر عن شهوة الفرج، وشهوة الفرج موجودة في كل إنسان، لكن يوجد رجل ينهزم أمام شهوته، وتوجد أنثى تنهزم أمام شهوتها فتمارس الجريمة، وتقع في لعنة الله وغضبه، وأخرى تترفع عن شهوة فرجها، وتتعفف وتلتحق بأهل العفة والطهر والنقاء، فتصبح عفيفة أو يصبح عفيفاً، لكن بماذا؟ بالصبر، فالعفة سببها الصبر.
- والشجاعة: كأن تقول: فلان شجاع، فما هي الشجاعة؟ - الشجاعة صبرٌ في موطن الموت، سئل عنترة -وهو مضرب المثل في الشجاعة- فقيل له: كيف صرت شجاعاً؟ فقال: ضع إصبعك في فمي، وأنا أضع إصبعي في فمك، قال: عض إصبعي وأنا أعض إصبعك، فلما عض كل واحد إصبع الآخر نزعها ذلك يوم عضها عنترة، قال: والله لو صبرت قليلاً لنزعت إصبعي قبلك ولكن كلما أردت أن أنزعها صبرت وصبرت، فالشجاعة صبر ساعة.
فالجبان لا يصير شجاعاً؛ لأنه لا يصبر، ولا يستطيع، بينما الشجاع يصبر فيثبت، فكل الأعمال والكمالات والفضائل تأتي عن طريق الصبر.
- كذلك الحلم، والحلم: هو صبر على دوافع الانتقام والغضب، تجد اثنين يحصل لهما مواقف تستثيرهما، فواحد صابر ضبط أعصابه، ووضعها في ثلاجة، وآخر لم يصبر بل يشتعل، ويحرق الناس، وبعد ذلك يندم على تهوره، وذاك لا يندم على صبره، ففي الحديث: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
هذا هو الشجاع، وهذا هو البطل الذي يتحكم في عواطفه، ويملك مشاعره عند الغضب، أما كونك عادياً في الحالات العادية، فليست هذه بدرجات كمال فيك، ولا يعرف الشيء إلا بضده، ولا يعرف حلمك إلا عند الغضب.
وفي الحالات العادية تكون حليماً طبيعياً فأنت حليم بطبيعتك، لكن متى يعرف حلمك؟ عند استثارتك، فالحلم: صبرٌ على كتم دوافع واستثارات الغضب والانتقام.
أيضاً سعة الصدر: يقال: فلان منشرح صدره واسع صدره عنده صبر عندما يضيق الصدر، لكن عندما يأتي شخص يدخل بيته يضيق صدره من أقل غلطة يراها، أو يضيق صدره من ضيف، أو من ولد، أو من زوجته، أو من مدير مدرسته، أو من مدرس أو موظف عنده، فهذا ضاق صدره، لكن إذا جاء بالصبر وسعة الصدر تجده يضيق صدره على امرأته فيوسعه، يقول: هذه أم أولادي، وهذه زوجتي، وإذا لم أصبر عليها فعلى من أصبر.
ويضيق صدره على ولده، فيأتيه الصبر ويقول: هذا ولدي ومن يوسع صدره له إذا لم أوسعه أنا، وهو أحسن من غيره، وأصبر عليه، وأوجهه، ويضيق صبره على موظفه فكذلك، وهكذا فعملية سعة الصدر، وتحويل الأمور من رأسٍ إلى عقب، ومن عقبٍ إلى رأس يأتي ثمرة للصبر.
كذلك القناعة: خلق كريم وهو صبر عن الكفاف، فالكفاف: رزق يكفيك لا لك ولا عليك، أي: قوت لكي لا تموت، وهذه منزلة القناعة التي تقنع بها، لكن إذا لم تكن عندك قناعة أيها الإنسان! وأنت تعيش مرتبة الكفاف فأنت تعيش في عذاب، تظل تنظر في كل شيء، وتتمنى كل شيء، ونفسك تستشرف كل شيء، ولا يحصل لك شيء، وإنما يحصل لك العذاب في نفسك، بينما بالقناعة تصبح زاهداً، وتصبح غنياً وإن لم يكن بيدك شيء، وتنظر إلى الناس فتقول: ما هذا؟ تنظر إلى الدنيا بماذا؟ بالقناعة.
والقناعة كنزٌ لا يفنى، لا ينقص منه شيء ودائماً يزيد، فكلما قنعت زادك الله عز وجل في كنزك، وكذلك ضبط النفس والرضا بالقضاء، والزهد في الدنيا، هذه الأمور كلها لا تأتي إلا بالصبر.
فغض البصر عن النظر المحرم صبر، عندما ترى امرأة متبرجة في الشارع فتغض بصرك، بماذا غضضت بصرك؟ بصبرٍ عن المحرم.
- صيانة أذنك عن سماع الأغاني: جاءت نتيجة الصبر على طاعة الله، وصبرٌ عن معصية الله، فالمهم أن جميع أعمال الإسلام من الأوامر أو النواهي لا تنال إلا بالصبر.
الصبر قاسم مشترك وقاعدة مهمة في حياة المسلم، ولذا قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] لماذا الله معهم ويؤيدهم وينصرهم؟ لماذا الله يكتنفهم برعايته ومحبته؟ لأنهم معه، يصبرون له، ويصبرون به، ولا يصبرون عنه.
يقول ابن القيم رحمه الله: الصبر ثلاثة أقسام من حيث نهايته: صبرٌ لله، وصبرٌ بالله، وصبرٌ عن الله.
فصبرٌ لله: بترك معصيته.
وصبرٌ بالله: بفعل طاعته.
وصبرٌ عن الله: وهو أسوأ أنواع الصبر، أن تصبر عن الله بفعل المعاصي، وكثير من الناس الآن يعملون المعاصي من أجل ماذا؟ يقول: أريد أن أشرح صدري وأستريح، وهو يحاول أن يغطي ما في قلبه من العذاب بالمعاصي ليصبر عن الله، ومن هو الذي يصبر عن مولاه، إلا من لا يحب الله.
هذا -أيها الإخوة- ما يتعلق باقتران الصبر بالمراتب العليا والكمالات التي جاء الإسلام ليربي الناس عليها.(94/8)