تفسير قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله)
يتصور بعض الناس أن هذه الآية فقط مصروفة إلى الحُكَّام والرؤساء الذين لا يحكمون الشرائع، وهي آية عامة تشمل الحاكم والمحكوم، والكبير والصغير، وكلُّ مخاطب بهذه الآية يجب أن يحكم أمر الله فيه.
فعينُك هذه محكومة بأمر الله، أي: أمَر الله فيها بحكم، وقال لك: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30]، هذا حكم الله في عينك، هل أخضعت عينك لحكم الله؟! أم أن عينك متمردة على حكم الله؛ فهي تنظر إلى ما حرم الله؟! وأذنك هذه مأمورة بأمر، فلا تسمع ما حرم الله، فهل حكَّمت فيها أمر الله فمنعتها من استماع الغناء وما حرم الله؟! ولسانك هذا محكوم بأمر الله، فهل أخضعت هذا اللسان لشرع الله، وحكمته بشريعة الله؟! أم أنه محكوم بالهوى والشهوة والعادة والطبيعة؟! وفرجُك، ويدُك، ورجلك، وبيتك، وزوجتك، وعملك، ومؤسستك، وحياتك كلها ما من جزئية من جزئياتك إلا وفيها أمر لله، هل حكمته بأمر الله؟! {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].
قال العلماء: كيف تعدد الحكم بين: (كافرون، ظالمون، فاسقون)؟! رغم أن المعصية واحدة.
قالوا: الناس أمام أمر الله ثلاثة أصناف: الأول: صنف يواجهه أمر الله، فلا يؤمن به أصلاً، ويرفضه، ويتصور أن أمره أحسن من أمر الله، فهذا كافر.
الثاني: صنف يواجهه أمر الله وهو ظالم، وأمر الله يأمر بالعدل، فيرى أن أمر الله يرد ظلمه، فيرفضه ليستمر في ظلمه، فهو ظالم.
الثالث: صنف يواجهه أمر الله، ويعرف أن أمر الله حق؛ لكن أمر الله يحول بينه وبين ممارسة فسقه ومعاصيه، وهو إنسان يحب الشهوات، وإذا عرف أن أمر الله ينفذ عليه، فلا يريده من أجل الشهوة، فهذا فاسق.
والذي تتوفر فيه الثلاثة كلها؛ يرفض أمر الله؛ لأنه لا يريده أصلاً، ولا يرى أنه أفضل شيء، ثم هو ظالم، ثم هو فاسق، فتجتمع فيه الصفات كلها -والعياذ بالله-.(58/4)
تفسير قوله تعالى: (قل الله)
{قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام:12] اكتفى بالرد بهذه الآية فقط؛ إذ لا سبيل إلى المرية أو الشك أو المنازعة في هذا، لا يوجد أحد يستطيع أن يقول: إن أحداً مع الله شريك في السماوات والأرض، والدليل على ذلك: أن كل من يدَّعي ملك شيء يترك هذا الملك، فبيتك هذا تقول: بيتي.
طَيِّبٌ! لا تقل: بيتي، قل: بيت الورثة؛ بعد سنة أو سنتين إذا بك نازل على رأسك وقد كنت تمشي على رجليك، والآن تُنَزَّل منكوساً، إذاً هذا بيتك، أم بيت الناس؟! بيت الناس.
تقول: هذه سيارتي.
تَرَكْتَها.
تقول: هذه زوجتي.
تَرَكْتَها.
تقول: هذه إدارتي.
فصلوك منها.
تقول: هذه رتبتي.
نزعوها من على كتفك وتركوك.
تقول: هذه وزارتي.
أحالوك.
تقول: هذه مملكتي.
متَّ وأخرجوك.
إذاً: لمن الملك أصلاً؟! لله.
ولهذا يوم القيامة بعد أن يفني الله عزَّ وجلَّ الكون كله، ينادي تبارك وتعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16]؟! أين الجبابرة؟! أين القياصرة؟! أين الأكاسرة؟! فلا يجيبه أحد، فيجيب على نفسه تبارك وتعالى فيقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] لا شريك له فهو المالك.
ولهذا لَمْ تأت الآية بمزيد توضيح؛ إذ لا مجال للمراء والشك في هذه القضية، فهي قضية من المسلَّمات، {قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام:12] لكن العبرة والعظة فيما جاء بعدها: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12] سبحانه ما أعظمه! المالك الذي لا ينازَع في ملكه؛ ولكن منه فضلاً ورحمة ومِنَّةً كتب على نفسه الرحمة، مَن ألزمه بأن يكتبها؟! من طلب منه أن يكتبها؟! كتبها ابتداءً منه وفضلاً منه، {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12] كتبها بمشيئته وبإرادته، لم يوجبها عليه موجِب، ولم يقترحها عليه مقترح، ولم يقتضها منه مقتضٍ، ولم يطلبها منه طالب؛ ولكنها إرادته المطلقة، وربوبيته الكريمة.(58/5)
رحمة الله تعريفها وضابطها(58/6)
تعريف الرحمة
الرحمة كما يقول العلماء: قاعدة قضائه في خلقه؛ الأصل في كل شيء رحمة الله؛ لسعتها وشمولها، ولأنها مكتوبة؛ كتبها الله عزَّ وجلَّ بإرادته وفضله، {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12].
فالرحمة قاعدة معاملته مع خلقه في الدنيا والآخرة، ولو أن الله يؤاخذ الناس بغير الرحمة ما ترك على ظهرها من دابة، ولأهلك الناس من زمن طويل، ولم يبق أحداً؛ لأن كل واحد يذنب في كل يوم ذنباً؛ لكن ما أعظم رحمة الله عزَّ وجلَّ! انظر إلى نفسك أنت كم تخطئ في اليوم الواحد؟! وكم تقترف من الذنوب والمعاصي؟! ففي هذا اليوم من الصباح إلى المغرب كم نظرت إلى النساء؟! هل سمعت منكراً؟! هل تكلمت في محذور؟! هل فكرت في حرام؟! هل صليت في المسجد؛ الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء؟! هل عملتَ خيراً؟! تصدقت؟! أصلحت؟! أمرت بمعروف، نهيت عن منكر؟! كل هذه الأسئلة يجب أن تدور في ذهنك وستجد في المقابل الثاني معاصٍ، فلو أخذك الله بالمعاصي لأهلكك اليوم، وأهلك أهل أمس، وما بقي أحد؛ ولكن القاعدة الأصلية في تعامل الله عزَّ وجلَّ مع خلقه، ويعاملهم به في الدنيا وفي الآخرة هي: رحمته فله الفضل والمنة، وله الشكر على هذه النعمة.(58/7)
مقتضى رحمة الله لعباده
هذه -أيها الإخوة- تقتضي مِنَّا أن نكون مؤدبين مع الله؛ فعندما نعلم أنه واسع الرحمة يجب أن نكون كثيري الطاعة، لا المعصية معتمدين على سعة الرحمة، كما يقول الحسن البصري: [إن قوماً غرَّهم حسن الظن بالله حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، يقولون: نحسن الظن بالله، كذبوا والله، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل].
مثال: ولله المثل الأعلى؛ إذا وُجد مدير إدارة، ذو خلق كريم، وشهم يقدر الرجال، يؤدي العمل ويحترمه، ويحترم الأفراد العاملين معه، ويراعي ظروفهم، ويحقق مصالحهم، ويهيئ لهم كل فرص تحسين الوضع، وإذا وقع لأحد العاملين ظرفاً ساعده وفزع له ويعطيه إجازة، وإذا حصل عليه شيء يجمع له، المهم رجل شهم بمعنى الكلمة، كيف يتعامل الناس مع هذا المدير؟! على رجلين: الأول: موظف شهم فاضل؛ فيتعامل معه من هذا المنطلق، فتجده من أحسن الناس أداء، ودواماً، وإتقاناً؛ لماذا؟ لأنه يحترم المدير، يقول: هذا المدير رجل فاضل، نستحي والله أن نتأخر، أو أن نؤخر العمل عندنا، أو أننا نغلط معه، هذا رجلٌ أَكْرَمَنا وغطَّانا بفضله، كيف نتعامل معه؟! هذا هو منطق الأخلاق؛ أن تتعامل مع المدير بمثل ما يتعامل معك به.
الثاني: موظف سافل لا خير فيه، ولا خُلُق، استغلَّ طيبة المدير وخلقه وكرامته وشهامته؛ فضيَّع العمل ما رأيكم في هذا الإنسان؟! بماذا سيتعامل معه المدير؟! هل بنفس الأسلوب أم يغيره له، ويقلب له ظهر المجن، تجد المدير هذا الذي هو أحسن واحد، يصير أشرس واحد، لماذا؟ يقول: هذا لا يستحق التعامل الحسن.
ولله المثل الأعلى! إن سعة رحمة الله يجب أن لا تطمعنا في معصيته، وتجرِّئنا على مخالفة أمره، وهذا مذهب المرجئة، يقول فيهم زيد بن علي: " إني أبرأ إلى الله من المرجئة؛ فإنهم أطمع الفسَّاق في رحمة الله، وأجرؤهم على معصية الله.
" ولكن هناك توازن في التعامل مع الله، فتطمع في رحمته وتشفق من عقوبته، فتحملك معرفتك برحمته على الرجاء، وتحملك معرفتك بعقوبته وشدة بأسه على الخوف، فتعيش متوازناً بين الخوف والرجاء، هذه هي مسألة المؤمن؛ فالمؤمن يعيش بين الخوف والرجاء إلى أن يموت، وفي ساعات الموت ماذا يفعل؟ يدع الخوف ويُغَلِّب الرجاء، لماذا؟ لأنه لم يعد هناك مجال للعمل؛ أي: لم يعد معك إلا ما تحسن به الظن، ويضرب العلماء في هذا مثالاً: الطالب وهو يذاكر أثناء العام الدراسي يعمل بين الخوف والرجاء، الخوف من نتائج الامتحان والأسئلة التي سوف يضعها الأستاذ، والرجاء لأنه والحمد لله مذاكر وذكي وفاهم للمادة، وأيضاً الأستاذ يعرف كيف يصحح الأسئلة والإجابات الصحيحة، هذا خوف ورجاء؛ لكن إذا دخل الصالة، ماذا يُغَلِّب؟! ووقع الورقة وكتبها وخرج إلى الخارج وقرأ الأسئلة وقارنها لم يعد عنده خوف، بل يصير عنده رجاء؛ رجاء في عطف الأستاذ ورحمته، ورجاء في اللجنة التي يسمونها لجنة الشفقة -لجنة الرحمة- التي تنظر في الأوراق إذا بقيت نصف علامة أو علامة ونصف فتضيفها.
وأنت كذلك يجب عليك في هذه الحياة أن تعيش متوازناً بين الرجاء والخوف؛ ولكن تغلِّب في الدنيا جانب الخوف لكي تنحجز عن المعاصي وتمشي في الطاعات، فإذا كنت مودعاً للدنيا إلى الآخرة تغلب جانب الرجاء، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا يموت أحدكم إلا وهو يُحسن الظن بالله)، وإحسان الظن كما يقول ابن القيم: يقتضي إحسان العمل، فمن أحسن الظن بالله أحسن العمل في التعامل مع الله عزَّ وجلَّ.(58/8)
مظاهر رحمة الله تعالى
إنَّ رحمة الله عزَّ وجلَّ هي الأساس والأصل في تعامل الله عزَّ وجلَّ مع العباد، وهذه الرحمة لها مظاهر وصور، وما من لحظة من لحظات الحياة إلا وهي رحمة الله عزَّ وجلَّ ظاهرة فيها، بل لو تخلت عنك رحمة الله لحظة واحدة لهلكت.
تصور والله عزَّ وجلَّ يجري لك النفس الذي تستنشقه من الهواء، فيدخل إلى الرئتان، وتنقله الرئتين إلى القلب والدم، ويؤكسد الدم وينظفه ويصعد، لو حُبست عنك هذه اللحظات -أي: لو حبس النفس لحظة واحدة- ومنع الله منك رحمة الهواء، كيف تعيش؟! ولو سقطت قطرة من قطرات الماء التي تشربها ونزلت في البلعوم الخاص بالهواء، ماذا يحصل؟ تسمى: شَرْقَة، والشَّرْقَة هي: نزول الماء أو الغذاء في البلعوم، لأن في الرقبة قصبتين: الأولى: المريء، وهي قصبة من الفم إلى فم المعدة، وهذه القصبة فيها عضلة، فإذا دخلت اللقمة تضرب العضلة فيها، وتعصرها حتى تنزلها إلى تحت، وبعد ذلك تنطبق ولا تسمح بخروج شيء، ولهذا ترى الواحد إذا انتكس على رأسه يمارس الرياضة، لا ينزل الذي في بطنه؛ لأنها تُقْفَل؛ لكن من هنا مفتوحة، أي شيء ينزل ولا يصعد.
الثانية: بجانبها قصبة ثانية، اسمها: البلعوم، وهذه قصبة غضروفية مفتوحة باستمرار، وتوصل إلى الرئة.
وبين القصبتين -بين المريء وبين البلعوم- جندي واقف يسمح بمرور الطعام والهواء بالتناوب، تسمى عندنا في الجنوب: (الطُّرَّاعة)، وتُسمى في بعض الأماكن: (اللهاة)، واسمها في العلم: (لسان المزمار)، وهي لحمة موجودة، إذا تكلم الواحد سدت الفتحة الخاصة بالطعام؛ لأنه يتكلم بالهواء؛ وإذا أراد أن يأكل سدت الفتحة الخاصة بالهواء، فإذا تكلم وهو يأكل ماذا يصير؟ يصدر أمراً إلى هذه اللحمة أن افتحي هنا وافتحي هنا، فتدخل حبة أرز أو قطرة ماء في القصبة الخاصة بالهواء، فيحس الإنسان بشَرْقَة، هذه الشَّرْقَة كفيلة بأن تجعلك تموت، من يخرج الحبة من رئتك إذا دخلت؟! من ينزل قصبة تخرج القطرة التي نزلت إلى رئتك، رئتك لا تقبل قطرة ماء، ولا تقبل حبة أرز؛ لكن رحمة الله تدركك، فتصدر إشارات من المخ إلى الرئة أنه يوجد جسم غريب دخل، اطردوه، فتقوم الرئة تطلق صفارات الإنذار على الدفاع الداخلي ويحدث السعال، وإذا طُرِدَت النقطة قال: الحمد لله، كنت سأموت! وترى عينيه ترقرقت بالدمع، من أجل قطرة تموت؟ ما أضعفك! ما أحقرك أيها الإنسان! من أجل قطرة، لو أن الله ما طرد منك هذه القطرة لكنتَ متَّ؛ لكن رحمة الله عزَّ وجلَّ تدركك.
هذه الرحمة -أيها الإخوة- لها صور، ولها مظاهر كثيرة جداً، ولو تكلم عنها الإنسان ساعات طوال ما أدركها ولا أحاط بها؛ لكن سنتكلم عن بعضها، وعن أشملها وأظهرها:(58/9)
إنزال القرآن الكريم
أنزل الله القرآن رحمة للعالمين، وتصوروا -أيها الإخوة- لو أننا نعيش بغير قرآن، كيف ستكون حياتنا؟! إنها والله حياة بهيمية، إن أسوأ حياة يعيشها الإنسان يوم يعيش مقطوعاً عن الله، لا تتصوروا أن أصحاب الحضارة الغربية والشرقية التي قامت بتقديس المادة، وتدنيس وتدمير الإنسان أنهم في سعادة، لا والله! هم في الحقيقة في سعادة مادية؛ لكنهم في عذاب داخلي، ويعرف هذا عقلاؤهم؛ يقررون ويكتبون ويتوقعون معضلات تحصل بسببه، وما حصل بسببه الآن فهو معروف: الانتحار المخدرات الأمراض النفسية التحلل الأسري التفكك الاجتماعي الجنون المسرحي الجنون الكروي كل هذه مظاهر، جاءت بسبب انقطاع الناس عن وحي السماء؛ يعيشون بغير قرآن، يعيشون كما تعيش البهائم والأنعام، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12]، كما تأكل البهائم؛ لكن ليسوا بهائم في الأصل، هم أناس، خلقهم الله للعبادة، فعطلوا هذه الوظيفة واشتغلوا بما اشتغلت به البهائم، فقصروا أرواحهم على عيشة ما خلقت لها، عيشهم يجب أن يكون على دين؛ لكنهم جعلوها حيوانية، ولهذا هم يعذبون أنفسهم، فهم الآن في عذاب لا يعلمه إلا الله، من أين جاء هذا العذاب؟ بسبب حرمانهم من وحي السماء.
والله سمَّى القرآن رحمة، يقول الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} [يونس:57]، {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس:57] وهو القرآن، {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57] ما هو الذي في الصدور؟ القلوب، إن الله تعالى يقول: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي} [الحج:46] أين؟ {فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] وليس المقصود هذا الذي يضخ الدم، لا.
هذا القلب مادي، لكن القلب المعنوي: هو القلب الذي يفقه عن الله ما الذي يشفيه، ويجعله حياً يخاف من الله ومقبل إليه؟ هنا القلب القرآن شفاء له؛ لكن كيف يأتيك الشفاء وأنت معرض عن القرآن؟! الأمة الآن مريضة؛ لأن القرآن ليس في حياتها، إذا مرَّ الواحد على القرآن في الإذاعة أقفله، وإذا مرَّ على الأغنية قام يلعب ويرقص، كيف يأتي الشفاء؟ هذه مصيبة الأمة، فالشفاء في كتاب الله تعالى، قال عزَّ وجلَّ: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:57 - 58].
{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ} [يونس:58] أي: بإنزاله القرآن، {وَبِرَحْمَتِهِ} [يونس:58] أي: بالقرآن، {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] إن كان عندك هذه الرحمة والفضل والقرآن فلتفرح، وإن كنت محروماً من هذا الفضل والقرآن فلا تفرح؛ لأنك ضيعت الشيء الذي بسببه تحصل الفرحة: {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
ويقول عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:52].
ويقول عزَّ وجلَّ: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ} [الأنعام:157] أي: لا أَظْلَمَ، إذا سمعتَ: {فَمَنْ أَظْلَمُ} [الأنعام:157] أي: لا يوجد أحد أظلم من صاحب هذا الظلم وهذا الفعل {مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} [الأنعام:157] أي: أعرض عن آيات الله المقروءة أو المنظورة؛ المقروءة في القرآن أو المنظورة في الكون، {وَصَدَفَ عَنْهَا} [الأنعام:157] أي: تعامى وأعرض عنها، {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ} [الأنعام:157] أي: يعرضون {عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [الأنعام:157].
فنزول القرآن رحمة.
اسأل نفسك: كم نصيبك من هذه الرحمة؟ كم تحفظ من القرآن؟ تحفظه كاملاً؟ إذن عندك (100%) رحمة.
تحفظ نصفه؟ إذن عندك (50%) رحمة.
تحفظ عشرة أجزاء؟ إذن عندك (33%) وهكذا، وإن كنت لا تحفظ شيئاً فعندك (0%).
بعض الناس لا يحفظ حتى آية، لكنه يحفظ مليون أغنية! هذا عنده (100%) عذاب بدلاً من الرحمة.
خلقك الله لتعمل بكتابه؛ من أجل أن تقرأ وتعمل بالقرآن الكريم هذا رحمة، كم عندك؟! اسأل نفسك: كم عند زوجتك من القرآن؟! كم عكست ما عندك إلى أهلك؛ عند بنتك وولدك وجماعتك؟! لأنه الرحمة، فيجب أن يستفيد الناس من الرحمة التي فيك؛ لكن الذي ما عنده رحمة في نفسه كيف يكون في الناس رحمة له وقد حرم نفسه من الرحمة العظيمة التي أنزلها الله رحمة للعالمين، وهي هذا الكتاب الكريم؟! فنزول القرآن رحمة من الله، كما قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].(58/10)
بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة
يقول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً} [الأنبياء:107] لمن؟ للناس؟! لا.
بل: {لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] وكل ما سوى الله فهو عالَم، رحمة للسماوات وللأرض، ولليل وللنهار، وللأشجار وللبحار، وللإنسان وللحيوان، وللنبات وللجماد كل شيء، لقد شملت هذه الرسالة وعمَّت رحمتها كل شيء، حتى المطر إذا نزل على أرضٍ فيها صلاح ودين يصير رحمة، وإذا كان فيها معاصٍ يصير عذاباً وتدميراً، لماذا؟ لأنه في الأصل رحمة، وأحياناً لا يكون هؤلاء أهلاً للرحمة فينزل عليهم عذاباً -والعياذ بالله-.
فبعثة النبي صلى الله عليه وسلم رحمة، وتصوروا أيها الإخوة، لو لم يكن لنا رسول، فمن يكون قدوتنا في الحياة؟! إن المؤمن ليطمئن وتهدأ نفسه حينما يعلم أنه يتلقى تعليماته وقدوته وأوامره ويسير في حياته على منهج أكرم بشر، وعلى طريقة أفضل مخلوق، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، شرف عظيم لك أن يكون قدوتك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكن إذا كنتَ بغير قدوة ورسالة ما حالك؟ انظروا إلى التائهين الضالين، يربي له (زنَّارة).
ماذا به؟! قال: هذا خُنْفُس.
هذا قدوته الخُنْفُس.
وآخر حلق رأسه إلى أن صار رأسه مثل البطاطا تماماً.
ماذا به؟! قال: هناك جماعة في أوروبا اسمهم: جماعة الأرانب، أنا من أعضاء جمعية الأرانب.
هذا خُنْفُس وهذا أرنب! وآخر يلبس بنطالاً ضيقاً على استه حتى يخنقها، ثم يوسع على رجله ويجعله متراً من تحت.
ما به؟ قال: هذا (شارل استون).
ما هذا؟! من قدوة هؤلاء الضالين الضائعين -والعياذ بالله-؟! رأيت مسابقات يجرونها الآن في العالم تُضْحِك، قبل أيام سمعنا واحداً أُجريت له مسابقة، وحقق رقماً قياسياً في الضحك، مكث ساعة يضحك، حتى آلم فمه وهو يضحك وإذا وقف، قالوا: اضحك أو اخرج من المسابقة.
أهولاء يعيشون في سعادة؟! وآخر أجريت له مسابقة في أطول شنب؛ مكث طول حياته ليس همه إلا أن يمسح شنبه، ويسقيه بالمواد الكيماوية، ويسحبه، ويهتم به، حتى كبر، أتدرون كم كبر؟! مترين وأربعين سنتيمتر شنب ملفوف! ليس لهم قدوة هؤلاء ضالون ضائعون، لكن أنت مربوط بالسماء، وموجَّه إلى شخص كريم، اختاره الله واصطفاه، وجعله رسولاً، وقال للناس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] فتطلق لحيتك وتعفيها؛ ليس لأنها قضية شعر، ولا ديكور، لا؛ ولكن لأن الرسول أمر بها، وقال: (قصوا الشوارب، وأعفوا اللحى) ولذا هي كريمة عندك، لا لكرامة الشعر، ولكن لكرامة الآمر بها والذي حثك عليها، وتموت وتُقطع رقبتك ولا تقطعها، لماذا؟ لحبك لمن أمر بها صلوات الله وسلامه عليه؛ لكن حينما تهون محبة الرسول في قلبك تهون لحيتك عليك، وتحلقها بنقود عليها، وتدع الحلاَّق يَرْصَعها وعينك تنظر، بل بعضهم يحلق في الحمام، وتذهب لحيته مع الكرسي! أين كرامة الإنسان؟! أين كرامة الرسول صلى الله عليه وسلم في قلوبنا؟! {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] إن أعظم ما رحم الله به العباد هو: بعثة هذا الرسول، وإنزال هذا الكتاب الكريم.(58/11)
صرف السيئات عن عباده المؤمنين وتوفيقهم للطاعات
ومن مظاهر رحمته تبارك وتعالى بالأمة، وبالمؤمن على وجه الخصوص: أن يصرف الله عنك السيئات، بحيث يوفقك للطاعة، ويصرف عنك السيئة.
ويجعل عينك هذه عيناً طاهرة؛ إذا رأت المرأةَ تغُضُّ.
ويجعل أذنك أذناً نظيفة؛ إذا سَمِعَتِ الأغنيةَ تغلقُ.
ويجعل لسانك لساناً طاهراً؛ لا يتكلم إلا بذكر الله، وبالعمل الصالح، وبالكلمة الطيبة، لا يلعن، ولا يسب، ولا يشتم، ولا يغتاب، ولا يكذب، ولا يحلف، ولا، لسانك لا يقول إلا خيراً.
ويجعل يدك هذه نظيفة عفيفة؛ لا تمتد إلا إلى الفضائل ومعالي الأمور.
ويجل رجلك هذه طاهرة؛ لا تحملك إلا إلى المسجد والطاعة والعمل الصالح.
ويجعل فرجك طاهراً نظيفاً؛ لا يقع إلا فيما أحل الله له.
ويجعل بطنك هذه نظيفة؛ لا يدخله إلا ما أحل الله.
ويجعلك كلك من أولك إلى آخرك على الطاعات، ويمنعك من السيئات، هذه رحمة أم ليست رحمة؟! نعم رحمة.
اسمعوا ماذا يقول الله عزَّ وجلَّ عن الملائكة: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر:7] هؤلاء الملائكة في السماء، وأنت جالس هنا، وهم يستغفرون لك في السماء فاغفر لمن؟ لمن توفرت فيهم صفتين: {لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر:7] وبعد التوبة؟ {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ثم تقول الملائكة: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر:7 - 9] تطلب الملائكة من الله أن يقيك السيئات، وأن يصرف عنك المعاصي والذنوب: {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:9].
هذا هو الفوز العظيم، أن يقيك الله السيئات، وتصبح آلِيَّ العبادة والطاعة، كأنك مركب على أزرار؛ من بيتك إلى مسجدك إلى عملك، إذا رأيت معصية تهرب منها، وإذا رأيت طاعة تقبل إليها، فأنت من رحمك الله، {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:9] أي: الذي ما وقاه الله السيئات ما رحمه الله، وما ناله نصيب من رحمة الله، فمن الناس من لا يعرف الطاعات أصلاً، ولا يتعرض للطاعات، وإنما هو واقع في المعاصي والسيئات منذ أن تستيقظ عينه حتى تنام، فهو يستيقظ على معصية الله، وينام على معصية الله؛ يستيقظ ويده على السيجارة، يحسب الباكت، يبحث عنه وهو ما زال مُغْمِضاً عينيه، من أجل أن يشعل الدخان، ويستيقظ ويده على مؤشر الراديو لكي يستفتح النهار بأغنية، أو على الشريط، وعندما يركب السيارة يشغل الأغنية، فيذهب إلى العمل على الباطل، ويمشي في الشارع على الباطل حياته كلها معاص في معاص؛ لأنه حُرِم من رحمة الله عزَّ وجلَّ.
إذاً: يا أخي الكريم: تعرَّض لرحمة الله عن طريق فعل الطاعات وترك السيئات، وهذه تقتضي منك مجاهدة؛ لأنك إذا جاهدت نفسك في ترك المعاصي، والابتعاد عن السيئات، وممارسة الطاعات، فكأنك تستمطر رحمة الله؛ يا ربِّ هات رحمة منك، وأنت مأمور بهذا، لكن عندما تأتي الطاعة إليك فتقول: لا، وتُعْرَض عليك المعصية فتقول: هيا، فكأنك ترد رحمة الله، وتستمطر غضب الله ولعنته وسخطه في الدنيا والآخرة.
كما قال الله تبارك وتعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:132].(58/12)
من مظاهر رحمة الله: سماع القرآن الكريم
أيضاً: من مظاهرها: سماع القرآن:- {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204].
فإذا سمعت القرآن فأنت مُعَرَّض لرحمة الله تبارك وتعالى.
رحمة الله عزَّ وجلَّ ليست مختصة بفئة؛ ولكنها على عباده تسعهم، وبها يقوم وجودهم وكيانهم، وهي تتجلَّى في كل مظهر من مظاهر حياتهم ومن مظاهر وجودهم على هذه الحياة:(58/13)
من مظاهر رحمة الله: مجازاة الله عز وجل
تتجلى أيها الإخوة أولاً في: مجازاة الله عزَّ وجلَّ: أي: أنه يضع لك على السيئة سيئة، وعلى الحسنة عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
هذه رحمة أم ليست برحمة؟! مقتضى العدل: السيئة بسيئة، والحسنة بحسنة؛ لكن لا إله إلا الله! سيئة بواحدة، وحسنة بعشر، إلى سبعمائة، إلى أضعاف كثيرة.
وعندما تريد أن تعمل سيئة فيحجزك منها خوف الله، ماذا تُكْتَب لك؟ حسنة.
فعندما تهم بصدقة أو حسنة، لكن لا تقدر عليها، تُسَجَّل لك حسنة.
وتمر على فقير في الشارع تراه يمد يده، فتدخل يدك في جيبك تبحث عن ريال فلا تجد ريالاً؛ لن يضيع لك ربك هذه النية الحسنة، يقول: سجلوا له ريالاً، كأنه عمل حسنة.
هذه مظاهر رحمة الله عزَّ وجلَّ.(58/14)
من مظاهر رحمة الله: تجاوزه تعالى عن عباده
أيضاً من مظاهر رحمة الله تبارك وتعالى: تجاوز الله وتوبته عن العبد إذا تاب قبل الموت بل أشمل من تجاوزه: تبديل سيئاته حسنات، رجل كان مسرفاً في المعاصي، وعاش حياته كلها على الذنوب، ثم تاب، وقد سُجِّل في دواوين سيئاته ملايين السيئات، ثم تاب وحسنت توبته، والله تبارك وتعالى من فضله ورحمته يمحو هذه السيئات ثم يثبت بعددها حسنات، كأنه كان يعمل حسنات، هذا فضل ورحمة، أم لا؟! يقول الله تبارك وتعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70].
جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والقصة يذكرها ابن كثير نقلاً عن ابن أبي حاتم، يقول: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد سقط حاجباه على وجهه، من كثرة طول سنه، وتقدم عمره، فقال: (يا رسول الله! رجلٌ غدر وفجر، ولم أدع حاجة ولا داجةً إلا اقترفتها، ذنوب لو قسمت على أهل الأرض لأهلكتهم، فهل لي توبة؟ قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: نعم، قال: اذهب، فإن الله قد كتب لك بكل سيئة حسنة، قال الرجل: وغدراتي وفجراتي يا رسول الله؟! -يعني: الكبار، التي ما يُتَصَوَّر أن يغفرها الله تعالى- قال: وغدراتك وفجراتك.
فولى الرجل وهو يقول: لا إله إلا الله! سبحان الله!).
فما أعظم فضل الله، وهذا الكلام نوجهه لأنفسنا وللمسرفين في الذنوب، والذين عندهم ذنوب كثيرة، ويقولون: ربنا لن يقبلنا لا والله، مهما كان ذنبك، فإن رحمة الله أوسع من ذنبك، فقط غيِّر الوجهة: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54] {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] وبعد ذلك: {وَأَنِيبُوا} [الزمر:54] بعضهم يأخذ آخر الآية ويترك أولها، يقول: إن الله غفور رحيم، لكن أين {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر:54] أي: توبوا وأسرعوا، {وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54].
فلا بد من التوبة والإنابة والرجوع إلى الله.
أما التوبة بعد فوات الأوان لا تنفع {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء:18] لم تعد تنفع: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء:18]، وقبلها يقول: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:17].
فأنت عليك أن تتوب الآن.
ولا داعي -أيها الإخوة- للمجازفة في قضية التوبة، فإن المجازفة في التوبة مجازفة خاسرة؛ لأنه إذا كان الإنسان يعصي الله فتقول له: الآن هل أنت راضٍ عن وضعك وعن معصيتك، أم لا؟! سيقول لك: لا، أنا ليست براضٍ.
هل قرَّرتَ أن تتوب إلى الله، أم لا؟! سيقول: قرَّرتُ أن أتوب.
متى تتوب؟! حدد لي يوماً معيناً.
سيقول: فيما بعد.
متى بعد سنة؟ سيقول: لستُ أدري.
بعد شهر؟ سيقول: لستُ أدري.
إذاً: أنت كذابٌ، لا تريد أن تتوب، لو أنك تريد أن تتوب فلا بد أن تحدد.
وإذا قال: أحدِّد، بعد سنة.
نقول: هل عندك ضمان أنك تعيش إلى بعد سنة.
فإذا قال: ليس عندي ضمان.
قلنا: إذاًَ: لماذا تؤخر على غير ضمان، إذاًَ: يلزمك أن تتوب الآن، فإنك إن تبت الآن، ومدَّ الله في عمرك، كانت حياتك كلها طاعة، وسلمت من سوء الخاتمة، وإن لم تتب الآن، ومد الله في عمرك وأنت عاصٍ، كانت حياتك كلها وبال عليك، وكنت عرضةً لسوء الخاتمة، فربما تموت الليلة، أو غداًَ على سوء الخاتمة.
إذاً: الخيار الأفضل لك أيها الإنسان ولي ولكل مسلم هو التوبة؛ ولهذا جاء في الحديث عن الأغر المزني يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر في المجلس الواحد مائة مرة).
وفي صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (توبوا إلى الله يا عباد الله! إنه ليُغان على قلبي فأتوب إلى الله سبعين مرة) ما هو الغَيْن؟ قالوا: يُغان على قلب الرسول يعني: طبقة خفيفة من الغفلة، وإلا فإن الرسول لا يغفل عن الله، فالرسول مِن أَذْكَر عباد الله ومن أخشى الناس لله ومع هذا يقول: يُغان، لم يقل: يَغْفُل؛ لأن الغَين: يعني: طبقة خفيفة سريعة تأتي على القلب فيستغفر منها الرسول سبعين مرة، ونحن لا نستغفر! نستغفر الله الذي لا إله إلا هو ونتوب إليه، نستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه، نستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه.
فمجازاة الله للعباد قائمة على الرحمة، ولهذا إذا تاب الإنسان مسح الله كل ذنوبه، وهذا من أعظم ما يمكن أن نصف به مظاهر رحمة الله تبارك وتعالى.(58/15)
دخول الجنة برحمته تعالى
أيضاً: من مظاهر رحمته: أنه لا أحد لا يدخل الجنة بعمله، وهذا يبين لنا عظمة الجنة، وأنها لا توازي العمل، قال عليه الصلاة والسلام: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته).
إذاً: كيف عبادتنا قياساً على عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم؟! أنا أعطيكم نماذج ونتفاً من عبادة النبي صلى الله عليه وسلم: أولاً: من عبادته: - في الصوم: كان يصوم ويواصل، أتدرون ما معنى الوصال؟ الوصال أنه يصوم من الصباح -أي: يتسحر ويصوم- ويأتي المغرب فلا يفطر، ويأتي السحور فلا يتسحر، ويواصل اليوم الثاني، ويأتي المغرب فلا يفطر، ويأتي اليوم الثاني فلا يتسحر، وكان يواصل اليوم واليومين والثلاثة والأكثر من ذلك، ولهذا قال له الصحابة: يا رسول الله! أنت تواصل، ألسنا مثلك؟ لا بد أن نواصل، قال: (إنكم لستم مثلي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني) والحديث في البخاري، قال ابن حجر وهو يعلق على هذا الحديث: كيف يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مواصلاً وهو يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه، لو أنه يُطْعَم ويُسْقََى من طعام الدنيا ما كان هذا وصالاً؛ لكن ليس من طعام الدنيا؛ يطعمه ويسقيه بما يفضي على قلبه من شآبيب رحمته، فيعوضه هذا عن الطعام والشراب في الدنيا، لا إله إلا الله! هذا في صيامه من منا يصوم هذا الصيام؟! - قيامه صلى الله عليه وسلم: وقيامه صلى الله عليه وسلم توضحه الأحاديث:- تقول عائشة رضي الله عنها: (كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تفطرت أقدامه) رجلاه من كثرة الوقوف تشققت، ونحن تشققت أقدامنا من اللهث وراء الدنيا! أقدامنا مُشَقَّقَة من الدنيا؛ لا من الطاعة.
ثانياً: الجهاد: حياته كلها منذ أن بُعث إلى أن مات جهاد، صلوات ربي وسلامه عليه.
ثالثاً: شجاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي مضرب المثل: يقول علي، وهو من الشجعان، يقول: [كنا إذا حَمي الوطيس، واحمرَّت الحُدُق ندلق بظهر الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يُرى أقرب منه للعدو].
وفي غزوة حنين لما انكشف ظهر المسلمين، وقف يرتجز على البغلة الشهباء، وهو يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) يقول: انظروني، موجود، تعالوا، وما ثبت إلا هو، ومعه مائة من أهل الشجرة، حتى أنزل الله جنوداً قلبوا كفة الميزان لصالح المؤمنين.
رابعاً: كرمه صلى الله عليه وسلم وبذله وعطاؤه: ما كان أجود منه صلى الله عليه وسلم في الأرض، كان أجود من الريح، وكان يعطي عطاءَ مَن لا يخشى الفقر.
جاءه رجلٌ أعرابي يكفيه أنه يعطيه شاة أو نحوها، فأعطاه غنماً بين الجبلين جاءت من الفيء، وادٍ مليء قال: خذ، هذه لك، فرجع الرجل إلى قومه، قال: أسلموا، والله هذا رجل يعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر؛ فجاءت القبيلة كلها تسلم.
اللهم صل وسلِّم عليه.
ادخر له بلال تمراً قليلاً حتى إذا جاع الرسول أعطاه له، فسأله يوماً: (أعندك شيء؟ قال: لا يا رسول الله! إلا تمرات ادَّخرتُها لك، قال: هاتها يا بلال، أنفق ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً) هذا رسول، لو أنه ليس رسولاً والله ما يفعل هذا؛ لكن هذا نبي، اللهم صل وسلِّم عليه.
وفي حديث عقبة بن نافع في صحيح البخاري يقول: (صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، فانفتل من الصلاة، فقام من ساعة أن انفتل -دخل حجرته- ثم رجع، فقلنا: يا رسول الله ما لك؟! قال: ذكرتُ في صلاتي شيئاً من تِبْر -يعني: ذهباً- عندي، كرهت أن أقعد حتى أنفقه، فقسَّمتُه ورجعت إليكم) هذا رسول، اللهم صل وسلِّم وبارك عليه.
خامساً: حلمه: دائماًَ الذي عنده عَظَمَه يكون عنده حلم عظيم، وعظمة الرسول صلى الله عليه وسلم تتجلَّى في كل جزئية من جزئيات حياته.
حلمه: يأتي الأعرابي ويجذبه جذبة عنيفة، أثرت في عاتقه الشريف، والصحابة وقوف والسيوف في أيديهم -ما كانوا يقدرون على رفع أبصارهم إليه، وهذا الأعرابي يأتي ويشده ويقول: أعطني من مال الله الذي عندك، لا من مالك ولا من مال أبيك، فالصحابة كل واحد منهم بيده سيفه يريد أن يأخذ به رأسَه؛ قال لهم: دعوه، دعوه، وجاء بالعطية وأعطاه، قال: صدق، ليس مالي، هو مال الله، وتركه يذهب، اللهم صل وسلِّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنه رحمة صلوات الله وسلامه عليه: ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، حتى في المعارك، ففي غزوة بدر لما انتهت المعركة، وجيء بالأسرى -أسرى المشركين- استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في هؤلاء، ماذا يصنع فيهم؟ قال أبو بكر: يا رسول الله! أبناؤك وإخوانك وأبناء عمك، اعفُ عنهم، قال عمر: لا يا رسول الله! أعداؤك وأعداء كتابك وأعداء دينك، أخرجوك وحاربوك، اقتلهم، فماذا صنع صلى الله عليه وسلم؟ مال إلى الرأي الأول رأي الرحمة وعفا عنهم، ثم جاء القرآن من السماء يصحح رأي عمر، ويقول: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67] فقال صلى الله عليه وسلم: (لو نزلت نار من السماء لأحرقت أهل الوادي، ولما نجا منها إلا عمر) لكن رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم عظيمة.
ولما نزل من الطائف، وقال له ملك الجبال: (أأطبق عليهم الأخشبان؟ -لو كان واحد منا لقال: هؤلاء ما فيهم خير، يا رب دمِّرهم- فقال صلى الله عليه وسلم: لا.
إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون!).
ولما ذهب الطفيل بن عمرو إلى بلاد زهران، ودعا قومه طردوه، وسبوه، وشرَّدوه، فإذا به يرجع، فقال: (يا رسول الله! هلك الدَّوس، قال: ما أهلكها؟ قال: أدعوهم إلى الله فيكذبونك، ادعُ عليهم، قال: ارفع يديك، فرفع الطفيل يديه، والرسول رفع يديه، يريد أن يدعو، قال: اللهم اهدِ دَوساً، وائت بهم جميعاً، قال: يا رسول الله! ما دعوتَ عليهم، قال: اذهب وانظر)، وعندما ذهب إذا به يجد دَوساً كلها قد أسلمت، وجاءت سبعون بيتاً من دَوس، ولا يزال لقبيلة زهران وقبيلة دَوس الفضل بدعوة الرسول إلى يومنا هذا، هاهي كتب التاريخ والسير والمسانيد والأحاديث تبين لنا أن من هذه القبيلة مشاهير الصحابة، يكفيهم أنَّ منهم: عبد الرحمن بن صخر الدوسي (أبو هريرة) رضي الله عنه، الذي روى أكثر من خمسة آلاف حديث، فالدين أغلبه جاءنا من طريق أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
وما يبلغ أحد فعل النبي صلى الله عليه وسلم وعمله ومع هذا العمل كله لا يؤهله لدخول الجنة، ولهذا الصحابة استغربوا، (قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته) فإذا كان الرسول لا يدخل الجنة بعمله، فهل أدخل أنا وإياك بعملنا؟! ما هو عملنا يا إخواني؟! ماذا نعمل؟! والله لو عُرض على زبَّال لرفضه، فصلاتنا نصفها وساوس وأفكار، وكذلك صيامنا! وصدقاتنا الله المستعان! نشكو أمرنا إلى الله؛ لكن نسأل الله أن يدخلنا في واسع رحمته.
اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، ربنا لا تؤآخذنا بما فعلنا، ولا بما فعل السفهاء منا، ربنا أدخلنا في رحمتك، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.(58/16)
من مظاهر رحمة الله: إنزاله لرحمة يتراحم بها الخلق في الدنيا
أيها الإخوة: هذه الرحمة ضرب لها النبي صلى الله عليه وسلم أمثلة وقربها إلى القلوب حتى تُفهم، وهذا شأنه صلى الله عليه وسلم في حياته الدعوية أنه كان يقرب المفاهيم والمعاني إلى قلوب الناس بالأمثلة، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21].
أخرج البخاري ومسلم حديثاً عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (جعل الله الرحمة مائة رحمة، أمسك عنده تسعاً وتسعين، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً من المائة، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) بسبب هذه الرحمة! وتصور جزءاً واحداً العالم كله يتراحم به الآن، فتجد الناس في قلوبهم رحمة؛ إذا مَرَّوا على طفل صغير يبكي يأخذونه، ولو لم يكن ولدهم، وإذا رأوه مريضاً واقعاً في الأرض يسعفونه، ولو أنهم لا يعرفونه، إذا رأوه جائعاً يرحمونه، كم؟ كل الناس يرحمون.
حتى الكفار في قلوبهم رحمة؛ توجد عندهم جمعيات: الرفق بالحيوان، وجمعيات الإغاثة، وجمعيات المنكوبين، وجمعيات اللاجئين هذه الجمعيات سببها ماذا؟ وجود رحمة.
والبهائم فيها رحمة؛ فالدجاجة وهي دجاجة صغيرة، ترحم فرخها وتحن عليه، وتمتنع من الطعام والشراب، وإذا قط يريد أن يأكله، ماذا تفعل الدجاجة؟ تستسلم وتهرب من القط، والقط عدوها يأكلها؟ لا، تتحول الدجاجة إلى مصارع وعدو، تأخذ جناحيها وتفعل بطرفيها هكذا، وتقفز إلى ظهره، وتنقره في عينه -لماذا تأتي على فراخي- ما الذي أعطاها هذا؟ الرحمة، رحمة الله تبارك وتعالى.
والتبيع الصغير يخرج من بطن أمه ويقع في الأرض لا يوجد مستشفى يؤخذ إليه، ولا ولادة، ولا حفائظ ولا أي شيء، تقوم الأم البقرة بالمهمة فتخرج لسانها وتمسحه، إلى أن تنظفه وتجعله مثل الوَدَعَة، من علَّم البقرة أن تعمل هذا العمل؟ والحديث يقول: (وبها ترفع الدابة حافرها) ما أدرَى الدابة أن هذا يستحق الرحمة الآن، إذ لو رَصَعَتْه مات.
القطة تضع أولادها الصغار ثم تأخذهم من مكان إلى مكان، تراها آخذة ابنها، تمسكه من رقبته من هنا، وتأتي به، وتضعه هناك، وترضعه، وتصيح إذا لم يتركها أحدٌ ترضعه من؟ إنه الرحيم الرحمن تبارك وتعالى.
وهذا التمثيل يقرب للإدراك البشري تصور سعة هذه الرحمة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه ذلك، يقول عمر رضي الله عنه: قُدِمَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي، فكانت فيه امرأة من السبي، تسعى وقد تحلَّب ثدياها، مرضع ضاع منها ولدها، ولمَّا سُبيت وجدت ثدييها تدرَّان باللبن، وإذا بعينيها تزوغ، تبحث عن ولدها في أي مكان، يقول: ثم نظرت، فإذا صبيها موجود، فأسرعت إليه، واحتملته، وألصقته بصدرها، ثم حنت عليه، وأرضعته، فقال صلى الله عليه وسلم للصحابة: (أترون هذه مُلْقِيَةً بولدها في النار وهي تقدر؟ قالوا: لا، قال: والله إن الله أرحم بعباده من رحمة هذه بولدها) اللهم أدخلنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
يا إخواني: والله كل هذه الأحاديث وكل هذا الكلام يجعل الواحد منا يخجل أن يعمل معصية مع الرحيم المتعالي؛ لكن ما ظنكم بواحد يسمع بالرحمة ويقول: سأظل عاصياً لكي يرحمني.
كذَّاب.
لا يرحمك وأنت عاص: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [الأعراف:56] مِن مَن؟ {مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] يرحمك إذا تعرَّضتَ له، أما إذا عاندته وعصيته وشاققته وتوليت عنه وهربت وحاربته، كيف يرحمك؟! {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50]، {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:167].
فلا بد -أيها الإخوة- أن نفهم هذه المفاهيم حتى لا يغلظ علينا جانب ونقول: أن الله غفور رحيم؛ ما دام الله يرحمنا إذاًَ نجلس كلنا في المعاصي، ويرحمنا الله.
لا، بل نتعرض لهذه الرحمة حتى يرحمنا الله تبارك وتعالى.(58/17)
الراحمون يرحمهم الرحمن
يقول عليه الصلاة والسلام، فيما أخرجه أبو داود: (الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
وأخرج البخاري عن جرير قال: (لا يرحم الله من لا يرحم الناس) إذا أردت أن تكون أهلاً لرحمة الله فربِّ نفسك على رحمة الناس ارحم عاملك الذي يعمل عندك، وخادمك الذي يخدم عندك، والموظف الذي يعمل عندك في الوظيفة، ارحم جارك، وزوجتك، وولدك، وابنتك، والحيوان، والبهيمة وارحم كل شيء، واجعل الرحمة مدراراً في قلبك على الناس؛ لكن الذي لا يرحم لا يرحمه الله، فالرجلُ الفَظُّ العُتُلُّ الجعظريُّ المتحجرُ الشديد قوي على زوجته وأولاده وجيرانه وأمه وأبيه، فهذا نزع الله الرحمة من قلبه، فلا يستحق أن يكون مرحوماً من قبل الله عزَّ وجلَّ.
يروي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن الحسن بن علي دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، والأقرع بن حابس عنده -رجل من كبار العرب- فقام صلى الله عليه وسلم وقبَّل الحسن فقال: يا رسول الله، أتقبلون صبيانكم؟! -يقول: تقبلون الأولاد؟! - إن لي عشرة من الولد، ما قبَّلتُ منهم واحداً، فقال صلى الله عليه وسلم وقد نظر إليه: مَن لا يَرحم لا يُرحم، ما أفعل لك إن كان الله قد نزع منك الرحمة) قطع النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة لما دخل الحسن وجعل يتعثر في ثوبه فقطع الخطبة ونزل من المنبر وذهب فأخذه، ثم أكمل الخطبة وهو في يده.
بعض الناس إذا جاء ليصلي ومر ولده من أمامه صَفَعَه كفَّاً، وبهذا لن يحب الولدُ الصلاة، ولن يصلي مدى الحياة، يقول: لماذا صفعتني؟! يا أخي دع الطفل يمر؛ هذا لأنه لا يقطع صلاتك، لكن هذا الأب يحافظ على الدِّين، يقول: يا ولد! فيصفعه؛ لأنه مرَّ من بين يديه.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد فركب على ظهره الحسن، فأطال السجود صلى الله عليه وسلم، والصحابة لا يسبحون له، لماذا؟ لأنهم يخافون أن يكون فعله تشريع، وأحياناً ينسى لبشريته؛ لكن لا يسبحون حتى يعرفون، فأطال فلما انتهت الصلاة، قال: (لعلكم أدركتم طول سجودي، قالوا: نعم يا رسول الله، قال: إن ابني هذا ارتحلني -يقول: ركب عليَّ- فكرهتُ أن أنزله حتى نزل) هذا سيد البشر وأكرم خلق الله، راحلة للحسن، اللهم صل وسلِّم على عبدك ورسولك محمد.
ويصور النبي صلى الله عليه وسلم الرحمة في مشهد عجيب جداً يخرجه البخاري ومسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (بينما رجل يمشي اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها وشرب، ثم خرج، وإذا بكلب يطوف بالبئر، يأكل الثرى من العطش -قد مدَّ لسانه على الأرض، لا يقدر أن ينزل، ولا عنده دلو يُنَزِّله، وهو فوق، والماء في البئر- فرآه الرجل فأشفق عليه وقال: والله لقد بلغ العطش من هذا الكلب مثلما بلغ بي، ثم نزل البئر فملأ خفه -الخف: الحذاء، ليس عنده إناء ولا شيء إلا خفه- ثم أمسكه بفمه -وضع حذاءه بفمه، وهو مليء بالماء- ورقى حتى صعد البئر، وسقى الكلب، قال: فشكر الله له، وغفر له، وأدخله الجنة) رواه البخاري ومسلم.
هذا كلب رحمه فأدخله الله الجنة، كيف إذا رحمتَ غيرَك؟! إذا رحمتَ مسلماً؟! إذا رحمتَ زوجتَك؟! ولا نتصور أن الرحمة أننا نسقي ونغذِّي، إذا رحمتَ زوجتك بأن حُلتَ بينها وبين العذاب؛ دعوتها إلى الله، أبعدتَ من بين يديها وسائل الفساد، ليس راحماً من يجلب لزوجته وسائل الفساد ويركِّب فوق بيته دُشَّاً، هذا رَحِم زوجتَه أم عذَّب زوجتَه؟! والله عذَّبها وعذَّب أولادَه، إن من يدخل في بيته هذا الداء يسبب كارثة لا يعلمها إلا الله؛ كأنه يعطي تأشيرة خروج للدين من بيته، وللفضيلة، وللرحمة، وللخير، فلا يبقى خيراً، كيف يأتي الخير -يا إخواني- وفوق رأسه أربعون قناة تصب بشرورها على رأسه؟! من أين يأتيه الخير؟! وبعضهم يبست عيونهم في الليل؛ إذا جاء ليرقد لن تُغْمِض عيناه، إذا انتهت قناة، انتقل إلى الثانية، فإذا انتهت انتقل إلى الثالثة، وإذا جاء ليرقد أبت عيناه أن تنطبقا، قد نشفت عيناه مما نظر في هذا الشر -والعياذ بالله- وصلاة الفجر هذه الله يحسن فيها الختام، وأحسن الله العزاء فيها، والله لا يصلُّونها ولا يعرفونها، ولا يقوم بعضهم إلا الساعة الثامنة أو التاسعة أو العاشرة، ويذهب إلى الدوام، حتى إنه لا يصلي، وإن صلى فصلاة المنافق: (يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً).
إذاًَ: رحمة لزوجتك: أبْعِدْ هذا الفساد، ارحمها من عذاب الله.
وبعضهم يقول: أنا رحمت المرأة ورحمت الأطفال.
ماذا هناك؟ قال: الأولاد مساكين، جالسين هكذا، فرحمتهم وأتيت لهم بجهاز فقط، لكي يشاهدوا كراتين.
يرحمهم! انظروا انقلبت الرحمة! هذا يعذِّب أولاده، والله ما رحمتَهم، بل عذَّبتهم، وأهلكتهم وأحرقتهم بالنار، هؤلاء أمانة في عنقك، الله سائلك يوم القيامة عنهم، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] ارحموهم من النار، أما كونهم يصيحون يريدون شيئاً، فهل أنت مَعْبراً هنا فقط! كل ما طلبوا تأتي به، حتى لو طلبوا النار تأتي لهم بالنار؟! لا حول ولا قوة إلا بالله! لا يجوز أيها الإخوة.
وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم أيضاً: (أن امرأة بغيَّاً زانية من بني إسرائيل رأت كلباً في يوم حار يطيف ببئر، قد أدلع -أي: أخرج- لسانه، فنزعت موقها -أي: خفها- وسقته، فغفر الله لها بهذا العمل).
وعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنهم أجمعين قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم -والحديث أخرجه أبو داود - قال: فرأينا قُمَّرَة -نوع من الطيور- معها فرخان، فأخذناهما -أخذوا الفروخ- والقُمَّرَة ليست موجودة، فجاءت القُمَّرَة ما وجدت الفروخ، فجاءت تعرِّش بجناحيها، وترخيها، وتُدْني، وتصعد، وتَنْزِل على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآها الرسول -وهذا من إعجازه، ومن دلائل نبوته أنه عرف ماذا تريد عن طريق الوحي- قال: من فجع هذه بولَدَيْها؟! فقال الصحابة: نحن يا رسول الله! فقال: ردوهما عليها) فأخذوا الفرخان وردوهما في وكرها.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً قال: (قَرَصَتْ نملةٌ نبياً من الأنبياء فأحرق الأمة كلها، فأوحى الله إليه: أن قَرَصَتْكَ نملةٌ، فأحرقتَ أمة، فهَلاَّ نملة؟) يعني: إذا كان لا بد من القصاص، وقرصتك نملة فابحث عن النملة هذه واحرقها؛ لكن تحرق الأمة كلها من أجل نملة؟! لكن العلماء يقولون: إذا كان النمل في مكان خاص في الصحراء، وأنت جئت إليها، وأخذت تتمشى، وقَرَصَتْك، فقمتَ لتحرقها؛ لأنك ذهبت لتتمشى وقَرَصَتْك هذا حرام، من الذي قال لك أن تأتي النمل؟! فأنت تستحق القرص؛ لكن لو جاء النمل إلى بيتك، ودخل في مطبخك، وأفسد عليك طعامك وآذاك، يجوز لك أن تقضي عليه؛ لكن بغير الإحراق؛ لأنه لا يعذب بالنار إلا الله، يجوز لك أن تهلك وأن تقضي على هذه الحشرات والزواحف بالوسائل الحشرية المبيدة، كأن تضع مسحوقاً أو فليتاً أو أي شيء، بشرط أن يكون عليك منها ضرر؛ لأن الضرر والصائل مأمور بدفع صولته، وإبعاد ضرره، أما من غير سبب، تذهب وتضع السم وتطارد، مثل مَن يطارد القطط الآن، بعض الناس إذا رأى قطة في الشارع لَفَّ عليها بالسيارة معركة مع القطط.
ماذا هناك؟ قال: قتلتها.
لِمَ يا أخي تقاتل القطط؟! لكن إذا هي تعمدتك ودخلت عليك، وما دريتَ، فما عليك شيء؛ لكن أن تقتلها عمداً هكذا.
(امرأة دخلت النار في هرة، حبستها حتى ماتت، لا هي أطعمتها ولا أطلقتها تأكل من خشاش الأرض).
وفي النهاية يقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12] ثم قال: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنعام:12] وهذا مشهد آخر من مشاهد رحمة الله وهو: أن الله سوف يجمعنا يوم القيامة.
وكيف يكون هذا اليوم رحمة؟! قالوا: لأن العاصي يرى جزاءه، والمؤمن يرى ثوابه، فيطمئن قلب المؤمن، ويقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف:43] لكن لو أن الله يجمعنا يوم القيامة، ويدخل العاصي والكافر النار، ويدخل المؤمن الجنة، والمؤمنون قد حرموا أنفسهم من المعاصي والذنوب، وذاك قد تمتع بالذنوب والمعاصي، يصبح من الظلم ألا يدخل هذا النار، وألا يجد هذا جزاءه الجنة، فمن كمال رحمة الله عزَّ وجلَّ أن يدخل الناس الذين عملوا بطاعته في الجنة، ويدخل الكفار الذين عملوا بمخالفاته وخالفوا شرائعه وأنبياءه النار، قال الله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنعام:12] والإشارة إلى جمع الله الناس يوم القيامة جاءت مؤكدة بعدة مؤكدات: ((لَيَجْمَعَنَّكُمْ)) [الأنعام:12] لام التوكيد، ونون التوكيد المثقَّلة الشديدة، {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنعام:12] بيانها، وبعد ذلك: {لا رَيْبَ فِيهِ} [الأنعام:12] توكيد ثالث، ثم قال بعد ذلك: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأنعام:12] في ذلك اليوم تظهر الموازين وتنكشف الحسابات، فيخسر الناس الذين ضيعوا أنفسهم في هذه الدنيا من طاعة الله، يخسرون أنفسهم بدخولهم النار، فهم لا يؤمنون في هذه الدنيا، ويحصل لهم بعدم الإيمان في هذه الدنيا خسارة الدارين في الدنيا والآخرة.
ثم يقول تبارك وتعالى في لفتة أخرى: {وَلَهُ مَا(58/18)
الأسئلة(58/19)
نبذة عن مؤسسة الحرمين الخيرية
السؤال
نرجو أن تذكر لنا نبذة عن مؤسسة الحرمين الخيرية؟
الجواب
الخير في هذه الأمة -أيها الإخوة- لا ينقطع والحمد لله، والهيئات واللجان والجمعيات التي تقوم في هذا البلد المبارك وفي غيره من بلاد المسلمين، هذه وسائل عظيمة من أجل إيصال الخير إلى أهله، فهي بمنزلة الجسور الممتدة بين المحسنين والمحتاجين، فإن كثيراً من المسلمين يود أن يحسن، وعنده خير؛ لكنه لا يجد من يوصل هذا الخير إلى أهله، وليس عنده إمكانية، فقامت هذه الهيئات، ومن ضمنها: مؤسسة الحرمين التي يقوم عليها مجموعة من الرجال الفضلاء، الذين هم موضع ثقة في دينهم وأمانتهم، وفي توجهاتهم، ويحملون تزكيات من أصحاب الفضيلة، وفي مقدمتهم سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز، وقد أثنى في كتاب له هنا وقال: سرَّني كثيراً ما تقوم به المؤسسة من الأعمال الطيبة في سائر أنحاء المعمورة من النشاط في الدعوة إلى الله، ومساعدة ذوي الحاجات، فالحمد لله على ذلك، وأسأل الله أن يوفق القائمين عليها لكل خير، وأوصي الجميع بالإخلاص لله في العمل.
لأن المسلمين في كل مكان بحاجة إلى من يعينهم على الخير، ويشجعهم عليه، وعلى الثبات عليه، كما أن غير المسلمين في حاجة إلى الدعوة والتوجيه والتأليف.
وفقكم الله جميعاً، ونفع بكم عباده.
- هذا الكتاب موجه إلى مدير عام المؤسسة فضيلة الشيخ/ عقيل بن عبد العزيز العقيل.
وهذه المؤسسة لها أعمال خيرية كثيرة جداً منها: 1/ الدعوية: في ترسيخ العقيدة، والتركيز على تعليم السنة.
2/ الإغاثية: في إغاثة المسلمين، عند نزول الكوارث، وعند حلول المشاكل والنكبات.
3/ التعليمية: كبناء المدارس.
4/ الصحية: كبناء المستشفيات، والمستوصفات.
5/ حفر الآبار إلخ.
كل هذه الأعمال تقوم بها هذه المؤسسة، وهي قائمة على المحسنين، ولها صناديق الآن موجودة في هذا المسجد، ولا أظن أنك تبخل على نفسك بأن يكون لك دور ومشاركة ولو شيئاً يسيراً، فإن الله تبارك وتعالى يربي للمتصدق صدقته، حتى تكون يوم القيامة كالجبل، فضَع شيئاً في هذا الصندوق: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ} [محمد:38] والله عزَّ وجلَّ لا يضيع صدقة أحد، وليس الإنسان ينفق من ماله بل من مال الله، يقول الله تبارك وتعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7].
فأسأل الله أن يوفقني وإياكم للإنفاق في كل مجال، ومن ضمن المجالات، مجال هذه الجمعية المباركة التي هي مؤسسة الحرمين، ولها صناديق، وعليها بعض الإخوة، وموجودة عند أبواب المسجد.(58/20)
توبة من يخشى العوائق الاجتماعية
السؤال
أريد أن أتوب إلى الله، ولكن يمنعني من ذلك أشياء: منها: المجتمع، وإخواني، وأصدقائي وأقربائي، وعلاقاتي الرجاء إجابتي عن هذه المشاكل، وكيف أتغلب عليها؟
الجواب
تذكر -يا أخي- وأنت تريد أن تتوب وتمنعك هذه الموانع، أن هذه الموانع لا تمنعك من عذاب الله، ولا يمنعونك من الموت، ما رأيك إذا جاءك الموت، هل يمنعك المجتمع وإخوانك وقرابتك وزملاؤك وأصدقاؤك من الموت؟! لا.
وما داموا لا يمنعونك من الموت فيجب ألا يمنعونك من التوبة.
سارع يا أخي إلى التوبة، ولا تلتفت إلى المجتمع، فإنك عبد الله لا عبد المجتمع، ولا تلتفت إلى الأصدقاء ولا القرابة، وإنما ضع أمامك هماً واحداً وهو: هم الله، ضع توجهك توجهاً واحداً وهو: إلى الله، وتذكر العذاب، والخسارة العظمى التي تجنيها يوم أن تموت وأنت غير تائب إلى الله من المعاصي، وقد تقول: إن التوبة لها ضغط وشدة، والمعاصي لها طعم ولذة، نقول: صدقت، إن التوبة لها تعب؛ ولكن الأتعب منها الاستمرار في المعصية، فإن تعب التوبة لا يُقاس بألم وتعب المعصية؛ تعب التوبة محدود ينتهي بمعاناة بسيطة، ثم يقبلك الله ويجعلك من التائبين؛ لكن تعب المعصية غير محدود، يشملك في الدنيا ثم ينتقل معك في القبر، ثم ينتقل معك في عرصات القيامة، ثم يوردك النار، إذ لا خيار لك في التوبة.
وأسأل الله أن يتوب علينا وعليك وعلى جميع المسلمين.(58/21)
حكم استقدام الخادمة بدون محرم ومعاكستها
السؤال
ما رأيك في من يترك زوجته ويتجه إلى معاكسة الشغالة، وزوجته تعرف ذلك وتتجاهله؟
الجواب
أولاًَ: لا يوجد أحد يأتي بشغالة إلا من أجل امرأته؛ لأن المرأة هي التي تطلب الشغالة، فإذا جاءت بالشغالة، ثم توجه الرجل إلى الشغالة وتركها، فعلى نفسها جنت براقش، هي التي تستحق، من قال لها أن تأتي بشغالة؟! أصبحت دَغَّالة لم تعد شغالة، ولهذا ننصح بأن لا يأتي أحدٌ بشغالة بأي حال من الأحوال، ويحاول أن يحرص ألا يأتي بها، لماذا؟ لأنها امرأة أجنبية في بيتك فلا بد أن يجرك الشيطان إليها، لاسيما مع ضعف إيماننا، وقلة ديننا ضع النار بجانب البارود وقل: لا تشتعل.
لا بد أن تشعل النار البارود، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما تركتُ على أمتي فتنة أضر من النساء على الرجال، ألا فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).
لكن قد يضطر الإنسان إليها اضطراراً، فإذا اضطُرَّ إليها اضطراراً فبالقواعد الشرعية، متى الضرورة؟ كأن تكون زوجتك معلِّمة، وعندها أطفال، ولا يمكن أن تدع أطفالك في البيت بدون أحد، وليس لك أقارب تضع أطفالك معهم، ولا يمكن أن تأخذ أولادها هي إلى المدرسة تدرِّس بهم، هل تضيِّع أولادك؟! لا، هل تفصل زوجتك من العمل التعليمي، وتجلس في البيت تربي أولادك، وتترك تربية أهل المسلمين؟! لا، هذه نظرة قاصرة؛ لأن زوجتك الصالحة إذا جلست في البيت، وأنت الصالح جلست في البيت، وأولادنا نوصلهم ليدرسوا، فمن يبقى في المدارس؟ يبقى الفاسدات، إذاً كأننا نقدم بناتنا وفلذات أكبادنا للسوء في المدارس، ونقعد زوجاتنا عن العمل العام الذي فيه تصحيح، وتربية، ودعوة، فيقعدن يربين، بدل أن تربي زوجتك الصالحة ثلاثمائة طالبة، تربي ثلاثة أطفال.
ماذا نصنع؟! الجواب: نرتكب أقلَّ الضررين؛ نحن بين مفسدتين، نأخذ أقلها، ما هي الأقل؟ نأتي بشغالة؛ لكن بشروط شرعية: أولاً: أن تكون مسلمة: فلا تأتي بكافرة، يحرم عليك أن تأتي بكافرة؛ لأنها تربي ولدك على الكفر، وهناك طفل في الرياض عندما جاءوا به في سنة أولى ابتدائي، في أول مواد الدرس: قال الأستاذ: لا إله إلا الله.
قال: لا.
يا أستاذ، الله ثالث ثلاثة.
فلما رجعوا، وجدوا النصرانية الخادمة قد علَّمته أن الآلهة ثلاثة.
وطفل آخر يصيح حتى مات، ثم اكتشفوا، وإذا في رأسه دبُّوس، غرزته الشغالة في رأسه حتى مات.
وطفل ثانٍ وجدوا أن الشغالة عندما تكون أمه في المدرسة وهي في البيت إذا بكى أعطته إصبع رجلها الكبيرة ليرضع، طول اليوم يرضع إصبع رجلها.
وأخرى تضع بولها على السلطة في الغداء (خَل) ويستحق هذا من يأتي بالكافرة، وما أدراك أنها وضعت ليمون أو بولاً؟! وهي كلها أملاح ومواد حامضة، هل أنت جالس في المطبخ؟! الشغالة في المطبخ وأنت في العمل، وصنعت هي السلطة ووضعت عليها فنجان بول، وجاء ذاك ليأكل، ويتأدم ببول الكافرة.
لا تأتي بكافرة، وإذا كانت عندك كافرة فاعمل لها خروجاً بلا عودة الآن، لا تمسي الكافرة في بيتك.
هذه أولاً؛ أن تكون مسلمة.
ثانياً: أن يكون معها زوجها؛ لكي تأتي بمحرم إذا قدرت، ليكون هو سائق للأسرة والبيت، وهي زوجته، فتضمن أن زوجته معه، لا تنظر إليك، ولا تنظر إليها أنت.
ثالثاً: أن تكون كبيرة السن: فلا تأتي بواحدة في العشرين أو الخامسة عشرة، بعضهم يذهب إلى هناك، كأنه يريد أن يتزوج، ويستعرضها وينظر، ويأخذ واحدة عبارة عن وجه، ما هذا؟! هذه خادمة؟! هذه ليست بخادمة، بل نأخذ واحدة كبيرة السن.
رابعاً: أن تكون غير ملفتة للنظر: شوهاء، إذا نظرتَ إليها صُدَّ عنها، أما أن تأتي بواحدة أجمل من زوجتك! هناك خادمات أجمل من الزوجات، وهنا تقول المرأة: ما رأيكم، والزوجة تعرف، ما شاء الله! أتعرف الزوجة؟! إذاً كيف ترضين بها أن تقعد في بيتك؟! لا حول ولا قوة إلا بالله.
خامساً: أن تفرض عليها الحجاب: تلزمها بالحجاب، وأن لا تكشف عليك.
الشرط السادس: أن لا تخلو بها: زوجتك في العمل، وأنت في العمل، لا تذهب إلى البيت وتدخل البيت وهي موجودة لوحدها، ولو كنتَ مثل ثابت البناني في العبادة، لماذا؟ (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) وتصور! لو كان قلبك نظيفاًَ هل يكون قلبها نظيف؟! ولو كان قلبها نظيف هل يكون قلب الثالث الذي بينكما -وهو الشيطان- نظيف؟! فلا تخلو.
إذا جئت والمرأة ليست في البيت، فاجلس في الخارج في الشارع، أو اذهب إلى المسجد، أو اجلس في السيارة إلى أن تأتي زوجتك، ولا تتساهل في هذه القضية؛ لأنك قد يجرك الشيطان إلى الثقة في نفسك، ثم تسقط لحظة، فتنظر، ثم تسقط الثانية، ثم يسحبك إبليس على أنفك إلى أن يوصلك النار، وهي بدأت بخطوة، كن حذراً جداً في هذه الجوانب.
ونقول لأختنا هذه: إن كنتِ لستِ موظفة وما عندك أطفال، فلا داعي للشغالة؛ لأن بعض النساء ليست موظفة، ولا عندها أطفال، ولكن تقول: ليس عندي شغالة، وكل النساء معهن شغالات.
لماذا الشغالة؟ قالت: لكي ترد على التليفون، وتأخذ الحقيبة لي وأنا ماشية.
عجيب! أصبحت المسألة مظهراً من مظاهر (الفخفخة) فيعاقبها الله ويضع لها شغالة تغير قلب زوجها، وتتمنى أنها ما عرفت الشغالات.
اشتغلي أنتِ في بيتكِ، إن مسئولية المرأة في بيتها كبيرة، وما أصيب النساء بالأمراض وبالسكر وبالترهل في الجسم وبالسمنة وبالأمراض -والعياذ بالله- إلا بسبب عدم القيام بواجبات المنزل، المرأة إذا قامت في منزلها، وقامت تشتغل من الصباح كالغزال، تكنس وتطبخ وتغسل هذه حركة رياضية، تجد بطنها لاصقة في ظهرها، وليس عندها مرض، لكن إذا رقدت من الصباح إلى الظهر، وقامت ووجهها مثل أنفها، مثل الكرة، لا تدري أين رأسها من عَفاسها، وسمنت، وسمنت ثم جاءها السكر، أو جلطة، أو سمنة، أو سكتة، بأسباب ماذا؟! لأنها نائمة، لماذا إذاً؟! قومي أنتِ بالخدمة في بيتِك، ألست تشعرين بأن خدمتك لزوجك شرف وعبادة تتقربين بها إلى الله؟! خدمتك لأولادك وغسيلك لهم خدمة تتشرفين بها وتمارسينها بلذة من خدمكِ أنتِ؟ يوم أن كنتِ صغيرة عند أمكِ، متى جاءونا بفكرة الخدامات هؤلاء يا إخواني؟! والله ما أحدٌ عرفها إلا قريباً، وإلا فكل واحدة تخدم وتغسل وترى النساء الأُوْلَيات ما شاء الله مثل الغزال، تكنس وتطبخ وتغسل وترضع، حتى إن بعضهن تتجاوز مهامها خارج البيت، تجدها تحطب وتأتي بالغنم وما شاء الله، لا تمرض، وتحبل سنة وترضع سنة، أما الآن من يوم أن ينزل الولد من بطنها وإذا الحليب قد جف من ثديها.
ماذا بكِ؟! قالت: والله لا أريد الحليب.
لماذا؟! قالت: من أجل الرشاقة.
فيبتليها الله بسرطان الثدي، سرطان الثدي هذا مرض يصيب المرأة التي لا ترضع أولادها؛ لأن الحليب هذا ينحبس فيها، ويصير فيه بلاء، ويتكون إلى سرطان، ولهذا نسبة علمية تقول: إن أكثر شيء هو في اللاتي لا يرضعن أولادهن، فبدل أن تريد الرشاقة إذا بها لم يعد لديها أثداء، قد قُطِع، لماذا؟ لأنها ليست هي التي تشتغل في بيتها.(58/22)
علاج من عجز قلبه عن الطاعات
السؤال
ما هو علاج من مرض قلبها، مع العلم بأنها كانت صاحبة قلب حي وسليم ويقظ ومرتبط بالله؛ ولكن أغواها الشيطان بما أمرض قلبها، وقضى عليها، ومضى عليها عام كامل، وهي تحاول العودة؛ ولكن دون جدوى، وكلما حاولت الاستقامة عادت كما كانت، فما هو المنهج العملي للعلاج؟
الجواب
المنهج العملي للعلاج: علاج وقائي وعلاجي: الوقاية: أولاًَ: تمتنع من قرناء السوء وقرينات السوء.
ثانياً: إن كان الشر الذي يأتيها عن طريق الهاتف تقطع الهاتف.
ثالثاً: وإن كان عن طريق المجلة ترمي المجلة.
رابعاً: وإن كان عن طريق الفيديو لا تنظر إلى الفيديو.
هذه يسمونها: وقايات، حجْر إيماني عليها.
العلاج:- أولاً: تجعل لها ورداً يومياً من كتاب الله، لا يقل عن جزء، وصفحة تقرأ تفسيرها.
ثانياً: تجعل لها ورداً يومياً من حديث النبي صلى الله عليه وسلم لا يقل عن حديث واحد تقرأه وتحفظه، ويتم تفسيره.
ثالثاً: تحافظ على الطاعات والفرائض محافظة دقيقة جداً.
رابعاً: تنتهي عن المعاصي والذنوب كلها، كبيرها وصغيرها، ودقيقها وجليلها.
خامساً: تبحث لها عن رفقة صالحة، امرأة طيبة فيها خير، لكي تعينها.
سادساً: تكثر من ذكر الله.
سابعاً: تسمع الشريط الإسلامي.
ثامناً: تقرأ الكتاب الإسلامي.
تاسعاً: تحضر مجالس الذكر.
عاشراً: تجاهد نفسها: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].(58/23)
حكم بقاء الزوجة مع زوج لا يصلي ألبتة
آخر سؤال أيضاً من الأخوات، ونحن نعطي أهمية للأسئلة التي تأتي من الأخوات؛ لأن الإخوة الذين لا يجدون جواباًَ على أسئلتهم يمكنهم أن يسألوا مشافهة؛ لكن الأخت التي لا تجد جواباً كيف تعلم؟ ليس معها إلا الورقة، فنحن نعطيها أولوية، وليس معنى هذا: عدم الاهتمام بالأسئلة الأخرى، بل الأسئلة الأخرى ستكون محط عناية مكتب مركز الدعوة إن شاء الله؛ بحيث يُتاح لها الفرصة إن شاء الله في مناسبة قادمة.
السؤال
هناك أم لستة أطفال، والدهم لا يصلي، فما حكم معاشرتها لهذا الزوج، وقد سألت هذه الأم شيخاً، ونهاها أن تعيش معه؛ ولكنها عطفت على أولادها، وحنَّت عليهم، واستمرت في حياتها مع زوجها، على الرغم من إجابة الشيخ لها، واستمرت في تربية أبنائها متوكلة على الله، فهل من ذنب عليها؟
الجواب
نعم.
عليها ذنب عظيم، إذ أنها استمرت في معاشرة رجل كافر، وقد أجمع أهل العلم على كفر تارك الصلاة، وما دام هذا الزوج لا يصلي، فإنه يحرم عليها، ولو عليها مائة ولد وليس ستة فقط، ولو وراءها قبيلة، فلا تحن ولا تشفق عليهم، وإنما تشفق على نفسها أولاًَ من أن تستمر في بيت الكافر، فهذا الرجل الذي لا يصلي تمسكه، وتقول له: أنت إنما استحللتني بكلمة الله؛ لأنك مسلم، والآن لا تصلي، فأنا أخيرك بين أن تصلي فأنا زوجتك، وأم أبنائك، ومعك على درب الإيمان إن شاء الله، أو لا تصلي فأنا لستُ منك، ولستَ مني، ولستُ أنا لك، ولستَ لي، سأذهبُ إلى بيت أهلي.
إن كان لها بيت أهل تذهب إليه، وإن لم يكن لها بيت أهل وأولادها معها، ولا تريد أن تتركهم، فإنها تجلس في هذا البيت؛ لكن تحتجب عنه، لا تراه، ولا تمكنه من نفسها وإن غُلِبَت على أمرها ولم تستطع، تخرج من البيت، ولو أن تعيش على الرصيف، فلها والله أن تعيش وتنام على الأرض، ولا تنام ليلة في النار.
أسأل الله أن يهدي هذا الرجل، وأن يوفق هذه المرأة، ويثبتها على الإيمان، وأن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه.
والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(58/24)
فوربك لنسألنهم أجمعين (1، 2)
إن الله عز وجل لم يخلقنا عبثاً، وإنما خلقنا لعبادته وحده، وأوجدنا في هذه الحياة، لنغتنمها بما يعود علينا بالنفع في الآخرة، فنحن مسئولون عن كل عمل نعمله في هذه الدنيا، قال تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، فلنعد للسؤال جواباً، وللجواب صواباً؛ لننقذ أنفسنا من عذاب الله، وذلك بلزوم الاستقامة على شرع الله، فلزوم الاستقامة كرامة، والميل عنها خزي وندامة.(59/1)
السؤال الأول: (عما كانوا يعملون)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إن من أوجب الواجبات، ومن أعظم مسئوليات المسلم في هذه الحياة، أن يستغل فرصتها، وأن يغتنم فترتها، ليتعلم كيف يجيب على السؤالين الهامين، اللذين أخبر الله عز وجل في كتابه الكريم، أنهما سيقدمان إلى كل مكلف في هذه الدنيا؛ لأن بمقدار قدرته على الإجابة الصحيحة على هذين السؤالين، يكون مقدار فوزه وسعادته، أو هلاكه وخسارته -والعياذ بالله- وانشغال الناس الآن، وبذل القسط الأوفر والجزء الأكبر من حياتهم، لشيءٍ لا ينفعهم في الآخرة، هذا من نقص عقولهم، ولذا يوم القيامة حينما تنكشف لهم الحقائق وحينما تزول الحجب ويرون الأمور على حقائقها يعترفون بأنهم لم يكونوا عقلاء، قال عز وجل: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10].
أي يقولون: والله لو عندنا عقول وأسماع، ما تورطنا هذه الورطة، ولا تركنا هذه الفرصة، وما كنا بضلالنا وجهالتنا وإعراضنا وانشغالنا بما لا ينفعنا، ما كنا في أصحاب السعير، ولكن الذي جعلهم -والعياذ بالله- في السعير؛ أنهم ما كانوا يسمعون، ولا كانوا يعقلون، فلم يكونوا يسمعون عن الله، ولم يعقلوا دين الله، لكنهم يسمعون شيئاً لا يريده الله منهم، ويعقلون ويتفكرون ويبدعون، لكن في غير الميدان الطبيعي الذي خلقهم الله له، فإذا زالت الحُجب ورأوا أن جهدهم ضياع وعمرهم هباء قالوا: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10].
ما هذان السؤالان؟ ورد السؤال الأول في كتاب الله عز وجل، يقول الله عز وجل فيه: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93] هذا هو السؤال الأول، والخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم، والله يقسم بنفسه تبارك وتعالى في هذا الأمر الهام، والذي يتأمل الأقسام القرآنية كما يقول ابن القيم في كتاب مخصص اسمه أقسام القرآن: يعني بهذه الأشياء التي أقسم بها الله عز وجل، فلا يقسم الله عز وجل بذاته إلا في الأشياء المهمة، مثل: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] ومثل: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23].
وفي هذه الآية يقول الله عز وجل: {فَوَرَبِّكَ} [الحجر:92] يا محمد {لَنَسْأَلَنَّهُمْ} [الحجر:92] وجاء الأمر بعدة مؤكدات: لام التوكيد، ونون التوكيد الثقيلة {لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:92] توكيد لفظي {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:93] و (ما) هنا: اسم موصول تعم العاقل وغيره، تعم كل شيء، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93].(59/2)
تذكرة الآخرة وأحوال أهل النار
قل لي يا أخي! بربك إذا وقفت ذلك الموقف الرهيب، تصور -يا أخي- ولا تعش في الخيالات ولا تلغِ عقلك.
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
قد كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تفور
وإذا الجبال تقلعت بأصولها ورأيتها مثل السحاب تسير
وإذا البحار تأججت نيرانها ورأيتها مثل الحميم تفور
وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت وتقول للأملاك أين نسير
فيقال سيروا تشهدون فضائحاً وعائبٌ قد أحضرت وأمور
وإذا الجنين بأمه متعلق يخشى الحساب وقلبه مذعور
يخاف، يقول الله: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} [المزمل:17] كيف أنا وأنت ذلك اليوم؟ الأمر أصعب من ذلك، بم تجيب إذا سُئلت هذا السؤال؟ ماذا كنت تعمل؟ ماذا تقول؟ أعد من الآن الجواب.
وأنت الآن في الدنيا إذا مت وفارقت الحياة عند القبر، وقيل لك: ماذا كنت تعمل؟ وقلت لهم: كنت مديراً، هل ينفعك هذا؟ كنت ملازماً، طبيباً، وزيراً، أميراً، ملكاً، رياضياً، نجماً، روائياً، مطرباً، كل هذه لا تنفعك، عندك شيء ثانٍ، ابحث عن غير هذه الوظائف، هذه كلها تنفعك هنا في الدنيا، لكنها عند الموت لا تسقي صاحبها شربة ماء.
يقولون: ماذا كنت؟ كنت مصلياً، قواماً في الليل، صواماً، آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، تالياً لكتاب الله.
هل كانت مخافة الله بين عينيك، فترى عذاب الله دائماً، كأنما لا يعذب في الدنيا إلا أنت، أم أنك تقتحم الذنوب والمعاصي كأنك ضد النار.
فالذي يرى أعمال بعض العباد يقول: إما أن هؤلاء ضد النار أو أنهم مكذبون بالنار، فإن كانوا هم ضد النار فليجربوا وليأخذوا عود كبريت، لا نقول: يأخذوا جمرة، ولا تنوراً كبيراً، ولا النار الكبيرة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سمع وجبةً وهو مع بعض أصحابه فقال: (أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إن هذا حجر ألقي من شفير جهنم منذ سبعين خريفاً والآن وصل).
ولما نزل قول الله عز وجل: {النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24] قال رجلٌ: (يا رسول الله! أحجارة جهنم كحجارة الدنيا؟ -أي: مثل الجبال هذه- قال: والذي نفس محمد بيده! لصخرة من صخر جهنم أعظم من جبال الدنيا بأسرها) ويذكر الإمام السيوطي في صحيح الجامع حديثاً يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مقعد الكافر في النار كما بين مكة والمدينة - أربعمائة وعشرون كيلو متراً، هذا الكرسي للكافر في جهنم، وهذا ذكره في صحيح الجامع -: وإن ضرس الكافر في النار مثل جبل أحد) وهذا الضرس! فكيف بالرأس الذي فيه اثنان وثلاثون ضرساً.
والجسم له سبعة جلود؛ لأن الله يقول: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] لأن وسائل الإحساس في الجلد، فلو احترق هذا الجلد وما بُدل فلن يحس بالنار، فالله يبدل الجلود، لكي يستمر الإحساس بعذاب النار، وأنت عندما تدخل الإبرة في جلدك، تحس بها في أول الوخزة؛ لكن بعدها لا تحس؛ لأن وسائل الإحساس جعلها الله في خارج الجسد، حتى يحمى الجلد، بحيث تحس بأي شيء، لكن إذا لم يوجد إحساس فإنه يمكن لشخص أن يؤذيك، ويخرج دمك، وأنت لم تحس، وهذه من حكمة الله.
سبعة جلود ما بين الجلد والجلد مسيرة ثلاثة أيام، وغلظ الجلد مسيرة ثلاثة أيام، ومن شدة الإحراق تبدل في كل يوم أربعمائة مرة، فستسأل في ذلك اليوم: ماذا كنت تعمل؟ وهناك: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52] {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227] {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] ما لم يكن يخطر في باله من العذاب، شيء لا يتصوره العقل إذا سقطوا في الإجابة على هذا السؤال.
فمن الآن صحح المسار، واضبَّط العمل، واعرف أنك عن كل شيء مسئول، والله يقول: {وَقِفُوهُمْ} [الصافات:24] أي: قفوهم في عرصات القيامة: {إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:24] أي: مناقشون ومحاسبون: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:25 - 26] فليس هناك أنصار، ولا شيع، ولا أحزاب، ولا قوميات، ولا معسكر شرقي، ولا معسكر غربي، إنما بعضهم يلعن بعضاً: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً} [الأعراف:38] إذا تجمعوا: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38] فكل جماعة تقول: هؤلاء الذين أضلونا لينالوا ضعف نصيبهم لكن: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38] نعوذ بالله وإياكم من النار.
فأعد لهذا السؤال جواباً، واجعل هذا السؤال بين عينيك: {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:93] فإذا أردت أن تسهر في الليل، فاسأل نفسك: هل هذا العمل ستجيب عليه ورأسك مرفوع، أم منكوس؟ فإن كان مما تفخر به بين يدي الله فاعمله، وإن كان مما تخجل منه بين يدي الله فكف عنه: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:24] {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93].(59/3)
النفس بين المجاهدة والدعة
النفس أيها الإخوة! تحب الدعة، وتكره القيود، تحب اللعب والغفلة، وأنت تعرف نفسك إذا أعطيتها لعبة، فإنك تبذل فيها أربع أو خمس ساعات لا تمل ولا تكل، لكن أعطها كتاب علم أو آية أو حديثاً تضيق، لكن ما هو موقفك أنت أمام نفسك؟ هل الانهزام أم السيطرة؟ اسمعوا لهذه الآية الكريمة: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات:40] وماذا؟ {وَنَهَى} [النازعات:40] لم يستسلم {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] الهوى هو: الكيف الذي يقولون الآن: أنا على كيفي، وأنا على هواي، وأنا حر.
أنت حر لكن سوف تندم فيما بعد، وعلى هواك الآن وعلى كيفك، لكن إذا دخلت الحفرة فأنقذ نفسك هناك، والله ستذهب الحرية والكيف والهوى، وتتمنى لو ترجع كي تلغي كيفك، وتشطب على هواك، وتبعد حريتك، وتعلن عبوديتك وخضوعك لربك فتستسلم؛ لكن لا تجاب إلى هذا، وهل أجيب إنسان على هذا الطلب؟! يا إخواني! لماذا لا نستقرئ التاريخ، فمنذ آدم عليه السلام إلى يومنا هذا، هل وجد شخص طلب الرجعة وأرجعه الله؟ لا.
إذاً لماذا نماطل في العمل، حتى يصير الإنسان إلى هذا المصير الأسود؟ -أعوذ بالله وإياكم منه- فالنفس تحب الدعة، ليكن موقفك من نفسك السيطرة، والحديث صحيح في سنن الترمذي: (الكيس من دان نفسه) دانها أي: غلبها وسيطر عليها؛ لأن النفس مثل الحصان، إن ركبته قادك، وإن أطلقته داسك ثم ركب عليك، وكثير من الناس الآن هو مطية نفسه، نفسي تقول لي! عقلي يقول لي! كيفي يقول لي! لكن عندما يكون عبداً لمولاه وخالقه، فنفسه تمشي مثل الحمار تحته، فيأمر نفسه بالصلاة فتنصاع له، وتدغدغه للدخان فينهاها؛ لكن الذي نفسه ركبته، فإذا رأى (سيجارة) قام إليها متلهفاً، وإذا سمع الأغنية أصغى لها، وإذا رأى فتاة ضيع دينه؛ لماذا؟ لأن نفسه مسيطرة.
أما المؤمن المسيطر على نفسه فلا: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] نسأل الله وإياكم من فضله: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت) الكيس في اللغة: العاقل الفطن اللبيب، صاحب العقل والنظرة البعيدة، ومن سيطر وقهر وغلب نفسه، وعمل لما بعد الموت، فالدنيا في يده والدين في قلبه، والآمر هو الدين، والدنيا هي المأمورة، ولذا تمشي كلها في طاعة الله، يأتيه المنصب يقبله لكنه يسخره في دين الله، تأتيه الأموال يأخذها لكنه ينفقها في سبيل الله، يأتيه الأولاد يقبلهم لكنه يربيهم على طاعة الله، الزوجات كذلك يربيهن على طاعة الله، كل شيء في حياته يسخره في هذا الاتجاه؛ لماذا؟ لأن الآمر هنا (عمل لما بعد الموت) رفع نظره وعلا ببصره إلى ما بعد هذه الحياة.
والخامل العاجز الكاسل الفاشل من أتبع نفسه هواها، والشيطان يأخذه من زبالة إلى زبالة، من زبالة الغناء إلى زبالة الزنا، إلى زبالة اللواط، هذه زبالات وقاذورات من تلطخ بها هنا فلا تنظفها إلا النار، إلا من كان يتنظف منها هنا، لكن من توسخ بهذه القاذورات، ثم لقي الله وهو ملطخ بها فأين نغسله؟ لا يوجد في الآخرة إلا مغسلة واحدة، اسمها: جهنم ينظف فيها، فإن كانت الأوساخ عالقة -أي: سطحية- نظف بقدرها، ثم يخرج جوهرة، ويذهب إلى الجنة إن كان موحداً، وإن كانت هذه الأقذار والأوساخ عميقة داخلة في قلبه من كفر ونفاق -والعياذ بالله- يخرجه من الدين، فهذا لا يطهره شيء وإنما يقعد فيها حتى أبد الآبدين.
والعاجز -والتعبير عنه بالعاجز يدل على أنه إنسانٌ شهواني، ضعيف الإرادة، خسيس النفس، عاجز الهمة، لا يصلح للجنة- إنما نظر بعينه الهابطة، فلم يرفع نظره، ولو رفعه لرأى الحور العين، وعندما يرى الحور العين يقول:
تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر
ونحن أناس لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر
فهو عندما يرفع نظره، ويرى الحور العين، ويرى القصور العالية والأنهار الجارية، والثمار الدانية، ويتذكر أنه في يوم من الأيام سوف يدخل هذه الجنة، وفي يوم من الأيام سوف يدعى إلى سوق المزيد، وفي يوم من الأيام سوف يدعى للمحادثة مع الله عز وجل، والمكالمة مع ربه، كما جاء في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة النصف لا تضامون في رؤيته) وكما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما منكم إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) هذا المؤمن، أما العاجز فلا يستطيع؛ لأنه أَتْبَع نفسه هواها، ومع عجزه وضعفه وخسته ودناءة نفسه -أيضاً- يتمنى على الله الأماني، ويقول: أريد الجنة، تريد الجنة! الجنة لها طلاب، والطريق شاق.
يقول ابن القيم في الجواب الكافي وفي الفوائد: يا مخنث العزم! الطريق شاق، والعقبة كئود، قذف فيه في النار إبراهيم، وعرض فيه على السكين إسماعيل، وألقي فيه في الماء يونس، وشج فيه وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وبنيت عليه جماجم الشهداء، لو عرف من قتل في سبيل الله لسالت منه الجبال رءوسهم.
وهذا على المعاصي أربعة وعشرين ساعة، وهو يقول: الله غفور رحيم، إن شاء الله نحن على خير، يحسن الظن بربه ويسيء العمل مع الله.
يقول الحسن البصري في هذا: [إن قوماً غرهم حسن الظن بالله حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم -يقولون: نحسن الظن بالله- كذبوا والله لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل] لكنهم أساءوا الظن بالله، وظنوا أن الله يجزي الجنة على المعاصي فأساءوا العمل وهذا من سوء الظن بالله، أن تظن أن ربك يعطيك على السيئة حسنة، وهو يقول: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:89 - 90].
فمن الآن يا أخي! لا تستسهل شيئاً ولا تستبسطه، تقول: لا أريد الدخان؛ لكن أريد الشيشة أخف منه، فليس هناك خيارات، ولا يوجد بدائل ولا أنصاف حلول، هناك إيمان وكفر، هناك إسلام، وهناك معاصٍ ونفاق، فأنقذ نفسك يا أخي! من الغيبة والنميمة والورق واللعب والمنكرات، وكن عبداً ربانياً، والتحق بربك، ولا تعمل عملاً يسوؤك غداً أن تراه.
يقول الحسن البصري رحمه الله: [اكنز ما تود وتحب أن تراه] أما أن تكنز عقارب وحيات وجمراً فهذا لا ينبغي، بل لا بد أن تكون من أهل الإيمان، الذين يعرفون كيف يغتنمون هذه الحياة، ولا يفرطون في شيء، محافظين على أمر الله عز وجل، هذا هو السؤال الأول.(59/4)
السؤال الثاني: (ماذا أجبتم المرسلين)
السؤال الثاني: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] أرسلت لكم الرسل، وأنزلت عليهم الكتب، وأمرتهم بتبليغكم ديني وشرعي، بينوا لكم الحرام، وأمروكم بالابتعاد عنه، وبينوا لكم الحلال وأمروكم بالسير فيه، فماذا أجبتموهم؟ قال الله عز وجل: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ} [القصص:66] عميت عليهم لماذا؟ لأنهم ما أجابوا المرسلين، عميت عليهم الأخبار، وضاعت منهم الحجج، وفقدوا القدرة على الإجابة؛ لأنه بأي شيء يجيبون؟ هل يقولون: أجبنا المرسلين بالأغاني! أجبنا بالزنا! أجبنا باللعب واللهو! هل هذه إجابة؟ ليست هذه إجابة.
والأنبياء المرسلون هم نماذج بشرية، كانت تؤدي الدين وتنفذ الرسالات، في واقع العمل كقدوة، يقول الله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] وخاتمهم وأفضلهم على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم، وعندما تأتي لتتأمل سيرة كل نبي تجد أن كل نبي، كان على القمة في كل شيء، ثم تجمعت صفات كل الأنبياء كلها في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا أعطاه الله الشهادة العليا فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] خلق عظيم من كل الناس، ليس هناك خلق في الأولين والآخرين إلا وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم القدر الأعلى منه صلوات الله وسلامه عليه.(59/5)
الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو قومه
كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل، بعد أن نزل قول الله عز وجل: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2] الله أكبر! ما هذا الضمان؟ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1] وفي الأخير قال: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [الفتح:2] كان وقوف النبي صلى الله عليه وسلم في الليل، ليس وقوفاً كوقوفنا اليوم، القائم منا إذا وقف عشر دقائق أو ربع ساعة قال: أنا أقوم الليل، وهذا كثر الله خيره، على الأقل تشبه بالصالحين، وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان قال: (صففت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل فقرأ بالبقرة فقلت: يركع في المائة الأولى، يقول: فلم يركع، فقلت: يركع بالمائة الثانية فلم يركع، فقلت: يركع في آخر السورة، -انظروا البقرة ننتهي منها في مسجدنا في التراويح في الليلة السابعة ويعتبروننا مطولين، وهو في ركعة واحدة انتهى من البقرة- فقلت: يركع في آخر السورة فلم يركع، ثم افتتح بالنساء، فقلت: يركع في المائة الأولى فلم يركع، فقلت: يركع في نهايتها فلم يركع، ثم افتتح بآل عمران، فقلت: لعله يركع، يقول: فلم يركع إلا في نهاية سورة آل عمران) هذه أكثر من خمسة أو ستة أجزاء.
هذا الوقوف الطويل ماذا يفعل بقدم النبي صلى الله عليه وسلم؟ تتفطر، لأنه ثقل عليها، جسم وطول قيام حتى تشققت، ونحن اليوم تشققت أرجلنا من أمر آخر، الذين تشققت أقدامهم في المزارع والمعامل واللعب؛ لكن نحن لا.
أقدامنا مثل قوالب الصابون.
لقد استغربت عائشة هذا الوضع وقالت: (يا رسول الله! أليس قد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ -عندك شهادة وضمانة أنك من أهل الجنة؛ لأن الله غفر لك ذنبك كله، فبماذا تنفعك الصلاة؟ - قال: أفلا أكون عبداً شكوراً) أي: إذا غفر لي ربي هل يعني هذا أن أترك؟ لا؛ بل أزيد شكراً لله على مغفرته لي فصلوات الله وسلامه عليه.
وفي ليلةً من الليالي وبعد أن قطع الرسول صلى الله عليه وسلم الطريق من مكة إلى الطائف هارباً بدينه، ينشر دين الله ويريد أن يبلغه في الأرض، وصل إلى سوق عكاظ، وسوق عكاظ سوق كان الناس يجتمعون فيه، وكان مهرجاناً يتبادل فيه الشعراء قصائدَهم، وتقام فيه المدائح والأخبار، فاستغله النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا شأن الداعية أن يستغل مكان التجمع، ولا يقول: والله هؤلاء ليس فيهم خير، كما نسمع بعض الناس اليوم، إذا قلت له: تعال اجلس مع الشباب وألق عليهم موعظة، واجلس معهم، قال: لا يا شيخ! دعنا منهم، هؤلاء ليس فيهم خير.
سبحان الله! من هم هؤلاء الذين في النادي؟ إنهم أبناء المسلمين، يا أخي! فيهم خير، استغل وجودهم وتجمعهم وازرع فيهم الخير، لكن تجعل بينك وبينهم هوةً وحاجزاً وتتركهم ولا تدعوهم، هذا ليس من أسلوب الدعوة، ولا من شأن الأنبياء، فكان صلى الله عليه وسلم يستغل كل تجمعٍ لنشر دعوة الله، وإبلاغ دينه، فجاء إلى سوق عكاظ وصعد على حجر وقام وقال: (يا أيها الناس! فاجتمع الناس حوله فقال لهم: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) والناس يعرفون أنه صادق ولا يكذب، وهو لا يكذب على الناس فضلاً عن أن يكذب على ربه، وكيف يكذب وهم يلقبونه بالصادق الأمين.
ولكن اللعين أبا لهب عليه لعائن الله المتتابعة تبعه من مكة يطارده، ويوم رآه على الحجر واقفاً، قام بجانبه، وقال: من هذا الذي تكلم؟ قالوا: ابن أخيك، قال: لو كان صادقاً لصدقته، إنه كذاب.
قالوا: عمه أعرف الناس به، فمادام عمه مكذبه فنحن كذلك مكذبوه، فكذبوه كلهم وطردوه، بل أغروا به السفهاء، وأمروهم برجمه بالحجارة؛ حتى سال الدم من عقبه الشريف صلوات الله وسلامه عليه، وخرج من الطائف، وجلس عند حائط ببستان من البساتين، ونادى بدعاء قال فيه: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس) (ضعف قوتي) ليس له قوة، (وقلة حيلتي) لم يعد عندي شيء، فماذا أعمل؟ طرقت كل باب، وسلكت كل وسيلة، وجئت إلى كل مجتمع، وتكلمت بكل بيان، ولم يعد عندي شيء يا رب؟! لكن لم يبق إلا أن أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي، وأيضاً- ليس لي وضع اجتماعي يحميني، لدرجة أن الذي يرجمني الأطفال وليس الكبار فقط: (إلى من تكلني، أنت رب المستضعفين، إلى قويٍ ملكته أمري، أم إلى بعيدٍ يتجهمني، إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح به أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك، أو يحل بي عقابك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك).
فيقول صلى الله عليه وسلم إن كان ما يأتيني من التكذيب والإهانة ناتجاً عن شيء غير غضبك فلا أبالي، المهم ألا يكون ذلك عن غضبٍ عليَّ يا ربِّ! فكان يخاف من غضب الله، وهو في المعاناة الداخلية النفسية، وبعض الشباب أو الدعاة اليوم يقول له بعض الناس كلمة فقط، تجده ينفعل ويثور ويضارب، أنا على الحق، سبحان الله! ما دام سرت في طريق الهداية لم يعد لك عرض، ولا نفس، ولا كرامة، قدمها قرباناً إلى الله.
ومع هذا ما انتقم لنفسه صلّى الله عليه وسلم، فيرسل الله له ملك الجبال، ومعه جبريل، ويقول جبريل: (السلام يقرؤك السلام يا محمد! ويقول: هذا ملك الجبال إن شئت أن يطبق عليهم الأخشبين -الجبلين فتبلعهم الأرض- فقال: لا.
لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله) الله أكبر! هذه تكشف لك نفسية النبي صلى الله عليه وسلم وأنه رسول حق.
والله لو كان شخص منا، فسيقول: نعم فهؤلاء ليس فيهم خير.(59/6)
صبر نوح عليه السلام على دعوة قومه
لقد بذل نوح عليه السلام وسائل عديدة من أجل الدعوة، لا يستطيع أن يبذلها أحد، وظل تسعمائة وخمسين عاماً يدعونه، وبعض الناس يقول: والله يا شيخ! إن لي معه شهراً وأنا أدعوه، والله ليس فيه خير، فنوح جلس تسعمائة وخمسين سنة، وبعد ذلك عدّد جميع أساليب ووسائل الدعوة: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ} [نوح:5 - 7] إذا قام يحدث وضعوا أيديهم في أذانهم، فمن يحدث وهم قد وضعوا أيديهم في أذانهم؟ وأنتم لو تخليتم عني، سأقول: بما أنهم لا يريدون الذكر فليذهبوا في داهية.
لكن نوحاً لم يقل هذا، إنما قام يحدث وهم جالسون وهو يعرف أنهم لا يسمعون، ولكنهم يرونه، فقال: لعلهم إذا رأوني وأنا أتحدث يرحموني، فيسمعون كلام لله عز وجل، فماذا يعملون؟ يستغشون ثيابهم، كل شخص يغطي وجهه، ويقولون: لا نسمعك ولا نراك: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح:7 - 9] دعوة فردية وجماعية، ودعوة سرية وعلنية: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} [نوح:10] لفت نظرهم إلى قدرة الله وعظمته {إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ} [نوح:10 - 11].
لكن بعد أن يئس وعرف أن بيئتهم غير صالحة، قال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26] وكان مسوغاً في دين نوح أن يدعو عليهم؛ لأنه ليس خاتم الأنبياء، لكن ليس مسوغاً في دين نبينا صلى الله عليه وسلم أن يدعو على أحد، ولهذا لا يدعو ولا تهلك هذه الأمة باستئصال، لماذا؟ لا بد من بقاء هذا الدين وهذه الرسالة إلى يوم القيامة.
قال: (إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده) فأخرج الله من أصلابهم من يعبده، وحقق الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وعده، وأمله، وأمنيته، فأخرج الله من أصلاب الكفار: العاص بن وائل أخرج من صلبه عمرو بن العاص، والوليد بن المغيرة أخرج من صلبه خالد بن الوليد، وأبو جهل أخرج الله من صلبه عكرمة بن أبي جهل، وهكذا.
ف
السؤال
{ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] هؤلاء رسل اطلعوا على ما لم تطلعوا عليه، وعلموا ما لم تعلموا، وأدوا هذا الدين في واقع الحياة -الواقع العملي- كنماذج بشرية تطيق تطبيق هذا الدين فماذا أجبتموهم؟ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قلت لكم، هذا وضعه وصلته بربه مغفوراً له، ونوح عليه السلام لما ركب الفلك وقال للناس: اركبوا وركب مع أهل الإيمان وكان قد سمع من وعد الله: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون:27] فظن نوح أن الأهلية هنا هي: أهلية النسب، فقال للناس: اركبوا وقال لولده: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} [هود:42] لأنه من أهله: {وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42] فرفض، وقبل أن يغرق توسط نوح إلى ربه لولده: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45] وأنت قد قلت: أركبهم، ولكن أبى أن يركب، أريدك يا رب أن تنجيه، فقال الله له مصححاً النظرة في كلمة أهلك: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46] رغم أنه ولده، لكن الله يقول: ليس من أهلك، إن أهلك أهل عقيدتك، ولو كان من غير صلبك، وإن أهلك من هو على مثل ما أنت عليه من الدين، أما ولدك وإن كان من صلبك، فلا تربطك به رابطة إذا كان على غير دينك: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22].
فمستحيل أن تجد شخصاً عنده إيمان بالله واليوم الآخر، وعنده مودة لمن يحاد الله ورسوله، ثم قال الله عز وجل: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] مهما كانت قرابتهم: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة:22] ومن كتب الله في قلبه الإيمان فلا يمحوه أحد: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22] مثبتون ومؤيدون من الله، قال الله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] الله أكبر! هذا الكلام لنبي من أولي العزم، يقول الله له على هذه الكلمة فقط: (إن ابني من أهلي) ولم يقل: يا رب! نجه، وإنما أذكرك يا رب بوعدك: {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:45 - 46] هذا كلام من الله يوجه لنوح، انظروا كيف البراءة من الذنب والعودة إلى الله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47].
وقيل بعد هذا: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود:48] فهذا موقف نوح مع الله.(59/7)
نماذج أخرى من الرسل ودعوتهم
هذا موسى عليه السلام لما خرج من مصر خائفاً يترقب، وجاء إلى الماء: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص:23] أي: تردان غنمهما عن الماء فسألهما قال: لم لا تسقون، ما خطبكما؟: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص:23] فقالتا: لا نزاحم الرجال، فكأنه يقول لهما: بما أنكما لا تزاحمان الرجال، فلماذا تخرجون أنتما، ولا يخرج غيركم؟ فبينّا العذر: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] ونحن ننتهز الفرص التي ليس فيها تجمعات، حين يصدر الناس، ونأتي لنسقي، فهو رأى أن من الإحسان والبر، أن يسقي لمثل هاتين الفتاتين الطاهرتين العفيفتين، فسقى لهما بدون أجر، ثم تولى إلى ظل شجرة، وماذا قال وهو يدعو ربه وهو بوضع نفسي متعب ومطارد ومحكوم عليه بالإعدام وليس عنده شيء؟ {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24].
وإبراهيم عليه السلام يقول: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء:87] كيف يخزيك ربي يا إبراهيم، وأنت أبو الموحدين؟ يقول: لا تخزني يوم القيامة، ولم يقل: أدخلني الجنة، وإنما قال: ولا تخزني: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
وهذا عيسى عليه السلام يقول الله له يوم القيامة: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] والله يعلم أن عيسى لم يقل ذلك؛ لكن ليقرره في عالم الواقع، أما الكفرة الذين اتخذوه إلهاً وأمه من دون الله فإنهم عملوا شيئاً لم يأمر الله به، فيقول له: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116] ثم قال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:117] هؤلاء الأنبياء مغفور لهم، مجتبين مصطفين أخيار، وهم الذين طبقوا الدين، ونحن الذين بعدهم نسأل عنهم: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65].(59/8)
البصر والسمع في ميزان إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم
لقد أمرك الله وأمرك رسوله صلّى الله عليه وسلم بغض بصرك، فهل أجبت؟: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] وغض البصر يا إخواني! كما أقول باستمرار: والله راحة لقلبك في الدنيا، وقد كنت أسير أنا وأحد الإخوة ونحن خارجان من المسجد ذاهبان إلى بيتي بعد صلاة العصر، وإذا بامرأتين مقبلتين، وأنا أراقبه أريد أن أرى ماذا يفعل، هل سيلتفت إليهن أم ماذا؟ وأنا -أسأل الله أن يثبتني وإياكم- أجاهد نفسي كأي إنسان لكنه شاب، وأنا كبير في العمر، فنظرت إليه، وإذا به يغض بصره فجزاه الله خيراً، فلما تجاوزناهما، قلت: ما رأيك في غض البصر، هل هو أريح أم النظر؟ قال: والله يا أخي! إن غض البصر أريح.
قلت: لماذا؟ قال: لو أني نظرت ربما رأيت شيئاً قد لا يكون جيداً، وقد يشغلني، لكن غض البصر أريح.
فغض البصر راحة لقلبك؛ لأن الله يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] لماذا؟ {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] ذلك أفضل لكم؛ لأن العيون الدانية الهابطة التي دائماً تتلصص على المحارم ترسل نيراناً إلى القلب، ويبقى القلب تحت وطأة النظر في عذاب مستمر، فكلما رأى امرأة جاءته طعنة، والنظر يفعل في القلوب فعل السهام بلا قوس ولا وتر، فما دام أنك تطعن قلبك بنفسك لماذا لا تُسلم قلبك وتحميه، والناظم يقول:
وأنت إذا أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ عليه ولا عن بعضه أنت صابر
ويقول الآخر:
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل
ويقول:
يا رامياً بسهام اللحظ مجتهداً أنت المراد فلا ترم بما تصب
يقول: لا.
أنت المراد فلا ترمِ نفسك، ارفعها لا تصب عمرك، لا تحدد النظرة فإن النظرة في قلبك، فالله أمرك ورسوله أمرك بغض البصر، هل أجبت المرسلين؟ إن شاء الله.
الله أمرك بأن تحصن سمعك وتحفظه ولا تسمع به حراماً لا غناءً، ولا غيبةً ولا نميمةً، ولا كلاماً ساقطاً، وإنما اجعل أذنك أذناً ربانية، لا تستمع إلا إلى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، هل عملت هذا؟ إن شاء الله أجبت المرسلين، وقس على هذا كل شيء.
بعض الناس يقول: نعم أجبت المرسلين، وهو عاكف على الأغاني والمنكرات، والدخان و (الجيراك) و (الشمة) وقطع الصلاة، وشراء المجلات العارية، وقراءة القصص الهابطة، ومرافقة السيئين، والسهرات القاتلة -والعياذ بالله-.
فهو يعيش في وادٍ بعيد عن الدين، ويظن أنه أجاب المرسلين، لا والله ما أجبت المرسلين، فهذا تعمى عليه الأنباء يوم القيامة، ويسقط سقطة لا يقوم منها -والعياذ بالله-.
قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ} [القصص:65 - 66] فلا يتساءلون، وإنما كل إنسان يفكر في الإجابة.
وأنا أضرب لكم على هذا مثالاً واقعياً، باعتبار أن أكثركم من الطلاب، فالطالب حينما يبدأ عامه الدراسي بالجد فينتبه لشروح المدرس ويسجل في مذكراته التعليقات الهامة والبارزة التي يتوقع أنها يمكن أن تكون موضع سؤال خصوصاً في الدراسات الجامعية، المدرس الجامعي يعيد مواداً قد أخذها الطالب في الثانوية وفي المتوسطة، وفي الابتدائي فالفاعل الآن يدرس في كلية اللغة العربية وفي كلية الشريعة في سنة ثانية، ونحن درسناه في صف خامس ابتدائي: اسم مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره، لكن الفاعل هناك له صفات؛ عمدة وركن وغيرها، وهذا الفاعل يعاد درسه؛ لكن بطريقة متوسعة ودقيقة، فتتمدد إلى أكثر من جزئية، ثم يأتي المدرس أو الدكتور من أجل التمييز بين الطالب المجتهد والمتابع، وبين الطالب المايع، وبين الطالب المنتظم والملتزم، وهو يسجل الأشياء المهمة في المحاضرات، والدكتور عندما يضع الامتحان، يضع من هذه التعريفات وهذه الألفاظ، ليميز بها بين من كان عقله موجوداً، ومن كان يلعب إلى آخر السنة، ويقول: والله أنا سأصور المذكرات، وأحفظها في البيت، ولن ينجح إلا ذاك المتابع من أول السنة، لأنه أولٌ بأول، فإذا دخل الصالة للامتحان في آخر العام، دخل والمادة مكتوبة في رأسه كأنها بين عينيه، فإذا أعطوه الورقة لم يلتفت لا يميناً ولا يساراً، ولكن ينظر في دفتره وباسم الله، مثل السيل السائل، والبحر يتدفق علماً، ويقلب الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة ويغلق، راجع، قال: لا يحتاج مراجعة، المسألة مضبوطة، فهذا الذي ينتفع في حياته الدنيا، وإن شاء الله في الآخرة ينتفع أكثر.
لكن ما رأيكم في طالب مهمل ما أجاب المدرسين، ولا تابع (الدكاترة) ويوم جاء جدول الامتحان، لم يأخذ الجدول، وإن أخذ الجدول، قال: الامتحان بعد أسبوعين، أول مادة عندنا لغة عربية، ذاكِرْها، قال: يا شيخ! الجدول هذا يعقدني، أرجوك دعها إلى ذلك اليوم إن شاء الله يفتح عليَّ، إن شاء الله! رئيس اللجنة يرحمني، إن شاء الله يجعل ربي بجانبي زميل طيب، يعطيني بعض الكلمات، ويتمنى على الله الأماني، وبعد ذلك دخل صالة الامتحان وجيء بالأسئلة وقسمت عليه، وأخذ الأسئلة وقام يقرأ: السؤال الأول الثاني الثالث، وبعد ذلك تلفت وقال بيده كذا، وبعينه في السماء يريد أحداً يأتيه من السماء، ويعصر مخه، والله ليس معك إلا الذي معك، ولا أحد ينفع، وبعد ذلك قال: طيب.
السؤال الأول هذا صعب وأخاف أني أفشل فيه، آخذ السؤال الثاني، ويكتب الإجابة على السؤال ويقعد يضبطها؛ لأن هذه إضافية ما عليها درجات، وينسخها ويجعل لها هامشاً من اليمين، وهامشاً من اليسار ويجعل ترقيماً بالأحمر، أي: يضبطه منها يريد أن يخدع الدكتور؛ لكن لا تمشي على الدكاترة هذه، ولا تمشي على المدرسين نريد علماً، هل عندك شيء اكتبه؟ لكن ليس عنده شيء، وبعدها يتذكر ماذا درس في الثانوية؟ وماذا درس في الكفاءة؟ وماذا درس في الابتدائية؟ وأتى بمعلومات من الشارع ليست من الجامعة، فرق بين طالب الجامعة، وطالب الشارع الذي يأتي لك بأي كلام، طالب الجامعة مركز، يأتي بالمسألة من الحديث، هذا الحديث رواه فلان، وخرجه فلان، وفي سنده فلان، وبعد ذلك ذكر فيه أهل العلم كذا وكذا، اختلفت أقوال العلماء فيه، قيل فيه سبعة أقوال: القول الأول للشافعية ودليلهم كذا، القول الثاني للهادوية ودليلهم كذا، القول الثالث للحنابلة ودليلهم كذا، ثم بعد ذلك يراجع، ثم يقلب، ثم يعلق، ثم يقدم ويؤخر، ويأتي الدكتور فيجد علماً فيقول: خذ الدرجة كاملة.
أما ذاك فيقول: اختلف فيه العلماء على سبعة أقوال: الأول نسيت، والثاني والله لم أدر به، والثالث إن شاء الله أذكره بعد قليل، فما رأيكم في هذا؟ ما عرف إلا سبعة أقوال.
ويقول لك: سبعة أصفار مكعبة على طرفك، وبعد ذلك يخرج من المادة عميت عليه الأخبار قال الله: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ} [القصص:66] أولاً هل يقدم الورقة؟ ينظر يقول: يمكن يغفل الأستاذ ويتلفت، لعله يجد فرصة للغش، ما ينفع هذا كله، فيضطر أن يسلم الورقة للدكتور، وفي الخارج يسأل الطلاب: ماذا قلتم في السؤال الأول؟ وفي السؤال الثاني؟ لكن مع ذلك يأتي أمل قال: يمكن تنزل عليه الرحمة والشفقة، يمكن الدكتور يكون منبسطاً في ذلك اليوم، ورأى كلامي فيه بركة؛ وإن جاءت النتائج، جاء مع الناس مع الأول، ماذا تريد؟ قال: أريد النتيجة، النتيجة ألست تعرفها من أول؛ لكنه مغفل يضحك على نفسه.
يوجد طلاب أعرفهم والله عندما كنا ندرس في الجامعة كانوا لا يسألون عن النتيجة، ماذا يسألون؟ يقولون: لا نريد النتيجة هذا شيء في الجيب، بل نريد الأول والثاني والثالث والرابع، وواحد من إخواننا، يقول: أريد أنجح بالمقبول، وآخرون يقولون: لا نريد مقبولاً ولا جيداً، نريد ممتازاً.
لنا الصدر دون العالمين أو القبر
هذا في مجالات وامتحانات الدنيا، لكن امتحانات الآخرة يقول الله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ} [القصص:65 - 66].
فيا إخواني في الله: لا بد أن نتفكر، وأن نعرف كيف نجيب المرسلين، بمراجعة الأوامر والنواهي، ومعرفة الطلب الذي طلبه منا الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف أجبناه، حتى نأتي يوم القيامة مثل ذلك الطالب الذي أعطى ما في رأسه، وخرج يذاكر مادة ثانية، نأتي يوم القيامة وقد أجبنا المرسلين، ماذا كنت تقول في هذا الرسول؟ صدقت به وآمنت وشهدت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقال في القبر: صدقت، على هذا عشت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله، أما ذاك الذي ما علم شيئاً يقول: هاه هاه -مثل ذلك الذي ما عنده شيء- هاه هاه لا أدري، فيقال له في القبر: لا دريت ولا تليت، أي: جعلك الله لا تدري، فيضرب عند رأسه بمطرقة فيكون طحيناً من لدن قرنه إلى قدمه، هذا يضربه الفتان؛ فتان القبر هذا موكل بفتنة الكفار في القبور، وهذا أصم أبكم أعمى، أصم فلا يسمع بكاء، أعمى فلا ينظره حتى يرحمه، أبكم فلا يتخاطب وعنده مرزبة، ويضرب في الرأس، لماذا كنت عاصياً، فاجراً، عدواً لله! لكن يا أخي! ليس لك في الورطة هذه كلها يا أخي! امش في الخط، اضبط المسار على هدي النبي صلى الله عليه وسلم -والله- تكسب الدنيا والآخرة.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو؛ أن يلهمني وإياكم الحجة وأن يقيمنا وإياكم على الطريق الصحيح، وأن يثبتنا وإياكم على الإيمان حتى نلقاه، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.(59/9)
مصير من يهجر القرآن
هجر القرآن سبب من أسباب عذاب القبر، ففي صحيح البخاري، من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه، في حديث الرؤيا الطويل، الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه أتياه رجلان فقالا له: انطلق انطلق فانطلق بهما ومر على أناس يعذبون في البرزخ، ومن ضمنهم أنه رأى رجلاً مستلقٍ على ظهره وآخر على رأسه بحجر يرضخ رأسه ثم يتدحرج الحجر، فلا يعود له ويأخذه إلا وقد أعاد الله ذاك كما كان، فيرضخه، وكلما ذهب الحجر أتى به ورضخه، فقال لجبريل ولمن معه: ما هذا؟ فقال له: هذا الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة) رأس مليء بالنفاق، أخذ القرآن وحفظه ثم رفضه.
والله بعض الحفظة الآن يمر عليه الشهر والشهران لا يقرأ آية، وهو قد حفظ القرآن، هذا وعيد شديد على من هذا فعله، لا حول ولا قوة إلا بالله! أنار الله بصيرته، وقذف الله القرآن في قلبه، وجعله مستودعاً وقمطراً للعلم.
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول
وتجد بعضهم قد استعاض عنه بالأغاني والمسلسلات، والصحف والمجلات، واللهو واللعب، وترك القرآن، هذا ثقل رأسه عن القرآن، فتولد عنه الإعراض عن القرآن، تثاقله عن الصلاة المكتوبة؛ لأن القرآن هو الذي يبعث فيك الإيمان، فإذا هجرت القرآن وثقل رأسك عنه فإن النتيجة حتمية أن يثقل رأسك عن الصلاة، فلا تقوم إلى الصلاة، ولا بد لكل رأس خربان من دواء، ودواء هذا الرأس الخربان أن يرضخ في القبر بحجارة.
يا إخواني! والله ما تتحمل العي، إذا كان عندك قدرة فخذ حجراً صغيراً ودق بها أُصبعك، فكيف إذا رضخت بها على رأسك؟ -والعياذ بالله-.
وسوف -إن شاء الله- نتكلم بشيء من الإسهاب، وجمع للأدلة على هجر القرآن؛ وأنه كبيرة ومعصية من المعاصي الكبيرة، وعلى نسيان القرآن، وعلى المراء في القرآن، وعلى عدم التحاكم إلى القرآن، وتدبر القرآن، وقراءة القرآن؛ لأنه نور أراد الله لهذه الأمة أن تعيش به، ونفخ فيها الحياة به فجعله روحاً لها، قال عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً} [الشورى:52] هو روح للأمة بمعنى: الذي ليس عنده قرآن، جسده ميت لا حياة فيه: {رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى:52 - 53].(59/10)
الأسئلة(59/11)
درجة حديث (من استمع إلى مغن) من حيث الصحة والضعف
السؤال
أرجو منك يا شيخ! أن تبين مدى صحة هذا الحديث: (من استمع إلى مغنٍ أو مغنية صب الله في أذنيه الرصاص المذاب).
الجواب
هذا الحديث ضعيف، ولم يخرجه أهل السنن ولا الصحاح، وإنما ذكر في بعض الكتب التي تورد الضعاف، ولكن وردت أحاديث صحيحة، مثل حديث البخاري: (يأتي على الناس زمان يستحلون الحِر والحرير والخمر والمعازف) هذا في صحيح البخاري، المعازف أي: الأغاني، والحديث الآخر الصحيح: (صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة، مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبة) والحديث الآخر الصحيح حديث عبد الله بن عمر (حينما كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمعا راعياً ينفخ بوقاً، فأدخل صلى الله عليه وسلم إصبعيه في أذنيه، وكان يسدهما حتى مشى، ثم قال لـ ابن عمر: أكنت تسمع؟ حتى قال: ما عدت أسمع فأخرج يده).
أجاب العلماء على سماع ابن عمر، أنه كان صغيراً غير مكلف، ولا يؤذيه ذلك، وإلا لم يكن ليرخص له النبي صلى الله عليه وسلم لو كان مكلفاً؛ ولأن هذا الناي أو العود لا يصل إلى درجة الفتنة التي تفتنه، ولكن خشية الرسول صلى الله عليه وسلم على نفسه، باعتباره وعاء العلم، ومبلغ عن الله، مما جعله لا يستمع لهذا الشيء، هذا بالنسبة لهذه الأحاديث.(59/12)
حكم التعزية في الإسلام وكيفيتها
السؤال
ما حكم التعزية في الإسلام؟ لأنني سمعت رجلاً يقول: إنها بدعة وهو من أهل العلم وطلبته، وهي غير واردة في الدين وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما عزى أحداً؟
الجواب
هذا الكلام فيه نوع من التجني على الدين، كون الشخص يصف شيئاً أنه بدعة، وهو وارد وله أصل في الدين، وهي باتفاق أهل العلم أنها مستحبة ليست بدعة ولا مباحة، بل مستحبة؛ لورود الأدلة التي أثبتت فضيلة التعزية، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزى ابنته حينما أخبروه بوفاة ابن ابنته قال: (مروها فلتصبر ولتحتسب، فإن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى) هذه من التعزية، وأيضاً ذكر ابن ماجة والبيهقي بسند حسن عن عمرو بن حزم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة).
وعند الترمذي بسندٍ فيه لين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عزى مصاباً فله مثل أجره) ذكر هذا الكلام الشيخ ابن قدامة في المغني، ومدة العزاء ثلاثة أيام ما لم يكن المعزى غائباً، فليس هناك داعٍ لأن تذهب إليه، أما إذا كان قريباً منك، ويمكن أن تتصل به وتعزيه، فإن هذا سنة ومستحب، والسنة أن يعزى أقارب الميت في أي مكان، في البيت، في الشارع، في المسجد، في الطريق، وليس من السنة أن يجلس صاحب العزاء في البيت، كما يصنع الآن في مجتمعاتنا، هذا ليس من السنة في شيء، وأظن الأخ الذي قال بهذا الكلام، يعني به هذا الوضع، لا يعني به مطلق التعزية، فليس من السنة أن يجلس للعزاء في البيت، فقد روى جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: [كنا نعد الجلوس للعزاء نوعاً من النياحة].(59/13)
تعريف النياحة وبدع العزاء
السؤال
ما هي النياحة؟
الجواب
النياحة هي: إظهار أي مظهر يعترض فيه على قضاء الله وقدره؛ إما بشق جيب، أو بلطم خد، أو بنتف شعر، أو برفع صوت، أو بالتجمهر مثل ما يفعل الآن في القرى، إذا مات شخص يعلنون كلهم الإضراب عن العمل، منهم موظفون وطلاب ومزارعون يأخذون إجازات ويجلسون كلهم في بيت العزاء، وكلما دخل شخص قاموا: لا هان من جاء، وجلس وأفلح، ولمن العزاء، لكم أنتم؟! المفروض أنكم أتيتم تعزون، فتعزون في المقبرة وذهب كل واحد إلى عمله.
أما الجلوس للعزاء من قبل الجماعة، أو من أهل البيت فليس هذا من السنة، والأدهى والأمر أنهم يجلسون ويعطلون أعمالهم، ثم يحولون العزاء إلى فرح، فتذبح الخرفان ويتقاسمونها بينهم، قال فلان: الفطور عندي هذا اليوم، قال الثاني: والغداء عندي، قال الثالث: والعشاء عندي، الله أكبر والكرم! ولو قيل لهم: هاتوا الخرفان هذه لنجعلها في سبيل الله، ونرسلها لإخواننا المجاهدين، الذين يأكلون الخبز الناشف، الذي يدقونه بالحجارة، قال: والله لا أُسلم ريالاً.
لكن عند مراد الله يفنى كميتٍ وعند مراد النفس يسجي ويلجمُ
يوم أن صارت رياءً ونفاقاً وكذباً، فهي ليست لله ولا ترضي الله، قد يصل الذبح عند البعض في العزاء إلى مائة خروف، أربعة غداء، وأربعة عشاء، وأربعة فطور حنيذ، حتى فرح بعض الناس فتراهم يقولون: اللهم اجعل كل يوم ميتاً؛ ما دام أن فيها عزائم وأكلات، لا حول ولا قوة إلا بالله! لا يجوز الجلوس، ولا يجوز الأكل في بيت الميت، والذي يجوز هو أن يعزى هذا الرجل في أي مكان، فإن لم تجده في أي مكان وأنت تعرف أنه لن يخرج، فلا مانع من أن تصله في بيته، لكن تعزيه وتمشي، أما أن تأكل أو تجلس أو تأتي بأكل أو طعام، لا.
يجوز أن يضع الجيران طعاماً لأهل الميت فقط، أما أن يأتي بطعام لا يكفيهم؛ ويحضر الرز واللحم في قدور ويأكلونه ويرسلون بالعظام والصحون للنساء ليقمن بغسل الصحون فهذا ليس من الدين في شيء.(59/14)
حكم نقض الشعر عند الغسل بالنسبة للحائض
السؤال
امرأة حائض ورأسها مشدود وطَهُرت من الحيض، فهل يجب عليها أن تنقض شعرها وتفكه، أم تغتسل بدون نقض؟
الجواب
هذا النوع فيه تفصيل: إن كان الغسل من جنابة، فلا تنقضه، وإنما تروي أصوله، ولا يلزمها أن تنقضه شعرة شعرة، وهذا باتفاق إن كان الغسل من جنابة.
أما إن كان الغسل من حيض، فاختلفت فيه أقوال العلماء على قولين: القول الأول: وهو للحسن وطاوس: أنها تنقضه، لحديث عائشة وهو في صحيح البخاري عندما شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (انقضي رأسك وامتشطي).
البخاري (1/ 120) دار اليمامة.
وقال بعض العلماء: لا يجب النقض، وحملوا هذا الدليل على الاستحباب، قالوا: إن الأمر هنا للاستحباب وليس للوجوب، ولكن الأولى للمسلمة أنها تنقضه بعد الحيض، ولا تنقضه من الجنابة.(59/15)
حكم من واقع زوجته في صيام التطوع
السؤال
بالنسبة لصيام التطوع -الإثنين أو الخميس- إذا وقع الرجل على زوجته في ذلك اليوم، فما الحكم؟ هل عليه قضاء أم كفارة أم لا؟
الجواب
إذا كان صيام نافلة تطوعاً؛ فإنه يجوز للرجل أن يأتي زوجته، ولو كانت صائمة صياماً تطوعاً؛ لأنه لا يجوز لها في الأصل أن تصوم إلا بإذنه إذا كان شاهداً، فإذا أذن لها؛ لزمه أن يتم إذنه، لكن لو غُلب على أمره وأراد زوجته وهي صائمة صيام تطوعٍ، جاز له أن يأتيها ولا قضاء عليه ولا كفارة؛ لأن المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر.(59/16)
ما يجوز للرجل الذي عقد على امرأة ولم يدخل بها
السؤال
ما هي الأشياء الجائزة التي يستطيع الرجل عملها مع زوجته التي عقد قرانه عليها ولم يدخل بها، هل تكشف له؟ هل يصافحها؟ هل يسلم عليها؟ هل يذهب بها إلى المستشفى أو المدرسة أو غير ذلك؟
الجواب
أول شيء: بارك الله لك في زوجتك التي عقدت عليها، والحمد لله الآن الشيك في جيبك، ولو لم يكن إلا المكالمة منها، فإنك لا تتكلم إلا على شيء قد أصبح لك، والرباط أصبح في يدك، أنت رجل ممتاز، لكن الذي يعيش على الخيالات والأوهام، ويتلفت ويكلم، وليس معه إلا التراب في يده، هذا خاسر -والعياذ بالله- فنقول: بارك الله لك في زوجتك، ونسأل الله الذي لا إله إلا هو! أن يهيئ قلب أبيها وأبيك، بأن يعجلوا لك بالزواج، أما ما يحل لك فبمجرد عقدك عليها أصبحت زوجتك، يجوز لك منها كل شيء، حتى جماعها يجوز لك، لكن بشرط أن يعلم أهلها وأهلك؛ وذلك لسد الذريعة، خشية أن يحصل شيء بعد ذلك، ثم يقول لها أهلها ويقول أهلك: من أين جاء هذا الشيء؟ لا.
إذا كنت مستعجلاً فاذهب إلى أهلها، وقل لهم: أنتم واعدتمونا في السنة القادمة، وأنا لن أصبر، هذه زوجتي وأريد أن أنام معها هذه الليلة، فإذا قالوا: تفضل، والذبائح والعرس في وقت آخر، فلا بأس، وأخبر أهلك، وهذه زوجتك، بارك الله لك فيها إن شاء الله، لكن لا تطمع أكثر من اللازم.(59/17)
حكم فرقعة الأصابع في الصلاة وتشبيكها
السؤال
ما حكم طقطقة الأصابع في الصلاة وتشبيكها؟
الجواب
طقطقة الأصابع وفرقعتها مكروه ومنهيٌ عنه، في حديث ابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجلٍ: (لا تفرقع أصابعك وأنت في الصلاة) وأيضاً روى ابن ماجة في السنن عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في المجلس يشبك أصابعه، قال له: (فرج بين أصابعك) والسبب في النهي عن التشبيك كما يقول العلماء: إنه يحول بينه وبين التسبيح؛ لأنه إذا جلس وشبك عطل هذه الوسائل، فالأولى أنك لا تشبكها من أجل أن تشتغل بالتسبيح بها إن شاء الله، والحكمة إن لم تكن هذه فالحكم تعبدي، المهم أنك منهي عن الفرقعة والتشبيك.(59/18)
صيام الأيام البيض
السؤال
هل الثلاثة الأيام التي تصام في الشهر التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم هي البيض: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، أم من أي أيام الشهر شاء؟
الجواب
الأيام البيض التي جاء الأمر بها هي: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، لحديث أبي ذر رضي الله عنه وهو عند النسائي وصححه ابن حبان ووافقه الذهبي، قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصوم من الشهر الثلاثة الأيام البيض) يعني: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وهي كصوم الدهر، ولكن لو لم تصم، وفاتتك البيض، يجوز لك أن تصوم ثلاثة أيام من الشهر غيرهن إن شاء الله.(59/19)
حكم قضاء السنن الرواتب
السؤال
السنن الراتبة التي تفوت الإنسان مثل سنة ما قبل الظهر أو بعده، إذا فاتت الإنسان فهل يقضيها؟
الجواب
نعم يقضيها؛ لأنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى نافلةً فاتته في الظهر بعد العصر، واستدل العلماءُ بذلك على أنه يجوز قضاء النافلة، حتى في وقت النهي؛ لأنها ذاتُ سبب، وسببها فواتها وليست نافلة مطلقة، فتقضيها إن شاء الله.(59/20)
حكم صلاة المسبل إزاره
السؤال
لقد ذكرت أن الشيخ/ عبد العزيز بن باز ذكر أن الحديث الذي معناه: (إن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل) أنه حديث ضعيف، ولكنني قرأت في كتاب رياض الصالحين أن هذا الحديث رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم، فأرجو أن تبين لي الصحيح في ذلك؟
الجواب
هذا الحديث ذكره النووي في رياض الصالحين وهو حديثٌ ضعيف كما ذكر الشيخ ابن باز، وعلته أنه مرسل، ولا يبنى به حكمٌ في إبطال صلاة المسلمين، يعني: لا تبطل صلاة مسلم إلا بدليل قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، أما ما دام فيه كلام وضعف فلا تقوم به حجة، لكن فيه ترهيب من إطالة الثوب، لاشك أن من يصلي وثوبه مسبل أنه آثم، وأنه تحت خطر عظيم، كأن يخسف الله به، وأن الله يوم القيامة لا يزكيه، ولا ينظر إليه، وأن ما كان تحت كعبيه فهو في النار، كل هذه أحاديث، لكن لا نقول إن صلاته باطلة بحديث ضعيف لم يثبت، وعلته الإرسال.(59/21)
تفسير قول الله عز وجل: (ولكن لا تواعدوهن سراً)
السؤال
ما معنى قول الله عز وجل: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} [البقرة:235]؟
الجواب
ليس المفهوم من الآية أنه يجوز أن تواعدوهن علناً، {لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} [البقرة:235] وإنما هذه الآية نزلت في المعتدة التي يرغب الناكح في الزواج بها، ولكنها لا تزال في العدة، فماذا يصنع؟ رخص الله ذلك، قال: {ولا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة:235] يعني: أجاز الشرع للرجل إذا أراد أن يتزوج بامرأة لا تزال في عدتها، أن يعرض ولا يصرح، لا يذهب إليها ويقول: أنا أريدكِ، أكملي العدة أربعة أشهر وأنتِ محجوزة من الآن، هذا لا يجوز، بل يجوز التعريض، يعني: كلام يفهم منه أنه يريد أن يتزوجها، لكن لا يأتي بهذه الصراحة الواضحة، ثم قال الله عز وجل: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} [البقرة:235] يعني: بعد انقضاء عدتهن سوف تبقى في أذهانكم وتذكرونهن، {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} [البقرة:235] يعني: لم يرخص الله تبارك وتعالى بالكلام إلا بما جوز من التعريض، هذا ما ذكره أئمة التفسير أن المستثنى: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} [البقرة:235] يعني: التعريض، هذا لمن أراد أن ينكح امرأة لا تزال في عدتها.(59/22)
حكم التبرع بالدم والأعضاء البشرية للمرضى
السؤال
تحدثتَ في مناسبة سابقة عن الكلى وأهميتها في جسد الإنسان، وأنها نعمة من نعم الله عز وجل ينبغي أن يشكر الإنسان ربه على هذه النعمة، فما حكم التبرع بها بعد الوفاة؟ وهل يُعد التبرع بذلك من قبيل الصدقة الجارية؟ وما حكم التبرع بالدم؟ وهل هو من الصدقة الجارية؟ علماً بأن الدم الذي يستورد من الخارج فيه أمراض كثيرة وأن حالة الإيدز تأتي منه؟
الجواب
حقيقةً والله إنها من أجل النعم، وما عرفناها إلا في هذا الزمان، كان الناس قديماً يموتون مباشرةً، لكن لما جاء غسيل الكلى، ولقد رأينا كم يبذل الواحد من الجهد في غسيل الكلى، جهد لا يعلمه إلا الله! ففي كل ثمان وأربعين ساعة يغسل مرة، ويجلس تحت الكلية الصناعية أربع ساعات؛ يسحب دمه كله ويذهب إلى الكلية الصناعية، ويعاد مرة ثانية وقد نقي منه عشرة في المائة من السموم القاتلة، ويبقى تسعون في المائة فضلات، وماذا ينقيه، دولاب في ظهرك؟ صفايتان مثل يدك معلقة، واحدة تعمل، والأخرى بالتناوب، ولو خربت واحدة فالأخرى تعمل إن شاء الله.
أما بخصوص حكم التبرع بالكلى والدم: أولاً: هيئة كبار العلماء بقرارها رقم (99) أفتوا بالإجماع بأن التبرع بالعضو جائز شرعاً، بل مرغبٌ فيه، إذا كان التبرع لمسلمٍ؛ وتستطيع أن تنقذ حياته بإذن الله، ويستطيع أن يعبد الله فترةً من الزمن بسبب هذه الكلية.
وكذلك الدم إذا نقل من إنسانٍ إلى إنسان آخر على سبيل التبرع من أجل إنقاذ حياة مسلم، فذلك طيب إن شاء الله، ومرغبٌ فيه، ونسأل الله عز وجل أن يثيب من يفعله.(59/23)
كثرة الدروس والمحاضرات في مساجد المدينة الواحدة
السؤال
ما رأيكم في كثرة المحاضرات في الأسبوع، فإنها تبعث على الملل، فأعتقد أن درس الشيخ: عائض القرني ومحاضرتك تكفي في الأسبوع؟
الجواب
لا يا أخي! نريد في كل ليلة درساً، ثم يترك للناس حرية الاختيار، الذي يريد أن يأتي هنا، والذي يريد أن يذهب إلى الشيخ عائض، والذي يريد أن يذهب إلى الشيخ الجبرين، والذي يذهب إلى النماص، حتى يكون هناك نوع من التنويع: درس في التوحيد، ودرس في التفسير، ودرس في الحديث، ودرس في السيرة، ودرس في الفقه، أما أن تقام في كل ليلة محاضرة في أي مسجد فهذا شيء قليل جداً في مدينة فيها أكثر من مائة ألف نسمة، ولا يعقد فيها على مدى الأسبوع إلا خمس محاضرات في المساجد، لا نطلب التقليل، وإنما نقول: كثروا كثر الله الخير، وبالنسبة لك أنت فليس من الضروري أن تشهد جميع المحاضرات، إنما تحضر لمن تريد، ولمن يوافقك وتنسجم معه.(59/24)
حكم أكل مال اليتيم
السؤال
ما حكم أكل مال اليتيم؟
الجواب
أكل مال اليتيم من الكبائر: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] وأكل مال الغير كله حرام، لكن مال اليتيم أعظم؛ لأن اليتيم لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، وأما الكبير فيدافع عن نفسه، فلا تسقط الهمة إلا عند مال اليتيم!! ولا يجرؤ على أكل مال اليتيم إلا دنيء الهمة، ساقط العزم، الذي لم يستطع أن يأخذ حق الناس، فرجع على الضعيف، ولكن الضعيف ينصره الله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10].(59/25)
عمة الزوجة ليست محرماً للزوج
السؤال
لي أحد القرابة دخلتُ عليه، ودخلت أمه عليَّ في المجلس فجلست عندنا، ولكني لم أسترح في ذلك الوقت من جلوسها علماً بأنها عمة زوجتي -أخت أبيها- فهل يجوز لي أن أجلس معها، وهل هي من المحارم؟
الجواب
عمة زوجتك أخت أبيها ليست محرماً لك ولا يجوز أن تجلس معها، ومادام أنها دخلت هي وجلستْ، فعليك أن تخرج، وإذا عرفتْ أنك خرجت من أجل الحجاب، فستخجل من أن تتكشف عليك.
أيضاً قلتُ في الأسبوع الماضي -هذا استدراك أستدركه الآن- وقد سئلت عن حكم نظر الولد إلى أم زوجة أبيه الثانية، فقلت أنا: إنها محرم له، ولكن بالتتبع والمراجعة وبلفت النظر من بعض الإخوة جزاه الله خيراً اتضح أنها ليست من المحارم، يعني: إذا كان لأبيك زوجتان فأمك طبعاً بطبيعة الأم، وزوجة أبيك أنت محرم لها؛ لأن الله قال: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:22] أما أمها فإنها أجنبية عنك ولست لها بمحرم، ولو أردت أن تتزوج بها جاز، وأنا وقعت في الخطأ من باب القاعدة: (أن ما حرم على أبيك حرم عليك) لكني وجدت أن القاعدة منقوضة في قضية بنت الأخت، فإنها تحرم على أبيك وتحل لك؛ لأنها بنت عمتك.(59/26)
حكم استئذان الزوجة من زوجها قبل الدخول بها
السؤال
هل يجوز للزوجة أن تخرج بدون إذن زوجها؛ إذا كانت في بيت أبيها، أي: لم تزف إليه بعد؟
الجواب
حتى وإن لم تزف إليه بعد، لا ينبغي لها أن تخرج إلا بإذنه؛ لأنها منذ دخولها في عقده أصبحت في عصمته، ولا يجوز لها الخروج من بيت أبيها إلا بإذنه، وعليه هو أن يكون سهلاً، لا يذهب إليها عند أهلها فيقول لها: لا تذهبي عند أحد، ويقول: ما دام أنك كذا فلا تخرجي.(59/27)
حكم رفع اليدين بالدعاء أثناء الخطبة
السؤال
ما حكم رفع اليدين في الدعاء يوم الجمعة والإمام يخطب؟
الجواب
لم يثبت ولم ينقل من طريق صحيح ولا ضعيف ولا قوي ولا موضوع أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الدعاء أو أحد من أصحابه يوم الجمعة إلا في الاستسقاء، فإذا استسقى رفع يديه، أما الدعاء الآخر فإنه لا يرفع يده، ولا يرفع الناس أيديهم، أما إذا استسقى يوم الجمعة ورفع يديه فالناس يرفعون أيديهم يوم الجمعة أو في استسقاء خاص.(59/28)
حكم حلق اللحية
السؤال
هل حلق اللحية من اللمم الذي يغفره الله أم أنها من الكبائر؟
الجواب
عرف العلماء الكبائر بتعريفات: أنها ما توعد الله عليها بعذاب في الدنيا، أو لعنة في الدنيا، أو في الآخرة، وقيل: هو ما نهى عنه الشرع نهياً جازماً، ولم يقم على النهي قرينة تصرفه إلى الكراهة، وحلق اللحية هذا ورد فيه النهي الجازم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس من الصغائر، وعلى فرض أنه من الصغائر فإنه بالاستمرار يتحول إلى الكبائر، فلو أن شخصاً حلق لحيته جهلاً قلنا: هذه صغيرة، لكن نقول له: دعها، فإذا قال: لا.
وسوف أحلقها مرة ثانية، فهذا معناه: أن الصغير يصير كبيراً مع الاستمرار بالحلق، فالذنب الصغير يصير غداً مثل الجبال مع الاستمرار.(59/29)
وجوب اختيار الرجل الصالح للمرأة من قبل وليها
السؤال
إذا كان المتقدم لزواج أختي غير مستقيم ولا ملتزم، فهل يجوز لي أو لوليها أن يمنعها من الزواج، وإن وافقت هي بالزواج منه؟
الجواب
لا.
وإن وافقت هي بالزواج منه وهو غير مستقيم، فلا يجوز ولا ينبغي لك أن تزوجها به وهو غير مستقيم، أما هي لا يؤخذ لها رأي في هذا الموضوع، وإنما لِمَ جعل الولي؟ يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (لا نكاح إلا بولي) لأن الولي يقدر المصلحة بدافعٍ من المصلحة، ليس بدافع من العاطفة، والمرأة عاطفتها وعقلها في عينها؛ إذا رأت شخصاً متزيناً، قالت: أريده، لكن الولي عندما يبحث عن زوج لموليته أو يأتيه خاطب فإنه يسأل عن دينه وشهامته ومروءته وجميع المقومات الرجولية فيه، ثم بعد ذلك يقول: هل تريديه؟ فإن قالت: لا.
قل: انتظري إلى أن يأتي شخص نريده، أما أن تطيعها وتزوجها من شخص قليل دين، فلا.
فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (فمن زوج موليته غير ديِّن؛ فقد قطع رحمه).(59/30)
حكم السؤال بوجه الله تعالى
السؤال
ما رأيك بالذي يسأل بوجه الله؟ أرجو أن تعيد الدليل الذي ذكرته من السنة؛ لأن كثيراً من الناس ذكروه؟
الجواب
ذكر الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب حديث الطبراني من طريقين وصححه: الحديث الأول: (ملعون من سأل بوجه الله، وملعون من لم يجب).
والثاني: (من سأل بوجه الله فهو ملعون) وكلاهما حديثان صحيحان، فمن سأل بوجه الله فهو ملعون، فلا تسأل بوجه الله إلا الجنة، اللهم إني أسألك بوجهك الكريم، وبسلطانك القديم، أن تسكنني الجنة، هذه تستحق أن تسأل بوجه الله، أما على كوب أو على خروج، أو فهذه مهزلة، فليستغفر الله، وليتب إلى الله!(59/31)
الأسباب المؤدية لضياع شباب المسلمين
السؤال
ما أسباب ضياع بعض شباب المسلمين؟ هل هو من آبائهم، أو من مصاحبة أصدقائهم السيئين، أو من الصحف، أو اللعب، أو آلات الموسيقى؟
الجواب
من هذه الأسباب كلها؛ من أصدقاء السوء، ومن الصحف السيئة، واللعب، وآلات الموسيقى، أما الآباء إذا كانوا آباء سوء فمنهم، أما إذا كانوا صالحين فنسأل الله أن يعينهم على تربية أبنائهم.
الشاب -يا إخوان- يكون على الاستقامة، فإذا اتخذ رفقة سيئة كانت سبباً في انحرافه، فاحذر يا أخي الشاب! ولهذا جاء في الحديث والحديث صحيح: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وشابٌ نشأ في عبادة الله) يعني: لم يلوث نفسه بشيء من المعاصي، من يوم أن شب وهو مع الله، الله أكبر ما أعظم هذا الإنسان!(59/32)
الإقدام على الله بالتوبة طريق الفوز والفلاح
السؤال
شاب يريد أن يلتزم، ويريد أن يتوب، ولكنه يتردد في هذا، وأصحاب السوء يحيطون به من كل جانب، فما هو العمل؟
الجواب
أولاً: تخلص من أصحاب السوء.
ثانياً: لا تتردد وأقدم على الله وتب، والتوبة ليست عملاً تحمله فوق ظهرك، التوبة هي أن تقول عن الماضي: أستغفر الله، وعن المستقبل: أتوب إلى الله لا أعمل شيئاً، وعن الحاضر: أجتهد في العبادة والعمل الصالح وأترك المعاصي والذنوب، إذن أصبحت ملتزماً من الآن، يعني: بإمكانك الآن أن تتوب، وتعود إلى بيتك مغفور ذنبك كله، أما أن تتردد، فكيف تترد على باب الجنة؟! إذا قالوا لك: تفضل على أرز ولحم؛ فهل تتردد أم تتفضل؟ وربي يدعوك إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فيها اثنتان وسبعون حورية، وقصورها من ذهب، وأنهار جارية، وأنت تفكر، هل أدخل أم لا؟! تب إلى الله قبل أن تموت.(59/33)
اختيار الزوجة الصالحة
السؤال
الفتنة في هذا الزمان هي في النساء، والرجل يريد أن يتزوج بالفتاة الجميلة؛ ليغض بصره، ويحفظ فرجه، ثم يجتهد بعد الزواج بالتزامها واستقامتها، فما رأيك؟
الجواب
ليس هناك مانع، أن تبحث عن الزوجة التي تغض بصرك، نحن لا نقول لك: ابحث عن واحدة قبيحة إذا رأيتها هربت منها، بل ابحث عن فتاة جميلة وحسنة، لكن قبل أن تكون جميلة وحسنة تكون أيضاً ديِّنة وملتزمة، ولو لم تكن ملتزمة ودينة مرة واحدة، لكن عندها قابلية للاهتداء، يعني: أبين لها أني مؤمن وملتزم، وأني أريد أن أتزوج بها، وأن عندها قصوراً وعندها نوعاً من السلبيات، وترى وضعي كذا وكذا وكذا، فإذا قالت: نعم، أنا موافقة، معنى ذلك أنها سوف تتعايش معك، والباقي عليك، أما إذا قالت: لا، لا أريدك أن تعقدني، أنا أريد أن أغني وأرقص، قل لها: اقعدي، والله سيعطيك أحسن منها بإذن الله؛ لأنه كما جاء في الحديث: (خير متاع الدنيا المرأة الصالحة التي إذا نظرت إليها سرتك) فأنا لا آمرك أن تأخذ امرأة غير جميلة، لكن خذ امرأة جميلة لكن دينة.(59/34)
حكم المعاكسات وجزاء مرتكبها
السؤال
يتجمع الشبان حول مدارس البنات مما يثير المنكر، نرجو إسداء النصيحة!
الجواب
لا يجوز لشابٍ يخاف الله، ويخشاه أو يغار على أعراض المسلمين أن يقف على المدارس، وأنا أعرف أن السلطة مركزة على هذا الموضوع، وواضعة بعض الرجال ممن لهم صفة سرية بمتابعة هذا الموضوع، لأخذه وحمله في سيارة، وإحضاره إلى الإمارة ويجلد فوراً؛ يضرب عشرة أسواط أو عشرون أو ثلاثون وجبة عاجلة؛ لأنه قذر، هذا يحرج أبا البنت ويحرج البنت ويحرج الناس، لماذا يقف بجوار مدرسة البنات؟ قاعد مثل الكلب يتلصص على محارم المسلمين! فهذا لا يجوز، وأيضاً يجب على كل بنت تخاف الله إذا رأت أحداً يعاكسها بسيارة أو أي شيء، أن تأخذ الرقم فقط وتعطي أباها، وأبوها يقدم هذا الرقم للإمارة؛ والإمارة تأتي به برقمه وسيارته، وتضربه وتقطع ظهره، أما أن نسكت على المنكر حتى يستشري، فهذا لا يجوز أبداً.(59/35)
حكم رسم ما له روح
السؤال
مدرس التربية الفنية يأمر الطلاب برسم ذوات الأرواح، فرفضت ولكنه هددني بنقص الدرجات، فماذا أفعل؟
الجواب
قدم أمرك إلى مدير المدرسة، فهناك تعليمات بمنع الرسم لذوات الأرواح، لكن يرسمون ما لا روح له مثل الجبال، والأشجار، والأنهار، والبيوت، والسيارات، والعمارات، وأما رسم الروح فلا؛ لورود النهي عن رسمها، وإذا رأيت المدرس يهددك فاذهب إلى مدير المدرسة، والمدير إن شاء الله سوف ينصفك منه.(59/36)
مجاهدة الشيطان عند الوسوسة في الصلاة
السؤال
عندما أكون في صلاتي أضطرب وأفكر بأشياء كثيرة، وبعض الأحيان أنسى كم صليت، وقد كثر عندي ذلك حتى أن كل صلاتي لم تخلُ من سجود السهو؟
الجواب
يبدو أن الشيطان يلعب بك كثيراً، فلا تكن لعبةً في يد الشيطان، إذا عرفت أنك وقفت في صلاتك؛ فاعرف أنك وقفت بين يدي الله، لا نقول: إنه لا يأتيك، فالشيطان يأتيك، لكن لا تستسلم له، هذا عدو يريد أن يقودك إلى النار، فجاهده بالذكر، وبالتأمل في القرآن، وبالتكبير، والتسبيح، ويأخذ منك وتأخذ منه، أما أن تسجد للسهو في كل صلاة فلا، فاستغفر الله وجاهد نفسك -يا أخي- ولا تستسلم، فإنه يكتب للعبد من صلاته ما حضر فيها قلبه.(59/37)
حكم كتابة الأشعار الغزلية في الزوجة وغيرها
السؤال
هل يجوز للزوج أن يكتب أشعاراً غزلية بحيث يمدح زوجته ويذكر لها الصفات الحسنة؟
الجواب
اكتب ما تشاء، لو أن عندك مليون قصيدةٍ غزلية لامرأتك؛ فاكتب ما تشاء، أما لغيرها فلا، بعضهم يعمل قصائد غزلية لحبيبته، هذا لا يجوز، لا غزل ولا مكالمة ولا شيء؛ لأن هذا يبعث على الفتنة على شيء لم يحصل، أما إذا صارت زوجتك فتغزل إلى أن تموت.(59/38)
حكم البكاء عند سماع القصص من السيرة النبوية
السؤال
عندما أسمع قصص السيرة النبوية أبكي ويرق قلبي، وأخاف أن يكون هذا من الرياء وعلامات النفاق أو من الشيطان؟
الجواب
لا.
ليس هذا من الرياء ولا من النفاق، فإنه لا يمكن أن يحصل في قلبك الرقة والخشية والخوف إلا من الله، فجزاك الله خيراً ولا تجعل للشيطان على نفسك سبيلاً.(59/39)
ما يقوله الزوج عند دخوله على زوجته في أول ليلة
السؤال
أنا شاب مقدم على الزواج، حيث إنني قد عرفت حقوق الزواج، ولكن ما هي الأمور المتبعة التي يجب اتباعها في أول ليلة، حين الدخول على زوجتي؟
الجواب
هذا شاب مقدمٌ على الزواج ولا زال بينه وبين الزواج وقت طويل، ويسأل عن الأمور التي تكون في أول ليلة، هذا متفائل بارك الله فيه، وأسأل الله أن يحقق له أمنيته وأن يجمع بينه وبين زوجته.
وبالنسبة للسنة في أول ليلة، فإنه إذا دخل على زوجته، يسلم عليها، ثم بعد ذلك يصلي ركعتين، ثم يأخذ بناصيتها، ويقول كما ورد في الحديث: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه) ثم بعد ذلك يخبرها -كما فعلت امرأة القاضي شريح - يخبرها عن مبدئه في الحياة، ويقول: أنا وضعي كذا، وهذه القائمة التي أحبها، وهذه القائمة التي أكرهها، وأريد منكِ أن تكتبي لي في الورقة نفسها، القائمة التي تريدينها؛ وما هو الذي يؤذيكِ؟ وما هو الذي يرضيكِ؟ فإذا أوضحتي ما يؤذيكِ أتجنبه، وأنتِ كذلك، هذه اسمها قاعدة الحياة، وبعد ذلك نسأل الله أن يستر عليه وييسر عليه أمر حياته الزوجية.(59/40)
حكم الصلاة بين الأذان والإقامة
السؤال
بعض الناس يصلون بعد الأذان ركعتين مستدلين بحديث: (بين كل أذانين صلاة) فما صحة قولهم؟
الجواب
نعم.
هذا الحديث صحيح رواه الجماعة، لكن الحديث كاملاً: (بين كل أذانين صلاة لمن شاء) فإذا أذن، يعني: بعد الأذان وقبل الإقامة لك أن تصلي إذا شئت، وإذا لم ترد أن تصلي فاقعد، ليس هناك شيء يلزمك أن تصلي.(59/41)
درجة حديث (تخيروا لنطفكم)
السؤال
( تخيروا لنطفكم، فإن العرق دساس) ما صحة هذا الحديث؟
الجواب
هذا الحديث موضوع، وقيل: إنه ضعيف، ولكنه إلى الوضع أقرب، وأما معناه فصحيح: (تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس) يعني: إذا أردت أن تتزوج فابحث عن المرأة الطيبة، التي نبتت في المنبت الطيب، فإن العرق دساس، لكنه لا يصح، أما معناه فقد يكون فيه شيء من الصحة.(59/42)
أنواع الحب وحكم كل نوع
السؤال
ما رأيكم فيما يسمى اليوم بالحب؟
الجواب
ما هو الحب؟ حب ماذا؟ حب اللحم والرز؟ كل ولا تبالي، حب البرتقال والتفاح؟ ليس هناك مانع، حب الوالد والوالدة؟ طيب، أما حب الحرام فحرام، وقد سئل بهذا الكلام الشيخ الإمام حسن البنا رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته، قالوا له: ما حكم الحب في الشرع؟ قال: حب الحرام حرام، وحب الحلال حلال.
انظروا كيف المنطق، يقول: حب الحرام حرام، يعني: بنت الجيران التي هي حرام عليه، أيحبها؟! حرام حبها، أما زوجتك إذا كنت تحبها فهذا الحب حلال، وبعضهم يقول: إني لا أحب إلا تلك، أحد الشباب يقول: يا أخي! ما أقدر على تركها؛ لأنه أحب واحدة، ولما تاب إلى الله وأراد أن يتزوجها، صارت هناك عوائق عن الزواج، قلت له: اترك حبها وابحث عن أخرى، قال: لا يمكن أبداً، فأنا مطبوع على حبها هي وحدها، قلت: وقبل أن تحبها وقبل أن تراها كيف كنت؟ قال: طبيعي، قلت: والآن أحب واحدة أخرى وتزوجها، ووالله لن تحب هذه، ولا تطيق أن تلتفت إليها، قال: لا يمكن أبداً، قلت: جمد العلاقة مع هذه وجرب، وفعلاً كلمته بالهاتف يوماً من الأيام، فقال لها: أنا حاولت الزواج منك، ولكن أهلك رفضوا فالآن هذه آخر مكالمة، وبعد ذلك اتصلت به مرة ثانية، فكأن ضعفاً جاءه، فقلت له: أنت رجل فيك ضعف لا تصلح للجنة، إذا كَلَّمَتْكَ فأقفل في وجهها، فكلمته مرة ثالثة، فلما كلمها قال لها: أقول لكِ: أنا لا أريد أن تكلميني، أنتِ ليس عندكِ شهامة، ثم بصق في وجهها، فقامت تسبه، وبعد ذلك يقول: انقطعت العلاقات، ثم بحث عن واحدة أخرى، وتزوج بها، وله الآن منها ولدان، والآن عندما يأتيني أسأله: كيف الحال؟ قال: والله لم أعد ألتفت إلى تلك، وأما هذه فإنها حياتي كلها.
فحب الحلال حلال، وحب الحرام حرام.(59/43)
حكم صيام المرأة بغير إذن صريح
السؤال
ما الحكم إذا صامت المرأة دون أن تستأذن زوجها، ولكنه لا ينكر عليها ذلك، بل هو يخفف عليها من الشغل في البيت إذا كانت صائمة؟
الجواب
لا بأس إذا كان راضياً، والرضا سواء كان عن طريق الإقرار، أو عن طريق الاستئذان، ليس فيه شيء إن شاء الله.(59/44)
حكم استئذان المرأة ولدها للخروج
السؤال
إذا كان ابنها موجوداً وزوجها غير موجود، فهل يجوز لها أن تخرج للزيارة لأهلها وتستأذن من ولدها؟
الجواب
لا.
ولدها لا يملك الإذن لها، إلا إذا كان مفوضاً من قبل أبيه، إذا قال له أبوه -وهو مسافر- إذا أردتم أن تخرجوا، فاستأذنوا من فلان، ليس هناك مانع، أو رخص هو لهم بالخروج في أماكن معينة، ليس هناك مانع، أما أن يأخذ الولد الصلاحيات من أبيه، ويرخص لأمه وأخواته، فلا.(59/45)
الأبراج والحظوظ شرك وكهانة
السؤال
ظهر شريط بعنوان: أبراج الحظ تدمر أسوار الإسلام للمنجد نرجو التنبيه عليه؟
الجواب
نعم.
الشريط أنا سمعته، وهو قيم جداً؛ لأن الاعتقاد في هذه الأبراج له علاقة بالشرك، وأبراج الحظ هذه موجودة في الجرائد، حظك هذا الشهر وهذا الأسبوع، هذه كلها من الكهانات العصرية، فأنصح أن يسمع هذا الشريط.(59/46)
حكم قضاء الصوم لمن أدركه رمضان قبل أن يقضي
السؤال
سألني صديقٌ فقال لي: إن أمه وضعته في شهر رمضان، ثم لم تقضه، حتى جاءت السنة الثانية، ووضعت من بعده في شهر رمضان، وسألت في هذه الأيام، فقيل لها: عليك القضاء، فقالت: أنا لا أستطيع أن أصوم شهرين، فما العمل؟
الجواب
عليها القضاء مهما كان، وعليها أن تقضي وتطعم؛ هذا إذا كان تأخير الصيام بغير سبب مشروع، وأما إذا كان باستمرار مرض، أو استمرار حمل، أو استمرار إرضاع؛ فإنها تقضي ولا كفارة، وليس لها مخرج إلا القضاء.(59/47)
اختيار الزوج الصالح للمرأة
السؤال
إذا لم يتقدم للزواج من أختي أو ابنتي إلا رجل مهمل في أمور الدين ويؤخر الصلاة عن أدائها في المسجد ومع الجماعة، أو يستمع إلى الأغاني، فماذا أفعل؟
الجواب
لا تزوجها إلا لشخص متدين، ولو أن الناس تواصوا بهذا الموضوع، أي: كلما جاء شخص يخطب، قالوا: لا نزوجك حتى تصلي، لأصبح الناس كلهم مصلين، لكن المسألة الآن انعكست؛ إذا جاء واحد يصلي، قالوا: سيعقدها، زوجوها بشخص لا يصلي من أجل أن يتركها تفعل ما تشاء.(59/48)
حكم الصور المطوية والملفوفة والمهانة
السؤال
في الحديث عند البخاري ومسلم: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا تصاوير) هل الصور الموجودة في المجلات وفي بيوتنا تمنع من دخول الملائكة؟
الجواب
سألت عن هذا السؤال الشيخ عبد العزيز بن باز، فقال: لا تمنع؛ لأن الصور المحرمة هي الصور التي تعلق وتقدس، أما الصور التي هي مطوية، أو ملفوفة، أو مهانة، أو ممزقة، أو معلقة، يعني: موضوعة في وسادة أو شيء، فهذه مما لا يمنع، وقال: إن هذا مما عمت به البلوى، وأصبح الاحتراز منه غير ممكن؛ لأنك تجد الصورة في فنيلتك، وتجدها في سروالك، وتجدها في علبة الحليب، وتجدها في علبة اللبن وفي كل شيء، لكن اتق الله ما استطعت؛ وما عجزت عنه فنسأل الله عز وجل ألا يؤاخذنا وإياكم.(59/49)
حكم تقبيل المرأة كبيرة السن على رأسها
السؤال
والدتي كبيرة في السن، ويأتي بعض الجيران لزيارتها ويقبلون رأسها، علماً بأنهم غير محارم لها، فما ترون في ذلك؟
الجواب
لا يجوز لهم أن يقبلوا رأسها ولو كانت كبيرة في السن، فتقبيل الرأس لا يكون إلا للأم والمحرم، أما أن كل واحد يسلم على رأس أمي، فهذا لا يجوز.(59/50)
اشغل نفسك بالطاعة حتى لا تشغلك بالمعصية
السؤال
أرجو أن تنصحني، كيف أستطيع أن أمسك لساني عن كثرة الكلام، مع أنني حاولت عدة مرات؟
الجواب
اشغل نفسك؛ لأن نفسك إذا لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، اشغل نفسك بالعلم، وبالذكر، وبالتلاوة، وبمجالسة أهل العلم، أما أن تسكت فلا يمكن، لابد من أن تتكلم بحق أو بباطل، فإن لم تشغل لسانك بالحق شغلك بالباطل.(59/51)
عدم طاعة الوالد فيما يخالف الشرع
السؤال
تخرجت من الجامعة، وأرغب في الزواج من بنت ذات دين، ومن أسرة متدينة، ولكن والدي يرفض زواجي من هذه البنت، بسبب أن أهلها ليسوا في منزلتنا الاجتماعية، فهل أطيع والدي أم لا؟ وما نصيحتك لمثل هؤلاء الذين يفرقون بين الناس بغير حق؟ وما حكم هذه التفرقة في الإسلام؟
الجواب
قلنا في الماضي: إن هذه التفرقة ما أنزل الله بها من دين في الشرع، وليس لها أساس، وأن الناس كلهم أبناء آدم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] وإذا وجدت صاحبة الدين فعليك أن تتزوج بها، وأما أخذ رأي أبيك فهو طيب، فإذا كان رأي أبيك فقط من هذا المنظار، أي: ليس له إلا هذه النظرة الجاهلية، فإنه لا ينبغي لك أن تطيعه، أما إذا كانت لأبيك آراء أخرى أبعد من نظرك؛ فإنك تأخذ برأيه فيما يتفق مع الشرع، أما إذا قال: لا، من أجل أنهم ليسوا من مستوانا، فلا يجوز ذلك إذا كانت هي دينة وأهلها متدينون وملتزمون.(59/52)
مجاهدة الشيطان عند قراءة القرآن وإخلاص النية
السؤال
عندما أقرأ القرآن والناس من حولي أحس بأني منافق فماذا أفعل؟
الجواب
هذا من الشيطان، فاقرأ القرآن ولا تبالِ، واسأل نفسك، لماذا تقرأ القرآن؟ هل تقرؤه من أجل الناس؟ إن كان من أجل الناس فهذا رياء، لكن إذا كنت تقرأ لله، والشيطان يريدك أن تسكت وتتوقف لكي لا تعمل العمل، فترك العمل من أجل الناس رياء، وفعل العمل من أجل الناس رياء، بعض الناس تقول له: صلِّ في المسجد، يقول: لا يا شيخ! أنا أخاف أن أصلي في المسجد فيقول الناس: إني مراءٍ، فترك العمل من أجل الناس، فذاك راءى بالعمل، وهذا راءى بالترك، والعلماء يقولون: من راءى بالترك فهو أعظم إثماً من الذي راءى بالفعل.(59/53)
معرفة أهل الأهواء على حقيقتهم طريق للابتعاد عنهم
السؤال
ماذا أفعل! فلم أستطع أن أبتعد عن المسلسلات التي تعرض عليَّ، وإني أحبك في الله وأريد أن تنصحني أن أبتعد عن التمثيليات والمسلسلات؟
الجواب
تحتاج إلى قوة وعزيمة وتفكير، وأن هذا ليس فيه مصلحة.
والله إني لا أرضى أن أعطيهم حتى نظرة واحدة، عندما أنظر إلى الممثل وهو قاعد على الكرسي ويتكلم، أقول في نفسي: ماذا يفعل؟ هل هو صادق الآن! حينها أعرف أنه ممثل، ما معنى ممثل؟ كذاب، يعني: يمثل عليَّ، يلبس عليًّ، فأظل أعيش مع الممثل الكذاب وكلامه ليس صدقاً، والله إني لأستكثر النظرة الواحدة، فكيف بمن يقعد ساعة أو ساعتين! ويحزن في نهاية المسلسل، ثم يترقب موعده في الأسبوع القادم.(59/54)
الخوف من الله من صفات المؤمنين الصادقين
السؤال
إنني أشعر بالهم والغم بالرغم من أنني والحمد لله أصلي الصلوات الخمس، وأقرأ القرآن، وأذكر الله في الصباح وفي المساء والحمد لله، ولكن ما هو السبيل إلى إبعاد الحزن، الذي يلازمني في كل ساعة ودقيقة؟
الجواب
إن كان الحزن والخوف من الله، فهذه منزلة كبيرة ودرجة عظيمة، لا يبلغها إلا أهل الإيمان القوي، وقد أخبر الله أن أهل الجنة يقولون: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:26 - 27] والله تعالى يقول: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] ويقول عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] أي: خائفة، وصفة الحزن صفة من صفات المؤمنين: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] والرسول صلى الله عليه وسلم كان كثير البكاء، كثير الخوف، والحزن من الله، وما رئي ضاحكاً إلا في مرات قليلة معدودة على الأصابع، فإذا كنت تبكي وتحزن خوفاً من الله، ومن القبر، ومن النار وطمعاً في الجنة، فهذا عظيم جداً، أما إذا كان خوفك وحزنك من أجل الدنيا والوظيفة، والمستقبل والأيام، فهذا حزن لا محل له في الدين، وعليك أن ترجع إلى الله.
والله أعلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(59/55)
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله
في محاضرة الشيخ حفظه الله في الغرفة التجارية وجه نصائح وتوجيهات للتجار، ابتدأها بذكر الحكمة من خلق الإنسان، ثم انتقل للحديث عن الدعوة إلى الله: من حيث مسئولياتها، وأولوياتها، وموقفنا من الدعوات المنحرفة، وتطرق إلى أهمية التجار في الدعوة قديماً وحديثاً، ثم تكلم عن أسس مهمة من أسس الدعوة، منها: الشعور بالمسئولية، والتخطيط السليم ببرامج مدروسة والتهيئة العلمية والنفسية، واستغلال الطاقات البشرية ثم تحدث عن توجيهات مهمة تتضمن حقيقة الاستثمار والإنفاق، وبعض أحكام التجارة(60/1)
أهمية معرفة الهدف من خلق الإنسان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الأحبة: هذا الموضوع هو عن دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله عز وجل، وهو موضوع هام؛ لأنه يتناول شريحة من شرائح المجتمع تملك إمكانات وقدرات لو سخرتها التسخير الشرعي الصحيح لحقق الله عز وجل على يديها الخير الكثير والنصر المبين لهذا الدين العظيم.
وقبل أن أبدأ بطرح هذا الموضوع أود أن أعطي فكرة عما يغيب عن أذهان الناس في هذا الزمان في معظم بقاع الأرض عن الغاية والهدف الذي من أجله خلقهم الله سبحانه وتعالى، وفي ظل غياب هذه الأهداف فقد الإنسان قيمته، وأصبح يعيش حياة بدون معنى؛ لأنه لا يدري لماذا يعيش، وحينما تضيع هذه الأهداف أيضاً يستغرق الإنسان في متع الحياة ولذائذها وشهواتها، ويقضي عمره ولم يشبع من هذه الشهوات.
لقد ظن قوم أن الهدف هو المتاع فتنافسوا عليه، وسقطوا بهذه الاهتمامات من كرامتهم التي أرادها الله عز وجل لهم، إذ أن من يعيش وهمه الشهوات إنما يعيش بعقليات البهائم التي لا هم لها إلا هذه الأمور، ولذا فالكفار مهما بلغوا من التقدم والرقي المادي إلا أن اهتماماتهم هي اهتمامات البهائم، يقول الله عز وجل فيهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] ويقول عز وجل: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] ليتهم مثل الإنعام لكنهم أضل من البهائم والأنعام؛ لأن تفكيرهم مثل تفكير البهائم، أي إنسان منهم تسأله: لماذا تعيش؟ فسيقول: لآكل، لأشرب، لأتمتع.
إن البهائم لو استطعنا الآن أن نتكلم معها وقلنا: ما هي اهتماماتها؟ ما هي آمالها في الحياة؟ لوجدنا نفس الاهتمامات مع فرق نوعي.
أي أن الإنسان باعتبار أنه إنسان عنده عقل وتفكير وقدرة على الإبداع والاختراع والإيجاد استطاع أن يطور نفسه، بحيث يسكن في ناطحات السحاب، ويسبح في الفضاء، ويطوع المادة لخدمة نفس الأهداف التي تهدف إليها البهائم.
وخسر الإنسان -حقيقةً- قيمته وكرامته التي أرادها الله {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] بماذا كرمه الله؟ بهذا الدين العظيم.
وظن آخرون أن الله عز وجل خلق هذه الحياة عبثاً، وقد أبطل الله سبحانه وتعالى هذا الظن، وكذَّب هذا الزعم، وقال في كتابه الكريم: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون:115 - 116] تعالى الله عن العبث! لا إله إلا هو! ويقول عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص:27] يعني: عبثاً {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27] ويقول عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء:16] يعني: عابثين {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:17 - 18].
ثم إن الناظر والمتأمل في الكون وسماواته وأرضه وشمسه وقمره ونجومه وكواكبه وبحره وبره وأنهاره وأشجاره وما بث الله فيه من المخلوقات، ما فيها من الدقة والتدبير والحكمة والتقدير من أصغر جزء في المادة وهو الذرة إلى أعظم جزء في الدنيا وهي المجرة يشهد أنها خلقت كلها لحكمة.
إذاً: ما هي الحكمة التي خلق الله الناس من أجلها؟ وهل بإمكان الناس أن يعرفوها من عند أنفسهم؟ لا.
مهما كان ذكاء الإنسان، ومهما كانت عبقريته لا يستطيع أن يعرف لماذا خلق لماذا؟ لأنه لم يخلق باختياره وإنما جيء به، لو أنه جاء باختياره لعرف لماذا جاء، لكن يجاء به من غير اختيار، لا يدري من الذي جاء به، وهل أُخذ رأيك -أيها الإنسان- يوم خُلقت، وهل أنت جئت باختيارك؟ لا {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ} [الإنسان:2] لماذا خلقك؟ أنت لا تعرف! فمن الذي يعرف؟ الذي خلقك، فاسأل الله لماذا خلقك؟ وأنا جئتكم الآن من مكة باختياري، ولذا لو سألني أحد في الطريق: إلى أين؟ لقلت: إني ذاهب إلى جدة، إلى الغرفة التجارية، لدرس أو محاضرة.
لكن لو أنني خرجت من بيتي ووقفت عندي سيارة، ونزل منها رجال مسلحون متنكرون، وأداروا أكتافي ووضعوا القيد في يدي ورجلي، ووضعوني في سيارتهم، وذهبوا بي إلى الصحراء أو الجبال ورموني في حفرة أو كوخ، ويأتي شخص ويسألني: لماذا أنت هنا؟ ماذا أقول له؟ أقول له: لا أدري.
لأني أُخذت، وكذلك أنت أيها الإنسان! لماذا جئت؟ لا تدري!(60/2)
عبادة الله هي الحكمة من خلق الإنس والجن
أيها الإخوة! لقد كانت وظيفة الأنبياء والرسل من أولهم إلى آخرهم بيان الحكمة التي من أجلها خلق الله الناس، ما جاء نبي يدعو الناس إلى الإيمان بوجود الله؛ فإن وجود الله مما استقر في فِطَرِ الناس، فقد فَطَرَ الله الناس على الإيمان بوجوده، يقول الله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] إن الله حينما خلق الإنسان فطره على الإيمان به، ولهذا (كل مولود يولد على الفطرة) فطرة الإسلام، لكن المسخ والتغيير يأتي من المؤثرات، وعَبَّر الحديث بقوله: (فأبواه) لأن التأثير الأكبر إنما هو للأبوين، لكن اليوم لم يعد الأبوان فقط، بل الأبوان وشياطين كثر يؤثرون في حياة الناس.
فالأنبياء والرسل كل رسالاتهم تبين لماذا خلقك الله، يقول عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] ويقول عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [النحل:36] ويقول عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] والحصر بين (ما) و (إلا) يفيد أن الغرض هو العبادة فقط، ما خلَقَنا الله لنأكل ونشرب ونتوظف ونبني ونتزوج بل لنعبد الله فقط، ولا يعني هذا أننا لا نأكل ولا نشرب ولا نتزوج أو نتوظف لا، نحن نأكل ونشرب ونتزوج وندرس ونتوظف ونبني ونسكن لنعبد الله، كل هذه إنما هي وظائف جانبية أو هامشية مساعدة تُسخر لخدمة الغرض الأساسي وهو العبادة، لكن -وللأسف الشديد- انشغل الناس بالأهداف المساعدة عن الهدف الأساسي الذي من أجله خلق الله الإنسان.
وأذكر أنني كنت قبل سنوات مسافراً من أبها إلى مكة عبر طريق الساحل، ثم وقفت أتزود بالوقود من إحدى المحطات، وبينما أنا أقف وإذ بي أحس بالسيارة ترقص! فنظرت فإذا تسجيلات غنائية ينبعث منها موسيقى غربية يسمونها (الديسكو) عبر سماعات من أضخم ما يكون ترج الأرض رجاً، وإذا بسيارتي ترقص وأنا أرقص، فأطفأت السيارة ونزلت وقصدته، فلما رآني خفض صوت الموسيقى، وأنا أرى الأشرطة تتراقص على الرفوف من قوة الصوت، فلما دخلت سلمت عليه ورد علي، قلت له: يا أخي! يقول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا} [الذاريات:56] وسكتُّ! فقال: {لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] قلت: أأنت متأكد؟ قال: نعم.
قلت: إلا ليعبدون أو إلا ليلعبون؟ قال: أستغفر الله يا شيخ! {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
قلت: أسألك بالله لو كان هكذا كما تفعل أنت يكون إلا ليعبدون أو يلعبون؟ فسكت.
قلت: أخبرني؟ قال: لا والله -يا شيخ- يلعبون.
قلت: ليتك تلعب بمفردك، إنك تلعب وتجعل الأمة تلعب، ما من شريط يباع من دكانك هذا إلا وعليك إثمه إلى يوم القيامة، إن الله خلق الناس للعبادة وأنتم جعلتموهم يلعبون ولا يعبدون الله.
قال: حسناً، وماذا أصنع يا شيخ؟ قلت: يا أخي غيِّر هذا النشاط، مجالات الرزق كثيرة، أما وجدت إلا هذا المجال الخبيث الذي يضر دينك وعقيدتك، تصرف الناس عن الله، وتقطع الطريق بين العباد وبين خالقهم، وتنشر الباطل؟! قال: إن شاء الله.
وذهبت وتركته.
ومرت سنوات وأتيت في مناسبة أخرى، وتعمدت أن أقف عند تلك المحطة لأرى أتلك البذرة نفعت أو لم تنفع؟ ووقفت ونزلت إلى الدكان، وإذا ببقالة وإذا بالرجل نفسه، فسلمت عليه، ولم يعرفني، قلت: يا أخي الكريم! يقول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا} [الذريات:56] وسكتُّ! قال: هو أنت؟ قلت: هو أنا، ويقبل عليَّ ويسلم عليَّ، ويقول: جزاك الله خيراً يا شيخ! والله من ذلك اليوم ما بعت شريطاً واحداً، وقد خلف الله علي برزق وبركة وأمن وراحة في قلبي، من قبل كنا -والله- بالفعل نطرب ونسمع الأغاني ونكسب، لكن هنا شيء مثل النار في قلبي لست راضياً عنه -يعرف أن هذا العمل سيء وأنه سوف يُسأل عنه إذا مات- لكن الآن قلبي مستريح مطمئن، لا أبيع إلا الحلال ولا أمشي إلا في حلال.
قلتُ: الحمد لله.(60/3)
شمولية العبادة لجزئيات الحياة
تأمل لم خلق الله الناس؟ أليس للعبادة؟ بلى، ولكن بمفهومها الشرعي الواسع الشامل الذي ينظم كل جزئية من جزئيات حياتك، ليست العبادة -أيها الإخوة- محصورة فيما يفهمه الناس أنها الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، هذه أركان العبادة وأسس الدين، لكن العبادة كما يعرفها شيخ الإسلام ابن تيمية: (اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة).
أفعالك تتحول كلها عبادات، حتى جعل النبي صلى الله عليه وسلم إبعاد الأذى عن الطريق صدقة -وإن كان عمل البلدية! - وجعل تبسمك في وجه أخيك صدقة، بل أعظم من هذا، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه في يوم من الأيام: (وفي بضع أحدكم صدقة) فتعجب الصحابة! كانوا يظنون أن الصدقات تكون في الجهاد والإنفاق في سبيل الله، كيف يأتي الرجل زوجته ويكون له بذلك أجر من الله عز وجل؟! قالوا: (أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟! قال: أرأيتم إن وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قلنا: بلى يا رسول الله.
قال: وكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر).
هذا الدين عظيم يتيح لك الفرصة للدخول على الله من كل ميدان.
هذا المفهوم للعبادة حملته الرسل، ولا تأتي أمة إلا ويبعث الله فيها رسولا، قال عز وجل: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24] وقال: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7] وقال: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء:165] هؤلاء الرسل يُرسلون إلى الأمم، وكلما انقرضت رسالة وخلت الأرض من الهدى بعث الله رسولاً بنفس المبدأ والمنهج، المنهج واحد: وهو دعوة الناس إلى عبادة الله وحده وتوحيده، وإن اختلفت الشرائع من رسالة إلى رسالة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (نحن معاشر الأنبياء أولاد علات، ديننا واحد وأمهاتنا شتى) الرسالة واحدة وهي التوحيد، والشرائع مختلفة {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48] إلى أن ختم الله عز وجل الرسالات برسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم وليس بعده نبي، قال: {رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] ومن ضمن عقيدة المسلم أن يؤمن بأنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ومن اعتقد أن هناك نبياً يبعث بعد محمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر؛ لأنه كَذَّب ما هو معلوم من الدين بالضرورة.(60/4)
الدعوة إلى الله وتحميل تبعاتها للمسلمين
كان الأنبياء عليهم السلام يدعون إلى دين الله، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم فهو خاتم الأنبياء وبعد ذلك أتاه الموت، كما قال الله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] وقال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:34 - 35] هل بقاء الدين واستمراريته مرهون ببقاء النبي صلى الله عليه وسلم؟ لو كان ذلك لما اختاره الله إلى جواره ولما مات؛ من أجل أن يستمر الدين، لكن الله قضى أن يموت محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تبقى الرسالة إلى يوم القيامة.
والأجيال التي تأتي من يدعوها إلى الله؟ لم يعد هناك رسول يُبعث، والرسول الخاتم مات، فلم يجعل الله سبحانه وتعالى مسئولية الدعوة في هذه الأمة على الرسول فقط وإنما عليه وعلى كل من تبعه إلى يوم القيامة، قال الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا} [يوسف:108] أنا وحدي فقط، لا {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] إذاً ليس لك خيار في المسألة، ما دمت اتبعت الرسول فيلزمك أن تكون داعية شئت أم أبيت، ولم يكن أحد -أيها الإخوة- من الصحابة يفهم أن بإمكانه أن يعيش مسلماً دون أن يكون داعية إلى الله.
بل كان الرجل منهم يسْلم ويأخذ حديثاً أو حديثين أو آية أو آيتين ويرجع مباشرةً إلى قومه داعية، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، وكان هناك مجموعة من الجن من وادي نصيبين في اليمن فمروا فصرفهم الله عز وجل لحضور القرآن وسماعه، وذكر الله القصة في سورة الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] دعاة من أول ليلة {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:31] لماذا؟ حتى يستمر هذا الدين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
وهناك دعوة مضادة يقوم بها اليهود والنصارى لمسخ الإسلام وعودة الناس إلى الكفر، كما قال الله عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى} [البقرة:120] و (لن) هنا: الأبدية {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] ليس حتى تترك دينك فقط.
لا.
هم سيجعلونك تخرج من دينك كخطوة أولى، والخطوة الثانية هي أن تصير مثلهم، ويقول عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] ويقول: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] فالدعوة المضادة مستمرة من اليهود والنصارى وأعداء الدين والملل، وأبناء الإسلام لا يدعون، إذاًَ كيف يبقى هذا الدين؟ حتى يبقى هذا الدين باعتباره الدين الذي أراده الله، ولأنه ليس هناك دين غير الإسلام قال جل وعلا: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]؛ جعل الله سبحانه وتعالى مسئولية هذا الدين على كل مسلم.(60/5)
أولويات في الدعوة إلى الله
أيها الإخوة! كلنا سنسأل عن التوحيد وقضايا الإيمان؛ وهذا الدين هل بلغنا؟ وماذا عملنا له؟ لأنه مسئوليتنا، من نتوقع أن يقوم بهذا الدور غيرنا؟ وليس معنى هذا أن يكون الداعية خطيباً على المنابر فحسب لا، فالدعوة لها أساليب وطرق ومجالات كثيرة، منها ما لا يعذر فيه الإنسان: وهي دعوة الإنسان لنفسه إلى الله، هل يُعذر أحد في هذا؟ هل يقول: أنا لا أقدر أن أدعو نفسي إلى الله؟ لا.
ففي ظل الاتحاد السوفيتي المنهار والذي مارست فيه الشيوعية صنوفاً متعددة من القمع في سبيل إبعاد الناس عن عقيدتهم، فسدت الشيوعية وانهارت وبقي الإسلام في صدور أولئك الرجال، وما استطاعت أن تسيطر عليهم أو تمنعهم من الإسلام لماذا؟ لأنه عقيدة.
هذه مسئوليتك: أن تدعو نفسك إلى الله، لا تدعو الناس كلهم، أولاً ادعُ نفسك فقط، ولو أن المسلمين دعوا إلى الله بهذا القدر فقط لعم الخير، أي: لو أن كل مسلم دعا نفسه إلى الله؛ لما احتجنا إلى كل هذه الجهود التي تبذل الآن في دعوة المسلمين ولوفرناها لدعوة غير المسلمين.
إن العلماء والدعاة والعاملين في الدعوة يركزون الآن جهودهم كلها لدعوة المسلمين لماذا؟ لأنهم يقولون: إن المسلمين الآن يخرجون من الدين، أنت عندما تكون طبيباً وتجد شخصاً ميتاً وآخر مريضاً، من تعالج المريض أو الميت؟ تعالج المريض؛ لأن الآخر ميت، فالأمة الإسلامية الآن فيها مرض، ولهذا الدعاة كلهم متوجهون لاستعادة الحياة فيها.
لقد ضاع الجهد وصرف في المسلمين على حساب دعوة غير المسلمين، لكن لو أن كل مسلم دعا نفسه إلى الله، وأقامها على صراط الله المستقيم، وألزمها عقيدة صافية، وعبادة خالصة، وسلوكاً مستقيماً، وتعاملاً سليماً، وحياة طاهرة نظيفة في نفسه، ثم انتقل بهذا الدين الذي حمله إلى أسرته ومحيطه الضيق، هل يوجد أحد يستطيع أن يقول: لا أستطيع أن أربي زوجتي على الدين؟ من الذي يدخل معك في بيتك ويقول لك: لا تقل لها: صلِّ؟! هذه مسئوليتك، ثم انتقل إلى أولادك وبناتك وأقم أسرة مسلمة، فإذا نشأ مع الأسرة المسلمة مسلم ومسلمة، وتكوّن المجتمع المسلم من اللبنات التي هي الأسر الصالحة، ومع هذا المجتمع مجتمع ثانٍ، وانتصر الدين، وظهر دين الله في الأرض، فإذا رأى الكفار الإسلام ممثلاً في حياة الناس دخلوا في دين الله أفواجاً، لكن حينما يتخلى الإنسان عن هذه المسئولية ويقول: هذا ليس عملي، هذا على الدعاة والمشايخ، أما أنا فليس عليَّ شيء.
حتى نفسك ألا تدعوها؟ فكيف تكون داعية إلى الله سبحانه وتعالى؟!! لذا -أيها الإخوة- لا بد من الإحساس والشعور بهذه المسئولية؛ لأن الدعوة وظيفة هذه الأمة، والدعوة مسئوليتنا، والسائل لنا هو الله، والإجابة عنها صعبة، والنتيجة: إما إلى الجنة وإما إلى النار.(60/6)
استغلال الأموال في الدعوة إلى الله
هذه الدعوة -أيها الإخوة- يجب أن يمارسها المسلم من خلال وضعه الذي يعيشه، فالطبيب والمهندس والضابط والموظف والمرأة والمزارع بإمكانهم أن يكونوا دعاة إلى الله، لكن أبرز الناس قدرة على الدعوة إلى الله بالمال هو التاجر وذلك لأن عنده إمكانية.
لقد مارس سلفنا وسلفكم التجار هذا، ونصر الله بهم الدين، وتعرفون الأمثلة: خديجة رضي الله عنها سخرت أموالها لخدمة الدعوة بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
أبو بكر رضي الله عنه يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نفعني مال كمال أبي بكر).
عثمان رضي الله عنه تاجر الصحابة في غزوة العسرة، جاءت تجارته من الشام بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، محملة بالسمن والدقيق، في زمن مجاعة، وكانت الأرض مثل الرماد، وسمي ذلك العام بعام الرمادة، انحبس المطر حتى أصبحت الأرض مثل الرماد، ولا يوجد هناك إلا ما يأتي من السماء، والناس في شدة وضيق، ولما جاءت القافلة بثلاثمائة بعير قام التجار كلهم في المدينة من أجل أن يكسبوا، فأعطوه في الدينار ديناراً -أي: مكسب (100%) - قال: أُعطيتُ أكثر.
فأعطي ديناران في الدينار -أي: (200%) - قال: أُعطيتُ أكثر.
ويعرفون أنه صادق لا يكذب، ليس مثل بعض التجار يقول: أُعطيتُ أكثر.
وهو كاذب، إذا قال هذا الكلام وجاءه ربح أكثر بناءً على كلمته فدخله حرام (100%)؛ لأن ذاك صدقه! مثلاً: يقال للبائع: السيارة هذه بكم؟ قال: أُعطيتُ فيها ثلاثين ألفاً.
ولم يعطَ ذلك المبلغ، إذاً لماذا تريد أن تزيد في السعر، ليعطيك فرقاً فيعطيك واحداً وثلاثين ألفاً، لأنك افترضت ثلاثين كذباً، إذاً هذا الدخل حرام.
أما عثمان فصادق - ذو النورين الذي تستحي منه الملائكة رضي الله عنه وأرضاه- قال: أعطيت أكثر.
حتى وصلت إلى خمسة -أي: (500%) - قال: أُعطيتُ أكثر.
فاجتمع التجار كلهم، قالوا: من الذي أعطاه؟ نحن كلنا تجار المدينة، هل هناك أحد جاء من السماء؟ لا يوجد إلا نحن، والرجل لا يكذب، ثم جاءوا إليه وقالوا: قد تشاورنا ولم نجد أحداً أعطاك أكثر مما أعطيناك، فمن أعطاك؟ قال: أعطاني الله، أعطاني في الدينار عشرة دنانير إلى أضعاف كثيرة، قال: هي في سبيل الله.
فلما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة بعير محملة قال فيه: (ما ضر عثمان ما صنع بعد اليوم) هذا هو المال الرابح أيها الإخوة! أبو الدحداح رضي الله عنه وأرضاه لما سمع قول الله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] قال: [ربنا يستقرضنا؟ قال: اقرأ بقية الآية {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:245]] الله غني، لا يستقرض منك لأنه فقير، لكن من أجل أن يزيد ويضاعف لك الأجر.
وأبو طلحة لما نزل قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] قال: يا رسول الله أحب مالي بيرحاء -وهو بستان في المدينة - أشهدك أنها لله عز وجل، قال: (بخٍ! ذاك مال رابح! ذاك مال رابح! ذاك مال رابح!).
وهكذا استمرت -أيها الإخوة- أيادي الدعوة والخير تنتقل، بل دخل دين الإسلام عن طريق التجار إلى دول مثل: إندونيسيا، وماليزيا، وتايلاند، وسنغافورة، فهذه البلاد فيها مئات الملايين من المسلمين، لم تفتح بلادهم عنوة ولا بالسيف وإنما بالتجار المسلمين الذين كانوا يحملون هَمَّ الدعوة، انتقلوا بالتجارة ومعهم الإسلام فدعوا إلى الله سبحانه وتعالى، دعوا إلى الله بألسنتهم وبفعلهم وتطبيقهم، فدخلت تلك الدول في دين الله.(60/7)
أسس ومقومات الدعوة إلى الله
أيها الإخوة: بالإمكان أن يمارس رجال الأعمال في هذا الزمان نفس الدور الذي مارسه أسلافهم في الزمان الأول، وأن يصدروا هذا الدين للعالم كله يوم أن يحملوا هَمَّ هذا الدين؛ وحتى يقوموا بهذا الدور لا بد من مراعاة بعض الأمور:(60/8)
الشعور بالمسئولية
وهذا يبدأ كقاعدة وأساس: الإحساس والشعور بالمسئولية تجاه الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى لهذا الدين.
وهذا يحصل إذا بدأ الإنسان يفكر فيه، لكن إذا لم تحصل عنده فكرة أصلاً أنه مسئول عن الدين كيف يهتم؟!(60/9)
التخطيط السليم
الأمر الثاني: التخطيط السليم، واستشارة المختصين من العلماء والدعاة والمهتمين، ووضع (البرامج) المدروسة للتعرف على مجالات وأساليب العمل الدعوي التي يمكن أن يسلكها التاجر.
نحن نعرف -والحمد لله- أن التجار الأثرياء يقومون بجهود طيبة خيرية، لكن معظمها إغاثي، أو عمل خيري في بناء مساجد، أو مساعدات في الملاجئ أو في أي شيء، لكن هذا كله ليس كالعمل الدعوي؛ لأنه صدقة جارية! أنت إذا عملت عملاً ينقطع أجره ليس كعملٍ يجري أجره دائماً، والذي يجري دائماً هو الدعوة؛ ففي الحديث المتفق عليه يقول عليه الصلاة والسلام: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْر النعَم) فإذا سخرت مالك لدعوة غير المسلمين وأسلم واحدٌ منهم بسببك هذا في ميزانك يوم القيامة، تبعث يوم القيامة مبعث الأنبياء، لأنه جاء في الحديث الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: (رأيت النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد) فإذا جئت وأنت معك واحد أسلم على يديك بمالك تُبعث مبعث الأنبياء، وتكون سلسلة من الخير مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأنت في قبرك والحسنات تأتيك، خصوصاً إذا أوقفت شيئاً من مالك للعمل الدعوي؛ لأن هذا التبرع المقطوع ينتهي، لكن إذا اختزنت شيئاً من مالك كعمارة أو كأرض كبيرة توقفها ليكون دخلها وريعها للدعوة إلى الله تكون أنت في قبرك والملايين من الحسنات تأتيك، وإلى متى؟ إلى أبد الآبدين.
هذا الأمان الرابح، وهذا العمل العظيم يأتي عن طريق التخطيط والاستشارة للجهات التي تهتم بهذا الجانب والتي سوف نذكرها إن شاء الله.(60/10)
التهيئة النفسية للاهتمام بقضايا الدعوة
أيضاً: لا بد للتاجر أو رجل الأعمال المسلم من التهيئة النفسية وذلك بكثرة الاطلاع على الكتب التي تعالج قضايا الدعوة كالمجلات والصحف والأشرطة الإسلامية، لا يكن طيلة النهار همك كله في التجارة حتى تصاب بالإرهاق، ولا تعرف إلا الهاتف، والفاكس، والأرصدة وسوق البورصة فقط ولا تذكر الله! بل اجعل لك وقتاً معيناً للاهتمام بالدين فقط، وظِّف عندك أناساً لخدمة هذا الغرض: يجمعون لك المعلومات، يعطونك الأخبار، تسمع منهم لماذا؟ لأنك أنت ابن الدنيا والآخرة، كم نسبة بقائك في الدنيا؟ ستون سنة، كم تبقى في الآخرة؟ إلى أبد الآبدين، كيف تضيع حياتك في ستين سنة وتضيع آخرتك فيها؟ وإذا بك تخرج من الدنيا لا دنيا ولا دين لا، فلابد من الاستعداد النفسي بحيث تجعل لك اهتمامات دينية عن طريق الاطلاع ومعرفة العالم الإسلامي وأحوال المسلمين في كل مكان.(60/11)
استغلال الطاقات البشرية عن طريق الأموال
هناك إمكانيات بشرية هائلة موجودة في الأمة لكن ينقصها الدعم المالي، وهذا في يد رجل الأعمال، إذ بإمكانه أن يسخر العديد من طلبة العلم والعلماء في كثير من بلدان العالم الإسلامي في الدعوة إلى الله، فيكفل مجموعة من الدعاة والعلماء، ويفتح المدارس الدينية، ويفتح المعاهد، ويفرغ طلاباً لدراسات عليا في بعثات في جامعات حتى يتخرج بسببه علماء، ويكون هذا الخير كله بسبب هذا المال الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى.(60/12)
غريزة حب المال والاستثمار الحقيقي مع الله
لا نستطيع أن ننكر أن الله سبحانه وتعالى غرز في طباع الناس حب المال، يقول الله عز وجل: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} [الفجر:20] ويقول: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] لا يوجد أحد في الدنيا يكره المال فقد حبب الله الناس في المال؛ لأن الإنسان خليفة الله في الأرض، ولا بد أن يعمرها، يعمرها بماذا؟ بالمال، ولذا فإن حب المال موجود عند كل إنسان حتى الطفل، انظر إلى الطفل الذي عمره سنة إذا أعطيته ريالاً وورقة أخرى أيهما يأخذ؟ يأخذ الريال ويدع الأخرى ولا يأخذها، بل حتى المجانين، يقول لي أحد الأطباء في مستشفى الأمراض العقلية في الطائف: والله يا شيخ سعيد! عندنا مجانين لا يفهمون شيئاً أبداً، لكن إذا رأى العملة فئة خمسمائة أو مائة عرفها وأخذها، يعود إليه عقله الذي قد غاب.
المال والنقود!! كل إنسان يحب هذا المال، وكل إنسان يحب أيضاً الاستثمار خصوصاً التجار، فعقلياتهم عقليات تجارية استثمارية، حتى لو أردت أن تزاحم في التجارة وأنت لست صاحب اختصاص فإنك تخسر، ولذا بعض الناس يدخل في الميدان ويريد أن يصير تاجراً ويترك وظيفته، فنقول له: ابق في وظيفتك، ويا صاحب المهنة! ابق في مهنتك، التجارة لها أناس يفهمونها بالإشارة! هؤلاء المستثمرين أصحاب المال ورجال الأعمال غاب عن أذهانهم مجال من مجالات الاستثمار وهو الاستثمار في سبيل الله، ليس مجال الاستثمار في سبيل الله العائد عليه في الآخرة فقط بل هناك عائد جديد يحصل لك في الدنيا: وهو البركة والزيادة، يقول الله في القرآن الكريم: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] أما عندك يقين في الله؟ الله يعدك أن أي شيء تنفقه في سبيل الله فهو يخلفه {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] فما دام أنك تعلم أن المال يرجع بالزيادة من يوم أن تنفق فلماذا لا تنفق؟؟ بل في الحديث: (ما نقص مال من صدقة).
أنا أعرف -أيها الإخوة- قصة وقعت أمامي: فقد كنت خارجاً من الحرم في رمضان ومتجهاً بعد صلاة التراويح إلى سيارتي، وإذا بسيارة قريبة من الحرم لرجل أظنه ذا مكانة عالية، وسيارته من السيارات الفارهة فمررت بجانبه، ورأيته ممسكاً مقود السيارة ويمشي ببطء لأن الناس كثير، وإذا برجل فقير من الفقراء لحقه عندما رآه بسيارة، وقال: أعطني لله فقال هذا الرجل: على الله! وهذا الفقير قال: أنا أعلم أن رزقي على الله، لكني أريد أن أختبرك؛ لأن الله ابتلاني بالفقر فما صبرت، وأنت ابتلاك بالغنى فما أعطيتني، الله يعطيني، أنت لا تعطيني، أنا لا أريد منك شيئاً.
وأنا أسمع الكلام وأرى الرجل وهو يتكلم بهذه الحدة، وكان هناك امرأة إفريقية تجلس على طرف الجدار وكانت تبيع بعض الحلوى، وعندما رأت المنظر وسمعت ما سمعته قامت وأعطت هذا الرجل المسكين ريالاً! أما صاحب السيارة تحرك على بعد عشرة أمتار ثم توقف تأثر وانتبه ضميره فوقف، ثم فتح الباب وأخرج من جيبه عشرة ريالات وراح يبحث عن الرجل فلم يجده، فأعطى الإفريقية عشرة ريالات.
قلت: لا إله إلا الله! أنفقتْ ريالاً فرد الله لها عشرة ريالات {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] أهذا مجال استثماري أم لا؟ الله يقول: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39].
هذا مجال استثماري في الدنيا، هل هناك أحد تصدق أيها الإخوة؟ في الدنيا بمال وندم فقال: والله خسرت بالصدقة؟ لا، والله لا تخسر، بل تزيد وتزيد وتزيد، فأنت تنفق في سبيل الله فيأتيك الشيطان يقول: تصور أن المال نقص.
فإذا جاءك هذا الإحساس فاستعذ بالله فإنه من الشيطان، والله يقول: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268] فضلاً، أي: رزقاً، فهذا المجال الاستثماري من أعظم مجالات تنمية المال، وما عرفنا أحداً سلك مسالك الإنفاق في سبيل الله إلا وفتح الله عليه أبواب الرزق من كل جانب.
نعرف كثيراً منهم -ولا نذكر الأسماء- ويحدثوننا ويقولون: والله ما رأينا الخير إلا لما أنفقنا.
لأنك عندما تعطي الله ماذا يحصل؟ ماذا يعطيك ربك وقد وعدك {فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] ثم أنت عندما تبخل تبخل عن نفسك أولاً.(60/13)
فائدة الإنفاق في سبيل الله في الدنيا والآخرة
هناك بعض الناس يتصور أنه إذا أعطى فإنما يعطي من حقه، وهذا تصور خاطئ؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] ليس لك من المال شيء، وما حقيقة أمرك لما جئت من بطن أمك هل كان معك شيء؟ لقد جئت وأنت عارٍ واستقبلت في خرقة، وستعيش فترة من العمر ثم تخرج عارياً في خرقة أخرى وهي الكفن، فالمال مال الله ساقه إليك من حيث لا تحتسب، فأنفق من مال الله فليس من حقك {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]
وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوماً أن ترد الودائع
انظر الآن في واقعنا كم من الأثرياء يموتون فبماذا يخرجون من الدنيا؟ لا شيء إلا الكفن! بل والله أعرف رجلاً من أكبر التجار عندنا في أبها اقترضوا له الكفن! نعم مات في ساعة متأخرة حوالي الساعة العاشرة، وأبها مدينة صغيرة، أهل الأسواق يقفلون محلاتهم في وقت مبكر، لا تجد بعد العاشرة إلا البقالات، أما أصحاب الملابس والأقمشة ينامون، من يشتري قماشاً في الساعة العاشرة في قرية بسيطة أو مدينة بسيطة مثل أبها؟ فمات الرجل وغسلوه وقالوا: نريد كفناً.
فذهبوا إلى الأسواق فلم يجدوا إلا (سوبر ماركت) أو أسواق مركزية، ويقولون: هل عندكم كفن؟ فيقال لهم: أعوذ بالله! فال الله ولا فالك، كل واحد يقول: فال الله ولا فالك، تريدنا أن نموت قبل آجالنا، لا يوجد كفن اذهب، ما يريدون أن يسمعوا كلمة (الكفن)، أخيراً قالوا: انظروا مؤذن المسجد لعله مدخرٌ كفناً لرجل فقير فيه خير، فجاءوه فقالوا: هل عندك كفن؟ قال: نعم عندي كفن قد هيئته لي لكن خذوه صدقة لوجه الله، يتصدق على من؟ على صاحب الملايين الذي لم يجدوا له من ماله حتى الكفن! إذاً: ما الفائدة من هذا المال، فاتقِ الله! وأنفق من مال الله الذي آتاك.
يظن بعض الناس أنه إذا أنفق فإنما يعطي الناس وأنه يضيع ماله! لا، فإن الله يقول: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة:27] لماذا تكون عدو نفسك يا بن الإسلام؟ الله يقول: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38] أنت تقول مالي مالي مالي، والحقيقة أنه ليس بمالك، وليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت، وما بقي فهو للورثة، يقول عليه الصلاة والسلام لأصحابه يوماً من الأيام: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما فينا أحد يا رسول الله، كل واحد منا يحب ماله، قال: بل كلكم مال وارثه أحب إليه من ماله، قالوا كيف؟ قال: ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت، وما سوى ذلك فللورثة).
وفي ذات يوم يذبح النبي صلى الله عليه وسلم شاة، فقامت عائشة رضي الله عنها فتصدقت بها كلها ولم تبقِ إلا الكتف؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب الكتف والذارع، قال: (ما صنعت الشاة؟ قالت: ذهبت كلها إلا الكتف، قال: لا.
قولي: بقيت كلها إلا كتفها) الذي نأكله هذا هو الذي ذهب، والذي أعطينا لله هو الذي يبقى؛ لأن الله يقول: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] (والمرء تحت ظل صدقته يوم القيامة).
يحدثنا أحد المشايخ في أبها عن قصة حدثت قبل خمسين أو ستين سنة عن رجل كان في جبال تهامة مسافراً وفي ليلة شاتية باردة مطيرة ومظلمة، فدخل في غار من المطر الذي كاد أن يقضي عليه، فدخل غاراً وإذا به قبر، كان الناس في الماضي يجعلون الكهوف قبوراً يقول: ونام هذا المسافر من البرد ومن الجوع والسفر والتعب، وبينما هو نائم رأى رجلاً في القبر ومعه امرأته وعندهم بقرة يحلبونها ويشربون من لبنها، لكن لفت انتباهه أن هذه البقرة ليس عليها جلد، والدماء تخرج من جسدها، ليس لها جلد وهي واقفة تحلب، فسأل الرجل: ما هذه البقرة ومن أنت؟ قال: أنا من سكان هذه القرية وقبل سنوات حصلت مجاعة عندنا في القرية، ورأيت الناس في حاجة وكان عندنا هذه البقرة فذبحتها لوجه الله وتصدقت بلحمها كله للفقراء والمساكين، غير أن جلدها أخذته وبعته، فلما مت أعطاني الله عز وجل هذه البقرة بدلاً من بقرتي فأنا أحلبها، لكن ما عليها جلد.
يقول: إنني أتأسف على الجلد، تمنيت أني أَتْبَعْتُ البقرةَ جلدَها حتى أُعطى بقرة بجلدها.
فأنت حينما تتصدق بشيء إنما تعطي نفسك، لكن إذا لم تعط نفسك وأعطيت أولادك، من الذي سيتصدق عنك؟ هل أبناؤنا الآن قد بلغ عندهم الوعي الديني أو الإيمان بالله درجة بحيث إذا متنا قالوا: سوف نعمل له عملاً خيرياً؟ لا.
ليس هناك أحد إلا النادر، وإنما يقولون: هذا المال مالنا أما أبونا فقد ذهب.
أحد الناس في مكة جاءته مائة مليون تعويضات فوضعها في البنك ولم ينفق ولا مرةً ريالاً واحداً، حتى أنه لا يمشي إلا في (شبشب) ومضيق على أولاده وحياته وساكن في شقة، وكل ليلة وهو يَعُدّ ويتصل بالبنك قائلاً: كم الرصيد؟ كم الأسعار؟ فيراه الناس دائماً مشغولاً بالمال وأخيراً مات، فلما مات، رأى أولاده -وكانوا ستة أولاد- أن حجر العثرة قد ذهبت من طريقهم؛ لأنه كان يحول بينهم وبين متاع الحياة، وكانوا يدعون الله غداةً وعشياً أن الله يقبض روحه حتى يتمتعوا بهذا المال.
فلما مات الرجل انطلقوا مباشرةً بعد أيام العزاء الثلاثة يجمعون مال أبيهم وأوراقه ورصيده واقتسموا الأموال وبدءوا مباشرةً يسحبون الرصيد، واشتروا لهم ست سيارات (مرسيدس بنز) كل واحدة تبلغ ثلاثمائة ألف، جاء عمهم من الطائف، وإذا بهم أصبحوا في عمارة في العزيزية، وإذا بالسيارات الفخمة واقفة تلمع كلها! فتعجب قائلاً: ما هذا يا أولاد؟ قالوا: اسكت يا عم، راح (أبو شبشب!) هل تريد أن تكون هكذا يا أخي؟ لا أكلت ولا أبقيت ولا قدمت، هل تعتقد أن هؤلاء سيبنون مسجداً لأبيهم أو شيئاً ينفعه في قبره؟ لا.
وإنما يقولون: لو كان فيه خير لوضع لنفسه، ما وضع لنفسه أنضع نحن عنه؟! وصحيح فيمن لا يضع لنفسه لن يضع له أولاده، فأنت لم تضع لأبيك فكيف أولادك يضعون لك؟! إذاً: الإنفاق في سبيل الله ليس للناس بل هو لك، فلا تكن عدو نفسك.(60/14)
الإنفاق في سبيل الله من علامات الإيمان
الإنفاق في سبيل الله نصرةً للدعوة من أعظم الدلائل على الإيمان بالله سبحانه وتعالى، فإن المال محبوب، وعندما يقدمه الإنسان يدل على أنه مؤمن، وأن له جدوى عند الله، ولهذا يقول أبو الدرداء: [من كان له كنز فليكنزه في السماء فإن القلب معلقٌ بالكنز] فقلبك معلق بمالك، ومالك عند الله، فيبقى قلبك معلق بالله دائماً.
لكن إذا لم تنفق فهذا برهان على أن إيمانك هزيل أو غير موجود؛ لأنك ترى أن الإنفاق ضياع ومهلكة لمالك، ولذا تقول: لا.
إذاً: الإنفاق في سبيل الله من أعظم الدلائل على الإيمان بالله عز وجل.(60/15)
الزكاة أحكامها ومصارفها
هناك مسألة مهمة جداً ينبغي أن تسبق قضية الإنفاق التطوعي، وهي قضية: إخراج الزكاة، فإن الزكاة ركن من أركان الدين، قرنها الله عز وجل بالصلاة في كل القرآن؛ لأن الصلاة عبادة بدنية قد يسهل على الإنسان أن يؤديها، لكن الزكاة عبادة مالية قد يصعب على الإنسان أن يدفعها، ولهذا فرضها الله سبحانه وتعالى وقرنها بالصلاة وسماها طهرة للمال، قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة:103] كأنهم متلوثون متنجسون في الدنيا، فإذا أخرجوا الزكاة طهرت أموالهم، وزكت أرواحهم، وأصبح إيمانهم قوياً بالله، لكن يوم أن يمنعوا الزكاة تتلوث قلوبهم وأموالهم؛ لأنهم عاشوا حياة الكفار، فالكافر لا يعطي شيئاً، وأنت تريد أن تكون مثله لا تدفع شيئاً حتى الزكاة، فلا بد من إخراج الزكاة أيها الإخوة! ولهذا قاتل أبو بكر الصديق مانعي الزكاة، وقال: [والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة] ولما أراد قتالهم قال عمر: [كيف تقاتلهم وقد شهدوا أن لا إله إلا الله؟ قال: إلا بحقها -وحقها الزكاة- والله لو منعوني عقالاً أو عناقاً كان يؤدونه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه] أي: كان يأتي صاحب المال بالفريضة ومعها العقال من أجل أن لا تفر، يقول: والله لو أتوا بالفريضة فقط ومنعوا العقال لأقاتلنهم عليه.
وهذا دليل على أنك لو كنت صاحب أعمال أن تتحرى الجرد في كل أموالك، ولا تخرج الزكاة بالتخمين، لأن بعض الناس يخرج بالتخمين، يأتي عند الدكان أو البقالة ويقول: نخمن، ما استطعنا أن نجرد.
وخمن، لو خمنت سوف تنقص لأن نفسيتك ناقصة، فلا تقبل إلا الجرد الكامل، لو أخرجت الزكاة كلها إلا ريالاً واحداً ما أخرجت الزكاة، مثلاً: زكاتك على ألف الألف ألفان ونصف، فأخرجت ألفي ريال وبقي عليك خمسمائة، أو أخرجتَ ألفين وأربعمائة وبقي عليك مائة، أو أخرجت ألفين وأربعمائة وتسعة وتسعين وبقي عليك ريال، فنقصُ ريال مثل نقص مليون.
مثل المصلي إذا صلى صلاة العشاء أربع ركعات ولم يبقَ إلا أن يسلم لكنه لم يسلم، وقام، ما هو حكم صلاته؟ باطلة؛ لأن التسليم ركن، كذلك الزكاة، لا بد أن تخرجها بعد أن تجرد مالك حتى تكون صحيحة مائة في المائة.
وإذا أردت أن تخرج الزكاة فليس على مزاجك! فإن الله تولى تقسيم الأصناف الذين تصرف لهم الزكاة، وما وكلها حتى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لعلم الله أن هناك تلاعباً وأهواء، مثلما هو حاصل الآن، أكثر الزكاة تذهب لغير المستحقين، فترى أحد التجار يرسل مائتي ألف أو ثلاثمائة ألف أو أربعمائة ألف ويقول: قسموها بمعرفتكم.
يعني: على مزاجكم! على من تضحك؟! ومن تخادع؟ أنت وزع زكاتك بنفسك، أو من تثق به ممن عرف بالدين، أو هيئة متخصصة في أخذ هذه الأموال ووضعها في المصارف الشرعية {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60] ثمانية أصناف إذا صُرِفَتْ الزكاة على غير هؤلاء لم يسقط الواجب، وبقيت الزكاة في ذمتك معلقة، إن الله لا يقبل إلا ما خرج وفق شرعه وكان خالصاً لوجهه سبحانه وتعالى.
وهناك -أيها الإخوة- مؤسسات وفق الله سبحانه وتعالى القائمين عليها للقيام بواجب الدلالة على الخير، وتشكل بهذا جسوراً بين المؤمنين المحسنين من رجال الأعمال، وبين المستحقين من الفقراء والمساكين، في داخل المملكة وخارجها، كما تقوم أيضاً بالدلالة على الأعمال الدعوية المتعددة، والفرص الخيرية المتاحة: كبناء المساجد، وتشييد المدارس والمعاهد، وحفر الآبار، وكفالة المدرسين، وطبع الكتب والأشرطة وتوزيعها، ومن أبرز هذه المؤسسات الموجودة في المملكة والحمد لله مؤسسة الحرمين الخيرية، والندوة العالمية للشباب الإسلامي، وهيئة الإغاثة العالمية الإسلامية، ولجنة توزيع الكتب الدينية التي توزع على الحجاج والمعتمرين والتي يشرف عليها فضيلة الشيخ طلال حفظه الله، والذي قام بهذا الدور العظيم الذي كان الناس في غفلة عنه، يأتي حجاج من بلاد أخرى مساكين لا يعرفون شيئاً، ويحجون ويرجعون وما عرفوا شيئاً عن الحج، فقام بدور عظيم وهو طباعة الكتب الإرشادية باثنتين وعشرين لغة، جميع اللغات التي يتكلم بها الحجاج المسلمون، والحاج ينزل من الميناء أو من الطائرة فيستلم كتاباً بلغته كيف تحج فيذهب ليحج على بصيرة، ثم يعيش فترة الحج وهو يقرأ.
ثم إذا أخذ يودع البلاد المقدسة أعطوه كتباً (هدية الحاج) ثلاثة كتب بلغته: كتاب في العقيدة، كتاب في العبادة، كتاب في الأخلاق، ويقدر عدد هذه الكتب في العام الماضي بخمسة ملايين كتاب، ما معنى خمسة ملايين كتاب؟ يعني خمسة ملايين أسرة يدخلها هذا الكتاب.
بل يخبرني أحد المشايخ فيقول: صار الحجاج ينسخونها الآن في بلادهم ويطبعونها ويوزعونها على بعضهم.
هذا عمل عظيم وخير عَمِيْم، ولذا فإن دعم مثل هذا العمل الخيري له أجر عظيم عند الله، هذا عمل دعوي مائة في المائة، لا يوجد إغاثة، لأنهم لا يشترون أرزاً ولا شيئاً وإنما يشترون كتباً ويوزعون أشرطةً، بل الآن عندهم مشروع الشريط القرآني بريال! ومشروع كتاب بريال! فأنت عندما تضع عشرة آلاف ريال ويشترى لك عشرة آلاف شريط جزء عم للشيخ سعود الشريم والشيخ عبد الرحمن السديس وترسلها خارج المملكة يحصل الخير الكثير.
نحن في بلادنا هنا لا نحس بقيمة العلماء؛ لأن (كثرة الإمساس تذهب الإحساس) لكن في بلدان المسلمين الأخرى هناك ألف مليون مسلم مبعثرون على وجه الأرض إذا سمعوا هذا الكلام تتقطع قلوبهم شوقاً إلى الحرمين الشريفين؛ لأن هذه الأصوات تذكرهم بـ مكة، فإذا سمع أحدهم شريطاً يسمعه وكأنك أهديته الدنيا كلها، وبريال! ريال (البيبسي) وريال الماء الذي ترميه، يا إخواني! مجالات عظيمة تتاح لنا ولكن نحن في غفلة عنها! هذه -أيها الإخوة- الأمور التي يمكن -إن شاء الله- لرجال الأعمال أن يستعينوا بها في مباشرة عملهم الرائد ودورهم البارز في خدمة هذا الدين، ولا نكون -أيها الإخوة- أقل حالاً من تجار النصارى واليهود، فإن عملية التنصير قائمة الآن على قدم وساق في العالم كله، مدعومة برءوس أموال التجار النصارى، يرسلون البعثات التنصيرية في دول أفريقيا، وآسيا، والأرض كلها، يحملون معهم الأدوية والأغذية والمال والكتب والأناجيل، وينشرون بين الناس دعوةً للباطل والكفر.
ورجال الإسلام الذين عندهم مال لماذا لا ينفقونه؟ فإذا كان صاحب الباطل ينشط في باطله أفلا ينشط صاحب الحق في حقه؟(60/16)
أحكام التجارة وآدابها
وما دام الكلام حول التجارة وما يتعلق بها فإني أرى أن أعرض عليها بشيء من التنبيه لعل هناك من يهتم بهذا الموضوع: التجارة مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] ويقول عليه الصلاة والسلام: (التاجر الأمين الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء) رواه الترمذي، وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالتجارة قبل البعثة، وعمل بها أكثر العشرة المبشرين بالجنة من الصحابة، وعملها كثير من الصحابة، وهي من أفضل طرق الكسب وأشرفها، ففي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام وقد سأل عن أطيب الكسب؟ فقال: (عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور) رواه الإمام أحمد في المسند بسند صحيح.
وبما أن التجارة مبرورة فلابد أن يكون لها أحكام وآداب:(60/17)
السماحة
أن يكون التاجر سمحاً، وأن يترفع عن التضييق والمشاحة في بيعه وشرائه، يقول عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) لأن بعض الناس إذا جئت تشتري منه أو تبيع منه يجف حلقك قبل أن يعطيك هذه السلعة، لا يا أخي، لتكن سمحاً، قل كلمةً واحدة، أعطِ الناس السعر وأرح نفسك، لكن لا تفاصل ولا تضيق حتى تحرج الناس وتخسر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.(60/18)
الصدق
الصدق في الأسعار؛ لا تكذب؛ لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (… التاجر الأمين الصدوق …) هكذا كان تجار الصحابة وتجار السلف صادقين لا يعرفون الكذب أبداً، وأحد السلف وضع غلامه مكانه وذهب يصلي، ولما رجع جاءه الغلام فبشره، وكان يبيع الشملات، الشملة بمائتي ريال، فقد قال الغلام لعمه: لقد بعتها بأربعمائة.
يعني كَسَّبْتُك، فالذي اشترى مسكين لا يعرف الأسعار، فباعها بأربعمائة.
قال: أين هو؟ قال: ذهب.
قال: اذهب وائت به.
فذهب ليبحث عنه فما وجده.
قال: ائت به وأنت حر لوجه الله.
فذهب العبد وجَدَّ في البحث إلى أن أتى به.
قال: سيدي يريدك.
قال: ماذا يريد مني؟ قال: يريدك.
قال: ألم أشتر أنا؟ قال: لا.
السعر ليس بصحيح.
فتصور الرجل أن البائع سيزيد في الثمن، ولما جاء إليه قال له: السعر الذي باع لك به الغلام غير صحيح.
قال: إني رضيت.
قال: لا، أنت اشتريت بأربعمائة والثمن مائتان، هذه مائتان أو خذ شملة أخرى.
قال: بارك الله لك في رزقك.
هؤلاء التجار بالفعل، لكن لو أن أحداً من تجارنا باع له عامله شيئاً بزيادة في السعر ماذا سيقول له؟ سيقول له: أحسنت! الله يبارك فيك.
ويمدحه؛ لأنه زاد له حراماً والعياذ بالله! فالصدق مطلوب، فقد كان التاجر إذا استفتح في أول النهار وجاءه مشترٍ يبيع له، فإذا جاء مشترٍ ثانٍ يقول له: اذهب لجاري لماذا؟ يقول: قد استفتحت، لكن الآن يراه من هناك فيناديه: تعال، لا تأتِ عند جاري، الجيد عندي والخبيث عند جاري! أين الصدق؟ وأين الأمانة أيها الإخوة؟! لا بد أن تكون صادقاً، والصدق في التجارة من أعظم أنواع الكسب؛ لأنك تكسب ثقة الناس، إذا عرف الناس أنك صادق في أقوالك فإن الناس كلهم يأتونك، وإذا عرفوا أنك كذاب تهامزوا عليك في كل مجلس وميدان، كذبت مرة ونجحت بها لكنك تخسر بعد ذلك في الدنيا وتخسر في الآخرة.(60/19)
بيان العيوب التي في السلع
بيان العيوب في السلعة؛ لأنك إذا بينت العيب بارك الله لك، وإذا كتمت العيب محقت بركة بيعك، مثلاً إذا أردت أن تبيع سيارة وأنت تعلم أن بها كسراً أو عطلاً، فمن الناس مَنْ إذا قلت له: بَيِّنْ السلعة.
قال لك: إذا بينتها نقص الثمن.
كذبت! نقص الثمن لكن ارتفع رصيدك عند الله، إذا أتيت بالسيارة وقلت: لا أعرف ما فيها.
فإنها تباع بعشرة آلاف، ولكن إذا قلت: السيارة بها عطل، فإنها تباع بخمسة آلاف، فماذا خسرت وماذا ربحت؟ خسرت خمسة آلاف لكن كسبت رضا الله سبحانه وتعالى، فبين، ولا يجوز شرعاً أن تقول: لا أدري، أو اكشف عليها، أو (سكر في ماء) لا ندري عنها.
لابد أن تبين العيب، يقول صلى الله عليه وسلم: (فإن صدقا وبينا بورك لهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما) ولهذا تجد أكثر الناس في بيعه وشرائه لا توجد بركة ولو كان رصيده بالملايين والعياذ بالله! ولا يرى إلا الفقر بين عينيه، لكن لو أن عنده تجارة شرعية لكان الإيمان يملأ قلبه، ورصيد الإيمان هو الذي يسهل له كل أموره في دنياه وفي آخرته.(60/20)
عدم المبالغة في الوصف لإغراء المشتري
عدم المبالغة في تزيين السلعة وإغراء المشتري في شرائها، ويدخل في هذا الإعلانات التجارية، فتراهم يبالغون حتى يصفوها بشيء ليس فيها، ولكن إذا وصَفْتَ فَصِفْها بالصدق ولا تبالغ، وإذا أعطيت السلعة وصفاً ليس فيها وبالغت فيه وترتب عليه شراء هذه السلعة فقد غششت المسلم، ومن غش مسلماً فليس من المسلمين، هكذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم.(60/21)
التبكير في العمل التجاري
ومن الآداب الشرعية: التبكير في العمل التجاري، وهذا ضائعٌ اليوم والله المستعان! ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا فقال: (بارك الله لأمتي في بكورها) إذا بكَّر التاجر من الصباح، والمزارع، والعامل تجد أحدهم يومه كله بركة، لا ينتهي اليوم إلا وقد أنجز كثيراً من أعماله، لكن إذا نام إلى الساعة العاشرة أو الحادية عشرة أَذْهَبَ بركة يومه، يُؤَذَّن للظهر والعصر والمغرب وكأنه لم ينجز شيئاً، ولا ينقضي له أمر، وإذا انقضى فبالكاد، البركة موجودة في عمل البكور، فحاول إذا كنت صاحب عمل تجاري أن تبكر.
والتبكير هذا يقضي على سهر الليل؛ لأن الناس الآن لماذا ينامون في الصباح؟ لأنهم يسهرون في الليل، وعلى ماذا يسهرون؟ يسهرون على معصية الله: على الأفلام والدشوش، والمسلسلات والشر؛ يترتب على هذا ضياع ليلهم ونهارهم، ودنياهم وآخرتهم إلا من رحم الله.(60/22)
عدم الاتجار في الحرام
من الآداب: عدم المتاجرة فيما حرم الله سبحانه وتعالى من الأشياء المحرمة مثل: الخمور والمخدرات، أو المفترات كالدخان، أو غيره من الخبائث.
لا تبع إلا الحلال؛ لأن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، حتى الدخان، فقد أفتى العلماء بحرمته ولذلك لا يجوز لك أن تبيع فيه وتشتري ولو كنت لا تشربه، لأن بعض الناس يقول: أنا والله لا أشربه لكن أبيعه.
وهذه هي المصيبة، ما من (سيجارة) تباع من دكانك إلا وعليك إثمها إلى يوم القيامة، ليتك تشرب فحسب، الذي يشرب يشرب (باكت)، لكنك بعت ألف (باكت)، فكان كما لو شربت ألف (باكت)، وعليك إثمها إلى يوم القيامة.
لا تبع الدخان؛ لأنك مسلم ومأمور بأن تحمي مجتمعك من هذه الشرور.(60/23)
تجنب الحلف حال البيع والشراء
تجنب الأيمان في البيع والشراء، فإن (الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة)، وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان في عطائه، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) لا تحلف على أي شيء ولو كنت صادقاً؛ لأنك إذا حلفت اليوم وكنت صادقاً حلفت غداً وأنت كاذب، لكن لا تحلف لا بَرّاً ولا فاجراً، إن الذي يجلب لك الزبائن هو صدقك، وأيضاً تنزيل سعرك، فأنت قد تبيع مثلاً سلعة بعشرة ريالات وهي في السوق تباع بخمسة ريالات، ويشتريها أحد الناس بعشرة وبعد ذلك يكتشف مع الأيام أنها بخمسة، هذا الشخص يتحول إلى لوحة دعائية ضدك في كل مكان، يحذر الناس منك.
لكن إذا بعتها بخمسة ريالات يصبح لوحة دعائية لك في كل مكان، يقول: فلان هذا يبيع بسعر جيد.
إذاً الذي يجلب لك المشترين هو الصدق، والمراعاة، وخفض الأسعار.
وهذا الأسلوب عند اليهود، فعقلياتهم تجارية ولهذا استحوذوا على رءوس الأموال، وإن كانوا لا يكسبون كثيراً في السلع، فمثلاً سلعة بريال يكسب فيها (قرشاً) ويبيع ألف سلعة، لكن بعض تجار المسلمين إذا كانت السلعة بريال يكسب فيها ثلاثة ريالات، فيبيع ثلاثة أرباع ويظل الباقي في متجره أو يرميه بعد ذلك، ثم يشتري بضاعة أخرى جديدة.
اكسب قليلاً حتى تيسر على الناس وأنت بالتالي تبيع بضاعتك، وتكسب أنت قبل أن يكسب الناس.(60/24)
الوفاء في الكيل والميزان والزرع
هذا مطلوب في التاجر؛ لأنه إذا نقص وطفف فقد توعده الله عز وجل بالويل: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:1 - 3] بل زد، فإذا بعت ورأيت أن الميزان قد استوى فزد قليلاً فذلك بركة وصدقة، وسيعود المشتري مرة أخرى إذا رأى أن وزنك جيداً، لكن إذا وزنت له بالتمام دون أدنى زيادة يقول: الله أكبر عليه، لو زاد في الميزان ولو قليلاً! ولا يرجع إليك مرةً أخرى، فزد له لك يزد الله سبحانه وتعالى.(60/25)
عدم ترك العبادات من أجل التجارة
عدم المتاجرة في الأوقات المحرمة التي حرم الله عز وجل البيع والشراء فيها، مثل: بعد الأذان الثاني يوم الجمعة؛ لأن الله عز وجل نهى عن ذلك فقال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9].
أيضاً: أوقات الصلوات، إذا أذن المؤذن فأقفل الدكان ولا تبع ولا تشترِ، وأي مشترٍ يأتيك بعد الأذان فهو شيطان يريد أن يصرفك عن الله، فقد كان الصحابة إذا كان الميزان في يد أحدهم وسمع المؤذن يقول: الله أكبر.
لا يكمل الوزن، ويقول للمشتري: اذهب وائتني بعد الصلاة؛ حتى يبارك الله له في تجارته.(60/26)
عدم التعامل بمعاملة محرمة كالربا
الحذر -أيها الإخوة- من البيوع المحرمة ومنها الربا؛ لأن الله أحل البيع وحرم الربا وهو رأس أو قمة البيوع المحرمة، الربا الذي فشا وانتشر ووقع فيه كثير من الناس في هذا الزمان كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من دلائل نبوته حيث قال: (يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا، ومن لم يأكله أصابه من غباره) فكثير قد أكلوا الربا والبقية في الغبار، أما التعامل السليم مائة بالمائة فلا يوجد أحد إلا من شاء الله، فاجتنب الربا؛ لأن الربا كبيرة من كبائر الذنوب، بل عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات -أي: المهلكات- وقرنه بالشرك بالله وقتل النفس والسحر والتولي يوم الزحف فقال: (وأكل الربا) وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خمسةً كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه) وما أذن الله بالحرب على صاحب ذنب كما أذن على صاحب الربا فقال: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:279] ومن حاربه الله غلبه.
وأخبر صلى الله عليه وسلم عن أقل الربا فقال: (الربا بضع وسبعون حوباً) أي: ذنباً، صورة، شكلاً (أدناها) يعني: أقل شيء، في الدرجة السفلى (كأن ينكح الرجل أمه) وهذا في سنن ابن ماجة وحسنه الألباني.
وفي مسند أحمد يقول عليه الصلاة والسلام: (درهم يصيبه الرجل من الربا أعظم من ست وثلاثين زنية في الإسلام) هذا ذنب ليس سهلاً، والله سبحانه وتعالى أخبر أنهم يقومون يوم القيامة كالذي يتخبطه الشيطان من المس، كل إنسان يقوم بعقله إلا صاحب الربا يقوم وهو يتخبط، قد أصابه الجنون بسب الربا، وإن صاحب الربا يبعث يوم القيامة وبطنه مملوءة بجميع الأموال الربوية كثرت أو قَلَّت، حتى إن بعضهم يأتي وبطنه مثل الجبل وجسمه هو نفسه، جسمه صغير لكن بطنه مثل الجبل مليئة بالسيارات والعقارات والعمارات، وهو يسحبها يوم القيامة، فارحم نفسك من هول ذلك اليوم.
بل في صحيح البخاري من حديث سمرة قال عليه الصلاة والسلام: (ثم أتينا على رجل يسبح في نهر من دم، وعلى طرف النهر رجل عنده حجارة، فيأتي ذلك الرجل الذي يسبح فإذا قرب من الشاطئ رماه بحجر في فمه، فيرجع إلى طرف النهر ثم يأتي) وتصوروا واحداً يسبح في دم، أنت إذا وقعت نقطة دم في ثوبك تتقزز، كيف بواحد يسبح في الدم! (قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا آكل الربا) هذا عذابه إلى يوم القيامة، فاتق الله في نفسك يا أخي! ما هو الربا؟ الربا ينقسم قسمين: ربا فضل وربا نسيئة، ربا الفضل: معاوضة مال بمال بزيادة، أعطيك عشرة آلاف وتعطيني أحد عشر ألفاً، نسبة: عشرة أو اثنان أو ثلاثة في المائة هذا ربا الفضل.
ربا النسيئة: لك مال عند إنسان وحان الأجل وما سددت فتقول له: سدد ما عليك أو زد ولا أسألك، عشرة آلاف ريال يجب عليك سدادها الآن أو أشكوك للجهة المسئولة.
فيقول لك: ما عندي.
وتقول له: حسناً، فلتكن المدة سنةً أيضاً وتصير أحد عشر ألفاً هذا ربا الجاهلية، نَسِّئْ وَزِدْ، فلا تعمل بهذا العمل.
ومنه ربا العينة، وهي: أن يبيع السلعة بثمن مؤجل ويسترجعها بثمن حال.
هذه اسمها عينة، لأنها حيلة على الربا، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم).
وجميع البيوع الأخرى المحرمة التي ليس هذا مجال تفصيلها ينبغي للمسلم أن يكون على فقه في دينه فيما يحل أو يحرم في معاملات التجارة، وإذا كان صاحبَ عملٍ كبير فليأخذ له رجلاً متخصصاً ليعمل عنده، مثلاً: إذا كان لا يعرف المحاسبة القانونية فليوظف شخصاً شرعياً ويقول له: اشرف على الأعمال، إذا كان هناك حرام فهو في ذمتك، أنا لا أريد حراماً، أنا أريد حلالاً في حلال.
هل تتوقع إذا عملت هذا أن الله سبحانه وتعالى سينقص مالك؟ لا والله، بل يزيده لأنك تريده (من ترك شيئاً لوجه الله عوضه الله خيراً منه).
هذه -أيها الإخوة- هي بعض الوصايا والآداب التي ينبغي لرجل الأعمال المسلم أن يتمسك بها في تجارته؛ حتى يجعل الله سبحانه وتعالى في تجارته بركة، ويعيش حياة مباركة، ويموت ويلقى الله سبحانه وتعالى وأمامه العمل الصالح الخير {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40].
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يجزي إخواننا الذين أتاحوا لنا هذا اللقاء والقائمين على مركز الدعوة والإرشاد واللجنة والغرفة التجارية خيراً، وأن يجزيكم أنتم خيراً في مجيئكم في هذه الليالي التي تكون المحاضرات فيها غير مقبولة وثقيلة؛ لأن الإنسان يخرج من صلاة التراويح والعشاء وقد تعب وهو بحاجة إلى أن يذهب ليتناول شيئاً من الطعام، وليؤانس زوجته وأهله، ولكن أجركم على الله سبحانه وتعالى.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(60/27)
الأسئلة(60/28)
الجمع بين الدعوة وممارسة التجارة
السؤال
كيف يستطيع رجل الأعمال أن يوفق ما بين الاهتمام بالدعوة وأمور الأمة ومشاكلها، وبين اهتمامه بالتجارة والبيع والشراء؟
الجواب
هذا أمر سهل جداً! بقليل من التفكير والترتيب والتنظيم يستطيع، بحيث يعطي لتجارته ما تحتاج من الوقت ويعطي لدعوته ودينه ما يحتاج من الوقت، ولا يُغلِّب جانباً على آخر؛ لأن الإنسان المسلم متوازن ومنظم، يعطي زوجته حقها، وأولاده حقهم، ويعطي التجارة حقها، لكن تغليب جانب على جانب يكون على حساب الجانب الآخر، فلا بد من التوازن والتفكير والتخطيط في تنظيم الأوقات، أما العشوائية والارتجالية في هذه الأمور فهذا يؤثر، لكن نقول: لا يترك الإنسان تجارته لأن المال السائب عرضة للسرقة، وإذا ضيعت مالك ضعت، بل احفظ مالك وأعطه جزءاً من وقتك، لكن احفظ -أيضاً- دعوتك ودينك وأعطها من وقتك، والناس الآن ليسوا في حاجة أن نوصيهم في مالهم فقد جنوا وعموا وصموا في مالهم، نحن نوصيهم في دعوتهم أما هذه التجارة فلا توصي عليها؛ لأن كل إنسان يحب نقوده.(60/29)
كيفية المبادرة لعمل الخير قبل التكاسل عنها
السؤال
لعل بعض التجار يتحمسون وينفقون ولكنهم سرعان ما يتركون هذا العمل، فما هي نصيحتكم لمثل هؤلاء؟
الجواب
أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، والمساهمة في العمل الإسلامي والدعوي بالعاطفة هذا معناه أنه لن يستمر؛ لأنك الآن تستثيرك الأحاديث أو الآيات أو الموعظة فتعزم، لكن تبرد ويفتح الشيطان أمام قلبك ملايين الأبواب من الفقر؛ حتى يصرفك عن عمل الخير، ولذا دائماً (اطرق الحديد وهو ساخن)، من يوم أن ترى في قلبك نشوةً للعمل الصالح فمباشرةً وقبل أن يصدك الشيطان أنفق، فإبليس لا يريدك أن تنفق ريالاً واحداً في سبيل الله، لكن لو أنفقت الملايين في سبيل الشر لن يقول لك الشيطان: لا.
أما في سبيل الله فهو أكثر قدرة في أن يردك عنها.
وأفضل الطرق للحرب على الشيطان في هذا الوقت: استعمال الوقف، وهذا كان شأن السلف، فإن السلف ما كانوا يجعلون الأعمال الخيرية مزاجية بل يجعلونها ثابتة، ينظر أفضل ماله ويوقفه لله، فلا يأتي الشيطان يرده بعد ذلك.(60/30)
دور الشباب في الدعوة
السؤال
لقد تطرقت في حديثك للأساليب التي يتخذها التاجر في الدعوة إلى الله، فما هو دورنا والأساليب التي لابد لنا منها نحن معشر الشباب الذين ليس لهم علاقة بالتجارة ولكن فينا من يحمل هم هذا الدين وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذا موضوع طويل جداً يحتاج أن نتكلم فيه؛ لأن أدوار الناس كثيرة، وكل شريحة من المجتمع لها دور، فالشباب لهم مجال عظيم في خدمة الدعوة إلى الله، وليس هذا مجال التفصيل في هذا، نحن نخاطب الآن التجار وفي مكان التجار، فالكلام لا يتعلق بالشباب، إلا أن لهم دوراً بارزاً ولكن مجال التخصيص فيه والتفصيل يحتاج إلى وقت، ونحن أطلنا عليكم وما نريد أن نفصل أكثر من ذلك.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(60/31)
سوء الخلق
لقد جاء الدين الإسلامي ناسخاً للأديان ومهيمناً عليها، ولقد كان العرب في الجاهلية يتمتعون بخصال حميدة، وصفات كريمة، فجاء الإسلام لتهذيبها وإقرارها، بانياً بذلك أساساً يوضح أهمية الأخلاق في حياة المسلم، وعلى النقيض من ذلك حذر أشد التحذير من سوء الخلق، مبيناً خطره على المسلم في الدنيا والآخرة؛ لأن سوء الخلق من الآفات التي لا يكاد يسلم منها حتى بعض الدعاة إلى الله، فضلاً عن غيرهم من المسلمين.(61/1)
الفرق بين حسن الخلق وسوء الخلق
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الأحبة في الله! عنوان المحاضرة: سوء الخلق، صوره ومظاهره، وأسبابه وعلاجه.
حسن الخُلق غرض من أغراض الدين, وهدف من أهداف بعثة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم, يقول في الحديث الذي رواه الإمام مالك في موطئه: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) فكان من أهداف بعثته صلى الله عليه وسلم التي منها إصلاح الأرض ودعوة الناس إلى عبادة الله وحده, وترك الشرك, وإلى عمارة الأرض بهذا الدين.
أيضاًَ من ضمن الأغراض للبعثة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم: إكمال مكارم الأخلاق, وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم منزلة حسن الخلق وعاقبته, وأثره على الإنسان, حتى قال صلى الله عليه وسلم: (كاد حسن الخلق أن يذهب بخيري الدنيا والآخرة)، وقال عليه الصلاة والسلام وهو يبين منزلة صاحب الأخلاق الإسلامية الفاضلة يوم القيامة، قال: (إن أقربكم مني منزلة يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً)؛ كلما كنت على خلق قويم، وخلق فاضل كان ذلك مدعاة إلى أن تكون قريبا ًمن منزلة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة, وقد أثنى الله سبحانه وتعالى وامتدح نبيه صلى الله عليه وسلم ووصفه بأنه على خلق عظيم فقال: {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:1 - 4] , هذا الخلق العظيم سئلت عنه عائشة رضي الله عنها -والسائل من الصحابة؛ يريد أن يعرف ما هو هذا الخلق الذي تحلى به النبي صلى الله عليه وسلم وامتدحه الله به وأثنى عليه- فلما سئلت قالت: (كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن)، فمن أراد أن يعرف خلق النبي صلى الله عليه وسلم فليتعرف وليقرأ القرآن ليجد جميع الصفات وجميع الكمالات البشرية، وجميع الخصال الحميدة التي جاءت في كتاب الله متمثلة بأعلى صورها وأعظم مقاماتها في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم, فهو أكرم الخلق، وسيد ولد آدم، وصاحب اللواء يوم العرض, وأول من تنشق عنه الأرض, وصاحب الشفاعة العظمى يوم القيامة, وأول من يدخل الجنة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم, فقد أوتي من الأخلاق ما لم يؤته أحد غيره حتى الأنبياء؛ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أعطوا من مكارم الأخلاق الشيء العظيم، ولما قص الله عز وجل أخبارهم قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] كل ما عند الأنبياء من فضائل هي مجموعة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم, ونحن مأمورون باتباعه, يقول الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، الأسوة والقدوة والمثال الذي ينبغي أن يقتدى به وأن يحتذى وأن يسار على طريقه: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم, لكن لمن؟ لفئة من الناس، قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21]؛ الذي يرجو الله ويرجو لقاء الله ويرجو اليوم الآخر ويذكر الله كثيراً قدوته محمد صلى الله عليه وسلم, لا يرفع رأسه بأحد إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهو الذي تميز به صحابته, حتى عد القرن الذي عاش فيه النبي صلى الله عليه وسلم خير القرون, وعد صحابته أفضل الخلق بعد الرسل, حتى تلقت الأمة كل أقوالهم بالقبول, وحكموا بعدالة كل صحابي حتى ولو جهل, ولهذا يقول العلماء من أهل الجرح والتعديل في الحديث: لا تضر جهالة الصحابي، فإن الصحابة كلهم عدول؛ لأنهم اتبعوا هذا الرسول صلى الله عليه وسلم, وتمثلوا أخلاقه, وساروا على هديه وسنته صلى الله عليه وسلم.
وسوء الخلق والعياذ بالله مناقض ومعارض لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ولحياة النبي صلى الله عليه وسلم, ولهذا يدل سوء الخلق على قلة التوفيق -والعياذ بالله- وعلى الخذلان لمن يكون سيئاً, وبعض الناس لا يدري ما هو سوء الخلق! تراه يظن أنه من أحسن الناس أخلاقاً وهو من أسوئهم أخلاقاً, نظراً لعدم وضوح القضية في ذهنه, يرى نفسه بمنظار الجمال والحسن والاستقامة والخلق، ولا يحكم على نفسه بنظرة غيره.
أنت لا تقيم نفسك! الذي يقيمك هو غيرك؛ لأن الإنسان كالجمل لا يرى عوجة رقبته؛ لأن رأسه وعيونه ترى الذي أمامه لكن لا يستطيع أن يلف رأسه ويرى عوجة رقبته التي هي أعوج رقبة في الدنيا, وكذلك بعض الناس مثل البعير لا يرى عيوب نفسه وعوجة رقبته, من الذي يراك؟ غيرك, ولهذا الله سبحانه وتعالى جعل هذه الأمة المحمدية شاهدة على الأمم، فقال: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143] وفي الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم وقد مرّ عليه بجنازة فأثنى الناس عليها خيراً فقال: (وجبت، ثم مرّ عليه بجنازة أخرى فأثنى الناس عليها شراً, قال: وجبت، فتعجب الصحابة، قالوا: يا رسول الله! ما وجبت؟! الأول ذكره الناس بخير وأثنوا عليه بالخير فقلت: وجبت, والثاني ذكره الناس بشر وأثنوا عليه بشر فقلت: وجبت -يعني: الاثنين سواء؟ - قال: الأول أثني عليه خيراً فقلت: وجبت أي: الجنة, والثاني أثني عليه شراً فقلت: وجبت أي: النار, لماذا؟ قال: أنتم شهداء الله على خلقه) , وأنت لا تنتزع الشهادة من الناس بالقوة أو بالإغراء أو بالمال، تنتزعها بالخلق, ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن تسعوهم بأخلاقكم) هل تستطيع أن تعطي كل الناس مالاً من أجل الثناء عليك؟ لا.
لا تقدر ولو كنت من كنت, لكن تستطيع أن توزع على العالم كله خلقاً؛ لأنه لا يكلف, كونك تبتسم في وجه أخيك المسلم, وتعوده وتكرمه؛ تكون صادقاً وتكون وفياً وتكون براً وتكون تقياً وتكون حليماً وتكون شجاعاً، وتكون صاحب مروءة، وصاحب نخوة وشجاعة، وصاحب أخلاق بمجموعها المعروفة, هذا تقدر عليه وبالتالي تفرض عليهم احترامك, ولا يجدون مدخلاً عليك ولا يستطيعون أن يسبوك أو يلوموك، لماذا؟ لأنك إنسان فاضل ذو خلق, حتى عدوك لو سئل عنك لقال: نعم.
لا أقول فيه شيئاً؛ لأنه لو قال فيك شيئاً لقال الناس: كذاب, فهو لا يريد أن يُكذَّب.(61/2)
صور ومظاهر سوء الخلق
ما هو سوء الخلق؟ وما صوره؟ وما مظاهره؟ وسوف نعرض إن شاء الله بشيء من التفصيل, ونضع النقاط على الحروف, ونشخص هذا المرض ليعرف كلاً منا هل هو حسن الخلق أم سيئ الخلق؟ طبعاً أنت أعرف بنفسك وليس هناك أحد أعرف منك بنفسك، يقول الله تعالى: {بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] لو العالم كله يعرفك بخلق وأنت تعرف نفسك بغيره فأنت على الذي ما في نفسك، أحياناً يتظاهر الإنسان ويبدي للناس دائماً الشكل الجميل الجذاب الطيب, لكن يخالفه, فيغالط نفسه، فهو يعرف نفسه حتى لو مدحه الناس, فأنت الآن أمام هذه الصور وأمام هذه المظاهر التي سوف أذكرها كعلامات على سوء الخلق طبقها على نفسك, فإن توفرت فيك هي أو أكثرها أو بعضها أو واحدة منها فلتعلم أن فيك من سوء الخلق بقدر ما فيك من هذه الصفات, وإن كان الله عز وجل عافاك وسلمك وليس فيك من هذه الصور كلها فلتحمد الله، فإن حسن الخلق من أعظم ما يمنّ الله سبحانه وتعالى على عبده المسلم, (إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم) قسمة الأخلاق مثل قسمة الأرزاق, شخص مليونير وآخر صفر في المال, وكذلك شخص مليونير أخلاق, وآخر ما عنده أي صفة أخلاق، سيئ خلق في كل شيء والعياذ بالله, فماذا تصنع إن كانت الأخرى؟ عليك أن تنتبه للعلاج وتتلافى الأسباب حتى ترزق وتوهب من قبل الله سبحانه وتعالى خلقاً تسعد به في الدنيا وتسعد به يوم تلقى الله سبحانه وتعالى.(61/3)
الغلظة والفظاظة والعنف
أولاً: الغلظة والفظاظة والعنف: دائماً تجد سيئ الخلق غليظاً دائماً, وفظاً دائماً, وعنيفاً دائماً مع نفسه ومع زوجته وأولاده، ومع جيرانه وزملائه في العمل، ومع مرءوسيه ورؤسائه, غليظ مثل الحجر, لا تعرف الابتسامة إلى وجهه طريقاً, ولا تعرف الكلمة الطيبة إلى لسانه مسلكاً, وإنما ناشف! وهذا ليس من حسن الخلق, كان النبي صلى الله عليه وسلم هيناً ليناً صلى الله عليه وسلم, والمؤمن هين لين, يلين مع إخوانه يبتسم لإخوانه, إذا دخل إلى بيته رأيت علامات الخلق وهو من عند الباب, حتى من طرْق الباب, ثم يبدأ بيته بالسلام, يدخل على زوجته ويسلم، بعضهم لا يسلم على امرأته, بل من وقت أن يدخل وعينه مفتوحة على الأخطاء، فإن رأى خطأ يخرج ما في نفسه المملوءة بالحقد على هذه المسكينة, وهي تنتظره، مسكينة! من تتوقع أن يدخل على زوجتك غيرك؟! طوال اليوم ترقبك من أجل أن تدخل وأنت تفاجئها بهذا الخلق وبوضع النظر وتسليطه على السلبيات والأخطاء! وهل هناك بيت يسلم من الأخطاء والسلبيات؟ لكن سيئ الخلق كالذباب لا يقع إلا على القذر, يرى الأشياء الحسنة فلا يشكر, لكن يرى سيئة واحدة فيندب، لماذا؟ لأنها توافق الرغبة وتوافق التركيبة التي في داخله, تركيبته النفسية فض غليظ عنيف شديد, لا يريد أن يكون ذا خلق طيب, فإذا رأى أي شيء استثار هذا وأخرج من بضاعته التي امتلأ بها جوفه وبدأ يكيل السباب والشتائم والعنف وربما الضرب! لماذا لا تطفئون الكهرباء؟ لماذا الصنبور يصب منه الماء؟ لماذا الباب مغلق؟ لماذا تأخر الغداء؟!! ما كنستم البيت!! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, حسناً ادخل وقل: السلام عليكم الله يمسيكم بالخير كيف حالكم وكيف يومكم، عساكم طيبين؟ وبعد ذلك إذا كان هناك أخطاء عالجها بلطف وحكمة, ما كان اللين في شيء إلا زانه، وما كان العنف في شيء إلا شانه, تتحطم الأسر وتتفرق, ويتشتت شملها بأسباب سوء الخلق, دخل رجل -وقد جاءني في أبها يستفتي- دخل على زوجته وقد تأخر وكان معزوماً على الغداء وما أعلمها, وذهب وتغدى هو وزملاؤه في المنتزه, وهي مسكينة جلست تنتظر إلى الساعة الثانية والنصف, أولادها يريدون الغداء قالت: لا.
والله لا تذوقونه حتى يأتي أبوكم, تحسب أن أباهم قلبه معهم, أبوهم على لذاته وشهواته وما كأن هذه بشر ولا كأن عندها أولاد, وأصبحت الساعة الثالثة وما قد جاء! فبدأت الهواجس في نفسها: ما الذي أخره؟ لا إله إلا الله! يمكن حدث له حادث, يمكن مات في الطريق, وهو يأكل في المنتزه! فنام الأولاد فلما رأت أن الشمس غربت اتصلت بأهله، وكادت تتصل بالجهات المرورية والأمنية لتسأل عنه, ولم تذق الغداء -مسكينة- وأولادها أعطتهم من الغداء في غير وقته, وبعد صلاة المغرب جاء أخونا, ووقت ما دخل -طبعاً هي غضبانة- عليها وسلّم, وردت السلام بصوت فيه نوع من التأثر؛ لأنها بشر, ولما دخل وقعد في الغرفة رأى عود كبريت مكسوراً قال: لماذا ما كنستم المجلس؟ قالت: ما شاء الله عليك! ما عينك إلا على نظافة المجلس! وأنت مضيع لنا من الصباح ما جئتنا ولا أخبرتنا, قال: ما دخلك! أنا تحت أمرك؟! قالت: ما في مانع لكن أخبرنا, قال: لماذا؟ هل أنا عسكري عندك؟ أنا موظف حتى أستأذن؟ قالت: عجيب! وما أنا بإنسانة في بيتك, المهم كلمة منها وكلمة منه حتى تطور الأمر وأخيراً قام وضربها على وجهها, وما إن ضربها حتى قامت دافعت عن نفسها وضربته على وجهه-واحدة بواحدة والقلوب نظاف- وما إن ضربته على وجهه لم يصبح عنده إلا استعمال السلاح المدمر، السلاح النووي لدى الرجل وهو الطلاق, وقال: أنت طالق بالثلاث, فإذا الأولاد يصيحون والبنات ينحن, والمرأة رجعت غرفتها وأخذت تأخذ ثيابها وأغراضها تريد أن تمشي, وهو يرى نفسه أنه خاسر امرأته وأولاده, فما السبب؟ سوء تصرفه وخلقه السيئ! فسوء الخلق -أيها الإخوة! - يبدأ مع زوجتك, ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لأهله, وأنا خيركم لأهلي) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم, حصل في يوم من الأيام في بيته خلاف عائلي بينه وبين عائشة كما يحدث بين الرجل وامرأته ولكن خلاف بسيط, فاستدعى الرسول صلى الله عليه وسلم والدها أبا بكر من أجل أن يحل المشكلة البسيطة, فلما جاء أبو بكر رضي الله عنه وأراد الرسول أن يتكلم -يعرض القضية- قامت عائشة بسرعة النساء وقالت: (أحلف عليك يا رسول الله ألا تقول إلا الحق, وأبو بكر بجانبها فلطمها وقال: أو يقول رسول الله غير الحق يا عدوة نفسها؟! -تحلفين عليه أنه لا يقول إلا الحق وهو لا يقول إلا الحق؟ هل يكذب صلى الله عليه وسلم؟ - ولما لطمها قامت وذهبت وراء ظهر الرسول صلى الله عليه وسلم, تحتمي به من أبيها, فالرسول صلى الله عليه وسلم أوقفه وقال: ما دعوناك لهذا يا أبا بكر! -دعوناك تصلح لا تضارب- فقالت: لا تخبره يا رسول الله بالأمر).
فالشاهد أيها الإخوة! أن سوء الخلق من مظاهره الغلظة، لا تكن غليظاً، بعض الناس حتى مع أولاده لم يسلم على ولده من يوم خلق! الأقرع بن حابس رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن , قال: (أوتقبلون صبيانكم؟ قال: نعم.
قال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً, فقال عليه الصلاة والسلام: من لا يَرحَم لا يُرحَم) , كان يقبل أبناءه صلى الله عليه وسلم, وكان يأخذهم في حجره, بل كان وهو يصلي يمتطي الحسن ظهره وهو ساجد, فلا يرفع الرسول صلى الله عليه وسلم ظهره حتى ينزل, ولما سلم استغرب الصحابة طول السجود, فقال: (إن ابني هذا ارتحلني -أي: ركب علي- فكرهت أن أزعجه حتى نزل) , اللهم صل وسلم على رسول الله، إذا أتى الآن شخص يصلي وجاء الطفل من أمامه لطمه, لماذا تأتي من أمامي؟ فيقول الولد: لماذا لطمني؟ من أجل أنه يصلي، إذاً الصلاة هذه ليست طيبة!!! فتنشأ في نفس الولد عقدة ضد الصلاة التي لطم من أجلها، بل قطع صلى الله عليه وسلم الخطبة عندما رأى الحسن يدخل من باب المسجد وكان ثوبه طويلاً فجعل يتعثر, فقطع الخطبة ونزل وأخذه, ورجع إلى المنبر وأكمل الخطبة, هذا من كمال رحمته صلى الله عليه وسلم! فإذا أردت أن تكون من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فانزع هذا الخلق كلياً.
لا تكن غليظاً, ولا تكن شديداً, ولا تكن عنيفاً, وإنما كن هيناً ليناً بسيطاً طيباً مع زوجتك وأولادك، ومع جيرانك ومع زملائك في العمل، ومع رؤسائك ومرءوسيك ومع الدنيا كلها, لماذا؟ يقول عليه الصلاة والسلام: (إن أقربكم مني منزلة يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبعدكم مني منزلة يوم القيامة كل عتل جعظري مستكبر)، هذا الغليظ العنيف، تراه دائماً مكشر الوجه, مقطب الجبين, دائماً غاضب حتى على نفسه والعياذ بالله, هذا مظهر وصورة من صور سوء الخلق.
قس نفسك واعرف نفسك، لا أحد يعرفك, إذا دخلت البيت ففرح بك أهلك فأنت ذو خلق حسن, وإن دخلت البيت قالوا: جاء العفريت! فأنت ذو خلق سيء، بعض الناس إذا دخل بيته استيقظ النائم, وقعد القائم, وقام القاعد وحصلت طوارئ! وبعضهم إذا دخل بيته ينهال عليه أفراد أسرته, هذا يتعلق في رقبته وهذا يسلم عليه, والمرأة تستقبله، لماذا؟ لأنه جاء روحهم, وجاء حياتهم, وجاء نورهم, جاء الذي ينتظرونه, رب الأسرة، هذا الذي يجدون عنده الحنان, ويجدون عنده العطف, ويجدون عنده الشفقة، يمسك هذا على يده ويسلم عليه, ويأخذ الصغير يلاعبه, والكبير يلاطفه, والبنت يسألها: كيف الدروس؟ كيف أنت اليوم؟ طيبة جيدة ما شاء الله، هكذا الأخلاق, هذا من حسن الخلق.(61/4)
سرعة الانفعال وشدة الغضب
المظهر الثاني من مظاهر سوء الخلق: سرعة الانفعال وشدة الغضب, بعض الناس مثل الدافور! بمجرد أن تقول له كلمة انفعل, وبعض الناس هادئ, الهادئ هذا هو صاحب الخلق الحسن, أما صاحب الخلق السيئ فهو سريع التأثر سريع الغضب, وأيضاً يتصرف ويبني على سرعة هذا الغضب أحكاماً وتصرفات يندم عليها بعد ذلك, ولهذا جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أوصني يا رسول الله؟ قال: لا تغضب, قال: زدني يا رسول الله؟ قال: لا تغضب, قال: زدني يا رسول الله؟ قال: لا تغضب) ثلاث مرات, ووجّه النبي صلى الله عليه وسلم أمته أنه إذا غضبت وأنت واقف فاجلس, وإذا غضبت وأنت جالس فاضطجع, وإذا اضطجعت وما زلت غاضباً فابحث لك عن أرض فيها تراب واقعد فيها من أجل أن تمتص الأرض غضبك, ثم استعذ بالله، يقول تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200]؛ لأن هذا الغضب من الشيطان, ولهذا الذي يغضب لا يستعيذ من الشيطان, أي شخص يضارب أو يخاصم قل له: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ماذا يقول؟ يقول: ما علمت ما فعل هذا وهذا لكن لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, سيخرج الشيطان وتهدأ الأمور, ولذا ترون الذي في حالة الغضب عروقه تنتفخ وتبرز؛ لأن الشيطان شغال فيها, الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، أي: في العروق, وإذا اشتغل الشيطان انتفخت عروقه، فتبرز عيونه ثم تأتيه رعشة -تكهرب- فيشتعل في أي شيء, يطلق زوجته وهو غضبان ثم يندم, يقتل وهو غضبان ثم يندم, يضارب يشتم وهو غضبان, ثم إذا ذهب الغضب ندم وتأسف ولكن حين لا ينفع الندم.
فحاول يا أخي! ألا تكون سريع الغضب وإن جاءك الشيطان من باب الغضب فاستعذ بالله.(61/5)
بذاءة اللسان
المظهر الثالث من مظاهر سوء الخلق: بذاءة اللسان, وهو ألا يتلفظ إلا بأبشع وأقبح الألفاظ, وهذا منافٍ لحسن الخلق, الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث: (ليس المؤمن باللعان, ولا بالطعان, ولا بالفاحش, ولا بالبذيء) , لا يخرج المسلم من لسانه إلا الكلام الطيب, وابن القيم يقول: القلوب كالقدور, والألسن مغاريفها, فإذا أردت أن تعرف شخصاً فارقبه حتى يتكلم، فإذا تكلم ظهر على لسانه ما كان في قلبه, إذا كان في قلبه خير ظهر على لسانه, وإن كان قلبه مليئاً بالشر ظهر على لسانه, والناس أوعية مختومة ومفاتيحها ألسنتها, فبعض الناس لسانه بذيء لا يتكلم إلا بالكلام الساقط, حتى إذا تحدث في القضايا تحدث بالكلام السيئ, بينما المؤمن يعف نفسه ولا يتكلم إلا بالكلام الطيب, ويستحي أنه يقول كلاماً غير لائق.
القرآن الكريم يعلمنا الأخلاق، والذي تمثله النبي صلى الله عليه وسلم حينما ذكر قضية لقاء الرجل بامرأته في الحلال، قال سبحانه: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] انظروا التعبير البياني البليغ, وقال سبحانه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] وعائشة رضي الله عنها في الحديث الصحيح تقول: (ما رأى مني رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا رأيت منه) انظر الألفاظ! لم تأت بالألفاظ الأخرى, ولم تأت بالألفاظ الجارحة الفاضحة، هكذا أيها المسلم! لا تقل إلا لفظة طيبة؛ لأنك طيب, والمؤمن لا يخرج من لسانه إلا طيب.
أما من يتخصص باختيار الألفاظ البذيئة ولا تجد على لسانه إلا السباب والشتائم حتى في تعامله مع المرءوسين عنده، مثلاً يكون في منصب أو رتبة أو في شيء فلا ينادي الموظفين عنده بأسمائهم، بل يقول: أنت يا متين، أنت يا طويل، أنت يا قصير، لماذا تسمي الناس بغير أسمائهم؟ لماذا تتعمد إساءتك إلى الناس بألفاظك هذه؟ أتدري أنك بهذه الألفاظ تسقط نفسك من عيون الناس؟ حتى ولو كنت مسئولاً كبيراً, يصبرون عليك لكن من داخل نفوسهم يقولون: الله أكبر عليه، الله يأخذ هذا العفريت وإذا جاءتك إحالة على المعاش أو مصيبة قالوا: الله لا يرده, ما كان يترك كبداً بارداً والعياذ بالله! فالبذاءة في اللسان من علامات سوء الخلق, يجب أن يكون لسانك نظيفاً, ولا يتكلم إلا بما هو نظيف.(61/6)
قلة الحياء
من صور سوء الخلق: قلة الحياء؛ لأن الحياء من الإيمان، كما جاء في الصحيحين قال عليه الصلاة والسلام: (الإيمان بضع وسبعون -وفي رواية البخاري: بضع وستون شعبة- أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) , وقد تمثل النبي صلى الله عليه وسلم بأكمل الحياء حتى كان أشد حياءً من العذراء في خدرها, وكان يرى للحياء أثراً في وجهه حتى لكأنه يفقع في وجهه حب الرمان, أي: يحمر وجهه من الحياء صلوات الله وسلامه عليه وهو سيد الخلق.
فبعض الناس ليس عنده حياء ولا يستحي, لا يستحي أن يقول زوراً, ولا يستحي أن يقع في منكر, أو أن يرى في مكان لا يليق, هناك رجال من يوم أن خلقوا إلى الآن لم يدخلوا قهوة, لا يستطيع أن يدخل القهوة، يقول: والله لو أموت جوعاً لا أدخلها، لماذا؟ قال: لأنها لا تصلح, انظر إلى الحياء! وبعضهم بالعكس أحسن مكان عنده القهوة, حتى قال شاعرهم:
أعز مكان في الدنا بطن قهوة وخير جليس خنفس وكلاب
بينما الأول يقول:
أعز مكان في الدنا سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب
وسرج سابح أي: ظهر جواد، لكن تغير هذا الجيل وأصبح أحسن مكان عنده القهوة, تراه في البيت يضيق مع زوجته ومع أولاده، قالوا: اسمر معنا, قال: لا.
أذهب أعمر الشيشة, ويدخل في القهوة وتأتيه الشيشة بعنقها الملوي، وبريحتها العفنة، وقد مصها قبله أكثر من واحد, حتى قال فيها الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله:
كذلك معشوقة الشيطان قد نصبت بها فخاخ لأرباب الجهالات
وإذا انتهى مسحها وقال لزميله: خذ, (من أجل ذاك وقبلها ذاك وذاك) وإذا انتهى قال: هات الورق والكيرم والدمنة إلى آخر الليل, والله إن الذي فيه حياء يستحي أن يمر من الشارع الذي بجانب القهوة، فضلاً عن أن يدخل فيها أو يقعد فيها، فقلة الحياء مظهر من مظاهر سوء الخلق.(61/7)
البخل
من مظاهر سوء الخلق: البخل؛ وهو: عدم القيام بالواجبات الشرعية في الإنفاق, فإن الله سبحانه وتعالى أوجب على الرجل أن ينفق على أهله وعلى ضيفه، وعلى الوجهات الشرعية المطلوبة, ولكن باعتدال وتوازن فلا تبذير وإسراف، ولا بخل وتقتير, وإنما وسط، ولذا يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67] وقال عز وجل: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء:29] هذه منزلة الكرم؛ لأن منزلة الكرم وسط بين البخل والتبذير, فبعض الناس بخيل وبعضهم مبذر, وكلا الخُلقين مذموم، والخلق الصحيح: الكرم, وكان صلى الله عليه وسلم أكرم من الريح المرسلة, وأكرم ما يكون في رمضان, لكن كان كرمه مقيداً، لا يتكلف مفقوداً ولا يبخل بموجود, إذا أتاه أحد يدخل بيته يقول: أعندكم شيء؟ فإذا لم يكن عندهم شيء لا يذهب ليستلف مثل بعض الناس الآن, بعض الناس فقير وما عنده شيء، فإذا أتاه الضيوف ذهب ليستلف ويذبح الكبش من ظهور القبائل, وبعد ذلك لا يسدد، ويموت وما زالت ذمته غارقة في كرم أخرق! هذا ليس بكرم, الكرم بالموجود، ولو كان ما عندك إلا فنجان ماء قدمه وقل: ما عندنا إلا هو, يقول: الله يخلف عليك.
أما أن تذهب وتذبح بالدين وإغراق ذمتك وذمة الناس من أجل أن تظهر أمام الناس بأنك كريم فهذا ليس بكرم, هذا إسراف وتبذير, وبعضهم يقدم للضيف ما لا يأكله, مثلاً الضيف شخص وذبح له ذبيحة, ويأتي ضيف آخر ويقول: والله لا أضع فلاناً مع فلان! لا بد له من رأس، ثم يذبح اثنين وقال: الله يحييكم على شرف فلان وفلان!! لماذا؟ هل سيأكل الذبيحة كلها؟ لماذا؟ هل مع الرجل بطن أم قلاب؟ وهل تدري أنك عندما خصصت له ذبيحة أنك أهنته لأنك حملته ديناً في ظهره؟ بمجرد أن يراك في قريته أو مدينته يقول: يا ليته ما جاء! لماذا؟ قال: والله ذبح لي في الرياض فلابد أن أذبح له ذبيحة! فلماذا تحمل الناس ديوناً؟! فلو أنك أدخلته في الذبيحة الأولى سيأكل هنيئاً ويقول: الله يخلف عليك, هذه العادات والأعراف كانت في الجهل، أما اليوم والحمد لله الناس تعلموا, والناس فقهوا, والناس تثقفوا، فلا ينبغي أن تتمسك بالعادات التي ما أنزل الله بها من سلطان, عادة الكرم عادة محمودة في العرب، لكنها معتدلة ليست مطلقة بحيث يقع الناس في الإسراف والتبذير, وتبديد الثروات فيما لا مصلحة منه ولا فائدة ولا طائل, لا.
الإسلام وسط, فالبخل من سوء الخلق.
والبخل يجعل صاحبه يقتر على أهله ولا يأتي لهم بما تعود الناس بحسب المستوى المعيشي للأمة, الناس يأكلون في بيوتهم كل يوم لحمة بينما هذا لا يأتي لهم بلحمة! يقول: اليوم الغداء خبز وشاهي!! قالوا: والعشاء؟ قال: جبنة وخبز, قالوا: والفطور؟ قال: ما يحتاج الفطور! الفطور غير مناسب! فهذا بخيل.
هناك قصة ذكرها أحد الكتاب في كتاب سيار في الرياض يسمونه أبو الرءوس، وفي المنفوحة عنده أراض وبيوت من قبل أربعين سنة, وعنده عمارات لكن الرجل متخصص في شراء الرءوس, إذا جاء المجزرة لا يشتري إلا الرءوس, لا يشتري اللحم, ويشتري الكروش ومعها الأمعاء, ويجمعها ويذهب بها إلى امرأته, قالت: ما في غيرها؟ قال: أبداً أحسن ما في الذبيحة الرأس: فيه العيون وفيه المخ وفيه المسامع, والرجل ما فيه إلا رأسه, والذبيحة ما فيها إلا رأسها, حتى إن المسكينة انذبحت من رأسه, ومرت الأيام والرجل لا تراه إلا يراقب الرواتب من أن تصرف ويذهب يأخذ الديون, فيذهب إلى صاحب الدين ويصلي العصر عنده، فإذا لم يجده صلّى المغرب، يرقبه في المسجد فإذا لم يأت قعد حتى صلّى العشاء فإذا به لم يأت، فتعجب فسأل عنه قالوا: غير موجود يمكن أنه مسافر, وكان في المسجد رجل عليه علامة الخير وعلامة العافية والصحة، مظهره حسن وريحته حسنة, رأى الرجل فإذا به جالس في طرف المسجد ظن أنه فقير أو شحاذ, فأتى إليه وقال: يا فلان قال: نعم.
قال: تفضل معنا نتعشى, فقال: حاضر جزاك الله خيراً, وهذا البخيل فرح بالعشاء من أجل أن يوفر العشاء في البيت لليلة ثانية, فذهب معه البيت وأدخله البيت، وإذا به ما شاء الله! البيت مزهر والنور والفراش الحسن, ويضع ذاك العشاء الطيب, فهذا استغرب وقال: هذا أمير أو موظف كبير أو تاجر من رجال الأعمال فسأله فقال: ما عندك من عمل؟ قال: ليس عندي أي عمل, فقال له: ما وظيفتك؟ قال: ليس عندي وظيفة, فقال له: أعندك تجارة؟ قال: ليس عندي تجارة, فقال له: فمن أين هذه الفلوس وهذه الخيرات، من أين تأتيك؟ قال: من الله عز وجل، الله رازقنا! فقال له: كيف رازقك؟ قال: والله أنا متخصص والحمد لله في مراقبة الناس الذين يموتون وهم بخلاء, وما إن يموت أحدهم حتى أذهب وأتقدم لزوجته وأرى ما كان من خير وراءه, فقال له: أصحيح؟ قال: نعم.
قال: وهناك بخيل في المنفوحة يقولون له: أبو الرءوس، والله إني أرقبه إلى أن يموت من أجل أن آخذ ماله!! فقال له: وتفعل هذا؟ قال: نعم.
فوقعت في قلبه، وبعد أن انتهى من العشاء استأجر سيارة أجرة بعشرة ريال، وأول مرة في حياته يستأجر سيارة، فقد كان يمشي بالأقدام حتى يصل إلى بيته! فنزل في السوق ويأتي بسيارة ويحملها كيس أرز وكيس دقيق وكيس سكر وصندوق شاي, ومن قبل كان لا يأتي إلا بالقرطاس! وعلى هذا لا يعطي المرأة، عنده شنطة عليها أقفال ويخرج لها بالحبة, لكن الآن جاء بالسيارة وهي مليئة بالملابس والطيب والصابون والخيرات, ويأتي بالسيارة على الباب ويفتح الباب وينادي: يا أم فلان قالت: نعم.
هي تعرف ما معه, ما معه إلا رءوس, قال: تعالي أنت والعيال, قالت: لماذا؟ -لأنه معودهم أنه لا يأتي بشيء- قال: تعالي احملي, قالت: ماذا نحمل ما الذي جئت به الآن! لعلك لم تترك رأساً واحداً في المجزرة؟ قال: لا.
تعالي هناك أخبار طيبة, فنزلت المرأة ورأت ما في الباب وقالت: من الذي أعطانا؟ قال: تعالي احملي واستدعي الأولاد، ففرح الأولاد عندما رأوا الخيرات، ويقوم الرجل صاحب السيارة ينزل الأكياس والمقاضي, والأولاد أخذوا الحلوى, والصابون أدخلته المرأة في الحمام؛ لأنه ما كان يشتري الصابون, يقول: الصابون هذا يخرب ويحرق الأجساد, والوسخ يجعل الجسم قوياً! والصابون يقطع القماش، وإذا غسلت القماش كل يوم تقطع القماش، اتركوا الغترة وسخة إلى أن تتقطع من نفسها!! ثم تغسلت وغسلت أولادها وعطرتهم بعد أن كانت ريحتهم منتنة من الكروش والرءوس التي كان يشتريها, ويدخل وإياها في ذاك الليل ويرتاحون, وليلة طيبة, وفي الصباح قالت: يا ابن الحلال! ما الذي حصل؟ وما الذي غيرك؟ قال: العلم عند الذي يرقب أبو الرءوس.
فالشاهد يا أخي الكريم! لا تكن بخيلاً, فإن البخيل بعيد من الله, بعيد من الناس قريب من النار, والكريم قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة: (لما خلق الله جنة عدن قال لها: تكلمي؟ قالت: قد أفلح المؤمنون, قال: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل) فلا تكن بخيلاً, ولا تكن أيضاً مسرفاً ولا مبذراً، وإنما كن وسطاً معتدلاً, أكرم الضيف إذا أتاك لكن لا تذهب تستلف له, أعطه الموجود في بيتك, وإذا رأيت الضيف لا تتجنبه، اعزمه ولكن لا تحلف عليه؛ لأن بعض الناس يحرج الضيف، والأولون كانوا يحلفون؛ لأن الضيف متشوق للعزيمة لكن يستحي أو لا يريد أن يثقل, الآن لا.
الضيف هو صاحب الفضل, والناس ظروفهم تغيرت، فإن حلفت عليه أو طلقت فقد قيدت حريته وضايقته, ولكن اعرض عليه الكرامة وأكدها ثم إذا اعتذر فاعذره؛ لأن الإكرام محبة لا بإكراه ولا قيد.
هذا مظهر من صور سوء الخلق.(61/8)
الغيبة
من سوء الخلق -أيها الإخوة- ومن مظاهره: الغيبة, وهي داء وبيل -والعياذ بالله- ينم عن خلق ذميم فإن الذي يغتاب الناس يريد أن يرفع نفسه على أكتاف الآخرين, وقد حرمها الشرع, وقال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: ذكرك أخاك بما يكره -فأي شيء يكرهه أخوك المسلم أن تذكره في غيبته فهذه غيبة- قال: أرأيت يا رسول الله! إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته, وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) , فإما بهتان أو غيبة والعياذ بالله, والغيبة أعظم الكبائر والعياذ بالله وهي من الموبقات, حتى عدها الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم من الزنا, والله تعالى يقول: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12] , فشبه الله المغتاب بمن يأكل لحم أخيه ميتاً, ما رأيك لو رأى رجلاً ميتاً وأخذ السكين وقطع من ظهره وأخذ يأكل؟!! أعوذ بالله, هذا هو المغتاب, ثم إن المغتاب يبدد حسناته ويضيع أعماله، قد يصلي ويصوم لكن يهديها للناس, فلا تكن مغتاباً ولا تكن -أيضاً- سامعاً؛ لأن السامع هو أحد المغتابين، الغيبة لا تتم إلا من طرفين, ليس هناك أحد يغتاب وحده، لا بد من أحد يسمعه, فإذا سمعته فأوقفه, أما إذا أعطيته إشارة وشجعته على الغيبة فأنت أحد المغتابين، وعليك من الإثم مثل ما عليه.(61/9)
النميمة
أيضاً من سوء الخلق: النميمة, وهي: نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد, يسمع الإنسان كلاماً في مجلس فيذهب إلى الآخرين الذين تُكلم فيهم بدل من أن ينصح ويذب عن عرضهم, لا.
بل يقول: والله فلان قال فيك وقال فيك فيزرع البغضاء والحقد والضغائن ويحصل فيها الشحناء والقطيعة بين الناس بأسباب النميمة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة نمام) أي: قتات, والعياذ بالله.(61/10)
إخلاف الوعد
أيضاً من مظاهره: إخلاف الوعد, المؤمن دائماً صادق, وإذا وعد لم يخلف, وإذا عرف أنه سيخلف لا يوعد, فأنت لست مضطراً، إذا عرفت أنك لا تستطيع أن تفي بالوعد احتفظ لنفسك بحق وقل: لا أستطيع, أو إذا قال: آتيك قل: لا تأت، لست بموجود, لكن بعضهم يقول: تعال, قال: حاضر, ونيته ألا يأتي, أو قال: أزورك في البيت, قال: متى؟ قال الساعة التاسعة، قال: تعال, ويقوم هذا من الساعة الثامنة ويمشي, فهذا من سوء الخلق؛ لأن إخلاف الوعد من علامات النفاق (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا اؤتمن خان) , فلا يجوز لك أن تخلف الوعد, وإن أخلفته كان ذلك علامة من علامات سوء الخلق.(61/11)
سوء العشرة
أيضاً من علامات سوء الخلق: سوء العشرة، وهذه تحدثنا عنها, سوء العشرة الزوجية؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بالمعاشرة بالمعروف فقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] , وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المرأة عند الرجل كالأسير، حتى إنه وصى في آخر حياته صلى الله عليه وسلم بالنساء فقال: (استوصوا بالنساء خيراً, فإنهن عندكم عوان) أي: أسيرات, فهذه مسكينة أسيرة في بيتك, تركت بيت أبيها وأهلها وعزها وجاءت عندك, وأبوها استودعها في ذمتك, وسلمك إياها أمانة فلا تهنها ولا تهن أباها وتهن أهلها, بل أكرمها حتى ولو وجدت منها عوجاً, فإن المرأة مخلوقة من ضلع أعوج, هل رأيتم في الدنيا ضلعاً مستقيماً مستحيل! ليس هناك ضلع في الدنيا إلا وهو أعوج, ولا امرأة في الدنيا إلا وفيها عوج, ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (إنهن خلقن من ضلع, وإن أعوج ما في الضلع أعلاه -أي: لسانها- فاستمتعوا بهن على عوجهن) , (مشي حالك مع هذه العوجة إلى أن تموت)، أتريد مستقيمة (100%) في الجنة إن شاء الله التي ما فيها عوج أبداً, ثم -أيضاً- لا ينبغي لك أن تنظر إلى السيئات من أخلاق زوجتك, بل انظر دائماً إلى الحسنات، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي آخر) وازن, اجعل عندك نظام الموازنة في الحكم, وانظر إلى المرأة بمنظار العدل, قد يكون فيها قصور لكنَّ فيها كمالاً, تجد فيها صلاة فيها حفظ لعرضك, فيها أمانة, فيها إكرام لأهلك, لكن قد تجد فيها قصوراً، أتريد امرأة كاملة؟ الكاملة غير موجودة؛ لأنك أنت أيها الرجل لست بكامل حتى تريد كاملة, النقص فيك وفي المرأة, عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كانت الجن تهابه, يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إيه يا عمر! والذي نفسي بيده ما سلكت فجاً إلا سلك الشيطان فجاً آخر) , الشيطان الذي أتعب البشر اليوم لا يستطيع أن يمشي مع عمر , كانت تهابه العفاريت والجن, ولكنه في بيته لطيف المعشر.
جاء رجل إليه يشتكي زوجته فلما طرق الباب وإذا به يسمع امرأة عمر وهي تتكلم على عمر بكلام مثل الرصاص, فقال الرجل: هذا أمير المؤمنين وهذه زوجته تفعل به هكذا؟! فتراجع, ففتح عمر الباب وقال: ما لك, قال: يا أمير المؤمنين جئت لغرض وانتهى الغرض, قال: ما هو الغرض؟ قال: جئت لأشكو زوجتي عليك فسمعت زوجتك تقول لك أكثر مما قالت زوجتي عليّ, قال: أما يرضيك أنها طابخة الطعام, وغاسلة الثوب, ومربية ولدي, وقاضية حاجتي, أفلا أصبر لها إذا جاء منها شيء؟ من الذي يقدم لك هذه الخدمات إلا هذه المرأة المسكينة، فلا تقعد تحاسب الدقيق والقطمير والنقير وإنما غض الطرف وابذل ما تيسر وتجاوز عما لا يمكن حصوله؛ لأن هذا من حسن الخلق, أما ذاك الحرفي الدقيق الذي يحاسب على أقل غلطة فهذا سيئ خلق, والذي هو سيئ خلق في بيته سيكون أسوأ عند الناس والعياذ بالله!(61/12)
التقصير وعدم القيام بحقوق الأخوة
أيضاً من مظاهر سوء الخلق: التقصير وعدم القيام بحقوق الإخوة في الله, فهم أيضاً لهم حقوق: أن تزورهم إذا مرضوا, أن تتبع جنازتهم إذا ماتوا, وأن تبارك لهم إذا حصل لهم ما يسرهم, وأن تزورهم في الأعياد, وأن تجيب دعوتهم إذا دعوك, وأن تشمتهم إذا عطسوا, فهذه حقوق الإخوان, لكن بعض الناس يقصر في هذا الجانب خصوصاً إذا منّ الله عليه بنعمة ورزقه منه منزلة أو مكانة, فإنه يتغير, كان طيباً لكن من يوم أن ترقى أو صار في منزلة أو مرتبة تغير، فهذا يدل على سوء خلقه والعياذ بالله, هذه -أيها الإخوة- بعض مظاهر سوء الخلق.(61/13)
أسباب سوء الخلق
أما الأسباب التي يقع فيها الناس:(61/14)
ضعف الإيمان والدين
أول سبب هو: ضعف الإيمان والدين, فإن الذي ليس عنده إيمان ولا دين فإنه هو الذي يبرز منه هذا الخلق والعياذ بالله؛ لأن الدين جمع كل خير, والإيمان يدلك على كل خير, فإذا كان إيمانك قوياً ودينك قوياً حملك الدين والإيمان على حسن الخلق.
أما إذا ضعف الإيمان وضعف الدين فإن هذا مدعاة إلى وقوعك في سوء الخلق وإن لم تشعر.(61/15)
الجهل
ومن الأسباب: الجهل, فإن الجهل داء, والجهل ظلمة والعلم نور, والله سبحانه وتعالى أثنى على العلم وأهله فقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] وقال سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] وقال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] , فالعلماء هم الذين يخشون الله سبحانه وتعالى, وأول كلمة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم {اقْرَأْ} [العلق:1] دعوة إلى العلم, فلا ينبغي لك يا أخي! أن تكون جاهلاً, لا سيما وقد توفرت وسائل العلم والحمد لله, لا بد أن ترفع أميتك, وأن ترفع أمية زوجتك, فمدارس محو الأمية موجودة ومنتشرة في كل مكان, حتى ولو كانت بعيدة اركب سيارتك واذهب, أقل شيء أن تتعلم القراءة, فتقرأ القرآن وتقرأ السنة وتقرأ الكتب، لماذا؟ من أجل أن تتذكر وتعرف أمور دينك.
أما أن تبقى أمياً لا تعرف شيئاً كالجماد، تعطى القرآن ويقال لك: اقرأ! تقول: لا أستطيع أن أقرأ, لماذا لا تتعلم؟ قال: أتعلم الآن؟!! نعم.
تعلم الآن, العلم من المهد إلى اللحد, والعلم سهل: هذا (أ) ألف, وهذا اسمه (ب) وثلاثة وأربعة حروف وبعد ذلك ركبها حتى تصبح كلمات, وبعد الكلمات جمل, وهكذا تكون قد عرفت قدرها وأصبحت تقرأ, أما أن تستحي إذا قعدت في المجالس والناس يتناولون الأوراق والكتب وأنت قاعد مثل الجماد لا تعرف أن تقرأ حرفاً؟! هذا لا ينبغي لك, العلم نور والجهل داء ووبال على الرجل وعلى المرأة, لكن اقرأ، بمن؟ باسم ربك, فرق بين من يقرأ الكتاب الكريم والسنة المطهرة وبين من يقرأ المجلات الرخيصة العارية والجرائد الفاضحة، فهذا يقرأ باسم الشيطان.
أما الذي يقرأ باسم الرحمن باسم الله فإنه يقرأ كتاب الله, ويقرأ سنة رسوله، ويقرأ كتب الإسلام ويقرأ المجلات الإسلامية فهذا يكون عنده نور.
أما الذي يقرأ الباطل فهذا ظلام على ظلام والعياذ بالله.(61/16)
سوء التربية
ومن الأسباب أيضاً: سوء التربية, فإن التربية التي يتلقاها الإنسان في بيته ربما تؤثر على الإنسان فينشأ سيئ الخلق, يتعلم سوء الخلق من والده, ويتعلم سوء الخلق من أمه, ويتعلم سوء الخلق من مدرسيه, ويتعلم سوء الخلق من زملائه, فالإنسان يتأثر بطبعه بمن يعاشر ويحتك بهم، ولهذا أثر في سلوك الإنسان وفي سوء خلقه والعياذ بالله.(61/17)
الغفلة عن عيوب النفس
ومن الأسباب: الغفلة عن عيوب النفس, أي: أن الإنسان لا ينظر إلى عيوب نفسه، دائماً عينه على عيوب الناس وينسى نفسه, وكذلك اليأس من إصلاحها؛ يحصل عنده قنوط فييأس؛ لأنه لا يوجد أمل لإصلاح نفسه, فالأمل موجود والطبع بالتطبع, والأخلاق تكتسب، فإذا كان خلقك سيئاً فيمكن أن يكون حسناً, إذا كنت سريع الغضب فتستطيع أن تكون بطيء الغضب, إذا كنت بخيلاً فتستطيع أن تكون كريماً, لماذا؟ بالتطبع, الطبع بالتطبع، والعلم بالتعلم، والصبر بالتصبر.
أما أن تيأس وتقول: أنا هكذا إلى أن أموت!! معناه: سترضى أن تبقى سيئاً وخلقك سيئ إلى أن تموت, وبهذا تحكم على نفسك بسوء الخلق، وتحكم على نفسك بالدمار والشذوذ والخذلان في الدنيا والآخرة والعياذ بالله.(61/18)
رفقة ومصاحبة الأشرار
أيضاً من أسباب سوء الخلق: رفقة السوء ومصاحبة الأشرار, فإن القرين يؤثر في قرينه، يقول:
عن المرء لا تسَلْ وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
يقول: من صاحبت يا أبا زيد كنت له نديداً، فهل رأيت قرداً يمشي مع الغزلان؟ أم غزالاً يمشي مع القرود!! أو غراباً يمشي مع الحمام؟ لا.
الغراب مع الغربان والقرد مع القرود, فإذا رأيت شخصاً طيباً يمشي مع السيئين فهو سيئ, لو أنه طيب لذهب مع الطيبين, إلا أن يكون قصده الدعوة وإصلاحهم فمحمود, أما أن يرضى بمنكرهم ولا يغير عليهم فما هي إلا أيام وليالي وإذا به مثلهم, هذه بعض أسباب الوقوع في سوء الخلق.(61/19)
علاج سوء الخلق
أما العلاج فأرجو الانتباه إليه؛ لأن الموضوع مهم, ونحن كلنا -أيها الإخوة- على تقصير في هذا الجانب, ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يمن علينا بحسن الخلق:(61/20)
تقوية الإيمان بالله
أول شيء من وسائل العلاج: تقوية الإيمان بالله وسلامة العقيدة وقوة الصلة بالله والاحتساب, احتساب أن الخلق دين, وأن الخلق عقيدة وتربية وسلوك وتعامل, فأنا عندما أعرف أنني عندما أكون ذا خلق حسن أجد عليه ثواباً من الله سبحانه وتعالى يحملني هذا إلى أن أتحلى بحسن الخلق, وأتخلق بحسن الخلق طلباً للأجر والثواب وهذا بدءاً من المعتقد.(61/21)
الدعاء
ومن وسائل العلاج: الدعاء: أن تدعو الله سبحانه وتعالى أن يهبك خلقاً حسناً, وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويقول: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق, لا يهدي لأحسنها إلا أنت, واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت) , كان يدعو الله أن يهديه لأحسن الأخلاق وهو من شهد الله له بأنه على خلق عظيم, فالأولى بالدعاء أنا وأنت، فاجعل هذا الدعاء في صلاتك وفي سجودك, وفي ليلك, وبين الأذان والإقامة, فالدعاء هذا من أعظم وسائل العلاج لسوء الخلق.(61/22)
النظر في عاقبة سوء الخلق
أيضاً من وسائل العلاج: النظر في عاقبة سوء الخلق: تأمل وتدبر وفكر في العاقبة والمآل الذي يجر إليه سوء الخلق؟! وستجد دائماً أن سوء الخلق يؤدي إلى أسوأ العواقب: أولاً: كراهية الله سبحانه لك, وكراهية الرسول لك, وكراهية الصالحين لك, وقربك من النار, وبعدك عن الجنة, وكراهية الخلق, فلماذا تعمل على أن تكون مكروهاً عند الله وعند خلقه؟ العاقبة وخيمة, والنهاية والمآل سيئ, فإذا فكرت حملك التفكير على أن تصحح من مسارك وتصلح من وضعك بحيث تجتنب سوء الأخلاق ومظاهره وصوره، وتعمل على أن تكون في مكارم الأخلاق وفي أحسن الأخلاق حتى تصل إلى النهايات الجيدة وإلى العواقب الحميدة.(61/23)
الصبر
من وسائل العلاج: الصبر: والصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد, وقد جاء الأمر به في القرآن الكريم في أكثر من تسعين موضعاً، والله تعالى يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] ويقول سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] , فتحلى دائماً بالصبر؛ لا تكن سريع الانفعال, وإنما اصبر واكتم وتبين وتأكد واستوضح حتى تجمع المعلومات، ثم فكر وأنت تتخذ القرار في النهايات والعواقب، وهل القرار هذا سيكون محمود النتائج أم نتائجه سيئة؟ وما هي النتائج والعواقب؟ فهذا الصبر يهديك إليه, والعجلة والانفعال والسرعة في اتخاذ القرار وعدم الصبر يؤدي دائماً إلى الندامة.(61/24)
الترفع عن السباب
ومن وسائل العلاج: الترفع عن السباب, إذا سبك أحد فلا تنزل إلى مستواه, يقول الشافعي رحمه الله:
يخاطبني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد حماقة فأزيد حلماً كعود زاده الإحراق طيباً
العود الأصلي -العود الأزرق- كلما زدت في إحراقه كلما زادت ريحته, كذلك الرجل الصالح صاحب الخلق الكريم؛ كلما زدت في إزعاجه كلما ظهر حلمه, ودخل عليه مرة رجل وهو في مجلسه فسبه وشتمه وأقذع له في القول, فلم يرد عليه الشافعي بكلمة, فلما خرج الرجل قالوا: يا إمام! ألا دافعت عن نفسك؟ فرد عليهم بثلاثة أبيات يقول لهم:
قالوا سكت وقد عوتبت فقلت لهم إن الجواب لباب الشر مفتاح
والصمت عن جاهل أو أحمق شرف وفيه أيضاً لصون العرض إصلاح
أما ترى الأسد تخشى وهي صامتة والكلب يخزى لعمري وهو نباح
الكلب ينبح طوال الليل لكن هل يخاف منه أحد؟ والأسد ساكت لا يقول ولا كلمة ولكن الناس تخاف منه، فلا تكن كلباً نباحاً, والآخر يقول:
لو كل كلب عوى ألقمته حجراً لأصبح الصخر مثقالاً بدينار
يقول: لو كلما نبح كلب رميته بحجر لأكملت الحجارة, وأصبحت الحجارة غالية والصخرة بمثقال! لكن لا ننتبه ولا نتأثر بنبح الكلاب.
فعليك يا أخي الكريم! أن تكون مترفعاً عالي الهمة, يقولون في المثل: ما يضير السحاب نبح الكلاب، وهذا مثل عند العرب، وما كنت أعرف سبباً لهذا المثل إلى أن قرأت في كتاب الحيوان للجاحظ عن عادات الكلاب، يقول: إن الحيوان الوحيد في الأرض الذي يكره المطر هو الكلب, جميع المخلوقات تحب المطر, الإنسان يحب المطر, البهائم تحب المطر, الطير تحب المطر؛ لأن حياتها على الله ثم المطر, إلا الكلب؛ إذا رأى السحاب قام ينبح, يريد السحاب أن يتراجع، لماذا؟! قالوا: لأن المطر إذا نزل تبلل جلد الكلب, وإذا تبلل جلده انبعثت منه رائحة كريهة تؤذي الكلب حتى يود أن ينسلخ من جلده, فلا يريد المطر, لكن هل يتأثر السحاب من نبح الكلاب؟ هو ينبح يريد السحاب أن يذهب لكن السحاب لا يتأثر، وكذلك أنت كن كالسحابة لا تتأثر بما تسمع من سباب أو من شتائم، وإنما اصفح وأعرض عن الجاهلين.(61/25)
مصاحبة الأخيار ومجالستهم
من وسائل العلاج: مصاحبة الأخيار والارتباط بهم ومجالستهم, حتى تكتسب شيئا ًمن صفاتهم, وتتعرف على شيء من أخلاقهم, وبهذا تكون مثلهم, يقول الناظم:
فلا تصحب أخا الفسق وإياك وإياه فكم من فاسق أردى مطيعاً حين آخاه
يقاس المرء بالمرء إذا ما المرء ما شاه وللناس على الناس مقاييس وأشباه
وللقلب على القلب دليل حين يلقاه
فعليك أن تبحث عن الرفقة الصالحة وعن الأخيار, وأن تجلس معهم وأن تصاحبهم حتى تكتسب شيئاً من صفاتهم, ومن أخلاقهم.
وأيضاً من وسائل العلاج: الحلم, وهو سيد الأخلاق, والحلم هو أن تتمهل وتتثبت، يقول النبي صلى الله عليه وسلم للأحنف بن قيس: (إن فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة) , الحلم: أن تحلم ولا تستعجل ولا تتسرع، وهذا يحملك باستمرار إلى النتائج الطيبة, لا يوجد أحد ندم على الحلم وعلى التثبت, لكن كم ندم من أناس على السرعة وعلى الانفعال.
هذه -أيها الإخوة- مجمل الأسباب والوسائل التي يمكن للإنسان أن يكون بها حسن الخلق, وأن يجتنب سوء الخلق.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا إلى أحسن الأخلاق, وأن يجنبنا سيئ الأخلاق, وأن يوفقنا لصادق الإيمان وصالح الأعمال، وأن ينصر دينه وأن يعلي كلمته, وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة ويذل فيه أهل المعصية, ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنه سميع الدعاء.
كما نسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ لنا ديننا وأمننا ونعمتنا واستقرارنا، وأن يجعل كيد من يريدنا في ديارنا أو غيرنا من ديار المسلمين أن يجعل كيده في نحره, وأن يجعل تدميره في تدبيره, وأن ينزّل عليه بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين, كما نسأله عز وجل أن يوفق ويصلح ولاة أمورنا، وأن يوفق علماءنا ومشايخنا ودعاتنا وشبابنا وشاباتنا وجميع المسلمين للعمل لهذا الدين والدعوة إليه والمنافحة عنه، إنه ولي ذلك والقادر عليه والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(61/26)
الأسئلة(61/27)
نصيحة لطلاب العلم في تحسين معاملتهم مع الناس
السؤال
من المحزن أن نشاهد بعض الملتزمين يظهر عليهم الشدة والغلظة والتكشير والعبوس, فما نصيحتكم؟
الجواب
صحيح والله! إن هذا من المحزن, ومن المؤسف جداً أن ترى هذه المظاهر على الطيبين, وأيضاً من المحزن أن يبررون هذه المواقف, وأن يعتبرونها ديناً, وأن يقولوا: هذا من الحب في الله والبغض في الله, فنحن نتعامل مع الإخوة في الله بأخلاق, إذا رآه يبش له ويقبل عليه ويحتضنه, وإذا رأى شخصاً آخر ليس مثله في الالتزام أو أقل منه كشر فيه ونفر فيه ولم يسلم عليه وأعرض عنه، ويظن أن هذا من الدين، أو يظنه من الحب والبغض وهذا من سوء الفهم وقلة العلم, لا يا أخي الكريم! هذا الذي ترى عليه علامات القصور يحتاج إلى دعوة منك, وإلى اجتباء وإلى حب, وآخر علاج عندك أن تبغضه.
أما أن تبدأه بالبغض فكأنك بهذا تطرده, وتجعل بينك وبينه حاجزاً بحيث لا يقبل كلامك, وإذا سمع أنك أبغضته قال: وأنا أبغضه, وإذا أبغضك أبغضك وأبغض المبدأ الذي أنت عليه والدين الذي تدعو إليه, فيكون تصرفك أنت بالبغض ابتداءً كأنك قاطع طريق بين هذا وبين الهداية, بدلاً من أن تدعوه بالخلق الكريم وبالابتسامة وبالإكرام حتى يقول: ما شاء الله! انظر إلى هؤلاء المتدينين, لا أرى لنفسي قيمة ولا أرى لي احتراماً إلا عندهم! فيحمله هذا الاحترام والتقدير إلى أن يلتزم, لكن إذا رآك قال: الله أكبر على هؤلاء، كلما أرى واحداً كأنه الشيطان يريد أن يأكلني! ما بهم هؤلاء المتدينين؟! يظنون أن هذا من الدين وليس من الدين, لا بد أن نتحلى بالأخلاق الكريمة وأن نبش في وجوه الناس، وأن نكرم الناس؛ لأننا نريد أن نصدر على هذا ونمرر على هذا الخلق ما عندنا من مبادئ, وما عندنا من أخلاق, وما عندنا من دين وعقائد, فربما لا يقبلها الناس أبداً إلا من رجل ذو خلق, ولهذا اختار الله عز وجل لحمل هذا الدين ولإبلاغه للناس أكرم الناس خلقاً صلى الله عليه وسلم الذي قال الله له: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] حتى كان الكفار يلقبونه بأنه: الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم, فلا ينبغي لك -أيها الأخ في الله- إلا أن تظهر الخلق الطيب.
متى يكون البغض في الله؟ عندما تكون قد استنفذت جميع الوسائل, ثم وجدت أن البغض يؤدي دوراً أو أنه ينفع فلا بأس.
أما إذا عرفت أن البغض يضر فلا يجوز لك, ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: البغض والهجر دواء يستخدم عند الحاجة, وحينما يكون له أثر نافع, أما إذا كان له ضرر فيحرم الدواء, فالحبوب هذه تأخذها من أجل أن تعالجه، لكن إذا أخذتها وأحرقت بطنك فلا يجوز أن تستخدمها، وكذلك الهجر؛ تهجر من ينفعه الهجر، مثلاً زوجتك إذا هجرتها ينفع الهجر، لماذا؟ لأنها محتاجة إلى أن تلاطفها, فإذا أعرضت عنها وهجرتها هجراً شرعياً سألتك: ما لك غاضب؟ تقول: غاضب لأنك تبرجتِ, أو لأنك لم تصلي, أو لأنك ما قرأتِ القرآن, أو تأخرتِ عن الصلاة, فتقول: حقاً؟ سأتوب إن شاء الله ولا أعود, لكن عندما تهجر جارك ولا تسلم عليه فإذا سأل جارك: ما به؟ قيل له: فلان هجرك لأنك لا تصلي في المسجد, قال: الله لا يجعله يرضى إلى يوم القيامة, والله لن أصلي حتى في البيت من أجل خاطره! فهجرك هذا نفع أم ضر؟ هجرك هذا ضر الرجل, لكن لو أنه لا يصلي صبرت عليه وأصبحت تكرمه وتعزمه وتهدي له وتزوره، وكلما رأيت مناسبة قذفت عليه بكلمة, أو أعطيته كتاباً, أو شريطاً يستحي أن يرده ويستحي أن يرد عليك؛ لأنه يراك ذا أخلاق كريمة, فيجاملك إلى أن يأذن الله بهدايته, والهداية ليست بيدك, أنت تحرص على هدايته والله هو الهادي, وللهداية ساعة لا تحددها أنت, ولكن الذي يحددها هو الله, والله تعالى يقول: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل:37] وقال سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272].(61/28)
نصيحة للآباء المتدينين القساة على أبنائهم
السؤال
ما رأيكم في الأب المتدين الذي يقسو على أولاده بالنظرات المخيفة والتسرع بالكلمات القاسية التي أغلبها ظلم؟
الجواب
هذا أيضاً من الخطأ, الرجل المتدين من مقتضيات تدينه أن يكون ذا خلق مع أبنائه خصوصاً في دعوتهم إلى الله, بعض الآباء إذا أتى ليوقظ ابنه يضربه على الصلاة فيلطمه أو يركضه برجله: قم يا حمار! قم يا قليل الدين، الله لا يوفقك فكيف يصلي وقد قلت له: يا حمار ودعوت عليه أن الله لا يوفقه؟! لكن ما الذي يضيرك إذا أتيت عنده تمسك رأسه وتقول له: فلان فلان الله يوفقك الله يشرح صدرك, الله يأخذ بيدك قم, فيقوم وينشط؛ لأنك دعوت له.
أما أنك تدعو عليه لا يجوز ولا يجوز التخون ولا النظر بالشك, ولا العبارات الجافية للأبناء, إنما اجعل عباراتك طيبة, ادع لأولادك, ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدع أحدكم على مال ولا ولد) , لأن دعوتك قد تكون في وقت استجابة، يمكن أن تقول لولدك: الله لا يردك فيستجيب الله, مع أنك لا تريد أن يحصل لابنك أي مكروه، ولكن من الغضب ومن الحمق بعض الآباء يدعو على أولاده ثم يندم إذا استجيبت دعوته, فلا تدع عليه, اجعل بدل الدعاء عليه الدعاء له, وبدل الله يهلكك الله يصلحك، الكلمة واحدة لكن هذه تنفع وهذه تضر، خاصة وأنك متدين ولا يتوقع منك في تدينك إلا الخير, والخير مع أقرب الناس إليك وهم أولادك، وإذا لم يكن فيك خير لأولادك فلن يكون فيك خير للناس.(61/29)
حث الملتزمين على الصبر تجاه ما يلقونه من استهزاء
السؤال
أنا شاب ملتزم والحمد لله ولا أزكي نفسي, وهناك شخص آخر يستهزئ بي ويتلفظ عليّ بكلام بذيء وأنا أسكت وأقول: لعل الله أن يهديه ويراجع نفسه ويقلع عن هذا, ولكنه زاد أكثر فأمسكته يوماً من الأيام وضربته ضرباً مبرحاً، وبعد هذا تركني ولم يعد يتعرض لي لا من هنا ولا هناك, ولكني لم أضربه إلا بعد أن نصحته وكلمته أن يبتعد عن طريقي, والسؤال: هل هذا الفعل صحيح, وإن كان غير ذلك فبماذا تنصحني وتنصح بقية الشباب الملتزمين الذين يتعرضون لكثير من هذه الأمور التي تحز في النفس وتجرح القلب؟
الجواب
الأفضل الصبر؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43] , فإذا صبرت على ما تلقى من أذى أو سباب أو شتائم أو استهزاء , فإن ذلك أرفع منزلة لك عند الله, وإذا أخذت حقك ونزلت -الرجل سبك وأنت لم تسبه- فضاربته ورب العالمين أعانك عليه, لكن نخاف أن تضارب شخصاً آخر فيضربك, فأنت لا تعتبرها قاعدة مسلّمة, ولا ننصح الشباب أنهم إذا أوذوا أن يضربوا؛ لأن الضرب ليس وسيلة للتعامل, وأيضاً الشرع منع كف الأيدي, قد تريد أن تأدبه فيموت تحت يديك ويذهب بك إلى السجن، فأنت لا شك أخطأت في ضربك له، كما أخطأ هو في سبك وفي الاستهزاء بك, ولكن الحمد لله, فهذه إن شاء الله تعوض الضربة, وعليك ألا تعود إلى هذا ولا ننصح إخواننا بالمضاربة؛ لأن المضاربة من أخلاق الناس التافهين؛ لا أحد يضارب وهو رجل، لا يضارب إلا السوقة والناس الذين ليس لديهم عقل, فالعاقل لا يمد يده على الآخرين، وإنما يعفو ويصفح ويحلم ويتحمل.
أما المضاربة فليست من أخلاق الكرماء وليست من أخلاق الرجال الفضلاء إلا في ميدان, فإذا رفع لواء الحق أمام لواء الباطل فالميدان ميدانه, وإنما مجرد مضاربات وكلمات وكل يوم تريد أن تضارب ومعك سكين وعصا، واخرج لي في الوادي وسوف أجلس لك عند بيتكم، فهذه من أعمال الأطفال وليست من عمل الرجال.(61/30)
حكم سفر المرأة لوحدها مع عائلة فيها نساء
السؤال
نحن نعلم أنه لا يجوز للمرأة أن تسافر لوحدها بدون محرم, ولكن هل يجوز لي أن أبحث لها عن عائلة طيبة يكون ظاهرهم الالتزام, وأجعل هذه المرأة تسافر معهم ولو لم تكن تعرفهم بحيث تبقى ملازمة للنساء في تلك العائلة، علماً بأنها ستسافر جواً, أفيدونا؟
الجواب
لا يا أخي الكريم! قد صرح العلماء بناءً على الحديث الصحيح أنه: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا ومعها ذو محرم) سواء مع أسرة, أو مع غير أسرة, ملتزمة أو غير ملتزمة، تعرفهم أو لا تعرفهم؛ لأن المرأة عورة ولا يحميها إلا الرجل, إذا سافرت المرأة منفردة استشرفتها الشياطين, وامتدت إليها الأعين, حتى ولو كان السفر جواً, والسفر جواً ربما يؤدي إلى مفسدة, فقد تجلس في كرسي وهي لا تملك إلا الكرسي هذا, ويكون الكرسي الثاني لرجل, وقد تذهب الرحلة غير المكان المقصود.
أحياناً الطائرة تتجه إلى الرياض لكن الجو غير مناسب فتنزل في جدة , فمن يستقبلها وقد تتأخر الرحلة, وقد تحصل طوارئ كثيرة, فلا يا أخي الكريم! لا تسافر زوجتك إلا وأنت معها.
بعض الناس يبخل بتذكرة قيمتها (200) أو (300) ريال, ويعرض نفسه للإثم ويعرض عرضه للضياع:
أصون عرضي بمالي لا أضيعه لا بارك الله بعد العرض في المال(61/31)
الحث على بر الوالدين
السؤال
لي أخ هداه الله لا يدري بحسن الخلق مع الوالدين خصوصاً الأم لا يحسن التصرف معها, علماً بأن عمره (14) سنة؟
الجواب
الولد صغير ويحتاج إلى تربية وتوجيه منك ومن والده ووالدته في أن يتعامل بتعامل إسلامي؛ لأن أعظم عمل يجب أن تتخلق به هو مع والديك؛ لأن أكثر الناس فضلاً عليك بعد الله سبحانه وتعالى هما الوالدان, والله عز وجل قد قرن طاعته بطاعتهما وقال: {اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] وقال سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36] فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه لم يقبل الله شكره, فلا بد أن تكون باراً بوالديك, حسن التعامل معهم؛ لأن تعاملك مع الوالد مهم جداً والوالدة, وكما تحب أن يكون أولادك بررة فيجب أن تكون باراً بأبيك وبأمك.
أما إذا عققتهما فإن الجزاء من جنس العمل, سيجعل الله لك أولادا يعقونك, ويزيدون فوق ذلك.(61/32)
الواجب على المرأة المتوفى عنها زوجها
السؤال
أنا امرأة مات زوجي منذ عشرة أيام وأنا أريد أن أتم العدة في بيت زوجي، وبعض الناس يقولون: لا أخرج من غرفتي ولا أنزل ولا أري النساء شعري, ولا أغتسل إلا يوم الخميس, ولا ألبس إلا ملابس سوداء, فما رأيكم؟
الجواب
هذه الأشياء ليس عليها دليل, المرأة من الناحية الشرعية إذا مات عنها زوجها فإنها تعتد عدة الوفاة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام في البيت الذي بلغها فيه الوفاة -بيت زوجها- ولا تنتقل منه حتى تنتهي الأربعة الأشهر والعشرة الأيام, ولا تنتقل ولا تخرج إلا لما لا بد منه مثل المستشفى، أو إذا كانت معلمة فيجوز أن تخرج لأداء الوظيفة وترجع, وأيضاً إذا اقتضى حضورها إلى المحكمة لعمل وكالة أو لإثبات صك وراثة, فإنها تذهب ولا حرج.
أما أن تخرج للعزائم أو للتمشيات أو التسوق فهذا ممنوع, وإنما تمكث في بيتها.
أما أثناء مكثها في بيتها فيجوز لها أن تخرج في فناء بيتها وتصعد سطح المنزل, ويجوز لها أن تغتسل في كل يوم وفي كل ليلة, ولكنها تجتنب أشياء: أولاً: تجتنب وسائل الزينة كلها من الذهب والخضاب والحناء والكحل والملابس المزركشة ووسائل الطيب, ولكنها يجوز أن تغتسل بالصابون ولو كان فيه رائحة طيب, هذه هي العدة.
أما أنها تلبس ملابس سوداء كما يقولون, أو لا تظهر على السطح من أجل ألا يراها القمر؛ لأن في القمر رجال قاعدون كما يقولون, أو لا تخرج في الحوش, أو لا ترد على التليفون, ولا تري النساء شعرها هذا كله ليس له دليل, وليس له أساس وغير مشروع، والذي ذكرنا هو الذي يلزم المرأة فقط, ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعوضها عن زوجها بخير, وأن يرزقها الصبر وأن يحسن خاتمة الميت.(61/33)
كيفية التعامل مع الكفار
السؤال
كيف نتعامل مع الكفار الذين يتواجدون معنا في أماكن العمل مثل الهندوس والنصارى, وهل نظهر لهم الأخلاق الطيبة أم نتعامل معهم بغلظة؟
الجواب
في مقام الدعوة وفي حالة الرغبة إلى جلب قلوبهم للإسلام يجب علينا أن نظهر لهم هذه الأخلاق الطيبة كمرحلة من مراحل الدعوة, على أساس جذبهم إلى الدين, وإعطائهم بعدها كتباً وأشرطة وعرض الإسلام عليهم, فإن قبلوا فالحمد لله, وإن لم يقبلوا وحددوا موقفاً وقالوا: لا نريد أن نسلم, هنا يلزم بعد ذلك أن تبغضه في الله, وألا تتعامل معه إلا بما تحتاجه ظروف العمل وفي نطاق العمل فقط.
أما أن تزوره أو تعزمه أو تتمشى أنت وهو, أو تتكلم معه أو تضحك له فلا, ليس من الحب في الله والبغض في الله؟ وهذا كافر والله تعالى يقول: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة:22] , فتبغضهم بقلبك ولا تتعامل معهم بالتعامل الذي تتعامل به مع إخوانك المسلمين, لكن لا تحاربهم ولا تعاديهم؛ لأنهم ليسوا محاربين, الكفار الذين دخلوا إلى هذه البلاد دخلوا بعقد أمان, هم معاهدون وفي عقد أمان مع ولي الأمر, فلا يجوز قتلهم, ولا يجوز العدوان عليهم, ولا إهانتهم وأخذ أموالهم, لا.
وإنما نبغضهم بقلوبنا ونصبح وإياهم في عزلة شعورية إذا يئسنا من استجابتهم للدين؛ لأن هذا هو التعامل الشرعي.
وفي الختام أسأل الله تعالى لي ولكم التوفيق والسداد، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛(61/34)
كيف يكون النشور؟!
البعث والنشور حقيقة حتمية لا مفر منها، ومستقبل متحقق لا محالة، والمصير بعده الجنة أو النار، وفي هذه المادة بيان لمراحل البعث وكيفيته، مع فوائد مهمة عن الفرق بين الصور والحقائق، وأن حقيقة الإيمان اعتقاد يتبعه عمل.(62/1)
لكل شيء صورة وحقيقة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: لكل شيء في هذه الحياة صورةٌ وحقيقة، والصورة لا تغني عن الحقيقة شيئاً، ولا تقوم بدور الحقيقة، تقوم بدورها في الإعلام والبيان والإخبار فقط، أما في المسئولية والقيام بالواجب والدور الذي يُطْلَب من الحقيقة فلا تستطيع الصورة أن تؤدي دور الحقيقة.(62/2)
أمثلة للصورة والحقيقة
صورة العمارة في الحقيقة تُعْجِب في المنظر؛ لكن لا يستطيع صاحبها أن يسكن فيها، هل تسكن في عمارة من الورق؟! لا.
وصورة السيارة جميلة في المنظر؛ لكنك لا تستطيع أن تركبها؛ لأنها صورة وليست حقيقة.
وصورة الورقة النقدية لو أن أحداً أخذ [500] ريال وصوَّرها وذهب بها إلى السوق هل تصرف له؟ يقولون: هذه صورة لا نقبلها، رغم أن الرقم والتوقيع وكل شيء مطابق؛ لكنها صورة، فالصورة لا تنفع.
حتى في المعاملات الرسمية الآن لا يُتَّخَذ إجراء مالي على صورة؛ الإجراء المالي على أصل القرار، فلو أن شخصاً تَعَيَّن أو نُقِل أو انتُدِب، أو ابتُعِث ويريد صرف مبالغ مالية مترتبة على هذا التعيين، أو على هذا البعث، أو على الانتداب، على ماذا يتخذ الإجراء؟ على أصل القرار، لماذا؟ لأنه هو الذي ينفع، أما الصورة فهي للإحاطة؛ ولا تؤدي دور الحقيقة.
بل إن الحقيقة وإن كانت ضئيلة فهي تؤدي الدور عن الصورة مهما كانت الصورة عظيمة، ألا ترون صورة الأسد المعلَّق الآن في بعض جدران بيوت المسلمين وهذا خطأ، فتعليق صور الحيوانات في البيوت يكون سبباً في طرد الملائكة والعياذ بالله، فالملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب أو صورة، وهذا في الصور المعلقة، أما الصور الممتهنة أو التي ليست معلقة فقد أفتى سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز أنها مَعْفُوٌّ عنها، مثل: الصور التي تكون في شهادة أو في أي شيء مما تدعو إليه الضرورة- فصورة الأسد تراها لكن هل أحد يخاف من هذه الصورة؟! بل لو دخل الفأر وهو أضعف المخلوقات ويضرب به المثل في الذلة، ووجد صورة الأسد من قماش فإنه ربما يأكلها! فحقيقة الفأر تأكل صورة الأسد، ولا تمتنع صورة الأسد من حقيقة الفأر، فالحقيقة مهما صَغُرت أعظم قدراً من الصورة مهما كَبُرت.
لو دخل أسد إلى المدينة الآن فهل أحدٌ سيخرج؟! بل ستتحرك وسائل الدفاع المدني والإسعافات، والكل سيدخل بيته، ولن يخرج شخص، بخلاف الصورة فإنها معلقة في الصحف وفي الجدران ولا أحد يخاف منها.(62/3)
الإيمان له صورة وحقيقة
لكل شيء في الحياة صورة وحقيقة.
ويوم أن كان المسلم حقيقة كان له دور، كان يقوم بدور الأسد، يقول عليه الصلاة والسلام: (نُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر) مسيرة شهر في الأمام، ومسيرة شهر في الخلف، ومسيرة شهر في اليمين، ومسيرة شهر في الشمال، والرعب يقطِّع قلوب أعدائه على مسيرة شهر! لماذا؟! لأنها حقيقة المسلم، الإيمان حل في قلوبهم، فنصرهم الله بالرعب الذي يقذفه في قلوب أعدائهم؛ لكن لَمَّا عُدِمت الحقيقة الإيمانية من قلوب المسلمين هُزِموا بالرعب مسيرة سنة، فإسرائيل في طرف الأرض؛ لكنهم يخافون منها وهم في الطرف الثاني، وهم الذين قال الله فيهم: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:61].
ويقول: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُر} [الحشر:14] لا يستطيع اليهودي أن يبرز في الميدان ليقاتل بالسلاح الأبيض أبداً، ولهذا الآن السلاح الذي حمله أطفال الحجارة.
وهي حجارة صغيرة، حتى قال بعض أهل العلم: إن الحجارة الآن أصبحت نادرة في فلسطين، ولم تعد هناك صخور، فقد جمَّعها اليهود؛ لأنهم يخافون من الحجارة، وترى اليهودي جالساً وراء الجدار وبندقيته معه، ورشاشه معه، مدججاً بالسلاح؛ ويخاف من الحجر الصغير؛ لأنه مضروب عليه الذل، فممن يخاف؟! من طفل أو طفلة، يطارد، ويضرب بالقنابل المسيلة للدموع، ويقتل، من أجل الحقيقة التي وُجِدَت في قلوب المؤمنين، من الصغار الذين يجاهدون الآن في فلسطين، ولا أحدٌ يدري عنهم، إلا كل يوم تسمعون: شهيد شهيد شهيد إلى متى هذا؟ لا إله إلا الله!(62/4)
صورة الإسلام لا تغني عن حقيقته
حقيقة المسلمين يوم أن كانت موجودة كان لها أثر، والصورة -كما قلنا- لا تعمل عمل الحقيقة.
ونحن نأمل إن شاء الله أن تعود الحقيقة إلى هذه الأمة بإذن الله، مع هذا التوجُّه الذي نلمسه الآن، وهذا الإقبال الذي نلحظه في صفوف الشباب، وفي صفوف المسلمين بصفة عامة، حين تُعْمَر بيوت الله بالذكر، وتُعْمَر بيوت الله بالصلوات، ويبتعد الشباب -والحمد لله- عن طرق الفساد، ووسائل الشر، ويتركون الغناء والزنا والمحرمات، ويقبلون على العلم، وعلى قراءة القرآن، وعلى دراسة كتب الصحاح من كتب السنة، ويقبلون على الله، فهؤلاء سيكون -بإذن الله عزَّ وجلَّ- على أيديهم الحقيقة؛ لأنهم يدركونها، بإذن الله عزَّ وجلَّ.
يقول الناظم:
في قديم الدهر كنا أمة لهف نفسي كيف صرنا أمما؟!
ويقول الثاني:
مَلَكْنا هذه الدنيا قرونا وأخضعها جدودٌ خالدونا
وسَطَّرنا صحائف من ضياءٍ فما نسي الزمانُ ولا نسينا
حملناها سيوفاً لامعاتٍ غداة الرَّوْعِ تأبى أن تلينا
إذا خرجت من الأغماد يوماً رأيتَ الهولَ والفتحَ المبينا
وكنا حين يأخذنا عدوٌ بطغيانٍ ندوسُ له الجبينا
صرخت امرأة في عمورية وقالت: وامعتصماه!! لأنها ذات يوم كانت تبيع وتشتري، فجاء علج كافر من ورائها، وربط طرف ثوبها إلى ظهرها وهي جالسة ولم تعلم، فلما قامت انكشفت عورتها، فقالت: وامعتصماه! وهو في بغداد، فجهز جيشاً أوله في عمورية وآخره في بغداد، ولكن
رُبَّ وا معتصماه انطلقتْ ملء أفواه الصبايا اليُتَّمِ
لا مست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصمِ
ويقول آخر:
وكنا حين يأخذنا عدوٌ بطغيانٍ ندوسُ له الجبينا
ثم قال:
وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قومٌ آخرونا
وأصبح لا يُرى في الركب قومي وقد عاشوا أئمته سنينا
تُرَى هل يرجع الماضي فإني أذوب لذلك الماضي حنينا
ملكنا حقبة في الأرض مُلْكاً يدعِّمه شبابٌ طامحونا
شبابٌ لم تحطِّمه الليالي ولم يُسْلِم إلى الخصم العرينا
وما عرفوا الأغاني مائعاتٍ ولكنَّ العُلا صيغت لحونا
وما عرفوا التخنُّث في بناتٍ وما عرفوا التأنُّث في بنينا
إذا جن المساء فلا تراهم من الإشفاق إلا ساجدينا
هؤلاء -إن شاء الله- سيكون على أيديهم نصرة الإسلام، وعودة القدس بإذن الله، وسيطرة الإسلام على العالم بعد أن رأينا بذور النصر وفجره يطل من أرض الأفغان، فهناك شباب عزل ليس عندهم شيء إلا الإيمان.(62/5)
حقيقة الإيمان في أفغانستان هي السبب في هزيمة الروس
يقول سياف بعدما سَحَبَت روسيا جيوشها البشرية، وأوجدت الجيوش المدرَّبة من الشيوعيين الملاحدة الذين ربَّتهم وغسلت أدمغتهم من الإيمان، وزوَّدتهم بأفتك الأسلحة، وبأعظم ما تملك من قدرات، فيقول له الصحفيون: ماذا بك؟! هل تتصور أنت أن المسألة ليست لصالح المجاهدين بعد أن قامت روسيا بمد جسر جوي من الذخائر والإمكانات والقوى، بينما المجاهدون لا أحد يعطيهم شيئاًَ، إلا ما غنموه من أيدي الكفار.
وعندما سألوه: مَن يزودكم بالسلاح؟ قال: روسيا.
قالوا: كيف ذلك؟! قال: نقتِّلهم ونأخذ أسلحتهم.
فقال لهم سياف نحن قد بايعنا الله على الجنة بأموالنا وأنفسنا، وأما النصر على الأعداء، وفتح جلال أباد، واحتلال كابل، وطرد الشيوعيين فهذا ليس من ضمن العقد إنما هو ربح؛ لأن الله قال: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} [الصف:13] ما هي؟! {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:13] وهذه ليست ضمن العقد؛ العقد: أن لكم الجنة بالمال والنفس، ادفعوا المال والنفوس ولكم الجنة، والربح إن جاء من الله فهو فضل.
يقول: وإن لم يأتِ فالعقد الذي بيننا وبين الله قد أمضيناه، وما بقي إلا هذه، إن أتت فهي مكسب، وإن لم تأتِ فنحن والله لن نقف حتى نموت أو ننتصر.
هذه هي القوة العظيمة، حتى اضطرت روسيا إلى أن تنسحب من أفغانستان، وأن تراجع حساباتها مع مبادئ ماركس، وأن تعلن التمرد عليها، ثم ينتشر هذا في الدول الشرقية: شرق أوروبا، في رومانيا، وتشيكوسلوفاكيا، ويوغسلافيا، وبلغاريا؛ بلغاريا التي -قبل ثلاثة أشهر- تجبر كل مسلم أن يغير اسمه، إذا جاء له ولد لا يسميه محمد، ولا علي، ولا عبد الله، لا بد أن يسميه باسم كافر وإلا فالذبح، وقبل ثلاثة أيام اجتمع مجلس الشعب الخاص بهم وقرر إعطاء المسلمين حريتهم في اختيار أسمائهم، وممارسة عباداتهم، وعدم ممارسة أي ضغط عليهم: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:13] فهذه هي الحقيقة -أيها الإخوة- وهذه هي الصورة.(62/6)
حقيقة الإيمان
الإيمان في القلوب له حقيقة وله صورة، فما حقيقة الإيمان؟ الإيمان له ثلاث حقائق: - حقيقة في اللسان.
- وحقيقة في القلب والجنان.
- وحقيقة في الجوارح والأركان.
أما حقيقة اللسان فهي: النطق بالشهادتين.
وحقيقة القلب هي: الجزم الذي لا يخالطه أدنى شك على قضايا الإيمان.
وأما حقيقة الإيمان في الجوارح والأركان فهي: الخضوع والإذعان والاستسلام لكل أوامر الله، والبعد كل البعد عن كل ما حرم الله، وهذا هو الإيمان الحقيقي.
ومن الناس من يقول: آمنتُ بلساني، ولكنه كذاب، ويقول: آمنتُ بقلبي، ولكنه كذاب.
يقول الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:8 - 10].(62/7)
كيف يعرف الشخص حقيقة الإيمان في قلبه
إذا أردت أن تعرف هل في قلبك حقيقة الإيمان أم صورته، فاعرض نفسك وعملك وبرنامج حياتك وجميع أعمالك وتصرفاتك، على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، منذ أن تستيقظ إلى أن تنام، اعرض وانظر، فإن وجدت أنك تسير مع الأمر والنهي، مع أوامر الله منفذاً لها، ومع النواهي تاركاً ومرتدعاً عنها، فاعلم أن حقيقة الإيمان قد استقرت في قلبك، فزِدْ واسأل من الله أن يثبتك عليها حتى تلقى الله؛ لأن هذه الحقيقة هي التي دفعتك إلى أن تعمل العمل الصالح، وهي التي دفعتك إلى أن تستيقظ لصلاة الفجر في المسجد؛ لأنك آمنتَ أن صلاة الفجر في المسجد فريضة، وأنها علامة صدق الإيمان، وأن: (مَن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله) وأن: (مَن مشى في ظلمة الليل إلى المساجد لقي الله بنورٍ ساطعٍ يوم القيامة) وأن: (مَن صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي).(62/8)
الإيمان الصادق والإيمان المزيف
هذه حقائق قالها الرسول صلى الله عليه وسلم، إذا استقرت في قلبك وصدقتَ بها دفعتك هذه الحقائق إلى أن تقوم لتصلي؛ لكن إذا نُمْتَ ولم تقم لتصلي صلاة الفجر وأنت تعلم هذه الأوامر، فاعلم أن حقيقة الإيمان ما استقرت في قلبك؛ لأنه لو قيل لك: إن في المسجد في وقت صلاة الفجر خمسين ريالاً تُصْرَف، لو صدر أمر الآن أن خمسين ريالاً لِمَن يصلي الفجر في المسجد -الآن استقرت في قلوب الناس حقيقة الإيمان بالريال، وقوة الريال الشرائية- فإذا صلى الفجر وأخذ الخمسين من الإمام، فإنه يغدو إلى البيت ويأتي بفطور، ويأتي بغداء، ويشتري فاكهة، وغير ذلك ويبقى راتبه وراء ظهره، فمَن الذي يترك الصلاة في المسجد ذاك اليوم؟! هل أحد يتركها؟! لا تجد أحداً يتركها، هل سيقوم ليصلي ويترك أولاده نائمين؟! لا والله لا يخرج إلا وهم معه، ولو بالعصا.
وأيضاً لو قيل للناس: إن الذي يأتي في الصف الأول يستلم الأول، والذي في الصف الثاني يستلم الثاني، والذي يأتي في الأخير ربما لن يستلم إلا الساعة السادسة والنصف أو السابعة؛ ما رأيك؟! هل يتضاربون على الصف الأول أم لا؟! بل بعضهم يأخذ بطانيته من نصف الليل، ويأتي لينام في الصف الأول: ما بك؟! قال: أنا مشغول غداً، لا أريد أن يفوتني الطابور، وهو ليس بمشغول؛ بل يريد أن يأخذ الفلوس.
لكن من يؤمن بهذه الحقائق؟! الذين استقر الإيمان في قلوبهم.
فتلك الخمسون ريالاً استقر الإيمان في جدواها، ومن أجلها نأتي لنصلي؛ لكن إذا لم تكن هناك فلوس، وليس هناك إلا الثواب والأجر، والجنة والإيمان فمن الذي يأتي؟! الذي استقر الإيمان في قلبه.
أما ذلك المنافق المنكوس القلب الذي لا يؤمن إلا بلذاته وشهواته إذا سمع: الله أكبر، الله أكبر، مَطَّ البطانية ونام، هذا كذاب في إيمانه، دجال، ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: (فرق ما بيننا وبين المنافقين صلاة العشاء والفجر).
ويقول: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً).
الآن آمَنَ الناس إيماناً جازماً ما خالطه شك بنظام المرور! مَنْ السائق الذي يأتي إلى الإشارة الحمراء ويقطعها؟! لا أحد، ولو كانت زوجته معه ستلد، أو كان معه مريض سيموت فإنه لن يقطعها؛ لأن الإشارة حمراء، وإذا قطعها وهي حمراء ماذا يقول الناس عنه؟! الذي بجانبه، والذي وراءه، كلهم ينظرون إليه، ويطاردونه، ويأخذون رقمه، ويبلغون به: كيف تقطع الإشارة؟! حسناً الاتجاهات الآن بين أبها والخميس، اتجاه من اليمين ذاهب، واتجاه من اليسار عائد، أليس الناس كلهم على هذا الخط، أصحاب اليمين في اليمين، وأصحاب اليسار في اليسار؟! ما رأيكم لو أن شخصاً جاء من جوحان يقصد الخميس، فلا بد له أن يفترق من عند مفروشات المطلق؛ لكنه يقول: أنا مستعجل يا جماعة، لن أمشي من هناك، سأمشي من هنا، وعكس الخط ومشى، وكلما جاءته سيارة لَفَّ منها، ما رأيك؟! أليس كل مَن يأتي من الخميس ينكر عليه، ويضرب له المنبه، ويقف جانباً، ويقول: ارجع، لا يراك الناس، يا غلطان؟! لماذا؟! لأنه عاكسٌ للخط، وقد آمن الناس بهذا، ولذا لا أحد يعكس الخط، ولا أحد يقطع الإشارة، وكل واحد في خطه.
لكن من الناس من يعكس الخط مع الله، ويقطع الإشارات على الله، لماذا؟! لأنه ما آمن بأن هناك من يراقبه ويسجل عليه، آمن بأن هناك من يراقبه إذا قطع الإشارة، ولذا إذا جئت في نصف الليل، أو الساعة الواحدة، أو الساعة الثانية، والإشارات لا زالت حمراء، فإنك تلقى السائق واقفاً، رغم أن الخط فارغ، ومع ذلك لا يمشي: ما بك لا تمشي؟! يقول: فلعل جندياً هناك وراء تلك الزاوية يراني.
إيمان بالغيب حتى ولو أن الجندي نائم أو ليس بموجود؛ لكن استقرت هذه الحقائق في قلوب الناس.
ولكن لم تستقر في قلوب الناس حقيقة الإيمان بعقوبة الله للعاصين وبثواب الله للطائعين، ولذا نرى الكثير من الناس يتساهل في الطاعات، ولا يهمه أمرها -والعياذ بالله- يتساهل في المعاصي ويقع فيها، ولا يقف عندها إلا أهل الإيمان، أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلني وإياكم منهم.
صاحب الإيمان يضطرب قلبه ويتقطع لنغمة يسمعها في الإذاعة عندما يريد سماع الأخبار؛ حيث يسمع قبلها موسيقى أو غيرها من آلات اللهو لماذا؟! لأنه مؤمن.
لكن صاحب النفاق، لا ينبسط إلا إذا سمع تلك النغمات والآلات، بل يشتريها بفلوس، بعضهم يشتري الأسطوانات بعشرين وبثلاثين ريالاً، والأشرطة والأفلام ويسمعها! يشتري بماله ما يهلك نفسه ويسهر ليله، والشياطين تبرك عليه، وتغويه إلى أن يتفتت قلبه، ويطير قلبه في كل وادٍ وفي كل بيداء وفي كل صحراء بعيداً عن الله.
فللإيمان صورة وحقيقة -كما قلت لكم- وصورة الإيمان لا تغني عن حقيقة الإيمان شيئاً، يوم القيامة يأتي المؤمن الحقيقي فيجد أن حقيقة إيمانه تنفعه؛ لأنه جاء بعملة أصلية، أما الذي جاء بصورة الإيمان فإيمانه مُزَيَّف.
فالذي يأتي يوم القيامة بصورة الإيمان الذي ما أيقظه لصلاة الفجر، ولا حجزه عن الأغاني، ولا حجزه عن النظر إلى المحرم، ولا حجزه عن الكلام المحرم، ولا عن الغيبة، ولا عن النميمة، ولا عن أكل الحرام، ولا عن الوقوع في الزنا واللواط والحرام، هذا الإيمان لا يغني عنه شيئاًَ؛ لأنه إيمان مزيف، وإيمان كاذب.(62/9)
كيف يكون النشور
درسُنا في هذه الليلة سيكون عن (كيف يكون النشور؟!) امتداداً لدروس في الماضي عن البعث واليوم الآخر، وسيكون هذا الدرس بعنوان: (كيف يكون النشور؟!).
أي: كيف يتم بعث العباد ونشرهم من قبورهم؟! وهذا الدرس معادٌ، كنت قد ألقيته في الأسبوع الماضي في خميس مشيط، وقد عزمنا إن شاء الله على أن يُكَرَّر الدرس، فالذي يقال هنا يكرَّر هناك.
لماذا؟ لثلاث فوائد: الفائدة الأولى: أن المكرَّر يتقرَّر:- فالدرس إذا أخذتَه هنا وكررته في الخميس يُحْفَر في قلبك، ولن يضيع أثره، مثل الخط أو القلم إذا كتبتَ به على ورقة، الخط الأول واضح؛ لكن أعد عليه بالخط الثاني، ماذا يصير؟! أوضح، أليس كذلك؟! فالمكرَّر يتقرَّر.
هذه واحدة.
الفائدة الثانية: أن من فاته درس أبها لا يفوته درس الخميس.
الفائدة الثالثة: أنه يسهِّل أيضاً على الملقي قضية المراجعة:- بحيث يمكنه أن يُعِدَّ ويراجع ويبحث خلال خمسة عشر يوماً، خاصة إذا كان مثلي، فأنا لا أجد فرصة كبيرة للمراجعة؛ نظراً لكثرة ارتباطاتي ومواعيدي.
أسأل الله أن يعيننا وإياكم، وأن يجعل كل أعمالنا وإياكم في سبيل الله عزَّ وجل وخالصة لوجهه الكريم.(62/10)
معنى البعث والنشور
كيف يكون النشور؟! وما المراد بالبعث؟! وما هو معنى النشور؟! المراد بالبعث: إعادة الأجسام، وإحياء العباد في يوم المعاد.
والنشور معناه موافقٌ لهذا المعنى، يقال: نُشِر الميت نُشُوراً أي: إذا عاش بعد الموت، يقول الله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:22] أي: بعثه وأحياه، فإذا شاء الله تبارك وتعالى إعادة العباد وإحياءهم أمَرَ إسرافيل؛ وإسرافيل ملك من حملة العرش موكل بنفخ الصور، ينفخ فيه نفختين، النفخة الأولى للصعق والإهلاك والإبادة، والنفخة الثانية: للإحياء والإعادة، فهاتان نفختان، وهما اللتان قال الله فيهما: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} [الزمر:68] هذه النفخة الثانية {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68].(62/11)
نفخة البعث وقيام الكافرين فزعين
قد حدث الله عزَّ وجلَّ عن مشهد البعث العجيب الغريب الرهيب الذي تشيب منه مفارق الوليد، فقال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس:51] ينسلون: يخرجون من القبور، كل واحد ينسل من قبره، والأجداث هي القبور، من يوم أن يُنْفَخ في الصور تراهم ينسلون.
{قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] يقول هذا أهل الكفر والنفاق يقولون: مَن ردنا إلى هذه الحياة؟! فيرد عليهم أهل الإيمان: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] يقول هذا المصدق صاحب الإيمان: هذا البعث وهذا الخروج وهذا النشور هو ما وعد الله به وصدق المرسلون حينما أخبروا بالبعث، وهاهو اليوم يتحقق، قال عزَّ وجلَّ: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:53].(62/12)
نزول ماء من السماء تنبت منه أجساد العباد
قد جاءت الأحاديث الصحيحة الصريحة مُخْبِرة بأنه يسبق النفخة الثانية نزول ماء من السماء، ينزل هذا الماء في فترة زمنية محددة بأربعين قيل: أربعون سنة، وقيل: أربعون يوماً، والخلاف وارد فيها، فبين النفخة الأولى التي يموت فيها الناس والنفخة الثانية التي يبعث فيها الناس، فترة زمنية ينزل فيها ماء من السماء كمَنْي الرجال، وهذا الماء تنبت منه أجساد العباد، كما تنبُت من الماء ثمار الأرض وخيرات الأرض، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم والحديث في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: (ثم يُنْفَخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً) والليت هو صفحة العنق، أي: إذا سمعوا الصوت فكل واحد ينتبه، من باب الاستعداد والترقب والتوجس لسماع هذه الصيحة، (وإن أول من يسمعه رجلٌ يلوط حوض الإبل -أي: يغسله- فيصعق ويصعق الناس، ثم يرسل الله، أو قال: ينزل الله مطراً كأنه الطل، فتنبت منه أجساد العباد، ثم يُنْفَخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون).(62/13)
أدلة البعث والنشور
تنبت أجساد العباد كما تنبت الحبة في حميل السيل من الماء الذي ينزل من السماء، ثم تأتي النفخة الثانية والأجساد جاهزة بمجرد رجوع الروح، الروح قد خرجت ومات الإنسان؛ لكن إذا أعيد الجسد تأتي الروح ليقوم الإنسان مثلما يقوم من النوم، وإنبات الأجساد من التراب من معدنها الأصلي، فإن الإنسان في الأصل من أين جاء؟! من التراب: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [غافر:67] فالإنسان أصله مخلوق من التراب، ثم إذا مات يعود ويتحلل ويفنى، ويذهب في التراب، ثم إذا أراد الله إنباته مرة ثانية أخرجه من التراب: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] فمن الأرض خُلِقْنا، وإليها نعود، ومنها نخرج، فهي أمنا، هي الكافتة، الله يقول: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} [المرسلات:25 - 26] أحياءً تكفتهم، وأمواتاً تكفتهم، تكفتهم على ظهرها وتكفتهم في بطنها.(62/14)
بعث الناس يشبه إنبات النبات
يقول عزَّ وجلَّ وهو يخبر عن مثال يضربه للناس في قضية الإحياء بعد الموت بالقياس على إحياء الأرض بعد موتها؛ لأن إنباتَ الأجساد يماثل إنبات الأرض إذا نزل الماء عليها، ولذا فإن الله قد أكثر في القرآن الكريم من ضرب المثل للبعث والنشور بإحياء الأرض بالنبات الذي ينبت عقِب نزول الغيث؛ لأنه مساوٍ له، يقول عزَّ وجلَّ: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ} [الأعراف:57] سبحان الله! كيف يسوق الله الغيث؟! السحاب يأتي من هنا، يطلع من البحار، ثم يتخلل إلى السماء، ثم يرسل الله الرياح فتسوقه، ثم يقسِّمه الله على الأرض بحكمة وعدل، يقول الله عزَّ وجلَّ: {يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ} [الشورى:27] أي: ما تنزل قطرة في الأرض إلا بتقدير من السماء، تجد السحب تمر على أبها وتمر على الخميس، وتذهب في وسط الصحراء فتُنَزِّل، لِمَ لَمْ تُنَزِّل هنا؟! لِمَ لَمْ تُنَزِّل في الخميس؟! لِمَ لَمْ تُنَزِّل في أبها؟! مَن الذي أوصلها إلى بيشة؟! مَن الذي أوصلها إلى وادي الدواسر؟! مَن الذي يسوقها؟! إنه الله تبارك وتعالى.
فالله هو الذي قال: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28].
فيقول عزَّ وجلَّ: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:57] كما أحيينا الأرض بعد موتها نحيي الناس بعد موتهم.
أنت الآن عندما تأتي إلى شجرة بعد المطر، كانت غبراء والأرض كانت غبراء؛ ولكن بعد نزول الغيث وبعد أسبوع أو أسبوعين فتأتي وإذا بالأرض خضراء، وقد نبتت من تحت الشجرة زهور حمراء وزرقاء وخضراء وصفراء، ونباتات ملونة، يقول الله عزَّ وجلَّ: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] فأين كانت هذه البذور؟! في الأرض موجودة، ولماذا لم تنبت؟! لأنه ليس هناك ماء، فلما جاء الماء طلعت.
إذاً: بذور البشر الآن الذين قد ماتوا من آدم إلى يومنا، أين هي الآن بذورهم؟! موجودة في الأرض، لماذا لا ينبتون؟! لأنه لا يوجد ماء ينبتهم، إذا جاء ماؤهم من السماء نبتوا سواءً بسواء.
ويقول عزَّ وجلَّ: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر:9] أي: كذلك البعث.
ويقول عزَّ وجلَّ: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:9 - 11] أي: كذلك البعث يوم القيامة.
ويقول عزَّ وجلَّ: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى} [الروم:48 - 50] الذي أحيا الأرض بعد موتها إنه لمحيي الموتى {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50].(62/15)
الإعادة أهون من البدء
يقول عزَّ وجلَّ في سورة الحج وهو يلفت نظر الناس الذين يكذبون بالبعث إلى عملية الخلق التي تتم الآن يومياً، ما من يومٍ يمر على الناس في أي بلد وفي أي قرية وفي أي مدينة إلا ويأتي مولود جديد، يذهبون بأمه إلى المستشفى، وتلد، ويأخذون طفلاً، فينظرون فيه، فيقولون: سبحان مَن خَلَق! وأمه -التي هو في بطنها- لا تعلم عنه شيئاً، وإذا به مُصَوَّرٌ ومُرَكَّبٌ مِن عينين، وسَمْع، وبصر، ولسان، وفؤاد، ويَدَين، ورِجْلَين.
مَن الذي خلق هذا الإنسان؟! ومَن صوَّره؟! ومَن ركَّبه؟! ومَن شقَّ سمعه؟! ومَن شقَّ بصره؟! ومَن نفخ فيه الروح؟! مَن أعطاه هذا التناسق، وهذا البناء العظمي، والبناء الهضمي، والبناء الدموي، والبناء التنفسي؟! كل أجهزته متناسقة ومنظَّمة، ما رأيكم لو جاءت خلية الرِّجْل عند رأسه؟! فطلعت رِجْلُه في رأسه وعينه في رجله؛ لأنه ما من جزئية من جزئياتك إلا ولها في الأصل خلية صغيرة، فخلية العين تنبت عيناً، وخلية الإصبع تنبت إصبعاً، وخلية السمع تنبت سمعاً، وخلية الرِّجْل تنبت رِجْلاًَ؛ لكن وقت أن تضع هذه النطفة في رحم الأم فإن الخلايا كلها تكون موجودة، وكل خلية في مكانها، لا تتحرك حركة واحدة عن مكانها الثابت، ثم يحصل التوقيع، ويحصل النمو في تطور مراحل التقويم، ثم يجعل الله هذا الطفل في قرارٍ مكين، يقول الله: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:20 - 24].
يخرج الطفل هذا وإذا به مخلوق، فمَن خلقه؟! الله.
حسناً الذي خلقه أليس قادراً على أن يعيده؟! لا إله إلا الله! {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم:27] يذكر الله تبارك وتعالى في سورة الروم أن الإعادة أسهل من البداية.
عندما تبني جداراً ثم تهدمه، فإعادته أسهل من بدايته، لماذا؟! لأنك عندما بدأته جئت بحجارة، وجئت بطوب، وتعبت؛ لكن لَمَّا ترده فكل شيء موجود، الأعضاء موجودة؛ وهذا في مقاييس البشر، ولكن ليس عند الله أهون ولا أصعب؛ لأنه على كل شيء قدير.
يقول عزَّ وجلَّ في سورة الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:5 - 7] فالله تبارك وتعالى ذكر في القرآن عملية البعث، واستشهد عليها بمثالٍ يَتِمُّ الآن أمام أبصارنا وهو: إحياء الأرض بعد موتها، والذي أحياها قادرٌ على إحياء الناس بعد موتهم.
وهناك مماثَلة ومشابَهة بين إعادة الأجسام في إنباتها وبين إنبات النبات بنزول الماء، فإنها إذا نزل عليها الماء في الأرض تحركت وأنبتت ودبت فيها الحياة، وضربت الجذور في الأرض وسُقِيَت بماء السماء، فإذا هي نبتة خضراء جميلة فيها ثمار.(62/16)
الإنسان ينبت من عجب الذنب الذي لا يبلى
كذلك الإنسان في الآخرة يتكون ويبدأ مِن عظمٍ صغير، عندما يصيبه الماء الذي ينزل من السماء ينمو ويعود كما كان، وهذا العظم هو عَجْبُ الذنب، وهو عظم صغير في آخر السلسلة الفقرية -العمود الفقري- يَفْنَى الجسد، أو يُحْرَق، أو يُفَتَّت، أو يُطْحَنَ، وهذا العظم الصغير لا يَفْنَى.
توجد بذور الآن تُحْرَق حرقاً، بل تُهْضَم وتؤكل وتتحوَّل، وإذا خرجت إلى الخارج تجدها تنبت، مثل بذور الطماطم، إذا أكل الإنسان الطماطم، وبعد أن يأكلها ويهضمها وتقطعها معدته، ثم إذا تغوط في الخلاء، وجاء المطر ترى نبت الطماطم يخرج، من أين؟! من النبتة التي ما هضمتها المعدة.
كذلك هذه الحبة عَجْبُ الذنب الموجودة في آخر العمود الفقري؛ يَفْنَى كل شيء في الإنسان إلا هي، إلى أن ينزل عليها ذلك الماء من السماء.
وأصل الذنب في آخر العمود الفقري دل عليه الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بين النفختين أربعون، ثم ينزل من السماء ماءٌ فينبتون كما ينبت البقل، وليس في الإنسان شيءٌ إلا يَبْلَى، إلا عظم واحد وهو عَجْبُ الذنب، منه يُرَكَّب الإنسان يوم القيامة).
وهذا العظم في آخر العمود الفقري، قال في الحديث: (إن في الإنسان عظماً لا تأكله الأرض أبداً، منه يُرَكَّب يوم القيامة، قالوا: أي عظمٍ هو يا رسول الله؟! قال: عَجْبُ الذنب).
وفي رواية في صحيح البخاري وفي الموطأ أيضاً، وعند أبي داوُد، والنسائي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم تأكله الأرض إلا عَجْبُ الذنب منه خُلِق وفيه يُرَكَّب).(62/17)
حفظ الله لأجساد الأنبياء
قد دلت الأحاديث الصحيحة أن أجساد الأنبياء لا يصيبها البلاء، فجميع البشر تأكلهم الأرض إلا الأنبياء، وبعض الشهداء الذين يكرمهم الله عزَّ وجلَّ فلا تأكلهم الأرض، وقد حصلت هذه الكرامات لبعض شهداء أفغانستان، شهداء ماتوا ووجدوهم بعد فترة طويلة ودماؤهم ما زالت تنزف، وأجسادهم ليِّنة رطبة كأنهم ما توا في تلك اللحظة.
كذلك أجساد الأنبياء لا تأكلها الأرض لِمَا رواه أبو داوُد بسندٍ صحيح قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) لا تأكلهم الأرض فأجسادهم موجودة كما ماتوا إلى يوم القيامة، وإذا بُعِث الرسول يوم القيامة وإذا بجثته التي كان عليها يوم أن مات -صلوات الله وسلامه عليه-.
وقد ذكرت كتب التاريخ أن مجموعة من النصارى أرادوا أن يسرقوا جسد النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا اثنين منهم، وجاءوا إلى المدينة المنورة، وتعبدوا في الحرم -وهم نصارى- وأظهروا النسك والعبادة، وانقطعوا للعبادة في الحرم النبوي، وكانوا لا يخرجون من المسجد أبداً، بالليل والنهار عبادة، وقراءة، وبكاء عند القبر وعند الحُجْرَة، مِن أجل أن يبلغوا حاجةً في صدورهم، وهي سرقة جسد النبي صلى الله عليه وسلم، وأَمِنَهم الناس، وأحبهم الناس، ورأوا أن فيهم علامات الصلاح والولاية، وشيئاًَ لا يتصوره العقل.
وكانت لديهم نقود أتوا بها من بلادهم والدول التي أرسلتهم، فقاموا واشتروا داراً قريبةً من حُجْرة النبي صلى الله عليه وسلم التي فيها قبره، وصاروا يجلسون طوال اليوم وجزءاً من الليل في المسجد، ثم يذهبون وينامون في غرفتهم التي بجوار المسجد.
ثم حفروا لهم حفرةًَ في وسط الغرفة، وبدءوا ينبشون الأرض من الداخل، من أمام المنطقة التي تصل بهم إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وبطريقة مخفية وسهلة ولا يكتشفها أحد، وعلى مدة من الزمن، فهم لا يريدون أن يسرقوا الجسد في سنة، أو سنتين، أو ثلاث، بل لا يُخْرجون في بعض الأيام من التراب إلا زنبيلاً أو زنبيلين؛ لكن مع الزمن يقال: (جبال الكحل تفنيها المراود).
فهؤلاء بدءوا في طريقتهم حتى لم يبقَ بينهم وبين جسد النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه إلا شيئاً يسيراً.
وإذا بالإمام المجاهد العظيم نور الدين الزنكي وهو في دمشق -حاكمٌ من حكام الدولة الأيوبية- إذا به يرى في المنام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: يا نور الدين، أنقذني مِن هذين، وهما رجلان أمامه، فتفرَّس في وجهيهما ورآهما، فإذا بعلامات الصلاح والهداية والنور تبدو منهما.
قال: فقمتُ وصليتُ ثم نمتُ، وإذا به مرة ثانية في الليل يقول: أنقذني يا نور الدين مِن هذين.
قال: فصليتُ ونمتُ وعزمتُ أن أعمل شيئاً، وإذا بي أرى الرؤيا مرة ثالثة: يا نور الدين، قم أنقذني مِن هذين.
وإذا بالرجل لم يعد يأتيه نومٌ، فقام ونادى وزراءه، وأمر بالجيش وجهَّزه، وأخذ المال والرجال، وما أمسى بعد أسبوعين إلا في المدينة المنورة.
ولما قَدِم المدينة المنورة نزل في بيته، وأعد وليمة وهدايا، وطلب من حاكم المدينة أن يجمع أهل المدينة كلهم، وأن يدخلهم من أمامه ليعطيهم الجوائز، فجمع الناس كلهم في صعيدٍ واحد وبدءوا يدخلون من أمام الملك والملك يقسِّم عليهم، وينظر في وجوههم، إلى أن انتهى الناس كلهم، ولم يجد أحداً تنطبق فيه صفات هذين الرجلين الَّذَين رآهما في المنام، سأل الأمير قال: بقي أحد في المدينة؟ قال: أبداً، لم يبقَ أحد إلاَّ رجلَين زاهدَين عابدَين منقطعَين في العبادة، لا يريدان الدنيا، ولا يريدان العطايا، ولا يرغبان في الجوائز، ولا يخرجان من المسجد، فهما من أهل الله، لا يأتون أبداً، قال: ائتوا بهم إليَّ.
فأرسل الرجال، فأخذوهما، وجاءوا بهما، وعندما دخلا عليه، وإذا بهما هما اللذين رآهما في المنام، وهما صاحبا الصورة، فقال: أدخلوهما.
فأدخلهما السجن، وبدأ التحقيق معهما، وتفتيش بيتهما، وعندما جاءوا إلى البيت وإذا بظاهره فراش ولا أحد يشك فيه، ففتحوه وإذا بالحفرة تحته، فنزلوا فيها وإذا بهم لم يبقَ بينهم وبين قبر الرسول إلا قريباً من شبر فقط.
فأمر بقطع رأسيهما بعد أن اعترفا، فقالا: نحن جئنا من الجهة الفلانية لسرقة جسد النبي صلى الله عليه وسلم.
فأمر بقطع رقبَتَيهما في السوق علناً، ثم أمر فضُرِب حول قبر النبي صلى الله عليه وسلم بدائرة صبَّت بالرصاص، بحيث لا يستطيع أحد أن ينقضها بأي حالٍ من الأحوال، وهذا من حماية الله لجسد النبي صلى الله عليه وسلم.
يبعث الله العباد على ما ماتوا عليه، ولهذا احذر لا تمُت وأنت حالقٌ للحيتك، فتُبعث حالقاً للحيتك.
بأي وجه تقابل الرسول ووجهك ليس مثل وجه الرسول صلى الله عليه وسلم؟! كيف تقابل الرسول وأنت حليق؟ مَن قدوتك وأنت حالق؟! اسأل نفسك الآن: مَن الذي يحلق؟! هل هو الرسول؟! لا.
هل هم الصالحون؟! هل هم الصحابة؟! لا.
الذي يحلق هم المجوس واليهود والنصارى، فليسوا قدوتك أنت، الله يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] لكن من هو الذي له أسوة حسنة في رسول الله؟! {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب:21] ولا تتذرع ولا تتعذر وتقول: والله اللحية لا تعني شيئاً، الإيمان في القلوب، نقول: صدقتَ، ولا نقول لك: إن الإيمان في اللحية، بل الإيمان في القلوب؛ ولكن للإيمان شواهد في الجوارح، ومِن شواهد الإيمان في الجوارح هذه اللحية، ولا نعني بذلك أن كل مَن ترك لحيته أصبح مؤمناً، لا.
فقد يترك الإنسان لحيته وقلبه خاوٍ من الإيمان، ونحن لا نريد اللحى الشيطانية والجاهلية، نريد لحىً مبنية على الإيمان، الغرض منها التأسي والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تقُل: لا يا شيخ! هذه قشور، والكلام في اللباب، لا.
ليس في الإيمان قشور ولا لباب، الدين كله لباب، الذي يقول: إن في الدين قشوراً ولباباً فهذا يهد الدين، وهل أمْرُ الرسول قشور؟! ليس هناك أمر للرسول إلا لباباً، صلوات الله وسلامه عليه.(62/18)
ما يختلف فيه حال المرء في الدنيا عن الآخرة
فالله يعيد العباد أنفسهم؛ ولكنهم يُخْلَقون خلقاً يختلف عما كانوا عليه في هذه الحياة، هناك اختلافات، ما هي الاختلافات؟ الاختلاف الأول: أنهم بعد هذه الإعادة لا يموتون أبداًَ: لأن الله يقول: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17] لا أهل الجنة يموتون ولا أهل النار يموتون، لا أهل الجنة يموتون بزيادة النعيم، ولا أهل النار يموتون بزيادة العذاب.
وفي الحديث الذي رواه الإمام الحاكم بسندٍ صحيح قال: عن عمرو بن ميمون الأودي قال: (قام فينا معاذ بن جبل فقال: يا بني أود -قبيلة- إني رسول رسول الله إليكم، أُعْلِمُكم بالمعاد إلى الله، ثم إلى الجنة أو النار، وإقامة لا ظعن فيها، وخلود لا موت فيه، في أجسادٍ لا تموت ولا تبلى).
وراوي الحديث هذا عمرو بن ميمون الأودي هو راوٍ لحديث في صحيح البخاري، حديث القِرَدة، في فضائل الصحابة، في مناقب الأنصار في صحيح البخاري: الحديث: (أنه كان في سفر من مكة إلى المدينة، وفي الطريق نام تحت حجر في هضبة، وبينما هو مستلقٍ يرتاح، إذا بالقردة عنده، فرأى قرداً كبيراً في السن معه قردة شابة -زوجته- نائمة هي بجانبه، وبينما هما نائمان إذ أخْرَجَتْ -نزعت- يدَها من تحت رأسه وتركته وذهبت وراء الحجر، فجاءها قرد شاب وفعل بها، ثم رجعت وأدْخَلَتْ يدَها تحت رأسه ونامت -كأنه لم يحصل شيئاً- لكنه لما استيقظ شم سوءتها، ثم صاح صياحاً عنيفاً، فاجتمع القردة وأمسكوا بها ووضعوها في الوسط، وبدءوا يفتشون كل القردة حتى جاءوا بذاك القرد الذي فعل بها، وجمعوه مع القردة، وعملوا لهما دائرة، ورجموهما بالحجارة حتى ماتا) هذا الحديث في صحيح البخاري، ويستدل به العلماء على أن الزنا جريمة وفاحشة تأنَف منه حتى الحيوانات، حتى القردة لا تمارسه، وبعض البشر يمارسه والعياذ بالله.
هذه خاصية؛ أنهم لا يموتون.
الخاصية الثانية: أنهم في الآخرة يُبصرون ما لم يكونوا يبصرونه في الدنيا: فإنهم يرون الملائكة: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} [الفرقان:22] ويرون الجن، هذه خاصية ليست موجودة في الدنيا.
الخاصية الثالثة: أن أهل الجنة لا ينامون، وأهل النار أيضاً لا ينامون: فأهل الجنة لا ينامون حتى لا يفوتهم شيء من النعيم، وأهل النار لا ينامون حتى لا يستريحوا من شيء من العذاب؛ لأن النوم راحة؛ لكن ليست هناك راحة في النار، وليس هناك فوات لِلَحظة من لحظات النعيم في الجنة، بل نعيم في نعيم.
الخاصية الرابعة: أنهم لا يتغوَّطون، ولا يبصقون، ولا يتبوَّلون: وإنما أكلهم في الجنة رَشْحٌ، لونُه لون الرشح والعرق، وريحه ريح المسك.
وهذه خاصية ليست موجودة في الدنيا.
الخاصية الخامسة: أنهم يرون الله تبارك وتعالى في الجنة، بالنسبة لأهل الإيمان، وأهل النار لا يرون الله تبارك وتعالى.(62/19)
من أحوال البعث والنشور(62/20)
أول مبعوث وأول شافع محمد صلى الله عليه وسلم
وأول مَن يُبعث ويخرُج من الأرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه خاصية له وكرامة؛ لأنه أول مَن يَشفع في الناس، وأول من يُبعث من مبعثه يوم القيامة، يقول -والحديث في صحيح مسلم -: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول مَن ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفَّع) صلوات الله وسلامه عليه، وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم حديث: (استَبَّ رجلٌ من اليهود ورجلٌ من المسلمين، فقال المسلم: والذي اصطفى محمداً على العالمين، وقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فلطم المسلم اليهودي عندما قال: والذي اصطفى موسى- فاشتكى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبره بالذي كان من أمْرِ المسلم ولَطْمِهِ له، فقال: لا تفضلوني أو لا تخيِّروني على موسى، فإن الناس يُصْعَقون، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى قائم بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صَعِق فأفاق، أو كان ممن استثْنَى الله) كما في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل:87] أي: لم يمت أصلاً.
يقول العلماء: إن هذا خرج من الرسول صلى الله عليه وسلم مخرج التواضع، وعدم التعالي على الأنبياء، وإلا فإنه سيد ولد آدم ولا فخر، فهو سيد العالمين، حتى أن الأنبياء يوم القيامة منهم موسى نفسه يقول: اذهبوا إلى عيسى، فإني قد قتلتُ نفساً بغير حق، وإني لا أستطيع أن أشفع لكم إلى الله عزَّ وجلَّ، ورغم كرامة موسى على الله وعِظَم منزلته فإن الله عزَّ وجلَّ قال فيه: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41] وقال فيه: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] فهو مصطفىً حقيقةً، ومن أُوْلي العزم الخمسة، وهم: نوح - إبراهيم - موسى - عيسى - محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
بلا جدال ولا مراء، وبالأدلة القرآنية والنبوية يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق، وأول مَن تنشق عنه الأرض يوم القيامة.(62/21)
كل الناس يحشرون ولا يفلت أحد من قبضة الله
يُحشر الناس كلهم ولا يبقى أحد، لا أحد يفلت من قبضة الله، مَن عاش مِن يوم أن خلق الله آدم إلى يوم القيامة لا بد أن يبعثوا كلهم يوم القيامة، ولا يغيب عن ميزان الله أحد، ولهذا سَمَّى اللهُ يومَ القيامة يومَ الجمع، أي: جمع الناس، يقول الله: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ * فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود:103 - 109] لا يُنْقَصُ أحد مثقال ذرة من عمله، كان خيراً أو شراً.
ويقول الله: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49 - 50].
ويقول عزَّ وجلَّ: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] وقدرة الله عزَّ وجلَّ تحيط بالعباد مِن أولهم إلى آخرهم؛ لأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وإن هلك العباد فإن الله قادرٌ على الإتيان بهم، فلو هلكوا في الفضاء، أو هلكوا في أعماق الأرض، أو أكلتهم الطيور، أو افترستهم الحيوانات أو أسماك البحار، أو حُرِّقوا أو بُدِّدوا، فإن الله قادرٌ على أن يأتي بهم، يقول الله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:148].
ويقول عزَّ وجلَّ: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28].
ويقول عزَّ وجلَّ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57].
وكما أن قدرة الله غالبة وقادرة ومحيطة على الإتيان بهم، فكذلك علمه محيطٌ بهم، فلا ينسى منهم أحداً.
يقول الله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ} [مريم:93 - 94] من يقدر أن يفلت وقد أحصاه ربي؟! {وَعَدَّهُمْ عَدّاً} [مريم:94] معدودون كلهم في ميزان الله {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:94 - 95].
وقال عزَّ وجلَّ: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف:47].(62/22)
بعث جميع المخلوقات حتى السباع
جميع النصوص الواردة تدل على أن جميع المخلوقات؛ الجن، والإنس، والملائكة، والهوام، والوحوش، والسباع، والطيور، كلها تُحْشَر.
ولكن اختلف العلماء فقط في قضية البهائم! هل تُحشر أم لا؟ والصحيح من أقوال أهل العلم وهو الذي يرجحه شيخ الإسلام ابن تيمية: أنها تُحشر، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أما البهائم فجميعها يحشرها الله سبحانه كما دلت على ذلك الأدلة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عزَّ وجلَّ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38].
ويقول عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:5].
ويقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى:29].
وحَكَى الإمام القرطبي خلافاً بين أهل العلم في حشرها؛ ولكنه رجح كما رجح شيخ الإسلام ابن تيمية أن الحشر لكل المخلوقات ومن ضمنها الوحوش، بنص الآية وبنص الأحاديث التي وردت في هذا.
نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يحشرنا وإياكم في زمرة النبيين، وأن يبعثنا وإياكم مبعث الصالحين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(62/23)
الأسئلة(62/24)
حكم صلاة النساء في مكان لا يرين فيه الإمام ولا من خلفه
السؤال
يقول الأخ الكريم: إنه قرأ في مجلة الدعوة سؤالاً موجهاً للشيخ عبد العزيز بن باز، عن وجود مسجد، وفي نهايته أرض يريد السائلون إقامةَ مبنىً مُسَوَّرٍ، يصلي فيه النساء، ولا يَرَين الإمام، ولا يَرَين مَن يصلي خلفه، فهل تصح الصلاة؟ فذكر وقال: إن الشيخ أجاب وقال: إن في المسألة خلافاً بين العلماء، إذا كُنَّ لا يَرَين الإمام ولا يرين مَن وراءه؛ ولكن يسمعن التكبير، وقال الشيخ: إن الأحوط ألا يصلين في هذا المكان، وأن عليهن أن يصلين في بيوتهن خروجاً من الخلاف.
فيقول: ما رأيكم فيما هو حاصل في معظم مساجد أبها ومنها هذا المسجد، فإن المسجد الآن فيه ملحق وفيه النساء، ولا يَرَين الإمام، ولا يَرَين مَن يصلي بعده؟!
الجواب
حكمها مثلما أجاب فضيلة الشيخ ابن باز؛ لكن القضية كما ذكر سماحته قضية خلافية بين العلماء: فمن العلماء مَن أجاز مثل ذلك.
ومنهم مَن منعه.
والشيخ عبد العزيز أخذ بالأحوط وهو المنع؛ ولكن الجواز وارد على لسان أهل العلم.
ونقول نحن كما جاء في الأحاديث الصحيحة: (إن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، وصلاتها في غرفتها أفضل من صلاتها في بيتها، وصلاتها في مخدعها -أي: في مكان نومها- أفضل من صلاتها في أي غرفة من غرف بيتها) لأن المرأة كلما اختفت واستترت بعبادتها كان فضلها وأجرها عند الله أعظم؛ ولكن إذا كان حضورها للمسجد ليس للصلاة فقط وإنما لسماع العلم مثلما هو حاصل الآن، فإن المرأة لا تأتي إلى هذا المسجد للصلاة، وإنما تأتي لغرض حضور مجلس العلم، وبالتالي تصلي مع الإمام المغرب والعشاء.
فنقول: ما دام أن هناك مصلحة راجحة من وجود المرأة في مجالس العلم لسماع العلم؛ ولأن الأمة تفتقر إلى الداعيات في صفوف النساء، والمرأة لها دور كبير في الدعوة فنحن نقول: إن شاء الله لا بأس بصلاتهن في المسجد في مثل هذا المسجد، وصلاتهن إن شاء الله صحيحة، وعليهن أن يقتدين بالإمام في صلاة المغرب والعشاء، ولكن بشروط: أولاً: أن تكون نية المرأة من حضورها إلى المسجد خالصة لوجه الله: لا تكون نيتها المباهاة، والرياء، والإخبار بأنها كانت البارحة في المسجد، وإنها حضرت البارحة إلى المسجد، فبعض النساء تتمدح بمثل هذا، ولا تدري أحضرت أم لم تحضر! أقُبِل عملها أم لم يُقْبَل! ثانياً: أن تأتي بغير أطفالها، وقد تقول: الأمر صعب؟! نقول: مثلما إذا كنتِ في مدرسة، هل تداومين بأطفالك في المدرسة؟! اتركيهم في البيت، فإذا كنت في المدرسة فإنك تتركينهم من الصباح إلى الظهر، بينما في المسجد من المغرب إلى العشاء، فاتركيهم في البيت.
إذا قالت: ما عندي أحد، نقول: اجلسي في البيت، واستمعي للشريط؛ لكن أن تأتي بالأطفال في المسجد فهذا مستحيل أن تنتفعي مع وجودهم؛ لأن الطفل مشغلة لأمه، يشغلها بالبكاء، وغير ذلك.
فإذا كان عندها طفل فلا تأت به، وكثَّر الله خيرها، وجمَّل الله حالها، وإذا أرادت أن تسمع فلتشتر الشريط.
ثالثاً: أن تصغي إلى سماع العلم، وألا تشتغل بالكلام والسلام والمحادثة مع النساء:- فإن بعض النساء لا يجدن بعضهن إلا في مثل هذه الحلقات، فواحدة ساكنة في المنهل، والأخرى في اليمانية، وواحدة في شمسات، وواحدة في رصد، وواحدة في الشرف، وفرصة التجمُّع والكلام في هذه الندوة: هاه! بشريني، كيف حالك؟! وهل أنت بخير؟! وكم معك من الأولاد؟! وأين أنتم تشتغلون؟! وكيف الحال معكم؟! وظلت تتكلم معها، وتقول: إني أحضر مجالس العلم، وإني كنت البارحة في الندوة! الله أكبر! ما هذا الحضور! ليتك ثم ليتك ما حضرتِ، لماذا؟! لأنكِ أعرضت عن ذكر الله؛ لأن الإعراض عن ذكر الله يقول الله فيه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] أنتِ جئتِ لتستمعي، ولم تأتِ لتعرضي! فإذا كنت جئت من أجل أن تنشئي كلاماً فارغاً، وتكتسبي ذنباً، فالأَولى ألا تحضري، واجلسي في البيت، واستمعي إلى الشريط.(62/25)
حكم اليمين بالطلاق
السؤال
وصلتُ عند أحد الإخوة فطلَّق خمس مرات أن يذبح لي ذبيحة، وأنا طلقتُ خمس مرات أني ما أذوقها، ولكني لَمْ آكل، وإنَّما أكلتُ من الأرز، والأرز مطبوخ بالمرقة، والمرقة عصارة الذبيحة التي طلقت منها؟
الجواب
أقول: إن السائل هذا الذي طلَّق جاهل، والثاني الذي طلق أجهل منه؛ لأن الطلاق شَرَعه الله كمخرج نهائي حينما تكون الحياة الزوجية مستحيلة بين الزوجين، فيقال لها: اخرجي، والله ييسر لك: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130] وليس الطلاق سيفاً يسله الرجل على المرأة في كل مناسبة، وليس شيئاً عظيماً يبرهن به على صدقه في كل مناسبة، بحيث لا يصير كريماً إلا إذا طلق، وإذا ما طلق قال الناس: هذا ليس كريماً؛ لأنه حلف بربي، لا.
هذا لعب، هذا تلاعب بالأيمان، ولو كنت قاضياً وعرفتُ صاحب السؤال لأتيتُ به وعزرتُه وعزرتُ الذي طلَّق، وجعلتهما عبرة للمسلمين، بدل خمس طلقات أصُكُّه بخمسين سوطاً حتى يخرج قلبه، ولن يعود يطلق مرة أخرى.
أقول للأخ هذا الذي طلق، والثاني الذي طلق: عليهما أن يذهبا لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز فوراً، قبل أن يمسا النساء؛ لأن الفتوى التي أنا أفتي بها الآن: أن الذي طلق وحنثَ حَرُمَت عليه زوجته، وهذه الفتوى ليست مني، هذه فتوى صادرة بإفتاء وإجماع هيئة كبار العلماء؛ أن الطلاق المعلَّق على شيء لمنعٍ أو دفعٍ إذا وقع وقع، والشيخ عبد العزيز بن باز ومعه مجموعة من أهل العلم أعضاء هيئة كبار العلماء لهم وجهة نظر وتحفُّظ على هذه الفتوى، وقالوا فيها: إن كان المراد بالطلاق القَسَم فكذا، وإن كان كذا فكذا، لهم تفصيل لا آتي به الآن؛ لكن أنا هذا الذي فهمتُه وقرأتُه وتحقَّق عندي من خلال المراجعة للنصوص، وناقشتُ فيه العلماء، واتصلتُ بهم وقلت: كيف يقول سماحتكم: إن كان نيته الطلاق وهو يطلق، بينما ورد في الأحاديث الصحيحة: أن (ثلاث جِدُّهُن جِدٌّ وهزْلُهن جِدٌّ)؟! فلو أن واحداً وهو جالس مع امرأته حالما يتعشون قال لها: يا فلانة.
قالت: نعم.
قال: لاحظي أنك مطلقة بالثلاث! أنا أمزح.
ما رأيكم في طلاقه؟! طلاقه يقع مباشرة، ولو كان يمزح، لماذا؟! لأنه لا لَعِبَ في الطلاق! فكيف بواحد يطلق خمس مرات وليس ثلاث مرات أنه لا يأكل ثم يأكل؟ فالآن أقول لكما أيها السائلَان: عليكما أن تذهبا إلى سماحة الشيخ، فتأخذا فتوىً عاجلة قبل أن تمسَّا النساء.
وانظروا إلى هذا الجهل يا إخواني! لماذا تطلِّق؟! لماذا؟! إذا جاءك ضيف قل: ما رأيك؟! أعشيك؟! تريد أن أذبح لك؟! نأكل من الموجود! فأنت ستخسر [1000] ريال أو [500] ريال، فإن قال: لا.
فقل: الله يكثر خيرك، ووفَّرتَ، والخمسمائة ريال سنرسلها للأفغان الذين يموتون جوعاً، ويأكلون العيش الناشف، إي نعم.
وإذا قال: نعم.
فقل: الحمد لله، والله سنذبح لك، ولكن أن يكون غصباً فلا.
وإذا كان قد حلف العازم وطلَّق، فدعه يطلِّق ويذبح، حتى لو ذبح سبعين ذبيحة، ما دام أنه جاهل وأحمق دعه يذبح؛ لكن الآن النساء في مشكلة، وهم في مشكلة، وذاك يأكل منها كأنه يأكل من دمه.
وقد ذكرتُ لكم قصة في مسألة الذبائح هذه، عندما يأتيك ضيفك، أو جارك، أو قريبك.
كان الناس في الماضي يذبحون ويعزمون الجيران، لماذا؟! كرماً ومواساةً؛ لأن كل بيت يشم مرق البيت الذي فيه الوليمة، فإذا رأوا أن فيه ذبيحةً ووليمةً ولحماً وشحماً وأرزَّاً، قالوا: يكون في هذا البيت ولا يعزموننا؟! الله يهديهم، هكذا لا يعزموننا؟! إذاً نغضب عليهم؛ لأننا عشنا في ليلة البارحة على كسرة ناشفة، أو على عيش ناشف.
لكن اليوم في كل بيت ذبيحة، أليس كذلك؟! أين البيت من بيوت المسلمين الذي ليس مليئاً باللحم، أو الدجاج، أو السمك؟! إذاً: لا حاجة إلى أن تعزم أحداً، بل إن مِن الناس مَن إذا عَزَمْته أغضبته، لماذا؟! لأنك تجعله بين خيارين: إما أن يأتي عندك ويتعشى عندك، ويترك عشاءه مع أولاده، وعنده في بيته عشاء مع أولاده أطيب، كونه يمد يده مع زوجته وأطفاله أهنأ له من أن يمد يديه مع جماعة القرية كلهم أو أولاد الحارة.
أو أنه يترك وليمتك ويقعد في بيته يأكل، وبالتالي تغضب عليه أنت، وتقول: أعزمه ولا يأتي؟! كيف هذا؟! أيقطعني؟! فالأَولى ألا تحرج أحداً بالوليمة؛ وإنما إذا جاءك رحمك أو قريبك فقل: انظر، هذه هي الذبيحة ذبحناها؛ وإذا أردتَ أن نطبخها كلها ونعزم العرب عليها، فإن أتوا أكلوا، وإن لم يأتوا أكلنا من الموجود، ودعهم كلٌّ يأكل في بيته، أو أن نطبخ لك شيئاً منها والباقي نتركه في الثلاجة، إن قعدت عندنا إلى أن تأكلها كلها فجزاك الله خيراً، وإن ذهبتَ فسنأكلها فيما بعد، وبدل أن تكفينا في وجبة تكفينا في عشر وجبات -هذا هو المنطق- والفلوس الزائدة نحولها للذين يستحقونها.
قصة يبرمجها صاحبها: يقول: جئت عند قريب لي، فدعوته، وقلت له: يا أخي! انظر، جئت وأنا مرهق، أريد أن أسمر معكم هذه الليلة، إذا كان في الثلاجة لحمة فاطبخوا لنا، أو عصيدة، أو مرقاً، أو أرزاً، ودعني آكل معك أنا وأختي -زوجة الرجل هذا- وأولادها وأنت، ودعنا نسمر ونتعشى، أريد أن أسمر معك.
قال: أبشر، ولن نعمل شيئاً أبداً، أنت جئت إلينا، ونحن نهب لك الموجود، ولن نتكلف شيئاً.
فلما خرج من الغرفة ذهب إلى التليفون، ودقَّ على المندي وقال: خروفان تكون بعد المغرب جاهزة.
يقول الرجل: فجلستُ معهم إلى المغرب، ودخلنا المسجد وصلينا، ورجعنا، ثم أرسل ولده إلى الحارة كلها، إعلان استنفار: تعالوا لتتعشوا، فما هي المناسبة؟! إنه جاءنا ضيف.
يقول: لما دخلنا بعد المغرب جلستُ، وأنا جالسٌ دَخَلَ شخصٌ ما عرفتُه: السلام عليكم.
فأقوم لأحييه: وعليكم السلام.
ثم أقْعُد.
والثاني: السلام عليكم.
فأقوم لأحييه، ثم أقعُد.
والثالث: السلام عليكم.
فأقوم لأحييه، ثم أقعُد.
يقول: فما أذَّن العشاء إلاَّ وقد قمتُ وقعدتُ (100) مرة تقريباً.
هذه أول عشائي.
يقول: ثم إن البيت فيه حالة من الاستنفار، الكهرباء مُوَلَّعة، والنساء هناك يعملون الإدامات، ويقطِّعون السلطات، ويعملون المحلبيات، والغرف مفتَّحة، ودنيا، أي: (هَيْلَمَة).
يقول: وعند صلاة العشاء خرجنا لنصلي، وبعد صلاة العشاء جاء الناس كلهم، فأتعبوني، فلا أنا أعرفهم، ولا هم يعرفونني، ولا يتكلمون معي، ولا أتكلم معهم.
وأخيراً قال: تفضلوا.
فدخلنا، وعندما جئنا على السفرة، وإذا به قد ذبح خروفين، وعندما جئت لأقعد وضعوني أمام الذنب والرأس، الذنب لا لحم فيه، والرأس ليس فيه إلا العظام.
يقول: فشهَّر بي، وأعلن على رءوس الملأ، قال: الله يحييكم على شرف فلان -أي: لاحظوا! هذا فلان الذي دمَّر بيتنا، وخرَّب علينا هذه الليلة، وذبحنا له خروفين، الله يحييكم.
فقلت: الله يخلف عليك، يقول: فعمدتُ أبحث لي عن شيء آكله، فالذنب لا يؤكل، والرأس لا أحبه، وليس فيه إلا العظام، وأبحث عن الأرز، فما أراه؛ لأنه غطي عليه بالذنب، فأُرَى كأني سارق، أدخل الملعقة وأخرجها نصفها من الأرز، والناس هناك يأكلون من الظهر ومن الجُنوب في الصحون الأخرى، فلا أحد منهم تنبَّه لي ووَهَبَ لي لحمة، ولم أستطع أن أمد يدي؛ لأنني استحييت، فأكلت؛ ولكن ليس إلا مُسارَقة حتى أكملتُ وقمتُ، والله إني قمت وأنا جائع، وإني قلتُ في نفسي: الله لا يخلف عليك، ما هذا؟! هذا عشاءٌ للجماعة؟! ما لي ولهم، أريد أنا أن أتعشى، لا أريد أن تُعَشِّي الجماعة! يقول: ولما سرى الناس وخرجوا، قامت أختي مسكينة تأخذ الصحون وتأخذ الطعام هي وبناتها وأهل البيت، في عذاب وفي تعب وفي مشكلة.
يقول: وعندما جاءت الساعة العاشرة، قد تفلَّخت وقد تملَّخت من التعب، دعوتُها: هاه! تعالي، هل معكم خبزة؟! قالت: كيف يا أخي؟! قال: والله لم أتعشَّ بعد، قالت: كيف ما تعشيت؟! قال: ماذا أفعل؟! وضعوا الذنب أمامي والرأس، فلا أنا آكل الذنب، ولا أنا آكل الرأس، واستحييت من الناس أن أقول: هبوا لي لحمة، فأنا الآن جائع.
فذهبَتْ إلى المطبخ وإذا بالمطبخ كسرة خبزة، فجاءت بها على بقية سلطة.
يقول: والله الذي لا إله إلا هو إن تلك الكسرة أهنأ إلى قلبي من ذبيحته.
طيب! ما رأيكم لو أنه أخذ له نصف كيلو لحمة أو كيلو أو اثنين وطبخها له، وتعشى هو وأهله، ثم أرسل الألف ريال أو الألفي ريال إلى المجاهدين؟! كيف سيكون ثواب ذلك عند الله؟! لكن يوم ألا تكون النفقة لله يكون الشخصُ كريماً، لو طُلب منه وقيل له: ضع الألف ريال.
لقال: لماذا؟! وما لي وما لـ أفغانستان؟! لا يضعها لله؛ لكن يضعها للشيطان، وللرياء، وللمكابرة، وللمجابرة، هذه -والعياذ بالله- مصيبة.(62/26)
حكم الرضاع الشرعي وعدده
السؤال
أرضعت أمي بنتَ أختي بغير علم، فهل تعتبر بنتُ أختي أختاً لي أم لا؟! علماً بأنها أختي من أمي وأبي، وهذه ليست أول مرة أسأل فيها هذا السؤال؟
الجواب
إذا أرضعَتْ أمك بنت أختك سواءً بعلم أو بغير علم الرضعات الشرعية، وهي خمس رضعات، والرضعة في الشرع هي الفترة التي يلتقم فيها الطفل الثدي ثم يمصه ويدعه من نفسه، ولو مصة واحدة أو مائة مصة، أعني: لو مسك الطفل الثدي، وجلس يرضع ساعة، ثم تركه صارت واحدة، ولو مسك الطفل الثدي مرة ومصَّة لحظة ثم تركه صارت واحدة، فإذا رضَعَت هذه البنت من أمك خمس رضعات فقد أصبَحَت أختك من الرضاعة، رغم أنك أنت خالها؛ لكنها أختك من الرضاعة.(62/27)
تحل ملك اليمين لسيدها بدون عقد ولا صداق
السؤال
يقول عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5 - 6] هل تحل ملك اليمين لسيدها بدون عقدٍ وصداق، أم يتزوجها بعقدٍ وصداق؟
الجواب
لا بعقدٍ ولا بصداق، وإنما بالتسرِّي، يجوز للرجل الذي عنده أَمَة مملوكة أن ينكحها بدون عقد؛ لأنها ملك اليمين، هي له يبيعها كما يبيع السلعة، ينكحها، ويتسرى بها، ولا تُحْسَب مِن ضمن زوجاته، يجوز أن يتسرى ولو كان عنده ألف واحدة، الزواج أربع، أما التسري فيتسرى الإنسان بما يشاء من ملك يمينه، فينكح ما شاء بغير عقدٍ ولا نكاح.(62/28)
أسباب الخلاف بين الأئمة الأربعة
السؤال
ما سبب الخلاف بين الأئمة الأربعة رحمهم الله؟
الجواب
الجواب على هذا السؤال يحتاج وقتاً طويلاً؛ لكني أدلُّ السائل والإخوة على كتاب لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو موجود في الأسواق، اسمه: رفع الملام عن الأئمة الأعلام، اعتذر فيه رحمه الله عن الأئمة بعشرة أو أحد عشر عذراً في سبب الخلاف الواقع بينهم رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين.(62/29)
حكم الصور الممتهنة التي عمت بها البلوى
السؤال
بالنسبة للصور التي تملأ البيوت في حاجات الطعام، والعلب، والجرائد، والحفائظ، وغيرها، هل إذا دَخَلَت المنزل تذهب الملائكة؟
الجواب
قد ذكرتُ هذا؛ أن سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز قال: الصور الممتهنة التي عَمَّت بها البلوى والتي يصعب على الإنسان طمسُها فهي إن شاء الله مما هو معفوٌ عنه؛ ولكن -أيضاً- لِيَتَّقِ اللهَ الإنسانُ ما استطاع، حاول بقدر استطاعتك أن تغيِّر، علبة الحليب، حاول أن تشطب عليها، علبة اللبن، حاول أن تشطب عليها، أي شيء تراه حاول أن تغيره؛ لأنه عبادة إذا غيرت الصورة وشطبت عليها، فالله يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن:16].(62/30)
حكم الحركة الكثيرة في الصلاة وأنها تنافي الخشوع
السؤال
ماذا تقول فيمن يلعب بغترته، ويبعثر لحيته أكثر من مرة بعد تكبيرة الإحرام؟ أفتونا ولكم جزيل الشكر؟
الجواب
هذا الرجل الذي يعبث بلحيته ويلعب بغترته قلبه غير خاشع؛ لأنه لو خشع قلبه لسكنت جوارحه، فإذا رأيت الإنسانَ يعبثُ ويصول ويجول ويتحرك، ويُكثر، فاعلم أن قلبه ليس موجوداً في المسجد؛ لأن القلب إذا شَرَد تمردت الجوارح، العين تبدأ تنظر، والأذن تبدأ تسمع الكلام الذي في الخارج، واليد تبدأ تحك، والجسم يبدأ يضطرب، وكل شيء يبدأ في الحركة، أما إذا حضر القلب، وبدأ الإنسان يركز ويفكر ويؤكد على قضية الخشوع فإن كل شيء يخشع؛ لأن القلب ملك الجوارح، إذا كان مدير الإدارة موجوداً في الدائرة فما رأيكم في بقية الموظفين؟! الكل على مكتبه، أليس كذلك؟! لكن إذا خرج المدير فماذا يفعلون؟! يسألون: المدير موجود؟! فيقال لهم: لا.
فيقال: إذاً: عندي عذر، أو عندي معاملة، أو أريد أن أذهب إلى السوق، أو أريد أن أذهب إلى المستشفى.
ولن يقعد أحد.
وكذلك فمدير الجوارح هو القلب، إذا حضر تجد كلَّ شيء مكانه، العين لا تقدر أن تنظر، والأذن لن تسمع، واللسان كذلك، لماذا؟! لأن القلب موجود، أما إذا خرج القلب خرجت الجوارح، هذا مثال واقعي تماماً (100 %).
فنقول للأخ الكريم: إن هؤلاء نسأل الله أن يتوب علينا وعليهم، وأن يحمينا وإياهم من نزغات الشيطان.
وهناك وسائل كثيرة لجلب الخشوع في الصلاة، وإن شاء الله سوف أقدم درساً خاصاً في هذا الموضوع بعنوان: (كيف يخشع المسلم في صلاته؟!) فالخشوع ليس سهلاً -يا إخواني- هذا لا يقدر عليه إلا أفراد من البشر؛ لأن كثيراً من الناس يستطيعون قمع الشيطان، وقهره بأداء الصلاة جماعة في المسجد؛ لكن الشيطان يعرف أنه لا يُكتب للإنسان من صلاته إلا ما حضر فيها قلبُه، فهو يَسْمَح لهم بأن يأتوا ليصلوا؛ لكن لا يسمح لهم بأن يصلوا بخشوع، ولذا جرب أنت من الآن، لما نصلي العشاء الآن جرب وحاول وأنت تسمع الفاتحة أن تركز على المعاني، وأن تفكر في الصلاة، وفي الآخرة، وفي الجنة، وفي النار، ولا تركز في أي شيء خارج الصلاة، كيف تشعر؟! تشعر بضيق، تشعر بانقباض، من أين جاء الضيق والانقباض؟! من الشيطان، ولا يزال بك إلى أن يأخذ قلبك فتخرج من الصلاة، وكثير من الناس يخرج قلبه من الصلاة؛ لكن لو جئت تأكل لتتعشى، ووضعوا أمامك؛ سفرة الطعام؛ وفيها الأرز واللحم والمحلبية والسلطة والإدام والعيش واللبن، هل يفكر الإنسان في غير هذه؟ أيوسوس في غير الأرز؟! أم يوسوس في غير اللحم؟! أبداً، لا وسواس إلا في هذا؛ لكن في الصلاة لا يحضر قلبك، لماذا؟! لأن الشيطان حريص عليك أنك لا تصلي.
فالموضوع هذا مهم جداً، ولا يثبُت له ولا يستطيع عليه إلا من وفقهم الله، وإن شاء الله نتعرض لهذا الموضوع بشيء من التفصيل في رسالة كاملة إن شاء الله، أو في موضوع درس كامل (كيف يخشع المسلم في صلاته؟!) لأن الخشوع له أسباب: أسبابٌ قبل الصلاة: أسباب تبدأ وأنت ما زلت في البيت.
وأسبابٌ في مشيك، وأسبابٌ في وقوفك في صلاتك كتحية المسجد، وأسبابٌ في قراءتك للقرآن: أتدري أن قراءتك للقرآن بين الأذان والإقامة لها دور في خشوع القلب، وأسبابٌ في الدعاء: الدعاء الذي تدعو به بين الأذان والإقامة؛ لأنه وقت إجابة، فله سبب في حضور القلب، وأسبابٌ في التفكُّر، وأسبابٌ في التذكُّر، وأسبابٌ في المراعاة، وأسبابٌ بعد الصلاة: في أثر الصلاة في حياتك.
هذه كلها تؤثر على خشوع القلب.
لكن من يقعد في بيته إلى أن تقام الصلاة، ثم إذا أقيمت جاء جرياً، ثم دخل: الله أكبر، بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:1] وهو مُتعب ويسرع في صلاته، كيف يخشع هذا في صلاته؟! هذا مسكين، هذا مخدوع.
لكن ذاك الذي يأتي من الأول، ويصلي، ويجلس، ويدعو، ويقرأ، ويرتل، ثم يقوم وهو مستعد، هذا الذي يصير في قلبه خشوع.
وإن شاء الله سوف نتعرض لهذا بإذن الله في المستقبل.
والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(62/31)
انشراح الصدر [1،2]
الهداية نعمة عظيمة يمنحها الله لمن يريد من عباده، وهي ضمان لجلب السعادة وانشراح الصدر.
وقد شرح الله صدور أنبيائه، فقاموا بالدعوة على وجهها الأكمل، وامتن الله بهذه النعمة على رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد حوت هذه المادة بياناً لعاقبة الإعراض عن الله، مع إيراد قصة أسئلة قريش التي أخذوها من اليهود، ووجهوها للرسول صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى الحديث عن أسباب انشراح الصدر.(63/1)
نعمة الهداية وانشراح الصدر
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالصحة والعافية في الأبدان، ولك الحمد بالأمن والطمأنينة والاستقرار في الأوطان، ولك الحمد بالأرزاق التي تُجلَب رغداً لنا من كل مكان، اللهم لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا، من قديم أو حديث، أو شاهد أو غائب، أو حي أو ميت، اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد بعد الرضا، ولا حول ولا قوة إلا بك.
أيها الإخوة في الله! إن من أجلِّ النعم ومن أعظم المنن على العبد في هذه الحياة، أن يشرح الله صدره للإسلام، نعمة ليست كسائر النعم، لأن جميع النعم تؤدي دوراً ثم تنتهي آثارها، أما نعمة شرح الصدر للإسلام فهي نعمة تلاحقك آثارها في الدنيا، وعند الموت، وفي القبر، وعلى الصراط، وفي عرصات القيامة حتى تدخل الجنة.
فالمال نعمة -ولا أحد ينكر هذا- وهو مما حبب إلى الناس، ولكن ينفع فقط إلى أن يموت الإنسان فإذا مات فلا مال له، والمال للورثة من بعده.
والمنصب نعمة، الأمر والنهي والتكريم والتبجيل نعمة، وكل إنسان يحبها، ولكنها نعمة تنتهي بانتهاء المنصب، فإذا انتهى المنصب انتهت النعمة.
والعافية نعمة، والأولاد نعمة، والزوجات نعمة، وكل متع هذه الحياة في الغالب نعم، ولكنها نعم وقتية زائلة تنفع ثم تنتهي، ولكن النعمة الكبرى هي النعمة التي لا تنتهي، ولا تنقطع آثارها، هي: (نعمة شرح الصدر لهذا الإسلام).(63/2)
امتنان الله على رسوله بنعمة شرح الصدر
امتن الله بها على خير خلقه وأكرم رسله؛ خير من وطئ الثرى، وخير من أقلت الأرض، وصاحب اللواء يوم العرض، نادى الله كل الأنبياء في القرآن بأسمائهم: يا نوح يا إبراهيم {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ} [القصص:31] يا عيسى، كلهم بالاسم إلا محمداً لم يقل الله له: يا محمد، بل قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الأحزاب:45] وقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67].
ناداه باسم النبوة والرسالة أكرم درجة على وجه الأرض، وهذا النبي الكريم امتن الله عليه بنعمة شرح الصدر، فقال له: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] في معرض النعم، وجاءت هذه بعد قصة حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم ضاق لها صدره في هذه الأرض؛ لأن الله أخر الوحي عنه خمس عشرة ليلة، حينما جاء كفار قريش وأرسلوا مندوبين إلى يهود المدينة، وقالوا: إنكم قوم أهل كتاب، وقد ظهر فينا رجل يزعم إنه نبي، ونريد أن نسألكم: هل هو نبي أم لا؟ فقال اليهود عندما رجعوا إلى كتبهم: اسألوه ثلاثة أسئلة، فإن أعلمكم بالجواب فهو نبي، وإلا فهو كذاب متقول، قالوا: وما هي الأسئلة؟ قالوا: اسألوه عن رجل صالح طاف الأرض، واسألوه عن فتية آمنوا بربهم وزادهم الله هدى، واسألوه عن الروح، فأخذوا الأسئلة، وجاءوا إلى مكة، وقابلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقدموا له الأسئلة، وهو لا ينطق عن الهوى، ولا يجيب إلا بما يوحى إليه من ربه، ولو تقدم بكلمة واحدة أو تأخر عن الوحي لعاقبه الله، ولهذا قال الله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الإسراء:73] إلى قوله تعالى: {إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:75] بسبب الافتراء، ولكنه حاشاه صلى الله عليه وسلم، ولما قدمت له الأسئلة قال لهم: تعالوا في الغد، ونسي أن يقول: إن شاء الله، من بالغ اعتماده وثقته بربه أنه لن يتخلى عنه، خصوصاً في مثل هذا الموقف الحرج الذي يترتب عليه إسلام أهل مكة أو كفرهم، وهذا موقف مصيري جداً.
والله يربي نبيه صلى الله عليه وسلم، ويعلم تبارك وتعالى من هو الذي سيسلم ومن هو الذي لن يسلم، ويعلم أنهم {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:146] فالقضية ليست قضية عدم قناعة إنما هي عدم رضا بالدين أصلاً، ويرون الآيات الدالات الواضحات، يقول الله تعالى فيهم: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت:51].
وتأملوا في القصة التالية مدى تأثرهم بالقرآن، يذكر أصحاب السير أنه اجتمع الأخنس بن شريق وأبو جهل والوليد بن المغيرة، ويأتون -وهم من صناديد قريش- في الليل ليستمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يسحرهم ويجذبهم ببلاغته وبيانه وفصاحته؛ لأنهم ملوك البيان وأساطين الفصاحة، وهم يتلذذون بالكلام العظيم، وأتوا يسمعون، فتلاقوا في الطريق، فقال بعضهم لبعض: أنتم الكبار، فإذا رآكم سفهاء قريش فماذا يصنعون؟! قال الأخنس بن شريق: نتعاهد على ألا نرجع، فتعاهدوا على ألا يرجعوا، وفي الليلة الثانية إذا بهم يتقابلون، وقد نقضوا العهد وجاءوا لسماع القرآن، لم يستطيعوا أن يصبروا عن بلاغة القرآن؛ لأنهم أصحاب تذوق في هذا المجال، فقال الأخنس: ما دمنا نحن العقلاء ونتعاهد ونخلف، فلماذا لا نسلم، ما يضرنا لو أسلمنا؟ فقام أبو جهل -عليه من الله ما يستحق، فرعون هذه الأمة- وقال: والله لا نسلم، قال: ولِمَ؟ قال: نحن سابقنا بني هاشم في المجد حتى إذا كنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي، فمتى يصير هذا منا، والله لا نسلم!! عنده عنجهية وعناد وإلا فهو واثق أنه رسول الله.
وأبو طالب الذي يلفظ أنفاسه على ملة عبد المطلب يعرف الحق، وهو القائل:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
هو على يقين من صدقه ويدافع عنه، ولكن رأسه (يابس) وصلب، على الكفر ما تزحزح -والعياذ بالله- فهم لا يكذبون الرسول؛ لأنهم يعلمون صدقه، ولكنه إنكار وجحود وتكبر وعناد، ولهذا قال الله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].(63/3)
تأخر الإجابة عن أسئلة قريش والحكمة من ذلك
انتظروا أن يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر، وانقطع عنه الوحي تلك الليلة، وفي اليوم الثاني جاءوا إليه، وقالوا: أخبرنا عن إجابة الأسئلة الثلاثة، قال: ما جاءني وحي من الله، فأقاموا الدنيا وما أقعدوها!! وأرغوا وأزبدوا، وقالوا: بطل سحر ابن أبي كبشة -وأبو كبشة هو زوج حليمة السعدية التي أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسبون الرسول صلى الله عليه وسلم به ويقولون: ابن أبي كبشة -.
ونالوا من الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف، ولكنه صامت وصابر، ومر اليوم الثاني، والليلة الثالثة، والرابعة، حتى مر خمسة عشر يوماً وليلة والوحي منقطع لا يأتيه، والرسول صلى الله عليه وسلم في حرج لا يعلمه إلا الله، ثم بعد ذلك ينزل الفرج على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزول سورة الكهف، وهي تبدأ بالحمد، وبذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه عبد الله، وتقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:1 - 5] ثم قال الله تعالى له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} [الكهف:6] أي: تريد أن تهلك نفسك إذ لم يؤمنوا ولم يهتدوا، لا.
لا تهلك نفسك، فالمصير والمرجع إلينا، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً * إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} [الكهف:6 - 8] ثم بدأ الله تعالى بالإجابة عن الأسئلة: الجواب عن السؤال الأول: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} [الكهف:9] هؤلاء الشباب المؤمنون {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13] إلى آخر القصة.
وجاء الجواب عن السؤال الثاني: {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً} [الكهف:83] الآيات.
وجاء الجواب عن السؤال الثالث في سورة الإسراء قبل سورة الكهف: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85].(63/4)
إكرام الله للرسول صلى الله عليه وسلم برفع ذكره
وينزل الفرج بعدها بقوله تبارك وتعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1 - 3].
سبحان الله! كيف العذر؟! وما أعظم هذا الرسول عند الله! يقسم الله تعالى له بالضحى، والليل إذا سجى: أي: غطى الأكوان كلها، والضحى: حين شروق الشمس وانتشار الضياء، والليل إذا سجى أي: تسجى به الأرض -أي: مثل الغطاء- ما ودعك أي: ما تركك ولا قلاك ولا هجرك، ولكن هناك شيء محذوف فما هو؟ هو أن يربيك الله سبحانه وتعالى حتى لا تغلط فتقول غداً أفعل ولكن قل: إن شاء الله؛ لأنك لا تعلم ما يكون غداً، قال الله تعالى له: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24] الأمر بيد الله وليس بيدك، اربط كل شيء في حياتك بمشيئة الله، أما أن تكون لك مشيئة خاصة منفردة عن مشيئة الله فلا، ولهذا قال واحد من الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم: (ما شاء الله وشئت يا رسول الله! قال: أجعلتني لله نداً، بل قل: ما شاء الله وحده) ما لي مشيئة إلا تحت مشيئة الله تبارك وتعالى، فقل: ما شاء الله وحده، وهذا من ضبط العقيدة، ومن سد ذرائع الشرك، فلا تقل لأحد: ما لي إلا الله وأنت! أو أنا متكل على الله وعليك! تعتقد أنه يضر وينفع؛ فلا ضار ولا نافع ولا معطي ولا مانع إلا الله.
{وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:1 - 5] ثم امتن الله تعالى عليه بالنعم فقال له: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8] ثم بعد ذلك تنزل سورة الشرح يقول الله تعالى له: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:1 - 4] ليس على وجه البسيطة -ولن يكون إلى يوم القيامة- أعلى ذكراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فأكرم أهل الأرض وأكرم الخلق أجمعين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهل يوجد الآن في الأرض أعظم ذكراً منه؟ فالمسلمون اليوم عددهم ألف مليون مسلم على وجه الأرض، وكل المصلين يصلون عليه كل يوم، وكل فرد منهم يصلي عليه ويشهد أنه رسول الله عدة مرات في الأذان والتشهد وغيرها، ولا تقبل صلاته إلا إذا قال في تشهده: (التحيات لله الصلوات الطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).
وكم مؤذن يرتفع صوته ويشق عنان السماء في كل يوم! وهو يقول في أذانه: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله) فهل هناك أعظم من هذا الذكر؟ وهل هناك في الخلق أعظم ذكراً من محمد صلى الله عليه وسلم؟ لا يوجد، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يذكر حياً ويذكر ميتاً وكلما صلي عليه -صلوات الله وسلامه عليه صلاةً دائمةً متتابعة ما تتابع الليل والنهار- امتن الله عليه بالرفعة والمكانة العظيمة.(63/5)
أهمية انشراح الصدر في قيام الأنبياء بالدعوة
وقد سأل هذه النعمة -وهي انشراح الصدر- نبي الله موسى عليه السلام، وهو نبي من أولي العزم، وورد في فضله آيات كثيرة وأحاديث، منها قول الله عز وجل: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41] ومنها قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] وهو رسول نبي من أولي العزم من الرسل، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (إني أبعث فإذا بموسى آخذ بساق العرش، فما أدري أبُعِثَ قبلي أم أنا قبله) وذلك من فضله، ولكن الصحيح أن أول من يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب اللواء يوم العرض صلى الله عليه وسلم.
وهو صاحب الشفاعة العظمى، حتى أن موسى يوم القيامة يأتي إليه الناس، ويقول لهم: (نفسي نفسي، إن الله قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً).
فيقول: أذنبت ذنباً، ولي سابقة لا أستطيع أن أقابل ربي بها، ولا أستطيع أن أتكلم شافعاً لديه، وكذلك إبراهيم يقول: (لا أستطيع) وعيسى يقول: (لا أستطيع، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم) قال: (فآتي فأسجد تحت العرش، وأثني على الله، فيقال: يا محمد! سل تعطه واشفع تشفع).
موسى عليه السلام كلفه الله تعالى بحمل رسالة عظيمة، وهي دعوة طاغية من طغاة الأرض طغى وبغى وتجبر وادعى أنه الرب الأعلى، وقال لأهل مصر: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] فهل هناك أعظم من هذا؟ وبعد ذلك يقول: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] وهو -والله- المهين.
خرج موسى من مصر هارباً بعد أن قتل نفساً، خرج وفرعون غاضب عليه لفعلته! ثم يقول الله له: اذهب إلى فرعون -فيا لله ما أعظمها من مهمة! اذهب إلى فرعون - هذا الذي يقول بأنه رب، وأَخْبِرْه أنه عبد، وادعه إلى عبودية الله وحده؛ فشقت عليه المهمة، ولكن لا خيار له في أمر الله، فاعتذر وقال: يا رب! أخي أفصح مني لساناً: {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} [الشعراء:13] {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص:34] وبعد أن كلفه الله بالرسالة قال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25] أي: أعطني مؤهلات أستطيع بها أن أمارس هذه المهمة العظيمة، إن أعظم وسيلة تعينك على القيام بمهمة الدعوة أن يشرح الله صدرك للإسلام: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:25 - 32].
أذلك من أجل أن نبني عمارة أو ننشئ مؤسسة؟ كما يقول الواحد منا: أنت أخي وأنا أخوك، تعال نتعاون على الدنيا، نشتري مزرعة ونجعل فيها (رشاشات مياه)، وعشرين برجاً، ونعمل مؤسسة، ونشاطاً متعدداً، ولوحةً طولها عشرون متراً، من بداية العمارة إلى نهايتها (مؤسسة التجارة والمقاولات والمواد الغذائية والملبوسات والعطر والسباكة) ما ترك للمسلمين شيئاً، أخذ الدنيا كلها في راحة يده، لا يريد أحداً أن يُرزق معه -والعياذ بالله- إذا قيل له: دع الناس يربحون معك، فسيقول: لا؛ أريدها كلها، تدخل دكانه من باب، وتخرج من الباب الثاني، تجد الدنيا كلها في دكانه (سوبر ماركت) سوق مركزي، حتى أغلق أصحاب الدكاكين الصغيرة دكاكينهم، كان الناس يُرزقُ بعضُهُمْ من بعض، دكان بجوار دكان، وألف دكان يستفيد منها ألف بيت، الآن ألف دكان أصبحت في دكان واحد يستفيد منها بيت واحد، يدخل الزبون من باب ويخرج من الثاني، كما يقولون: من الملعقة إلى كل شيء، واللوحة العريضة في الواجهة يريد الدنيا بأجمعها.
لكن موسى يقول: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:31 - 32] لماذا؟ {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} [طه:33 - 37] إلى نهاية القصة.
فشرح الله تعالى صدره للقيام بهذه المهمة العظيمة.
وأنت تدرك -يا أخي- مدى وعظم أهمية الرسالة والدعوة، مثلاً يوم تجد نفسك عاجزاً عن هداية أهلك في بيتك، تمارس كل وسائل الدعوة، مع أمك وأبيك، وأختك وأخيك، وابنتك وزوجتك، وشخص يستجيب وعشرة لا يستجيبون، وهذا نبي يقول الله له: اذهب إلى فرعون ويقول: {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} [طه:45] فهذا طاغية ملعون، كيف نقول له: أنت عبد وهو يدعي أنه رب؟ كيف يقبل منا الكلام؟ {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] فجاءهم الأمان من الله قال: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46].
اذهبا فقط والمظلة الربانية تحميكما، والعناية الإلهية معكما، فلا تخافا: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} [طه:46] ومن كان الله معه فلا يخاف.
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان(63/6)
انشراح صدر الرسول صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى الطائف
شرح الله صدر الرسول صلى الله عليه وسلم في مواقف تضيق فيها صدور الرجال، ولكن صدره كان منشرحاً: يخرج من مكة ويذهب إلى الطائف، وكان يلاحقه عمه أبو لهب بن عبد المطلب -والرسول صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب- وهذا الخبيث متخصص في تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم في جمع من الناس يدعوهم إلى الله وإذا انتهى صلى الله عليه وسلم، قال لهم أبو لهب: من أنا؟ قالوا: أنت عمه، قال: والله! أنا أدرى به منكم، والله لو كان صادقاً لكنتُ أول من يصدقه، ولكنه كذاب، قالوا: مَن كذبه عمه كذبناه! فـ أبو لهب عدو لله ملعون، أنزل الله فيه سورة تتلى إلى يوم القيامة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] أي: خسرت يداه، وبارت صفقته، وعليه من الله ما يستحق.
ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عن طريق مر الظهران، وقطع المسافة في يومين، ونحن نقطعها اليوم في ساعة بالسيارة الأمريكية، ويقول الشخص منا إذا نزل: ظهري يؤلمني، وإذا قيل له: لماذا؟ قال: والله! أنا كنت مسافراً من الطائف!! عجباً؛ تقول هذا وأنت قاعد على السيارة وتزعم أن ظهرك يؤلمك، سبحان الله! وأنت في سيارة مريحة تنزل وتقول: إن ظهرك يؤلمك وأنت جالس، وهذا الرسول عليه الصلاة والسلام يمشي في الجبال الشاهقة، وهو أيضاً مطارد مكذب، حافي القدم، خاوي البطن، ليس معه شيء.
(ولما وقف على سوق عكاظ والناس موجودون في السوق، صعد على حجر ونادى في الناس: قولوا لا إله إلا الله، تفلحوا) فلما انتهى قام اللعين أبو لهب وراءه، وقال: يا قوم! من هذا؟ قالوا: ابن أخيك، قال: ومن أنا؟ قالوا: أنت عمه، قال: لو كان صادقاً ما كذبته أنا، أتصدقونه وأنا عمه أعلم به، قالوا: من كذبه عمه كذبناه! ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يريد النصرة منهم والدخول في الإسلام، لكنهم رفضوا دعوته ولم ينصروه بل أغروا به السفهاء، وجمعوا أطفالهم وقالوا لهم: خذوا الحجارة واطردوا هذا، وجاءوا وراءه صلى الله عليه وسلم يرمون ظهره وأقدامه بالحجارة حتى أُدميت رجلاه، وينزل وهو مكسور القلب، ويجلس تحت جبل ويقول دعاءً عظيماً: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس) نبي يوحى إليه، ويكذبه هؤلاء الكفار: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أم إلى صديق ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي) يقول: إن كان ما يأتيني ليس ناتجاً عن غضبك فلا أبالي، ولكن أخشى أن يكون هذا بغضب منك يا ربِّ! ثم قال: (غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح به أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك أو يحل بي عقابك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
كلام عظيم من صدر منشرح بالإيمان، ليس لديه أدنى شك في موعود الله، وبعد أن عبّر النبي صلى الله عليه وسلم عن انشراح صدره ينزل جبريل عليه السلام في تلك اللحظات، ويقول: (يا محمد! السلام يقرؤك السلام، ويقول: هذا ملك الجبال، إن شئت أن يطبق عليهم الأخشبين فعل) والأخشبان هما الجبلان اللذان في مكة، يعني: يضع أحدهما على الآخر فيقضي على أهل مكة جميعاً، لو كان صلى الله عليه وسلم رجلاً يحب الانتقام لنفسه بعد هذه المواقف المؤلمة الصعبة لقال: نعم.
هؤلاء ليس فيهم خير، مثل ما يقوله المتقولون، الذين إذا تعرض أحدهم لأي أذى في سبيل الدعوة غضب، وذهب يشتكي، وذهب يسب ويشتم، ولا يسمح ولا يحلم ولا يتنازل، ويقول: لماذا نتعرض للأذى، ونحن على حق؟! يا أخي! هل عرضك أعظم من عرض النبي صلى الله عليه وسلم؟! فمن أنت قياساً بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ فلا تشتك إذا تكلم عليك، ولا تضجر إذا كذبت، اصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، هذه طريق الأنبياء، ماذا قال صلى الله عليه وسلم؟ قال: (لا.
إني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده) فنظرة النبي صلى الله عليه وسلم عالية، وليست نظرة عند أقدامه، بل هي نظرة بعيدة المدى تتجاوز ذلك الجيل، وقال: إني أرجو الله أن يخرج من أصلاب هؤلاء الكفار من يعبده، وبالفعل فقد تحقق للنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يرجوه، وأخرج الله من صلب أبي جهل: عكرمة، ومن صلب الوليد بن المغيرة: خالداً، ومن صلب العاص بن وائل: عَمْراً، ومن صلب أبي طالب: علياً، وهكذا الصحابة الشباب جلُّهم أو أكثرهم جاءوا من أصلاب الكفار، وهذه هي نظرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالله! مَنْ يقول هذا الموقف إلا من شرح الله صدره للإسلام؟!(63/7)
انشراح صدر الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء الهجرة
وشرح الله صدر النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام وهو يخرج من مكة مهاجراً مهدداً بالقتل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] وبعد ذلك يعمي عليهم الله أمره، ويخرج وهم جلوس عند البيت محيطون به يريدون أن يذبحوه، فيذر على رءوسهم التراب وهم نائمون، ويأتي إلى الغار ويجلس مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ويجعل كفار مكة مائة بعير جائزة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، وتنتشر قبائل قريش في آفاق الجزيرة تبحث عن هذا الرجل لعلها تنال هذا الجُعْل العظيم، فأين المائة البعير، كأن تقول الآن: مائة سيارة (مرسيدس) فهي بمثابة البعير في ذلك الزمان، وهو سفينة الصحراء، وكل شخص يضرب الأرض يريد أن يحصل عليه.
في أثناء تتبعهم وصلوا إلى الغار الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، فيقول أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا) يقول: هم الآن فوقنا لو خفض أحدهم رأسه لرآنا مباشرة، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما) {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40].
من أين جاء هذا الكلام؟ هذا من شرح الصدر: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] وهذه نعمة لا تعدلها نعمة، وفي ضدها نقمة ومصيبة، وهي قسوة القلب.(63/8)
الإنسان بين انشراح الصدر وقسوة القلب
يقول الله عز وجل: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22] فهما صورتان متقابلتان متضادتان:(63/9)
حال من شرح الله صدره للإسلام
1/ صورة من شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه، ومعه أضواء من الله يسير بها، والناس في الظلمات وهو في أضواء الإيمان، يرى بها كل دقيق، ولهذا إذا وقع هذا الضوء على المعصية انعكس هذا الضوء وصور له هذه المعصية في المخ أنها معصية، وإن كانت دقيقة فإنه يراها كالجبل؛ فهي تغضب الله، لماذا؟ لأن الأضواء عنده قوية، والأضواء لديه كاشفة، يرى بها المعاصي فيبتعد عنها هذا المؤمن -جعلنا الله وإياكم منهم-.
يقول ابن القيم متحدثاً عن ابن تيمية: كنا إذا ضاقت بنا الدنيا ونحن في دمشق ذهبنا لزيارته في السجن في القلعة، فوالله ما هو إلا أن نراه حتى يُسرى عنا.
ويقول: عندما ننظر إليه تنشرح صدورنا وهو المسجون ونحن طلقاء!! ثم يقول: وكان يقول لنا: المسجون من سجنه هواه، والمأسور من أسر عن مولاه.
ويقول: ما يصنع أعدائي بي أنا جنتي وبستاني في صدري، إن سجني خلوة، وإن ترحيلي سياحة، وإن قتلي شهادة، فما يصنع بي أعدائي.
هل عندهم أكثر من القتل والموت والسجن والترحيل؟! ويقول: مساكين أهل هذه الدنيا؛ جاءوا إليها وخرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها! قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: التلذذ بعبادة الله.
ويقول الآخر: والله لو يعلم أهل الجاه والمال والسلطان ما نحن عليه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف!(63/10)
حال من قست قلوبهم
2/ والصورة الثانية: صورة معتمة وصورة مشوهة: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22] فأولئك في ضلال مبين: حسي ومعنوي.
ويل لهم ثم ويل لهم ثم ويل لهم!! ويل لهم في هذه الحياة قبل الممات، فهم يتجرعون مرارة الكفر والمعصية، ومرارة البعد عن الله، أتتصورون أن هؤلاء الذين هم على الكفر وعلى المعاصي والذنوب ليسوا في عذاب الآن؟ والله! إنهم في عذاب الآن قبل الآخرة؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36] ويقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه:124] فوالله! إنهم لفي عذاب.
ويل لهؤلاء الذين يعرضون عن الله، وتقسو قلوبهم عن ذكر الله، وتعيش قلوبهم في ضلال مبين، فويل لهم اليوم وويل لهم غداً عند الموت، يوم تأتي أحدهم الملائكة وتقول له: (يا أيتها الروح الخبيثة -كانت في الجسد الخبيث- اخرجي إلى سخط من الله وغضب).
وويل لهم يوم يدخلون في قبورهم وتأتيهم الملائكة وتقول لكل منهم: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: هاه هاه هاه لا أدري، لا يعلم الجواب، فقد ضيع حياته في معصية الله، فتقول له الملائكة: (لا دريت ولا تليت).
وويل له يوم يأتيه عمله الذي عمله في الدنيا، فيتمثل له ذلك العمل في صورة رجل، ويأتيه على هيئة العمل الذي صنعه، إن كان عمله سيئاً فيأتيه، فيقول له: (أبشر بالذي يسوءك، فيقول: من أنت فوجهك الذي يأتي بالشر، يقول: أنا عملك السيئ).
ويل له وهو يوقد عليه القبر جمراً أحمر يتقلب عليه ليلاً ونهاراً.
ويل له والقبر يضغطه حتى تختلف أضلاعه وتلتقي أضلاع اليمين بالشمال، والشمال باليمين.
ويل له ثم ويل له يوم القيامة يوم يبعث من في القبور: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [المعارج:43 - 44] والذلة ذلة المعصية والكفر {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:44].
ويل لهم يوم {يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:7 - 8].
ويل لهم {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:13 - 16] يعني: سواء صبروا أم لم يصبروا، فهل هناك أحد يصبر على النار؟ لا والله لا أحد يصبر على النار، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ويل لهم بعد ذلك: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48].
ويل لهم يوم ينادون لأخذ كتبهم وأخذ شهاداتهم، إذ هي شهادات ملطخة بجرائمهم؛ لأنه يوجد شهادات مشرفة، وهي الشهادات المملوءة بدرجات عليا مشرفة، فترى في الدنيا الطالب يأخذها ويقول لأهله: انظروا، أما الساقط البليد الذي شهادته كلها دوائر حمراء فلا يعطيها لأهله خجلاً وخوفاً، ولا يذهب لأخذها من مدرسته، وإذا سأله أهله: هل خرجت النتيجة يقول: لا.
وهي قد خرجت، ولكن لا يريد أن يعلمهم بالفضيحة، يقول لأهله: قالوا بعد غد، حسناً وبعد غد يقولون له: طلعت النتيجة؟ يقول: نعم طلعت، قالوا: بشرنا، قال: قرأوا الأسماء قبل أن أحضر، وقد سمعوا اسمي، وهو يريد أن يأتي بها بالتقسيط كي لا يأتي بالخبر المهول، ولكن غداً إن شاء الله أتأكد، وجاء يوم الغد، قالوا: بشّر، قال: الحمد لله ثلاث مواد فقط، الحمد لله، هناك مجموعة من الزملاء منهم من سقط في ثمان وفي تسع وفي عشر مواد، أما أنا فالحمد لله لك الحمد يا رب، ثلاث مواد فقط أعيدها، ولكن ما يهمكم! أيها الساقط في الدنيا! معك دور ثانٍ وفصل ثانٍ وعلم ثانٍ، وإذا لم تدرس فيمكن أن تعمل.
لكن هؤلاء ويل لهم يوم يعطون كتبهم بشمائلهم؛ لأنهم يوم القيامة يريدون أن يغالطوا الله ويأخذوا الكتب باليمين، يرون أهل الإيمان يأخذون كتبهم، يريد أن يكون في الآخرة كذاباً كما كان في الدنيا، يقول الله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18] فيرفعون أيمانهم فتضربهم الملائكة بمقامع من حديد على مناكبهم فتسقط أيمانهم، فما يبقى معه إلا الشمال، فيأخذ كتابه بشماله ويقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:25 - 27].
ثم يتذكر ما الذي غره؟ ما يغر الإنسان في الدنيا إلا أمران: المال والسلطان، فيقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:28] ما نفعني مالي، فأين السلطة والوظيفة إذ لم ينفع المال؟ {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:29] فلا مال ينفع ولا وظيفة تنفع، وإذا به يقول بلسان حاله: أنا الآن في موقف صعب جداً، ثم بعد تلك الحسرة والندامة قال الله تعالى: {خُذُوهُ} [الحاقة:30] أي: خذوا هذا المجرم الكذاب: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] والغل: هو وضع القيد والسلاسل في الرقبة: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً} [الحاقة:31 - 32] في الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو أن حلقة من حلق هذه السلسلة وضعت على الأرض لأرفضتها) {سَبْعُونَ ذِرَاعاً فاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32] والسلك: أنها تُدخل من فمه وتُخرج من دبره، من أجل أن يتقلب كالدجاجة في الشواية {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة:33] كان قلبه قاسياً عن ذكر الله، وكان يعيش في ضلال مبين، لم يشرح الله صدره للإسلام لأنه ما طلب الهداية ولا عمل بمقتضاها، فقلبه مغلق عن الدين، مفتوح على كل شيء إلا طاعة الله، يحب كل شيء إلا الصلاة، ويطرب لكل شيء إلا القرآن، ويألف كل شيء إلا المساجد، ويحب الناس كلهم إلا أهل الخير منهم، هذا عبدٌ شيطاني ما نور الله قلبه، ولا شرح الله صدره، وإنما قلبه قاسٍ مقفول عن محبة الله تبارك وتعالى وطاعته، فويل له ثم ويل له ثم ويل له: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22].(63/11)
أسباب انشراح الصدر وهدايته
كيف نحصل على هذه الهداية وهذا الشرح؟ يقول الله عز وجل: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] فكيف يشرح الله صدرك للإسلام؟ هذه تأتي بمبادرة منك وبإجابة من الله، فالله هو الهادي وأنت طالب الهداية، والله هو الشارح للصدور وأنت طالب شرح صدرك، تأتي منك فإن طلبت جاءك الطلب، وإن أعرضت فالله غني عن العالمين.(63/12)
الدعاء
يقول الله عز وجل في الحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم، حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه وفيه ثمان مرات: يا عبادي يا عبادي يا عبادي ومن ضمنها (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم) كان سيد الهداة فيما روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته بالليل بقوله: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) فسيد الهداة يقول: اهدني، فلتكن الهداية أول شيء تطلبه من الله، وعليك أن تتملق لربك، وأن تمرغ وجهك في الأرض لله، وتقول: (يا ربِّ اهدني فيمن هديت، يا ربِّ ثبتني على دينك) فأهل الإيمان يقولون: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} [آل عمران:53] ويقولون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193] ويقولون: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8] فاطلب الهداية من ربك! يقول الله: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] فهذا وعد من الله عز وجل، وأمر منه بالدعاء، ووعد منه بالإجابة، فإذا امتثلت الأمر فدعوت الله فلن يخلفك ما وعدك أبداً، إلا إذا وُجِدَت موانع! وتوجد أحياناً موانع لإجابة الدعوة، والموانع هذه منك فعليك أن تجتنبها وعندئذٍ تأتيك المنن من الله، لكن إياك أن تضع عقبات بينك وبين الله، لأنه إذا كان بينك وبينه عقبات فلن يأتيك شيء من إجابة دعائك.
وليس هذا مقام التفصيل فيما يتعلق بموانع الدعوة، ولكن ادعُ الله {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18].
فأول سبب من أسباب شرح صدرك: أن تدعوَ الله في ذلك، ومتى تدعو الله؟ عليك أن تتحرى الدعاء في أوقات الإجابة ومنها: الثلث الأخير من الليل والناس نيام، فقم وتوضأ وصل ركعتين واسجد، وفي السجود ألح على الله، قدّم السؤال وقدّم العريضة ولا تنصرف بسرعة، إلا إذا شعرت أن الله قبلك، وكيف تشعر؟ إذا بكيت ورق قلبك، معنى هذا أن عريضتك قبلت، فلا مانع من دخولك على الله.
أما إذا كان قلبك متحجراً فاعلم أنك لم تكن صادقاً في دعائك، ليس عندك حقيقة الإلحاح؛ لأن هناك فرقاً بين من يسأل وهو مُلح، وبين من يسأل وهو مستغن، مثلاً -ولله المثل الأعلى- عندما يأتيك فقير يقول: أعطني من فضلك، وتقول له: ليس عندي شيء، ينصرف عنك، لكن لو كان مُعرَّضاً للموت جوعاً وقال: أعطني من فضلك، فتصرفه، فيأتيك ويلحقك، فتقول له: ليس عندي شيء، فيقول لك: من فضلك ما عندي غداء من فضلك أعطني ريالاً، فتصرفه ثم يلحقك، ويقول: يا أخي! طلبتك مرة، وثانية، والله! ما ردني عليك إلا الحاجة، والله! ما عندي شيء أعطني بالله عليك ريالاً، تصرفه وتقول له: اذهب -يا شيخ- أنا ليس عندي ما أعطيك، يلحقك مرة رابعة، فعندئذٍ تعطيه ريالاً ولو لم يكن معك غيره، لأنه ألح عليك وأحرجك، وكذلك (إن الله ليحب الرجل الملحاح في الدعاء) يقول:
لا تسألنّ بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
فما على باب الله من حاجب:
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
لأن ابن آدم فقير، والفقير يسأل فقيراً، بينما الله غني، والغني مهما تسأله فلا يمل سؤالك، بل كلما سألته أعطاك، كما جاء في الحديث يقول الله: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) أدخل مخيطاً (إبرةً) في المحيط الهادي وأخرجه، فما الذي يخرج معه من الماء بالنسبة للمحيط؟ هذا مثل الذي ينقص من عند الله، والباقي في خزائن الله، فاسأل الله تبارك وتعالى من فضله.
وأول شيء تسأله من الله الهداية، فتدعوه في جوف الليل، وبين الأذان والإقامة، وبعد صلاة العصر يوم الجمعة إلى المغرب، وحين صعود الخطيب إلى المنبر يوم الجمعة، وحين نزول المطر، وهناك أوقات أخرى قد ذكرها الشرع، وهذه الأوقات مظنة الإجابة، المهم كلما رفعت يدك قل: (اللهم اهدني فيمن هديت).(63/13)
أهمية الأخذ بأسباب الهداية
ثم بعد الدعاء تأخذ بأسباب الهداية، إذ لا يكفي أن تدعو وأنت هارب، لا بد أن تدعو وأنت مقبل على الله.
وبعض الناس يقول: اللهم اهدني، بلسانه! وهو هارب من الله بعمله، يقول: "اللهم اهدني فيمن هديت" وهو يسمر على الأغاني إلى نصف الليل، يُحوِّل الراديو من إذاعة إلى إذاعة إلى أن يجد أم كلثوم أو أي مطرب أو مطربة، وهناك يرفع يده عن الراديو فقد وجد أمنيته، فهل هذا يريد أن يهتدي؟ هذا كذاب، هذا لا يريد الهداية حقيقة بل يريد الضلال.
أحد الإخوة يقول: هناك سيارة وقع لها حادث مروري، وبعد ذلك جاءوا إلى الولد السائق وهو يحتضر، يلفظ أنفاسه الأخيرة ويقول: (هل رأى الحب سكارى مثلنا؟) والشريط في نفس السيارة لـ أم كلثوم تغني وهو معها يردد: (هل رأى الحب سكارى مثلنا؟) هؤلاء سكارى حق، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ولا بد عليك وأنت تدعو الله بالهداية أن تسلك السبيل الموصل إليها.
الآن الواحد منّا إذا أراد زوجة وقال: اللهم ارزقني زوجة صالحة، دينة جميلة هادئة ذات خلق ودين، وبعد ذلك تراه جالساً في البيت، وكلما قالوا له: تزوج، قال: لا، يا شيخ! الزواج مشكلة، أنا أطلب من الله أن يزوجني فقط، هل تأتيه زوجة؟ يريد أن تأتيه واحدة (مقرطسة) من السماء، لا.
ادع الله.
ومن ثَمَّ ابحث في المجتمع، وأرسل أهلك وأقاربك يبحثون لك عن زوجة، وإذا قالوا لك: عند فلان بنت صالحة، فعندئذٍ تذهب وتسأل عنه وعن هذه التي ستتزوجها وعن سيرتها وخلقها، وإذا اطمأننت تذهب وتتكلم مع أبيك، ثم يذهب أبوك إلى أبيها، وبعد ذلك مراحل أخرى ثم تجتمعون في الليلة الأولى للمفاهمات الأولية، ثم تحددون موعداً للعقد، ثم موعداً للزفاف، ولا تدخل عليها إلا وقد تكبدت معاناة شديدة.
وهي امرأة من نساء الدنيا، لعلك تظل معها (شهر العسل) وبعد ذلك تتحول الدنيا كلها إلى (بصل) وتعلمون أن (شهر العسل) هذا ليس عرفاً إسلامياً وإنما عادات وافدة، أما نحن فليس عندنا (شهر عسل) نحن في الإسلام حياتنا كلها عسل، لكن الكفار لا؛ لأنهم يلتقون لقاءً بهيمياً، فيحددون (شهر العسل) فإذا انتهى الشهر صار عدواً لها وهي عدوة له، وعاشوا في مشاكل إلى يوم القيامة، لكن الإسلام لا يهمل هذه العلاقات، بل ينسق ويربط الصلة بين الزوج والزوجة وتصير حياتهم كلها عسلاً إلى يوم القيامة، ويكملون الحياة السعيدة -إن شاء الله تعالى- في الجنة إذا كانا صالحين؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21].
ويقول: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24] ويذكر لنا تبارك وتعالى أن الملائكة تقول: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر:8] فلا يطيب لك قرار في الجنة، ولا تحصل لك السعادة كاملة، إلا بأمك وأبيك وزوجاتك وأولادك، إذا كانوا مؤمنين، أما إذا كانوا فجرة فيُذهَب بهم إلى جهنم ويعوضك ربي عنهم في الجنة إن شاء.(63/14)
تلاوة القرآن
أنت إذا أردت أن تتزوج فلا بد أن تسلك أسباب الزواج، كذلك إذا أردت أن تهتدي يجب أن تسلك أسباب الهداية، وأسباب الهداية ما هي؟ هذا موضوع مستقل، ولكني سأطرق منه رءوس أقلام فقط.
من أسباب الهداية: أولاً: تلاوة كتاب الله.
أول شيء عليك بالقرآن الكريم، قال الله تعالى فيه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53] ويقول سبحانه: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة:15] ويقول سبحانه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [النساء:174] ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:57 - 58].
فعد إلى كتاب الله؛ عد إليه تلاوة! عد إليه تدبراً! عد إليه عملاً وتطبيقاً! عد إليه التزاماً واحتكاماً! عد إليه استشفاء! عد إلى القرآن، واجعل حياتك كلها مع القرآن، ليلك مع القرآن، ونهارك مع القرآن، فحين تجلس في المكتب، وليس عندك عمل فخذ المصحف، واقرأ وبمجرد أن يؤذن وأنت الأول في الصف تأخذ المصحف، لكن علاقة الناس اليوم بالقرآن -يا إخواني- علاقة واهية وضعيفة جداً.
وهذا هو الذي ترتبت عليه قسوة القلوب، لبعدهم عن كتاب الله وعن النور العظيم، الذي يقول الشاعر في معناه:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول
ترون الناس الآن وسوء علاقتهم بالمصحف، فلو سألت طالب علم -مثلاً-: كم تختم القرآن؟ هل تختم في الشهر مرة؟ قال: لا.
الله أكبر! ثلاثون يوماً تمر عليك وما تمر على القرآن مرة واحدة، كان السلف يختمون في كل ثلاثة أيام، وكانوا يختمون في كل أسبوع، وكانوا يختمون في كل عشرة أيام وكانوا يختمون في خمسة عشر يوماً، فأنت أقل ما يمكن أن تختم في كل شهر مرة، كيف ذلك؟ تقرأ كل يوم جزءاً، حتى تكمل الثلاثين ثم تبدأ من أول القرآن إلى أن تنتهي منه بشكل مستمر، تكون -إن شاء الله- بهذا من القارئين للقرآن، وبعضهم يمر عليه العام كله ولا يختم مرة، وإنما تراه يدخل المسجد إذا بقي وقت للقراءة فيجلس لا يستطيع أن يقوم ويأتي بمصحف؛ تصوروا كأنه يستكثر القيام للمصحف ويراه أكثر من حاجته، فيظل جالساً إلى أن يرى -لعل الله يجعل- أحدهم يقوم، فإذا قام واحد ناداه: من فضلك مصحف، نحن تكسرت أرجلنا فلا نستطيع أن نأتي بمصحف، فلا إله إلا الله! وبعضهم اليوم يدخل المسجد ويأخذ المصحف فإذا فرغ من القراءة وضعه في حجره؛ من أجل ألا يقوم مرة ثانية، سبحان الله! ما أكسلك! وما أعجزك يا هذا الإنسان! وبعضهم -والعياذ بالله- يقوم أحدهم يقرأ، ويأتي بالمصاحف وينظر من بجانبه لعلهم يكسبون أجراً وثواباً ويؤجر معهم، فيأتي بمصحف لأحدهم فيقول: شكراً، لا أريد، هؤلاء ممتلئون حسنات، مستغنون.
ووالله! لو أعطاه مالاً ولو أقل من خمسمائة ريال ماذا يقول؟ هل يقول: شكراً لا أريدها، لا.
بل يلتقطها قبل أن ينظر إليها أحد؟ سبحان الله! تستغني عن كلام الله! لا ترد المصحف، مهما كنت، خذ المصحف واقرأ ولك بكل حرف عشر حسنات: (لا أقول: (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) ثلاثين حسنة تأتيك إذا قلت (ألم) والحسنة الواحدة تساوي الدنيا كلها، ولكن أين عقل الإنسان عندما يضيع هذه الفرص؛ هذا عقله خَرِبٌ، وقلبه ليس منشرحاً لكتاب الله، فارجع إلى كتاب الله وأكثر تلاوته، واحذر من هجرانه.(63/15)
أبيات من المنظومة الميمية للشيخ الحكمي
يقول الشيخ حافظ الحكمي في أبيات اخترتها فأحضرتها حتى تسمعوها، وهي أبيات عظيمة في منظومة له اسمها: المنظومة الميمية في الآداب العلمية، وقد أوصى طالب العلم بالقرآن وأوصاه بالسنة، وأوصاه بآداب يجب أن يتمسك بها، واخترت منها بعض الأبيات فيما يتعلق بالأدب مع القرآن، يقول:
وبالتدبر والترتيل فاتل كتا ب الله لا سيما في حندس الظلم
حَكِّمْ براهينه واعمل بمحكمه حِلاً وحظراً وما قد حده أقم
وعن مناهيه كن يا صاحِ منزجراً والأمر منه بلا ترداد فالتزم
هو الكتاب الذي من قام يقرأه كأنما خاطب الرحمن بالكلم
هو الصراط هو الحبل المتين هو الـ ميزان والعروة الوثقى لمعتصم
هو البيان هو الذكر الحكيم هو الـ تفصيل فاقنع به عن كل منبهم
هو البصائر والذكرى لمدكر هو المواعيظ والبشرى لغير عم
هو المنزل نوراً بيناً وهدى وهو الشفاء لما في القلب من سقم
لكنه لأولي الإيمان إذ عملوا بما أتى فيه من علم ومن حكم
أما على من تولى عنه فهو عمى لكونه عن هداه المستنير عمي
والله تعالى يقول: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت:44] والوقر يعني الحفرة، فالذي أذنه محفورة ليس فيها طبلة تستجلب الصوت وإنما هو مخروق الأذن ما يسمع كلام الله، وهو عليهم عمى: أي: إذا سمع يضيق، يقول هنا:
لكنه لأولي الإيمان إذ عملوا بما أتى فيه من علم ومن حكم
أما على من تولى عنه فهو عمى لكونه عن هداه المستنير عمي
فمن يقمه يكن يوم المعاد له خير الإمام إلى الفردوس والنعم
كما يسوق أولي الإعراض عنه إلى دار المقامع والأنكال والألم
كفى وحسبك بالقرآن معجزة دامت لدينا دواماً غير منصرم
فانظر قوارع آيات المعاد به وانظر لمن قص من عاد ومن إرم
وانظر به شرح أحكام الشريعة هل ترى بها من عويص غير منفهم
أم من صلاح ولم يهد الأنام له أم باب هلك ولم يزجر ولم يلم
أخباره عظة أمثاله عبر وكله عجب سحقاً لذي صمم
الله أكبر كم قد حاز من عبر ومن بيان وإعجاز ومن حكم
رحم الله قائل هذه الأبيات الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي وأسكنه فسيح جناته وجمعنا به في دار كرامته.
أول وسيلة -أيها الإخوة- من وسائل شرح الصدور: القرآن الكريم، وننادي بأعلى أصواتنا: عودوا -يا عباد الله- عودة إلى كتاب الله القرآن الكريم.
كثير من الناس لا يحفظون من القرآن شيئاً، تراهم يلعبون البلوت من بعد العشاء إلى منتصف الليل، وإذا قلت له: اقرأ لي بالله عليك: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] لا يعرف كيف يقرؤها، وإذا قلت له: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:1 - 2] قام ولعب فيها ووضع "لا أعبد" مكان "أعبد"، لا يعرف، لماذا؟ لأنه يلعب البلوت، ومع هذا يقول: ليس عندنا شغل! إذا لم يكن عندك شغل فالقرآن معك، وأنت لا تحفظ فيه ولا تراجعه، هل فرغت من كتاب الله؟ هل فرغت من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا.
بل تجده من أجهل الجاهلين ويقضي عمره في عمل البطالين وعمل العابثين الغافلين اللاعبين والعياذ بالله.
فنقول لكم ولأنفسنا قبلكم: عودوا إلى كتاب الله، ورتبوا لأنفسكم مواعيد للتلاوة، وأحسن وقت بعد صلاة الفجر، حينما تعودون من الصلاة فإن كنت تقعد في المسجد فحباً وكرامة، وإن لم تكن في المسجد ففي البيت قبل أن تنام اجعل عند رأسك مصحفاً، فعندما ترجع من الصلاة أشعل المصباح واقرأ القرآن لمدة ربع ساعة على الأقل، لابد أن تنام وآخر عهدك بالقرآن لا تنم على الأغاني، وبعد ذلك رتب لنفسك أوقاتك قبل الصلاة، ألزم نفسك ألا يؤذن إلا وأنت على أهبة الاستعداد لإجابة النداء، بحيث لو كان بيدك أعظم شغل في الدنيا، ونادى المؤذن: الله أكبر، تترك كل شيء على الفور، وإذا كنت بائعاً تضع الميزان مباشرة، أو كنت موظفاً أغلق الدفتر وأجب النداء، تقول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ونحادثه، فإذا سمع المؤذن قام وكأنه لا يعرف منا أحداً) دعاه ربه، ترك كل شيء، فألزم نفسك بهذا الخلق، وبمجرد أن تسمع الأذان -مهما كان عملك، ومهما كان شغلك، فقد دعاك الله- اترك شغلك وتوضأ، وإن أذن المؤذن وأنت متوضئ فهذا أفضل، وبادر إلى الصف الأول في الروضة: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11].
وقد ذكر المفسرون في هذه الآية من سورة الواقعة: أن الناس يوم القيامة قربهم من الله بحسب قربهم في الصفوف الأولى من المسجد، فالذي هو في الصف الأول هنا يكون في الصف الأول هناك، والذي هو في الصف الثاني هنا يكون في الصف الثاني هناك، والذي لا يأتي هنا فلن يأتي هناك، ولا يدخل الجنة، وإنما يذهب إلى دارٍ ثانية، إلى النار والعياذ بالله.
فرتب وقتك، فمن بعد الأذان باستمرار إلى الصلاة يكون لك مصحف تقرأ فيه قبل الظهر وقبل العصر ثلث ساعة، وقبل المغرب عشر دقائق، وقبل العشاء ثلث ساعة، فما شاء الله هذا الوقت كله كم مقداره، تجد فيه أقل شيء ساعتين أو ساعةً ونصفاً للقرآن فبإمكانك أن تختم في كل شهر ثلاث مرات، فهذا هو السبب الأول من أسباب شرح الصدر.(63/16)
أهمية الإكثار من ذكر الله
السبب الثاني من أسباب شرح الصدر: كثرة ذكر الله ودوام ذكر الله، فالله يقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] تطمئن أي تنشرح {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:29] ذِكرُ الله عز وجل يشرح صدرك، أما ترى نفسك إذا كنت ضائقاً مهتماً، وعندك مشاكل، فإذا قلت: لا إله إلا الله أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، لا حول ولا قوة إلا بالله، تشعر بأنه يوجد مثل الماء البارد ينصب على جوفك، تشعر براحة وطمأنينة فهذا الشرح يأتي من مرة، فكيف لو أنك تداوم على ذكر الله؟ وكيف لو أنك ملازم لذكر الله؟ {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] فما دام أنك مع الله فكيف يضيق صدرك؟ هل يضيق صدرك وأنت مع من يشرح الصدور؟ هل تضيق أمورك وأنت مع من بيده مقاليد الأمور؟ أبداً والله! ولكن ما الذي يسبب لك ضيق الصدر؟ إنه الغفلة وعدم الذكر، والغناء، وقراءة الصحف والمجلات الرخيصة العارية والقصص والروايات التافهة التي يضيق من جرائها الصدر.
أما ذكر الله وقراءة القرآن وكتب السنة وكتب سلف الأمة؛ هذه تشرح صدرك وبنص القرآن {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ولكن ما هو الذكر?(63/17)
أصناف الذكر
الذكر خمسة أصناف: الأول: ذكر الله عند ورود أمره، يعني: إذا كنت جالساً في البيت، وسمعت المؤذن وقمت إلى الصلاة فأنت ذاكر؛ لأن الله تعالى يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14].
الثاني: ذكر الله عند ورود نهيه، أنت ماشٍ في الشارع وإذا امرأة كاشفة متبرجة والشيطان يدعوك للنظر إليها، والله أمرك بالغض من بصرك عنها فغضضت خوفاً من الله، أنت بذلك تعد ذاكراً لله؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] فأنت إذا عرضت عليك المعصية وصرفت نفسك عنها، فقد ذكرت الله، وهذا ذكر عظيم، ذكر عملي.
الثالث: ذكر الأحوال والمناسبات، أن تتعلم من سنة النبي صلى الله عليه وسلم لكل عمل ومناسبة وحالة ذكرها، فإن الشرع رتب للمسلم أذكاراً في كل حال، ابتداءً من الاستيقاظ حتى تنام، إذا استيقظت قبل أن تفتح بصرك وقبل أن تشاهد أي شيء تقول: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور) كأنك تقول: يا ربِ أعطيتني فرصة أخرى كي أعبدك فلك الحمد، أعطيتني فرصة من أجل أن أصحح الخطأ وأعمل العمل الصالح فلك الحمد يا ربِ! لو أردت لجعلتها موتةً واحدةً، وبعد ذلك كيف أصلي؟ كيف أستغفر؟ كيف أعمل؟ ولكن من فضلك ورحمتك ومنتك أن أعدتني إلى الحياة فأقول أنا: (الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور) وبعد ذلك تخرج إلى الحمام وتقدم رجلك اليسرى وتقول: باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم.
وتقضي حاجتك، ثم تخرج وتقدم رجلك اليمنى، وتقول: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني، غفرانك.
وبعد ذلك تلبس الثوب وتذكر الله، وتنظر إلى المرآة أمامك وتذكر الله، تخرج إلى المسجد وتذكر الله، هناك أذكار معينة إذا دخلت المسجد، وإذا خرجت من المسجد، وإذا عدت إلى البيت، وإذا أتيت زوجتك، وإذا أكلت طعامك، وإذا رأيت البرق، أو سمعت الرعد، أو نزل المطر، كل حال من أحوالك عليها خاتم الذكر، ويجب أن تتعلم هذه الأذكار، وهذه يسمونها: أذكار الأحوال والمناسبات.
الذكر الرابع: الأذكار العددية، التي عدها الشرع وحدها بعدد معين، وتعبدنا بعددها مثل: (من قال في يوم مائة مرة: سبحان الله وبحمده؛ غفر الله ذنوبه وإن كانت مثل رمل عالج أو مثل زبد البحر) وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال عقب كل صلاة: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين، ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفر الله له ذنوبه ولو كانت كزبد البحر) وهذا الحديث في صحيح مسلم وهو حديث صحيح، والعاملون به قليل؛ لأن الشيطان يأتيك وأنت تصلي ويذكرك ويقول: قم الحق امش، من أجل ألا تقعد دقيقتين فقط تذكر الله فيها.
شخص من الإخوان بدأ يقولها: سبحان الله سبحان الله بأحسن أداء، وحسبنا الوقت فوالله ما أخذت دقيقتين، لكن الشيطان يخرجك من هنا ويجعلك تضيع وقتك فتجلس مع رفاقك عشر دقائق في السوق، لكن هنا لا تجلس دقيقتين! فلا بد أن تقول هذا الدعاء عقب كل صلاة، كما في الحديث: (من قال عقب كل صلاة) لأنه ليس في العشاء فقط، وفي الفجر تتركها ولا تقولها، وفي الظهر ترجع من الدوام ولا تقولها، وفي العصر تذهب لكي تنام، لا، بل عقب كل صلاة لا تقم -ولو احترقت الدنيا، وأنت في المسجد- إلا بعد أن تكملها، دقيقتين -يا أخي- وبعد ذلك قلها بأداء صحيح وقلبك حاضر، ليس كما يفعل أكثر الناس، نرى الناس يُسبحون ولا ندري كيف يقلقل قلقلة؟ هل هذا تسبيح؟ متى سبح؟ ويتلفت في المسجد هل هذا تسبيح؟ هذا لعب! لا تتلفت انظر في أصابعك، تقول: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، هذه -والله- إنها كالذهب.
فالآن عندما تستلم راتبك كيف تعده، هل تعده وأنت تتلفت أم أن عينك في النقود وتفحصها؟ ولو أن واحداً جاء يسلم عليك وأنت تعد الفلوس هل تسلم عليه؟ لا، والله! ما ترد السلام عليه، وإذا بك بعد ما تنتهي تقول له: آسف -والله- كنت أعد الفلوس، هذه فلوس ما هي لعبة! فالفلوس لا نضيعها، لكن التسبيح كم سبحت قال: لا أعلم، نسأل الله أن يتقبل! لا -يا أخي- عدها إن (سبحان الله) أعظم من الدنيا وما عليها.
يُحكى أنه في ذات مرة مرَّ سليمان بن داوُد هو وحاشيته وجنده على بساط تحمله الريح، البساط الذي يسره الله له وسخر له الريح تمشي بأمره رخاءً حيث أصاب، غدوها شهر ورواحها شهر، الغدوة مسيرة شهر، والروحة مسيرة شهر، ثم هي بأمره إذا قال: انزلي أنزلته، بلا مطارات، وبلا وقود، سفينة ربانية! فمر على مدينة من المدن فحجب البساط ضوء الشمس عن الأرض، وكان هناك فلاح في الأرض يعمل فرفع رأسه وقال: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً كبيراً.
فسمعه سليمان عليه السلام وهو على البساط، فأمر الريح أن تُنزِله فأنزلته وجاء إليه وقال له: ماذا قلت؟ قال: ما قلت شيئاً، فخاف؛ لأن سليمان ملك ونبي، قال: لم أقل شيئاً، قال: بلى قلت، فماذا قلت؟ قال: قلت: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً كبيراً، فقال سليمان: والذي نفسي بيده! إن الكلمة التي قلتها أعظم عند الله مما أوتي آل داود.
سبحان الله! تعظيم لله وتنزيه لله، فعليك أن تسبح عقب كل صلاة وقد ورد أيضاً حديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم وفيه أيضاً عدد، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (من قال في يوم مائة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كان كمن أعتق عشر رقاب، وكتب الله له مائة حسنة وحط عنه مائة خطيئة، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجلاً قال مثل ما قال أو زاد، وكانت حرزاً له من الشيطان يومه ذاك) فهذه خمس كيف تضبطها بالعدد بأن تعد، وهذه هي الأذكار العددية.
النوع الخامس: الذكر المطلق، أن تذكر الله على كل حال وفي كل حين، وأفضل ما يذكر الله به: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، إذ هن الباقيات الصالحات، يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم والحديث صحيح قال: (لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس وغربت).
كم أشياء طلعت عليها الشمس وغربت من المزارع والمباني والبنوك والعمارات، ولكن هذه الأربع أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل ذلك.
فهذان عنصران هما: قراءة القرآن وذكر الله.(63/18)
ضرورة تلاوة القرآن وتدبره والعمل بمقتضياته
قراءة القرآن أرجو ألا يتصور بعض الناس أنها فقط مجرد التلاوة، بل هي التلاوة والعمل بمقتضاها، إذ مجرد التلاوة بدون عمل لا تغني ولا تنفع، فلو أن لك -ولله المثل الأعلى- ولداً يدرس في أبها وأنت في مكة وأرسل لك ورقة من أبها كتب فيها إليك: يا أبي إن البرد القارس يقطع أوصالي ويفتت عظامي، وأنا أعيش في غرفة وليس معي مدفأة أتدفأ بها ولا معطف ألبسه، والناس من حولي معهم المعاطف و (العبي) وأنا لا أملك نقوداً، ولهذا أطلب منك يا والدي أن ترسل لي بألف ريال أشتري بها مدفأة وملابس، ولما وصلت الرسالة إلى والده في مكة وهو جالس في الحر والدفء تأثر حقيقة، فقرأها فبكى، وقرأها على أمه فبكت، ولكن ما أرسل نقوداً، وبعد ذلك جاء الولد وقال: يا والدي أرسلت لك رسالة فهل وصلتك؟ قال: نعم.
بلغتني، والله لقد أثرت فيَّ هذه الرسالة، وبلغت مني كل مبلغ، وقرأتها وتقطع قلبي لما بها، وبكيت، قال: يا أبي أنا ما أرسلتها لكي تبكي، أرسلتها لكي تعطيني ألف ريال، ما رأيكم بهذا الأب هل هو صادق في تأثره؟ لا بل كاذب في تأثره، ولو أنه متأثر حقيقة فمن يوم قرأها يمشي إلى البنك ويحول لولده بألف ريال من أجل أن يستدفئ ولله المثل الأعلى.
الله أنزل هذا القرآن لنعمل به وليس لنقرأه فقط، فالآن لو أنك موظف وجاءك تعميم من الوزارة أو من الإدارة وقال لك مدير الإدارة: الإخوة الموظفون! للإطلاع والتوقيع بالعلم، وطلب منك أن توقع في التعميم بالعلم، ماذا يتطلب منك الأمر? يتطلب منك أن تقرأ التعميم، فمن الذي يوقع قبل القراءة؟ ولو أن شخصاً وقع قبل القراءة ماذا نسميه؟ نقول: هذا مغفل وأحمق، توقع على تعميم أتى من الوزارة وما قرأته، افرض أن فيه قرارات افرض أن فيه شيئاً.
والتعميم الرباني من الله، تقرأ القرآن ولا تعلم ماذا هناك، تقرأ قول الله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36] وأنت تسمع الأغاني، كم مرة سمعت أن الأغاني حرام، وكم مرة قرأت هذه الآية، وما انتهيت عن الأغاني، فما معنى هذا? معناه: إصرارك على أن تعصي الله على علم، يكفي -يا أخي- أنت عبد الله، بمجرد أمر واحد أو فتوى واحدة أن الأغاني حرام فتمتثل ولا تستمع، هي قرآن الشيطان ووحي إبليس وهي ضد القرآن، فلماذا تعاند ربك وتستمر عليها وأنت تعلم أنها حرام، وأنت تسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول والحديث في صحيح البخاري: (ليكونن في آخر الزمان أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) وهناك حديث مرفوع وقيل موقوف على ابن مسعود: [الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل] وفي بعض الآثار: [من استمع إلى مغنية صب الله في أذنيه يوم القيامة الرصاص المذاب] وفي سنن ابن ماجة حديث عن عمرو بن قرة الجهني قال: جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: (يا رسول الله! ما أراني أُرزق إلا من دفي بكفي -فهو لديه دف يضرب به على أولاد المدينة فيعطونه تمراً فيأكل، فهو يقول ليس عندي عمل- فرخص لي يا رسول الله -سهل لي فيها أمراً في غير ما فاحشة، يقول: ما أريد أن أغني بفاحشة- قال صلى الله عليه وسلم: قم يا عدو الله كذبت، والله لولا أنك سبقت بالتقدمة لحلقت رأسك ولجعلت مالك نهبة لصبيان المدينة) فقام وبه من الذل ما لا يعلمه إلا الله، فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (إن هذا ومن هو على شاكلته يبعثون يوم القيامة عرايا لا يستترون بهدبة كلما قاموا صرعوا) هؤلاء أهل الفن، يخلده الفن في النار، ولهم عواء كعواء الكلاب في جهنم -والعياذ بالله- فلا تقترب منهم -يا أخي- ولا تكن مشجعاً لهم ولا تكن من جمهورهم.
كن من أهل القرآن ومن المشجعين لكتاب الله، كن من أهل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول ابن القيم رحمه الله:
برئنا إلى الله من معشر بهم مرض من سماع الغنا
فعشنا على سنة المصطفى وعاشوا على دندنا دندنا
و (يا عين) و (يا ليل) وبعد ذلك يتجرع نتائجها يوم القيامة فلا حول ولا قوة إلا بالله! فيا أخي المسلم! العبرة من التلاوة أن تعمل بالتلاوة: {إِنَّ السَّمْعَ} [الإسراء:36] عرفت هذا، فلا تستمع إلى غيبة، ولا نميمة، ولا قول زور.
{وَالْبَصَرَ} [الإسراء:36] لا تنظر إلى الحرام، ولا تملأ عينك الحرام (من ملأ عينيه من الحرام ملأهما الله من جمر جهنم) ما معنى أن الله تعالى يقول لك: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ} [النور:30] من هم المؤمنون؟ أهل روسيا أو بريطانيا؟ لا.
بل أنت الذي ولدت في بلد الإسلام ومن أهل الإيمان: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30].
ولكن بعض الناس يقرأ الآيات ويسمع القرآن وإذا رأى امرأة نظر بعينيه وحركها بشرهٍ، يعني: يريد أن يبتلعها بعيونه، الله تعالى يقول: غضوا، وهو يقول: فتحوا، أعوذ بالله! هذه العين ما علاجها إلا من جهنم؛ لأن (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركه ابتغاء مرضاة الله أبدله الله إيماناً في قلبه يجد حلاوته إلى يوم يلقاه) كما ورد في الحديث.
{وَالْفُؤَادَ} [الإسراء:36] فلا تفكر ولا تسر إلا فيما يرضي ربك، فلا تمش بقدمك إلى حرام، ولا تمدَّ يدك إلى حرام، ولا تتكلم بلسانك في حرام، وقيد نفسك بتعاليم القرآن، وكن قرآناً متحركاً، وكن قرآناً حياً كما قالت عائشة لما سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان خلقه القرآن) والحديث صحيح.
تريد خلق النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال الله تعالى عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فخلقه القرآن، وتعاليم القرآن كلها انعكست وتمثلت في شخصه صلى الله عليه وسلم.
فاقرأ القرآن، واعمل بالقرآن، واستشف بالقرآن، واحتكم إلى القرآن، وتدبر القرآن، تعلم القرآن، احفظ القرآن، كن قرآناً؛ لأنك إذا أردت أن تعرف منزلتك عند الله فاسأل نفسك عن منزلة القرآن في قلبك، فإن كان للقرآن منزلة في قلبك فاعلم أن لك منزلة عند الله، وإن كان لا يوجد للقرآن منزلة في قلبك فاعلم أنه لا منزلة لك عند الله.
ومن الناس -والعياذ بالله- من إذا حرك مؤشر المذياع وسمع قرآناً كأنك ضربته على وجهه، لا يريد ريح القرآن، فإذا وجد أغنية استقر عليها وانبسط، فيعرض عن الله ويبتعد -والعياذ بالله- وهذا مدبر ولا خير فيه.
والله أسأل في هذه الساعة المباركة ولعلها ساعة إجابة، أن يشرح صدورنا وإياكم إلى الإسلام، اللهم اشرح صدورنا، ويسر أمورنا، واغفر لنا في دنيانا وآخرتنا، واجمعنا وجميع أحبائك إخواناً في الله في دار كرامتك، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(63/19)
الأسئلة(63/20)
أمراض القلوب وعلاجها
السؤال
يقول الله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10] ما هو علاج هذا المرض?
الجواب
هذه الآية يذكر الله عز وجل فيها المنافقين في أوائل سورة البقرة؛ لأن الله تعالى ذكر الناس وقسمهم إلى ثلاث فئات: أصحاب قلوب سليمة صحيحة وهم أهل الإيمان -جعلنا الله وإياكم منهم- وأصحاب قلوب ميتة وهم أهل الكفر، وأصحاب قلوب مريضة وهم أهل النفاق.
فذكر الله أصحاب القلوب الصحيحة بأربع آيات، وذكر الله أصحاب القلوب الميتة بآيتين، وذكر أصحاب القلوب المريضة بثلاث عشرة آية حتى يكشفهم ويعريهم فقال في أول سورة البقرة: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] يعني: أهل القلوب الصحيحة يكون القرآن سبباً في هدايتهم.
فما صفاتهم؟ قال: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] أي: لا يعيشون في سجن المادة المنظورة بالعين، بل يؤمنون بعالم الغيب والشهادة، فما غيب عنا فإنه أعظم بملايين المرات مما ظهر لنا {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة:4] أي: القرآن {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:4 - 5] الله أكبر ما أعظم هذا التذييل المناسب (أولئك) اسم إشارة للبعيد، لعلو منزلتهم ولعلو درجتهم عند الله {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] يعني ليس هناك ضلال {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] جعلنا الله وإياكم منهم.
ثم ذكر الله أصحاب القلوب الميتة التي لا حياة فيها، فقال سبحانه فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] لأن الله علم عدم انتفاعهم بالإنذار، ولماذا? قال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7].
ثم انتقل إلى أصحاب القلوب المريضة الذين أظهروا للناس شيئاً وأبطنوا غيره، فأظهروا للناس الإيمان وأبطنوا الكفر والنفاق، فهؤلاء أمرهم مشكل، ووضعهم غريب، فلا بد من توضيح حالهم وكشف احتيالهم، فكشفهم الله تعالى فقال: {وَمِنْ النَّاسِ} [البقرة:8] أي ليس مؤمناً من الأولين وليس كافراً من الآخرين، ولكن يلبس لبوس الإيمان، ويخفي الكفر قال: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:8 - 10].
وشفاء هذا المرض وعلاجه بأدوية: أعظمها القرآن الكريم؛ لأن الله تعالى قال: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57].
ثانياً: السنة المطهرة، هدي النبي صلى الله عليه وسلم وطريقة عيشه، كيف يعبد الله؟ هديه في كل شيء.
ثالثاً: حب المساجد؛ لأنها مشافي القلوب، والملازمة لها والمداومة عليها؛ لأن من ألف المسجد ألفه الله، ومن أحب المسجد أحبه الله، ومن مشى إلى المساجد في ظلمة الليل لقي الله بنور تام يوم القيامة، فحبك للمسجد مما يقوي إيمانك ويسلم قلبك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (ورجل قلبه معلق بالمساجد) فحب المساجد مهم جداً.
رابعاً: حب العلماء؛ لأنهم أطباء القلوب، فإذا أحببتهم ولازمتهم وجلست معهم سلم قلبك.
خامساً: حب الأخوة في الله، عليك أن تتعرف على مجموعة من الصالحين وتربط بهم علاقة الإيمان وتجالسهم، إن كسلت نشطوك وإن غفلت نبهوك، وإن نسيت ذكروك، وإن أخطأت رجعوك، المهم معك في الطريق يعينونك على طاعة الله.
سادساً: بغض أهل الفسق والمعاصي والحذر من مجالستهم، فإنهم مرضى، ولا بد من الحظر الصحي عليهم، فمن جالس المرضى مرض، أليس كذلك؟! فواحد عنده سل، وثان عنده إيدز، وثالث عنده سرطان، تجلس معهم وتأكل وتشرب، لا والله! ولو كانوا إخوانك لا تأكل وتشرب معهم، تقول: والله! ما أقعد معكم.
فاعلم أن هذا عنده سل في دينه، وإيدز في أخلاقه، وسرطان في عقيدته، ما رأيك بهذا تجلس معه؟ خطأ، إذا جلست معه أوردك النار، فاحذر منه وبهذه الأسباب الستة إن شاء الله يسلم قلبك بإذن الله.(63/21)
المعاصي وأثرها السيء على الفرد والمجتمع
السؤال
أنا أحد المسلمين أؤدي فرائض الله من صلاة وصيام وحج، وأوحد الله، ولكني أرتكب بعض المعاصي مثل شرب الدخان والشيشة وحلق اللحية وسماع الأغاني وإسبال الثوب، وقد حاولت أن أتفادى هذه المعاصي أو بعضها ولكن الشيطان كلما تبت منها أوقعني مرة أخرى، فبماذا تنصحونا جزاكم الله خيراً?
الجواب
المعاصي -أيها الإخوة- حجاب بين العبد وبين الله، لها آثار مدمرة على الإنسان في الدنيا والآخرة، تذهب بركة العمر، وتذهب بركة الرزق، وتذهب بركة العلم، وتذهب بركة الأولاد والأموال، المهم أن المعاصي نار وشنار وعار في الدنيا والآخرة، والله تبارك وتعالى قد حذر منها وقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36].
المعصية هذه هي سبب لإبعادك وإقصائك عن الله، فلا تستصغر شيئاً من المعاصي؛ لأنه لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار.
لا تحقرن من الذنوب صغيرا إن الصغير غداً يصير كبيرا
الصغير اليوم يكبر، واليوم ذنب وغداً ذنبين وبعده ثلاثة، تأتي يوم القيامة تلقاه مثل الجبل، ما هذا? يقال لك: هذا الذنب الصغير أصبح اليوم كبيراً، وكل شيء يكبر.
إن الصغير وإن تقادم عهده عند الإله مسطر تسطيرا
وفي الحديث وهو في السنن قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على المرء فيهلكنه) وهذه الذنوب التي وقعت فيها -يا أخي- ليست من الصغائر بل هي من الكبائر، سماع الغناء الذي هو ضد القرآن قال ابن القيم:
حب القران وحب ألحان الغنا في قلب عبد ليس يجتمعان
لا يمكن أبداً أن تجمع قرآناً وأغاني في قلبك، ولذلك ترى الذين يحبون الأغاني لا يحبون القرآن، وإذا أحبوه لا يحفظوه، والذي يحب القرآن لا يحب الأغاني، وإذا سمع لا يريدها، لماذا؟ لأنها متضادة، مثل النار والماء، مثل الشرق والغرب، مثل السماء والأرض لا يمكن أن تجتمع، أما كما يقول بعض الناس: ساعة لقلبك وساعة لربك، لا فهذا شرك، والله تعالى يقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] حتى الموت لله، أما ساعة للقرآن وساعتين للأغاني، فلا.
فسماع الأغاني مصيبة.
وإسبال الثوب أيضاً من الكبائر؛ لأنه من المخيلة والأحاديث الصحيحة وردت في النهي عنه سواءً كان هذا الإسبال خيلاء وتكبرً أو كان غير ذلك، فإن كان خيلاء وتكبراً فقد ورد في الحديث الصحيح: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) وإن جر ثوبه عادة لا خيلاء، فقد ورد في الحديث وهو أيضاً صحيح: (إزرة المسلم إلى نصف الساق، فإن كان مرخياً فإلى الكعب، وما تحت الكعب ففي النار) سواء خيلاء أو غيره.
فيا أخي المسلم! إسبال الثوب من المخيلة والله سبحانه وتعالى لا يرضاه، والحديث في صحيح مسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب عظيم: المنان بعطائه، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمسبل إزاره).
وبعض الناس يستشهد بفعل أبي بكر، وهذا مسكين، هناك فرق بين الثرى والثريا، فـ أبو بكر لما سمع هذا الحديث قال: (يا رسول الله! إن إزاري يسترخي، وإني أتعاهده) يقول: أنا لا أتركه أنا أتعاهده، ولكن أحياناً أسهو عنه أو أغفو فينزل، قال صلى الله عليه وسلم: (إنك لست ممن يفعله خيلاء) هذا أول شيء شهادة تزكية لـ أبي بكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، ولكن أنت من يزكيك حتى تكون مثل أبي بكر؟ وأبو بكر يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (ما طلعت الشمس بعد النبيين على أفضل من أبي بكر، ولو وزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر) أثنى الله تعالى عليه في القرآن: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] أيُّ رجل عظيم هذا؟ وبالرغم من هذا يقول: إن إزاري يسترخي؛ لأن الرجل كان بطنه ملتصقاً بظهره، بل كان جُل الصحابة بطونهم ملتصقة بظهورهم، فهم من شدة الجوع يربطون على بطونهم بالحجارة.
فكان أبو بكر يربط إزاره، ومع الجوع يصير فراغاً فينزل ويتعاهده ويرجعه، ثم يذهب الواحد منا إلى الخياط ويقول: دع الثوب يسحب، ثم تجده يقول: أنا مثل أبي بكر، هذا يعني أنك متعمد أن تنزل ثوبك، من أجل أن تمشي في الشارع وتخفي قدميك، لماذا تخفي قدميك، لماذا? هل هي تفتن الناس؟ المرأة مأمورة بأن ترخي ثوبها حتى لا تفتن الناس بقدميها، أما أنت فرجلاك لو رآها الناس لفروا منك، من الذي افتتن بك، ارفع ثيابك، وكن رجلاً، لا تسحب ثوبك كأنك امرأة، (عيب والله عيب!!) هذا عمر وهو مطعون والدم يخرج من بطنه رأى شاباً يسحب ثوبه قال: [يا غلام! ارفع ثوبك فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك] يقول: أتقى لله وأنقى لثوبك، هذا الذي يسحب ثوبه ففي كل يوم زوجته تغسله، كل يوم يكنس الشارع ويذهب عند زوجته تنظف، لكن لو رفع ثوبه بقي أسبوعاً بدون غسل.
أما الدخان وما أدراك ما الدخان (أبو قط) وليس (أبو نمر) ولا (أبو أسد) ولكن اعلموا أنه من القطط وإلى القطط، أبو قط ترى الرجل يأخذ العلبة ويضعها في جيبه، فتظنها نقوداً تملأ جيبه، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
الدخان خبيث ورائحته خبيثة، ولا ينبغي للمسلم أن يتعاطاه بأي حال من الأحوال، وقد صدرت فيه الفتاوى الشرعية من العلماء أنه محرم بأدلة شرعية، سبعة أدلة: والواحد منها يكفي، وفيه تحذير رسمي من الدولة على كل علبة: التدخين يضر بصحتك فلا تقربه، ولكن من الناس من هو أجهل من الثور، يرى التحذير ويشتريه بمال ويشعله بنفسه.
فسبحان الله! منظمة الصحة العالمية بإجماع أطبائها غير المسلمين يقررون أنه سبب رئيسي لإصابة الإنسان بسرطان الرئة الذي ما له دواء إلا الموت؛ لأن الرئة مثل الإسفنج إذا دخل فيها سرطان كأنك ولعت في إسنفجة فكيف تطفؤها؟ ومن أراد المزيد فليستمع إلى شريط في حكم الدخان اسمه: (القاتل المهذب) يقتل ولكن بأدب، هذا موجود في الأسواق وينفع إن شاء الله والذي يسمعه يستفيد منه إن شاء الله.
وأذكر لكم قصة، وأنا أكررها باستمرار لأن بعضكم ربما لم يسمعها: كنت ذات مرة في جيزان، فسئلت عن حكم الدخان في مدرسة ثانوية، فبينت حكمه بما أعرف من شرع الله، فقام أحد المدرسين واعترض وقال لي: يا شيخ! نريد آية في القرآن يقول الله تعالى فيها: الدخان حرام عليكم، كما قال: حرمت عليكم الميتة والدم، فقلت له: يا أخي أنت تأكل الموز والبرتقال والتفاح، قال: نعم.
قلت: أريد آية في القرآن أحلت لكم الموز والبرتقال والتفاح، هات آية، قال: لا يوجد.
قلت له: يا أخي! القرآن ليس كتاب مطعم، يعطي لك قائمة بالأطعمة هذا حلال وهذا حرام، بل هذا منهج أمة، ودستور حياة، جعل الله تعالى فيه ميزاناً في سورة الأعراف: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] فائت بكل طيب وكله، واترك كل خبيث واعلم أنه محرم عليك.
قال: أنا أقول بأن الدخان من الطيبات، أنتم تقولون: إنه من الخبائث وهو حرام، وأنا أقول بأنه من الطيبات فهو حلال، فقلت له: عندك أولاد، قال: نعم.
قلت: لو رأيت في يد أحدهم حلوى أو بسكويت أو تمرة، تغضب؟ قال: لا.
قلت: لو رأيت في يد واحد منهم سيجارة تغضب؟ قال: نعم.
قلت: لماذا؟ قال: لأنه ليس طيباً -بلسانه، والله! - قلت له: غير طيب يعني: خبيث، فضحك الناس عليه كلهم في الصالة، وهو بعد ذلك رفع يديه وقال: تائب والله، والله لا أشربه بعد اليوم، وبعد أن انتهينا سلم علي بحرارة وقال: يا أخي! أنا كان عندي شبهة ولم يقنعني أحد إلا أنت؛ فجزاك الله خيراً وأنا أتوب إلى الله منه.
فالدخان -يا إخواني- عيب والله، فالذي يشربه عليه أن يتوب إلى الله منه، فبعض الناس يقول: والله صحيح الدخان خبيث، لكن ما نصنع، والله ما استطعنا، ويريد أن يبكي، أعوذ بالله! ما هذا الضعف؟ تنتصر عليك سيجارة وتغلبك وأنت رجل، لماذا لا ترميها من يدك؟ وتقول: أعوذ بالله منك! والله ما أشربك، سبحان الله! الطفل الصغير يفطم من ثدي أمه وقد ألف ثديها وهو طعامه وغذاؤه الوحيد لمدة سنتين فإذا فطموه ووضعوا له قطران أو شيئاً آخر على الثدي، ثم أعطوه للولد بعد يومين أو ثلاثة ماذا يقول? يقول: (كخ) (خلاص) لا أريدك ويريد طعاماً جديداً، وأنت بلحيتك لا تقول لهذا الخبيث (أبو قط) و (روث مان) وتعرفون ما معنى ( man مان).
والشيشة وما أدراك ما الشيشة، وبالمناسبة، قرأت قبل ثلاثة أو أربعة أيام ويمكن قرأتم معي بحثاً في جريدة عكاظ مع التحفظ على هذه الجريدة طبعاً، لكن البحث كان قيماً، كان عن إيدز جديد اسمه الفيروس الكبدي نسبة الإصابة به في المملكة العربية السعودية (56%) وهذه الدراسة جاءت عن طريق جامعة الملك عبد العزيز -كلية الطب، جاء بها علماء وأطباء متخصصون، فليس مجرد كلام، بل دراسة علمية، مبنية على إحصاءات وأرقام (56%) من الناس عندهم هذا الفيروس.
وهو ينقسم إلى قسمين فيروس (
الجواب
) وفيروس ( B)، فالفيروس (
الجواب
) خطير ما بعده إلا الموت، وفيروس ( B) خطير ولكن أقل خطورة، هل تعلمون ما هي أسبابه وما أعظم أسبابه؟ إنها الشيشة، هكذا بهذا النص قال الأطباء: وقالوا أكثر من (40%) من المصابين به سببه تعاطي الشيشة، فهذه الشيشة -يا إخوان- لا ينبغي للمسلم أن يحقر نفسه، بعضهم عنده شيشة في المكتب وشيشة في السيارة لا يمشي إلا وهو يقرقر، وشيشة عند رأسه، بل إنه قد أصبح شيشة متحركة، وبعضهم يحليها ويزينها ويلبسها ثوباً -أعوذ بالله من هذا الشيء-.
أما حلق اللحية فمخالفة لسنة النبي صلى الله ع(63/22)
نصيحة في التعامل مع الولد المدخن
السؤال
أنا رجل متدين ولله الحمد ولا أزكي نفسي، لي ابن يبلغ من العمر تسعة عشر عاماً، وقد زوجته من سن الثامنة عشرة، بحسب طلبه للزواج، فزوجته بفتاة متدينة والحمد لله، ورأيت في المنام أنه يدخن، فأحرقته بالسيجارة في المنام، ثم انتبهت من المنام، وبعد هذه الرؤيا بأيام قليلة بلغني أنه يشرب الدخان حقيقة، فأغضبني هذا، ولأني أحب في الله وأبغض في الله، فأرشدني جزاك الله خيراً ماذا أفعل معه إذا لم يسمع نصيحتي?
الجواب
أولاً: أريد أن أقف قليلاً عند الرؤيا حتى لا يتصور الناس أن كل رؤيا يراها حق، نحن لا نتلقى تشريعنا وديننا من الرؤى والأحلام، المصدر عندنا كتاب الله وسنة رسول الله والإجماع والقياس، هذه مصادر الشرع المتفق عليها، وهناك مصادر أخرى مختلف فيها، وهي: شرع من قبلنا، والاستصحاب، والاستحسان، والمصالح المرسلة، والتقليد، والاجتهاد، هذه مصادر مختلف فيها بين الأمة هل هي مصادر تشريع، وليس هذا مقام تفصيل فيها.
ولكن المصادر الشرعية لتلقي الأحكام: الكتاب والسنة والقياس والإجماع، أما الرؤى والأحلام فليست كل رؤيا تؤخذ على ما هي ونفسرها؛ لأن منها ما يكون حديثاً للنفس، ومنها ما يكون من الشيطان، ومنها ما يكون من الله، والرسول صلى الله عليه وسلم قد علمنا أنه إذا رأى أحدنا ما يكره في نومه فليتفل عن يساره وليستعذ بالله من الشيطان، لا يخبر بها أحداً فإنها لا تضره.
لكن لو أخبر بها وعُبرت فربما تقع، وإذا رأى ما يحب فليخبر من يحب، والرؤيا تسر ولا تضر، وأحياناً يريد الشيطان أن يوقع بين المسلمين والمؤمنين البغضاء ويزعزع ثقتهم في بعضهم، فيريك رؤيا أن فلاناً يدخن أو أن فلاناً حالق لحيته، أو أن فلان رأيته في المنام يزني مع واحدة، هذه من الشيطان من أجل أن تأتي في اليوم الثاني وذاك الذي كنت تحبه ورأيته في المنام أنه يزني تكرهه، لماذا؟ لأنك رأيته في المنام يزني، حسناً ما ذنبه هو؟ الشيطان هو الذي تصور لك ولعب عليك وجعلك تكره أخاك، فلا تبن حكماً على رؤيا.
أما كونك رأيت ولدك على هذا الشيء ثم أصبح حقيقة، فهذا علاجه بوسائل: أولاً: تبحث؛ مع من يجلس ولدك المتدين؟ اسأل مع من يجلس؟ لأنه ما دخل عليه الدخان اعتباطا، ما جاء الدخان إلا مع شخص يأخذه معه وجلسا سوياً وقال له: ما رأيك خذ يا شيخ فيرفض، فيقول: إذاً أنت مسكين أنت لا تعيش الحياة التي نعيشها ثم يقول: أنا إذا دخنت أرى الدنيا كلها في يدي، أنبسط وتذهب الهموم والغموم والمشاكل ويقولون: دخن عليها تنجلي.
أي مشكلة تدخن عليها وترى الدنيا كلها آمالاً.
ذلك المسكين قال: سنجرب فنحن نريدها أن تنجلي، فيأخذها ويمصها أولاً ثم ثانياً ثم ثالثاً، حتى يستسيغها، فابحث أولاً مع من يجلس ولدك؟ وَحُلْ بينه وبين جلساء السوء، ثم ما دام ولدك قد أصبح رجلاً كبيراً فاجلس معه جلسات منطقية متعقلة، وقل له: يا ولدي، يا ولدي، يا ولدي، ربيتك أدبتك زوجتك، يا ولدي هذا الشيء ليس لي ولا لك، هذا الشيء نعوذ بالله منه، نذهب أنا وأنت إلى العلماء، نذهب إلى طلبة العلم نسأل ونستفيد، إن كان حلالاً أنا أشرب معك يا ولدي، وإن كان حراماً فلا.
والله! لا أريدك أن تشرب حراماً، وهكذا وادع الله تعالى له في الليل وخذه إلى مجالس العلم، وأسمعه الأشرطة الإسلامية، واربطه بجلساء طيبين، فإن استقام فالحمد لله، وإذا أصر بعدها فعليك هجره؛ لأن آخر العلاج الكي.(63/23)
خطورة التهاون في صلاة الفجر مع الجماعة
السؤال
لدي مشكلة هي أنني لا أصلي صلاة الفجر في المسجد؛ لأني نائم?
الجواب
ما رأيك يا نائم لو صدر الأمر أن الدوام الساعة الخامسة، والله تقوم، لو عندك رحلة سفر إلى خارج أو داخل المملكة وقالوا: الرحلة الساعة الرابعة صباحاً تقوم ولا تنام؟ ولا تقول لهم: يا جماعة أخروا الطائرة إلى الساعة السابعة؛ لأني أريد أن أنام؟ يقولون: يا مجنون نؤخر الطائرة من أجل خاطرك.
فهذه صلاة الفجر تؤخرها وتضيعها وهي عنوان الإيمان وهي دليل الإيمان: (أثقل الصلوات على المنافقين العشاء والفجر) والحديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم، وهذا والله مقياس ضعه في قلبك واعرف أين أنت، فإن كنت من أهل الفجر فاعلم أنك مؤمن، وإن كنت من أهل النوم فاعلم أن فيك نفاقاً والعياذ بالله.
أما كونك تصلي في البيت، فهذا للعلماء كلام فيه حول صحة صلاة من يصلي في بيته، فمنهم من يقول بأنها صحيحة مع العقاب والإثم إذ أنه ترك واجباً وهو صلاة الجماعة، ومنهم من يجعل حضور الجماعة شرطاً في صحة الصلاة بحيث يقول: إنها لا تقبل، وفي الحديث: (من سمع حي على الصلاة، ثم لم يمنعه من اتباعها عذر، لم تقبل منه الصلاة التي صلاها) وهذا موضوع خلاف بين أهل العلم.
ولكن نقول لك: اتق الله في نفسك، وما دمت تصلي الأربع الصلوات، إلا هذه الأخيرة والمهمة فاضبط نفسك، ووقَّت الساعة قبل أن تنام، ونم وأنت تقرأ القرآن، ونم مبكراً، ولا تنم على مسلسل، ولا على فيديو، ولا على مسرحية، ولا على قصة داعرة، ولكن نم على الذكر والقرآن واطلب من الله تعالى أن يوقظك لصلاة الفجر، ونبه على زوجتك إن كنت متزوجاً ونبه على أهلك إن لم تكن متزوجاً، وقل لهم: والله إن لم توقظني لصلاة الفجر فلا أذهب إلى المدرسة، وانظر والله سيوقظونك من أجل الذهاب إلى المدرسة، من أجل أن تأخذ الشهادة، لكن بعض الشباب إذا أيقظه أهله قال: أزعجتمونا.
أزعجوك! هذا النوم راحة لك يا عدو الله، فلا حول ولا قوة إلا بالله، نعوذ بالله من غضب الله.(63/24)
نصيحة موجهة إلى البنات والأمهات في البيوت
السؤال
ما هي نصيحتكم للبنات والأمهات في البيوت يرحمني الله وإياكم?
الجواب
رحمنا الله وإياك يا أخي، أما النصيحة للبنات والأمهات في البيوت بأن يتقين الله الذي لا إله إلا هو، وتقوى الله هي خير وصية يوصي بها المسلم أخاه، وهي وصية الله للأولين والآخرين، قال عز وجل: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] وتقوى الله -أيتها الأخت المؤمنة- أن تجعلي بينك وبين عذاب الله وقاية من طاعة الله.
والذي نحذر منه النساء هو تأخير الصلوات؛ لأن بعض النساء لا تصلي الفجر إلا الساعة العاشرة، ولا تصلي الظهر إلا الساعة الثالثة، ولا تصلي العصر إلا مع المغرب، وتصلي المغرب آخر الليل، والعشاء يمكن تنام وتتركها، هذه -والعياذ بالله- مجرمة في حق نفسها، لا تؤخري الصلاة، بل إذا سمعتي الأذان ضعي كل عمل وصلي، ثم صلي صلاة شرعية بكمال الطهارة، وكمال الخضوع والخشوع والتستر، البسي حجاباً ورداءً فضفاضاً واسعاً يغطي كل جسمك حتى شعرك، لا تظهري شعرة ولا تبدي ظفراً، ولا يبقى إلا وجهك في الصلاة، إذا لم يكن هناك أجنبي، أما إذا وجد أجنبي فغطي وجهك، ثم تستقبلين القبلة، وتقرأين الفاتحة، وتخضعين وتركعين وتسجدين وتطمئنين أما السرعة والمسابقة، بعض النساء تأخذ الصلاة في غمضة عين، وتقول: قد صليت، وهي تكذب، وقد تقول: لو تركتها كلها الله غفور رحيم، لكنها نسيت أن الله شديد العقاب لمثلك أيتها المجرمة في حق نفسها.
حافظي على الصلاة، اتركي الغناء لا يجوز أن تسمعيه، في البيت، كل الأشرطة التي عندك بدليها، اذهبي بها إلى مكتب الدعوة وسلمي الأشرطة التي عندك، يطبعونها ويسلمون لك آخر الأشرطة الإسلامية، بدل أن كانت باطلاً تصبح حقاً، وبريال واحد فقط، والله أكبر! ما أعظم هذا الفضل! وبعد ذلك تحجبي والتزمي بالحجاب حتى ولو كان زوجك يرفض؛ لأن من الأزواج من لا يهمه هذا الأمر بل يحب أن تكشف امرأته بشكل مستمر، من أجل إن كانت جميلة يباهي بها، وإن كانت كريهة وليست جميلة فلأجل أن يجعل الناس نساءهم يرينه؛ لأنه لو غطى زوجته وهي كريهة أو قبيحة غطى الناس نساءهم عليه، والعياذ بالله.
هذه جوهرة لك لا يراها إلا أنت، ولا تكشف.
وإذا أمركِ بالكشف فلا تطيعيه؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ثم احذري من مرض خطير جداً منتشر في أوساط النساء وهو مرض الغيبة؛ لأنها تأخذ عباءتها وتخرج من بيتها إلى أين؟ قالت: عند الجيران، ما هي المناسبة التي معكم؟ قالت: نتحدث، يعني: نأكل لحوم الناس، وتجد بعض النساء قد فنيت عباءتُها من عند رأسها من كثرة ما تلبسها، فكل يوم وهي على رأسها من بيت إلى بيت ماذا هناك، قالت: تتحدث، هل نتحدث بذكر الله؟ لا.
بالقرآن؟ لا.
لكنها تتحدث عن ماذا قالوا في فلان، ما قال أهل فلان، أما فلان أعوذ بالله منه، والله أما فلان فسلام الله عليه، قطع ونشر وطعن وقضم وهضم في لحوم المسلمين.
تخرج وهي قد شبعت من نار جهنم -والعياذ بالله- فنقول: لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا أعراضهم؛ لأنَّ (من تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع عورته فضحه وهو في جوف بيته) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
والنميمة وهي داء خطير عند النساء: وهي نقل الكلام بين البيوت، تأتي عند هذه تسمع كلامها وتذهب عند تلك وتقول: والله كنت عند فلانة بالأمس وسمعتها وهي تقول: فيك وفيك وما عملتِ بها، قالت: الله أكبر! صدقيني! والله إنها بنت حرام، وذهبت عند من نمت عليها وقالت: والله كنت عند فلانة بالأمس وذكرتك بشيء وقالت وتقول! وهذه أحرقت الأسر -والعياذ بالله- والنمام يفسد في ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة، فهذه أمراض النساء وكثيرة هي أمراضهن.
ونصيحة أخيرة: طاعة الزوج؛ لأن طاعة الزوج من طاعة الله، فهاهي عمة حصين بن محصن لما جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والحديث في السنن، قال: (أذات بعل أنت؟ قالت: نعم، قال: كيف أنت منه؟ قالت: أجتهد -يعني: لا أقصر- قال: إنه جنتك ونارك) فالنار والجنة من عند الزوج، ثم قال: (أيما امرأة صلت فرضها، وصامت شهرها، وأطاعت بعلها، وحصنت فرجها فلتدخل من أي أبواب الجنة شاءت).
إن طاعة الزوج مسئولية كبيرة ولكن في طاعة الله، وتستطيع المرأة الموفقة أن تصل إليها بألطف الأساليب، فالزوج لا يريد مالاً، ولا يريد خدمة شاقة، يريد بسمة، يريد كلمة طيبة، يريد وجهاً بشوشاً، يريد رائحة جميلة، يريد ثوباً نظيفاً، يريد طعاماً مطهياً عاجلاً، يريد أن ينام ولا يسمع تكديراً، وإليكم مقولة المرأة التي زفت بنتها إلى زوجها، فلما زفتها قالت لها: إنك ستخرجين من بيت درجت فيه إلى عشير لم تألفيه، فكوني له أمة يكن لك عبداً.
لأن بعض النساء تقول لبنتها: لا ينتصر عليك، كوني عزيزة النفس، إذا قال كذا قولي: لا.
كوني عزيزة! فتحدث المشاكل من أول يوم دخلت فيه، ولكن عندما تصير المرأة أمة للزوج، ماذا يكون هو؟ عبداً لها.
وبعد ذلك قالت: لا يشمن منك إلا أطيب ريح، ولا تقع عينه منك إلا على كل مليح، وإياك في تأخير طعامه، أو تنغيص منامه، فإن تأخير الطعام ملهبة، وتنغيص المنام مغضبة، كيف ذلك؟ بعض النساء تظل نائمة حتى الساعة الثانية، وزوجها يأتي الساعة الثانية والنصف، وبعد ذلك قامت الساعة الثانية ولم يبق إلا نصف ساعة وخربت الدنيا كلها، ويأتي الزوج ويقول: هل الطعام جاهز؟ فتقول: اصبر قليلاً لازال القدر على النار، أين كنت من الصباح، (اللهم طولك يا روح) وبعد قليل أتت به بعد نصف ساعة وهو يلتهب، والطعام إذا كان حاراً كأنه نار نعوذ بالله من النار، كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحب الطعام الحار، ولما قدم له قال: (إن الله لم يأمرنا أن نطعم النار) وبعد ذلك تجده إما مطهياً طهياً غير جيد، يعني: لابد أن يكون فيه عيب؛ لأنها أصلحته بسرعة، لكن لو أنها من أول الأمر قد دبرت أمرها وجهزت طعامها، بحيث إنها حين تسمعك وأنت عند الباب تدق الجرس، لا تدخل إلا والطعام أمامك حتى لا تغضب.
وتنغيص المنام مغضبة، وبعض النساء إذا علمت أن زوجها نائم تقفل عليه الباب وتأخذ أطفالها وأهلها وتذهب في غرفة بعيدة عن منامه وتسكتهم حتى لا يزعجوه، وعندما يأتي الوعد الذي قرر فيه القيام، تأتي إليه بالدقيقة وتنهضه قائلة له: يا فلان قم بارك الله فيك الموعد حل (يا سلام!) هذه الزوجة موفقة، نسأل الله أن يوفقها.
ولكن بعض النساء إذا نام فتحت الباب وأتت بعيالها كلهم، يقول لها زوجها: أريد أن أنام، قالت: لماذا تنام، حسناً أتيت من الدوام من أجل أن تنام، نريد أن نقعد معك، فإن الزوج يدعو عليها: لأنه وجدها مصممة على إزعاجه وبعد ذلك ذهب النوم وخرج وغضب عليها وحدثت مشاكل، كان عليها أن تغلق عليه الباب ساعة أو نصف ساعة بحيث يرتاح قليلاً؛ لأن الرجل يعاني بالخارج ويتعب في عمله فأين يذهب؟ هل يذهب إلى (القهوة) لينام؟ أم يذهب إلى المسجد؟ أم يذهب إلى الناس يطلب منهم مكاناً لينام فيه؟ هذه عذاب -والعياذ بالله- يقول المثل: حرب الخلاء ولا حرب الدار.
فإخلاص المرأة يكون بطاعتها لزوجها، وبكل هذه الأساليب إن شاء الله يمكن أن تكون المرأة طيبة، وهناك شريط إن شاء الله سوف يخرج بعد أيام اسمه (رسالة إلى كل عروسين) وجهته أنا إلى العرسان الجدد، ولكن يصلح حتى للقدامى، لعله ينفع ويعالج أغلب المشاكل التي بين الزوج وزوجته، وإن شاء الله سيصدر قريباً فلا تستعجلوا عليه، ربما يبقى شهراً؛ ولكن يوجد شريطان الآن في السوق، الأول بعنوان: (حقوق الزوج) والآخر: (حقوق الزوجة) هذا موجود وبإمكان الشخص أن يشتريه ويستفيد منه.(63/25)
حكم التغيب عن العمل بدون عذر شرعي
السؤال
يقول: أعمل في إحدى الإدارات الحكومية وأنا شاب مستقيم ولله الحمد، وهذا من فضل الله علي، ولكني إذا تغيبت من غير عذر شرعي، وأردت أن أطلب من رئيسي أن يخصم من مرتبي عن ذلك اليوم الذي غبت عنه؛ لأنه حرام أن أتقاضى راتب ذلك اليوم الذي غبت فيه، ولكن الناس يقولون: خذ أجر ذلك اليوم ولا حرج عليك?
الجواب
لا يجوز للإنسان أن يتغيب بغير عذر شرعي؛ لأنه مسموح له بقوة النظام أن يأخذ إجازة من الإجازات العادية أو الإجازات الاضطرارية، أو إذناً من رئيسه إذا كان يملك صلاحية في هذا، فلا يجوز له إلا بإذن أو يقدم خطاباً: سعادة مدير الإدارة تغيبت يوم كذا وكذا أرجو خصم راتب ذلك اليوم.
إذا جاء المدير وقال: لا يا شيخ، فضل الحكومة واسع.
قل له: صدقت، الحكومة فضلها واسع، أمدها الله ووفقها وبارك فيها، لكن ظهري لا يتحمل العذاب، وأنا أجير عند الدولة، فأنا آخذ اليوم راتباً وآخذ بدلاً عنه عذاباً في النار، يحوله إلى شئون الموظفين لخصم راتب ذلك اليوم، وإذا رفض فارفعها للمدير العام من أجل يخصم عليك يوماً مثل يومك؛ لأنه مدير متساهل وأخبره بذلك.
والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(63/26)
أسماء يوم القيامة
تحدث الشيخ في محاضرته عن هول يوم القيامة، وأنه آتٍ لا شك فيه، ثم ذكر أسماء لذلك اليوم: القيامة، اليوم الآخر، الساعة إلخ، مبيناً السبب في إطلاق هذه التسميات على ذلك اليوم الرهيب، ومثبتاً في إطار ذلك أن كثرة الأسماء تدل على عظم المسمى.(64/1)
أهوال يوم القيامة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يوم القيامة يوم عظيم، يومٌ تحدث فيه من الأحداث والمشاهد العظيمة ما يجعل الولدان شيباً، والمرضعة تذهل عما أرضعت، والحوامل يضعن أحمالهن؛ خوفاً وفزعاً ورهباً من تلك الأحداث العظيمة التي تتغير فيها معالم الكون.
يوم القيامة لو علمت بهوله لفررت من أهل ومن أوطانِ
يوم عبوس قمطرير أمره فيه تشيب مفارق الولدانِ
ويقول الآخر:
مَثّل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمورُ
إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسيرُ
وإذا الجبال تقلعت بأصولها ورأيتها مثل السحاب تسير
وإذا البحار تأججت نيرانها ورأيتها مثل الحميم تفورُ
وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت فتقول للأملاك أين نسيرُ؟
فيقال سيروا تشهدون فضائحاً وعجائباً قد أحضرت وأمورُ
وإذا الجنين بأمه متعلق خوف الحساب وقلبه مذعورُ
هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المقيم على الذنوب دهورُ
يوم القيامة هائل جداً، طوله خمسون ألف سنة، وخمسون ألف سنة سهلة باللفظ لكنها في التعداد العملي صعبة! خمسون ألف سنة والناس واقفون في ذلك اليوم العظيم الذي تتقطع فيه القلوب، وتشخص فيه الأبصار، والناس فيه يتوقعون كل عذاب، وهناك أناس آمنون لا يغشاهم الحزن: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103] نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
هذا اليوم ضربه الله عز وجل موعداً لفصل القضاء، وللجزاء، وللوعد والوعيد، يوم تنصب فيه الموازين، وتنشر فيه الدواوين، ويبعث فيه الخلق أجمعون، وتتفطر السماء، وينزل منها الملائكة: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:37] وتحضر الأعمال، ويجزى الناس على ضوء أعمالهم في هذه الحياة.
وهذا اليوم يسبقه إبادة شاملة وكاملة لجميع الأحياء؛ لأن النفخة نفحتان: النفحة الأولى: نفخة الصعق: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] هذه نفخة الصعق لا يبقى بعدها أحد، كل الناس يموتون، والنفخة الثانية: نفخة البعث: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] قيل: ما بين النفختين الأولى والثانية أربعون عاماً، وهذه المدة من أجل إعادة تكوين الأجساد البشرية كما كانت، وفي هذه المدة ينزل مطر من ماءٍ يقال له: ماء الحيوان، تنبت منه أجساد العباد؛ لأن الناس إذا ماتوا يفنى منهم كل شيء، إلا عجب الذنب في آخر العمود الفقري، وهو مثل بذرة الذرة، فأنت عندما تأتي ببذرة الذرة تكون صغيرة، إذا ما قستها مع الشجرة التي تنتج هذه البذرة أين هذه من تلك؟ تضعها في الطين وتسقيها بالماء، وتنبت لك نبتة الذرة وفيها سنابل، وأعذاق، وأوراق، وأغصان، وأصلها ماذا؟ حبة ذرة.
كذلك أنت -أيها الإنسان- أصلك نطفة، ولا يبقى منك إلا هذا العضو الصغير -عجب الذنب- لا يفنى، ولا ينبت في الأرض بأي ماء إلا بالماء الذي ينزله الله في آخر الزمان، وهذا الماء ورد في الحديث أنه يشبه مني الرجال، ينزل على الأرض فتنبت منه أجساد وأجسام العباد كما تنبت الحبة في حميل السيل، حتى تعود الأجساد كما كانت -يوم موت أصحابها- لكن بدون أرواح.
ثم ينفخ النفخة الثانية، والنفخة الثانية في الصور (البوق)، والصور: قرن من نور حاوٍ لجميع أرواح الخلائق، كل الخلائق الموجودة يموتون عند النفخة الأولى، وإذا كانت النفخة الثانية تطايرت الأرواح، وعادت كل روح إلى جسدها، فيقوم الناس كلهم من القبور كأنهم كانوا في نوم عميق، يقول تبارك وتعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس:51] والأجداث القبور، وينقسمون إلى قسمين: أناس يقولون: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] وأهل إيمان يقولون: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:52 - 53] هذا اليوم الذي تباد فيه الخلائق كلها، كما قال الله عز وجل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] وكما قال الله تبارك وتعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] وكما قال سبحانه وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
وفي هذا اليوم يلاقي العباد شيئاً عظيماً من الكربات والأهوال؛ لأن الشمس تدنو من الرءوس حتى تصير على بعد ميل -قيل: ميل المكحلة، وقيل: ميل المسافة- حتى إنها لتغلي منها أدمغة العباد كما يغلي اللحم في القدور، والعرق يبلغ من الناس مبلغاً، لدرجة أن منهم من يسبح في عرقه، وورد في الحديث الصحيح: (أن منهم من يبلغ عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حقويه، ومنهم من يبلغ إلى ثدييه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، ومنهم من يغطيه، ومنهم يسبح في العرق) ولك أن تتصور مقدار الحرارة في ذلك اليوم! في الدنيا، لو كانت الحرارة مائة درجة فإنه الناس يموتون بل حتى إذا بلغت حرارة الجو [50مه]، [55مه]، [60مه] هناك من يموت، ونسمع في الأخبار أن موجات من الحر تمر على بعض الدول فيموت الناس من الحر، وهذه الدرجة لا تبلغ أن يسيل من الإنسان عرق بحيث يصير مثل الماء يُطبخ فيه، نعم! يسيل منه عرق لكن إذا كان كثيراً يبلل ثيابه، إما أن يسيل عرقه حتى يكون مثل السيل أمامه فلا! أيها الأحبة: وهناك في يوم المحشر أقل واحد هو من يسير في عرقه، فكيف الذي يغطيه؟! لا إله إلا الله.
هذه الأهوال والكربات لا ينجو منها إلا من أعد لذلك اليوم عدته، واستعد لذلك اليوم، وقدم المؤهلات من الإيمان والعمل الصالح؛ فإنه ينجو في ذلك اليوم، أما من يأتي يوم القيامة وهو مفلس من الإيمان، والعمل الصالح؛ فإنه يشقى، ويتعذب، ويكابد؛ ولو كانت عنده أموال الدنيا وزينتها من أولاد، وعمارات، ومؤسسات، وسيارات، ومنصب، وجاه؛ لم تغن عنه ولم تنفعه يوم القيامة بشيء.
والكفار كانوا في الدنيا يعتدون بأموالهم، كما يعتدي الناس الآن، صاحب الثراء والمنصب تجده مبسوطاً كل يغبطه هؤلاء الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا معتدين بأموالهم وبأولادهم، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله عز وجل في القرآن الكريم: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35] يقولون عندنا مال، ورجال، والعذاب منا بعيد، ولا يقدر علينا؛ لأن عندنا ما نمتنع به، فالله عز وجل قال: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37] ما تغني عنكم ولا تنفعكم شيئاً: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:37].
وفي نهاية هذا اليوم بعد التمحيص والاختبار، والفحص والتقسيم والتمييز بين الخلائق؛ ينقسم الناس إلى فريقين: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] نعوذ بالله من دار السعير، ونسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا من أهل الجنة.(64/2)
أسماء يوم القيامة
هذا اليوم العظيم ورد ذكره في القرآن الكريم بأسماء عديدة، وكل أسمائه مخيفة مرعبة؛ لأنه يستحق أن يسمى بمثل هذه الأسماء، فهو يوم تدمير وتغيير لجميع معالم الكون.
في الدنيا إذا هبت رياح عاتية، أو نزلت أمطار غزيرة، أو جاءت عواصف تقتلع البيوت والأشجار؛ كيف الناس عند ذلك؟ تجدهم في حال من الخوف والرعب، فكيف: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الانفطار:1]، {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير:1 - 8]، أحداث ضخمة تجعل الإنسان في غاية الرعب والخوف بحيث يذهل عن أهم شيء عنده، وقد عبر الله عز وجل بذهول المرضعة ورضيعها؛ لأن المرضعة هي أحنى وأعطف وأرحم الناس برضيعها، فقد تنسى نفسها ولا تنسى رضيعها، لكن في حالات الرعب القصوى تذهل عنه ولا تذكره، بل حتى نفسها لا تذكرها.
هذا اليوم الذي هو يوم القيامة سماه الله عز وجل بأسماء عديدة منها:(64/3)
يوم القيامة
(يوم القيامة) ورد هذا الاسم في كثير من آيات الله؛ لأنه الاسم الدال على هذا اليوم، يقول الله عز وجل: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [النساء:87] ويقول: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} [الإسراء:97] يحشر الله الكفرة، والفسقة الذين تعاموا وتصامّوا في الدنيا عن دين الله يحشرهم الله على وجوههم من جنس صنيعهم وفعلهم: لما تعاموا في الدنيا أعماهم الله هناك في الآخرة، ولما تصامُّوا عن الدين، كما يفعل كثير من الناس الآن يصمّ أذنيه فلا يريد أن يسمع هدى الله، حتى لو أعطيته شريطاً وقلت له: اسمع، يقول: يا شيخ! اتركنا لا تعقدنا، تلاحظ أنه أصم، لكن أعطه شريط أغانٍ، يقول: شكراً على هذه الهدية، إذا قلت له: خذ كلام الله، لا يريده، وإذا قلت: خذ كلام الشياطين، يريده، لماذا؟ تراه أصم أذنيه عن دين الله، وإذا أعطيته كتاباً، أو مجلة إسلامية، أو جريدة إسلامية، أو موضوعاً إسلامياً، وتقول له: اقرأ، يقول: ما هذا؟! شكراً!! لكن أعطه مجلة رخيصة هزيلة، عارية فاضحة، يقول: شكراً.
لماذا؟ لأنه أعمى، لا يريد أن ينظر إلى دين الله، أو يسمع كلام الله، أو حتى يتكلم بشيء مما يرضي الله عز وجل، هؤلاء يحشرهم الله يوم القيامة من جنس صنيعهم: عمياً كما كانوا عمياً هنا، بكماً كما كانوا بكماً هنا، صماً كما كانوا صماً هنا.
والزيادة ماذا؟ {عَلَى وُجُوهِهِمْ} [الإسراء:97] كيف على وجوههم؟ سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية ذلك فقال: (أليس الذي أمشاهم في الدنيا على أقدامهم قادر على أن يمشيهم يوم القيامة على وجوههم؟) بلى قادر.
وفي الدنيا حيوانات نعرفها تمشي على وجوهها كالزواحف والحيات والثعابين، كذلك هذا يبعث يوم القيامة كالحية يمشي على بطنه أو وجهه -والعياذ بالله- والله يقول: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48 - 49] فهذا يوم القيامة، يقول الله فيه: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ} [الإسراء:97] أي: كلما انطفأت وخف توهجها {زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء:97] ويقول: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15] والله هذا هو الخسران، ثم يقول الله بعدها: {أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15] ليست الخسارة أن تخسر وظيفتك، أو زوجتك، أو دراستك، أو سيارتك أو عمارتك، نعم.
كل خسارة يوجد عوض عنها، يقول الشاعر:
وكل كسر فإن الدين جابره وما لكسر قناة الدين جبران
كل كسر في الدنيا ومعك دين فهو يجبره، لكن إذا انكسر دينك فمن يجبره؟! {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر:15 - 16] هذه هي الخسارة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! والقيامة مصدر من قام يقوم قيامة أو قياماً، من أصل كلمة (قام)، ودخلتها تاء التأنيث للمبالغة والتعظيم في هولها وعظمها، وهي مأخوذة من قيام الناس لرب العالمين، يقول الله عز وجل: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] ويوم القيامة هو من أبرز أسماء اليوم الآخر.(64/4)
اليوم الآخر
من أسماء ذلك اليوم: (اليوم الآخر) في قوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177] إلى آخر الآية.
وكذلك يقول الله عز وجل: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة:232].
ويقول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18].
وأحياناً يسمى في القرآن بـ (الدار الآخرة)، يقول الله تعالى: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:130] {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [النساء:74] {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64].
وسمي ذلك اليوم بـ (اليوم الآخر) أو بـ (الدار الآخرة)؛ لأنه لا شيء بعده، هذه اسمها (دنيا) وتلك اسمها (آخرة)، والآخر: ليس وراءه شيء، إذا دعوت ضيوفاً عشرة، وجاء تسعة ثم جاء آخر واحد، هل ستنتظر أحداً؟ لا.
فآخر واحد ما بعده شيء، وكذلك أيام الله عز وجل، أيام دنيا ويوم آخر، فإذا جاء يوم الآخرة فما بعده شيء؛ ولذا سمي اليوم الآخر؛ لأنه لا شيء بعده من الأيام، وما بقي إلا أيام الله الخالدة في الجنة لأهل الإيمان -جعلنا الله وإياكم منهم- ولأهل النار في النار أعاذنا الله جميعاً منهم.(64/5)
الساعة
من أسماء ذلك اليوم العظيم: (الساعة) سماها الله الساعة، يقول عز وجل: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85] ويقول سبحانه: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15 - 16] أي: فتهلك، ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1].
والساعة إذا أطلقت يراد بها جزء من الوقت، كما تقول لشخص: انتظرني ساعة وسآتيك، هذا في الإطلاق اللغوي، وإذا حُددت وأُريد بها جزء من أربعة وعشرين جزءاً من اليوم: الليل والنهار، كما إذا حددت الساعة الرابعة، أو الخامسة، أو السادسة أُريد بها هذا، وإذا أطلقت فإنه يراد بها أي جزء حتى لو كان يسيراً أو لحظةً من الوقت، وإذا قيدت بصفة فإنما تطلق على اليوم الآخر.
وسميت القيامة بالساعة لعدة أسباب: إما لقربها، ومهما كانت بعيدة فهي قريبة فإن كل ما هو آتٍ قريب، أي شيء سوف يأتي فهو قريب، وإن جاء اليوم أو غداً أو بعده.
وإما أن تكون تسميتها بهذا للدلالة على ما فيها من الأحداث الضخمة التي تصهر الجلود، وتذيب الجبال، حتى تصير كالهباء.
وقيل: إنما سميت بالساعة؛ لأنها تأتي بغتة، أو في لحظة، أو في ساعة معينة وإذا بالقيامة قد قامت، والناس غير منتبهين لتلك الأحداث.(64/6)
يوم البعث
من أسماء ذلك اليوم: (يوم البعث) يقول عز وجل في سورة الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج:5] من البعث أي: من يوم القيامة، الذي يُبعث فيه من في القبور، ويقول عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} [الروم:56].
ويوم البعث أي: الإحياء والإخراج إخراج الموتى من قبورهم، وإعادة الحياة إليهم، وبعثهم مما كانوا فيه من العدم والتلاشي إلى الوجود والإعادة، كما كانوا قبل أن يموتوا، لفصل القضاء، وبعث الموتى هو: إخراجهم من قبورهم؛ لفصل القضاء عند الله عز وجل.(64/7)
يوم الخروج
سمي أيضاً يوم القيامة بـ (يوم الخروج)، يقول الله عز وجل: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق:42] ويقول: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:43 - 44].
وسمي بيوم الخروج كما في قوله عز وجل: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم:25].
والخروج يعبر به عن حركة يؤديها الإنسان، كما لو كان شخص في بيته، لا أحد يراه، ثم فتح بابه، قالوا: خرج؛ لأنه كان مختفياً في دكانه أو مكتبه، لكن لو كان ظاهراً أمامهم، لا يقولون: خرج، وإنما يقولون: جاء.
كذلك سمي يوم الخروج؛ لأن الناس كانوا في قبورهم مقفلاً عليهم، هذه القبور الآن لا نعلم ما هي أوضاع الناس فيها، ولكن يوم القيامة تخرج كل الخلائق من القبور، لعل من الناس من يخرج من العمارات حتى هذه المباني لعل جزءاً منها هو من عظام البشر، يقول الناظم:
طر إن استطعت في السماء رويداً لا اختيالاً على رفات العباد
خفف الوطء ما أظن أديم الـ أرض إلا من هذه الأجساد
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد؟
أين الناس من عهد عاد؟ لعل الآن عمارتك كم فيها جماجم وعظام، وتنظر وقد خرج عليك يوم القيامة من جدار البيت، لا تدري عن هذا، فسمى الله عز وجل يوم القيامة يوم الخروج؛ لأنهم يخرجون من الأماكن التي دفنوا فيها: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:43 - 44].(64/8)
القارعة
من أسماء يوم القيامة: (القارعة).
وسميت بالقارعة؛ لأنها تقرع القلوب بأهوالها، يقول الله عز وجل: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1 - 3] والتكرار هنا للتهويل والتعظيم، وقوله: (وما أدراك ما القارعة) أيضاً للتهويل والتعظيم، ويقول الله عز وجل: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} [الحاقة:4] لأنها تقرع القلوب، يقال: قد أصابتهم قوارع الزمان، وفلان قرعه الدهر، أو الزمان، أو الحوادث؛ أي: ضربته، وأصابته وآلمته، فيوم القيامة سُمي قارعة؛ لأنه لا يقرع فلان ولا علان، ولا مجموعة من الناس؛ بل يقرع العالمين منذ خلق الله آدم إلى يوم القيامة، وكلهم يعيشون في أهوالها.
{الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:1 - 4] والفراش من أضعف الحشرات، ويضرب به المثل في الضعف، إذا قالوا فلان فراشة، يعني: أقل ضربة تُسقطه فيموت منها، فالناس يوم القيامة في حالة من الضعف يكونون معها كالفراش المبثوث.
{يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:4 - 5] الجبال الضخمة تكون يوم القيامة كالقطن المنفوش، ولاحظ أنك إذا ضغطت على قطن منفوش يصير لا شيء.
{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:5 - 11].(64/9)
يوم الفصل
من أسماء يوم القيامة: (يوم الفصل) يقول الله عز وجل: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:40] ويقول: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} [النبأ:17] ويقول: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} [المرسلات:38] ويقول: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [الصافات:21].
والفصل يعني: التقسيم والتمييز بين الأشياء المختلفة، أنت لما تحصد الحب من مزرعتك، قبل أن تخزنه تفصل التبن من البر، ثم تخزن كل شيء بما يناسبه، تخزن البر في مخازنه، وتخزن التبن في مخازنه، يقول ابن القيم: الناس زرع -نبات- وملك الموت حاصده.
كل يوم وهو يحصد في الزرع، والقبر دراسه -يعني المكان الذي يفصل الناس فيه- والجنة والنار مخازنه.
فالجنة يخزن فيها أهل الإيمان، والنار يخزن فيها أهل الكفر، وتعرفون أن التبن أكثر من البر دائماً، فإذا حصد الإنسان عشرة أكياس بر حمل معها مائتي كيس تبن، ولذا أكثر الناس غير صالحين، يقول الله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ويقول: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116] يعني: لا تجعل عبرتك بالكثرة فالكثرة لا يعتد بها، الآن إذا الذهب غالٍ؟ لأنه نادر، لكن لو أنه كثير لكان مثل الطين، فهو نوع من المعادن لكن لما كان نادراً وعنصره فريداً ونفيساً أصبح غالياً جداً، وما ذاك إلا لندرته، وكذلك المؤمن لندرته غالٍ عند الله يوم القيامة، وفي يوم القيامة يخرج الله بعث النار، والحديث في صحيح البخاري، يقول الله عز وجل لآدم: (أخرج بعث الجنة من بعث النار، قال: رب، وكم بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون لجهنم وواحد إلى الجنة) الله المستعان!! هذا الحديث شق على الصحابة لما سمعوه وخافوا منه خوفاً شديداً، ونحن ينبغي أن نخاف؛ لأنه من كل ألف واحد إلى الجنة وتسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار -والعياذ بالله- لكن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العدد يُغطِّى من الأمم التي سوف تأتي في آخر الزمان، وهي أمم الكفر: أمم يأجوج ومأجوج وغيرها، وأن المؤمنين في هذه الأمم مثل الشعرة البيضاء في الثور الأسود {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} [المرسلات:38] يقول عز وجل: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [السجدة:25].
والخلاف الآن قائم، ووجهات النظر متباينة في أمر البعث، ولكن يوم القيامة تستقر وجهات النظر على الحقائق، وكل شخص يعرف الحق من الباطل، حتى أهل النار والكفر يقولون: هذا يوم الفصل، ثم يطلبون الرجعة من أجل التصحيح، ولكن لا يجابون، وتتضح الأمور على أصولها في يوم القيامة، فسمي يوم الفصل لفصل الجزاء، ولأنه فيه من الأمور والقضايا ما يعيد الأمور إلى حقائقها ونصابها.(64/10)
يوم الدين
أيضاً من أسماء يوم القيامة: (يوم الدين).
يقول الله عز وجل: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} [الانفطار:14 - 15] ويقول: {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} [الصافات:20] ويقول عز وجل: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:17 - 19] والدين في لغة العرب هو الحساب والجزاء.
حصادك يوماً ما زرعت فإنما يدان الفتى يوماً كما هو دائن
يدان كما هو دائن، تدان: أي: تحاسب وتجازى بما فعلت، وسمي ذلك اليوم بيوم الدين؛ لأن الله عز وجل يجزي ويحاسب الخلائق، ثم يدينهم بما عملوا في ذلك اليوم العظيم.(64/11)
الصاخة
من الأسماء أيضاً: (الصاخة).
يقول عز وجل: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:33 - 37].
يقول عكرمة: الصاخة التي تصخ القلوب والأسماع.
أنت الآن إذا سمعت صوتاً خفيفاً لا تتأثر به، لكن إذا سمعت صوتاً هائلاً مرعباً يكاد يفجر أذنيك، ويطير قلبك فزعاً منه؛ فإنك تخاف وتفزع منه، هذه من أسماء يوم القيامة؛ لأن أحداثها وأهوالها تصخ القلوب، وتفجر الأسماع والأذان، والتعبير بها أيضاً فيه نوع من القوة في البلاغة والبيان، يقول عكرمة: (الصاخة) هي التي تصخ القلوب، وهي النفخة الأولى التي يسمعها الخلق كلهم فيموتون وتتقطع قلوبهم في أجوافهم، وهو معنى قول الله عز وجل: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر:68] يصعق أي: يموتون كلهم من تلك النفخة.
وعكرمة هذا تابعي، ونأخذ جزءاً من سيرته العطرة، فهو تابعي وحافظ وعلامة ومفسر لكتاب الله عز وجل، وكان مولىً لـ ابن عباس، مولى أي: عبد مملوك لـ عبد الله بن عباس، وأخذ عنه العلم، وحدث عن جمع كبير من الصحابة وحدث عنه خلق كثير، أجازه ابن عباس في الإفتاء، وكان مولى عنده، وقال له ابن عباس في يوم من الأيام: [انطلق فأفت الناس -يقول: اذهب فإذا سألك أحد فأفته- وإذا سألوك عن أمر مشكل فأنا لك عون] يقول: إذا أشكل عليك من الأمور شيء فأنا لك عون، قال عكرمة وهو معتد بعلمه ويريد أن يطمئن ابن عباس إلى أنه أهل للفتيا، قال: والله لو كان الناس ومثلهم مرتين لأفتيتهم، قال: انطلق.
أي: اذهب ما دام أنك على هذا المستوى.
أيضاً مما يحكى عنه أنه كان رجلاً طويلاً، له عمامة بيضاء، ولحيته بيضاء، ويلبس أرديةً بيضاء، رضي الله عنه، قال عنه شهر بن حوشب: لم يكن في الأمة حبر إلا هذا الرجل -يعني: ابن عباس - وإن مولى ابن عباس -يعني: عكرمة - هو حبر هذه الأمة.
وقال عنه ابن عباس نفسه: [ما حدثكم عني عكرمة فصدقوه؛ فإنه لم يكذب عليَّ في حياته مرة قط] الله أكبر! سبحان الله! هذه الأخلاق عندهم، عبد مولى يشتغل عنده ويقول عنه: [ما حدثكم عني فصدقوه؛ فإنه لم يكذب عليّ مرة قط].
وقيل لـ سعيد بن جبير: تعرف أحداً أعلم منك في الأرض؟ قال: نعم عكرمة.
ويقول عنه الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة رضي الله عنه.
ويقول عنه قتادة: كان أعلم التابعين أربعة: عطاء وكان عالماً بالمناسك وسعيد بن جبير في التفسير، وعكرمة في السيرة، والحسن البصري كان أعلم الناس في عهده بالحلال والحرام رضي الله عنهم.
وعطاء هو: عطاء بن أبي رباح، كان رجلاً قصير القامة، مشوه الخلقة، أسود البشرة، بحث عن مصدر للرزق فلم يجد، وكان كلما ذهب إلى عمل طرد، لا جسم ولا لون، فدخل على أمه في يوم من الأيام وقال لها: ما لقيت رزقاً ولا مصدر عمل.
قالت له: ألا أدلك على عمل إذا عملته هابتك الملوك، وانقاد لك به الصعلوك، فتعجب الرجل! وقال: الملوك يهابونني! أنا ما لقيت لقمة عيش الآن! كيف يهابني الملوك؟! قالت: نعم.
يهابك الملوك إذا عملته.
قال: ما هو؟ قالت: عليك بالعلم.
فأخذ قلمه ومحبرته ونزل مكة، وعكف على العلم، فحفظ كتاب الله، ثم حفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم آلت إليه الفتيا في عصره، فلا قول إلا قول عطاء، الأمة الإسلامية من شرقها إلى غربها إذا اختلفت في أمر، قالوا: ماذا قال فيه عطاء؟ حج أحد الخلفاء، فلما حج ودخل مكة سأل عن أعلم أهل الأرض؟ قالوا: عطاء، قال: أين هو؟ قالوا: في بيته، قال: احضروه إليَّ، فلما أرسل له قال: إن كان لك حاجة فيما عندنا فتعال، أما أنت فليس لنا حاجة فيما عندك، -يقول: الذي عندك لا نريده، والذي تريده عندنا! - قال: لقد أنصف عطاء، فلما جاء إلى بيته، وكان جالساً يصلي، طرق الباب، فنزل إليه ولده، وإذا بأمير المؤمنين، ورجاله، وخيله بالباب، فذهب إلى أبيه يقول له: أمير المؤمنين بالباب، وكان يصلي ركعتين فانتهى من الصلاة، وزاد ركعتين، ثم انتهى، وقعد يدعو، وذاك واقف عند الباب، وبعدها بفترة، قال له: ائذن له، فدخل فلما دخل غضب الأمير وقال: ما هذه الإهانة يا عطاء!؟ قال: أي إهانة تعني يا أمير المؤمنين؟ قال: دعوناك فلم تأتنا وجئناك فلم تأذن لنا، قال: أما دعوتك لي وعدم مجيئي فقد أخبرتك، ما لي حاجة فيما عندك، وإذا كان لك حاجة فيما عندي أتيت، أما عدم دخولك وعدم الإذن لك فإني كنت بين يدي من هو أعظم منك فكرهت أن أقطع مقابلته لمقابلتك، فلما فرغت من مقابلته فتحت لك، فسأله بعض المسائل فأجابه، فلما ذهب أرسل واحداً من صبيانه بصرةٍ فيها عشرة آلاف دينار، فلما أعطاه ركلها برجله وطرده بها وقال: ردها وقل له: ندله على ما ينجي، ويدلنا على ما يُفني.
نعطيه النجاة، ويعطينا الهلاك، يعني: الدنيا، يقول الخليفة: والله ما رأيت نفسي ذليلاً في حياتي إلا بين يدي هذا العبد، خليفة وملك يقول عن نفسه: أنه ما رأى في يوم من حياته ذلة إلا بين يدي هذا العالم العظيم.
وهذا معنى كلام أمه: هابتك الملوك وانقاد لك به الصعلوك.
وكان أعلم الناس في الفقه والمناسك وغيرها.
قال حبيب بن أبي ثابت: اجتمع عندي خمسة -اجتمع في بيتي في مناسبة عشاء خمسة- قل أن يجتمع مثلهم على طعام واحد في الدنيا كلها -من هم الخمسة؟ - قال: عطاء بن أبي رباح، وطاوس اليماني، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة -خمسة من رءوس التابعين- يقول: فأقبل مجاهد وسعيد يلقيان التفسير على عكرمة فما سألاه عن آيةٍ إلا فسرها يناقشونه وهم قمم، من نماذج البشر القلائل في هذه الحياة.
قال الثوري: خذ التفسير عن أربعة: سعيد، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك.
لقيه عالم اسمه سليمان بن الأحول ومعه ولده، قال له: أيحفظ هذا من حديثك شيئاً يا عكرمة؟ يظن أن ولده مثله، يقول: أيحفظ هذا من حديثك شيئاً؟ قال: ألا تعلم أنه يقال: أزهد الناس في عالم أهله، هذه كلمة قالها وقيلت قبله وهي حقيقة، أن أزهد الناس في عالم، وداعية، وفاضل أهله، تجد بعض الناس في أرض بعيدة يتمنى أن يراه بعينه، وبعضهم يتمنى أن يجلس معه لحظة، وتجد ولده أو زوجته أو بنته تضيق منه ولا يريدون أن يقعد معهم، نعم: أزهد الناس في عالم أهله، يعني: كأنه يقول ولدي هذا لا يعرف من حديثي شيئاً، وليست قاعدة مطردة فقد يكون من الأولاد من هو على منهج والده ويسير على خطاه، ويأخذ عنه العلم، والفضل، ويسير مثله في منهج الدعوة، ويرث هذه التركة العظيمة، فإن خير ما يورث في هذه الدنيا العلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) لأن العلم هو نور المجد والحياة في هذه الدنيا، والناظم يقول:
ففز بعلم تعش عزاً به أبداً الناس موتى وأهل العلم أحياء
العالم لا يموت بل يحيا يوم يموت، ابن القيم هو الآن ميت أم حي؟ حي لا يمر يوم إلا ويذكر اسمه، ولا يُقرأ كتاب له إلا ويُقال: قال المؤلف رحمه الله، وما يذكر في مكان إلا ويقال: غفر الله له، فهو حيٌ بذكره وإن كان قد مات، لكن أصحاب الأموال ماتوا، وبعد أن ماتوا تقاسمها أولادهم ونساؤهم، بل لعلهم لا يدعون لهم، بل ربما ولده يدعو عليه، ويقول: ألهب الله عظامه ما حاول أن يشتري لنا أرضية على الشارع العام، ولا اشترى لنا مزرعة يوم أن كانت الأراضي رخيصة الثمن، فما استغلها تلك الأيام، بل ضيع الفرص، أبونا هذا غافل، وهو قد أعطاهم خيراً، لكن ما يريدون منه إلا الدنيا، لا حول ولا قوة إلا بالله! وكان عكرمة سريع البديهة، ذكياً جداً، شكا إليه شخص وقال: قذفني فلان في المنام.
قال: إذا وقف في الشمس اضرب ظله، واجلده ثمانين سوطاً.
انظر كيف التعبير الذكي، يقول: إن فلاناً قذفني في عرضي، وأنا نائم.
قال: إذا وقف في الشمس ورأيت ظله فاضرب ظله ثمانين سوطاً.
يعني أنك تضرب شيئاً غير حقيقي كما أنه ما قذفك حقيقةً، هل الإنسان يملك أنه يرى رؤيا؟ هل الإنسان يحدد الرؤيا وهو يراها؟ لا.
ولذا الرؤى أمرها مشكل عند كثير من الناس.
جاءني أحد الإخوة يقول: رأيت فلاناً من الناس يشرب الدخان، والرجل الذي رؤي أنه يشرب الدخان رجل فاضل ولا نزكي على الله أحداً.
فقلت: ما رأيك؟ قال: أظن أنه لا خير فيه.
قلت: لماذا؟ قال: لأني رأيته يشرب الدخان.
قلت: هل أنت تعمدت أن تراه يشرب الدخان.
قال: لا.
قلت: هل هو تعمد أن تراه وهو يشرب الدخان؟ قال: لا.
قلت: هل له ذنب أنك رأيت هذه الرؤيا؟ قال: لا.
قلت: هل يؤاخذه الله على رؤيا أنت رأيتها؟ قال: لا.
قلت: إذن، لماذا تحكم أنه ليس فيه خير، لعلك أنت ليس فيك خير؛ لأن الرؤيا منك، الناس يقاسون ويوزنون على ضوء تصرفاتهم وأعمالهم لا على ضوء ما يُرى لهم، لعل الشيطان يريد أن يزعزع ثقتك في أخيك المسلم، فجاءك في صورته، ومعه سيجارة من أجل أن تراه فتك(64/12)
الطامَّة
من أسماء ذلك اليوم: (الطامة).
يقول الله عز وجل: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ مَا سَعَى} [النازعات:34 - 35] يوم القيامة يتذكر الإنسان ما سعى لا ما قال أو ترك، ما سعى، يعني: ما قدم: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى * فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى * يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات:36 - 46].
وسميت الطامة؛ لأنها تطم، والطم هو الغلبة والعلو، طم الشيء يعني غلبه وغطاه، فهي من أهوالها تطم القلوب والخلائق ويغلب عليهم هذا الأمر.
قال الحسن: الطامة هي النفخة الثانية.
وقال عكرمة: الصاخة هي النفخة الأولى.
وكل على حق، النفخة الأولى تصخ؛ لأنها قوية، والنفخة الثانية تبعث فتطم القلوب بأهوالها.
وأسماء القيامة أسماء مرهبة مرعبة للدلالة على عظمتها وضخامة الأحداث التي سوف تكون في هذا اليوم، حتى تنتبه القلوب، وترتعد النفوس، وتصلح التصرفات في هذه الدنيا، فلا يفاجأ الإنسان بيوم القيامة، وينبأ بأعمال وإذا بها فاسدة، ويطلب الرجعة ولكن لا يرجع، كما قال ربنا تبارك وتعالى عن أهل النار، {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:25 - 29] لا ينفع التلوم ولا التحسر هنالك.(64/13)
يوم الحسرة
من ضمن أسماء يوم القيامة: (يوم الحسرة)؛ لأن القلوب في ذلك اليوم تتقطع ندماً، وأسفاً، وحسرةً على ما فاتها من طاعة الله.
يتمنى أنه قضى عمره كله في طاعة الله، ولم يقض ليلة، ولا ساعة، ولا لحظة إلا فيما يرضي الله ويحبه عز وجل، وحينما يرى السلع تقسم يوم القيامة على الناس على قدر الأثمان المقدمة، الذي يأتي بثمن يأخذ سلعته، والذي يأتي مفلساً يغمس في النار.
فأهل الإيمان يأتون بثمن: إيمان، وعمل صالح؛ والسلعة الغالية: الجنة، والخاسر ما عنده شيء، ضيع أيام الفراغ التي كان يمكن أن تستغل وتملأ بالعمل الصالح والإيمان، وأوقاته ضيعها في العلم الفاسد، والكفر، والنفاق، والعصيان، ليله ونهاره في معصية الله، منشغل أربع وعشرين ساعة مع الشيطان الرجيم، فإذا مات وأُقدِم على الله عز وجل فلن يجد ثمن جنة عالية، وقصور عالية، وأنهار جارية، وزوجات جميلات، وولدان مخلدون، وثمار دانية؛ لأن هذه كلها تريد ثمناً، وليس عنده ثمن؟ مفلس، ما عنده شيء ينفعه يوم القيامة، فيتندم ويقول: لماذا هذا أخذ، وأنا ما أخذت؟ كان معي في الدنيا؟ لأنه تزودَ بالمال الذي ينفعُ هنا، وبالعمل وبالإيمان الذي ينفع هنا، وأنا ما عندي شيء، فيحصل في قلبه حسرة وندامة ما حصلت على قلب إنسان على وجه الأرض، يقول الله عز وجل: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39] أنذرهم وخوفهم مما يحصل للناس من حسرة في ذلك اليوم: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39].
وسمي (يوم الحسرة)؛ لشدة تحسر الخلائق وتندمهم على ما فاتهم، سواء كانوا مؤمنين أو كافرين، أما الكفار فلعدم الإيمان، يقول عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:31].
والكفار أيضاً يتحسرون يقولون: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:57 - 58] يقول الله لهم: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:59] ويقول الله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر:60] مسودة من ظلمة المعاصي {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:60 - 61] نسأل الله أن ينجينا وإياكم من النار، وينجي الله من؟ الذين اتقوا: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61].
وتبلغ الحسرة ذروتها، وتتناهى الحسرة عند أهل الضلال؛ عندما يتبرأ منهم أتباعهم والذين أضلوهم؛ لأنهم في النار لا يوجد أحد إلا وقد أضله أحد الضالين! والذي أضل الناس كلهم من البداية هو إبليس، القائد العام للعصاة والمجرمين، وهو أول من عصى الله، قال الله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ} [الحجر:30 - 31] هذا أول عاصٍ وبعدها: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] أجعلهم كلهم عصاة معي، قال الله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20] فهؤلاء أول من يتبرأ منهم يوم القيامة إبليس، ويحصل عليهم بهذا حسرة وندامة لا يعلمها إلا الله.
وجاء في القرآن في سورة إبراهيم ذكر ذلك، يقول عز وجل: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22] يقول العلماء: إن هذا الكلام على أهل النار أعظم عليهم من كل عذاب في النار، عذاب قطع قلوبهم، يركب عليهم الشيطان ويقودهم كالحمير حتى يصل بهم إلى جهنم، فإذا وقعوا قال لهم: من أمركم أن تطيعوني؟ ما كان لي عليكم من سلطان، ولا أخذتكم بالقوة، وإنما دعوتكم فاستجبتم لي، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم.
وفي النار أيضاً يتبرأ شياطين الإنس من بعضهم، وهم الذين كانوا في الدنيا يدعون بعضهم إلى الكفر والضلال، وهؤلاء يقول الله فيهم: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا} [البقرة:167] قال الله: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167] حسرات، تتقطع قلوبهم حسرات وندماً، يقول: أنا عشت أربعين أو ستين سنة مع الشيطان، لِمَ لم أعشها مع الله؟ أنا كنت أنظر، لِمَ لم أنظر إلى ما يحبه الله؟ أنا كنت أسمع، لِمَ لم أستمع إلى ما يحبه الله؟ أنا كنت أتكلم وأخوض في المجالس، لِمَ لم أتكلم بما يحبه الله؟ أنا كنت آتي وأذر، وأقوم وأقعد، وأسهر وأنام، لماذا لم أجعل عملي كله في طاعة الله؟ قال الله: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167] هذه حسرة الكفار.
أما أهل الإيمان فعندهم حسرة أيضاً، ولكن كيف يتحسرون؟ يتحسرون على أنهم ما زادوا من العمل الصالح، كل واحد يحب أن يزيد، فالذي بنى مسجداً يقول: ليتني بنيت مسجدين، والذي يصلي يقول: ليتني كنت أول شخص يدخل المسجد، والذي ما يقوم الليل يقول: يا ليتني كنت أقوم الليل، والذي كان باراً بوالديه يقول: يا ليتني بررت بهم أعظم ما دام أن طريق الجنة من عندهما، والذي كان واصلاً لرحمه غير أنه مقصر قليلاً، يقول: ليتني كنت أعلم أن ثواب صلة الرحم مثل هذا، والله ما كنت أدعها كل يوم لابد أن أتصل بها، ولابد أن أعطيها، ولابد أن أهدي لها، حتى أطلب منها دعوة وأنا خارج: سامحيني يا أختي يا عمتي يا خالتي، فأنا مقصر في حقك، تقول: سامحك الله، مد الله في أجلك، وسع الله في رزقك، نوَّر الله عليك، هذه الدعوات ليست سهلة عندما تأتيك من رحمك، لكن ما ظنك لو قطعت رحمك، وقالت: قطع الله رزقه، وألهب عظامه، إذا قالته الرحم، هل تدري أن هذا الدعاء لا يرد، لماذا؟ لأن (من قطع رحمه قطعه الله، ومن وصلها وصله الله).
فكل واحد من أهل الإيمان وهم في الجنة يتحسرون ويتندمون على أنهم ما زادوا في العمل الصالح، وما استزادوا من أعمال البر؛ لأن أعمال البر كثيرة، ومجالات الخير واسعة، والإنسان لا يشبع من خير حتى تكون نهايته الجنة.
هذا الاسم اسمه يوم الحسرة، تتقطع القلوب فيه حسرات على الجنة والتفريط في العمل الصالح في الدنيا.(64/14)
الغاشية
من أسماء يوم القيامة: (الغاشية).
يقول الله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] أي: هل علمت وهل بلغك أخبار اليوم العظيم، يوم الغاشية الذي يغشى الناس فيه عذاب عظيم، إن الناس في ذلك اليوم ينقسمون إلى قسمين: قسم كانت وجوههم خاشعة: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية:3] لكنها: {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:4] لأنها ما عملت لله، ولا سارت على منهج الله.
وقسم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية:8 - 16].
الناس في يوم القيامة في جنة وهم أهل الإيمان، أو في نار وهم أهل العذاب، هذا يوم الغاشية، يوم يغشى الناس فيه العذاب أو تغشاهم الرحمة.
وسميت غاشية؛ لأنها تغشى الناس بالأهوال والعظائم وتغمهم.
ومن معانيها أيضاً: أن الكفار يغشاهم من عذاب النار، ويحيط بهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، يقول الله: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت:55] ويقول سبحانه: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41] ولذا فهي غاشية تغشى أصحاب النار بالعذاب من كل اتجاه من فوقهم ومن تحت أرجلهم، أجارنا الله وإياكم من النار.(64/15)
يوم الخلود
من أسماء هذا اليوم العظيم: (يوم الخلود).
يوم الخلود إما في الجنة أو في النار؛ لأن الناس يصيرون في ذلك اليوم إلى الخلود، ليس هناك فناء كما يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (يؤتى يوم القيامة بالموت على هيئة كبش أملح فيجعل بين الجنة والنار، ثم ينادي: يا أهل الجنة تعرفون هذا؟ قالوا: نعم.
هذا الموت -مررنا عليه وعرفناه ولا ينكره أحد- ويا أهل النار تعرفون هذا؟ قالوا: نعم.
هذا الموت، فيذبح الموت بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت).
يقول أهل العلم: إن هذا الكلام بالنسبة لأهل الجنة أعظم نعيم، لماذا؟ يطمئنهم أنهم خالدون وليس هناك خروج أبداً، وهذا الكلام على أهل النار أعظم عذاب، لماذا؟ ليس هناك أمل للخروج؛ لأن أهل النار وهم في النار عندهم أمل أن يخرجوا، مثل السجين الذي عنده أمل في الخروج، لكن إذا قيل له: سجنه مؤبد، انقطع أمله، يتمنى السجين أن يقال له: تموت، ولا يقال له: تؤبد؛ لأنه يموت حقيقة، هو يموت لكن في قبر فوق الأرض، ممنوع من كل شيء، وهؤلاء في النار لا يموتون أيضاً: (خلود فلا موت)، فيكون عليهم هذا الكلام أعظم من كل عذاب.
يقول الله لأهل الجنة: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق:34] والنار يقول فيهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:39] وأما أهل الإيمان فيقول الله فيهم: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:107].
وهذا الكلام يدفعك إلى أن تصحح الوضع الذي أتت فيه، وتغير منطق التعامل مع نفسك ما دام أن خلودك في النار من أجل المعاصي، وتساءل عن الخلود في النار أو الجنة، هل أنا تخلدت في المعاصي أو الطاعات؟ لا.
خلودك في الطاعات غير موجود مهما صليتَ فسوف تموت وتتركها، لكن من فضل الله أن يعطيك جزاءً خالداً، مع أنك ما عبدت الله بشكل خالد دائم، وكذلك بالمقابل الخلود في المعاصي: إذا خلدت نفسك في المعاصي فإن الله يخلدك في النار، وما دام أن القضية خلود في جنةٍ أو نار، فلا ينبغي لك أن تجازف من أجل شهوة عاجلة أو لذةٍ -والعياذ بالله- فانية تريحك في الدنيا، ثم تلقى الله وهو عليك ساخط، فيشقى -البعيد- شقاءً لا يسعد بعده أبداً.(64/16)
يوم الحساب
من أسماء يوم القيامة: (يوم الحساب).
ومعنى الحساب: المحاسبة للعباد، المحاسبة معرفة ما لك وما عليك، معرفة مركزك وسنتك المالية، ميزانيتك، أين أنت؟ الآن لا أحد يدري عنك، ولا يدري أحد في الدنيا ما نحن عليه الآن، نحن نعمل، والمحاسبة للنفس يجب أن تكون من الآن، لكن ما تنكشف لنا الأوراق إلا يوم القيامة.
ولهذا أهل الإيمان يوم القيامة يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] فيوم الحساب يؤتى بسجل الحسنات، ويؤتى بسجل السيئات، ويحاسب الإنسان على كل دقيق وجليل من تصرفاته، يؤتى بأمواله كلها، ويحاسب على كل ريال دخل أو خرج، ويؤتى بساعاته كلها، ويحاسب على كل دقيقة أين قضاها؟ كما يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فِيمَ أفناه، وعن شبابه فِيمَ أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفِيمَ أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به) هذا يوم الحساب، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] أي ينحرفون عن منهج الله: {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26] لأنهم نسوا يوم الحساب فضلوا عن سبيل الله، لو تذكروا يوم الحساب ما ضلوا عن سبيل الله: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27] قال الإمام القرطبي: معنى الحساب: أن الله عز وجل يسجل ويحصي ويعدد على الخلق أعمالهم من إحسانٍ أو إساءة، ثم يعدد عليهم نعمه التي تقلبوا فيها: نعمة الخلق والإيجاد، والرزق والإمداد والإسعاد، والهداية والدين، ثم يقابل بعضها ببعضٍ؛ فما زاد عن الآخر حكم للزائد بحكمه الذي عينه له بالخير أو بالشر، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان) هذا معنى الحساب.(64/17)
الواقعة
من أسماء يوم القيامة: (الواقعة).
سميت الواقعة لتحقق وقوعها، إذ لا شك في وقوعها، يقول الله عز وجل: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:1 - 3] (خافضة) لأهل المعاصي والكفر، (رافعة) لأهل الإيمان والعمل الصالح {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً} [الواقعة:4 - 5] أي: فتتت: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً} [الواقعة:6] مثل الهباء، الجبال التي ترونها عظيمة تكون مثل الهباء: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً} [الواقعة:7] أقسام وفرق: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:8 - 10] ثلاث فرق يوم القيامة، سابقون، وأصحاب يمين، وأصحاب شمال، ولذا ينبغي أن تكون من السابقين، سَابِقْ من أجل أنك إذا سقطت! وكانت بالسقطة قريبة فتسقط في أصحاب اليمين، لكن لا تقل: أنا أريد أن أكون من أصحاب اليمين، فإذا سقطت فأين تذهب؟ مع أصحاب الشمال، هذا لا ينفع، دائماً اجعل نفسك في الأمام، لكن إذا قلت: لا والله أريد أن أكون مع أصحاب اليمين، ثم جئت ولست منهم فأين تذهب؟ ترجع إلى الخلف إلى جهنم مع أصحاب الشمال: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة:41 - 44].(64/18)
يوم الوعيد
من أسماء يوم القيامة: (يوم الوعيد).
الوعيد هو: ما توعد الله به عباده العصاة من العذاب، يقول الله عز وجل: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:20] وحقيقة الوعيد: هو الإخبار عن العقوبة، أما الوعد: فهو الإخبار عن المكافأة، ولهذا يوم القيامة هناك وعد ووعيد، وعد لأهل الإيمان بالجنة، ووعيد لأهل الكفر والنفاق والعصيان بالنار.
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:20 - 22].(64/19)
يوم الآزفة
من أسماء يوم القيامة: (يوم الآزفة).
ومعنى الآزفة: يعني: القريبة، وسميت بالآزفة؛ لقرب وقوعها ولاقتراب حدوثها، يقول الله عز وجل: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم:57 - 58] ويقول تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:18 - 19] {يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ} [غافر:18] القلب أصبح في الحنجرة من الخوف، وتعرف هذا إذا كنت في الطائرة ثم حصل هبوط مفاجئ أو مطب هوائي ماذا يحصل عندك؟ يرتفع شواك (أي: جلد رأسك)، وتحس أن قلبك تزداد نبضاته، ونفسك يكاد ينكتم لماذا؟ لأنه حدث حدثٌ صعبٌ، تتصور أن الطائرة تحطمت، وهي ما تحطمت، وإنما نزلت عشرة أمتار، أو عشرين متراً، أو خمسين متراً، وإذا كان الهبوط قوياً مفاجئاً فإن بعض الناس يموتون، ولذا يؤمر الركاب بربط الأحزمة من أجل أنه إذا حدث شيء إذا بهم على الأقل جهزوا أنفسهم.
لكن يوم القيامة أهوال ليست مثل هذا الهول، أهوال يقول الله عنها: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:18 - 19].
والساعة آزفة وقريبة، ومعروف أن كل آت فهو قريب، وإن غداً لناظريه لقريب مهما بعد.
والساعة بعد ظهور علاماتها تكون أكثر قرباً ووقوعها أكثر احتمالاً، إذا كانت هناك سيارة سوف تأتي -مثلاً- من الرياض، ويعطيك شخص خبراً عنها بواسطة تليفون أو برقية، متى تصل السيارة؟ يقول لك: تحركت السيارة من الرياض الساعة السابعة صباحاً، تضرب لها زمناً قياسياً تقول: تقريباً عشر ساعات أو اثنا عشر ساعة على أبعد تقدير، فلا تذهب تنتظرها من أول الوقت، تقعد للساعة الرابعة أو الخامسة ثم تجلس في الطريق، وكلما جاءت سيارة تقول: لعلها هذه، لعلها هذه؛ لأنه أزف موعدها.
أي: قرب، فإذا هو أعطاك علامات: بأن السيارة لونها كذا، أو شكلها كذا، ثم رأيت سيارة شبيهة لها قلت: هذه هي، وإذا رأيتها على ما وصف لك قلت: نعم، هذه هي، فالآن الله أخبرنا عن الساعة، وعلاماتها، وقد رأينا أكثر علاماتها، فإذن هي آتية، وكل ما هو آتٍ آت، وما أتت علامته فقد أصبح وقوعه أكثر قرباً.(64/20)
يوم الجمع
من أسماء يوم القيامة: (يوم الجمع).
لأن الله يجمع فيه الأولين والآخرين، فلا يستطيع أحد أن يفلت من هذا اليوم، يقول الله تبارك وتعالى في سورة الحاقة: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:13 - 18] لا يغيب أحد بين يدي الله، منذ خلق الله آدم إلى يوم القيامة وكلهم يحضرون؛ ولذا سمي هذا اليوم يوم الجمع، يقول عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] ويقول الله عز وجل: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:103 - 108] نسأل الله من فضله.
وسميت القيامة بيوم الجمع؛ لأن الله يجمع الخلائق من الأولين والآخرين، وحقيقةً أن يوماً يجتمع فيه الناس كلهم يوم رهيب جداً جداً، الآن إذا اجتمع الناس في يوم عرفة كم يجتمع في عرفة؟ في الغالب أعلى مستويات الحج مليونين أو ثلاثة ملايين، ولو اجتمع أهل السعودية كلهم في يوم عرفة عشرة ملايين أو خمسة عشر مليوناً، كيف يكون الوضع في عرفة؟ كيف يكون الزحام؟ تكون الحركة صعبة جداً، ولو اجتمع أهل قارة آسيا كلهم! لو اجتمع المسلمون كلهم -ألف مليون مسلم- في عرفة كيف يصير؟ وإذا اجتمع أربعة آلاف مليون، يعني: كل إنسان على وجه الأرض اليوم، لو اجتمعوا كلهم الآن في مكان واحد كيف يكون الوضع؟ هؤلاء الآن أربعة آلاف مليون وبعد مائة سنة لن تجد منهم أحد إلا النادر كما ورد في الحديث وهو صحيح: (أنه على رأس المائة لا يكون على وجه الأرض أحد ممن كانوا عليها).
يجدد الله الأرض كلها، ويبدل وجه الناس كلهم وكل مائة سنة يأتي بمجموعة جديدة، الذي يولد اليوم بعد مائة سنة لن تلقاه، فيموت في السبعين، أو الثمانين، أو التسعين، أو المائة وهذا نادر وقليل، والنادر لا حكم له، والقاعدة أن الناس كلهم يموتون دون ذلك السن، فإذا كان في كل مائة سنة أربعة آلاف مليون فمنذ خلق الله آدم إلى يومنا هذا كم عاش؟ وكم مات؟ ومن الآن إلى يوم القيامة كم سيأتي؟ لا يعلمهم إلا الله، هؤلاء كلهم موجودون، وأنت منهم في ذلك اليوم، وأنا واحد منهم، في ذلك اليوم يكون كل منا عارياً حافياً جائعاً، في وضعٍ لا يعلمه إلا الله، والناس وقوف كلهم في ذلك الموقف {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:8] ولا يوجد إلا مظلة الرحمن، الشمس تغلي منها أدمغة العباد، ولا يوجد إلا مظلة واحدة اسمها مظلة الرحمن، فيها سبعة أصناف من الأمة تعرفونهم في الحديث، منهم: (شاب نشأ في عبادة الله) أسأل الله أن يجعل شباب المسلمين منهم؛ لأن هذه الصحوة التي نراها ونلمسها في الشباب تبشر بخير، ولكن نرجو الله أن يثبتهم على الإيمان، ويلهمهم الرشد في طريق صحوتهم؛ فإن هذه الصحوة ينبغي أن تسير راشدة على كتاب الله وسنة رسول الله، من غير شطط أو جنوح أو غلو؛ لأن الغلو خطر على الدعوات، ويجب أن يسعك ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تأخذ الدين من منبعه الأصلي من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذت وتمسكت بالهدي النبوي نجوت وكنت من ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
وذلك اليوم العظيم -الذي هو يوم الجمع- يخففه الله على أهل الإيمان، فلا يشعرون بطوله، ولا يشعرون فيه بحزن ولا بخوف، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32].(64/21)
الحاقة
من أسماء يوم القيامة: (الحاقة).
سميت بالحاقة؛ لأنه يتحقق فيها الوعد والوعيد، والعذاب والنعيم الذي وعد الله به الناس {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} [الحاقة:1 - 4] كذبوا بالبعث وبالنشور {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:5 - 8].
إذا كان الله عذب ثمود بالطاغية، وعذب عاداً بالريح الصرصر العاتية، وهم كانوا كباراً في الأجسام، ضخاماً في الخلق؛ لكن مع هذا عذبهم الله: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:8] فإن من عذبهم وأهلكهم قادر على أن يهلك كل من على الأرض، ويوم القيامة يحقق الله عز وجل وعده ووعيده، يقول البخاري في صحيحه: الحاقة؛ لأن فيها الثواب والعقاب، وفيها الجزاء والوعد والوعيد.(64/22)
يوم التلاق
من أسماء يوم القيامة: (يوم التلاق).
لأنه تلتقي فيه الخلائق كلها، حتى إن آدم عليه السلام يلتقي بآخر من يخلق من ذريته من بنيه، آدم أول إنسان مخلوق، وآخر مخلوق من ذريته يلتقي به يوم القيامة، تلتقي الأم بولدها، والأب بولده، والأخ بأخيه، لكن كل واحد يلتقي بمن يعرفه ويفر منه عندما يراه: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]، كل شخص لا يريد الصديق في ذلك اليوم؛ لأن الصديق لا ينفع صديقه بل يضره، ولاحظ إذا كنت في الرياض منقطعاً وما عندك شيء تبحث عن صديق أو أحد من الجماعة أو الأقارب لعله ينفعك ويشد من أزرك، لكن يوم القيامة لا تريد أمك ولا أباك، لماذا؟ لأن كل واحد يقول في ذلك اليوم: نفسي نفسي، وورد في الحديث: (أن الأم تأتي إلى ولدها فتقول: أنا أمك؟ قال: نعم.
قالت: غذيتك بلبني؟ قال: نعم.
قالت: كان حجري لك مهاداً، وكنت أعطيك وتعدد عليه النعم، قال: نعم.
قالت: أسألك بحق أمومتي عليك أن تعطيني حسنة واحدة ترجح ميزاني، قال: نعم أنت أمي، وغذيتني، وأعطيتني، أسألك بحق بنوتي لك إن تعطيني أنتِ حسنة) تريد هي منه حسنة، فيريد هو منها حسنة، فيفر وهي تفر، ما أحد ينفع أحداً يوم القيامة، ولا ينفعك إلا عملك.
يوم التلاق يقول الله عز وجل فيه: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:15 - 17] فالناس يلتقون يوم القيامة من أولهم إلى آخرهم.
وقيل سمي (يوم التلاق)؛ لأن أهل السماء يلتقون مع أهل الأرض، ومعروف أن أهل السماء ينزلون، قال الله: {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} [الفرقان:25] {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:37] ملائكة السماء الدنيا ينزلون على الأرض فيحيطون بها من جوانبها كلها، والخلائق كلهم في الوسط، ثم يأذن الله لملائكة السماء الثانية فينزلون، فيكونون أعظم من أهل السماء الدنيا، وأعظم من أهل الأرض، فيحيطون بها كلها، ثم ينزل ملائكة السماء الثالثة، فكل سماء ينزل منها من الملائكة أعظم من الذين كانوا قبلهم كلهم: {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} [الفرقان:25] في ذلك اليوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض.
وقيل: سمي (يوم التلاق) لأن فيه يلتقي الخلق بالخالق تبارك وتعالى في ذلك اليوم الرهيب.
وقيل: يلتقي الظالم والمظلوم، والقاتل والمقتول، والصالح والطالح، في ذلك اليوم يلقى كل عاملٍ ما عمل من خير أو شرٍ، يا عامل اعمل ما تشاء فإنك ملاقيه، لن تجد إلا ما عملت: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52].(64/23)
يوم التناد
من أسماء يوم القيامة: (يوم التناد).
أي: إطلاق النداءات، وهذا دائماً يحصل في الكوارث، فإذا ما حصل حريق -عافى الله المسلمين- في بيت، ماذا يحصل؟ الكل يصيح، اتصلوا بالمطافي، هاتوا ماء، قربوا ابعدوا انظروا، هذا يصيح، وذاك يصيح، ويوم القيامة ليس حريقاً معتاداً، إنما هو حريق العالم كله، الأرض كلها تحترق، والعالم في رهبة وخوف لا يعلمه إلا الله، والناس في نداءات، وصراخ، وصياح، وأمور مشكلة عليهم، يقول الله عز وجل، كما قال مؤمن آل فرعون وهو ينصح قومه: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [غافر:32 - 33].
وسمي بذلك لكثرة ما يحصل فيه من النداء والصياح، فكل إنسان يُدعى ويُنادى باسمه للجزاء وللحساب، يسمعه أهل الموقف كلهم، وأصحاب الجنة ينادون أصحاب النار، كما قال عز وجل: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:44] وينادي أهل النار أصحاب الجنة: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50] وأهل الأعراف ينادون {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف:48] ويُنادى في ذلك اليوم على المؤمن: ألا إن فلان بن فلان قد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، فيبيض وجهه ويأخذ كتابه ويقول لأهل الموقف: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:19 - 24] وينادى على الرجل من أهل النار باسمه الذي يعرف به في الدنيا يسمعه أهل الموقف: ألا إن فلان بن فلان قد شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً، فيسود وجهه، ويعطى كتابه بشماله: {فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:25 - 27].
فهذا يوم النداءات يوم التناد، مثل يوم -ولله المثل الأعلى- ظهور النتائج في المدارس، لا توجد إلا بيانات تقرأ من الميكرفون، الناجحون من الصف السادس إلى المتوسط، الناجحون من الخامس إلى السادس، الناجحون من الثالث إلى الرابع، وتظهر قوائم ونداءات الراسبين والمكملين، ناجح وساقط فقط، هل ينفع في ذلك اليوم عمل؟ ما رأيكم لو أن أحداً من الساقطين يوم ظهور النتيجة قال: يا جماعة أريد أن أعمل الآن! يقولون له: طارت الطير بأرزاقها، ما معك إلا ما معك، كنت ذاكرت بالأمس، -أمس ذلك اليوم- ذاكر الآن واعمل صالحاً الآن قبل أن تموت، وتلقى الله في يوم النداءات، وينادى عليك بين الخلائق، فضيحة والله ما أعظم منها فضيحة، أن تدعى باسمك، ويقال: أنت شقي، ويعرف كل الناس أنك شقي وعدو لله ملعون في النار، وفخر والله عظيم -يا أخي- أن يدعوك الله على رءوس الخلائق، ويقال: إن فلاناً قد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً.(64/24)
يوم التغابن
من أسماء يوم القيامة: (يوم التغابن).
سمي يوم التغابن لما يحصل لأهل النار فيه من الغبن حينما تفوتهم الجنة، ويدخلون النار، والغبن: شعور بالخسارة في معاوضة تجارية، هذا الغبن هو: أن تشتري سيارة بعشرين ألفاً، ثم تأتي تبيعها بخمسة آلاف، يحصل عندك غبن، تشتري عمامة من دكان بستين ريالاً، وتخرج لتراها في دكان ثانٍ نفس الموديل، والتصميم، والماركة بأربعين ريالاً، هل يحصل عندك غبن أو لا؟ فأهل الجنة يوم القيامة اشتروا الجنة بالعمل الصالح، قدموا الثمن في الدنيا واشتروا، وجاء هؤلاء ما عندهم شيء، وإذا بهم يشعرون بغبن اشتروا النار بالمعاصي، يشتري الأغاني والمجلة الرخيصة بنقود، يذهب إلى الخارج لكي يزني ويسكر ويخمر بنقود، اشتروا العذاب بأموالهم، ويوم القيامة يحصل لهم الغبن، يقول الله عز وجل: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9] وقد ورد أن أهل النار يؤخذون إلى طرف الجنة ثم يقال لهم: ما هذه؟ قالوا: الجنة، قالوا: وهذه منازلكم فيها لو أنكم أطعتم الله، لكنكم لما عصيتم الله أبدلكم الله عز وجل بمنازل أخرى وهي النار، فيرجعون إلى النار بغبن ما رجع به الأولون والآخرون، ويتمنون ويقولون: ربنا لو أدخلتنا النار لكان أهون من أن تدخلنا بعد أن نرى الجنة، ولكن زيادةً في العذاب، نعوذ بالله من النار!(64/25)
أسماء أخرى ليوم القيامة
هذه أشهر أسماء يوم القيامة، وقد وردت أسماء وأوصاف كثيرة اشتقها العلماء من الآيات والأحاديث مثل: يوم عسير، ويوم عظيم، ويوم عبوس، ويوم مشهود، ويوم قمطرير، ويوم عقيم، وأيضاً أخذت من بعض الآيات، مثل: يوم الخزي، يوم الهوان، يوم الذل، يوم الافتقار، يوم الاحتقار، يوم الصغار، يوم الانكسار، يوم الميقات، يوم المرصاد، إلى غير ذلك من الأسماء، هذه الأسماء الكثيرة لِمَ تعددت ولِمَ كثرت ولم يكن لها اسم واحد فقط؟ يقول العلماء: كلما عظم شأن الشيء تعددت أسماؤه وصفاته، وهذا شائع في كلام العرب، الشيء الحقير ما له إلا اسم واحد فقط، لكن الشيء العظيم له أسماء كثيرة، فالأسد له أسماء كثيرة: اسمه أسد، وليث، وغضنفر؛ لأنه أسد، لكن الثعلب ما له إلا اسم واحد ثعلب ماذا نسميه؟ ابحثوا له عن اسم ثانٍ، ليس معه إلا اسم ثعلب فقط، فالشيء إذا احتقر لم يسم إلا باسم واحد، وكل ما عظم تعددت أسماؤه، وهذا شائع ومعروف في كلام العرب، ألا ترى أن السيف له أسماء كثيرة: مهند، فيصل، بتار، له أسماء كثيرة لماذا؟ لأنه بتار، بينما الأشياء الحقيرة ليس لها إلا اسم واحد.
والقيامة لعظمتها ولهولها، ولعظم أمرها؛ سماها الله عز وجل بهذه الأسماء الكثيرة، ووصفها بهذه الأوصاف المتعددة.
نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن ينجينا وإياكم من عذابه، وأن يؤمن خوفنا يوم القيام له بين يديه، وأن يجعلنا في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(64/26)
الأسئلة(64/27)
كفارة الجماع في نهار رمضان
السؤال
اتصل بي رجل يقول: إنه كان جندياً يعمل في الرياض، وجاء في إجازة في رمضان، ودخل بيته بعد صلاة العصر، وزوجته موجودة، ولم يبق على أذان المغرب إلا ساعتين أو ساعة ونصف، ولكنه لعدم خوفه من الله، وعدم وجود الإيمان القوي الذي يحجزه عما حرم الله، ما استطاع أن يصبر على ساعة ونصف، فواقع زوجته في رمضان وهو صائم وهي صائمة، يقول: ومشت الأيام، ثم هداني الله عز وجل فماذا عليَّ؟
الجواب
عليك صيام شهرين متتابعين بدل ساعتين، لماذا؟ كفارة وتوبة من الله، ثم صامها الرجل لما قوي إيمانه، وجاءني بعد فترة يبشرني قال: أبشرك صمتها، صام الستين يوماً لما قوي إيمانه، ولم يصبر ساعتين لما ضعف إيمانه.(64/28)
خرافات يجب الحذر منها
السؤال
أرسل إلي شخص رسالة يقول: ما رأيكم في هذه الورقة -وصلته في ظرف- يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] إخواني المسلمين! وأخواتي المسلمات! مرضت فتاة وعمرها ثلاثة عشر عاماً مرضاً شديداً، وعجز الأطباء في علاجها، وفي ليلة اشتد المرض عليها، وبكت المسكينة حتى غالبها النوم، فرأت في منامها السيدة زينب رضي الله عنها وأرضاها، فوضعت في فمها قطرات، وبعد أن استيقظت من النوم وجدت نفسها قد شفيت من مرضها تماماً، وطلبت منها السيدة زينب رضي الله عنها أن تكتب هذه الرؤيا ثلاث عشرة مرة، وتقوم بتوزيعها على المسلمين والمسلمات لينظروا في قدرة الله سبحانه، تقول البنت: وعند توزيعها: النسخة الأولى وصلت إلى يد فقير فكتبها ووزعها على الناس، وبعد مضي ثلاثة عشر يوماً أصبح الفقير غنياً-نزل له كرتون من السماء مملوء بالأوراق النقدية! - والنسخة الثانية وصلت إلى يد عامل أهمل كتابتها، وبعد مضي ثلاثة عشر يوماً فقد عمله، وفُصل من عمله؛ لأنه ما كتبها، والنسخة الثالثة وصلت إلى يد أحد الأغنياء ورفض كتابتها وبعد مضي ثلاثة عشر يوماً فقد كل ما يملك من ثروته وأصبح فقيراً، فبادر -يا أخي المسلم ويا أختي المسلمة- عند وصول هذه الرؤيا بكتابتها ثلاث عشرة مرة، ووزعها على الناس لتنال ما تتمنى، وصلى الله على نبينا محمد، جزاكم الله ألف خير، يقول: فاعل خير.
الجواب
هذا فاعل شر، وليس فاعل خير، ولا جزاه الله عن الإسلام ولا عن المسلمين خيراً.
هذه الأكذوبة وهذه الخرافة نسمعها ونسمع مثلها، كما سمعنا في الماضي خرافة الشيخ أحمد نزيل المدينة وحارس حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، الذي قال في كذبته: أنه رأى النبي وأخبره النبي أنه سوف يموت في كل جمعة مائة وستون ألفاً على غير الإسلام، وراجت هذه الكذبة، وهي كذب وافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء الكذابون ليمارسوا كذبةً من نوع جديد وخرافة جديدة، يريدون بها أن يصوروا الدين على أنه أساطير وخرافات، هذه لها علاقة بالدين! تراها مستفتحة بآية، وأن هذه من أولياء الله السيدة زينب، وأن عليك أن ترسلها، وإذا أرسلتها ومر ثلاثة عشر يوماً، ولم يحصل لك شيء، ماذا ينعكس في ذهنك؟ أن هذا الكلام كذب وخرافات، وتقول: الدين كله خرافات.
هم يصورون هذا من أجل أن يغرسوا في نفوس الناس أن الدين خرافات، هذا الكلام باطل وحكايته على الأولياء باطلة، لأن السيدة زينب أو غيرها من الأولياء لا يملكون ضراً ولا نفعاً لأنفسهم فضلاً عن غيرهم حتى يشفوا المرضى، يقول الله عز وجل: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14] لا يستطيع أحد أن ينفع أحداً، سواء كان ولياً أو غير ولي، الولاية والصلاح تنفع صاحبها فقط يوم أن يموت والله راضٍ عنه، يوم القيامة تنفعه، أما وهو في قبره لا تنفعه ولايته، حتى إنه لا يستطيع أن ينفض عن ظهره التراب، أو يرجع إلى بيته؛ فضلاً عن أن يقوم من قبره ويأتي إلى المريضة ويضع في فمها قطرات وتعطى العافية، هذا كله كذب، ثم يُتَوَّج هذا الكذب بهذه الخرافات أن من كتبها ثلاث عشرة مرة وأرسلها يأتيه ماذا؟ إذا كان فقيراً يصير ثرياً، كيف يصير ثرياً؟ وإذا كان موظفاً مخلصاً في عمله، يأتيه قرار بالفصل لماذا؟ ألا يوجد نظام يحمي الموظف؟ أليس هناك نظام عمل وعمال؟ أليس هناك نظام موظفين؟ وإذا كان غنياً ووصلته، وما أرسلها يصبح فقيراً، ما يبقى معه ولا ريال، هذا كذب.
والعجيب -أيها الإخوة- أن هذه الأساطير والخلافات تنطلي على عقول الناس.
أنا أقول وقد قلته البارحة في أبها: لو أتينا بقطيع من البقر وأدخلناها في حوش، وقرأنا عليها هذا الكلام وقلنا: يا بقر ما رأيكم هل هذا كلام صحيح أو لا؟ لهز كل ثور رأسه وقال: هذا كلام فارغ، ليس هناك رزق في ورقة، لا أصير غنياً بورقة أكتبها ثلاث عشرة مرة، أمعقول: أمعقول أن أكتب ورقة ثلاث عشرة مرة وأصورها ثلاث عشرة صورة بثلاثة عشر ريالاً، وأرسلها وأصير غداً عنياً؟! نعم، كل واحد سوف يعملها، ونصير غداً كلنا أثرياء، وأرصدة بالملايين، هذا كلام لا فائدة فيه!!! هذا ونسأل الله عز وجل لنا ولكم التوفيق.(64/29)
المشكلات الزوجية أسبابها وعلاجها
لقد اهتم الإسلام بالحفاظ على بناء الأسرة المسلمة واهتم بحل مشكلاتها والبحث عن أسبابها حتى يعطيها العلاج الناجع؛ فجعل للرجل حرية اختيار الزوجة، وكذلك جعل للمرأة حرية اختيار الزوج؛ حتى تقوم الأسرة على التفاهم ولكن بالرغم من ذلك فكل بيت مسلم لابد وأن تعتريه أوقات تظهر فيه المشكلات، حتى لتكاد في بعض الأحيان تعصف باستقرار الأسرة المسلمة، وقد ذكر الشيخ في هذا الدرس أسباب المشاكل الزوجية مع ذكر علاجها من الكتاب والسنة.(65/1)
أهمية علاج المشاكل الزوجية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الأحبة في الله: موضوع المحاضرة موضوع هام وذلك لأمرين: أولاً: لعلاقته بكل أسرة وبكل فرد وبكل ذكر وأنثى.
ثانياً: للآثار المترتبة على حدوث المشاكل الزوجية، من تشتت الأسر، وتهدم كيانها، وضياع أفرادها، وما لذلك من انعكاسات خطيرة على أخلاقهم، وعلى تصوراتهم وأفكارهم، وبالتالي من أضرارٍ خطيرة على مجتمعهم وأمتهم.
وبعض الناس لا يقيم لهذه المسألة وزناً، ويعتبر هذه القضية من القضايا الهامشية، وما علم الاهتمام الشديد والتركيز الأكيد الذي حظيت به قضية الأسرة من قبل الدين والتشريع الإسلامي العظيم.(65/2)
ضرورة اختيار الزوج والزوجة وفق معايير شرعية
لقد جعل الإسلام من مسئوليات الرجل وهو يبدأ في تكوين اللبنة الأولى من لبنات المجتمع -جعل من مسئوليته أن يحسن اختيار الزوجة؛ لأن سوء الاختيار يجعل الإنسان يعيش المشكلة من أساسها، فهو لم يعرف كيف يختار شريكة حياته، ورفيقة دربه، وأم ولده، في هذه الحياة، أو أنه وضع لاختياره معايير ليست شرعية، معايير تحكمها الأهواء والرغبات والمتع والنزوات، أو التصلب في الأفكار والآراء، ونسي الجوهر الذي أكد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، والاختيار يأتي من الذكر وأيضاً للمرأة في الشرع حق الاختيار وإبداء الرأي في من تقبل أن يكون شريكاً لها، إذ ليس للولي من الناحية الشرعية حق في أن يفرض على موليته زوجاً لا تريده، وتعبر عن رأيها في عدم رغبتها فيه، إذ أن الحياة الزوجية بناء، وهذا البناء لا يقام إلا على أساس من الرضا، والقبول، والقناعة، والفهم لكل طرفٍ من أطراف الزواج.
فبالنسبة للرجل: يضع الرسول صلى الله عليه وسلم مبادئ ومنهجاً في اختيار الزوجة؛ إذ يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي في صحيح البخاري: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولجمالها، ولحسبها، ولدينها)، هذه اهتمامات الناس، حينما يريدون الزواج من أي امرأة لا يسأل أحدهم إلا عن هذه الأربع، ويغلب بعضهم جانباً على جانب آخر، وبعضهم يهمل جانباً ويهتم بآخر، أما المؤمن والرجل الرباني الذي يريد أن يقيم الأسرة على أساس سليم فيبحث عن الأربع كاملة، ثم يركز على الأخيرة؛ لأنها الجوهر، ولا مانع من الاهتمام بأن تكون المرأة جميلة، وأن تكون ذات مال، وأن تكون ذات حسب، لكن إذا لم تجد الجمال، ولم تجد المال، ولم تجد الحسب، ووجدت الدين فاظفر بذات الدين، قال عليه الصلاة والسلام: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولجمالها، ولحسبها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)، وهذه دعوة من النبي صلى الله عليه وسلم على من لم يجعل في تقديره واهتمامه الرغبة في المرأة المتدينة، دعا عليه بأن تمتلئ يداه بالتراب، (تربت يداه) أي: ما معه إلا تراب من زوجته؛ لأنه خسر ذات الدين.
وبالنسبة للمرأة أيضاً: يقول النبي صلى الله عليه وسلم للأولياء، وهم الذين لديهم الصلاحيات في قبول الزوج، وفي عرضه على المرأة، وفي إبرام العقد، إذ لا نكاح إلا بولي، وليس من فرقٍ بين الزواج والزنا إلا الولي، إذ أن الحرة لا تزوج نفسها، ولا يزوجها إلا وليها، ولكن التي تزوج نفسها هي الزانية، تبيح نفسها لغيرها، فلا نكاح إلا بولي، وإذا عدم الولي فينتقل إلى الذي بعده في الولاية.
والولي بالنسبة للمرأة: الأب، فإن عدم فالابن، فإن عدم فالأخ الشقيق، فإن عدم فالأخ لأب وهكذا، كالولاية وكالقربى في الوراثة، وإذا لم يوجد ولي للمرأة وكانت مقطوعة لا ولد ولا والد ولا أخ ولا عصبة ولا لها أي قريب، انتقلت الولاية للحاكم الشرعي، فإن الشرع والقاضي ولي من لا ولي له، تذهب إلى القاضي فتقول: أنا امرأة لا ولي لي فزوجني.
فيزوجها بمن يرضى لها دينه وأمانته يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)، انظروا المعيار الدقيق، من ترضون أمرين: الدين والخلق، ثم قال: (إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).
فإذا قامت الأسرة على هذا الأساس امرأة متدينة ورجل متدين، والتقوا على كتاب الله، وحصل بينهم التفاهم من أول ليلة على أن المنهج الذين يسيرون عليه والذي يحكم حياتهم الزوجية هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن المشاكل ستكون قليلة، إذ لا يمكن أصلاً أن تنعدم المشاكل، بعض الناس يتصور أنه يمكن أن تكون هناك حياة زوجية من غير مشاكل، وهذا مستحيل! حتى في أكرم البيوت وأعظمها على الإطلاق، بيت النبوة بيت محمد بن عبد الله خير البشر وسيد ولد آدم، كان يحصل بعض المشاكل من قبل الزوجات مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كان يعالجها بالأسلوب الشرعي المثالي في أعلى درجات الكمال صلوات ربي وسلامه عليه، لكن المشاكل في البيت المؤمن الذي أقيمت دعائمه وأسست أركانه على تقوى من الله وبرهان، وعلى قناعة ورضا وحسن اختيار من قبل الزوج ومن قبل الزوجة؛ تكون المشاكل قليلة، وأيضاً نسبتها محدودة، ونوعيتها طفيفة.(65/3)
أسباب المشاكل الزوجية
إن المشاكل العويصة التي تدمر الأسر، وتزلزل بنيانها، وتؤدي بها إلى الانهيار، وبالنهاية إلى الطلاق، وتشتيت شمل الأسرة، وضياع الأبناء، وضياع النساء، وضياع الرجال، هذه تحصل -أيها الإخوة- من أسباب، وهذه الأسباب هي عنوان المحاضرة في هذه الليلة.(65/4)
التهاون في الذنوب والمعاصي
أول الأسباب وأكثرها تأثيراً في تدمير الأسرة وحصول المشاكل بين الزوجين: التهاون بالذنوب والمعاصي فإن المعاصي تزيل النعم، وتجلب النقم، وتشتت القلوب، وتدمر المبادئ والقيم، ويحصل بوجودها في البيت تمرد وشذوذ، فالمرأة لا تطيع زوجها؛ لأنها ترى فيه أثر المعاصي، وترى فيه الاستغراق في الذنوب، وترى فيه عدم الوقوف عند أوامر الله، فتتمرد عليه عقوبة له، وكذلك الزوج يرى أن زوجته لا تقيم أوامر الله، ولا تستجيب لداعي الله، وتستمع إلى الحرام، وتنظر إلى الحرام، وربما مارست شيئاً من الحرام، وتكاسلت عن الطاعات والفرائض، فيتولد في قلبه كرهاً لها، وبغضاً لها، وأيضاً يتمرد عليها، ويقسو عليها، ويمارس ضدها أسوأ أنواع العشرة لماذا؟ عقوبة من الله عليها.
يقول أحد السلف: إني لأعصي الله فأرى أثر ذلك في سلوك زوجتي ودابتي.
يقول: أقع في معصية فأجد العقوبة ظاهرة في سلوك الزوجة وسلوك الدابة، عقوبة عاجلة، لكن يوم يكون الزوج طائعاً لله، واقفاً عند حدود الله، قائماً بفرائض الله، متمسكاً بعروة الله، وتكون الزوجة كذلك، فمن أين للمشاكل أن تأتي في هذا الجو الإيماني؟ وإذا جاءت فيقضى عليها في مهدها؛ نظراً لأن النور موجود، نور الإيمان يعمر القلوب يعمر قلب المرأة وقلب الرجل، وأيضاً التأدب بآداب الشرع موجود، الرجوع والتحاكم إلى الكتاب والسنة موجود، فإذا حصل أي ضعف أو أي نقص من الزوج أو من الزوجة بسبب بشرية الزوج والزوجة وضعفهما فإن هذا الضعف سرعان ما يتلافى، وسرعان ما يُقضى عليه عن طريق الرجوع إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن المعاصي التي تلاحظ في كثير من البيوت: أولاً: التهاون بأمر الصلاة، سواءً من قبل الزوج أو من قبل الزوجة.
بعض الزوجات صالحات وتجد مشقة عظيمة وهي تعاني من كسل زوجها، وعدم رغبته في القيام بفرائض الله، ولا يقوم إلى الصلاة إلا بتعب، وإذا قام صلى في البيت، ولم يصلِ في المسجد، فيتحرق قلب الزوجة المسكينة الدينة الطيبة، تسمع الأذان، وتسمع الناس وهم يقولون: آمين.
ملء المسجد، ثم تنظر إلى هذا المنكب على وجهه، فتقول: الناس كلهم يصلون، وهذا لماذا لا يصلي؟ فيتولد في قلبها بغض له وكراهية، فإذا أراد أن تقوم بحقوقه، وأن تستجيب لطلباته، فإنها لا تجد في نفسها رغبة في الانصياع لأوامره، ولا الانقياد لطاعته وهو عاصٍ لله، وهو متمرد على الله، فترفضه ولا تطيعه، وتتولد من ذلك المشاكل ما السبب؟ إنها المعصية، ترك الصلاة أو التهاون به.
وقد يكون الرجل متديناً، وفيه خير وصلاح، لكن زوجته متساهلة في الصلاة، يصلي المغرب ويدخل البيت ويجدها جالسة، فيقول لها: هل صليتِ؟ قالت: لا.
لماذا؟ قالت: حتى يؤذن العشاء، أو تنام إلى الساعة الثانية عشرة أو الواحدة بعد نصف الليل ولم تصل العشاء، والفجر ما تصليه إلا الساعة العاشرة أو الحادية عشرة ظهراً، والظهر تجعله مع العصر، وهكذا تلعب بالصلاة، وينصحها كلما دخل: صلي (يا بنت الحلال)، اتقي الله، قالت: حسناً، وبعضهن تقول: الصلاة لي أم لك؟! الصلاة لكِ، أنا ما أقول: صلي من أجلي، صلي من أجلكِ أنتِ، لكن مسئوليتي كزوج تفرض عليَّ أن أتابعك في الصلاة؛ لأن الله يقول: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].
فالصلاة مهمة؛ ولا بد أن يقوم كل من الزوج والزوجة بالمحافظة عليها، وأدائها في أول الوقت بالنسبة للمرأة، وفي جماعة المسلمين في المسجد بالنسبة للرجل.
ومن المعاصي المنتشرة: انشغال الزوج أو الزوجة بآلات اللهو، والانهماك في سماع الغناء، ومتابعة الأفلام والمسلسلات، والأمور الشريرة في هذه الوسائل من قبل الزوج أو من قبل الزوجة، ويترتب على هذا مشكلة سوء العشرة؛ فالرجل يريد زوجته وهي قاعدة على الفيلم تتابع المسلسل، أو هي تريد أن يسمر معها وهو جالس يتابع فيلماً أو مسلسلاً أو مباراة، فتشعر بنوع من العزلة والانفراد، وتقول: أنا أتيت إلى هذه الغرفة لكي يحبسني في البيت وفي الغرفة وهو جالس على الأفلام؟! بعضهم من المغرب إلى الفجر وهو مع الأفلام، وبعض النساء كذلك، فيترتب على هذا مشاكل من سوء العشرة؛ نظراً للمعصية التي وقع فيها الزوج أو وقعت فيها الزوجة بالانشغال بهذه المنكرات وهذه المعاصي الخطيرة، التي تدمر الأسر وتقضي على أساسها والعياذ بالله هذا أول سبب من أسباب المشاكل الزوجية.
والعلاج: التوبة إلى الله، أن تتوب أيها الرجل من الذنوب صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، وأن تتوبي أيتها المرأة إلى الله عز وجل من الذنوب، وأن تعلما أن الله خلقكما للطاعة والعبادة، وأن المعصية شذوذ، وأن المعصية انحراف، وأن المعصية عقوبة، وأن العقوبة على المعصية عاجلة بتدميركم في الدنيا وفي الآخرة، وأن الطاعة -أيها الإخوة وأيتها الأخوات- سعادة وعزة ورفعة في الدنيا والآخرة.
ومن أعظم فوائد الطاعة: أن يدوم الوئام، وأن يحصل الوفاق بين الرجل وبين المرأة، وأن تقل المشاكل بل تنعدم في البيت الطائع الذي لا تظهر فيه معصية لله سبحانه وتعالى.(65/5)
إهمال الحقوق
السبب الثاني من أسباب وقوع المشاكل الزوجية: إهمال الحقوق فلا يقوم كل طرف بالحقوق الواجبة عليه تجاه الطرف الثاني؛ فيترتب على هذا فساد وخلل في التعامل، وإذا قام شخص بالحق وأعطاني إياه الحق كاملاً، أقوم أنا بأن أبادله فأعطيه الحق كاملاً، وبالتالي لا تقع أي مشكلة، لكن عندما تقصر المرأة في الحقوق الواجبة عليها تجاه زوجها، أو يقصر الرجل في القيام بالحقوق الواجبة عليه تجاه زوجته؛ يحصل الإشكال، وتحصل الأدوار المتباينة، هي تقصر في حق فيقصر هو في حق آخر، أو هو يقصر في حق فتعاقبه بأن تقصر في حقه، فإذا قصرت أو قصر هو تولدت الكراهية، وحصلت ردود الأفعال، وتصاعدت المشاكل، حتى تؤدي في النهاية إلى تدمير الأسرة بسبب إهمال الحقوق الزوجية التي يجب على كلٍ من الزوج والزوجة القيام بها.(65/6)
حقوق الزوجة على زوجها
والموضوع بالنسبة للحقوق يحتاج إلى تطويل، لكني سأمر عليه مروراً، وإلا فالمفروض أن يفرد بمحاضرة مستقلة، حقوق الزوج والزوجة، وقد أفردت في بعض الأشرطة، لكني أذكرها باختصار، ونبدأ بحقوق الزوجة؛ لأن النساء دائماً يقلن: أنتم الرجال تؤكدون على حقوقكم دائما وتهملون حقوقنا! لذلك سنبدأ بحقوق الزوجة:(65/7)
المعاشرة بالمعروف
أولاً: العشرة بالمعروف؛ لأن الله أمر بهذا وقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] لا يجوز لك -أيها المسلم- أن تعاشر هذه المرأة إلا بالمعروف، والمعروف: هو الذي يتفق مع مبادئ الشرع؛ من الكلمة الطيبة، والعبارة الطيبة، والبسمة الطيبة، والتعامل الطيب، والبحث عن أفضل ما عندك لزوجتك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) والذي ليس فيه خيرٌ لأهله ليس فيه خيرٌ للناس؛ لأن من الناس من تجده ذا ذوق وأخلاق وتعامل، وتجده اجتماعياً وطيباً مع الناس، لكن إذا دخل بيته خلع كل هذه الأخلاق عند الباب، ودخل شرساً سيء الخلق، حتى إن بعضهم لا يسلم على امرأته، وبعضهم لا يتكلم مع امرأته، ولا يأكل معها، وبعضهم عندما ينام في غرفة امرأته ينعزل، وهذا كله من سوء الخلق، ومن سوء العشرة، والله يقول: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19].(65/8)
العدل
ثانياً: العدل معها كما يجب أن تعدل مع نفسك يجب أن تعدل معها؛ لأن الله قال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] ما هي الدرجة؟ القوامة، المسئولية، جعل الله القوامة للرجل لا لأنه أفضل؛ ولكن لأنه أكمل وأقدر، وإلا فقد تكون بعض النساء أفضل عند الله من زوجها، لكن الذي يستحق أن يكون قائماً هو الرجل، للميزات التي ميزه الله سبحانه وتعالى، من القوة والصلابة والشجاعة والقدرة والمواجهة، والمرأة لا تصلح ولا تستطيع أن تعمل شيئاً، وقد تكون أفضل عند الله من الرجل بدينها وبإسلامها وبتمسكها بطاعة ربها، فدرجة القوامة مسئولية؛ لأن الحياة الزوجية في نظر الشرع شركة، ولا بد لكل شركة من مسئول ومدير، ومن المؤهل لأن يكون مديراً؟ الرجل؛ لأنه يحمي الأسرة ويدافع عنها، فلو كنت أنت وزوجتك في بيتكم ثم سمعتم خبطة أو شيئاً انفتح، فمن الذي يقوم ليرى؟ الزوج أم الزوجة؟ المرأة رأساً تذهب إلى أقصى غرفة، وتدعي زوجها وتقول: انظر من الذي خبط الباب، هناك شيء، لكن ما رأيكم لو ذهب هو وقال: اذهبي أنت وانظري، ستقول: أنت الرجل أم أنا؟ فالرجل له قوامة، وله قدرة، ولذا كان هو المسئول {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] أي: القوامة والمسئولية.(65/9)
تعليمها أمور دينها
إن من حقوقها: التعليم تعليمها أمور دينها، وهذا أمر -أيها الإخوة- يغفل عنه كثيرٌ من الأزواج، ويتعامل مع زوجته على أنها متعلمة مائة في المائة، حتى لو كانت تحمل أعلى شهادة فلا بد من تعليمها أمور الدين؛ لأن الله قال: {فَعِظُوهُنَّ} [النساء:34] بحيث تجعل لزوجتك جلسة علم، وتبدأ أنت وإياها في كتاب من المختصرات، خصوصاً المتعلق بالمرأة والتعامل الزوجي، وتبدأ بحقها؛ لأنك إذا بدأت بحقوقك رأت فيك الأنانية، والرغبة في استغلالها عن طريق الناحية الدينية، بل قل: أول شيء نقرأ حقوقكِ أنت، لكي أعطيك حقك، ثم نقرأ حقوقي أنا، وهكذا.
والتعليم يقضي على كثير من المشاكل، وكم من معضلة وقعت في الأسر بسبب جهل المرأة بهذه المسألة، ولو كانت تدري ما وقعت، ولو كانت على علم بأمر الله فيها ما أوقعت نفسها ولا زوجها في هذه المشكلة، فمن حقها عليك أن تعلمها أمر دينها، وأن تعلمها ما يصلح حالها في الدنيا والآخرة.(65/10)
النفقة عليها بالمعروف
إن من حقوقها: النفقة لقد جعل الله عز وجل من مسئوليات الرجل الإنفاق فقال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] فما دام أنك القوام عليها فعليك أن تدفع النفقة، وكيف يكون الإنفاق؟ على حسب قدرة الرجل، قال الله عز وجل: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:7] أي: ضيق عليه {فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7].
والنفقة على المرأة أمرٌ نسبي يخضع لظروف معيشة المجتمع، ولظروف دخل الرجل، فكلما كان في دخلك زيادة فيجب أن توسع على أهلك {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:7] أي: من ضيق عليه، فيمد نفقته على قدر دخله وعلى قدر موارده، وعلى المرأة ألا تحمله ما لا يطيق، وألا تقيس به الآخرين، وتقول: لست مثل فلان ولا علان، وبيت آل فلان كذا وسيارة آل فلان كذا حسناً، آل فلان غيري، آل فلان يمكن أن دخلهم يصل إلى ثلاثين أو أربعين ألفاً وأنا دخلي ثلاثة آلاف ريال، أذهب وأسرق لكي أصبح مثل آل فلان؟ هذا لا يجوز في شريعة الله عز وجل، وإنما ينفق الرجل مما أتاه الله عز وجل.(65/11)
مراعاة شعورها
من حقوقها: مراعاة شعورها امرأتك ينبغي أن تراعي شعورها، إذا غضبت فتغاض عنها، وإذا تكلمت فاسكت على كلامها، بعض الرجال لا يريد أبداً أن يترك لها فرصة أن تعبر عن رأيها، وإنما يستذلها، ويمارس معها أعلى درجات السيطرة و (الدكتاتورية)، بحيث يقول: أنا رجل لا تتكلمي، آخر كلمة لي وأول كلمة لي!! سبحان الله! كيف تصادر هذه الإنسانة؟ هذا ظلم، النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصنع هذا، جاء في صحيح البخاري: (كان صلى الله عليه وسلم عند إحدى زوجاته، فصنعت له الأخرى طعاماً وبعثته في قدح مع غلام لها، فطرق الباب فخرجت زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما فتحت الباب وجدت الغلام يحمل في يده الإناء وفيه الطعام، فغضبت لماذا ترسل تلك طعاماً للرسول وهو بيتها؟ فقالت: تتابعينه حتى في بيتي وتعطينه طعاماً! فضربت يد الغلام، فوقع القدح وانكسر وانتثر الطعام، والرسول صلى الله عليه وسلم يرى المنظر).
ما رأيكم؟! لو أن هذا حدث مع واحد منا، ماذا سيحصل؟ سيقوم ويضربها حتى يكسر ظهرها، ثم يطلقها، ويطردها، ويقول: تعملين هكذا؟ وما دخلك؟ هذا بيتي وهذه امرأتي آكل ذلك ولا آكل طعامك! لكن الرسول صلى الله عليه وسلم سكت، ثم اعتذر لها -وهي عائشة رضي الله عنها- وقال: (غارت أمكم، غارت أمكم، غارت أمكم) ثم قام صلى الله عليه وسلم وأخذ قدحاً لها في بيتها، وجمع الطعام، وأخذ الطعام ورد القدح، وقال: (طعام بطعام وقدح بقدح) مثلما كسرتيه تحمليه والطعام نأكله.
هكذا لم يجرح الرسول مشاعرها، وما هو شعور عائشة؟ لقد غارت، والغيرة أمر طبيعي في المرأة، ولا تتولد الغيرة إلا من الحب، والمرأة التي لا تغار على زوجها يعني أنها لا تريده، وتقول: الله لا يرده، لكن تلك التي تغار دليل على الحب والوفاء والإخلاص، فقدر لها هذا الأمر، وإذا كانت الغيرة قد جاوزت الحدود فإنها تكون مذمومة، وسوف نخصها في عنصر خاص من أسباب الخلافات الزوجية، فوجودها ظاهرة صحية، لكن إذا تجاوز بها الحدود تنقلب إلى ضدها، فيجب على الزوج مراعاة شعور امرأته في كل الأحوال، إذا دخل عليها وهي غضبانة فلا يضحك ويفرح، وإذا وجدها مريضة فلا يذهب في رحلة، وإذا رآها في حالة نفسية فلا يذهب ليتمشى ويسهر إلى آخر الليل، بل يجب أن تعايشها وأن تعيش معها في ظروفها، وفي ملابساتها، وفي ما يهمها ويراعي مشاعرها.(65/12)
عدم إفشاء سرها
أيضاً من حقوقها: ألا يفشي سرها؛ لأنه لباس لها، وإذا جلس مع الرجال وأفشى سرها، وذكر عيبها، وقد يكون في زوجته عيب، ولا أحد يعلم بعيب المرأة إلا أنت، لكن من الناس من لا يراعي هذا الجانب، ويقول: امرأتي فيها كذا، أو عملت فيها كذا -والعياذ بالله- من هتك الستر لعرضه ولعرضها فمن حقها عليه ألا يفشي سرها وألا يذكر عيبها.(65/13)
عدم السهر خارج المنزل وترك الزوجة لوحدها
أيضاً من حقها عليه: ألا يسهر خارج المنزل إلى ساعات متأخرة ويتركها في البيت وحدها، فإن المبيت جزء من الحقوق المترتبة على الزوجية، فإذا أخلَّ به الرجل وقطع معظم الليل مع زملائه، مع (بشكات الورق)، (والبلوت)، والسهر، ثم جاء آخر الليل وهي نائمة فقد أحرمها الليلة، وبالتالي تترتب على هذا ضياع حقها، ويمكن يترتب على ضياع هذا الحق أن تقع المرأة في جريمة، إذا لم يكن عندها دين ولا خوف من الله، يمكن أن يحملها تصرف الرجل على السهر مع زملائه أن تبحث هي عمن تسهر معه، وبالتالي تضيع المسألة، ويضيع عرض الرجل، وتدمر الأسرة بالكامل والعياذ بالله!(65/14)
عدم الأخذ من مالها إلا بإذنها
أيضاً من الحقوق عليه ألا يطمع في راتبها إذا كانت تعمل؛ فإن راتب المرأة لها، والله قد أعطاها حرية التملك، فللمرأة في الشرع أن تتملك وأن تتصرف في مالها كما تريد، وهذا الراتب لها استحقته نظير عملها، فلماذا تأخذه؟ وبأي حق؟ والله قد حرم على المسلم أن يأكل مال المسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (إن أموالكم وأعراضكم ودماءكم حرام عليكم) فإذا أخذت مال زوجتك بغير رضاها كأنك تأخذ مال امرأة من الشارع وتسرقه عليها، ولا يبرر لك كونك زوجها أن تعتدي على مالها، بل حتى المهر أمر الله بإعطائها فقال: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] والخطاب موجه للأولياء وللأزواج، فإذا طابت نفس المرأة عن شيء من المهر، أو عن شيء من الراتب من باب التطوع والمشاركة الوجدانية في الأسرة وفي تكاليفها فلا بأس، وهذا الذي ينبغي، إذ لا ينبغي أن تكون المرأة أنانية مادية تعمل وتأخذ الراتب وتضعه في رصيدها ولا تساهم في الأسرة بأي شيء، هذا يجعل الزوج يشعر نحوها بشعور غريب، يقول: هذه ليست زوجة متعاونة، لمن تجمع الفلوس؟! لكن عندما تأخذ راتبها بدون ضغط أحد وتقول لزوجها: هذا المبلغ يساعدك هذا الشهر، إذا اشتريت سيارة فهذا معونة؛ لأن السيارة أنا سوف أستخدمها، أيضاً ملابسي لا تحمل همها، وشئوني الخاصة أنا سوف أتولاها، بهذا يحصل للزوج ثقة في زوجته، ويطمئن إليها، أما حينما تكون مادية بحتة فلا يثق فيها، وبالتالي تتولد المشاكل.
فلا يجوز للزوج أن يطمع في مال زوجته وراتبها ويأخذه قسراً عنها ولا ينبغي لها أن تكون أنانية إلى الدرجة التي لا تساهم في تكاليف الحياة مع زوجها، وهي تراه يتعب ويكد ويساهم، ويصرف كل دخله على الأسرة وهي جالسة، هي غير مكلفة شرعاً، لكن من الناحية الأدبية ينبغي أن يكون لها مشاركة حتى تدوم الحياة والألفة والسعادة على الأسرة عندما يكون هناك نوع من التضامن، والتعاون، والتكاتف على القيام بشئون الأسرة وإسعادها.(65/15)
حقوق الزوج على زوجته
وأما حقوق الزوج فهي كالتالي:(65/16)
الطاعة بالمعروف
قال عليه الصلاة والسلام: (لو كنت آمراً أحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) فطاعة الزوج شيء مقدم على كل أمر ما لم يتعارض مع أمر الله، حتى أمر الوالد وأمر الوالدة، فلو أمرها أبوها بأمر وأمرتها أمها بأمر، وزوجها قال: لا.
فلا تقدم أمر أحدٍ على أمر زوجها، الطاعة المطلقة حتى جعلها النبي صلى الله عليه وسلم ربع الطريق إلى الجنة، ففي سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها -انظروا ربع الطريق- قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئتِ)، فطاعة الزوج ليست أمراً اختيارياً، ولا أمراً مزاجياً بمزاج المرأة تطيع أو لا تطيع، لا.
إذا قالت الزوجة -مثلاً- لزوجها: أريد أن أذهب إلى الجيران، فقال: لا.
قالت: أذهب إلى أهلي، قال: لا.
قالت: نتمشى اليوم، قال: لا.
لكن بعض الأزواج تقول الزوجة: نتمشى اليوم، فيقول: لا.
قالت: لماذا؟ كل الناس يخرجون، والعرب كلهم يروحون، والجيران كلهم يتمشون، وأنت تريد أن تحبسنا المسألة ليست زوجية، ليست هذه طاعة، هذه مضاربة، فإما أن يخرجها وهو غاضب وإما أن يمنعها ويضربها وتسوء العشرة.
إن على المرأة إذا أرادت من زوجها وهي مؤدبة ولبيبة وذكية فلا تطلب منه وإنما عن طريق العرض ما رأيك يا أبا فلان أن نذهب نتمشى اليوم، أم أنت متعب؟ حتى لو كان متعباً فإنه سيقول: نتمشي اليوم، لماذا؟ لأن المسألة أتت بعرض وبأدب، لكن إذا قالت: امش بنا للنزهة، ولو كان نشيطاً لقال: لا.
والله ما أخرجك، اقعدي الله لا يردك، أنت سيئة خلق تريديني أن أخرج بك للنزهة، ويذهب هو للنزهة ويتركها فلا بد من الطاعة، المرأة يجب أن تطيع، وقد تقول بعض النساء: لماذا أطيع؟ لأن الله أمركِ بهذا، قال تعالى: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} [التحريم:10] فأنتِ امرأة، وهو رجل لا بد أن تطيعيه بالمعروف، أما في المعصية فلا، إذا قال لها: اكشفي وجهك وادخلي على الجيران، أو على الأقارب، أو اسهري على المنكر، أو نذهب إلى منكر، فلا طاعة له، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.(65/17)
حسن العشرة مع الزوج
كما هو مأمور بأن يحسن عشرتها أيضاً هي مأمورة بأن تحسن عشرته، وتبحث عن الأسباب التي تجلب له السعادة، وتهتم به، حتى يشعر بأن زوجته جديرة بأن تكون شريكة الحياة؛ لأن الزواج -أيها الإخوة- مسئولية، بعض النساء تهتم بكل شيء إلا الزوج، تهتم بالطبيخ، وتهتم بالغسيل، وتهتم بالكنس، وتهتم بالأطفال، والزوج آخر من تهتم به هذا غير صحيح، الزوج لا يريد نظافة الجدران، ولا رائحة الطعام، بل يريد أن يجد اهتماماً به شخصياً، اهتماماً بموعد نومه، واهتماماً بموعد أكله، واهتماماً بملابسه، واهتماماً بمشاعره، واهتماماً بكل شئونه، حتى الدواء إذا كان مريضاً وعنده حالة مرضية وعنده دواء ويأتي بالعلاج هي التي تذكره، وإذا ذهب إلى الدوام تقول له: أخذت الحبوب معك؟ ما أعظم هذه المرأة! إذا جاء بعد صلاة الظهر وجاء موعد الدواء تتصل به وتقول: أبا فلان! لا تنسى العلاج حقك فموعده الساعة الثانية ما رأيكم لو يسمع رجل هذا الكلام من امرأته ماذا سيقول؟ سيقول: الله يذكرها بالخير، الله يجزيها خيراً، انظروا كيف تهتم بي وأنا في الدوام وهي في البيت، وقلبها معي، حريصة على صحتي وعلى عافيتي، لكن بعض النساء لا تدري هل هو مريض أو في عافية، بل يمكن لو رأت العلاج حقه أخذته ورمت به في الدولاب وقالت: الله لا يرده، أشغلنا بهذه الأدوية التي يجلبها، وهو مريض طوال حياته، وكلما دخل وهو مريض، إذا مات نستريح منه، فما رأيكم بهذه الزوجة؟ وهل هذه زوجة؟ هذه شيطانة والعياذ بالله! فمراعاة مشاعر الزوج مطلوبة، إذا دخل عليها وهو غاضب تقول له: خيراً يا أبا فلان، إن شاء الله ليس هناك شر، ماذا صار عليك؟ أعندك مشكلة في الدوام؟ سُرق عليك شيء؟ تخاصمت مع المدير؟ هل خصموا عليك؟ ثم تدخل معه، وتقول: ما يصير إلا كل خير، والأمر سهل، لكن إذا دخل وهو غضبان وقالت: مالك غضبان؟ هل ضربوا رأسك هذا اليوم؟ تستاهل! لأنك قد آذيتنا أعوذ بالله! أصبحت هذه عدوة وليست زوجة، تنتظر كل مشكلة تحل على زوجها وتدق على رأسه، النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على خديجة رضي الله عنها وقال: (دثروني دثروني، زملوني) قالت: ما حدث؟ أخبرها بالذي حصل، فماذا قالت له؟ قالت تستحق؛ لأنك كل ساعة وأنت في هذا الغار، نقول لك: تعال تعشَ معنا، واقعد معنا، وتخرج ليلتين، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج إلى غار حراء الليلة والثلاث والأربع يتعبد، ولا يأتي، وخديجة تعرف أنه يتعبد في الغار، ولو أنها إنسانة سطحية أو مصلحية لاستغلت هذا الحدث، وقالت: تستحق، لا تذهب إلى هذا الغار، فقد نصحناك، نقول: اقعد مع أهلك، اقعد مع عيالك، ورفضت، لكن ماذا قالت رضي الله عنها؟ قالت: (كلا والله لا يخزيك الله أبدا: إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) انظروا التأييد، انظروا الدعم، هذه المرأة المثالية، ولهذا اختارها النبي صلى الله عليه وسلم وعمرها أربعون سنة، وعمره خمس وعشرين، شاب في ريعان الشباب، وهي امرأة في آخر العمر، ويتزوجها صلى الله عليه وسلم، ويلغي الجانب النزوي والشهواني في حياته، وتبقى وحيدته حتى ماتت، لم يتزوج عليها، ومتى ماتت؟ بعد خمس وعشرين سنة من زواجها، ماتت وعمرها خمس وستون سنة، وعمر الرسول صلى الله عليه وسلم خمسون سنة، استمروا في حياتهم الزوجية خمسة وعشرون عاماً، ولما ماتت تزوج صلوات الله وسلامه عليه لماذا؟ لكبر عقلها، وعظمة نفسها، ولم تكن النواحي الجنسية والنزوات هذه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ذات أهمية، وإنما كان يغلب الجانب الإيماني، وكانت هي كذلك تغلب الجانب الإيماني فلا بد من مراعاة شعوره، وحسن العشرة معه، كما هي تريد ذلك.(65/18)
الاعتدال في الغيرة
من حقوقه عليها: أن تعتدل في الغيرة تغار لكن بنسبة، خصوصاً إذا كان الرجل معدِّداً؛ لأن الغيرة دائماً تكون من بعض النساء على الزوج تجاه الأخرى، فتغار، لا نقول: تترك الغيرة؛ لأن تركها مستحيل، فهي فطرة، لكن هذبي الغيرة، ولا تتعمقي في التجسس وفي التحسس، وفي التدقيق وفي المراقبة بعض الأزواج إذا دخل عليها زوجها من عند شريكتها الثانية، أول شيء تعمل له مسح وتفتيش من رأسه إلى قدمه ماذا فيه من عطر؟ وهل غير ملابسه أو لا؟ وهل اغتسل أو لا؟ وكيف نام ومتى؟ سبحان الله! هذا لا يجوز، هذا كشف لعورة امرأة مسلمة أخرى، ثم أيضاً فيه إزعاج لكِ أنت، لا تسألي عن أشياء إن تبد لك تسؤك، وإنما اتركي ذلك كله، تغارين في حدود تتعلق بك، أما أن تغاري وتتجاوزي الحدود إلى ما يتعلق بامرأة مثلك لها من الحق الشرعي مثلما لك؛ فهذا عدوان، وقد يترتب على هذا الطلاق.
وقد أوصى أحدهم ابنته فقال: إياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق، وما حصل كثير من المشاكل إلا بسبب الغيرة الغير منضبطة.(65/19)
حماية عرضه وماله وأولاده
من حقوقه عليها: حماية عرضه وماله وأولاده فإنها مؤتمنة على هذا، العرض أمانة ولا ينبغي لها أن تسمح بأن يدنس عرضه، أو أن يضيع شيء من ماله، أو أن تضيع أولاده، لماذا؟ لأنها مؤتمنة عليه والرجل لا يعلم، فإذا خانت هانت، وسقطت من عين الله، وحصل لها دمار في الدنيا والآخرة، إن الخيانة الزوجية -والعياذ بالله- من أسوأ ما يمكن، ويترتب عليها فساد في الدنيا والآخرة.(65/20)
عدم الخروج إلا بإذنه
من الحقوق أيضاً: عدم الخروج إلا بإذنه لماذا؟ لأنه صاحب القرار، المدير العام للأسرة، الموظف الآن هل يستطيع أن يخرج من غير إذن المدير؟ لا.
وإذا خرج من غير إذنه ماذا يحصل؟ وسأل عنه المدير: أين كنت؟ قال: خرجت، لماذا لم تستأذن؟ استعجلت ولم أجدك، سوف يخصم عليه، كذلك المرأة إذا أتى الرجل من الدوام وهي ليست في البيت، وقال لها: أين أنت؟ قالت: عند الجيران، سبحان الله! لماذا لم تستأذني؟ قالت: اتصلت بك ولا أحد يرد فلا تخرجي إلا بالإذن ليعرف الرجل أين أنتِ، أما أن يأتي إلى البيت ولا يدري أين أنت، يترتب هذا على ضياع الأسرة، فلا يجوز أن تخرج المرأة من بيتها إلا بإذن زوجها.
هذه هي مجمل الحقوق، وإلا فالتفصيل في هذه المسألة يحتاج إلى وقت كبير؛ لأنه مهم جداً وله علاقة بكل أسرة.(65/21)
أسباب أخرى للمشاكل الزوجية
نعود إلى أسباب المشاكل الزوجية:(65/22)
تدخل الأقارب والجيران في الخلافات الزوجية
من أسباب المشاكل الزوجية: تدخل الأقارب والجيران في الخلافات الزوجية البسيطة، وتصعيدها، وزيادتها، والمساهمة في نموها وكبرها، حتى تقضي على الأسرة، لكن من أين يأتي التدخل؟ يأتي الخلل من الزوج أو من الزوجة، فالزوج عندما يذهب يشتكي إلى أمه، أو إلى أبيه أو إلى أخيه، ويقول: زوجتي عملت وعملت، فماذا يقول الأب؟ يقول: لا تصلح لك، اتركها، نحن نعلم أنها سوف تعاملك هكذا، من يوم ما عرفناك وأنت رجل تداهن معها، لكن لو ضربتها وتعاملت معها بشدة وبعنف لصارت امرأة، فإن المرأة لا تصير امرأة إلا بالرجل الذي يضربها ويخبطها، ويقوم بشحنه، ثم يذهب إلى البيت ومن حين تقول له: السلام عليكم، قال: لا سلام ولا كلام، ثم يلطمها على وجهها، وماذا بعد؟ ترتب على هذا فساد العشرة، ومن الذي أفسد؟ أنت الذي أعلمت أباك.
أو يذهب يشكي إلى أمه، والأم دائماً ما تحب زوجة الولد، هذه طبيعة، تغار عليها وتكرهها ولو كانت من أحسن الناس، إلا من هدى الله، يوجد بعض البنات طيبة ومنصفة، لكن معظم العمات غمات، فإذا أتى يشكي إلى أمه قالت: تستحق؛ لأنك ما عرفت تتعامل معها من أول الأمر، ركبت عليك حتى أنك الآن تحتها، ولا تقول أنت إلا ما تقول هي حسناً وماذا أعمل يا أماه؟ قالت: اقلب لها المسألة الآن، اجعل صبيح يصير جني، وإذا قالت: شرق، قل: غرب، إذا قالت: قم، فاقعد، خالفها في كل شيء، فيرجع الرجل وهو مشحون بهذه الوصايا المغرضة التي تصدر عن عقل جاهل، فيتعامل مع زوجته بهذا الأسلوب؛ فتنفر منه زوجته، وتترك عشها، وتذهب إلى أهلها، وتمكث بائنة منه أو مطلقة مطرودة، أو عاصية وناشزاً عن طاعة زوجها، وهذا كله من تدخل الأقارب.
وكذلك المرأة قد تذهب وتشتكي إلى أهلها، تذهب لأمها وتقول: ضربني وعمل بي، فتشحنها أمها، أو تشتكي إلى أبيها فلا يجوز ولا ينبغي للرجل ولا للمرأة أن يكشف أحدهما سره لأهله ولا لأقاربه لماذا؟ لأنكم تختصمون الآن ثم تصطلحون آخر الليل، لكن إذا ذهبت المرأة تخبر أهلها، تولد في قلوب أهلها غيظ على الرجل، فالرجل يصطلح هو والمرأة وأبوها غضبان، يمكث سنة أو سنتين وهو غضبان وهم قد اصطلحوا في ذلك اليوم، فلا تخبر المرأة أهلها بما يحصل من خلاف بينها وبين زوجها؛ لأنه لا يتوقع في الغالب إلا تصعيد الخلاف، وأحياناً يكون هناك شواذ، وقد يكون الأب صالحاً، والأم صالحة، ويرى الولد أن زوجته فيها نوعٌ من الانحراف في التعامل فيذهب إلى أمها أو إلى أبيها لكن بشرط أن يكون قد عرف أن هذا الأب وهذه الأم عاقلة وصالحة وتخاف الله وتحرص على هذه الأسرة فلا مانع من أن يستعين بتوجيههم وأن يعرض المشكلة عليهم، أما إذا عرف أنهم من الطراز الثاني فلا يجوز؛ لأن هذا يؤدي إلى زيادة المشاكل.
كذلك بعض النساء تكشف مشاكلها لجارتها، فتملي عليها الجارة رأياً غير شرعي، فتفسد حياتها.
فعليك ألا تعلمي أحداً، حاولي أن تحلي المشكلة أنت بنفسك، ابحثي عن سبب المشكلة واقضي عليه، وبالتالي يزول الإشكال وتعود الحياة إلى وضعها الطبيعي، والمياه إلى مجاريها الطبيعية.(65/23)
عدم النظر إلى المحاسن والتركيز على الأخطاء
كذلك من الأسباب: عدم النظر إلى المحاسن، وتركيز النظر إلى الأخطاء فقط يفتح الرجل عينه على ما يحدث من خلل في المرأة، وهي تفتح عينها على ما يبدو من أخطاء أو سلبيات في الرجل، أما المحاسن فتهملها، وهو أيضاً يهملها، وبالتالي لا يرى إلا الشيء السيئ؛ فيتولد عن هذا كراهية للمرأة، وهذا مخالف للعدل، ومخالف للشرع، يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في صحيح البخاري: (لا يفرك مؤمنٌ مؤمنة -أي: لا يبغض مؤمن مؤمنة- إن كره منها خلقاً رضي منها آخر) هذا أمر بالتوازن والاعتدال في النظر، إذا نظرت إلى المرأة انظر إليها بميزان العدل، وإذا رأيت منها خلقاً سيئاً فانظر للخلق الطيب الذي فيها، فإنك إذا وضعت الحسنات بجوار السيئات ضاعت السيئات، أما إذا ألغيت الحسنات وضخمت السيئات ولم تر إلا السوء، وكذلك المرأة تنسى حسنات زوجها ولا ترى إلا السوء؛ استمر هذا السوء يكبر في نظرك، واستمر السوء يكبر في نظرها حتى يتولد منها البغضاء والكراهية والشحناء وبالتالي تسوء الحياة والعشرة الزوجية، فينبغي أن تنظر إلى المرأة وإلى محاسنها أولاً تنظر إلى أنها حافظة لعرضك جاء رجل يشكي امرأته إلى عمر بن الخطاب، فطرق الباب وإذا بزوجة عمر تتكلم على عمر، وعمر أمير المؤمنين، الرجل القوي الذي كانت الجن تهابه، الشيطان يمشي في طريق آخر إذا مشى عمر في طريق، وهذه المرأة لسانها حاد على أمير المؤمنين، والرجل جاء يريد أن يشتكي زوجته؛ لأنها كانت بذيئة اللسان، فلما سمع كلامها على أمير المؤمنين، وفتح الباب عمر وإذا بالرجل قد ولى، فدعاه وقال: [تعال ماذا بك؟ قال: لا شيء يا أمير المؤمنين، قال له: ما أتيت إلا لحاجة هات حاجتك، قال: يا أمير المؤمنين! جئت أشكو زوجتي إليك من بذاءة لسانها، فسمعت زوجتك تقول لك أكثر مما تقول زوجتي لي، فقلت: لي بأمير المؤمنين أسوة -يقول: لست بأحسن منك، سأصبر عليها- فقال له عمر رضي الله عنه: أما يرضيك أنها طاهية طعامي، وغاسلة ثوبي، ومربية ولدي، وقاضية حاجتي؟] أليست هذه حسنات للمرأة؟ من الذي يغسل ثوبك؟ من الذي يكنس بيتك؟ من يربي ولدك؟ من يقضي حاجتك الجنسية والطبيعية فيك إلا زوجتك؟ هذه رقيق في بيتك، ثم إذا حصل منها غلطة واحدة تلغي كل هذه الحسنات وتضخم هذا الخطأ!! يا أخي! غض الطرف عنها، سامحها فيه، انظر إلى حسناتها، هكذا ينبغي -أيها الإخوة- لأن المشاكل تنتهي، أما إذا جلست تحد النظر وتركز؛ فإن الأسرة سرعان ما تتهدم.
أذكر مرة من المرات وأنا في أبها جاءني رجل بعد صلاة المغرب وأنا في المسجد، فقال لي: يا شيخ! أفتني، قلت: ماذا عندك؟ قال: طلقت زوجتي ثلاثاً، قلت: لِمَ؟ وما الذي حصل؟ قال: أنا موظف عُزمت على الغداء في السودة مع زملائي، وأردت أن أخبرها في البيت أني معزوم فكرهت أن أخبرها؛ لأني لو أخبرتها لم تطبخ الطعام لأولادها، والمرأة من بالغ اهتمامها بزوجها إذا كان زوجها عندها تطبخ طعاماً جيداً، وإذا عرفت أنه معزوم، أو ذهب إلى أي مكان تعمل أي شيء، ليس مثل بعض النساء، إذا كان زوجها غائباً عملت أحسن طبخ، وقالت: خلينا نشبع اليوم، الزوج غائب، وإذا هو موجود عملت له أي شيء، لكن هذه امرأة صالحة، ولكن الرجل أخطأ، انتهى الدوام ولم يخبرها، على الأقل يجعلها تطبخ وقبل الدوام يقول لها وهي قد طبخت، تغدوا أنا معزوم، لكن الرجل نسي وركب سيارته مع زملائه، وذهب إلى السودة، وتغدى، وتمشى إلى غروب الشمس، والمسكينة في البيت انتظرت إلى أن انتهى الدوام ولم يأت بخبر، قامت الاحتمالات في رأسها لماذا الرجل لم يأتِ؟ يمكن حصل خلاف، أو حادث مروري، يمكن مرض، يمكن بالمستشفى، اتصلت بالشرطة، تسأل دوائر المرور، تسأل المستشفيات، أذن المغرب، لم تتغدَّ قال لها أولادها: وهي في غاية القلق، والرجل يتمشى ويتغدى، وليس مهتماً بها، فجاء ودخل البيت، ولما دخل كانت مغضبة، قال لها: السلام عليكم، فردت عليه بأسلوب جاف وقالت: وعليكم السلام، ثم جلس وهو غضبان وهي غضبانة، ويريد هو أي شيء يثير الغضب، فنظر في المجلس -هو الذي يخبرني هكذا- فإذا به يرى قطعة مرمية في المجلس فقال: لماذا ما كنستي المجلس؟ قالت: ما شاء الله عليك، عجيب والله ما قصرت! تحاسبنا على أننا قصرنا وما كنسنا المجلس ولا تحاسب نفسك أنك جالس من الصباح إلى الآن، لم تعلم أن معك عيالاً وأهلاً ولا اتصلت، قال: وما دخلك، أنا موظف عندكِ لازم عليَّ أن أستأذن منك؟! قالت: لا.
أنا في بيتك، أنا أم أولادك، كلمني أنك لن تأتي، نحن إلى الآن لم نتغدَّ، اتق الله، قال: أبداً ما لكِ دخل، قالت: إلا المهم كلمة منها وكلمة منه، ثم قام ولطمها ولطمته، كلمة بكلمة، ولطمة بلطمة، يركلها برجله، وتركله برجلها، ثم ماذا بقي عنده؟ بقي عنده (السلاح النووي) الذي لا يوجد معها وهو الطلاق وطلقها ثلاثاً، من أجل ماذا؟ من أجل قشة.(65/24)
سوء الظن من قبل الزوجين وفقدان الثقة
من الأسباب التي تؤدي إلى وقوع المشاكل الزوجية: سوء الظن من قبل الزوج؛ فيظن السوء دائماً بامرأته، أو من قبل الزوجة دائماً تسيء الظن، حتى تفقد الثقة ويفقد الثقة، وفقدان الثقة بين الزوجين من أعظم عوامل تدمير الأسرة، لا بد أن يعمل كل زوج وكل زوجة على أن يعمق الثقة في قلب الآخر حتى يكون أهلاً لها، لا ينبغي أن تخفي المرأة عن زوجها شيئاً، أو أن تعمل في غيبته شيئاً؛ لأن بناء الثقة يحتاج إلى سنين، لكن هدمها مرة واحدة فقط، وإذا جرب الرجل على امرأته خللاً واحداً، وخيانة واحدة في مال أو عرض أو شيء هدمت كل ثقة في نفسها، ولو تظل تبني سنين، ويقول: المؤمن لا يلدغ من جحرٍ مرتين، أنتِ قد عملتيها، وكذلك المرأة إذا فقدت الثقة في زوجها لا تأمنه في حال من الأحوال، فعلى كل من الزوج والزوجة أن يولد الثقة في قلب الآخر بالوضوح وعدم إخفاء أي شيء، حتى لو أخطأ الإنسان يعلم، وتقول: أنا أخطأت وعملت كذا ولا أخفيك شيئاً، لماذا؟ من أجل أن يعرف أن ظاهرها وباطنها سواء، ما لها صورة جميلة وفي الوراء (عفريتة) ثم لا تحملها على سوء ظن؛ لأن الله نهى عن الظن فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] وفي الحديث: (لا تظنن بأخيك ظناً سيئاً وأنت تجد له في الخير محملاً)، الأصل في الزوجة وفي الزوج البراءة، والتعامل على حسن الظن حتى لا يقع خلاف الأصل، أما ابتداءً يسيء الظن بها فلا، وهذا مما يولد المشكلة بين الزوجة والزوج.(65/25)
عدم معرفة الوسائل الشرعية في علاج الخلافات
أيضاً من الأسباب: عدم معرفة الوسائل الشرعية في علاج الخلافات الطفيفة التي تحصل في الأسرة؛ فيتبادر إلى ذهن الزوج والزوجة عند حدوث أي خلل إلى الطلاق، لا يرى علاجاً إلا الطلاق، ولا ترى هي علاجاً إلا أن تقول: طلقني، أو اذهب بي إلى أهلي، وهذا خطأ، فإن الطلاق آخر مرحلة، والله سبحانه وتعالى قد جعل سبع وسائل لعلاج الخلافات الزوجية قبل الطلاق: أولاً: قال عز وجل: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء:34] التعليم، إذا رأيت أنها عاصية فعلمها، إذا لم ينفع التعليم: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34] وسيلة ثانية: إذا لم ينفع التعليم توليها ظهرك وتهجرها في المضجع، تنام في مكان غير الذي الذي تنام فيه، في غرفة واحدة لكن في فراشين مختلفين، ثم إذا لم ينفع هذا: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] ضرباً غير مبرح ويجتنب الوجه، ولا يسيل دماً ولا يكسر عظماً وإنما مثل اللطمة في غير الوجه أو اللكمة أو ما شابهها، ثم إذا ما نفعت هذه الثلاث الوسائل: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] إذا كان الخلاف مستمراً فنأتي بشخص من هنا وشخص من هنا، ويأتون بالمشكلة ويحلونها، وإذا ما نفعت هذه مرة فيطلق الرجل الطلقة الأولى، لكن بشروطها: أن تكون واحدة، ثم في طهر لم يأتها فيه، لا يطلقها وهي حائض، ولا يطلقها وهي طاهرة لكن قد جامعها، وإذا حصل الطلاق بهذا وقع لكنه آثم؛ لأنه طلاق مبتدع، وطلاق السنة: أن يطلق الرجل في طهر لم يأتها فيه طلقة واحدة، أعطاها فرصة، ثم رأى أن الوضع يمكن أن يصلح راجعها، ثم إذا لم ينفع ذلك يطلق الثانية، وانتهت الحياة الزوجية ولم تعد تصلح إلا مرة واحدة: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَان} [البقرة:229] {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} [النساء:130] أما أن يأتي شاب تزوج قريباً، وبمجرد خلل بسيط طلق، أو قالت: طلقني، قال: خذي، فلا يجوز أن يلجأ الرجل إلى الطلاق ابتداءً، ولا يجوز للمرأة أن تسأل الرجل الطلاق ابتداءً، بل الطلاق آخر الحلول، وينبغي أن نسلك الطرق الشرعية في حل الخلافات الزوجية دون اللجوء إلى الطلاق إلا في الظروف الضيقة جداً، والتي تنتهي به آخر الحلول وبالتالي نضمن -أيها الإخوة- سعادة الأسر وسلامتها، واكتمال بنيانها، ودوامها واستمرارها، وعدم تشتت أبنائها وبناتها؛ لأن معظم المشاكل -أيها الإخوة- ومعظم الانحرافات التي تلاحظ الآن عند الشباب، في المدارس، وفي السجون، وفي دور الملاحظة بالبحث والتقصي؛ وجد أن سبب الانحرافات ناتجة عن سوء العشرة في البيوت، فالبيت الذي فيه الأب يلعن المرأة ويضربها ويسيء عشرتها، ينشأ الأولاد على هذا الخلق، والبيت الذي تكثر فيه الخلافات تتولد في نفوس الأولاد العقد النفسية، والمشاكل الاجتماعية، لكن البيت المتفاهم تجد الأولاد أذكياء، لماذا؟ لأنهم لا يعرفون مشاكل، ولا يعرفون خلافات، ولا يعرفون العقد، تأتي وهم متفوقون في الدراسة، لكن يأتي الطالب في المدرسة ولا يعرف شيئاً، مسكين مشتت، خرج من البيت وأبوه وأمه يتضاربان، أو يتلاعنان، فيذهب إلى المدرسة ويقول: ماذا أعمل؟ أمي وأبي يعملون كذا، وينشأ عنده مرض في نفسه، فتنسد نفسه عن الدراسة، ثم ربما يقع ضحية للإجرام، ويقع في الفساد بأسباب تلك المشاكل.
وهناك أسر تحطمت، فالولد في بيت أبيه ليس مع أمه، أو عند أمه وليس مع أبيه، فلا يجد الولد عند أبيه أماً تحنو عليه، ولا تجد البنت عند أمها أباً يحميها ويشفق عليها، فتسلك سلوك الانحراف، أو يسلك الولد سلوك الانحراف بأسباب تصدع بنيان الأسرة بوجود الطلاق.
فحتى نحمي -أيها الإخوة- مجتمعنا، ونحمي أبناءنا وبناتنا وأفرادنا علينا أن نحمي أسرنا، وأن نتعامل مع أزواجنا وفق آداب الشرع، وأن نبحث عن المشاكل وأسبابها، ثم نعالجها بالعلاج الشرعي.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الإيمان القوي، وأن يوفقنا للعمل الصالح، كما نسأله سبحانه وتعالى أن يديم علينا نعمة الدين والأمن والطمأنينة والاستقرار، ونسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يوفق ولاة أمورنا وعلماءنا ودعاتنا وشبابنا وشاباتنا وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(65/26)
الأسئلة(65/27)
ضابط حرية اختيار المرأة في قبول الزوج أو رده
السؤال
هناك كثيرٌ من أولياء البنات يعطون بناتهم كامل حرية الاختيار، حتى ولو كان اختيارها خاطئاً في قبول الزوج أو رده، فما تعليقكم على ذلك؟
الجواب
جزى الله الأخ خيراً حين استدرك عليَّ مثل هذا الأمر، فحينما نقول: إن المرأة لها حرية الاختيار للزوج الذي تريده؛ لا نعني أن نلغي السلطة والمسئولية التي أعطاها الشرع للوالد وللولي في توجيه المرأة، وفي تصحيح اختيارها حتى لا تختار إلا الزوج الصالح، لكننا نعني أن نعطي المرأة حقها في اختيار من تريد أن يكون شريكاً لها بشرط أن يكون صالحاً، أما إذا اختارت المرأة رجلاً سيئاً -والعياذ بالله- قليل الدين، قاطعاً للصلاة، سكيراً عربيداً، وصاحب مخدرات، عاقاً فاجراً، وتأتي وتقول: أنا أريده! لا وألف لا! فلماذا الولي موجود؟ إنما إذا كان رجلاً متديناً، ورجلاً صالحاً، وهي تريده عندما تقدم لها، لكن أبوها لا يريده لسبب من الأسباب وليس سبباً شرعياً وإنما لمجرد الهوى والتسلط، فهنا لا يجوز له أن يمنعها، ويجوز لها أن تنقل ولايتها إلى الحاكم الشرعي.(65/28)
أسباب العنوسة وعلاجها
السؤال
تكثر العنوسة في بيوت المسلمين، فما هو توجيهكم في ذلك؟ وما هو السبب في ظنكم وفقكم الله؟
الجواب
العنوسة من المشاكل الاجتماعية الخطيرة التي وقعت في مجتمعنا، ولو اطلعتم على الأرقام المذهلة التي تظهر عند المختصين في الاستفتاءات لتعجبتم كثيراً، وسبب العنوسة يتحمله عدة جهات: أولاً: الأب؛ فإن من الآباء من يرد الخاطب، إما لرغبته في راتب البنت، أو لبحثه عن أغراض أخرى حتى يفوتها قطار الزواج.
ثانياً: البنت نفسها؛ فإن بعض البنات تغالي في طلب المواصفات، وتضع شروطاً خيالية لا يمكن أن تتوفر لواحد في الأرض تريد واحداً طويلاً بمقدار، لا هو طويل ولا قصير، ولا متين، ولا هو نحيف، ولا أبيض ولا أسود، ولا أشقر!! أين نفصل لها هذا؟! في أي مصنع؟! فلا تجد، وكلما أتى شخص قالت: لا أريده، إلى أن يفوتها قطار الزواج، ثم بعد ذلك تنتظر ولا يأتيها شخص، حتى أن بعضهن تعلن في الصحف والمجلات فلا يأتيها أحد، فالزواج قسمة ونصيب، والخاطب ليس (شيكاً) في الجيب إذا أردتيه أخرجتيه، إذا أتى النصيب لا ترديه، وإذا توفر فيه الشرط الشرعي وهو الدين فلا ترديه، لماذا؟ (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).
السبب الثالث: أحياناً تكون الأم؛ فكلما جاء خاطب فالأب موافق، والبنت موافقة، وإذا بالأم تقول: لا والله لا تنكحه، لماذا؟ أريد شخصاً آخر، فتتعطل البنت.
وأحياناً الإخوان يعترضون، وأحياناً بعض الأقارب، وأحياناً الزميلات، تشاورهن فيقلن لها: لا.
فيؤدي هذا إلى فوات المسألة.
فلا يجوز ولا ينبغي أن يتدخل أحد، إذا جاء الخاطب فلنسأل عن المعيار الأول صاحب دين، الحمد لله، إن توفر شيء من الباقي فالحمد لله، وإن لم فالدين والأمانة يكفيان، النبي صلى الله عليه وسلم زوج بعض الصحابة بخاتم، وزوج بالقرآن، وزوج جليبيب وليس عنده شيء، عبد أسود زوجه وليس عنده شيء، قال له: (اذهب إلى آل فلان وقل: أنا رسول رسولِ الله، زوجوني فزوجوه) وليس عنده شيء، لماذا؟ لأنه رجل صاحب دين، وفي الغزوة قتل سبعة وأخذه الرسول وقال: (جليبيب مني وأنا منه)، فقد رأى سبعة مجندلين عند رأسه، فالمسألة مسألة دين
الدين رأس المال فاستمسك به فضياعه من أعظم الخسرانِ
والعنوسة -أيها الإخوة- مشكلة يترتب عليها أحد أمرين: إن كانت البنت دينة، وفيها خير، وتحمي عرضها وعرض أهلها وبلغت سن العنوسة فإنها تتحطم نفسياً، وتعيش في كآبة، وفي حرمان، ترى النساء تزوجن، وعندهن أولاد، وعندهن بيوت، وهي محرومة من نعمة الولد، ومن نعمة الزوج، ومن نعمة الأسرة، ومن نعمة الحياة، فيصير عندها مرض، وبعضهن تموت قهراً.
وإن لم يكن عندها دين فتحت باباً للشر، ووقعت في الرذيلة، وحطمت عرضها وعرض أهلها وعرض قبيلتها -والعياذ بالله- وأفسدت حياتها وآخرتها، فنحن لا نريد العنوسة، إذا جاءك الخاطب فزوجه، وإذا لم يأتك أحد فابحث أنت إذا كنت شهماً، عمر وهو أغير الناس كان يبحث لـ حفصة حتى زوجها بالنبي صلى الله عليه وسلم، ليس عاراً ولا عيباً عليك أن تبحث لابنتك؛ لأنها فلذة كبدك، وقطعة منك، تبحث عن سعادتها، ودائماً الثمرة تقطف عند النضج، والمرأة متى تنضج؟ إذا بلغت خمس عشرة وحاضت أصبحت قابلة للزواج، ليس ضرورياً أن تكمل التعليم، تكمل التعليم وهي مع زوجها، وإذا تزوجت فإنها تتعلم وتتفوق؛ لأن معها زوجاً يحميها ويحفظها ويأخذها، لكن أن تتركها إلى أن يصير عمرها خمساً وعشرين أو ثلاثين أو خمساً وثلاثين أو أربعين فإنها مصيبة.
وأذكر من القصص أن رجلاً كان يرد الخُطّاب عن بنته؛ لأنها توظفت ويريد أن يستلم راتبها، حتى بلغت خمساً وثلاثين سنة، ومرض الرجل وأدخل المستشفى، وعندما أتت لتزوره مع أهله وهو يلفظ أنفاسه أدرك وأحس بجريمته نحوها، فقال لها: يا ابنتي! قالت: نعم.
قال: سامحيني، قالت: الله يلهب عظامك! ودعت عليه، قال: قولي لا إله إلا الله، قالت: نعم.
حرمتني نعمة الحياة، خطبت وعمري عشرون، ولو أنك زوجتني وعمري عشرون لكان عندي ولد الآن عمره خمس عشرة سنة، يقوم بشئوني بعد أن تموت أنت، والآن تموت وأنا لا أحد يتزوجني، إن جلست جلست معطلة، وإن ذهبت عند إخواني صرت خادمة لزوجاتهم، وإن ذهبت عند أخواتي صرت عبئاً عليهن، أين أذهب؟ ثم قامت تبكي حتى لفظ أنفاسه فلماذا -يا أخي- تعرض نفسك وتعرض ابنتك لهذا الكلام؟ دعها تتزوج واجعلها تبتسم، ولا تغال في مهرها، ولا تكلف على الزوج، بل نقول: زوجوهم وأعطوهم، الله يبارك فيه الذي سوف يستر عرضك ويأخذ منك هذا الحمل.(65/29)
الحد الأدنى الذي يقبل من المرأة في الالتزام
السؤال
نخبرك أننا نحبك في الله، وسؤالي: ما هو الحد الأدنى الذي يقبل من المرأة في الالتزام؟ وهل يطلق الرجل زوجته إذا كانت حائلاً بينه وبين الدعوة إلى الله؟
الجواب
أولاً: أحبك الله كما أحببتني، وأسأل الله أن يجمعنا وإياكم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ببركة الحب فيه.
ثانياً: الحد الأدنى: القيام بالفرائض والأركان، والبعد عن المحرمات والكبائر، هذا الحد الأدنى، أما قضية الكمال في المرأة فهذا أمر نسبي، إذا وجد الإنسان القوّامة الصوّامة الدّاعية الذّاكرة فهذا طيب، لكن ما دامت تصلي خمسها، وتصوم شهرها، وتحفظ فرجها، وتطيع بعلها، فهذا هو الحد الأدنى في المرأة، أما المرأة التي لا تعين زوجها على الدعوة فلا ينبغي له أن يسعى إلى طلاقها، بل عليه أن يدعو إلى الله سبحانه وتعالى ويدعوها هي، أما أن يطلقها لأنها تحول بينه وبين الدعوة فلا، لا يطيعها في أن يمتنع عن الدعوة، وأيضاً لا يغلب جانب الدعوة على حقوقها؛ لأن من الأزواج من تستحوذ الدعوة على كل وقته ولا يعطي لزوجته شيئاً، فهذا جور وظلم (إن لنفسك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، فآتِ كل ذي حقٍ حقه) الدعوة لها حق فأعطها حقها، لكن زوجتك لها حق، إلا إذا أصبحت مثلك في الفهم والوعي والاحتساب فتقول: اذهب الله يعينك، وأحتسب خروجك عند الله، الضرر حاصل ولكن أضحي بنفسي ومصلحتي ما دمت أعرف أنك ستذهب في طاعة وتذهب إلى الدعوة، أما إذا قالت: (لا يا ابن الحلال)! أريدك أن تجلس عندي، فأعطها حقها، وكم حقها؟ من كل أربع ليالٍ ليلة، اجعل ثلاث ليالٍ للدعوة وليلة لها.(65/30)
حكم من قال عند ذكر المرأة: أكرمكم الله! ونحوها
السؤال
ما رأيكم في من يقول عند ذكر المرأة: أكرمكم الله؟
الجواب
هذا جاهل وما أظن أن هذا الصنف موجود الآن، وإن كنا نسمع أن بعضهم إذا ذكرت المرأة قال: أعزكم الله، أكرمكم الله! أكرمكم الله من ماذا؟! أنت من أين أتيت أصلاً؟! من أين خرجت إلا من أنثى؟! هذه التي تقول عنها: أكرمكم الله هي أمك، هي ابنتك، هي زوجتك، هي أختك، المرأة شقيقة الرجل، لماذا تستعلي؟ أما تعلم أن بعض النساء تعمل عمل مليون رجل؟! الله سبحانه وتعالى أثنى على نساء فقال: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12] وقال: {امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] بعض النساء تعمل عمل ملايين من البشر، فلا نقول عند ذكر المرأة: أعزك الله! أو أكرمك الله! بل نفخر بالنساء الصالحات الدينات المؤمنات، وندعو للغافلات والضالات أن يهديهن الله.(65/31)
نصيحة بعدم المغالاة في المهور
السؤال
أنا شاب أريد الزواج ولكن شروط القبيلة صعبة، وأنا مطالب بمهر بما يعادل مائة وخمسين ألف ريال، فما توجيهكم لي حول مشكلتي هذه؟ وما توجيهكم لأولئك القبائل؟
الجواب
توجيهي لك أن تذهب إلى غير القبيلة، لا تتزوج منهم، هؤلاء يريدون مائة وخمسين دعهم.
وأما بالنسبة للقيبلة فأقول: اتقوا الله في بناتكم، لماذا مائة وخمساون؟ هي سيارة أو أرضية أو عمارة! الدية الشرعية خمسون ألفاً، دية المرأة نصف دية الرجل، فلماذا مائة وخمسون؟! ثم هذا المسكين من أين يأتي بمائة وخمسين؟! يقع تحت طائلة الديون، ويظل مديوناً مكسوراً قلبه طوال حياته من أجل هذه البنت! ثم هل يتصور الولي الذي يطلب مائة وخمسين أنه يأكل حلالاً؟! لا يوجد في مهر المرأة بركة؛ لأنه حرام، ولا يجوز أن يأكله الزوج ولا الولي، الله يقول: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] فمهرها لها، لماذا تأخذ مهرها أنت؟ من الذي تزوج بك أنت حتى تأخذ المهر؟! المهر للبنت، طيب الله خاطرها بهذا المهر، فلا تأكله أنت، ولا تغال في مهر البنت، وليس في مهر البنت بركة.(65/32)
نصيحة لمن يدعو على أولاده بالشر
السؤال
معي زوجة طيبة ولكنها تدعو على أولادي بدعاءٍ شر، فما نصيحتكم لها وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
من الأخطاء الشائعة عند الرجل وعند المرأة الدعاء على الأولاد، أو على النفس، أو على المال، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا يدع أحدكم على أهلٍ ولا ولد ولا مال؛ فقد يصادف باباً مستجاباً) الإنسان إذا دعا على ولده، أو المرأة إذا دعت على عيالها هل هي صادقة؟ ليست صادقة، تود أن الشوكة التي في رجله في عينها، لكن من باب الغضب تقول: الله يهلكك، الله يكسر ظهرك، الله يعمي بصرك، الله أكبر عليك، وهي ليست صادقة، وإذا استجاب الله عز وجل ماذا يكون حالها؟ إحدى النساء تمسك ولدها وتقول: لا تخرج، وهو يريد أن يخرج، ورفض إلا أن يخرج، فقالت: الله يأخذ روحك، فخرج من الباب والسيارة أمامه فصدمته ومات، فسقطت أمه على الأرض مغشياً عليها وهي ترى المنظر، وذهلت وحملت إلى المستشفى وجلست في الإنعاش، ثم لما أفاقت قالت: أنا الذي قتلت ولدي، قالوا: كيف؟ قالت: قلت: الله يأخذ روحك، فأخذ الله روحه، استجاب الله الدعوة.
فلا تدعُ عليه، بل ادع له، بدل الله يأخذ روحك، الله يوفقك، لكن بعض الناس لا يهدأ قلبه إلا إذا دعا بالشر، فعليك أن تقول: الله يحفظك، الله يوفقك، الله يسعدك، الله يشرح صدرك، وغيرها من الدعوات، حتى في الصلاة إذا أقمت ولدك لا تقل: قم الله يهلكك! قم الله ينتقم منك! قل: الله يهديك! قم الله يوفقك! قم الله يشرح صدرك! قم الله يعينك! الكلمة الطيبة والخبيثة سهلة النطق، لكن تلك خير وتلك شر، فانتبه لنفسك ولا تدع إلا بخير.
يخبرني شخص -وهذه القصة فيها عظة وعبرة وأنا أكررها، يخبرني أن له ولداً باراً تقياً ملتزماً متديناً، وهو يدرس في الجامعة وكان يذاكر دروسه حتى تعب، وحينما تعب أحس برغبة في أن يمشي للنزهة، فجاء إلى أبيه ولا يستطيع أن يخرج بغير إذن أبيه من صلاحه، وهو لابس ثوب النوم، وقال: يا أبي أريد أن أتنزه في البلد، لقد تعبت من المذاكرة، قال له أبوه من حبه له: يا ولدي لا تخرج، الليل ليس في خروجه خير، فلا تخرج في هذا الوقت، الساعة الآن الثانية عشرة من الليل، قد تأتيك مصيبة، اجلس يا ولدي، فانصاع الولد ورجع وقلبه مغير وذهب إلى أمه وقال: انظري يا أمي، طلبت من أبي أن أخرج فرفض أن يسمح لي، فقومي وادخلي على أبي، فقالت الأم للأب: حطمت الولد، عقّدت الولد، كلما طلب منك الخروج رفضت، يريد أن يخرج فلماذا تمنعه؟ وما زالت به حتى جعلته يوافق غصباً، فوافق وقال: دعيه يذهب الله لا يرده، بهذا النص، يقول: والله إنها خرجت من فمي وكأنها رصاصة، عرفت أنها وقعت، لكنه ذهب وركب سيارته بثوب النوم وخرج، فانتظر الأب نصف ساعة، وساعتين، وثلاث، أذن للفجر وما أتى الولد، خرج يصلي، نظر في المسجد فما رآه، وهو كان يراه كل وقت، ومن المسجد ركب سيارته وذهب إلى الشرطة يسأل، واشتغلت الهواتف والاتصالات بين مراكز الشرطة والمرور، فقالوا: هناك حوادث آخر الليل فيها وفيات، أين هم؟ في المستشفى، اذهب إلى (الثلاجة) فذهب إلى (الثلاجة) يبحث وفتح الباب وإذا ولده آخر واحد في (الثلاجة) بثوبه الذي خرج وهو يراه، يقول: لما خرج عرفت أني الذي قتلته؛ لأني دعوت عليه أن الله لا يرده ولم يرده ربي فعلاً، يقول: فلا أزال أذكر هذا حتى أموت، لا أنساه، يقول لي هذا الكلام والدمع يقطر من عينيه، يقول: يا ليتني ما قلتها، لكن هو الذي حملني على أن أقولها.
فبعض الأبناء يحمل أباه بالعناد إلى أن يدعو عليه، فلا تحمل أباك فيدعو عليك، وأنت يا أيها الأب: إذا صار ولدك عنيداًَ لا تكن أيضاً جاهلاً فتدعو عليه، كان المفروض أن تقول: الله يردك، هيا اذهب الله يحفظك، لكن الله لا يردك، وأنت صادق، وقعت عند الله واستجاب الله عز وجل، فلا ينبغي للمرأة ولا للرجل الدعاء على الأولاد أو على الأنفس أو على الأموال.(65/33)
حكم عدم النفقة على الزوجة لأن عندها راتباً
السؤال
ما رأيك في من لا ينفق على زوجته لاستلامها الراتب؟ وما رأيك في من يجلس عاطلاً لشغل زوجته؟
الجواب
أولاً: كونه لا ينفق عليها لأن عندها راتب لا يجوز له، لا بد أن ينفق، إلا إذا تطوعت هي وتبرعت وصارت كريمة، وقالت: طلباتي عليَّ، فهذا طيب وجزاها الله خيراً، لكن إذا قالت: لا.
فلازم عليه أنه ينفق؛ لأن الله يقول: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34].
أما من يجلس عاطلاً وهو قادر على العمل فإن هذا نقص فيه ولا شك، الرجل قوَّام، والمرأة إذا أصبحت تصرف عليك فإنك تفقد قوامتك، إذا كنت لا تستطيع أن تصرف شيئاً، لم تعد لك سلطة، ولم تعد أنت الرجل، تكد عليك حتى لقمتك التي في فمك هي منها! أما إذا غلب على أمره وما وجد فرصة للعمل، فإن بعض الرجال يبحث عن فرصة لكنه لا يجد وعنده قدرة، ويطرق أبواب الرزق ويذهب في كل مجال لكن ضيق عليه ولم يجد مجالاً؛ فلا بأس مع الحرص والقدرة على البحث عن أي عمل حتى يستغني ويكون في بيته عزيزاً؛ لأن المرأة تمنُّ، طبيعة المرأة أنها تمنُّ على الزوج مهما كان، في يوم من الأيام تحصل أي مشكلة فتقول: فعلت لك كذا وكذا، نسأل الله الستر لماذا؟ تمنُّ بحقها، ومن حقها أنها تمنُّ.(65/34)
فوائد العلم بأشراط الساعة
إن الإيمان بالساعة وقيامها؛ وما يسبقها من أشراط وعلامات، لهو من الأسباب التي تدعو المسلم إلى العمل الصالح، وابتغاء مرضاة الله عز وجل والحذر من أليم عقابه، وقد بين الشيخ في هذه المادة الفوائد المتحققة من العلم والتصديق بأشراط الساعة مبيناً أن ذلك يحقق جزءاً من الإيمان بالله ورسوله، كما أنه يعالج صفة فطرية في الإنسان تتمثل في حبه وتطلعه إلى استشراف المستقبل، بالإضافة إلى ما يترتب على كل ذلك من نيل الأجر في الآخرة.(66/1)
أقسام الناس في اليوم الآخر
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: لما كانت قضية الإيمان بالبعث من أبرز وأهم قضايا العقيدة استلزم الأمر أن تناقش وأن تؤكد وتؤصل في معظم زمن الرسالة، والزمن الذي قضاه الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوة الأمة كان ثلاثاً وعشرين سنة، قضى منها ثلاث عشرة سنة في تثبيت العقيدة في قلوب المؤمنين ومن أبرز قضاياها بعد قضية التوحيد قضية الإيمان بالبعث؛ لأنه إذا ما استقر في يقين الإنسان، وثبت في قلبه أنه مؤاخذٌ ومجزيٌ على كل عملٍ يعمله استقام سلوكه، وانضبطت تصرفاته؛ لأن من أدرك وقوع عقوبة على شيء خاطئ ارتدع عن هذا الشيء خوفاً من العقوبة، ومن أدرك حصول جائزة على شيء صائب اندفع رغبةً في هذه الجائزة.(66/2)
نتيجة الكدح الإنساني
الإيمان بالبعث يشمل الأمرين، زجر فاعل المخالفات بالنار، وحفز فاعل الطاعات بالجنة، فكلا الأمرين متحقق في الإيمان بالبعث، والإنسان في هذه الدنيا يعمل ولا بد له أن يعمل، وسمى الله العمل كدحاً، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الإنشقاق:6] لا يوجد أحد يقول: أنا لن أعمل، لا بد أن تعمل، وسوف تجد ما تعمل، إن لم تعمل لله عملت للشيطان، وإن لم تعمل خيراً عملت شراً، وإن لم تشغل نفسك بالحق أشغلتك بالباطل، كذلك لا بد أن تنظر، وهل يستطيع الإنسان أن يعيش بغير نظر؟ لابد أن ينظر، ولكن إما أن ينظر إلى ما أحل الله أو ما حرم الله، ولا بد أن يسمع، ولكن إما أن يسمع ما أحل الله أو ما حرم الله، ولا بد أن يأكل، ويبطش، ويسير في الأرض، وينكح، وكل هذه المتطلبات ضرورية للإنسان، وإذا لم يعملها معناه أن الإنسان غير موجود.
من هو الذي لا يستطيع أن يأكل ولا يشرب ولا ينكح ولا يبصر؟ إنه الميت، أما الحي فلا بد له من عمل، ولهذا قال الله: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] النداء هنا للإنسان، والألف واللام هنا تسمى لام الجنس {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ} [الانشقاق:6] جنس الإنسان {إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ} [الانشقاق:6] أي: أنك ستعمل عملاً، وسوف تقدم بهذا العمل إلى ربك، وسوف تلقى نتيجة هذا العمل.(66/3)
القسم الأول: فريق الجنة
حينما ينفصل الناس يوم القيامة ويقسمون إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، يتميز الناس على ضوء عملهم في هذه الدنيا {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة:19] أخذ كتابه بيمينه استحقاقاً وبناءً على عمله الذي أهّله لأخذ الشهادة باليمين؛ لأنه من أهل اليمين، وكان يسير في الخط اليمين، عينه وأذنه إلى اليمين في الحلال، لسانه ويده ورجله وبطنه وفرجه كلها متجهة إلى الحلال، ولا يمكن أن يطأ بها إلا في الحلال، لا يترك لله أمراً، ولا يرتكب له نهياً، فهذا أهل نفسه وعمل أسباباً تؤهله ليكون من أصحاب اليمين، قال: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:7 - 8] اللهم إنا نسألك من فضلك، لا أعظم من يوم تحاسب فيه حساباً يسيراً، يعني تمشى أمورك؛ لأنك من أهل اليمين: {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [الانشقاق:9] أين أهلك؟ أهلك في الجنة، ليس أهلك في الدنيا، الأهل الحقيقيون هم الذين سوف يقدم عليهم المؤمن في الجنة، فإن كانوا أهله في الدنيا من أهل الإيمان فهم سواء، ويجتمع بهم في الدار الأخرى كما اجتمعوا به في الدار الأولى، وإن لم يكونوا من أهله في الدنيا كأن تكون أمه سيئة، أو أبوه كافراً، أو زوجته -والعياذ بالله- فاسقة وخبيثة؛ فإن الله يبدله في الجنة بأهلٍ خير من أهله حور عين وولدان مخلدون نعيم لا يتصوره العقل {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [الانشقاق:9] فرحاً مغتبطاً كفرح ذلك الطالب الذي يتخرج من الجامعة أو الكلية ويحصل على الرتبة ويأتي ليخبر أمه وأباه وزوجته وأولاده -إذا كان قد تزوج- كيف وضعه؟ مسرور {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [الانشقاق:9] هذا هو الفريق الأول.(66/4)
القسم الثاني: فريق النار
الفريق الثاني: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق:10] لا يأخذه باليمين وإنما يأخذه مقلوباً؛ لأنه كان مقلوباً، كان يمشي للوراء، ولهذا ورد في الحديث في السنن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أقواماً يوم القيامة يأتون إلى الحوض فتردهم الملائكة وتطردهم منه، يذادون كما تذاد الإبل من حوض الماء، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أمتي أمتي! -يشفع فيهم الرسول ويقول: دعوهم يشربون هؤلاء مني- فيقال: يا محمد! إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك؟ إنهم لا زالوا يرجعون عن دينهم القهقرا) لا يسيرون إلى الأمام وإنما إلى الخلف، تجد أكثر الناس -والعياذ بالله- من الذين محقت بركة أعمارهم يتقدمون في الدنيا ويتأخرون في الدين، فلو أجريت لأحدهم مقايسة في أوضاعه المادية، والاجتماعية، والزوجية، تجده يسير إلى الأحسن، بعد سنة راتبه زاد، ورتبته ارتفعت، وأولاده كثروا، وسيارته جددها، وعمارته بناها، وفرشه غيره، كل شيء تغير في حياته إلى الأفضل، لكن اسأله في الدين تجده يرجع إلى الخلف إلا من هدى الله ممن هداهم الله وساروا إلى الأمام.
فهؤلاء الذين يأخذون كتبهم من وراء ظهورهم {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً} [الانشقاق:10 - 11] والدعاء بالثبور هو: أن يدعو الإنسان على نفسه بأن يثبره الله في كل مصير؛ لأن المصيبة ليست سهلة، أن يُقاد الإنسان إلى النار مصيبة ليس بعدها مصيبة: {وَيَصْلَى سَعِيراً} [الانشقاق:12] لماذا؟ قال الله: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [الانشقاق:13] كان مرتاحاً على الدوام، بعكس المؤمن ليس مسروراً في الدنيا بل حزين، يقول الله في المؤمنين أنهم يقولون: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] المؤمن في قلبه مثل النار من الخوف من الله، الناس يأكلون بكثرة وهو لا يأكل إلا قليلاً، وينامون بارتياح وهو في نومه غير مرتاح، ويتمتعون في الدنيا وقلبه في الآخرة، يعيش بمشاعره في الآخرة، ولذا كلما تذكر الآخرة شب في قلبه مثل النار {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] وأهل الإيمان لا يطمئنون ولا يرتاحون إلا إذا قيل لهم عند الموت: {يَا َيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:27 - 28] هنا يقولون: الحمد لله نجحنا.
أما ذاك فمسرور {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [الانشقاق:13].(66/5)
أثر الإيمان بالبعث والنشور على الإنسان
تجد العاصي ليس عليه قيد، ولا شرط، ولا أمر، يذهب إلى الدوام متى ما يريد، ويتغدى من كل ما لذ وطاب، ثم ينتقل إلى غرفة نومه لينام إلى الساعة الرابعة والنصف أو الخامسة بدون صلاة عصر، ثم يستيقظ ليجد أمامه الشاي والقهوة والمكسرات والخيرات ليأكل من نعم الله، ثم يركب سيارته ليقوم بجولة على المنتزهات في هذا الجو الجميل وهذه البلاد الآمنة المباركة، ثم يعود في الساعة الثامنة أو الثامنة والنصف ليتناول طعام العشاء، ثم يذهب في سهرةٍ يقتل فيها ليله بالورق أو بالأغاني أو بالأفلام أو بالتمشيات إلى الساعة الثانية أو الواحدة بعد منتصف الليل، ثم يذهب لينام إلى الساعة التاسعة، فهذا مبسوط مسرور، لكن بعد هذا البرنامج مواقف يشيب منها شعر رأسه، يتمنى أنه ما عرف هذه الحياة {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [الانشقاق:13] ما كان يحزن ولا يخاف من الله، ولا يذكر القبر وظلمته، ولا الصراط وحدته، ولا الموقف وهيبته، ولا النار والعذاب وإنما يذكر شهواته وملذاته {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [الانشقاق:13] ثم جاء السبب الكبير قال الله: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق:14] هذا هو السبب.
والشاهد من هذا الكلام كله: أنه لو اعتقد وتيقن هذا الغِر أنه لن يرجع إلى الله والله لو آمن بأنه سيرجع ما ترك الصلاة ولا الزكاة، وما ملأ بطنه من الحرام، ولا سمع ولا قال الحرام، لكن ما ظن ولا اعتقد أنه سيسأل، ولذا يعمل ما يشاء لا ما يشاءه الله منه! {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} [الانشقاق:14 - 15] ظن أنه لن يحور إلى الله لكن الله يعلمه، ويعرف حقائقه، ويسجل عليه أعماله، وما غاب عن سجل الله، ولا استطاع أن يفلت من قبضة الله: {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} [الانشقاق:15] لا يعمل الإنسان أي عمل إلا والله معه {إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس:61] وما يعزب عن علم الله شيء: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].
دبيب النملة السوداء في الصخرة الصماء في الليلة الظلماء يسمعه الله عز وجل، إن الله لا يعزب عن علمه شيء: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران:5] وهذا الذي كان يعمل على مزاجه، ويظن أنه لن يرجع إلى الله كان مسجلاً عليه عمله، قال الله: {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} [الانشقاق:15].
فوقوف الناس عند إشارة المرور إيماناً بالعقاب والجزاء فالأعمى -أعمى البصيرة- الجاهل، المتعلم، الكبير، الصغير، المستعجل، الذي عنده مريض، أو ميت كل شخص يجب أن يحترم نظام المرور، ويقف أمام إشارة المرور مهما كانت عجلته فلا بد أن يقف، وإذا قطع شخص الإشارة فماذا يحصل؟ أولاً: الناس كلهم يؤاخذونه على هذا الاتجاه، وينظرون إليه: لماذا تقطع الإشارة يا قليل الأدب؟ والذي عنده غيرة على أموال ودماء المسلمين ينظر في اللوحة ويأخذ الرقم ولون السيارة وجنسها ويعطل غرضه ويذهب إلى أقرب مركز مرور ويقول: يوجد سيارة الساعة كذا لونها كذا جنسها كذا ورقمها كذا تجاوزت الإشارة، وهذا من باب التعاون؛ لأن احترام نظام المرور شيء مفروغ منه؛ لأن هناك حماية لدماء وأموال المسلمين، والناس الآن كلهم متمسكين بهذا، وإذا شخص أخطأ مرة انتقده الناس كلهم، وجازاه المرور، ولا يرحمه أبداً.
وإذا جاء مخالف للمرور عند الجندي أو المسئول، وقال: اسمح لي، قال: ما أسمح لك، قال: قطعت الإشارة وتريدني أن أسمح لك؟! كيف تتحدى النظام ترى الضوء الأحمر وتتجاوز أين عقلك؟ أين عينك؟ لا أقدر لو كانت مخالفة أخرى ربما أسمح لك، فلو وقفت في مكان خطأ ما فيها خطورة، لو أقفلت الطريق على شخص بسيارتك فخطورتك على الذي أقفلت عليه لكن عندما تخالف الإشارة، محتمل في تلك اللحظة أن تحدث لك كارثة أو تفعل كارثة، لكن لو أنك وقفت مكانك فلا الأرواح تزهق ولا السيارات تدمر، وإذا بالناس كلهم يحترمون نظام المرور وإشاراته؛ لأنهم آمنوا بعقوبة الجزاء، لكن ما رأيكم لو وجدت إشارات وما من مرور يراقبها هل أحد سيحترم الإشارة؟ والله ما ترى إلا هذا يقطع وهذا يعمل حادثاً ولو أشرت سبعين إشارة، لماذا؟ لأنه لا إيمان عند الناس بأن هناك جزاء بعدها، والناس -أيضاً- يؤمنون بالإشارة حتى بالغيب، أنا أحياناً أمر الساعة الثانية عشرة ليلاً فأجد الإشارة حمراء والاتجاهات كلها ليس فيها ولا سيارة فأقف، وأرى الناس واقفين، فأقول في نفسي: لماذا لا أمشي ما دام ما في سيارة لا من هنا ولا من هنا؟ أصلاً الإشارة وضعت من أجل تنظيم السير للناس الآن هذا فاضي، لماذا لا أمشي؟ فأقول في نفسي: قد يكون هناك عسكري جالس خلف هذا الباب، يمكن في اللحظة هذه تأتي سيارة المرور، أو يأتي جندي بدراجته النارية، الأفضل أن أصبر ربع دقيقة، لأن أطول إشارة لا تتجاوز نصف دقيقة أو دقيقة كاملة، لماذا؟ آمنت برجل المرور في الغيب وليس في الشهادة، ولذا انضبط سلوك الناس في قضية الإشارة.
لكن الإشارة الربانية لا أحد يقف عليها إلا المؤمنون، كما توجد إشارات حمراء وخضراء للسير أيضاً يوجد في القرآن إشارات حمراء وخضراء، فمن الإشارات الحمراء لا تقتل {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151] لا تزنوا، لا تسرقوا، لا وهذه لا يعني خطر لا تمش فيه، وهناك إشارة خضراء أقيموا الصلاة، آتوا الزكاة، صلوا الأرحام، بروا الآباء، اعملوا الخير، هذه اسمها إشارة خضراء.
لكن لضعف الإيمان ولعدم وجود اليقين بالبعث والجزاء والثواب والعقاب في الجنة أو النار نرى الكثير لا يقفون عند إشارات المرور الربانية، فنراهم يقتحمون إشارة الزنا، بل بعضهم يفتخر أنه قطعها ودخل في جريمة الزنا، ولا يعلم أنه باقتحام هذه الجريمة عرض نفسه لعقوبة جهنم، يقول الله عز وجل في القرآن الكريم: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (ما عصي الله بذنبٍ بعد الشرك أعظم من نطفة يضعها الرجل في فرج لا يحل له) المؤمن لو يسحبونه بأنفه لا يزني أبداً، حتى ولو سجن لا يمكن أن يرتكب جريمة الزنا، لماذا؟ لأنه يقارن بين لذة الجريمة وألم العقوبة فيجد أن لذة جريمة الزنا لذة زمنية بسيطة تعقبها الحسرة والندامة، بينما العقوبة عقوبة لا يعلمها إلا الله، ولا تتحملها الجبال، فيقول: لا.
نصبر على معاناة ترك الزنا من أجل أن يعوضنا الله في الدنيا، ويعوضنا في الجنة بالحوريات، ونسلم من النار، فهو رابح في كلا الحالتين.
البعض يمر على إشارة الربا ويقع فيها، وأمواله في الربا، ويعمل في محلات الربا، ولا يعرف أنه يحارب الله؛ لأن من أكل الربا فقد أذن الله بحربه، قال الله: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] أخبرهم الله، وأطلق وأعلن الحرب عليهم.
من الناس من لا يقف عند الإشارة الحمراء كالنظر لمحرم، والسماع لمحرم، والكلام المحرم؛ لأنه ليس بمؤمن، والله لو كان مؤمناً ما عملها، وهذا نلمسه الآن في سلوك الشباب الملتزمين الذين رضخوا لله، إذا خرجوا إلى الأسواق ترى الواحد عينه بين قدميه، لا يرفع نظره عن الأرض، وإذا رأى امرأة غض، وذاك الذي ليس عنده إيمان قوي بالبعث يخرج وعينه معلقة بالسماء، بل بعضهم يسقط في الحفر وهو لا يشعر؛ لأن عينه في كل اتجاه، وإذا رأى امرأة نظر إليها، الله يقول: غضوا وهو ينظر، عكس أمر الله، فذاك آمن وهذا لم يؤمن.
إن الإيمان بالبعث مهم، وسوف نركز عليه بإذن الله في دروس كثيرة جداً.(66/6)
فوائد وحكم من العلم بأشراط الساعة والمغيبات
أولاً: أشراط وعلامات الساعة.(66/7)
الحكمة من إخفاء العلم بوقوع الساعة
وإذا كان الله قد أخفى علم وقوعها عن عباده، واختص به سبحانه؛ إذ لا يعلمه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وهذا لحكمة الغرض منها: دفع الناس إلى العمل باستمرار حتى لا يتوانوا أو يتكاسلوا لعلمهم بوقوعها، ولكن من رحمة الله عز وجل أنه أعلمهم بأمارات وعلامات تدل على قرب وقوعها، وقد سمى الله عز وجل هذه العلامات في القرآن أشراطاً، قال عز وجل: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18] أي: قد جاءت علاماتها.
أنت -مثلاً- إذا قيل لك: سوف يأتي أخوك من الرياض وخرجت في الليل لانتظاره، وقال لك: سيارتي جيمس وسوف أكون عندكم وقت المغرب، وذهب هو من الرياض في الصباح وانتظرت المغرب وجاء العشاء وحان الوقت فماذا تصنع؟ تنتبه وتترقب قدومه في كل لحظة؛ لأنه حان الوقت الذي حدده لك، لكن إذا قال لك: سوف أصل الساعة كذا، في آخر النهار، ثم قلت له أنت: ما علامة سيارتك؟ قال: سيارتي جيمس (موديل 89) اللون أسود وأحمر، اللوحة رقمها كذا، فتقوم أنت رأساً على الطريق وترى العلامات إلى أن ترى علامته، وتقول: جاء.
والله عز وجل أخفى عنا علم الساعة لكن أخبرنا بعلاماتها، فإذا رأينا العلامات رأينا الساعة، هذه العلامات أطلق عليها بعض أهل العلم اسماً فسموها الآيات، وهي أيضاً كالأمارات أو كالعلامات التي تنصب على الطرق أو التي ترفع على شواطئ البحار من أجل دلالة السفن، أو تلك التي توضع قرب المدن كي تبين مدينة أبها -مثلاً- الاتجاه إلى السودة، أو الطائف، أو تلك التي تبين مقدار المسافة المقطوعة من الطريق بين كل عشرة كيلو، هذه اسمها علامات.(66/8)
قيمة البحث في علامات الساعة
قد يقول قائل: ما قيمة البحث في علامات الساعة؟ ونحن نقول له: إن القيمة عظيمة جداً، والغاية التي من أجلها ذكر الله عز وجل هذه العلامات في القرآن والسنة غاية عظيمة، وليس لنا خيار في دراسة الغيبيات التي سوف نستقبلها، والاطلاع بهذا والتصديق به من صميم ديننا الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعضها أخبر بها القرآن، وبعضها صحت بها الأحاديث الصحيحة في السنة، وبعضها جاءت عن الصحابة نقلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اشتغل الصحابة بها واهتموا بها اهتماماً كبيراً، وكان الإيمان بالغيب ومن مقدمته الإيمان بعلامات الساعة صفة مدح الله بها أهل الإيمان في أول سورة البقرة فقال: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:2 - 3] فأول شيء هو الإيمان بالغيب.(66/9)
فوائد العلم بأشراط الساعة
وقد يقول قائل: لماذا كل هذا التركيز في محاضرة كاملة ودروس مسلسلة عن هذا الموضوع، ما هي الفائدة؟ نقول: الفائدة ما يلي: أولاً: أن الإخبار بهذه العلامات إذا تحققنا صدقها حققنا جزءاً من الإيمان بالله وبرسول الله، إذ كيف نؤمن بالله وبرسوله ثم لا نصدق خبره؟! قال الله عز وجل: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:2 - 3] فإذا أردت أن تعرف مقدار إيمان إنسان فإنك تسأله عن العلامات، فإذا آمن بها فهذا إيمانه مطلق، كامل؛ لأنه آمن بما أخبر به الله، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، ففي ذكرها فائدة وهي زيادة الإيمان، إذ كلما عرفت الفائدة ازداد إيمانك، هذه فائدة.
ثانياً: أن وقوع تلك المغيبات على النحو الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وحدَّثت بها الآيات أو السنن، يعتبر مثبتاً للإيمان؛ لأنه يعطيك دليلاً على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أنه مرسل من عند الله، وعلى أنه لا ينطق عن الهوى، وإلا فمن الذي أخبر بهذا الخبر إذا لم يكن رسولاً؟ هذا يقوي الإيمان كما قلت لكم في حديث الصنفين الذين من أهل النار والذي منهم نساء كاسيات عاريات، وقد رأيناهن وماكن موجودات في الماضي، من أخبر الرسول؟ إنه الله، فهذا رسول من عند الله عز وجل.
والمسلمون منذ موت النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا يشاهدون وقوع أحداث أخبرت بها الأدلة مطابقة لما جاء الخبر بها، فقد شاهد الصحابة رضي الله عنهم انتصار الروم على الفرس، قال الله: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:2] هذا خبر عن شيء حدث في عهد الصحابة: {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:3] متى؟ قال الله: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:4] البضع من واحد إلى عشرة، وفعلاً لم تمض ست سنوات إلا وقد غلبوهم، ثم أخبر الله أن الغلبة ستكون للمسلمين على الفرس والروم؛ لأن الله قال: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم:4 - 5] على من؟ على الروم والفرس.
من أخبر بهذا؟ الله عز وجل في القرآن الكريم وحدث هذا، فهذا يزيد إيمانك بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من كان يتصور أن أمة العرب تنتصر على الفرس والروم بالموازين البشرية والخرائط الأرضية التي تضعها أيدي البشر مستحيل؛ لأن العرب كانوا أهل بادية، حفاة عراة، يعيشون في وسط الجزيرة العربية، استطاعت الفرس أن تصل إلى حدود اليمن؛ لأن اليمن السعيد فيه الجبال، وفيه المزارع والهواء الجميل، والروم استطاعوا أن يسيطروا على شمال الجزيرة العربية التي فيها المزارع والأنهار والأماكن الطيبة، أما وسط الجزيرة العربية فماذا فيها؟ صحاري قاحلة، ورمال مميتة، ولذا تركوها لأهلها البدو الذين لا حول لهم ولا قوة، بل كانوا إذا ضاقت بهم المعيشة يذهبون إلى فارس والروم يقتاتون ويأخذون الصدقات، فهل يعقل أن هؤلاء الأعراب يسيطرون على الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية ويهدونها عن بكرة أبيها في أقل من خمسة وعشرين سنة؟ أمعقول هذا بموازين الأرض؟ لا.
بل وما كان أحد يصدق هذا.
حتى إن الصحابي الذي وعده الرسول بسواري كسرى وهو سراقة بن مالك الذي كان ممن طلب النبي صلى الله عليه وسلم وطارده وقت الهجرة حتى يحصل على الجائزة التي وضعتها قريش لمن يأتي بخبر الرسول أو يأتي به حياً أو ميتاً، وضعوا جائزة مائة بعير، يعني مثلما نقول الآن: مائة مرسيدس؛ لأنها وسائلهم وأموالهم وخير ما يمتلكون، فخرج بعضهم يريد هذه الجائزة، وكان الذي أدرك النبي صلى الله عليه وسلم سراقة، فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم دعا عليه فساخت قدما فرسه في الأرض حتى نشبت، فعرف أنه لا يستطيع الإمساك به فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يرفع فرسي ولن أخبرهم، فأخذ الرسول عليه العهد ألا يخبر قريشاً بالأمر وقال: (كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟!) وسواري كسرى من يلبسها؟! يلبسها هذا الأعرابي الذي يبحث عن مائة بعير؟! كأنك تقول لأحد الأعراب في أي منطقة: كيف بك إذا جلست على كرسي بوش، أو جورباتشوف، معقول هذا؟! لا يصدق بل يقول: هذا الأعرابي يأتي يجلس مكان ذاك! وفعلاً حقق الله نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي خلافة عمر بن الخطاب استطاع المسلمون أن يهزموا الرومان والفرس ثم جاءوا بإيوان كسرى، وجاءوا معه بسواره وأخذها عمر وسلمها لـ سراقة ولبسها تحقيقاً لوعد النبي صلى الله عليه وسلم.
فشاهد الصحابة هذا -وهذا يزيد في إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم- وشاهدوا كثيراً بعدها من النبوءات، ولا نزال نشاهد كل يوم خبراً يصدق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، مما يوحي ويثبت لنا بالأمر اليقين أن رسول الله لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
هذه الفائدة الثانية.
ثالثاً: من فوائد ذكر أشراط القيامة: تثبيت الإيمان بها ودعوة الناس إلى الاستعداد لها، إذ أنهم إذا رأوا علاماتها دفعهم هذا إلى الاستعداد لها، فقد تقوم عليهم القيامة فلا يماطلون، فيدفعهم الإيمان بها إلى أن يستعدوا للعمل بعدها.
رابعاً: بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم دالاً على الخير محذراً عن الشر، وقد دلَّ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على المنهج الأمثل الذي يلتزمونه عند حدوث بعض علامات الساعة، سواء كانت هذه العلامات من الصغرى أو الكبرى، وفي إخباره بالمغيبات المقبلة توجيه وتوعية للمسلمين من بعده كيف يتصرفون عند هذه الأحداث، ومن ذلك ما أخبر به عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فحذرنا من الدجال وفتنته، وأخبرنا أنه يمكث فينا أربعين يوماً: يوماً كسنة، ويوماً كشهر، ويوماً كجمعة، وسائر أيامه كأيامنا هذه، فقال أحد الصحابة: يا رسول الله! كيف نصنع بالصلاة في اليوم الذي كسنة؟ -انظروا الاهتمام من الصحابة، ما قالوا: ماذا نأكل في ذلك اليوم الذي طوله كسنة، أو أين ننام؟! اهتماماتهم بالدين- قال: اقدروا له قدره) اقدروا لهذا اليوم قدره من الصلوات، لولا هذا الخبر لكان الواحد منا يقول ما دام كسنة أنا سأقدر له خمس صلوات، أصلي في كل شهرين صلاة، لا ليس كذلك.
بل قدر للسنة قدرها من الصلوات، يعني صلِّ في هذا اليوم صلاة سنة كاملة، اقدروا له قدره، أي: في اليوم الذي كأنه شهر مثلاً صل له صلاة شهر كاملاً، اقدروا له قدره وأعطوه ما يستحق من الصلوات، ومن كان سيعلم الصحابة هذا العلم لو لم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم.(66/10)
فائدة التوجيه النبوي بذكر المغيبات
وفيه توجيه للصحابة بالتصرف عندما يدركون بعض هذه الأمور، يقول أحد الصحابة: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح حذاءه، ومنا من ينتقش، ومنا من هو في جلسة، إذ نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم فاجتمعنا إليه، فقال: إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأموراً تنكرونها، وتأتي فتنٌ، يرقق بعضها بعضاً، فتأتي الفتنة بعدها -يعني: أكبر منها- فيقول الأول: هذه مهلكتي، فتأتي فتنة ثم تنكشف، وتأتي فتنة ثم تنكشف، وتأتي فتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت للناس الذي يحب أن يؤتى له) هذا خبر من النبي صلى الله عليه وسلم أنه في آخر الزمان ستكون فتن، وهذه الفتن ضخمة، وبعضها يرقق بعضاً، كيف ذلك؟ قال العلماء: كلما أتت لك فتنة قلت: الأولى أخف من هذه، ويرقق يعني: يسهل، فالأخيرة أعظم من الأولى، وهكذا ثم قال عليه الصلاة والسلام: (من أراد أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة -إزاء هذه الفتن- فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت للناس الذي يحب أن يؤتى له).
ومن هذه التوجيهات التي كان لها أثر عظيم في حياة السلف وحياة الصحابة الذين أدركوا بعض هذه الفتن، منها: ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أن عثمان تأتيه بلوى، والحديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فدخل بئر أريس -حائط من بساتين المدينة - يقول: فتبعته، فقال: يا أبا موسى! أقفل الباب ولا تفتح لأحد إلا بإذني، فقلت: لأكونن اليوم بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: شرف عظيم أني اليوم بواب النبي صلى الله عليه وسلم- يقول: فجلست فأتى أبو بكر، فطرق الباب، فقلت: من؟ قال: أبو بكر، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: افتح له وبشره بالجنة، قال: ففتحت له وبشرته بالجنة، فدخل وسلم وجلس على البئر بإزاء النبي صلى الله عليه وسلم ودلى رجليه مع رجلي النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: وبينما أنا جالس طرق الباب طارق، فقلت: من؟ قال: عمر، فاستأذنت له النبي فأذن له وقال: ائذن له وبشره بالجنة -الله أكبر! - يقول أبو موسى: فقلت في نفسي ليت أخي يأتي) يظن أن من أتى ودخل بُشر، المسألة ليست هكذا، هذه جنة لا يدخلها الشخص إلا بعد تعب {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] يقول: (قلت في نفسي: ليت أخي فلان يأتي حتى يبشره بالجنة، يقول: وبينما أنا جالس جاء عثمان فطرق الباب فقلت: من؟ قال: عثمان، يقول: فاستأذنت له، قال: ائذن له وبشره بالجنة مع بلوى تصيبه -ما أتت الجنة بلا ثمن هنا وإنما أتت ببلوى- يقول: فقلت له: بشرك رسولك بالجنة مع بلوى تصيبك، يقول: فقال عثمان: الله المستعان).
الله أكبر! ما أعظم هؤلاء الرجال! يقول: أستعين بالله على هذه البلوى، ما دام في المسألة جنة فأنا أستعين بالله حتى أصل الجنة، وهذه البلوى حصلت له رضي الله عنه، ذُبِح ذَبْح الشاة وهو يتلو كتاب الله والمصحف بين يديه، وكان الصحابة من حوله والعبيد عنده أربعمائة مولى بالسيوف، قالوا: والله لا يصلون إليك ونحن أحياء، قال: [من وضع سيفه فهو حر لوجه الله] فكلهم وضعوا السيوف، وما امتنع بشيء، وصبر على البلوى واقتحموا البيت ودخلوا عليه ورفعوا لحيته عن رقبته وذبحوه وسالت الدماء الزكية الطاهرة على مصحفه وهو يقرأ كتاب الله.
(ذو النورين الذي دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس، وقد دخل في الأول أبو بكر والرسول ماداً رجله، وطرف إزاره منحسر عن طرف رجله، فلما دخل أبو بكر ما فعل شيئاً، ودخل عمر فما فعل شيئاً، فلما دخل عثمان كف رجله ورد إزاره، فقالت عائشة: يا رسول الله! دخل أبو بكر ثم عمر فلما دخل عثمان أصلحت إزارك! فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟) رجل ذو هيبة ووقار، يقول الصحابة فيه: [ما كان أشد هيبة ولا وقاراً منه]، رجل ألقى الله عليه من المهابة ما لا يعلمه إلا الله، وأنا أتصور هكذا وأتمنى في بعض جلسات لي وأقرأ سيرة الصحابة أرى عمر وصفاته، وأرى أبا بكر وصفاته، وأرى عثمان وصفاته، وأرى علياً وصفاته، ثم أقول في نفسي-وأسأل الله أن يحقق لنا ذلك كله أيها الإخوان-: لو دخلنا الجنة ورأيناهم أنا أقول في نفسي وأسأل الله أن يحقق فراستي في ذلك أني سوف أرى أبا بكر وسأقول: هذا أبو بكر من شكله، ومن وصفه في السنة، وعثمان أقول: وهذا عثمان من هيبته ووقاره، وعمر أقول: هذا عمر من شدته وقوته في دين الله، وأرى علياً فأقول: هذا علي لماذا؟ لأنه جاءت السنة بهذا، فـ عثمان رضي الله عنه أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأن بلوى تصيبه وقد تحققت وصبر رضي الله عنه، وهذه فائدة من فوائد علامات الساعة.(66/11)
فوائد المغيبات في قصة عمار بن ياسر
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن عمار بن ياسر تقتله الفئة الباغية، والحديث في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد، فكان الرجل منا ينقل لبنة لبنة، وكان عمار ينقل لبنتين لبنتين -رجل قوي ومخلص لا يمالي ولا يجالي- يقول: حتى ترب رأسه وهو يحمل، فمسحه صلى الله عليه وسلم ونفض عنه التراب وقال: ويحك يا بن سمية تقتلك الفئة الباغية) والحديث في صحيح مسلم، وفعلاً تحققت نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم وقتلته الفئة الباغية في معركة الجمل في يوم صفين، في سنة (37هـ) في المعركة التي كانت بين علي وبين معاوية رضي الله عنهما.
ولنأخذ لمحة بسيطة عن عمار بن ياسر وهو مولى وأصله من اليمن، جاء أبوه ياسر واثنان من أعمامه إلى مكة في طلب ولد لهم، ثم لم يجدوه فرجعوا وجلس ياسر، ثم أعتقه أبو حذيفة بن المغيرة بن شعبة ثم تزوج بـ سمية رضي الله عنها وأرضاها وولدت له عماراً وعبد الله، ولما جاء الإسلام أكرمهم الله عز وجل بالإسلام كلهم، فأسلم ياسر وأسلمت سمية، وأسلم عمار، وأسلم عبد الله، ونالهم من الأذى والتعذيب ما لا يعلمه إلا الله، وكان يمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون ويقول لهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة) وكانت سمية أول شهيدة في الإسلام، قتلها أبو جهل عليه من الله ما يستحق، حينما مر عليها وهي تعذب وكان يعذبها أمية بن خلف سيدها فقال: لِمَ تستمر في عذابها وأخذ رمحه وضربها في قبلها فماتت شهيدة، فهي أول من أريق دمها في سبيل الله عز وجل رضي الله عنها وأرضاها.
يسمى عمار ويلقب بـ أبي اليقظان، كان من السابقين إلى الإسلام، وكان من أعيان المسلمين، وأيضاً من أصحاب بدر، وأصحاب بدر لهم ميزة على سائر الصحابة، وأمه سمية، ولما عذبه المشركون في يوم من الأيام عذبوه حتى كادوا يقتلونه فلم يدعوه حتى سب النبي ومدح آلهتهم، فجاء إلى النبي وقال: (يا رسول الله! والله ما زالوا بي حتى نلت منك ومدحت آلهتهم، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناًبالإيمان، قال: إن عادوا فعد) قال: فنزل قول الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106].
الذي يكره على شيء والله يعلم أن قلبه مطمئن بالإيمان، فإن الله عز وجل لا يؤاخذه؛ لأن في هذا ضرورة والمهم القلب، واستأذن يوماً على النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند أصحابه، فقال: (من هذا؟ قالوا: عمار بن ياسر، قال: مرحباً بالطيب المطيب) هذه شهادة، والحديث ذكره الترمذي في السنن، وأخرجه وصححه الحاكم في مستدركه، وقال عليه الصلاة والسلام فيه: (إن عماراً ملئ إيماناً إلى مشاش رأسه) وروى الإمام أحمد في المسند وصححه الحاكم أيضاً، ووافقه الذهبي على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعدي بهدي ابن أم عبد) يعني: ابن مسعود رضي الله عنه، وأخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن خالد رضي الله عنه قال: (كان بيني وبين عمار خصومة، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من عادى عماراً عاداه الله، ومن أبغض عماراً أبغضه الله).
وكان رضي الله عنه مسدداً وموفقاً ولا يختار أمراً إلا والله يسدده فيه، يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (ما عرض على عمار أمران إلا اختار أرشدهما) بتوفيق الله عز وجل له، قاتل يوم اليمامة واشترك في حروب كثيرة جداً حتى قتل وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه تقتله الفئة الباغية، وأن قاتله وسالبه من أهل النار، قاتل يوم اليمامة ولما انكسر المسلمون صعد على صخرة وقال: [يا معشر المسلمين! ما لكم تفرون من الجنة] وقاتل قتالاً شديداً ثم جدعت أذنه، فقاتل حتى آخر النهار وأذنه تنزف دماً، رضي الله عنه وأرضاه.
هذه بعض الفوائد.(66/12)
فوائد العلم بأشراط الساعة بالتطلع للمستقبل
خامساً: من الفوائد: أن التطلع إلى المستقبل وما يحدث فيه أمر فطري عند الإنسان، فالإنسان يجد في نفسه رغبة ملحة وشديدة في أن يعرف الكائنات والأحداث التي سوف تحدث للإنسان في المستقبل، ولذلك فإن الناس قبل الإسلام كانوا يعتمدون على الكهنة والسحرة والعرافين ويطلبون منهم أخبار المغيبات، فجاءهم الله بالحق الذي ليس فيه باطل، وذلك عن طريق الوحي من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أولئك فإنهم كذبة لا يعرفون الغيب وإنما يسترقون السمع فيكذبون على الكذبة الواحدة مائة من الكذبات، ثم يخبرون بها الناس، والناس يصدقونهم، فيما يسمونه بخط الرمل، وهو التنجيم، وطرق الحصى وهو الحساب، والنظر في المرآة وهو -والعياذ بالله- يسمونه قراءة ما في الغيب، وحظك -كما يأتي في بعض الصحف- حظك في هذا الشهر.
شخص من الناس قال: والله -يا أخي- إن شخصاً رآني في الشارع وقال: أرني يدك؟ يقول: فأعطيته يدي، فنظر فيها وقال: خيراً إن شاء الله، قلت: خيراً ماذا هناك؟ -والولد مسكين ضعيف ما عنده عقيدة- قال: بينك وبين أحد أقاربك عداوة، وهو يخطط لك في قضية خطيرة، وبعد أسبوعين سوف يأتيك خبر مفرح، وحصل في قلبك حزن قبل فترة ليست ببعيدة، فالولد صادف أن هذه الثلاث عنده، فأحد أبناء خاله تخاصم معه قبل أيام، وصار له حزن قبل أيام، وأيضاً يتوقع هو أن ينجح في الدور الثاني؛ لأنه يذاكر والدور الثاني في ثلاثة وعشرين، فجاء الولد المسكين وأنا خارج من المسجد، فقال: يا شيخ! قلت: نعم.
قال: شخصٌ قبض يدي، وقال لي أخباراً كلها صحيحة.
قلت: ماذا قال؟ قال: قرأ في كفي.
قلت: أقرأها أنا؟ فعندما قرأت لم أجد فيها شيئاً.
قلت: ما في كفك شيء يا أخي.
قال: لا.
بل قرأه.
قلت: أهو عالم؟ قال: لا.
بل رجل عادي، قلت: وماذا مكتوب في كفك إنجليزي أو عربي أو عبري؟ ما مكتوب شيء؟ قال: لكنه قرأ.
قلت: قرأ على عقلك، يعني لبس عليك، وكذب عليك.
فهو كشخص يأتيك بورقة بيضاء ما فيها ولا شيء، ويقول: أقرأ عليك تعميماً، فتقول: قلت: ماذا قال لك؟ قال: يقول: إن شخصاً تخاصمت معه من أقاربي وأغضبني، قلت: كل الناس يتشاجرون مع أقاربهم، ومن الذي لا يتشاجر هو وأقاربه، حتى أنت وامرأتك تتشاجرا كل يوم وكل أسبوع، قال: وقال لي: إنه سوف يأتيني شيء مفرح، قلت: وفعلاً في المستقبل يأتيك شيء تفرح فيه إن شاء الله؛ لأن الحياة تتقلب بين حزن وفرح، وقال: إن شيئاً أحزنني قبل أيام وكذلك كل الناس يأتيهم حزن في الماضي أو المستقبل، ويأتيهم فرح في الماضي أو المستقبل.
ومرة جاءني شخص من كبار السن وقال: قرأت حظي في مجلة الأسبوع العربي حظك في هذا الشهر، قلت: ماذا فيها؟ قال: ستشعر بعد فترة بألم في ركبك، قلت: كم عمرك؟ قال: ستين سنة، قلت: طبيعي الروماتيزم سيأتيك في ركبك غصباً عنك، كل كبير يأتيه في ركبه شيء، فهذا الكذب وهذا الدجل الذي يضحكون به على عقول الناس هو جزءٌ من تلبية احتياجات الناس في كشف المغيبات، والله قد كشف لنا المغيبات بما هو حق، ألا وهو خبر أشراط الساعة.(66/13)
أقسام أشراط الساعة
وأشراط الساعة تنقسم إلى قسمين: أشراط صغرى، وأشراط كبرى.
والأشراط الصغرى تنقسم إلى قسمين: أشراطٌ مضت وانقضت، وأشراط نحن الآن فيها، وأشراط ننتظرها، وأما الأشراط الكبرى فهي واضحة ولم يأت منها شيء وسوف تأتي كما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الأشراط ما دام أن الشيخ عبد الرحيم سيتحدث عنها في الأسبوع القادم فنريد أن نقف عندها وإلا فقد كنت هيئتها لكن نقف عندها لنشد أذهانكم وأنظاركم إليها بإذن الله فتحضرون ليلة الإثنين بعد مغرب يوم الأحد إن شاء الله في هذا المسجد، ونسأل الله أن يكون هذا المسجد وجميع مساجد المسلمين منبر نور وهداية وعلم يستفيد منه الناس ليعرفوا دينهم وليسيروا في طريق الله عز وجل على الوجه الذي يرضي الله تبارك وتعالى.(66/14)
الأسئلة(66/15)
واجبنا تجاه إخواننا في أفغانستان
السؤال
إخواننا في أفغانستان يمرون بأخطر مراحل الجهاد، وهم الآن في أصعب المواقف وأهم الظروف، نرجو منكم التنبيه على الإخوة بالدعاء لهم جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً: ننبه على أمرين.
الأمر الأول: الدعاء.
الأمر الثاني: البذل والعطاء.
لأن الدعاء سهل لكن لا يكون الدعاء صادقاً إلا إذا كان هناك بذل يرافقه، وإذا كنت عاجزاً عن أن تجاهد بنفسك فلا أقل من أن تجاهد بمالك، والله قد قال في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10] وكأن الناس قالوا: نعم.
نريدها يا رب فما هي؟ فقال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:11] فدعوة أوجهها إليكم -أيها الإخوة- في التبرع بما تستطيعون عليه ولا يحتقر الإنسان شيئاً، وها هي جمعيات التبرع موجودة في كل مدينة، والحسابات موجودة في كل مكان، بإمكان كل مسلم إذا استلم الراتب أن يخرج منه ورقة -إن كان من أولي العزم وراتبه كبير- خمسمائة، وإن كان أقل يخرج مائة، أو خمسين، المهم لا يمر شهر إلا ولك مساهمة، يقول الدكتور عبد الله عزام وقد كتب لي كتاباً يطلب مني أن أحث الناس على التبرع، يقول: قل للمسلمين أن يجعلوا الجهاد في حياتهم كطفل من أطفالهم، إن طفلاً من أطفالك لا يذهب إلى المدرسة يومياً إلا بمال، وكم المال؟ ريالين أقل شيء أو ثلاثة أو خمسة، يعني تصير في الشهر ستين ريالاً، اجعل الجهاد واحداً من أطفالك، أعطه مالاً شهرياً ستين أو مائة ريال تدفعها من راتبك وتجعلها في سبيل الله يربيها لك الله يوم القيامة حتى تأتي يوم القيامة وهي كأمثال الجبال: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: الدعاء، اجعل في دعائك وسجودك وصلاتك وليلك ونهارك لازمة من لوازم دعائك قل: اللهم انصر إخواننا المجاهدين، وقد سئل أحد قادة المجاهدين في الأفغان عندما قالوا له: لماذا تأخر فتح جلال أباد قال: تأخر الدعاء والعطاء من المسلمين، يقول: تطالبوننا بفتح جلال أباد ونحن نستقبل الرصاص والقنابل والصواريخ في صدورنا وأنتم على أسرتكم، كل واحد يشتري ست أو سبع جرائد يقرأ الأخبار، لا تشتري جريدة بل أرسل المال للأفغان يأكلون بها خبزاً، لا تدفع خمسة أو عشرة آلاف للمطبل لكي تعصي الله تبارك وتعالى وتصد الناس عن ذكر الله بل أرسلها للمجاهدين ليكون زواجك وزواج ولدك مباركاً، تؤسسه على تقوى من الله، لا تسرف في كل كمالياتك وإنما اصرف بالمقدار الشرعي والباقي اجعله لك عند الله عز وجل.(66/16)
نصيحة لمن يواجه مصاعب في طريق التوبة
السؤال
أنا شاب مقبل على الله وأريد التوبة ولكني أجد كثيراً من العوائق فبم تنصحني؟
الجواب
أنصحك أن تقبل وتتجاوز هذه العوائق، وتقدم على الله بقوة، وتتوب التوبة الصادقة النصوح من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، وتلتزم بالطاعات كلها إذا عملت هذا فقد تبت، أما أن تقف تتردد وتقدم رِجلاً وتؤخر أخرى، فإن العوائق كثيرة، ولكن عليك أن تذكر المصيبة إذا مت وأنت غير تائب حين ترد النار وتخسر الجنة.(66/17)
تلبيس الشيطان على المسلم بترك العلم كي لا يعمل
السؤال
أتردد كثيراً في شراء الكتب الإسلامية وحضور المحاضرات الدينية، أو شراء الأشرطة الإسلامية؛ لأنني أخشى أن أحمل أعباء العلم ولا أعمل به؟
الجواب
هذه مصيبة عند أكثر الناس أتاهم الشيطان يقول: العلم مسئولية فلا تتعلم ثم تعمل، فماذا أعمل؟ قال: لا تتعلم، هذا الحل؟! يعني يظل ثوراً أعمى، الحل أنك إن كنت تتعلم ولا تعمل أن تعمل؛ لأنك إذا تعلمت فأنت قريب من العمل، لكن إذا لم تتعلم كيف تعمل؟ إن الشيطان يدل الإنسان ويقول: لا تتعلم ولا تتحمل مسئولية، إذا أتيت الندوة حملت المسئولية، لكن إذا قعدت في البيت بقيت خالي المسئولية، نعم.
ليس عليه مسئولية ولكن عليه من الله وبال لا يعلمه إلا الله عز وجل.(66/18)
توجيه لأهل المعاشات المتقاعدين
السؤال
فضيلة الشيخ أشهد الله على حبك، ولكن في الدرس الماضي هاجمت المتقاعدين مما جعل بعض أفراد أسرتي يدعون لك، وأنا أؤمن على الدعاء، فضيلة الشيخ! عندما كنا نحن المتقاعدون على رأس العمل كان بعضنا لا يدخل بيته إلا في الليل؛ لأنه في واجباته الوظيفية، والبعض يذهب في الليل ولا يأتي إلا في الصباح؛ لأن عمله في الليل، ويدخل بيته متعباً فلا يسأل عن شيء، وبعد التقاعد تفرغنا لمشاكل بيوتنا وأولادنا ونسائنا، ونلاحظ أموراً فيها بعض الخطأ ونريد تعديله، ولكن بعد كلامك لا يستجاب لنا فماذا تقول؟ أما برنامجنا فهو طيب، ولكن ماذا تقول وما تعليقكم على هذا الأمر؟
الجواب
أولاً أصحح كلمة الأخ، يقول: إنني هاجمت المتقاعدين وأنا في الحقيقة ما هاجمت المتقاعدين وإنما هنأت المتقاعدين، وغبطتهم وقلت: الحمد لله الذي مد في أعماركم، ثم أعطاكم فرصة للعيش بغير تعب ولا عمل، وأعطاكم الراتب كاملاً، راتبك الذي كنت تأخذه وأنت تكد قالت الدولة: كثر الله خيرك، قد أديت واجبك وقمت بشرف الوظيفة حتى خرجت منها سالماً تفضل خذ الراتب وأنت نائم، من أجل ماذا؟ تتفرغ لعبادة الله، ولكني قلت: إن بعض المتقاعدين لما فرَّغتهم الدولة لما يهمهم في حياتهم تفرغوا للمرأة والأولاد، وأصبح الرجل ما معه أحد يأمره وينهاه فقد كان مسئولاً أو مديراً أو عريفاً أو رقيباً أو ضابطاً وكان يأمر وينهى، وعندما دخل الإدارة بعد التقاعد لا طاعة له ولا أمر ولا نهي، وعندما ذهب إلى السوق لم يرحب به أحد، وعاد ودخل على المرأة ويا ويلها إذا ما احترمته، لماذا؟ لأن الأمر الآن قد صار على المرأة والأولاد، وجلس بالمرصاد على الكرسي، يتسمع ويراقب الحركات ويصحح الغلطات، وأدى هذا إلى أن المرأة لا تفرح به.
كان المفروض -يا أخي المسلم- يوم أن فرَّغك الله من العمل أن تتفرغ للعمل الأخروي، ومن ضمن العمل الأخروي: الإشراف على شئون أسرتك لكن بشيء من الحلم والحكمة وغض البصر؛ لأن الأمور في البيوت لا تمشي على الوضع الذي يرضاه، الذي يريد الأمور كلها مائة بالمائة يتعب؛ لأنه لا بد من الغلط، ولا بد من أن ينكسر قلص، أو تدخل ترى الكهرباء مسرجة أو النافذة مفتوحة والهواء قد غبر المكان، ليس كل شيء كما تريد، فأنت إذا انزعجت من أجل هذه، وهذه أشغلت نفسك وأزعجت أهلك، وجعلتهم يكرهونك، لكن إذا دخلت والكهرباء مسرجة أطفئها أنت، ولا تقعد تضارب عليها، وإذا دخلت والباب ليس مغلقاً أغلقه واسكت، أو رأيت شيئاً مكسوراً غض البصر ثم صحح بالتي هي أحسن.
وأيضاً نقول -حتى لا ينزعج أخونا- للنساء بارك الله فيهن: مادام الزوج متقاعد فعليكن أن تضبطن الأمور، واعرفن أنه ليس غائباً فقد صار موجوداً، فراعن مشاعره، وحاولن أن تخففن من الغلطات، وحاولن أن تصححن من الأمور وإذا رأيتنه انزعج فاعذرنه؛ لأنه كان موظفاً يأمر وينهى، والآن ليس معه إلا أنتن، فاصبرن عليه حتى يتأقلم مع الجو ويصبر إن شاء الله على الأمور.(66/19)
حكم حلق اللحية بحجة عدم الرياء
السؤال
ما رأيك فيمن يحلق لحيته؛ لأنه يرغب أن يكون باطنه أحسن من ظاهره، ويخشى أنه إن أطلقها أن يقع في الرياء؟
الجواب
هذا من مكر الشيطان؛ لأن الشيطان له أساليب ووسائل يستطيع بها أن يغزو قلوب الناس ويصطادهم، فيأتي إلى هذا ويقول: إذا أطلقت لحيتك صار ظاهرك سنة، لكن باطنك غير ذلك، تعرف ماذا تعمل؟ قال: لا.
قال: اجعل ظاهرك وباطنك متساويان، من فوق ومن تحت، فيقول: أنا أريد أن أصلح الباطن، إذا أردت أن يصلح الباطن فأصلح الظاهر؛ لأنك إذا أصلحت الظاهر فإن شاء الله تقدر على الباطن، فابدأ أول شيء بإطلاق لحيتك؛ لأن من إطلاق لحيتك صلاح باطنك، يقول أحد العلماء: لا تقولوا للناس ربوا اللحية، قلنا: لماذا؟ قال: والله لا تنبت في الوجه إلا وقد نبتت محبة رسول الله والإيمان في القلب، ولا يحلقها لو تذهب رقبته، لكن إذا لم توجد محبة فإنكم تطلبون منه شططاً، وتكلفونه بما لا يطيق، هو كلما نام ورأى وجهه أملساً يفرح، لكن إذا تركته يعفيها؟ ونحن نقول لك: إن صلاح باطنك لا يتحقق إلا بامتثال أمر الله والعمل بسنة رسول الله في كل شيء ومنها إطلاق لحيتك، أما أن تحلقها من أجل ألا تقع في الرياء إذاً: ضاع الدين على هذه القاعدة، إذاً: لا تذهب للحج خوفاً أجل الرياء، وإذا جاء رمضان وجاء الظهر اطبخ كبسة رز وأكل، وإذا قالوا لك: لماذا؟ قل: أخاف الرياء، فأنا آكل حتى لا أصوم رياء، وإذا جاءتك الصلاة فلا تصلِّ، لماذا؟ قل: أنا أترك الصلاة من أجل الرياء، ما رأيكم في هذا؟ أهذا كلام يقال؟ يقول العلماء: إن العمل من أجل الناس شرك وترك العمل من أجل الناس رياء، والسلامة أن تعمل من أجل الله فلا تترك للناس ولا تعمل للناس.(66/20)
كشف المرأة على إخوة الزوج
السؤال
أنا شاب -والحمد لله- محافظ على الصلاة، ولكن عندي مشكلة وهي: كشف الزوجة في أسرتنا على إخوان الزوج؛ لأن البيئة تجبرنا على ذلك؟
الجواب
البيئات والعادات والتقاليد هذه إذا صادمت وعارضت السنة والدين وجب رفضها، وما حوربت أديان بأعظم من العادات، وكان كلما جاء نبي إلى قومه بدين: {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22] فعاداتنا في كشف الرجال على زوجات الأخ أو زوجة الأخ هذه عادة منكرة، وطريقة محرمة، ولا يحل للمسلم أن يكشف على زوجة أخيه، وهذه المشكلة ينبغي التغلب عليها بالصبر والمصابرة والمرابطة، ولو انزعج الأهل أو الأخ فإنك بهذا العمل ترضي الله، والذي يرضي الله لا بد أن يتعب، والجنة تحتاج إلى نوع من الصبر والتعب، والله يقول: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35].(66/21)
حكم صلاة المنفرد خلف الصف
السؤال
هل يجوز أن أصلي مفرداً في الصف خوفاً من فوات الركعة خصوصاً إذا لم يكن في الصف الذي قبلي فراغ؟
الجواب
هذه المسألة أيها الإخوة: مما اختلف فيه أهل العلم، إذا دخلت المسجد والصف مملوء وليس هناك فرجة ولم تجد أحداً يصلي معك، فكيف تصلي؟ تصلي بمفردك، أو تنتظر مجيء شخص آخر، أو ماذا تصنع؟ اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أنك لا تصلي لحديث وابصة بن معبد رضي الله عنه وهو في السنن قال: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) والشيخ ابن باز يرى هذا الرأي، ويقول: أنت بالخيار إما أن تقارب الناس وتجد لك فرجة، أو تنتظر حتى يأتي من يدخل معك، أو تستطيع أن تدخل مع الإمام إذا لم يكن في المحراب، أو تتخذ لك أي حيلة، فإذا لم تستطع فتبقى واقفاً إلى أن تكمل الصلاة ثم تصلي لوحدك، ولا تدخل في المسجد وتصلي وأنت منفرد للحديث: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) هذا رأي الشيخ عبد العزيز بن باز.
الرأي الثاني: وهو لطائفة من أهل العلم، ويرجحه الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين وهو: أن تجتهد لتجد لك فرجة، فإن لم تجد فتصلي لوحدك، وجوابهم على حديث وابصة: (لا صلاة لمفرد خلف الصف) قالوا: هذا الحديث يحمل على من يجد فرجة، يعني: شخص أتى وفي الصف فرجة ثم ذهب يصلي هناك، فهذا ليس له صلاة، لكن من لم يجد فرجة ماذا يعمل؟ يسحب مصلياً من الصف، قالوا: هذا السحب والاختلاج لا دليل عليه؛ لأنه يعارض أدلة صحيحة، الدليل الأول: الأمر بإتمام الصفوف والذي يسحب ينقص الصفوف، الدليل الثاني: أنه أحرم صاحب الحق الأول من حق الذي اكتسبه بكونه من الصفوف الأولى، ولحديث: (خير صفوف الرجال أولها).
الأمر الثالث: أنه أربك الصف كله وأوجد فيه حركة واضطراباً لأن كل واحد يقرب من الثاني، من غير دليل ولا مبرر، قالوا: فماذا نصنع؟ قالوا: يصلي بصائغ الاضطرار والله عز وجل غفور رحيم.
هذان هما الرأيان وكلاهما صحيح، والذي يعمل بأي رأي منهما فهو على حقٍ إن شاء الله.(66/22)
وجوب صلة الأرحام
السؤال
عمي يخاصمني كثيراً ولكني أذهب إلى بيته وأسلم عليه ولا يرد عليَّ ولا يكلمني، فهل بقي عليَّ إثم أم لا أذهب إليه؟
الجواب
عمك صنو أبيك، أي: مثل أبيك، وإذا كنت قد أخطأت عليه حتى خاصمك -لأننا لا نتصور أن يخاصمك عمك من غير سبب- فعليك أن تعتذر وأن تسعى إلى الإصلاح، وأن تقدم له كافة المبررات التي ترضيه عنك، وإذا لم يرض فاستمر في استرضائه والسلام عليه وتقبيل رأسه حتى يرضى عنك، هذا إذا كان الخصام في الدنيا، أما إذا كان الخصام في الله، كأن أبغضته في الله، أو كان -والعياذ بالله- بعيداً عن الله، فإنه يجوز لك قطيعته إذا كان مستمراً على معصية الله.(66/23)
حكم ما يسمى بالأغاني الدينية
السؤال
ناقشت أحد الشباب في حكم الأغاني فقال: بعض الأغاني الدينية حلال، مثل أغنية أم كلثوم (حديث الروح)؟
الجواب
الدين ليس فيه أغاني، غداً سوف يصنعون لنا زنا ديني، وربا ديني، وخمر ديني ثم يقولون: كفر ديني، ما معنى: غناء ديني؟! الغناء شيء والدين شيء فلا يصح أن نقول: أغاني دينية، هذا الكلام خطأ -يا إخواني- وهذه من المهزلة أن نسمي كلاماً يأتي عبر أصوات فاتنة وموسيقى صاخبة كلام ديني.
وربما الكلام نفسه الذي قاله محمد إقبال في حديث الروح كلاماً جيداً، لكن عندما غنته شوهته، يقول:
إذا الإيمان ضاع فلا أمانُ ولا دنيا لمن لم يحي دينا
حسناً أين الدين؟ وأين دينكِ أنتِ؟ فهذا الكلام غلط وما في أغاني دينية، والأبيات إذا كانت سليمة ينبغي أن تبقى سليمة ولا تنجس ولا تلطخ بالمعازف والأشياء التي لا ترضي الله.(66/24)
خير المتخاصمين البادئ بالسلام
السؤال
لي صديق تخاصمت معه، وهو من بدأني بالخصام، فمن الذي يبدأ بمراضاة الآخر أنا أم هو؟
الجواب
الذي فيه خير هو الذي يبدأ، في الحديث: (وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) إذا أردت أن يكون الخير فيك فاذهب أنت الأول، وإذا كنت لا تريد الخير فربما يسبقك هو، فأنت كن من أهل الخير واذهب إليه لتكسر رقبة الشيطان، ولا يأتيك الشيطان فيصرفك عن هذا الخير.(66/25)
حكم كشف الزوجة على أخي الزوج
السؤال
كثير من الناس يسكن معه في بيته أخوه، وزوجته لا تحتجب عنه، فما رأيك في هذا؟
الجواب
أقول لك: حرام، (الحمو الموت)، ولا يجوز لك، وإذا كان أخوك معك فليس معنى هذا أنك تطرده من البيت، أخوك يسكن معك لكن لا يسكن مع زوجتك، يسكن معك في بيتك، خصص له غرفة وحماماً، ويجلس في البيت وليس بالضروري أن يجلس معك ويرى المرأة، أو تقول: يا أخي اخرج أو هو يقول: والله لا أسكن معه؛ لأنه غطى امرأته عليَّ، يعني عندما غطيت امرأتي لا تريد أن تقعد معي، أجل ربما من أجل المرأة تجلس عندي، وعندما غطيتها خرجت، جعلك الله ما ترضى، اذهب.(66/26)
صحة حديث المعراج المنسوب لابن عباس
السؤال
هناك كتاب يسمى الإسراء والمعراج فيه ثلاثون صفحة، وهو منسوب لـ ابن عباس، هل هذا صحيح؟
الجواب
لا.
ليس بصحيح، هذا الحديث الموجود فيه ليس بصحيح، لأنه جمع فيه الأحاديث ووضعها وقال: عن ابن عباس رضي الله عنه قال قال ثم أتى بثلاثين صفحة، لا يوجد في الدنيا حديث مكون من ثلاثين صفحة، فهو مجمع من الحديث الصحيح والضعيف والموضوع ولا يعتمد له، ولا يرجع إليه، وليس له أصل.(66/27)
نصيحة لمن لا يغض بصره
السؤال
كنت شاباً أمشي مع شباب ملتزم، ثم سافرت إلى هذه المنطقة، وكنت أغض بصري قبل السفر، ولكني بعد أن تركتهم ووصلت هنا أصبحت في حرب مع الشيطان من أجل غض البصر، فقل لي قولاً يعينني؟
الجواب
أقول لك يا أخي: اتق الله في نظرك، وكما قال الحسن: [اعلم بأن نظر الله إليك أسرع من نظرك إلى المرأة التي تنظر لها] تذكر وأنت تتلفت أن الله يراك في تلك اللحظة؛ لأنهم قالوا للحسن البصري: بم نستعين عل غض البصر؟ قال: [بعلمكم بأن نظر الله إليكم أسرع من نظركم إلى النساء] فاتق الله يا أخي! وحاول وأنت تصطاف أن تبحث عن رفقة طيبة.(66/28)
حكم الاختلاط بالنساء الأجنبيات
السؤال
نحن أهل بادية نجلس مع نساء جيراننا وجماعتنا على القهوة بدون حجاب، فهل علينا إثم؟
الجواب
نعم عليك إثم، وما من نظرة تنظرها إلى امرأة لا تحل لك إلا سمَّر الله يوم القيامة في عينيك مسمارين من نار، وسمر الله في جسدها التي نظرت إليها مسمارين من نار، فلا تنظر لها ولا تنظر لك -يا أخي- فعليك أن تتقي الله؛ لأن الله قد أمر بالحجاب، وقال للصحابة: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53].(66/29)
حكم الخلوة في السيارة بالأجنبيات
السؤال
أنا في البادية، وأصادف أحياناً بعض النساء وما هن بمحارم لي ويطلبن مني إيصالهن إلى السوق أو إلى المستشفى، فهل يجوز لي أن أحملها في السيارة؟
الجواب
لا.
لا يجوز لك أن تحمل امرأة لا تحل لك في السيارة بغير محرم، إذا كان محرمها معها فلا مانع، أما امرأة لوحدها فلا يجوز (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما).(66/30)
سقوط الفاتحة عمن أدرك الركعة
السؤال
إذا دخلت والإمام في الركوع فهل يسقط عني دعاء الاستفتاح وقراءة الفاتحة؟
الجواب
نعم.
تسقط عنك قراءة الفاتحة ودعاء الاستفتاح ولا ينبغي لك أن تضع دعاء الاستفتاح مع قراءة الفاتحة في مرتبة واحدة، دعاء الاستفتاح سنة، وقراءة الفاتحة ركن، لكن تسقط للحديث في سنن أبي داود: (من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة) ولكن بعض أهل الحديث يتزعمهم الإمام البخاري يرى أن إدراك الركوع لا تتم به إدراك الركعة لحديث عبادة بن الصامت: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ولكن الصحيح الذي عليه أهل العلم والأئمة الأربعة كلهم أن: (من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة).(66/31)
حكم صب فضلات الأشربة في المجاري
السؤال
هل يجوز صب الشاي والقهوة وغيرها في المجاري والغسالات التي تذهب إلى البيارات والمجاري العامة؟
الجواب
نعم لا شيء في هذا، ولا تشدد على نفسك -يا أخي- فيشدد الله عليك؛ لأن هذه الفضلات التي انتهت أصبحت بحكم الفضلة التي في يدك، أي لم يعد لها حرمة الطعام الطيب، أصبحت من الأشياء التي تتخلص منها من قدور أو من إناء، لكن بشرط ألا يكون طعاماً تراه بعينك، يعني لا تأتي المرأة بنصف قدر من أرز وتصبه في البيارة، لا يجوز هذا.
لكن أقصد الفضلة التي تأتي في طرف القدر من غير أن يكون طعاماً بارزاً فهذا ليس فيه شيء إن شاء الله؛ لأننا لو قلنا للناس لا، معناه يلزمنا نعمل في مدينة أبها مجاري أخرى، وهذا ليس فيه دليل يحكم به.(66/32)
أحكام في لباس المرأة
السؤال
ما رأيكم في سحاب ثوب المرأة الذي من الظهر أو الجنب أو الأمام؟
الجواب
على ما تراه من الظهر أو الأمام أو، بعض الناس يحمل نفسه ويقول: حرام أن تضع السحاب من الظهر، من الذي قال لك: بأنه حرام؟ ما دام أن هذا الظهر أو الصدر لا ينكشف على أجنبي، أما السحاب تضعه من الأمام أو من الخلف كله سواء.(66/33)
حكم ذبيحة من لا يصلي ولا يصوم
السؤال
لدي قريب لديه مسلخ دجاج في أبها، ويعمل فيه عاملان بأجر شهري، ولكنهم لا يصلون ولا يركعون لله ركعة، فهل يجوز أكل ما يذبحون من الدجاج، مع العلم أنهما يكبران ويتوجهان إلى القبلة، وقد يصيح يقول: الله أكبر! وهو لا يصلي؟ مع العلم أنهم لم يصوموا شهر رمضان؟
الجواب
والله لو يكبر بميكرفون فإن ذبيحته حرام، بعض السلاخين يرائي، أقول له: هل أنت تصلي؟ قال: إن شاء الله، وإذا به يصيح الله أكبر، يظهر لك أنه يكبر ويصلي، لكن إذا كان لا يصلي فهو كافر ولا يجوز أكل ذبيحته وإذا كان صاحب مسلخ فأنت تطعم الناس حراماً، إذا علمت أن هذا العامل لا يصلي ينبغي أن تسفره الآن، ولا يذبح غداً دجاجة واحدة؛ لأن كل دجاجة تذبح من هذا الكافر فإنما تؤكل حراماً، لو أنه يهودي فإنه أفضل من هذا الذي لا يصلي، لو أتيت بيهودي أو نصراني.
مع العلم أنه لا يجوز إدخاله الجزيرة العربية؛ لأن الرسول أمر ألا يبقى في الجزيرة العربية إلا دين واحد، فلا تأتي بيهودي ولا نصراني إلى الجزيرة لأنه لا يجوز، لكن لو أن يهودياً ذبح فذبيحته حلال، وذبيحة هذا الكافر الذي يترك الصلاة لا تحل.(66/34)
حكم إهمال صلاة الفجر
السؤال
أنا شاب في الثانوية أقيم الصلاة والحمد لله ولكني لا أصلي صلاة الفجر؟
الجواب
وماذا تصلي؟ أجل تصلي الصلاة التي تكون مستيقظاً وقتها، إن صلاة الفجر هي المقياس، وهي ترمومتر الإيمان، يقول العلماء: إن الظهر والعصر والمغرب والعشاء مثل الامتحانات الفصلية، لكن هناك امتحان نهائي، ما رأيكم إذا حضر الفصلي كله، وعندما جاء الامتحان النهائي ما أتى، أينجح أو يرسب؟ يرسب ولو يأتي في امتحانات الفصل الدرجة كاملة، فالله جعل صلاة الفجر امتحان نهائي للمؤمنين، وقال فيها: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78].
وقال فيها النبي في الصحيحين: (أثقل الصلوات على المنافقين صلاتي العشاء والفجر) فيا أخي! يا شاب! يا من وفقك الله للصلاة: إن كنت تريد أن تكون مؤمناً فأقم صلاة الفجر واحرص عليها، ومن لا يؤديها في المسجد باستمرار فهذه علامة النفاق، لا تسأل أنا منافق أو مؤمن، أنا من أهل الجنة أو من أهل النار؟ لكن اسأل نفسك في صلاة الفجر، فإن كنت من أهلها باستمرار فاعلم أنك مؤمن، وإن كان العبد لا يشهدها فاعلم أنه منافق، وليس بينه وبين عذاب الله إلا أن يموت، فهذا كلام الرسول يا إخواني، والحديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم يقول: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاتي العشاء والفجر).
حسن أيها الشاب! يا صاحب السؤال، أسألك بالله -أنا لا أعرفك ولا تعرفني- لو صدر أمر هذه الليلة أن صلاة الفجر من حضرها يأخذ مائة ريال، فما رأيك أتقوم أم لا؟ والله إنك سترى هذا المسجد يمتلئ إلى الباب، وسوف يأتي الناس من قبل الصلاة؛ لأنه يقول: سوف يكون التسليم للصف الأول فالأول، فالذي يأتي بالصف الأول يستلم الأول، والذي يأتي هناك ينتظر إلى الساعة التاسعة، ما رأيك؟! إنهم سوف يتقاتلون (بالمشاعيب) على الصف الأول، بل بعضهم سيأتي بمخدته وينام هنا، يقول: لن يأتيني النوم في البيت أنا أخاف أن تفوتني الصلاة، ولو قام وما أيقظ أولاده فسوف يزعلون كلهم، ولو أيقظهم وذهب المسجد وأتى وهم نائمون لضربهم، إذا عندك ثلاثة أولاد ستربح ثلاثمائة ريال ستفضون بها وتتغدون وتتعشون وراتبك وراء ظهرك فمائة ريال أعظم أو الجنة؟! فاسأل نفسك الآن، إن كنت تريد الجنة صل الفجر بالمسجد، وإن كنت تخدع نفسك وتصلي صلاة وتدع صلاة الفجر في المسجد فاعلم أنك مخذول -والعياذ بالله- وعليك أن تتوب إلى الله عز وجل.(66/35)
حكم استخدام الأدوات العامة لأغراض شخصية
السؤال
أنا أشتغل في مكتب فهل يجوز لي أن أستخدم الأوراق والأقلام التابعة للمكتب في عملي الخاص؟
الجواب
لا يجوز، إن كان المكتب لإنسان صاحب عمل شخصي واستأذنت صاحبه وسمح لك فلا مانع، وإن كان المكتب رسمي للدولة فالدولة لا تسمح لك أن تستعمل مقدراتها في أغراضك الخاصة، لا دبوس ولا قلم ولا مسطرة، ولا ظرف، ولا ورقة: ومن أخذ فهو غلول {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] ولو ظرف تأخذه من المكتب يأتي يوم القيامة وأنت تحمله على رقبتك، ولا تقل: الأمر هين؛ لأن موازين القيامة ترجح بالخردلة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:8] لا تلم إلا نفسك، قد تقول: إني قد فعلت في الماضي فنقول: رده، تقول: لا أعلم نقول: قدّر وزد على ما تقدره، إذا كنت أخذت أقلاماً ردها، أو مساطر أو دباسة أو أي شيء تعرف أنك قد أخذته أحضره، تحلل منه اليوم قبل أن تحمله يوم القيامة في رقبتك، قال الله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام:31] وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (لا ألفين أحدكم يأتيني يوم القيامة وعلى رقبته بعير له رغاء فيقول: أغثني يا رسول الله! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، ولا ألفين أحدكم يأتيني وعلى رقبته يوم القيامة بقرة أو شاة أو صامت أو رقاع) كلها تأتي بها وتأخذها من فوق ظهرك تحلل منها الآن قبل أن تموت.(66/36)
قبول توبة المريض بالمرض الخبيث
السؤال
هل توبة المريض بالمرض الخبيث كالسرطان والإيدز مقبولة؟
الجواب
نعم.
توبة المريض مقبولة ما لم يغرغر، إذا غرغر والروح في حلقه لا تنفع التوبة، أما إذا كان مريضاً فإن المريض يمرض وربما يعيش سنين عديدة، فإن توبته مقبولة بإذن الله عز وجل.(66/37)
حكم مجالسة أهل المعاصي
السؤال
يعلم الله أني أحبك في الله وأرجو أن تساعدني على هذا السؤال، فإن عندي أصدقاء أجالسهم ولكن يعلم الله أني لا أعمل أي منكر يفعلونه، وكذلك لا أسمع الأغاني والحمد لله، وإني أسمع المحاضرات، فهل عليَّ إثم من جلوسي معهم؟
الجواب
نعم.
الأصدقاء الذين تجالسهم وهم ليسو من المؤمنين عليك منهم إثم، إلا أن تكون مجالستك لهم بقصد الدعوة، وغرض الهداية، فأنت كالطبيب تصبر عليهم، أما إذا كنت معهم وساكت فإن عليك خطر بأن تكون مثلهم في يوم من الأيام.(66/38)
حكم ترك العمل خوف الرياء
السؤال
شاب داعية إلى الله يثني عليه الناس، فترك الدعوة إلى الله خوفاً من ثناء الناس؟
الجواب
هذا كمن يترك الصوم خوفاً من الناس، لا تترك الدعوة خوفاً من ثناء الناس؛ لأن الصحابة سألوا قالوا: (يا رسول الله! الناس يثنوون على الإنسان فيستبشر، هل هذا من الرياء؟ قال: لا.
ذلك عاجل بشرى المؤمن) إذا عملت العمل لوجه الله، ثم أثنى عليك الناس بما أنت عليه من خير، ووجدت في نفسك اغتباطاً فهذا عاجل البشرى لك، مثلما أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على عمر وقال: (ما سلكت وادياً إلا سلك الشيطان فجاً غيره) وأثنى على أبي بكر وقال: (إيه يا أبا بكر لو وزن إيمان العالمين بإيمان أبي بكر ما وزن بإيمان أبي بكر) وأثنى على عثمان وقال: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة) وأثنى على علي، وأثنى على كثير من الصحابة وفرحوا فهل في هذا رياء؟ لا.
أبداً.(66/39)
البث المباشر ومخاطره
السؤال
ما صحة ما يقال عن البث المباشر، وما واجبنا نحوه؟
الجواب
يا إخواني مسألة البث المباشر نحن نستبق الأحداث، وأنا أقول: إن الخوض في هذه الأمور من الخوض في الأمور التي لم يحن أوانها، فلكل حادثة حديث ونسأل الله أن يكفي المسلمين كل بلاء في الدنيا والآخرة.(66/40)
حكم زواج الشغار
السؤال
شابان يريد كل منهما أن يتزوج بأخت الآخر بغير شرط؟
الجواب
لا يصح لا بشرط ولا بغيره؛ لأنه وإن لم يشترط الشرط فهو مشترط في القلب، وهذا يسمونه نكاح الشغار وهو حرام في الشرع، لكن إذا أتيت تتزوج من واحدة من غير أن يكون في ذمتك أو تواطئك أو أنكم اتفقتم أن هذه بهذه؛ لأن بعض الناس يتحايل وما على الله حيلة، لكن لو تزوجت ببنت واحد، وبعد ما تعارفتم تبين لك أن عندهم ولد وعندهم بنت وأردتم أن تتزوجوا فليس هناك شيء.(66/41)
حكم خروج الزوجة بدون إذن زوجها
السؤال
سمعنا أن المرأة التي تخرج بدون إذن زوجها عليها لعنة الله، فما رأيكم في المرأة التي تخرج من بيت زوجها في غيابه وبالملابس الجديدة؟
الجواب
هذا محرم عليها، لا يجوز لها أن تخرج في غيبته سواءً كان موجوداً أو غائباً إلا بإذنه، وإذا خرجت فلا يجوز لها أن تخرج متبرجة.(66/42)
حكم الاستهزاء بالملتزمين
السؤال
كنت عاصياً في شبابي والآن تبت إلى الله، ولكن للأسف زملائي لا يزالون يستهزئون بي ويسخرون مني، خصوصاً عندما أطلقت لحيتي وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فماذا أصنع؟
الجواب
اصبر على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، واعلم بأن سنة الله جارية في أن المجرمين يستهزئون بالمؤمنين، هذه سنة والله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [الحجر:95] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112] فهؤلاء أعداء يحاولون زعزعة عقيدتك وأقل درجة أنك تثبت على الإيمان، كيف تريد أن تدخل الجنة وأنت لم تثبت على شيء من دينك مقابل استهزاء الناس، بعض الناس يقولون له: يا مطوع! قال: وأنا مالي في هذه الورطة، أنا عندما أطلق لحيتي أضع عليها لوحة أني مطوع، ويناديني الناس: يا مطوع يا مطوع، إذاً كن أحلس أملس وضع رأسك مع الرءوس وامشي، فهذا خطأ لحيتك في وجهك سنة وصيانة وحماية لك، لا تستطيع أن تعمل سوءاً وأنت صاحب لحية، تستحي، فجزاها الله خيراً لأنها تعينك على الخير.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(66/43)
آثار الصدق
قبل أن يتحدث الشيخ في موضوع المحاضرة تحدث عن الدعاء وأهمية مرافقة العمل له، مبيناً أن من شروطه توخي الكسب الحلال، وقد أعقب ذلك بالحديث عن موضوع المحاضرة وهو الصدق، فذكر بعض الآيات التي فيها مدح للصدق وأهله، ثم تحدث عن الكذب بحجة الضرورة، ذاكراً قصة كعب بن مالك رضي الله عنه في تخلفه عن غزوة تبوك رضي الله عنه، ومبيناً فيها النهاية الحميدة لقصته.(67/1)
أهمية مرافقة العمل للدعاء
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: أسعد الله أوقاتكم، وجمعنا الله وإياكم في الدنيا على الهداية، وفي الآخرة في دار الرحمة والغفران، وآباءنا وأمهاتنا وإخواننا المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وهذا الدعاء ينبغي أن يرافقه العمل؛ لأن العلماء يقولون: إن المؤمن يعيش دائماً بين الخوف والرجاء، الخوف من عذاب الله، والرجاء في رحمة الله.
ومن الرجاء والخوف ما يكون رجاءً وخوفاً حقيقياً, ومنها ما يكون رجاءً وخوفاً صورياً كاذباً.
والرجاء الحقيقي: هو الذي يكون مصحوباً بالعمل.
والخوف الحقيقي: هو الذي يكون مصحوباً بالامتناع عن المحرمات، والقيام بالفرائض والواجبات.
أما الذي يرجو رحمة الله دون أن يتعرض لها، ويخشى عقاب الله دون أن يهرب منه، فهذا رجاؤه كاذب، وخوفه كاذب.
وقد ذكر الله عز وجل في القرآن الكريم نماذجاً من الرجاء الصادق، فقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29].
عملوا المقدمات التي يبرهنون بها على أن رجاءهم صادق.
وأضرب لكم على ذلك مثالاً لمن يرجو الرجاء الصادق، ومن يرجو الرجاء الكاذب: لو أن إنساناً يريد نعمة الولد؛ ونعني بالولد: الذكر والأنثى؛ لأنه إذا أُطلِق، فهو يُراد به الجنسَين، حتى لا يظن أحد أن المراد به الذكر دون الأنثى، يقول الله عز وجل: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء:11] {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة:233]، إلى غير ذلك من الآيات، فالذكورة والأنوثة تندرج تحت لفظ الولد، فإذا أراد رجل أن يُنعم الله عليه بنعمة الولد؛ لِمَا تحدثه هذه النعمة من زينة في هذه الحياة؛ فإن الله قد نص على هذا في القرآن فقال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، ولا يستطيع الإنسان أن يعرف قدر هذه الزينة إلا إذا مارس أسبابها -إذا تزوج- ووجد أن قطعة من جسده وفلذة كبده تسير على الأرض أمامه؛ فإنه يحس بنوع من الجمال تضفيه هذه النعمة على حياته.
فلو أراد إنسان هذه النعمة وجلس يدعو ويرجو الله أن يرزقه ولداً، دون أن يتزوج، فهل يُسمى هذا الرجاء رجاء صادقين؟! لا.
إذا أردتَ أن تُرزق هذه النعمة فإنك لا بد أن تتزوج، ثم بعد ذلك تطلب من الله أن يرزقك الولد، ولكن إذا ظللت في الصباح والمساء تطلب من الله أن يرزقك بولد يملأ عليك الحياة سروراً وحبوراً دون أن تتزوج؛ فإن هذا يُسمى: رجاء الكاذبين؛ لأن لله سنناً في الكون، لا يُنَزِّل لك ولداً من السماء هكذا بدون زوجة، بل لا بد أن تتزوج.
وكذلك لو أن عند إنسان مزرعة، وهذه المزرعة قابلة للحراثة، وقابلة للزراعة، ولكن الرجل كسلان، لا يستطيع أن يعمل فيها، ويزرعها، ويسقيها، ويتعهدها، فجاء إليها، وطلب من الله عز وجل أن يزرع له هذه المزرعة، وأن ينبت فيها الأشجار، وأن يوجد فيها الثمار، وأن يشق فيها الآبار، وأن تكون خضراء صيفاً وشتاءً، ودعا بأدعية كثيرة، فهل يمكن أن يكون هذا؟! وطلب من الله عز وجل وقال: اللهم أنزل لي (دَرَكْتَرات) من السماء و (حراثات) من عندك، يا رب العالمين، وعمالاً يعملون فيها بالليل، وآتي في النهار وهي مزروعة.
هذا دعاء المغفلين! لا يمكن أن يحصل هذا! متى تكون راجياً وداعياً حقيقياً؟! إذا جئتَ على المزرعة، فنظَّفتَها، ثم حرثتَها، ثم بذرتَها، ثم أسقيتَها، وبعدما انتهى كل شيء مما عندك، بقي ما عند الله، وما هو؟ هو الإنبات، {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:64]، فتأتي فتقول: اللهم أنبت لنا الزرع، اللهم بارك لنا في ثمارنا، اللهم احفظها من الآفات.
هنا يكون دعاؤك ورجاؤك دعاء الصادقين، الذين أخذوا بالأسباب وتعرضوا لها، واعتمدوا على مسببها وهو الله عز وجل.(67/2)
أهمية الأكل الحلال في استجابة الدعاء
لا نريد أن نسهب في هذا الموضوع؛ ولكني جئت إليه من باب أن دعاءنا ينبغي أن يكون مرافَقاً ومصاحَباً للعمل؛ فإذا دعا العبد ربه وعمل صالحاً كان حرياً أن يكون -إن شاء الله- من أهل الاستجابة، أما ذلك الرجل الذي تعرفونه في الحديث، والحديث في صحيح مسلم: (الرجل أشعث أغبر)، أي: جميع ملابسات ودواعي الاستجابة موجودة، أشعث، أغبر، وبعد ذلك، (يمد يديه إلى السماء) يرفعها، وبعد ذلك يقول: (يا رب! يا رب!) يدعو الله، ويكرر، هذه كلها وسائل إجابة؛ لكن: (مطعمه حرام، ومشربه حرام، وغُذِّي بالحرام) فهل يُستجاب له؟ قال: (فأنى يستجاب له؟!) ما أخذ بوسائل الدعاء الحقيقية من الكسب الحلال؛ لأن الكسب الحرام حاجز بين العبد وبين الله بالدعاء، لا يستجيب الله لجسد نُبِتَ على سُحت أو غُذِّي بالحرام، وكما جاء في الحديث، والحديث موجه لـ سعد بن أبي وقاص، خال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (يا سعد! أطِبْ مطعمك تُجَبْ دعوتُك) إذا أردت أن تكون مستجاب الدعوة ففكِّر في المال الذي تأكله، ولا يدخل بطنك إلا حلالٌ، وطبعاً هذا الحلال هو من الدخل الذي يأتيك، فراتبك إن كنت موظفاً، يجب أن تحرص كل الحرص على ألا يكون فيه ريالٌ من حرام، كيف؟! عن طريق الدوام المخلص المنضبط، من أول دقيقة إلى آخر دقيقة، وإذا تأخرت فيكون بعذر، ولدى صاحب الصلاحية علم ليأذن لك، أما التهرب والتسيُّب والتأخر، كأن تأتي في الساعة الثامنة ثم توقِّع على الساعة السابعة والنصف، فتتأخر كل يوم نصف ساعة، فهذه ستخرج منك يوم القيامة دماً، تخرج عذاباً من ظهرك، فإن حضرت في الساعة السابعة والنصف فوقع في الساعة السابعة والنصف، وإذا جئت في الساعة الثامنة إلا ربعاً فَضَعْ الساعة الثامنة إلا ربعاً، واذهب إلى المدير وقل له أنك تأخرت ربع ساعة، فإن أردت أن تحسبها احسبها؛ لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، لكن إذا كان هناك مدير جيد يريد أن يربي العاملين عنده على الجدية والإخلاص، وقام بهذا الأمر اتخذه كل الناس عدواً، وقالوا: فلان مشدِّد، هذا منفِّر.
وذلك المتساهل المتسيب، الذي ليس عنده من عمل، يقولون عنه: هو طيب، الله يذكره بالخير، الله أكبر يا ذاك الرجل! ما أحسن منه! سبحان الله! انعكست المفاهيم! أصبح المتساهل هو الطيب، والجِدِّي هو الرديء، لماذا؟ لأن مفاهيمنا مغلوطة، ونظراتنا معكوسة، فإنا لله وإنا إليه راجعون! فلا بد من الأخذ بالأسباب.(67/3)
مدح الصدق وأهله في القرآن الكريم
أيها الإخوة في الله! سبق أن قلنا: إن أسوأ الأخلاق وأقبحها وأشنعها في الدين والأخلاقيات عند الأمم هو: الكذب، وأن أفضلها وأرقاها وأعظمها هو: الصدق، والصدق فضيلة، حثت عليه الأديان، وأيضاً هو خلق كريم، تتخلق به الشعوب الراقية.
فالأمم المتمدنة الناهضة ترى أن من العيب أن تكذب، حتى ولو لم تكن على دين؛ لأن الكذب يلغي شخصية الإنسان، والكذب يجعل الإنسان كأنه غير موجود، ليس له قيمة؛ لأن قيمتك في صدقك وثقة الناس فيك، فإذا كنتَ لستَ بصادق، ولست موضع ثقة للناس، فلا قيمة لك، بل قيمتك قيمة حيوانية، لا مفاهيم، ولا مبادئ وأخلاق.
كان الصدق عند العرب شيء معروف، لا أحد يكذب أبداً.
وقبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم كان يُسمى: الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه، وكان أبو بكر الصديق صِدِّيق هذه الأمة، وأيضاً أثنى الله في كتابه على إسماعيل، فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:54 - 55].
ويقول عز وجل وهو يمتدح صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن صدقوا حقيقة في إيمانهم فقال: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
وقال: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب:8].
وقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33].
فالصدق: محمدة في الدنيا والآخرة.(67/4)
حكم الكذب بحجة الضرورة
وبعد أن تكلمنا في الأسبوع الماضي عن الكذب وعاقبته، وأنه دمار وخسارة ووبال في الدنيا والآخرة، وأنه مادة الكفر والنفاق، فإن الكفر والنفاق بناء أساسه وأركانه وأعمدته وقواعده الكذب، وأي شيء يُبنى على الكذب هل تكون له خاتمة؟! لا والله، بعدها قُدِّمت أسئلة كثيرة، واتصل بي بعض الإخوة بعدما خرجت من المسجد يسألون قائلين: ما حكم من يلجأ إلى الكذب اضطراراً -أي: أنه لا يريد أن يكذب عن اختيار؛ لكنه مضطر- لأنه لو صدق لتعرض للضرر، ولعرَّض نفسه لشيء من العنت والحرج والمشقة، فما الحكم؟ نقول له: إن الصدق مطلوب، والكذب غير وارد أبداً، حتى ولو كان الصدق يعرضك لشيء من الأذى والمشقة؛ لأنك في هذا الموقف الذي تريد أن تصدق فيه أو تكذب وقعت بين فَكَّي (كمَّاشة)، بين عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، أنت إن كذبت سلمت من سخط الدنيا، أو ضيق الدنيا، أو مؤاخذة الدنيا، كأن تكذب على الأستاذ لكي تسلم من العصا، أو تكذب على أبيك كي تسلم من المؤاخذة، أو تكذب على زوجتك حتى تسلم من اللّوم، أو تكذب على جارك، أو تكذب على قريبك، وتقول في نفسك -مثلاً-: لو قلتُ له الصدق ربما يغضب عليَّ، فأنا أداري خاطره؛ لكي لا يغضب عليَّ، فكذبتَ هنا؛ لكن رتَّبت بكذبتك هذه عليك عقوبة من عقوبات الآخرة، تنتظرك، ولو أنك صدقت في الدنيا لرتَّبت على نفسك عقوبة من عقوبات الدنيا، تنتهي منك، فأنت وازن وقارن بين عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة، تجد أنه لا نِسْبة ولا تناسب، إذا كانت عقوبة الدنيا واحدة، فعقوبة الآخرة ملايين، دعهم يغضبوا، ماذا هناك؟! اصدق عند المرأة، ودعها تغضب؛ لأنك لو كذبتَ فليتَها ترضى، اصدق عند الجار، واصدق عند المدير، وبعد ذلك إذا صدقت باستمرار أرحتَ نفسك؛ لأن الصدق عُملة واحدة لها وجه واحد فقط، ليس عندك إلا الصدق؛ لكن الكذب فيه تلوُّن، ولهذا يقول الحكماء: إذا كنتَ كَذوباً فكن ذَكوراً.
أي: اجعل ذاكرتك قوية لكي لا تقول كذبة الآن، وتأتي غداً تنقضها، وكم جهدك تتذكر كل ساعة، ودائماً الذي يكذب ينسى.
وأذكر مرة من المرات، وأنا مسئول، جاءني أحد العاملين يطلب مني إجازة اضطرارية لمدة ثلاثة أيام، فقلتُ له: لِمَ؟ ماذا عندك من شُغل؟! فطبعاً لا بد أن أقتنع بالعذر حتى أعطيه الإجازة، فقال: عندي أختي مريضة، ومنوَّمة في المستشفى، وهو ليس لديه أخت، ولا معه مريضة، وإنما معه عمل آخر، قلتُ: لا مانع، فوقعت له على الإجازة، وذهب، وبعد فترة، أظنها حوالي بعد شهر، ونحن جالسون، وهو يصب الشاي، فكأنه أتى بقطعة خبز من حب جيد، فقلت له: والله هذا الحَب جيد، يا أخي! فقال: تريد أن أعطيك من هذا الحب؟ قلت: من أين؟ قال: معي في المنزل أتيت به من المزرعة، فقلتُ: متى؟ قال: يوم أخذت تلك الإجازة، فقلت له: أنت أخذت ثلاثة أيام؛ لأن أختك مريضة، أم لكي تسوِّي الزرع والجرجير، قال: الله أكبر على الكذب! فقلت له: كفى، عرفتُ الآن أنك كذاب.
فكم تساوي هذه الكذبة؟! فلو أنه جاءني ذاك اليوم وقال لي: عندي (عَرْنة) في الزرع، وأريد أن (أدوسها)، وما عندي فرصة، فأنا أخرج من الدوام بعد العصر، فهل سأقول له: لا؟! بل أقول: نعم.
لا مانع؛ لكن وضَعَها كذبة، ونسيها؛ لأنها ليست صدقاً.
فالصدق هو الذي لا ينساه الإنسان، أما الكذب فينساه الإنسان.
فيقول الحكماء: إذا كنتَ كَذوباً فكن ذَكوراً.
أي: شغِّل (مخَّك) إلكترونياً، بحيث لا تنسى أبداً.
ومرة من المرات، وكنا في الدوام، افتقدت أحد العمال، وما وجدتُه، وكان يوم ثلاثاء -وتعرفون أن يوم الثلاثاء أكثر الناس يخرجون دون إذن؛ لكي يتقضون من السوق- فبحثنا، أين فلان؟ أين فلان؟ فأجاب رجل آخر وقال: غير موجود، فجلست أبحث عنه حتى جاء بعد صلاة الظهر، فقلت له: أين أنت يا أخي؟! فقال: بل أين أنت؟ أنا بحثت عنك وما وجدتُك، فقلت له: أنا موجود وما خرجت، قال: جئتك إلى مكتبك وما وجدتُك، فظننتُك ذهبتَ هكذا أو هكذا، قلتُ: ماذا هناك؟ قال: جاءني اتصال هاتفي أن أختي توفيت في المستشفى -وهذا غير الأول وطبعاً يعرفون أننا لا نعرف أهاليهم؛ لأنهم من بلاد بعيدة- فقلت: توفيت؟ قال: نعم.
توفيت، واستلمنا الجثة، ونتصل الآن على الجماعة، لكي يأتوا بعد العصر، ثم ظهر من بعد أن الرجل لديه ثلاثة رءوس من الغنم، ويريد بيعها في سوق الثلاثاء، وما لديه فرصة إلا اليوم، وما استطاع أن يعتذر، فجاء بهذه الكذبة، فقلت: جزاك الله خيراً، وأحسن الله عزاءكم، ما اسم الأخت الكريمة المتوفاة؟ قال: فلانة، قلت: تعال نسجلها، وفي أي قسم؟ قال: في قسم النساء، -فهنا يتضح أن الكذب لا يمكن أن يستمر- قال: قسم النساء، قلت: خيراً، ثم استدعيت أحد الموظفين وقلت له: اكتب كتاباً إلى إدارة المستشفى، واطلب منهم معلومات كافية عن المتوفاة فلانة بنت فلان؛ نظراً لأن أخاها يعمل عندنا، ونريد أن نمنحه إجازة من أجل العزاء، قال العامل: اكتب اكتب -أي: يريد أن يتحداني- قلت للموظف: اكتب، واذهب أنت، فذهب العامل، وإذا بالموظف يكتب فعلاً، والعامل قلق، يتتبع الخبر، هل سيكتب حقيقة أم مجرد تخويف؟ أخيراً: كُتب الكتاب، وجيء به إليَّ من أجل التوقيع، وعندما أردت التوقيع إذا بالعامل يدخل عليَّ، ويقول: حذار، الكذب ليس بجيد، أنا أتيت لكم بهذا العذر، أريد أن تعذرني فتورطني وتكتب للصحيَّة، وليس هناك من أحد، والله ما ماتت أختي، ولا معي أخت، فقلت: إذاً لماذا تكذب عليَّ؟! هل أنا مغفل؟! قال: لا.
قلت: فماذا؟ قال: استحييتُ منك، قلت: سبحان الله! والله ما استحييت مني، لو أنك استحييت مني لصدقت معي؛ لكنك ظننتَ أنني (كرتون) جالس على الكرسي، وأن كذبتك ستنطلي عليَّ، أتدري؟ والله لأضاعِّفنَّ عليك العقوبة، فالعقوبة عندنا: (50%)، ثم: يوم على الكذب، والإدلاء بمعلومات غير صحيحة، فأصُكُّه بيومين، قال: كفى تبت ولن أكذب إلى يوم القيامة.
فالشاهد في الموضوع -أيها الإخوة- أنه لا يوجد داعٍ للكذب، ونحن نقول هذا -أيها الإخوة- ونؤكد عليه باستمرار: لا يوجد داعٍ للكذب، لكن أكثر الناس يكذبون من غير داعٍ ولا ضرورة، فكيف تكذب؟! لا.
بل كن صادقاً في كل شيء، في كل تصرفاتك، وعوِّد أولادك على الصدق، واجعل لهم ثواباً، فلو دخلت المنزل ووجدتَ -مثلاً- (راديو) مكسوراً، أو (ثلاجة) مخلوعة، ثم جاء ولدك وقال: أنا فعلت ذلك يا أبي، فقل له: لا يهمك -إن شاء الله- لن تكررها، ولو أنك كذبتَ ثم اكتشفتُ بعد ذلك لعاقبتُك عقوبة مضاعفة؛ لكن ما دمتَ صادقاً فأنا أشكر فيك هذه الشجاعة الأدبية، وأشكر فيك هذا الصدق والوفاء، سامحك الله، فبهذه الطريقة! يحب الولد الصدق إلى يوم القيامة؛ لأن الصدق نجاة.(67/5)
قصة كعب بن مالك رضي الله عنه
وسوف أذكر لكم الآن القصة التي وعدتُكم بها؛ لنعيش في أجوائها، وكان بالإمكان أن آتي بها مما حفظت من الحديث، ولكني آثرتُ أن أنقل لكم الحديث بنصه، كما رواه الإمام البخاري في صحيحه، وهو من حديث كعب بن مالك، حديث الثلاثة الذين خُلِّفوا؛ لننتقل جميعاً إلى ذلك الجو العظيم، وتلك المشاهد التي مرت بهذا الصحابي الجليل وهو مشهد التخلف، ثم مشهد المعاناة بعد رحيل النبي صلى الله عليه وسلم، وذهابه إلى الغزو، ثم مشهد الألم الذي حصل له بعد أن رجع الرسول، ماذا يقول ويكذب، ثم مشهد الصدق، ثم مشهد المعاناة، وأخيراً مشهد الفرج الذي جاء بعد توبة الله عز وجل على كعب بن مالك، وصاحبيه هلال بن أمية ومرارة بن الربيع رضي الله عنهم وأرضاهم.(67/6)
نبذة مختصرة عن راوي الحديث ابن شهاب الزهري
الحديث يرويه الإمام البخاري في صحيحه، وهو من رواية ابن شهاب الزهري، الذي ذكرنا لكم طرفاً من سيرته، والسيرة ذكرها الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: [وهو أنه دخل هو وسليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك، فسأل هشامٌ سليمانَ بن يسار -وهذا الأخير إمام من أئمة الدين- قال له: من الذي تولى كِبْرَه؟] وذلك في قضية الإفك، التي دارت حول عرض عائشة رضي الله عنها، قال الله: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11]، وبني أمية متعاطفين مع عائشة وضد علي رضي الله عنهما.
فقال: [من الذي تولى كِبْرَه؟ قال سليمان بن يسار: عبد الله بن أُبَي بن سلول -زعيم المنافقين- قال: كذبتَ، بل علي بن أبي طالب، فسكتَ سليمان، قال: أمير المؤمنين أعلم، ثم دخل الزهري قال له: يا زهري! من الذي تولى كِبْرَه في الإفك؟ قال: عبد الله بن أُبَي بن سلول، قال: كذبتَ، بل علي بن أبي طالب، قال: أنا أكذبُ -لا أبا لك-؟! بل كذبتَ أنتَ وأبوك وجدك، والله لو نادى منادٍ من السماء أن الكذب حلال ما كذبتُ] ابن شهاب هذا لا يعرف الكذب رضي الله عنه وأرضاه، وهو إمام وعَلَم من أعلام الإسلام، وحافظ من حفاظ الأمة، وهو تابعي، أدركَ أبا هريرة، ولقي بعض الصحابة، مثل ابن مسعود، وأخذ عنهم.
يقول هو عن نفسه؛ فهو حافظ، وعقليته عقلية كمبيوتر، لا ينسى شيئاً، فيقول: [والله ما استودعتُ قلبي شيئاً فنسيه قط] ولم يكن له في بيته كتاب واحد، كانت كتبه كلها في رأسه، وما عنده مرجع واحد إلا رأسه، وكانت تودع عنده الأمانات من العلم، إذا أراد الرجل أن يحج أو يغزو أو يسافر، وعنده عشرة أحاديث أو خمسين حديثاً أو ستين حديثاً فإنه يذهب إلى ابن شهاب الزهري ويستودعها عنده حتى يرجع؛ لأنه يخاف أن يسافر، وينساها من جراء أعمال السفر.
وتذكر كتب العلم أن رجلاً غزا في سبيل الله، وكان معه مائة حديث، فجاء إلى ابن شهاب الزهري، وقال: [إن عندي مائة حديث، وإني أخشى أن تتفلت عليَّ، وإني ذاهب للغزو في سبيل الله، أريد أن أستودعها عندك، قال له: كثرت عندنا الأمانات؛ لكن هات ما عندك، فسمَّع ذاك، وهذا يسجل، من مرة واحدة فقط، فذهب الرجل، وبعد عشر سنوات من الجهاد استوطن، ثم حنَّ إلى بلاده ورجع، فلما رجع كان أول شيء يسأل عنه الحديث، يريد أحاديثه، فجاء إلى ابن شهاب، وقال له: يا إمام! إني كنتُ قد استودعتُ عندك مائة حديث قبل سفري إلى الغزو، وقد جئت اليوم، وأنا أريدها، قال: متى؟ قال: قبل عشر سنوات، قال: أبطأتَ علينا -أي: تأخرت علينا- لكن سجل، هات قلمك -ثم يُمليها عليه كاملة، مائة حديث، كأنها مكتوبة بين عينيه-] ويقول هو عن نفسه: [ترددتُ بين الحجاز والشام خمساً وأربعين سنة، والله ما استطرفت بها حديثاً واحداً -يقول: ما وجدتُ طريفاً، أي: جديداً في الشام ولا في الحجاز - إلا وهو في رأسي] كل الأحاديث الموجودة في الشام وفي الحجاز موجودة في رأسه، رضي الله عنه وأرضاه.
يقول الإمام مالك: [جلستُ إلى الزهري، فحدثني بمائة حديث ثم التفت إليَّ -ومالك لا يحتاج إلى تعريف؛ لأنه علاَّمة- فقال: يا مالك! كم حفظتَ من الأحاديث؟ -أي: التي قلتُها لك الآن؟ - قال: حفظتُ أربعين -ومن الذي يحفظ من مرة واحدة أربعين حديثاً؟ أي أن نسبة الحفظ عنده (40%) - قال: حفظتُ أربعين، فوضع الزهري يده على جبهته، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! كيف نقص الحفظ] يقول: كيف نقص الحفظ؟ لم تعد تحفظ إلا (40%)؟ أما الزهري فيحفظ (100%) كلها فلا ينقص، رحمة الله عليه.
وكانت علومه كلها من رأسه، وكان يكثر من شرب العسل، ويقول: [إن شرب العسل يُقوي الذاكرة] وأنا لا أدري، هل هذا الكلام صحيح أم لا؟ لكن ذكره عنه العلماء، والذي أعرف أن شرب العسل شفاء من كثير من الأدواء، خصوصاً أدواء البطن والقرحة والتهابات القولون وأدواء الباطنية، فهذه كما نص القرآن: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس} [النحل:69]، ففيه شفاء؛ لكن أفادنا الإمام هذا أن شرب العسل يقوي الذاكرة، ويجعل الإنسان سريع الحفظ، وبالإمكان -والحمد لله- أن نشرب العسل باستمرار؛ ولأنه لا يضر؛ لأن بعض الشباب أو الناس يقول: أريد أن آكل عسلاً، فإذا أكلت ملعقة يضيمني ويحرقني، هذا بالطبع يحصل؛ لأنه يأكله، فلا تأكله بل اشربه، فهناك فرق بين من يأكل ويشرب؛ لأنك إذا أكلته هكذا ونزل إلى معدتك، فإنه يكون ثقيلاً وحاراً، أما إذا ذوَّبتَه في الماء الفاتر، ثم شربته، فإنه يسري مباشرة من الفم إلى المعدة، والمعدة لا تجري عليه إي إجراء، كل أطعمة الدنيا تحتاج إلى هضم إلا العسل فإنه مهضوم في بطن النحلة، ينزل مباشرة إلى الدم ويسري في الجسم مباشرة، فلا يحتاج إلى أي إجراءات داخلية؛ لأنه كان يكثر من شرب العسل.
يحدث عنه عمرو بن دينار -وهذه عظيمة جداً- يقول: [ما رأيتُ أنَصُّ للحديث من الزهري -أي: أحْفَظَ لِنَصِّ الحديث- وما رأيتُ أحداً أهون عنده الدنيا منه، والله لقد كانت عنده الدراهم كالبَعَر -يقول: الدنيا هذه إذا رآها فما كأنه يقلب إلا بَعَراً- لا يحسب لها حساباً، ولا يعرف لها وزناً].
ويقول عنه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: [عليكم بـ ابن شهاب، فإنكم لا تجدون أحداً أعلم بالسنة منه رضي الله عنه وأرضاه](67/7)
تخلف كعب رضي الله عنه عن غزوة تبوك
يحدِّث هذا الحديث الذي نحن بصدده، فيقول: عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك -ولده الكبير- وكان الذي يقود أباه ويلازمه عندما كَبُر وعمي، يقول: سمعت كعب بن مالك -أي: أباه- يحدِّث حين تخلف عن غزوة تبوك، فيقول: لم أتخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في غزوة تبوك، غير أني كنتُ تخلفتُ بـ بدر، ولم يعاقب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً تخلف عنها؛ لأنه إنما خرج لاقتطاع عير قريش، حتى جمع الله بينه وبينهم على غير ميعاد، ما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر للقتال، بل خرج لاقتطاع القافلة؛ ولكن وقعت المعركة، ونصر الله فيها رسوله وحزبه، ولقد شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة - كان من النقباء الذين بايعوا في العقبة - يقول: وما أحب أن لي بها بدراً، -يقول: ما أحب أني شهدتُ بدراً ولا شهدتُ بيعة العقبة - إن كانت بدر أذكر في التاريخ منها -أي: أن بدراً مشهورة في تاريخ الإسلام أكثر من شهرة قصة ليلة العقبة -.
ولقد كان من خبري: أنني لم أكن أقوى ولا أيسر حين تخلفتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة ثم يقول: والله ما اجتمعت عندي راحلتان قط إلا في تلك الغزوة -يقول: ما كنت أقدَر ولا أيسر مني في تلك الغزوة- وما اجتمع عندي راحلتان -أي: جَمَلان في أي غزوة إلا تلك الغزوة- ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا وَرَّى بغيرها -وَرَّى، أي: أخفى جهة السير إلى هذه الجهة، وذكر أنه سيذهب إلى جهة أخرى- إلا هذه الغزوة، فقد غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر المسلمين بها -لم يقل لهم: نذهب إلى جهة معينة غير الجهة التي ذهب إليها لأنه كان في حر شديد، وفي سفر بعيد، وملاقاة عدو كثير-.
فجلَّى للمسلمين أمرها، حتى يأخذوا الأُهبة، ويستعدوا لها كامل الاستعداد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومها كثير جداً، لا يجمعهم كتاب حافظ -أي: لا يوجد ديوان يستطيع أحدٌ أن يعدهم فيه؛ لأنهم كما ذُكِر في السنن أنهم بلغوا أربعين ألفاً، وقيل: ثلاثين ألفاً، وقيل: عشرة آلاف، والصحيح: أنهم ثلاثون ألفاً-.
قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى -أي: من كثرة الناس يعتقد أن أي شخص يريد أن يتأخر أنه لن يظهر- ما لم ينزل فيه وحي، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله، وتجهز المسلمون، وطفقتُ أغدو لكي أتجهز، فأرجع ولم أقضِ شيئاً، فأقول في نفسي: إنني قادر.
ولم يزل يُنادَى بي حتى اشتد بالناس السير، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أقضِ من جهازي شيئاً، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحق بهم، فغدوتُ بعد أن فصَلُوا لأتجهز، فرجعتُ ولم أقضِ شيئاً، ثم غدوتُ، ثم رجعتُ ولم أقضِ شيئاً، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممتُ بعدهم أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلتُ، فلم يُقدَّر لي ذلك -ما عنده أي عذر، إنما كان يُسَوِّف، ويقول: سأخرج، حتى ذهب عليه الوقت ولم يخرج- ثم كنتُ إذا خرجتُ إلى السوق بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم فطفتُ في السوق أحزنني أنني لا أرى إلا رجلاً مغموساً في النفاق -يقول: المخلفون كلهم كانوا من المنافقين، وهو مؤمن- فيقول: ما من أحد أراه إلا منافقاً، فأحزن كثيراً، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء الذين اعتذروا وأعفاهم الله من الغزو -الأعمى والأعرج والمريض هؤلاء أعذرهم الله عز وجل- ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في تبوك: ما فعل كعب؟ فقام رجل من بني سلمة، وقال: يا رسول الله! حبسه بُرْداهُ، ونَظَرُه في عِطْفِه -البُرد: الثوب، ونَظَرُه، أي: تَلَفُّتِه في جنبه، أي: مشغول بشكله وجماله- فقام معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه وقال: بئس ما قلتَ، والله يا رسول الله! ما علمنا عليه إلا خيراً.
الله أكبر! ما أعظم الدفاع عن المؤمن بظهر الغيب، وهذا يجب أن يحيا في نفوس الناس، فإذا سمعتَ أن رجلاً ينال من مؤمن، وأنت تعرف البراءة في المؤمن أن تدافع عنه، وتقول الحق، وتقول: والله ما علمنا عليه إلا خيراً؛ لأن هذا الرجل أراد بها منزلة عند النبي صلى الله عليه وسلم من أنه هو جاهد وغزا، وذلك جالس.
قال: حبسه برداه، ونظره في عطفه، فقال معاذ: بئس ما قلتَ، والله ما علمنا عليه يا رسول الله إلا خيراً، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً.(67/8)
مشهد الصدق من قصة كعب رضي الله عنه
قال كعب: فلما بلغني أنه قفل راجعاً من تبوك -جاءت الأزمة الشديدة الآن، ماذا يقول كعب لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ - حضرني همي، وطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطه غداًَ؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله قد أظل قادماً زاح عني الباطل، وعرفتُ أني لن أخرج منه أبداً بشيء من الكذب، فأجمعتُ وعزمتُ على صدقه مهما كانت النتائج، وأصبح رسول الله قادماً، وكان إذا قدم من سفرٍ بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل جاءه المخلفون من الأعراب -المنافقون الذين جاءوا يعتذرون- فطفقوا يقدمون الأعذار، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقَبِل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، فسلموا من سخط الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن ماذا حصل؟ نزل قول الله عز وجل فيهم: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80]، هذه أول المصيبة، فما العمل الآن؟! {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} [التوبة:94].
يقول: (أما أنا فلما سلمتُ عليه تَبَسَّم تَبَسُّم المُغْضَب -أي: المعاتب- لماذا يا كعب تتخلف عن الجهاد؟ -ثم قال: تعال، فجئتُ أمشي حتى جلستُ بين يديه، قال: ما خلَّفك يا كعب؟! ألم تكن قد ابتعت ظهراً؟ -اشتريت لك ظهراً، أي: جملاً- قلتُ: بلى.
ثم قلت: إني والله لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا لرأيتُ أني سأخرج من سخطه بعذر -يقول: سألفق له، وهو رجل قدير على الكلام- ولقد أعطيت جدلاً -عندي إمكانية- ولكن والله لقد علمتُ لئن حدثتُك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك عليَّ في الدنيا أو في الآخرة -يقول: لا أستطيع الكذب- والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفتُ عنك، فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، قم حتى يقضي الله فيك -لا يستطيع رسول الله أن يستغفر له؛ لأنه ليس له عذر، كيف يستغفر له؟! فقال: الحكم فيك لله تبارك وتعالى- قال: فقمتُ وخرجتُ وقام رجال من بني سلمة واتبعوني، وقالوا: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا -لا يوجد لك أي ذنب- ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر به المتخلفون، ولقد كان كافيك استغفار النبي صلى الله عليه وسلم -فلو استغفر لك الرسول فقد انتهى عذرك وقُبِل، وما عليك شيء- يقول: فما زالوا بي يؤنبونني حتى أردتُ أن أرجع فأُكذب نفسي -فيقولون له: ارجع؛ لأنه الآن أصبح في مصيبة، فما دام أنه لم يستغفر له، لم يبقَ إلا سخط الله وعذاب الله-، يقول: هل بقي معي أحدٌ غيري؟ -أي: هل قال هذا الكلام أحدٌ غيري؟ - قالوا: نعم.
رجلان، قلتُ: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع وهلال بن أمية، فذكروا لي رجلين قد شهدا بدراً -انظروا كيف يكون الزملاء الصالحون، يقول: ذكروا لي اثنين من أهل بدر، صادقين- فقلتُ: والله إنَّ لي فيهما أسوة -أنا معهم، مصيري مصيرهم- فمضيتُ حينما ذكروهما لي).(67/9)
مشهد المعاناة من قصة كعب رضي الله عنه
يقول كعب: (ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا نحن الثلاثة من بين من تخلَّف عنهم، فاجتنبنا الناس، وهجرونا، وتغيروا لنا، حتى تنكَّرت في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرفها، فلبثنا في ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي -يعني: هلال ومرارة - فقعدا في بيوتهما، واستكانا يبكيان، وأما أنا فكنتُ أشَبَّ القوم وأجْلَدَهم، كنتُ أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني منهم أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم عليه وهو في مجلسه في الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرَّك شفتيه برد السلام، أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه، فأسارقه النظر -أتلفت إليه بعيني- فإذا أقبلتُ على صلاتي نظر إليَّ، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال عليَّ ذلك من جفوة الناس مشيت يوماً من الأيام، وتسوَّرتُ جدار حائط لـ أبي قتادة -ابن عمه- أحب الناس إليَّ، فسلمت عليه، فوالله ما رد عليَّ السلام).
انظروا كيف تكون الاستجابة والانقياد والامتثال؟ ما دام أن الرسول نهى ولو أنه ابن عمه، ولو أنه أقرب الناس إليه، ما دام أنه منهي عنه فيجب الامتثال، من كان يراقبه وهو في الحائط لو أنه سلَّم عليه، وقال: لا عليك يا رجل! وإن شاء الله تفرج؟! ولكنهم يخافون الله، ويعملون العمل بمراقبة عظيمة، قال: (فوالله ما رد عليَّ السلام، فقلتُ له: يا أبا قتادة! أنشدك بالله، هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدتُ فنشدتُه، فسكت، فعدت فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم -فقط لم يرد عليه سوى بهذه الكلمة- ففاضت عيناي بالدمع، وبكيت، وتوليت، حتى تسورت الجدار، فبينما أنا أمشي في سوق المدينة، جاءت محنة جديدة، إذا بنبطي من أنباط أهل الشام، ممن قدم بالطعام يبيعه في المدينة، يقول: من يدلني على كعب؟ فطفق الناس يشيرون له إليَّ، فجاءني ودفع إليَّ كتاباً من ملك غسان، فإذا فيه: يا كعب! أما بعد: فإنه بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك).
يقول صاحب الفتح: رحم الله كعباً، فلقد ملئ إيماناً.
لو كان ضعيف الإيمان لانهار أمام هذا الإغراء، ولقال مباشرة: ما دام أنهم هجروني فسأبدل بأرضهم أرضاً أخرى.
لكن يقول: (فطفقت إلى التنور، ويَمَّمْتُه، وسجرت فيه الرسالة، وقلت: هذا البلاء.
يقول: وبعد أن مضت علينا أربعون ليلة إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني ويقول: إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك -هذه مصيبة أكبر- قلت: أطلقها؟ قال: لا.
بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبيَّ مثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلكِ، فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.
قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية إلى رسول الله وقالت: يا رسول الله! إن هلالاً شيخ كبير ضائع، والله يا رسول الله! ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا -رضي الله عنهم وأرضاهم- فأذن لي أن أجلس معه، قال كعب: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنتَ رسول الله كما استأذنت امرأة هلال، فقلتُ: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ماذا يقول لي وأنا رجل شاب؟ -ربما لن يسمح لي- فلبثتُ بعد ذلك عشر ليالي -وذلك مع الأربعين ليلة، كم صارت؟ صارت خمسين ليلة- حتى كَمُلَت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله عن كلامنا).(67/10)
مشهد الفرج من قصة كعب رضي الله عنه
يقول: فلما صليتُ صلاة الفجر صُبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس أذكر الله في الحالة التي ذكر الله في القرآن، قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رحُبت، سمعتُ صوت صارخ يأتي من جهة جبل سَلْع، بأعلى صوته: يا كعب بن مالك! أبشِرْ -يُسْمِعُهُ في آخر الليل، أحد الصحابة يصيح ويبشره- قال: فخررتُ ساجداً، وعرفتُ أنه قد جاء الفرج، وآذَنَ رسولُ الله بتوبة الله علينا، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قِبَل صاحبيَّ مبشرون، وجاء إليَّ رجلٌ وهو راكب على فرسه، وسعى ساعٍ من أسلم، فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعتُ صوته يبشرني بتوبة الله عليَّ نزعتُ له ثوبيَّ، فكسوتُه إياهما ببُشراه، ووالله ما أملك غيرهما يومئذٍ.
وهذا فيه جواز تبشير البشير، فإذا جاءك شخص يبشرك بمولود، أو يبشرك برُتبة، أو يبشرك بأي أمر تفرح به، ففيه جواز أن تعطيه بشارة؛ لأن هذا مما يوحد ويؤلف القلوب.
قال: (فانطلقتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقاني الناس فوجاً فوجاً، يهنئونني بالتوبة من الله، يقولون: لِتَهْنَكَ توبة الله عليك يا كعب! قال كعب: حتى دخلتُ المسجد، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله.
-وهذا أيضاً مما ينبغي أن يكون عليه خلق المسلم يقول: فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله - يهرول، حتى صافحني وهنَّأني، والله ما قام إليَّ رجل غيره، ولا أنساها لـ طلحة أبداً، قال كعب: فلما سلَّمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجُهه يبْرُق من السرور؛ لأن الرسول كان إذا أُعجِب وسُرَّ بشيء يُرَى ذلك في وجهه صلوات الله وسلامه عليه، يقول: فقال لي: أبشر يا كعب! بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمُّك، فقلتُ: أمِنْ عندك يا رسول الله، أم من الله؟ قال: بل من عند الله عز وجل، وكان إذا سُرَّ استنار وجهُه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك من وجهه صلوات الله وسلامه عليه، فلما جلستُ بين يديه قلتُ: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: بل أمْسك عليك بعض مالك، فهو خير لك -أي: تصدَّق بشيء منه فقط، وأمسك على الباقي- قلت: فإني أُمْسك سهمي الذي بـ خيبر، فقلتُ: يا رسول الله! إن الله إنما نجَّاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدِّث إلا صدقاً ما بقيت، قال كعب: فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله بصدق الحديث منذ ذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مِمَّا أبلاني، ما تعمَّدتُ منذ ذكرتُ ذلك إلى يومي هذا كذباً، وإني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي).
وأنزل الله عز وجل على رسوله توبة الثلاثة في قوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:117 - 118]، ثم أنزل الله عز وجل في الذين كذَبوا واعتذروا بالأعذار الكاذبة، فقال: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:95 - 96]، ثم نزل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].
هذه هي القصة، كما أوردها الإمام البخاري في صحيحه، ونستخرج منها العبر والعظات، ونقتدي به رضي الله عنه، ونتحمل آثار الصدق؛ فإنها مهما بلغت لن تصل إلى آثار الكذب التي فيها العذاب والدمار في الدنيا وفي الآخرة.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلني وإياكم من الصادقين، وأن يحمينا وإياكم من الكذب، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، والله أعلم.
أذكر لكم الآن بعض الإجابات المختصرة على بعض الأسئلة.(67/11)
الأسئلة(67/12)
حكم هجر الأخ لأخيه بسبب رفضه إعارته حاجة من حاجاته
السؤال
أحد الإخوة يقول: لديَّ سيارة، وطلبني أحد الإخوة في السيارة ذات مرة، فاعتذرتُ إليه؛ لظروف خاصة بي، فغضب عليَّ، ومن ساعة منعتُ أن أعطيه لا يكلمني ولا يرد عليَّ السلام.
فهل أنا مخطئ في منع السيارة، أو لا؟
الجواب
أولاً: لستَ بمخطئ في منعك السيارة، فأنت حرٌّ في حقك، إن شئتَ أعطيتَ، وإن شئتَ منعتَ، وهذا الرجل أو الأخ الذي طلبك ارتكب خطأً مركباً: أخطأ في السؤال، وأخطأ -أيضاً- في المؤاخذة بغير حق، والسيارة مما لا ينبغي للإنسان أن يعيرها، ولا ينبغي أيضاً للأخ أن يسألها؛ لأنها إلى جانب كونها وسيلة نقل فهي -أيضاً- وسيلة قتل، أليس كذلك؟ والحُكماء المعاصرون يقولون: ثلاث لا تُعار: الأول: المرأة، فلا أحَدَ يُعِيْر امرأتَه.
الثاني: السلاح، فإذا كان لديك سلاح شخصي، وعليه ترخيص رسمي، وجاء رجل وقال: أنا أريد سلاحك، فقلتَ له: لماذا؟ قال: لديَّ ضيف، أريد استقباله بالبُنْدُق، فلا تعطه؛ لأنه لو قُتل به أحدٌ أو أخطأ به فمن المسئول؟ المسئول هو أنت، فلا تعر سلاحك.
الثالثة: السيارة.
لأنها وسيلة قتل، فلو أعطيت شخصاً سيارتك، وذهب ودهس بها شخصاً آخر، فعلى مَن ستقبض السلطات؟ ستقول لك السلطات: السيارة لمن؟ ستقول: لي، فتقول لك: لماذا إذاً تعطيه سيارتك؟! وأيضاً فهي من الوسائل التي يمكن أن يترتب على إعارتها ضرر فيها، وربما كان الضرر هذا والخراب من وجودها عند المستعير، فربما كان في سيارتك ضرر، فجاء شخص وأخذها منك، يريد بها مشواراً، وذهب بها في الطريق، ومن ساعة أن ذهب بها مشواره تعطل شيء في السيارة، وطبعاً لم يتعطل هذا الشيء من تلك اللحظة، وإنما كان نتيجة استعمال كثير، ولكنه أجْهَزَ عليه المستعير في آخر لحظة، فماذا سيفعل؟ هل سيأتي إلى صاحب السيارة ويقول له: خذ مفتاحك، شكراً، أم يذهب ليصلحها؟! طبعاً إذا كان صاحب مروءة، وإحساس، وهو الذي عطلها، فلا يردها إلا صالحة، رغم أنه لم يكن سبباً في تعطيلها بالكلية، وإنما العطل موجود منذ زمن، وكذلك ربما تؤدي إلى خراب فيها عن طريق حادث مروري، فيأخذها المستعير، ويذهب بها، فيصدم بها، ثم يأتي عند صاحبه صاحب السيارة، فيقول له: أخذتُها وصدمتُ بها، فماذا يكون موقفك منه؟! طبعاً السيارة لك، فيؤلمك قلبُك، وسيكون موقفك مؤلم، فيضطر إلى أن يستلف ويذهب لإصلاح السيارة، ويعطلها عن العمل شهراً أو عشرين يوماً في الورشة، فلماذا يُحرج المستعير نفسه هذه الإحراجات؟ فيا أخي! لا ينبغي أن تسأل زميلك السيارة إلا إذا كان الغرض للدعوة وللخير، وكان تطوعاً من صاحب السيارة، وقال لك: خذ سيارتي واذهب، أما أن تقول له: من فضلك، هات المفتاح، أقضي لازماً، أو أذهب مشواراً، فلا.
لا تسأل أحداً شيئاً، وهذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم قالها لأحد الصحابة، قال: (لا تسألنَّ شيئاًَ، ولو سوطاً)، فسوطُك الذي يقع منك، لا تقل لآخر: من فضلك أعطني السوط، لا.
بل خذه أنت، ولو كنتَ في المسجد وأنت جالس، وتريد مصحفاً، وقام رجلٌ من جانبك إلى رف المصاحف فلا تقل له: هات مصحفاً، لا.
بل قم أنت وخذ المصحف، لماذا تتعب الناس؟ من هم الناس؟! هل الناس خدم لك؟! بعض الناس عندما يكون في المسجد ويريد القيام، يقول: من فضلك، هات العصا؛ لكي لا يمد بنفسه ويأخذ عصاه، أو يقول: من فضلك، أسندني، هذه إحراجات لا تنبغي، الإسلام يربي فينا الاستقلالية، ويربي فينا الاكتفاء، وعدم الإحراجات للناس، يقول أحد الحكماء: صبري على نفسي، ولا صبر الناس عليَّ.
أليس كذلك؟ اصبر على نفسك، امشِ على رجلك، اذهب على سيارة أبيك، أو أخيك، أو لا داعي للمواعيد، أو يأتي صاحب السيارة الذي تريد أن تذهب على سيارته ويوصلك هو بنفسه ويسوق سيارته بنفسه، أما أن تحرجه وتضعه في موقف حرج، إما أن يعطيك وهو كاره، أو يعتذر منك فتغضب عليه، مثلما صنع أخونا المستعير، فهذا خطأ.
فنحن نقول للأخ الذي سأل السيارة: أخطأت في هجرك لأخيك، وعليك من الآن، بمجرد أن تصلي إن كنت معنا -وأعتقد أن السائل ما سأل إلا وزميله هنا- فبمجرد ما تخرج من المسجد، أو الآن قبل الصلاة سلِّم عليه، وقل له: سامحك الله، وأنا أخطأت عليك، واعفُ عني؛ لأنه لم يخطئ عليك، وإنما منع سيارته، وسيارته من حقه، فهل تؤخذ غصباً؟! فلا تغصبه على حقه يا أخي! فعندما اعتذر تغضب عليه؟! (أحشفاً وسوء كيلة؟!)، ما يجوز لك يا أخي! هذه سيارته، لا يريد أن يعطيك، وكثَّر الله خيره، وربما منعك من شر، وربما لو أخذتَها حصل لك حادث أو دهستَ بها شخصاً أو انقلبتَ، فقد حال بينك وبين السوء.
فلا ينبغي أيها الإخوة أن ننهي العلاقات بيننا بهذه الجزئيات البسيطة، لا تستعر يا أخي! من أحد شيئاً، وإذا استعرت من أحد مضطراً، واعتذر إليك، فلا تأخذ على خاطرك منه ولا تغضب عليه بأي حال من الأحوال.(67/13)
حكم حديث: (من سأل بوجه الله فهو ملعون)
السؤال
ما مدى صحة حديث: (من سأل بوجه الله فهو ملعون، ومَن لَمْ يُجِبْ فهو ملعون)؟
الجواب
هذا الحديث حديث صحيح، والناس يتساهلون في هذا الأمر، فهو حديث صحيح رواه الطبراني، وذكره الإمام المنذري في الترغيب والترهيب، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، وورد في روايتين: رواية عن رفاعة، ورواية عن ابن مسعود رضي الله عنهما، رواية ابن مسعود حسنة، ورواية رفاعة صحيحة، ونص الحديث عند ابن مسعود: (ملعون من سأل بوجه الله، وملعون مَن لَمْ يُجِبْهُ إلا أن يَسأل فُحْشاً) والفُحْش: هو الشيء الغلط، أن تسأل شخصاً أكثر مما يستطيع، كأن تقول له وهو واقف على بئر: أسألك بوجه الله إلا نزلت البئر.
لا، لا يجوز الإرغام على النزول إلى البئر؛ لأن هذا مما لا يستطيعه، لكن الحديث الصحيح الذي عند الطبراني، وصححه عن رفاعة، قال: (ملعون من سأل بوجه الله، وملعون مَن لَمْ يُجِب) وفيه هنا محذوف، وتقديره: وهو يقدر، أي: إذا كان شيئاً بإمكانك فعله، وسئلت فيه بوجه الله، فالذي سأله ملعون، وأنت لا بد أن تجيب، وإلا كنتَ ملعوناً، ولهذا ما هو طريق السلامة؟ طريق السلامة: ألا تسأل بوجه الله إلا الجنة؛ لأن وجه الله عظيم يا إخواننا، كثير من الناس يقولون: عليك وجه الله أن تشرب القهوة، عليك وجه الله أن تقوم، عليك وجه الله أن تقعد، عليك وجه الله أن تخرج، لعبوا كثيراً بهذه الأيمان، لا تعرِّض وجه الله على شيء، وإذا أحدٌ عرَّض عليك وجه الله فالله يعينك، لا بد أن ترد إذا كان بإمكانك.
ويُذكر أن الخضر عليه السلام مرَّ على رجل فقير فقال له الفقير: أسألك بوجه الله أن تعطيني، وليس لدى الخضر شيء، فذهب إلى رجل، وباع نفسه عليه بثمن بخس، وقال: أنا رقيق آبق، أريد أن أبيع نفسي عليك، فأعطني شيئاً، فاشتراه منه، وأعطاه النقود، وأخذ النقود، وذهب بها وأعطاها الفقير، وأصبح رقيقاً، فكان رقيقاً عند رجل لديه أعمال كثيرة وصاحب سلطة وقهر على الأجراء والعمال عنده، فكان يكلفه كل يوم بتقطيع الجبال حجارة، ونقلها، فيعمل في اليوم الواحد ما تعجز عن عمله وحمله الرجال؛ لأن الله أعانه، فجاء الرجل في يوم من الأيام، وقد نحت جبلاًَ كاملاًَ، قَطَّعَه قِطْعة قِطْعة، فتعجب الرجل، وقال: هذا ليس من المعقول أن يكون شغل عامل واحد، لا بد أن هناك من يعينه، فقال له: أسألك بوجه الله إلا قلتَ لي من الذي صنع لك هذا العمل؟ قال: لا إله إلا الله! وقعتُ في الرق من أجل وجه الله، والآن تسألني بوجه الله؟ الذي أعانني هو الله عز وجل، قال: لماذا وقعتَ في الرق؟ فأخبره بالخبر، فأعتقه لوجه الله عز وجل، ورده حراً كما كان.
فلا ينبغي لك يا أخي المسلم أن تسأل بوجه الله شيئاً مهما كانت الظروف.
السائل: هل (أسألك بوجه الله) مثل (أسألك بالله)؟ الشيخ: لا.
فالحديث صريح: (ملعونٌ من سأل بوجه الله) لأن الله عز وجل يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء:1]، أي: الذي تساءلون بالله عز وجل به، فقد تسأل وتقول: أسأل بالله، هل مرَّ بك هذا؟ وذلك مثلما فعل الصحابي الذي كان في طريقه إلى المدينة، وبعد أن جاءه من السماء الرجل الذي أنجده، وقال له: أسأل بالله، أمَلَكٌ أنت، أم من الإنس، أم من الجن؟! فقال: أنا من سكان السماء الرابعة.
والقصة ذكرها صاحب حياة الصحابة الشيخ محمد يوسف، وهي لـ أبي مَغْلَق رضي الله عنه، وهي في السنن أيضاً، وكمال القصة: أن الصحابي كان في طريقه من مكة إلى المدينة مهاجراً، فمرَّ في طريقه على رجل من قُطاع الطريق، قال له: إلى أين؟ قال: إلى المدينة، قال: هل أدلك على طريق أقصر وأقرب؟ قال: نعم.
فأخذه، ولما أخرجه من الطريق، أخذ سيفه وأراد قتله، قال: لِمَ؟ قال: أريد قتلك.
قال: خذ فرسي، وخذ ما معي من المال، واعتقني لوجه الله.
قال: لا، انظر إلى العظام، وإذا بحوالي عشرين جثة، كلهم عظامهم قد بَلِيَت -وهذا قاطع طريق، يأخذ الرجل ويقتله- قال: أعزمتَ؟ قال: نعم.
قال: دعني أصلي ركعتين.
قال: صلِّ ما بدا لك، فتوضأ وصلى ركعتين، فلما كان بعد الانتهاء من السلام دعا ورفع يديه، وقال: يا غفور، يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعَّال لِما تريد، أغثني أغثني أغثني، فما أكمل الكلمة الثالثة إلا وذلك الفارس يخرج من غبرة الأرض، وفي يده الرمح، ويأتي ويضرب هذا الرجل بالرمح في صدره، ليخرج من ظهره وهو يلمع، فقال له الصحابي: أسألك بالله، من أين أنت؟ من أنتَ؟ أمِن الجن، أم من الإنس فقد أغاثني الله بك؟ قال: إن سألتني فأنا من سكان السماء الرابعة، دعوتَ بدعوتك الأولى، ففُتحت أبواب السماء، ودعوتَ بدعوتك الثانية، فسُمع لأبوابها قعقعة، أي: كل مصاريعها تفتحت، وهي دعوة المظلوم، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]، ودعوتَ بدعوتك الثالثة فسألتُ الله أن يجعل شرف إغاثتك على يدي، فأذن لي ثم بعد ذلك اختفى ومضى، فركب الصحابي هذا حصانه، ورجع إلى طريقه وسافر.
فلا شيء إن شاء الله بالنسبة للسؤال بالله؛ لكن السؤال بوجه الله هو المحظور.(67/14)
قبول الله لتوبة الكاذب
السؤال
الذي يُكتب عند الله كذاباً، هل له توبة؟ وكيف يفعل الذي كذب على أحد؟ هل يقول: أنا كذبتُ عليك، ويخبره بالصدق، أم لا؟
الجواب
نعم.
الذي كذب وتحرَّى الكذب، حتى كُتب عند الله كذاباً، ثم تاب، يكتب الله له توبة، ويمحو الله عنه الخطايا كلها والسيئات، ولا يلزمه أن يذهب إلى الناس ليخبرهم أنه قد كذب عليهم؛ لأن التوبة تجب ما قبلها، والإسلام يهدم ما قبله، وليُحسِن فيما بقي.
يا من أسا فيما مضى ثم اعترفْ كن محسناً فيما بقي تُعط الشرفْ
أما سمعتَ الله في قرآنه إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ(67/15)
حكم استخدام كلمة: ليس موجوداً
السؤال
بخصوص الكذب: أنا أعمل بمكان تكثر فيه الاتصالات، وأحياناً يصادف أن يكون من المتصلين أناس لا أرغب مكالمتهم، تجنباً للإحراج فيما يطلبونه مني، والذي لا أستطيع تسهيله لهم، ولو حدث أن كلمتهم أو بُحتُ لهم بالصراحة لغضبوا، فهل يجوز أن أقول لمدير مكتبي أو سكرتيري: قل لهم: ليس موجوداً؟
الجواب
لا يجوز؛ لأنك تربي هذا السكرتير أو مدير المكتب على الكذب، وأيضاً تتعوَّد أنت الكذب، ثم لماذا تكذب؟ الناس لم يتصلوا بك يا أخي إلا لأن الله جعل في يدك حاجتهم، وما دام الله تبارك وتعالى جعل حوائج العباد على يديك، لماذا تبخل على نفسك بفعل المعروف، فمن الناس من يضيق صدره إذا جاء أحدٌ يتوسط له أو يريده أن يصنع له جميلاً لدى إدارة أو نحوها، لا يا أخي، (خير الناس أنفعهم للناس) (واشفعوا تؤجروا) (من استطاع منكم أن يصنع لأخيه معروفاً فليصنع)، ومن استطاع أن يعمل خيراً فليعمل، واحرص على ما ينفعك، ما دام ذلك بإمكانك فاعمل، أما إذا كان ليس بإمكانك فاعتذر، ليس في ذلك شيء، والذي يغضب لأنك اعتذرت له بأنك لا تستطيع، فهذا مغفل، دعه يغضب إلى يوم الدين، فإذا قال لك: اصنع لي كذا، فقل له: يا أخي! والله أريد أن أصنع لك؛ لكن لا أملك شيئاً، لا أستطيع أن أفعل في موضوعك شيئاً، ولا لي أي دور في هذا الموضوع، أو فقل له: أبشِر، إن تيسر ذلك، سأحاول، وحاول إن كنتَ تستطيع، إنما كلمة: ليس موجوداً، فلا تجدي، فإن كنت لستَ موجوداً الآن، فسوف يأتي إليك بنفسه، بعض مدراء المكاتب إذا استعملوا كلمة: ليس موجوداً، قال المتصل: يبدو أن التليفون لا يُجدِي، لا بد أن أذهب إليه بنفسي، وأتاه إلى مكتبه، فإذا حصل هذا، كيف ستفعل؟ لو اعتذرت له بالتليفون عن عدم استطاعتك في موضوع المتصل أسهل لك من أن تعتذر وهو جالس أمامك، فأنت الذي ورطتَ نفسك.
فلا يا أخي الكريم، لا ينبغي أن تقول هذا، وعليك أن تكون صادقاً.(67/16)
الواجب على من تكشف زوجة أخيه أمامه
السؤال
زوجة أخي تكشف عليَّ، ولا تتحجَّب مني، وكلمتُ أمي لكي تنصحها؛ ولكن أمي رفضتْ، فلم أنصحها مرة أخرى، فماذا أفعل؟ وما الحُكم؟
الجواب
نقول: عليك أن تخبر أخاك أنه لا يحل له أن يكشف زوجتَه عليك، وتخبر زوجتَه بواسطة رسالة تكتبها لها أن هذا حرام، وتخبر أمك، فإن استجابوا فالحمد لله، وإن رفضوا فحجِّب نفسك أنت، كيف تحجِّب نفسك؟ بأن تديم النظر إلى الأسفل، فإذا كنت على العشاء فكُلْ وأنت شبه مغمض العينين، أو كل وأنت منزل رأسك إلى أسفل، فعندما تراك وعينُك في الأرض فإنها ستقوم وتقول في نفسها: والله هذا لا ينبغي أن نضايقه إلى هذه الدرجة.
ويقول لي أحد الإخوة أنه صنع هذا فنفع، يقول: كلما دخلت إلى المنزل أجعل عيني إلى أسفل هكذا، فقالت المرأة: ما به لا يرفع رأسه؟ قالوا: يقول: إنه لا يجوز الكشف عليه، قال: فأفلح الصنيع، وذهبت، وكفَّه الله عز وجل منها؛ لكنها إذا لم تحتجب، فإنك تظل تتلفَّت فيها، وإذا أخطأت هي تخطئ أنت، وهذا لا يصلح؛ لأن عينك في رأسك تستطيع التحكُّم فيها، فلا يوجد لديك عذر للنظر عندما تتكشف لك النساء.(67/17)
حكم دخول الطلاب في السكن الجامعي على بعضهم البعض دون إذن
السؤال
يدخل بعض الطلاب على بعضٍ في غرفهم بدون استئذان -كأن يكون الأخ في الجامعة، في السكن الجامعي- وربما يحتجُّون بأن آية الاستئذان في سورة النور خاصة بالأطفال والمملوكين؟
الجواب
لا.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:27 - 28]، هذه عامة؛ لأنه لا يجوز لمسلم أن يدخل على مسلم سواء في بيته، أو في غرفته الخاصة في السكن الجامعي، إلا بعد أمرين: الاستئناس، والاستئذان، ما الاستئناس؟ وما الاستئذان؟ الاستئناس: اختيار الوقت المناسب، أنك تختار الوقت الذي تعرف فيه أن أخاك قابل لزيارتك، هذا هو الاستئناس، ثم بعد ذلك تستأذن، هذا إذا كان بغير وعد، أما إذا كان بوعد، فلا يحتاج إلى استئناس، ولكن يحتاج إلى استئذان، فإن سمح لك فالحمد لله، وإن ردّك، فارجع وأنت مرتاح، لا ترجع وأنت تسبه، وتقول: هذا ما فيه خير، أدق على بابه فيطردني من عند الباب، لا.
لا تقل ذلك، فالله يقول: {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28]، ألا تريد الأزكى؟ فالأزكى: أن ترجع.
ولهذا زرت أحد الإخوة زرتُه مرة من المرات وكانت ليلة باردة، وجئت -في الحقيقة- على غير وعد؛ لكن لي غرض منه، فلما استمع من عند تليفون البوابة، قلت: السلام عليكم، قال: وعليكم السلام، قلت: أأدخُل، قال: تريد الأزكى أو الذي ليس بأزكى؟ قلتُ: والله أريد الأزكى، قال: ارجع، قلت: جزاك الله خيراً، كأن الرجل قد رَقَد.(67/18)
كتب نافعة
السؤال
دلني على كتب تفيدني في أمور ديني؟
الجواب
طبعاً الكتب كثيرة؛ ولكن ندل الناس -خاصةً المبتدئين منهم- على بعضها.
فيا إخواننا! من الكتب التي ندل عليها -وبالطبع كتاب الله لا يقال له أنه من الكتب؛ لأنه لا يُقارن بغيره من كتب البشر-: أولاً: من كتب السنة: اقرأ: كتاب اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان وابدأ بحفظ أحاديثه؛ حتى تكون ثقافتك الحديثية صحيحة، فكل حديث تقرأه من هذا الكتاب كأنه من القرآن؛ لأنه اتفق عليه البخاري ومسلم، في صحيحيهما.
ثانياً: من كتب السلف: اقرأ كتب ابن تيمية رحمه الله.
واقرأ كتب ابن القيم رحمه الله، خصوصاً كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد، وكتابه إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، وكتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، وكتابه الوابل الصيِّب من الكَلِم الطيِّب، وكتابه طريق الهجرتين وباب السعادتين، وكتابه مدارج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، وكتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، وكتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين، كل كتب ابن القيم قيمة، أي كتاب تلقاه لـ ابن القيم اقرأه.
ثالثاً: من كتب المعاصرين: اقرأ كتب سيد سابق، وكتب أبي الأعلى المودودي، وكتب أبي الحسن الندوي، وسيد قطب، ومحمد قطب، واقرأ كتب يوسف القرضاوي، والشيخ أبي بكر الجزائري، واقرأ كتب الشيخ عبد العزيز بن باز؛ فله رسائل كثيرة، وله كتاب اسمه الفتاوى بطبعتين: طبعة دار الدعوة، وفتاوى طبعته مجلة البحوث.
هذه الكتب جميعها موثوق في أهلها، فإذا اشتريت هذه الكتب وقرأتها -إن شاء الله- فستكون عندك ثقافة إسلامية كبيرة -بإذن الله-.
والله الموفق.(67/19)
توضيح قول القائل: بأن الناس يصلون خمس ركعات بعد صلاة العشاء
السؤال
ورد أن السنة الراتبة لصلاة العشاء ركعتين؛ ولكنني ألاحظ البعض من الناس يصلون خمس ركعات، أرجو بيان ذلك؟
الجواب
لا يوجد إشكال يا أخي المسلم! فإن الركعتين التي يؤديهما الناس عقب صلاة العشاء هي الراتبة التي وردت بها السنة؛ ولكن ما تلاحظه أنت من أن الناس يصلون خمس ركعات، هي أنهم يصلون ركعتي الراتبة، ثم يصلون ثلاث ركعات، فهذه الثلاث الركعات هي وتر، والوتر شيء خارج عن الركعتين الراتبة التي وردت بها السنة، فموضوع ركعتي الراتبة هذا ليس فيه كلام، لكن الوتر يأتي بعدها، وأقل الوتر واحدة، وأكثره ثلاث عشرة ركعة، أو إحدى عشرة ركعة، ومعظم الناس الآن يوترون بثلاث ركعات، ولو أوتر بواحدة لأجزأه، وإذا أوتر بثلاث أجزأه، وإذا أوتر بخمس أجزأ، وإذا أوتر بسبع أو تسع أو إحدى عشرة أو ثلاث عشرة أجزأه، وكلما كان الوتر أكثر كان الثواب أكثر، فلا إشكال -إن شاء الله- في الموضوع.(67/20)
حكم الطرف الكاذبة
السؤال
هناك كثير من الطُّرف الكاذبة التي ترِدُ في مجالسنا بكثرة ليضحك الناس، فما الحكم في ذلك؟
الجواب
يقصد الحكايات، الحكم في ذلك عدم الجواز، وقد كان صلى الله عليه وسلم يمزح؛ ولكن لا يقول إلا حقاً، فيمكن لك أن تمزح؛ لكن بالصدق، أما أن تصنِّف لك أكاذيب لكي تضحك الناس فهذا هو المتَوَعَّد به في حديث سَمُرة بن جندُب في صحيح البخاري: (فإذا رجل جالس، ورجل قائم بيده كلوب من حديد، قال: إنه يدخل ذلك الكلوب في شدقه حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك، ويلتئم شدقه هذا، فيعود فيضع مثله ثم قالا له: أما الذي رأيته يشق شدقه فكذاب، يحدث بالكذبة، فتحمل عنه حتى يبلغ الآفاق)، فلا يصح أن تكذب، حتى لا تضحك الناس وتبكي يوم القيامة.(67/21)
حكم الكذب بحجة الضرورة
السؤال
عندي مشكلة تسبب لي مصائب كثيرة، ولا يمكن أن تُحل إلا بتغيير الحقيقة قليلاً؟
الجواب
لا تغير الحقيقة، وكن صادقاًَ؛ لأننا نريد من الناس أن يربوا أنفسهم على الصدق، ولا نريد أن نجعل لهم فرصاً أو مجالات، ونقول: هذا قليل، لا.
بل خذ نفسك بقوة من أول الأمر، لا تكذب مرة واحدة، ولو كان فيها قطع رأسك، حتى تتحرَّى الصدق باستمرار، ويكتبك الله صِدِّيقاً، فإذا كتبك صِدِّيقاً، فما عليك من شيء، {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء:69]، لكن يحتاج منك إلى تضحيات، ومعاناة ومقاساة شديدة، وترويض وتدريب للنفس عليها، درِّب نفسك من الآن، وإذا رأيتَ في نفسك أنك تكذب فمباشرةً صحِّح الوضع، وحاول أن تصدُق، حتى تصير بعدها -بإذن الله- صِدِّيقاً، فلا تكذب، ودعِ المشكلة تحصل لك، وتصير لك المصاعب الكثيرة؛ لكي يكتبك الله صِِدِّيقاً، أما أن تتخلص من المصاعب بالكذب، ويكتبك الله كذاباً فإنك تقع في المصاعب الكثيرة، وفي الآلام العظيمة.(67/22)
حكم الكذب خوفاً من الرياء
السؤال
ألجأ أحياناً إلى الكذب اضطراراً، خصوصاًَ إذا سئلتُ: هل أنت صائم، أو لا؟ فأقول: لا.
وإذا سئلتُ: هل تقوم الليل، أو لا؟ فأقول: لا.
لأن عملي بيني وبين الله خير لي من العلانية، فهل هذا من الكذب؟
الجواب
نعم.
هذا من الكذب، لا يجوز لك أن تكذب، بل يجب أن تكون صادقاً، وأيضاً لا ينبغي للسائل أن يسأل، كما يقول العلماء: إذا رأيت شخصاً لا يأكل فلا تقل له: أأنت صائم؟ فإنك تلجئه إلى أمرين كلاهما مر، إما أن يقول لك: نعم.
فيظهر عمله، وتسبب له إحراجاً، وإما أن يقول لك: لا.
فيكذب، فالأولَى ألا تسأل، لكن إذا سئلتَ ووقعت في الأمر هذا فلا بد لك أن تُجيب، ليس في الأمر شيء، فكونك تقول: والله أنا عملي سوف يصبح رياءً، فلا مجال لحديث النفس هذا؛ لأن الله مطلع على قلبك وقت أن صمت في الصباح، هل كان للرياء، ومن أجل أن يرى الناس عملك، أم كان له تعالى، فالله يعاملك على أمور قلبك، وقلبك -إن شاء الله- سليم، وأيضاً كونه يخرج من السر إلى العلانية إذا خرج نتيجة صدقك، فإنه لا ذنب لك، بل سيبقى -إن شاء الله- سراً، ويكون فوق عملك السري أنك صادق، أما أن تسر عملك الصالح بالكذب، فهذه مصيبة، فكُن صادقاً في كل أمورك.(67/23)
حكم كتابة الخطبة من الشريط وإلقاءها على الناس
السؤال
هل على من أخذ الكلام من الشريط المسجل وكتبه في ورقة، وقرأها على المسلمين في خطبة أو درس من الدروس، هل عليه شيء؟
الجواب
ما عليه شيء، ولكن بشروط: أولاً: أن يكون الذي ينقل عنه ثقة، وموثوق في دينه.
ثانياً: أن يتثبت من صحة الأحاديث والآيات، فإنه وإن كان المنقول عنه ثقة؛ لكنه قد يورِد في كلامه آية ويخطئ فيها، أو يورد في كلامه حديثاًَ وهو غير صحيح، أو -مثلاً- يصححه وهو حسن، فعليك إذا نقلت الآية أو الحديث أن تتثبت بشأنهما من كتب العلم، أو ممن هو أعلم من الذي أخذت منه، أما كونك تنقل كلاماً لتستفيد من سبقه للموضوع، أو إخراجه للقضية، فلا شيء في ذلك -إن شاء الله-؛ لأن الشريط مثل الكتاب، فكما يجوز لك أن تنقل من كتاب، يجوز لك أن تنقل -أيضاً- من شريط؛ ولكن -أيضاً- من الإنصاف إذا اضطررتَ أن تقول -مثلاًَ-: وما أفضل، أو أحسن ما ذكر بعض طلبة العلم أو العلماء في شريطٍ له أو في كتابٍ له، حتى تنسب الفضل لأهله؛ ولا يسمع الناس الكلام هذا فيظنوا أنه من تأليفك، ثم بعد ذلك يسمعونه في الشريط من صاحبه، فيقولوا: والله إنه يكذب، هذا الذي سمعناه في الخطبة ظهر أنه من هذا الشريط.
فهذه تسمى سرقة أدبية، فكن صادقاً خير لك، والصدق يا إخواني! أساس كل أعمالنا، فدائماً الصدق في كل شيء له تأثير في حياة الإنسان.(67/24)
كفارة الكذب
السؤال
كنتُ أكذب كثيراً، فما هي الكفارة؟ وهل يجب عليَّ أن أبين الصدق لمن كذبتُ عليه؟
الجواب
الكفارة أن تتوب، ولا يجب عليك أن تذهب إلى كل شخص كذبت عليه، وتقول له: إني كذبت عليك ذاك اليوم، لا.
بل اكتمها، واستغفر الله، فإن الله غفور رحيم، والتوبة تجب ما قبلها.(67/25)
أقسام الأيمان
السؤال
متى تكون كفارة اليمين؟ ومتى لا تكون؟ أي: ما هي اليمين الجائزة التي لا يكون فيها كفارة؟ وما هي اليمين التي إذا وقعت من الإنسان وجبت فيها الكفارة؟
الجواب
الأيمان ثلاثة أقسام: القسم الأول: يمين معقدة: عقدها الإنسان في نفسه.
القسم الثاني: يمين لغو.
القسم الثالث: يمين غموس.
فأما اليمين الأولى: اليمين المعقدة: فهي التي يقصد الإنسان إلى الحلف عليها، وهو قاصد للإتيان باليمين، فهذا إذا حنث فيها وجبت عليه الكفارة، والكفارة على التخيير في ثلاثة بين: عتق، وإطعام، أو كسوة لعشرة مساكين، أو إذا لم يجد، فينتقل على الترتيب إلى صيام ثلاثة أيام؛ لأن من الناس من يصوم وهو قادر على الإطعام، فلا يصح هذا، لا يُنْتَقَل إلى الصيام إلا عند العجز عن الإطعام أو الكسوة أو العتق، هذه بالنسبة لليمين الأولى.
أما اليمين الثانية: يمين اللغو، فهي التي لا يقصد الإنسان بها يميناً، وإنما تندرج على لسانه كلمة والله، مثل: خذ والله، بلا والله، قالت عائشة والحديث في صحيح البخاري: [هو قول الرجل لأخيه: بلا والله، ولا والله] فهذه لم يقصدها الشخص يميناً، ولا يحلفها، وإن كان تنزيه اللسان أفضل من أن تعرض الله عز وجل لهذه الأيمان، فلا كفارة فيها إلا التوبة، وعدم العودة إلى مثلها.
وأما اليمين الثالثة: وهي اليمين الغموس: وهي التي يحلف فيها صاحبها على أمر وهو يعلم أنه كاذب، فهذه كفارتها أن يُغمس صاحبها في النار، ما لم يتُب ويتوب الله عليه، إذا تاب في الدنيا توبة صحيحة، وتاب الله عليه؛ انتهى الأمر، أما إذا مات وهو حلاَّف -والعياذ بالله- فإنه يُغمس في النار، عن كل يمين يحلفها كاذباً يُغمس غمسة في النار، ولا يُدرى كم مدة الغمسة، أهي غمسة يوم، أم غمسة سنة، أم غمسة أبد؟ الله أعلم، وقد يقول أحدٌ: الغمسة بسيطة، ولكنه لا يصبر لحظة واحدةً على نار الدنيا، فكيف بنار الآخرة؟(67/26)
حكم أخذ الموظف لمال لا يستحقه
السؤال
أنا موظف، وفي كل شهر يكون لي انتداب، وأتقاضى عليه أجراً إضافياً، وفي آخر الأشهر آخذ إجازة شهر كاملة، ثم جئت بعد انقضاء إحدى الإجازات لأتقاضى راتبي فقط، فوجدتُ الانتداب أمامي مع الراتب، سجله زملائي معهم، على أنني في انتداب ولستُ في إجازة، فماذا أفعل؟
الجواب
الله أكبر من هذه الأخوة! ربما قالوا: والله بيننا رفقة ممتازة، الذي في الإجازة نسجله في الانتداب.
فهم جداً متكاتفون على الباطل، متكاتفون على أكل الحرام، الله أكبر على هذه الأخوة التي توردك إلى النار! لا والله، والله لو كانت هناك أخوة لحجزتك عن الحرام، إن أخاك من نصحك، (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: يا رسول الله! عرفنا كيف ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟! قال: تحجزه عن الظلم) وأخذ المال من بيت مال المسلمين عن طريق الانتداب الكاذب، وعن طريق العمل الإضافي الكذب، هذا كله كذب وظلم، وعليك أن تمنعه، وتقول: لا يا أخي! وإن كنتم رضيتم لأنفسكم بالنار فأنا لا أرضى أن أكون معكم في النار، فعليك يا أخي! يا من وجدت الراتب موجوداً والانتداب معه، أن تستلم الراتب، وتَدَعْ الصندوق يُمْسك على أجر الانتداب، وتوجه خطاباً رسمياً، وتقول فيه: كنتُ في إجازة، وأخطأ زملائي في تسجيلي معهم في الانتداب، وأنا لستُ في الانتداب، واتركهم يسخطون عليك، لكي يرضى الله عنك.(67/27)
حكم أخذ الفقير للمال الربا
السؤال
إذا كنتُ فقيراً، وأعطاني رجل غني من ماله شيئاً، وأنا أعرف أن هذا المال من الربا، فهل آخذه منه أو لا؟
الجواب
نعم.
تأخذه منه؛ لأن المال لا يتجاوز ذمتَين، ولأن مال هذا المسلم لا يمكن أن يكون كله رِباً (100%)، فهو يسمى: مالاًَ مختلَطاً، فيه حلال وفيه حرام، وفيه راتب وفيه ربا، فأنت تأخذ هذا؛ لأنك فقير، ولعلَّ الله عز وجل يجعله من المال المختلط من الحلال، وأما إثم الربا فهو عليه؛ لكن يقول العلماء: الذي ماله كله حرام محض، ففيه خلاف، هل تأخذ، أو لا تأخذ؟ والصحيح: أنك تأخذ؛ لأنك لستَ مسئولاً، هو الذي سوف يسأله الله عن ماله، أما أنت فهو رزق ساقه الله لك تنتفع به.(67/28)
بيان معنى الكذب الجائز والتورية
السؤال
ما هو الكذب الجائز؟ وما هي التَّورِية؟
الجواب
الكذب الجائز، كما روت أم كلثوم، والحديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم، قالت: [ليس الكذاب الذي يُصلح بين رجلين] فيجوز الكذب في الإصلاح، ويجوز الكذب في الحرب، ويجوز الكذب على المرأة فيما ليس له علاقة بحقوقها، فيكذب على المرأة، ويقول: أنا أحبك، وأنت عندي مثل الدنيا كلها، وطعامك جيد، ورائحة البيت ممتازة، والأولاد نظيفون، فهذا وإن كان كذباً إلا أن فيه مصلحة؛ لأن يدفعها ويشجعها، فالمرأة دائماً تحب المدح، ولا تحب الذم، فعندما تأتي على طعام ليس بجيد وتقول: ماذا فعلتِ حتى صار هكذا؟! كيف صنعتِ؟! متى تعلمت هذا؟! فسوف تأتي في الغد وتصنع أحسن طعام، أما إذا صنعتْ طعاماً ليس بجيد، وأظهرت لها أنك لا تستسيغ تذوقه، وقلت لها: لماذا هذا الطعام هكذا؟! فإنك تخرِّب في نفسها، ولن تجد منها شيئاً جيداً، فكذبك عليها في سبيل تقويمها وإصلاحها طيبٌ، أما أن تأكل حقها، أو تضيِّع حقوقها الواجبة، فتكذب عليها، فهذا لا يجوز في الشرع؛ لأن الكذب له حدود.
أما التَّورِية: أن يقول الإنسان كلاماً فيُفهم منه بغير ما أراد هو، فهو أراد شيئاً، وفُهم عنه شيء آخر؛ لكنه ما كذب، وذلك كما قلنا عن ذلك الرجل الذي كان عنده في بيته غرفة اسمها: دِمَشْق، فكان إذا جاء شخص ودق الباب عليه قال لزوجته: قولي له: هو في دمشق، وذهب إلى الغرفة، فيفهم الطارق أنه في دمشق، وهو في غرفة دمشق، فما كذب؛ لأنه في دمشق فعلاً، فقد سمى غرفته دمشق؛ لكنه ليس في دمشق التي فهمها ذاك الطارق، فهذه تسمى التَّورِية.
وفي المعاريض والتَّورِية مَنْدُوحة عن الكذب، ولكنها ليست على الإطلاق، إنما عند الضرورة، فإذا اضطر الإنسان فإنه يجوز له، أما إذا لم يضطر فلا ينبغي له.(67/29)
حكم من صدم حيواناً بغير قصد
السؤال
صدمت قطاً غير متعمِّد، فهل عليَّ كفارة؟
الجواب
لا.
إذا كنتَ تسوق السيارة، ودخل عليك قصداً كلبٌ أو قطٌّ أو قردٌ ولم تتعمد إصابته، ولم تستطع أن تتلافاه، ثم مات، فلا كفارة عليك؛ لأنك لم تتعمد، أما إن قصدت أن تتابع القطط والكلاب بالسيارة وتطاردها، فعليك -والعياذ بالله- من الله ما تستحق، لماذا تصنع هكذا؟! لأن الله فضلك وأعطاك سيارة؛ ولكي تتعجب بارتطام البهيمة ببطن سيارتك؟! لا يا أخي! لا يجوز لك أبداً، أما تعلم أن امرأة دخلت النار في هرَّة، وأن رجلاً دخل الجنة في كلب، أعطاه وأسقاه، فغفر الله له وشكر له، فلا يجوز لك أن تعبث.
أما إذا كان يأكل الأغنام، أو يؤذي في المزرعة، فإنه يجوز قتله، فهذه القطط والكلاب والقردة التي تأتي إلى المزارع، وتفسد (البرسيم) وتفسد (الخُضرة) وتقلع (الخَس) أو (الجرجير) وتأكل الكلاب صغار الضأن، وتدخل البيوت، أو تأكل الدجاج فهذه كلها مُفسِدة وصائلة، والصائل في الشرع يُقتل ويُتَخلَّص منه، أما بغير حاجة فلا.(67/30)
حكم الكذب خوفاً من عواقب الصدق
السؤال
إذا كذب الإنسان بشيء من باب خوفه من عواقب الصدق، فهل يجوز له؟
الجواب
هذا الذي نحن بصدده، لا.
بل اصدُق، ولو كان في الصدق ضرر عليك؛ لأن ضرر الكذب في الآخرة أعظم من ضرر الصدق في الدنيا، مهما كان ضرر الصدق عليك، فإنه ينتهي، لكن إذا متَّ وأنت كذاب، فإن ضرره لن ينتهي في الآخرة، ولا بد أن توازن بين الآخرة والدنيا يا أخي.(67/31)
حكم رد السلام بقول: هلا هلا
السؤال
ما حكم الذي ألقاه فأقول: السلام عليكم ورحمة الله، فيقول: هلا، هلا؟
الجواب
هذا -والعياذ بالله- مُهَلْهَل؛ لأن الله يقول: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} [النساء:86]، فإن كنتم بخلاء، لا تريدون الأحسن فيقول الله: {أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]، فمن قال لك: السلام عليكم، فماذا عليك أن تقول؟ قل: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ذلك أفضل، فإذا كنتَ بخيلاً فقل: وعليكم السلام، بحيث ترد عليه تحيته، فالبعض من الناس تقول له: السلام عليكم، فيقول: هلا، هلا، أو تقول له: السلام عليكم، فيقول: مرحباً، أو تقول له: السلام عليكم، فيقول: هلا، مرحباً، ماذا تريد؟ فتقول في نفسك: الله أكبر عليك! ما الْهَلا هذه؟! سأظل أسلم عليك حتى تعرف، فتقول: السلام عليكم، فيقول: هلا، فتقول: السلام عليكم، فيقول: مرحباً، فتقول: السلام عليكم، فيقول: هلا، صباح الخير، فتقول: السلام عليكم، فيقول: وعليكم السلام، من الواضح أنك مُطَوِّع!، وكأن السلام للمطاوعة فحسب.
كذلك لا يجوز أن تبدأ المسلم إلا بالسلام، فلا تقل: مساء الخير، ولا تقل: صباح الخير، أما بعض الناس فقد أصبح متمدِّناً فيقول: ( good morning) الله أكبر! وكذلك إذا بدأك بمساء الخير، أو بصباح الخير، فلا يجوز أن ترد عليه، حتى يقول: السلام عليكم، قل له: قل: السلام عليكم، مره بذلك، وقل له: قل: السلام عليكم، حتى ينتصح مرة أخرى.
أسأل الله لي ولكم التوفيق في الدنيا والآخرة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(67/32)
علاقة الروح بالجسد
علاقة الروح بالجسد تأتي على أربعة أوجه، فهي تبدأ بعلاقة الروح بالجسد في بطن الأم، ثم في الحياة الدنيا، ثم في حياة القبر والبرزخ، ثم بعد ذلك في الحياة الآخرة.
هذا ما تكلم عنه بالتفصيل فضيلة الشيخ حفظه الله.(68/1)
السنن الرواتب وأهميتها في الإسلام
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قبل البدء في الموضوع الذي سنتكلم فيه، أحب أن أشير إلى السنن الرواتب وأهميتها في الإسلام، ففي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى في يومٍ اثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة).
وهذه الاثنتي عشرة ركعة أخبر بها أهل العلم نقلاً من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، هي: أربع ركعات قبل صلاة الظهر، واثنتين بعدها، واثنتين بعد صلاة المغرب، واثنتين بعد صلاة العشاء، واثنتين قبل صلاة الفجر، فيصبح المجموع اثنتي عشرة ركعة.
وابن القيم رحمه الله تعالى يقول في كتابه: زاد المعاد في هدي خير العباد: "إن من يطرق باب ربه في كل يوم أربعين مرة لجدير أن يفتح له".
المعروف أن عدد ركعات الفرائض الخمس هي: سبع عشر ركعة، اثنتين في الفجر، وأربع في الظهر، وأربع في العصر، وثلاث في المغرب، وأربع في العشاء: سبعة عشرة ركعة هذه ركعات الفريضة، وعلى فرض أن الإنسان أدى اثنتي عشرة ركعة يكون مجموعها مع الفرائض: تسعاً وعشرين ركعة، وثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في صلاة الليل في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة).
فإحدى عشرة ركعة لقيام الليل مع الوتر، واثنتا عشرة ركعة الرواتب، وسبع عشرة ركعة فرائض، فيكون المجموع: أربعين ركعة، وفي كل ركعة ركن من أركانها، وهي قراءة سورة الفاتحة.(68/2)
مكانة سورة الفاتحة من الصلاة
سورة الفاتحة هي الشاملة الجامعة الشافية الكافية التي تكفي عن القرآن كله ولا يكفي القرآن كله عنها، فلو أن إنساناً صلى وبدأ بسورة البقرة وختم بسورة الناس ولم يقرأ الفاتحة لكانت صلاته باطلة وغير صحيحة، ولو أن إنساناً افتتح بسورة الفاتحة فقط ولم يقرأ بعدها شيئاً من القرآن لكانت صلاته صحيحة، فالفاتحة تُغني عن القرآن ولا يغني عنها القرآن كله، يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87] فذكرها الله عز وجل مقدمة لوحدها، وامتنَّ بها على رسوله صلى الله عليه وسلم، والقرآن العظيم أيضاً آتاه الله محمداً صلى الله عليه وسلم.
في كل ركعة من ركعات الصلاة وفي كل آية من سور الفاتحة وأنت تناجي ربك، تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] كما جاء في الحديث: (قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله عز وجل: حمدني عبدي، فإذا قال العبد: الرحمن الرحيم، قال الله عز وجل: مجدني عبدي، فإذا قال العبد: مالك يوم الدين، قال الله عز وجل: عظمني عبدي -هذه ثلاث لله، وبقي أربع من السبع- قال: فإذا قال العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله عز وجل: هذه بيني وبين عبدي) هذه مقسومة، فمنه العبادة ومني الإعانة، وفي قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، تقديم المفعول على الفعل وهو يفيد الاختصاص، ما قال: نستعينك، ولا قال: نعبدك، وإنما قال: إياك؛ أي: نختصك يا رب لوحدك عمن سواك بالعبادة، ونختصك أيضاً بالاستعانة فلا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك، فيقول الله عز وجل: (هذه بيني وبين عبدي فمنه العبادة ومني الإعانة) فوالله لولا أن الله أعانك على العبادة ما عبدته.
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
والله عز وجل يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] ومن لوازم العبادة أن تطلب من الله عز وجل كل حوائجك وجميع شئونك، وأعظم حاجة لك وأعظم شأن أن تفوز به في الدنيا والآخرة: أن تطلب منه أن يعينك على العبادة كما تطلب منه أن يعينك على الرزق وأمور الحياة، واطلبه في كل حين ووقت على أن يعينك على عبادته، فتقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فيقول الله: (هذه بيني وبين عبدي).
(فإذا قال العبد: اهدنا الصراط المستقيم) أي: دلنا وأرشدنا وأقمنا على الصراط المستقيم، وكأن سائلاً يقول: وأي صراط تعنون؟ وأي طريق تريدون؟ إنها طرق، وشعاب، وفجاج، ولكن هناك طريقاً واضحاً؛ طريقاً أبلج ليله كنهاره لا يزيغ عنه إلا هالك: عليه الأعلام والمعالم واللوحات الإرشادية، فلا يمكن أن يضل إنسان سار بهذا الطريق، ألا وهو طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، كأن سائلاً يقول: أي طريق؟ فيقول الله عز وجل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] أي صراط؟ {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] من هم الذين أنعم الله عليهم؟ هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحين؛ هؤلاء الذين أنعم الله عليهم: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [النساء:69] والنبيون لا شك أنهم صفوة أهل الأرض، فقد اختار الله عز وجل هؤلاء الأنبياء والرسل ليكونوا سفراء بينه وبين خلقه؛ فهم صفوة خلق الله، وهم -أيضاً- بينهم درجات في التفاوت، يقول الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253] حتى الرسل فيهم تفاضل، وأفضلهم على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد ولد آدم، يقول صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا صاحب اللواء يوم العرض ولا فخر، وأن صاحب الشفاعة العظمى يوم القيامة ولا فخر) صلوات الله وسلامه عليه صلاة دائمة متتابعة ما تتابع الليل.(68/3)
موقف الأنبياء في يوم القيامة
أولو العزم من الأنبياء خمسة وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، ويوم القيامة هؤلاء الأنبياء يتخلون عن الشفاعة ويقولون: (إن ربنا اليوم قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله ولم يغضب بعده مثله: اذهبوا إلى غيري) يريد الناس وهم يقفون في عرصات القيامة من يشفع لهم إلى ربهم لفصل القضاء؛ لأنهم وقوف في اليوم العظيم الذي طوله خمسين ألف سنة للانتظار فقط، وقضية سنة، أو عشر، أو عشرين، أو مائة، أو ألف في التعداد الذهني سهلة لكنها في التطبيق صعبة جداً؛ لا يمر اليوم ولا الليلة على الإنسان إلا بصعوبة لولا أن الإنسان يغالط نفسه بكثرة الأعمال والمشاغل والالتزامات، ولو أنه جلس في مكان مثل المسجون فلن تمر عليه الليلة إلا كأنها سنة، فهؤلاء في يوم القيامة لا يمر عليهم اليوم بسهولة؛ لأنه ليس هناك شغل، ولا لعب، ولا أكل، ولا مباريات ولا تمشيات ولا وظائف؛ ليس هناك إلا عرصات حارة، وشمس تدنو من الرءوس تغلي منها أدمغة العباد، والقلوب فارغة، والأنظار شاخصة، والأهوال هائلة، وهم وقوف ينتظرون فصل القضاء، فيأتون إلى الأنبياء يطلبون منهم أن يشفعوا لهم، فكل نبي يقول: نفسي نفسي، لا أسألك اليوم إلا نفسي! اذهبوا إلى غيري.
ونحن الآن -ولله المثل الأعلى- إذا كان المدير غضبان وأراد رجل أن يقضي حاجةً من عند المدير، فإنه يختار أولاً لقضاء هذه الحاجة أحب الناس إلى المدير، يقول: يا فلان! أنا أريد حاجة وأريد منك أن تدخل معي إلى المدير، أو تيسرها عن طريقك، فالمدير لا يرد لك طلباً، فهذا الوسيط سواء كان موظفاً أو قريباً لهذا المسئول لا يأتي المدير إلا في أحسن أحواله النفسية، إذا جاء إلى السكرتير قال: لابد أن أدخل إلى المدير، ماذا يقول له السكرتير؟ يقول: لا.
أرجوك لا تأتي اليوم اذهب فالمسألة خطيرة المدير غضبان إلى أبعد درجة؛ إذا دخلت عليه فإنه سيصرخ في وجهك؛ فلا يمكن أن يدخل الإنسان، لكن إذا جاءه ودخل عليه وقال له: كيف الأجواء؟ قال: -أربعة وعشرون قيراطاً- المدير مبسوط! زار اليوم جميع المكاتب ورأى ما يسره، ورأى العمل يسير في الخط الصحيح، فهو مبسوط! ادخل الآن اطلب تجد فربنا يوم القيامة وله المثل الأعلى يغضب، ومن غضبه أنه يدمر الكون كله: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الأنفطار:1 - 4].
ويقول الله عز وجل: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير:1 - 7].
أحداث هائلة جداً! تهز القلوب! وهذه تكون كلها يوم القيامة، فالقضية ليست قضية عادية، فيوم القيامة تكون الدنيا كلها على غير الوضع الأول: القبور بعثرت، والناس حشرت، والأمور كلها في غير وضعها الطبيعي، والله عز وجل قد أذن بالجزاء -أذن بفصل القضاء- فلا يوجد أحد يستطيع أن يأتي إلى الله ليسأله الشفاعة، وكل إنسان يقول: نفسي نفسي: لا أسألك اليوم إلا نفسي، ففي هذه اللحظات يأتون إلى نوح فيقول: إن لي دعوة وقد استنفذتها ودعوت على قومي، وقلت: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26] وانتهت دعوتي، ثم يأتون إلى إبراهيم عليه السلام، فيقولون له: يا إبراهيم: أنت خليل الله عز وجل وأنت أبو الأنبياء اشفع لنا إلى ربنا، فيقول: إني قد كذبت ثلاث كذبات، وإن ربي قد غضب اليوم غضباً لا أستطيع على مواجهته.
أتدرون ما كذبات إبراهيم عليه السلام؟ يقول المفسرون: إن كذبته التي ظنها كذبة هي في الحقيقة ليست بكذبة، لكن موازين الأنبياء ومقاييسهم حساسة إلى أبعد الدرجات.
قال العلماء: الأولى لما خرجوا في يوم عيدهم ليذبحوا لأصنامهم ولآلهتهم، قالوا له: هيا معنا، هيا يا إبراهيم، ماذا قال؟ قال: إني سقيم؛ يقول: أنا مريض اليوم ولا أستطيع أن أخرج، وحق له أن يكون مريضاً! وقد كان مريضاً، أي: ذو كبدٍ مقروحة على الدين؛ لأنهم كانوا يعبدون غير الله، ففي قلبه لوعة وحرقة، وهذا شأن المؤمن الذي يتألم ويتقطع قلبه حينما يرى حدود الله تنتهك، وشريعة الله لا تحكم، وفرائض الله لا تؤتى، إنه يتقطع ويذوب قلبه في جوفه كما يذوب الملح في الماء، أما صاحب الإحساس البارد، والدم -والعياذ بالله- المتجمد؛ فإنه لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، ولا يتمعر وجهه في الله عز وجل -لا يغار ولا يغضب لله- هذا قلبه متقطع، وقال: إني مريض في قلبي، أنا مقروح في كبدي! أنا لا أستطيع أن أخرج معكم في عيدكم، فظنها كذبة صلوات الله وسلامه عليه.
والثانية: أنه لما قدم إلى مصر وكانت معه زوجته سارة؛ وكانت امرأة ذات جمال، وقد عُرف ملك مصر بأنه رجل شهوانيٌُ خبيث يحب النساء، فلما أخبر عن زوجة إبراهيم طلبها من أجل -والعياذ بالله- أن يفعل بها الفاحشة، فلما جيء بها سأل إبراهيم، قال: ما هي لك؟ فكان إبراهيم ذكي: أي: لو قال: زوجتي لقتله وأخذها، لكن قال له: أختي؛ وهو يعني أنها أخته في الإسلام، إذ ليس على وجه الأرض مسلم إلا هي وهو، فقال: هاتها.
نريد أن نأخذها طبعاً يستطيع أن يأخذ أخت الشخص لكن لا يستطيع أن يأخذ زوجته، فأخذها وأُمر بإبراهيم إلى السجن، فبقي في قلب إبراهيم ألم شديد على زوجته وغيرة عظيمة على عرضه، ولكن الله حفظه؛ لأنه نبي، فكشف له الحجب بينه وبينها، فكان في السجن وهو يتابع حركاتها وينظر إليها في كل حركة، فلما أُخذت وأُدخلت إلى غرفة النمرود أراد أن يمد يده عليها، فكلما مد يده صلبه الله وجعله كالحديدة الواقفة، فإذا رجع عنها عادت له الحياة، فإذا مد يده تصلب، وإبراهيم يرصد الموقف وهو في السجن، ينظر العملية ليطمئن قلبه ويعلم أن الله عز وجل حفظه في عرضه، وبعد أن مارس التجربة أكثر من مرة، قال: هذه جنية أخرجوها؛ فجاءوا وأخرجوها من عنده، ورجعت إليه.
هذا إبراهيم، يقول: لا أستطيع إني قد كذبت! اذهبوا إلى غيري.
فيأتون إلى موسى ويقولون: أنت كليم الله فيقول: إني قد قتلت نفساً بغير حق، وإني لا أستطيع، فيقول: اذهبوا إلى عيسى.
فيأتون إلى عيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فيقول: اذهبوا إلى محمد.
ولا يذكر عيسى ذنباً، هكذا في الحديث: ما ذكر ذنباً، لكن قال: اذهبوا إلى محمد.
قال: (فيأتونني -صلوات الله وسلامه عليه- فأسجد تحت العرش وأثني على الله، ويفتح الله عليَّ من المحامد ما لم أكن أعرف، فيقال لي: ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: أمتي أمتي أمتي) يشفع صلوات الله وسلامه عليه لأمته، فالذي يريد أن يكون من أهل شفاعته هو من الذين أنعم الله عليهم، قال عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء:69] النبيين: هذه أعلى درجات البشر، الصديقين: الدرجة الثانية بعد البشر وليسوا بأنبياء؛ لكنهم أقوام اصطفوا وتم اختيارهم، وهم: أتباع الرسل الذين صدقوه، مثل: عيسى، وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وبعدها: {وَالشُّهَدَاءِ} [النساء:69] الشهداء ولو كانوا ما عاصروا الأنبياء، فإنهم في المنزلة الثالثة، وبعدها: {وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69] ماذا بقي بعد هؤلاء الأربعة؟! لم يبق إلا العصاة والمجرمون واللوطة والزناة والسكارى والقتلة والمرابون -والعياذ بالله- وعاقو الوالدين المهم فاعل كل جريمة بقي بعد هؤلاء الأربعة.(68/4)
علاقة السنن الرواتب بالصراط المستقيم
أنت تقول: دلني يا رب وأرشدني وأقمني على صراطك المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، ثم تقول: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] أي: لا تدلني على طريق المغضوب عليهم ولا الضالين.
والمغضوب عليهم هم اليهود؛ لأن معهم علمٌ ولم يعملوا به فغضب الله عليهم.
والضالون: هم النصارى؛ لأنهم يعبدون الله على جهل وضلال -والعياذ بالله- فضلوا عن صراط الله المستقيم، فاليهود عندهم كتاب، وقد قال الله تعالى فيهم: إنهم يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم، قال: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146] يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم -أي: صفاته كاملة عندهم- لكنهم -والعياذ بالله- غضب الله عليهم؛ لأنهم مكابرون -قوم بهت- يعرفون الحق ولكنهم يرفضونه، ولهذا يقول أحد السلف: (من عصى من علمائنا -أي: الذين يعرفون الدين- ففيه شبه من اليهود، ومن عبد الله على جهل وضلال من عبادنا ففيه شبه من النصارى) وطريق السلامة من اليهود والنصارى أن تعبد الله على علم وبصيرة.
{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فإذا قال العبد بعدها: آمين، أي: اللهم استجب، قال الله عز وجل: (هذه لعبدي ولعبدي ما سأل).
نسأل الله وإياكم من فضله.
فأنت إذا حافظت على السنن الرواتب وأخذت أقل الوتر -وهي واحدة- فإنك بها تكون قد طرقت باب ربك في كل يومٍ ثلاثين مرة، فإن أخذت بأكثر أنواع الوتر وهو إحدى عشر ركعة تكون قد طرقت باب ربك أربعين مرة، وجدير أن يفتح لك، فإن باب الله عز وجل واسع وهو كريم، ولا يرد من سأله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] ويقول ربنا تبارك وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] وهذا الذي أؤكد عليه؛ لأن هناك بعض التساهل من بعض الشباب حفظهم الله وأصلحهم ووفقهم في أداء السنن الرواتب، فقد تجد كثيراً منهم يصلون الفريضة ثم يخرجون ولا يصلون النافلة، والذي يترك النافلة فإنه سيترك بعد ذلك الفريضة؛ لأن الشيطان وأنت تواجهه يجد عندك خطوط دفاعات، فيجب أن يكون عندك خط دفاع أول، وثانٍ، وثالث، بحيث إذا انهزمت في الخط الأول فعندك خط ثاني، وهذه خطط العسكريين الآن؛ يضعون خطوطاً في مواجهة الأعداء: الخط الأول يسمونه: الخط الحار أو الخط الشاغل أو خط النار، هذا المواجهة باستمرار، والخط الثاني أشد، والخط الثالث أشدها فليس وراءه إلا الموت.
فأنت في مواجهة الشيطان أمام صراعات، يجب أن يكون لك في العبادة خط ناري ساخن وهو الأول واسمه كثرة النوافل؛ ما إن تتاح لك فرصة حتى تصلي.
الخط الثاني الذي إذا هزمت وغلبت وشغلت ولم تستطع فلا تتخل عنه وهو خط الرواتب، إذ لا يمكن أن تترك الراتبة مهما كان عذرك، وشغلك، وكسلك وتعبك؛ لأن الرواتب هذه لا خيار فيها، ولا مساومة عليها، بل الحرص كل الحرص عليها.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: عن رجل يصلي الفريضة ولا يؤدي الراتبة؟ قال: ذاك رجل فاسق تُرد شهادته.
وأشكل هذا الكلام على بعض أهل العلم حينما سمعوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والحديث في الصحيحين واللفظ للبخاري: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت إن صليت المكتوبات ولم أزد على ذلك شيئاً، أأدخل الجنة؟ قال: نعم، وقال: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا) قالوا: هذا الرجل يصلي الفريضة فقط، فكيف نحكم بفسقه، فتأوله رحمه الله وهو من أئمة العلم الهداة الذين لديهم بصائر عظيمة في كشف الأسرار والأدلة من كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: إن هذا الرجل صادق، والرسول صلى الله عليه وسلم زكاه، وتزكية الرسول صلى الله عليه وسلم له لا تكون إلا بوحي، وأنه سيحافظ على الفرائض حتى يموت، ولا شك أن من حافظ على الفرائض حتى يموت فهو مسلم يدخل الجنة، لكن الغالب أن من يحافظ على الفرائض فقط ولا يصلي النوافل أنه في نهاية الأمر يترك الفرائض.
وهذا مشاهد ومجرب؛ لأنه ليس عنده إلا خط دفاع واحد، فإذا جاءه الشيطان ليحاربه في الصلاة وتركها أين يرجع؟ ليس هناك إلا الكفر، وليس بعد ترك الصلاة إلا الكفر، ولكن إذا كسلت في النوافل فإنك ترجع إلى الخط الثاني، فإذا هزمك الشيطان وتغلب عليك في لحظة من اللحظات أو وقت من الأوقات وتركت الراتبة فإن معك الفريضة، لكن من يحرص على النافلة والراتبة والفريضة لا يمكن أبداً أن يضيع الفريضة، فهذه اسمها رءوس أموال، ويوجد أرباح سائلة دائماً وكثيرة، فرءوس الأموال: الفرائض، والأرباح الثابتة: هذه الرواتب، والأرباح الكثيرة في المواسم: بقية النوافل.(68/5)
أهمية السنن الرواتب يوم الحساب
أخي المسلم! إنك لا تعلم يوم القيامة هل تقبل منك فريضتك أم ترد؟ وكما جاء في الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما يحاسب عليه العبد من عمله يوم القيامة الصلاة؛ فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن ردت رد سائر عمله) أيضاً: إذا حاسب الله العبد وردت عليه بعض فرائضه ونقصت عليه قال الله تعالى: (انظروا هل لعبدي من نوافل، فإن كان له نوافل أخذت ثم أكملت بها فرائضه، فإن لم يكن له نافلة طرح في النار) والعياذ بالله.
ومن منا يضمن أن يأتي بفريضته كاملة، هل أحد يضمن؟ أعطيكم مثالاً في يومنا هذا: صلينا المغرب ثلاث ركعات، من منا يضمن أنه صلى المغرب ثلاث ركعات ولم تخطر له خاطرة، أي: ولم يحصل له وسواس في شيء من أمور الدنيا؟
الجواب
لا أحد.
ليس هناك أحد أبداً مستحيل.
هل قال شخص: والله إني كبرت تكبيرة الإحرام وسلمت تسليمة الختام، وما خطر في قلبي من التكبيرة حتى التسليم شيء إلا الله والجنة والنار والدار الآخرة والقبر والعذاب، ولم أفكر في زوجة ولا عشاء ولا ولد ولا دراسة ولا سمرة ولا مباراة ولا لعبة ولا سهرة، هل يستطيع أحد أن يقول هذا؟ لا.
ولذا إذا أردنا أن نجري امتحاناً عملياً ونكتب في ورقة ونقسمها على الحاضرين في هذا المجلس -وأنتم الصفوة إن شاء الله- ونقول لكم: السؤال الأول: ماذا قرأ الإمام في الركعة الأولى؟ السؤال الثاني: ماذا قرأ الإمام في الركعة الثانية؟ كل واحد يجيب ويطبق الورقة ويأتي بها لنجري هذا الاستفتاء لنعرف من هم الذين عرفوا قراءة الإمام، وقد أكون وأنا الإمام نسيت ماذا قرأت؛ لأني ربما أقرأ وقلبي ليس معي، ولو سألنا هذا العمود الموجود في المسجد، وقلنا: يا عمود، يا مسلح، يا أسمنت، ماذا قرأ الإمام في الركعة الأولى؟ هل تظنه يرد؟ ماذا يقول العمود؟ يقول: لا أعلم، فلو أتينا بعمود ثان بشري من الموجودين وقلنا: يا عمود يا بشري يا متحرك: ماذا قرأ الإمام؟ وقال: لا أعلم، فما الفرق بين العمودين؟! هل يوجد فرق؟ الفرق هو: أن هذا ثابت وهذا متحرك، ولكن الثابت أكثر وجوداً من المتحرك في المسجد؛ فالمتحرك جلس ربع ساعة وهذا جلس أربعاً وعشرين ساعة، نعم.
فالعمود قد يكون أفضل، فالخشوع في الصلاة الآن مفقود عند كثير من الناس سواء المتكلم أو السامع إلا من رحم الله عز وجل!! فإذا أتيت يوم القيامة وصليت المغرب ثلاث ركعات؛ لكن الله لم يكتب لي منها إلا ركعة واحدة؛ لأنه جاء في الحديث: (للعبد من صلاته ما حضر فيها قلبه، يكتب للعبد من صلاته: نصفها، ثلثها، ربعها، خمسها، سدسها، ثمنها تسعها، عشرها، وبعضهم لا يكتب له من صلاته شيء) فإذا جِئتُ يوم القيامة وقد كُتب لي -إذا كنت من الخاشعين- ثلثها أو ثلثين، أو ركعتين؟! قال: أين هي؟ قال: هذه ركعتين في العشاء، وركعتين في السمرة، وركعتين في العمارة، وركعتين مع الأولاد، والذي لله بقي لله وسجل لك، والذي ليس لله ذهب للناس، يقول الله تعالى: (انظروا هل له شيء؟)، أي: يكمل به صلاته فإذا جئت وما عندك ما ترقع به فمن أين ترقع يوم القيامة؟ لم يبق إلا النار، لا إله إلا الله! فالرواتب مهمة -يا إخواني- جداً جداً.
بعض الشباب يلعب عليهم الشيطان، ويأتيهم من باب ما يحبون، فعندما يشم في قلوبهم الرغبة في فعل الخير يقول لهم: قد سمعتم في الحديث الصحيح (إن أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة) فيقول للإنسان: أنت صليت الفريضة من أجل أن تصير صلاتك فضيلة فصل النافلة في البيت، فإذا دخل الإنسان البيت نسي الله، ونسي الصلاة، فأول ما يدخل والعشاء أمامه، هل سيفكر في صلاة والسفرة موجودة؟ وبعد أن يتعشى أو يتغدى إذا كان بعد صلاة الظهر يغسل يديه وبعدها يدخل غرفته ليسمع أو يقرأ جريدة أو كتاباً أو ينام وذهبت السنن! ويأتي الشيطان ليضحك عليه، يأتي إليه ويتلفت فيه وقد ضيع الصلاة وضيع الفريضة فيأتي إليه ويضحك عليه ويقول: مغفل! تريد الفضيلة؟! ضيعناك منها كلها، لا فضيلة ولا غيرها.
فإن كنت من أهل الحرص الشديد وتعرف أنك بمجرد أن تدخل البيت تصلي النافلة، أو عندك ترتيبات خاصة لا تنام إلا بعد أداء الراتبة فأمر حسن، وإلا فصلها في المسجد؛ لأن حفظها خير من ضياعها نريد الربح مثلما يقولون، نريد أن نذهب إلى البيت لنصلي صلاة النافلة لنحصل على فضيلة فنضيعها ولا نصليها أصلاً، فاحرص عليها في مسجدك وعود نفسك باستمرار عليها حتى تصبح شيئاً طبيعياً، انظروا الآن آبائنا وكبار السن فينا والعوام منا الذين لم يطلبوا العلم ولم يعرفوا كثيراً من الأحكام الشرعية، ولكنهم لما ألزموا أنفسهم بالرواتب، فهم من يوم أن خلقوا لا يستطيعون تركها، وكثير من كبار السن معنا في هذا المسجد وفي كثير من المساجد إذا صلى لا يمكن أبداً أن تقول له: هيا، يقول: لم أصل السنة، طيب هذه نافلة، قال: لا يا شيخ! هذه سنة الرسول صلى الله عليهم وسلم، فأصبحت جزءاً من صلاته التي يصليها، بينما شبابنا إلا من عصم الله يصلي الفرض ويخرج، ماذا بك؟ قال: هذه سنة يا شيخ! ماذا بالسنة، والرسول يقول: (من رغب عن سنتي فليس مني) السنة أي: الطريقة، هذه طريقة النبي صلى الله عليه وسلم! أسنها لك وأمرك بها لتتركها، وتفرط فيها؟! هذه مصيبة أيها الإخوة! أما موضوعنا فلا يزال امتداداً للمواضيع السابقة عن الروح ورحلتها العظيمة منذ أن تستقر في الإنسان وحتى تستقر في الجنة أو في النار.(68/6)
مراتب تعلق الروح بالجسد
الروح لها تعلقات بالجسد ذكر العلماء أنها أربع تعلقات:(68/7)
تعلق الروح بالجسد في بطن الأم
التعلق الأول: حين يكون الإنسان جنيناً في بطن أمه: فهناك للروح علاقة بالجسد تختلف عن علاقتها بالجسد في الأرض، فالروح هناك موجودة؛ تلمسون الطفل إذا نُفخ فيه الروح بعد (120) يوماً في أول الشهر الخامس تسمع أمه حركة، ويمكن أن تضع يدك على بطن زوجتك فتسمع ركضة، أو دقة! هذه حياة الطفل، الروح موجودة الآن فيه، لكن علاقتها بالجنين في البطن تختلف عن علاقتها بالإنسان في الأرض، فالجنين في البطن يأكل من غير فمه؛ يأكل من سرته، ويتنفس من غير أنفه، ويتغذى من غذاء أمه، وبعد ذلك يعيش بعينين وليس هناك نور، ويعيش بقدمين وليس هناك أرض يسير عليها، وله يدين لا يستعملها، عالم الجنين في البطن يختلف كل الاختلاف عن عالم الإنسان في الأرض، وبعد ذلك من يعلمه هناك في تلك الظلمات؟! ظلمات ثلاث: ظلمة الرحم، والمشيمة، والبطن، ظلمات ثلاث، قال الله: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} [الزمر:6] لكن الله يعلم حاله في تلك الظلمات: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم:32] ألصق الناس بك هي أمك، تحملك في بطنها، وتتغذى على غذائها، وتعيش في أحشائها، وهي لا تعرف عنك شيئاً، ولو سألت الأم: الولد نائم أو يقظان؟ لقالت: لا أعلم، الولد شبعان أو جائع؟! لا تعلم، الولد ذكر أو أنثى؟! لا تعلم، الولد متعاف أو مريض؟! لا تعلم، ضعيف أو سمين؟! لا تعلم لا تعرف عنه شيئاً! لكن من الذي يعلم؟ الله.
لا إله إلا هو! يعلمك ويعرف حقيقة أمرك وأنت في تلك اللحظات، وقد أشكل بعض الأمر على بعض الناس فيما يتعلق بقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34] هذه خمس، وفي الحديث: (خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله: علم الساعة -لا يعرفها أحد- وتنزيل الغيث) وتنزيل الغيث، لا يعلم أحد متى ينزل الغيث، ولهذا التنبؤات الجوية التابعة للأرصاد التي تسمعونها كل يوم: هناك سحب عميقة جاءت ومنخفض جوي وارتفاع ولكن لا ينزل شيء، لماذا لم ينزل هذا المنخفض؟ تأتي السحب إلى أبها وتذهب وتنزل في الخميس، لو أن السحب على هواها لكانت كلما طلعت من البحر نزلت على أبها، لم لا؟ لماذا تذهب تنزل وتأخذ مشوار إلى هناك؟ من الذي يعطيها أجرة إلى الخميس؟ ماذا بها تترك أهل أبها بدون ماء وتذهب على أهل تهامة وتنزل لهم المطر؟ من ينزل هذا الغيث؟ إنه الله! يقول الله تعالى: {يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى:27] لا تنزل قطرة إلا بأمر من الله عز وجل، ولها ملك موكل بها -وظيفته هذه الأمطار- اسمه: ميكائيل، الموكل بتوزيع الأمطار على البشر، يحجب عن هؤلاء وينزل على هؤلاء، ينزل المطر رحمة وأحياناً عذاباً، ففي الحديث الصحيح: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في يوم الجمعة -وهذه من معجزاته- فلما كان في الخطبة دخل رجل من باب المسجد، فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله لنا، فرفع يديه صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا) يقول راوي الحديث: والله ما في المدينة سحابة -والمدينة بعيدة عن السحب، وليست بجانب البحر- يقول: وإذا بتلك السحابة كالترس تأتي وتنتشر حتى تخيم على المدينة بأسرها، ثم تمطر، فوالله ما خرجنا من المسجد حتى سالت الشعاب والوديان، ثم استمرت هذه السحابة أسبوعاً كاملاً إلى الجمعة الآتية، ولما كان يخطب في الجمعة الثانية وإذا بذلك الرجل يقول: يا رسول الله! هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله أن يرفع عنا، فقال عليه الصلاة والسلام -في أدب النبوة، وجمال العبارة-: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر) صلوات الله وسلامه عليه، هذا من إعجازه صلى الله عليه وسلم أن استجاب الله له هذا الأمر، فالأمطار تنزل بأمر من الله تبارك وتعالى، وهو الذي يعلمها {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان:34] فالإشكال حصل هنا عند الناس: القرآن يقول العلماء فيه: إنه قطعي الثبوت، القرآن في مجمله من ألفه إلى يائه -من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس- قطعي الثبوت؛ يعني: ليس فيه حرف زائد عما أنزل الله، ولا حرف ناقص على ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن في آياته هذه دلالات قطعية وظنية أي: فيه آيات قطعية الثبوت وفيه قطعية الدلالة، وفيه آيات قطعية الثبوت لكنها ظنية الدلالة، من يعرف القطعي والظني في الدلالات؟ العلماء هم الذين يعلمونه، قال الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] فالعلماء العارفون بالله يعرفون دلالات الكتاب مما علمهم الله وعلمهم رسوله صلى الله عليه وسلم، هذه الآية يقول الله عز وجل: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان:34] حملوها الناس على غير مراد الله منها حملاً كاملاً، العلم هنا الذي قاله الله تعالى: علم كامل شامل، يعلم ما في الأرحام، ما قال الله: ويعلم نوعية الجنين الذي في الأرحام، حتى نقول: إذا ثبت بالعلم وبالأشعة أنهم عرفوا أنه ذكر أو أنثى، قلنا: والله قد قال: {يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان:34] لا.
العلم هنا ممكن، لماذا؟ قالوا: لأن الله تعالى يقول: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:19 - 21] والفاء تفيد التعقيب الفوري، وثم: تفيد الترتيب على التراخي، تقول: دخل محمد فعلي، يعني: دخل علي بعد محمد مباشرة، لكن تقول: دخل محمد فعليّ ثم جاء سعيد، يعني: دخل محمد وجاء علي بعده وبعد ذلك جاء سعيد بعد ساعة أو ساعتين أو فترة من الزمن، فهنا يقول الله عز وجل: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس:19] يعني: بعد خلقه نطفة حصل له التقدير، في لحظة التقدير لا يستطيع أن يعرف نوعية هذا المولود أحد، حتى الملائكة لا تعرف، لكن بعد التقدير وبعد مضي (120) يوماً يؤمر الملك بنفخ الروح، وكتابة الأجل والرزق ونوعية الذكر والأنثى، وفي هذه اللحظات لم يعد العلم علماً خاصاً بالله، فقد انتقل من العلم الخاص بالله إلى علم تعلمه الملائكة، فالملائكة الآن أصبحت في البطن، أي: أن الملائكة التي أمرت بالنفخ في الروح تعرف أن هذا الجنين ذكراً أو أنثى، وبإمكان الناس بعد أن عرفت الملائكة أن يعرفوا أنه ذكر أو أنثى قبل أن يخرج من الرحم، فبالإمكان أن نطلع عليه عن طريق الأشعة، أو نجري عملية للمرأة أو نخرجه بعملية قيصرية ونعرف أولد أم أنثى هذا ممكن، لكن في اللحظة الأولى -لحظة التقدير- لا يمكن لأحد أن يعرفه إلا الله؛ لأن الإنسان يكون بكل صفاته الوراثية وجيناته موجود في رأس الحيوان المنوي؛ والحيوان المنوي: حيوان لا يرى بالعين المجردة، لا يرى إلا بالمجهر المكبر الإلكتروني، وإذا وضعت قطعة من المني على عدسة المجهر فسترى الملايين من الحيوانات المنوية، ويقول العلماء: إن ما يدفقه الرجل من حيوانات منوية في الدفقة الواحدة: أربعمائة مليون حيوان منوي، أي: إذا أتى الرجل زوجته؛ فإنه يدفق في كل دفقه من مائة إلى أربعمائة مليون حيوان منوي، تخرج هذه الحيوانات المنوية وتمر في الرحم ولا يصل إلى قناة فالوب في أعلى القناة التي فيها بويضة المرأة إلا حيوان واحد، ويموت الباقي، فالذي يسبق تحتضنه البويضة وتقفل على نفسها ويبقى الباقون يدورون يريدون طريقاً إلى البويضة فلا يجدون ثم يموتون والحياة هنا للأقوى! هذا الحيوان المنوي الصغير الذي لا يرى بالعين المجردة في رأسه جميع الجينات والخصائص الوراثية! الإنسان أنت وأنا في حيوان منوي صغير لا يرى بالعين المجردة، وما يجري بعد ذلك من مراحل ما هي إلا عملية تطويرية في كونك -أيها الإنسان- تكون بعد ذلك أطواراً، يقول الله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:13] * {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح:14] أطواراً من الترتيبات؛ من نطفة إلى صاحب عضلات وقوة.
{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان:34] فالعلم المقصود هنا ليس علم نوعية وإنما علم كامل شامل في مرحلة التقدير، وإذا عرف الناس ذلك في هذا فليس بمعجز، أي: ليس بغريب؛ لأنه ليس مما اختص الله بعلمه.
{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} [لقمان:34] هذه لا تزال وستظل، ولن يعرف أحد ماذا يكسب غداً إلا الله، لا تعرف ماذا يصير لك غداً، لا تعلم أبداً {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34] تجد الرجل يعيش في أرضٍِ حتى آخر لحظة ثم يذهب إلى مكان ويموت فيه.
فالذي أعرف أن رجلاً كان يعيش معنا في أبها هنا رحمة الله تعالى عليه لا يحب السفر، ويكره الأسفار ولم يُعرف أنه خرج من أبها في حياته قط، حتى خميس مشيط لا يعرفها، وكان يبيع ويشتري في دكانه وكلما سافر تجار إلى أبها أرسل معهم طلباته ويكتب قوائم، يقول: أريد كذا وكذا وكذا تعال معنا، قال: لا أريد السفر، وبعدها جاءت فريضة الحج، قالوا له: حج، قال: الحج هذه السنة زحمة، والسنة الثانية قال: زحمة، المهم أنه بلغ من العمر عتياً -وبلغ الستين والسبعين سنة- ولم يحج، لا يستطيع أن يركب أو يسافر، وأ(68/8)
تعلق الروح بالجسد في الدنيا
فرحلة الروح وتعلقها بالجسد غير تعلقها بالجنين.
إذا خرج الإنسان إلى هذه الدنيا تعلقت به الروح تعلقاً جديداً يختلف عن التعلق الأول، فإذا مات الإنسان وخرجت روحه من جسده وانتقل جسده إلى عالم الآخرة نقلت روحه معه إلى عالم البرزخ، وتعلقت به تعلقاً آخر من جنس آخر، فالجسم تجده في القبر قد رَمَّ وتفتت وأكلته الأرض والروح تعذب أو تنعم.
هناك كلام لـ ابن القيم رحمه الله عجيب جداً، يقول: إن الجسد والروح الآن في الدنيا متلازمان، وأي عذاب ينال الجسد يناله بالأصالة في الدنيا وينال الروح بالتبعية.
أي: عندما تأتي الآن بشخص تدقه بإبرة في بطنه ما الذي يتألم؟ الجسد؛ لأن مراكز الإحساس في الجلد، ولكن تبعاً لتألم الجسد تتألم الروح، إذ لو لم يكن له روح وطعنته، هل يحس؟ لا.
فالآن الضربة في الجسد والألم للجسد والتبعية للروح هذا في الدنيا، أما في القبر فبالعكس: الضربة في الروح والنعيم في الروح والتبعية على الجسد حتى ولو صار عظيماً وما بقي إلا الطين لكن الروح تعذب أو تنعم، يعني: البرزخ عكس الدنيا، في الآخرة -يوم القيامة- العذاب أو النعيم يسلط على الروح والجسد سواء بسواء، ليس هناك تبعية، بالأصالة كلا الاثنين.
وأضرب لكم على هذا مثالاً ضربه ابن القيم، قال: ترى رجلين ينامان على فراش واحد، ويريا في منامهما رؤية، الأول يرى أنه يقتتل مع رجل آخر -واحد أمامه ومعه سكين وذاك معه سكين ويتطاعنون وهذا يطعن، وهذا يطعن- والثاني نائم على فراشه ويرى أنه يتزوج بامرأة جميلة، وفي آخر الليل أتى شخص يوقظهم -أيقظ هذا وأيقظ هذا- ما وقع للأجساد شيء، لكن هذا إذا قام قال: لا إله إلا الله الحمد لله يتلفت إلى جسمه فلا يجد دماً، ولا طعناً ولا أي شيء، قال: الحمد لله، الله يجزيكم خيراً عندما أيقظتموني! أعوذ بالله من هذا الحلم، ما هذه الرؤيا؟ ما هذا الحلم؟ ماذا يوجد؟! قال: أعوذ بالله، شخص طعنني وما ترك في بطني مكاناً إلا مزقه الحمد لله الذي أيقظني، تنظر في بطنه فلا يجد شيئاً، وتجد الآخر الذي رأى أنه يتزوج وأنه يأخذ واحدة جميلة؛ فإذا أيقظته من النوم، وقام وتلفت والله ما في ولا شيء لا امرأة ولا أي شيء، يقول: الله أكبر! ليتكم ما أيقظتموني، ليت النومة هذه بقيت إلى يوم القيامة، لماذا؟ سعيد! كان مع زوجة جميلة، فهو سعيد معها، لكن ليس هناك شيء، لا يوجد زوجة حقيقية للجسد، ولا سكين هنا للجسد، لكن الزوجة مع من؟ مع الروح، والحديد هنا والطعن مع من؟ مع الروح، فتألم الجسد بالتبعية، والنوم هو صورة مصغرة من الموت، فإذا مات الشخص حصل ما حصل.
ولهذا ظاهر القبور تراب وباطنها نعيم أو عذاب، ظاهرها الآن تلفت وانظر لكن بين القبر والقبر مثل ما بين السماء والأرض، هذا في روضة من رياض الجنة؛ وآخر بجواره ما بينه وبينه إلا شبر أو نصف متر في حفرة من حفر النار.
هذا ينعم وذاك يعذب، لماذا؟ بأسباب العمل، فالروح في خروجها ورحلتها إلى الآخرة لها رحلة طويلة وبعيدة، ونبدأ بأرواح الأنبياء: الأنبياء حين يحضرهم الموت، يعاملون بطريقة تختلف عن معاملة بقية البشر، فإنهم يخيرون بين أن يموتوا وبين أن يبقوا على ظهر الحياة، بعد أن يروا ما أعد الله لهم من جزيل الثواب وعظيم الأجر عنده في الآخرة، ولا يوجد على الإطلاق رسول اختار البقاء؛ لأنهم عقلاء، فكل رسول لا يخير إلا ويقول: إلى الله، يختار جوار ربه تبارك وتعالى؛ لأنهم آمنوا بقضايا الآخرة إيماناً حقيقياً لدرجة أنهم يفاضلون بينها وبين الدنيا كما يفاضلون بين العشة المتهدمة وبين العمارة العظيمة، فإذا قال لك شخص وأنت ساكن في عشة متهدمة تخرخر عليك، الحيات والعقارب في طرفها، والحمامات قذرة، والمياه فيها غير مرتبة، ويقال لك: تريد أن تقعد في العشة أو تأتي العمارة؟! في القصر العظيم فيه البساتين والحدائق، وبرك السباحة (وجراش) السيارات، والزوجات؟! ما رأيك؟! تقول: والله أريد العشة؟ أو تقول: الله يجزيكم خيراً أريد تلك، فالأنبياء عرفوا قيمة الدنيا وحقارتها، وعرفوا قيمة الآخرة؛ فهم دائماً يختارون الجنة، ولا شك أنهم يختارونها لعلمهم بها.
وقد حدث هذا لرسولنا صلى الله عليه وسلم، فقد خُير بين الموت والحياة فاختار جوار ربه، فقد روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -يعني: قبل الموت-: لم يقبض نبيٍ قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير، تقول عائشة: فلما نُزل به -يعني: لما نزل به المرض- ورأسه على فخذي غُشي عليه صلى الله عليه وسلم ساعة -من أجل سكرات الموت- ثم أفاق فأشخص بصره إلى السماء -فوق- ثم قال: اللهم إلى الرفيق الأعلى، قالت: فقلت: إذاً لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا به صلوات الله وسلامه عليه، ثم قالت: فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم وهي قوله: اللهم إلى الرفيق الأعلى) وجاء في إحدى روايات البخاري، قالت: (فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه يقول: وأخذته بحة وهو يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، قالت: فعلمت أنه يخير يومئذٍ) فاختار مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، جعلنا الله وإياكم منهم.(68/9)
تعلق الروح بالجسد بعد الموت
والروح هي: مادة شفافة لا ترى ولا تمس ولا تُعلم لها كيفية، وليس لها صفة إلا صفة العلو والدخول والخروج، وقد ثبتت بالكتاب والسنة ولا يعلم كنهها إلا الله، ولما سأل اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح، قال الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] ولو أن الروح شيء مادي يمكن الوصول إليه لما كان خافياً على البشر هذا اليوم، فقد استطاعوا أن يعرفوا كل شيء: استطاعوا أن يغوصوا في الأعماق، وأن يسبحوا في الفضاء، وأن يذهبوا إلى العوالم الأخرى ويرجعوا كما تسمعون الآن من الرحلة الأخيرة التي ذهبت ورجعت ونزلت يوم أمس، وكذلك استطاعوا أن يروا أدق شيء في الكون حتى الفيروس؛ والفيروس: نوع من الميكروبات والجراثيم؛ لكنه أدق من الجرثوم، فالجرثوم يمكن أن يرى بالعين المجردة، لكن الفيروس ربما لا يرى حتى بالمجهر؛ وقد لا يرى بأدق المجاهير؛ المجاهير الإلكترونية التي تكبر ملايين المرات، وبها يمكن أن يرى.
والروح لا ترى، وقد أجرى أحد العلماء الأمريكيين بحوثاً ودراسات على الروح، كيف تدخل، وكيف تخرج؟ وجاء برجل يحتضر ووضعه في صندوق وأجرى له جميع وسائل الحياة -صندوق زجاجي- وأخذ يرصد كل حركة وكل شيء يدخل هذا الروح، وبينما هو يرصد وإذا بالإنسان يموت، مات الإنسان داخل الصندوق دون أن يرى شيئاً دخل أو خرج! هذه الروح تخرج كما جاء في حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها) فذكر من طيب ريحها، وذكر المسك قال: (ويقول أهل السماء: روح طيبة، جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق بها إلى ربها عز وجل، ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل) والحديث في صحيح مسلم عن حماد قال صلى الله عليه وسلم: (أما الكافر إذا خرجت روحه فذكر الراوي من نتنها) -والعياذ بالله- والنتن والطيب هنا شيء معنوي، يتحول عند الموت إلى شيء مادي، وهو الآن مادي فوالله إننا لنشم رائحة الإيمان ورائحة الطيب في الرجل الصالح، وإننا لنشم رائحة الخبث في الرجل الخبيث، ولو اغتسل بماء الأرض كله إنه لخبيث مثل الخنزير.
بعض المؤمنين تجده طبيعياً في اغتساله لكن فيه رائحة جميلة؛ وهذه الروائح عرفت الآن في الشهداء في الأفغان، ومن أراد أن يرى المزيد فليراجع كتاب: آيات الرحمن في جهاد الأفغان للشيخ الدكتور عبد الله عزام، وذكر من الآيات الكثيرة ومن ضمن ما ذكر: أن القتلى من المؤمنين تجد لهم ريحاً مثل ريح المسك، والدم مثل ريح المسك، وبعضهم إذا حمل الشهيد وجاءوا يغسلون أيديهم من الدماء تبقى الرائحة أياماً، بل بعضهم قال: بقيت الرائحة في يدي بعد أن غسلتها شهوراً، إنها رائحة المسك من دم هذا الشهيد.
قال: (فيخرج من نتنها وخبثها وقذرها، ويقول أهل السماء: روح خبيثة من قبل الأرض جاءت، فيقال: انطلقوا به إلى الأجل) وقد ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث البراء بن عازب وهو صحيح في سنن أبي داود وأخرجه أحمد في مسنده: ذكر التكريم الذي يكون لروح العبد الصالح عند خروج روحه من جسده حيث تصلي عليها الملائكة، وتفتح لها أبواب السماء، وتجعل في كفن من الجنة، وفي حنوط من الجنة، وتخرج منها روائح طيبة تفوق رائحة المسك، ثم تأخذها الملائكة في رحلة علوية كريمة مباركة، وتفتح لها أبواب السماء، أما الروح الخبيثة فتلعنها الملائكة -والعياذ بالله- عند عروجها، وتغلق أبواب السماء دونها، ويدعو كل فريق من الملائكة على باب ألا تعرج من عنده -يقول: اللهم لا تأت من عندي هذه الخبيثة- وتجعل تلك الروح الخبيثة في حنوط من النار ومسوح من النار، وتفوح منها الروائح الخبيثة التي تؤذي الملائكة، ويعرج بها إلى السماء فلا يفتح لها باباً، فتلقى روحه من السماء.
وفي حديث البراء يصف الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الرحلة من الموت إلى البرزخ، فيقول: (حتى إذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وفُتحت له أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يعرج بروحه من قبلهم، فإذا أخذها -يعني ملك الموت- لم يدعوها في يده طرفة عين -قال الله عز وجل: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61] ويخرج منها كأطيب ريح وجد على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: هذا فلان بن فلان؛ بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين - {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:19 - 21] أي: يحضر كتابته المقربون من الملائكة- فيكتب كتابه في عليين -نسأل الله وإياكم من فضله- ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى).
أما الكافر والفاجر -والعياذ بالله- فقد تحدث عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث فقال: (إذا نزعت روحه من جسده لعنته الملائكة بين السماء والأرض، وتغلق دونه كل أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ألا تعرج روحه من قبلهم، فيأخذها ملك الموت، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في ذلك المسوح) والمسوح هو الشعر الغليظ الذي مثل المسحل أو المبرد، ليس فيه نوع من النعومة وإنما قاسٍ وشديد توضع فيه الروح فتتأذى الروح قبل أن تصل إلى الأذى العظيم في النار لا حول ولا قوة إلا بالله.
(ويخرج منها ريح جيفة كأنتن ريح على وجه الأرض؛ فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة، فيقولون: هذا فلان بن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى يُنتهى بها إلى السماء الدنيا فتستفتح أبواب السماء فلا تُفتح، ثم قرأ: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]).
يقول المفسرون: إن تعليق دخولهم الجنة على دخول الجمل في خرق الإبرة تعليق على المستحيل، هل من المعقول أن يدخل البعير في خرق الإبرة؟! ليس معقولاً، وفيه تفسير آخر مشهور: إن الجمل ليس الجمل البعير، الجمل: الحبل الغليظ الذي تربط به السفن في مراسيها، ولعلكم رأيتم السفن في الموانئ إذا وقفت ألقت حبالاً غليظة، وربطت بها في طرف الميناء حتى لا تسحبها الأمواج، وقالوا: إن الدليل على أن المقصود أن الجمل هنا الحبل؛ لقول الله عز وجل: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات:32] * {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات:33] أي: كأنه حبال صفر طويلة، فالشرر إذا امتدت كأنه حبل طويل، والقول الأول أرجح، وهو أن المقصود: أنه إذا دخل الجمل، أي: البعير؛ إذا دخل البعير في خرق الإبرة دخلوا هؤلاء في الجنة وهذا مستحيل.
ثم يقول الله عز وجل: (اكتبوا كتابه في سجين) هذا فاجر؛ لأن الله تعالى يقول: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7] وما سجين؟ {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:9] ما هذا المرقوم؟ {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المطففين:10] هذا المكتوب في هذا الكتاب.
(وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتطرح روحه من السماء إلى الأرض، ثم قرأ قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]) أعاذنا الله وإياكم من ذلك! وروى ابن ماجة في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد الميت تحضره ملائكة، فإذا كان صالحاً قال: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء؛ فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان، فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أدخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزالون كذلك، أما الرجل الفاجر -الرجل السوء- فإنه يقال لروحه: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة وأبشري بحميمٍ وغساق).
الحميم: الماء الذي بلغ درجة متناهية من الحرارة، والغساق: هو القيح والدم الذي أحمي حتى أصبح في درجة الغليان وهو خبيث، وإذا كان بارداً وهو قيح ودم ليس جيداً، فكيف إذا كان قيحاً ودماً وصديداً وهو يفور، إذ لابد أن يشرب، من أين يشرب؟ لا حول ولا قوة إلا بالله! {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [إبراهيم:17] (وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج؛ فإذا عرج بها إلى السماء؛ قفلت أبواب السماء، فيقال لها: لا مرحباً بالروح الخبيثة كانت في الجسد الخبيث) لأن الخبث والطيب -أيها الإخوة- إنما يكتسب من الدين، الخبث يكتسب من المعاصي، والطيب يكتسب من الطاعات، فالجسد الذي غذي بالحلال واستعين به في طاعة الله، وما رئي إلا في الأماكن الطيبة، فتجد عينه، وأذنه، ولسانه، ويده، ورجله، وفرجه كلها طاهرة، وسل(68/10)
الأسئلة(68/11)
المحارم الذين يجوز للمرأة الكشف عليهم، وحكم صوت المرأة
السؤال
مَنِ المحارم الذين يجوز للمرأة الكشف عليهم؟ وهل من حق المرأة رفع صوتها في البيت؟
الجواب
المحارم الذين يجوز للمرأة أن تكشف عليهم هم الذين يحرمون عليها على التأبيد، أي: لا يجوز لها أن تتزوجهم مطلقاً، وقد ذكر الله عز وجل في سورة النور الرجال الذين يجوز لهم أن تكشف عليهم، وهم أحد عشر رجلاً، قال عز وجل: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا إلخ} [النور:31] فيجوز الكشف لهؤلاء الذين استثناهم الله، وهذا الخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم، والأمر له: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ} [النور:31] والمؤمنة هي التي تستجيب، والتي لا تستجيب لله ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم، وتعصي الله وترفض آية الحجاب؛ فقد ضلت ضلالاً مبيناً؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36] {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] فيجوز أن تكشف على البعل ما يحتاج {أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور:31] أبوها {أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] أبو بعلها، أي: عمها أبو زوجها {أَوْ أَبْنَائِهِنَّ} [النور:31] ولدها {أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] ولد بعلها من زوجة أخرى؛ لأنها عمته ولا يجوز له أن ينكحها بعد أبيه {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ} [النور:31] أخوها من الرضاعة أو من النسب {أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ} [النور:31] أبناء أخوها وهي عمتهم {أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} [النور:31] عيال أختها وهي خالتهم، ولا يجوز لها في غير هؤلاء، وأبناء الخال وأبناء العم وابن العم وابن العمة وابن الخالة كلهم لا يجوز.
والعم يجوز؛ لأنه مقيس على الأب، والخال مقيس على الأب، فيجوز للمرأة أن تكشف على عمها وخالها؛ لأنه لا يجوز أن يتزوج ابنة أخته؛ فهي تحرم عليه على التأبيد.
{أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور:31] هؤلاء ثمانية أصناف من الأقارب وأربعة من غير الأقارب فيصبح المجموع اثني عشر.
فمن غير الأقارب: النساء، فيجوز للمرأة أن تكشف على المرأة.
وأيضاً: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور:31] إذ يجوز للمرأة أن تكشف على العبد الرقيق الذي تملكه.
أي: عبد مملوك لها؛ فإنها تكشف عليه؛ لأنه لا يستطيع ولا يقدر على أن يكشف عورتها خشية عقابها.
ثم: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور:31] تابع الزوج الذي يخدم عند الزوج وهو: الراعي أو الخادم أو العامل أو السائق بشرط أن يكون هذا العامل أو الراعي أو الخادم أو السائق مخصياً، ليس له إربة، قال الله عز وجل: {أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ} [النور:31] يعني: ليس فيه إربة للنساء، ولا فيه ما في الرجال: هذا يجوز، أما إذا كان السائق أو العامل غير مخصي فهذا أخطر شيء على المحارم.
{أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31] الطفل الصغير الذي ما عرف الجميلة من القبيحة يجوز له أن يكشف.
هؤلاء الذين يجوز لهم، وينبغي للمرأة المسلمة التي تخشى الله وتخاف عقوبته وترجو ثوابه أن تحمي نفسها، وعرضها وعرض زوجها وأهلها؛ بأن تلتزم بالحجاب التزاماً كاملاً وأن تكون ممن يقول: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285] كما قالت عائشة رضي الله عنها: (رحم الله نساء الأنصار: ما إن نزلت آية الحجاب حتى غدا الرجال إلى النساء فأخبروهن بأمر الله، فشققن مروطهن واعتجرن بها، فكأني برءوسهن في الغد كالغربان السود) كل واحدة في اليوم الثاني كأنها غراب أسود، ماذا هناك؟ أمر الله بالحجاب.
لكن بعض النساء تقول: كيف أتحجب وهم يعرفونني من قبل؟ لماذا أغطي وهم يعرفونني كلهم؟ الجواب: ليست القضية أنهم يعرفونك أو لا يعرفونك؟! القضية أمر الله تعالى، فالله تعالى أمر أن تتحجبي فتحجبي، سواء عرفوك أم لم يعرفوك، كذلك الصحابة كانوا يعرفون الصحابيات قبل آية الحجاب؛ فلما نزل أمر الله غضوا وامتثلوا أمر الله تبارك وتعالى.
وليس من حق المرأة أن ترفع صوتها في بيتها؛ لأن هذا من علامات سوء أدبها؛ ولأن الصوت عورة، فإذا سمعت صوت المرأة وهي تسب وتشتم وتلعن وتتكلم بعنف فهذا يدل على عدم أدبها، وعلى قلة دينها -والعياذ بالله- أما المرأة الخافظة لصوتها فهي الممتازة وهي من حسنات الدنيا.(68/12)
حكم قراءة القرآن والتسبيح الجماعي في العزاء
السؤال
هناك عادة موجودة بين بعض نساء إحدى البلاد العربية عند العزاء: يأتون بامرأة بأجرة في بيت العزاء تقرأ القرآن وتسبح وتهلل بصوت مرتفع والنساء يرددن خلفها، أو يفتحن شريطاً مسجلاً عليه هذه الأدعية وهذه الأذكار فيستمعن إليه، وهذه العادة موجودة إلى الآن عند البعض من النساء اللاتي قدمن إلى هذه البلاد وهنَّ يتداولن هذا الشريط بينهن في مناسبات العزاء.
والسؤال: ما حكم هذا العمل؟ وماذا يجب على من أتت إليهن عند العزاء؟ وهل تأثم من جلست معهن ولو لم تقر بهذا العمل؟
الجواب
أولاً: حكم هذا العمل أنه بدعة؛ فلا ينبغي أن نأتي بأي شيء إلا ما جاءت به السنة، ولو كان خيراً لسبقنا إليه السلف، فاجتماع النساء من أجل قراءة القرآن والتسبيح والتهليل والترديد ولم يأتِ به أمر، إنما هذا إحداث في دين الله بشيء لم يأذن به الله فهو بدعة، ويجب على من أتت إليهن عند العزاء ووجدتهن على هذا الوضع أن تحذرهن وأن تأمرهن بطاعة الله تعالى، وتقول: هذا الأمر حرام ولا يجوز وما أتى به الشرع، وإذا جلست معهن وهي قادرة على أن تخرج؛ فإنها آثمة حتى ولو لم تقره بقلبها، إذ لا بد من الإنكار: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:140].
فلا يجوز لك أن تجلس في مكان فيه أمر يُسخط الله إلا أن تكون مضطراً، كيف تكون مضطراً؟ أي: مكره، وليس الإكراه من أجل أن تتعشى، فبعض الناس يذهب في وليمة وهم يطبلون ويلعبون ويرقصون، ويقول: إني مضطر، لماذا؟ قال: من أجل أن أملأ بطني رزاً الله أكبر على بطنك التي لم تمتلئ بالرز! اذهب واملأها بثلاثة ريال في أي مطعم يا أخي! وانفر بدينك، المكره أن تكون مسجوناً، أو مريضاً مقعداً ويوجد منكر ولا تستطيع أن تفلح وهو أمر خارج عن إرادتك هذا هو المكره.
أما أن تكون قادراً على أن تخرج فلا.(68/13)
حكم مس المحدث للمصحف
السؤال
هل يجوز قراءة القرآن أو مس المصحف من غير وضوء، أي: من حدث أصغر.
أرجو الإفادة؟
الجواب
لا يجوز قراءة القرآن على نية التعبد إلا والإنسان طاهر؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:77 - 79] وبعض الناس عنده تفسير سطحي لا أعلم من أين أتى به، يقول: إن المطهرين هنا هم الملائكة، والملائكة تمس المصحف! الملائكة لا تمس المصحف ولا تأتيه فأنت الذي تمسه: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] فتجب الطهارة الكاملة من الحدث الأصغر والأكبر، وجوّز أهل العلم لطالب العلم ولمدرس القرآن أن يمس المصحف ولو كان محدثاً حدثاً أصغر لصعوبة الاحتراز من ذلك؛ ولأن فيه مشقة.
فمدرس القرآن أو طالب القرآن متعلق به من الصباح إلى الظهر ولا يستطيع أن يظل دائماً محتفظاً بطهارته، فإنه يعفى عنه أن يمس المصحف ولو كان محدثاً، أما حمل القرآن وقراءته على نية التعبد؛ فإنه لا بد أن تكون طاهراً؛ لأن القرآن جزء من الصلاة؛ فيقاس عليها: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79].(68/14)
حكم الرقص الشعبي
السؤال
ما حكم الرقصات الشعبية، مثل: العرضة وغيرها من الرقصات التي في أبها وقراها؟
الجواب
هذا السؤال يتكرر باستمرار، الرقصة -يا أخوان- اسمها: رقص، ومن اسمها يدل على أنها غير مطلوبة، والمسلم ما خلق ليرقص؛ ولكن قال بعض أهل العلم: إذا كانت العرضة أو الرقصة حربية، يعني: لظروف قتال، ومن أجل دعوة الناس واستلهاب عواطفهم واستنفارهم للقتال في سبيل الله؛ فقد جوزوا ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص لـ عائشة أن ترى رقصة الأحباش -والحديث في صحيح البخاري - لما قدموا عليه وكانوا يرتجزون، وقد أتوا ليسلموا ويرجعوا بعد ذلك ليقاتلوا في سبيل الله عز وجل، فرآهم فأقرهم.
فإن كانت رقصة قتال فليس هناك مانع، وأما رقصة لغير قتال مثل رقصاتنا الآن فلا، فالمسلم ليس له رقصة إلا على ظهور الجياد في سبيل الله تعالى، أما أن يرقص مثل المرأة طول الليلة والقدس تحت أيدي اليهود والمسلمون في هذه الضائقة التي لا يعلمها إلا الله، ويقول: رقص شعبي أو غير شعبي، لا ترقص أبداً إلا في ساحات الجهاد، أما هناك فارقص؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى عكاشة بن محصن وقد أخذ السيف وجاء يرتجز بمشية فيها خيلاء وفيها كبرياء، قال: (إن هذه مشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن) أي: في مواطن القتال.(68/15)
حكم ترك قراءة الفاتحة في الصلاة عمداً
السؤال
إذا ترك إنسان قراءة الفاتحة عمداً في الركعة الأولى، فهل تبطل صلاته كلها؟ أم تبطل الركعة التي ترك فيها القراءة فقط؟ وهل ينطبق عليه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)؟
الجواب
يقول العلماء: إن من ترك ركناً عامداً أو ساهياً بطلت صلاته، فإن ترك قراءة الفاتحة عامداً وقرأها ثانيةً قبل أن ينتقل إلى ركن آخر فإن صلاته صحيحة، أي: كبر ويريد أن يقرأ ولم يقرأ، وقبل أن يركع تذكر أنها ركن فقرأها فصلاته صحيحة، أما إذا استمر في تركها حتى انتقل إلى ركن آخر وهو الركوع فقد بطلت صلاته وعليه أن يعيد الصلاة.
أما المأموم فقد اختلف أهل العلم في حكم قراءة الفاتحة للمأموم على ثلاثة أقوال: قول للإمام الشافعي وهو أرجحها وأقواها وأقربها إلى الدليل وهو: إن من ترك قراءة الفاتحة إماماً كان أو مأموماً فإن صلاته باطلة.
والدليل حديث عبادة بن الصامت في صحيح البخاري وصحيح مسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وفي حديث آخر في صحيح البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ وكان بعده من الصحابة من يقرأ فقال لما انصرف من الصلاة: (من الذي ينازعني القرآن؟) فقال أحد الصحابة: أنا يا رسول الله، قال: (لا.
إلا بفاتحة الكتاب) أي: لا تنازعني، ولا تقرأ ورائي إلا بفاتحة الكتاب.
فدلت الأدلة هذه على أن قراءة الفاتحة ركن في حق المأموم والإمام والفرد.
والقول الثاني للإمام أحمد ومالك وهو: أن الفاتحة تجب على المأموم في القراءة السرية، وتسقط عنه في القراءة الجهرية؛ لأن قراءة الإمام قراءة له، فإذا سمعت قراءة الإمام وأنت في الجهرية فإنك لا تقرأ؛ لأنك سمعت، أما في السرية فإنك تقرأ، وهذا قول الإمام أحمد ورجحه ابن تيمية.
أما الأول رجحه الإمام البخاري وبوب عليه باباً وألف فيه كتاباً وانتصر له انتصاراً عظيماً، وقال: لا يمكن أبداً أن نضع -أو أن نضيع- حديثاً صحيحاً في صحيحي البخاري ومسلم لا تنهض لمقاومته الأحاديث التي في السنن والتي فيها قراءة الإمام قراءة للمأموم، لا.
هذا لا يقاوم ولا يعضد ولا يستطيع أن يصل إلى درجة صحيحي البخاري ومسلم.
القول الثالث: وهو من الأقوال التي لا دليل عليها، وهو قول الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، قال: إن المأموم لا يقرأ؛ لا في السرية ولا الجهرية، أي: ابق واقفاً بعد الإمام، ولا دليل له غير أنه قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، ورد عليه بأنه يؤتم بالإمام في الحركات، أما في الأقوال فإنه مطلوب من المسلم أن يكبر ويقرأ الفاتحة ويقول أيضاً: سبحان ربي العظيم، والذي يرجحه أهل العلم أن تقرأها إماماً أو مأموماً، أين تقرأها؟ إن كانت سرية تقرأها في سرك، وإن كانت جهرية ففي سكتات الإمام، أي: إذا قال: ولا الضالين، آمين.
تقرأ، وإن كان لا يسكت، أي: بعض الأئمة يقول: ولا الضالين آمين ويقرأ مباشرة، عندئذٍ اقرأ وهو يقرأ؛ لأنه مطلوب منك؛ ولأن هذا لا ينافي قول الله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف:204] لأن هذه الآية عامة وهذه لها دليل مخصص والمخصص مقدم على العام، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(68/16)
لقاء مع الأحبة [1، 2]
لقد أحدثت الحضارة المادية فساداً عريضاً في الحياة البشرية، وذلك بسبب فصلها الدين عن مناهج الحياة، وإقحامها للماديات في كافة المجالات؛ لذا لزم أن توضع وصايا يسير عليها كل محب للدين، يصل بها إلى الله والدار الآخرة.(69/1)
ظهور ثمرة الهداية، وآثار الكفر في الدنيا قبل الآخرة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فأسعد الله أوقاتكم، وجمعنا وإياكم على الهدى في هذه الدار، وعلى النعيم المقيم في الدار الآخرة.
أيها الأحبة في الله: يخطئ كثير من البسطاء أصحاب النظرة القصيرة الذين لا تتجاوز أبصارهم مواقع أقدامهم، والذين لم يعرفوا هذه الحياة ولا الدار الآخرة، ولا عرفوا ربهم، ولا دينهم، ولا حقيقة أنفسهم ووجودهم، وترتب على هذا الجهل المتراكم الأخطاء في النتائج؛ لأن النتائج تأتي وليدة المقدمات، فإذا كانت المقدمات خاطئة، فالنتائج تكون أيضاً خاطئة يخطئون حين يظنون أو يتصورون أن ثمرات الهداية ومعطيات الالتزام بالدين لا تظهر إلا في الدار الآخرة، وهم يحبون هذه الدنيا، ولذائذها، وشهواتها، ويرون أنها نقد في أيديهم، والآخرة نسيئة لا يستطيعون الحكم عليها، ويرون بعقولهم الضيقة وبنظراتهم الهابطة أن في المجازفة بالنقد على حساب الموعود به (النسيئة) نوع من عدم التعقل؛ فيستغرقون في شهوات الدنيا، ويقولون: الآخرة مستأخرة، و (يحلها حلاّل).
ويستجيبون لشهواتهم، ويعبون منها عباً، سواء شهوات المال المحرم، أو شهوات الجنس المحرم، أو شهوات المطاعم والمشارب والمآكل المحرمة، ويتعبون ويستمرون في تحقيق هذه المطالب الهابطة، ولكنهم يفاجئون في نهاية المطاف بأنهم لم يجدوا شيئاً، وما علم هؤلاء أن ثمرات الدين ونتائج الالتزام، ومعطيات الهداية لا تأتي في الآخرة فحسب، بل تأتي في الدنيا قبل الآخرة، وأن آثار الكفر وآثار العصيان والفجور والتمرد على أوامر الله لا يكون الجزاء عليها فقط في الآخرة، بل الجزاء قد يعجل في الدنيا قبل الآخرة، فما الحل إذاً؟ الحل هو الدين، إن كنت تريد أن تسعد في الدنيا فعليك بالدين، وإن كنت تريد أن تسعد في الآخرة فعليك بالدين، وإن كنت تريد الشقاوة في الدنيا فعليك بعدم الدين، وإن كنت تريد أن تشقى في الآخرة فعليك بعدم الدين.
إذاًً: السعادة كلها في الدين، والشقاوة كلها في ترك الإسلام والدين.(69/2)
الأمراض النفسية وتدمير الروح من ثمار الحضارة الكفرية
مشكلة المشاكل الآن، وعقدة العقد التي تعاني منها البشرية اليوم هي: العذاب الداخلي في النفس البشرية، ولذا طرأت الآن أمراض جديدة كانت غير معروفة في الماضي؛ يسمونها أمراض الحضارة، وبالأصح أمراض الحظيرة؛ لأن الحضارة في غير الدين تسمى حظيرة؛ لأنهم مجموعة حيوانات يتنافسون على المآكل والمطاعم والمشارب، لكن الحضارة الحقيقية حضارة الإيمان والقلوب والأرواح، الإنسان قد يكون متحضراً ولو كان يلبس رداء وإزاراً ويسكن في خيمة أو كوخ، ولكنه متحضر بمبادئه ومفاهيمه وأخلاقه وعقيدته، كما كانت البشرية تعيش مع المتحضرين الذين بسطوا النفوذ الإسلامي على شرق الأرض وغربها، ولكن بالحضارة الربانية وبالقرآن.
والناس اليوم في حظيرة، صحيح أنهم يسكنون ناطحات السحاب، ويطوعون المادة ويسخرونها في خدمتهم، ولكن
وأرواحهم في وحشة من جسومهم وأجسامهم قبل القبور قبور
هم الآن مدفونون في أجسادهم، علمت عن بعض الناس أنه يرفض أن يأكل مع أبيه أو أمه أو زوجته أو أخته أو ولده، ولكن يألف أن يأكل مع كلبه، بل رأيتهم في مطاعمهم يصنعون كراسي للكلاب في المطعم، وتشاهد الكلب جالساً على الكرسي، والكلب الثاني يناوله! هل هذه حضارة؟! هذه حضارة الكلاب!! يقول أبو الحسن الندوي -عالم هندي-: سافرت إلى أمريكا فوجدت ورأيت كل شيء إلا الإنسان، يقول: رأيت ناطحات السحاب، والميادين الفسيحة، والأماكن والشوارع العظيمة، وهدير المصانع، وأزيز الطائرات، ولكن بحثت عن إنسان فلم أجد إنساناً، بل وجدت مسخاً يمشي على قدمين كلبه في يده.
لو جئنا على كلب يعيش في مزبلة، وآخر يعيش في عمارة ويلبس (بنطلوناً) وبدلة (وكرفتة) (والكرفتة) هو الحبل الذي في الرقبة، ولا أدري ما سببه! لأن الذي يربط في رقبته حبل معروف أننا نقوده بحبله، فهذه من الحظيرة يضعون في رقابهم حبالاً، ينتظرون من يقودهم بحبالهم، فلو جئنا بكلب وألبسناه (بنطلوناً) و (كرفتة)، وأسكناه في الدور المائتين من ناطحات السحاب، هل يخرج عن كونه كلباً؟ ضعه في مزبلة أو عمارة رواح لا يخرجه هذا عن كلبيته شيئاً، ولهذا يقول الله عز وجل فيهم وفي أمثالهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] ويقول: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
في هذه الحظائر البشرية وفي ظل غياب الإيمان والدين تولدت المآسي والفظائع والعظائم، وما استطاعت المادة أن تحل إشكال النفوس؛ لأن المادة شيء والروح شيء آخر، المادة من الأرض والروح من السماء، فلما خربت الروح جاءوا بمفاتيح المادة يريدون إصلاحها أرادوا علاج الأرواح فدمروها، وظنوا أنهم يحققون لها السعادة، وما حققوا لها شيئاً، ونشأت العقد، وبدأت الأمراض النفسية تنتشر فيهم.
ويذهب المريض إلى الطبيب النفسي، يجلسه على كرسي، ويسأله، ما اسمك؟ ما اسم أبيك وأمك؟ أين درست؟ ويستمر يحادثه كل هذا كذب لا ينفعه، فقط تخدير، وإذا انتهى أعطاه حبوباً مخدرة، أي: نم على جهلك وضلالتك، فهذا ليس بطب، والأمراض النفسية تتولد باستمرار عن البعد عن الله، هذه نتيجة حتمية؛ لأن الشخص وهو يعيش في الدنيا وهو لا يدري لماذا يعيش تحصل عنده عقد.(69/3)
الجهل بحقيقة المصير يولد أمراضاً نفسية
أنت عندما تكون في غرفة ولا تدري أين تذهب بعد هذه الغرفة، هل تكون مطمئناً؟ لو جاء شخص وأخذك من بيتك، ووضعك في غرفة وأغلق عليك الأبواب، هل يأتيك النوم؟ لا تعلم من الذي أتى بك؟ ولا تدري أين أنت ذاهب؟ فتحصل عندك عقد، وتأتيك تصورات وأفكار، وكل شيء تسمعه تتصور أنه ما تنتظره، يدخل الشخص وتتصور أنه أسد يريد أن يأكلك، أو أنه شرطي يريد أن يقبض عليك، أو أنه إنسان يريد أن يقتلك، ليس عندك أمن؛ لأنك لا تعلم مصيرك.
وهنا نشأت الأمراض النفسية من جراء جهل البشر بما خلقوا له، وما أوجدوا من أجله في هذه الحياة؛ لأنهم يفكرون ويقول الواحد منهم: أنا الآن موجود وسأموت، ثم أين سأذهب؟ لا أدري! الأفكار البائدة، والنظريات الملحدة التي تقدم له، تقول: إنك ستموت وتذهب ولن يكون هناك شيء، وعقلك يقول لك: من قال لك إنه ليس هناك شيء، من الذي ذهب إلى الآخرة واكتشف أنه ليس هناك شيء، أو رجع وقال: إنه ليس هناك شيء، فالناس يذهبون ولا يرجعون، وتنقطع الأخبار بمجرد الموت، والموت يحصل ولا بد للموت من نتيجة.(69/4)
تقرير البعث نتيجة حتمية للموت
ذكر الله في القرآن الكريم حقيقتين متماثلتين، وقعت الأولى ولا بد أن تقع الثانية، ولو تخلفت الأولى لجاز أن تتخلف الثانية، لكن لا بد من تلازم الأمرين.(69/5)
الموت وحتمية وقوعه
قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] هذه الأولى، هل يوجد أحد عنده شك في هذه؟ هل تستطيع البشرية أن تتخلص من الموت؟ والله لو أنهم استطاعوا لأوقفوا الموت من زمن، لكن لم يستطيعوا.
هناك عالم في مصر عنده أبحاث عن الحياة والروح، ويريد أن يعيد الروح إلى الجسد ولا تخرج منه، وتطور في أبحاثه وقطع أشواطاً، ومن ثم ماتت أمه قبل أن يصل إلى نتيجة، فوضعها في الثلاجة من أجل أن يكمل الأبحاث ويردها لتعيش، وبعد ثمان عشرة سنة من الأبحاث لم يراوح مكانه، لم يتقدم شبراً واحداً، لماذا؟ لأن أمامه مجاهيل لا يستطيع أن يدخل فيها {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85] مات أبوه بعد ثمان عشرة سنة، فأدخل أباه إلى جانب أمه في الثلاجة وبعد شهر مات هو فأخرجوا أمه وأباه ووضعوه معهم في القبر.
الروح مادتها ومفاتيحها عند الله، ويوم أن تقصر على غير مادتها وغذائها تعذب، وإن عذبت حصل للإنسان مشاكل في هذه الحياة.
فالأولى حصلت {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] والله لو كانوا يستطيعون لكانوا قد فعلوا زمن بعيد؛ لأنهم لم يعجزوا عن شيء فيما مكنهم الله منه.
فَجَّرُوْا الذرة، والذرة هذه شيء رهيب لا تتصوره العقول، حتى الذي فجرها لا يدري عنها، الذرة في تعريفها العلمي هي: أصغر جزء في المادة.
وبمثال يسير: لو أحضرت على رأس الملعقة سكراً وطحنته حتى أصبح مثل البودرة، ثم أخذت على رأس إصبعك واحدة من هذه الذرات الدقيقة، وجعلتها في المجهر -يوجد الآن مجهر يسمونه مجهر (إلكتروني) يكبر المادة ثلاثة مليون مرة؛ أي: يجعل (الملي) الذي هو واحد من عشرة من السنتيمتر يجعله ثلاثة كيلو- إذا أتيت بهذه الهباءة وجعلتها على الشريحة الزجاجية وأدخلتها في المجهر ونظرت قد تراها وقد لا تراها، رغم أنه كُبِّر ثلاثة مليون مرة، إذا رأيت هذه الذرة تجد فيها عالماً، كل ذرة من ذرات الكون لها نظام مستقل، الحديد له ذرات، والخشب له ذرات، والتراب له ذرات، والألمنيوم له ذرات، واليورانيوم له ذرات، والنحاس له ذرات، والبلاستيك له ذرات، وتختلف مكونات كل ذرة من كل مادة عن الأخرى، ولكن تتحد في قضية التركيب، والذرة تتكون من جزأين: نواة وتسمى (النيترون) و (إليكترونات) تدور حول هذه النواة، وتحمل كل ذرة شحنتين: شحنة موجبة وشحنة سالبة، وهناك توازن وتعادل كهربائي بين الشحنة السالبة والموجبة في كل ذرات الكون، ومن يدبر هذا كله إلا الله الذي لا إله إلا هو.
وعندما كنا نسمع في القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40] نقول: هي التي تمشي على الأرض، أي النملة أو هي التي نراها في ذرات الهواء، إذا جلست في غرفة يدخل من شباكها ضوء الشمس ترى غباراً وذرات معهم، والذرة فيها عالم آخر، وقد استطاع الإنسان أن يفجر هذه الذرة، وبحث عن أعظم مادة تتكون من أكثر عدد من (إلكترونات)؛ فوجد عنصراً من عناصر الحديد اسمه (اليورانيوم)، هذه موجود فيه أكثر من خمسين إليكترون، بينما هذا البلاستيك ذراته (الإليكترونات) فيها نصف (إلكترون)، أو واحد (إليكترون) أو اثنان، ولذلك غير موصل للكهرباء، ترون الآن (الكهرباء) تسير هنا، ويضعون عليها (البلاستيك)؛ لماذا؟ لأنه عازل، (الإلكترونات) الموجودة فيه قليلة جداً لا تستطيع أن تحمل الطاقة (الكهربائية) لكن (الإلكترونات) الأخرى التي تحمل هي الحديد والنحاس و (الألمونيوم)، أما (اليورانيوم) لما كان فيه مجموعة كبيرة من (الإلكترونات) كان قابلاً للانفجار.
جاءوا بمجموعة كبيرة من مادة (اليورانيوم) وجمعوا فيه الذرات، ومن ثم فجروها، كيف فجروها؟ خلخلوا التوازن والتعادل الكهربائي الموجود بين السالب والموجب فحصل الانفجار والدمار.
يا من فجر الذرة؟ لو كان يعرف كيف يموت وكيف يرد الروح لما عجز عن الرجوع، لكن عند الموت قف وارجع.
قال الله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] هذه الأولى أما حصلت؟! وهل فيها شك؟ من كان عنده شك فليرتقب حتى يأتيه الموت، والله إنك ستموت غصباً عنك {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].(69/6)
حتمية البعث بعد الموت
ما دام أن الأولى وقعت، وهي: أننا نموت، فلابد أن تقع الثانية كنتيجة للأولى، وهي قوله عز وجل: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:16] لو أن شخصاً جاءنا وقال: أنا لن أموت، نقول: أجل ما دام أنك تمتنع من الموت، يمكن أن تمتنع من البعث، لكن لا يوجد شخص استطاع أن يمتنع وأن يخرج على سنة الله الضاربة عبر قرون التاريخ، منذ آدم إلى يومنا هذا والناس يموتون، يموتون وهم ملوك وأمراء وأقوياء وأغنياء ولا يمتنع من الموت أحد أجل لا بد من البعث! ولذا يقول الله عز وجل وهو يستغرب ويستبعد على الكفار حكمهم بأنه ليس هناك بعث، يقول: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] من اعتقد أنهم سيكونون سواء فقد أخطأ، فالطيبون قد ملئوا الدنيا صلاحاً، والخبيثون قد ملئوا الدنيا فساداً، ثم يموت كلا الفريقين وتكون آخرتهم سواء، لا.
ما دام أنهم اختلفوا في الحياة في السلوك، فإنهم يختلفون في النتيجة في الآخرة في الجزاء، الذين اجترحوا السيئات تعالج جروحهم في النار، والذين آمنوا وعملوا الصالحات سيعطون الهبات في الجنات، والله عبر عن السيئة بأنها جرح في دين المسلم، بمعنى: أنه يجب ألا تجرح في دينك.(69/7)
ثمار الإيمان في الدنيا قبل الآخرة
آثار الإيمان في الدنيا قبل الآخرة، وأعظم أثر نحمد الله عليه هو نعمة الإيمان.(69/8)
الأمن والطمأنينة من ثمار الإيمان
الله عز وجل يزرع في قلوب المؤمنين الأمن والطمأنينة، وينزع من قلوب المؤمنين القلق والحيرة والاضطراب والضلال، والله لو لم يكن في الدين إلا هذه لكانت كافية أنك تعيش آمناً مطمئناً عندك مؤهلات النجاة يوم القيامة، ترضي الله وتعمل له، هذه تولد في قلبك الأمن، لكن إذا لم يوجد لديك انقياد ولا استجابة ولا استسلام لله فأنت كما قال الله عز وجل: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} [الزمر:29] عبد مملوك وأسياده عشرة، والأسياد هؤلاء ليسوا متفقين بل متشاكسين، الواحد يقول: قم، والآخر: لا.
اقعد، قال ذاك: نم، قال الآخر: قم، وقال ذاك: أحضر ماء، وقال الآخر: لا تحضر ماء أحضر أكلاً، قال ذاك: اخرج، قال: بل اقعد، فما رأيك من يطيع هذا؟ وما رأيكم بهذا العبد هل هو مستريح أم غير مستريح؟ فيه شركاء متشاكسون، قال الله: {وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} [الزمر:29] عبد لشخص يتلقى التوجيه من واحد، هذا المثل ضربه الله للذي هو عبد لله، والذي هو عبد لغير الله.
فالذي هو عبد لله مستريح؛ لأنه يتلقى الأمر من الله، ولا توجد أوامر متضادة، أما الذي هو عبد لغير الله؛ فتتسلط عليه الأبالسة من كل جانب وتشتته؛ فتأمره بكل شيء، ولا يرضى عليه الله في شيء من هذه التصرفات؛ فيحصل له مثلما حصل للعبد الذي فيه شركاء متشاكسون، قلق وتبرم، ولذا تلمسون الآن ما تخترعه البشرية من منومات، أو مغالطات من أجل نقلهم من الواقع المرير، إذا اشترى الواحد الجريدة، أول ما يقرأ يقرأ الصفحة الضاحكة، لماذا؟ قال: أريد أن أضحك، من ماذا يضحك؟ يضحك من مرضه وضيق صدره، وإذا اشترى جريدة يرى آخر صفحة: نكتة اليوم، وإذا ضحك لا يضحك تبسماً، بل يضحك قهقة تسمعه على بعد مائة متر، كأنما في قلبه بركان انفجر من الضيق الداخلي، ومن ثم يريد باستمرار اللهو، إذا أعطيته كتاباً مفيداً أول ما يفتحه يقلبه، ليرى الصور، إن كان فيه صوراً حسناً، وإن كان كله كلام، قال: ما هذا الكتاب الله يهديك، من يقرأ الكلام هذا كله، أعطنا كتاباً جيداً ومجلة يوجد فيها شيء يلهي ويغري، من أين جاء هذا الكلام؟ من الضيق الداخلي والعذاب النفسي.
ومن ثم يقضي نهاره كله في اللهو، ويقضي ليله كله في المسارح، وألعاب (السيرك) إذا لم يوجد مسارح ولا ألعاب (سيرك) فيذهب ليشتري (أفلاماً) ويرى (فيلماً) بعد (فيلم) إلى أن ينام، يغطي نفسه ويقبرها ويدفنها، لا يريد أن يعيش على الواقع، وإذا جاء شخص يقول: يا أخي! اتق الله قال: اتركنا.
أنت تريد أن تميتنا قبل أن نموت، دعنا نلعب ونسهر، هات (الورق) و (البلوت) و (صن) (ودن) واضرب الأرض تراه رجلاً كبيراً، فتقول: مدير، وإذا به يخبط في الأرض، بعضهم تتكسر يديه وهو يخبط الأرض، على ماذا يخبط؟ يخبط على ورق (البلوت) -الله المستعان- ويجلسون من بعد المغرب إلى الفجر.
شخص سألته قلت له: لماذا -يا أخي- تسهر؟ قال: يا شيخ! نتسلى ليس عندنا عمل، أين نذهب؟ تريدنا أن نذهب في الغيبة والنميمة، قلت: تشرد من الغيبة والنميمة وتذهب في أخس منها، هل تحفظ شيئاً من كلام الله؟ قال: لا، قلت: هل تحفظ شيئاً من سنة رسول الله؟ قال: لا.
قلت: تعرف قول الله عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:1 - 3] ما هو الغاسق إذا وقب؟ قال: لا أعلم، أجهل من ثور أهله بالدين ويلعب (بلوت)، لماذا يغالط نفسه ويقضي سحابة ليله ونهاره في الألعاب والملهيات، هذه كلها نتيجة الضيق الداخلي، أما من عنده نور، وأضاءت الأنوار على هذه الحياة، فرأى الدنيا والآخرة، فهل يلعب؟ لا.
بل يعيش بجسده في الأرض وروحه في السماء، لا يقر له قرار في هذه الدار، ولا تنسيه جميع ملهياتها ولا ملذاتها عن الآخرة، يسكن في القصر ويتقلب على السرير وقلبه مع القبر، قلبه يقول: إذا وضعوني في الحفرة المظلمة، من أمامي تراب، ومن خلفي تراب، وتحت رأسي تراب، وقد أموت في ليلة باردة، وقد أوضع في ليلة مظلمة، وأوسد التراب، وتصفُ عليَّ الحجارة، ويكال عليّ التراب، ويذهب الناس عني، أين أنا في تلك الساعات؟ أين أنا في تلك اللحظات؟ والله لا أعمل إلا لذلك اليوم، أما الدنيا هذه كلها زائلة.(69/9)
من قصص السلف في العبادة
كان لـ ميمون بن مهران -رضي الله عنه- في بيته قبر وكان كثير العبادة، فإذا فتر دخل في القبر، وقال لزوجته وأولاده: صفوا عليّ اللحود، وإذا أفلحوا منه قال: إذا سمعتموني أصرخ فافزعوا إليّ؛ فيصرخ يقول: رب ارجعون، رب ارجعون، رب ارجعون.
فيأتي أهله ويفتحون عليه؛ فيقول لنفسه: يا ميمون: قم واعمل صالحاً قبل أن تقول: رب ارجعون فلا تجاب.
فيقوم من قبره وهو أنشط ما يكون ليباشر عمله الصالح.
يقول الله في الحديث القدسي: (يا بن آدم! خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت لك برزقك فلا تتعب) {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
من ثمار الدين أن ينزع الله من قلبك القلق ويعطيك الطمأنينة؛ لأنك تعمل للآخرة، وعندك مؤهلات ترجو النجاة بها في الآخرة؛ فيحصل في قلبك الأمن، وهو الذي يقول الله فيه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97] {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] ما هي الحياة الطيبة؟! يأكل برتقالاً أبو سرة، وتفاحاً أبو دمعة، وموزاً أبو نقطة، هذه ليست بحياة طيبة؛ هذه حياة الكلاب والحمير، أما إذا كان هناك دين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172] لكن إذا لم يكن هناك دين {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات:46] {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية:25] الطريق يمر بمنكر ونكير {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:26].
فثمرة من ثمار الدين أن الله يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] اللهم إني أسألك من فضلك {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] يعني: في الآخرة.(69/10)
مثال لمن وجد حلاوة الإيمان في الدنيا
يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه الوابل الصيب من الكلم الطيب -اقرءوه فهو عظيم جداً- يقول: كنا إذا ضاقت بنا الدنيا وسبلها، ونحن طلقاء قمنا بزيارة الشيخ أحمد بن عبد السلام بن تيمية الحراني (شيخ الإسلام) وهو مسجون في سجن القلعة في دمشق، يقول: فوالله ما هو إلا أن نراه حتى يسرى ما بنا من هموم، وهو المسجون، لكنه مع الله، تجد المتروكين تأتي لهم الهموم، والذي مع الله وهو مسجون يعيش في آفاق واسعة من الراحة والأمن.
يقول: فإذا سلمنا عليه قال لنا: المسجون من سجن عن خالقه، والمأسور من أسره هواه وشيطانه، ويقول: ما يصنع بي أعدائي، ماذا يصنعون بي؟ أغلى ما عندهم هي أقصى أمنية عندي، يقول: إن سجني خلوة بربي، وإن ترحيلي وتسفيري سياحة في أرض ربي، وإن قتلي شهادة للقاء ربي, ويقول: ماذا يفعلون بي؟ هل عندهم أعظم من هذا، إما أن يكون سجناً، أو ترحيلاً، أو قتلاً، وكلها أمنيات للمؤمنين.
ويقول أحد السلف: مساكين أهل هذه الدنيا، جاءوا إليها وخرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: التلذذ بعبادة الله.
ويقول ابن تيمية رحمه الله: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
ما هي جنة الدنيا؟ التلذذ بالعبادة، وطاعة الله.
هذه -يا إخوان- لا تباع في الصيدليات ولا (السوبر ماركت) ولا يأخذها أهل العضلات والريالات، لا يأخذها إلا أهل الإيمان، في بقالات الإيمان ومستشفيات القلوب في المساجد، ومن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تريد هذه البضاعة ادخل وراجع العلماء واجلس عند أقدامهم، واقرأ كلام الله واقرأ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وداوم على المراجعة في المستشفيات، وامض في الطريق وسوف تجد طعم الإيمان.
له طعم ولذة ليست في الدنيا.
لذة الإيمان بالله والحب لله وفي الله لا توجد في ملذات الدنيا كلها، الحياة بغيره عذاب وجحيم، الذي لم يجرب فليجرب، التجربة كما يقولون: أكبر برهان، لو أنكم لا تعرفون التفاح، وجعلت أصف لكم التفاحة بكل أسلوب بياني فإنكم لا تفهمونها، لكن لو قطعتها وأعطيت كل واحد قطعة، وقلت: ذق طعمها، فإنه يعرف طعم التفاح بدون إجابات أو بيانات، وكذلك نقول للشباب: ذوقوا طعم الإيمان، سيروا في طريق الإيمان، تذوقوا طعم الحياة، طعم الحياة ليس في الأغاني، ولا النظر المحرم، ولا اللعب، ولا الزنا، ولا الغناء، ولا الربا، ولا الخمور، ولكن طعم ولذة الحياة في الإيمان بالله والعمل الصالح، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96].(69/11)
أثر الحب والبغض في تحصيل الإيمان
وأعظم شيء بعد ذلك الحب في الله والبغض في الله، وهو عنوان هذه الجلسة: "لقاء مع الأحبة" الحديث الصحيح يحدث به أنس بن مالك يقول: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فأعرض عنه حتى انتهى من كلامه، ثم قال له: أين السائل عن الساعة؟ قال: هأنذا يا رسول الله! -فالرسول صلى الله عليه وسلم مرب عظيم- قال: ما أعددت لها؟ فقال الرجل: -بتواضعه وبصفاء قلبه وبولائه الكامل لله ولرسوله-: لا شيء يا رسول الله! غير أني أحب الله ورسوله) ما قال الصلاة ولا الصوم، بالطبع هو يصلي ويصوم ويجاهد، لكن يقول: أعددت شيئاً يمكن أن ينفع، أما صلاتي وصومي فلا أعلم هل تقبل أو لا تقبل.
نحن الآن نعمل ولا ندري {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] ولما نزل قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] قالت عائشة كما في صحيح البخاري، قالت: (أهو الذي يزني ويسرق ويقتل ويخشى الله؟ قال: لا يابنة الصديق، إنه الذي يصوم ويصلي ويحج ويتصدق ويخشى ألا تقبل) فالرجل يقول: لا شيء عندي من مؤهلات للآخرة، لكن عندي شيء أستطيع أن أثق فيه وهو أني أحب الله ورسوله، فقال عليه الصلاة والسلام: (أنت مع من أحببت.
يقول أنس: فما فرحنا يومئذ بأعظم من ذلك) ونحن نشهد الله أننا نحب الله ورسوله.
ولكن لا بد أن نقيم على هذه المحبة أدلة، الذي يدعي أنه يملك عمارة لا بد أن يكون عنده حجة استحكام، صك شرعي، لكن لو ذهب أحد منا وهو مفلس إلى عمارة من العمارات الكبار التي تناطح السماء وقال: هذه لي، كيف لك؟ قال: لي والله لا يأخذها أحدٌ غيري، يقولون: أين الحجة؟ قال: ما عندي شيء، قالوا: اذهب هذه العمارة لا تأتي إلا بحجة، وبعضنا يريد الجنة بغير حجة، يريد الجنة وهو دجال ليس عنده من العمل الصالح شيء، ويريد محبة الله وهو عدو لله، يقول الشاعر:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب طيع
يقول تبارك وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] إذا كنت تحب الله ورسوله فإن آثار المحبة تظهر على تصرفاتك، لو أنك في البيت في الصباح جاءتك (المعزبة) أو المعذبة! أحد الإخوان يقول: المعذبة وليست (المعزبة)؛ لأن طلباتها لا تنتهي، وكلما حققت لها أمنية فطموحاتها أكثر من دخلك وإمكانياتك، كلما رأت شيئاً، قالت: نريد ذلك الشيء، فتقول: يا بنت الحلال! تريدين كل شيء وأنا ما عندي كل شيء، هذه اسمها معذبة، ولذا يقول العلماء: لا تنكح من النساء أنانة، ولا منانة، ولا حنانة، ولا شداقة، ولا حداقة، ولا براقة، ما هذه الطلاسم؟! الأولى: لا تنكح أنانة، ما هي الأنانة؟ هي كثيرة التشكي، كلما دخلت ترى رأسها مربوطاً، ماذا هناك؟ قالت: صداع -أعوذ بالله- هذا بيت أم مستشفى؛ لأن بعض النساء تأتي لك بالهمِّ أصنافاً، ولو لم يكن فيها مرض، تأتي بالمرض غصباً، المفروض أن المرأة إذا كانت مريضة تمرض قبل أن يأتي زوجها، إذا جاء زوجها تجعل المرض يذهب، تمرض من الصباح إلى الساعة الثانية والنصف، إذا جاء زوجها تدع المرض قليلاً وتقوم تستقبل زوجها، لكن هذه لا.
مثل (الجنية) طوال اليوم في المطبخ وتكنس، وإذا جاء زوجها قالت: آه، لا تنكح من النساء أنانة أي: كثيرة الأنين والتشكي.
الثانية: ولا منانة، والمنانة التي تمتلك أموالاً أو راتباً تصرف به عليك، تمن عليك كل يوم، إن اشترت شيئاً باستمرار تمن عليك.
الثالثة: لا تنكح حنانة، وهي التي تحن إلى زوج سابق، إذا ابتليت بواحدة قد تزوجت، فقل لها: الماضي ماضٍ، لا أريد أن أسمع ذكره، سواء كان جيداً أو غير جيد.
والرابعة: لا تنكح حداقة، وهذه هي الشاهد من القصة، وهي التي ترمي ببصرها في كل شيء وتقول: أعطني كذا وكذا، إذا مرت من مكان ورأت الأواني المنزلية قالت: نريد ذاك، أو رأت الفرش، قالت: نريد ذاك، رأت الكنبات، قالت: نريد ذاك، فلو عندي عشرة ملايين لقضت على الذي في السوق كله، فهذه اسمها حداقة.
الخامسة: ولا تنكح من النساء براقة، قالوا: البراقة: هي التي إذا كانت على الطعام تبرق بعينها في أيدي الناس، ترى من الذي يأخذ اللحمة الطيبة، ومن الذي لقمته كبيرة، ومن الذي يكثر ومن يقلل، هذه -والعياذ بالله- عينها مثل الرادار.
السادسة: ولا تنكح من النساء الشداقة، الشداقة التي أشداقها وسيعة بالكلام، لسانها مثل (الماطور) أربعة وعشرون ساعة وهي تتكلم، لا تخرج ولا تدخل إلا وهي تتكلم، هذه تعذبك في الدنيا قبل الآخرة.
إذا جاءتك الصباح بالكيس وقالت لك: هذه قائمة الطلبات، كان الأولون يخرج في الأسبوع مرة والآن كل يوم قائمة للطلبات، ويا ويلك إن أحضرت كل الأصناف إلا صنفاً واحداً، ومن ثم قلت لها: انظري يا فلانة! الله يبارك فيكِ نحن إخوان والمحبة في القلوب، ولا يوجد داعٍ لهذا الكيس كل يوم، أنا والله أحبك مثل عيني لكن لا أريد الكيس، ماذا تقول لك؟ أتصدقك؟ تقول: لا والله لو أنك تحبنا لملأت الكيس بالمصاريف.
وكذلك نحن نقول لمن يحب الله ورسوله: لا بد أن يملأ ميزانه عملاً صالحاً، أما أن يحب الله وهو يعصيه، يحب الله ورسوله والأغاني في السيارة والبيت، ويحب الله ورسوله ويحلق لحيته، ويقول له الحلاق: نعيماً -الله لا ينعم عليك- على ماذا نعيماً؟ تحلق لحيتي وتزيل معالم الرجولة من وجهي وتأخذ أموالي، وتقول: نعيماً، بل جحيماً وليست نعيماً، يقول: إنه يحب الله ورسوله وهو ينظر إلى الحرام، ويحب الله ورسوله وهو يأكل الربا، ويحب الله ورسوله وهو لا يصلي في المسجد الفجر ولا العشاء، وربما يصلي بعض الأوقات، يحب الله ورسوله وهو عاق لوالديه، ويحب الله ورسوله وهو قاطع لرحمه، يحب الله ورسوله وهو مؤذ لجيرانه، هذا كذاب وليس بصادق.(69/12)
علامة محبة الله ورسوله تقديم طاعتهما
إن الذي يحب الله ورسوله يحب أوامر الله ورسوله، ورد في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) أي: أن طاعة الله مقدمة ومحببة إليه قبل كل شيء، ولذا إذا تعارضت أوامر الله مع أوامر أي مخلوق كائناً من كان، يُقدم أمر الله، لا يوجد مفاضلة ولا مقارنة بين أمر الله وأمر أحد.
من الناس من يريد أن يحجب زوجته، فإذا قال لها: الحجاب هذا أمر الله، نحن سمعنا في المواعظ والندوات أنه يلزمك أن تحتجبي عن الرجال الأجانب، وأخص الأقارب الذين هم غير محارم: الحمو وابن العم وابن الخال وابن العمة وابن الخالة، والأقارب الذين ليسوا بمحارم؛ لأنهم الحمو وهم الموت، فالمرأة حينما تسمع الكلام هي أحد امرأتين: إما صالحة مؤمنة تخاف الله، وترجو ما عند الله، وتقول: جزاك الله خيراً، والله أنا لا أريد التكشف ولا التبرج، هذه جوهرة نفيسة.
أو قد تكون امرأة فاجرة لا تريدك لوحدك، تريد أن تتكشف لك ولغيرك، وأنت تريدها لك، وهي تقول: أريد أن أكون لك ولغيرك، ماذا تقول لك؟ تقول: ماذا فيك؟ من الذي أخبرك بهذا الكلام؟ تريد أن تتدين الآن، أنا بنت فلان لا أحد يقول عليَّ شيئاً، لو أمشي بين (الطوابير) فلا أحد يقول في عرضي شيئاً، وأنت تريد أن تضع العيب عليَّ، تريدني أن أغطي وجهي، فتحدث له المرأة بالكلام هذا هزة ورجة، إن كان ثقيلاً وصاحبَ إيمان ومن طلاب الآخرة، قال: ليس عندي لعب، إما الحجاب أو الباب، هذا إن كان مؤمناً من أهل الجنة ومن أهل الآخرة إن شاء الله.
وإن كان مهزوزاً ضعيفاً، هزته ورجته، قال: صدقتِ والله، الدين في القلوب، والله إنكِ صادقة، وأنتِ فيكِ خير يا بنة الحلال، فهذا مسكين، لماذا؟ لأنه قابل أمر الله بأمر المرأة، وتغلب أمر المرأة عليه، تغلب أمر المرأة على أمر الله فهذا عبد الزوجة (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميلة، تعيس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش).
ما هي العبودية؟ العبودية طاعة، إذا أطعت أحداً من دون الله فهذه عبودية في معصية الله، فلا يجوز لك أن تقابل أمر الله تبارك وتعالى مع أمر غيره، بل الأمر الأول والأخير لله تبارك وتعالى.
(أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله) يبني علاقاته مع الآخرين على أساس من عقيدته ودينه، فلا تربطه بالناس رابطة نسب، ولا مال، ولا زمالة عمل، إنما رابطة عقيدة ودين، فصاحب الإيمان أخ له ولو كان من بلاد الهند، وصاحب الكفر عدوٌ له ولو كان أخوه من أمه وأبيه، لماذا؟ لأن جنسية المسلم عقيدته، وهويته إيمانه ودينه، هذا معنى المؤمن الذي يحب المرء لا يحبه إلا في الله.
ولكن احذر الشباب الملتزم الطيب، لأن من الناس من يلبس في قضية الحب في الله، ويجعل ظاهرها حباً في الله وباطنها حباً في الشيطان، يحب زميلاً له؛ لأنه معجب بصوته وبشكله؛ أو لأنه يأخذه بالسيارة يمشيه؛ أو لأنه يغديه ويعشيه، فيحبه، ويقول: أحبه في الله، لكن لو انقطع العشاء لم يعد يحبه في الله، ولو انقطعت التمشية لا يحبه، لا.
الحب في الله هدف، وهذه كلها حواشي جاءت أو ذهبت.
والثالثة قال: (وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار) وهذه تمثل قاعدة الثبات على دين الله، ليس عنده تراجعات، فيمشي للأمام ولا يعرف الخلف، لكن (المبنشر) ليس عنده إلا الخلف، الشيطان يسحبه ويرمي به في جنهم والعياذ بالله.
المحبة في الله (إكسير) الدنيا، وطعم الحياة؛ ولذا كان العنوان "لقاء مع الأحبة" وما دمنا في لقاء الأحبة، فإنه يحسن أن نضع بعض الوصايا التي ينبغي أن نوصي بها الأحبة:(69/13)
وصايا للأحبة
أول وصية أسوقها إلى إخوتي في الله الذين يسيرون في الطريق في البدايات؛ لأن البدايات هذه فيها الخطورة، ومن ثم إذا سلك الطريق وصل.(69/14)
الثبات على دين الله وأسبابه
أولها: الثبات على دين الله، وللثبات على دين الله أسباب كثيرة منها: أول وأعظم سبب: الاعتصام بكتاب الله، إذ لا يمكن أن يزيغ من كان مع الله في كتابه، والدليل قوله عز وجل في سورة الفرقان: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان:32] ماذا قال الله؟ قال: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:32] فالقرآن وسيلة عظيمة من وسائل التثبيت، ومما يحز في النفس أن نسمع أن من إخواننا الطيبين من يمر عليه الشهر دون أن يختم القرآن، وهذا يعتبر هجراً لكتاب الله، أقل ما يمكن أن تختم في كل ثلاثين يوماً مرة واحدة، أن يكون وردك اليومي جزءاً من كتاب الله، أقل شيء وهذا الحد الأدنى، بعده اختم في كل شهر ثلاث مرات، اختم في كل عشرة أيام مرة، اختم في كل أسبوع مرة، اختم في كل ثلاث أيام مرة، ولا تزد على ذلك؛ لأن من قرأه في أقل من ثلاث لا يفقهه، ومن مكث ثلاثين يوماً ولم يقرأه فيخشى عليه أن يكون ممن قال الله فيهم: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30].
وطبيعي أن كل واحد منكم يعرف نفسه: هل هو يقرأ بمعدل جزء في اليوم أم لا؟ لا بد أن تقرأ في كل يوم جزءاً، كيف ذلك؟ أحد الإخوة عنده طريقة لطيفة جداً، فيبدأ التلاوة مع أول الشهر، مثلاً اليوم في الشهر أربعة عشر، فيقرأ في هذا اليوم الجزء الرابع عشر، غداً يقرأ الجزء الخامس عشر وهكذا، كل يوم من أيام الشهر يقرأ جزءاً من أجزاء القرآن، إذا كان الشهر ثلاثين أكمل الثلاثين مع الشهر، وإذا كان الشهر تسعة وعشرين ففي يوم تسعة وعشرين يقرأ جزأين التاسع والعشرين والثلاثين، ثم يبدأ أول يوم في الشهر وهو في الجزء الأول يحل ويرتحل مع الله، هذا أمان من الانحراف والضلال.
ويقرأ قراءة مع التدبر، قال ابن مسعود رضي الله عنه: [لا تقرءوا القرآن كقراءتكم للشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، ولكن قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب] فتقرأ القرآن بتدبر وترتيل وتفهم، وإذا أشكل عليك شيء من كلام الله وفهمه، من سبب نزول أو تفسير لآية فارجع إلى كتاب عظيم اسمه أيسر التفاسير للشيخ أبو بكر الجزائري؛ لأنه عالم اطلع على كل التفاسير وجمعها وأتاك بالزبدة ووضعها لك، فقط اقرأ وتمتع، لا تتعب أبداً، وهو عالم موثوق صاحب عقيدة وأخلاق وسلوك، ولا نزكي على الله أحداً، نحسبه كذلك والله حسيبه.
يكون معك مصحف في سيارتك ومكتبك ورأسك، وأنا أرى أن أحسن وقت للتلاوة بعد صلاة الفجر أو بعد صلاة العشاء عندما تريد أن تنام، أو في أوائل الصلوات، أي: تأتي قبل الظهر، والعصر، والمغرب بنصف ساعة فتصلي ركعتين ثم تقرأ القرآن وتستعد، فتقام الصلاة وأنت منشرح الصدر، لكن بعض الناس يجلس إلى أن تقام الصلاة ثم يأتيك وكأنه مطارد، أين أنت يا أخي؟! ماذا يمنعك؟! الشيطان يلعب بك ويلبس عليك ويقول: اصبر اصبر، لا.
الأصل أن تأتي قبل أن يؤذن المؤذن، يقول أحد السلف: لا تكن عبد سوء لا يأتي إلا حين يدعى.
كلنا الآن عبيد سوء إلا من رحم الله، لا نأتي إلا بالداعي، بينما سعيد بن المسيب رحمه الله يقول: [منذ أربعين سنة ما سمعت النداء من خارج المسجد، ولا نظرت إلى ظهر مصلٍ] لا يعرف إلا الصف الأول، فهؤلاء عباد الله الصالحين، فلا بد أن تقرأ القرآن.
هذه واحدة.
الثانية من وسائل التثبيت: دراسة قصص الأنبياء، لأن قصص الأنبياء فيها عبرة: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان:32] {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف:111] وأنت تأخذ دروساً عملية ليست من نسج الخيال، ولكن من واقع التطبيق العملي على يد أشرف فئة اختارهم الله من خلقه وهم الأنبياء، وتأخذ منهم القدوة، تأخذ القدوة في العصمة من يوسف، حينما قالت له امرأة العزيز: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] ماذا قال: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف:23] فقط.
فإذا كان هناك امرأة أشارت لك أو اتصلت بك، قل: معاذ الله.
أن تصنع هذا الفعل الشنيع، أو أن تتصل بالكلام الباطل، أو أن تنظر إلى الحرام، تأخذ القدوة من كل الأنبياء، يقول الله عز وجل: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120].
الثالثة من وسائل التثبيت: فعل أوامر الله وترك نواهيه، فلا تترك لله أمراً، ولا ترتكب لله نهياً، ما هو الدليل؟ قال عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66] أعظم تثبيت لك على الإيمان أن تفعل ما وعظك الله به، من فعل طاعة وترك ومعصية، أما أن تترك الطاعات وترتكب المعاصي وتقول: أريد من الله أن يثبتني، فلا.
كيف يثبتك وأنت لم تثبت؟! اثبت يثبتك الله؛ لأن الله يقول: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم:27] ما قال: يثبت الله الذين كفروا، أو الذين ضلوا، أو الذين زاغوا وانحرفوا، لا.
{الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
الرابعة: الدعاء: وهذا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يقول: (يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على طاعتك) فباستمرار اجعل هذا الدعاء في صلب دعائك، في الليل والنهار والسجود والسحر، وكل مناسبة، قل: يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على طاعتك، وقد ذكر الله هذا عن عباده المؤمنين الذين يقولون: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].(69/15)
الالتفاف حول العلماء والرجوع إليهم
الوصية الثانية: الالتفاف حول العلماء.
حذار أن تسيروا في طريق ليس معكم فيه عالم يدلكم على الله؛ لأن العالم خبير بالطرق، يعرف كيف يفرق، لكن إذا مشيت وأنت غشيم أو طالب علم، يسهل على الشيطان إضلالك، ولذا لا بد من أن تلتف حول عالم رباني تثق فيه، وإذا أشكل عليك شيء فتقول له: الأمر كذا وكذا فما هو الحل، لا تتصرف من عندك، وإن قوماً شككوا في قدرة العلماء وزعزعوا قدرة المسلمين في العلماء، فكانت نهايتهم الهلاك، لماذا؟ لأن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في الذين ينالون منهم معلومة، العلماء واجهة الإسلام والدين، فالجأ إليهم وتعرَّف عليهم، العالم ينظر إلى المسألة من منظور واسع، ويعرف الدليل والمطلق والمقيد، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ، ما صحة هذا الدليل؟ لكن طالب العلم يأخذ الدليل ويحدث منه الخطأ في فهمه فكان لا بد أن يتعلم العلم على يد عالم حتى لا يخطئ.
هل سمعتم بأن ممرضاً تخرج من معاهد التمريض يعمل عمليات؟ ما رأيكم؟ لا يعمل عملية، ما هي مهمة الممرض؟ يضرب إبرة، وإذا جاء على جرح صغير فقط يكشف عليه ويضع عليه مرهماً أو مطهراً فقط، لكن إذا كان الجرح عميقاً أو المرض خطيراً فماذا يقول؟ يقول: والله هذا ليس عملي؛ اذهب للطبيب! والطبيب العام يقول: هذه ليست لي اذهب للجراح، والجراح يقول: والله لا أستطيع اذهب للأخصائي، لماذا؟ لأن الجرح عميق.
هذا حماية لأجسادنا، لكن لديننا، لا.
كل واحد طبيب وجراح يشق البطون ويحدث ديناً، ولم نسمع من يقول: اذهب للشيخ أو للعالم؛ لأنه يخجل، لو قال: اذهب للشيخ معناه أنني لست بعالم، وأنا أريد أن أصير عالماً (مع الخيل يا شقراء) وهو أجهل من ثور أهله، فيضل الناس بغير علم.
أحد طلبة العلم سمع حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهم منه غير مراد الرسول صلى الله عليه وسلم منه وتوفي في القرية رجل ولما أراد الصلاة عليه جاءوا بهذا الشاب المؤمن، وقالوا له: صل صلاة الجنازة، فلما تقدم ليصلي قال لهم: هل عليه دين؟ قالوا: نعم.
قال: ولا يُصلى على مديون، ادفنوه بلا صلاة، فدفنوه بدون صلاة، وبعد ذلك أهل القرية قالوا: كلنا علينا ديون، أجل كلنا لا يصلى علينا، وجاءوا يسألون، قلت: أين الأخ؟ قالوا: هذا موجود معنا، قلت: كيف -يا أخي- قلت هذا؟ قال: ألم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنا بالذي أصلي على مدين) قلت: لكن ماذا قال في الحديث؟ قال: (صلوا على صاحبكم) أخذ نصف الحديث فقط، الحديث: أنه تقدم للصلاة على جنازة فقال: (هل عليه دين، قالوا: نعم.
قال: صلوا على صاحبكم ما أنا بالذي أصلي على مدين، فتقدم أبو قتادة، فقال: يا رسول الله! الدين عليَّ، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم) لأن صلاة الرسول شفاعة لا ترد، والدين مانع من دخول الجنة إلا بعد القضاء، فما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشفع في شخص عنده مانع من دخول الجنة، بعد فترة جاء أبو قتادة وقال الرسول له: (يا أبا قتادة! ما صنعت الدرهمان؟) يعني الدين.
قال: (يا رسول الله! ما مات إلا أمس، فسكت، لما جاء اليوم الثاني جاء، قال: ما صنعت الدرهمان؟ قال: قضيتها يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده الآن بردت عليه جلدته) فأخونا قال: لا تصلوا، وبعد ذلك قمنا كلنا وذهبنا نصلي عليه في المقبرة؛ لأن صلاة الجنازة تجوز على الميت في المقبرة، حتى لا يأتي شخص فيقول: لماذا.
الصلاة في القبور لا تجوز؟ الصلاة في القبور التي فيها ركوع وسجود لا تجوز، أما صلاة الجنازة فتجوز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على المرأة التي كانت تقم المسجد في قبرها.
فنريد فهماً متكاملاً لدين الله، لا نريد أنصافاً ولا شذوذاً، ونريد مع هذا الفهم نوعاً من اللطف، وعدم الحدة، وبعد ذلك تعذُر الناس، إذا رأيت شخصاً معه دليل ويخالفك احمله على المحمل الحسن، ولا تقم معركة بينك وبينه، هو له رأيه وأنت لك رأيك ودليلك، ولا تلزمه ولا يلزمك، فهذه وصية -يا إخواني- (أن نلتف حول العلماء)، والحمد لله بلادنا مملوءة بالعلماء الصالحين، ولا نزكيهم على الله، فهم الذين تطمئن إليهم قلوبنا، ونأخذ كلامهم كالثلج على القلوب؛ لأن فيهم القدوة، والصلاح، والعلم والعمق في الدين.
هل تعلمون أن هناك بعض البلدان الإسلامية يفتقر فيها الشباب إلى العلماء القدوة؛ لأنه يريد أن يستفتي الشيخ وإذا بالشيخ يعمل المنكر، ويرى ابنة الشيخ تغني وترقص، ويجد الشيخ حالقاً للحيته، يقول لي أحد الشباب: ذهبت إلى عالم أريد أن أسأله في الدخان، ويوم أن دخلت وجلست عنده وقبل أن أتكلم قدم لي الدخان، يقول: تفضل، يقول: كيف أسأله وهو يرحب بي بالدخان؟! لكن -الحمد لله- في هذه البلاد لا تزال فيها علماء قدوة نقتدي بهم، لكن المهم أن تحتك.(69/16)
عدم العزلة عن الناس ودعوتهم
الوصية الثالثة: عدم العزلة عن الناس.
هناك شباب طيب يقول: الناس ليس فيهم خير، وينعزل ويجلس بعيداً عن الناس، وتؤدي هذه العزلة إلى أن تتولد لديه نظرة خاطئة عن المجتمع؛ لأنه كلما ازداد بعداً ازدادت رؤية الغلط عنده، وبالتالي كلما زاد ابتعاده فإنه ينظر إلى المجتمع على أنه ليس بمسلم، بينما المجتمع مسلم وبخير، والمنكرات والمعاصي موجودة في كل زمان ومكان، وليست طريقة أنك تبتعد، وما بعث الأنبياء في الصحاري والجبال والقفار، كل نبي بعث في قومه، يدعوهم ويصبر على أذاهم ويبلغهم دين الله، وأنت يجب أن تصبر بشرط أن يكون عندك عزلة واتصال، عزلة شعورية عملية عن المعاصي، فلا تجلس معهم فيها، واتصال معهم في الخير، تكون في اجتماعاتهم وجلساتهم وندواتهم وعزائمهم وسمراتهم وتبلغ الخير، لكن لا تشاركهم في المنكر.
أما أن تتخذ منهم جانب الانعزال؛ ونصبح في يوم من الأيام لنجد أن المجتمع انقسم إلى قسمين فهذا خطأ، لا يصح.(69/17)
دعوة الأقارب وغيرهم
الأمر الرابع: أن يبدأ الشاب الإصلاح من بيته، أي: يبدأ بأمه وأبيه؛ لأن من الشباب من إذا التزم واهتدى هجر بيته، ولا يأتي البيت إلا من الليل إلى الليل، يخرج مع الفجر ويرجع الساعة الثانية عشرة لينام، فترى الأم والأب أن في هذه الهداية ضرراً كونها خسرتهم ولدهم، وولدهم عندهم غالٍ، قالوا: والله الولد من يوم أن اهتدى لم نعد نراه، إذاً لا نريده يهتدي، نريده أن يجلس في البيت، المفروض بمجرد أن اهتديت والتزمت أن تعطي للبيت أكثر مما كنت تعطي في الماضي، وأن تشعر أمك وأباك وإخوتك بأنك إنسان جديد، أثرت فيك الهداية والالتزام وجعلتك أكثر عطاء وإنتاجاً واحتكاكاً واهتماماً بمشاكل الأسرة وخدمة البيت منك في الماضي، فتلازم البيت بالليل والنهار، ولا تخرج إلا للصلاة، أو لحضور جلسة علم، أو لزيارة أخ في الله وعلى فترات متباعدة: (زر غباً تزدد حباً) لأن بعض الشباب يكثر الزيارة لإخوانه، كل يوم وهو عند فلان، كل يوم وهو جالس معه، حتى إن أهله يقولون: جاءنا رفيقك، لكن لو جعلتها كل عشرة أيام، أو خمسة عشر يوماً وجئت تزوره مرة، جلست معه جلسة مفيدة على كتاب علم، أما كل يوم وهو في جلسة، (وسوالف) وضحك وكلام، ماذا قال فلان وماذا قال علان، وليس هناك مصلحة، فهذا غلط لا يصلح، اجلس في البيت باستمرار، بعد ذلك قدم خدمة للأب، إذا رأيت أن أباك يريد أن يباشر أي عمل من أعمال الأسرة قل: يا أبت! أنا أكفيك هذا العمل، يذهب ليقضي حاجة، يقول: ماذا تريدون؟ قالوا: نريد كذا وكذا وكذا، قل لهم: أنا آتي به، يقولون لك: لا تعرف، لا.
والله يا أبي لابد أن أعرف، أريد أن أعرف أنني رجل؟ سوف يقول لك: يا ولدي ترى أصحاب السوق هؤلاء يزيدون في الاسعار فانتبه، قل: حدد الأسعار وأنا آتي بالاجة بأقل سعر، يعطيك الكشف وتأخذ النقود، وتنزل إلى السوق ولا تشتري إلا بأقل سعر، وأجود بضاعة، وبعد ذلك ترجع إلى أبيك وتسلم البضاعة كلها، وتقول: يا أبي! أخذنا (برتقالاً) بخمسة عشر، وأخذنا (اليوسفي) بعشرة، وأخذنا (بطاطساً) بعشرة، المجموع: مائة وعشرون ريالاً وأنت أعطيتني مائة وخمسين بقيت ثلاثون تفضل، يقول أبوك: خذها لك، لا والله لا آخذها ماذا أعمل بها، يا أبي الذي في جيبك في جيبي، ما رأيك في أبيك هذا يحبك أم لا؟ لكن بعض الأولاد إذا أرسله أبوه قال: مشغول، عندي موعد، عندي التزام، يتهرب، فإذا ذهب مرة وأرسله أبوه أخذ النقود أعطاه أبوه مائتي ريال وذهب إلى السوق وما نزل من السيارة بل يدعي الحمال من هناك: يا ولد أعطني (كرتون) برتقال، أعطاه (كرتوناً) من أخس (الكراتين) وبكم؟ قال: بأربعين ريالاً، قال: تفضل، وأعطني صندوقاً من الطماط، قال: بكم؟ قال: بخمسين ريالاً، (خايس) ورجع البيت دخل على أبيه أين المقاضي؟ قال: تفضل، بكم؟ والله اشتريت بثلاثين وأربعين وعشرين والباقي أريده لي فإني محتاج إليه، ووضع الباقي في الجيب، النقود مائتان والمقاضي لا تسوى ثلاثين ريالاً، ما رأيك هل يرسله مرة ثانية؟ لا والله لا يرسله، يقول: (تعب الساق ولا تعب القلب) أنا سأذهب لأشتري الحاجيات بنفسي والله يعينني على هذا الولد، وبعد ذلك تأتي تقول له، وأنت قد أخذت النقود عليه، واشتريت له (برتقالاً) فاسداً (وطماطاً) فاسداً، تقول له: يا أبي الصلاة الدين الالتزام، يقول: اذهب يا كذاب، يا سارق النقود، اذهب أنت ودينك، لا أحد يعتمد عليك على شراء (طماط)، وتريد مني ديناً، اذهب يا دجال، وبعد ذلك يكرهه ويكره الدين؛ لأنك صورت الدين أن هذا خُلُقُ الدين، لكن لو أنك صادق في معاملتك، وخدوم لأبيك، إذا جاء رجل فإذا بك موجود تصب القهوة، إذا طرق الباب أحد فإذا بك موجود ترد، وتفتح الباب، وتخدم من في البيت.
وبعد ذلك جاء وقت المغرب قلت: يا أبي! قالوا هناك ندوة للشيخ الفلاني في المسجد الفلاني، فماذا يقول أبوك، يقول: صدقت جزاك الله خيراً، إي والله يا ولدي نذهب إليها، ما معنا إلا الله عز وجل والآخرة؛ لأنك أعطيته خدمة، وأمانة، وبذلاً، ولا بد أن يعطيك هو، لأن التبادل في المصالح حاصل في البشر كلهم، لكن أنت تأخذ منه ولا تريد أن تعطيه، لا يقبل منك، واليوم الأول والثاني يأتي معك، ويصبح في يوم من الأيام وهو مهتد وكانت هدايته على يديك.
عظيم جداً -يا أخي- أن تأتي يوم القيامة بأبيك وأمك في ميزانك، أم أنك لا تريد؟ فما رأيك المسئولية على من؟ من تتصور أن يقوم بهذا الدور؟ ومن تتوقع منه أن يدخل على أمك ليهديها في البيت إذا أنت لم تقدر على هدايتها؟ وبعض الناس يأتي على أمه فلا يعاملها معاملة حسنة، بل يكون كلاً عليها في تغسيل ملابسه، وترتيب غرفته، وتنظيم كتبه، وبعد ذلك لا تجد منه منفعة أبداً إلا الأوامر، أما الأوامر ما شاء الله، فهو مثل ضابط في الجيش، قوموا اقعدوا هذا حرام هذا حلال لا تعملوا فكوا قولوا، والأوامر هذه لا تنفعك -يا أخي- لأنك أنت في موطن الضعف والقلة، لست الأب ولا صاحب الأسرة، فلا يسمع أحد أمرك؛ لأن من عرفك صغيراً حقرك كبيراً، فيرفضونك وبالتالي يرفضون الدين، وتتولد عندهم عقد ضد الإسلام وضد الدين، وأنت السبب.
أحد الشباب جاءني مرة يشكو أمه، يقول: إذا شاهدتني ودخلت رفعت صوت الأغاني، وإذا خرجت للسوق فإنها تتبرج كي تعاندني، يقول: وضدي، إذا قلت لإخواني صلوا تقول: لا تصلوا، قلت: كيف سلوكك معها؟ فإذا به من هذا الطراز الذي هو أوامر بس، قلت له أولاً: لا تقل لها من الآن ولا كلمة، أنت نفسك خذها بالكمال أما هي فلا، بعد ذلك قم بخدمتها، قال: كيف أعمل؟ قلت: إذا تغديتم وقامت لتأخذ الصحون، قل: والله لا يأخذها إلا أنا اليوم، دعيني أتعلم، ربما غداً أصير عزوبياً فلا أدري كيف أعمل، وخذ الصحون، قل لها: أنتِ عليك الطبيخ وأنا عليَّ الصحون باستمرار، وعند تغسيل القدر ضع ماءً حاراً وماءً بارداً وقليلاً من الصابون واغسله واغسل يديك وانتهيت، واسكت فقط اغسل الصحون باستمرار، وإذا رأيتها تكنس في غرفة، فادخل الغرفة الثانية قل: والله لا يكنس هذه الغرفة إلا أنا، والكنس آلة تدفعها أمامك لا يوجد تعب ولا شيء، إذا جاء الغسيل قل: المفروض أنا الذي أغسل ثيابكِ، ولا تغسلين ثيابي أنت، لا يغسل اليوم إلا أنا وأنت فقط علميني كيف؟ وبعد ذلك قم بالخدمة لها، وانظر ما ترى.
يقول: عملت العملية هذه، وبعد أسبوع أو عشرة أيام، وإذا بأمه تتغير نحوه، وإذا بها تقول: الحمد لله الذي هداك يا ولدي، (تعتبر الهداية تغسيل الصحون) قال: الحمد لله يا والدتي، قالت: يا ولدي ما رأيك في الأغاني هذه والله إني أكرهها؟ قال: ليس فيها شيء تريدين أن تسمعيها اسمعيها، أما أنا لا أحبها، قالت: والله لا أسمعها من أجل خاطرك.
وبعد ذلك قالت له: ما رأيك في السوق؟ أنا دائماً أخرج أقضي أغراضي، قال: والله ليس في ذلك شيء، المهم أن تتحجبي، قالت: أعوذ بالله من السوق هذا والله لا ينزله إلا الذين ليس فيهم خير، لو تشاهد يا ولدي! ما فيه من منكرات، والله يا ولدي! إن فيه منكرات تشيب منها الرءوس، ونعرف أنك كنت تتضايق ولكن والله لا أذهب إلى السوق، سبحان الله! من أجل غسيل الصحون، طيب هذه الإيجابية وهي أن تعطي أمك شيئاً من الطاعة والبر والخدمة والإحسان والمعاملة، تأخذ منها ماذا؟ هداية، وطاعة لله ورسوله، ومعاونة لك على الدين، بعض الشباب هجر أهله وسكن في صندقة أو في عزبة مسجد، ماذا بك؟ قال: أهله فيهم فاسد، والله أنت الفاسد، والله لو أن فيك خيراً لكان أول خيرك يأتي لأهلك، أهلك ليسوا كفاراً -يا أخي- صحيح لو أننا في وسط اجتماعي كافر، يعني كان أبوك كافراً لا يعرف الله، هناك له حكم، أما أن يكون أبوك مسلماً وأمك مسلمة لكن عندهم ذنوب ومعاصٍ، ولم تستطع أن تعالج الذنوب، بل زدتها، تريد أن تكحلها فعميتها.
فنقول للشباب: عودوا إلى مراكزكم، وبيوتكم وطاعة آبائكم وبر أمهاتكم، والإحسان إلى جيرانكم وأقاربكم، اذهب لرحمك وادخل عليه، أحد الناس يقول: إن له رحماً يشرب (الشيشة) يقول وكلما دخلت عليه ورأيت أنه قد خرج أخذت الشيشة ورميتها في الزبالة، يقول: وآتي فإذا هناك (شيشة) جديدة، يقول: وأرميها، وآتي يقول: ماذا أعمل؟ قلت: سبحان الله! أنت لم تعرف كيف تدعو إلى الله -يا أخي- القضية ليست قضية (الشيشة) (الشيشة) إذا ذهبت يأتي بعشر (شيش) وبعد ذلك هو عارف أنه لا يكسر (الشيشة) إلا أنت، ولذا يعاندك ولا يسمع كلامك، ولا يهتدي وأنت موجود، حتى لو أراد سماع موعظة في مسجد، وأراد أن يهتدي، قال الشيطان: والله سوف يقولون: فلان هو الذي أثر عليك، كثير من الناس الآن يرفض الهداية من أجل عناد شخص من أقاربه؛ لأن الداعية لم يستعمل الرفق واللين معه، قال: ماذا أعمل، قلت: يا أخي! ليس لك علاقة (بالشيشة) (شيشته) له، وما أنت عليه مسيطر ولا لك عليه سلطان، سيطرتك على نفسك، قدرتك على زوجتك وأولادك ومن في بيتك، أما أبوك وأمك وإخوانك وأرحامك وجيرانك وأقاربك ليس لك عليهم سبيل، لك عليهم الدعوة باللطف وبالتي هي أحسن: ببيان الحق، بالصبر على أذاهم، وبعد ذلك إذا غرس الإيمان في قلوبهم بدت آثاره على جوارحهم، أما أن تأتي وتأخذ (الشيشة) هو سيشتري شيشتين، فلا بد -يا أخي- من اللطف مع إخوانك وجيرانك؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، الذي يريد أن يعالج الناس بغير الهدي النبوي يمرضهم، ويزيدهم مرضاً، يقول عليه الصلاة والسلام والحديث صحيح: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا) الآن العكس، إذا دخل الشخص إلى بيته دخل ذئب على البيت، لا.
نقول: بشر برحمة الله، بشر بأمر الناس إلى طاعة الله، بعد ذلك يسر (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً) أما إذا كان حراماً فلا.
أما إذا كان كله في دائرة المباح خذ أيسر شي على الناس، خذهم بلطف، أنت قبل أن تهتدي، لو جاءك شخص بالأسلوب الذي أنت عليه مع الناس الآن فإنك لا تهتدي، لو أتاك شخص بالأسلوب هذا وجاءك بالعناد بطريقتك هذه لرفضته، لكن يقول الله عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْ(69/18)
الأسئلة(69/19)
حكم الضحك بشدة، وهدي الرسول في الضحك
السؤال
هل يجوز الضحك والقهقهة؟
الجواب
جزاك الله خيراً لا يجوز الضحك بين الأذان والإقامة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتبسم في مجلسه حتى تبدو نواجذه صلوات الله وسلامه عليه، أما الضحك والقهقهة فلا، لكن التبسم مما يتبسم منه فلا حرج في ذلك، هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلا نزيد من الضحك ولا نجمد أنفسنا، وهذا ثابت في الأحاديث الصحيحة.
فضحك حتى بدت نواجذه صلى الله عليه وسلم، (وكان ضحكه تبسماً).(69/20)
رفض الفتيات للزواج بحجة الدراسة وتأمين المستقبل
السؤال
أنا شاب مستقيم بفضل الله خطبت أكثر من ثلاث فتيات، ولكنهن رفضن بحجة إكمال الدراسة، فيا حبذا لو وجهتهن بكلمة قصيرة تحذرهن من هذا المنهج السيئ؟
الجواب
هذه لفتة طيبة نهمس بها في آذان النساء: أنه إذا جاء الكفء من الأزواج ألا ترده؛ لأن فيه تهديداً (إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته -وفي وراية: وخلقه- فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) وهناك فتيات جاء الخطاب أثناء الدراسة فقلن: لا.
نريد أن نؤمن المستقبل ونؤمن الدراسة، والدراسة والزواج ليس (شيكاً) في الجيب تخرجه متى شاءت، لا.
قد ينصرف الخطاب عنها حتى تصبح عانساً، والآن هي في سن الأربعين تتمنى أن يأتيها شخص ولو كان يمشي على أربع، ولو أنها تزوجت في بداية حياتها لسعدت ولكان أولادها الآن معها في المدارس يحققون لها مستقبلاً أفضل، لكن جعلت همها الدنيا تقول: أريد راتباً ووظيفة.
فأمهاتك -أيتها المؤمنة- من فاطمة بنت محمد وعائشة بنت أبي بكر الصديق إلى يومنا هذا لم يمتن جوعاً وما كن موظفات، بل الراتب في بعض الأحيان سبب الإشكال بين الزوج والزوجة؛ لأنها بذلك ترفع رأسها عليه، ليس ضرورياً إذا جاءك الزوج الذي ترضين دينه وأمانته فتتزوجين به، واشترطي لنفسك أن تواصلي تعليمك، فإن الزواج لا يمنعك من مواصلة التعليم، وأيضاً أنت -أيها الشاب- لا يمنعك الزواج من مواصلة التعليم، بل سيكون الزواج عوناً لك على مواصلة التعليم، وقد عرفنا بالتجارب أن الذين لديهم أزواج من الشباب هم أنجح الناس في الدراسة؛ لأن المخ موجود، وزوجته أمامه في غرفته، لكن ذاك الذي ليس عنده زوجُهُ مشتت ذهنه، تضيع الأفكار وتذهب في كل وادٍ، تزوج يجمع الله لك خير الدنيا والآخرة.(69/21)
الغيرة في النساء وسببها
السؤال
ما هو علاج الغيرة عند الزوجات، إنني أعاني من هذه الغيرة التي قد تحطم حياتي وحياة كل من يعاني منها؟
الجواب
الغيرة شيء طبيعي في النفس وهي متولدة عن الحب، فالمرأة إذا كانت تحب زوجها تغار عليه، ولكن العلاج بأمرين: أمر منك -أيها الزوج- وأمر منها، فالذي منك: أن تبعد نفسك عن مواطن الريبة، لا تكشف على امرأة ولا تتكلم مع امرأة، ولا تجلس مع امرأة، وبهذا تقضي على الغيرة من ماذا تغار؟ هي تغار عليك إذا صرت في مجلس واحد مشترك وشاهدتك تتلفت في امرأة، وتغار عليك إذا سمعتك تتكلم مع امرأة، وتغار عليك إذا رأت منك انحرافاً في السلوك، هذه الأولى.
والتي من المرأة المسلمة: أن ترشد هذه الغيرة، ويقول لها زوجها: أنا أخاف الله قبل أن أخافك، وأنا أراقب الله قبل أن أراقبك، والله لا تمتد عيني ولا أذني ولا يدي إلى حرام، فأنت اطمئني، لكن إذا كان في قلبها خوف منك؛ لأنها لا تضمن سلوكك، حينئذٍ تتولد عندها الغيرة، وإذا تولدت الغيرة، تتولد المشاكل، اضبط سلوكك تنضبط امرأتك، وحياتك، أما أن تنظر في النساء وتتكلم في الهاتف وتقول: يا امرأة لا تغاري، كيف لا تغار عليك؟! أنت لو شاهدت شخصاً يتكلم مع امرأتك أو ينظر إليها ألا تغار عليها، فهي إذاً إنسان مثلك.
أما إذا كان المقصود أن تكون المرأة معها ضرة -والضرة من الضرر- فليس هناك امرأة تحب أن يكون معها امرأة أخرى، لكن الذي شرع هو الله، والذي خلق هو الله، فهو الذي خلق المرأة وشرع الأمر، وأباح التعدد، وهو يعلم أن المرأة تطيقه وتتحمله، ولكن الشيطان يريد إزعاج المرأة وإفساد حياتها، فيأتي ويقول: شاهديه يجلس مع امرأته تلك أكثر، وإذا كنتم جلوساً جميعاً فإنه يضحك لها ولم يضحك لك، يتلفت إليها ولا يتلفت إليك، شاهدي كيف أسلوبه معها مثل العسل، ومعك ينهرك، هذا من الشيطان، فلا ينبغي لك أن تغاري عليه من زوجته الأخرى؛ لأنها حلال، ولا ينبغي للزوج أن يظهر من التصرف بما يوجد الغيرة من المرأة، حتى في النظر إذا كانوا سوياً في مجلس واحد، العين تكون هنا قليل وهنا قليل، وكذا نظرة وكذا نظرة، وكذا خطرة وكذا خطرة، وكذا ضحكة وكذا ضحكة، فالموازين عندك حساسة، أما الميل القلبي بالنسبة لك فهذا ليس في يدك، هذا بيد الله، لكن يلزمك أن تعدل: في المبيت، والنفقة، والتصرفات والتعاملات، أما في الميل القلبي فهذا لا تقدر عليه، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعدل، وهو أعظم الناس عدلاً بين نسائه وأمته ورعيته ويقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلومني فيما تملك ولا أملك).
وإذا أردت -أيتها المؤمنة- أن يميل الزوج إليك، فأكثري الخدمة، تنافسي أنت وزوجته الأخرى في تقديم أحسن خدمة، والرجل سوف يميل إلى التي يشاهد أنها طيبة، وتبذل كثيراً من البر والطاعة والرائحة الطيبة وهذا يكون له مردود، لكن بعض النساء لا تريد أن تعمل شيئاً وتريد زوجها يظل معها أبداً.(69/22)
كيفية التخلص من أشرطة الفيديو الخليعة
السؤال
لقد كتب الله لي الاستقامة ويوجد لدي عدد كبير من أشرطة الفيديو ولكنها غير صالحة، هل أبيعها وأتصدق بقيمتها، أم أحرقها؟ أرجو توجيهي جزاكم الله خيراً؟.
الجواب
خذوا قاعدة عامة: أي شيء من وسائل الحرام يمكن أن يستعمل في الخير ممكن أن تستعمله؛ لأن الشريط هذا إناء، مثل الكتاب إذا كتب فيه كفر صار كتاب كفر، وإذا كتب فيه إسلام يصير كتاب إسلام، والشريط كذلك مثل الكوب، هذا الكوب ما حكم استعماله؟ إذا كان فيه خمر يصبح حراماً، وإذا كان فيه عسل يصبح حلالاً، وكذلك شريط الفيديو أو الأغاني أو أي شريط، إذا كان فيه قرآن وذكر وكلام طيب فهو حلال، إذا كان فيه شيء محرم فاذهب به إلى الذي يمسح الأشرطة وقل له يسجل عليه الحق.
أما أن تذهب لتبيعه فلا؛ لأنه (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) كيف تكرهه لنفسك وتبيعه من أجل أن تتصدق به؟!(69/23)
حكم الحجاب الشرعي
السؤال
كثير من الأسئلة وردت من الأخوات يطلبن أن تتكلم عن الحجاب الشرعي بصورة مختصرة؟
الجواب
الحجاب الشرعي فريضة الله على المؤمنات، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59] وقال عز وجل في سورة النور: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31].
فالحجاب الشرعي فريضة، والتي تصلي يلزمها أن تحتجب؛ لأن آية الصلاة محكمة وآية الحجاب محكمة أيضاً، والتي تؤمن بآية الصلاة والزكاة والحج وترفض آية الحجاب يخشى عليها من الوعيد الكائن في كتاب الله عز وجل: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] نؤمن بآية الصلاة ونكفر بآية الحجاب، قال الله: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:85] وهذا الذي يحصل الآن من التكشف والتبرج يحصل به العذاب في النار {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة:85].
فيا أيتها الأخوات المؤمنات! التزمن بالحجاب على أنه دين لا أنه أمر الزوج، فقد تبتلى امرأة بأن لها زوجاً لا يريد أن تتحجب، لكن تتحجب رغم أنفه ولا تطيعه، وبعض النساء تتحجب بأمر زوجها، فإذا ذهبت عند أهلها قالوا لها: اخرجي بلا حجاب، فتتكشف، فهذه لم تطع الله، والحجاب الشرعي أن تلبس في بيتها لزوجها مما يحلو لها، وتتزين به له، أما إذا خرجت فيجب أن تستتر من مشاش رأسها إلى أخمص قدمها، ولا يبدو منها شعرة ولا ظفر واحد، والحجاب عبارة عن ثياب فضفاضة واسعة، لا تلبس الضيق انتبهوا الضيق المفصل هذا موت؛ لأنه يبدي ويكشف مفاتن المرأة، تلبس ثياباً فضفاضة وفوقها عباءة، وبعد ذلك في يدها (دسوس) إلى الكوع، (دسوس طويلة) وتلبس حجاباً على وجهها متين أسود لا يرى أحد ما وراءه وتلبس العباءة من فوق وتمشي، هذه المؤمنة التي تقيدت بقيد الشرع، وليس بينها وبين السعادة -إن شاء الله- إلا أن تموت، هذه جوهرة مصونة ودرة مكنونة، لا تنظر لها عين ولا تمد لها يد إلا عين ويد زوجها، أما الرخيصة المبتذلة البعرة التي تخرج للأسواق لتنظر لها العيون، وتمتد لها الأيدي، هذه رخيصة، والرخيص لا أحد يريده، الرخيص -كما يقال- بخيس، لا تكوني رخيصة فتخسري أهلك وبيتك ودنياك وآخرتك، لكن تحجبي والتزمي بدين الله، يرتفع قدرك وتعلو قيمتك، وتزداد منزلتك في الدنيا والآخرة.
أما بالنسبة لأبيها وأخيها والثمانية الأصناف الذين ذكرهم الله في سورة النور فتكشف وجهها وكفيها وما يظهر عادة للرجال من المحارم، لكن لا تكشف ثدييها، ولا ساقيها، ولا نحرها، ولا شعرها كله؛ لأن هذه أشياء خاصة بالزوج، أما الأخرى الوجه والجلسة والأيدي وجزء من الأقدام ليس فيه شيء، بالنسبة للمحارم الأقارب، وهم الذين في سورة النور ثمانية أصناف أما غيرهم فلا.(69/24)
حكم تفضيل الكافر على المسلم
السؤال
بعض ممن يأتون من أمريكا ومن دول الغرب نجدهم يمدحون أهل الغرب في صفاتهم مثل الصدق والأمانة وغير ذلك، ويذمون أهل الإسلام؛ لأنهم في نظرهم يكذبون وغير مؤتمنين، فنرجو من فضيلة الشيخ توضيح ذلك وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
كثير من الشباب عندما يذهب إلى أمريكا أو بريطانيا يأتي ويقول: إن هناك حياة، رأيت الإسلام ولم أجد المسلمين، قال: يصدقون في المواعيد، هو يصدق من أجل عائد نفعي، جربوا الصدق في حياتهم أنه ضبط لأمورهم فصدقوا، لكن هل يصدقون طاعة لله ورسوله؟ لا.
هؤلاء الذين في الغرب، هم أكذب ناس في هذه الأرض، فلا ينبغي أن نقول: إنهم أهدى من الذين آمنوا سبيلا، لا والله، يكذبون على الله أعظم كذبة يقولون: إن المسيح ابن الله، ويكذبون على الله عز وجل في أن يجعلوا معه آلهة، يكذبون بتكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إذا صدقوا في معاملتهم أو أمورهم الخاصة نقول لهم: أنتم صادقون، لا.
قال الله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113] كلهم لا هؤلاء على شيء ولا هؤلاء على شيء، فهم كاذبون ولا ينبغي أن ننقل أخلاقياتهم إلينا، بل إذا أردنا أن نسير على أرفع الأخلاقيات، فلنأخذها من هدي رسولنا صلى الله عليه وسلم ففي صحيح البخاري وصحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق) هذا الكلام لا تأخذه من أمريكا خذه من كلام محمد بن عبد الله (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا) إذا كتبك الله صديقاً كنت {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء:69] (وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) فنأخذ هذا من هذه الأحاديث، فإذا صدقنا صدقنا طاعة لله، أما أن نصدق من أجل أن نتشبه بالغرب في أخلاقياتهم الهابطة، فلا وألف لا، نحن أمة استقلالية رائدة، لسنا أمة ذيلية متبعة للشعوب، لا.
نحن للرأس، والغرب والناس كلهم وراءنا، لماذا؟ لأننا أمة شعارنا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، كتابنا أفضل كتاب، ورسولنا أفضل الرسل، وديننا خاتم الرسالات والأديان، الناس كلهم لنا تبع، أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة نبينا صلى الله عليه وسلم، وأول من يدخل الجنة أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فنحن الآخرون لكننا يوم القيامة الأولون، نسأل الله من فضله.(69/25)
حكم مصافحة النساء
السؤال
ما حكم مصافحة النساء؟
الجواب
نار في يد الإنسان، إذا كانت المرأة أجنبية لا يجوز؛ لأن تمس يدك جمرة حمراء خير لك من أن تمس يد امرأة لا تحل لك، ومن مد يده إلى امرأة لا تحل له جاء يوم القيامة ويده مغلولة إلى عنقه، ولما بايع الرسول صلى الله عليه وسلم النساء قال: (إني لا أمد يدي ولا أصافح النساء) فلا يجوز مصافحة الأجنبية.(69/26)
الرفق واللين في دعوة الوالدة
السؤال
إنني أوقظ والدتي في صلاة الفجر ولكنها تغضب؛ لأنها نائمة، ولكنني أواصل إيقاظها كل فجر وهي تغضب، فهل هذا يعتبر من عقوق الوالدين، وهي تقول: كلنا سندخل النار مهما صليت وصمت وعبدت الله.
أفيدوني جزاكم الله خيراً؟
الجواب
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة الله على كل مسلم تجاه كل مسلم ومسلمة، وأولى الناس بأن تأمرها وتنهاها أمك، ولكن بالتي هي أحسن، إذا قمت تصلي قل: يا أمي الله يوفقك صلي الصلاة، الله يبارك فيك، فإذا غضبت رضي الله عليك، أما هي جعلها لا ترضى؛ لأنه لا طاعة لها في هذا الموضع، بل عليك أن تأمرها وتنهاها، فلا يتصور بعض الناس أن طاعة الأم طاعة في كل الأحوال، بل طاعتها في المعروف، أما في المعاصي فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.(69/27)
حكم بول الصبي
السؤال
الطفل عندما توضئه ويأتيها شيء من بوله، هل هذا ينقض الوضوء، وهل هو كالجنابة أم لا؟
الجواب
لا.
ليس كالجنابة، إذا غسلت المرأة طفلها ومست عورته بيدها انتقض وضوؤها ولزم أن تتوضأ من جديد؛ لأن مس الفرج باليد ينقض الوضوء، قبلاً كان أو دبراً، للإنسان نفسه أو لغيره، أما إذا وقع بول الغلام الذكر على ثوب المرأة، وكان هذا الغلام رضيعاً لا يأكل الطعام فإنه يكفي فيه النضح، أما إذا أكل الطعام فلا بد من غسله، أما بول الجارية (البنت الصغيرة) فإنه لا بد من غسله سواء كانت رضيعة أو أكلت الطعام.(69/28)
حكم من أتى بسائق غير مسلم، وحكم صده عن دين الله
السؤال
يوجد مواطن استقدم سائقاً غير مسلم، وعندما أراد هذا السائق أن يدخل في دين الإسلام رفض كفيله دخوله في الإسلام فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
أولاً: الإتيان به خطأ، أنت عندما تأتي بسائق، فهو يسوق امرأتك، مَنْ توكل على امرأتك، وبناتك؟ أين عقلك؟!! وبعد ذلك تأتي بكافر، هذه المصيبة، وبعد ذلك لما أراد أن يسلم ترفض، كلها مصائب والعياذ بالله.
لا يجوز استخدام السائقين الكفار، وإذا اضطر الإنسان إلى سائق كأن يكون هو غير سائق، فليأت بمسلم شايب، ومعه امرأته.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(69/29)
اتق الله حيثما كنت
إن تقوى الله عز وجل تؤدي إلى نيل أعلى درجات الإيمان، إذ لا يعظم إيمان المرء إلا بهذه الخصلة.
ومن عظمت تقواه لله تعالى حجبته عن المحرمات وقربته من الطاعات وبها يحصل العبد على معية الله في الدنيا والآخرة.
ولما كانت التقوى بهذه المنزلة كانت وصية الله بها للأولين والآخرين، وعليها كانت وصية الصالحين لبعضهم البعض.
وكانت خير وصية يوصي بها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأمته في كل وقت وحين.(70/1)
عظم أهمية التقوى
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أغث قلوبنا بالإيمان والتقوى كما أغثت أرضنا بالمطر والخير، نحن الآن نسمع هطول المطر في هذه الساعة المباركة، وهي ساعة استجابة، فنسأل الله الذي لا إله إلا هو كما أغاث أرضنا أن يغيث قلوبنا! فوالله الذي لا إله إلا هو إن قلوبنا لهي أحوج إلى غيث الإيمان من الأرض إلى غيث المطر! فلقد أقفرت القلوب وقست، وتحجرت العيون، وأصبحنا في وضع يشكى فيه إلى الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون! إن الخير في هذه الأمة إلى قيام الساعة، ولكنا نطمع بالمزيد، ففي هذه الساعة ندعو الله ونبتهل إليه أن يغيث قلوبنا بالإيمان، وأطلب من الإخوة الكرام الذين هم الآن في المسجد وفي ساحة المسجد المغطاة أن يتقاربوا حتى يدخل إخوانهم من المطر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة:11] بإمكان المسجد أن يستوعب إن شاء الله كل من حضر، فتقاربوا حتى لا يبقى مكان، وفي صلاة العشاء إن شاء الله يكون الخير.
أيها الإخوة في الله: التقوى والخشية والخوف والمراقبة لله عز وجل هي المجالات التي تسابق فيها الصالحون من عباد الله، والتي تباين فيها الناس، فعاش أقوام في القمم من التقوى؛ فأصبحوا عند الله أفضل من الملائكة، وحرم منها أقوام فعاشوا -والعياذ بالله- عند الله أسوأ من البهائم والحيوانات.(70/2)
التقوى ميدان التفاضل بين العباد
التقوى هي النسب الرباني الذي جعله الله عز وجل ميداناً للتفاضل بين العباد، يقول الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ولم يقل: أكثركم مالاً ولا جاهاً ولا سلطة، ولا طولاً ولا عرضاً ولا نسباً، فهذه كلها مقاييس أرضية، ولكن يوجد مقياس سماوي وميزان رباني يوزن به الناس في الدنيا، والقبر، والحشر، وفي عرصات القيامة، ثم ينجح أصحابه بجنة عرضها السماوات والأرض: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
يقول الله عز وجل: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] وقبلها يقول: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] يقول الله يوم القيامة يوم ينادي بالناس: (إني قد وضعت نسباً ووضعتم أنساباً، فرفعتم أنسابكم ووضعتم نسبي، اليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم، ليقم أهل التقوى، فيقومون وهم قليل) اللهم اجعلنا منهم.(70/3)
التقوى عنوان السعادة في الدنيا والآخرة
أيها الإخوة: التقوى عنوان السعادة في الدنيا والآخرة، فقد رتب الله عليها كل خير في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا معية الله، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128].
وكذلك في الرزق، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] وكذلك التيسير، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4] والتكفير للسيئات: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق:5].
ويوم القيامة ينجي الله تعالى أهل التقوى فقط، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71] أي: النار {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72] لا نجاة من النار إلا الأهل التقوى فقط، ففتش نفسك هل أنت منهم، أم أن لك حسابات أخرى؟! وفي يوم القيامة يقول الله عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الدخان:51 - 56] والموت هو الذي يهدم كل شيء! هذا هو الموت! الذي لا يمنع منه ملك، ولا صاحب مال أو عضلات!
لهوت وغرتك الأماني وعندما أتمت لك الأفراح فوجئت بالقبر
الموت لا يمتنع منه أحد إلا أهل الجنة، كما قال الله عز وجل: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان:56 - 57]، ويقول عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} [الطور:17 - 24] فالغلمان والخدم مثل اللؤلؤ المكنون، فكيف بالمخدومين؟!! {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} [الطور:24].
وبعد ذلك من نهاية الأُنس والتفكه أنهم أيضاً يتحادثون ويتنادمون، وأخبر الله تعالى عن هذا في أكثر من سورة، يقول تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:25 - 26] الله أكبر! كانوا خائفين وجلين، كأن النار ما خلقت إلا لهم، كأنهم أشقى خلق الله وأفضل الناس عند الله {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] فماذا حصل؟ مع الإشفاق؟ هنا حصل الأمن هناك، قال الله عز وجل: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:27 - 28].
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العليا في هذه الساعة -فلعلها ساعة استجابة- أن تجعلنا من هؤلاء، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين، اللهم اجعلنا من هؤلاء الذين دعوا فاستجبت لهم إنك أنت البر الرحيم، ولا تحرمنا من فضلك يا أرحم الراحمين.
ويقول عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات:15 - 20].
ويقول عز وجل: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [القلم:34] ويقول عز وجل: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً} [النبأ:31 - 34] المهم أن كل خير في الدنيا والآخرة مسجل في حساب المتقين، لماذا? لأنهم استنزلوا هذه المنزلة ووصلوا إلى هذه الدرجة بتقوى الله تبارك وتعالى.
هذه التقوى من ينزل ويجلس فيها تشرق عليه إشراقات السعادة، وتتوجه إليه الخيرات، وتقبل عليه الأنوار من كل جانب، والذي يحرم التقوى ويعيش بعيداً عنها -والعياذ بالله- تشرق عليه الظلمات، وتحل عليه النكبات، ويعيش في الجهل والبعد عن الله، حتى يشقى في الدنيا والآخرة أعاذنا الله وإياكم من ذلك.(70/4)
التقوى سبب تفريج الشدائد
كلمة (اتق الله) كلمة تهز نياط القلوب إذا ما وجهت إلى أهل الإيمان، فإذا سمعها المؤمن ارتجف؛ لأنه لا يستطيع أن يتحمل أن عصيان الله إذا قيل له: اتق الله.
بل هذه علامة خطر، هذه لوحة ممنوع الوقوف (اتق الله).
ارجع إلى الله.
اهرب من معصية الله.
احذر بأس الله وشدته، وعظمته، هؤلاء هم أهل الإيمان الذين إذا سمعوا كلمة: (اتق الله عز وجل) ارتعدت فرائصهم، واضطربت قلوبهم، وقامت جوارحهم، ولا يمكن أن تستمر المعصية، لماذا? لأنه قيل له: اتق الله.
جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث عن ثلاثة كانوا في سفر، ونزل عليهم المطر في ليل بارد؛ فدخلوا في غار، وفي أثناء جلوسهم في الغار انحدرت عليهم صخرة من الجبل وسدت عليهم باب الغار، وهم في الصحراء لا يوجد تليفوناً يتصلون بالدفاع المدني، ولو صرخوا وصاحوا فلا أحد يسمعهم، وإن دفعوها بأيديهم وأقدامهم لا يستطيعون؛ لأنها صخرة كبيرة.
فقال أحدهم: إنه لا ينجيكم مما أنتم فيه إلا الله -يقول: أسباب الأرض انقطعت وما بقي إلا أسباب السماء- فادعوا الله عز وجل بصالح أعمالكم، تعرفوا على الله عز وجل بصالح الأعمال ليعرفكم في هذه الشدة؛ لأن من تعرف على الله في الرخاء عرفه في الشدة، ومن نسي الله في الرخاء نسيه الله في الرخاء والشدة، فقام كل واحد منهم وبدأ يذكر صالح عمله، وهم من خيار الناس، ووالله يا إخوان -كما قلت هذا في مناسبة سابقة- أني إذا ذكرت هذا الحديث يتقطع قلبي من الألم، وأقول: لو كنت أنا معهم بم أدعو الله؟ وماذا أقول؟ لا يوجد عندي شيء.
فتبقى الصخرة إلى أن يتقطع جلدي وأموت ويفنى عظمي ولحمي، لماذا? لأنه لا يوجد مؤهلات تزيل الجبال.
أما هؤلاء الثلاثة العظماء الأتقياء فقام كل واحد منهم يقدم عملاً، ويسأل الله عز وجل أن يخفف عنهم ما هم فيه من الكرب، وأن يفرج عنهم ما هم فيه من الغم، فيتحرك الحجر، ومن ضمنهم واحد قال: اللهم إنه كانت لي ابنة عم، وكنت أحبها كأعظم وأشد ما يحب الرجال النساء، وراودتها عن نفسها مراراً فأبت -إنها امرأة شريفة طاهرة نقية عفيفة- يقول: وفي يوم من الأيام ألجأتها الظروف والحاجة والضرورة إلى أن تأتي وتستقرض مني مالاً، فرفضت أن أقرضها إلا أن تخلي بيني وبين نفسها، فأطاعت تحت وطأت الاضطرار، يقول: فلما جلست منها مجلس الرجل من المرأة قالت لي: يا هذا! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، إنها كلمة! لكنها وقعت في قلب مؤمن، قال: فتركتها من أجلك وقمت، قال: فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون.
كلمةٌ هزت قلب الرجل وأنقذته من هذا المكان الخطر، وهذه الكلمة لا تؤثر إلا فيمن إيمانه مثل الجبال، قد يقولها المرء في الذهن، لكن في تلك الأماكن يعمى البصر وتطغى الشهوة، وينسى الإنسان ربه والنار والعار والشنار والدمار، ويفرغ شهوته ولا يبالي بأحد، لكن هذا لما قالت له: اتق الله، قام فزعاً خائفاً.
هذا هو المؤمن، ولكن هناك من لا يتقي الله إن قيل له: اتق الله بل بعضهم إذا قيل له: اتق الله يزيد في المعصية، كأنك تقول له: لا تتق الله، وقد بين الله عز وجل هذا في القرآن فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البقرة:206] ما معنى أخذته العزة بالإثم؟ أي: لا يخاف الله، ولا تأخذه العزة بالله ولا بتقوى وخوف ومراقبة الله، ولكن تأخذه العزة بأن يمارس الإثم! ويعتز بأن يزني ويرابي ويعصي الله عز وجل، ولا يعتز بالله، فهذا أخذته العزة بأن يمارس الإثم ويقع في الخطيئة، قال الله عز وجل: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206] فهذا تكفيه جهنم، نعم.
تكفيه جهنم؛ نار أوقد الله عليها ثلاثة آلاف سنة! ما ظنكم بنار أوقدها الجبار! إذا كنا الآن لا نتحمل ناراً أوقدها الفران، تعال إلى الفرن وأنت تشتري خبزاً وضع يدك في رأس الفرن فقط ولا تمدها إلى الداخل، واصبر قليلاً وانظر لا بد من التجربة، هل تصبر على النار؟! والله لا تصبر، فكيف إذا أخذك شخص وطوى رأسك ويديك ورجليك وأدخلك في النار دقيقة واحدة فقط ستين ثانية، هل تتحمل؟! كيف نخرجك؟! لو أخرجناك بعد دقيقة واحدة لخرجت مشوياً، لا إله إلا الله -يا إخواني- ما أقسى قلوبنا!! والله إن الذي يرى أعمالنا يقول: هؤلاء ضد النار، أو لا تأكلهم النار، أو لا يعرفون النار، إن أقدامكم على النار لا تقوى.
فالمؤمن إذا قلت له: اتق الله، فإنه لا يقدم ولا يمشي في معصية الله، قال الله تعالى: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206].(70/5)
حال المتقين في الحشر
التقوى وصية الله عز وجل للأولين والآخرين، وما من أمة بعث فيهم نبي إلا وتقوى الله عز وجل من أول وصاياه، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] وهي وصية الله تعالى للناس أجمعين، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2].
يقول الله تعالى: اتقوا هذا اليوم، وضعوا بينكم وبين عذاب الله تعالى في هذا اليوم وقاية؛ لأنكم لن تستطيعوا تحمله، فالمرضعات يذهلن عمن يرضعنهم، والحوامل يضعن حملهن، والأطفال تشيب رءوسهم: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} [المزمل:17 - 18] الملائكة تحضر كلها من السماء {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً} [الفرقان:25] {فَإِذَا انشَقَّتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:37] أي: معالم الكون كلها تتغير ونحن واقفون في ذلك اليوم حفاة عراة غرلاً غير مختونين، لا مال ولا أولاد وإنما قلوبنا معلقة، وأبصارنا شاخصة، وننتظر ما يأتي، يقول الله عز وجل: {وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه:111] وقال تعالى: {فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} [طه:108] وقال تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ:33] وقال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر:18] القلب لا يبقى مكانه ولكن يرتفع إلى الحنجرة فيسدها ولا يستطيع أن يتنفس: {إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:18 - 19].
الله عز وجل يوصي الناس ويقول لهم اتقوا ربكم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان:33] التكافل والتكاتف والتعاون وبذل الجاه والسلطة أكبر ما يكون بين الولد والوالد، سواء كانت أمه أو أباه؛ لأن الوالد يشمل الأم والأب، والمولود يشمل الذكر والأنثى، والتكافل معناه: أن الوالد يود أن يفدي ولده بدمه، ويود الولد أن يفدي أباه بدمه، لكن يوم القيامة كل واحد يهرب من الآخر، أي: إذا لقي الولد أباه يفر، لماذا? لأنه سيقول له: أعطني، ولا أحد يريد أن يقال له: أعطني.
أنت الآن إذا كنت مغترباً في أرض بعيدة، ومعك خيرات وأموال، ورأيت واحداً من جماعتك، ما إن تراه حتى تفرح به، وتحييه وترحب به وتقول: مرحباً وحياك الله، والغداء عندنا، والعشاء عندنا، لماذا? لأنك تملك مالاً وتستطيع أن تضيفه، لكن إذا لقيته وليس معك نقود، فإنك مباشرة تحاول التخلص منه، لماذا? لأنك لو قلت: تفضل، لأجاب فمن أين تأتي بالغداء والعشاء؟ فيوم القيامة كل واحد يفر من الآخر؛ لأنه لا يوجد إلا حسنات، وقد ورد في الحديث: (إن الأب يأتي ولده يوم القيامة فيقول له: أسألك بحق أبوتي عليك حسنة أثقل بها ميزاني، فيقول: نعم.
يا أبت! لقد والله أحسنت تربيتي وغذيتني وأعطيتني، ولكن أسألك أنا بحق بنوتي لك بأن تكمل الجميل وتعطيني حسنة أثقل بها ميزاني) وكل واحد يريد حسنات من الآخر، فقال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36] لماذا? لأنه: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37].
فالنداء جاء للناس كافة بتقوى الله، ثم ضيق الله تعالى الدائرة، ونادى أهل الإيمان خاصة بلفظ التقوى، وكثير من الآيات في القرآن، فيها نداء للمؤمنين ودعوتهم بأن يتقوا الله؛ لأن المؤمنين هم خاصة البشر وصفوة الناس؛ ولأنهم آمنوا بالله تعالى، وصدقوا المرسلين، يقول الله تعالى فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] أي: حاسب نفسك: ماذا صنعت لغد؟ ماذا تعمل لو مت الآن؟ لو جاءك ملك الموت ومت الآن، ماذا عندك من المؤهلات التي تنفعك يوم القيامة؟ كيف صلاتك وعقيدتك وزكاتك؟ وبرك وصلتك لرحمك، وتلاوتك لكتاب ربك وحبك وبغضك؟ وعينك في الحلال؟ وأذنك في الحلال؟ وكل حياتك؟ {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].(70/6)
جزاء المتقين في الدنيا والآخرة
يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} [الحديد:28] فماذا يحصل لكم بعد هذا؟ قال: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد:28] أي: يعطكم نصيبين من رحمته، قال العلماء: نصيب في الدنيا ونصيب في الآخرة.
فيعطيك الله نصيباً في الدنيا والآخرة فيرحمك؛ يرحمك في الدنيا فيبقيك على الصراط المستقيم، وينور بصيرتك، ويحبب إليك الإيمان، ويكره إليك الكفر والفسوق والعصيان، ويوفقك ويسددك ويهديك ويشرح صدرك للإيمان، وبعد ذلك يرحمك في الآخرة فيجيرك من النيران ويجعلك من أهل الجنان: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد:28] قال العلماء: نوراً هنا: نكرة، أي: يجعل لكم نوراً شاملاً في الدنيا، والقبر، وعلى الصراط، كما قال عز وجل: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} [الحديد:12 - 13].
والنور في القبر كما قال صلى الله عليه وسلم والحديث في صحيح مسلم: (والصلاة نور) فالصلاة نور في القبر؛ إذا أردت أن تنور القبر فبالصلاة، بحيث إذا دخلت لا يوجد إلا الأنوار، فحافظ على الصلاة من الآن، حتى تكون الصلاة لك نوراً يوم الظلمات، يوم تترك نور الدنيا، ويضعونك في العمارة النهائية المصيرية، في قبر موحش مظلم، مساحته ضيقة وليست متسعة، ثم لحد، ثم ظلام وليس معك شيء إلا عملك وصلاتك، والصلاة نور ليوم القيامة، إلى آخر الأمر، قال الله عز وجل: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28] لأنه وقد تقع من الإنسان هفوات فلا أحد معصوم، وكلكم خطاءون ولكن من غير إصرار ولا مداومة.
ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29] قال العلماء: (فرقاناً) يجعله الله لك بالتقوى؛ وهو نور يقذفه الله عز وجل في قلبك وبين عينيك فترى به طريق الخير فتتبعه، وطريق الشر فتجتنبه، وهذا معنى الفرقان الذي تفرق به بين الحق والباطل، والخير والشر، والهداية والضلالة، وطريق الله وطريق الشيطان، لماذا؟ لأن عندك نوراً وفرقاناً، لكن إذا لم يوجد نور ولا فرقان فربما يسير الإنسان في الغواية والضلال -والعياذ بالله- لأنه لا يدري فهو أعمى؛ والأعمى تسهل قيادته إلى المهالك والعياذ بالله.
هذه التقوى -أيها الإخوة- وجهت للمؤمنين.(70/7)
أمر الله للنبي بالتقوى لعظمها
آخر ما وجه الأمر بالتقوى إلى أفضل خلق الله أجمعين وهو: رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وخير من سار على الأرض، وصاحب اللواء يوم العرض، وأول من تنشق عنه الأرض، وصاحب الشفاعة العظمى يوم القيامة، وأول من يدخل الجنة، صلوات الله وسلامه عليه، فله المنزلة الرفيعة عند الله، وله المقام العظيم، وهو صاحب الحوض المورود، والمقام المحمود، واللواء المعقود، هذا الرجل صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، سيد الخلق أجمعين، نادى الله الأنبياء كلهم بأسمائهم إلا هو: {يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:104 - 105] {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46] {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ} [القصص:31] {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة:116] كل نبي باسمه، أما محمد صلى الله عليه وسلم فلا يوجد في القرآن يا محمد، إلا {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64] {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41].
وذلك لعظمه صلى الله عليه وسلم، هذا العظيم يقول الله تعالى له في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1] أتقى خلق الله، وأعلم الناس بالله، والله تعالى يقول له: {اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1] ما معنى هذا؟ قال المفسرون: ليس معنى هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس متقياً لله، ولكن لتأكيد الأمر بالتقوى؛ لعظم منزلة المتقين عند الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1] وكان أتقى خلق الله، يقول: (إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ومع هذا فأنا أصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني) هكذا قال صلى الله عليه وسلم.(70/8)
ترجمة رواة حديث: (اتق الله حيثما كنت)
عنوان الدرس في هذه الليلة (اتق الله حيثما كنت) وهذه الجملة جزء من حديث رواه الترمذي في السنن وقال عنه: بأنه حسن، وفي بعض النسخ: حسن صحيح، وهذا الحديث من رواية أبي هريرة وأبي ذر الغفاري جندب بن جنادة ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم.(70/9)
ترجمة أبي هريرة رضي الله عنه
أبو هريرة رضي الله عنه راوي أكبر قدر من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
واسمه عبد الرحمن بن صخر الدوسي؛ من دوس من بلاد زهران، أسلم في السنة السابعة، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنوات فقط، لكنها كانت أربع سنوات مملوءة علماً، فروى أكثر السنة، وكان متخصصاً في حفظ وفهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعاش فقيراً في الصفة، فلم يكن له بيت ولا مزرعة ولا غنم ولا جمال، وإنما عنده حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يجلس في الصفة يتعلم العلم، ويدخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بغير استئذان.
هذا الرجل العظيم يقول: (خرجت يوماً من المسجد وأنا جائع، ووالله إني كنت أتقلب على الأرض وأتلوى وكأن بي مساً من الجن، ووالله ما بي مس من الجن وما بي إلا مس الجوع، فمر أبو بكر من عندي فسألته عن آية، ووالله إني لأعرف معناها، ولكن أردت منه أن يستتبعني -أي: يقول: تفضل- قال: فأخبرني بمعنى الآية ولم يستتبعن) يقول: ما قال: تفضل، وليس أبو بكر بخيلاً رضي الله عنه، ولكنه ما كان لديه شيء فكل ماله ينفقه في سبيل الله، وكل شيء يأتيه يحوله إلى الآخرة.
قال: (ثم خرج عمر رضي الله عنه، فتبعته وسألته عن الآية لكي يستتبعني، فأعطاني علم الآية ولم يستتبعن، قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته عن الآية فأخبرني، ثم قال: اتبعن يا أبا هريرة -صلوات الله وسلامه عليه، وهذا نبي وليس في بيته شيء- فلما دخل البيت قال: أعندكم شيء؟ قالت: لا.
ثم ذهب إلى الأخرى، قال: أعندكم شيء؟ قالت: لا.
ثم الأخرى: أعندكم شيء؟ قالت: لا.
حتى دخل على واحدة من نسائه صلوات الله وسلامه عليه، قالت: نعم.
عندنا قليل من اللبن أهداه لنا رجل من الأنصار -جفنة صغيرة من اللبن جاءت هدية إلى النبي من بيت أحد الأنصار- قال: أحضريه؛ فأخذه.
ولما رآه أبو هريرة فرح وقال: سأشرب منه حتى أشبع، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا هريرة: اذهب إلى أهل الصفة وائتني بهم، قال أبو هريرة: فحزنت حزناً كبيراً، وقلت: ما تصنع هذه الجفنة في أهل الصفة وأنا ساقيهم لن تبقى لي شربة واحدة منها، قال: فجاء أهل الصفة وهو سبعون رجلاً، وجلسوا صفاً واحداً في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ الجفنة وقال: يا أبا هريرة: أدر الجفنة واسق القوم، قال: فأعطيت الأول فشرب حتى شبع، ثم نقلتها إلى الثاني ووالله ما نقصت قطرة واحدة -يشربون منها وهي مكانها لا ينقص منها شيء، وهذه من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم- قال: فشرب السبعون كلهم، حتى انتهوا ولم يبق إلا أنا والنبي صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: بقيت أنا وأنت يا أبا هريرة! قلت: نعم يا رسول الله! قال: اشرب يا أبا هريرة! قال: فشربت حتى شبعت ثم تركت الإناء، قال: اشرب يا أبا هريرة! قال: فشربت حتى شبعت ثم تركت الإناء، قال: اشرب يا أبا هريرة -وهذه المرة الثالثة وهو لا يعصي الرسول- قال: يا رسول الله! والله لا أجد له مسلكاً -يقول: عبأت المسالك كلها والآن لا أجد له مكاناً، فأين أذهب به؟ - فضحك صلوات الله وسلامه عليه حتى بدت أسنانه صلى الله عليه وسلم) هذا الرجل العظيم يحدث بهذا الحديث.(70/10)
ترجمة أبي ذر الغفاري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما
وأيضاً يحدث به أبو ذر الغفاري؛ وهو من السابقين إلى الإسلام، وهو من قبيلة غفار، واسمه جندب بن جنادة، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أظلت الخضراء ولا أقلَّت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر) وهذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم، والخضراء السماء، والغبراء الأرض.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله أبا ذر! يموت وحده، ويبعث وحده، ويأتي وحده).
ويروي الحديث أيضاً معاذ بن جبل رضي الله عنه؛ وهو إمام العلماء يوم القيامة، فجميع علماء الأرض يأتون خلفه، وبينهم وبينه رتوة، يقدمهم رضي الله عنه وأرضاه وهو من فقهاء الأنصار، أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وهذا الرجل كان يحب مجالس العلم، ولما حضرته الوفاة بكى، وكانت عنده بنت صغيرة، فقالت: يا أبتاه! ما يبكيك؟ أما تعلم أن ما لك عند الله خير من الدنيا، قال: [بلى والله! إني لا أبكي من الدنيا من أجل جني الثمار، ولا غرس الأشجار، ولكن لمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر، ولظمأ الهواجر، وسهر الليالي].(70/11)
تقوى الله وحسن الخلق من طرق الجنة
يقول: أريد الدنيا من أجل هذه الأمور الثلاثة: ظمأ الهواجر بالصيام، وسهر الليالي بالقيام، ومزاحمة العلماء بالركب في مجالس الذكر، أما غير هذه فلا أريدها، رضي الله عنهم وأرضاهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (اتق الله حيثما كنت -وهو عنوان الدرس- وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وفي بعض النسخ: حديث حسن صحيح.
هذا الحديث -أيها الإخوة- يدخل في معناه أيضاً حديث آخر لـ أبي هريرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: ما أكثر ما يدخل الناس النار؟ وما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق، وأكثر ما يدخل الناس النار: الفم والفرج).
فمن طرق النار الفم والفرج، ومن طرق الجنة تقوى الله وخشيته ومراقبته، وحسن الخلق.
وهذا المعنى اشتمل تنظيم العلاقة بين العبد وبين الله عن طريق التقوى، وبين العبد وبين الناس عن طريق الخلق؛ لأن الأخلاق الحسنة هي التي تستطيع أن تستوعب الناس بها، يقول صلى الله عليه وسلم: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن تسعوهم بأخلاقكم) فلو أن عندك ملايين الدنيا فالناس أكثر منك، ولا يسع الناس إلا من خلق الناس، ولا يكفل الناس إلا رب الناس، أما أنت فتستطيع أن تسع الناس كلهم بالأخلاق الحسنة، فتبتسم لهذا، وترد السلام على هذا، وتعطي هذا، وتعفو عن هذا، وتحلم على هذا، فيحبك الناس كلهم، قال صلى الله عليه وسلم: (إن أقربكم مني منزلة يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، وكاد حسن الخلق أن يذهب بخيري الدنيا والآخرة) فأكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق، وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند وابن ماجة والترمذي.
وهذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم بتقوى الله: (اتق الله حيثما كنت) وصية جامعة عظيمة شاملة لحقوق الله والعباد، فإنَّ حق الله عز وجل أن يتقى حق تقاته.
والتقوى وصية الله عز وجل للأولين والآخرين.
وأصل التقوى وحقيقة التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره من عذاب الله وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من العذاب في النار وقاية تقيه من ذلك بفعل طاعته وترك معصيته، هذه هي التقوى: فعل طاعة الله وترك معصيته، وتستطيع أن تعرض نفسك وتزنها وتعرف: هل أنت من المتقين أم أنك من الفجرة الأشقياء، وذلك عن طريق معرفة أوامر الله، وعرضك لنفسك على الطاعات، هل أنت منفذ لها؟ واعرض نفسك على المعاصي، هل أنت واقع فيها، فإذا وجدت أنك منفذ لأوامر الله، مبتعد عن مناهي الله، فاعلم أنك في أعلى درجات المتقين، وإن تكن الأخرى فلا حول ولا قوة إلا بالله!(70/12)
إضافات التقوى في القرآن وتعريفها
تقوى الله عز وجل تضاف أحياناً إلى الله، وأحياناً إلى النار، وأحياناً إلى يوم القيامة، بحسب سياق الوضع في القرآن الكريم، فإذا قيل: اتقوا الله كان معناها: اتقوا عذاب وبطش ونقمة وشدة الله عز وجل، يقول عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المجادلة:9] ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
وتارة تضاف إلى النار كما قال الله عز وجل: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24].
وتارة تضاف إلى يوم القيامة كما قال عز وجل: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] لأن يوم القيامة هو زمان العذاب، والنار هي مكان العذاب، فإذا وعد الله وقال: (اتقوا النار) فإنها المكان الذي يعذب فيه المجرمون، وإذا قال: (اتقوا يوم القيامة) فإنها الزمن الذي يعذب فيه المجرمون.
وعن خوف الله وتقوى الله عز وجل تنشأ حياة القلب، ومن عدم التقوى تنشأ عقوبة الدنيا والآخرة، يقول الله عز وجل: {وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30] ويقول عز وجل: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56] فهو أهلٌ لأن يتقى ويحذر ويخاف منه، وهو أهل لأن يغفر لمن تاب ورجع وخشي عذاب الله عز وجل وشدة الله وبأسه.(70/13)
تعريفات التقوى
التقوى تشمل جميع درجات الدين: فتشمل فعل الواجبات وترك المحرمات، ويدخل فيها أيضاً فعل المندوبات والمستحبات، وترك المكروهات وهي أعلى درجات الدين، يقول الله عز وجل: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] أي: القرآن هدى للمتقين، ثم: ما هي صفاتهم؟: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:3 - 5].
وينادي يوم القيامة كما قال معاذ بن جبل -وهذا له حكم الرفع-: (ينادي منادٍ يوم القيامة: أين المتقون؟ فيقومون -وهم قليل- في كنف الرحمن لا يحتجب منهم ربنا ولا يستتر).
التعريف الأول: قال ابن عباس: [المتقون الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى].
التعريف الثاني: قال الحسن البصري: [المتقون اتقوا ما حرم الله، وأتوا ما افترض الله].
التعريف الثالث: قال عمر بن عبد العزيز: [ليس تقوى الله بصيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله عز وجل ترك ما حرم الله، وأداء ما فرض الله، فمن رزق بعد ذلك شيئاً فهو خير إلى خير] يقول: ليست التقوى أن تصلي وتصوم، ثم تذهب وتغني، وتشرب الدخان، وتحلق اللحية، وترى الأفلام والنساء وأنت تصلي وتصوم، فهذه ليست تقوى، فتقوى الله عز وجل أن تقوم بطاعة الله، وتترك معصية الله، وتزيد خيراً على خير، هذا كلام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه.
التعريف الرابع: قال طلق بن حبيب، وتعريفه كما قال العلماء هو أشمل تعريف للتقوى، قال: [التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخشى عقاب الله] فقد يعمل الإنسان من الطاعة ولكن على جهل، فقد يصلي صلاة ولكن بدون خشوع أو طهارة أو إخلاص، إذ لا بد أن يعمل العمل على نور، وأن يكون هدفك من هذا العمل الصالح أن ترجو ثواب الله، وهذا هو إخلاص، فلا ترجو ثواب الدنيا ولا الرياء ولا السمعة، ولا أن يقال: فلان دين، بل ترجو ثواب الله، وتخشى عقاب الله، أي: لا تخش العار؛ لأن بعض الناس لا يزني لأنه خائف على الوظيفة والسمعة، ولو مكن من الزنا لوقع فيه، ولكن يخاف على سمعته ومكانته، لا.
بل تخشى عقاب الله قبل كل شيء.
هذا معنى التقوى.
التعريف الخامس: قيل: التقوى، وهذا القول ينسب إلى علي رضي الله عنه: [التقوى أربعة أشياء: الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل] فإذا وجدت معك هذه الأربع فأنت متقٍ، فالخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل -أي: القرآن المنزل- والرضا بالقليل مما رزقك الله؛ لأن المقسم هو الله، والاستعداد ليوم الرحيل، فإذا عملت بهذه الأربع فأنت من خيار المتقين.
ويقول أبو الدرداء رضي الله عنه وهو صحابي جليل -وأنا أحب أن أعرج بكم دائماً على سير الصحابة لنكون على علم بهؤلاء الرجال العظماء- أبو الدرداء هذا الصحابي العظيم يقول: [ثلاث أحبهن ويكرههن الناس، قالوا: ما هن يرحمك الله؟ قال: الفقر والمرض والموت، قالوا: وكيف تحبها والناس يكرهونها، قال: أما الفقر فأحبه تواضعاً لربي، وأما المرض فأحبه تكفيراً لخطيئتي، وأما الموت فأحبه للقاء ربي] وكان يقول: [من كان له كنز فليكنزه في السماء؛ فإن القلب معلق بالمال، فإذا كنزت مالك عند الله، تعلق قلبك بالله، وإذا كنزت المال في الأرض تعلق قلبك بالأرض] التعريف السادس: يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: [كمال التقوى: أن يتقي الله حتى يتقيه من مثقال ذرة] يتقي الله من مثقال ذرة؛ لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه} [الزلزلة:7] فلتتق الله أيها العبد ولا تضع مثقال ذرة من العمل الصالح! أو من لحظات عمرك إلا في طاعة الله، ولتتق الله في مثقال الذرة من المعاصي، فإن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:8].
التعريف السابع: قال سفيان الثوري وهو من التابعين: إنما سموا متقين؛ لأنهم اتقوا ما لا يتقى.
وقال موسى عن المتقين: إنهم الذين تنزهوا عن أشياء من الحلال مخافة أن يقعوا في شيء من الحرام، فسماهم الله متقين.
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به مخافة أن يقع فيما به بأس) وهذا هو معنى ترك الشبهات: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) والعياذ بالله.(70/14)
ترجمة ابن مسعود رضي الله عنه وتعريفه للتقوى
سئل ابن مسعود عن معنى تقوى الله رضي الله عنه وأرضاه، وابن مسعود هو عبد الله بن أم عبد الهذلي، كان قصير القامة؛ إذا وقف والناس جلوس كان في مثل طولهم، وكان دقيق الساقين، ولكن يحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فيقول: (من أراد أن يقرأ القرآن غضاً طرياً كأنما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) أي: ابن مسعود، ويقول فيه: (ملئ إيماناً من مشاش رأسه إلى أخمص قدميه).
ويقول وقد طلع يوماً من الأيام في نخلة يريد أن يجني منها ثمراً، فكشفت الريح عن ساقيه؛ فضحك بعض الصحابة لدقة ساقيه، فقال صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من دقة ساقي ابن مسعود، والذي نفسي بيده! لهما أثقل عند الله في الميزان من جبل أحد) فهما ساقان دقيقتان ولكنها أعظم عند الله من جبل أحد؛ لأنها حملت رجلاً من أعظم الرجال، فمن الناس من سيقانه مثل سيقان الفيل ولكنها إلى النار -والعياذ بالله- لأنه لا يقف عليها بين يدي الله، ولا دخل بها بيتاً من بيوت الله، بل يصول بها ويجول في الملاعب والمنتزهات والشواطئ، ولكن أماكن الخير ومواطن الرضا لا يأتيها، هذه إن كانت سمينة، لكنها سمينة وإلى النار.
لكن السيقان الدقيقة لم تحمل هذا الصحابي إلا في الخير، وفي يوم بدر، فـ ابن مسعود لما أسلم كان داعياً لبعض أهل مكة، وهو من قبيلة هذيل وهي قبيلة بجانب مكة، فلما أسلم علم به أبو جهل فلقيه في بعض طرقات مكة، وأمسك أذنه وكان يعركها، وقال له: أصبأت يا رويعي الغنم! قال: فسكت؛ لأنه لا يستطيع أن يتكلم فلو تكلم فإنه سيذبحه، قال: فأمسكني من أذني حتى ألصقني بالجدار ثم أخرج مسماراً من جيبه ودق إصبعي بالمسمار في الجدار، يقول: وبقيت معلقاً بالمسمار طوال يومي، حتى مر أبو بكر رضي الله عنه ففك المسمار والدم يسيل إلى الأرض، قال: فنسيتها.
وجاءت الأيام ودارت الأعوام إلى أن جاءت غزوة بدر، وقتل أبو جهل، قتل بضربتين مختلفتين من معاذ ومعوذ ابني عفراء من الأنصار، ولكنه لم يمت، ولا يزال يلفظ أنفاسه، فقام ابن مسعود يتفقد القتلى، فمر على أبي جهل وهو يكاد يموت، قال ابن مسعود: فصعدت على صدره -وصدر أبي جهل كصدر البعير- وأخذت سيفي وحززت عنقه، فقال لي: لقد ارتقيت مرتقىً صعباً يا رويعي الغنم! إذا قطعت رأسي فأطل عنقي فإن العنق مع الرأس! حتى يبقى رأسي طويلاً وكبيراً، عزة حتى في الموت، الله أكبر! ما أشد عناد هذا الخبيث! يقول: فحززت عنقه -أي: قطعت رأسه- فلم أستطع حمله -فرأسه كرأس الثور كبير لا يُحمل -وابن مسعود صغير، فقد يكون رأسه أكبر من ابن مسعود، قال ابن مسعود: (فحاولت أن أحمل رأسه فلم أستطع، فأخرجت سيفي وخرمت في مسمعه، ثم أتيت بحبل وربطته في مسمعه وسحبت رأسه، حتى قدمت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فلما رآني الرسول تذكر ما حدث في مكة وقال: إيه يا ابن مسعود الأذن بالأذن والرأس زيادة) أذن في مكة بأذن هنا، ولكن معك مكسب؛ وهو الرأس، رضي الله عنه وأرضاه.
وهو الذي يقول: [والله ما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعرف أين نزلت، ومتى نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ليل أو نهار، وفي حضر أو سفر، في حرب أو سلم] عنده تخصص في معرفة كتاب الله، ومعرفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [تقوى الله أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر] أن تطيع الله فلا تعصيه، وأن تذكره، وكيف تنسى ربك الذي خلقك؟!! وما أعظم نعم الله على الإنسان، نعمة الخلق والإيجاد، والرزق والإمداد، والإيمان والإسعاد، ونعم لا تعد ولا تحصى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:53] {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] وأن يشكر فلا يكفر.
وهذا معنى تقوى الله حق تقاته.(70/15)
التقوى ومواطنها
يغلب استعمال التقوى عند التحذير من المعاصي، أي: إذا وجدت أحداً يريد أن يعمل معصية، تقول له: اتق الله، أي: خف الله خصوصاً الصغائر؛ لأن الصغائر يقع فيها الإنسان وهو لا يشعر.(70/16)
تقوى الله في مواطن العصيان
يقول أبو هريرة وقد سئل عن التقوى قال: [هل سلكت وادياً كثير الشوك؟ قال: نعم.
قال: كيف صنعت؟ قال: رأيت الشوك وشمرت وعزمت حتى جاوزته، قال: ذلك التقوى] وأخذ هذا المعنى ابن المعتمر في أبيات له يقول:
خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
والناظم الآخر يقول:
لا تحقرن من الذنوب صغيراً إن الصغير غداً يصير كبيرا
إن الصغير وإن تقادم عهده عند الإله مسطر تسطيرا
والنبي صلى الله عليه وسلم يحذر من محقرات الذنوب، يقول: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنها تجتمع على المرء حتى تهلكه) وضرب بهذا مثلاً والحديث في مسند أحمد، قال: (كقوم نزلوا في فلاة فلم يجدوا حطباً، فقال لهم كبيرهم: كل واحد يأتي بعود، فانبثوا كلهم، وجاء كل واحد بعود، وأوقدوا النار وصنعوا الطعام واحتملوا منه) وكذلك المعاصي تأتي من كل طريق هذه بسيطة وهذه بسيطة ثم تأتي عليها وهي مثل الجبال الراسيات، والله تعالى يقول: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15].
أما أصل التقوى -أيها الإخوة- فهو: أن يعرف العبد ما يتقى حتى يتقيه؛ لأنك لو لم تعرف الربا أو الزنا لم تتقه، وإذا لم تعرف النظر الحرام لم تتق النظر الحرام، فلا بد من العلم بطاعة الله والعلم بالمعاصي، حتى تتقي هذه الذنوب.(70/17)
وجوب تقوى الله في السر والعلن
كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي أمته بتقوى الله عز وجل في كل مناسبة، وإذا بعث أميراً على سرية أو غزوة يقول له: اتق الله، ويوصيه بالمسلمين خيراً، ولما خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع؛ الخطبة النهائية التي ليس بعدها إلا موته صلى الله عليه وسلم وصى الناس بتقوى الله وقال: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة لأئمتكم).
ولما وعظهم الموعظة المؤثرة التي يرويها العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة عظيمة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودعٍ فأوصنا، فقال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة).
فكان يوصي صلى الله عليه وسلم بتقوى الله عز وجل، وأيضاً روى الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن سعد بن مالك رضي الله عنه لما قال: أوصني يا رسول الله! قال: (أوصيك بتقوى الله، فإن تقوى الله رأس كل شيء، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام).
وفي الترمذي أيضاً من حديث أبي سلمة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (يا رسول الله! إني سمعت منك حديثاً كثيراً فأخاف أن ينسيني أوله آخره -يقول: سمعت كلاماً كثير وأخشى أن يأتي الكلام الأخير فينسيني الكلام الأول- فحدثني بكلمة جامعة لكل شيء، فقال صلى الله عليه وسلم: اتق الله فيما تعلم).(70/18)
التقوى وصية الصالحين
لم يزل السلف رضي الله عنهم من الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة يتواصون بها.
فقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول في خطبته: [أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو أهله، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، وأن تجمعوا الإلحاح بالمسألة، فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]] وعمر لما حضرته الوفاة كان يقول لأولاده: [اتقوا الله].
وكان علي إذا استعمل سرية أو رجلاً على سرية قال له: [أوصيك بتقوى الله، واجعل تقوى الله نصب عينيك، فإنه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جازاه، ومن شكره زاده] فاجعل تقوى الله عز وجل بين عينيك.
وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه الخليفة الخامس إلى رجل، فقال: [أوصيك بتقوى الله الذي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل].
إي والله أيها الإخوة في الله! إن القائمين والواعظين بهذه الكلمة كثير، ولكن الواقفين عندها والعاملين بها قليل إلا من عصم الله، فالله المستعان! يقول الناظم:
شقيت بما جمعت فليت شعري ورائي من يكون به سعيدا
أي: هذا المال الذي أخلفه من سيكون به سعيداً من بعدي؟
أعاين حسرة أهلي ومالي إذا ما النفس جاوزت الوريدا
يقول: أرى أهلي وعمارتي ومالي إذا النفس جاوزت الوريدا:
أُعدِّ الزاد من تقوى فإني رأيت منيتي سفراً بعيدا
تبدل صاحبي في اللحد مني وهال على مناكبي الصعيدا
فلو أبصرتني من بعد عشرٍ رأيت محاسني قد صرن دودا
وحيداً مفرداً يا رب لطفاً بعبدك حين تتركه وحيدا
الله المستعان! ولا إله إلا الله! لا إله إلا الله من تلك المواقف التي سنمر بها في يوم القيامة! لا إله إلا الله من تلك المواقف التي سنمر بها في عرصات القيامة! ولا إله إلا الله من ذلك الضيق وتلك الظلمات التي سوف نعيشها في القبور! يقول ابن قدامة، لما رأى شيبة في رأسه:
أبعد بياض الشعر أعمر مسكناً سوى القبر إني إن فعلت لأحمق
يخبرني شيبي بأني ميت وشيكاً وينعاني إليَّ فيصدق
تخرق عمري كل يوم وليلة فهل مستطيع رقع ما يتخرق
يقول: هل أحد يرقع ما يخرقه الزمان؟ لا والله! يقول:
كأني بجسمي فوق نعشي ممداً فمن ساكن أو معول يتحرق
إذا سئلوا عني أجابوا وأعولوا وأدمعهم تنهل هذا الموفق
يعني: الموفق بن قدامة:
وغيبت في صدع من الأرض ضيق وأودعت لحداً فوقه الصخر مطبق
ويحثو عليَّ الترب أوثق صاحب ويسلبني للقبر من هو مشفق
فيا رب كن لي مؤنساً يوم وحشتي فإني لما أنزلته لمصدق
وما ضرني أني إلى الله سائر ومن هو من أهلي أبر وأرفق
فيقول عمر رضي الله عنه: [إن الواعظين بها كثير، وإن العاملين بها قليل].
وخطب يوماً رضي الله عنه وأرضاه فقال: [أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف].
ويقول يونس بن عبيد: أوصيك بتقوى الله والإحسان؛ فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
وكتب رجل إلى أخٍ له: أوصيك بتقوى الله، فإنها أكرم ما أسررت، وأزين ما أظهرت، وأفضل ما ادخرت، أوصيك بتقوى الله، أعاننا الله وإياكم على طاعته وتقواه.
وكتب يقول: أوصيك وأنفسنا بتقوى الله فإنها خير الزاد، والله يقول: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197] ولما سأل شعبة رجل وكان يريد سفراً قال له: أوصني، قال: أوصيك بتقوى الله فإنها وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.(70/19)
طرق تحصيل التقوى
كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلب من الله عز وجل أن يرزقه التقى والعفاف والغنى.
وطريق ذلك -أيها الإخوة- الشعور بأن الله مطلع على الإنسان في هذه الدنيا، فهذه ثمرة وأصل التقوى.
ومنهاج التقوى؛ إذا شعرت بأن الله مطلع عليك، ويعلم سرك ونجواك، ومطلع على ظاهرك وباطنك، واستحضرت ذلك في خلواتك وجلواتك، كان هذا حاجزاً لك عن المعاصي والذنوب.
وإلى هذا يشير معنى قول الله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] ويقول الشافعي: أندر الأشياء في الدنيا ثلاثة قيل له: ما هي؟ قال: الجود من قلة، أي: كريم وليس عنده شيء، والورع من خلوة، أي: يخاف الله وحده في الليل وهو نائم، ويمر بغرفة نومه على أغنية من الأغاني التي كان يحبها في أيام جاهليته فيتقطع قلبه شوقاً إليها، ولكنه يعلم أن الله يعلم مكانه ويسمعه ويراه فيدير المؤشر ويبعدها خوفاً من الله، هذا هو المتقي حقيقة.
المتقين لله حق تقاته والعارفون مكائد الشيطان
خافوا الإله فخافهم كل الورى حتى ضرار الأسد في الغيران
التقوى هي: إذا خفت الله عز وجل واتقيت الله تبارك وتعالى، يقول الشافعي: وكلمة الحق عند من يرجى أو يخاف.
وكتب ابن السماك يعظ أخاً له فقال: أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك، ورقيبك في علانيتك، واجعل الله من ذلك على كل حال في ليلك ونهارك، وخف الله بقدر قربك منه، وقدرته عليك، واعلم أنك بعينه لست تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره، ولا من ملكه إلى ملك غيره، فليعظم منه حذرك وليكثر منه خوفك ووجلك والسلام.
وقال أبو الجلد: أوحى الله إلى نبي من الأنبياء أن يقول لقومه: ما بالكم تستترون بالذنوب من الخلق، وتبارزون بها الخالق.
يقول: لماذا إذا أراد الشخص أن يعصي الله ينظر في الأبواب والنوافذ والناس، ثم لا يطالع في السماء، يقول: قل لقومك: ما بالهم يستترون بالذنوب عن الخلق ولا يستترون عن الخالق، إن كنتم تعتقدون أنني لا أراكم فقد كفرتم.
فالذي يمارس المعصية ويعتقد أن الله لا يراه، ما حكمه?
الجواب
كافر؛ لأن الله يعلم كل شيء، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة:7] يسمع دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء.
: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المجادلة:7] فإذا كنتم تعتقدون أن الله لا يراكم وأنتم على المعصية فقد كفرتم، وإن كنتم تعتقدون أن الله يراكم فقد تجرأتم على مولاكم لما جعلتموه أهون الناظرين إليكم، فهل يستطيع أحد أن يرتكب المعصية وهو يعلم أن أحداً يراه؟ إذا خلا الرجل بامرأة ونظر ذات اليمين وذات الشمال فلم ير أحداً، ثم خلال قيامه عليها رأى طفلاً رضيعاً، هل يستطيع أن يزني والطفل يراه؟ لا.
يخاف من طفل صغير، فكيف لا يخاف من الله؟!! دخل رجل على امرأة وأغلق الأبواب باباً تلو باب، حتى إذا وصل إليها قالت له: أغلقت الأبواب؟ قال: أغلقتها، قالت: بقي باب، قال: أين هو؟ قالت: الذي بينك وبين الله.
الأبواب التي بينك وبين الخلق أغلقتها ولكن بقي بينك وبين الله باب لم تغلقه، فقام الرجل خائفاً.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
وأنا أقول دائما لإخواني الشباب: ضعوا هذا المعيار أمام أعينكم، إذا خلوت بنفسك في الليل في أي مكان؛ في السماء أو الأرض، أو تحت أي سماء أو فوق أي أرض، وأردت أن تعصي الله، فتذكر هذين الأمرين: إن كنت تعتقد أن الله يراك فكيف تبارز الله، وتتجرأ عليه، ولا تعظمه؟!! وإن كنت تعتقد أن الله لا يراك؛ فقد كفرت والعياذ بالله!! ليس لك خيار: إما أن تقول: لا والله.
أنا أعتقد أن الله يراني، فنقول: قم من المعاصي! ولا تعصه وهو يراك، أو تقول: الله لا يراني، نقول: أحسن الله عزاءك في إسلامك.(70/20)
تقوى الله في الخلوات والجلوات
جاء رجل إلى شقيق البلخي وقال له: إن ذنوبي كثيرة، وقلبي قاسٍ، وعيني متحجرة، ولا أبكي من خشية الله، وأقع في المعاصي فعظني، قال له: إذا أردت أن تعصي الله فاخرج من أرض الله قال: أين أذهب والأرض كلها لله؟ قال: إذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزق الله.
قال: ومن أين آكل إلا من رزق الله؟ قال: إذا أردت أن تعصي الله وأنت تسكن في أرضه وتأكل من رزقه، فاذهب إلى مكان لا يراك فيه أحد.
قال: وأين أذهب والله يراني في كل مكان؟ قال: إذا أردت أن تعصي الله وأنت تسكن في أرض الله وتأكل من رزقه وهو يراك، فإذا جاء ملك الموت يقول لك: قد حان موتك، فقل له: لا.
لن أذهب معك، أنا رجل لا أحب القبور، أنا أحب القصور والزوجات، أما القبور فليس فيها إلا وحشة، أنا لا أستطيع أن أنام في غرفة أو عمارة لوحدي، قال: لن يطيعني ملك الموت فيما أريد.
قال: إن أردت أن تعصي الله وأنت تسكن في أرضه وتأكل من رزقه وهو يراك، وتعرف أنه سيدعوك بالموت، فإذا أمر الله الملائكة يوم القيامة أن يأخذوك إلى النار فارفض أن تذهب معهم! وقل: والله لا أدخل النار، أنا رجل أريد الجنة، هل يطيعونك يوم القيامة؟ قال: لا؛ لأن الله يقول: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} [التحريم:6] قال العلماء: غلاظ في الخلقة، شداد في الأخلاق.
قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! يؤتى بجهنم يوم القيامة تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، وإن الملك الواحد ليأخذ بيده هكذا فيلقي سبعين ألفاً في النار).
راود أعرابي امرأة في الصحراء وقال لها: لا يرانا إلا الكواكب، وهي تمتنع وتقول: لا.
قال: لا أحد يرانا إلا الكواكب والنجوم، قالت له: فأين مكوكبها؟! أي: أين الله الذي يراك، إن كان لا يراك إلا النجوم والكواكب فإن الله الذي خلقها وكوكبها يراك؟ وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسير في طريق ومعه الأحنف بن قيس، فمروا على راعي غنم فقال له عمر: يا راعي الغنم! بعنا شاة من هذه الغنم، فقال الراعي: إنني والغنم مملوكين لسيدي ولا أملك شيئاً، فقال: بعنا شاة وقل: أكلها الذئب، فرفع الغلام بصره إلى السماء وقال: وأين الله؟ فبكى عمر رضي الله عنه حتى اخضلت لحيته، وذهب إلى سيد هذا الراعي واشتراه وأعتقه، وقال: كلمة أعتقتك في الدنيا وأرجو الله أن تعتقك من النار يوم القيامة.
والناظم يقول:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب
وقال الآخر:
أقول إذا ضاقت عليَّ مذاهبي وحل بقلبي للهموم ذنوب
لطول جنايتي وعظم خطيئتي هلكت وما ليَّ في المتاب نصيب
يذكرني عفو الكريم عن الورى فأحيا وأرجو عفوه وأنيب
فأخضع في قولي وأرغب سائلاً عسى كاشف البلوى عليَّ يتوب
يا مدمن الذنب أما تستحي والله في الخلوة ثانيكا
غرك من ربك إمهاله وستره طول مساويكا
المقصود أيها الإخوة: أنه صلى الله عليه وسلم لما أوصى معاذاً بهذه الوصية العظيمة، أمره بتقوى الله سراً وعلانية، قال: (اتق الله حيثما كنت) في الليل والنهار، والسر والجهار، والخلوة والجلوة، والسماء والأرض، وكل مكان.
اتق الله في نظرك فلا تطلقه فيما حرم الله، واتق الله في أذنك فلا تسمع بها ما حرم الله، واتق الله في لسانك فلا تتكلم به فيما حرم الله، واتق الله في فرجك فلا تطأ به ما حرم الله، واتق الله في قدمك فلا تسر بها إلى ما حرم الله، واتق الله في يدك فلا تمدها إلى ما حرم الله، واتق الله في زوجتك فلا تأمرها بمعصية الله، واتق الله في ولدك فلا تربه على معصية الله، واتق الله في بيتك فلا تملأه بمعصية الله، واتق الله في عملك، وأخلص فيه حتى يكون دخلك حلالاً، واتق الله في كل شيء اتق الله حيثما كنت.
ونقول أيضاً للمرأة المسلمة، لعلها تسمع في هذا المسجد أو في خارج المسجد من خلال الشريط: اتقي الله أيتها المرأة المسلمة في صلاتك فلا تضيعيها، وحجابك؛ فإن الحجاب دين، وليس موضة ولا تقليداً ولا عرفاً ولا عادة، الحجاب دين الله وشريعته، الحجاب الساتر هو ما يستر المرأة من رأسها إلى أخمص قدميها، اتقي الله في حجابك، اتقي الله في عباد الله ولا تؤثمي العباد، ولا تعرضين العباد للمعصية؛ لأن المرأة إذا تبرجت وخرجت ورآها الناس عرضتهم لمعصية الله، فقد كانت سبباً في معصية الله، ما من عين تنظر بها إلا سمر الله في كل عين وجسد مسماراً من نار يوم القيامة.
اتقي الله في أولادك وربيهم على طاعة الله، واتقي الله في زوجك في طاعته، وحفظ عرضه وماله وولده، اتقي الله أيتها المؤمنة في كل شئونك، حتى تدخلي الجنة وتكوني من المتقين لله عز وجل.(70/21)
التقوى مطلوبة في كل شيء
المقصود أيها الإخوة: أنه صلى الله عليه وسلم لما أوصى معاذاً بهذه الوصية العظيمة، أمره بتقوى الله سراً وعلانية، قال: (اتق الله حيثما كنت) في الليل والنهار، والسر والجهار، والخلوة والجلوة، والسماء والأرض، وكل مكان.
اتق الله في نظرك فلا تطلقه فيما حرم الله، واتق الله في أذنك فلا تسمع به ما حرم الله، واتق الله في لسانك فلا تتكلم به فيما حرم الله، واتق الله في فرجك فلا تطأ به ما حرم الله، واتق الله في قدمك فلا تسر بها إلى ما حرم الله، واتق الله في يدك فلا تمدها إلى ما حرم الله، واتق الله في زوجتك فلا تأمرها بمعصية الله، واتق الله في ولدك فلا تربه على معصية الله، واتق الله في بيتك فلا تملأه بمعصية الله، واتق الله في عملك، وأخلص فيه حتى يكون دخلك حلالاً، واتق الله في كل شيء اتق الله حيثما كنت.
ونقول أيضاً للمرأة المسلمة، لعلها تسمع في هذا المسجد أو في خارج المسجد من خلال الشريط: اتقي الله أيتها المرأة المسلمة في صلاتك فلا تضيعيها وحجابك؛ فإن الحجاب دين، وليس موضة ولا تقليداً ولا عرفاً ولا عادة، الحجاب دين الله وشريعته، الحجاب الساتر هو ما يستر المرأة من رأسها إلى أخمص قدميها، اتقي الله في حجابك، اتقي الله في عباد الله ولا تؤثمي العباد، ولا تعرضين العباد للمعصية؛ لأن المرأة إذا تبرجت وخرجت ورآها الناس عرضتهم لمعصية الله، فقد كانت سبباً في معصية الله، ما من عين تنظر بها إلا سمر الله في كل عين وجسد مسماراً من نار يوم القيامة.
اتقي الله في أولادك وربيهم على طاعة الله، واتقي الله في زوجك في طاعته، وحفظ عرضه وماله وولده، اتقي الله أيتها المؤمنة في كل شئونك، حتى تدخلي الجنة وتكوني من المتقين لله عز وجل.(70/22)
آثار التقوى
تقوى الله عز وجل -أيها الإخوة- هي جماع كل شيء، وهي في السر كما هي في العلن، ولها تأثير على قلوب الناس؛ لأن من أضمر التقوى وأظهرها وعمل بها؛ قذف الله له النور في الأرض، وألقى الله له الحب والقبول في الأرض.
وما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها سراً أو علانية.
وما من شيء تخفيه إلا والله يظهره، يقول أبو الدرداء: [ليتق أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر، قيل: كيف؟ قال: يخلو بالمعاصي فيلقي الله له البغض في قلوب الناس] فانتبه من معاصي الخلوة، فإنها مصيبة تنعكس مباشرة على الناس فيعرفونها فيك، ويقول الرسول عليه السلاة والسلام كما في حديث ثوبان والحديث في مسند أحمد، قال: (يؤتى برجال يوم القيامة معهم حسنات كأمثال جبال تهامة، فيقول الله لها: كوني هباءً.
قالوا: لم يا رسول الله؟! قال: كانوا إذا خلوا بالله بارزوه بالعظائم) أي: هذه مصيبتهم أنهم يصلون ويصومون، ولكنهم إذا انفردوا ووقع بينهم وبين الناس حجاب، فإنهم لا يذكرون أن الله يراهم.
أما المؤمن التقي لو كان في البحر وليس معه أحد فلا يمكن أن يقع في معصية الله؛ لأنه يستشعر مخافة الله، ويضع مراقبة الله بين عينيه! هذه هي التقوى، وإذا عمل الإنسان هذا ألقى الله عز وجل له القبول والحب.
يقول أحد السلف: [إن العبد ليذنب الذنب فيما بينه وبين الله، ثم يجيء إلى إخوانه فيعرفون أثر ذلك] وهذا من أعظم الأدلة على وجود البارئ تبارك وتعالى، وقال أحد السلف: [إني لأعصي الله فأرى ذلك في سلوك زوجتي وخلق دابتي] يقول: الدابة والمرأة تعصيني، لماذا؟ لأني عصيت الله، لكن إذا لم تعصِ الله فإنك تجد كل شيء طيب، حتى ضرار الأسد في الغيران، كما يقول:
خافوا الإله فخافهم كل الورى حتى ضرار الأسد في الغيران
كان صلة بن أشيم العدوي رضي الله عنه من خيار المتقين، فهو شهيد وأبوه شهيد، كان يصلي في الليل في الغابات؛ وكان يقاتل في النهار وفي الليل يصلي، وفي ليلة من الليالي جاء يصلي فجاء أسد فشم الأسد رائحة الرجل وقرر أن يفترسه، فاقترب منه فكان يحطم الأشجار حتى وقف عنده، فما استطاع أن يتحرك أو يتقدم، فانتهى من الصلاة ونظر إلى الأسد وقال: أيها الكلب امض لما أمرك الله به، لا تشغلنا عن صلاتنا، ثم رجع وكبر، فقام الأسد يلوي ذيله ويزأر زئيراً يحطم الجبال، وتركه وذهب.
ولكن بعض الناس عندما يصلي وينظر بعوضة، يرميها بيده ولا يستطيع أن يترك البعوضة، فكيف بهذا الذي ما أشغله أسد أتاه ثائراً.
يقول هذا الرجل: [إني لأعصي الله فأرى أثر ذلك في سلوك زوجتي، وخلق دابتي].
ومن أغرب وأعجب ما روي: عن أبي جعفر السائح، قال: كان حبيب أبو محمد تاجراً، فمر ذات يوم بصبيان وهم يلعبون، فقال بعضهم: جاء آكل الربا -تاجر صيرفي، فمر على أطفال صغار وهم يعرفونه لكن أحدهم نظر بنور الله فقال: هذا يأكل الربا- قال: فرجعت وقلت: يا رب! أفشيت سري إلى الصبيان، فرجع هذا الرجل يبكي وقال: سري الذي لا يعرف به أحد أفشيته حتى عرفه الأطفال! كيف عرفوا أني أرابي؟!! ثم جمع ماله وقال: يا رب! إني أسير وإني أفتدي وأشتري نفسي منك بهذا المال، فأعتقني يا مولاي، ثم أصبح وتصدق بالمال الذي عنده كله، ثم مر في اليوم الثاني على الصبيان وهم يلعبون، فلما رآهم قال أحد الصبيان: اسكتوا.
جاء العابد، فبكى وقال: يا رب! أنت تذم مرة وتحمد مرة وكل ذلك عندك.
فيا أخي! عليك أن تراقب الله حتى يمدحك الله، وإياك أن تراقب الناس وتبارز الله بالمعاصي، وتستخفي من الناس ولا تستخفي من الله، فإذا ذمك الله فلا ينفعك مدح العالمين، وإذا مدحك الله فلا يضرك ذم العالمين، فإن الحياة والموت، والضر والنفع، والإعطاء والمنع، والخفض والرفع بيد الله، والناس لا يملكون لأنفسهم موتاً ولا حياةً، ولا بعثاً ولا نشوراً، بل كل شيء بيد الله، فراقب الله واتق الله حيثما كنت، أقولها بدءاً وختاماً، وأسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يرزقنا تقواه.
اللهم ارزقنا تقواك واجعل تقواك بين أعيننا يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
وأشكر باسمكم جميعاً مركز الدعوة والإرشاد بمنطقة جدة، وفي مقدمة العاملين به فضيلة أخي الشيخ الداعية علي الحكمي على هذه الجهود المباركة المشكورة التي يبذلونها في سبيل دعوة المسلمين، والتي من أبرزها تنظيم هذا البرنامج الشتوي الطيب المناسب الذي غطى كامل الليالي، واستمتع به المؤمنون الذين جاءوا إلى جدة من أجل أن يقضوا فترة الشتاء في هذا الجو الدافئ، فيجدوا هذا البرنامج الإيماني الذي يشغل أوقاتهم في محاضرات ليلية، ولقاءات إيمانية بالعلماء والدعاة والمشايخ، وأيضاً لذلك المكان الطيب الذي عملوه على شاطئ البحر؛ ذلك المخيم الإسلامي الذي أقامه مركز الدعوة بإذن من المسئولين على ذلك العمل.
وهذا المكان يلتقي فيه الشباب المؤمن من أجل المذاكرة والمدارسة واللقاءات الإيمانية، فأنا أشكرهم على هذا، وأدعو إخواني الشباب أن يشجعوا هذا اللقاء وهذا المخيم، وأن يأتوا إليه ويقضوا أوقاتهم فيه من بعد صلاة العصر أو المغرب أو العشاء، ففيه يلتقي أهل الإيمان في رياض الإيمان مع العلماء والدعاة في حلقات ولقاءات إيمانية، أرجو الله أن يبارك في هذا العمل.
وأيضاً ألفت أنظاركم في كل وقت ومناسبة وحين إلى ضرورة دعم مشروع الزواج الخيري في مدينة جدة؛ لأن هذا المشروع الدعم فيه ليس مرة واحدة، بل الدعم متواصل في كل مناسبة ووقت، وإذا مررت بصندوق أدخل ريالاً، ليكون لك بهذا الريال لبنة في بناء أسرة تعيش على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا المشروع يشترط فيمن يدفع له إعانة الزواج أن يكون من الصالحين ليبني أسرة ويلتصق بامرأة مؤمنة، وينجب منها أولاداً صالحين، فتنشأ الخلايا الإيمانية في المجتمع، فأحثكم على التبرع، كما أحثكم على التبرع أيضاً لإخوانكم المجاهدين الأفغان، الذين ينتظرون دعمكم في كل وقت وحين، وبالأبواب صناديق لهيئة التبرعات، سواء من جمعية رعاية المتزوجين، أو من جمعية إغاثة المجاهدين الأفغان.
أسأل الله أن يعينني وإياكم، ولا نبالي بالقليل ولو أنفقتم ريالاً أو خمسة أو عشرة ريالات: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39].
وإلى بعض الأسئلة باختصار؛ لأن الوقت قد ضاق عليكم.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(70/23)
الأسئلة(70/24)
نصيحة إلى مرتكبي المنكرات
السؤال
تكلمتم عن التقوى في مطلع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت) وأجدتم جزاكم الله خيراً، ولكن أحب أن تذكر بعض إخواننا هدانا الله وإياهم فقد جاءوا إلى هذه المدينة، وعندما يرى أحدهم المنكرات تضعف عنده التقوى، ويفعل بعض المنكرات فيسمح لنسائه بالتبرج وكشف الوجه وغير ذلك، فهل من نصيحة لهم?
الجواب
نعم.
نحن ننصح وبملء أفواهنا من يأتي من بلاده من أجل قضاء عطلة الصيف أو نصف العام الدراسي؛ يأتي إلى المدن ويترك الحرم الشريف والحرم النبوي الشريف ولا يقوم بعمرة ولا يؤدي زيارة ولا يقوم بطاعة، إنما ينصب خيمته على الشاطئ ويبرج زوجاته، ويرفع أجهزة الشر بالأغاني والأفلام والمسلسلات، ويأكل من نعم الله ويمارس معاصيه، فنقول له: اتق الله عز وجل، اتق الله في النعم التي تتمتع بها، وفي الأمن الذي تنعم به، والعافية التي أنت فيها، والخيرات التي بين يديك، وزوجتك التي معك، وأولادك الذين في عنقك، والمجتمع الذي تعيش فيه، إذا كنت مسلماً ومؤمناً وفيك الخير إن شاء الله فاتق الله تبارك وتعالى، ولا مانع من أن يأتي الإنسان إلى أخذ عمرة ثم يذهب إلى جدة من أجل أن يتمشى أو يمارس شيئاً من النزهة فلا مانع ولكن بشروط شرعية: منها: ألا يدخل إلى أماكن الحرام والتبرج والاختلاط، وما يكثر فيه النساء والأسواق التي فيها تكشف، ولا يأخذ أهله معه ولا يسمح لزوجاته وبناته أن يمارسن المعصية أبداً، بل عليه أن يذهب بهم إلى الأماكن الطاهرة النظيفة التي فيها خير والتي لا تمارس فيها المعاصي، أما أن يأتي إلى هذا فهو يخسر خسارة كبيرة.(70/25)
نصيحة لمن لا يعمل بما سمعه من وعظ وتذكير
السؤال
فضيلة الشيخ: ما أحوجنا إلى العمل، فأكثر الناس يسمعون الكلام، ولكن لنا ولهم موقف إيجابي ينعكس على حياتهم، فهناك من يسمع ولا يطبق، فهل من نصيحة?
الجواب
أخشى ما نخشاه -أيها الإخوة- أن يصبح الناس مدمنين على المحاضرات، ويكون الهم الأول والأخير أن يحضر من أول الوقت إلى آخره، ثم يخرج إما أن يثني أو يذم، ولا يكون لهذه المحاضرة أثر في حياته، وهذا ليس فيه مصلحة، بل هذه حجج عليه، والصحيح أن تكون هذه المحاضرة بمثابة الوصفة الطبية التي تعرض نفسك عليها، وكلما سمعت شيئاً تسأل نفسك: فإذا سمعت أمراً بالصلاة تسأل نفسك، وإذا سمعت أمراً بطاعة الله تسأل نفسك، وإذا سمعت النهي عن المعاصي تسأل نفسك: أين أنت منه؟! ثم تحاسب نفسك في كل لحظة وتعود إلى الله وتغير حالك إلى الأحسن، فإذا اتبعت هذا الأسلوب فإن كل محاضرة تحضرها تزيدك إيماناً وصلاحاً وتقوى عند الله عز جل، أما إذا اكتفيت من الحضور بالسماع فهذا لا يكفي، أي: قبل المحاضرة تغني وبعد المحاضرة تذهب لتغني، وقبل المحاضرة أنت مدخن وتشعل السيجارة عند باب المسجد، وقبل المحاضرة أنت على الأفلام وبعد المحاضرة تسهر على الأفلام، وقبل المحاضرة كنت تمشي في الشارع وتنظر إلى النساء وتمتع نظرك بالحرام، وبعد المحاضرة مستعد أن تنظر في الحرام، نعم.
ما قيمة هذا الحضور؟ إن مثل هذا كمن يأتي إلى الطبيب فيأخذ الأدوية كلها ثم يرميها في القمامة ولا ينتفع بها.
لا.
نحن نأتي إلى هنا؛ لأن هذه المحلات مستشفيات القلوب، والعلماء هم أطباء القلوب، والدواء من القرآن والسنة، ومن صيدلية الرحمن نأخذ هذا العلاج ونتناول هذه الجرعات من أجل أن تصح قلوبنا وجوارحنا وأجسادنا فنعيش حياة الإيمان.(70/26)
حكم تخويف الأطفال بالخرافات
السؤال
هل حكاية النمنم صحيحة، أم إشاعة?
الجواب
أعيد لكم السؤال لأن البعض منكم ما سمع السؤال، شخص رأى أناساً يضربون رجلاً فجاء يضربه معهم، قالوا: لماذا تضربه؟ قال: مثلكم أتقرب إلى الله.
فبعضكم ربما ضحك وهو لم يسمع السؤال، يقول السؤال: هل حكاية النمنم صحيحة، أم إشاعة؟ النمنم شيء يخوف النساء به الأطفال ويقولون: إنه يأكل الناس، هذه أسطورة وخرافة ولا حقيقة لها، ولا يوجد نمنم يأكل الناس؛ لأن البشر لا يأكل إلا اللحم والرز والفاكهة والبرتقال والتفاح، أما أن هناك بشراً يأكل البشر فهذا غير صحيح، وهذه من أسوأ الطرق لتربية الأولاد، فلا تخوف الولد أبداً؛ لأنك إذا خوفته وهو صغير صدقك، وهو لا يصدق إلا أباه وأمه.
ومن الخرافات أيضاً قولهم: (اسكت من السعلية) هذا كله تخويف بالباطل ولا يجوز، فلا تخوف ولدك وتحضر له العقد النفسية، وإذا خرج ورأى ظله خاف، لا تخوفه إلا من الله عز وجل، وما يدور كله كذب.
وهذه مصيبة! فإذا كان الكبار يخافون من النمنم، حتى لو أن إنساناً يريد أن يأكلك كله، أو يريد أن يعضك عضه، أي: أنت مثله وليس أسداً أو أي شيء.
والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(70/27)
حقيقة الإيمان [1، 2]
كل إنسان في هذه الحياة تطرأ عليه تساؤلات تتعلق بحياته من حيث: نشأته، ومصيره، وتساؤلات تتعلق بالكون والخلائق من حوله.
وهذه التساؤلات وإن كانت تفيد الإنسان في إدراكه بأن لكل هذه المنظومة خالقاً ومصرفاً، إلا أن هذا الإدراك لا يمثل حقيقة الإيمان التي يجب أن يصل إليها الإنسان ليسعد في أولاه وأخراه.(71/1)
حقيقة الإيمان علم لابد له من معلم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: ما هذه الحياة؟ وما حقيقتها؟ ومن أين أتى إليها هذا الإنسان؟ ولماذا جاء إليها؟ وإلى أين سينتقل بعد أن يؤدي دوره على مسرحها؟ أسئلة تتردد في ذهن كل إنسان، أسئلة محيرة، وقد عجزت كل الفلسفات والمذاهب في القديم والحديث عن الإجابة على هذه التساؤلات؛ لأن الذكاء والعبقرية والعقل لوحده لا يستطيع أن يجيب على هذه الأسئلة؛ لأن العلم بالشيء لا بد أن يكون من معلم، فلو جئت -مثلاً- بشابٍ يعيش في أغوار تهامة أو في الصحراء، ودرجة الذكاء عنده متوقدة، أي: ذكي جداً لدرجة العبقرية، ولكنه لم يدرس في المدارس وأعطيته مسألة رياضية أو فك أقواس وقلت له: فك لي هذه الأقواس.
وهو لم يدرس شيئاً حتى الحروف الأبجدية، فهل يستطيع ذلك بذكائه وعبقريته وفطرته فقط أو لا بد من أستاذ الرياضيات ليعلمه؟ كذلك لو جئت إلى أستاذ (الإنجليزي) الذي يقرأ اللغة (الإنجليزية) والذي ننظر إليه بإعجاب وهو كالبلبل يترنم بها، لو جئناه برسالة باللغة (الأردية) -لغة الباكستانيين- وقلنا: يا أستاذ (الإنجليزي) اقرأ هذه الرسالة.
قال: لا أدري.
ثم قلنا له: تعرف (الإنجليزي) وما تعرف هذه؟! قال: نعم.
اللغة (الإنجليزية) أعرفها؛ لأني درست حروفها وأبجدياتها وكلماتها وتركيباتها وقواعدها وكل ما فيها عرفته، لكن هذه لغة تختلف عن هذه اللغة فلا أعرف منها حرفاً واحداً.
لكن أنت ذكي؟! - أنا ذكي في مجال تخصصي، لكن شيئاً لم أدرسه لا أعرفه.
وكذلك قس على هذا في كل العلوم، لا يمكن بالعقل لوحده أو بالذكاء أن تدرك علماً من العلوم إلا بالمعلم، أليست هذه قاعدة؟(71/2)
وسائل إدراك الغيبيات
علم الآخرة، ولماذا جئنا، وما الهدف من مجيئنا، وأين سنكون بعد أن نموت، هل يمكن أن نتعلم ذلك من رءوسنا بدون معلم؟ لا يمكن، وإذا قمنا ووضعنا علوماً من رءوسنا حول هذه المواضيع تكون علومنا غير سليمة مثل البَدَوِي الذي تعطيه مسألة رياضية وتقول له: حلها لي، يحلها خطأً؛ لأنه لا يعرف يفك الأقواس، ولا المعادلة (س تربيع مع س ص)، فإذا قلت له: والله إما أن تحل المسألة هذه وإلا أذبحك، ماذا يصنع؟ يحلها خطأ، وإذا حلَّها خطأً تصبح النتائج خطأ، وتستمر سلسلة الأخطاء؛ لأنه ليس عنده معلم، وما تعلم ممن يملك العلم في هذا المجال، والبشرية لما أرادت أن تدخل نفسها في علوم لا تعرفها، ولا عندها أهلية العلم بها وقعت في الخطأ، فعندما تسأل نفسها: لماذا جئنا؟ لا تدري بالجواب؛ لأنه ليس هناك معلم يعلمها (لماذا جاء) فما اهتدوا إلى شيء إلا أن قالوا: جئنا لنعيش.
إذاً: تعيشون لماذا؟ قال: نعيش لنأكل.
وتأكل لماذا؟ قال: آكل لكي أعيش.
وأعيش لآكل، وفي حلقة مغلقة ودائرة مستديرة، يأكل ليعيش ويعيش ليأكل.
وبعد ذلك والنهاية؟! قال: والنهاية الموت.
إذاًَ: أنت كنت من قبل ميتاً في العدم أفتخلق من أجل أن تموت؟! لو كان الغرض أن الله خلقك من أجل أن تموت، فقد كنت ميتاً ولم يكن هناك داع لأن تأتي، فلا داعي لأن تحمل بك أمك تسعة أشهر وتضعك كرهاً وتحملك وتربيك، ثم أنت تعاني ثم تتعب ثم تدرس، ثم تعيش ستين أو سبعين سنة، وبعد ذلك تموت، تعيش كل هذه المراحل الصعبة ثم تموت، لا، خطأ، لماذا الجواب خطأ؟ لأنهم لا يعرفون، لماذا جاءوا؟ مثل ما قيل: أين تكونون بعد هذه الحياة؟ قالوا: لا يوجد شيء بعد هذه الحياة، عدم.
من قال لكم لا توجد؟ قالوا: عقولنا.
عقولكم أخطأت؛ لأنكم لا تستطيعون حل المسألة الرياضية مثل ما قلنا، ولا قراءة الرسالة (بالأردية) لأنكم ما تعلمتم من معلم، ولهذا حاولتم أن تحلوا المسائل بعقولكم من غير معلم، ووقعتم في الخطأ.
وقلتم أيضاً: ليس هناك شيء بعد هذه الحياة، ومن قال لكم: إنه لا يوجد شيء بعد هذه الحياة؟ من الذي مات من الناس منذ خلق آدم إلى يومنا هذا وذهب إلى الآخرة واكتشف أنه ليس هناك شيء، ثم بعث ورجع وقال للناس: لا تتعبوا أنفسكم فلا يوجد هناك شيء؟ هل هناك أحد وقع منه هذا الأمر؟ لا أحد، كل من يموت لا يرجع، ولا يعطينا حقائق عما حصل له في القبر من النعيم، أو العذاب، نحن لا ندري، فهل عدم علمنا يؤهلنا إلى أن نقول: لا يوجد شيء، هل أرى أبها الآن وأنا جالس عندكم؟ لا أراها، هل من حقي أن أقول: إنَّ أبها ليست موجودة؟ هل أنا فككت الذرة؟ لم أفكّ الذرة ولا أعرف عنها شيئاً، ولكن درسناها أنها (نيترون) مع (بروتون) وما أدري ما هو، وأنها تتفتت، إذاً هل قمتم بذلك أنتم أو أنا؟ ومدرس العلوم هل فتت الذرة؟ بل ما رآها بعينه، لكنه مؤمن بها ونحن كلنا مؤمنون بها، حسناً هل منكم من زار أمريكا؟ يمكن لا يوجد منا أحد زارها لكننا مؤمنون بها، فمعنى عدم رؤية الإنسان للشيء لا يؤهله ذلك إلى أن يقول: إن هذا الشيء ليس موجوداً.
قصة الجاذبية معروفة، إسحاق نيوتن كان جالساً تحت شجرة يستظل بظلها، فسقطت حبة تفاح من الشجرة فنزلت إلى الأرض، فهو فكر، لأن عنده عقلاً كبيراً، قال: لماذا الحبة عندما انقطعت ما صعدت إلى فوق؟ أو لماذا ما ذهبت شرقاً أو غرباً، أو شمالاً أو جنوباً؟ أو لماذا ما بقيت في مكانها عندما انفكت من غصنها؟ لماذا نزلت؟ عقله سأله، قال: ثقلها.
حسناً، لماذا لم يؤهلها ثقلها لتصعد إلى الأعلى؟ هناك شيء سحبها إلى الأسفل، وبعد تفكير وجد أنها الجاذبية، والجاذبية هذه خاصية من خواص الحياة، فكل شيء على وجه الأرض مربوط بحبال الجذب إليها، هل رأيتم الجاذبية؟ الآن لما انفك (الميكرفون) من يد المدير وسقط على الأرض، من الذي أسقطه؟ الجاذبية، حتى أنتم ضحكتم على تلك السقطة: هل أنتم رأيتم حبال الجذب لما جذبته؟ مثال آخر: القارورة هذه لو أني أفكها الآن أين تسير؟ تسقط، من الذي سحبها إلى تحت؟ الجاذبية، أين حبال الجاذبية، هل ترون شيئاً؟ إذاً: الجاذبية موجودة أو ليست موجودة؟ موجودة.
لو أن شخصاً قال: لا توجد جاذبية ماذا نقول له؟ نقول: هذا أحمق.
يا أخي! عينك لا ترى كل شيء، الجاذبية موجودة لكن عينك لا تراها.
الموجات الصوتية الآن عندما نأتي المذياع ونشغله يعطينا إذاعة القرآن وإذاعة جدة وإذاعة لندن، وكل الإذاعات نسمعها، أغلق المذياع فلن تجد شيئاً، أين كانت كل هذه الأصوات التي أظهرها لنا هذا الجهاز؟ كانت موجودة في الهواء، لكن هل أراها أنا؟ هل أرى الموجة ثلاثمائة وخمسة وعشرين من جدة، وأرى الموجة ثلاثمائة وخمسة عشر من الرياض، وأرى الموجة الآتية من أمريكا ولندن ومن كل مكان؟ لا أرى شيئاً، لكن من الذي يلتقطها؟ المذياع، إذا فتحنا المذياع هربت الموجات، إذا فتحنا المذياع التقطها، هل عدم رؤيتي للموجات يدعوني للتكذيب بهذه الموجات؟ وإذا كذبت وقلت: والله لا توجد موجة في هذه الصالة لماذا؟ لأني لم أرها.
يقول لي: أنت ما رأيت الموجات لكن المس أثر الموجات بالجهاز.
فليس كل شيء لا تدركه ولا تراه بعينك غير موجود، ولو عملنا بهذه القاعدة في حياتنا لما تعلمنا العلوم، الآن كلكم تدرسون ويأتي أستاذ الجغرافيا بخريطة العالم، ويضع الخريطة هكذا كوسيلة إيضاح، ويأتي بالمؤشر ويقول: هذا البحر الأبيض وهذا البحر الأحمر، وهذا المحيط الهادي، وهذه أمريكا، وهذه كندا بجانبها، وهذه أمريكا الجنوبية، لو قام أحد الطلاب وقال: لا تلعب علينا أرجوك، ولا تضيع أدمغتنا، أين أمريكا؟ لا يوجد هنا إلا ورقة مصبوغة، والله لا وجود لـ أمريكا ولا روسيا ولا يوجد نهر ولا بحر ولا شيء، وكذَّب بهذا الموضوع، ما رأيكم هل تنتشر العلوم؟ وهل يمكن أن تقوم حضارة للأمم؟ نقول لهذا: يا مغفل! لا نستطيع أن نذهب بك لتنظر إلى العالم كله، ونركبك طيارة لتنظر إلى كل دولة بعينك، فليس كل شيء يجب أن تراه العين، وإلا أيضاً بالمنطق هذا نفسه لو سألتكم وقلت لكم: أنا عاقل.
تقولون لي أنتم: ما تعقل به؟ أقول: أعقل بعقلي، وهذا العقل هنا في المخ.
وتقولون أنتم لي: لا ليست بعاقل.
لماذا؟ أنا عاقل أتصرف وأتكلم تصرف العقلاء وكلام العقلاء، تقولون: أين عقلك؟ خذ فأساً واضرب به رأسك وأرنا إياه حتى ننظر، وإلا لحكمنا عليك بالجنون لأنا ما رأينا عقلك.
أجل، العين ليست وسيلة الإدراك، وإنما هناك وسائل مسعفة لتدرك بها الأشياء ولتطل منها على عالم الأشياء، وهي ما يسمى بالحواس الخمس، العطر مثلاً إذا أردت أن تعرف نوعيته: عودي أو وردي أو أي نوعية، تضعه عند عينك أو عند أنفك؟ تضعه عند أنفك، لكن لو وضعته عند عينك، هل تشم عينك رائحة العطر؟ لا.
وكذلك إذا أردت أن تعرف طعم التفاحة أين تضعها عند أنفك أو في فمك؟ في فمك؛ لأن لسانك عنده قدرة على معرفة عالم الأطعمة، والأنف عنده قدرة على الإطلال على عالم الروائح، والعين عندها قدرة الإطلال على عالم الأشكال والألوان، اليد عندها قدرة وإدراك للإطلال على عالم الأجسام تحس، وما ليس بجسم تلمسه ولا لون تراه، ولا رائحة تشمه، ولا طعم تذوقه، ما تدركه بالحواس الخمس، فماذا تفعل؟ ترفضه؟ لا، قبل التخيل هناك وسيلة اسمها وسيلة الأثر.(71/3)
قاعدة: الأثر يدل على المؤثر
فالأثر يدل على المؤثر، البدوي الأعرابي الذكي يقول: سماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج، وبحارٌ تزخر، ونجومٌ تزحف -هذه كلها عوالم تلفت النظر، ويقول- الأثر يدل على المسير، والبعر يدل على البعير، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، أفلا يدل ذلك على السميع البصير؟!! فأنت بالأثر تستطيع أن تصل إلى الإيمان بحقيقة المؤثر، ولذا هذه الغرفة الآن مليئة بهواء (الأكسجين) ولو أخرجت ورقة من جيبي الآن أمامكم فأنفخها هكذا فتتحرك، لكنكم لا ترون شيئاً خرج من فمي، مدفع حركها، أو عصا خرجت من فمي وقالت لها هكذا، شيء تحرك، هل رأيتم شيئاً خرج من فمي؟ خرج هواء، هناك تيار هوائي لكن لا ترونه بالعين، كيف رأيتموه؟ رأيتموه بأثر حركته على الورقة، نأخذ من هذا قاعدة: أن كل شيء لا ندركه بأعيننا لا ينبغي لنا أن نكذِّب بوجوده، وإذا قلنا: إنه غير موجود فقد ألغينا عقولنا.
الآن يوجد جبل ظمك، وفي زاوية من زوايا هذا الجبل وتحت صخرة من الصخرات هناك مجموعة من النمل، أو لا يمكن هذا؟ لكن لما قلت لكم ذلك: قام واحد من الإخوة الآن وجاء وفتح الستار وتلفت، هل نظرت جبل ظمك؟ قال: نعم.
قلت: سوف ترى ذرة تحت حجر هناك.
قال: كذاب.
لا يوجد، أين الذرة؟ أين النملة هذه؟ يا أخي! أنت لا تراها من هنا، إن كنت تريد أن تراها فاركب سيارة واطلع الجبل وانظرها.
قال: أريد أن أراها من هنا.
نقول: لعينك البصرية مجال وقدوة الرؤية عندها محدودة؛ لأن الله خلق الإنسان وأعطى لكل عضو وجارحة قدرة معينة، فمثلاً: بطنك له قدرة في الأكل، إذا وردت على الطعام فإنك تأكل حتى تشبع، لكن إذا شبعت والطعام جيد وبقيت أصناف من الطعام ما قد عممت عليها ونفسك تقول لك: لا تفوتك، لكن بطنك امتلأت، ماذا تفعل؟ غصباً، تضغط على بطنك، وإذا فعلت ذلك وضغطت على بطنك غصباً، يحصل عندك عسر هضم، وتقعد مريضاً شهراً وأنت تدور على المستشفيات تشتكي من بطنك، لماذا؟ لأنك أنت الذي خربت بطنك؛ لأن لبطنك قدرة معينة على الأكل، عندما أطعمتها فوق طاقتها لم تقدر.
كذلك عضلة رجلك لها قدرة على أن تقف وقتاً معيناً، لكن إذا أوقفتها أربعين ساعة سقطت، كذلك أعضاؤك، سمعك هذا له قدرة على السماع من مسافة، لكن عندما تمر وهناك شخص يصيح على مسافة 2 أو 3كيلو فينقطع صوته فإن أذنك لا تسمع؛ لأن مجال قدرة أذنك على السماع محدودة، عينك كذلك محدودة.
كل جارحة فيك لا تستطيع أن تلم بكل شيء، وإذا لم تر بعينك هذا الشيء؛ لضعف في إمكانات عينك وقدراتك أنت، فلا يعني هذا أن هذا الشيء غير موجود.
ولذا فالذي يقول: إنه ليس هناك شيء بعد هذه الحياة، نقول له: ما أدراك أنه ليس هناك شيء؟ قال: لأني لم أنظر إلى شيء، نقول له: حسناً، والذي لا تنظر إليه ما تؤمن به.
قال: أجل.
قلت: كذاب، عقليتك فاسدة، وهناك شيء يسألنا بنفس السؤال يقول: لماذا جئنا؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ هذه الثلاثة الأسئلة المحيرة لا يمكن أن تجيب عليها البشرية من عند أنفسها، لا بد أن تكون الإجابة من قوة خارجة عن الإنسانية، والبشرية هي التي جاءت بالإنسان، وهي التي تتوفى الإنسان، وهي التي تقلب الإنسان إلى عالم آخر.(71/4)
الإنسان أمام التسيير والتخيير المكتوب عليه
الآن الناس يموتون بغير اختيار، ولو أن الموت بالاختيار هل هناك أحد يموت؟ كل شخص لا يريد أن يموت، حسناً حينما يُخلقون يخلقون باختيار أم بغير اختيار؟ من الذي جيء إليه وهو في بطن أمه وقالوا له: ما رأيك تريد أن تخلق أم لا؟ إن الإنسان يخلق رغم أنفه وبغير اختياره، كذلك التحديد في النوعيات ذكر أو أنثى ليس باختياره.
بعد ذلك اللون الطول العرض الذكاء المواهب الزمن العمر كل هذه بغير اختيار، أنت أتيت ولم يؤخذ رأيك في كل قضاياك، وبعد ذلك تعيش فترة الحياة وأنت باختيار، لكن تموت بغير اختيار.
وهنا يبدو جواب على الناس الذين يقولون: الإنسان مسير أم مخير؟ نقول: هو مسير ومخير.
كيف؟ مثل الراكب الآن في الطائرة؛ عندما تركب من هنا إلى الرياض أو من هنا إلى جدة، أنت في عموم الرحلة مسير، هل تستطيع أن تنزل في الطائف؟ أو عندما تنظر إلى وادٍ وأنت فوق الطائرة تقول له: قف قف لأجل أن نقيل في هذا المكان، أو: متعب نريد أن نجلس هنا، لا، رحلة مصممة من أبها إلى جدة، لا تذهب إلا من هذا الخط فقط ولا يمكن أن تمر إلى غيرها، فأنت مسير، ولكن يمكنك أن ترقد على كرسيك، ويمكنك أن تقرأ جريدة أو قرآناً، وتقدر أن تأكل، أو لا تأكل، فأنت مخير في حدود كرسيك، لكن مع العموم مسير مع الناس كلهم، وكذلك أنت أيها الإنسان! مسير يوم خلقت، ومسير يوم تموت، ومخير بين الحياة والموت؟!! بإمكانك أن تهتدي، ومن يمنعك من الهداية؟ وبإمكانك أن تضل، ومن يمنعك من الضلال؟ إذا أذن المؤذن وأنت جالس في البيت فهل هناك قوة -إذا أردت أن تقوم وتصلي- تستطيع أن تأتي وتضغط على أرجلك وتشد عضلاتك وتضع (قف) على إمكاناتك ولا تقوم لتصلي؟ لا شيء يمنعك، لكن أنت لا تريد أن تقوم.
وآخر يريد أن يقوم ليصلي، هل هناك من جاء وسحبه بأنفه وقال: قم فصلِّ؟ لا.
ذهب إلى الصلاة باختياره، وذاك ترك الصلاة باختياره.
وآخران قُدِمَ لهما شرابان حليب وخمر، فأحدهما قال: أنا أشرب الحليب فقط، لماذا؟ باختياره، والثاني قال: أريد الخمر، لماذا؟ باختياره، هل هذا أجبر على الحليب، وهذا أجبر على الخمر؟ لا، بالاختيار، فأنت بين الموت والحياة بين البقاء وبين الإجلاء بين الوجود والعدم في فترة اختيار، ولذا كانت هذه الفترة فترة اختيار وفترة تكليف وتبعة ومسئولية؛ لأنه لو لم يكن لديك الاختيار لم يكن عليك مسئولية، والله منزه عن الظلم، كيف يخلقك ويعطيك الاختيار ولا يجازيك؟ أو كيف يخلقك ولا يعطيك القدرة على الاختيار ويجازيك؟ أمعقول هذا؟! ولذا ترون أن المجنون الذي سلب العقل مرفوع عنه القلم؛ لأن التكليف منوط بالعقل، فإذا لم يعط إنساناً عقلاً فهل يعرف كيف يتصرف؟ هل يعرف متى يدخل الوقت فيقوم ويصلي؟ هل يعرف حلالاً وحراماً، هل يعرف واجباً وفرضاً؟ لا يعرف شيئاً فهو مجنون، فالله لعدله رفع عنه التكليف: (رفع القلم عن ثلاثة -يعني: المسئولية والعهدة- المجنون حتى يعقل، والصغير حتى يبلغ، والنائم حتى يستيقظ)، فلما لم يكن هناك عقل فليس هناك تكليف، لكن إذا وجد العقل ووجد الاختيار والقدرة على سلك سبيل الخير أو سلك سبيل الشر ثبت الاختيار، وثبتت معه العهدة والمسئولية؛ لأنك تعصي الله باختيارك فتحل النتيجة باختيارك، وتطيع الله باختيارك فتجد ثمرة اختيارك.
ولا يقل أحد الناس: لا، أنا مكتوب عليَّ أن أعصي، ولهذا لا أستطيع إلا أن أعصي، لماذا تزني؟ كان مكتوباً.
حسناً تعال إلى هذا الإنسان الذي يقول: مكتوب واضربه على وجهه بكفك، وإذا قال: لماذا ضربتني على وجهي؟ فقل له: مكتوب، والله كتب في الأجل أني سأضربك على وجهك، هل يرضى بالكتاب عليه بالصفعة هذه؟ ما رأيكم يرضى ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، جزاك الله خيراً، والله إنك صادق وأنه مكتوب علي.
ويومه الثاني يرضى؟ لا، أبداً لا يرضى.
حسناً هذا الرجل إذا استلم الراتب ووضعه في جيبه فقفزت وأخذت راتبه كله، وبعد ذلك يمسكونك ويقولون: ماذا بك؟ فتقول: الله كتب عليَّ أن أسرقه! هل هذا عذر يقبله الناس ويقبله هذا الذي أخذت عليه ماله؟ لا يقبل القضاء والقدر في ما يتعلق به، لكن في ما يتعلق بربه يقبله، يزني ويقول: إن الله كتب عليَّ ذلك، ويسرق ويقول: إن الله كتب عليَّ ذلك، ويشرب الخمر ويقول: إن الله كتب عليَّ ذلك سبحان الله!(71/5)
معنى الكتابة في الأزل
ما معنى الكتابة في الأزل؟ هذا سؤال مهم جداً أرجو أن تنتبهوا إلى الإجابة عليه؛ لأن سوء الفهم للحديث الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدي بالإنسان إلى الهلاك والضلال.
إن الله كتب حينما وُلِدَ الإنسان في بطن أمه، ومرت أربعة أشهر -مائة وعشرون يوماً- وبدأ الشهر الخامس ينزل الملك ويبدأ يحدد النوع ويكتب أجله ورزقه وشقي أم سعيد، ما معناه؟ معنى الكتابة أولاً: يقول العلماء: إنها سابقة لا سائقة، الكتابة سابقة عند الله ولكنها ليست سائقة، أي: أنها ليست ملزمة ومجبرة للإنسان كيف؟ الآن إذا أراد إنسان أن يبني عمارة ما الذي يلزمه في أول مراحل البناء؟ أن يعمل مخططاً، ثم يذهب إلى المكتب الهندسي ويقول: أنا عندي أرض مساحتها عشرون متراً في عشرين متراً، على شارع عام، أريد أن أعمل فيها عمارة، ويعطيه كل التصورات التي يريدها؛ الدور الأول محلات تجارية، والبدروم مستودعات، والدور الثاني شقق سكنية، والدور الثالث أريده سكن لي أنا وعائلتي، المبنى يتكون من ثلاثة أدوار: المجلس أريده أن يكون عشرة في خمسة، (والمبلط) بجانبه سبعة في ثلاثة؛ لأني كريم وصاحب ولائم وعندي أقارب ومناسبات كثيرة، وأيضاً أريد غرفة للنوم والحمام بداخلها، يعطيه كل هذه المواصفات ويقوم المهندس فيترجم هذه المعلومات كلها في مخطط كامل، وبعد ذلك يعرضه عليه ويجري عليه تعديلات سهلة على الورق، فإذا استقر الرأي قال: يا (مهندس) نفذ! فتقوم العمارة سليمة.
لكن ما رأيكم في صاحب العمارة لو جاء وأتى باليمنيين من السوق والمقاولين وبدون مخطط وقال: ابدءوا في بناء العمارة.
قالوا: كيف نفعل العمارة؟ قال: ابدءوا على كيفكم افعلوا العمارة المهم (البلك والإسمنت) والحديد موجود، حسناً وأين نجعل المجلس؟ اجعلوه هنا على اليمين، على أساس الناس إذا دخلوا على اليمين.
(والمقلة؟) قال: ضعوه بجانبه.
كيف نعمله؟ قال: قدروا وانظروا.
وبعد العصر جاء واحد وقال: لماذا وضعتم المجلس على اليمين؟ هذا خطأ الشمس لا تدخل هنا، اجعل المجلس في الشمال، فدعا العمال: وضع المجلس هنا خطأ، انقلوا المجلس هنا، بعد قليل المهم ما رأيكم في عمارة هذا الإنسان؟ هل هي سليمة أو تنهدم رأساً؟ وبعد ذلك الأساس كم هو؟ قال: ضعوا القواعد هنا متر في متر، أي: الأرض صلبة، جاء واحد قال: لا، ثلاثة أدوار يا شيخ! ولعل الله أن يمد في عمرك ويضع لك أولادك أيضاً دورين أو ثلاثة لا، ضع القاعدة مترين في مترين، فدعاهم وقال: انقضوه، خذوا (الصبة) هذه واجعلوها مترين في مترين، جاء شخص بعد ذلك قال: يا شيخ أنت مخطئ كيف تضع مترين في مترين؟ أنت على شارع عام يا شيخ، والدنيا تتطور كل يوم، هل تريد أن تهد عمارتك بعد ذلك؟ اجعلها ثلاثة في ثلاثة يا شيخ، لا تبخل على نفسك، وإلا ندمت بعد ذلك.
بالله ما رأيك في هذا المسكين؟ هل عمارته هذه سليمة، أم أنها خطأ في خطأ؟ لماذا؟ لأنه مرتجل، ودائماً الارتجال نتيجته الفشل باستمرار.
أليس المدرسون عندكم في المدرسة يضعون خطة للدراسة في أول العام، ويقسمون المنهج على أشهر السنة، بحيث يطالب كل مدرس الشهر الأول بأن ينجز من وإلى، وفي الشهر الثاني من وإلى، هذا في العرف؟ لكن يمكن في الشهر الأول يزيد قبل الحل، ويمكن في الشهر الثاني لظروف معينة يمد عليه المنهج لصعوبة بعض بالمواد، لكنه في هذا الإطار، لكن لو جاء في أول السنة وقام المدير وقسم المنهج على أشهر السنة قال: لا داعي للتقسيم هل تريدني أن أمر على الطلاب مرور الكرام؟ أم تريدني أن آخذ المنهج والطلاب لا يفهمونه؟ ماذا يفعل المدير لهذا المدرس؟ يقول المدير له: أنت مدرس فوضوي، ولا تصلح لعملية التعليم؛ لأنك لم تنظم المادة ولا قسمت المنهج، الآن كيف أسير الطلاب هؤلاء؟ أنجحهم إلى سنة ثانية وهم لم يدرسوا المنهج، أو أسقطهم سنة وأعطل مستقبلهم؟ إذاً: أنت الفاشل وسوف أبعدك من هنا.
فالتخطيط مطلوب لكل عمل، وإذا كان هناك ارتجال فكيف يصير العمل؟ خطأ في خطأ، وقفنا عند هذه الناحية، ولله المثل الأعلى.
الله تبارك وتعالى حينما أراد أن يخلق الكون والحياة لم يرتجل وإنما عمل -نحن نسميه في عرفنا مخططاً- القضاء والقدر، أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب في اللوح المحفوظ.
قال له: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة -عمل المخطط- كل ما هو كائن مكتوب في اللوح والمخطط عند الله، والتنفيذ في الميدان.
ومعنى الكتابة: سبق العلم، وهو أن الله عز وجل علم في الأزل أنَّ زيداً وعمراً من الناس، وهذين الشخصين سوف يوجدان ويخلقان ويبلغان سن التكليف، ويعلمان بأوامر الشرع، وتكون لديهما القدرة على اختيار سبيل الخير أو الشر، ولكن زيداً من الناس رجل عاقل استقام واستجاب لأوامر الله وقام على الدين حتى مات، فعلم الله أنه نتيجة استقامة زيد على دينه أن يكون سعيداً، فكتبه سعيداً وهو في بطن أمه، وأن عمراً هذا سيبلغ سن التكليف وسوف يكون رجلاً، وسوف تبلغه الشريعة، ولكنه لن يستجيب لأمر الله ولا لداعي الله، وإنما سيستجيب لداعي الشيطان والهوى والشهوات والمعاصي؛ فكتبه الله شقياً.
أفنريد على الله ألا يعلم ماذا سيكون غداً؟ إذا كنا أنا وأنتم لا نعلم ماذا سيصير غداً أليس كذلك؟ أنريد ألا يعلم الله ماذا سيصير غداً أيضاً؟!! إذا كان الله لا يعلم ماذا سيصير غداً فهو مثلنا، فعلم الله مثل علمنا، لكن ما دام أن الله عز وجل عليم فوجب أن يكون علم الله أقدر وأنفذ من علمنا، فهو يعلم ماذا سيكون غداً.(71/6)
موقف الإنسان من علم الله الأزلي
إن علم الله الأزلي ليس معناه أنه ملزم لنا، وأضرب لكم على هذا مثالاً من واقع المدرسين: لو أتينا إلى أحد المدرسين وليكن في التوجيه، وجاء المدير فدخل عليه في الفصل وقال: يا أستاذ كم تتوقع نسبة النجاح عندك في الفصل في نهاية السنة؟ فالمدرس شغَّل عينه كذا في الطلاب، وراجع دفتر المكتب، ورأى العلامات والذين يتجاوبون معه في الدراسة والمجتهدين، والذين يحلون الواجبات وينتبهون للشرح، والذي عنده تفاعل مع الدرس، فذهب إلى المدير وقدم له بياناً، فقال له: الفصل فيه (20) طالباً، (18) طالباً أتوقع نجاحهم، أما (2) فأشك في نجاحهما؛ لأنهما مهملان؛ أولاً: كثيرو الغياب، ثانياً: أنهما ينامان بكثرة في الفصل، من حين أن يدخل يضع يده على الماسة ونام نومة إلى أن يأتي الأستاذ فيوقظه: ولد أين أنت؟ قم.
قال: سهران البارحة.
سهران في ماذا؟ أفي الجهاد؟ لا سهران على المسلسل والورقة و (البلوت) والقهوة، ويأتي في الصباح نائماً، صارت المدرسة للنوم، يأتي ليحصل التعليم فيحصل النوم.
حسناً هل أديت الواجب؟ قال: نسيت الدفتر.
حسناً والمسألة؟ قال: الامتحان بعيد يا أستاذ، لا تشدد علينا، الله يبارك فيك، يسروا ولا تعسروا.
ويستشهد بالأحاديث.
فجاء الأستاذ إلى المدير وقال: أما فلان وفلان فإنهم ساقطان، إلا إن غيرا من وضعهما.
فالمدير وضع الورقة عنده في الماسة، وبعد ذلك مرت السنة، وفي آخر السنة طلعت النتائج وجاء الأستاذ الذكي الذي يعرف طلابه معرفة دقيقة وقد تحققت نبوءته في الطلاب وظهرت النتيجة: نجح (18) طالباً، والطالبان ساقطان.
وبعد ذلك سألوهم الطلاب: لماذا سقطتم؟ قالا: بسبب الأستاذ فهو في أول السنة كتب ورقة للمدير وقال: نحن سنسقط.
بالله ما رأيكم في هذا العذر أهو مقبول؟! يعتمدون على ذكاء الأستاذ، هؤلاء الطلاب قالوا: إن الأستاذ في أول السنة لما سأله المدير من الذي سينجح، ومن الذي سيسقط؟ فقال: هناك طالبان سيسقطان، فنحن توقعنا أننا نحن، ولهذا لا تلومونا نرجوكم، أليس الأستاذ قد قال ذلك تلك الأيام، وقد كتب علينا في أول السنة.
هل عذرهم مقبول يا إخوان؟!! وهكذا الذي يزني ويسرق ويعصي، ولا يصوم ولا يصلي، ويعق ويرتكب المعاصي، تقول له: يا أخي! لماذا؟ قال: يمكن أن الله كتب عليَّ هذا.
مثل ذاك الذي يقول: يمكن أن الأستاذ قد سجلني مع الذين سيسقطون.
وأنا يمكن أن الله قد كتبني في الأزل أني شقي، ولهذا يمكن يا أخي أن تذبح نفسك على مذبحة (يمكن)؟ فهذه (يمكن) للاحتمالات.
الآن لو أن شخصاً دعوته وقلت له: العشاء الليلة عندنا، فقال لك: يمكن آتيك، تقبل منه، (يمكن) هذه أو تقول له: بلا يمكن، هل ستأتي؟ قل لي من أجل أن أجهز العشاء، أو لا تأتي لكي أستريح، لكن قال لك: والله لا آتي، إذاً قل: إنك لن تأتي.
لكن لو قال لك: يمكن أن آتي.
وذهبت إلى البيت، وبعد ذلك جاءتك الأفكار يمكن أن يأتي، وبعد ذلك ذهبت وأخذت الذبيحة وتريد أن تذبحها من أجل الضيف، وحين أوشكت على أن تذبح الذبيحة جاءك شعور ثانٍ يمكن ما يأتي، وما ذنب التيس الضعيف؟ دعه يعيش، ولماذا أخسر تيساً وأكلف المرأة وأتعبها بطبخ الذبيحة ويمكن أن لا يأتي، والله لا أضحي بالتيس على (يمكن) هذه.
سبحان الله! التيس غالٍ عندك لا تضحي به على (يمكن)، وتضحي برقبتك على (يمكن)؟ وتجازف بحياتك ومصيرك من أجل (يمكن)؟ وبعد ذلك ذهبت إلى الله وقدمت عليه وهلكت هلاكاً ليس بعده هلاك، فالله يقول: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] كل ما خطر في بالك فالنار بخلاف ذلك، فالنار اسمها نار، نحن نعرف النار والله ما توعدنا بشيء لا نعرفه، بل توعدنا بشيء وأعطانا منه نموذجاً حياً، قال: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} [الواقعة:71 - 73] ما معنى تذكرة؟ أي: موعظة تذكركم بالنار الكبيرة، أم هذه {وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] أي: لكي تطبخوا عليها الطعام، وتستدفئوا بها في البرد، لكن الهدف منها حقيقة تذكرة، لكن الذي يرى أعمالنا يقول: هؤلاء لا يعرفون النار أو ضد النار، فإما أننا لا نعرف النار -وكلنا نعرف النار- وإما أنا ضد النار، ولسنا ضد النار، والذي ضد النار لا يأخذ له جمرة من الجمرات بل يأخذ له عود كبريت يولعه ويصبر عليه، فإذا وصلت النار إلى العود مما يلي إصبعه وأحرقته فلا يفكها، دعها تؤلمه قليلاً، يصبر ويتصبر ويتصبر، يرى إلى أي مدى يتحمل النار، والله ما يتحمل النار، لكن يهلك نفسه بالذنوب والمعاصي وترك الطاعات والواجبات ويكون مصيره الدخول في نار الآخرة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، ولولا أنها أطفئت في الماء مرتين ما استمتعتم بها) هي جذوة أصلها من النار ثم أطفئت حتى خمدت، ثم بقي فيها نار تحرق فأطفأها الله حتى خمدت، ثم بقيتها النار هذه التي عندنا! ولذا ورد في بعض الآثار: [لو خرج أهل النار من النار ووجدوا نار الدنيا مشتعلة لقالوا فيها قِيلة، ولعاينوا فيها نوماً] نار الدنيا يعاينوا فيها نوماً، لماذا؟ لأن نار الآخرة يقول الله فيها: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً} [النبأ:24] يقول: البرد هنا هو النوم، فلا يوجد نوم، كيف تنام وأنت في عذاب؟ أيضاً أهل الجنة لا يذوقون النوم، لماذا؟ لأن النوم يفوت عليهم النعيم، كيف ينام وهو في نعيم، فالنوم جعل في الدنيا لغرض: من أجل إعادة نشاط الجسم، فالإنسان إذا تعب ينام قليلاً فيقوم وهو نشيط، لكن في الآخرة لا يوجد تجديد ولا تعب، كلها نعيم في نعيم، فإذا نام فاته جزء من النعيم؛ فاته الحور والقصور، والحبور والسرور، فهل ينام؟ لا، لا نوم فيها، لكنَّ الذي في النار لماذا ينام؟ إذا نام استراح من العذاب، ولهذا المريض الذي أصبح متعباً ونام قليلاً قال: والله إني وجدت قليلاً من الراحة، رقدت، وتخلصت من ألم، ولكن هذا إذا رقد فاته العذاب، فلا يرقد ولا ينام ليزداد عذابه، ولا ينام هذا في الجنة ليزداد نعيمه.(71/7)
من حكم الله في الإنسان
لقد علمنا الله تبارك وتعالى لماذا جئنا، وعلمنا من أين جئنا، وعلمنا أين سنذهب بعد أن نفارق هذه الحياة.
أما: لماذا جئنا؟ فإنه لا بد لكل شيء من حكمة في خلقه، أنا أحمل هذا الجهاز الآن في يدي لحكمة، ما هي حكمته؟ تكبير الصوت، لكن لو انقطع التيار (الكهربائي) هل سأظل أمسكه؟ لا.
لأنه لم يعد هناك تيار (كهربائي) يكبر الصوت ولهذا سأضعه، لكن لو واصلت أتكلم ولا يوجد تكبير، ماذا تقولون لي أنتم؟ تقولون: اترك الجهاز فإن (الكهرباء) مقطوعة؛ لأن الغرض من الجهاز تكبير الصوت؛ فما دام أنه ليس هناك تكبير للصوت فضعه.
وأنت تحمل القلم في جيبك لحكمة ماهي؟ الكتابة، فإذا انتهى الحبر الذي في القلم فماذا تصنع بالقلم؟ تتركه معلقاً في جيبك أم ترميه؟ ترميه، أو كلما انتهى عليك مداد قمت بتعليق القلب في جيبك إلى أن تصبح عشرة أقلام؟ وإذا جاء إليك أحد الناس وقال لك: من فضلك القلم.
قلت: والله هذا ليس فيه حبر.
حسناً أعطني الثاني.
وتقول: وهذا والله ليس فيه حبر أيضاً منذ زمن.
حسناً والثالث؟ قال: كلها ليس فيها حبر، ماذا يقول لك هذا؟ يقول: يا مجنون! ظللت تصفُّ أقلاماً في جيبك وليس فيها حبر، إذاً لماذا تحملها؟ ما دام أنه ليس لها حكمة وليس لها أي غرض إذاً هذا خبل، أنت تضع شيئاً بلا غرض.
وهكذا كل شيء، وهذا اسمه منطق العقلاء أن كل شيء له حكمة فإذاًَ هو مفيد، وما ليس له حكمة فإنه غير مفيد.(71/8)
الحكمة من خلق العين والأذن
عينك في رأسك لها حكمة وحكمتها الرؤية، ولذا فالعين مفيدة، ولذا هناك كليات للطب، وهناك أقسام متخصصة في طب العيون، لماذا؟ لحكمة هي علاج عينك، فإذا مرضت عينك أو تعطلت عالجوها، لكن أن تأتي عندهم في كلية الطب وتقول لهم: لا، أنتم مخطئون، كلية الطب هذه خطأ، أموال تذهب هدراً، لا داعي لها، يقولون لك: لا.
هذه كلية الطب مهمة وضرورية وليست بالعبث؛ لأن هناك أعيناً تخدمها هذه الكلية.
حسناً، الأذن كذلك لها حكمة، حكمتها: سماع الصوت، ومن حكمة الله يا إخواني! -الذي هو حكيم في كل شيء، من صفاته أنه العزيز الحكيم- لا يضع شيئاً إلا في موضعه تبارك وتعالى.
فمن حكمة الله في خلق الإنسان أنه جعل كل عضو وجارحة في مكانها المناسب، ولو تغير هذا الوضع لاختل الإنسان ونظامه.
فالعين الآن هي بمنزلة سرايا استطلاع بالنسبة للجيوش، ودائماً سرية الاستطلاع تكون في المقدمة، لكن لو جعلنا السرية في المؤخرة ما أدراهم؟ قد تعطينا الأخبار خطأ، فالله جعل العينين في مقدمة الرأس وفي أعلى الجسم؛ من أجل أن تستطلع دائماً وتنظر إلى الأشياء، وبعد ذلك ركب العين في الرأس، وجعل الرأس مركباً على الرقبة، والرقبة جعل لها قدرة لولبية على التحرك، لماذا؟ لكي يسهل عليك أن تنظر إلى الأجسام الغريبة، سواءً كانت أمامك أو خلفك، أو عن يمينك أو شمالك، دون أن تتحرك أنت، لكن لو أن الله جعل رقبتك من العظم وأردت أن تنظر إلى اليمين فكيف تعمل؟ تدور بجسمك كله، وإذا دعاك واحد من الوراء تلف جسمك كله، وكانت العملية صعبة جداً.
ولهذا عندما يكون الأستاذ في الفصل، هنا الأستاذ كذا والطلاب كلهم منتشرون في الفصل يريدون أن يروه لكي يسمعوا كلامه، لو أن رقابهم ليست متحركة لكان كل واحد عينه إلى الجدر، والأستاذ هناك لا أحد عينه فيه، لكن كل واحد من الطلاب قال كذا، وذاك هكذا من الزاوية التي له، وكلهم متجهون إلى الأستاذ بدون تعب.
أين جعل الله الأذنين؟ جعلها في الجنب، لماذا العينان في الأمام؟ لأنها استطلاعية فتكون في الأمام، وأما الأذنان فلأنها تجلب الأصوات والأصوات لا تأتي من جهة معينة بل تأتي من كل جهة، يمكن أن أسمع الصوت من أمامي وورائي، وعن يميني وشمالي بنفس القدرة بحسب المسافة، لأن مسافة سرعة الصوت معروفة، فإذا جاءتني السرعة من ثلاثمائة وثلاثين متراً من الأمام أو الخلف، أو من اليمين أو الشمال تأتي السرعة واضحة، ليست مؤسسة على أساس الجهة ولكن مؤسسة على أساس المسافة، فأين جعل الله الأذن؟ جعلها في الجنب مع القدرة على الحركة بالنسبة للرقبة، فيمكن أن أسمع من أي مكان.(71/9)
الحكمة من خلق الأنف
وجعل الله في رأس الإنسان الأنف ووظيفته الشم، والسماح بدخول (الأكسجين) والهواء إلى الجسم، ولكن حتى يبقى مفتوحاً باستمرار جعله الله من غضروف؛ لأنه لو كان لحمة لانطبقت، وإذا كنت تريد أن تتنفس فعليك أن تفتحها لكن لو وضعت عودين في أنفك، وانسد لمت، فالله جعلها غضروفية مفتوحة، ولم يجعلها عظماً؛ لأنه لو جعلها عظماً وأتيت لتمتخط كيف تفعل؟ فجعلها غضروفاً وعليها لحم مقوى قليلاً فتعتصر ويعتصر معها المخاط ويخرج منك الأذى، لكن لو كانت عظمة فإنك لا تقدر أن تعصر العظم وتخرج المخاط منه، فتضطر أن تأخذ عوداً وتدخله إلى أنفك لتخرج الأوساخ التي فيه.
وبعد ذلك جعل الله تعالى في هذه الأنف شعيرات وخلايا دموية مكثفة، من أجل أن تقوم بعملية تكثيف وتغيير وتحسين درجة حرارة الجو الخارجي ليتناسب مع درجة حرارة الجسم، ولذا ترون في أيام البرد درجة حرارة الهواء الخارجي مثلاً (20 أو 15 أو 16) درجة، وأحياناً في الليل تكون (10) ويمكن أن تكون (8 أو 7) درجات، لكن درجة حرارة الجسم ثابتة (37) درجة في الظروف العادية، وفي حالة المرض ترتفع إلى (38) أو (40)، وإذا وصلت إلى (42) درجة قد يموت فيها الإنسان، فإذا كانت درجة حرارة الجسم (37) درجة، ودرجة حرارة الهواء الخارجي (15) درجة واستنشقت الهواء حتى يدخل إلى رئتك، يجب أن يكون موازياً وقريباًَ من درجة حرارة جسمك وإلا أصبت بنزلة مثل المروحة، فماذا يصنع الجسم؟ يقوم الأنف هذا بتدفئة الهواء البارد، ولهذا تشتغل الشعيرات الدموية وتتحرك أكثر من اللازم، ولذا ترون الإنسان في الليالي والأيام الباردة يحمر أنفه؛ لاشتغال الدم فيها، فالشعيرات الدموية عندها حركة قوية لتدفئة الهواء الخارجي حتى لا يتعارض مع الهواء الداخلي فيحصل لك مصيبة بهذا، ولهذا بعض الناس عندما يجلس في غرفة البيت وقت العشاء أو في سمرة مع أهله والجو دافئ جداً قد تكون درجة حرارة الغرفة أربعين، الدفاية من هنا والنار من هنا وهو ملتحف بالشملة، ثم يدعوه فيقوم ويرمي بالشملة ويخرج، فيصيبه الهواء، فماذا يحصل له؟ مرض، ما سببه؟ أن الهواء دخل إلى جسمه بأقل من ذلك، وبسرعة مفاجئة لم يتمكن الأنف من التدفئة فحصل للإنسان نزلة، يسمونها نزلة شعبية، أو نزلة هواء، أو نزلة حادة.
فهل تريد أن يجعل لك الله كل يوم مرضاً، على أساس أنه ليس هناك شعيرات؟ لا، ركبَّ الله لك أنفاً من الغضروف وعليها لحم مكثف وفيها شعيرات دموية؛ لأجل أي هواء تشمه أو تستنشقه وهو بارد تدفئه هذه الشعيرات ويدخل جسدك وهو موازٍ وقريب من درجة حرارة جسدك فلا يحصل لك المرض.
هذه حكمة، أم ليست بحكمة؟ من فعل هذه الحكمة بالضبط؟ يقولون: الطبيعة.
من الطبيعة؟ ابنة من هي هذه الطبيعة؟ ما شكلها؟ قالوا: الطبيعة، الطبيعة عندنا هي الأرض، طبيعة الأرض التي نركلها بأرجلنا، الصماء البكماء العمياء، هل يمكن للطبيعة هذه أن تخلق هذا الشيء؟ وبعد ذلك أتخلق هذا الإنسان الغريب الأطوار، الغريب المراحل؟ وبعد ذلك أتخلق كل إنسان له شكل مختلف عن الآخرين؟ الآن العدد السكاني للأرض والعالم بأكمله تقريباً (4 مليار) لكن هل يمكن أن تجد في (4 مليار) اثنين سواء؟ لا تجد، يمكن أن تجد متشابهين في الشكل لكن تعال واختبرهم في الذكاء، ترى أن نسبة الذكاء عند هذا غير نسبة الذكاء عند هذا، تجد هذا آماله غير آمال هذا، وآلام هذا غير آلام هذا، ومشاعره غير مشاعر هذا، كل شخص من الناس له عالم مستقل بذاته، فمن يستطيع أن يشكل ويصور ويعمل كل هذه؟ وبعد ذلك هؤلاء (4 مليار) بعد مائة سنة يستبدلون بجدد، فبعد مائة سنة لن يكون على وجه الأرض واحد من هؤلاء الموجودين الآن، أي: الذي ولد اليوم بعد مائة سنة ليس موجوداً فضلاً عن الذي هو موجود من قبل سنتين أو ثلاث أو أربع أو عشر أو ثلاثين أو خمسين أو أربعين مثلي، بمعنى: أنه يصير تبديل للناس كل مائة سنة، والنادر لا حكم له، يمكن أن يعمر شخص في القبائل كلها فيصير عمره مائة وخمس سنوات أو مائة وعشر سنوات، وهذا شاذ، والشاذ لا حكم له.(71/10)
الحكمة من خلق الأسنان
حكمة الله عز وجل تلحظها أنت في خلق أسنانك، فعندما يولد الإنسان يولد وكل الحواس موجودة فيه، حتى الرأس فيه شعر؛ لكي لا يبرد في الليل إذا خرج، الله أعطاه شعراً يسمونه شعر البطن، لكن الله لم يعطه أسناناً، لماذا؟ لأن طعامه سوائل، هل يحتاج لأن يكسر بأسنانه؟ معدته لا تهضم إلا السوائل، ولو أعطيناه طعاماً ناشفاً، ولو فتحنا فم الصبي الذي ولد وأعطيناه أرزاً وقطعة لحم وحبة برتقال، ما رأيكم بهذا الصبي المسكين؟ يموت رأساً، معدته ضعيفة جداً جداً، ولا تستطيع أن تهضم السوائل إلا بصعوبة، ولذا لماذا يعطيه الله أسناناً وهو غير محتاج لها في هذا السن؟ فهل هناك مخلوق في الدنيا منذ خلق الله آدم إلى يومنا هذا خلق وله أسنان؟ لا يوجد، فلو أعطاه الله أسناناً، وطعامه سوائل، والطفل هذا لا يعقل، وقامت أمه وأعطته الثدي وهو يريد أن تعطيه طعاماً، ومن حين يمسكه يعض بأسنانه، من يفكه؟ تقرصه أمه تفتح فمه، لكنه لا يعرف، مسكين، فحتى لا يعض أمه، ولأنه لا توجد حاجة للأسنان، فإن الله خلقه بدون أسنان.
وبعد سبعة أو ثمانية أشهر أصبح قوياً وعنده قدرة على الطعام، بدأ التمرين على الطعام الخشن، فأنبت الله له اثنتين فوق واثنتين تحت، لماذا؟ لكي يقطع بها الحلاوة (والبسكويت) والموز، لكن ما أعطاه الله ضروساً؛ لأن الضروس لا يطحن عليها شيئاً الآن، هو الآن يريد حاجة لينة قد أصبحت جاهزة يفصلها فقط لكن يطحنها فليس بمحتاج، بعد فترة أعطاه الله بجوار الثنايا هذه أنياباً لكي يخرق بها، وبعد ذلك وضع الله فوق الثنية ثنية، وفوق الناب ناباً، لكن لو وضع الله فوق الثنية ناباً لما قطعت، ولو وضع الله تحت الثنايا ضروساً لما طحنت، ولكن لأجل أن يصير الطحن مضبوطاً وضع الله فوق الضرس ضرساً، مثل الرحى التي لها واحدة فوق وواحدة تحت، ووضع الله فوق الثنية ثنية مثل المقص الذي جلب من فوق ومن تحت، وضع الله فوق الناب ناباً مثل (المخدر) الذي فوق وتحت لكي (يخدر)، وبعد ذلك استمر اكتمال الأسنان، تنمو السن إلى مستوى معين وتقف، لماذا لم يستمر نمو السن هذه إلى أن تصل إلى سرتك؟ ولماذا لم تطلع سنك هذه حتى تصل إلى رأسك؟ من علم السن في كل البشر أن يقف عند هذا المستوى، ولا يطول ولا ينقص ولا يقصر؟ الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
ثم بعد فترة أربع أو خمس أو ست سنوات يبدل الله لك أسنانك، فتلك أسنان ضعيفة أعطاها الله لك لأنك صغير، لكنك الآن تريد أسناناً قوية تعيش معك حتى تموت فييسر لك قلعها، تأخذ السن وترميه ويبدلك الله سناً غيره، والناس عندهم خرافة -لا أدري هل ما زالت موجودة، أم قد انتهت؟!! - إذا انقلع سنه أخذ السن وأبقاه معه.
ما بك؟ قال: غداً عندما تطلع الشمس.
وإذا كان اليوم فيه غيوم ولا توجد شمس فتراه يربطه في منديل أو يضعه في (غترته) أو في جيبه ويأتي في الصباح يأخذ سنه ويقول: يا عين الشمس! (خذي سن الحمار) يعني سنه هو كيف أصبحت سن الحمار وهي سنك؟ تعترف بأنها سن حمار، وأنت رجل؟ (وأعطيني سن الغزال!!) والله إن هذا الكلام كنا نعمله ونحن صغار، وما أدري هل العلم حرر الناس من هذه الخرافات أم أن بعض الناس لا زالوا يعملونها؟ وبعض المدرسين يفعلونها، أو بعض الثانويين؛ لأنه يخاف أن تأتيه سن حمار، سبحان الله! هناك شخص أراد أن يأتي بشيخ ليعظ الناس وهم كلهم فهماء وعقلاء، وبعضهم مدرسون وبعضهم جامعيون في قرية من القرى، فقال هذا الشخص: تعال يا شيخ ذكرهم بالله، قال: كيف أذكر البقر؟ فقال: هؤلاء بشر.
قال: أنا لا أذكر البقر.
قال: اتق الله، وأحسن الظن بالناس، هؤلاء بشر يفهمون وهم مثقفون.
قال: هل أعطيك دليلاً على أنهم بقر؟ قال: نعم.
فجمعهم وقام في المسجد يحدثهم.
وأتى بحديث -هو كذب- وقال: ورد في الآثار في بعض الكتب: أن من استطاع أن يمس أرنبة أنفه بلسانه أدخله الله الجنة.
فقام كل واحد يفعل ذلك، وكل واحد مد لسانه يريد أن يصل، يقول لهم: هل تقدرون الآن أن تفعلوها؟ ثم قال لصاحبه أرأيت أنهم بقر؟ أول شيء ليس من المعقول أن الواحد يمس أرنبة أنفه بلسانه؛ لأنه توجد مسافة بعيدة، وحتى لو كان أحدهم لسانه طويلاً فلماذا يدخله ربي الجنة؟ على أساس أن لسانه وصل إلى أنفه؟ يعني أن هذا العمل معجز بحيث إنه يستحق الجنة على هذا؟ فوقف الرجل بعد أن مدوا ألسنتهم قال: يا جماعة! أرأيتم أنكم بقر؟ وأعطاهم درساً ووعظهم وقال: شغلوا عقولكم.
فنحن من قبل لم نكن نشغل عقولنا، نرى الناس يأخذون السن ويقولون: سن حمار ويرجم بها في عين الشمس، وبعد ذلك تنتهي السن عليه، أنا والله قد عملتها وانتهت السن عليَّ، أي: أن الشمس لم تمد يدها وأخذتها وإنما رميت بها هكذا وعادت السن، فتركته مكانه ولم آخذه.
فحكمة الخلق في الإنسان ظاهرة في كل شيء في الفم ورشة متكاملة عبارة عن قواطع وطواحن و (كريك) هو هذا اللسان، وهناك أنابيب لإفراز اللعاب لكي يخلط الطعام، وبعد ذلك يمضغ ويطحن ويجهزه، وأنت الآن عندما تأخذ الطعام وتمضغه وتخرجه تراه قد أصبح جاهزاً للهضم، فينزل على المعدة، والمعدة دورها ليس المضغ؛ لأنه ليس فيها عظام، المعدة دورها الهضم، والهضم هو عملية تحليل الطعام، فهي تفرز حمضيات قلوية شديدة وحامضة أيضاً، ولهذا عندما يصاب بعضهم بقيء فإنه يخرج منه شيء أصفر حامض جداً، هذا هو المادة الموجودة في بطن كل إنسان، إذا أفرزت هذه المادة على الطعام حللته، وبعد التحليل مرة واحدة يذهب ينتقل إلى الأمعاء، ومن الأمعاء يذهب ويتوزع على الدم، ومن ثم إلى الجسم.
فبعض الناس يستعجل على الأكل فما يمضغ الطعام جيداً، بل يأكله بسرعة، ويأخذ اللقمة، وبدلاً من أن يمررها على الأسنان لكي تمضغها وعلى اللسان، لا، رأساً من فمه على بوابة البطن، وعندما ينزل إلى المعدة تأتي المعدة المسكينة ليست قادرة على هضمه؛ لأنه طعام ليس مطحوناً، وليس جاهزاً، فتضطر أنها تفرز مواد أكثر حتى تهضمه وتتغلب على هذه المشكلة، وهذا التغلب يحدث لها أمراضاً في المستقبل وهو ما يسمونه بقرحة المعدة، وعسر الهضم، وسوء الهضم، ومشاكل المعدة كلها بأسباب أن الإنسان يأكل الطعام ولا يمضغه جيداً، ويستعجل في بلعه قبل مضغه وقبل تحسينه.(71/11)
كيفية إنزال الطعام وحكمة الله في ذلك
كيف ينزل الطعام؟ للإنسان قصبة اسمها المريء، وله قصبة ثانية اسمها: القصبة الهوائية، وقد جعلها ربي من غضروف؛ لتكون مفتوحة باستمرار لدخول الهواء، إذ لو كانت مثل المريء من لحمة لغلقت، فكيف يدخل الهواء؟ وجعل الله الأنف غضروفياً ليكون المجال مفتوحاً، فالأنبوبة التي تستقبل الهواء من بداية الفم إلى الرئتين غضروفية، مفتوحة وأنت نائم ومستيقظ وتشتغل وجالس مفتوحة باستمرار لكي توصل لك مادة الحياة باستمرار؛ لأنك لا تستطيع أن تعيش من غير الهواء لحظة واحدة.
أما المريء الخاص بالطعام فلو جعله الله غضروفياً مفتوحاً باستمرار فبمجرد أن تعمل حركة رياضية وتنتكس، ماذا يصير؟ ينصبَّ الذي في بطنك كله، ولهذا جعل الله هذه القصبة لحمية، وبعد ذلك جعلها ذات عضلات تقبل إدخال الطعام ولا تقبل إخراجه، بمعنى: أنك إذا أخذت اللقمة ومضغتها وبلعتها لا تنزل إلى المعدة مباشرة، بل تدخل الطعام فيها إلى العضلات التي تعصره عصراً، ولو أن هذه الخاصية -خاصية العصر- ليست موجودة لوقفت اللقمة في الحلق، ولو وقفت اللقمة في الحلق فمن ينزلها؟ تشرب ماء اللقمة أكبر من الماء، لا يوجد إلا أن تستعين (بالمرياز) الخاص بالبنادق، فتفتح فمك؟ ويأتي شخص ويضع (مرياز) ويدق ويدق حتى يدخل اللقمة، وبعد ذلك تأتي باللقمة الثانية ويدق، وهل يمكن هذا العمل يا إخوان؟!! انظروا نحن لا نتفكر والله، أشياء كثيرة من حكم الله فينا، لكن لا يقبلان أن ينفتحا معاً، فتقفل البلعوم الخاص بالهواء إذا كنت تأكل، فإذا كنت تأكل تقوم اللحمة هذه فتقف على قصبة الهواء، حتى تمضغه فإذا مضغت وبلعت انفتح البلعوم لأجل أن يسمح للهواء، ولهذا لا يستطيع الواحد أن يتكلم وهو يأكل؛ لأن الكلام عبارة عن استغلال لثاني أكسيد الكربون الذي يخرج من جسدك.
يدخل الأكسجين نقياً فتأخذه الرئتان، وبعد ذلك يرجع وقد أصبح ثاني أكسيد الكربون وهو لم يعد فيه مصلحة؛ فحتى لا يخرج ثاني أكسيد الكربون بدون مصلحة شغَّل الله حبالاً صوتية في الرقبة والفم من أجل أن تأخذ هذا الهواء، ويترجم إلى كلام؛ لكي لا يضيع شيء من الإنسان، فما يستطيع أن يتكلم وهو يأكل في نفس الوقت.
وإلا أصابته الشرقة وهي أن اللسان جاءه أمر من الدماغ أن يدخل الطعام، ثم جاءه أمر من الدماغ أنه يطلع هواء من أجل أن يتكلم الرجل، فعنده أمر مضطرب، أن يفتح الاثنين، ففتح الاثنين فدخلت لقمة في قصبة الهواء فاشترق الإنسان، فما هي الشرقة؟ هي أن تدخل حبة أرز أو قطعة طعام في المريء، ولو دخلت في البلعوم واستمرت فسيموت الإنسان مباشرة، لكن أيموت الإنسان بسبب هذه الشرقة البسيطة؟ لا.
إذا حصلت هذه الشرقة تصدر إشارة من المخ لقوات الطوارئ الموجودة في الرئة أن هناك جسماً غريباً، فتقوم الرئة بطرده: كح كح كح ماذا بك؟ قال: شرقت.
ويأتي بعض الناس يدقونه في ظهره، وهذه الدقة تساعد على الطرش فتخرج، إذا ما خرجت هذه يقعد الواحد (يكحكح) قال: والله ما زالت الشرقة.
والشرقة: هي نقطة ماء أو حبة أرز أو قطعة طعام كادت تودي بحياة الإنسان، بل البعض يقول: كنت سأموت.
ما بك؟ قال: والله إني شرقت، لكن الله رحمني وإلا كنت سأموت؛ لأنك ضعيف لا تتحمل نقطة أو حبة أرز في بلعومك، فالله عز وجل حفظك ولا يضيعك؛ لأنه حكيم أوجد فيك هذا الخلق.(71/12)
من حكم الله تعالى في الرأس
هذا الرأس الذي فيه كل هذه الحكم فيه أربعة أنهار؛ نهر يمد العين بماء مالح، ونهر يمد اللسان بماء ولعاب، ونهر يمد الأذن بمادة صمغية مرة، ونهر يمد الأنف بمادة مخاطية ليس لها طعم، لماذا كل هذه الأنهار؟ لأن العين شحمة، وهذه العين لو تركت بغير الدمع الملحي لتعطلت ولنشأ فيها الدود، الآن نأتي باللحمة ماذا نضع فيها؟ ملحاً؛ لكي لا يعفن، وهذه العين قطعة شحم وحتى لا تعفن فقد خلق الله فيها الدمع المالح.
ووضع الله عز وجل في فمك اللعاب الحلو؛ لكي تهضم الطعام، ووضع في أذنك المادة الصمغية المرة؛ لكي تمنع الحشرات من دخول أذنك، وإذا شمتها الحشرات من بعيد فإنها تهرب، وإلا لو أن هذه المادة ليست موجودة لقمت في الصباح ولقيت أذنك قد امتلأت جرذان وحشرات وذر ونمل، لكن لا يدخل أذنك شيء، فهذه حكمة الحكيم تبارك وتعالى!(71/13)
الحكمة من جعل اليد في أعلى الجسم
كل شيء فيك أنت أيها الإنسان خلق لحكمة، فموقع يديك لحكمة، ومن حكمة الله عز وجل أن جعل يديك في أعلى جسمك، لماذا؟ لتنفعك في حاجة جسمك، لكن ما ظنكم لو أن اليدين وضعت مكان الرجلين، وأردت أن أحك رأسي ماذا أفعل؟ فلابد أن أحني رأسي إلى عند يدي وأحك، لكن الله جعل اليدين في أعلى الجسم فبإمكاني أن أحك رأسي وبإمكاني أن أحك رجلي وأنا جالس.
وبعد ذلك فصَّل الله يديك مفاصل، أول المفاصل في الإصبع الصغيرة، ومفاصل بعدها، لماذا؟ لتكون سهلة الحركة، لأنه كلما كانت المفاصل أكثر كلما كانت القدرة على الاستفادة من العضو أكثر، لكن ما ظنكم لو أن الله خلق لك يداً كالعصا، كيف تحك رأسك؟ كيف تفعل؟ كيف تربط؟ كيف تحمل؟ كيف تشد المسامير ويدك هكذا؟ ولو أن يدك مستقيمة لتعطلت كل الحضارات التي نعيش فيها الآن، ووالله ما طارت طائرة وما تحركت (مكينة) ولا عرف أحد يشد مسماراً على شيء؛ لأنه كيف أشد ويده هكذا؟ (الصميل) في المضاربة ينفع، لكن هل الله خلقني لأضارب فقط؟ لا، الله ما خلقني للمضاربة، بل للعبادة، ولهذا فصل الله جسدي للعبادة تفصيلاً، بمعنى: أنه من أسفل إصبع في الرجل إلى أعلى رأسك كلك مفصل على قدر، ولهذا في الإنسان (360) مفصلاً مربوطة بـ (360) عضلة مربوطة مع (360) عظماً، مع أوردة، وجسم، وعضلات {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14].
تأتي إلى أسفل وترى الجهاز الهضمي والتنفسي والدموي والعصبي والعظمي، أجهزة عجيبة خلقها الله كلها لحكمة لا تطغى عليها.
أيها الإخوة! أليست العين -كما قلنا- والأذن واليد والرجل وجدت لحكم؟ والقلم والورقة والحذاء في رجلك لحكم؟ ما رأيكم لو رأينا من يلبس الأحذية في يده؟! ذهب وأخذ له أحذية إيطالي بمائة ريال ووضع واحدة هنا وواحدة هنا، وإذا به ماش في الشارع، فإن الناس يمسكون به، ما بك؟ قال: ما بي؟ أنتم تضعونه في أرجلكم وأنا أضعه في يدي فماذا يحكم الناس عليه بالعقل أم بالجنون؟ والله يكتفونه فوراً، ويذهبون به إلى المستشفى العام، لماذا؟ لأن الأحذية لا تستعمل إلا في الأقدام، أما اليد لماذا لا نضع عليها أحذية؟! لأننا نضع فيها كفوفاً من أجل أن تقينا البرد، فحكمة الحذاء السير بها، إذا وضعنا الحذاء في غير مكانه فهذا خطأ.(71/14)
عقول قاصرة عن فهم الحكمة من خلق الإنسان
كل شيء في الإنسان وجد لحكمة، نعم أنت كلك وجدت لحكمة، هل تدرون ماذا يقولون في الغرب؟ يقولون: أنت كلك من غير حكمة.
تجد البروفيسور، والمخترع والدكتور والمهندس العظيم في أوروبا أو أمريكا أو روسيا رغم أنهم غاصوا في أعماق البحار والمحيطات وسبحوا في الفضاء واخترعوا اختراعات عجيبة؛ لكن تأتي إليه وتقول له: لماذا يا بروفيسور أنت موجود؟ يقول: والله لا أدري.
لماذا خلقك الله؟ لماذا أنت موجود هنا؟ لأي حكمة؟ قال: لا توجد حكمة من خلقي.
حسناً هل لحذائك حكمة؟ قال: نعم.
إذاً: أنت أقل قدراً من حذائك الذي في قدمك؛ لأن حذاءك صنع لحكمة وأنت لست موجوداً لحكمة، الذي ليس له حكمة ليس له قيمة عندما يكون لديك (ثلاجة) في البيت، ما الحكمة منها؟ تبريد، فإذا ذهب منها (الفريون) ولم تعد تبرد، هل بقي لها حكمة؟ تأخذها وترميها، يقول الناس: لماذا ترميها تقول: قد تعطلت وكذلك الإنسان إذا لم يكن من وجوده حكمة إذاً لماذا يبقى في الوجود؟ ولهذا -حقيقة- الإنسان اليوم في فساد إلا المسلم، وما ترون الآن من صراع بين الدول الشرقية والغربية من أجل تدمير الإنسان، فهذا ناتج عن أن هذا الإنسان فاسد، واليوم هناك اجتماع لمسئولين من روسيا وأمريكا لمعاهدة بنزع السلاح الذري من الصواريخ المتوسطة والقريبة المدى، أما الكبار الطويلة، فلا، هذه ما نقدر أن نبعدها؛ لأنها تقوم من روسيا فتدمر أمريكا، وتقوم من أمريكا فتدمر روسيا.
أنا سمعت الأخبار تقول: إن روسيا عندها (220) صاروخاً الواحد يدمر نيويورك، التي فيها عشرة ملايين، وفي أوروبا أيضاً هذه الصواريخ من هذا النوع موجودة، وعندها (110) صواريخ من سي سي تو، وعندها (110) صواريخ من (سي سي ثري) يعني عندها (440) صاروخاً الواحد يدمر الدنيا كلها، لماذا صنعت هذه؟ لأن الإنسان فاسد، لو أن الإنسان صالح ما كان سيصنع هذه.
ولذا لما رأوا أن هذا التدمير سيعم وسيؤدي بالتالي إلى تدمير أنفسهم راجعوا عقولهم قالوا: تعالوا نتعاهد على أن ننزعها ونتركها، قد خسروا فيها ملايين الملايين، إن الصاروخ الواحد الذي ينتجونه يستطيع أن يقوت العالم سنين، لكن العالم يموت من الجوع وترمى الأغذية في البحار ويموت الناس في أفريقيا وأمريكا، وهناك من هم مصابون (بالإيدز) والأمراض الفتاكة بدون علاج، وهم يخترعون هذه لتدمير الإنسان؛ لأن الإنسان نفسه فاسد؛ ولأنه ما تعلم من الله الذي خلقه، فلم يهتد بهداية الله الذي خلقه فهو فاسد، ولو كان الدين والإسلام هو المسيطر على البشرية، وهو الحاكم لتصرفاتها ما كنت لترى هذا الفساد، والله يقول: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41]، يقول: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56].
أنت أيها الإنسان لك حكمة، وإذا قال إنسان بأنه ليس له حكمة، فهو يلغي وجوده، وكأنه أحقر من حذائه الذي في قدمه، لأن حذاءه له حكمة، ما هذه الحكمة؟ لا يعرف الحكمة من خلقك إلا الذي خلقك؛ لأنه هو الذي أتى بك، ويعرف من أتى بك؟ ولماذا أتى بك، فأخبرك الله بالحكمة فقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] هذه هي الحكمة وهي واضحة {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:57 - 58] فالحكمة من خلقك أن تعبد الله.
والعبادة التي طلبها الله عز وجل منك عبادة شاملة لا عبادة جزئية، عبادة متكاملة متوازنة تلبي مطالب الروح، وتستجيب لمطالب الجسد، وتعمر الدنيا والآخرة، ليست العبادة بمفهومها الضيق الذي عند بعض الناس: هي فقط مجرد الشعائر الدينية، إن الشعائر الدينية هي جزء من العبادة، ولكنها ليست العبادة كلها، إن العبادة بمفهومها الشرعي ما سبق أن تعلمناه في الابتدائي: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
كل شيء عبادة، أنت في الشارع تسير وتغض بصرك؛ بهذا تعبد الله، وأنت في المتجر تبيع وتتصدق ولا تغش ولا تكذب ولا تحلف كاذباً؛ تعبد الله، وأنت تأكل وتذكر الله وتسميه وتحمده عند النهاية؛ تعبد الله، وأنت تأتي زوجتك وتسمي الله وتحمده الذي غض بصرك ورزقك الزوجة الحلال، وأنت تنام على فراشك وتستقبل القبلة وأنت متوضئ وتذكر الله بالأذكار، وأنت تأتي إلى المسجد وتصلي وتقرأ القرآن تعبد الله، وتدرس في المدرسة وتعتبر التدريس رسالة لا وظيفة -فرق بين من يعتبر التعليم وسيلة رزق وارتزاق، وبين من يعتبره رسالة حياة ومهمة ومسئولية- إن من يمارس عمل التعليم وهو يتصور أنه يرتزق لا يجعل الله في تعليمه بركة، أما الذي يمارس التعليم على أنه رسالة ومهمة إنسانية وإسلامية؛ أربي فيها أولاد المسلمين على الإيمان والدين، وأستغل مادتي، حتى ولو كانت مادة بعيدة عن المنهج الديني لكني أطوعها وأجعلها إسلامية، أنا مدرس علوم لكني أسخر المادة لخدمة العقيدة، فلما آتي لشرح النظرية أو الحقيقة العلمية أو أي شيء من مظاهر الكون أرجعه إلى الله، لكن لا أقول: إن الأرض كانت جزءاً من الشمس وأنها انفصلت عنها بسبب أنها تضايقت منها، وبعد ذلك انفصلت، ويوم أن ذهبت هناك وبقيت مليوني سنة، وبعد ذلك اتحد اثنان (هيدروجين) مع واحد (أكسجين) وصارا ماء، وبعد ذلك ذهب هذا الماء في المنخفضات فصارت بحاراً والمرتفعات بقت جبالاً، وبعد ذلك انتهت.
إذاً من فصلها وخلقها وركبها؟ هذا ما لا يبينه أكثر المدرسين إلا من رحم الله؛ فينشأ عند الطفل أو عند الطالب تصور إلحادي أن الكون خلق نفسه، لكن في الإسلام يقول: لا.
إن الله هو الذي خلق السماوات والأرض ويقرأ عليهم القرآن ويقول: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت:9 - 12]، هذا خلق الله الذي خلق وأخبرنا.
أما الذي يقول: إنها كانت جزءاً من الشمس وأنها انفصلت، نقول: من أين كنت تراقب العملية في ذلك اليوم؟ يقول: والله ما أدري.
فعلاً هو لا يدري ولا يدري أبوه ولا أمه، إن ذلك كان قبل خلق الإنسان، والله يقول: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الكهف:51] يعني: ما حضروا يوم خلق السماوات والأرض {وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف:51] فمدرس العلوم والرياضيات والاجتماع وعلم النفس، أي مدرس يستطيع أن يسخر المادة لخدمة العقيدة الإسلامية، ومدرس الدين بطبيعة الحال والتربية الرياضية والفنية أيضاً يستطيع أنه يخرج من هذه المادة إلى الإسلام، فإذا مارس هذا العمل كان عمله عبادة، وهو موظف ويأخذ أجراً، لكنه ينال عليه أجراً من الله عز وجل.
فالحكمة التي من أجلها خلقك الله أيها الإنسان هي العبادة، والعبادة يجب أن نأخذها بالمفهوم الشرعي المتكامل، وأيضاً أن نكون واقعيين مع أنفسنا في المفهوم الشرعي، يعني: لو سألت واحداً منكم وقلت له: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ} [الذاريات:56] كلكم تقولون: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] هكذا، أو لا؟ ليس هناك واحد يقول: إلا ليأكلوا أو ليلعبوا، أو ليدرسوا، أو ليذهبوا إلى النادي ليلعبوا كرة، أو للسمر والنزهة، هل هناك من يقول هذا الكلام؟ لا، لكن الحقيقة أنا نعمل كل هذه الأشياء {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] لكنا لا نعبد الله، نلعب ونأكل ونسمر ونضيع حياتنا في غير ما خلقنا الله له، أجل نغالط أنفسنا نحن ما خلقنا: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:65] ونأتي وننظر: هل نعبد الله حقيقة، أم لا؟ بالمفهوم الكامل ما معنى: "نعبد الله" إننا نظل نعبد الله طوال حياتنا في المساجد، لا، وإنما أعبد الله في المسجد، وإذا انتهيت من الصلاة أذهب إلى المدرسة، وفي المدرسة أعبد الله، كيف؟ أولاً: أحرص على الوقت، ثانياً: أحرص على وقت الأستاذ، ثالثاً: أركز ذهني لكي لا أضيع يوماً من حياتي، رابعاً: أكون واقعياً صادقاً مع أستاذي، خامساً: أنوي بدروسي هذه أني عندما أتخرج أكون داعية إلى الله، وأن أنصر دين الله، وأستعين بما رزقني الله على خدمة هذا الدين، فأكون بهذه الدراسة في عبادة.
لكن لما أدرس ونيتي الدنيا فقط؛ أدرس لكي آخذ الثانوية العامة وأدخل الكلية وأنجح من الجامعة، أو آتي بنجمة من كلية الأمن أو الكلية العسكرية، وبعد ذلك أبني لي عمارة وأشتري لي سيارة، وأتزوج زوجة، وأستريح، وأتمشى، وأسمر، وآكل، وأشرب، هل هذا هدف؟ لو سألت كافراً يهودياً أو نصرانياً وقلت: تعال يا (جيمس) أو أو: ماذا تفعل في الثانوية؟ قال: أدرس الثانوية.
وبعد ذلك؟ الجامعة، وبعد ذلك؟ أتخرج من الجامعة، وبعد ذلك؟ قال: أبني لي عمارة، وأشتري لي سيارة، وأنكح زوجة، وأتوظف، حسناً! ما الفرق بين هذا وبين (جيمس)؟ كلهم سواء، النية واحدة، فقط هذا اسمه محمد وهذا اسمه (جيمس)، وهل الأسماء تغير من الحقائق شيئاً؟ ل(71/15)
دعوة إلى المبادرة بالتوبة النصوح
إذا كانت العبادة بمفهومها الكامل في وادٍ ونحن في وادٍ آخر فلنراجع أنفسنا، ولنصحح المسار مع ربنا قبل أن نفرط ونجازف بأنفسنا ونذبحها في قضية المصير الخطيرة؛ لأنك قد تجازف في كل أمر وتصحح الخطأ إلا مجازفتك مع الله، فإنك إن مت وقدمت على الله وقابلك الله وهو غضبان عليك، وقد خسر البعيد الخسارة التي لا تعوض، ولم يعد هناك فرصة -أيها الإخوان- للتصحيح، إذا سقطت في الدور الأول تنجح في الدور الثاني، وإذا لم تنجح في هذه السنة قد تنجح في السنة القادمة، وإذا لم توجد لك وسيلة في الدراسة تبحث لك عن وسيلة في الوظيفة، وإذا لم تنجح في الوظيفة هذه تبحث لك عن وظيفة ثانية، وإذا تزوجت زوجة ولم تنجح معها تتزوج بأخرى غيرها، لكن إذا مت ولقيت الله وعرفت أنك خسران -أيها الإنسان- مع الله هل هناك فرصة أن ترجع إلى الدنيا لكي تصحح الخطأ مع الله؟ هل هناك إمكانية إن الله يخبرنا ويقول: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] لماذا ترجع؟ ما قال: لعلي أرى أولادي، أو عمارتي، أو مزرعتي، أو دكاني أو تجارتي، بل قال: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100] عرف أنه لا ينفعه في الآخرة إلا العمل الصالح، حسناً لماذا لا تعمل -من الآن- صالحاً؟ من الذي منعك من أن تعمل الصالحات من الآن؟ لماذا تؤخر العمل الصالح؟ أتريد أن تؤخره حتى تموت ثم تطلب أن ترجع لتعمل الصالحات فلا تلبى ولا تجاب؟ رأى أحد السلف جنازة محمولة على الأعناق ومعه أحد تلامذته فقال له: يا بني! ما ظنك لو ردت الروح لهذا الميت؟ قال: يطيع الله فلا يعصيه أبداً -وفعلاً لو أن واحداً من الأموات رجع والله لا يعصي الله أبداً- قال: فكن أنت هو.
يقول: كن أنت كأنك أنت الذي مات موتة وأرجعك الله عز وجل، خذ من موته عبرة، وأنتم كل يوم ترون أمواتاً، هؤلاء الأموات أمنيتهم أنهم يعودون مثلكم يصلون ويصومون، فخذوا من أمنيتهم درساً لكم، ولا تفوتوا على أنفسكم الفرصة، ولا تفرطوا في المجالس فالفرصة ما زالت سانحة لكم؛ لأنكم مهددون بالموت في كل لحظة، فقد يأتي الشيطان فيقول للواحد: أنت ما زلت صغيراً، وأنت الآن عمرك (15) أو (16) أو (18) سنة، يا أخي! عندما تتزوج وتكبر فإنك سوف تتوب، حسناً هل عندك ضمان بأنني سأعيش (20) أو (30) سنة؟ إذا كان عندي ضمان فسأطمئن، لكن ما دام أنني مهدد بالموت فيمكن أن أموت الآن، من يضمن منا ومنكم أن يعيش ويصلي الظهر؟ هل أحد يضمن ذلك؟ والله لا أحد يضمن ذلك.
وأذكر مرة من المرات أن مجموعة من الشباب كانوا يدرسون في كلية الطب في أبها زاروني في البيت، فجلست معهم جلسة مثل هذه الجلسة الإيمانية، وكان في آخر الكلام أنني قلت لهم: يا إخوان! ما عندنا ضمان بالحياة فلا بد أن نسارع بالتوبة، فإن مد الله في أعمارنا؛ لأننا كل يوم نقضيه في طاعة الله، كل يوم نصلي فيه خمس صلوات، وكل سنة نصوم فيها شهراً، وكل سنة نزكي فيها، نحج فيها ونعتمر فيها، ونتصدق فيها، ونعمل خيراً، فمعنى هذا: أن الزيادة في أعمارنا ونحن على العمل الصالح في زيادة خير ورفع الدرجات فأتوب من الآن وأحسن النية وأصحح الوضع مع الله، وأجزم أني لا أعصي الله عز وجل، وأبدأ في الهداية ثم يأتيني القدر غداً، وإذا بي لا أندم، لكن الذي لا يتوب إن جاءه الموت ندم، وإن لم يأته الموت فهو في خسران كل يوم، كل يوم يضيع خمس صلوات، فلو مات اليوم أحسن من أن يموت غداً، لو مات اليوم يكون ذنبه معيناً، لكن لو مات غداً فعليه ذنبه ذاك وعليه ذنب خمس صلوات، لو مات اليوم أحسن من غدٍ؛ لأنه لو مات غداً يكون عليه ذنب الليل الذي سمر فيه على الأغاني، والمسلسلات، ونظر إلى النساء في السوق، ولعن وشتم وسب وسخط وعمل، فسجلت كل هذه السيئات عليه، ولهذا ذنوبه غداً أكثر من ذنوبه اليوم، فموته اليوم أفضل من غد، وموته غداً أفضل من بعد غد، وكلما زاد عمره زاد إثمه.
فقلت لهم هذا الكلام فتأثروا، وكان من فضل الله لهم أن عندهم استجابة وتأثر ثم تابوا، طبعاً المجموعة هم خمسة أنفار منهم واحد صالح والأربعة عاديون، لكنهم جاءوا إلى زيارتي وهو جلبهم، فكلهم أعلنوا التوبة وقالوا: كيف نفعل؟ فقلت لهم: أولاً: الأمر سهل، الماضي كله ما يكلف محو ذنوبه إلا أن تقولوا: أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، هل فيها تعب يا إخواني؟ الماضي كله مهما عصيت، ومهما أجرمت، تمحوه كله بكلمة: أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، وهذه ليس فيها جهد، بل إن الله يغفر ذنبك كله ويبدله حسنات، ويسجل السيئات كلها كم؟ مليون سيئة، الله يقول: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70].
هذا الماضي، وأما المستقبل الذي في علم الله ولا ندري عنه، نصلح كل المستقبل بأن ننوي فيه النية الحسنة، فننوي ألا نعصي الله أبداً، وهل في النية تعب؟ بعض الناس تقول له: يا أخي! انوِ خيراً وقل إن شاء الله، قال: والله لا أنوي، سبحان الله! لا تنوي حتى الخير؟! الآن لا يوجد تعب في النية، لا يوجد سوف أقوم أصلي أو سأجاهد أو سأعمل أي شيء، إنما أنوي بقلبي أني لا أعصي الله ولا أضيع فرائض الله في المستقبل، وهذه ليس فيها تعب، فالمستقبل والماضي ليس فيه تعب، وما الذي بقي؟ الحاضر، أجتهد فيه بأن لا أضيع فريضة الله ولا أقع في معصية الله، وهذه ليس فيها تعب، فإذا أذن قمت وأصلي، وإذا رأيت امرأة مسلمة فأغض بصري عنها، وإذا سمعت أغنية تسخط الله أغلقها أو أقوم من المكان الذي فيه هذا المنكر، إذا عرض علي الحرام لا آخذه، إذا قيل لي: امش في الباطل، لا أمشي فيه فهل في هذه الأعمال تعب؟ والله إنها سهلة يا إخواني! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وإنها ليسيرة على من يسرها الله عليه).
فقلت لهم هذا الكلام ومن فضل الله قالوا: دلنا على كتاب.
فدللتهم على كتاب الكبائر للإمام الذهبي، وكتاب آخر اسمه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لـ ابن القيم، وقيمته قيمة كيلو من العنب، الكيلو العنب بثمانية ريالات والكتاب بستة ريالات، ويمكن شراء هذا الكتاب في نزهة اليوم، بدلاً من أن تتنزه كل يوم بخمسة ريال أو بعشرة.
يمكن أن تصوم هذا اليوم وتأخذ بهذا المبلغ كتاباً، وهذا أول كتاب -حقيقة- اقتنيته في حياتي، وهو الكتاب الذي قلب حياتي رأساً على عقب، كتاب الكبائر، لكن اقرأه بقلب مفتوح وبنية العمل، فيه (67) كبيرة، والكبيرة الأولى: الشرك بالله، والثانية: السحر، والثالثة: قتل النفس، والرابعة: ترك الصلاة، وكل كبيرة تمر عليها تتوب إلى الله منها، فما تنتهي من آخر الكتاب إلا وأنت مسلم حقاً إن شاء الله.
فهؤلاء الشباب أعطيت لهم كتباً وخرجوا من عندي تائبين، وبعد ثلاثة أيام ذهبوا إلى مكة ووقع لهم حادث ومات أحدهم وقد أخبروني بعد ذلك لما جاءوا وهم يبكون، يقولون: والله الذي لا إله إلا هو -كان هذا بعد العمرة، فهم ذهبوا للعمرة ورجعوا- إن صاحبنا كان يطوف بالبيت وهو يقول: أستغفر الله ويبكي من خشية الله، وكان آخر حياته أنه مات إن شاء الله شهيداً، نسأل الله أن يسكنه فسيح جناته.
حسناً ماذا خسر هذا؟ يا إخواني! الإيمان والهداية هي البديل الصالح لهذه الحياة، وهي الخيار الأنسب، أما الكفر والضلال فليس بخيار ولا بديل صالح، فالكفر خسارة، إنك بالإيمان تكسب كل شيء ولا تخسر شيئاً، وإنك بالضلال والكفر تخسر كل شيء ولا تكسب شيئاً.
بالله والدين والإيمان والهداية ماذا تخسر؟ تخسر الزنا! وهل الزنا مكسب؟ تخسر الربا! وهل الربا مكسب؟ تخسر العقوق! وهل العقوق مكسب؟ تخسر الفجور والكذب والغش والمماطلة وكل رذيلة، وخسارتك للرذائل كرامة، لكن تكسب ماذا؟ تكسب العزة والصدق والوفاء والأمانة والمروءة والشهامة والعفة، وتكسب كل شيء؛ لأن الدين يبني فيك كل هذه الفضائل، فأنت بالإيمان والهداية تكسب كل شيء ولا تخسر شيئاً مهماً، ولكنك بالضلال والكفر تخسر كل شيء ولا تكسب شيئاً مهماً، ماذا تكسب؟ هؤلاء العصاة والفسقة ماذا يكسبون؟ يذهب الواحد منهم (يعربد) شكله مقلوب، (غترته) على رقبته مثل المجنون، وله أحذية لا يدخلها في رجله بل يدخل فقط رأس أصابعه ويخبط الشارع مثل المجنون، يأتي إلي بيته ويرمي بنفسه على سريره أو على فراشه مثل الثور أو الحمار فهل هذه حياة؟ هل هذه إنسانية؟ لا يعرف الله، ولا كتاب الله، ولا بيوت الله، ولا فرائض الله، بل يعرف المقاهي والزنا والنساء والغناء والفجور والدعارة هل هذه حياة كريمة يا عباد الله؟ والله هذه حياة لا تقبلها حتى الحيوانات، والله إن الحمير لتأنفها ولا ترضاها، فكيف بالإنسانية المكرمة؟ أحدهم اسمه باسكال -فيلسوف غربي- يقول: إنك بالإيمان رابح في كل حال.
وأبو العلاء المعري يقول:
زعم المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأجساد قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما
(إن صح قولكما) يقول: إن صح قولكم أنه ما هناك بعث (فلست بخاسر) ماذا خسرت بالدين؟ ولا شيء، بل كسبت كل شيء (أو صح قولي) الذي بعد (فالخسار عليكما).
يقول الله: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات:46] ويقول: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:83] ويقول تبارك وتعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية:25] من الذي يقول: لا والله لا إياب إلى الله؟ هل هناك أحد يستطيع أن يمتنع عن الله؟ فإذا كان هناك أحد فلا مانع له من أن يعصي الله؛ لأن الله لا يقدر عليه، لكن من الذي يستطيع أن يفلت من قبضة الله؟ لا ملك ولا أمير، ولا قوي عضلات ولا تاجر ثري بالأموال يستطيع الأمير والمأمور، والملك والمملوك، والغني والفقير، والقوي والضعيف، والكبير وال(71/16)
وصايا للثبات على الاستقامة
يا إخوتي في الله! وصيتي لنفسي ولكم بتقوى الله والعودة إلى الله والرجعة بالتوبة النصوح من الذنوب كبيرها وصغيرها، والاستقامة على الدين، وأوصيكم بأربع وصايا تحفظ لكم الدين: أولاً: اجعلوا لكم وقتاً مع كتاب الله لأنه الشفاء لما في الصدور، ومفهوم هذا الدرس أنه لا بد أن يكون لك في كل يوم ورد معين وحزب من القرآن الكريم تقرأه، كما لك ورد في طعام الفطور والغذاء والعشاء، يجب أن يكون لك ورد من القرآن تغذي به قلبك، تقرأه وتفهمه وتعرف تفسيره.
ثانياً: يجب أن يكون لك درس معين من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليكن في كل يوم حديث واحد، وأحسن كتاب أدلكم على قراءته رياض الصالحين.
ثالثاً: يجب أن يكون لك رفيق صالح، فتعرَّف على رفيق صالح وارتبط به ارتباطاً إيمانياً من أجل أن يعينك على السير في هذا الطريق.
رابعاً: يجب أن تحرص كل الحرص على الابتعاد من قرين السوء؛ لأن قرين السوء مريض، ولو رأيت شخصاً عنده (جدري) فهل تجلس معه؟ ولو رأيت شخصاً عنده (سل) فهل تأكل معه؟ أو شخصاً عنده (إيدز) أو (سرطان) فهل تشرد منه؟ وهذا صحيح، لكن إن كان عنده (كوليرا) في عقيدته أو (سرطان) في دينه أو (إيدز) في إيمانه، فهذا والله أولى أن تبتعد منه؛ لأنه يهلكك في الدنيا والآخرة، الذي يزين لك المعصية ويشوه لك الطاعة، لك رفيق يمشي معك فأذن المؤذن فقلت: يا أخي! دعنا نصلي.
قال: يا رجل ليس الآن وقت الصلاة، يقول المطاوعة: إن تأخير العشاء أفضل.
في هذه الفتوى أفتاه إبليس، يقول: يقولون: إنه كلما تأخرت العشاء كان أفضل، دعنا نسمر الآن، وبعد ذلك إذا جاء آخر الليل صلينا فهذا شيطان رجيم فابتعد منه.
مررت أنت وهو في الشارع وأخذ ينظر إلى امرأة لا تحل له وعندما قلت له: يا أخي اتق الله، (من ملأ عينيه من الحرام ملأهما الله من جمر جهنم)، قال: يا شيخ! لا تعقد نفسك إنهم يسمون الدين تعقيداً! فالذي ليس متدين متروكاً، والذي يسمونه معقداً أحسن من المتروك، الإنسان المعقد -الذي عنده عقدة- أحسن من ذلك المتروك السائب، الذي ما له دين ولا مبدأ ولا اتجاه إلا أنه عبد لهواه وشهواته وشيطانه، قال: هذا تعقيد، قل: لا والله يا أخي، أنا لا أعقد نفسي، ولكني أصونها وأحفظها، وأغض طرفي خوفاً من ربي، وابتغاء ما عند الله عز وجل، أنا لست عبد شهوتي، ولست عبد هواي، وأحقر شيء عندي هو الجنس.
إن من الرجال من هو عبد لجنسه، تراه فقط مثل الكلب يتلصص على محارم الناس، لماذا؟ لأن الجنس سيطر عليه، أي: أهلكه؛ فهو يتصرف في مجال الجنس فقط، مثل الحمار إذا رأى حمارة، هل الحمار عنده عقل حتى يغض بصره، ألا تراه يحرك مسامعه هكذا ويحرك ذيله وينهق وراء الحمارة؟ هذا مثل ذاك، لا يعرف خلقاً ولا يعرف ديناً ولا مروءة، إذا نظر إليها لحق وراءها، ومن دكان إلى دكان، ومن معرض إلى معرض، مثل الحمار هذا على اثنتين وذاك على أربع، ولا حول ولا قوة إلا بالله!! فاحذر يا أخي، هذه أربع أعيدها: اجعل لك من القرآن ورداً، ومن الحديث حديثاً واحداً، واحرص على رفيق الخير، وابتعد عن رفيق الشر.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلني وإياكم من عباد الله الصالحين.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.
وأشكر أولاً أسرة المدرسة مديراً مدرسين، وأشكركم كأبناء وإخوة وزملاء على إتاحة هذه الفرصة، وأسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعني وإياكم بما قلنا وما سمعنا، وأن يكون ما قلت أنا وما سمعتم أنتم حجة لنا يوم القيامة لا حجة علينا؛ لأن هذا الكلام عهدة عليَّ أنا، فالله سيسألني هل أنا أعمل بما أقول، وعهدة عليكم فالله سيسألكم يوم القيامة هل عملتم بما سمعتم، أو يدخل الكلام من هنا ويخرج من هنا {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] (يا عبادي إنما هي أعمالكم -كما يقول الله عز وجل- أحصيها عليكم بالليل والنهار، ثم أوفيكم إياها يوم القيامة، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بارك الله فيكم، وجزاكم الله خير الجزاء.(71/17)
الأسئلة(71/18)
أدلة إثبات وجود الله
السؤال
أراد رجل نصراني أن يؤمن بالله مقابل أن تثبت له -كمسلم- أن الله موجود، فكيف يتم إثبات وجوده سبحانه؟
الجواب
هذا السؤال مهم وسأجيب عليه، أما الباقي فأظن أن الوقت يطول.
وسأحكي لكم مناظرة بين مسلم وملحد، فافهموا وركزوا قليلاً، فأنتم على باب الجامعة، ويجب أن تدركوا هذا، فكثير من الشباب في الثانوية يكثر من الهزل والضحك والمزاح، ويعيش بعقلية المتوسط، ومرحلة المتوسط يسمونها في التربية: مرحلة المراهقة، والمراهقة تعني: الخبال، والسفه، لكن لم يعد هنا مراهقة، فأنت الآن في مرحلة الرجولة فيجب عليك أن تودع تلك المرحلة المتوسطة بمرحلتها، وتدخل الثانوية بعقلية الرجال، وبحياة الرجال، ولا تدع للهزل ولا للمزاح واللعب ولا الفوضى مجالاً في حياتك، وابق مجداً دائماً، صادقاً.
أريدكم أن تفكروا معي في هذا الموضوع وأن تركزوا بعقلية الرجال.
تناظر اثنان: ملحد ومسلم.
فقال المسلم للملحد: لماذا لا تؤمن بالله؟ قال: لأنه غير موجود.
قال: وكيف عرفت أنه غير موجود؟ قال: لأنني لم أره.
قال: حسناً.
وكان أمامهم كوب زجاجي فيه ماء، فسكب الماء.
ثم قال: من سكب الماء هذا؟ قال: أنت.
قال: ألا يمكن أن يكون الماء انسكب بنفسه؟ قال: لا، مستحيل.
قال: حسناً، من صنع هذه الزجاجة؟ قال: المصنع.
قال: ألا يمكن أن تصنع الزجاجة نفسها بنفسها؟ قال: مستحيل، لا بد أن يكون لها صانع.
قال: حسناً، فمن صنعني وصنعك؟ ألا يمكن أن نصنع أنفسنا بأنفسنا؟ قال: مستحيل، لا بدلنا من خالق.
قال: حسناً، الخالق هو الله.
قال: قلت لك: إنني لا أراه، فالعقدة عنده الرؤية.
فقال هذا المسلم -واسمه حسن: يا فلان -ينادي الكافر واسمه قبيح -! أنا أمامك الآن، لو حصل لي حادث مروري وترتب على هذا الحادث أن بترت يدي، ماذا أبقى في نظرك؟ حسن أو أصير عمر؟ قال: لا، تبقى حسن.
قال: إذاً بعدما ذهبت يدي وركبت السيارة مع أحد زملائي -ولم أعد أسوق السيارة - ثم حدث لي حادث آخر وبترت قدماي الاثنتين فماذا تنظر إلي؟ هل أنا حسن، أم أصير شخصاً آخر؟ قال: لا، ستبقى حسناً.
قال: وبعد فترة درست وكنت آتي إلى السيارة بالمقعد وأنا ذاهب مع زميل لي فحدث لي حادث، وترتب على هذا الحادث أن بترت يدي الثانية وانكسر ظهري، وفقدت حاسة السمع وحاسة الشم، وما بقي عندي شيء إلا الروح تصعد وتنزل، فماذا يسميني الناس: حسناً أو عمر أو علي، رغم أني فقدت كل حواسي وكل إمكاناتي؟ قال: لا، ستبقى حسناً رغم ذلك.
قال: فأنا حسن لشيء في ذاتي ليس ليدي ولا لرجلي ولا لحاستي ولا لسمعي ولا لبصري، وإنما لشيء داخلي.
قال: نعم، أنت حسن، اسمك حسن بشيء في داخلك.
قال: ما هو هذا الشيء الذي بداخلي؟ قال: الروح.
قال: نعم، أنا حسن ما دامت الروح فيَّ، فإذا خرجت الروح ماذا أصير؟ لم أبق حسناً، ماذا يسموني؟ يسموني جنازة فيقولون: مرت الجنازة ولا يقولون: مر حسن، لو مشى برجله يقولون: مر حسن، لكن إذا مر وهو محمول قالوا: مرت جنازة فلان، المرحوم، أو الهالك، أو الميت، أو الجنازة، وبعد ذلك أنا حسن وأنا في بيتي لي قيمة، ولكن عندما تخرج روحي في تلك الليلة، ولا يستطيع أهلي أن يدفنوني في الليل، هل يستطيع منهم واحد أن ينام معي في الغرفة التي وضعت فيها وأنا ميت؟ لا يستطيعون.
لماذا؟ فيها وحشة، قال: والله لا أقدر أن أرقد بجانب الميت، من يستطيع أن يرقد مع الأموات؟ حسناً: أنا أبوكم، أنا أخوكم، أنا منكم! لكنك ميت، إذاً: لو رد الله عليَّ روحي بعد قليل من الموت وناديتهم: يا جماعة أبشركم أني عشت.
ماذا يصنعون؟ هل يذهبون بي ليدفنونني؟ أم يحتفلون بي، ويفرحون؟ لماذا؟ لأن حسناً جاء، أين هو حسن؟ هل حسن هو الهيكل أم الروح؟ بل الروح، إذاً أنا حسن ولي قيمة بالروح.
قال: نعم.
قال: إذاً أين الروح؟ وهنا الشاهد، أين روحك؟ هل تراها؟ قال: لا.
قال: أهي موجودة فيك؟ قال: نعم موجودة.
قال: أريد أن أراها وإلا فأنت لست موجوداً، أحد أمرين: إما أن تثبت أن فيك روحاً وأنك موجود، أو أنه ليس فيك روح وأنك لست موجوداً، ثم إذا لم تكن موجوداً فأنت عدم، وإذا كنت عدماً فكيف أتكلم مع العدم؟ فقال ذاك: نعم، الروح موجودة وأنا لا أراها.
قال: إذاً وجود الروح وأنت لا تراها دليل على وجود الله وأنت لا تراه، ولهذا يقول الله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] يعني: أن الروح دليل على أمر الله، ولو كانت الروح شيئاً مادياً لا كتشفوها.
في أمريكا باحث علمي أتى برجل أوشك أن يفارق الحياة ووضعه في صندوق زجاجي، وأجرى له وسائل الحياة من هواء وغيرها، وجعل يرصد كل الأجسام التي تدخل عليه، وبعد ذلك مات الإنسان دون أن يرى شيئاً داخل الصندوق ولا حتى كسر الصندوق.
لقد استطاعوا في الطب الحديث أن ينقلوا أعضاءً من إنسان إلى إنسان إذا مات، الآن عملية نقل القلوب، رجل عنده قلب فاسد، لا يصلح، وسوف يموت، فأتوا بشخص آخر على وشك الموت فأخذوا قلبه، وهو صالح لماذا لم يشتغل في ذلك؟ لأن الروح ليست موجودة، أجل الحياة ليست في القلب بل في الروح، فلما ذهبت الروح لم يعد القلب يشتغل، أتينا بهذا القلب الذي لا يشتغل هناك وركبناه في واحد فيه روح فاشتغل قلبه.
نأتي إلى الكلية، بمجرد أن يموت الإنسان تقف الكلية، نقوم بأخذ الكلية من هذا الذي سوف يموت ونشغلها فنضعها فيمن فيه روح فتشتغل، لماذا وقفت هناك واشتغلت هنا؟ وقفت هنا؛ لأن الذي كانت تشتغل فيه خرجت روحه فتوقفت.
الآن عندما ينام الواحد تأتي بالأجسام أمام عينه، تفتح عينه وتضع أمامه لوناً أحمر وأصفر وأخضر لا يرى، تتكلم عند أذنه بصوت خفيف لا يسمع، تضع الطيب عند أنفه لا يشم؛ رغم أن حاسة الشم موجودة عنده، وحاسة العين موجودة، وحاسة الأذن موجودة لكنه لا يسمع ولا يشم ولا يرى، لماذا؟ لأنه نائم، وليس الأنف هو الذي يشم في حقيقة الأمر فالذي يشم هو الروح، أين الروح؟ الروح ليست موجودة بجسمه الآن، هي في إجازة قريبة، تريدها أن ترجع أيقظه: فلان، فلان! استيقظ، أين كان هذا؟ كان نائماً، عندما استيقظ أصبح يميز الرائحة واللون والصوت! وعندما كان نائماً لم يميز شيئاً؛ لأن روحه غير موجودة.
والروح لها خروجان من الجسم، خروج مؤقت تحت الاستدعاء وهو النوم، وخروج نهائي -فصل من الوظيفة- وهو الموت، وبعد ذلك هناك إعادة، متى الإعادة؟ بعد الموت، تأتي الروح فترجع إلى الجسد للحساب، سؤال وجواب ماذا فعلت؟ وماذا عملت؟ إن نجحت فجنة، وإن سقطت فنار.
فوجود هذا النصراني ووجود الروح فيه دليل على وجود الله، مفهوم هذا الكلام يا إخوان؟ فإذا قال هو: لا.
الروح فيَّ وأنا لا أراها، فأنا لست مؤمناً بوجودي.
إذاً ما دام أنك غير موجود فأنا لا أتناقش مع العدم، هل تناقش عدماً؟ فإما أن تؤمن بأنك موجود وأن الروح موجودة فيك، وأن إيمانك بوجود الروح يلزمك بالإيمان بالله عز وجل وإلا فلا نقاش معك.(71/19)
التوبة الصادقة تحول بينك وبين المعاصي
السؤال
شخص يريد التوبة والجنة، ويشكو أنه يرتكب العادة السرية، وعند الانتهاء منها يشعر بالذنب ويريد التوبة، ولكن ما يلبث أن يقع في ذنب العادة السرية فماذا يفعل ليتخلص منها بارك الله فيكم؟
الجواب
اسم العادة السرية هذا اسم حديث، لتغيير حقائق الأشياء القبيحة في حياة الأمة، وهذه من علامات الساعة: أن تمارس المحرمات بأسماء مستحدثة، فيسمون الزنا علاقات جنسية، ويسمون الربا فوائد بنكية، ويسمون الخمور مشروبات روحية، ويسمون السحر ألعاباً (بهلوانية) (والبهلوان) هذا يضع السيخ في عينه، وهو ساحر كذاب، والله لو آخذ عوداً فقط لأخرجت به عينه، لكنه يضع سيخاً من حبل ويضع السيخ وهو حبل في عينه وهو في الحقيقة رجل وتمشي السيارة من فوق ظهره ولا شيء فوق ظهره، دجال كذاب، لكي يعطيه الناس أموالهم.
تجد السيارة تمشي من على الحجر وتفتتها، وهذا الذي صدره من عظم ولحم تمشي من فوقه؟! ما هذا الكلام؟! ولهذا شخص من الناس جاء إليه شخص -من الموحدين- وهو يأخذ السيخ ويضعه على عينه؛ فينعوج السيخ فقال له: تعال أدخل إصبعي فقط -ولا داعي للسيخ- قال: لا، قال: أرأيت أنك كذاب.
لا تتحمل إصبعي وتتحمل السيخ؟!! فتراهم يغيرون الأسماء لكي تلتبس على الناس، هذه اسمها -العادة السرية- في الشرع ناكح يده، وناكح يده ملعون، لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة من ضمنهم: (ولعن الله ناكح يده)، وفي أثر: [أنه يأتي يوم القيامة ويده حبلى له فيها ثلاثمائة ولد] يسحبها ويده حبلى، الناس مستورون، أيديهم بيض ويد هذا زانية، مليئة، فيها أولاد وبنات وقد كبروا، وكيف يسحبها يوم القيامة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله! والطب الحديث يقرر أنها مرض، وتفتك بالإنسان فتكاً عنيفاً؛ لعدة أسباب منها: أولاً: ترهقه؛ لأنها تيسر له عملية ممارسة الجنس في كل لحظة، وليس لها ثمرة، ولا بجانبه امرأة ولا أموال ولا شيء إلا يده شغال ليل نهار.
ثانياً: أنها ترهق العضو التناسلي وتؤدي إلى تمزيق خلاياه.
ثالثاً: أنها تسبب للإنسان أمراضاً في البروستات والجهاز التناسلي، وتجعله غير قادر على مباشرة الحياة الجنسية إذا تزوج.
وأيضاً تسبب له العقم؛ لأن الحيوانات المنوية التي يفرزها باستمرار أيام اكتمال بنوته وشبابه تقلل من رصيده من الإمكانات وبالتالي إذا تزوج -ربما- لا ينجب؛ لأنه قد أنجب في يده.
نعم.
فالعادة السرية حرام في الشرع، وهناك فتوى من هيئة كبار العلماء بحرمتها، وأنها أخت الزنا، وعلى المسلم أن يتوب إلى الله منها.
وهذا الأخ الذي عنده دافع للتوبة ويريد أن يتوب لكنه بعدما يتوب تغلبه نفسه فيعملها، ثم يشعر بالندم شعوره بالندم بعد ذلك دليل على أن قلبه لا يزال حياً، وكلما زلت به القدم فعليه أن يتوب، لكن يجب أن يتوب توبة الصادقين الرجال، أما أن يتوب وفي نيته أن يعود فهذا يكذب على نفسه، فالتائب من الذنب والعائد له كالمستهزئ بالله عز وجل، لكن لو تبت وصبرت وجالدت ثم في لحظة من اللحظات ضعفت وغلبتك نفسك ووقعت في خطيئة من الخطايا، فإنه يلزمك فوراً التوبة، ويلزمك التوبة بقوة، أقوى من التوبة الأولى؛ لأن توبتك الأولى ضعيفة لم تمنعك من المعصية، فيجب أن تكون توبتك الثانية قوية تستطيع أن تحول بينك وبين المعصية، وليس لك وسيلة إلا التوبة، وتوبة الصادقين.(71/20)
شروط التوبة النصوح
السؤال
ما هي شروط التوبة النصوح؟
الجواب
أما شروط التوبة فهي أربعة: أولاً: الإقلاع عن الذنب.
أي: أن تترك الذنب، لا أن تتوب وأنت ما زلت تسمع الأغاني، بل تقلع.
ثانياً: الندم على ما فات، فلا تتمدح بالماضي، والله أنا كنت عازفاً وكنت هاوياً -هاوي: يعني منتكس- قال: والله فلان هوى، الآن ركن الهواة، الهالك مع الهالك، فأنت لا تتمدح بالماضي تقول: كنت أغني أو كنت أعزف.
لا، قل: الحمد لله الذي عافاني, الندم على ما فات.
ثالثاً: العزم أي: التصميم على عدم العودة مستقبلاً بأي حال من الأحوال، هذه اسمها التوبة النصوح، لأنه توجد توبة نصوحة وتوبة كذب، فالتوبة النصوح هي التي تتوفر فيها أربعة شروط، الثلاثة الأولى: أن يقلع، ويندم، ويعزم على ألا يعود.
وإذا كانت التوبة من حق متعلق بآدمي، فالرابع: أن ترد الحق إلى صاحبه، فإذا سرقت مالاً على شخص فترجعه له، أو أخذت عليه شيئاً فترده عليه، تستسمح منه، أما إذا كان الذنب متعلقاً بالله عز وجل فالثلاثة الأولى: أن تقلع، وتندم، وتعزم على ألا تعود إن شاء الله.(71/21)
أمور تعين على الخشوع في الصلاة
السؤال
كيف يخشع المصلي في صلاته؟
الجواب
أذكر لكم قصة أحد السلف واسمه حاتم الأصم؛ من خيار السلف، كان أخشع عباد الله، ولما سئل عن الخشوع: كيف تخشع في صلاتك؟ فأجاب إذا أردت أن أصلي وسمعت نداء ربي، قمت إلى وضوئي، ثم أقبلت على مصلاي -يعني المسجد- فأكبر في تحقيق، وأقرأ بترتيل، وأركع في خضوع، وأسجد في خشوع، وأتشهد في يقين، وأجلس في طمأنينة، وأتصور أن الجنة عن يميني، وأن النار عن يساري، وأن ملك الموت خلف ظهري، وأن الصراط تحت قدمي، وأن الكعبة أمامي، ثم لا أدري بعد ذلك أقبلت صلاتي، أم ردت عليَّ.
انظروا كيفية صلاته: أول شيء يقول: أتهيأ لصلاتي، وأتوضأ، وآتي إلى مصلاي، ثم أقف بين يدي ربي فأتصور أن الكعبة أمامي، وأن الجنة عن يميني، وأن النار عن شمالي، وأن ملك الموت خلف ظهري -فقد تكون آخر صلاة أصليها- وأن الصراط تحت قدمي، ثم أكبر في تحقيق، وأقرأ في ترتيل، وأركع في خضوع، وأسجد في خشوع، وأتشهد في يقين، وأجلس في طمأنينة، ثم أسلم في رجاء -يعني: رجاء أن الله عز وجل يتقبل صلاتي- ولا أدري أقبلت صلاتي بعد هذا، أم ردت عليَّ.
هذا هو الخشوع، أن تستحضر عظمة الله، وتظن وأنت في الصلاة أنها آخر صلاة تؤديها.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.(71/22)
وسائل الثبات على دين الله [1،2]
الثبات على دين الله موضوع مهم وخطير؛ وذلك لأنه متعلق بحسن الخاتمة، ومتعلق بالقلوب التي هي الأساس، ولأنه منَّة يمتن الله بها على من يشاء من عباده، ولكثرة الفتن والمغريات السائدة في عصرنا الحاضر كان المسلم بحاجة إلى ما يثبته على دين الله والاستقامة عليه، ومن أعظم ما يثبت العبد في هذه الدنيا الوسائل المستقاة من كتاب الله وسنة رسوله، وكلام أهل العلم: كتلاوة القرآن وتطبيقه، ولزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتدبر قصص الأنبياء والمرسلين وغير ذلك من الوسائل.(72/1)
أسباب التذبذب في دين الله وعدم الثبات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله: إن ظاهرة التذبذب وعدم الثبات والاستقرار عند حد معين من الالتزام بالدين، والبقاء في صعود وهبوط، وفي ارتفاع وانخفاض، وفي مد وجزر، ظاهرةٌ ملاحَظَةٌ في هذا الزمان، إذْ نرى البعض من الناس يهتدي وتُلاحَظ عليه علامات الهداية من حرصه على الفرائض، وتمسكه بالسنة، وابتعاده عن قرناء السوء، وعن مقارفة الآثام، ثم ما يلبث أن تمر عليه فترة طالت أو قصُرت حتى يبرد في إيمانه، وينهزم في استقامته، ويعود إلى ما كان عليه، بل يعود بعضهم إلى أسوأ مما كان عليه.
هذه الظاهرة هي ظاهرة مَرَضية، وهي خطيرة جداً، ينبغي للإنسان أن يحذرها، وأن يتجنب الوقوع فيها لعدة أسباب:(72/2)
تعلق ظاهرة التذبذب بحسن الخاتمة
السبب الأول: أنها متعلقة بحسن الخاتمة: فإن الإنسان لا يدري متى يموت، وقد يهتدي ويلتزم ثم ينهزم، فيموت في ساعة الانهزام، قد يعيش طول حياته متمسكاً بطاعة الله، ثم في لحظة من لحظات السيطرة النفسية والغلبة الشيطانية يرجع -والعياذ بالله- فتأتيه مَنِيَّته في هذه اللحظة فيُخْتم له بسوء الخاتمة فيخسر دنياه وآخرته، وهذه خطيرة جداً، إذ أن حسن الخاتمة عليه المعوَّل في استقامتك -أيها الإنسان- وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول: (اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة).
وهذا معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يُفْهَم عند كثير من الجهلة -الذين يصطادون في الماء العكر- فهماً مغلوطاً، الحديث الصحيح يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذارع، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) وفي روايات كثيرة: (فيسبق عليه الكتاب) وفي رواية: (فيما يظهر للناس) وفيه عدة روايات، لكن هذا مضمون الحديث.
هذا الحديث فيه حث وتحفيز شديد من النبي صلى الله عليه وسلم لمن يعمل بعمل أهل الجنة أن يتمسك، وأن يثبت عليه حتى يموت، إذ ربما تركه وعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، ولا ينتفع بما عمل من عمل صالح طول حياته.
وفيه حث لمن يعمل بعمل أهل النار، أن يسارع في التوبة والرجوع إلى الله عز وجل؛ إذْ ربما يتوب هذه اللحظة ويرجع إلى الله في هذه الساعة، فيموت بعد أن عمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة.
هذا هو المفهوم الصحيح لهذا الحديث.
وليس مفهومه كما يود المنهزمون أن يبقوا عبيداً لشهواتهم، منهزمين أمام نزواتهم، يلبُّون رغباتهم، ويتركون طاعة الله ويقولون: ربَّما أنا أعمل بعمل أهل النار حتى ما يبقى بيني وبينها إلا ذراع وبعد ذلك أدخل الجنة.
لا.
هذا كلام فارغ، حسن الخاتمة أمر هام، وقضية الثبات متعلقة بحسن الخاتمة.(72/3)
تعلق ظاهرة التذبذب بالقلوب التي هي ميدان السباق
السبب الثاني: أن ميدان الثبات وحَلَبة السباق فيه: القلوب: والقلوب أمرها بيد الله، وهي حساسة وكثيرة التأثُّر، وسريعة التغيُّر، بحسب العوامل والمؤثرات التي ترد عليها.
وما سُمِّي الإنسانُ إلا لنسيهِ ولا القلبُ إلا أنه يتقلبُ
فالقلب ينتابه حالات كثيرة جداً من التغيرات، فالإنسان الميدان الحقيقي وحَلَبة الصراع هي داخل قلبه وليس شيئاً مادياً ينفقه.
فلو كانت القضية معلقة بالعين لكان في إمكان الإنسان أن يغمضها، أو في اليد لكان في إمكانه أن يكفها، أو في الأذن لكان في إمكانه أن يحفظها، أو في الرِّجل، أو في أي جارحة، لكن القضية في القلب، والقلب كيف تدخل عليه؟ صعب، فالقضية معلقة بالقلب؛ ولصعوبة الأمر ولأن الجوارح كلها تنطلق بتصرفاتها من توجيهات القلب -إما بالإيجاب أو بالسلب وإما بالخير أو بالشر- كان من الضروريات أن تحرص باستمرار على ثبات قلبك على دين الله.
فمتى ثبت القلب على الدين ثبتت كل الجوارح، ومتى انصرف القلب وزاغ عن الدين انصرفت كل الجوارح؛ لأنها تابعة له وهو الموجه والمسيِّر لها، إما بالحسن أو بالسيئ.(72/4)
كثرة الثقافات والأفكار الغربية الهدامة
السبب الثالث: أننا نعيش في زمن زالت فيه الحواجز بين الأمم وبين الشعوب واختلطت الثقافات، وأصبح العالم مكشوفاً كأنه في غرفة أو في شاشة، يستطيع الإنسان وهو في غرفته وعلى سرير نومه أن يجول ويصول حول العالم، إما بمؤشر راديو، أو بقناة تلفاز، أو بأزرار وأرقام هاتف، أو بقراءة مجلة، أو باستعراض جريدة وأخبار، المهم أن الثقافات والأفكار التي تدور والتي تنتشر في العالم كله ما أصبحت حكراً على أصحابها، بل متداولة في العالم كله، تجد الإنسان يستمع إلى إذاعة القرآن، فيسمع برنامجاً إسلامياً يثبِّت العقيدة ويقوي الدين في قلبه، وبإمكانه أن يغيره فيجد إذاعة كافرة، إما إذاعة موسكو، أو لندن، أو صوت أمريكا تدعو إلى الكفر والضلال؛ فأصبح الإنسان الآن بين مؤثرات متعددة متناقضة ومتضاربة ومتصارعة، مما يجعل مهمة الثبات عنده صعبة جداً.
كان الناس في الماضي الأثر فقط للأم والأب، وللإمام في المسجد، والمدرس في المدرسة، والزميل في الشارع، بل بعضهم يحيا ويموت وهو لا يعرف القرية المجاورة له، يخبرني كثير من كبار السن يقولون: والله إن الأوائل لا يعرفون خميس مشيط، يعيشون في أبها وفي قرى الحجاز أو الشعوف ويموتون وهم ما انتقلوا إلى خميس مشيط أو إلى أبها! لماذا؟ ليست هناك حاجة، لا وظيفة يتبعها، ولا سوق يذهب إليه، وإنما مع غنمه وأبقاره وفلاحته وأولاده بمزرعته في الليل والنهار حتى يموت.
لكن الآن أصبحت الحياة كلها مُتَغَيِّرٌ وجهها، وأصبح الإنسان ترد عليه كل أفكار الأرض، مما يجعل الثبات على دين الله عنده من أصعب المهمات وأشق المشاق، وهذا تحقيقٌ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان -أي: في آخر الزمان- يصبح الرجل من أمتي مؤمناً، ويمسي كافراً، ويصبح كافراً، ويمسي مؤمناً) أي: يسهل عملية تغيير العقائد؛ لأن العقائد ليست ملابس تغيرها، وليست بدلة، ولا زِي، وإنما العقيدة شيء تعقِّد القلب عليه، ولا يمكن أن تبدله، ولكن مع المؤثرات القوية والخلخلة الإيمانية التي تحصل في قلوب الناس يحصل التساهل؛ حتى ينقلب المسلم كافراً، والكافر مسلماً بجلسة واحدة.
ولذا كثير من دعاة الضلال يجلس مع بعض المؤمنين جلسة واحدة، يهزه هزاً، وينزل وهو يقول: والله غسلت مُخَّه، يعني: غسل مُخَّه من الإيمان.
تراه في اليوم الثاني لا يصلي رغم أنه كان في الصف الأول! والثاني ينطلق إلى الشهوات! وفي اليوم التالي يعُبُّ من النزوات، لماذا؟! غَسَلَ مُخُّه بكلمة أو بفكرة أو بنظرية أو بشبهة أو بشهوة يوردها على قلبه، فيتخلخل إيمانه ويسقط والعياذ بالله.
الثبات على دين الله نعمة يَمُنُّ الله عز وجل بها على من يشاء من عباده، امتَنَّ الله بها على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [الإسراء:74 - 75].
لمن يوجه هذا الكلام؟ هذا الكلام يوجه لسيد البشرية، والذي أرسله ليثبت الأمة، يقول الله له: لولا أنك مُثَبَّتٌ من الله لقد كِدْتَ تركن -شارفت على الركون والميل إليهم- شيئاً قليلاً، وإذا فعلت الشيء هذا من الركون والميل إليهم فالعذاب عليك، ليس العذاب على غيرك، {إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [الإسراء:75].
وذكر الله عز وجل في كتابه العزيز، أنه يثبت طائفة من الناس؛ لأن المثبِّت هو الله -لا تظنن أنك أنت الذي تُثَبِّتُ نفسك، فإنه المثبت على الدين- ولأن الهادي هو الله، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وإذا هدى أيضاً يثبت أو يضل، لكن له سنن في الكون تبارك وتعالى، أنه يثبت طائفة استحقوا التثبيت بمبادرات من عندهم، ويضل طائفة استحقوا الإضلال بمبادرات من عند أنفسهم؛ لأن {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40].(72/5)
أقسام الظلم
يقول الله في سورة إبراهيم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم:27] هذه المبادرة والإيمان تأتي من العبد، فهو الذي يؤمن ويخضع لمولاه، وهو الذي يعمل الصالحات، فعندما يحصل منه الإيمان والإقبال على الله والتصديق والجزم بقضايا الإيمان يحصل من الله له التثبيت، يقول الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27] القول الثابت هو: الإيمان القوي: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27] يعني: في الدنيا على دين الله: {وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] يعني: عند الموت، وفي القبر، وفي عرصات القيامة حتى يدخل الجنة، هؤلاء ثبتهم الله لَمَّا آمنوا، والآخَرين قال عنهم: {ويضل الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] فالإضلال حصل على طائفة معينة من البشر اسمهم: الظالمون، والظلم هو: وضع الشيء في غير موضعه، هذا هو الظلم.
والعدل هو: وضع الشيء في موضعه، إذا وُضِع الشيء في موضعه قالوا: والله عدل وحق، وإذا وُضِع الشيء في غير موضعه يصير ظلماً.
فالظالم هو: الذي يضع الشيء في غير موضعه، ولما ظلموا أُضِلُّوا.
قد يتصور بعض الناس أن الظلم فقط هو ظلم الناس الآخرين، لا.
هو هذا وغيره.
فالظلم ثلاثة أقسام: 1/ ظلم العبد لنفسه.
2/ وظلم العبد لغيره.
3/ وظلم العبد لربه.(72/6)
ظلم العبد لنفسه
فظلم العبد لنفسه: أن يوردها موارد الهَلَكَة: لا يأخذها بالكمال، وإنما يذهب بها -والعياذ بالله- إلى مواطن الزيغ والضلال من الانحرافات، والمعاصي، والذنوب، والزنا، والخمور، واللواط، وقطع الصلاة، وإتيان المعاصي والمنكرات، هذا ظالم؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1] لأن الله حد حدوداً، فهناك حدود للنظر: محصورة في الحلال، وفي التأمل في ملكوت السماوات والأرض، وحدود للأذن: فيُسْمَع شيء معين، وحدود لليد: فيُبْطَش بها شيء معين، وحدود للرِّجل: فيُمْشَي بها في شيء معين، وحدود للفرج: فيَقَع في شيء معين، وحدود للبطن: فيُؤْكَل شيء معين، وحدود للزواج: فيتْرَك الزنا، وحدود للطيبات من عسل وغيره، فتُتْرَك الخمور والخبائث، فهذه هي الحدود (وحد الله حدوداً، فلا تنتهكوها).
ليس هناك شيء إلا وقد جعل الله له حداً، فمن يتعدَّ حدود الله فقد تجاوز هذه الحدود.
مثل أنظمة المرور في الشوارع العامة لها حدود، تجد إضاءات في الإشارة صفراء وحمراء وخضراء، الضوء الأحمر يعني: قِفْ، الضوء الأصفر يعني: هدئ السرعة، الضوء الأخضر يعني: تفضل.
هذه حدودٌ أم لا؟! لا أحَدَ يأتي ويتعدى الحدود، فعندما يراها حمراء يمشي، هذا ماذا فعل؟ ظَلَم النظام، وظُلْم النظام يترتب عليه عقوبة، بأن جندي المرور يلاحقه، ويأخذ رقمه، ويجازيه؛ لأنه اعتدى على الحق العام بقطع نظام المرور، وتعريض حياة الناس للخطر، وإذا لم توجد إشارات والناس هكذا يتسابقون فستصبح فوضى، وتكون الحياة فيها للأشجع، ولذا إذا لم توجد إشارة ترى الخائف واقفاً طوال يومه، لكن عندما يكون هناك نظام فإن الشجاع والجبان كلاهما وقوفان حتى تأتي الإشارة الخضراء ويمشيان.
فالله حد نُظُماًَ في هذا الكون، ضوء أحمر، وضوء أخضر، وضوء أصفر يعني: قِفْ، لا تقرب من هذا الشيء، هذه النظم هي حرمات الله تبارك وتعالى، فالمؤمن وقَّاف عندها، يخاف من العقوبة، ومن القسيمة الأخروية في النار، وأما المنافق والكذاب والكافر فإنه لا يقف عند حدود الله، بل يقف إلى حد الزنا ويتخطاه، رغم أنه مؤشر أحمر: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] لأن (لا) هذه ناهية، و (اعمل) علامة الأمر، والقرآن بين (لا) وبين (اعمل) وبين خبر من الله تبارك وتعالى، فموقفك من (لا) الابتعاد، وموقفك من (اعمل) الامتثال، وموقفك من الخبر التصديق، لا يوجد في القرآن إلا ثلاثة أشياء: إما أوامر، أو نواهٍ، أو أخبار.
وأنت عليك التصديق بخبر الله، والامتثال لأمر الله، والابتعاد عن نهي الله تبارك وتعالى، فهنا المؤمن وقاف عند حدود الله عز وجل، ولا يتجاوزها إلى شيء مما حرم الله تبارك وتعالى.
فظلم العبد لنفسه أن يتعدى حدود الله.(72/7)
ظلم العبد لغيره
وظلم العبد لغيره: أن يعتدي على شيء معصوم للمسلم بدين الله: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا) هذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، يوم عرفة، كان يخاطب الناس ويقول: (اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، ألا هل بلغت؟!) فدم المسلم وماله وعرضه معصوم، وهل في الدنيا غير دمه، وماله، وعرضه؟! لا شيء لك في الدنيا إلا هذه الأشياء الثلاثة.
فلا يجوز لك -أيها المسلم- أن تعتدي على شيء من هذا بغير حق، وإذا اعتديت فقد ظلمت، وديوان الظلم بين العبد وبين أخيه المسلم ديوان حساس لا يتجاوز الله عنه بشيء؛ لأن حقوق العباد قائمة على المشاحَّة، وحقوق الرب قائمة على المسامحة.(72/8)
ظلم العبد لربه
والثالث: ظلم العبد لربه وهو أن يشرك به؛ لأن حقُّ الله على العبد أن يوحده، وألا يعبد معه غيره؛ لأن الله هو المستحق للعبادة وهو الخالق وحده: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] فكما أنه الخالق لوحده فإنه المعبود لوحده، فإذا عبدتَ معه غيره فقد ظلمته، ولهذا قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] فالله يضل الظالمين؛ لأنهم ظلموا أنفسهم، أو ظلموا غيرهم، أو أشركوا بربهم؛ فيحصل لهم الإضلال بناء على المبادرات السيئة منهم بارتكاب الظلم، وهؤلاء يحصل لهم التسديد بناء على المبادرات الإيجابية الحسنة منهم بالإيمان والعمل الصالح.(72/9)
من وسائل الثبات على دين الله: تلاوة القرآن الكريم والعمل به
وقد يقول قائل: ما هي وسائل التثبيت؟ أريد أن أثبت على الدين ما دام أن مسألة الثبات بهذا القدر من الأهمية يترتب عليها حسن الخاتمة؛ وهي نعمة يمن الله بها على من يشاء من عباده.
إذاً كيف أثبت؟ ما هي وسيلة الثبات على دين الله؟! أريد من الإخوة الشباب حفظهم الله وبارك فيهم، أن يأخذوا هذه الوسائل مأخذ المنهج الذي يسيرون عليه في حياتهم، لا نريد من المواعظ والخطب والمحاضرات والدروس أن تكون فقط للاستهلاك، يعني: نصبح مُدْمِنِي مواعظ، يدخل الشخص إلى الموعظة، ويجلس يتابع الألفاظ، والاستشهادات والآيات والأحاديث، ثم يخرج مثلما دخل، لا تغير الموعظة في حياته شيئاً، هذا لا ينفع أبداً بأي حال من الأحوال، وبعد ذلك -وهذا من أخطر الأشياء على الإنسان- يصبح همه فقط السماع، والنقد، ويخرج لا يتغير ولا يتأثر بأي شيء، وهذا صعب، لماذا؟ لأنه يصبح مدمن مواعظ، لا يستطيع أن يعيش إلا إذا سمع موعظة؛ لكن ما الذي تغيَّر منه؟ ما استفاد من الموعظة شيئاً، فنريد سماعاً وتطبيقاً.
فسأذكر اثنتي عشرة وسيلة من وسائل ثبات القلب على دين الله عز وجل: أول وسيلة وأعظم وسيلة للثبات على دين الله -وهي وسيلة ممكنة وسهلة وميسرة- هي: تلاوة كتاب الله عز وجل: تلاوة القرآن العظيم الذي أنزله الله نوراً وهدىً للعالمين من أعظم وسائل التثبيت، لِمَ؟(72/10)
القرآن الكريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
أولاً: لأنه {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42] وما دام أن الباطل لا يَرِد عليك أثناء قراءتك للقرآن الكريم، فأنت بالتلاوة محفوظ ومحصَّن: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].(72/11)
تلاوة القرآن الكريم أعظم وسائل الثبات على دين الله
ثانياً: أن الله نص في القرآن على أن أعظم وسيلة للتثبيت هي تلاوة القرآن، فقال تبارك وتعالى في سورة الفرقان: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان:32] قال الله: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان:32] نثبت بهذا القرآن قلبك، نثبت إيمانك ودينك في قلبك: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:32] ثم قال: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} [الفرقان:33] يعني: بالقرآن {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان:33].
ما من شبهة ولا باطل ولا زيغ ولا انحراف إلا وقد جاء التفسير والدحض والتكذيب والرد له في كتاب الله تبارك وتعالى، حججهم كلها باهتة وداحضة ومردودة بأنوار القرآن؛ لأنه نور، وهؤلاء الذين يوردون هذه الشبهات أو هذه الضلالات كمن يريد أن يطفئ نور الشمس بفمه، ولهذا يقول الله عز وجل: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} [الصف:8] بماذا؟! {بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف:8] والتعبير (بأفواههم) فيه مزيد من التهكم، والسخرية، والاستصغار، والاستهزاء بهم، فإن الذي يطفئ نور الشمس بفمه هل يستطيع؟ لا يستطيع، لو أراد أن يطفئ نور الشمس بكل ما في الأرض من وسائل وليس بفمه فقط لا يستطيع، فكيف وهو يريد أن يطفئ بوسيلة إطفاء بسيطة لا تستطيع أن تطفئ شمعة على بُعْد مترين؟! الآن لو أن شمعة بسيطة على بعد مترين تريد أن تنفخها من هنا، هل ستطفئها وهي هناك؟! لا تنطفئ؛ لأنها بعيدة، وإذا قربت منها على بعد متر، وقمت لتنفخ فلن تستطيع، إلا إذا قربت منها على بُعد [10] سنتيمترات ونفختها ربما تنطفئ، وهي شمعة، فكيف بنور الله تبارك وتعالى الذي أنار به العالمين وهو القرآن الكريم!! يقول الله عز وجل: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة:15].
ويقول: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى:52 - 53].
فالقرآن نور، وأيضاً مثبت؛ لأنه لا يأتيه الباطل.
وبالاستقراء -أيها الإخوة- وبالمشاهَدة في حياة الناس ما علمنا والله أن رجلاً اعتصم بكتاب الله، وداوم على تلاوته ولاذَ بِجَناب الله عن طريق التقرب إلى الله بالقرآن، أنه ضل أو انحرف.
وبالاستقراء أيضاً علمنا ولَمَسنا وشاهدنا كثيراً ممن كان قد اهتدى، ما إن أعرض عن القرآن وهجره ونسيه حتى أضله الله، ولو أنه بقي معتصماً بكتاب الله مستمسكاً به لحفظه الله وثبَّته؛ لأن الله يقول: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف:43] و (استمسك) فعل سداسي ما قال: (امسك) من الرباعي، لا والله، ما أرسل الله رسولاً إلا وأمَرَه بدعوة الناس إلى توحيد الله تبارك وتعالى، فالقرآن هو خير وسيلة للثبات على دين الله، ومن رحمة الله تبارك وتعالى أن دلنا على هذه الوسيلة العظيمة وهي من أيسر الوسائل، فالقرآن الكريم يقول الله تعالى فيه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] لو خوطبت الجبالُ الرواسي الشُّمُّ بالقرآن، لخشعت وتصدعت، لكن الله خاطبنا بالقرآن ويسَّره لنا، حتى أننا أصبحنا نقرؤه وهو كلام المولى تبارك وتعالى، يقول الله فيه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]؟! هل من معتبر؟! هل من مقدر لهذه النعمة؟! أي شيء أعظم -يا أخي المسلم- من أن يجعل الله عز وجل كلامه يجري على لسانك، فتتكلم بكلام الله أي تكريم أعظم من هذا التكريم؟! لا إله إلا الله! والله ما بعده تكريم، أن يُنزل الله عليك كلاماً من كلامه، تتحدث به أنت بلسانك، فهذه إمكانية سهلة ويسيرة، ونتائجها عظيمة من أن الله يثبتك.
لكن يوم أن تعرض عن الله وعن كلامه، ولا تريد أن تقرأ كلام الله، فهذا دليل على عدم محبتك لله عز وجل؛ لأن من أحب شيئاً أكثر من ذكره، فهذه خير وسيلة.(72/12)
القرآن الكريم شفاء ودواء للقلوب
ثالثاً: ولأن القرآن شفاء ودواء للقلوب، فالقلوب حرجة، وحساسة، وخطيرة، ولا علاج لها غيره، فليس لها حبوب تشربها، أو إبرة تعطيها، أو شراب، أو عمليات تفتحها، ونعني بالقلوب: القلوب الإيمانية، الواعية، الفاهمة، لا القلوب المادية، القلب المادي هو: عبارة عن عضلة تضخ الدم في العروق وتوصله إلى الرئة وترجعه لكي تكرره، هذا معك، ومع الحمار قلب مثله، ومع الثور مثل الدلو، أنا رأيت قلب ثور مثل الدلو، ومع ذلك لا يفهم، ورغم أن الثور والحمار أبلد الحيوانات لكن قلوبها أكبر القلوب؛ لأن عملية الضخ فيها أكثر للجسم الحيواني.
فالقلب الذي نعنيه: القلب الفاهم الواعي عن الله، وإلا فإن الله يقول: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
فما دام أن القلب هو الميدان فلا بد أن تبحث له عن شفاء وعلاج، وعلاجه من القرآن، يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57] ما هي التي في الصدور؟ القلوب وماذا أيضاً؟! توجد في الصدور أشياء أخرى، فهناك الرئة وغيرها، لكن كيف عرفنا أن القرآن شفاء لما في الصدور المراد به أنها القلوب؟! ففي القرآن نفسه قال الله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
فدلت هذه الآية على أن المعنى {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57] يعني: القلوب، وليس شفاءً للرئة، ولا شفاءً للكبد، ولا شفاءً للبنكرياس، لا.
بل شفاءٌ للقلوب التي تفهم وتعي، قال الله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
والله يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:57 - 58].
أيها الإخوة! هل وسيلة تلاوة كتاب الله مُمْكنة أم غير مُمْكنة؟ ممكنة، وقد أقام الله الحجة على العباد كلهم؛ لأنهم أصبحوا يقرءون كلام الله.
ولكن هل مجرد القراءة ووجود القدرة على نطق الحروف هو وسيلة القرآن التثبيتية؟ لا.
ورد في بعض علامات الساعة أنه يظهر في الناس القلم، أي: من علامات الساعة أن ينتشر العلم ويظهر في الناس فيقرأ القرآن الرجل والمرأة، والكبير والصغير، وكل الناس يقرءون القرآن، لكن هل بمجرد قدرتهم على القراءة، أو قراءتهم للقرآن بالمزاج الذي يريدون يحصل لهم التثبيت؟ لا.
كما جاء في بعض الآثار: (رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه) (وإذا قرأ القرآن ظالم لنفسه، ناده القرآن من جوفه، يقول له: يا ظالم! أين زواجري؟! أين قوارعي؟! أين آياتي؟!).
إذا ارتكب الإنسان محرمات وهو يقرأ القرآن، يصيح القرآن في جوفه.(72/13)
مآخذ تحقيق وسيلة الثبات بالقرآن الكريم
تكمن وسيلة التثبيت بالقرآن إذا أُخِذ مأخذان:(72/14)
المأخذ الأول: التلقي الصحيح على أيدي أهل العلم
المأخذ الأول: التلقي الشرعي الصحيح على أيدي علماء القرآن؛ لأنه كلام الله، لا تقرؤه مثلما تقرأ جريدة، أو مجلة، أو مثلما تقرأ كتاباً، لا.
كلام الله له أداء معين، له هيئة معينة، هو وعبادة تؤديها، الله يقول: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4].
ولما سئل علي بن أبي طالب عن الترتيل قال: [هو معرفة الوقوف، ومعرفة مخارج الحروف] هذا معنى الترتيل، أن تعرف كيف تخرج الحرف وأين تقف، وهذا كله لا بد أن يكون عن طريق التلقي من عالم يعرف القرآن وأسراره، فتدرس على يديه؛ لأن التجويد لا يأتي بالقراءة في كتب التجويد، وقد كنا نقرأ -من قبل أن ندرس القرآن على المشايخ- القرآن ونعرف أحكام التجويد، أحكام النون الساكنة والتنوين أربعة: الحكم الأول: الإدغام: وحروفه ستة، مجموعة في قولك: (يرملون) وهو ينقسم على إلى قسمين: القسم الأول: إدغام بغنة: وحروفها أربعة، وهي مجموعة في قولك: (ينمو) الياء والنون والميم والواو.
القسم الثاني: بغير غنة وله حرفان هما: اللام والراء.
هذا الحكم الأول.
فوالله أني كنت أحفظه مثلما أعطيكم الآن في السنة الرابعة أو الخامسة الابتدائي، ولا أدري ما هو الإدغام، وما هو الإقلاب، لكن فقط أحفظه هكذا.
وحروف الإخفاء خمسة عشر حرفاً، مجموعة في أوائل هذه الأبيات:
صف ذا ثنا كم جاد شخص قد سما دُم طيباً زد في تقى ضع ظالما
لا أدري ما معنى: ضع ظالماً، وما معنى: دُم طيباً، أقرؤه فقط، وإذا جئت عند الأستاذ قال: كم حروف الإخفاء؟ قلت: خمسة عشر حرفاً، مجموعة في أوائل هذه الأبيات، وأذْكُرُه.
فقال: تفضل، أنت مُجَوِّد، لكن اقرأ القرآن فما أجود، مثل الذي يعرف نظام السير لكن لا يعرف كيف يقود السيارة، ما رأيكم في شخص يعرف أن الاتجاه يكون إلى اليمين، وأنه لا بد أن يقف عند الأحمر، وأنه لا بد إذا وقف أن يشير بشِماله، وأنه إذا أراد أن يأخذ يميناً يؤشر إلى اليمين، وإذا أراد أن يأخذ شِمالاً يؤشر إلى الشِّمال، لكن إذا قلت له: قد السيارة، قال: والله لا أعرف، أريد رخصة بالكلام فقط! فهذا هو الذي يعرف التجويد، ولا يعرف التطبيق، يريد رخصة في التجويد وهو لا يعرف أن يطبق التجويد، ولكن شخص آخر يعرف قيادة السيارة، ويطبق تعليمات السير كلها مضبوطة، لكن عندما تسأله لا يعرف، يعرف عملياً، ما رأيكم أيهما الأحسن العملي أو ذاك؟! العملي، وإذا وجدنا شخصاً عملياً ونظرياً، يعرف أحكام السير العملية، والنظرية، فهذا نور على نور.
وكذلك القرآن، لا بد فيه من التلقي على يد عالم، يقول ابن الجزري في قصيدته:
والأخذ بالتجويد حتمٌ لازمُ مَن لَمْ يُجَودِ القرآنَ آثمُ
لأنه به الإله أنزلا وهكذا منه إلينا وصلا
وهو أيضاً حلية التلاوةِ وزينة الأداء والقراءةِ
وليس بينه وبين دَرْكِهِ إلا رياضة امرئ بفَكِّهِ
يعني: ما بينك وبين إدراك التجويد إلا ترويض وتعويد الفم، هذا تأخذه من الكتاب؟! تأخذه من عالم تراه أمامك يقرأ، يقول: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ} [الناس:1 - 2] هذه غُنَّة، أين؟ في النون المشددة، أيُّ نونٍ في القرآن عليها شدة أصلها نونان، تحتاج إلى غُنَّة من أين تأخذها؟! لا تأخذها إلا من التجويد، والتجويد مأخوذ من: جوَّد الشيء يعني: أحسنه وأتقنه، عندما تقول لشخص: بالله افعل لي هذه الفِعْلة لكن جودها، يعني ماذا؟! يعني: أحسنها، ودائماً الناس إذا رأوا شخصاً حَسَناً قالوا: فلان والله جيد، يعني: لا يوجد أحد أحسن منه! فالتجويد مأخوذ من الإحسان وأداء القرآن في أحسن هيئته، فالأخذ به حتم لازم، من لم يجوِّد القرآن وهو قادر على التجويد آثم، لا سيما -من فضل الله- بعد أن توفر مدرسو القرآن في أغلب المساجد في هذه المدينة، وفي غيرها من مدن المملكة الطيبة، كثيراً ما تجد مسجداً والعالم جالس هناك من بعد المغرب إلى العشاء، ولكنه جالس وليس عنده أحد.
كأن الأمة قد حفظت التجويد من أوله إلى آخره، وأصبحت مستغنية عن علماء التجويد، ولو وقفت على الشارع، أو زرت الدكاكين، ولقيت اثنين أو ثلاثة جالسين في الدكاكين، فتقول له: تعال يا أخي! أنت تجود القرآن؟ قال: لا والله، لا أعرف فيه كلمة.
فتقول: إذاً لماذا أنت جالسٌ هنا؟! تعال اجلس مع الشيخ، تلقَّ التجويد عن العالم.
قال: لكن لا يوجد اهتمام.
يضيع وقته وحياته، ورغم أن الفرصة متاحة أمامه، وكذلك بعض طلبة العلم لا يهتم بهذا.
فأول وسيلة للتثبيت بالقرآن: أن تحرص على قراءة القرآن كما أنزله الله تبارك وتعالى؛ لأنه فرق كبير بين من يقرأ القرآن دون مراعاة لأحكام التجويد، وبين من يجوِّد! أنت لو جلست بجانب رجلين، واحدٌ عن يمينك، وآخر عن يسارك! فالأول يقرأ القرآن بسرعة يهذه هذاً، والآخر يقرؤه بترتيل وتؤدة.
فهما قرأا القرآن، لكن فرقٌ بين هذا وذاك مثل ما بين السماء والأرض، مثل شخص -ولله المثل الأعلى- أحب أن يدعوك إلى وليمة، ويحضر لك طعاماً من أحسن الأطعمة منوعاً، وكل نوع في صحن ومجملاً، فتأتي على السفرة فتجد شيئاً منمَّقاً.
وشخص آخر يدعوك، ولكنه مستعجل، يريدك أن تتعشى وتمشي، فوضع الأرز على السلطة و (العصيدة) والمرق والفاكهة، و (المهلبية) وخلطها كلها، وفتح فمك بقوة وأخذ يدخل فيه الطعام، ويقول: أسرع، تعشَّ.
بالله ما رأيك في هذا الإنسان؟! هذا مسكين، طَبَخَ ونَفَخَ وتَعِبَ واشترى من السوق، لكن ما قدم لك السفرة بشكل لائق، فتقول: الله أكبر عليك! دعني آكل على راحتي يا أخي! ماذا بك؟! تريد أن تغذيني أم تريد أن تذبحني؟! هذا بذاك سواءًَ بسواء.
هذا الذي يسرع بالآيات القرآنية ويقرؤها عليك بسرعة ما أفادك ولا استفاد، فلا بد من تلاوة القرآن كما أنزله الله تبارك وتعالى.(72/15)
المأخذ الثاني: أخذ القرآن بنية العمل
المأخذ الثاني -وهو مهم جداً-: أن تأخذه بنية العمل: تقرأ القرآن كما يقول ابن مسعود: [لا تهذُّوا القرآن هَذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدَّقَل، ولكن قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب].
والله يقول: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].
ويقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]؟! نعم والله عليها أقفالها، ونسأل من بيده مقاليد الأمور أن يفتح قلوبنا للقرآن.
ويقول في آية أخرى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82]؟! أحد الإخوة يقول لي: يا أخي! هناك شخص يقرأ القرآن من يوم عرفته، ولكن ما تغير في شيء.
قلت: كيف يقرأ؟ قال: والله إني أجلس عنده بجانبه أقرأ، وهو يقرأ ثلاث أو أربع صفحات، وأنا لم أكمل نصف صفحة، مثل (الماكينة).
قلت: مسكين، اسأله: ماذا قرأ بعد أن يكمل قراءته؟ قل: يا أخي المسلم! ماذا قرأت؟! أيُّ أمر تلقيت؟! أيُّ نهي ورد عليك؟! ما هي الأخبار التي سمعتَها في القرآن؟! فسيقول لك: لا أدري.
وهي قراءة الكثير من الناس؛ إلا من ندر.
فإذا أردت أن يثبتك الله عز وجل بالقرآن الكريم، فالذي ينبغي عليك أن تسعى أولاً إلى تجريد القرآن وليس بالضرورة أن يكون غيباً؛ لأن بعض الشباب يقول: والله لا أستطيع أن أقرأ غيباً، ليس من داعٍ لهذا، الغيب هذا هبة من الله، إذا قدرت عليه فأنت ممن يأتي يوم القيامة وأناجيلهم في صدروهم كما جاء في الحديث: (أن موسى يقول: إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم، اجعلهم أمتي يا رب! قال: هؤلاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم).
والله أثنى على الحفظة فقال: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49].
وفي الحديث أيضاً يقول عليه الصلاة والسلام: (من أوتي القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه، غير أنه لا يوحى إليه) لم يعد يأتي الوحي، لكن النبوة كلها في صدره، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن أشراف هذه الأمة هم حَمَلَة القرآن الكريم، يعني: حَفَظَته.
فالذي يحفظ القرآن هذا له فضل كبير من الله تبارك وتعالى، والذي يحفظ منه نصفه عظيم، والذي يحفظ ثلثه عظيم، والذي يحفظ ربعه طيب، والذي يحفظ منه أربعة أجزاء، أو ثلاثة أجزاء، أو جزئين، المهم احفظ ما تستطيع، ولكن ليس لك عذر في تجريد القرآن كله بالنظر، ماذا معك من عذر؟! لا عذر، إلا أنك مشغول عن القرآن، لا بد من تجريد القرآن أقل شيء برواية واحدة، رواية الإمام حفص عن الإمام عاصم؛ لأن عاصماً له روايتان: حفص.
وشعبة.
المشهورة عندنا الآن رواية حفص، إذا استطعت أن تأتي بالروايتين، وتعرف الفوارق بينهما عن الإمام عاصم بن أبي النجود فعظيم جداً، وإذا لم تستطع فأقل شيء أن تعرف كيف تجرد القرآن من أوله إلى آخره بالتجويد على رواية الإمام حفص، وهذه مشهورة وموجودة، وفي هذا المسجد عالِم -من فضل الله- يدرس القرآن، وفي مسجد اليحيى عالِم متفرغ أربعاً وعشرين ساعة في تعليم القرآن، وفي كل مسجد من مساجد المنطقة هذه، في أبها لوحدها أكثر من ثلاثين عالماً متفرغون لكتاب الله، ولكنهم والله يشكون إلينا وقلوبهم تتقطع، وأعينهم تدمع، يقولون: والله نكون جالسين من المغرب إلى العشاء وما يأتينا أحد، الناس معرضون لا يريدون القرآن، لا حول ولا قوة إلا بالله! هذه مصيبة! فلا بد -أيها الشاب- أن تجلس وتبرمج وقتك من الآن، الشيخ الأفغاني موجود -من فضل الله- في مسجده، والشيخ الأفغاني الآخر موجود في مسجد اليحيى، والشيخ محمد بشير الباكستاني في هذا المسجد، كثير من العلماء، اجلس عندهم وسجل اسمك، وادرس على الترتيب، اقرأ كل يوم ربعاً، أو صفحة، أو صفحتين، ستجد صعوبةً في أول الأمر حينما تمارس التجويد، لكن ما إن تأخذ فيه جزءاً أو جزئين إلا وينطبع لسانك على أحكام التجويد، حتى تقرأ القرآن كله بالتجويد بيُسر وسهولة إن شاء الله.
ثم بعد ذلك أثناء القراءة تفهَّم المعاني، وتعرَّف على أسرار القرآن، ثم ناقش نفسك على الأوامر والنواهي، والأخبار.
فالأخبار صدِّق بها، والأوامر نفِّذها، والنواهي انتهِ منها.
إذا سمعت الله يقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] فاسأل نفسك، أين أنت من الصلاة والزكاة؟! إذا سمعت الله عز وجل يقول: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152] ولا ولا {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] هذه الأوامر في القرآن ينبغي لك أن تقف عندها، وأن تنفذها حتى يكون القرآن لك موطن ثبات، ووسيلة ثبات حتى تلقى الله تبارك وتعالى.
أسأل الله عز وجل أن يثبتني وإياكم على القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.(72/16)
من وسائل الثبات فعل أوامر الله واجتناب نواهيه
الوسيلة الثانية هي: فعل الأوامر، واجتناب النواهي: فمن وسائل الثبات على دين الله: الحرص كل الحرص على فعل أوامر الله والابتعاد عن نواهيه؛ لأن الله عز وجل يقول في القرآن الكريم: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [النساء:66] وماذا؟! {وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66].
هذا منطوق الآية، بمعنى: لو أن الناس فعلوا ما يوعظون به، يعني: لو أن الناس التزموا بالأوامر، وابتعدوا عن النواهي، وصدقوا بالأخبار، وتمسكوا بالقرآن، وعملوا بالسنة: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} [النساء:66] أي: ما يوجه إليهم من توجيه إلهي القرآن أو عن طريق السنة المطهرة: {لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66] أي: ثباتاً على دين الله.
لكن الذي لا يفعل ما أمره الله به، ولا ما وعظه الله عز وجل سيكون في شر، ولن يكون مُثبتاً، وهذا واقِعٌ ومشاهَدٌ ومُجَرَّبٌ.
فالقضية -أيها الإخوة- تحتاج إلى دور بارز منك في الموضوع، بعض الشباب يقول: والله أنا أريد أن أهتدي، ولو اهتديت أسير في الطريق أسبوعاً أو أسبوعين أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة، ثم لا أدري ما الذي يُرجعني! ماذا بك؟! أنت الذي رجعت! من الذي جاء وسَدَّ الطريق عليك؟! الشيطان، انهزمتَ أنت أمام شهوة من شهوات نفسك، أمام شبهة من شبهات الشيطان.
أذَّن المؤذن وأنت على الفراش دافئ ومبسوط وتعبان وسهران وتريد أن تنام، فنمت، لكن لو أنك استعذت بالله عز وجل من الشيطان الرجيم، واستعنت بالله، وقمت لأعانك الله، أم أنك تريد شخصاً يأتي ويأخذك من الفراش ويضعك في المسجد؟! لا أحد يستطيع أن يقوم بدورك إلا أنت بالهداية؛ لأن دورك هذا تريد منه نتيجة وثمرة، تريد منه جنة عرضها السماوات والأرض، أيعطيك ربي جنة وأنت ليس لك دور؟! أيعطيك ربي جنة وأنت منهزم؟! لا.
لا بد من التعب، الله يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
فلا بد من المبادرة والدور الإيجابي الذي تشعر فيه بأنك مسئول عن تنفيذ كل ما أمر الله، وعن الابتعاد عن كل ما نهى الله عنه؛ لأنك بهذا تعمل على تثبيت قدمك على دين الله، أما إذا تخلخلت في الأمر، كلما جاءك أمر وإذا بك تعمل عليه حيلة، هذا بداية الانهزام.
أحد الشباب كان في أول حياته مؤمناً ملتزماً، كان يصلي معنا الفجر في المسجد، أمه وأبوه غير ملتزمَين ومع ذلك واقفَان ضده، وهو بِحُكْمِ كَوْنِه شاباً ينام ولا يستيقظ، ولا أمه توقظه للصلاة، ولا أبوه يصلي في المسجد، ويضع الساعة عند رأسه فيضرب الجرس حتى تسكت ولا يقوم، فمسكين مِن حرصه على الصلاة والله ما كان ينام إلا في هذا المسجد! كان يسمر في البيت فإذا جاء وقت النوم أخذ المخدة والبطانية وجاء ونام في طرف المسجد هناك، بحيث عندما يدخل أول شخص إلى المسجد يوقظه، فيقوم ليصلي، وبعد الصلاة يجلس ويقرأ القرآن إلى الإشراق، ويصلي ركعتين ويذهب إلى البيت، إن كان معه عمل ذهب إليه، وإن كان ليس عنده عمل جلس في بيته.
فهذا الشاب كانت له استقامة تعتبر مثالية، ولن نستطيع أن نصفها؛ لكن بسبب الزعزعة وعدم الثبات على دين الله -والعياذ بالله- وبسبب الإيحاءات الشيطانية وقرناء السوء، والذين يردُّونه عن وسائل التثبيت، فشخص من قرناء السوء ركب معه في سيارته، وشغل له شريطاً من الأغاني، فقال له: أغلقه يا شيخ! هذا حرام.
قال: ماذا؟ قال: حرام.
قال: من الذي قال لك: أنه حرام؟ قال: سمعنا العلماء يقولون: إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل، وإنه لا يجتمع حب القرآن وحب الغناء في قلب عبد مؤمن، والله تبارك وتعالى يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان:6] وبدأ الرجل يعطيه الأدلة.
قال: يا شيخ! لا، أبداً أبداً، الأغاني حلال (100 %) ما دخل الأغاني في الدين؟! -انظر كيف يضله الشيطان الرجيم هذا- الدين أنك تصلي وتصوم، أما الأغاني هذه فليس فيها علاقة بالدين.
وهو مسكين يحب الأغاني قبل الهداية! ولما سمع فتوى شيطانية من شيطان تتيح له فرصة الأغاني، قال: صحيح.
قال: نعم.
تعال أُرِيْك.
وذهب وأخذه إلى البيت، وأظهر له كتاباً أو نسخةً من فتاوى بعض المغفلين الذين يصطادون في الماء العكر، والذين يضلون عباد الله عز وجل، وبدأ يبين له أن هناك خلافاً بين أهل العلم في مسألة حكم الغناء.
والخلاف الذي بين أهل العلم في مسألة التغني بالألفاظ فقط، أما الآلات الموسيقية؛ كالعود، و (الكمان) و (الناي)، والطنبور، وهذه الأجهزة كلها فالأمة مُجْمِعة بجميع فئاتها على أنها حرام، كل آلة من آلات الموسيقى فهي محرمة في الشرع، وكل الأمة تعتقد بهذا، ولكن هناك خلاف بين أهل العلم بين طائفة بسيطة في حكم التغني بالألفاظ، يعني: شخص يأتي ببيت من الشعر بطريقة سليمة، فيقول:
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيبُ
وشخص آخر يقول: لا تقل هكذا يا شيخ! ائت به بطريقة تتغنى بها
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب
وشخص يقول: لا.
هذا ليس جميلاً، هذا يُفتن.
وآخر يقول: لا.
ليس فيه شيء.
هذا هو الخلاف فقط، فأخذ الرجل هذا الخلاف وحمله على الأغاني كلها، وقال: أسمع أغاني فقط.
فبدأ الرجل يستمع إلى الأغاني، كان في البداية يأخذ بالملعقة، لكن يوم أن عاد أصبح يأخذ (بالكُرَيْك) وبدأ يسمعها، وقد أصبح قلبه مفتوحاً لها، وفجأة وإذا به ينزل وينزل وينزل، بدأ نزوله بترك الصلوات في المسجد، ثم نزوله الآخر بتركه الصلوات في البيت، ثم بالردة عن دين الله والكفر والعياذ بالله.
كيف بدأ؟! بالانهزام، ما فعل ما وعظه الله به: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66].
فلا تتوقع -يا أخي الشاب- أن يأتي أبوك أو أمك أو شيخك أو أستاذك أو زميلك، أو أن يأتي الداعية أو العالم ليقول لك: لا بد أن تفعل هكذا، ويشد على قلبك بمسمار، ويقول: خلاص! اثبت، لا.
بل أنت المسئول، هذا واقع ضمن دائرة اختصاصك، في أن تأخذ نفسك بالكمال وتبتعد بها عما حرم الله، وتجبرها على أوامر الله، حتى يثبتك الله تبارك وتعالى.
أما أن تنهزم وتقع وتضعف أمام الشهوات والشبهات، ثم تقول: والله أنا ما هداني الله، لا.
لقد شاء الله لك الهداية، ولكنك أنت الذي لم تُرد لنفسك النجاة في الدنيا والآخرة.
فهاتان وسيلتان من وسائل التثبيت على دين الله تبارك وتعالى.(72/17)
من وسائل الثبات: دراسة في قصص الأنبياء
الوسيلة الثالثة من وسائل التثبيت: التمعُّن ودراسة قصص الأنبياء الذين وردوا في القرآن الكريم، ليس مجرد المتعة القصصية، فالقرآن ليس كتاب أحاجي ولا قصص، لا.
بل القصص التي وردت في القرآن وردت لحكمة: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً} [طه:99] {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [يوسف:111] {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} [هود:120] ماذا؟! {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120].
القصص القرآنية أوردها الله عز وجل دروساً عملية، ونماذج حية يتعلم منها الإنسان كيف يثبت على دين الله، فما تمر قصة من قصص الأنبياء مِن أولهم إلى آخرهم إلا وهي تؤثر في قلبك، وتسكب في يقينك شيئاً مما يثبتك على دين الله، وهذا معنى قول الله عز وجل: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120] الهدف من قصص القرآن وما أوردنا فيه من قصص الرسل والأنبياء هو: {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} [هود:120] أي: جاءك في القرآن الحق {وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120].
وميادين البلاء والافتتان وعدم الثبات كثيرة جداً، مِن الناس مَن يُفْتَتن ولا يثبت في ميدان المال، ومِنهم مَن لا يثبت في ميدان شهوة النساء، ومِنهم مَن لا يثبت في ميدان الجاه والمنصب، ومنهم مَن لا يثبت في ميدان الابتلاء والامتحان والضرب والسجن والقتل، ومِنهم مَن يمتحن ولا يثبت في ميدان الأولاد وكثرتهم والبنين والعشيرة، ومِنهم مَن يُفْتَتن في ميدان السلطة والمنصب، هذه كلها ميادين للبلاء والفتنة، وهناك: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27].
وإذا درستَ سير وقصص الأنبياء وجدتَ أن كل موضوع ورد في القرآن يعطيك معنىً يجب أن تستفيد منه في حياتك العملية.(72/18)
أخذ العظة والعبرة من قصة يوسف عليه السلام
هذا يوسف عليه السلام ابتُلِي واختُبِر بفتنة من فتن الناس في هذا الزمان وهي: فتنة الشهوة، شاب غريب، وطبعاً الغريب ليس مثل المقيم في بلده، دائماً الغريب عندما يقيم في بلده يخشى من الفضيحة ويحرص على السمعة، وعلى ألا يلوِّث عرضَه أو عرض أهله أو قبيلته، لكن الغريب لا يفكر في هذه الأمور، يقول: أنا غريب، ماذا عليَّ؟! لا أحد يعلم أني هنا، لكن بالإيمان وباستشعار عظمة الله يشعر المسلم بأنه تحت النظَّارة، وتحت المراقبة الربانية في كل مكان، وتحت أي سماء، وفوق أي أرض، في الليل والنهار، في الظلام والنور، مع الناس وفي الخلوة، لماذا؟! لأنه يراقب الله تبارك وتعالى.
وإذا خلوت بريبة في ظلمةٍ والنفس داعية إلى الطغيانِ
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
هذا يوسف عليه السلام كان شاباً، غريباً، وجميلاً، وأعزباً، وكان يعيش في بيت مُلْك في بيت امرأة العزيز التي دعته وهي ذات منصب، لا أحد يستطيع أن يقول لها أي كلمة، وكانت ذات جمال، ومن الطبيعي ألا يتزوج عزيز مصر إلا أجمل نساء مصر، وأيضاً تراوده يعني: ما عرض هو الموضوع عليها، لا.
بل هي التي تراوده وتطلبه، وبعد ذلك أمَّنَتْه: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} [يوسف:23] غَلَّقَت، ما قال: أَغْلَقَت، بل قال: غَلَّقَت، هنا صيغة مبالغة، عندما تقول: أنا أَغْلَقْتُ الباب ربما يحتمل أنك أجفيته؛ لكن عندما تقول: أنا غَلَّقْتُ الباب، يعني: أحَكمْتُه بقوة {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} وبعد ذلك دَعَتْه وقالت: {هَيْتَ لَكَ} تقول له: إلى أين أنت ذاهب؟! أين تريد؟! ولكن لما كان مُثَبَّتاً من عند الله ثبَّته الله: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] يقول: هذا العمل الخبيث والسلوك المشين ليس لنا، ولا من طبعنا، إنه فعل الساقطين وعُبَّاد الشهوات، الزناة الذين يسقطون من عين الله في الدنيا والآخرة: {مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف:23] يقول: لا يمكن، ثم إنها تراوده، وتطارده، وتضاربه.
ويهم أن يضربها، كما يقول علماء التفسير، لأن بعض الإخوة يغلط في قضية تفسير قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24].
أنا قرأتُ التفسير في هذه الآية، وسمعتُ كلاماً كثيراً، ولكن الذي اطمأن إليه قلبي، والذي يليق بمقام النبوة -لأن يوسف عليه السلام نبي معصوم عصمه الله عز وجل {واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]- أنها هي هَمَّت به بأن يزني بها، والهَمُّ في اللغة هو: العزم على فعل الشيء، بحسب الحالة التي تحيط به وتلابسه، الله يقول في القرآن: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران:122] {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيكُمْ} [المائدة:11] ما معنى: {هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا} [المائدة:11]؟! يعني: هموا أن يزنوا؟! لا.
بل الهم على فعل الشيء يعني: العزم على فعله، فهو هَمَّ بشيء، وهي هَمَّت بشيء، فهَمُّها منطلق من موقفها، وهَمُّه منطلق من موقفه، فهَمُّه منطلق من موقفه الرافض، وهَمُّها منطلق من موقفها الراغب، لو أنه هَمَّ بها فما الذي يمنعه؟ كلمة: {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] عائدة على هَمِّه هو، يقول المفسرون: إنها هَمَّت به ليزني، وهَمَّ بها ليضربها، ما يمنعها من هذا إلا الضرب، ولكنه قبل أن يضربها رأى برهان ربه، قال المفسرون: قذف الله في قلبه أنه لو ضربها لازدادت الشبهة تأكداً أنه أرادها، إذ أنها اتَّهمته أنه أرادها ولم يضربها، ولكن لو ضربها ضربة وبقي أثرها، لكانت شبهتين: هذا راودني، وضربني، لازدادت شبهة أنه يريدها تأكيداً، فالله عز وجل منعه: {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] فلم يضربها حتى لا تتأكد الشبهة ضده، إذ أن الله يعلم أنها سوف تتهمه بالزنا.
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف:24] ودليل هذا أنها هي في آخر الأمر لما اعترفت قالت:! {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:51] لم تقل: فأرادني، تقول: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف:32] فاستعصم، أو فهَمَّ بي وأرادني؟! لا.
بل استعصم، اعترافها في آخر الأمر -كما في التفسير- أنها قالت: اعتصم بالله عز وجل.
فيوسف عليه السلام موقفه الإيماني العظيم الذي لا يقف فيه إلا من وفقه الله.
القضية يا إخواني! في الذهن والتصور والخيال سهلة، يقول الشخص: والله يمكنه أن يثبت، لكن في ميدان الاعتبار لا يثبت إلا من وفقه الله، ولذا كان عملها سبباً من أسباب نجاة أحد الثلاثة الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيمن كان قبلنا، والحديث في الصحيحين عند البخاري ومسلم: (أن ثلاثة كانوا في سفر، فآواهم المبيت إلى غار، فوقعت عليهم صخرة سدت عليهم باب الغار حتى لا يستطيعون منها خروجاً) وهذه أزمة ما لها من فارج إلا الله، لا يوجد هاتف يتصلون بالنجدة، ولا بالدفاع المدني، ولا توجد جماعة قريبة يفتحون لهم الغار، ولا عندهم جرافة تأتي فتأخذ الحجر، ولكن من معهم؟ معهم الله الذي لا إله إلا هو، فأحدهم قال: إنه لا يفسح ما بكم إلا الله، فادعوا الله بصالح أعمالكم -تعرفوا إلى الله في الشدة، الآن كما سبق أن تعرفتم إليه في الرخاء يعرفكم في الشدة ادعوا الله- فقام الأول ودعا بدعوة: أنه كان له أبوان، ودعا الثاني أنه كان له أجير، والثالث -الذي نستشهد به في هذا الحديث- أنه كانت له ابنة عم يحبها كأشد ما يحب الرجل المرأة، ثم راودها يوماً من الأيام عن نفسها فرفضت، وراودها فرفضت، وراودها فرفضت، ثم بعد ذلك حصلت عندها حاجة ماسة وفقر مدقع، فلم تجد لها فرصة إلا أن تأتي لتستلف من ابن عمها، فجاءت إليه تستلف منه، وقالت: أعطني مبلغاً من المال قرضة أرده لك، قال: لا -استغل نقطة الضعف ليلبي نزوته ورغبته- قال لها: لا.
أنا لا أعطيك شيئاً، إلا أن تفعلي، واتركيني وأنا سأعمل ما تعلمين، فقالت: له حسناً فوافقت وهي مكرهة، ولا تريد هذا الشيء؛ لأنها مؤمنة وتخاف الله، فلما جلس منها مجلس الرجل من امرأته -لم يعد هناك أحد أبداً يستطيع أن يمنعه إلا الله في تلك اللحظات- قالت له المرأة: اتقِ الله يا هذا! -خَف من الله! راقب الله! اشعر بأن الله يراك! - ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقام الرجل -والله هذا عنده من الإيمان مثل الجبال- قام الرجل عنها، ثم قال: اللهم إن كنتَ تعلم أنني إنما تركتها وقمتُ منها من أجلك وخوفاً من عقابك فافرج عنا ما نحن فيه، قال: فتحركت الصخرة؛ فخرجوا يمشون من رحمة الله تبارك وتعالى بهم.
فيوسف عليه السلام في درسه العملي هذا تثبيتٌ لك -أيها المسلم- يا من تواجه مثل هذه المواقف! في هذه الديار أو في غيرها من ديار المسلمين، ربما لا تجد هذا الموقف في هذه الديار، لكن ربما تجد هذا الموقف في بعض بلاد المسلمين أن تعرض عليك امرأة نفسها في حكم الحاجة، أو الرغبة الجنسية، أو أنك شاب، لكن هناك: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
في تلك اللحظات تَذَكَّرْ يوسفَ ومواقفَه من امرأة العزيز، وقل: معاذ الله، لماذا تقولها؟! لأنك سبق أن درست في القرآن الكريم قصة يوسف، وانقدحت في نفسك آثار هذه القصة، عصمة على دين الله، وتمسكاً بطاعة الله، وعدم انهزام في معصية الله عز وجل، هذا معنى القصص القرآني الذي يقول الله فيها: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120] هذا معنى هذه الآية.(72/19)
أخذ العظة والعبرة من قصة نوح عليه السلام
وعندما تأتي على قصص نوح عليه السلام، ففي قصصه عبرة عظيمة جداً وعبر كثيرة، آخذ منها عبرتين: الأولى: عندما أمره الله عز وجل أن يصنع الفلك: كان يعيش في بلاد فلسطين في الطور في الصحراء، لا بحر ولا ماء، فكان يصنع الفلك، الله قال له: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:37].
فكان يصنع الفلك أي: سفينة، فمر عليه مجموعةٌ من قومه، قالوا: ما هذا يا نوح؟! قال: هذه السفينة أصنعها؛ لأن الله سينجيني أنا ومن آمن معي، ويُغْرِق أهل الأرض كلهم.
قالوا: انظروا الغباء! انظروا هذا النبي الذي يقول: إنه نبي! أين البحر إذاً؟! تصنع سفينة في الصحراء؟! الذي يصنع السفن يجب أن يكون على المرفأ بجانب الشاطئ من أجل أن يصنعها ويركب فيها في البحر حتى لا يغرق، أنت الآن تصنع سفينة في وسط الصحراء، قال الله: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:38].
لكن ما عنده انهزام، ولا ضعف في عقيدته وإيمانه، لا.
بل معتز، رغم أن الواقع في الحقيقة يجعلهم يسخرون لأن سفينة في الصحراء ما لها داعٍ: {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] هذه تبين وتوضح مبدأ الاعتزاز والثقة، وأيضاً اليقين على أنك على الحق.
بعض الشباب عندما يطيل لحيته ويمشي في الشارع، ويسمع بعض الناس يتكلمون فيه: انظروا فلاناً! ذقن ذقن، فيخجل من لحيته التي في وجهه، بينما هم ما أحد منهم يعفي لحيته.
أحد الشباب يقول: إنه ناقشَ أحد الحلِّيقِين الذي قال له: يا أخي! أنت لماذا تعفي لحيتك؟! فقال: وأنت لماذا تحلق لحيتك؟! بنفس المنطق، يعني: واحدة بواحدة.
قال: أنا حر.
قال: وأنا لستُ بعبد، مثلما أنك حر في حلقها أنا حر في إبقائها، لماذا تطلب الحرية في حلقها، وأنا لا أطلب الحرية في إعفائها؟! فقال الرجل: الشعر لا يُحلق كله في الجسد، ولا يُترك كله.
قال: ماذا تعني؟! قال: أعني أن الشعر يُترك في الرأس ويحلق في أماكن ثانية.
قال: أنا أريد لحيتي مثل رأسي، وأنت اجعل لحيتك مثل الشيء الآخر عندك.
فخجل الرجل وصمت، ولم يتكلم بكلمة واحدة.
فهذا مثال على أنك إنسان تعتز بعقيدتك، المسألة ليست مسألة شعر -يا إخواني- إنما هي مسألة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: (قصوا الشوارب، وأعفوا اللحى) (أكرموا اللحى) (أرخوا اللحى) (أسبلوا اللحى) ليست مسألة شعر، فالشعر نحن مأمورون بحلقه في أماكن، ونتفه في أماكن، وإعفائه في أماكن، المسألة هوية، المسألة عنوان لظرف معين، ظرفك أنت ماذا؟! الدين وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، ودائماً الذي معه الظرف المجهول وبداخله شيء فلا أحد يعلم عنه، لو جاءك ظرف من البريد ما عليه اسم، ولا مرسل، ولا عنوان، فما يدريك أن بداخله شيء؟ بعض الناس يحولنا على قلبه يقول: الدين في القلوب والصدور، ما أدرانا يا أخي؟! تريدنا أن نأخذ الفأس ونكشف على صدرك، ونرى ما بداخله؟! لا نستطيع، الله يحاسبك يوم القيامة على ما في قلبك، نحن الآن نتعامل معك على ضوءِ ظاهرِك، فإذا كان متمسكاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم حكمنا على ذلك بأنك -إن شاء الله- ممن يحب الرسول صلى الله عليه وسلم ويتمسك بسنته.
فيجب عليك -يا أخي المسلم! - يا من تريد أن يثبتك الله على الإيمان! أن إذا مر بك موقف من مواقف السخرية أو الاستهزاء أو الطعن أو النَّيْل منك ألا تهتز، ولا تضعف وتنام، لا.
بل اثبت، إنك على الحق، وخذ من موقف نوح عليه السلام موقفاً يثبتك على دين الله، وقل: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38].
الثانية: موقف آخر من نوح عليه السلام، وهي: حينما ركب وقومُه في السفينة، وطلب من ابنه الكافر أن يركب، ورفض الولد وقال: {سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:43].
فنوح عليه السلام كان قد فهم مِن وعد الله عز وجل حينما قال له: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون:27] فَهِم من هذا أنه مسموح له بأن يركب مع مَن آمن به ومع جميع الأهل، والمقصود بكلمة (أهلك) أي: أهله الذين آمنوا به وصدقوه، وأن من ليس من أهل الإيمان فإنه ليس من أهله ولو كان ولده، فقال نوح: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:45 - 46].
هنا وقف نوح عليه السلام الموقف العظيم، موقف الأنبياء: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:47 - 49].
فنوح عليه السلام تبرأ واستعاذ بالله أن يسأله ما ليس له به علم في وساطة أو شفاعة في شيء لا يحبه الله ولا يرضاه.
وهذا الموقف نتعلم منه أن الرابطة الإيمانية هي الرابطة الوثيقة التي نتعامل مع الناس على ضوئها، وأن نحب ونعادي ونبغض من أجلها؛ لأن الله عز وجل يقول: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22].
ثم قطع الله الخط على أي شخص يقول: ولدي يا رب! أبي يا رب! نسبي فقال الله: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22].
وسوف نتكلم -بإذن الله- عن بعض المواقف التي نستفيدها من القصص القرآني في مناسبات قادمة بإذن الله عز وجل ونكتفي بذكر هذه الثلاث التي هي وسائل التثبيت: الوسيلة الأولى: الإقبال على الله وعلى كتاب الله عز وجل بالتلاوة الشرعية عن طريق تطبيق قواعد التجويد والقراءة بالطريقة الصحيحة، والعمل بالقرآن.
الوسيلة الثانية: فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه.
الوسيلة الثالثة: التمعن والتدبر في قصص الأنبياء.
وبعض الإخوة يسألني ويقول: اذكرها لنا كلها الآن ولو ما تكلمت عليها كلها، لكن أذكرها كلها على سبيل السرد.(72/20)
من وسائل الثبات: الحرص على التربية الإسلامية العملية الجادة
الوسيلة الرابعة: الحرص على أن تكون تربية الإنسان تربية إسلامية عملية تبلغ عمق وجذور النفس البشرية، لا تربية سطحية؛ لأن التربية السطحية ما إن يأتيها أقل هزة حتى تذوب وتنمحي، لكن لما تكون عميقة داخل النفس، مثلما ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في مكة، لما كانت تربيتهم عميقة وعملية وصحيحة ثبتوا على دين الله إلى آخر لحظة.
لكن الذين تربوا في ظل الحياة المدنية من المنافقين أو بعد الفتح لا تأتي أية هزة إلا تكشفهم، لماذا؟ لأن تربيتهم ليست سليمة وعميقة، وضاربة في جذور قلوبهم، وإنما في السطح فقط، فهذه الوسيلة الرابعة.(72/21)
من وسائل الثبات: الحرص على سلوك منهج أهل السنة والجماعة
الوسيلة الخامسة: الحرص على أن تسلك في سيبل هدايتك مسلك أهل السنة والجماعة، فلا تسلك سبيلاً غير سبيل أهل السنة والجماعة، كـ الصوفية، والشيعة، وأهل الإلحاد، أي وسيلة من الوسائل التي ليست من وسائل مذهب أهل السنة والجماعة هذه لا يستقر عليها الإنسان.
وترون الآن حالة كثير من الناس كـ ابن عربي، وابن الفارض فهؤلاء ضلوا؛ لأنهم ما سلكوا الطريق الصحيح، فدائماً الذي لا يسلك الطريق الصحيح لا يثبت عليه، وهذا يحتاج إلى كلام كثير؛ لكن ليس موضوعه الآن.(72/22)
من وسائل الثبات: كثرة ذكر الله عز وجل
الوسيلة السادسة: كثرة ذكر الله عز وجل: لأن ذكر الله سبب عظيم من أسباب التثبيت، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} [الأنفال:45] فيأتي الثبات من شدة الذكر، يعني: ذكر الله تبارك وتعالى يثبت الإنسان في كل المواقف، ومن أحرج المواقف: الثبات في قتال أعداء الله.(72/23)
من وسائل الثبات: كثرة الدعاء والابتهال إلى الله
الوسيلة السابعة: كثرة الدعاء والابتهال إلى الله أن يثبتك: لأن الله يقول في القرآن: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8] ينبغي أن تجعل هذه الآية ضمن الأدعية الخاصة التي تدعو بها في الصباح والمساء، وفي كل أوقات الاستجابة، وفي السجود: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
ولقد رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه كان يقول: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك، اللهم يا مصرف القلوب والأبصار صرف قلوبنا على دينك وطاعتك) إذا كان سيد الهداة صلوات الله وسلامه عليه يطلب من الله التثبيت فنحن أولى بالسؤال منه، فعليك أن تسأل من الله الثبات؛ لأنه هو الذي يثبتك، فعليك أن تسأل المثبت أن يثبتك مع الأخذ بدواعي التثبيت.(72/24)
من وسائل الثبات: الثقة الكاملة المطلقة بأنك على الطريق الصحيح
الوسيلة الثامنة: الثقة الكاملة المطلقة بأنك على الطريق الصحيح، وأن من عداك على الطريق الضال، فالذي ليس على مثلما أنت عليه فهو ضال، وهذه تبين مبدأ الثبات على العقيدة والدين، وأيضاً هي ثمرة ونتيجة لمعرفة الطريق، فالذي يعرف أنه على حق لا يمكن أن يتزعزع عنه، أعطيك مثالاً: الآن أنتم تعرفون أن هذه طريق الخميس، أليس كذلك؟! هل عندكم شك في أن هذه طريق الخميس؟! ولو قلتُ: أنا ذاهب إلى الخميس، ولقيني شخص وأوقفني وقال لي: إلى أين أنت ذاهب؟ قلت: أريد الخميس.
فقال: هذه ليست طريق الخميس، ارجع من هنا واسلك طريق السودة.
أأصدقه أم أكذبه؟! ما أصدقه، بل أقول: لا.
هذه هي طريق الخميس.
يقول: لا يا شيخ أنت مخطئ، أنت مجنون، أحْلِفُ لك، أُقْسِمُ لك.
والله لو يحلف ما يحلف فإني لن أصدقه، وبعد ذلك تركني ولقيني شخص وقال لي: إلى أين أنت ذاهب؟ قلت: أريد الخميس.
فيقول: يا شيخ! هذه ليست طريق الخميس.
ويأتي آخر ويقول: بلى، هذه ليست طريق الخميس، فتقول: بل هي طريق الخميس، أنت مخطئ، وأنت أيضاً مخطئ، قالا: لا.
أبداً لسنا مخطئين، وأنت لست مخطئاً؟! هذه الطريق ليست طريق الخميس.
يقول: لا.
فيأتي ثالث ورابع ومائة، ووالله لو يجتمع أمامي أهل الأرض كلهم ويقولون لي: إن هذه ليست الطريق.
أقول لهم: لا.
لماذا؟! هذا نتيجة ماذا؟! نتيجة علم أن هذه طريق الخميس؛ لأني ذهبت إلى الخميس ألف مرة من هنا.
لكن لو أنني لا أعرف طريق الخميس أو جئتها مرة ونسيتها منذ زمن، ومشيت فيها، ولقيني شخص وقال: إلى أين أنت ذاهب؟ تقول: أريد الخميس.
يقول: أخطأت، هذه ليست طريق الخميس، بل طريقها من السودة، فتقول: لا.
يا شيخ! أنا أغلب ظني أن الطريق هي هذه، أنا أعرف يا أخي! أن الخميس شرق أبها، أتريد أن ترجعني إلى الغرب، ليس معقولاً يا أخي! فيقول: يا شيخ! لا شرق ولا غرب أنت مخطئ، نحن نعرف الطريق، نحن أهل البلد.
تقول: لا.
مخطئ أنت.
ومشيتُ قليلاً، ولقيني شخص وقال لي: إلى أين أنت ذاهب؟! تقول: ذاهب إلى الخميس.
قال: لا.
هذه ليست طريق الخميس.
فهنا تبدأ الثقة تهتز، فأقول: والله الاثنان ليس من المعقول أن يكونا كاذبَين وأنا الصادق، وبعد قليل أدوِّر السيارة وأرجع؛ لأني لا أعرف طريق الخميس أصلاًَ.
ولذا أنا أدعو الناس وإخواني في الله أن يعرفوا الدين حقيقةً، الله يقول: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد:19] الذي يعلم دينه الحقيقي بالدليل من الكتاب والسنة لا يَضِل، والله لو اجتمع أهل الأرض كلهم ليضلوه فلن يستطيعوا، ولهذا كان شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في أول الرسائل يقول: اعلم رحمك الله أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلُّم أربع مسائل: الأولى: معرفة الله.
الثانية: معرفة رسوله.
الثالثة: معرفة دينه.
الرابعة: معرفة الأدلة.
هذا معناه في علم الدين.
فعليك -أيها المسلم- أن تتعلم الدين، فإذا تعلمته وثقت فيه، وإذا وثقت فيه لا أحد يضلك أبداً، فالثقة بدين الله مسألة من مسائل الثبات؛ لأنك من عندما تتزعزع عندك الثقة بأنك على الدين الصحيح أو لا فمباشرة تهتز، لكن إذا عرفت أنك أنت على الدين الصحيح، وأن أهل الأرض لو كانوا كلهم على الباطل لا تتزعزع، ولا ترجع عن دين الله، وتثبت حتى تلقى الله عز وجل.(72/25)
من وسائل الثبات الالتفاف والمجالسة والاحتكاك بالمثبتين على دين الله
الوسيلة التاسعة: الالتفاف والمجالسة والاحتكاك بالمثبِّتين على دين الله: لا المثبِّطين عن دين الله، فانظروا كلمة واحدة ليس فيها إلا حرف فقط، مثبِّت، مثبِّط، بل الحرفان مخرجهما واحد، لكن التاء مرقق والطاء مفخم.
المثبتون على دين الله هم العلماء العاملون الثابتون على الدين، أكْثِرِ الاحتكاك بهم، جالسهم، تابعهم حتى تثبت معهم، ولا تتابع ولا تجالس المثبِّطين الخاملين المنحرفين فيردّونك عن دين الله عز وجل، واعلم أن النصر لهذا الدين، وأن المستقبل لهذا الإسلام، مهما كان، ومهما أظلم الليل، ومهما انتفش الباطل، ومهما كثر الكفر، ومهما كثرت المعصية، إنه كله زبد، ولو جاء السيل من رأس الوادي ترون الزبد كيف يكون في أوله؟! ما هو الزبد هذا؟! لو أخذت قطعة من الزبد وأردت أن تعاينه فقط لوجدت بَعَراً وخشباً وحشرات وذباباً فقط، فهو زبد يذهب وينخلع، لكن الله يقول: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].(72/26)
من وسائل الثبات الثقة بأن النصر والعاقبة لدين الله وعباده المتقين
الوسيلة العاشرة: كن على ثقة بأن النصر لدين الله، وأن العاقبة للمتقين: عندما لحق سراقة بن مالك بالنبي صلى الله عليه وسلم في يوم الهجرة أدركه؛ لأن قريشاً جعلت مائة بعير لمن يأتي به حياً أو ميتاً، فكل شخص يريد مائة بعير -البعير مثل السيارة الآن، أي: مائة سيارة (مرسيدس) - سفينة الصحراء، فقام سراقة -وكان من أشرس وأشجع الرجال من العرب في الجاهلية والإسلام- قام يدور ويصول ويجول حتى لحقه، فلما لحقه قال الرسول صلى الله عليه وسلم لَمَّا رآه: (اللهم اكفناه بما شئت، فساخت قدما فرسه ويداه إلى الأرض -غُرِست في الأرض- فقال: ادعُ لي، ودعني أخرج، قال: وما تُعْلِم أحداً؟ قال: ولا أُعْلِم أحداً عليك، قال: كيف بك يا سراقة! إذا لبست سوارَي كسرى؟).
أمعقول أن يصدق هذا؟! أنه يأتي بعد أيام وهو جالس على كرسي كسرى دون أن يسعى إليه! لن يصدق، يقول: هذا لا يعقل! هذا رجل من الأعراب في وسط الصحراء، وكسرى زعيم الفرس كلهم، لا إله إلا الله! وهذا يؤمل إلى ذلك! ولكن كانت عنده ثقة، وفعلاً حقق الله نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي عهد عمر، لما جيء بالغنائم كان من ضمنها سواري كسرى وكان ملبوساً في يدي سراقة بن مالك رضي الله عنه وأرضاه.
فيجب أن تثق، فثق، وسيجعلك الله تبارك وتعالى ممن آمن وعمل صالحاً.(72/27)
من وسائل الثبات: معرفة الباطل
الوسيلة الحادية عشرة: معرفة الباطل؛ لأن الله يقول: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] وكان حذيفة بن اليمان متخصصاً في معرفة الشر، يقول: [كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنتُ أسأله عن الشر] لماذا؟! [مخافة أن أقع فيه] بعض الناس يسأل عن الشر من أجل أن يدخل فيه، أول ما ينزل يسأل: أين مكان كذا؟ أين السمرات؟ أين الجلسات؟ أين المنتديات؟ أما هذا فيسأل عن الشر حتى لا أحد يجره إليه.
فعليك يا مسلم! أن تكون عارفاً بالشرور كلها؛ لئلا تقع فيها؛ لأنك إذا عرفت مرض السِّل، فقد عرفت أعراضَه ونتائجَه فلا تقع فيه، وإذا عرفت الفشل الكلوي و (الكوليرا) و (الإيدز) فهو كذلك، لكن الذي لا يعرف الأمراض والشرور ربما يقع فيها بغير علم، فعليك إذا كنت تريد أن تثبت على الدين أن تتعرف على الشرور والمفاسد حتى لا تقع فيها، وألا تغتر بدولة الباطل؛ لأن الله يقول: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196 - 197].
ويقول: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:4] لا يغرك أن ترى الباطل منتفشاً أو منتفخاً وترى أهل الحق ضعفاء! {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم:47].(72/28)
من وسائل الثبات الصبر
الوسيلة الثانية عشرة: الصبر.
الصبر هو: أنك تعاني من شيء لا تقدر عليه يعني: الشخص منا يصبر على أكل الأرز، أيسمى صابراً وهو يأكل أرزاً؟! لا.
اللذات والشهوات والمباحات لا يحتاج لها إلى صبر، هذه لذات.
وإنما الصبر لغة هو: حبس النفس على ما تكره.
تصبِّرها على طاعة الله، وتصبِّرها عن معاصي الله، وتصبِّرها على أقدار الله المؤلمة، ولذا قال الله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
هذه اثنتا عشرة، وسوف نتحدث عنها بإذن الله بشيء من التفصيل في المستقبل، وقد تحدثنا عن ثلاث فقط منها.(72/29)
الأسئلة(72/30)
أهمية التربية الجادة
السؤال
ما هي أهمية وثمرة التربية الجادة الصحيحة؟
الجواب
مُسْلِمَة الفتح الذين أسلموا بعد الفتح هم مسلمون دخلوا في دين الله، ومنهم من نصر الله عز وجل فيما بعد؛ لكنهم في درجة الإيمان ليسوا كمُسْلِمَة مكة الذين أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا في غزوة حنين لما بدأت المعركة انكشف ظهر المسلمين لأول لحظة؛ لأنهم أُعْجِبوا وقالوا: لن نُغْلب اليوم من قلة، ورجعوا {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:26] فما ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أصحاب بيعة العقبة، وأصحاب الشجرة، وأصحاب سورة البقرة؛ لأنهم أهل تربية من طراز خاص، مع أن البقية الذين أسلموا مسلمون، ومنهم من نصر الله، وكُتِبَت لهم -إن شاء الله- الحسنى في الدنيا والآخرة بإذن الله عز وجل.(72/31)
حكم الاستمناء باليد وطرق التخلص منه
السؤال
ما حكم العادة السرية؟ وما هي طرق التخلص منها؟
الجواب
هذه العادة السرية اسمها في الشرع: نكاح اليد، وسميت بالعادة السرية؛ لتخفيفها ولإمضائها على الناس بسهولة، وإلا فاسمها: نكاح اليد، وقد ورد في الأثر لعن صاحبها، قال: (لعن الله ناكح يده).
وجاء في الأثر أيضاً: (أن ناكح يده يبعث يوم القيامة ويده حُبْلى منه) أي: ما من حيوان منوي يخرج عن طريق الاستمناء باليد إلا ويده تحمل منه، ولكن آثار الحمل لا تظهر الآن، تظهر يوم القيامة إذا بُعث الإنسان وقام من قبره، وإذا به يجد يده مثل الجبل، لها ستون سنة، فمن يحاسب في ذاك اليوم على الحفائظ وعلى الرضاعات؟! وكيف يخارج نفسه في ذلك اليوم لا حول ولا قوة إلا بالله؟! وما موقفه إذا جاء أهل الإيمان يأخذون كتبهم بأيمانهم، وإذا قالوا: خذ كتابك وإذا بها مشغولة بشهوته والعياذ بالله والله إنها سفاهة وسفالة وخسة ونذالة، أن تستعمل يدك في هذا الأمر.
إن الله عز وجل يقول وهو يصف عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5 - 6] أي: الأمة، الجارية التي تملكها؛ لأن أحد الشباب يقول: إلا ما ملكت أيماننا، يحسب أنها يده اليمين، لا.
بل {مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6] أي: الأمة، القَيْنَة التي يملكها الإنسان وهي رقيقة عنده، فيجوز له أن ينكحها ويتسرَّى بها: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المؤمنون:7] ابتغى وراء الزوجة أو ملك اليمين المتسرِّي بها: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] أي: المعتدون على حرمات الله.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) وجاء أي: حاجز وحصن.
فالصوم يقطع منك الشهوة، ولا تأتيك بإذن الله.
كيف تصوم؟ تصوم الإثنين والخميس، وتصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وتستعين بالله، وعليك أن تتقي الله عز وجل.
ثم إن هناك فتوى من هيئة كبار العلماء بإجماع الهيئة: أنها محرمة تحريماً قطعياً، وأنه لا يجوز أبداً أن يقع فيها المسلم بأي حال من الأحوال.
ثم إن هناك فتاوى طبية من منظمة الصحة العالمية، يقولون: إن مزاولة هذه العادة مضر بالجسد وبالعقل وبالنفس: أولاً: تضعف الأنسجة الموجودة في عضو الإنسان؛ مما يجعله غير قادر على مباشرة زوجته إذا تزوج.
ثانياً: تضعف الحيوانات المنوية؛ لأنه يستهلك في الاستمناء باليد طاقة كبيرة من القوة والشباب والحيوية، مما يجعله إذا تزوج غير قادر على الإنجاب، فلا يرمي إلا حيوانات منوية تموت قبل أن تصل إلى رحم المرأة، فلا ينجب، ويعيش عقيماً والعياذ بالله.
ثالثاً: يقول العلماء والأطباء: إن الإنسان الذي يزاول هذه العادة تشعره دائماً بالإحباط وبالضمور، وتجعله دنيء الهمة، خفيف القصد؛ لأنه كلما بدرت عنده هذه النزوة وَجَدَ زوجةً قريبة، فقام على يده، يعني: امرأته يده -والعياذ بالله- فيتحول من إنسان كريم إلى إنسان سافل هابط.
فاتقِ الله يا مسلم! واستعصم به.
ثم هناك وسائل: لا تسمع الغناء، ولا تقرأ القصص الخليعة الغرامية، ولا تنظر إلى الحرام، ولا تتابع الأفلام؛ لأن هذه تُذْكي فيك نار الشهوة وتشعله، وإذا اشتعلت نار الشهوة فما يبرِّدها إلا خروج هذه الحيوانات المنوية عن طريق الحلال بالزوجة، أو طريق الحرام إما بالزنا أو بالاستمناء.
فلا يجوز لك يا مسلم! أن تشعل هذه الشهوة، وإذا زادت عندك فعليك بالصوم، فإن الصوم وجاء، وأيضاً من رحمة الله أنه إذا زادت عندك نسبة الحيوانات المنوية أن الله يصرفها لك بطريق الاحتلام، تنام وتخرج منك في النوم، فلا يأتيك أي ضرر، وذلك من فضل الله تبارك وتعالى.
فعليك أن تعتصم بالله، وأن تتوب، وألا تقع في هذه المعصية الكبيرة والعياذ بالله.(72/32)
نصيحة لمن وجد في نفسه زيغ وصدود وعدم قبول للنصيحة
السؤال
أشهد الله على حبكم ومن حضر في هذا المجلس، ثم إنني شاب ملتزم، ومحب للخير في طاعة الله؛ ولكنني أجد في نفسي بعض الأحيان زيغاً وصدوداً وعدمُ قبول للنصيحة، فما العمل؟
الجواب
أحبك الله الذي أحببتنا فيه، ونسأل الله عز وجل أن يظلنا في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، فإن من ضمن الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله: (رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وافترقا عليه).
والعمل: من نفسك، ماذا تريدني أن أقول لك؟! أقول: ركِّب لك (قفل) في نفسك، لا.
بل اعمل أنت، واستعن بالله، وتمسك بطاعة الله، واقبل النصيحة، دُم على الطاعة، ابتعد عن المعصية، هذه مسئولياتك، هذه واجباتك، هذه دائرة اختصاصك، لا أحد يستطيع أن ينفعك في هذا إلا أنت إذا كنت عاقلاً، أنت الآن طالب في المدرسة، إذا جئت تقوم في الصباح لتذهب إلى المدرسة وشعرت بالنوم والثقل والسهر، وتريد أن تنام، من الذي يستطيع أن يوقظك؟ لولا حرصك على الدراسة والمصلحة والشهادة، وخوفك من المدرسين، لا أحد يستطيع أن يوقظك، هذا من ضمن مسئولياتك، فقم إلى طاعة الله وابتعد عن معصية الله كما تقوم إلى المدرسة وإلى الواجبات الدنيوية.(72/33)
نصيحة لمن لا يقرأ القرآن
السؤال
أنا لا أقرأ القرآن، وفي بعض الأوقات لمدة أسبوع، نظراً لظروفي الخاصة، فما العمل؟
الجواب
اقرأ القرآن، وإن كنت مشغولاً والذي لا يعرف القراءة مثل الأميين فقد يسر الله من الوسائل والإمكانيات ما يستطيع المسلم به أن يكون تالياً للقرآن عن طريق أخذ القرآن المجوَّد للشيخ علي جابر، أو الشيخ المنشاوي، أو للشيخ عبد الرحمن السديس، أو أي قارئ من القراء الطيبين الذين لهم قراءة ندية عذبة طرية، تتلذذ بها، عليك أن تُشغل القرآن في غرفتك، وفي سيارتك، وفي مكان جلوسك، اجعل القرآن معك، وأيضاً هناك إذاعة اسمها: إذاعة القرآن الكريم، تبث ثماني عشرة ساعة، تبدأ الساعة السادسة صباحاً، وتغلق الساعة الثانية عشرة مساءً، هذه الإذاعة تعتبر مدرسة وجامعة، مَن عَكَف عليها ففيها الأسئلة، والبرامج الإسلامية، والتاريخ، والسيرة، والقصص، والتوحيد، والمحاضرات، والندوات، واللقاءات، فمن لزم هذه الإذاعة فسينوِّر الله بصيرته وقلبه إن شاء الله.
أما أنت إذا كنت تقرأ القرآن بالنظر فلا بد أن تجعل لك ورداً معيناً، تجعل المصحف عند رأسك عندما تنام تقرأ، وحينما ترجع من صلاة الفجر قبل أن تنام تقرأ، ثم يكون المصحف في جيبك تقرأ فيه في المكتب، تقرأ فيه في المسجد، ومصحف في منضدتك، إذا كنت في المكتب، وانتهى عملك وأنت جالس فاقرأ القرآن، ومصحف في السيارة إذا خرجت للتمشية، أو للنزهة، وليس هناك شغل فاقرأ، اجعل المصحف معك، كن رفيقاً لكتاب الله عز وجل، حتى يثبتك الله على الإيمان.
أما أن تهجر القرآن فلا، بعضهم لا يعرف المصحف إلا في رمضان، ويريد أن يثبته الله!(72/34)
علاج الرياء والغرور
السؤال
أنا شاب ثابت إن شاء الله على دين الله، ولكني أخشى من الرياء والغرور، فما علاج ذلك؟
الجواب
علاج ذلك أن تدحر الشيطان، وتستعيذ بالله من وساوسه، فإن الشيطان حريص على الإضلال من كل جانب، فإذا وَجَدَ أنه سينالك من جانب الإقعاد قَدَر عليك، وإن رآك متمسكاً جاءك من باب الغرور وقال: لا.
أنت مرائي، لا تعمل شيئاً، اترك الصلاة في المسجد؛ لأنك إذا صليت في المسجد صرت مرائياً، اقعدْ وصلِّ في البيت.
يقول العلماء: إن ترك العمل من أجل الرياء شرك، وفعل العمل من أجل الرياء رياء.
وطريق السلامة: أن تجعل العمل خالصاً لوجه الله، وتسأل نفسك لِمَ هذا العمل؟ إنه من أجل الله، لا أحدٌ يعطيك عليه فلوساً، ثم تدحر وساوس الشيطان بالاستعاذة بالله منه.(72/35)
حكم الجلوس عند أناس يستمعون الأغاني
السؤال
أنا شاب أركب مع شباب يستمعون للأغاني، ولا أستطيع أن أنهاهم فما الحكم؟
الجواب
لا تركب معهم، لا تركب مع شاب يستمع الغناء وأنت لا تستطيع أن تغلق (الراديو) بأي حال من الأحوال، والله خير لك أن تمشي على وجهك وليس على رجليك من البيت إلى المدرسة.
قد يقول أحد من الزملاء: والله بيتنا بعيد عن المدرسة، وما عندي سيارة وأبونا ليس عنده سيارة، وإذا ركبت مع زملائي هؤلاء فسَيُسْمِعُوني الغناء، فأنا بين خيارين: إما أن أمشي على رجلي، أو أركب معهم وأسمع الأغاني.
نقول لك: امشِ على رجلك، أو لا تدرس، أو اركب مع الزملاء الطيبين، أما أن تركب مع شباب يسمعون الأغاني وأنت ساكت، فاعلم أن البداية هكذا، والنهاية سوف تضل معهم، إما أن تقفل (الراديو) أو لا تركب معهم، والله يقول: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء:140].
فلا تجلس في مجلس يُعْصَى الله فيه وأنت جالس.
بعض الناس يقول: جلستُ في مجلس في وليمة زواج، وكانت الأغاني شغَّالة، يقول: دخلت أريد أن أتعشى، وإذا بهم مُشَغِّلين الأغاني.
قلت: وماذا فعلت؟ قال: والله إني جلست ولم أستطع أن أقول شيئاً، فهذا زواج.
قلت: وأنت لماذا جلستَ؟! لِمَ لَمْ تخرج؟! قال: أريد أن أتعشى.
قلت: الله أكبر على بطنك هذه التي لا تمتلئ، لو أنك عملت احتجاجاً يا أخي! أليس الناس يحتجون على بعض الأعمال؟ إذا أحد أغضبهم يحتجون ويخرجون، إذاً: فأنت جالس في مجلس عُصِي الله فيه، إذا كنت تستطيع أن تغير المنكر فالحمد لله، وإذا كنت لا تقدر فقل: أستأذن.
وإذا قيل: لماذا؟! قل: معاصٍ، لا أقدر أن أجلس.
والله هذا يؤدبهم أكبر أدب، يؤدب صاحب البيت، والجالسين.
وقد أخبرني من أثق فيه، يقول: كنت مدعواً في مناسبة زواج، ولما دخلتُ وإذا بالصور قد أُلْصِقت، والأغاني، وإذا بالمغرِّدين يصيحون بالوَلْوَلَة هذه، فدعيت صاحب البيت قلت: يا أخي! أنت دعوتني لأتعشى أم دعوتني لأعصي الله عزَّ وجلَّ؟! قال: والله يا أخي! لا نقدر، لكن استرح أنت.
قلت: لا.
والله لا أستريح.
قلبه أصبح مثل النار، قلبه حي يخاف الله.
يقول: فخرجت، فرآني بعض الناس الذين يعرفونني، فنادوا: أين الشيخ فلان؟! أين الشيخ فلان؟! قال صاحب البيت: والله دخل وسمع الأغاني هذه وأبى أن يجلس، يقول: إنها حرام! يقول: فالجميع كلهم تأثروا، وقالوا: أقفلوها، جزاه الله خيراً.
أقفلوها لأنه خرج، لكن لو أنه جلس وبقي مثل الشاة الرابضة من أجل لقمة أرز يملأ بها بطنه والعياذ بالله؟! أعتقد أن فيما حصل كفاية.
وأسأل الله تبارك وتعالى لي ولكم التوفيق.
والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(72/36)
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً
يقدم المرء على ربه وحيداً فريداً كما خلقه أول مرة، ليس معه شيء غير عمله الصالح أو السيئ، وفي ذلك اليوم يتفاضل الصالحون بأعمالهم الصالحة في درجات الجنة، ويتهاوى المذنبون في دركات النار والعياذ بالله.
وللإنسان هيئات وأحوال يقدم بها على ربه كل بحسب طاعته وعصيانه، وقد ذكر الشيخ أربع هيئات لقدوم الإنسان على الله يوم القيامة.(73/1)
معنى قوله تعالى: (وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الأحبة في الله! عنوان درسنا هو: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:95] هذه الآية الكريمة، تقرر مرجعية الناس كلهم إلى الله بعد أن يتخلوا عن كل إمكانياتهم وقدراتهم، وما كانوا يظنون أنه يمكن أن ينفعهم {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:95] بدون مال، وجاه، ومنصب، وولد، وبلا حول، ولا قوة، بل كما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94] يُخلق الإنسان ويأتي إلى الدنيا فرداً، ويستقبل في خرقة، ويعيش فترة من العمر إلى أن يموت، ثم يموت ويرجع إلى الله فرداً مودعاً في خرقة أخرى وهي خرقة الكفن، وهو بين الخرقتين حياته تتوقف ومصيره في الآخرة على ضوء سلوكه وعمله فيما بين الخرقتين: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94] ما خولكم الله عز وجل من المال والأولاد والزوجات والدور والقصور والجاه والمكانة والمنصب والرتب كلها تركتموها وراء ظهوركم وجاء الإنسان إلى الله، يخرج من الدنيا كما تخرج الشعرة من العجين، جاء بالعمل: إما حسنات وإما سيئات؛ حسنات اكتسبها من سيره في طريق الله، والتزامه بكتاب الله، وتمسكه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتسب الحسنات.
أو سيئات حملها على ظهره نتيجة وقوعه فيما حرم الله، أو تركه لما أمر الله، وأما تصديقه لما أخبر الله فيحمل إما سيئات أو حسنات يقول الله عز وجل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:89 - 90] ما هو إلا ما كنتم تجمعون وتحتلون من الدنيا {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:90] القضية قضية عمل، عندك عمل تنجو وتفلح، ليس عندك عمل تسقط ولو كنت من كنت، إن الله لا ينظر إلى الصور والأجسام والأشكال، ولكن ينظر فقط إلى القلوب وأعمال القلوب الحية السليمة المطمئنة الرقيقة، المنيبة المخبتة الخاشعة التي تخشع لعظمة الله.
فهذه القلوب الله عز وجل يرفع بها أصحابها يوم القيامة بالعمل الصالح، من جاء بالحسنة العملة الدارجة يوم القيامة ليست الريال ولا الدرهم ولا الدينار ولا الدولار وإنما الحسنات فقط.
بعض الناس في الدنيا فقير المال لكنه مليونير حسنات، وبعض الناس في الدنيا غني في المال لكن ليس عنده حسنة، فقير في الآخرة -والعياذ بالله- ولهذا يقال: إذا رأيت أحداً ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة، إذا نافسك في الدنيا يبني بجوارحك أربعة خمسة أدوار، ابن أنت في الجنة واشتغل في القرآن، احفظ كتاب الله، حفظ زوجتك وأولادك وبناتك كتاب الله، اذهب كل يوم إلى المسجد، كل يوم أنت وأهلك، زوجتك مع الأمهات، وبناتك مع التلميذات، وأولادك مع الأولاد، وأنت مع الكبار في المسجد من بعد العصر إلى بعد العشاء في الحلقات؛ تخرجون وعندكم مثل الجبال من الحسنات، لماذا؟ لأن بكل حرفٍ من القرآن تقرءونه عشر حسنات (لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) ما هذه التجارة يا إخواني؟! ولكن ما بال الناس يزهدون فيها؛ لأنهم لا يعرفون قيمة الحسنات، ولا يعرف قيمة الحسنات إلا العالم بالله، مثل الذهب لا يعرفه إلا صاحب الخبرة، ولو أتيت بالذهب عند الفحام، فسوف يرميه لأنه يريد فحماً فقط، وأيضاً لو أتيت عند الذي يجمع البعر والروث كي يفعل به سماداً لرماه لا يعلم أنه ذهب، وكذلك الذي يعرف الله ويعرف دين الله وحقيقة الحياة يعرف قيمة الحسنات، ولهذا يجمع فيها ويحصل منها ويسابق إليها ولا يشبع من خيرٍ حتى تكون نهايته الجنة.
قال تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:95] جاءت الآيات الكريمات في القرآن الكريم لتبين لنا في مواضع ثانية كيف الإتيان على الله؟ وكيف القدوم عليه؟(73/2)
هيئة قدوم المجرم على ربه
ذكر ربنا عز وجل هيئات للقدوم عليه سبحانه وتعالى: الهيئة الأولى: أن تأتي إلى الله مؤمناً يقول عز وجل: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه:75] أي: في الجنة.
الهيئة الثانية: أن تأتي إلى الله مجرماً يقول الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} [طه:74 - 75] لا يوجد إلا إتيانين على هيئتين، إما إيمان وعمل صالح، أو إجرام، وكلمة إجرام عامة، يدخل فيها الكافر، والمنافق، والفاسق، كل من ليس عنده إيمان وعمل صالح يصنف مع الفريق هذا الذي يدخل النار.
{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ} [طه:75] وفي كلمة (ربه) هنا نوع من الإشارة إلى أنه ما دام ربك فلماذا تأتي إليه وأنت مجرم؟! ربك الذي خلقك وأوجدك من العدم، ربك الذي رباك بالنعم وفضله وإنعامه عليك كيف تعصيه؟ كيف تقدم عليه وأنت مجرم؟! ربك صاحب الفضل عليك الذي خلقك من العدم ويخلقك في بطن أمك خلقاً من بعد خلقٍ في ظلمات ثلاث، فأبوك يضعك نطفة وأمك تستقبلك شهوة، ثم يخلط الله بين ماء الرجل وماء المرأة، ثم يتعهد الله هذه النطفة بتلك المراحل من الأطوار الخلقية أربعين يوماً نطفة، ثم أربعين يوماً علقة، ثم أربعين يوماً مضغة، ثم بعد المضغة تصير عظاماً، ثم يكسو الله العظام لحماً، ثم ينشأه الله خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين! فأنت في بطن أمك لا أحد يعلم عنك إلا الله: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم:32] يجري لك الله عز وجل في بطن أمك الغذاء، والهواء، وجميع الإمكانات التي تريدها، ويزودك بكل الأعضاء التي تحتاجها، يجعل لك أقداماً في البطن وأنت لا تسير في البطن لكن من أجل أنك عندما تخرج إلى دنيا تحتاج فيها إلى الأقدام، ويجعل الله في رأسك عيوناً وأنت لا ترى في البطن؛ لكن لأن الله يعلم أنك سوف تخرج إلى الدنيا وتحتاج إلى البصر، يجعل الله لك أيدي، وبعد ذلك إذا جئت إلى الدنيا، الله يربيك {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] فما دام هو الخالق والمربي والمنعم فكيف تأتيه وأنت مجرم؟ {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} [طه:74] كلمة مجرم مفهومها عند الناس مفهوم محدود، بينما هي في الشرع لها مفهوم أوسع، مفهوم الإجرام عند الناس أنها القتل، والسرقة، والزنا، وترويج المخدرات، وقطع السبل، وهذا لا شك إجرام.(73/3)
هيئة قدوم قاتل النفس على ربه
إن من يقتل النفس بغير حق مجرم؛ لأنه ارتكب معصية كبيرة وهي قتل النفس بغير حق، وسفك الدم الحرام، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) وأول ما يقضى يوم القيامة في الدماء، والله يقول في سورة النساء: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93] ويأتي المقتول يوم القيامة يحمل رأسه على يده، ويمسك بيده الأخرى في تلابيب قاتله وأوداجه تشجب دماً يقول: يا رب! سل هذا فيما قتلني بغير حق؟! وإذا قتل نفساً معصومة فكأنما قتل الناس جميعاً، كما قال الله في قصة ابني آدم في المائدة: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً} [المائدة:27] إلى آخر الآيات، وقال الله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} [المائدة:32] أي: من أجل هذه الجريمة؛ ولأن هابيل هو الذي سَنَّ سنة القتل وقتل أخاه، رغم أن أخاه كان قادراً على أن يقتله، لكن منعه خوف الله {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [المائدة:28] لماذا؟ ماذا الذي حدث؟ {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:28 - 30].
وبعد ذلك قال الله في آخر الآيات: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} [المائدة:32] أي: من أجل هذه السنة السيئة، ومن أجل هذه الجريمة الشنعاء {كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32] فإذا قتلت شخصاً في الدنيا تأتي يوم القيامة وفي رقبتك بعدد كل من خلق الله من آدم إلى يوم القيامة، كأنك قتلتهم كلهم يعني: كأنك قتلت العالم كله، ليس العالم في هذا الزمن فقط، بل العالم منذ خلق الله الأرض إلى يوم القيامة، أجل.
جريمة كبيرة، وفاحشة منكرة أن تقتل، ولهذا لا تقتل، ولا تفكر في القتل، ولا تحمل سلاحاً، إلا في معركة، أو مواجهة أعداء، هناك تذهب تقاتل أعداء الله، أما أنك تحمل سلاحاً فإن حملك للسلاح يؤدي إلى استخدامه لأتفه الأسباب، مثل شخص حمل السلاح، لماذا؟ قال: هذا سلاح شخصي، وبعد ذلك يحصل بينه وبين زميله شجار أو مشكلة بسيطة، ولكن الشيطان يشحنه ويصعب المشكلة حتى يستعمل السلاح ثم يهلك، لكن لو أنه ليس عنده سلاح ما كان يعمل هذا العمل.
ولهذا لما سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم ما أخبر به من القتل في آخر الزمان قال: (يا رسول الله! إن أنا أدركت ذلك الزمان فماذا أصنع؟ قال: اعمد إلى سيفك واضرب به في حجر -يقول: اكسره لا تستخدمه- قال: فإن جاء يقتلني؟ قال: فادخل في بيتك لا تقاتله، قال: فإن دخل علي البيت؟ قال: فخمر وجهك حتى لا ترى بارقة السيف وكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل)، لأنك بمجرد أن قتلت فأنت مقتول، وبعد ذلك مقتول مليون قتلة، هذا الذي قتلته قتلته مرة واحدة وأخذها فجأة ومن غير توقع، لكن أنت منذ أن يقبض عليك وأنت مقتول، وكلما دعيت إلى التحقيق أنت مقتول، وكل يوم أنت مقتول، وكلما تسمع أقدام عسكري يدخل تقول لك نفسك: أتوك الآن.
وإذا جاء يوم القتل لا إله إلا الله! كيف تكون نفسية المقتول إذا دعوه وقالوا: تعال اكتب وصيتك الآن ينفذ فيك الحكم، كيف تكون نفسيته يا إخوان؟ لو استطعنا أن نصل إلى نفسيته ونأخذ شريحة كي نحللها سنجد أنه أشقى إنسان على وجه الأرض، بعد ذلك يحمل ثم ينزل إلى الساحة ثم يجلس ثم يسمع الإعلان، وهو: أقدم فلان بن فلان على قتل فلان بن فلان، وبعد ذلك يضرب رأسه إما بالسيف لتقطع رقبته، أو بالبندقية لتنفض ظهره، كم قتل الآن؟ يسمونه قتل الصبر، لا يأتي القتل إلا وقد مات، بعضهم يموت قبل أن يأتي السيف في رأسه، وهل تنتهي المسألة هنا؟ لا.
هذا حق الدنيا وبقي حق الآخرة.
فهل تنفع التوبة؟ للعلماء كلام كثير في هذا.
قال العلماء: إن القاتل يرتكب ثلاث جنايات، واحدة في حق الله، وواحدة في حق الورثة، وواحدة في حق المقتول.
فأما التي في حق الله: فتسقط بالتوبة إذا تاب قَبِل الله توبته.
وأما التي في حق الورثة: فتسقط بالقود أو بالعفو أو بالعوض أي: الدية، القود يعني: القصاص، أو العفو يعفون عنه، أو الدية يستلمون مالاً.
وأما التي في حق المقتول: فهذه يؤجل النظر فيها إلى الحضور بين يدي الله يوم القيامة؛ لأن المقتول ما استفاد من القتل، لما قتلنا القاتل هل استفاد المقتول؟ لا.
استفاد الورثة وبردت قلوبهم؛ لأنهم اقتصوا من قاتل أبيهم، لكن ذاك قتل بغير حق، أما هذا فقتل بحق، ولذا ترفع القضية ويعاد النظر فيها يوم الوقوف بين يدي الله، إذاً: لماذا تقتل يا أخي؟! لا تمارس القتل في أي حالٍ من الأحوال، فالقتل جريمة.(73/4)
هيئة قدوم الزاني على ربه
إن الزنا جريمة لاشك فيها، وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (ما عصي الله بذنب بعد الشرك أعظم من نطفة يضعها الرجل في فرجٍ لا يحل له)، (ومن زنى بامرأة في الدنيا كان عليه وعليها في القبر نصف عذاب هذه الأمة)، (والذي نفس محمدٍ بيده إن ريح فروج الزناة والزواني في النار ليؤذي أهل النار) أهل النار كل واحد يسد أنفه ماذا هناك؟ قال: ريح، من أين يأتي الريح؟ من فرج الزاني والزانية، من العذاب والإحراق.
(والذي نفس محمدٍ بيده إن فروج الزناة والزواني لتشتعل ناراً يوم القيامة) تتحول إلى براكين من لهب؛ لأنها كانت موطن لذة محرمة.
وفي حديث سمرة بن جندب في البخاري، حديث الرؤيا الطويل قال: (ثم أتينا على تنورٍ أعلاه ضيق وأسفله واسع فيه رجالٌ ونساء عراة، يأتيهم لهبٌ من تحتهم فيرتفعون وينخفضون قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزواني والزناة من أمتك) ولهذا شرع الله للزاني المحصن أشنع قتلة، القاتل يقتل، لكن الزاني المحصن؟ يرجم.
كيف يرجم؟ حتى يموت بالتقسيط، وينال كل جزء من جسمه جزءاً من العذاب؛ لأنه تلذذ بالجسم كله، قتلة الرمي من أشنع ما يمكن، وأنا حضرت مرة في حياتي إقامة حد على زاني يرجم، ورجم بالحجارة حتى تغطى بالحجارة وما رأيناه، وكان كلما أتى حجر صاح، حجر يقع في رأسه وظهره حتى تغطى بالحجارة، وبعد ذلك قالوا: خلاص، أتوا بعد رمي الحجارة وكشفوا عليه وإذا به حي، قالوا: زيدوه، تصور هذه القتلة، هل تسوى هذه لذة الزنا؟ يا إخواني! أين عقول الناس، لا حول ولا قوة إلا بالله! بعضهم يقول: يمكن أعملها في الدنيا ولا يرجموني، حسناً وإذا ما رجمت في الدنيا فرجم الآخرة أشد.
رجم الدنيا ربما يكون كفارة إذا تبت ورجمت في الدنيا فإن شاء الله أن الله عز وجل يتوب عليك كما تاب على ماعز والغامدية اللذين قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهم الآن لينغمسون في أنهار الجنة مع التوبة) لكن من لم يقم عليه الحد ويزني في الدنيا لا يلزمه أن يذهب إلى الحاكم من أجل أن يجلد، لا.
عليه أن يتوب، والله يتوب عليه، لكن الموت على من يأتيه وهو على الزنا، هذه المصيبة ولا حول ولا قوة إلا بالله! كذلك السرقة جريمة تأخذ مال المعصوم لماذا؟ (إن أموالكم ودماءكم وأعراضكم حرام عليكم) لا تمد يدك ولو على مسواك، لا تمد يدك ولو على هللة، إلا مالك، أما مال الناس فلا؛ لأنك إن تأخذ شيئاً تأخذ حراماً، والحرام يوم القيامة مأخوذ منك، فأنت مجرم إذا سرقت.
إذا روجت المخدرات فأنت مجرم؛ لأن المخدرات آفة الشعوب وعلة الأمم جميع دول الأرض أجمعت على محاربتها لماذا؟ لأنها تعني لا إنسان، هذه معادلة دولية (مخدرات + إنسان=لا إنسان) يبيع الإنسان دينه وعرضه ووطنه وكل شيء في حياته مقابل جرعة مخدرات؛ لأنه لا يتحكم ولا يستطيع التحكم بنفسه، المخدر يتحكم في مخه ويسير في دمائه، فإذا تناوله راق وجلس، وإذا انتهى المخدر يأتيه مثل الجنون في رأسه، يتشنج ويفتح عيونه ويصيح يريد جرعة بأي وسيلة.
أتسمح بهذا وأنت تروجها وتتعاطاها وتهربها وتتستر على صاحبها؟ لو كان ولدك من صلبك بلغ عنه، يجب أن نكون عيوناً ساهرة على المخدرات، ليس فقط إدارة مكافحة المخدرات؛ إدارة مكافحة المخدرات جهة مسئولة أمام الله أن نبلغ، والذي لا يبلغ فهو متستر، وخائن لله ولرسوله ولأمانته، وسوف يبتلى هو ويمكن أن تصير البلية بعد ذلك فيهم؛ لأن الراضي الذي يرضى بهذا المنكر للناس فهو كالفاعل -والعياذ بالله- هذا مفهوم الإجرام عند الناس.(73/5)
هيئة قدوم السارق ومروج المخدرات على ربه
إن الزنا جريمة لاشك فيها، وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (ما عصي الله بذنب بعد الشرك أعظم من نطفة يضعها الرجل في فرجٍ لا يحل له)، (ومن زنى بامرأة في الدنيا كان عليه وعليها في القبر نصف عذاب هذه الأمة)، (والذي نفس محمدٍ بيده إن ريح فروج الزناة والزواني في النار ليؤذي أهل النار) أهل النار كل واحد يسد أنفه ماذا هناك؟ قال: ريح، من أين يأتي الريح؟ من فرج الزاني والزانية، من العذاب والإحراق.
(والذي نفس محمدٍ بيده إن فروج الزناة والزواني لتشتعل ناراً يوم القيامة) تتحول إلى براكين من لهب؛ لأنها كانت موطن لذة محرمة.
وفي حديث سمرة بن جندب في البخاري، حديث الرؤيا الطويل قال: (ثم أتينا على تنورٍ أعلاه ضيق وأسفله واسع فيه رجالٌ ونساء عراة، يأتيهم لهبٌ من تحتهم فيرتفعون وينخفضون قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزواني والزناة من أمتك) ولهذا شرع الله للزاني المحصن أشنع قتلة، القاتل يقتل، لكن الزاني المحصن؟ يرجم.
كيف يرجم؟ حتى يموت بالتقسيط، وينال كل جزء من جسمه جزءاً من العذاب؛ لأنه تلذذ بالجسم كله، قتلة الرمي من أشنع ما يمكن، وأنا حضرت مرة في حياتي إقامة حد على زاني يرجم، ورجم بالحجارة حتى تغطى بالحجارة وما رأيناه، وكان كلما أتى حجر صاح، حجر يقع في رأسه وظهره حتى تغطى بالحجارة، وبعد ذلك قالوا: خلاص، أتوا بعد رمي الحجارة وكشفوا عليه وإذا به حي، قالوا: زيدوه، تصور هذه القتلة، هل تسوى هذه لذة الزنا؟ يا إخواني! أين عقول الناس، لا حول ولا قوة إلا بالله! بعضهم يقول: يمكن أعملها في الدنيا ولا يرجموني، حسناً وإذا ما رجمت في الدنيا فرجم الآخرة أشد.
رجم الدنيا ربما يكون كفارة إذا تبت ورجمت في الدنيا فإن شاء الله أن الله عز وجل يتوب عليك كما تاب على ماعز والغامدية اللذين قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهم الآن لينغمسون في أنهار الجنة مع التوبة) لكن من لم يقم عليه الحد ويزني في الدنيا لا يلزمه أن يذهب إلى الحاكم من أجل أن يجلد، لا.
عليه أن يتوب، والله يتوب عليه، لكن الموت على من يأتيه وهو على الزنا، هذه المصيبة ولا حول ولا قوة إلا بالله! كذلك السرقة جريمة تأخذ مال المعصوم لماذا؟ (إن أموالكم ودماءكم وأعراضكم حرام عليكم) لا تمد يدك ولو على مسواك، لا تمد يدك ولو على هللة، إلا مالك، أما مال الناس فلا؛ لأنك إن تأخذ شيئاً تأخذ حراماً، والحرام يوم القيامة مأخوذ منك، فأنت مجرم إذا سرقت.
إذا روجت المخدرات فأنت مجرم؛ لأن المخدرات آفة الشعوب وعلة الأمم جميع دول الأرض أجمعت على محاربتها لماذا؟ لأنها تعني لا إنسان، هذه معادلة دولية (مخدرات + إنسان=لا إنسان) يبيع الإنسان دينه وعرضه ووطنه وكل شيء في حياته مقابل جرعة مخدرات؛ لأنه لا يتحكم ولا يستطيع التحكم بنفسه، المخدر يتحكم في مخه ويسير في دمائه، فإذا تناوله راق وجلس، وإذا انتهى المخدر يأتيه مثل الجنون في رأسه، يتشنج ويفتح عيونه ويصيح يريد جرعة بأي وسيلة.
أتسمح بهذا وأنت تروجها وتتعاطاها وتهربها وتتستر على صاحبها؟ لو كان ولدك من صلبك بلغ عنه، يجب أن نكون عيوناً ساهرة على المخدرات، ليس فقط إدارة مكافحة المخدرات؛ إدارة مكافحة المخدرات جهة مسئولة أمام الله أن نبلغ، والذي لا يبلغ فهو متستر، وخائن لله ولرسوله ولأمانته، وسوف يبتلى هو ويمكن أن تصير البلية بعد ذلك فيهم؛ لأن الراضي الذي يرضى بهذا المنكر للناس فهو كالفاعل -والعياذ بالله- هذا مفهوم الإجرام عند الناس.(73/6)
هيئة قدوم تارك الصلاة على ربه
هناك مفاهيم أخرى للإجرام، فمن لا يصلي مجرم، وهذه جريمة من طراز قوي جداً أعظم من جريمة القاتل والزاني والسارق وترويج المخدرات، لماذا؟ لأن القاتل إذا قتلناه نصلي عليه، لماذا؟ لأنه مسلم، القاتل ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب ونصلي عليه ونغسله ونكفنه ونقبره مع المسلمين، ويرجى له عند الله المغفرة، لكن تارك الصلاة إذا مات مات مرتداً، لا يُآكل، ولا يشارب، ولا يجالس، ولا يسلم عليه، ولا يزار إذا مرض، ولا تتبع جنازته، ولا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مدافن المسلمين، لماذا؟ لأنه مرتد كافر -والعياذ بالله- تارك الصلاة مجرم.
قد يقول شخص منكم: ما يدرينا أنه مجرم؟ أقول لك: مجرم بنص القرآن، ليس من رأسي، قال الله عز وجل: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] يعني: يوم القيامة، كل واحد مرتهن بكسبه، كل نفس أنا وأنت وكل من على وجه الأرض وكل من سيأتي وكل من مات إلى يوم القيامة {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [المدثر:38] أي: بما عملت {رَهِينَةٌ} [المدثر:38] لا تلم أحداً، لا تلم إلا نفسك، والله لا تأخذ حسنات غيرك ولا يأخذ أحد من سيئاتك شيئاً، والله إنها لك إن هي خير أو شر {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] * {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} [المدثر:39]-اللهم اجعلنا جميعاً منهم- أين هم هؤلاء؟ {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ} [المدثر:40].
من ضمن النعيم الذي يعطي الله لأهل الجنة أنهم وهم على الأسرة والأرائك، والنعيم، والقصور، يشرفون والأنهار تجري من تحتهم، والحور والولدان يخدمونهم وهم في نعمة يتساءلون يتحادثون، وقد ذكر الله هذا في القرآن في أكثر من مرة {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ} [المدثر:38 - 41] وهم في النار؟ {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:42] ماذا أتى بكم إلى هنا؟ {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43] نعم.
يعني: الذي لا يصلي ماذا يصبح؟ مجرم.
ولا يجوز له -أيها الإخوة- أن يتزوج بمسلمة؛ لأنه مرتد ومن شروط زواج المسلمة ألا تتزوج إلا مسلماً: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:114] (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] لا تحل المسلمة للكافر بأي حالٍ من الأحوال، فلا يجوز أن تزوج شخصاً لا يصلي، وإذا تزوج وهو يصلي ثم ترك الصلاة فيما بعد، انفسخ العقد وبطل النكاح وحرمت الزوجة عليه، وحرم على وليها أن يبقيها في بيته، وحرم عليها أن تبقى ويعاشرها، وإذا جامعها فإنما يجامعها زنا، وأولادها بعد ذلك أولاد سفاح، ولا يحتاج الأمر إلى طلاق، فلا طلاق للكافر، يفسخ العقد عند القاضي فسخاً بالقوة، وهذا يقام عليه الحد، تارك الصلاة مرتد، كافر، مجرم، هل يفهم الناس هذا في هذا الزمان؟ ما أكثر المجرمين -الله المستعان- بل في بيوت بعض الناس تجده يعرف أن أولاده لا يصلون وساكت، لماذا؟ قال: الولد موظف، لا نريد نقول له: صلِّ بعد ذلك يخرج ويذهب بالراتب، ونحن نريده يصرف علينا، يصرف عليك وهو مجرم! من الذي رزقك قبل الولد؟ من الذي خلقك؟ من الذي رزقك بالولد نفسه؟ تحول اعتمادك من الله على هذا؟! لا إله إلا الله! والله يقول: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].(73/7)
هيئة قدوم المستهزئ بأولياء الله على ربه
الذي يستهزئ بأهل الإيمان مجرم {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] هذه جريمة بعض الناس لا ينتبه لها، يقول: نمزح نضحك، لا.
كل شيء في دين الله لا تضحك به، كل شيء له علاقة بالله والرسول والأئمة والخطباء والعلماء والدعاة والمؤمنين، انتبه، هؤلاء لهم حصانة اسمها حصانة شرعية، الذي يستهزئ بهم يستهزئ بالله.
وكلكم تعرفون حديث الذين كانوا في الغزوة وجلسوا تحت شجرة، فقال واحد منهم: [ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً -يعني: يأكلون كثير- وأجبن عند اللقاء]، وهو يعرف أنه كذاب، بل كانوا أعف الناس بطوناً وأشجع الناس، وهو يقصد بكلامه رسول الله وأصحابه، فسمعه أحد المؤمنين فقال: كذبت يا عدو الله! والله إنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فركب حصانه وجاء إلى الرسول يخبره فوجد الخبر قد سبق من السماء، أنزل الله قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، أثبت الله عز وجل كفر هذا الرجل بعد أن أثبت إيمانه، وجعل الاستهزاء بالرسول استهزاء بالله وآياته، قال عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] يعني: نتكلم، نضحك، نمزح {قُلْ أَبِاللَّهِ} [التوبة:65] الرجل ما استهزأ بالله أو بالرسول وأصحابه لكن اعتبر هذا الاستهزاء استهزاء بالله {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] كلمة كفرته وأخرجته من الدين والإيمان، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع القرآن، وجاء يتوب، يقول راوي الحديث: [كأني به وهو متعلق بنسعة ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والحجارة تركض رجليه، وهو متعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله! والله ما أعنيها، يا رسول الله! والله ما أصدق فيها، يا رسول الله! إنما كنا نتحدث حديث الركب، يا رسول الله أأدخل النار وأنت بين ظهرانينا، توبةً يا رسول الله! كلما قال كلمة قال: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]] ولذا أمسك لسانك، شُدَّ عليه لا تطلقه في أعراض المؤمنين.
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ} [المطففين:29 - 32] سبحان الله! كيف تنعكس الفطر وتنقلب الموازين إذا رأوا الطيبين قالوا: هؤلاء ضالون، وفي بلادنا الحمد لله ليس هذا موجود والحمد لله في هذه البلاد، المؤمن مقدر وموقر ويحترم ويثق الناس فيه، لكن عند غيرنا من بلاد المسلمين إذا رأوا المسلم المتدين يقولون: انظروا المجنون، يسمونه مجنون، أو إرهابي، أو متطرف، أو إنسان في عقله شيء {إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:32] قال الله عز وجل: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:33] أي: ما لهم منهم شغلة، ما هم بحافظين عليهم {فَالْيَوْمَ} [المطففين:34] يوم القيامة {الَّذِينَ آمَنُوا} [المطففين:34] وهم في درجات الجنات {مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:34] ضحكة بضحكة لكن ليست سوء، ضحكة في الدنيا بضحكة في الجنة والنار هناك {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:36] نعم.
هل جاءهم الجزاء والثواب؟ نعم.
كما ضحكوا ضُحِك عليهم، لا حول ولا قوة إلا بالله! {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} [طه:74] فصور الإجرام -أيها الإخوة- كثيرة، فلا تكن مجرماً فيما بينك وبين الله، ولا تكن مجرماً فيما بينك وبين نفسك، ولا تكن مجرماً فيما بينك وبين الناس، بل عليك أن تكون مؤمناً.(73/8)
صفة جهنم وما أعد الله فيها للمجرمين
{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ} [طه:74].
ثم جاء توضيح جهنم، ماذا فيها؟ قال عز وجل: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [طه:74] كيف لا يموت ولا يحيا؟ قالوا: لا يموت فيستريح ولا يعيش حياة كريمة وإنما يحيا حياة عذاب {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17] أكبر أمنية عند أهل النار الموت {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ} [الزخرف:77] يعني يميتنا {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] فيرد عليهم مالك بعد زمن، ورد في التفسير بعد قدر عمر الدنيا، بعد إذ خلقها الله حتى يفنيها مرتين، ولا يوجد جواب، وبعد ذلك يقول لهم: {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] يعني: مكانكم جيد، لماذا؟ قال: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:78 - 80] {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [طه:74].
بالله يا إخوة! كيف يحيا من طعامه النار؟ أنت الآن هل تستطيع تعيش عيشة معقولة في درجات الحر الشديد وما عندك مكيف؟ لا.
وما عندك مروحة؟ لا.
وما عندك ماء بارد؟ لا تستطيع بل تموت، طيب كيف من فراشه نار {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41] بعد ذلك الطعام زقوم {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6] ضريع: شجر من شجر جهنم، لا ينزل إلا الزقوم ثم ينشف في الحلق ويلصق مثل الغراء، فيكاد الشخص يموت ويريد أن يموت فلا يموت، ليته يموت! فيذكر أنه كان في الدنيا يجيز الغصة هذه بالماء، فيطلب ماء ويقول: أعطوني ماء، قال الله: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً} [محمد:15] الحميم: هو الذي بلغ درجة متناهية في الغليان {حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:44] يعني: حار جداً {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً} [محمد:15] ماذا يفعل هذا الماء؟ لا ينزل فقط، لا.
ينزل وينزل معه الأمعاء {فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] تخرج أمعاؤهم من أدبارهم، الماء الحار الذي أحرقها كواها، وبعد ذلك في شراب آخر في جهنم اسمه الغسلين، وهذا الغسلين الذي يخرج من فروج الزناة، هذا شراب أهل الخمر في الدنيا، يقول عليه الصلاة والسلام: (من شرب الخمرة في الدنيا ومات ولم يتب؛ سقاه الله من ردغة الخبال، قالوا: وما ردغة الخبال يا رسول الله؟! قال: عصارة أهل النار) العرق والدم والقيح والصديد الذي يسري من أهل النار يجمع في أواني من نار ويقدم لهم (ومن شرب الخمرة في الدنيا ومات ولم يتب؛ سقاه الله من نهر الغوطة قيل: ما نهر الغوطة يا رسول الله؟! قال: نهر يجري في جهنم من فروج المومسات) المومسات يعني: الزانيات يتحول فرجها إلى نهر يجري بالدم والقيح والصديد، ويقول عز وجل في قضية الشرب: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم:15 - 17] لا يستطيع أن يبلعه؟ وأنا ضربت لهذا مرة بمثال: لو جيء برجل وجيء له بكوب مملوء بالقيح والصديد وقيل له: اشرب وإلا ضربت بالسيف، طبعاً هو يريد الحياة وسيشرب، فإذا بلغ إلى هذا المكان، ثم ذاقه لا يستطيع فيرى السيف فيقول: من أجل السيف اشرب، فإذا شرب شربة واحدة ونزلها إلى بطنه ماذا يحصل له؟ تخرج أمعاؤه كلها وكبده ولهذا يقول: اضربني بالسيف؛ لأن السيف حاصل، الموت موت بالسيف ولا بخروج كبده، لا يتحمل، يقول الله {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [إبراهيم:17] يأتيه الموت من الطعام الذي يأكله، والشراب الذي يشربه، والفراش الذي يفرش له، وكل شيء.
وبعد ذلك وفوق هذا، هناك حيّات، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن في جهنم حيات كالجمال، وعقارب كالبغال) الحية مثل الجمل والعقرب مثل البغل، تلسع تارك الصلاة على ترك الصلاة، وبعد ذلك السلاسل والأغلال والأنكال والقيود، وبعد ذلك ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:36 - 37].
بعد ذلك يصيحون يطلبون الله؛ لأنهم لا يرون الله، ومن الذي يرى الله؟ يرونه أهل الجنة، أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم.
أما هؤلاء فما يرون إلا الملائكة الغلاظ الشداد، والزبانية ينقلونهم من غرفة إلى غرفة، ومن طبقة إلى طبقة {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:44] مرة في جهنم، ومرة في لظى، ومرة في سقر، ومرة في زمهرير، والعياذ بالله.
جهنم ولظى من بعدها حطمة ثم السعير وكل الهول في سقر
وبعد ذاك جحيم ثم هاوية تهوي بهم أبداً في حرٍ مستعر
جهنم سبع دركات: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر:44] كل واحد يأتي ويدخل منها، فالمتخصص في النظر الحرام يدخل على دركة الحرام؛ لأن بعض الناس شغلته منذ أن يخرج إلى أن يرجع وهو ينظر في أعراض الناس، والمتخصص في سماع الحرام أيضاً كذلك، والمتخصص في أكل الحرام كذلك، والمتخصص في الزنا كذلك: {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر:44] {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [طه:74] وقدم الموت؛ لأنه أمنية لأهل النار، الآن وهو في العذاب هذا يتمنى الموت، {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] لكن لا يوجد موت ولا حياة، فهو ليس بحي، كيف يحيا وهو يعيش هذه الحياة! العذاب من فوقه ومن تحته ويأتيه من كل مكان، هل يحق لك بعد هذا أن تأتي مجرماً؟! تضيّع صلاتك، وترتكب مساخط ربك، لا والله يا أخي! قد تقول: إن الصلاة متعبة، صحيح أن الصلاة متعبة لكن الأتعب منها هذا العذاب، قد تقول: إن التوبة متعبة، صحيح متعبة لكن الأشد تعباً منها هذا العذاب، أجل.
قارن بين تعب العبادات وترك المعاصي وبين عقوبات المعاصي، تجد أن لا نسبة ولا تناسب في أي حالٍ من الأحوال، يتمنى الشخص من أهل الأرض أن يرجع إلى الدنيا ليعبد الله {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27] {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] لكن لا توجد رجعة، لماذا لا نفعل الآن العمل الصالح؟! لماذا لا نتوب الآن قبل الغد؟ كما نستقيم على خطا الحياة ودرب الإيمان حتى نلقى الله.
هذا المجيء الأول.(73/9)
هيئة قدوم المرء المؤمن على الله
المجيء الثاني: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً} [طه:75] اللهم اجعلنا يا رب ممن يأتي مؤمناً، وأبشركم -أيها الإخوة- إن شاء الله بالإيمان؛ لأن للإيمان علامات ومن علامات أهل الإيمان حبهم لهذه المجالس، كونك تترك عملك وشغلتك وأولادك ومصالحك وتأتي من أجل مجالس الذكر، لا يقودك إليها إلا الله، ليس هناك أي دافع يدفعك، لأنه ليس عندنا نقود نقسمها، ولا عندنا عشاء نعشيكم في هذه المحاضرة، وإنما عندنا هذه الجلسة، وعندنا مائدة الله عز وجل، في آخر الجلسة ينادي منادٍ من السماء: أن قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات، ويباهي بكم الله في الملأ الأعلى، ويقول للملائكة وهم يصعدون إلى الله وهو أعلم: (كيف وجدتم عبادي؟ قالوا: وجدناهم يسبحونك ويهللونك ويقدسونك، فيقول: ماذا يسألونني؟ قالوا: يسألونك الجنة! قال: وهل رأوها؟ قالوا: لا.
قال: كيف لو رأوها؟ قالوا: لازدادوا حرصاً عليها وطلباً لها، فيقول الله: وبم يستعيذون؟ قالوا: يستعيذون بك من النار - اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار- فيقول الله: وهل رأوها؟ قالوا: لا.
فيقول الله عز وجل: فكيف لو رأوها؟ قالوا: لازدادوا منها هرباً وبُعداً، فيقول الله عز وجل: أشهدكم أني قد غفرت لهم) اللهم إنا نسألك من فضلك يا رب العالمين، والحديث في الصحيحين، يقول أحد الملائكة: (يا رب! إن فيهم فلان بن فلان ليس منهم، ليس من أهل الذكر ولكن أتى لحاجة فجلس -مر من عند المسجد ورأى الناس مجتمعين وقال: لنر ماذا هناك، ما هو من أهل الذكر حتى تغفر له يا رب- قال الله: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).(73/10)
حقائق الإيمان عند أهل السنة
يقول الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً} [طه:74 - 75] يقتضي الأمر أن نعرف الإيمان عند أهل السنة والجماعة الذي له ثلاث حقائق لابد منها، وإلا ليس بالإيمان: حقيقة في اللسان، وحقيقة في القلب، وحقيقة في الجوارح.
فالإيمان هو: قول باللسان (إعلان وإظهار)، واعتقاد بالجنان، (إقرار)، وتطبيق وعملٌ بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، هذا تعريف أهل السنة والجماعة؛ لأن هناك تعريفات أخرى لأهل البدعة، وأهل الهوى، وهناك تعريف مشابه لهذا التعريف لطائفة من أهل الهوى والضلال -والعياذ بالله- وهم المعتزلة، حتى لا يشتبه على طلبة العلم؟ المعتزلة يقولون: الإيمان هو: قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، لكن يختلفون عن أهل السنة في أنهم يجعلون العمل شرطاً في صحة الإيمان، أما أهل السنة والجماعة فيجعلون العمل شرطاً في كماله الواجب، هذا وجه الخلاف، الأشاعرة يقولون: التصديق، وغيرهم من أصحاب النحل الضالة.
أما أهل السنة والجماعة فتعريفهم للإيمان هو التعريف الذي يتفق مع الكتاب والسنة والذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، قولٌ باللسان: لابد تظهر لا إله إلا الله؛ لأنه أول واجب.
واعتقاد بالجنان: إذ قول باللسان بدون عقيدة ماذا يسمى؟ نفاق؛ لأن المنافقين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: لا إله إلا الله، قال الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] فكلام باللسان بدون عقيدة هذا يصير نفاقاً، وأيضاً كلام باللسان واعتقاد بالقلب دون أن يكون عملاً هذا أيضاً نفاق، ولهذا رب العالمين قيدها بما بعدها، قال: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} [طه:75] مؤمناً استقرت حقيقة الإيمان في قلبه، وهي حقيقة تبلغ في أعماق النفس البشرية، حقيقة الإيمان وتغطي ثلاثة أشياء: الإدراك، والمعارف، والوجدان.
إدراك يبلغ حد القطع واليقين.
معارف تبلغ درجة اليقين.
وجدان حي على الإيمان، يتوقد قلبه إيماناً، هذا هو الإيمان الصحيح، قول باللسان، اعتقاد بالجنان عمل وتطبيق بالجوارح والأركان.(73/11)
مقتضيات العمل الصالح
{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} [طه:75] ما هي الصالحات؟ الصالحات تنقسم إلى قسمين: إما فعل طاعة، أو ترك معصية.
إذا دعيت إلى معصية وتركتها فأنت عملت الصالحات بترك المعصية، إذا مررت على مؤشر الراديو وأنت في الليل تسمع أخباراً ومرت يدك على أغنية وتركتها هذا الترك للأغنية يسمى عملاً صالحاً، لكن إذا استقرت يدك على الأغنية وقعدت تسمعها وصرفتها من القرآن، هذا عمل سيئ فاسد منكر، وأنت ينبغي لك أن تعمل الصالحات؛ لأنك إذا عملت السيئات فالسيئات على نفسك: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
فحتى نعطي العمل الصالح الشمول الكامل؛ لابد أن نفهم أن العمل الصالح يقتضي ثلاثة أمور: فعل أوامر الله من الاعتقاد الجازم، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم الخالصة، والصلاة الخاشعة، والزكاة الكاملة، والصيام الزكي، والحج المبرور، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، وقراءة القرآن، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحب في الله، والبغض في الله، وتعليم الناس الخير هذه كلها أعمال صالحة، وغيرها كثير كما جاء في الصحيحين: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) وفي رواية: (الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) إذا جئت زوجتك، أو أبعدت الأذى عن الطريق عمل صالح، أو لقيت أخاك المسلم بابتسامة وتسلم عليه وتبتسم في وجهه، وأعنت ملهوفاً، أو أعطيت مسكيناً عمل صالح، المهم الأعمال الصالحة هي كل ما أمر الله به، هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: أن تترك كل ما نهى الله عنه، من أجل أن يصبح عملك صالحاً، فتحفظ سبع جوارح، تحفظ العين فلا تنظر بها إلى ما حرم الله، وتحفظ الأذن فلا تسمع بها ما حرم الله، وتحفظ اللسان فلا تنطق به أو تتكلم فيما حرم الله، وتحفظ اليد فلا تمدها أو تبطش بها فيما حرم الله، وتحفظ القدم فلا تخطو بها خطوة لا ترضي الله، وتحفظ البطن فلا تأكل به شيئاً مما حرمه الله، وتحفظ الفرج فلا تطأ به شيئاً حرمه الله، هذه سبعة أبواب اسمها أبواب المعاصي، لا يعصى الله إلا بواحدة منها، إذا أغلقت عينك وسمعك عن الحرام، وكففت لسانك ويدك ورجلك عن الحرام وحفظت فرجك وبطنك من الحرام، فمن أين تعصي الله؟ فليس معك شيء، غلقت الأبواب كلها، ما معك إلا الطاعات.
فهذه الجوارح تجرح في الدين {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية:21] سمى الله السيئات جرحاً؛ لأن الدين ستر والمعاصي عورة وكشف لهذا الستر، وجرح لهذا اللباس الذي ألبسك الله، يقول: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26] يأتي الشيطان يريد يعريك، ويكشف عورتك، ويجرح دينك، بعينك أو بأذنك أو بلسانك أو بأي جارحة من جوارحك، فإذا حفظت هذه الجوارح فأنت تعمل الصالحات.
الأمر الثالث من العمل الصالح: تصديق الأخبار، ما أخبر الله به في كتابه أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته فإننا نصدق به تصديقاً يبلغ حد الجزم واليقين والاعتقاد الذي لا يساوره أدنى شك؛ لأنه لا أحد أصدق من الله {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:12] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87] وليس أحد في البشر أصدق من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دام المخبر هو الله والناقل الخبر رسول الله، سلسلة ذهبية من الصدق، من ستصدق إذا لم تصدق ربك ورسولك صلى الله عليه وسلم، فيجب أن تصدق الأخبار التي جاءت من الله عز وجل ومن رسوله صلى الله عليه وسلم.(73/12)
صفة الجنة وما أعد الله فيها لعباده
{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه:75] الدرجات العلى هي المنازل العالية والأماكن الرفيعة في الجنات، أخبر الله عز وجل عنها بأن فيها (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) ويقول عز وجل: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] كل ما خطر في بالك فالجنة بخلاف ذلك، اذهب بالخيال كل مذهب، وتصور بتصوراتك كل شيء، ثم ستنتهي جميع خيالاتك وتصوراتك عند حدٍ لا يبلغ ما أعد الله لك في الجنة؛ لأن الله يقول: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ} [السجدة:17] كيف تتصور إذا كان كل شخص في الجنة عنده قصر، والقصر من درة مجوفة طولها ستون ميلاً في السماء -طول الدرة فقط- له فيها اثنتين وسبعين زوجة، يمكث عند الزوجة كل واحدة نصف نهار الذي يساوي خمسمائة سنة؛ لأن أيام الآخرة اليوم بألف سنة، خمسمائة سنة وأنت عند زوجة واحدة، بعد خمسمائة سنة يضيء في الجنة مثل البرق، برق يراه أهل الجنة ماذا هناك؟ قالوا: هذه حورية تبتسم في وجه زوجها، فإذا رفع رأسه شاهد حورية ثانية قالت: يا ولي الله! أما لنا فيك نصيب، تقول: أنت عندها خمسمائة سنة ما لنا دور، فينتقل من هذه ويذهب إلى الثانية، ويتنقل مثل الشمس في البروج، ماذا هذا النعيم؟ أربعة أنهار تحت بيتك وأنت في القصر، نهر من عسل مصفى، الآن ما وجدنا العسل نغمس فيه فقط، كيف في الجنة أنهار، ونهر من لبن لم يتغير طعمه، لا تنتهي صلاحيته بأسبوع، إذا تأتي تشتريه الآن تنظر متى أصدره، اليوم أو غداً أو بعده متى ينتهي، لكن في الجنة لم يتغير طعمه، دائماً صالح، ونهر ثالث من خمرٍ ليس مثل خمر الدنيا، لذة للشاربين، ونهر رابع من ماء غير آسنٍ؛ لأن آفة الماء إذا ركد أن يأسن ويفسد ويتغير لونه وطعمه وريحه، لكن ماء الجنة غير آسن.
ورد في الحديث عند قوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف:71] قال صلى الله عليه وسلم: (في الجنة يقف على رأس كل واحد عشرة آلاف خادم مع كل خادم صحفتان، صحفة من ذهب وصحفة من فضة، في كل صحفة لون من الطعام ليس في الأخرى مثله -يعني: عشرون ألف لون من الطعام في الليلة الواحدة- يأكل من أول صحفة ويأكل من آخر صحفة ويجد في آخر لقمة لذة كما في أول لقمة) أنت الآن لما تأخذ في الدنيا أول لقمة لذيذة؛ لأنك جائع وآخر لقمة ليس لها طعم، إذا غصبوك تقول: والله لا أستطيع، وما أذوقها، لا تريدها، لكن لماذا في الجنة؟ لأن الجنة دار نعيم، نعيم في نعيم.
أسأل الله أن يجعلنا جميعاً من أهلها وآباءنا وأمهاتنا وإخواننا المسلمين، وأن يوفقنا للإيمان والعمل الصالح الذي يؤهلنا لها.(73/13)
لا يدخل أحد الجنة بعمله
الجنة -يا إخواني- لا تنال بالعمل فقط، ولكن العمل ليس إلا سبب فقط، أما هي فتنال بالرحمة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! -لأنهم يعلمون أن عمل الرسول عمل عظيم- قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) ولهذا ورد في الأثر يقول الله: (ادخلوا الجنة برحمتي، واكتسبوها بأعمالكم) الدرجات داخل الجنة بالأعمال، وأما دخول الباب برحمة الله؛ لأن الله عز وجل لو آخذنا على أعمالنا وقال: عليها الجزاء، لضاعت أعمالنا قبل أن تضيع النعم علينا، عملك هذا كله لا يساوي نعمة البصر عندك، الآن تصور أن ليس عندك بصر عافاك الله، أغلق عينيك قليلاً، ما رأيك لو تجعل هذه التغميضة ثابتة لا تفتحها؟ كيف تتحول الحياة بالنسبة لنا؟ من يسوق السيارات الآن إلى البيوت؟ سنكون مثل القطط العمي كلنا، كل واحد يقول: يا ولد أمسكني، أين أذهب؟ أين بيتنا؟ كلنا عمي لا نشاهد شيئاً، فمن الذي أعطاك البصر؟ أمك ركبته في رأسك!! أنت اشتريته من البقالة أو الورشة؟! {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} [البلد:8] من الذي ركبها لك؟ (وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً} [الأحقاف:26] لماذا أعطاك الله العين؟! لكي تنظر بها إلى الفيديو، وتركب دشاً وطول الليل تقفز من قناة إلى قناة، لا.
بعضهم يأخذ (الريموت كنترول) ويتنقل في السماء المليئة بالشر، وتراه يبحث، يطاردها من قناة إلى قناة، كلما غلق مسلسل ينتقل إلى مسلسل، وكلما غلق شر انتقل إلى آخر حتى تيبس عيونه، شخص تركه وتاب إلى الله يقول: والله إني آتي أنام وعيوني لا تغمض، تتعب عيونه فهي يابسة، يقول: فأعود أغصبها إلى أن تنام يقول: فإذا نمت شفت الدش من داخل يقول: وأنا نائم وهناك دش من داخل، مناظر داخلية قد خزنها دش داخلي والعياذ بالله، أصبح دشاً مدشوشاً نعوذ بالله من هذه الحياة.
فالله يعطيك عيوناً -يا أخي- من أجل أن تقرأ بها كتابه، وتنظر بها مصالحك، فتخصصها للشر!! هذه نعمة -يا أخي- نعمة البصر لو سلبها الله عز وجل كيف تعيش؟ ولهذا يقول الله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} [يس:66] من يعرف الطريق الآن لو طمست أبصارنا الآن، عافانا الله جميعاً؟! نعمة السمع -يا أخي- هذه، وتصور أن ليس عندك أذن الآن، ما تسمع وتذهب البيت، كيف تعيش مع الناس؟! تقول لك امرأتك: أريد أشياء، فلا تسمع كلامها، السمع هذا نعمة من نعم الله، ولهذا الله قدمه، وهو وسيلة التعليم الأولى، وإذا لم يكن موجوداً فلن تعرف شيئاً: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً} [الأحقاف:26] يمكن للإنسان الأعمى أن يتعلم؛ لأنه يسمع، لكن واحد ليس عنده سمع ما يتعلم، وإذا تعلم معلومات بسيطة تكون عن طريق الإشارة.
من أعطاك اللسان؟ لا إله إلا الله تتكلم باللسان ترجمان عما في قلبك، لو ما عندك لسان تصبح مثل الكرتون جالس في البيت لا تتكلم ولا بكلمة واحدة، لكن تحدث الناس وتتكلم معهم، تعبر عما في قلبك بلسانك {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8 - 9] هاتان الشفتان من أعظم نعم الله على الإنسان، لو قطعت لما عرفت أن تتكلم كلمة واحدة، ولأصبح شكلك مفجعاً، لا إله إلا الله!! اليد الرجل الجوارح كلها هذه، فلو حاسبك ربي على أعمالك من يوم خلقت إلى الآن ووزنها مع نعمة البصر، تضيع صلاتك كلها، ويضيع صيامك، وجهادك ما قد غلقنا حتى البصر لماذا؟ لأنك عبدت الله ببصر من الله، وبجسد من الله، وبأرجل من الله، كل شيء من ربي ماذا عندك أنت؟ أصلاً ما عندك شيء، أجل: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يتغمدنا جميعاً برحمته، وأن يجعلنا من أهل جنته، وأن يعيذنا جميعاً من ناره.
هذه هيئة وقد قلت لكم: إني سأحدثكم عن هيئات للناس وهم يمشون إلى الله {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:95].
الهيئة الأولى: يأتون فرادى.
الهيئة الثانية: يأتون مؤمنين أو مجرمين.(73/14)
هيئة قدوم صاحب القلب السليم
الهيئة الثالثة: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89] هذه الآية تدل بالمعنى والمفهوم أن أناساً يأتون بقلوبٍ غير سليمة، إما قلب سليم أو قلب غير سليم، أصحاب القلب السليم يدخلون الجنة؛ لأن الجنة لا يدخلها إلا صاحب قلب سليم مائة في المائة.
آدم عليه السلام أكل في الجنة فبدت له سوءته وأخرجه الله من الجنة؛ لأنه غير سليم، وإبليس كان طاوس الملائكة، الله أمر الملائكة بالسجود فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس، أجل.
فليس سليماً بالمعصية، قال الله: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص:77 - 78] فلا يدخل الجنة إلا من جاء بقلب سليم، يقول الله عز وجل إن إبراهيم يقول: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} [الشعراء:87 - 91] فتزلف الجنة للمتقين أصحاب القلوب السليمة.(73/15)
كيفية سلامة القلب وعلاماته
كيف يكون قلبك سليماً؟ بثلاثة أشياء: سليم من الشبهات المتعلقة بالعقائد: لا يكون عندك شكوك.
سليم من الشهوات المحرمة: شهوة الجنس بالزنا، والسرقة في المال وأي شهوة محرمة.
سليم من الغفلة التي تصدك عن ذكر الله.
يقول ابن القيم رحمه الله: سليم من شبهة تورد شكاً في دين الله، أو شهوةٍ تورد تقديم الهوى على أمر الله، أو غفلة توجب نسيان العبد لأمر الله.
كثير من الناس الآن غافل عن الله، كل شيء له في برنامجه مسافة ومساحة وموعد إلا الله، تجده يحدد للدوام وقتاً، وللغداء وقتاً، وللتمشية بعد العصر وقتاً، وللتسوق بعد المغرب وقتاً، وللسهرة بعد العشاء وقتاً، وللنوم وقتاً، وفي الصباح فطور يعني: هذا برنامج أكثر الناس، لكن لا يحدد وقتاً للعلم، ولجلسة الأسرة، أو لمحاسبة النفس، أو للذهاب إلى الفقراء وتفقد المساكين والمحتاجين، أو للإنفاق، للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الدعوة إلى الله، مشغول.
أشغل نفسه بما لم يشغله الله به، بل بعضهم صلته بالحمام أكثر من صلته ببيت الله، يدخل الحمام في اليوم والليلة أربع خمس مرات، وإذا جاء يستأجر شقة أول ما يشير على الحمام لا يسأل عن المسجد، كم في الشقة حمامات؟ فإذا قالوا له: واحد، قال: لا يكفي، نريد ثلاثة أو أربعة، يريد حماماً له، وواحد للمرأة، وواحد للضيف، وواحد للأسرة، ما هذا؟! أعوذ بالله من هذه الحياة، وإذا تورط وسكن في شقة بجانب مسجد انزعج قال: لا.
دوروا لنا عن مكان بعيد لا نسمع به إزعاجاً، يزعجه الله أكبر، يريد أن تستحوذ عليه الشياطين، فتنسيه ذكر الله، كما قال الله: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19].
فيا أخي في الله! لا يكن قلبك سليماً إلا بهذه الثلاثة الأمور، أن يكون سليماً من شبهة وشهوة وغفلة.
فما علامة سلامة قلبك؟ قال العلماء: ثلاثة علامات: العلامة الأولى: الإقبال على الطاعة: مثل إقبال الإنسان المتعافي على الطعام.
العلامة الثانية: النفرة من المعاصي: صاحب القلب السليم لا يحدث معاصي.
العلامة الثالثة: حب مجالس الخير، وكراهية مجالس الشر.
هذا الذي قلبه سليم مائة في المائة، إذا وجدت في نفسك حباً للمعاصي وكراهية للطاعات ففي قلبك مرض، عالجه قبل أن يكون العلاج في النار؛ لأنه في الآخرة لمن يأتي وقلبه ميت أو مريض لا مستشفى إلا النار، يخلطون في جهنم من أجل أن يعالجوا، فالذي مرضه مستعصي مشرك بالله يخلد في النار ليس له خروج، والذي مرضه معاصي تحت مشيئة الله، إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له، هذه الهيئة الثالثة أن يأتي سليم القلب.(73/16)
هيئة قدوم أهل الغلول على الله عز وجل
الهيئة الرابعة: وهي مختصة بالذين غلوا شيئاً من بيت مال المسلمين، يقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161].(73/17)
ماهية الغلول
ما هو الغلول؟ الغلول هو: أن تأخذ شيئاً من الحق العام، حق المسلمين كاملاً، وهو المعبر عنه في كتب الفقه ببيت مال المسلمين، يعني: أنت موظف ومعتمد على عمل، ووظيفتك مأمور مستودع، أو مأمور إعاشة، أو كاتب، ويصرف لك أدوات مكتبية أو أدوات منزلية أو رياضية، أو أي شيء، فإنه يحرم عليك شرعاً أن تأخذ شيئاً من هذا، لا تأخذ قلماً ولا ورقة ولا ظرفاً ولا دبوساً ولا شيئاً، لماذا؟ لأنه غلول، قد تقول: هذا شيء بسيط، طيب شيء بسيط لكن الله يحاسب عليه.
في إحدى الغزوات غلام من الأنصار صغير جاءه سهمٌ لا يعرف من أرسله، فوقع في صدره فمات، فقال واحد من الصحابة: هنيئاً له الجنة؛ لأنهم في المعركة، فقال عليه الصلاة والسلام: (كلا والذي نفسي بيده! إن الشملة التي غلها لتشتعل على ظهره في النار) قال أهل العلم: كان ثمن الشملة هذه درهمين، وجاء رجل في المعركة فقال: يا رسول الله أخذت شراكين قال: (شراكين من نار) انتبه لا تأخذ شيئاً من بيت مال المسلمين، ومن يستغن يغنه الله.
وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: (لا ألفين أحدكم يوم القيامة وعلى رقبته بعيرٌ له رغاء) لماذا بعير؟ لأنه أخذه من بيت مال المسلمين، فيأتي به يوم القيامة؛ لأن الله يقول: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام:31] ما تأخذ من هنا إلا تأتي به يوم القيامة، كيف تأتي به؟ من أين لك وليس معك شيء إلا في النار؟ تنزل تأتي به من النار وتسقط في النار، فأنت إن لم تخلص من الآن فإنك ستموت وتتركها كلها (فيقول: أغثني يا رسول الله! فأقول: لا أملك من الله شيئاً قد أبلغتك، ولا ألفين أحدكم يوم القيامة وعلى رقبته بقرة لها خوار، فيقول: أغثني يا رسول الله! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، ولا ألفين أحدكم يوم القيامة وعلى رقبته شاة تجعر، فيقول: أغثني يا رسول الله! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، ولا ألفين أحدكم يوم القيامة وعلى رقبته رقاع تخفق) هذه تشمل كل ما يؤخذ من بيت مال المسلمين من الملبوسات والمفروشات والخيام والحنابل والشراشف والفنايل والبدلات والكبابيس والبريهات كل شيء مخصص لبيت مال المسلمين وأنت تأخذه تأتي به يوم القيامة.
آخر الحديث: (ولا ألفين أحدكم يأتيني يوم القيامة وعلى رقبته صامت) صامت: يدخل فيها كل شيء من الدبوس إلى السيارة، فهذا الغلول، يقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161].(73/18)
صور من الغلول المغلف
ويدخل في الغلول هدايا المسئولين؛ الهدايا التي تقدم لمن يلي مسئولية، مدير أو رئيس من أجل العمل، هذا يهدون له إما الموظفين عنده أو مراجعين له، ورد في الحديث: (هدايا العمال -يعني: المسئولين- غلول) لأنها هدية وهي في الحقيقة رشوة، لكنها تلبس ثوب الهدية، والدليل على حرمتها حديث عبد الله بن اللتبية الذي استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الزكاة فجاء بعد الزكاة ومعه شملة، وقال: (هذه أهديت لي، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً عظيماً حتى لكأنه يفقع في وجهه حب الرمان، ثم نادى بالصلاة ولم تكن وقت صلاة، وقال وهو يخطب في خطبته المشهورة: ما بال أقومٍ نستعملهم على الزكاة فيعودون ويقولون: هذا لبيت مال المسلمين وهذا أهدي لنا، أفلا قعدوا في بيوت أمهاتهم أكان يأتيهم شيء) قال العلماء: فلا يجوز قبول الهدية ممن يهدي لك من أجل الوظيفة إلا أن يكون بينك وبين هذا الرجل الذي يهدي لك صلة قبل الوظيفة وأنت وهو تتهادون قبلها، أما هدية فقط من أجل الوظيفة فهذه رشوة، وهي محرمة، وعلى المسلم أن يكون طاهراً نظيف البطن لا يدخل في بطنه ولا في بيته شيء، لماذا؟ لأن الدولة جزاها الله خيراً ما جعلت لأحد حاجة، كل مسئول يستلم رواتب ضخمة تكفيه إذا كان عفيفاً وشريفاً يريد الحلال.
هذه -أيها الإخوة- بعض المشاهد والصور التي يأتي بها الإنسان إلى الله يوم القيامة، بقي أشياء لكن ضاق الوقت عنها، وأسأل الله عز وجل أن يمد في العمر والأجل حتى نكملها في فرصة أخرى، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل التفرق من بعده تفرقاً معصوماً، وأن لا يبقى فينا ولا معنا ولا منا ولا إلينا شقياً ولا محروماً.
اللهم احفظ لنا ديننا وأمننا ونعمتنا واستقرارنا، اللهم من أرادنا في هذه الديار أو غيرها من ديار المسلمين بسوء أو شرٍ أو كيد أو مكرٍ فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، وأنزل عليه بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم وفق ولاة أمورنا وعلمائنا ودعاتنا ومشايخنا إلى خدمة هذا الدين، وانصرهم برحمتك يا أرحم الراحمين، ووفقنا لما تحبه وترضاه إنك ولي ذلك والقادر عليه.(73/19)
الأسئلة
.(73/20)
مذهب أهل السنة في أهل الكبائر
السؤال
ما مذهب أهل السنة والجماعة في صاحب الكبيرة، وهل هو مخلد في النار إذا لم يتب؟
الجواب
لا.
إذا لم يتب صاحب الكبيرة فمذهب أهل السنة والجماعة أنه تحت مشيئة الله في الدار الآخرة، إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له؛ لأن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] خلافاً لمذهب المعتزلة والخوارج، فـ الخوارج يقولون: إن صاحب الكبيرة كافر في الدنيا ومخلد في النار يوم القيامة، والمعتزلة يقولون: إن صاحب الكبيرة في النار في الآخرة لكنه في الدنيا ليس بكافر ولا مسلم وإنما في منزلة بين المنزلتين يعني: لا هو كافر ولا هو مسلم، وهذا ضلال وباطل.
والحق ما عليه أهل السنة والجماعة؛ لأن صاحب الكبيرة مسلم بإيمانه، فاسق بمعصيته، تحت مشيئة الله في الدار الآخرة إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، إذا لم يتب، أما إذا تاب فمن تاب تاب الله عليه.
صاحب الذنب لو كان مثل الجبل وتاب يبدل الله له السيئات حسنات {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70].(73/21)
الاستمرار في النصيحة لأهل الصغائر والكبائر
السؤال
لي بعض الجيران لا يصلون في المسجد خصوصاً الفجر والعصر ونصحناهم فلم يستجيبوا، وبعضهم يقول: أنا أصلي في البيت، وقد كررنا عليهم النصح فماذا نفعل معهم بعد ذلك، أأتركهم أم ماذا أعمل؟
الجواب
لا يا أخي الكريم! كرر النصح عليهم، وأيضاً هناك وسيلة مفيدة أن تربط معهم علاقة إذا أمكنك علاقة طيبة، بالزيارة أو بالعزيمة وإهداء الشريط والكتيب الإسلامي، إذا قبلوه الحمد لله وانتظر وادع الله لهم، إذا حددوا موقفاً وقالوا: لا.
لا تدخل علينا ولا نريد شريطك ولا نريد كتابك، ولا نصلي، هناك لا تبرأ ذمتك إلا بإبلاغ الهيئة بأن ترفع خبرهم إلى المسئولين وتبرأ ذمتك، والهيئة تتصرف معهم.(73/22)
مجاهدة النفس والشيطان في ترك المعاصي
السؤال
ليتك تعيد الكرة بعد الأخرى حتى تنير الطريق لنا ولغيرنا من الشباب، وأنا شاب أحب الخير والمحاضرات لكنني مبتلى ببعض المعاصي وأريد أن أتوب، وكلما أردت أن أترك بعض المعاصي غلبني الشيطان عليها؟
الجواب
أولاً جزاك الله خيراً بدعوتك لي في أن أعيد الكرة بعد الكرة، وإن شاء الله كلما أجد فرصة فسآتي بإذن الله.
وكونك شاب تحب الخير والمحاضرات هذا طيب، وأسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ومنك ويثبتنا وإياك على الإيمان.
أما حبك للمعاصي وعدم تركك لها فهذه صفة نقص فيك فعليك أن تجاهد نفسك؛ لأن من الشباب من يريد أن يترك المعاصي دون أن يبذل جهداً، لا يمكن، فالمعاصي محببة إلى النفس، وما لم يكن لديك رصيد قوي من الإيمان والجهاد وإلا لا تنفع، والله يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] تحتاج إلى إيمان قوي؛ لأن الشهوة غالبة، والنزوة مسيطرة، والنفوس ضعيفة، والشيطان والهوى غلاب، فإذا ما عندك إيمان قوي ينزعك بقوة وإلا سوف تهلك يا أخي! فما ينفعك حبك للمحاضرات وحبك للخير وأنت لا تعمل الصالحات؟ هذا حب صوري، الحب الحقيقي هو الذي ينتج منه التوبة من الذنوب والمعاصي، ولهذا جاء في الحديث: (اتق المحارم تكن أعبد الناس) ليس العابد الذي يصلي، الأعبد منه هو الذي يتقي المحارم، أما الاستمرار على المعاصي، وكلما رأيت معصية وقعت فيها، ولا يعني هذا أنك سوف تكون معصوماً، لا.
المعصية تقع والعبد خطاء، لكن المعصية في حياة المؤمن عارضة، وفي حياة العاصي والمنافق والفاسق لازمة، فإذا مرت عليك معصية عارضة تب إلى الله طيب، أما كل يوم وعلى رأسك المعاصي وتقول: أحب المحاضرات، ما الفائدة من حب المحاضرات ما دمت لا تعمل الصالحات؟ فاتق الله يا أخي! وجاهد نفسك، وأسأل الله أن يعينك وأن يتوب علي وعليك وعلى جميع المسلمين.(73/23)
أثر المعاصي في الإيمان
السؤال
هل النظر إلى المسلسلات الخبيثة خاصة في شاشة الدش والاستمرار عليها ينقص الإيمان؟
الجواب
نعم.
هذا معتقد أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، أنت لما دخلت المسجد وجلست هذه الساعة هل إيمانك الآن مثل إيمانك يوم دخلت في المغرب؟ لا.
زاد إيمانك لماذا؟ لأنه تليت عليك آيات الله {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2] لكن تذهب في مجلس آخر ويكون فيه غناء وطرب وأغاني وألحان وصور ومشاهد خبيثة وعري، كيف يكون إيمانك إذا خرجت؟ يذوب إيمانك ويضعف، أجل.
أنت معني بأن يزيد إيمانك دائماً ولا ينقص، يعني: زود الطاعات ولا تعمل المعاصي حتى لا ينقص إيمانك.(73/24)
حكم نداء الشخص الملتزم بلقب (مطوع)
السؤال
أنا شاب ملتزم والحمد لله، ولكن في المدرسة أصدقائي يستهزءون بي، ويقولون: مطوع؟
الجواب
يا مطوع! هل هذا سبة؟ الحمد لله أنك مطوع، ما قالوا: يا عاصي؛ لأنه لا يوجد إلا مطوع أو عاصي، الحمد لله أنت مطوع إذا قالوا: يا مطوع، قل: نعم.
حاضر، وبعض الإخوة يقول: كل الناس مطاوعة لكن هناك مطاوعة لله وهناك مطاوعة للشيطان، فإذا قال لك: يا مطوع! قل: وأنت يا مطوع! إذا قال: ما أنا مطوع قل: لا.
أنت مطوع لإبليس، أي نعم؛ لأن الله أمرني فأطعته، والشيطان أمرك فأطعته، فأنت مطوع وأنا مطوع، أنا مطوع لله وأنت مطوع للشيطان، أو الناس كلهم مطاوعة، أي نعم.
ولهذا يقول الله في القرآن الكريم: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:60 - 62].(73/25)
خطر السحر والسحرة وضرورة الرقى الشرعية
السؤال
أرجو التنبيه إلى خطر السحر والذهاب إلى السحرة، وكيف يفرق بين الراقي والساحر؟
الجواب
السحر كفر وليس بسهل، أنا أسمع أنه ينتشر عند كثيرٍ من الناس، السحر كفر تعاطيه أو تعلمه أو الإتيان إلى أصحابه، والله يقول في القرآن الكريم: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102] انتبه! لا تعمله ولا تذهب إلى صاحبه، بل لو وقع لك سحر فإن حل السحر بالسحر كفر في أرجح أقوال العلماء ولا يجوز، وكيف تحله؟ تحله بالرقية الشرعية من كتاب الله، وقد تقول: كيف الرقية؟ الرقية تقرأ القرآن، وقد يقول شخص: قرأت ولم يذهب، أجل عجيب! إما أن تقرأ ويذهب السحر أو تذهب تشرك، فتجعل ربي مجال اختبار لك، لا.
الله قادر أن يحل سحرك، الله يقول: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81] ولكن يبتليك الله ويختبرك هل أنت مؤمن؟ وقد يستمر معك أسبوعاً أو أسبوعين أو شهراً أو شهرين، وبعضهم سنين، ولكن اصبر على الرقية الشرعية.
أما كيف يفرق بين الساحر والراقي؛ فالراقي أولاً رجل معروف بسلامة المعتقد، يقرأ القرآن أمامك، ليس عنده طلاسم ولا همهمات ولا تعويذات ولا شيء، ولا يأخذ على عمله أجراً إلا من الله عز وجل، وإن أخذ شيئاً من غير سبب أو من غير طلب منك فلا بأس؛ لأنه يجوز، أما الساحر فمعروف بفسقه وبالطلاسم التي يكتبها والتعاويذ والشعوذات، ومعروف بالهمهمة، وبعد ذلك يتكلم بكلام لا تسمعه، ويكتب لك كتاباً يقول: لا تقرؤه، ولا تفتحه يقول: كيف؟ يقول: يبطل مفعوله؛ لأنك إذا قرأته لا ترى شيئاً، أنا فتحت كتاباً لواحد والله ما فيه حرف -يا إخواني- إلا شخاميط قلم من أوله إلى آخره، وقال: خذه وعلقه، يقول للناس: لا تفتحوه؛ لأنهم يعلمون أنك إذا فتحته لا تجد شيئاً، لا تلقى إلا كلاماً فارغاً، هذه كلها من السحر فلا يجوز، ولا يجوز للمرأة كذلك؛ لأننا نسمع أن بعض النساء تذهب إلى بعض الساحرات أو السحرة لتصرف قلب زوجها؛ خاصة إذا كان زوجها متزوج بأخرى، فتقول: والله أجعله لا يطالع فيها ولا يراها، فتذهب عند الساحر تعطيه مائة أو ألفاً تقول: أريده، فماذا يحصل لها؟ يعاقبها الله بنقيض قصدها فيكرهها ويحب الأخرى؛ لأن الله يقول: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس:23] فلما بغت على المؤمنة بالله عز وجل صرف قلبه عنها؛ لأن قلوب العباد بيد من؟ بيد الساحر أم بيد الله؟ بيد الله، أي نعم.
فلما أرادت أن تسحر وتصرف قلبه عن زوجته الحلال؛ الله عز وجل عاقبها بنقيض قصدها فجعلها مكروهة عنده، وجعل زوجها يحبها مائة في المائة، وهي ما عاد يريدها، فالسحر باطل ولا يجوز فعله.
وإذا أردت أن يحفظك الله من السحر فعليك بالاستعاذة والتحصن بأذكار الصباح والمساء، إذا أصبحت في الصباح تقرأ آية الكرسي وأذكار الصباح، وإذا أمسيت تقرأ آية الكرسي وأذكار المساء، هذه لا يستطيع أي شيطان ولا أي ساحر في الدنيا أن يضرك بأي شيء بإذن الله.
ونكتفي بهذا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(73/26)
أسباب المشكلات الزوجية وطرق علاجها
إن من سنن الله تعالى في خلقه الزواج، بل هو آية من آيات الله سبحانه وتعالى، لكن قد تحدث بعض المشكلات أثناء الزواج، والتي قد تؤدي في النهاية إلى الفراق بين الزوجين.
ولهذه المشاكل أسباب كثيرة، بمعرفتها ومعرفة علاجها تحل بإذن الله سبحانه وتعالى كلها.(74/1)
أسباب المشكلات الزوجية
كلام الشيخ حامد المصلح: الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، نحمده جل جلاله، وأثني عليه الخير كله بما هو أهله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وإمامنا محمداً عبد الله ورسوله، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
أهلاً بهذه الوجوه الطيبة المباركة، والوجوه المتوضئة الراكعة الساجدة التي أسأل الله جعل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن وفقهم الله وهداهم لما فيه صلاحهم وفلاحهم إنه على ذلك قدير.
ثم أحيي على وجه الخصوص فضيلة الشيخين الكريمين: فضيلة الدكتور جابر بن علي الطيب أثابه الله.
وفضيلة الشيخ سعيد بن مسفر حفظه الله، الذي لا يخفى على الجميع.
وأسأل الله جل وعلا أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه.
ونحن أيها الأحبة! نتحدث حول هذا الأمر، العظيم الذي ربما لا يكاد يوجد بيت لا يخلو من هذا الأمر، ألا وهو أسباب المشكلات الزوجية، ثم يكون العلاج إن شاء الله في الأخير، وأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن وفقهم الله وهداهم.
أيها الأحبة! فليتحدث أولاً: فضيلة الدكتور جابر حفظه الله عن أسباب هذه المشكلات التي تحدث وتقع.
وهذه المشكلات في الحقيقة إذ أنها كثيرة، فمن أبرزها وأهمها: المخالفات الشرعية، ثم الغيرة التي تحصل من الطرفين، أو من أحدهما، ومن هذه الأمور الكثيرة التي تكون أسباباً وهي في الحقيقة كثيرة، العيوب الزوجية من الزوجين أو من أحدهما، وكذلك الزواج من الأقارب، وغلاء المهور، ففضيلة الدكتور جابر حفظه الله نود أن يحدثنا حول هذه الأمور وجزاه الله خيراً.
كلمة الشيخ جابر الطيب: الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده سبحانه وأشكره، وأستغفره وأتوب إليه، وأسأله التوفيق والهداية، والسداد والرشاد في الدنيا والآخرة، ثم أصلي وأسلم على نبينا محمد بن عبد الله، نبي الرحمة والهدى والصلاح، صاحب الحوض المورود، والمقام المحمود، والشفاعة العظمى، فصلوات الله وسلامه عليه على آله وأصحابه أجمعين.
وبعد: فقد سمعتم ما ذكره الشيخ جزاه الله عنا وعن الجميع خير الجزاء في الدنيا والآخرة، وذكر أن هناك مشاكل قد تحصل بين الزوجين، وقد تكون هذه المشاكل ظاهرة، وقد تكون باطنة لا يطلع عليها إلا الله سبحانه وتعالى، وأحب أن أقدم بكلمة عن الزواج، وأن الله سبحانه وتعالى قد شرعه لبني الإنسان، لكي يحفظوا أنفسهم، ولكي يعمروا هذه الدنيا، كما اختارهم الله سبحانه وتعالى لعمارتها، وللقيمومة فيها، فالشباب في حاجة ماسة إلى الزواج.
ولكن هناك من الموانع ما يحول بين الشاب وما يشتهي: منها: أنه إذا بلغ الشاب الحلم وأصبح رجلاً يصح أن يكن زوجاً يقول في نفسه أو يقول له أهله: ما زلت في عنفوان الشباب وفي ريعان الصبا، فاصبر حتى تكمل رجولتك ونزوجك إن شاء الله، وهذا عندي أنه خطأ فيما أعتقد، وأن هذا من الأخطاء الشائعة بين الناس، فزواج الصغير يحفظه من المعاصي إذا كان عند أهله من المال ما يجعلهم يزوجوه، أما إذا كانوا فقراء فهم معذورون، ولكن إذا كان الله سبحانه قد وسع عليهم، فخيراً لهم أن يبادروا إلى تزويجه ممن يرضون دينها وأهلها وأمانتها وتقواها، وبعضهم يسوِّف ويقول: سوف أتزوج إن شاء الله إذا انتهت دراستي وأمنت مستقبلي، حتى أعيش أنا وزوجتي في أمن واستقرار وحياة سعيدة مملوءة بالخيرات والأرزاق.
وإذا توظف هذا الخريج بعد أن يبلغ من العمر خمساً وعشرين عاماً ونحو ذلك، فإن وظيفته قد تكون بسيطة، وقد يكون مرتبه الذي يتلقاه من ولي الأمر لا يقوم بشئون حياته كاملة، فقد يعول أبويه أو أيتاماً خلفهم أبوه -مثلاً- أو نحو ذلك، فإذا قدرنا راتبه خمسة آلاف ريال أو أربعة آلاف ريال، فقد يكون إيجار الشقة في الشهر ألف ريال -مثلاً- ولا بد أن يأخذ أشياء بالتقسيط، هذه السيارة يدفع عنها كل شهر ألفين أو نحو ذلك، ويبقى له ألفان أو نحو ذلك، فإذا بقي الألفان هل يدخل بها بيته أم ماذا؟ فإذا قلنا: إنه سيوفر في كل شهر خمسمائة ريال، والمهر لا يقل عن مائة ألف ريال، إلا أن يشاء الله، وهو لا بد له من قصر أفراح ومما يفعله الناس في زماننا هذا من المباهات والمبالغة في الذهب وغير ذلك، فإذا قدرنا أن تكلفة زواجه مائة وخمسين ألف ريال، فينبغي عليه أن يمون ذلك ثلاثمائة شهر، وهو عمر طويل، معناه يوفر مائة وخمسين ألف ريال في ثلاثمائة شهر، كل شهر خمسمائة ريال، وإذا قلنا: ألف ريال ويفرفها في أقل من ذلك بقليل، فإذا كان ألف ريال، وهكذا، مائة وخمسين شهر، فهذا قد يصعب عليه، ولا يبلغ حد الزوج إلا وقد عُمِّر طويلاً؟ ولهذا فإن غلاء المهور من الأسباب الشائكة التي تحول بين المرء وبين الزواج.
العنصر الثاني: قد يكون الشاب لا يبالي بالزوجة، يقول: إذا تزوجت كتَّفت نفسي، وحبست حريتي وأصبحت مسئولاً مسئولية كاملة عن الزوجة وأولادها وأنا حر طليق، أنطلق في أرض الله الواسعة فلا أشغل نفسي، فإذا تزوجت وأنا في هذا السن فسوف أصبح أسيراً للمرأة، تحبس حريتي، وتمنعني من الإنطلاق في هذه الحياة، إذا تأخرت في الليل قالت: أين كنت؟ ومن أين أتيت؟ وإذا ما أعجبها شيء تقول: ما هذا الذي أتيت به؟ وهكذا، فأصبح مغلول اليدين والرجلين، فلهذا لا أتزوج.
العنصر الثالث: يكون زواجاً مطلقاً قد يكون وسع الله سبحانه وتعالى عليه وأغناه، وأكثر ماله، لهذا يتزوج في السنة مرة أو مرتين، كما علمنا أن أناساً من هذا النوع وسع الله عليهم بالمال، فأصبح ديدنهم وهمهم أن يتزوجوا باستمرار؛ لكي يتمتعوا بالنساء، ثم يطلقوهن بعد حين، بعد سنة، أو أقل من سنة، وهذا لا يجوز، ولا ينبغي له أن يفعله أبداً إذا كان في قلبه إيمان، إمساك أو تسريح بإحسان، إما أن يمسك الزوجة الصالحة، وإما أن لا يأتي إليهم، فكثير من الأغنياء من الذين وسع الله عليهم، يتزوج من هنا ومن هناك ومن كل مكان؛ ليمتع نفسه بهذه الحياة، وهذا لا ينبغي.
وبعضهم يكون ممن أضله الشيطان من الشباب، فهو كلما جمع شيئاً من النقود، سافر بها إلى القارات، مرة هنا ومرة هناك، يتتبع الحرام، ينام في أحضان المومسات -والعياذ بالله- ويبحث عن الزنا أينما كان، يعجبه ذلك ويطربه، ولهذا لا يقر له قرار ولا يقوم مقام في وطنه، وإنما جل همه أن يذهب إلى القارة الفلانية، فيها من النساء كذا وكذا، وفيها من المومسات كذا وكذا، ويعلم أن ذلك يغضب الله أولاً قبل كل شيء، ثانياً: عنده من الأمراض الخبيثة كالإيدز -والعياذ بالله- وكقمل العانة، وكالسيلان، ونحو ذلك -والعياذ بالله- يظلم نفسه بالإثم العظيم، الذي حرمه الله سبحانه وتعالى ورسوله، حرمه الله في القرآن عندما ذكر صفات المؤمنين، قال في آخر سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68 - 70] فمن تاب ورجع إلى الله فهو على خير، هذه هي بعض الأشياء يفعلها الشباب ويبتعدون عنها ويأبون أن يتزوجوا من هذا النوع.
أما العيوب فهي كثيرة، إما أن تكون في المرأة وإما أن تكون في الرجل.
أما عيوب المرأة: فهي العفق والقرن والرتق، فهذا يكون في المرأة، أما العفق: فهو لحم يكون في الفرج يمنع من التمتع بها من زوجها، وهذا في حق المرأة -ولا حياء في الدين إذا قلت هذا الكلام وهذا شيء لا بد أن نوضحه- فالعفق: هو لحم يأتي في فرج المرأة فيمنع سلوك الذكر في الفرج، وهذا عيب من العيوب، وللزوج أن يفسخ النكاح، إذا لم يكن يعلم به قبل عقد النكاح، أما إذا علم بعد عقد النكاح وقد اختلى بها، فإن لها بعض المهر، وأما إذا علم به قبل الزواج وأقدم عليها بطوعه واختياره فقد لا يكون هذا في حقه عيباً.
أما القرن: فقد يظهر في فرج المرأة، مثل قرن الشاة يسمى القرن.
أما الرتق: فقد تكون المرأة رتقاء، أي: أن فرجها لا مسلك فيه للذكر، أي: كالمخيط، أو نحو ذلك، هذا في عيوب المرأة.
ومن العيوب التي تكون عند الرجل والمرأة الجذام، والبرص والغائط أثناء الجماع، أو نحو ذلك، وهذه العيوب يشترك فيها الرجل والمرأة أما عيوب الرجل فهي: العنة، أن يكون عنيناً أي: لا ينتشر ذكره والعنة يستحق بها فسخ النكاح، إذا كان هناك قاضٍ يحكم عليهم ويمهلهم سنة كاملة من تاريخ المحاكمة، إذا تحاكمت المرأة إلى القاضي هي وزوجها، وقالت: يا شيخ: إن هذا لا يفعل شيئاً مما يفعله الرجال، فإذا اعترف الرجل أمهله سنة كاملة من تاريخ المحاكمة، يمر على الفصول الأربعة: الشتاء والصيف والخريف والربيع، حتى إذا ما وفق في هذا الفصل، فالفصل الذي يأتي يكون أحسن من الأول.
حتى إذا انتهت السنة ولم يفعل شيئاً، يفسخ النكاح بدون مقابل، وليس له شيء من حقه الذي دفعه لها.
ثانياً: أن يكون مجبوباً، إنسان اُعتدي عليه وجب ذكره، أو خصاه، هذا أيضاً عيبه شرعي، والثالث: العاق، كان طيباً معافىً سليماً لا عيب فيه، وفي أثناء الزواج جاءه العيب حتى أصبح ذكره لا ينتشر فهذا يسمى العاق، وهو مرض عرض له، كذلك هو بالخيار، إن جلست معه فلها ذلك، وإن طلبت الفسخ يفسخ نكاحها بدون أي شيء، هذه هي عيوب الرجل وعيوب المرأة.
كذلك الجذام إذا رأيت امرأة فيها جذام -عافانا الله وإياكم- أو في الرجل فإن كلاً منهما له أن يفسخ نكاح الآخر خوفاً من العدوى لا سمح الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر).
لكن الرسول لما جاءه وفد ثقيف وكان معهم أجذم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ارجع إلى وطنك فقد بايعناك) معناه: لا يرغب في مقابلته عليه الصلاة والسلام، وفي الأثر: (فر من المجذوم فرارك من الأسد).(74/2)
الحياة الطيبة السعيدة بين الزوجين
كلام الشيخ حامد المصلح: شكر الله لكم وأثابكم ووفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
نعم في الحقيقة أن أسباب المشكلات كثيرة بلا شك، فلكثرتها أخذ الشيخ حفظه الله بعضها، وكذلك منها المخالفات الشرعية التي تكون سبباً أيضاً لهذه المشكلات، فمنها: أن تخرج المرأة من بيت زوجها من غير إذنه، كما لا يخفى بأن هذا الأمر محظور ولا يحل لها ذلك، فحينئذ يكون الخلاف بين الزوجين، ولا شك أن الذي ينبغي بل يجب على الجميع أن يمتثلوا أمر الله تبارك وتعالى في كل شيء، فلو حكموا كتاب الله جل وعلا، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لذهبت تلك الأمور.
والآن ننتقل إلى فضيلة الشيخ سعيد حفظه الله، ويحدثنا أثابه الله عن الحياة الطيبة السعيدة بين الزوجين، وأهمية قيامها على التفاهم والمودة والرحمة، فليتفضل مشكوراً مثاباً جزاه الله خيراً.
كلام الشيخ سعيد بن مسفر: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الأحبة في الله! الزواج سنة من سنن الأنبياء والمرسلين، جعله الله عز وجل آية من آياته الدالة عليه، يقول عز وجل في سياق عرض الآيات والدلالات التي تدل على الله عز وجل في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].
وجعله النبي صلى الله عليه وسلم سنة، وعمل بها، وحث عليها، ونادى وأمر بها، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج -الباءة: النفقة- فإنه أغض للبصر) أغض هنا من أفعل التفضيل، أي: أفضل ما تغض به طرفك هو الزواج (وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) وفي الصحيحين أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أصحابه حينما ذهب بعضهم إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وسألوا عن عبادته، فكأنهم تقالوها، لما أُخبروا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
فكأنهم رأوا أن يزيدون، ليس كما يفعل بعض الناس الآن، يضيع الدين وإذا قلت: هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، تريد أن أكون مثل الرسول صلى الله عليه وسلم، أولئك لهم نظر أبعد، يقولون: نحن نزيد على ما كان يتعبد له النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ونحن لم يغفر لنا، أجل سوف نزيد، وهذه الزيادة خطأ؛ لأن أكمل الهدي هديه، وخير الدين دينه، وهو أعبد الناس وأعرف الناس بربه، فقال واحد منهم: أما أنا فلا أفطر أبداً -أي: يصوم الدهر- والآخر قال: وأنا لا أنام أبداً -أي: يقوم الليل- والثالث قال: وأنا لا أتزوج النساء أبداً -أتبتل وأنقطع في العبادة ولا أنشغل عن ربي بشيء من الدنيا وشهواتها، ومن أعظم مشاغلها النساء- فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المقالة نادى أصحابه وقال: (ما بال أقوام يقولون ويقولون، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له وأعلمكم به، ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد.(74/3)
تنظيم العلاقة الزوجية
إن الله عز وجل شرع الزواج لتنظيم العلاقة الزوجية، حتى يستمر النسل البشري؛ لأن الله أراد أن يعمر الكون بالإنسان {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] وهذا الإنسان مهمته العبادة، ولا يمكن أن يكون الإنسان إلا عن طريق التوالد، والتوالد يأتي عن طريق لقاء الرجل بالمرأة، وهذا اللقاء إن لم يكن لقاءً منظماً بالزواج أصبح لقاءً فوضوياً همجياً -مثل بعض الحيوانات والبهائم- فشرع الله الزواج، وركب في الرجل ميلاً إلى المرأة وركب في المرأة ميلاً إلى الرجل، قال عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} [آل عمران:14] إلى آخر الآيات، ثم جعل هذا العمل رغم أنه شهوة جعله عبادة، يقول عليه الصلاة والسلام: (وفي بضع أحدكم صدقة) فاستغرب الصحابة، وكانوا يظنون كما نظن أن العبادة والحسنات إنما تأتي عن طريق العمل الصالح، مثل: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، والدعوة، والأمر بالمعروف، وسائر الطاعات، أما أن يأتي الرجل زوجته ويكون له أجر! وهو شي من المباحات والعادات! قالوا: (يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه؟ قالوا: نعم.
قال: فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر).
فإتيان الرجل لزوجته رغم أنه يمارس معها عملاً شهوانياً بحتاً، إلا أنه إذا أحسن النية أصبح عبادة، كأنه يصلي ويصوم ويتصدق.(74/4)
التوافق بين الزوجين
في أثناء الحياة الزوجية لا يمكن أن يحصل تطابق وتوافق (100%) بين الزوجين، مستحيل أن تجد رجلاً وامرأة متوافقين (100%)، لا بد أن يكون هناك فروق فردية بين الرجل وبين المرأة؛ لأن الله جعل الناس هكذا، ولذلك خلقهم مختلفين، وهذه آية من آيات الله الدالة عليه، أنه خلق الناس مختلفين، ولو أتيت الآن على وجه الأرض فإن نحو خمسة آلاف مليون نسمة، لو جعلتهم كلهم في حوش واحد وأخرجتهم واحداً واحداً ما وجدت اثنين سواء أبداً في الشكل، لا يوجد واحد يشبه الثاني (100%)، لا يوجد واحد يطابق الثاني في البنان، الآن البصمة التي تؤخذ من الناس من أجل إذا كرر جناية يعرفون هل له سابقة عن طريق هذه البصمة؛ لأنه لا يوجد اثنان في الدنيا تتفق بصماتهم، والله يقول: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:4] فهذا إعجاز منه تبارك وتعالى، وقدرة عظيمة أن خلق الناس كلهم مختلفين، والرجل يختلف عن المرأة، فإذا جاء الزوجان يعيشان تحت ظل واحد، وتحت سقف واحد وفي بيت واحد وفي مجتمع واحد صغير في لبنة واحدة وفي أسرة واحدة لحصل هناك نوع من الفروق، من أول الأسبوع أو من أول ليلة يجد أنها إنسانة غريبة، قد ينكر عليها حتى طريقة النوم، أو ينكر عليها طريقة الأكل، أو ينكر عليها طريقة الحديث، أو ينكر عليها طريقة المفاهمة والمخاطبة، فيحصل نوع من عدم الانسجام، وتحصل ردود أفعال.
فينبغي أولاً: أن يوطن الإنسان نفسه على استيعاب تلك الفروقات، وعلى احتواء تلك الفوارق بين الرجل وبين المرأة؛ حتى يحصل اندماج وانسجام، قد لا يكون في الشهر الأول ولا في الشهر الثاني، ولا في الشهر الثالث قد يكون بعد سنة، وأحياناً يكون الانسجام من أول ليلة؛ لأنه يكون الفرق بسيطاً، ولذلك ترون المرأة تسكن في بيت زوجها من أول ليلة، بل في الأسبوع الأول إذا سكنت في البيت عند زوجها وقُدمت لهم دعوة بعد أسبوع أو أسبوعين من الزواج لزيارة الوالدين، دخلت في بيت أبيها الذي عاشت فيه عشرين سنة أو خمسة وعشرين سنة وكأنها لم تعش فيه ليلة واحدة، غريبة وإذا جلست جلست وهي متحفزة هكذا لا تستريح، لماذا؟ مستعجلة تريد أن تمشي، وإذا طلب منها أو قيل لها: افعلي لنا شاي دخلت المطبخ وكأنها ما عرفته، تنادي أمها وتقول: أين أدوات المطبخ حقكم؟ عجيب حقنا! وأين أنتِ مدة حياتكِ، نسيت كل هذه الأدوات بجلسة يوم أو أسبوع في بيت زوجك، نعم.
وبعدما تنتهي تراها تطالع في زوجها وفي الساعة، وتقول له: هيّا لنذهب، لكن بعض الأمهات عندها نقص في التفكير تقول: للبنت اجلسي هذه الليلة معنا، وتطلب من زوجها أن يدعها تنام معها، البنت لا تريد، والله لو تفرش لها ذهباً لا تريد ذلك، فتقول لها: نامي معنا.
تقول البنت: إن شاء الله آتي لكم مرة ثانية، لأنه لا يأتيني نوم إلا في بيتي، لماذا؟ لإنه حصل وفاق وسكن، وهذا معنى قول الله عز وجل: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم:21] لا تسكن المرأة مع الأم، ولا تسكن نفسياً مع الأب، ولا تسكن المرأة مع الوظيفة، ولا تسكن مع الرصيد، ولا تسكن مع الشهادة، ولا تسكن مع شيء، لا تسكن إلا مع الزوج، نصف يبحث عن نصف، فإذا وجد النصف الثاني سكن.(74/5)
وجود المحبة والرحمة بين الزوجين
ثم جعل الله بعد ذلك مودة ورحمة، فالمودة: هي الحب، وهو أكسير الحياة وطعمها ولذتها، والحياة الزوجية إذا خلت من هذا تصبح حياة جافة، حياة فيها نوع من الجفاف، وتصبح شكلية، ورسميات بين الزوج والزوجة، ليس فيه محبة، وبالتالي تكون العشرة غير حسنة.
لكن إذا وجدت المحبة فإن هذا يزيد في الألفة ويزيد في القربة، وإذا عدمت المحبة فلم تعدم الرحمة، ولهذا لما جاء رجل إلى عمر بن الخطاب يريد أن يطلق زوجته، فجاء يستشيره، فقال له عمر: [لا تطلقها، قال: لست أحبها، قال: أوكل الزواج يبنى على الحب؟ أين الرحمة] إذا ما أحببتها ارحمها، إلا إذا شعرت بعدم رغبتك فيها وحبك لها، وطلبت هي منك أن تطلقها فهذا أمر آخر؛ لأن بعض النساء تدرك أنها غير محبوبة عند زوجها، وترى أن هذا نقصاً فيها فلا تريد أن تعيش مع رجل لا يحبها.
{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130] فالتطابق مستحيل، ولذا يجب أن تعرف أنه لا بد أن يكون هناك فروق، وبالتالي لا بد من وجود المشاكل الزوجية، ولا يمكن أن يخلو منها بيت، ليس هناك بيت في الدنيا مثالي (100%) لا يحصل فيه خلاف، حتى أكرم البيوت، بل وأفضل بيت على وجه الأرض حتى بيت المربي الأعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يحدث فيه بعض الخلافات، حتى ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم حصل بينه وبين زوجته وحبه -أحب الناس إليه-: عائشة رضي الله عنها خلاف، فدعا والدها -أي: دعا أبا بكر من أجل أن يصلح الخلاف، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكلم، قامت وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: [أقسم عليك بالله لا تتكلم إلا بالحق] تقول للرسول صلى الله عليه وسلم، فتدخل أبو بكر في البداية وضربها على وجهها قال: [قاتلك الله يا عدوة نفسها، وهل يقول رسول الله إلا الحق] تحلفين عليه لا يقول إلا الحق، وهل يمكن أن يقول باطلاً -صلوات الله وسلامه عليه- فشردت بعدما ضربها ولاذت بظهر النبي صلى الله عليه وسلم، فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ما لهذا دعوناك) يقول: دعوناك لتصلح ما دعوناك لتضربها يا أبا بكر، اللهم صل وسلم على رسول الله.
فالخلاف يقع بين الزوجين، ولكنه خلاف وقتي تمسح آثاره، وتنتهي معالمه، وتستمر العشرة الزوجية، ولا يطور ولا يصعد؛ لأنه يحصل الخلاف فيستُوعب إما من الزوج أو من الزوجة.
المشكلة تبدأ مثل عود الكبريت، فماذا يحصل إذا أشعل عود الكبريت في البيت، وماذا يحصل في الأسرة؟ كلهم يسارعون إلى إطفائه، لكن إذا أشعل كبريت وقاموا كلهم ينفخون عليه ماذا يصير؟ حريق، كذلك المشكلة.
المشكلة عود كبريت يجب على الزوج أن يطفيه، والمرأة تطفيه، والأب يطفيه، والأم تطفيه، والأسرة كلها تطفيه فتخمد، لكن تشعل عود الكبريت فيشعله الرجل أو المرأة، فيأتي الرجل لينفخ فيذكي، وتأتي المرأة لتنفخ فتذكي، وتنتقل الخلافات إلى الأسرة، فيأتي أبو الزوجة، وانظروا إلى أبي بكر جاء يطفئ المشكلة، ما جاء يصعدها، فتستوعب المشاكل عن طريق التعاون بين الأسرة، وبين الأفراد حتى لا تتفاقم وتتصاعد وتتضاعف هذا شيء.
والشيء الآخر بالنسبة للمشكلة أو الخلاف الزوجي، أنها تعطي الحياة الزوجية نوعاً من التجديد والطعم؛ لأنها كما يسميها المربون، فيقولون: إن الخلاف الزوجي ملح الحياة الزوجية، إذا خلت الحياة الزوجية من الخلافات البسيطة سمجت، ولذا ترى أنت عندما تجلس أسبوعين أو ثلاثة أو أربعة، وأنت صافي لبن، ما شاء الله! لا توجد مشكلة تحس بنوع من الملل، لكن عندما تحصل مشكلة، وتغضب أنت وتغضب هي وتجلس يومين أو ثلاثة وبعد ذلك تتقابلون كأنكم جدد، تجددت الحياة، فهي مثل الملح، لكن الملح في الحياة يجب أن يكون بمقدار، أنت حين تطبخ أرزاً تضع عليه ملحاً، لكن المصيبة أن بعض الناس يكثر من الملح، يريد أن يحصل مشكلة بسيطة، بدلاً من أن يمكث لها غضبان ساعة يمكث غضبان شهراً، وبدلاً ما أن يتكلم كلمة لعلاج المشكلة يتكلم بالعصا فيضرب، وبدلاً من أن يعالج بأسلوب بسيط، يعالج بأسلوب أصعب، فلا يصلح للحياة ملح الآن؛ لأنها أصبحت مشكلة.
لذا -أيها الإخوة- من الأهمية بمكان حتى يسعد الإنسان في الدنيا ويسعد في الآخرة لا بد له أن يستوعب هذه المشاكل والخلافات، وأن يوسع لها صدره، وأن يتحملها ثم يبحث عن العلاج الذي سوف يذكره الشيخ، ونضع ميزاناً واحداً وهو أن تنظر بمنظار التوازن والعدل، لا تنظر إلى عيوب المرأة، انظر إلى حسناتها، يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في صحيح البخاري: (لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر) أي: لا يبغض مؤمن مؤمنة، فالمرأة دائماً ليست كلها عيوب، وليست كلها حسنات، وإنما فيها حسنات وفيها عيوب، فإذا أردت أن تنظر فانظر بمنظار كامل، انظر فيها أنها صوامة، وقوامة، وحافظة لعرضك، وأنها دينة، ومصلية، وأنها لا تخرج إلا بأمرك، وأنها تغسل ثيابك، وأنها تطبخ طعامك، وأنها تربي ولدك، أي أنها خادمة لك في البيت.
فإذا نظرت إلى هذه الحسنات منها، ونظرت إلى الجانب الثاني إلى أنها قد تعصيك، أو قد تخالف أمرك، فتوازن بين ما تكره منها وبين ما تحب، ستجد أن ما تحب أكثر فتنسى ذلك، لكن بعضهم يوسع عينه كاملة على ما يكره من المرأة، ويغمض طرفه كاملاً عن حسناتها، ولا يعرف لها حسنة، فلا يرى منها إلا السوء، وبالتالي يعاملها على هذه الرؤية، وعلى هذا الأساس فتزداد المشاكل وتسوء العشرة، وتتفاقم الخلافات، وتحصل الكوارث وربما تنتهي إلى الخلاف والفراق والطلاق -والعياذ بالله- وهذا كله من سوء التدبير، وعدم اتباع النصائح والإرشادات النبوية الكريمة التي جاءت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(74/6)
علاج المشاكل الزوجية
كلام الشيخ حامد المصلح: لا شك أن الحياة الطيبة لا بد أن تقوم على التفاهم بين الزوجين، وعلى الوجه الذي يحبه الله، وشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا حصل سوء التفاهم بين الزوجين، هناك تقوم المشكلات والمعضلات.
وأذكر قصة حصلت بين زوجين، جاء الزوج يشتكي إلينا في التوعية، يقول: إن زوجتي حصل بيني وبينها سوء تفاهم، ثم إنها رفضت الانصياع إلي، وبقيت ستة أشهر، فأعطاني شخص من الناس حلاً وقال: طلقها واجعل الرجعة بيدها، يقول: ثم انتهت المدة وهي لم تراجعني، فقال: قد خرجت من يدك، المهم ولا زال وراءها، سبحان الله! بعض الناس كما ذكر الشيخ جزاه الله خيراً، في أثناء حديثه عندهم شدة جداً في عدم التفاهم، بل يؤدي ذلك إلى النهاية، وبعض الناس عندهم سهولة جداً فتصبح المشكلات متكررة بين آونة وأخرى، ومن ذلك الغيرة وهي من المشكلات والمعضلات، فبعض الناس عندهم غيرة زائدة، ولا شك أن المؤمن يغار، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله: (إن سعداً يغار، وإني لأغار، والله أغير مني ومن سعد) لأنهم كأنهم ضحكوا من سعد حين قال صلى الله عليه وسلم: (إذا وجد الرجل مع زوجته أحداً فليشهد شهوداً، قال سعد: والله لأقطعنه إرباً إرباً) فضحكوا منه، فحينئذٍ قال عليه الصلاة والسلام هذا الأمر.
فالغيرة تكون منضبطة، لا تؤدي إلى الشكوك، وإلى أمور فيها سوء الظن بالآخر، وإلى أمور بعيدة المدى، ونتائجها وخيمة والعياذ بالله من ذلك.
فنود أيضاً من الشيخ جابر حفظه الله، أن يحدثنا عن علاج لهذه المشكلات الكثيرة التي تطرأ بين الزوجين.
ويبدو أن من هذا: تعليم المرأة وتفهيمها لما يجب عليها ولها، ومن ذلك الهجر والضرب الغير مبرح، فليتفضل حفظه الله وجزاه الله خيراً.(74/7)
الصبر
إن أهم شيء بين الزوجين وغيرهما أن يصبر الإنسان على صاحبه مهما استطاع، فالصبر يؤدي إلى كل خير وفضيلة، وبدون الصبر لا يعيش الإنسان مع صاحبه -سواء زوجته أو غيرها- حياة سعيدة؛ لأن الصبر كما يقال: مفتاح الفرج، فإذا رأى منها سوءاً شك، فالله أمر في الآية القرآنية بوعظها ثم هجرها ثم ضربها فإن استقامت ترك ضربها، فأعظم شيء هو هجرها.
أولاً: تعليمها والتوضيح لها أن فعلها هذا لا يرضاه الله سبحانه وتعالى، وأن من الواجب عليها أن تطيع زوجها في كل شيء إلا في معصية الله، فلا تصوم النافلة بدون إذنه فإنه لا ينبغي لها هذا إلا بإذنه، بخلاف رمضان، فإنه لا بد أن تصومه؛ لأنه ركن من أركان الإسلام، أما صيام النافلة فلا بد من إذنه، وهجرها المشروع كما يقول العلماء: إذا نام أعطاها ظهره، ثم لا يكلمها ولا يحدثها، ويبتعد عنها أياماً وليال إذا أمكن؛ لعلها ترجع إلى الله سبحانه وتعالى ثم إلى زوجها، ويبين لها ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة، ولا ترفع لهم حسنة: العبد الآبق حتى يعود ويضع يده في يد مواليه، والمرأة الغاضب عليها زوجها، حتى يرضى عنها زوجها، والسكران حتى يفيق من سكره) فهؤلاء الثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة، ولا ترفع لهم حسنة إلى السماء: العبد الآبق، حتى يعود إلى أوليائه ويضع يده في أيديهم، والمرأة حتى يرضى عنها زوجها، والسكران حتى يفيق من سكره، كذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا باتت امرأة وزوجها عليها غضبان باتت تلعنها الملائكة حتى تصبح) -والعياذ بالله- يبين لها الحديث هذا وما أشبهه.
كذلك لو دعاها وهي على التنور يجب عليها أن تلبيه، تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: [لو تعلم المرأة ما لزوجها عليها من حقٍ لمسحت تراب قدميه] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت آمراً أحداً يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) لعظم حقه عليها، فحقه عليها عظيم، وشأنه خطير.
كذلك يروى في بعض الآثار: أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عندما كان خليفة جاءه أحد الصحابة يشكو إليه زوجته، فقد آذته في نفسه وفي غير ذلك، فوقف في الباب يريد أن يشتكي زوجته إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فإذا عمر وزوجته في كلام كثير، تشتم عمر وتسبه وهو ساكت، وهو الخليفة وقوته معروفة، فقال الرجل: إذا كان هذا عمر في داره فكيف أنا، لا أبد أن أنصرف وأصبر، فانصرف، فخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا هذا! ارجع ماذا تريد؟ قال: يا عمر! جئت إليك أشكو حال زوجتي عليك، فسمعت من الباب ما بينك وبين زوجتك، فقلت: إذا كان هذا عمر بن الخطاب الخليفة القوي الشديد في الحق كيف يسكت على هذه المرأة! فقال عمر رضي الله عنه: إن لي عندها مصالح، فأنا أصبر على هذا الذي ترى منها، فهي تطبخ طعامي، وتغسل ثوبي، وتطحن دقيقي، وتربي أولادي، وغير ذلك، فلهذا أنا سأصبر عليها وليقع ما يقع، وإنه الفراق في يوم من الأيام، فقال الرجل: وأنا كذلك يا عمر، ثم انصرف هذا الرجل، ولم يقل شيئاً، انصرف من الباب بعد ما سمع ما قاله ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
فالمرأة إذا علمت وفهمت الحق الذي عليها لزوجها، ربما ترجع عن غيها، وتتوب إلى الله سبحانه وتعالى، فيعيشان سعيدين في هذه الدنيا، فالمرأة تعيش مع أهلها عشرين سنة إلى اثنتين وعشرين سنة وهكذا، ثم تعيش مع زوجها ستين عاماً وأكثر من ذلك، وهما سعداء في هذه الحياة، يجتمعان لوحدهما، شابان في عنفوان الشباب، يجتمعان ثم يأتيان بالبنين والبنات، ثم الأولاد يكبرون والبنات يتزوجن ويصبح الأولاد والبنات في سكن آخر غير سكنهما، وهما أصبحا في سن الشيخوخة، هي عجوز وهو كذلك، بعد أن عاشا ستين عاماً أو سبعين عاماً، إذا ذهبت إلى بيت أهلها تتضايق ولا تطمئن إلى أهلها ولا إلى أمها وأبيها، عينها في زوجها، ولهذا لما ضرب أبو بكر ابنته عائشة جاءت تحتمي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تخاصمه، خبأت وجهها خلف الرسول صلى الله عليه وسلم ليمنعها من أبيها، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
هناك قصة عجيبة للصديق وابنته رضي الله تعالى عنهما جميعاً، لما كان الصديق في الغار - غار ثور - كما تعلمون، عندما دخل ونظف الغار، وسد الجحر الذي فيه، إلا جحراً واحداً ما وجد شيئاً يضعه فيه، فوضع قدمه رضي الله عنه خوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنام الرسول صلى الله عليه وسلم وجعل رأسه على فخذ أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فلما كان رجله في الجحر لدغته حية، فآلمته ألماً شديداً، فلم يتحرك؛ لأجل ألا يزعج الرسول صلى الله عليه وسلم ويوقظه من منامه، وكان متعباً بعد صعودهما الجبل الهائل، وفرارهما من قريش خوفاً على نفسيهما، فلما لدغته الحية، آلمته ألماً شديداً ثم بكى فدمعت عيناه رضي الله عنه حتى قطرت على خد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما هذا يا أبا بكر؟ قال: لدغتني حية يا رسول الله! وما أحببت إيقاظك لكي لا أزعجك، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فمسحها فعافاه الله).
والقصة الثانية: لما كان النبي صلى الله عليه وسلم عند عائشة وقد نام على فخذها، فبكت وهو نائم فاستيقظ فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقالت: يا رسول الله! ذكرت القيامة وأهوالها، وما فيها من مصائب وآفات، وعذاب شديد أو نعيم مقيم، فهل يلتقي المتحابان في الآخرة يا رسول الله؟ هل يبحث كل عن صاحبه، ويبحث عن أبيه، وعن أبنائه، وعن أمه، وعن أخته، قال: نعم يا عائشة! إلا في ثلاثة مواقف لا يذكر شخص أحداً، قالت: ما هي يا رسول الله؟ قال: عند المرور على الصراط، كلٌ يقول: نفسي نفسي، والصراط دحض مزلة، فإذا نجا من الصراط، فمنهم من يمر كالريح المرسلة، أو كالبرق الخاطف، أو كالجواد، أو كالدلول، أو يمشي مشياً، أو يحبو حبواً، أو يكردس في النار -والعياذ بالله- هذا موقف لا يسأل أحد عن أحد أبداً.
والموقف الثاني: عندما تتطاير الصحف، لأن كل شخص عند الموت يوضع في قبره، وتوضع معه صحيفته في حلقه، لا يراها إلا الله والملائكة فقط، فإذا أتى يوم القيامة طارت ورجعت إليه، إما في يمينه وإما في شماله، هذا الموقف الثاني.
والموقف الثالث: عند الحسنات، توزن حسناتك وسيئاتك، والملك ماسك بهذا والثاني بهذا، من اليمين والشمال، فإذا رجحت حسناتك على سيئاتك قال: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن رجحت سيئاتك على حسناتك -والعياذ بالله- قال: شقي فلان شقاء لا يسعد بعدها أبداًَ.
فهذه ثلاثة مواقف لا يبحث أحد فيها عن أحد.
فإذا انتهت المواقف المذكورة، فكل شخص يبحث عن صديقه، وعن قريبه، وعن أبيه إذا كان مؤمناً، أما إذا كان كافراً فلا.
إن الصبر هو حلية العارفين، إذا صبر الإنسان على زوجته واحتسب، وخاصة إذا كانت جاهلة ولا تفهم شيئاً، يصبر عليها؛ من أجل أولاده وأولادها، وكثير منهن متعلمات لكن أصبحن مسيطرات على الرجال إلا أن يشاء الله، وقد جاء في الحديث: أنه يجوز لك أن تكذب على زوجتك، فتقول لها: أخذت هذا الثوب بعشرين ريالاً، وهو بعشرة ريال -مثلاً- لكن الآن لا تصدق، تقول لك: لا.
أنا أعرف السوق، لا تكذب عليَّ، سابقاً كنا نكذب على النساء بهذا بالكلام، ولكن انعكس الآن وأصبحت النساء يكذبن على الأزواج؛ لأنهن عارفات بالأسواق، إلا من هدى الله.(74/8)
عدم الخروج من البيت إلا بإذن
إن من العلاج عدم الخروج إلى السوق باستمرار، كل يوم في دكان، ومهما كانت، فالشيطان وراءها وإذا أرادت أن تخرج إلى السوق للضرورة القصوى، فلا بد أن تكون لابسة أحشم لباس، ثم تغطي يديها بالكفوف، وقدميها بجواربها وهكذا، فخروجها للحاجة الضرورية وإلا فلا، لأن هناك من يخدمها ويكفيها وهو ابنها أو أبوها أو زوجها أو أي شخص يقوم بحقوقها، فإن الشيطان يتبع المرأة أينما كانت وأينما ذهبت.
ولهذا جاء في الأثر: يقول الشيطان إذا بث جنوده في الأرض: أيكم يأتني بأعظم شيء فعله فأنا أفعل معه وأفعل معه، فيأتي أحدهما فيقول لرئيسهم الشيطان: أفسدت بين فلان وبين فلان، تخاصما حتى تضاربا، فيقول: ما فعلت شيئاً يصطلحان غداً، قال: فيأتي الثاني فيقول: فعلت وفعلت، فيقول له: ما فعلت شيئاً، فإذا جاء الآخر قال: ما زلت بفلان حتى زنا بفلانة، قال: هذا هو الشيء الطيب، فيلبسه التاج.
فالمرأة دخولها للسوق سبب للمشاكل، وروحتها للغيبة والنميمة والبحث عن عورات الناس، مع فلانة كذا، وفلانة عندها ثوب كذا، وفلانة عندها كذا.(74/9)
إعانة الزوجة لزوجها على طاعة الله
ثم بعض النساء يأتي زوجها من العمل مرهقاً، فإذا بالأوراق أمامه خذ لنا هذا وخذ لنا هذا، هذه من أسباب المشاكل؛ لأنها تحمله ما لا يطيق، وخاصة إذا جاء من العمل عليك أن تستقبليه عند الباب، فتأخذين ثيابه وتعلقيها، خذي أحذيته، وأصلحي له القهوة أو الشاي وكل شيء طيب، لكن لو أتت له بكشف من المقاضي من كل نوع، ربما لا يوجد عنده شيء، أو أنه مفلس، فتكلفه أن يذهب يتدين ويأخذ أموال الناس في ذمته، ثم يموت وهي في ذمته، وهذا لا ينبغي، فبعض النساء ليس عندهن من العقل والمروءة ما يكفيهن، لكن بالتعليم وبالإرشاد وبالتوجيه وقراءة كلام النبي عليهن هذا من أسباب النجاح في الدنيا والآخرة.
هناك قصة قد تكون غير صحيحة، يقال: إنه كان هناك رجل له صديق في بلد بعيد، وكان يزوره في السنة مرة واحدة، فذهب إلى داره ودق الباب، فقالت زوجته: من؟ قال: أنا فلان أخو فلان في الله، قالت: ذهب إلى كذا لا رده الله ولا بارك فيه ولا وفقه، وقامت تصدر له كلاماً عجيباً من داخل البيت، فقليلاً وإذ بزوجها يأتي وهو محملٌ الأسد حطباً، وذلك يرى أخاه، فجاء وأنزل الحطب وقال: للأسد اذهب بسلامة الله، ثم لم يقل له شيئاً من ذلك الحين، ثم ذهب عنه أخوه هذا وصديقه سنة كاملة، ثم جاءه بعد سنة، ودق عليه الباب فقالت زوجته: من؟ فقال: أنا صاحب فلان أخو فلان في الله، قالت: ذهب يأتي بالحطب، الله يعيده قريباً ذلك الصالح الطيب بارك الله فيه وفي أيامه، ثم دعت له دعاءً عجيباً، فتعجب من كلامها هذا، وقليلاً وإذ بالرجل يحمل الحطب على ظهره الذي هو زوجها، فلما دخل البيت وتغدى هو وإياه قال: يا أخي! رأيت في السنة الماضية عجباً وهذه السنة أعجب، قال: ما رأيت؟ قال: أتيت العام الماضي إليك فإذا المرأة تسب وتلعن وتشتم، وهذه تدعو لك بالطيب وبكل شيء طيب، قال: لا تعجب يا أخي! تلك توفاها الله، فكنت أصبر عليها فأعطاني الله الأسد على هذا الصبر لكي أحمل عليه الحطب، على أجر صبري على هذه المرأة، يأتي الأسد بالحطب إلى باب بيتي، وهذه عندما كانت صالحة ذهب الأسد مني، لأجل أنها صالحة، لا يوجد شيء يأجرني الله عليه منها، لكن تلك لخبثها ولخبث لسانها وعدم استقامتها معي أعطاني الله الأسد يحمل الحطب إلى باب البيت، وهذه لما كانت صالحة الأسد انسحب عني جزاءً؛ لأن عندي امرأة صالحة، وهكذا الزوجات الصالحات، تعين الزوج على طاعة الله سبحانه، وتساعده في دينه ودنياه.
ولهذا من السنة إذا قمت تصلي من الليل أيقظها تصلي معك، وفي الأثر: (رش على وجهها ماء)، فهذا من السنة، توقضها تصلي معك لكي تستقيم ويستقيم دينها وتقواها معك -أيها الزوج الصالح- إن كنت صالحاً.
جعلنا الله وإياكم من الصالحين، وأن يعيننا على أنفسنا، ويعيذنا وإياكم من النار إنه جواد كريم.
وصلى الله على محمد وعلى وآله وصحبه وسلم.(74/10)
أداء الزوجين لما عليهما من الواجبات
كلام الشيخ حامد المصلح: بقي الآثار المترتبة على الخيارات الزوجية، وشرها وآخر العلاج الكي وهو الطلاق، لكن قبل ذلك نود أن نعرج على قضية، وهي: هل تعدد الزوجات سبب من أسباب المشكلات أم لا؟ كلا م الشيخ سعيد بن مسفر: بسم الله الرحمن الرحيم كما ذكرنا -أيها الإخوة- أن الزواج يشكل اللبنة أو النواة الأولى من لبنات المجتمع، وعلى ضوء صلاح الأسرة وتفاهمها وانعدام المشاكل فيها، يتكون من ذلك صلاح المجتمع، وفي ظني والله أعلم: أن من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى حدوث الخلافات الزوجية إلى جانب ما ذكره صاحب الفضيلة الدكتور الشيخ جابر، والشيخ حامد حفظهما الله، هو عدم قيام أحد الزوجين بالحقوق التي أوجبها الشرع عليهما، سواء المرأة أو الرجل، ومن الطبيعي إذا قصر أحد الزوجين في القيام بالحقوق الواجبة عليه، فإن الطرف الآخر يضطر إلى المطالبة بها، وإذا لم يكن عند الآخر إنصاف وعدل، اعتبر المطالبة بالحق نوعاً من سوء الأدب والعشرة، فيتصرف تصرفاً غير سليم، وبالتالي تزداد المشاكل، والشرع حينما أمر بالزواج نظمه وبيّن الحقوق على الرجل وألزمه بالقيام بها، وأيضاً بيّن حقوق المرأة تجاه الرجل وألزمها بالقيام بها، يقول عز وجل: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] الدرجة التي ميز الله بها الرجل: هي درجة القوامة؛ لأن الحياة الزوجية شركة، والشركة لا يمكن أن تسير إلا بمسئول، والأقرب إلى القيام بالمسئولية هو الرجل؛ لأن الله أعده لهذا، فلا تصلح شركة فيها مديران، ولا تصلح إدارة فيها مديران، ولا تصلح دولة بملكين، أبداً، لا بد من شخص يتخذ القرار، بل الكون كله لله يقول الله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22].
فلا بد أن يكون لهذه الشركة مسئول، والمسئول هو الزوج، وهو صاحب القرار، ولكن مسئوليته هذه لا تعني الاستبداد والتسلط والقهر والإذلال، لا.
وإنما تعني المسئولية أمام الله، بأنه لا بد أن يرحم هذه الأسرة، وأنه لا بد أن يشاور هذه المرأة، وأن يأخذ بما يسعدها، وأن لا يكلفها ما لا تطيق، ولهذا يقول الله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] ويقول عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي).
وإذا أردت أن تقيِّم رجلاً، فإن أعظم من يقيِّمه زوجته، الناس إذا قيِّموه يكتبون في تقييمهم ما ظهر منه أمامهم، فقد يتظاهر أمام الناس بأنه صاحب خلق، وبأنه حليم، وبأنه كريم؛ لأنهم يعايشونه فترة معينة.
أما المرأة التي تعايشه باستمرار، فهي التي تعرف مدخله ومخرجه، وتعرف جميع وسائل حياته وأساليبها، ولذا إذا أثنت عليه امرأته خيراً فهو ذو خير، وإذا أثنت عليه شراً فهو ذو شر؛ لأنها تقيمه على فهم واضح، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس، ومن الذي يثني عليه؟ يثني عليه نساؤه، صلوات الله وسلامه عليه، لما طلبوا المزيد من النفقة أراد الله عز وجل أن يجعل بيت النبوة بيتاً مثالياً لا يمكن لأحد أن يصل إليه، فأمر بتخيير النساء بين العيش معه على العيشة التي قد رضيها الله له، وبين أن يسرح، فبدأ يخيرهن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:28 - 29].
فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بـ عائشة قال لها: (يخيرك الله بين أن تبقي معي على هذا الوضع الذي أنا فيه من شظف العيش من النفقة المحدودة)؛ لأنه بيت مثالي وليس بيت ملك، ولا بيت غني، بل حجرات محدودة، وفراش محدود، وطعام محدود، وعيشة بسيطة، وإن كنت لا تريدين هذه العيشة ولا تستطيعين، قالت: أفيك أخير يا رسول الله؟ أي هل يمكن أن أختار أحداً في الدنيا غيرك؟! لماذا؟ هل أغراها النبي صلى الله عليه وسلم بالمال؟ لا.
بعض النساء الآن لا تعيش في ظل زوجها إلا بالإغراءات المادية، يغير لها المتاع كل سنة، يغير لها الذهب كل عيد، يغير لها الملابس بالآلاف، لا تنزل إلى السوق إلا ومعها خمسة أو ستة آلاف ريال، ولذلك يسكت غضبها بالفلوس، بعضهم يغريها بالنواحي الأخرى، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يغرها بالمال، ولم يغرها بأي شيء، وإنما بالخلق الكريم، وبالتعامل العظيم، صلوات الله وسلامه عليه.
فلا بد -يا أخي الكريم- أن تشعر بأن المرأة لها حق، مثل ما لك حق، ولسنا في صدد بيان حقوق الزوج فإن أكثر الأزواج يأخذون حقوقهم بالقوة؛ لأن المرأة ضعيفة، فالرجل دائماً يأخذ حقه إن رضيت بالطيب أو بالغصب، لكننا نوصي -أيها الإخوة- في حقوق النساء؛ لأن كثيراً من الرجال لا يرى إلا حقه أما حقها فلا يراه، مثل البعير لا يرى عوجة رقبته، لو سألت الجمل: كيف رقبتك يا جمل؟ قال: رقبتي أسمح من المسطرة، وهي أعوج رقبة في الدنيا؛ لأنه لا يراها هو، وكذلك بعض الرجال لا يرى الأخطاء التي يرتكبها هو، وإنما يرى أخطاء زوجته ولا يرى أخطاءه، فلا بد أن تكون منصفاً عادلاً، وتقوم بالحقوق التي أوجبها الشرع عليك، من العشرة الطيبة، والمعاملة الحسنة والنفقة بقدر ما منّ الله عليك من الرزق {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] ومن إكرامها إكرام أهلها، والمناداة لها بأحسن العبارات، والمباسطة لها بالقول، والسمر معها، والإدلاء إليها بما في قلبك، ولا تحتقرها، فهي شريكة حياتك، بعض الناس لا يعطي زوجته شيئاً مما في قلبه، بل إذا دق الهاتف ورفع السماعة، رأيت منه رداً غير الرد الذي يتعامل به مع زوجته، زميله يدق عليه فيرفع السماعة: (ألو، أهلاً، كيف الحال، عساك طيب)، وبعد أن يضع السماعة، قال: يا امرأة هاتي الشاي، لماذا مع المرأة كلام غليظ، ومع ذلك كلام مثل العسل؟ لماذا لا تقول لها: يا فلانة يا أم فلان أعطيني كذا؟! أُدعها بأحسن الأسماء، وأكرمها؛ لأنك إذا أكرمتها حتى لو لم تكن صادقاً.
يقول الشيخ: إن الله أباح لنا أن نكذب على النساء، لماذا نكذب؟ من أجل أن تدوم العشرة، عندما تقول: والله أنا أحبك، ولو أنك لا تحبها، تراها مسكينة تفرح، إذا طبخت لك طعاماً ولو لم يكن حسناً أو جيداً، وقلت لها: إن الطعام شهي، وما أحسن هذا الطعام، تراها تتفانى من غدٍ وتتفانى في تقديم أحسن الطعام، وإذا كان الملح كثيراً قل لها: ما هذا من ملح اليوم، ممتاز مرة، تجعله بعد ذلك أحسن، ولكن أنت عندما تدق عينها، وتحطمها، وتبحث عن عيوبها، طبعاً هي إنسانة مضطرة أن تتعامل معك بنفس التعامل الذي تتعامل به معها.
لا بد -أيها الإخوة- من قضية القيام بالحقوق المشتركة، حقوق الزوج وحقوق الزوجة، فكما أن الله عز وجل أوجب للرجل على المرأة حقوقاً، أيضاً أوجب للمرأة على الرجل حقوقاً، فليعرف كل فرد منهم الحقوق المترتبة عليه وليقم بها، وإذا قام الزوج والزوجة بالحقوق فإن هذا سوف يؤدي إلى انعدام المشاكل، هل يوجد رجل يريد المشاكل في بيته؟ لا.
إذا وصل الرجل إلى بيته من عمله متعباً ووجد امرأته أمامه، تستقبله بالبسمة، وبالعبارة الطيبة، وبالخدمة المتناهية، ثم جلس ووجد الطعام الشهي اللذيذ، ثم بعد ذلك وجد الفراش الوفير، ووجد الطمأنينة، ووجد الأولاد قد حصروا في مكان بعيد عنه، بحيث يجد له ساعة أو نصف ساعة بعد الدوام لينام فيها ويرتاح، ثم بعد العصر يخرج بعد الصلاة ليجد أمامه الشاي والتمر والقهوة والمكسرات، ثم بعد ذلك يجد زوجته تقدم له كتاباً أو تقدم له شريطاً ليسمعه، هل يبقى هناك مشاكل؟ لكن بعض الزوجات ما عندها هذا الكلام كله، فماذا يحصل من الزوج إذا دخل وهي: (لاوية خشمها) ما سلم عليها، حينما يدخل يجد أمامه مشكلة.
عليك أن تعاملها بما ينبغي أن تعاملك به، بحيث تسلم، وتعلمها بالأدب وبالتكرار، حتى تقوم بالواجب، هذا إن شاء الله مع الممارسة ومع الصبر.(74/11)
الآثار والنتائج التي تترتب على الخلافات الزوجية
أما التعدد فإنني استسمح الشيخ حامد عذراً، وأرجو أن يعفيني من الإجابة عليه؛ نظراً لضيق الوقت، ولكن الموضوع الذي سألني فيه وهو الأول وهو الآثار والنتائج الخطيرة التي تترتب على الخلافات والمشاكل الزوجية وهي كثيرة جداً، يمكن حصرها في بعض العناصر أو النقاط:(74/12)
العيشة التعيسة بين الزوجين
أولاً: العيشة التعيسة من قبل الزوج ومن قبل الزوجة، فإن الحياة الزوجية -كما ذكر الله عز وجل- سكن، والسكن ضد القلق، ولهذا سمي بيت الإنسان مسكناً، ليسكن ويرتاح فيه، لو أنزلته في أعظم فندق، فإنه لا يرتاح، ولكن أدخله في بيته فإنه يرتاح وينبسط، ولو كان بيته ليس في درجة الفندق أو القصر، وكذلك المرأة هي سكن الرجل، والرجل هو سكن المرأة، {لتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم:21] فإذا لم يجد الإنسان الراحة والطمأنينة في سكنه تحولت الحياة إلى عذاب، ولذا بعض الناس تجده إذا ذهب إلى البيت كأنه يذهب إلى قبر، لما يرى من المشاكل أمامه في البيت.
وقديماً قيل: حرب الخلاء ولا حرب الدار؛ لأن حرب الخلاء تنتهي، لكن حرب الدار في وجهك كل مرة.
وإبراهيم عليه السلام، لما جاء يزور إسماعيل وسأل زوجته عنه، قالت: ذهب إلى الصيد.
قال: كيف أنتم؟ قالت: في شر حال، فقال: قولي له: يغير عتبة البيت، ولما جاء زوجها أخبرته فطلقها، سماها عتبة البيت، ومعنى العتبة: أول ما يصادفه الإنسان عندما يدخل، إذا كانت العتبة طيبة فالبيت كله طيب، وإذا كانت العتبة غير طيبة كلما دخلت آذتك، وكذلك المرأة.
المرأة إذا كانت سيئة الخلق كلما دخلت عليها تجد الحياة أمامك كلها سيئة، وإذا كانت طيبة الخلق تجد الحياة كلها طيبة، فمن الآثار أن الخلافات الزوجية تحول الحياة الزوجية إلى جحيم لا يطاق، ولذا ترون الذي يعيش مع زوجة سيئة الخلق، أو تعيش الزوجة مع زوج سيئ الخلق يتهدم قبل أوانه، قد ترى عمره أربعين سنة، لكن إذا رأيته تقول: هذا عمره ستين سنة، شيَّبته قبل حينه، تجعل نهاره ليلاً، وليله ويلاً.
أحد الناس كان معه زوجة، ولسانها على كتفيها تجلس تثرثر، لا تسكت أبداً، وأخيراً تعبت وتعب هو، وردها إلى أهلها، وفي النهاية اشترط على أهلها: أن تتكلم يوماً وتسكت يوماً؛ لأنها كثيرة كلام، ولما جاءت إلى البيت تريد أن تتكلم في اليوم الأول الذي ليس فيه كلام، وإذا بها تقول: بكرة الكلام، بكرة الكلام، بكرة الكلام، بكرة الكلام، إلى أن جاء بكرة، فإذا بها تورد عليه بكل ما أرادت أن تتكلم، لماذا؟ طبيعتها ثرثارة -والعياذ بالله- وكذلك بعض الرجال -حتى لا نظلم المرأة- سيئ الخلق امرأته فاضلة طيبة دينة ذات خُلق، لكنه سيئ الخلق، فإذا رأيتها رحمتها، تراها وقد انعكف ظهرها، قد شاب رأسها، وساءت حياتها، لماذا؟ لأنه سيئ الخلق، إذا دخل يضع عينه على الأخطاء لو رأى قشة في طرف المجلس أقام عليها مشكلة، لماذا لم تنظفوا المجلس؟ لماذا لم تغلقوا الكهرباء؟ لماذا الماء يصب؟ لماذا؟ لماذا؟ فقط، لكن ما يرى الحسن في المرأة، فتعيش معه زوجته في عذاب -والعياذ بالله- فهذا أول أثر من آثار الخلافات الزوجية، أن الحياة الزوجية تتحول إلى جحيم لا يطاق.(74/13)
ضياع الأولاد وتشردهم
الأثر الثاني: يأتي على الأولاد، فإنهم ينشئون في ظل هذا الخلاف نشأة سيئة، فيحصل فيها التعقيد في النفوس، ويحصل فيها مشاكل، ويفشلون في حياتهم الدراسية.
أيضاً يحصل بينهم كراهية للأم إذا كانوا يرونها تتكلم على الوالد، وكراهية للأب إذا رأوه يمد يده ويتكلم على أمهم؛ لأن الولد يقف موقفاً مذهلاً، وهو يرى أباه يضرب أمه، يقول: ما هذا؟! هذا إنسان لماذا يضربها؟! لأن الولد يحب أمه، فإذا رأى الأب يضرب أمه حصلت عنده عقده وكراهية وبغضاء لهذا الأب، وسوف ينتقم منه فيما بعد، وكذلك إذا رأى الولد الأم وهي تنال من الوالد، بأن تلعنه أو تسبه أو تشتمه أو تطول لسانها عليه؛ فإنه يبغضها، ويكرهها، وتتحول المحبة لها إلى بغض وكراهية وإلى عقد نفسية، فلا ينبغي أن يحصل هذا أمام الأولاد، كما قلنا: لا تخلو الحياة، لكن إذا وقعت مشكلة سكت الزوج وسكتت المرأة إلى أن يكون الأولاد غير موجودين في المدرسة أو في أي مكان آخر، أو في غرفة بعيدة ثم ناقشوا الخلاف الذي بينكم، أما أمام الأولاد، فلا.
بعضهم يقول: كيف أسكت وأنا غضبان، لا يعرف الشجاع إلا عند الغضب، يقول عليه الصلاة والسلام: (ليس الشديد بالصرعة) أي: الإنسان المندفع الأهوج، الذي إذا استثير أثار نفسه، لا.
(ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) هذا هو الشجاع الحقيقي، أما ذاك المندفع الذي لا يملك نفسه فليس بشجاع، هذا متهور وسوف يندم على تصرفاته، لكن الذي يملك نفسه حتى يذهب إلى الغرفة فتطفأ هذه الفتنة ويطفأ نار الغضب حتى ترعى أولادك، ومن أجل هؤلاء الأولاد حتى لا ينشئون على هذه النشأة، ولذا ترون -أيها الإخوة- الأولاد في المدرسة يلاحظ عليهم قصور في الأداء التعليمي، وكذلك الواجبات غير محلولة، والولد شارد أثناء الدرس، الولد كثير الشغب، فهناك مشرف يسمونه مرشد طلابي، يقوم بدراسة الحالات الفردية لهؤلاء الأولاد، ونتوصل بالنهاية في كثير من الحالات إلى أن السبب هو أن الحياة الزوجية غير مستقيمة في البيت، وأن هناك خلافات في البيت، الأب يضرب الأم، والأم تخاصم الأب، فينعكس هذا على أداء الولد، كيف تريد لولدك يذاكر دروسه في هذا الجو المملوء المشحون بالمشاكل؟ لكن عندما يأتي الولد من المدرسة يجد الأم تبتسم والأب يبتسم والتفاهم قائم والاحترام متبادل والعشرة طيبة، يحس الولد بالأمن ويشعر بالطمأنينة، ويشعر بالسكينة، ويمارس دراسته، ويراجع ويذاكر واجباته في جو آمن، لكنه عندما يرى الأب يضرب، وتلك تصيح، وهذا كذا، وهذا كذا، كيف يذاكر؟ يهرب إلى الشارع وبالتالي يفشل في حياته الدراسية وفي حياته العملية، ويكون السبب أنت أيها الزوج وأنت أيتها الزوجة.
الثالث من الأسباب: وهذا يترتب عليه خلافات تنتشر وتتصاعد وتنال منه بقية الأسرة، الخلاف بين الزوجين، كأن تسمع به الأم -أم الزوج- فتكره الزوجة، أو تسمع به أم الزوجة فتكره الزوج، ويسمع أبو الزوج فيتدخل، ويسمع أبو الزوجة فيتدخل أيضاً، ويسمع الأعمام والأقارب وتحصل الشحناء وتحصل المشاكل والبغضاء، وتتقاطع العلاقات وتنتشر العداوات، وربما تقوم الحروب والمطاحنات من أجل خلاف زوجي بين اثنين، لكن لو كان هناك تفاهم، لحصل التفاهم بين الأسر كلها، وربما يحصل هذا أكثر إلى أن تحصل مشاكل بين القبائل بأسباب خلاف زوجي بين رجل وامرأة، ثم تأتي الطامة الكبرى والنهاية المؤلمة التي قد تقع من أسباب وجود الخلافات الزوجية وهي: الطلاق.
الطلاق الذي نعرف آثاره على الأسر، الأسر تتحطم، والأبناء يشردون، ويحرمون من نعمة الحنان بالنسبة للأم ومن شفقة الأب، إن جلسوا مع أبيهم ضاعوا، وإن ذهبوا مع أمهم جاعوا.
وأيضاً المرأة بعد أن تطلق، المعروف طبعاً في المجتمع أن الناس يعيبون عليها، بعد أن كانت في بيت زوجها ملكة، تصبح في بيت أهلها خادمة، وبعد أن كانت فلانة، قالوا: فلانة المطلقة أو الأرملة.
وأيضاً الزوج إذا جاء يتزوج يُعرَض عنه، وكلما أراد أن يخطب قالوا له: قد طلق زوجته، وإنه رجل مطلاق، فلا أحد يقبله، إلا امرأة طائحة ربما ما امتدت لها يد، فتقبله ولكنها لا تسعده ولا تلبي احتياجه، وبالتالي تحصل المشاكل الكثيرة.
وحتى لا تحصل هذه الآثار، فإننا نوصي أنفسنا ونوصي إخواننا: أولاً: بالقيام بالحقوق التي أوجبها الله للطرف الآخر.
ثانياً: التعامل على ضوء الكتاب والسنة.
ثالثاً: الصبر والاستيعاب.
رابعاً: العدل والإنصاف، والنظر إلى ما يحبب الرجل من المرأة، كما وجه ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي آخر) عليك أن تنظر بعين العدل، فإذا كرهت منها شيئاً فاعلم أن المرأة خلقت من ضلع أعوج، لا توجد امرأة في الدنيا مستقيمة كالمسطرة، هل رأيت ضلعاً مثل المسطرة، انظر في الأضلاع كلها لا يوجد ضلع إلا وفيه عوج، والمرأة مخلوقة من هذا الضلع، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (استمتعوا بهن على عوجهن؛ فإنك إن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت به استمتعت به على عوج) أما أن تريد واحدة (100%) مثل المسطرة فهذه ليست موجودة في الدنيا؛ لأنك أنت غير مستقيم، وكذلك المرأة لن تجدها مستقيمة (100%)، إن أردتها فاطلبها في الجنة.
أسأل الله أن يرزقنا وإياكم النعيم الذي وعدنا الله به، ومن ضمن النعيم الحور العين {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72].
أسأل الله تبارك وتعالى أن يديم علينا وعليكم نعمة الأمن والإيمان والإسلام، والطمأنينة في الأوطان، وفي المشاكل، وفي الأولاد والزوجات، وأن يوفقنا جميعاً لكل خير، وأن يوفق ولاة أمورنا وعلماءنا ودعاتنا إلى خدمة هذا الدين، والدعوة إليه ومناصرته إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلام الشيخ حامد: أثابكم الله وجزاكم الله خيراً، لا شك أن الطلاق هو أبغض الحلال إلى الله، ولكنه هو العلاج الأخير، فأسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا جميعاً للتعاون على البر والتقوى، والتناصح والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، على وجه العموم وعلى وجه الخصوص في البيوت، وأن يجعلنا جميعاً مِمن أراد الله بهم خيراً إنه على ذلك قدير.
الحقيقة لعل الإقامة أوشكت، ونود أن يشاركنا: الدكتور الشيخ عبد الرحمن السديس حفظه الله، فليتفضل ليشاركنا ويتحفنا جزاه الله خيراً.(74/14)
الرجوع إلى الله وتحكيم الشرع هو الحل الأمثل تجاه المشاكل الاجتماعية
كلام الشيخ عبد الرحمن السديس: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه.
أما بعد: فإننا نحمد الله عز وجل ونشكره جل وعلا على عموم نعمه وآلائه، ومنها نعمة هذا اللقاء الطيب المبارك، في رحاب جامع الدعوة بحي العوالي، وهذا النشاط الذي يقام في هذا الجامع ويؤسفنا أن نقوم لأول مرة في هذا الجامع، لكنها بإذن الله فاتحة خير، فنشكر الله عز وجل على نعمة هذا اللقاء الطيب المبارك، ثم نشكر إخواننا في مركز الدعوة في مكة المكرمة نشاطهم الطيب في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وإقامة الندوات والمحاضرات المفيدة التي تتحسس مشاكل الناس، وتسعى إلى علاجها، فجزاهم الله خيراً، وضاعف مثوبتهم، وزاد من نشاطهم فيما يحبه ويرضاه، ثم نخص بالشكر أعضاء هذه الندوة المباركة، صاحب الفضيلة: الشيخ الدكتور جابر الطيب، وصاحب الفضيلة: الشيخ سعيد بن مسفر والأخ الشيخ حامد المصلح الذي أدار هذه الندوة، ولا شك أنها ندوة موفقة ومباركة، قد استمعنا جميعاً إلى كلامهم، وإلى بيانهم وبلاغهم وأدائهم، والحق أنهم قد أجادوا وأفادوا، فجزاهم الله خيراً، وبارك فيهم، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبعون أحسنه.
أيها الإخوة في الله! لا تعليق عندي على ما قاله أصحاب الفضيلة، لكنها رغبة في المشاركة في هذا اللقاء الطيب المبارك، لا سيما والمسجد مسجد حي، وقد حضرنا وأتينا لأداء الصلاة وسمعنا هذه الكلمات الطيبات من أصحاب الفضيلة بما لا مزيد عليه، لكن الحق أنه في كل مشكلة ينبغي أن يشخص الداء وأن يوصف الدواء، فإذا عرف الداء وتشخص استطاع الطبيب أن يذكر العلاج وأن يصفه، ثم لزم المريض أن يتابع هذا العلاج وأن يعمل به، وأن يستمر عليه وأن يتابعه، ليؤتي أكله وثماره حياة سليمة صحيحة، وهذه المشكلات الخاصة بالمشكلات الاجتماعية، ومشكلات الزواج والأسرة والطلاق، مشكلات أقضت مضاجع الأمة، وبحت فيها حناجر الغيورين والمصلحين، ولكنها مع شديد الأسف لا تزال تتضاعف في كثير من المجتمعات، وإن كان مجتمعنا -ولله الحمد والمنة- بحكم إسلامه وتمسك أفراده بشريعة ربهم تبارك وتعالى في الجملة، لا شك أنه خير المجتمعات بالنظر إلى هذه المشكلات، ولا شك أن المجتمع المسلم الذي ترفرف عليه رايات تطبيق شريعة الله عز وجل بقدر تمسكه يكون بعيداً عن المشكلات، وبقدر تساهله في تطبيق شرع الله عز وجل تتضاعف المشكلات، وتتعاظم المعضلات، ويصعب حلها.
أيها الإخوة في الله! الحكم على الشيء دائماً فرع عن تصوره، والمشكلات الاجتماعية فرع عن مشكلات كثيرة أصيبت بها الأمة، والمجتمعات، فتشخص الأسباب في كل مشكلة ومعضلة، ولقد أجاد أصحاب الفضيلة وأفادوا ولا حاجة إلى التكرار، ولو أن الأمة والأسرة والمجتمع بل وكل فرد من الأفراد طبق شرع الله عز وجل في خاصة نفسه لأراح واستراح ولم تحصل منه مشاكل، لا إلى نفسه ولا إلى بيته ولا إلى أسرته، متى ما أصلح الإنسان ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن ذلك أن يصلح الله أسرته، ويصلح أولاده، ويبارك له في داره وسكنه، وبقدر تقصيره يعاقب بمثل هذا الأمر، كما ذُكر عن بعض السلف أنه قال: إني لأعصي الله عز وجل فأرى ذلك في سلوك زوجتي ودابتي وخادمي، أو كما ورد.
فالحاصل أنه ينبغي أن يصلح الإنسان ما بينه وبين الله، وليعلم أن الله عز وجل هو المتكفل بصلاح حاله {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4] فينبغي علينا -أيها الإخوة -أن نحرص على تطبيق شرع الله عز وجل في خاصة أنفسنا وأولادنا وأسرنا ومجتمعنا كل في محيطه وكل فيما يستطيعه.
ومن الأسباب أيضاً: تقصير كلاً من الزوجين في القيام بحقه، وكل ينظر ما له ولا ينظر الذي عليه، وهذه قضية ينبغي أن ينظر فيها بعين الإنصاف والعدل والمساواة، وإن كانت المساواة ليست دقيقة على معنى؛ لأن الرجل له أكثر مما للمرأة كما قال عز وجل: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228].
ولا شك أن كل زوج يطالب بحقه، فالمرأة لها حقوق، والزوج له حقوق، وإن كنت لمست أن بعض أصحاب الفضيلة في المحاضرة غلب جانب حقوق النساء أكثر من جانب حقوق الرجال، وقد يكون غيره ركز على حقوق الرجال وقصر في حقوق النساء، القضية ميزان وعدل ينبغي على كل واحد أن يعلم ما له وما عليه، ثم لا أدري لماذا هرب الشيخ سعيد بن مسفر حفظه الله عن السؤال الذي عرض عليه، والمسألة محسومة شرعاً، ولا ينبغي في نظري أن تكون مجال أخذ ورأي، وينبغي أن يعالج في مثل هذا في أخطاء الناس وفي تطبيقهم لشرع الله عز وجل رجالاً كانوا أو نساء.
فإذاً -أيها الإخوة- هذه القضية وهذه القضايا الكثيرة علاجها: أن يعود الناس ولا سيما الزوجين إلى شرع ربهم المطهر، ففيه الشفاء من كل داء، كذلك ينبغي أن تتعاون الجهات كلها على علاج هذه القضايا، وينبغي أن يتعاون حتى أهل الزوجين إذا تضاعفت وتعاظمت الأمور، ينبغي أن تكون هناك لجان للإصلاح بين الأسر: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] فينبغي أن نسعى جميعاً للإصلاح {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114] وقال تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128] فينبغي أن يصطلح الزوجان وأن يكون أهل الزوجين لا سيما الآباء والأمهات حريصين على مصلحة أبنائهم وبناتهم المتزوجين، ومما يستثنى أن بعض الآباء والأمهات ينظر إلى حق ابنه ولا ينظر إلى ما عليه من الحقوق، فتأتيه -مثلاً- ابنته تشتكيه زوجها فيغضب والدها ويريد أن ينتصر لابنته، وربما تكون ابنته هي المقصرة في حق زوجها، فهكذا ينبغي أن يسعى الناس للإصلاح، كما ينبغي أن يربى الأبناء على هذا، وأن يعرف الأبناء حقوق آبائهم وأمهاتهم حتى إذا أصبحوا أزواجاً وأصبحت البنات زوجات قمن بحقوق أزواجهن على ما ينبغي وعلى ما شرع الله عز وجل.
ثم متى يصلح البنيان؟
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا أنت تبنيه وغيرك يهدم
ينبغي أن تتعاون جميع الجهات المسئولة على توجيه الأمة بما فيها وسائل الإعلام، وبما فيها مناهج التعليم لرعاية حقوق الأسر وتربية الأبناء، ومعرفة حقوق الزواج والزوجين، لكن إذا كانت هذه الوسائل وقد دخلت كل بيت تثير بعض المشكلات التي قد تورث شقاقاً في الأسر بين الزوجين، كقضية التعدد مثلاً، أو قضية عمل المرأة، أو غير ذلك من المسائل، أو كان الأبناء يعيشون على هذه الوسائل والقنوات الفضائية التي تدمر الأخلاق والقيم، فلا شك أنهم سيخرجون إلى المجتمعات أعضاء مسمومة في المجتمع.
على كل حال أسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعل هذه المشكلات تزول عما قريب عن كل بيت وعن كل أسرة، حتى تتفيأ ظلال الأمن الوارث والسكينة والرحمة التي من أجلها شرع الله الزواج، وأقام عليها عماد البيوت والأسر والمجتمعات.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وشكر حضوركم وإنصاتكم واستماعكم وجعلكم في روضة من رياض الجنة، وجعلكم ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده).
والحقيقة أن رسالة هذا المسجد ورسالة المساجد كلها ينبغي أن تتضاعف، ونطالب إخواننا في مركز الدعوة أن يكثروا من هذه الندوات والمحاضرات، في هذا المسجد، وأيضاً نشكر أصحاب الفضيلة أعضاء هذه الندوة المباركة جزاهم الله خيراً على ما قدموا وجعله في موازينهم.
ونرجو أن نراكم قريباً في نشاط قادم إن شاء الله.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(74/15)
وفي أنفسكم أفلا تبصرون [2،1] ?!
إن نعم الله علينا لا تعد ولا تحصى، ولا يدرك ذلك إلا من سلب شيئاً منها؛ ومن أجل تلك النعم وهبنا الله إياه في أنفسنا، وإن التدبر والتفكر فيها مما يساعد المرء على حسن حفظها، وذلك بشكرها واستعمالها في طاعة الله والابتعاد بها عن معصيته، ومن وُفِّق إلى ذلك فقد وُفِّق.(75/1)
فضل حضور مجالس العلم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أيها الإخوة في الله: أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل التفرق من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يبقي فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
إن سعي المسلم والتماسه لحلق الذكر بالمساجد، وحبه لهذه الرياض النضرة في هذه البقاع الطاهرة هو دليل على صحة قلبه، وصحة القلب هدف للإنسان في هذه الحياة؛ لأنه لا ينفع في يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم، والذي يَرِدُ على الله ويفد عليه وقلبه مريض أو ميت، فإنه يخسر الخسارة التي لا تعوض، ويدمر التدمير الذي لا نجاة بعده.
وسعيك -أيها الأخ في الله- والتماسك لهذه المجالس الطيبة دليلٌ على حبك لله، وحبك لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً: فإن من نتائج مجالس الذكر وحلق العلم أنها تبعث على العمل، والذي يُتابع مجالس الذكر ولا يكون لها أثراً واضحاً في سلوكه وعبادته وتصرفاته وعقائده وأخلاقه فهذا لم يحضرها حقيقةً، فإن الحضور الحقيقي هو الذي يستلزم الانقياد بعد سماع الأمر ومعرفة النهي، فيفترض في الإنسان بعد معرفته لأمر الله ونهيه أن ينتهي ويأتمر، فهذا هو معنى طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما مجرد السماع فقط دون أن يغير الإنسان من واقعه، أو أن يزيد هذا السماع في عباداته ويكف عن معاصيه وزلاته، فهذا سماع لا ينفع بل يضر يوم القيامة؛ لأنه حجة الله على عبده.
والذي نتصوره -إن شاء الله-أن حرصك على هذا المجلس دليلٌ على رغبتك في الاستماع والاقتداء والاتباع والعمل بما تسمع رغبةً بما عند الله، وخوفاً من لقاء الله، وهذا هو الذي نحسبه فيك ولا نزكي على الله أحداً، ونسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يزيدنا توفيقاً وهداية وفلاحاً وصلاحاً ببركة هذه المجالس المباركة.(75/2)