صيام المرأة وزوجها شاهد، وصيام شهر غير رمضان
السؤال
هل يجوز للمرأة الكبيرة أن تصوم من غير إذن زوجها؟ وهل يجوز صيام شهر كامل غير رمضان مثل شهر رجب؟
الجواب
أولاً: لا يجوز للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، سواء كانت عجوزاً أو بنتاً؛ لأن الحديث في البخاري ومسلم معلوم صحته قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه).
أما صيام شهر كامل فإنه يجوز، ولكن فقط شهر شعبان لحديث عائشة تقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان حتى نقول: لا يفطر، وكان يفطر حتى نقول: لا يصوم) فقد صامه مرةً كله ومرةً تركه كله.
أما رجب فلا دليل على صيامه، أو قيامه، أو عمرته، أو أي عمل يختص به، وكل حديث ورد في فضل عمرة رجبية، أو سبعة أيام من رجب، أو ليلة سبع وعشرين من رجب، أو أي فضل فيه، فإنه موضوع أو ضعيف ولا يحتج به.(38/48)
الاستقامة هي لزوم العمل بالعلم
السؤال
من الناس من يقول: إن الاستقامة فيما يحفظه الإنسان من معلومات إسلامية، فهل هذا صحيح، مع ضرب أمثلة من الواقع؟
الجواب
ليس بصحيح، ليست الاستقامة والإيمان هما العلم فقط، الإيمان والاستقامة هما العلم والعمل، فإذا كان عندك علم، وكان عندك عمل وتطبيق وخشية، فأنت المستقيم.
أما أن تكون عالماً، وتحفظ من العلم لكن لا تعمل به، فهذا مثل إبليس يعرف كل الأديان والرسالات، والكتب يحفظها كلها عن ظهر قلب، لكنه من أهل النار، لماذا؟! لأنه لم يعمل.(38/49)
حكم النظر إلى زوجة الأخ
السؤال
زوجة أخي دخلت بيتنا ونحن صغار، وقامت بتنظيفنا وإلباسنا وخدمتنا حتى أصبحنا رجالاً، فهل نحتجب منها، ولكننا لو أفصحنا لها بهذا فإننا نخاف أن تشتعل النار في العائلة، ويدب الشك فما هو الحل؟
الجواب
قولوا لها: جزاك الله خيراً على خدمتك لنا، ولكن أصبحنا رجالاً، وأنت أجنبية عنا، ولا يجوز أن ننظر إليك، وليس هذا الفعل لعدم الثقة بك، فثقتنا فيك كبيرة، ولكن هذا أمر الله عز وجل.
أما أن البيت سيشتعل ناراً فلا، بل ستحل فيه الرحمة والبركة والرضوان من الله عز وجل، لا يتصور أحد أنه إذا وجد الحجاب تشتعل الأسرة، لا والله، بل تشتعل الأسرة إذا كان الحجاب غير موجود حقيقةً؛ لأنه يسبب هذا التكشف إلى اشتعال النار في الإنسان يوم القيامة.
على كلٍ أختم الآن، وبالرغم من أن أسئلة الأسبوع الماضي لم تنته بعد، لكن الوقت ضيق، وما أريد أن أطيل على الإخوة، وقد أخذت تعهداً على نفسي أن لا أزيد على الثمانية.
وأسأل الله الذي لا إله إلا هو، أن يجمعنا وإياكم على رضاه في الدنيا والآخرة.(38/50)
فضل الإيمان وآثاره
ضرورات الحياة المتفق عليها بين البشر ثلاث، وهي: الهواء والماء والغذاء، ولكن ضرورة الإيمان والدين تطغي على ذلك كله، فهي الباعثة على الأمن والسعادة في الدنيا قبل الآخرة، ولهذا الإيمان ثمار وآثار في الدنيا والآخرة تظهر على من التزمه وحققه.
في ظلال هذه الأفكار والأطروحات كان موضوع الشيخ في هذه المادة، إضافة إلى الكلام عن نظرية داروين الحيوانية وكيف استغل اليهود هذه النظرية وطوروها من أجل خدمة أفكارهم وتحقيق أهدافهم.(39/1)
الضرورات المادية في حياة البشر
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله: هناك في حياة البشر ضرورات لا بد من توفرها، ولا يستطيع إنسان أن يعيش حياةً سعيدةً إلا بتوفر تلك الضرورات، وهذه الضرورات كثيرة في حياة الناس، ولضغط الحياة المادية وانعدام المقاومة لدى الإنسان في هذا الزمان؛ أصبحت معظم الأشياء ضرورية لدرجة أنه إذا انتهت أية مادة من مواد الأسرة فإن البيت يشعر بنقص، وبعدم قدرة على التكيف مع الوضع الجديد، إذ لا بد من توفير هذه الأشياء ولو في أبسط صورها، مثلاً: لو تنتهي من البيت حفاظات الأولاد لقامت مشكلة في البيت، تصيح المرأة بأعلى صوتها، وتقيم الرجل من مضجعه، وتوقظه من نومه، وتأمره بأن يذهب إلى السوق لشراء حفائظ الأولاد، وكأن القيامة قد قامت.
رغم أن الناس منذ آدم إلى قبل عشر سنوات لا يعرفون حفاظات الأولاد، وما ظهرت إلا منذ الأيام القريبة، لكن انهزامية الناس أمام ضغط هذه الأشياء جعلت كل شيء ضروري، لكن الضروري حقيقةً ثلاثة أشياء: أولاً: الهواء.
ثانياً: الماء.
ثالثاً: الغذاء.
فقط هذه؛ لأن على هذه الثلاثة مدار حياة البشر، إذ لا يستطيع الإنسان أن يعيش بغير الهواء لحظة واحدة، ولا أن يعيش بغير الماء فترة معينة، ولا بغير الغذاء فترةً أطول، لكن بغير هذه الثلاث يمكن أن يعيش الإنسان، بل يمكن أن يعيش بدون كساء، فيستر عورته بأوراق الشجر، وينام في الكهوف، ويستظل بالأشجار، ويسير على قدميه حافياً، فإذا وُجد الماء والهواء والغذاء وجدت الحياة، وإذا انعدمت هذه الثلاثة الضرورية انعدمت الحياة.
لكن هل الإيمان والتدين والالتزام ضروريٌ للبشر كضرورة هذه الأشياء الثلاث؟ هل الإيمان -تنبه لهذا السؤال- والدين والعيش على منهج ضروري للإنسان كضرورة هذه الأشياء الثلاث، بحيث إذا لم يتوفر الإيمان في حياة الإنسان مع هذه الثلاث تصبح الحياة غير ممكنة؟! قبل الإجابة على هذا السؤال يجب أن نناقش الموضوع بعقلية وبمنطق.
هذه الضرورات الثلاث من أين نتجت حتى أصبح الإنسان لا يمكن أن يعيش بدونها؟(39/2)
الضرورة الأولى: الهواء
الهواء يحيط بالإنسان من كل جانب، ويسير معه في كل مكان، تدخل المسجد تجد الهواء أمامك، تركب السيارة تجد الهواء في انتظارك، تخرج إلى الشارع تجد الهواء يلامسك، تركب في الطائرة تجد الهواء معك، تدخل في غرفة النوم كذلك هو معك، وتدخل دورة المياه والهواء معك، أينما دخلت والهواء يحيط بك من كل جانب، لماذا؟ لأنك لا تستطيع أن تعيش بغير الهواء، فجعل الله الهواء معك في كل مكان، ولو أنه انحبس عنك لحظة واحدة لمت! بينما هذا الهواء تحصل عليه بالمجان.
هل سمعتم أحداً يقول: أعطني كيلو هواء؟ ما ظنكم لو أن الهواء الذي يعيش الناس عليه يشترى بمال، لو حصل هذا لمات أكثر البشر الذين ليس لديهم مال، أو كان من معه هواء يحمله في قربة أو برميل فوق ظهره، وما عمله إلا مراقبة العيار متى ينتهي الهواء، لكن الله جعل الذي هو أغلى شيء في الوجود مجاناً، وهذه نعمة من الله عز وجل، وما سمعنا إنساناً يبيع الهواء أو يشتري الهواء، طبعاً لا تحتجون عليّ بهواء الإطارات الذي عند البنشر، فتقولون لي: نشتري هواء ونعبأه بثمن، لا.
حتى هواء الإطارات مجاناً، فأنت عندما تقف عند صاحب بنشر، فتعاير الهواء وتزيد وتنقص لا تعطيه إلا ريالاً، وإذا أعطيته ريالاً قال لك: استحِ على وجهك، هذا هواء كيف نبيع الهواء؟ وأذكر مرة من المرات في بداية حياتي أني اشتريت سيارة، وما كنت أعرف شيئاً عن السيارات، كنت أعرف فقط أقود، وفي يوم من الأيام حصل في سقف السيارة أن انحلت بعض (الصواميل) وما رأيتها؛ لأنها مغطاة من الداخل باللباس، فاشتكيت إلى أحد السائقين القدامى، فقلت له: يا أخي! عندي قعقعة في سقف السيارة ولا أدري ما سببها؟ فقال لي: هل غيرت الهواء؟ قلت: هواء ماذا؟ قال: هواء الإطارات.
قلت: لا والله ما غيرته.
قال: من متى لم تغيره؟ قلت: السيارة معي منذ سنة.
قال: قل: لا إله إلا الله! سنة كاملة وما غيرت الهواء!! والزيت كذلك ما غيرته؟ قلت: لا.
الزيت كل (2000كم) أغيره.
قال: جيد، الحمد لله تداركتها، لكن لا بد لك من تغيير الهواء.
يقولون: إن الهواء يخزن داخل الإطار، وعندما يدور الإطار باستمرار يفسد الهواء، فيحصل قعقعة في السيارة، فأخذت كلام الرجل على محمله، وذهبت إلى صاحب البنشر وأوقفت سيارتي وقلت له: غيَّر الهواء؟ فنظر الرجل إلي نظرة استغراب وقال: ماذا بك؟ قلت: غيَّر الهواء.
قال: هواء ماذا؟ قلت: هواء الإطارات.
قال: أنت مجنون أم عاقل؟! قلت: أنت المجنون، غيّر الهواء فقط، فتركني وأدبر عني، وأنا من بالغ الاعتداد بنفسي ذهبت إلى الإطارات وفككت الإبر وفرغت الهواء كله على الأرض، وبعد ذلك أتيت (باللي) وعبأت الهواء وأرجعت الإبر وسلمته النقود، أعطيته ريالاً، فأخذه؛ لأنه قال: مجنون، نأخذ الريال من مجنون ولا نتركه له.
وبعد ذلك مشيت بالسيارة في أول تجربة وإذا بالقعقعة هي هي، فذهبت إلى الرجل، فقلت: يا أخيّ غيرت الهواء وما ذهبت القعقعة، قال: وغيرته!! قلت: نعم.
فجلس يضحك عليّ ويضحك معه من حوله.
الشاهد في الموضوع أن الهواء أغلى ما في الوجود، ومع هذا لا يباع ولا يشترى وإنما هو مجاناً، ولو كان الهواء يباع لمات كثير من البشر؛ لأن على الهواء مدار حياة البشر، ولا يستطيع البشر أن يستغنوا عنه لحظة واحدة، فجعله الله مجاناً، وجعله في كل مكان وفوق كل أرض، وتحت كل سماء، وفي أي مكان في الدنيا لا تدخل إلا والهواء معك يحيط بك من كل جانب، هذه ضرورة واحدة.(39/3)
الضرورة الثانية: الماء
الماء عليه مدار الحياة، يقول الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30].
ولكن ضرورة الإنسان للماء أقل من ضرورة الإنسان للهواء، إذ يستطيع الإنسان أن يعيش بغير ماء أسبوعاً كاملاً، وفي المناطق الباردة يعيش أسبوعين، لكنه لا يستطيع أن يعيش لحظة واحدة بغير هواء، ولذا لم يجعل الله الماء مُلابساً للإنسان يخرخر فوق رأسه أينما دخل وأينما خرج، ولو جعل الله الماء في هذا الوضع لمات البشر، ولكن الله جعل الماء ينزل من السماء بِقَدر، يقول الله عز وجل: {يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى:27].
وإذا نزل هذا القَدْر من السماء على الأرض لا يجعله الله راسياً، فلو أنه شكل بحيرات ومستنقعات في الأرض لفسدت الحياة ولنمت الجراثيم، ولَجلبت العلل والأمراض، لا.
إنما يفتح الله الأرض لهذا الماء فيسكن في بطنها، لا يسكن في أعماقها وإنما قريباً من السطح، ولو جعل الله الأرض تمتص هذا الماء، لذهب إلى أغوار الأرض البعيدة ولحُرم منه الناس ولم يستفد منه أحد، ومات كل من على ظهر الأرض، ولكن الله عز وجل جعل الأرض تمتصه حتى لا تفسد الحياة بوجود الماء على ظهرها، فتمتصه ويختزنه الله عز وجل للناس في الطبقة العليا من الأرض، يقول الله عز وجل: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18] ويقول: {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر:22].
والماء لديه قدرة عظيمة على اختراق الأشياء، فإذا وجد مثل خرق الإبرة في أي إناء فإن الماء يخرج منه، لكن من الذي حفظ لك أيها الإنسان داخل الأرض بين الشقوق والشعاب والحفر والحجارة، فتجده موجوداً لا ينقص؟! أنت تأخذ وهو يزيد من عند الله تبارك وتعالى، هذه نعمة من نعم الله عز وجل.
فجعل الله الماء موجوداً، لكن الحصول عليه يكون بمشقة، تحفر بئراً، أو تذهب إلى البحر فتجري تكريراً لمياه البحار، وبعد ذلك تأخذ منها الماء العذب وتترك الماء المالح، المهم أنه موجود لكنه بجهد، وليس بغالٍ، فالماء من أرخص وأكثر الأشياء في الأرض، بل إن ثلاثة أخماس الأرض ماء، وخُمسين من الأرض يابس، مع ما في بطن اليابس من المياه الغزيرة التي نحن من فضل الله في هذه البلاد نعيش عليها، ليس عندنا أنهاراً، ولكن جميع حياتنا الزراعية قائمة على مياه الأرض الباطنة، التي امتصت من مئات السنين من الأمطار التي تنزل إلى الأرض، ثم تسير على شكل وديان تمتصها الأرض وتحتفظ بها، إلى أن جاء الإنسان واستطاع بفضل الله عز وجل أن يصل إلى أعماق الأرض ويسحب هذه المياه، ويحول هذه الصحاري إلى مزارع وبساتين وجنان، وهذه كلها من نعم الله على الإنسان.(39/4)
الضرورة الثالثة: الغذاء
الغذاء أقل ضرورة من الماء، إذ بإمكان الإنسان أن يصبر على الغذاء فترة أطول من فترة صبره علىالماء، فللإنسان قدرة على أن يعيش شهرين بدون غذاء ولا يموت، لكنه لا يستطيع أن يصبر فترة طويلة عن الماء مثل الغذاء، ولذا جعل الله الغذاء موجوداً في الأرض بمشقة أكبر من مشقة الماء، عن طريق حرث الأرض، ثم سقيها وبذرها ثم انتظار الثمر حتى يظهر، ثم حصده، ثم طحنه وخبزه وأكله، فلا يُأكل هذا القرص حتى يُتعب عليه كثيراً، ولكنه موجود.
هذه الضرورات الثلاث هي ضرورات البشر.(39/5)
ضرورة الإيمان والدين للبشر
الضرورة الرابعة التي سنتحدث عنها ونسأل أنفسنا عنها، وهل هي ضرورية مثل الهواء والماء والغذاء أم لا، هي: ضرورة الإيمان والدين، فهل هي ضرورة حقاً؟ بالعاطفة كل شخص منا سيقول: نعم.
الدين ضروري مثل الهواء والغذاء والماء، لكننا حينما نضع الإنسان على محك العلم والتجربة نجد أنه ليس عنده علم يثبت له أن الإيمان والدين ضروريٌ للإنسان كضرورة الغذاء والهواء والماء، بدليل أن معظم البشر الآن في الأرض يعيشون بلا دينٍ وبلا إيمانٍ، ولا يشعرون بأن الإيمان والدين ضروريٌ لهم.
وحتى نجيب إجابةً علمية دقيقة على هذا السؤال يجب أن نسأل أولاً: ما هو الإنسان؟ وما هي مادته وأصل تكونيه؟(39/6)
مادة البشر المكونة لأصلهم
سوف نتعرف على هذه الضروريات من خلال التكوين، وإذا أردنا أن نسأل عن الإنسان، فإن أعظم من يجيبنا على أسئلتنا هو خالق هذا الإنسان، وهو الله عز وجل: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
من الذي خلق الإنسان؟ إنه الله، فهو أعلم بأسرار الإنسان وبمادته، وبما يصلحه ويفسده، وأعلم بما هو ضروري له، وبما ليس ضرورياً له، فالذي يتحدث عن الصنعة صانعها، والله عز وجل هو خالق الإنسان، ولم يقل أحد في الدنيا بأنه هو الذي خلق الإنسان، والله سألهم في القرآن وقال لهم: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36] فهم لم يُخْلقوا من غير شيء وليسوا هم الخالقين، ولم يخلقوا السماوات والأرض، فتعين أن يكون لهم خالق وهو الله تبارك وتعالى، يقول عز وجل: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:1 - 2].
فالذي خلق الإنسان هو الله عز وجل، ولذا نسأل ربنا تبارك وتعالى: مم خلق الإنسان؟ وما هي مادة تركيبه؟ وقد أخبرنا الله في القرآن الكريم أن الإنسان مخلوقٌ من عنصرين، ومركبٌ من مادتين: عنصر طيني أرضي، وعنصر روحي سماوي، يقول عز وجل: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} [ص:71] هذا العنصر الأول: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:72] فأخبر الله عز وجل الملائكة أنه سوف يخلق بشراً من طين، ولهذا لما حللوا عناصر الطين، وحللوا عناصر الذرة من الإنسان، وجدوا أن الإنسان يتكون من ستة عشر عنصراًً هي الموجودة في الطين.
فمجموعك أيها الإنسان من ستة عشر عنصراً: فيك الحديد، والماغنسيوم، والملح، والماء، وكل شيء موجود في خلية الطين التي أنت مكون منها.
هذا العنصر الأول.
{إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} [ص:71 - 72] وجاء العنصر الثاني المهم؛ لأن العلماء يقولون: إن الله ما أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم بعد خلق عنصره الطيني، بل أمرهم بالسجود له بعد نفخ الروح فيه، لماذا؟ لأنه كلمه بالروح.
: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:72] فالسجود جاء بالأمر من الله عز وجل للملائكة أن تسجد لآدم بعد نفخ الروح فيه، لماذا؟ قال العلماء: لأن الروح هي الكريمة في الإنسان، بدليل أن الإنسان إذا مات وخرجت منه روحه فإنه لا يبقى لجسده قيمة أبداً، رغم أن العين موجودة والأذن، والرئة والجهاز التنفسي والهضمي والتناسلي والهيكل العظمي وكل الأجهزة موجودة، لكن لما خرجت الروح لم يبق لكل هذا قيمة، فمن يشتري هذا الجسد بريال واحد؟ لا أحد يشتريه، بل يتخلص الناس منه في أقرب فرصة، حتى إن أحب الناس إلى هذا الجسد يتولى سرعة تجهيزه، ويدق على الناس ويقول: لا نريده أن يبيت إلا في قبره، فلا يريده أن يبات معه ليلة واحدة.
وإذا مات الناس في عمليات زرع الأعضاء، فإنهم يأخذون القلب من الإنسان الميت ويزرعونه في إنسان لم تخرج الروح من قلبه فيعيش هذا الإنسان، فلماذا وقف القلب في هذا الجسد وعمل في الجسد الثاني؟ لماذا لم يظل عاملاً مادام أنه سليم؟ لماذا لم يستمر في عمله؟ لأن الحياة ليست في الجسد وإنما في الروح، وما دام أن الروح قد خرجت فإن القلب يتوقف، فينقل القلب من جسدٍ قد ذهبت منه الروح إلى جسدٍ لا تزال الروح فيه فيعمل هذا القلب.
وعملية زرع الكلى -أيضاً- وهي: أن تأخذ الكلية من مريض قد مات وتوضع في جسد آخر حي فتعمل؛ لأن هناك مشغلاً لها وهي الروح، فالحياة ليست في الكلى ولا القلب، ولا الرئة ولا جميع أجزاء الجسد، بل هي في الروح، والله تبارك وتعالى يقول: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [ص:72] فالروح بمنزلة الراكب، والجسد بمنزلة المطية أو المركوب، ودائماً الكرامة والشرف للراكب لا للمطية، وما نفعله الآن هو تكريم المركوب والمطية وتركنا الراكب عند الباب.
فلو أنك نزلت ضيفاً على مطيتك إلى أحد إخوانك أو أرحامك، وبدلاً من أن يدخلك إلى المجلس ذهب بك إلى الاصطبل التابع للمواشي، وأدخل المطية في المجلس وأعطاها القهوة والطيب والعشاء، بينما أرسل لك أنت بكرتون من العلف، ولم يضئ لك الإصطبل، ولم يجهز لك الفراش، ثم بقيت إلى نصف الليل وأنت تنتظر فقلت له: ما بك يا أخي؟! قال: المطية وضعناها في المجلس! فهل تغضب أم ترضى؟ بالطبع تغضب وتقول: يا أخي! المطية أحضرها مكاني، وأنا ضعني في المجلس.
فنحن الآن عكسنا الآية، نكرم الجسد الذي هو المطية، فالثوب الجيد، والعمارة الجيدة، والأكل الجيد، والعلاج، وكل شيء حسن للمطية، بينما الروح التي فيها الحياة مقتولة عند كثير من الناس، تعطى السم الأحمر الزعاف، وتتغذى على أسوأ الأغذية، وتسمع أسوأ ما يمكن أن يُسمع، وتقرأ أسوأ ما يمكن أن يُقرأ، تقرأ المجلات والقصص والخزعبلات، وتشاهد الأفلام، وتنظر إلى الجنس والخرافات، أي: تعيش على أرذل ما يمكن أن يُعاش عليه! فتعيش الروح مقتولة والجسد منعم، فلو اشتريت صندوق برتقال ووجدت فيه حبة فاسدة أو معطوبة، فإنك ترمي الصندوق كله، لماذا؟ تقول: طعام فاسد لا نستطيع أن نأكله، ولو اشتريت علبة لبن منتهٍ تاريخها فإنك ترميها، وأي شيء يسبب لك ألم في جسدك فإنك لا تتناوله، حسناً! وروحك إذا كان طعامها فاسداً؟ لا تجد أحداً يسأل عن صحة الطعام، هل هو سليم مائة بالمائة أم لا، بل يتعمد معظم الناس إلى شراء الأطعمة الفاسدة لعلل أرواحهم وقلوبهم، فيعيش أكثر الناس -والعياذ بالله- مريضاً في قلبه، لماذا؟ لما يتناوله من الطعام الفاسد؛ لأن صحة الأجسام والأرواح إنما تبنى على الغذاء الذي يقدم لها، فإذا كان الغذاء صحيحاً سليماً صحت الأجساد، وإذا كان غذاء الأرواح سليماً صحت الأرواح.
فالناس الآن مهتمين بجانب الغذاء الجسدي على حساب غذاء الروح.
فأنت أيها الإنسان! إن أردت أن تعيش حياةً سعيدةً، فأنت مطالب بأن تكون لك حياتين: حياة لجسدك، وحياة لروحك، حتى تكون إنساناً سوياً، فلو أنك عشت حياة روحية بدون جسد فلست إنساناً، ولو أنك عشت حياة جسدية مادية بدون روح فلست إنساناً.
إذاً من الإنسان؟(39/7)
حاجة البشر للدين والإيمان
الإنسان الذي خلقه الله مكون من عنصرين: نفخة من الروح، وقبضة من التراب، هذا هو الإنسان، ويجب عليه إن أراد أن يعيش إنسانيته في أكمل صورها، وأعلى درجاتها أن يلبي لكل عنصرٍ متطلباته، ومتطلبات الجسد معروفة وهي: الغذاء الذي نأكله، والهواء الذي نشمه، والماء الذي نشربه، أما حياة ومتطلبات الروح ما هي؟ أهي غذاء؟ هل يمكن لشخص أن يأكل برتقالة أو تفاحة لروحه، أو أن يضع روحه على سرير، أو تحت مكيف، أو يتمشى بها في سيارة، أو يُسكنها في عمارة؟!! لا.
غذاء الروح من أصل الروح، لذلك لما كان الجسد من الأرض كان غذاؤه منها، فالماء يخرج من الطين، والهواء يخرج من الأرض، والغذاء يخرج من الطين.
كذلك الروح لما كانت عنصرها سماوي كان لها غذاء سماوي، ألا وهو الإيمان، فالدين هو غذاء الروح، فإذا أردت أن تعيش حياةً متكاملة لجسدك ولروحك لزمك أن تعطي جسدك غذاءه، وهو: الهواء والماء والغذاء، وأن تعطي لروحك غذاءها وهو الإيمان.
أيصبح بعد ذلك الإيمان ضرورياً أم غير ضروري أيها الإخوة؟! ضروري لا شك، لا بد مثلما أنك توفر الماء والغذاء والهواء لجسدك أن توفر الإيمان لروحك؛ لتحيا حياةً كاملة تكون بها إنساناً، فالله قد أخبرك أنك إنسان، وأنه خلقك بطريقة تختلف فيها عن جميع المخلوقات: خلقك بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلم أباك آدم الأسماء كلها، وبعد ذلك أنزل إليك كتباً، وأرسل إليك رسلاً، ودعاك إلى الجنة وطاعته، وحذرك من النار ومعصيته.
فأنت مخلوق مخاطب بشكل خاص من بين سائر المخلوقات، وجميع المخلوقات مسخرة لك، يقول الله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية:13] فجميع ما في السماوات والأرض كله مسخر لخدمتك، ليس هناك ذرة في الكون إلا ولك مصلحة فيها أيها الإنسان علمتها أو لم تعلمها، وأنت لمن؟ لله.
فإذا احتقرت أيها الإنسان نفسك ولم تعرف من أنت، فإنه يصعب عليك أن تعرف هل الإيمان ضروري أم غير ضروري، والذين عرفوا الإنسان من هذا المنطلق ومن هذه الزاوية بعد علمهم بكتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرفوا أنه لا يمكن أن يعيش إنساناً سوياً إلا بتأمين غذائه وتكميل حياته؛ حياة الجسد وحياة الروح، فحرصوا على توفير متطلبات الجسد، ومتطلبات الروح، والذي يوفر متطلبات جانب على حساب آخر فقد أخطأ ولا شك.
فلو أنك خرجت من دوامك أو مدرستك الساعة الثانية والنصف، ودخلت على زوجتك وقلت لها: أنا جائعٌ سأموت جوعاً، عجلي بالغداء، فقالت: لا يوجد لدينا غداء اليوم، ولكن اقرأ هذا الحديث وتغدى به، أو اسمع هذا الشريط وسوف تشبع، هل يمكن لقراءة الحديث أو سماع الشريط أو قراءة آية أن تشبعك، لا.
فالحديث والشريط والآية والقرآن غذاء لروحك، أما بطنك فلا يسدها إلا الأكل ولا يسدها الكلام، فلا بد من غذاء لجسدك غير غذاء روحك، وكذلك الذي يكون قلبه ميت، وروحه منهارة ومنهزمة، فيقول: سأنعِّم روحي بتمشية إلى أوروبا أو بفسحة إلى بلاد الشرق، أو بأكلة، أو بتمشية على شاطئ البحر، أو بنومة على السرير في مكان جميل هذا كله لجسده، أما الروح فستبقى في عذاب حتى يقدم لها غذاءها الحقيقي، ألا وهو الإيمان بالله عز وجل، والخضوع لشريعة الله، والتمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(39/8)
نفع الإيمان لأهله
إن الذين عرفوا الإنسان بهذا المفهوم قالوا: إن الإيمان ضروريٌ للإنسان بل هو أعظم من ضرورة الغذاء والماء والهواء، إذ أن الإنسان إذا عاش على الإيمان والدين وحيت ودبت الحياة في قلبه وروحه، ثم فُقد الهواء أو الغذاء في مجاعة -مثلاً- أو الماء ومات الإنسان وهو مؤمن فإنه يدخل الجنة، لكن إذا عاش على الهواء والغذاء والماء وجميع متطلبات الدنيا وليس عنده إيمان، وانتهت أيامه ومات فإنه يذهب إلى النار.
إذاً: ضرورة الإيمان لا نستطيع أن نجعلها في مصف هذه الضرورات، أي: من الظلم وعدم الإنصاف أن نقول: إن الإيمان ضروري للإنسان كالهواء، لا.
بل ضروري للإنسان أعظم من ضرورة الهواء؛ لأنك بغير الهواء تموت وتنتهي، وإذا لم يكن لديك إيمان حال الموت فإنك تدخل النار، يقول الشاعر:
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شيء
وأهل النار الذين تمتعوا في الدنيا بأجسادهم، وكانوا في ملك، وسلطان، وأبهة، وأموال، ورغد من العيش، عندما يدخلون النار يتمنون العودة، ويقولون كما قال الله: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:27] ثم يتذكر ما الذي أشغله عن حياة قلبه، وإذ به ملكه وماله، فيقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29].
كان مهتماً بملكه وماله عن روحه، فروحه في عذاب وبعد عن الله، لا يعرف لله مسجداً، ولا يقرأ لله كتاباً، ولا يقيم لأوامر الله وزناً، بل مهمل لهذا الجانب في حياته، فلما أفلس وكتبت أمامه الحسابات، ورأى أنه ليس لديه شيء ينفعه من مالٍ ولا ملك قال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] فيقول الله للملائكة: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32] وكأن سائلاً يقول: لِمَ يا ربِّ؟ قال: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة:33].
أي: لم يكن عنده الغذاء الإيماني، والذي هو الضرورة الأهم! نعم.
كان عنده ملك وأموال وأولاد وجاه، وكان عنده عافية وصحة، كان عنده كل ما في الدنيا، لكن لم يكن عنده إيمان، فهل نفعته هذه الأموال؟ هل حالت أو دفعت عنه هذه المنزلة؟ لا.
فهل الإيمان ضروري كضرورة الماء والغذاء والهواء أم لا؟ نعم.
بل أهم.(39/9)
ثمار الإيمان وآثاره في الحياة الدنيا
دائماً الضروريات، والأهميات تأتي من آثار الشيء، فما هو أثر الإيمان على الإنسان المؤمن حتى نقول: إن الإيمان ضروري؟(39/10)
الأمن والاطمئنان والسعادة
قلنا: إن الهواء ضروري؛ لأن أثره واضح، ولذا تجد الناس الآن يرجفون خوفاً من الكيماوي، والمزدوج، والخردل، رغم أن الحياة ليست بيد الكيماوي، فالذي يحيي ويميت هو الله.
ولكن عندما يذهب الإيمان من قلوب الناس فسوف يتصورون أن الذي يحيي ويميت هو صدام، وأنه إذا أطلق الصواريخ ووصلتنا فسوف نموت، وهذا معتقد كثير من البشر، مسكين صدام هذا، من هو؟ هل هو إله في الكون؟ لا.
بل ذرة وحشرة من حشرات الدنيا، لا يملك في الكون مثقال ذرة.
من الذي بيده مقاليد الأمور؟ من الذي يحيي ويميت؟ من الذي يقيم الحروب ويطفؤها؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو، فإذا علقنا قلوبنا بالله عن طريق الإيمان به والخضوع لشريعته، والتوكل والاعتماد عليه، والعلم بأنه المعطي المانع النافع، وأنه الضار المحيي المميت، وأنه يعطي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، إذا اعتقدنا هذه العقيدة في قلوبنا، فوالله لو وقفت كل الدنيا أمامنا لن نخاف إلا من الله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} [آل عمران:173 - 174] لماذا؟ لوجود الإيمان.
أما المنافق الذي ليس عنده إيمان: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4] {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران:156] وقال الله: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] ويقول: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} [النساء:78].(39/11)
تحويل المصائب إلى نِعم
تأتي الضرورة للشيء من آثار الشيء، فنحن نحتاج إلى الهواء ونقول: ضروري لأن عليه مدار الحياة، ونحتاج إلى الماء؛ لأن عليه مدار الحياة، ونحتاج إلى الغذاء؛ لأن عليه مدار الحياة، لكن الإيمان ليس مدار الحياة الدنيا فقط، بل عليه مدار السعادة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فهو أعظم ضرورة من الهواء والغذاء والماء، كيف؟ أولاً: لأن الإنسان في هذه الدنيا لا يخلو من حالتين: إما نعماء أو ضراء.
وبغير الإيمان في النعماء يكفر وفي الضراء يضجر، فإذا أصابته نعمة بطر وتكبر وطغى، ولم ير إلا نفسه، وظن أن الناس كلهم غير موجودين إلا هو، وإذا أصابته ضراء في غير الإيمان يضجر، ويسخط، ويضعف، ويتلاشى، وتظلم الدنيا في وجهه، حتى إن بعضهم يموت داخل نفسه مما عليه من المصيبة، يموت وتكفهر الدنيا في وجهه، ويعيش حياةً لا يمكن أن يعيشها بشر، لماذا؟ لعدم وجود الإيمان، لكن إذا وجد الإيمان في القلب فالنعماء تتحول إلى نعمة، والضراء تتحول إلى منحة، فالنعماء إذا جاءت للمؤمن سخرها في طاعة الله، واستعان بها على ما يحبه الله ويرضاه، ولم يبطر ولم يكفر ولم يفجر ولم يتعاظم ولم يستكبر، وإنما استعان بكل ما آتاه الله عز وجل من نعم في طاعة الله، فتصبح النعمة له منحة؛ لأن الله يقول: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:145].
وإذا أصيب المؤمن بمصيبة ونظر إليها وإلى حجمها وضخامتها، ثم تذكر أن الله عز وجل إنما يبتليه ليرفع درجته، ويعلي منزلته ويثيبه عليها صبراً لها، وتلقاها بصدرٍ رحب وفرح بها، يقول تبارك وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155] من هم (الصابرين)؟ إنهم أهل الإيمان {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157].
تجد المؤمن عندما يموت ولده ويتذكر أن الله أعد له في الجنة قصراً سماه (بيت الحمد) فيقول: الحمد لله، ويحمد الله من قلبه، وتكون هذه الكلمة على قلبه مثل الثلج النار تضطرم في سويداء قلبه حزناً على ولده، لكنه يتذكر القصر الذي أعده الله له في الجنة، فيقول: الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون، إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى: (إذا قبضت الملائكة روح عبدٍ مؤمن، قال الله لملائكته: قبضتم فلذة كبده؟ قالوا: نعم.
فيقول الله: ماذا صنع؟ فيقولون: حمدك واسترجع -قال: الحمد لله، وإنا لله وإنا إليه راجعون- فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد).
ومن كان له بيت في الجنة لا يدخل النار.
فهذه بشرى، فمن له بيت في الجنة لا يدخل النار إلا إذا كان الخراب منك أنت، بنيت بيتاً لكنك رفضت أن تدخله، وذهبت إلى الدار الأخرى، فإذا بنيت بيتاً في الجنة بأن صبرت على مصيبة فقد ولدك، أو بنيت لله مسجداً، وقد جاء في الحديث: (من بنى لله مسجداً بنى الله له قصراً في الجنة) فأنت عملت بأعمال الدين حتى أدخلك الله الجنة، ثم أنت تخالف وتضع الموانع والعوائق والمنغصات، وتحول بينك وبين دخول الجنة، فالسبب والخلف جاء منك وليس من الله عز وجل.
فالإيمان ضرورته تأتي من أنه يحوِّل لك النعمة إلى نعمة، والمصيبة إلى نعمة، فتعيش -أيها الإنسان- في نعمة طوال حياتك، فإذا كنت فقيراً وأنت مؤمن تقول: الحمد لله الذي زوى عني الدنيا، والله لا أريدها، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لو أردت الدنيا لسارت الجبال معي ذهباً وفضة، ولكن أريد أن أشبع يوماً وأجوع آخر) فإذا شبعت أو جعتَ حمدت الله عز وجل، فالفقر بالإيمان يصير نعمة، فإذا كان الفقير مؤمناً فلا تراه إلا متفرغاً لطاعة الله، تالياً لكتاب الله، عامراً لبيوت الله، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، محباً في الله، يزور إخوانه في الله، يقوم الليل، يصوم أكثر الدهر فهذا الفقر كان سبباً في دخوله الجنة.
فهو نعمة.
لكن إذا كان الفقير ليس عنده إيمان -والعياذ بالله- فهو مثل فقير اليهود.
لا دين له ولا دنيا! أولاً: يتقطع قلبه وتذهب نفسه حسرات عندما يرى سيارة تعرض، أو عمارة تقوم، أو أرضية تُشترى، أو دكاناً يُباع، فيعترض على قضاء الله وقدره: لماذا الله أعطى هذا؟ ولماذا لا أكون مثلهم؟ فلان لديه سيارة وأنا ليس لدي سوى رجلين، ومعه عمارة وأنا أسكن في كوخ، فيتقطع قلبه، وبعد ذلك يملأ وقته بمعصية الله، تجده في المقاهي وبين المخدرات؛ لأنه ليس عنده شيء، وتجده -والعياذ بالله- في الأسواق وعلى الأرصفة، والأفلام، والسفر إلى الخارج بالباطل، لماذا؟ لأنه فقير فاجر -والعياذ بالله- لكن لو أنه مؤمن لكان فقره هذا سبب نجاته من عذاب الله.(39/12)
تكفير الخطايا بالصبر على البلاء
إذا مرض الإنسان وهو مؤمن تذكر أن هذا المرض ابتلاء من الله عز وجل؛ وفي الحديث: (إن من الذنوب ذنوباً لا تكفرها الصلاة، ولا الصيام، ولا يكفرها إلا طول البلاء) (وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، كلما كان في دينه صلابة زيد في بلائه) فالله عز وجل لا يظلم الناس مثقال ذرة.
الآن ترى بعض الكفار مثل الحمار، متعافٍ في عضلاته، وتجد بعض المؤمنين نحيلاً، مريضاً، يسعل وعنده ربو، هل لأن الله يحب هذا الكافر أعطاه العافية، ولأنه لا يحب المؤمن أعطاه المرض؟ لا.
ولكن ليرفع الله درجة المؤمن بمرضه فيُكَفِّر عنه خطيئته، حتى يصل إلى الله عز وجل ولا خطيئة له.
فالمؤمن قد يسير على الأرض قبل الموت ولا خطيئة له بأسباب البلايا، حتى قال عليه الصلاة والسلام: (حتى الشوكة يشاكها الرجل في الإسلام يثاب عليها) عندما نزل قول الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8].
قال أبو بكر رضي الله عنه: (يا رسول الله! أعلى مثاقيل الذر نحاسب؟ قال: يا أبا بكر! ألست تحزن؟ ألست تمرض؟ قال: نعم.
قال: يكفر الله بها ذنبوك).
إذا عملت من الذنوب شيئاً فإن الله يكفر عنك هذه الذنوب بما ينالك فإذا مرضت وأتتك حمى، وأتاك ألم أو حصل لك أي ألم في أي جارحة من جسمك، وتذكرت أن الذي أمرضك هو الله تبارك وتعالى، وأن الله ما أراد بهذا المرض إزعاجك أو تعذيبك، وإنما أراد تطهيرك، ورفع درجتك، وتكفير خطيئتك فتحمد الله، تقول: الحمد لله.
حتى إن بعض المرضى الآن يحمد الله أكثر من المتعافين، فإذا سألت المتعافي فقلت له: كيف حالك؟ قال لك: طيب، وتسأل المريض: كيف أنت؟ فيقول لك وهو مريض: الحمد لله، لماذا؟ لأن الإيمان جعله هكذا، لكن إذا كان مريضاً ولم يكن عنده إيمان -والعياذ بالله- انتابه السخط، وأتاه الوهن، وأتته الهموم من كل جانب، وتصور الموت في كل طريق، تجده يقرأ جميع الصفحات الطبية، ويشتري جميع الأدوية ويقول: هذا يفيد كذا، وهذا يضر كذا، وأنا ذهبت إلى المستشفى الفلاني، وأنا مرضت ويعيش طوال حياته في أوهام، لماذا؟ لأنه ليس عنده إيمان، أما الذي عنده إيمان فإنه لا يفكر أبداً في هذه الأشياء؛ لأنه يعرف أن المرض لا يميت، وأن الذي يميت هو الله، والذي يعافي هو الله، ليس المرض والعافية، وأن الطبيب يكتب الدواء، بينما لا يستطيع أن يعالج نفسه.
أما ترون الأطباء يمرضون ويدخلون المستشفيات ويموتون، إذاً لماذا لا يمنع الطبيب نفسه من المرض؟
قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض من أرداك
قل للمريض شوفي وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاك
يا أيها الإنسان مهلاً ما الـ ـذي بالله جل جلاله أغراك
أفإن هداك بعلمه لعجيبة تزور عنه وينثني عطفاك
ذقت الهوى مراً ولم أذق الـ ـهوى يا رب حلواً قبل أن أهواك
دنياي غرتني وعفوك غرني ما حيلتي في هذه أو ذاك
فإذا وجد الإيمان والإنسان مريض، كان هذا المرض نعمة، وإذا عدم الإيمان والإنسان مريض، كان هذا المرض نقمة -والعياذ بالله- فالإيمان ضروري؛ لأنه يحوِّل جميع المحن والأمراض والفقر والمصائب إلى نعم، ويحوِّل جميع النعم إلى العافية.
إذاً: عندما يكون الإنسان متعافياً ولديه جسد قوي، وعضلات قوية، وعنده إيمان، فإنه يستخدم هذه القوة العضلية في طاعة الله، فلا تراه إلا ماشياً إلى المساجد، أو مجاهداً في سبيل الله، أو سائراً في طريق الخير، فيستعين بهذه القوة في طاعة الله؛ لأن جسد مبني على إيمان، أما إذا كان لديه جسد قوي وعضلات قوية ولكنه فاجر، فإنه يعتدي بهذه القوة على حرمات الله، ويستخدمها في معصية الله، تراه يعتدي بها على أولياء الله، ويؤذي بها عباد الله، فأصبحت العافية في حقه سبباً لعذابه في الدنيا، ونكاله -والعياذ بالله- في الدار الآخرة.
فهذه ضرورة الإيمان في الدنيا قبل الآخرة.(39/13)
من ثمار الإيمان: تحديد الاتجاه والمسار في الحياة الدنيا
أيضاً ضرورة الإيمان في الدنيا تأتي من أنه يحدد مسارك أيها المكلف، ويرسم اتجاهك، ويجعل لك خط بداية ونهاية، ويجعل لك أيضاً خطة عمل في الدنيا، فما هو عملك؟ طاعة الله، وبعدك عن معصية الله، أين أذهب اليوم؟ أذهب إلى عملي، ومن العمل إلى بيتي، ومن البيت إلى المسجد، ومن المسجد إلى السوق لشراء أغراضي، هناك عمل آخر بعد ذلك؟ نعم.
زيارة رحم، أو أخ في الله، أو والدين، عمل خير، حضور مجلس علم، المهم مصلحة في الدين أو الدنيا، فإن لم يكن هناك مصلحة في دين أو في دنيا أجلس في بيتي، هذه خطة عمل المؤمن، من الذي رسمها لك؟ إيمانك بالله، لكن بغير الإيمان والدين لا يكون عند الإنسان خطة عمل، فلا يدري أين يتجه، ترمي به الرياح في كل اتجاه، وتخطفه الشياطين في كل مكان، وبعد ذلك يمشي مُكباً على وجهه، لا يدري إلى أين يتجه ولا إلى أين يذهب، يقول الله عز وجل: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22].
فإذا سار الإنسان على غير هدى واتجاه وقع، وما أكثر من يقع في متاهات هذه الحياة وظلماتها وفتنتها ومشاكلها، يقتل نفساً بغير حق بسبب عدم إيمانه وخوفه من الله، رفقة سوء أخذوه إلى مكان وحصلت هناك مشكلة فقتل -والعياذ بالله- ويزني فيقع في جريمة ليس بعدها جريمة: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] بسبب قرناء السوء، وعدم وجود الإيمان الحاجز له عن معصية الله، يرابي، يسرق، يبيع المخدرات أو يروجها أو يتعاطها أو يهربها، يفتك بأعراض المسلمين، يعمل الجرائم، لماذا؟ لأنه ليس عنده إيمان يحجزه، ولو كان عنده إيمان ما فعل هذه الجرائم.
ولذا لو أجريت إحصائية، أو زرت أماكن السجون الإصلاحية ووجدت مجموعة من البشر قابعون في السجون، لوجدت أن كل واحد منهم ما جره إلى هذا المكان إلا ضعف إيمانه، وعدم خوفه من الله عز وجل، تقول له: ما الذي أتى بك إلى هنا؟ قال: الشيطان، والشيطان إنما سلطانه على أوليائه؛ لأن الله يقول: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [النحل:99].
إذا أردت أن يعافيك الله من الشيطان، تسربل بسربال الإيمان، وتسلح بسلاح الإيمان، لن يكون له عليك سلطان أبداً: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99 - 100].
إذا أمسكت أول واحد منهم وقلت له: ما قضيتك؟ قال: قاتل، لماذا قتلت يا أخي؟! قال: الشيطان.
ثم إلى آخر: ماذا عندك؟ قال: مخدرات، لماذا؟ قال: الشيطان، ثم إلى الثالث: ماذا عندك؟ قال: سرقت وسيقطعون يدي، لماذا تسرق يا أخي! ألم يكن هناك مجال للعمل؟ قال: الشيطان.
من هذا الشيطان؟ الشيطان هو القوة الخفية التي هجمت على النفس البشرية ومزقتها وشتتها في غياب الإيمان، فلو وجد الإيمان والدين والخوف من الله والمراقبة لله، لكان هذا الرجل القاتل في بيته مع زوجته وأولاده، ولكان هذا المدمن الذي يتناول المخدرات وهذا السارق في بيته، ولعاش كل واحد منهم عيشةً آمنة مطمئنة ملؤها الهدوء والاستقرار والأمن والأمان بسبب الإيمان: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يرزقنا الأمن الكامل في قلوبنا بالإيمان المطمئن الذي يطمئننا على ديننا، فهذه ثمرة من ثمار الإيمان، أنه يحدد اتجاهك في الحياة، فتبقى متجهاً دائماً إلى الطريق المستقيم؛ لأن لديك إيمان، يقول الله: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12] ويقول: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52].
فالقرآن والسنّة والإيمان نور يهدي الله به أهل الإيمان في هذه الدنيا، حتى يخرجوا منها وهم سالمون: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
لكن بغير الإيمان -والعياذ بالله- من الذي يحكم تصرفاتك؟ ويحدد اتجاهاتك؟ ويضبط أعمالك؟ لا شيء.
تغدو وتروح في كل اتجاه، وإذا وقعت تقول: يا ليتني ما عملت.
وهنا أذكر لكم قصة عن شاب مسكين قُتل في السوق، أزيح رأسه من على جثته بسبب قرناء السوء، وقصة هذا الرجل: أنه كان نائماً في فراشه وقد لبس ثوب نومه، وإذا بطارق يطرق الباب، فترفع أمه سماعة هاتف الباب وتقول: من؟ فيقول: فلان، قالت: من تريد؟ قال: أريد فلاناً أنا زميله، فقالت له: قد نام، قال: أيقظيه، قالت: لا نقدر أن نوقظه، قد رقد -هذا في الساعة الثانية عشرة ليلاً، من الذي يأتي يطلب الناس في نصف الليل؟! - قال: أيقظيه فلدي أمر ضروري جداً.
فقالت الأم: إنا لله وإنا إليه راجعون، وطرقت الباب عليه، يا فلان! قال: نعم.
قالت: فلان على الباب يريدك في أمر ضروري، فقام كالحصان، ولو أنها أيقظته للصلاة أو ليحضر لهم لبناً من السوق أو ليأتي لهم بأي غرض ما استيقظ، بل لو أن أمه مرضت وستموت ودعوه أن يذهب بأمه إلى المستشفى ما استيقظ، لكن لما دعاه زميل السوء قفز كالحصان.
قال: أنا فلان، قال: ما تريد؟ قال: أريدك في أمر ضروري، البس وخذ مسدسك وتعال، فدخل غرفته ولبس ثوبه وأخذ مسدسه وخرج، وقال: أنا الليلة لدي موعد مع صيد.
فهم يصطادون لكن يصطادون محارم الله، فبئس الصيد وبئس الصياد! فلو أنك تصطاد أعداء الله مثلما يفعل إخوانك الذين يصطادون الكفار في أفغانستان هناك شباب في أفغانستان من هذه الديار، كل ليلة يصطادون رأساً أو رأسين من أهل الكفر، هؤلاء هم الصيادون، الذين يصيدون أعداء الله من الكفار والشيوعيين، لكن هذا يصيد محارم الله، يصيد أعراض المسلمين.
قال: عندي صيد مواعدها وأريدك أن تحميني، أي: تحرسني إذا دخلت، قال: أبشر، فخرج معه وسارا في الطريق إلى أن وصلا إلى البيت المراد غزوه واصطياد ما فيه، فقال له: اجلس عند هذه الشجرة حتى تسمع مني صوتاً، أو تسمع أي صوت فتناديني.
ثم دخل الآخر إلى البيت وتسلق السور، ولما دخل وأصبح بداخل البيت أحس به صاحب البيت، فحمل سلاحه وطارده، فلما رآه هرب واستطاع أن يفلت منه، ثم فتح صاحب البيت الباب فلم يجد سوى الحامي -الراقد في فراشه- فلما رآه انهال عليه ضرباً، فلم يجد ذاك فرصة في الدفاع عن نفسه إلا بالمسدس، فأخرج مسدسه وقتله قتل زوج هذه المرأة الخبيثة، وطبعاً حضر رجال الأمن وأمسكوا هذا الرجل وسلاحه يشهد عليه، فلا تزال حرارة الطلقة موجودة في السلاح، فأُخذ إلى السجن واعترف، وأتى بالقصة كاملة، ثم أتوا بصاحبه هذا، وحققوا معه، فقال: أبداً لا أعرفه ولا يعرفني، ولا أتيته ولا آتاني، ويشهد الشهود أني في القرية الفلانية من المغرب إلى الفجر، وفعلاً أتى له بشهود من أهل القرية يشهدون أنه ما خرج من القرية ولا فارقها، فلم يَثبت عليه شيء، وثبت القصاص على هذا، وأخرج إلى السوق ليقتل.
شاب في مقتبل أيامه، في العشرين من عمره، ما الذي قتله أيها الإخوة؟! الشيطان عندما انعدم إيمانه بالله، فلو أنه مؤمن وعنده إيمان والتزام ودعاه هذا الرجل إلى مثل هذه الجريمة، فقال له: اتق الله يا عبد الله! خف من الله! أكان يأتيه شيء من هذا؟ فالإيمان يضبطك ويحميك من أن تقتل، أو تسرق، أو تزني، أو ترابي، أو تعتدي وتهرب، ولذا تعيش آمناً طوال حياتك، متنقلاً في مصالحك من مسجدك إلى عملك إلى بيتك، إلى ما يحبه الله ويرضاه، لكن بغير الإيمان لا تدري أين تضع قدمك، مرة في الطين، ومرة في الوحل، ومرة في الأشواك، ومرة في المسامير، ومرة في النار، فلا تضعها في الصواب أبداً.
إذاً: من الذي يقودك في هذا؟ الشيطان، لأنك بغير إيمان أعمى، وتصوروا شخصاً أعمى يقوده عدوه، أين يذهب به؟ أعمى وعدوه يقوده، هل يذهب به إلى بيته أم يذهب به إلى الحفرة؟ حتى لو أنه أراد أن يمشي في الطريق الصحيح، لقال له: إلى شمال من أجل أن يقع.
فالإنسان الأعمى هو الذي ليس عنده دين، فهل تتصور أن يقوده الشيطان إلى خير؟ لكن يا أخي الكريم! افتح عينيك على طريقك، وابصر بالإيمان، يقول الله تبارك وتعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] هل يستوي هذا الذي له نور يمشي به في الناس، ليس راقداً ولا نائماً، يمشي بنوره، وبإيمانه، ويتحرك في الحياة بهذا الإيمان: {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] فالمؤمن معه نور يمشي به، فإذا حضره الزنا قال: إني أخاف الله رب العالمين.
إذا حضره الربا قال: لا.
(لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه) إذا حضرته المخدرات قال: لا.
السيف بتار، لا تصلح لنا هذه المخدرات إذا حضره العقوق قال: أبداً، لماذا؟ لأن عنده إيمان، ولكن بغير الإيمان والدين يقوده الشيطان ويضع خطواته في كل مصيبة، ثم يتخلى عنه، فلا يفارقه إلى أن يدخله النار.
فإذا أدخله جهنم والعياذ بالله قال له: كما قال الله عز وجل في سورة النحل: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22].(39/14)
آثار الإيمان في الآخرة
آثار الإيمان في الآخرة معروفة لديكم، ومنها:(39/15)
أولاً: التثبيت عند الموت
عند الموت يثبتك الله عز وجل بالإيمان ويلهمك حجتك، تقول: لا إله إلا الله، ومن كان آخر كلامه من الدنيا (لا إله إلا الله) دخل لجنة، أتريد أن تخرج من الدنيا وأنت تقول: لا إله إلا الله أم لا؟ والله عار عليك وعيب، وسفه وحماقة أن يقال لك عند الموت: قل: لا إله إلا الله فلا تستطيع أن تقولها، إذاً ليتك ما عشت ستين أو سبعين سنة! ستين سنة وأنت تعيش على المعاصي، شخص مدمن للدخان قالوا له: قل: لا إله إلا الله، قال: أعطوني دخاناً، قالوا: قل: لا إله إلا الله، قال: هذا دخان حار، أعطوني دخاناً غيره؟ قالوا: قل: لا إله إلا الله سوف تموت، قال: والله لا أقولها، أنا بريء منها.
لأنه من لم يعش إلا على الدخان فمات على الدخان.
وآخر كان يبيع ويشتري في حراج السيارات، لما قالوا له: قل: لا إله إلا الله، قال: سكر في ماء، خربان تربان، كومة حديد، حتى مات عليها، وليس بيع العقارات والسيارات حرام، لكنهم كانوا يبيعون وليس عندهم إيمان بالله، ولا خوف من الله، يبيعون ويكذبون، ويغشون ويدجلون، حتى إن بيع أكثرهم في هذه السيارات حرام، تكون السيارة له ولرفيقه فيأتي ويضعها في استلام الأول، فيضعون السيارة تحت الميكرفون وهي تساوي عشرة آلاف ريال، فيفتتحون المزاد بثمانية آلاف ريال، ثم يتلفتون، يعرف بعضهم بعضاً، فإن كان هناك في المزاد غريب أغرقوه إلى أذنيه فيها، وكيسوه وربطوه ورموا به في البحر، وإن كان الذي يزيد على بعض هم فقط، رفض صاحب السيارة أن يبيعها، يقال: هذه بكم؟ يقول: بثمانية آلاف، فيقول ذاك: ثمانية ونصف، ويقول الآخر: تسعة، وآخر عشرة، وهي تساوي العشرة، وهو يريد أن يبيع لكن يعرف أن الذي يزاود فيها رفيقه وأنه لا يريدها، فيقول: لا لا.
ردوها هناك.
من أجل أن يأتي لها مغفل جديد، ما جاء هذه المرة شخص مغفل يريد سيارة.
أما إذا رأوا مسكيناً يريد سيارة، قاموا فزودوا خمسين فزود ذلك خمسمائة، قالوا: تسعة آلاف وخمسين، قال: وخمسمائة، قالوا: خمسين.
قال: عشرة آلاف، قالوا: خمسين.
قال: أحد عشر ألفاً، فيورطوه ويقولون: بارك الله لك.
هذا حرام، لأنه نجش والنجش محرم في الشرع؛ لأنك تزيد في السلعة ولا ترغب في شرائها، وإنما تريد من زيادة السلعة أن تعطي صاحبها مالاً، وهذا حرام، فالذي يعيش على هذا الوضع -والعياذ بالله- لما جاءه الموت قالوا له: قل: لا إله إلا الله، قال: أربعمائة وخمسين، وخمسين يزيدها، قالوا: قل: لا إله إلا الله، قال: سكر في ماء، كومة حديد.
والآخر الذي يبيع العقار قالوا له: قل لا إله إلا الله، قال: على شارعين! ومات على شارعين، شارع جهة النار وشارع جهة لظى -والعياذ بالله- لماذا؟ لأنه عاش على المنكرات، لكن يوم أن تعيش على الإيمان وعلى لا إله إلا الله، يقولون لك: قل: لا إله إلا الله، تقول: لا إله إلا الله، بل تقولها من غير أن يقولها لك أحد.
وقد حضرت يا إخواني! جنازة شخص كان يعيش في غيبوبة حوالي سبعة أيام، لا يعرف شيئاً من الدنيا حتى الصلاة لا يصلي، وكان لا يعرف من حوله، فوالله الذي لا إله إلا هو أنه حينما جاءته المنية وأنا جالس عند رأسه، وإذا بيده مبسوطة، يرد يده ويرفعها ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله -وهو أحد أقاربي- فما ظننت أنه مات.
(من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) من الذي يعطيك هذه الكلمة يا أخي؟! تعطيك إياها الشهادة المنزلة الملك المال الجاه المنصب؟ من يثبتك هنا في تلك اللحظات، يوم تزيغ الأفهام وتضل الألباب: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].(39/16)
ثانياً: التثبيت داخل القبر وعند الفزع وعلى الصراط
في القبر والحفرة المظلمة يثبتك الله عز وجل بالإيمان، فتلهم حجتك إذا سئلت الأسئلة الرهيبة: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ هناك يجيب عنك الإيمان ويقول: ربي الله، ديني الإسلام، ونبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم يوم تقوم من قبرك، وأنت فزع مرهوب، ليس فزع حرب، لا.
بل فزع يوم القيامة، فزع تشيب منه مفارق الولدان: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2] {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} [المزمل:17] الصغار تشيب رءوسهم، وأنت تقوم في ذلك اليوم آمناً لا خوف عليك ولا تحزن.
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70] لماذا؟ بإيمانك: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:19].
وبعد ذلك تمر على الصراط كالبرق الخاطف، وتشرب من حوض النبي شربة لا تظمأ بعدها أبداً، ويوزن عملك فترجح موازينك، ثم تأخذ كتابك بيمينك، ثم تعلنه على الخلائق وتقول: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] انظروا أنا عملي صحيح، أنا تعبت، أنا غضيت بصري وجاهدت، أنا صنت سمعي وتعبت، أنا حجزت نفسي عن الحرام، كان الناس ينظرون وأنا لا أنظر، وأحتسب ذلك عند الله، كان الناس يذهبون ويسكرون ويزنون وأنا لا أذهب وأحتسب ذلك عند الله، والآن نجحت في الامتحان، انظروا شهادتي! {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20] قال الله: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:21]-نسأل الله من فضله- {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ} [الحاقة:22 - 24] ليس بما لعبتم، ولا غفلتم، ولا جمعتم، ولا توظفتم، ولكن: {بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24].
هذه الأيام الخالية نملؤها الآن إما بالعمل الصالح أو بالعمل السيئ، وسيجد كل إنسان ما عمل: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30] وبعد ذلك تدخل الجنة يا عبد الله! يا صاحب الإيمان! فيقال لك فيها: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:70 - 72].
في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، تسمع خطاب الرحمن، وتنظر إلى وجه الرحمن، وتتغذى من غذاء الجنة، ويأتيك من نعيمها: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة:18 - 20] {لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:33]، ومن كل ما لذ وطاب، خالدين فيها مادامت السماوات والأرض كل ذلك بسبب الإيمان، فهل الإيمان ضروري أم لا؟ هل هناك أحد عنده شك؟ نعم والله، الإيمان ضروري أيها الإخوة!(39/17)
لا سعادة إلا بالإيمان بالله
يتقرر الآن في أذهاننا وعقولنا وقلوبنا ويخالط دماءنا ويسيل في عروقنا عقيدةً ثابتةً جازمةً، تتحول الجبال، وتزول من أماكنها ولا تتحول هي، وهي: أنه لا سعادة ولا حياة ولا إمكانية للإنسان في هذه الدنيا إلا بالإيمان.
إذا الإيمان ضاع فلا أمن ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء لها قرينا
هذه الأبيات قالها شاعر الإسلام محمد إقبال وهو يقول أيضاً في قصائده:
أرى الإيمان أدركه ذبول ولم تعد العزائم في اشتعال
وجلجلة الأذان بكل أرضٍ ولكن أين صوت من بلال
منابركم علت في كل حي ومسجدكم من العباد خالي
رحمه الله ورضي الله عنه.
لنعرف أيها الإخوة! أنه لا سعادة لنا إلا بالإيمان بالله، والعمل بشريعة الله، والسير على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسعد في الدنيا والآخرة، أما بغير ذلك فإنه الشقاء، والعذاب، والدمار، والنار، وفناء في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا، فالقلق والاضطراب والضياع -والعياذ بالله- والله مهما تمتع الإنسان بكل نعيم في الدنيا فإنه في عذاب، يقول الله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] فإذا أعرضت عن دين الله وعن ذكره، فإن لك معيشة ضنكاً، والله لو سكنت في أعظم عمارة، وكنت في أعلى درجة فإنك في معيشة ضنكاً لماذا؟ لأنك أعرضت عن دين الله.
أما المؤمن: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
بالمال تطمئن الجيوب، وبالأكل تطمئن البطون، وبالزوجات تطمئن الفروج، وبالملابس وبالسيارات تطمئن الأجساد، لكن القلوب لا تطمئن إلا بالإيمان فقط، بذكر الله، وبدين الله {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:28 - 29] (طوبى) قيل: الجنة، وقيل: الدنيا، و (حسن مآب): الجنة.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو ألا يحرمنا وإياكم من ذلك.
الذين نظروا إلى الإنسان وعرفوا أنه مخلوق من هذين العنصرين، قالوا: الإيمان ضروري؛ لأنه غذاء لروحه، وكما قلنا: إن الهواء والماء والغذاء غذاء لجسده، فلا بد من غذاء للروح ليعيش الإنسان.(39/18)
إبطال نظرية داروين في تطور مراحل الإنسان
هناك من البشر من تحدث عن الإنسان وهو لا يعرفه، والذي يتحدث عن الشيء وهو لا يعرفه سيكون حديثه خطأ، وأحكامه غير صائبة؛ لأن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، ومادام تصورهم عن الإنسان خاطئ فستكون أحكامهم أيضاً خاطئة، يقول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف:51] فيوم أن خلق الله الإنسان (آدم) ما كان أحد يراه في ذلك اليوم إلا الملائكة، ولا يوجد أحد من البشر حتى يرى كيف تمت الخلقة، ولكنَّ الله خلقه وهو أخبر به؛ لأنه خلقه من طين، وسواه ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته إلى بقية السلسلة من الخلق، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، وهاهو النسل يتكرر، ويتم أمامنا في كل لحظة ووقت وحين إلى يوم القيامة.
لكن هناك من البشر -كما قلت لكم- من تحدث عن هذا الإنسان من منطق لا يعرفه الإنسان وقالوا: إن الإنسان -طبعاً من غير علم- نظرية.
فهذا طبيب نصراني مسيحي اسمه داروين ألف كتاباً اسمه أصل الأنواع وتحدث فيه عن أصل الإنسان وقال: إن الإنسان في بداية خلقه كان خلية، وهذه الخلية مرت بمراحل كثيرة عبر ملايين السنين من الارتقاءات، فكان خلية ثم قطعة من النبات، ثم صار هذا النبات على شكل حيوان، ثم حيوان فقاري، ثم قرد، ثم إنسان، فيقول: إن أصل الإنسان قرد.
يا داروين! من قال لك هذه النظرية؟ من أين جاءت؟ قال: هذه تجارب، وكلام وأفكار.
حسناً! مادام أن الإنسان تطور عبر المراحل من مرحلة إلى مرحلة لماذا استقر عند مرحلة الإنسان؟ لماذا لم يكن بعد ذلك شيئاً جديداً مادام أن القضية تطور، فالذي يتطور يتطور دائماً؟ فقال: سيصبح شيئاً آخر.
متى؟ قال: سوف يتحول بعد خمسة آلاف مليون سنة إلى فأر.
يقول: هذا الإنسان الموجود سيصبح بعد خمسة آلاف مليون سنة فأراً.
حسناً والقرود الباقية الآن لماذا ما صارت إنساناً؟ ولماذا بقيت على حالها؟ لم يتحول ولا قرد من القرود الباقية إلى إنسان، من قال لك هذا الكلام؟ ولكنه قالها وخرجت هذه الفكرة منه.(39/19)
استغلال اليهود لنظرية داروين
لقد وافقت نظرية داروين هوىً عند اليهود، فاليهود مقرر هذا في كتبهم المحرفة -مثل التلمود - ومكتوب عندهم: إن الله عز وجل خلق الخلق ليكونوا حميراً لبني إسرائيل، وإن الله خلق الناس حميراً على شكل بشر ليستعملهم اليهود بدون أن يتقززوا منهم، وأنهم هم في حقيقتهم حمير ليسوا آدميين، فيسمون أنفسهم شعب الله المختار، ويقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، ويقولون: ليس علينا في الأميين سبيل، أي: الأمم الأخرى.
فهذه نظرية اليهود: أنهم هم المفضلون وأن بقية الشعوب إنما هي حميرٌ لهم، ولكن الشعوب لم تقبل هذا الكلام منهم، ولم ترض أن تصير حميراً لليهود، فقامت ضدهم وحاربتهم واضطهدتهم وشردتهم: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:61] أي: في كل مكان وفي كل زمان، إلى أن جاءت هذه النظرية فتلقفوها تلقف الملهوف، وقالوا: هذه مؤصلة، وهذه التي تجعل الناس كلهم حميراً لنا؛ لأنها تجعل من الإنسان قرداً ومادام أصله قرداً -يعني: حيوان- والقرد قريب من الحمار فعلينا أن نقبل هذه النظرية، ولكن الناس رفضوا هذا؛ لأن الذي يرفض أن يكون حماراً أو قرداً إنما هو المؤمن الذي عنده رسالة دين، ويعرف أن الله عز وجل إنما خلقه إنساناً، ولكن حينما لا يكون مؤمناً ويرضى أن يكون حيواناً يسهل تطبيق نظريات اليهود عليه.
فقام ثلاثة من اليهود: ماركس وفرويد، ودوركايم، كان ماركس هذا عالم اقتصادي، وفرويد عالم نفسي، ودوركايم عالم اجتماعي، وكلهم يهود، قاموا وتخطفوا هذه النظرية -نظرية داروين - التي تقول بحيوانية الإنسان، وأن الإنسان ليس مخلوقاً من التراب، وليس منفوخاً فيه من روح الله، وإنما هو في الأصل حيوان مثل القرد، وقد نظرنا إلى الحيوانات فرأينا الحيوانات تعيش بغير دين، والقرود والحمير والكلاب والخنازير تعيش بغير دين، ومادام أن الإنسان واحد من هذه القطعان والحيوانات، فلم نميزه بدين من بين هذه الحيوانات؟ فيمكن أن يعيش الإنسان بغير دين، لماذا؟ لأن أصله حيوان مثل الحيوانات.
فنادوا بهذه النظرية -بحيوانية الإنسان- وقالوا: إن البشر لا يقبلون أن يقال لهم: أنتم حيوانات وإنما غيروا المسمى، فقالوا: تحرير الإنسان، تطوير الإنسان، وهذه الشعارات يصفعون بها الشخص على وجهه، ويقولون: هذه الصفعة ما هي شيء، هذه تلميع لوجهك، وهي في الحقيقة صفعة.
فيأتون إلى المرأة ويقولون لها: اخرجي، تحرري، ثوري، اعملي وهم في الحقيقة لا يريدون أن يحرروها وإنما ليدمروها، يقتلون عفتها، ينتهكون شرفها، يمسحون قذاراتهم فيها، يستخدمونها، يمتهنونها ويلعبون على عقلها، ويقولون: تحرير المرأة، تحريرها مم؟ من الفضيلة، والعفة، والشهادة، وأن تكون ربة بيت، وملكة في بيتها، لتكون عارضة أزياء، وسكرتيرة في المكتب، ومضيفة في الطائرة، وممتهنة في كل وظيفة -والعياذ بالله- ثم يخدعونها بهذه الشعارات.
وخدعوا الرجل كما خدعوا المرأة، فقالوا للبشر في أوروبا: إن هذا الدين هو الذي يقيدنا، ولا بد أن نرفض الدين من أجل التحرر والتطور، أي: نرجع إلى حيوانات، فهم في الحقيقة لا يحررون الإنسان ولكنهم يحمِّرونه، يجعلونه حماراً وحيواناً.(39/20)
الأسئلة
.(39/21)
حقيقة توبة محمد عبده
السؤال
أولاً: كثير من السائلين يخبر أنه يحبك في الله عز وجل، وثانياً: كثر السؤال عن توبة محمد عبده، ويُذكر أنك التقيت به في مكة فما قولك تجاه هذا السؤال؟
الجواب
أولاً: أقول لمن يقول أنه يحبني في الله: أحبك الله، وأسأل الله عز وجل أن يجمعنا جميعاً في ظل عرشه وفي دار كرامته ببركة حبه.
أما مسألة توبة محمد عبده أو غيره من المسلمين، فنحن ندعو الله عز وجل لكل مسلم، ولكل عاص أن يتوب وأن يرجع إلى الله، ونرجو الله عز وجل لأنفسنا أيضاً قبلهم أن نثبت وأن نكون على ما يحبه الله ويرضاه، وليس بغريب أن يتوب هو أو غيره؛ لأن الحق أحق أن يتبع، وللباطل جولة ويزهق، والفطرة البشرية الموجودة في نفس المسلم تدعوه باستمرار، وتهتف به في كل حين إلى أن يعود إلى الله، مهما حاول أن يغطي هذه الفطرة أو يتجاهلها، إلا أن الصارخ والهاتف والمنادي من داخل القلب يشعره ويدعوه ويقول له: الحياة ليست هكذا، الصواب ليس هكذا، فهناك النفس اللوامة التي تلوم الإنسان وتريد أن ترجع به إلى الحق الصحيح، ونسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يتوب على الأخ محمد عبده، وعلى جميع المسلمين وعلى جميع العصاة من المغنين وغيرهم.
أما قضية توبته وهل تاب فأنا لا أدري، وإنما كانت هناك محاضرة في مسجد السعادة بـ جدة، ودعيت لحضور المحاضرة وكنت مسافراً إلى أبها فدعيت لتناول طعام الغداء عند إمام المسجد وأخبرني أنه سيكون من ضمن المدعوين محمد عبده وشخص آخر تاب إلى الله اسمه عدنان أكبر، أما هذا فصحيح أنه تائب ونسأل الله أن يتوب عليه، فجلسنا جلسة بعد الغداء لمدة نصف ساعة فقط، تحدثنا في قضايا الإيمان، وهذه الحياة الدنيا، وما ينبغي للإنسان أن يكون فيه من التوبة والرجعة إلى الله، وكان معي في هذا المجلس الشيخ أبو بكر الجزائري حفظه الله وبعض الإخوة في الله، وكانت الاستجابة طيبة من قبل الأخوين محمد وعدنان، ثم خرجت من هناك دون أن يتكلم الأخ بشيء من الاستعداد أو أنه ترك الفن أو اعتزله كما يقولون، وإنما مجرد أحاديث إيمانية تدل على أن الرجل متوجه إلى الخير، نسأل الله أن يأخذ بيده إلى الخير هو وكل مسلم، فهذا الذي حصل.(39/22)
نصيحة ودعاء لمن أقبل على الله وتاب
السؤال
هذا المجلس المبارك يضم كثيراً من الشباب الذين تابوا إلى الله في الأيام الماضية القريبة، فهل من كلمة إيمانية ونصيحة ربانية لهؤلاء الشباب؟
الجواب
أولاً أهنئهم بالتوبة والرجعة إلى الله، فإنهم الآن بدأت فيهم الحياة؛ لأن الناس موتى حتى يتوبوا إلى الله، والإنسان غير المستقيم وغير المؤمن ميت: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122] أي: كان ميتاً بالكفر والمعاصي فأحييناه بالإيمان والدين: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
ويقول الله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:19 - 23].
فأهنئهم بهذه الحياة وأسأل الله عز وجل كما أحياهم أن يثبتهم؛ لأن العبرة ليست بالحياة فقط، فعندما يولد لك ولد ثم يموت فإنك لا تفرح به، فلو أن شخصاً بشرك فقال لك: أبشرك بولدٍ لكنه مات، لقلت: ليتك ما بشرتني.
المهم الاستمرارية، فإن تبت فاثبت؛ لأن العبرة بالخاتمة والنهايات، فلا بد من الثبات على دين الله عز وجل حتى نلقاه، ولا ندري متى ينقل الإنسان إلى الحياة الأخرى، فالغيب المغيب عنا وهو الموت يقتضي منا أن نكون دائماً على أهبة الاستعداد بالتوبة، حتى إذا فاجأنا الموت في لحظة فإذا بنا مستعدين؛ ألسنا كلنا عرضة للموت، هل هناك شخص منا يقول: لا أنا لن أموت؟ أبداً.
في مجلس من المجالس كان هناك شباب جلوس في أبها، وكانوا يتحدثون في قضايا الإيمان والموت والآخرة، وكان هناك أحد الشباب -هو طالب في كلية الطب- يقول لهم: يا جماعة لابد أن نثبت على دين الله، لا ندري متى نموت يا إخواني! والله ما نضمن أنفسنا ولو ليلة واحدة، فأحد الشباب يقول -وقد تاب إلى الله-: تخوفنا بالموت، كلنا شباب وعمرنا ثماني عشرة، وست عشرة، وعشرون سنة، متى نموت؟ ممكن نموت بعد ذلك، لا نموت هذه الليلة، وبعدما انتهوا من الجلسة وذهبوا، وذهب هذا الولد الأخ الطيب الصالح وركب سيارته ومات في تلك الليلة، والله ما بات إلا في قبره رحمة الله تعالى عليه، وكان موته سبباً لهداية البقية الباقية.
فنقول لإخواننا: مادام الإنسان لا يعرف متى يموت فالمفروض أن يكون دائماً على أهبة الاستعداد، فأوصيهم ونفسي بالثبات على دين الله.
وهناك أشياء تثبتهم على الإيمان، وأهم شيء من مثبتات الإيمان: كثرة تلاوة القرآن الكريم؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول في القرآن الكريم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان:32] قال الله: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:32].
هل سمعتم أن شخصاً لازم القرآن وحافظ على تلاوته بالليل والنهار وأضله الله؟ أبداً.
لا يضل الله إلا هاجر القرآن الكريم، فداوم على تلاوة القرآن أيها الشاب مع تفسيره، وقراءة سير الأنبياء والصحابة؛ لأن القصص القرآني والنبوي من العوامل المثبتة على دين الله، قال الله عز وجل: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120].
فهذه التثبيتات تأتي عن طريق قراءة السير، والمداومة على طاعة الله، وترك معصية الله، إذا داومت على الصلوات الخمس في المسجد، وعلى الأذكار الصباحية والمسائية، ومجالس العلم، وصيام النافلة والفريضة، والحج والعمرة فإن هذا يرسي قدمك، وكلما عملت طاعة رسخت أكثر، وكلما عملت طاعة تقوَّت مثل الشجرة التي تعمدها، وكذلك إذا تركت المعاصي فإنك تثبت، والعكس صحيح فلو أنك تساهلت في الطاعات وزدت في المعاصي لتزعزعت.
فالشيطان يشد العاصي كل يوم حتى لا يبقى له جذر فيتركه يهوي في النار -والعياذ بالله- فتثبَّت بالإيمان، يقول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66] وافعل ما وعظك الله به، واترك ما نهاك الله عنه.
ومن أعظم ما يثبتك: الإخوة الصالحين والرفقة الطيبة؛ لأن الطريق طويلة، والعقبة كئود، والسفر بعيد، والزاد قليل، ولا بد من رفيق يعينك على طاعة الله، فتعرف عليه من مجالس الذكر ومن أماكن الإيمان، من بيوت الله عز وجل، وابتعد بعد ذلك عن قرناء السوء، فإن قرين السوء هو الذي يردك عن الله عز وجل ويثبطك ويقلل عزمك حتى يهلكك والعياذ بالله.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(39/23)
سلسلة اليوم الآخر: علامات الساعة المستمرة [الحلقة الثانية]
إن هذا الدين عظيم؛ لأنه من وضع خالق البشر الذي يعلم ما يصلح عباده، وما يضرهم، وما ينفعهم، وهو دين كامل شامل لا يعتريه النقص والتناقض، وسعادة البشرية تكمن في الالتزام به وتطبيقه في كل جوانب حياتها العملية.
وفي هذه المادة ستجد استطراداً في هذا الموضوع نافعاً؛ كما ستجد حديثاً عن علامات الساعة الواقعة في زماننا هذا، فقد ذكر المؤلف علامتين مهمتين حادثتين، مستنداً في ذلك إلى أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، فما عليك إلا أن تفتش ثنايا هذا الموضوع وستجد فوائد جمة، كما ستستفيد من الأسئلة وإجاباتها.(40/1)
عظمة الإسلام وكماله وشموله
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:(40/2)
النظام الرباني المتكامل
عظمة هذا الدين وقوة هذا الإسلام إنما تتجسد وتظهر في كونه ديناً ربانياً، والذي شرعه هو الله الذي لا إله إلا هو، وهذه الصفة أكسبت هذا الدين صفة الكمال والشمول والعدل، فلا تعتريه جوانب نقص، ولا تزعزعه أو تلعب به الأهواء والرغبات؛ لأن الذي أنزله منزه عن النقص، والذي شرع أحكامه لا يراعي جانباً على حساب جانب، وإنما يحكم بعلم وبقدرة، وبإرادة تشمل مصلحة هذا الإنسان، ولذا سن له النظام والقانون الذي يصلحه في هذه الدنيا ويصلحه في الدار الآخرة، ولا اختلاف فيه كما هو موجود في الدساتير والأنظمة التي تضعها البشرية لنفسها.
ما من نظام يوضع في أي زمن من الأزمان أو في أي بلد من البلدان إلا وتدخل عليه تفسيرات، وتعديلات وتبدو فيه جوانب نقص؛ لأن الذي يضعه ناقص وله أهواء ورغبات، ويراعي جوانب أناس ويهمل جوانب آخرين، يعرف شيئاً من أسرار النفس ويجهل أشياء منها، ولذا يعدل ويبدل وما إن يموت إلا ويأتي غيره فيكتشف أخطاء في النظام الذي سبق، فيلغي ويبدل ويعدل ويفسر ويحول من أجل أن النظام غير متكامل.
لكن نظام الله كامل لا يعتريه نقص: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] كامل في أحكامه، شاملٌ في نظمه، فصفة الربانية فيه واضحة، ليس نظاماً بشرياً، ولو كان نظاماً بشرياً لتغلبت فيه جوانب العواطف والرغبات، وجوانب الطبقات، لكنه نظام رباني وضعه الله وهو يعلم أسرار هذه النفس وما يصلحها وما يسعدها في الدنيا والآخرة، ولذا فهو نظام لا يأتيه الباطل، قال الله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41 - 42] لا يأتيه الباطل أبداً، والواقع يثبت هذا الأمر حينما يطبق نظام الله عز وجل؛ لأن الله اختار للبشرية فيه أعظم هدى، قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] وأقوم هنا للتفضيل، هذا القرآن يهدي ويدل ويرشد لما هو أفضل للبشرية في عقائدها، وعباداتها، وتشريعاتها، وأفضل في معاملاتها وآدابها، وأخلاقها، فما من شيء دل عليه الله وأمر به إلا وهو أفضل ما يكون على وجه الأرض، وما من شيءٍ حذر الله منه ونهى عنه إلا وهو أسوأ ما يمكن أن يكون في الأرض.(40/3)
سعادة البشرية تكون في تطبيق دين الله
ولقد طبقت البشرية فترةً من الزمن هذا النظام فسعدت وطابت الحياة، حتى مكث عمر بن الخطاب قاضياً لـ أبي بكر الصديق عامين كاملين وما قدمت له قضية واحدة، لأنه ليس هناك ما يرفع للحكام، فالناس منصفون، والناس يخافون الله، فعندما أختلف أنا وأخي ونصل إلى القاضي وأنا أعرف أن الحق عندي أو أن الحق عنده، إن كان الحق عندي أعطيته بدون حكم القاضي، وإن كان الحق عنده أعطاني بدون قاض، لكن إذا فسدت الذمم النفوس صعبت مهمة القضاة.
يقال: لو أنصف الناس لاستراح القاضي؛ لأن القاضي لا يعلم كيف يحكم بين اثنين أصحاب دعاوى طويلة عريضة، وأصحاب حجج قوية، والحق واحد.
وأيضاً العاطفة لا تحكم الكون، والأهواء لا تسيطر على نظام الحياة، ولو دخلت العواطف في نظام الكون لفسدت الحياة، يقول الله عز وجل: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} [المؤمنون:71] ماذا يحصل؟ {لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون:71] تفسد مباشرةً، لماذا؟ لأن أهواء الناس تختلف ورغباتهم تتنوع، وما يرضي زيداً لا يرضي عمراً، وما يصلح لهذا البلد لا يصلح للبلد الثاني، وبالتالي تبدأ الصراعات وتبدأ الرغبات والمنافسات، ويفسد نظام الحياة، أما النظام الواحد الموضوع من قبل الله، فيطبق على الكبير والصغير، وعلى الأبيض والأسود، وعلى العربي والأعجمي، فالناس أمام أحكام الله سواسية كأسنان المشط.
ولهذا كان الجاهليون يستصعبون أن يقام الحد على العظماء والوجهاء، فحين سرقت المرأة المخزومية قالوا: لا يمكن أن تقطع يدها، لا بد أن نرى لها حلاً، وصعب عليهم الأمر، وما تجرءوا أن يشفعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالوا: ابحثوا عن أحب رجل عند رسول الله، فوجدوا أن أحب رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أسامة بن زيد، وكان يسمى حِب رسول الله، فجاءوا إليه وكلموه، فقام وتكلم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب عليه الصلاة والسلام وقال: (أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة! والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) لا تدخل هنا العواطف، وقال: (إنما أهلك من كان قبلكم -الذي أفسد نظام الحياة قبلكم في اليهودية وفي النصرانية وفي الجاهلية- أنهم إذا سرق فيهم القوي تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد).
أما في ظل دين الله فلا، وهذا معنى الكمال في هذا الدين العظيم، أنه نظام عظيم، وإن من ضمن ما شرع الله عز وجل في كتابه الكريم: الحدود الشرعية التي تضمنت العقوبة الرادعة والعلاج الناجع لقطع دابر الفساد واستئصاله من أساسه؛ لأن الإسلام لا يعرف حلولاً نصفية.
إذا كان في جسمك الدودة الزائدة وهناك علاج يسكنها لكن يحتمل أن تثور عليك في أي وقت ثم تنفجر وتموت، فماذا يقول الأطباء؟ يقولون: نجري لك عملية، ظاهرها شيء صعب، ولذا يأخذون عليك إقراراً قبل العملية، ويوقعونه من قبل شاهدين بأنك إذا مت فلا تعويض لك بريال واحد فتقول: لا مانع عندي سأوقع، أقرر أنا فلان بأنني راضٍ وموافق على إجراء العملية الجراحية لي، ومتحمل كل ما يحدث عنها من نتائج.
وتدخل غرفة العملية وتسلم نفسك، وتتناول البنج وأنت تعرف أن بعد البنج المشاريط والسكاكين سوف تبدأ تقطع في جسمك وفي بطنك، وتغرق أمعاءك، ويبحثون عن شيء في بطنك يستأصلونه، لماذا؟ أليست هذه قسوة؟ أليست هذه وحشية؟ لماذا الأطباء قساة؟ ليسوا قساة ولكنهم عندهم رحمة بالجسد الكامل فقطعوا هذا العضو الفاسد لئلا يفسد الجسم كله، فتضحي بعضو في سبيل صلاح الجسد.(40/4)
تطبيق الحدود ضرورته وثماره
شرع الله عز وجل هذه الحدود وهو أعلم تبارك وتعالى بما يصلح العباد، شرع الحدود بما يقضي على دابر الفساد.
القاتل يُقتل، والسارق تقطع يده، هذه اليد في الدين كم ديتها؟ نصف الدية لكنها تقطع في ربع دينار، إذا سرق رجل ما قيمته ربع دينار من حرز وتوفرت شروط القطع تقطع اليد، ولهذا يقول المعترض على حكم الشرع:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
أي: كيف تقطع في ربع دينار وثمنها خمس مئين ذهب، قال له الناظم الآخر:
عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
هي غالية إذا كانت أمينة، لكنها رخيصة إذا خانت.
وأيضاً: الزاني يجلد جَلدَ الحمار، يخرج في السوق ويمسك ويبطح ويضرب بما يضرب به الحمار في ظهره إذا كان بكراً، وإذا كان ثيباً فإنه يرجم ليوزع الألم والموت على كل جزئية من جزئيات جسمه، لماذا؟ لأنه تلذذ بالزنا في كل جزئية من جزئيات جسمه، ولذا يرجم ويموت مائة موتة، يموت مع أول حجر ويموت مع الثانية والثالثة والرابعة والخامسة وكم يأتيه من الموت، هذا عذاب الدنيا ولعذاب الآخرة أشد، لماذا؟ لأنه ما عرف حرمة أعراض المسلمين.
والمحارب لله ورسوله يقتل أو يصلب أو تقطع يده ورجله من خلاف أو ينفى من الأرض بحسب جريمته وبحسب تقدير ولي الأمر لنوع هذه الجريمة، وما يقضي عليها وما يمنع فشوها وانتشارها، هذه أحكام -أيها الإخوة- من الذي سن هذه الأحكام؟ إنه أرحم الراحمين.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة من غزوات الإسلام -في غزوة ثقيف- وكان جالساً يقسم المغانم، إذ جاءت امرأة من النساء وهي تبحث في المعركة عن ولدها، فلقيت ولدها مع السبي وهو رضيع ضائع، وهي مسكينة تبحث عنه، فلما رأته انطلقت عليه مثل السهم ما فكرت في موت أو في حياة، ثم أخذته من الأرض وألقمته ثديها وحنت عليه وجلست تبكي، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه تلقي ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده إن الله أرحم بعباده من هذه بولدها) ومن رحمة الله أن شرع هذه الحدود، مثل الطبيب -ولله المثل الأعلى- يرحم المريض فيستأصل هذا العضو منه، ولكن ما ظنكم لو أن الطبيب قال: هذه قسوة وهذه وحشية، لكن خذ هذه الحبوب وهذا الشراب وهذا المرهم من فوق الجلد، أين الألم يا ولد؟ قال: بطني يا دكتور من الداخل، قال: هذا المرهم فقط مسكن وأعطاك مرهماً من فوق الجلد، ماذا يصير بعد أسبوع؟ تنفجر الزائدة ويموت هذا المريض، ما رأيكم في هذا الطبيب رحيم أم عدو للإنسانية؟ عدو، إذ كان بإمكانه أن يقطع هذا الداء؛ لكنه عنده رحمة سطحية محدودة قضت هذه الرحمة على هذا الجسد، ولله المثل الأعلى.(40/5)
أهمية بتر العضو الفاسد
المجتمع في نظر الإسلام كالجسد، والحديث في هذا صريح صحيح، يقول عليه الصلاة والسلام: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) المجتمع المسلم كالجسد الواحد إذا فسد فيه عضو لا نرحمه؛ لأن فساده سوف يؤدي إلى فساد العضو الذي بجانبه، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ثم إذا استمر المرض فسد الجسد كله، وبالتالي يصبح المجتمع فاسداً من أوله إلى آخره بسبب العضو الفاسد، لكن لو قطعناه من أول ما فسد لسلمت لنا الإصبع وسلمت الأصابع كلها، وسلمت لنا اليد، وسلم لنا الجسم كله في سبيل تضحيتنا بعضو من طرف بسيط من أطراف الأصابع وهو ما يحصل اليوم في المجتمعات الكافرة والمجتمعات التي لا تطبق شريعة الله يرحمون الجاني ولا يطبقون عليه شريعة الله، فماذا يحصل؟ يفسد هو ويفسد الذي بجانبه وينتشر الفساد، حتى غدت الجريمة في العالم أمراً سائغاً، وأمراً يمكن تصوره في أي حال من الأحوال.
في البلدان التي فيها أجهزة للرصد، وفيها رجال أمن متطورون، وأنظمة وآلات وليس فيها شرع الله، نسب الجرائم هناك لا يتصورها العقل، في كل دقيقة في ولاية من ولايات أمريكا، في شيكاغو مثلاً في كل دقيقة أربع جرائم قتل، أو مائتا جريمة سطو، آلاف جرائم سرقة، لماذا؟ لأنه ليس هناك حدود، وليس هناك شرع رباني، لو طبق نظام الله فلا نحتاج إلى هذا كله، مرة واحدة نقطع عضواً واحداً وبالتالي يسلم المجتمع كله.
وأذكر وقد ذكرت هذا اليوم أن لي قريبة أصيبت بمرض وهي تعمل في الحقل دخلت في إصبعها شوكة، ودخل مع الشوكة جراثيم وما عقمت وتساهلت فيها فانتفخت إصبعها بعد فترة وآلمتها كثيراً، وعالجوها في المستوصف في القرية بمرهم وحبوب (العلاج الأولي)، لكن انتشر المرض وما استطاعت أن تنام الليل، وجئنا بها إلى المستشفى العام في أبها، ودخل الطبيب الجراح وأشرف عليها وقال: لا بد من بتر إصبعها من المفصل الأول، وهذه بسيطة، قلنا: نحن موافقون، أتينا إليها فقالت: من أجل شوكة يقطع إصبعي! والله ما أقطعها! يا بنت الحلال الدكتور قال ذلك.
قالت: إنها ستشفى، فرجعت وظلت تستعمل علاجات آخرى ورفضت العلاج الذي فيه رحمة، فزاد المرض ورجعت، وأجري لها إشاعة وقالوا: انتقل المرض من الفصل هذا إلى المفصل الثاني وإذا تريدون نعالجها لابد أن نقطع من المفصل الثاني، قالت: والله لا أقبل، قلنا: ارجعي فرجعت، وانتقل المرض إلى المفصل الآخر، فقال الأطباء: تقطع من أصل الإصبع، هل ترضي قالت: لم أرض بالمفصل الأول كيف أرض بهذا.
فرجعت ومكثت مدة وانتقل المرض إلى المفصل الآخر وجئنا بها وأخيراً تدخلنا وقلنا لها: إذا انتقل هذا الداء إلى العظم فمن يوم يدخل في أول العظم ينتشر مباشرةً مثل النار في الهشيم، فرفضت، فقلنا: لا بد، وأخيراً قطعت من ذلك المكان، وكان بالإمكان أن تقطع من طرفها وتسلم، لكن الرحمة السطحية وعدم التعقل يجعل الفساد والشر ينتشر وبالتالي يقضي على الجسد كله.(40/6)
الأمن والاستقرار من ثمار تطبيق الحدود
وهذه المجتمعات أيها الإخوة: كالأجساد إذا عولجت أمراضها بعلاج الله الرباني الذي شرعه في كتابه بقطع دابر الفساد، والقضاء على الجرثومة من أولها سلمت المجتمعات.
وهاهو واضحٌ أمام أعينكم ما تعيشونه من أمن واستقرار في هذه البلاد المباركة بسبب تطبيق شريعة الله، وما قُطعت رقاب الناس كلهم، فكم يقطع في السنة؟ لا شيء، تظلون سنين وأياماً لا ترون قطعاً ولا ترون قتلاً، لماذا؟ لأن كل واحد يفكر ألف مرة قبل أن يقدم على القتل، ويفكر ألف مرة قبل أن يقدم على السرقة، أو الزنا، فالسارق يعرف وهو يسرق أنه سيقبل يده وينظر إليها نظرة وداع، لن يراها إلا في الآخرة فيقول: لا والله إن يدي أغلى من السرقة، وإذا كان يريد أن ينتقم من عدو أغضبه أو من زميل جرحه فيفكر وهو يريد أن يقتل أنه غداً مربوط في الخشبة، وأن السيف ينسف رأسه، وأن البندقية تخرق بطنه وتخرج كبده أمامه فيقول: لا أفعل الجريمة، لكن لو لم توجد شريعة فإنه لمجرد أي غضب يقتل، يقول: يا شيخ! اقتله والدية في الجيب والجماعة كثير، والواسطة كبيرة كما يحصل في بعض البلدان، يا شيخ اسرق وأعط المسئول من السرقة وسوف تمشي الأمور بيسر، وبالتالي تزهق الأرواح يوم أن نرحم روحاً واحدة ويوم أن نرحم سارقاً واحداً تنهب الأموال كلها، وتسفك الدماء وتنتهك الأعراض ويعيش الناس في قلق وفوضى وخوف وعدم أمن لتعطيل علاج الله الذي عالج الله به أمراض هذه المجتمعات.
ويقول لي أحد الإخوة الزملاء في العمل وقد سافر ليقضي إجازته في تركيا -من الإخوة الوافدين- يقول: جلست شهراً متنقلاً بين الشام وتركيا وأنا في قلق، يقول: والله ما عرفت طعم النوم وراحته وأمنه إلا عندما دخلت وتجاوزت حدود السعودية، وجئت ووقفت بسيارتي على جنب ونزلنا وفرشنا أنا والأولاد ونمنا نومة ما لي بها عهد، قلت: لماذا؟ قال: كنت أنام وأنا خائف، أنام وأنا منتظر من يذبحني ويأخذ حقي، يقول: ولو رأى في جيبي علبة دخان لظنها دولارات، لكن لما دخلت السعودية، السيارة مفتوحة وأنا نائم وأولادي نيام ولا يأتيني شيء، لماذا؟ لأسباب العلاج العظيم الذي شرعه الله عز وجل لتطهير المجتمعات.
وإن من أعظم نعم الله على هذه الأمة أن كشف الله لها أمر هؤلاء المجرمين الذين خططوا ودبروا من أجل إرهاب عباد الله الآمنين في بلد الله الآمن في شهر الله الآمن المحرم، بينما حجاج بيت الله من كل أرض من أقصاها إلى أقصاها، كل مسلم يجهز لنفسه مالاً حلالاً، ويتحلل من التبعات، ويستسمح أهل الحقوق، ويأخذ معه كتب العلم، ويسأل كيف يؤدي هذه الشعيرة، ويأتي إلى هذا المكان الطاهر من أجل أن يطوف بالبيت، ويقف بـ عرفات، ويسعى بين الصفا والمروة، ويرمي الجمار، وهو مبتهل إلى الله، خائف منه، يرجو رحمة الله ويخشى عقاب الله، كان هؤلاء المجرمون يجهزون الألغام والمتفجرات ويتدربون عليها نظرياً وعملياً، ويحملونها ويهربونها ويدخلون إلى بيت الله الحرام باسم حجاج يأتون إلى بيت الله، ويبحثون عن الحرم الشريف من كل جانب ليختاروا المكان الذي يستطيعون أن يفجروا فيه، ماذا يفجرون؟ يفجرون ويقطعون أجساد المسلمين، يذبحون المؤمنين عند أعظم مكان حرم فيه حتى ذبح الحمامة، تنظرون الحمام بالحرم لا أحد يجرؤ على صيدها، الحمام من ذبحها يذبح بدلاً منها شاة فدية، فكيف بذبح مسلم؟ كيف بترويع مسلم؟ كيف بتفجير منطقة من أجل أن تأخذ الناس وتزعزع أمنهم وتلطخ بهم الجدران، وتقطعهم، وتسيل دماءهم من أجل ماذا؟(40/7)
تشريع الحدود رحمة
ثم نسمع بعض الناس يقول: إنها قسوة، وأقول: إن من يرحم هؤلاء مجرم؛ لأن أرحم الراحمين هو الذي سن هذه الشريعة، فهذه الشريعة سيقت لهم، يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا} [المائدة:33] وليس أن يقتَلوا بل يُقَتَّلُوا بتقطيعهم قطعة قطعة حتى يذوقوا وبال أمرهم، والرسول صلى الله عليه وسلم وهو أرحم خلق الله بخلق الله، حتى قال الله فيه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] لكنه في حدود الله لا تأخذه في الله لومة لائم.
قدم مجموعة من العرنيين عليه صلى الله عليه وسلم وكأنهم اجتووا المدينة، يعني: ما ناسبتهم المدينة، انتفخت بطونهم وصار فيهم وباء، رحمهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأشفق عليهم فأخذ مجموعة من الإبل وأعطاها لراع من الصحابة وقال: اخرج بهم في طرف المدينة لتأكل هذه الإبل من أشجار البادية ويشربون من ألبانها وأبوالها لعلهم يسلمون، وفعلاً شربوا من لبن الإبل فذهبت الأمراض عنهم، وانتفخت أجسادهم بالقوة والعضلات، وبعد ذلك قلبوا ظهر المجن وقتلوا الراعي وساقوا الإبل وسرقوها وسملوا عينيه، أخذوا حديداً وأحموه في نار وأدخلوه في عينيه بعدما قتلوه، فبلغ الخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل في طلبهم مجموعة من الصحابة منهم علي وعمار وجيء بهم، ولما جيء بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم حكَّم فيهم شرع الله فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ثم سمل أعينهم، ثم تركهم في الشمس حتى ماتوا عقوبة لهم وردعاً لأمثالهم، ولهذا يقول الله: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33] هذه وجبة الإفطار والعشاء في جهنم، فنحمد الله الذي لا إله إلا هو الذي يسر للقائمين في هذه البلاد أمر القبض على هؤلاء واكتشافهم، وهذا من نعم الله، ودليل على أن الله يرعى هذه البلاد إذ لو لم تكن هناك إعانة ورعاية من الله فمن يكشفهم وسط هذه الجموع وهذه الملايين، لكن ربك بالمرصاد، ثم نشكر المسئولين على تنفيذ أمر الله بدون مجاملة؛ لأنه والله لو لم يقتل هؤلاء لجاءنا السنة الآتية أكثر منهم وبالتالي يكثر الفساد، لكن اقطعها تبرأ، ولن ترى مجرماً -بإذن الله- لأنه يعرف أن رأسه سيرمى به مثل الكرة، والله يقول: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} [الإسراء:8].
فنسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يديم علينا وعليكم وعلى المسلمين في جميع ديار المسلمين أمننا واطمئناننا واستقرارنا، وأن يوفق حكام المسلمين للعمل بشريعة الله عز وجل وتحكيمها في شعوبهم، كما نسأله أن يوفق حكام هذه البلاد لزيادة التمسك والعمل بدين الله عز وجل وإعلاء كلمة الله؛ فإنهم في ذلك إنما يحققون ما أمر الله به من العدل والإنصاف والحياة المستقيمة على وجه هذه الأرض.(40/8)
من علامات الساعة
أما الدرس فلا زال في علامات الساعة المستمرة.
قلنا في الماضي: إن العلامات التي تدل على قرب الساعة منها ما وقع وانقضى، ومنها ما يقع ولا يزال يقع، ومن ذلك ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من فشو الفساد، وأنه مؤشر وعلامة من علامات الساعة؛ لأنه إنما يتحقق الرقي للأمم والسؤدد والتقدم والرفعة، بمقدار ما يكون فيها من أفراد صالحين يتحلون بالقيم الفاضلة، والعقائد السليمة، والأخلاق الحميدة والمعاملات الحسنة، ويسعون إلى إقامة العدل في الأرض وتقويم المعوج وإصلاح الفاسد، وهؤلاء هم الذين حملوا الأمانة يوم أن تخلت عنها السماوات والأرض: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] والأمانة هي كل ما اؤتمن عليه العبد من الإيمان والعمل الصالح، وليست الأمانة محصورة في الودائع، فالودائع جزء من الأمانة، لكن كل ما كلفك الله به وائتمنك عليه فهو أمانة، صلاتك أمانة عندك من يحاسبك عليها إلا أنت، قد تقول: صليت، لكن الله يعلم أنك ما صليت، فهذه أمانة خنتها.
وضوءك أمانة، فقد تصلي بدون وضوء خوفاً من مدير المدرسة، لكن الله يعلم أنك لست متوضئاً فقد خنت الأمانة، صيامك أمانة غسلك من الجنابة أمانة عينك أمانة أذنك أمانة فمك ولسانك أمانة بطنك وفرجك أمانة يدك وقدمك أمانة، كل ما أتمنك عليه الشرع وجعل أمره في عنقك أمانة عندك إن أديتها فأنت من أهل الإيمان، وإن خنتها فأنت من أهل الخيانة -والعياذ بالله- ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].(40/9)
رفع الأمانة
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمانة سوف ترفع في آخر الزمان، وهذا الرفع سيكون بطريقة تدريجية لا مرة واحدة؛ لكن ترفع تدريجياً، وفي زمن حذيفة رضي الله عنه وهو الصحابي الجليل صاحب الوضوح، صحابي كان متخصصاً في معرفة الشرور، وكان أمين سر النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: (كان الناس يسألونه عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة الوقوع فيه) وتبين الشرور أمر مهم يا إخواني، ومن ضروريات المسلم أن يعرف الشر ليتقيه لا ليقع فيه، وهذا الصحابي يقول: (كان الناس يسألونه عن الخير -عن الصلاة عن الصوم- وكنت أسأله عن الشر مخافة الوقوع فيه) في زمن حذيفة لاحظ شيئاً من ترك الأمانة، ولكن في زمننا هذا كثير من ترك الأمانة.
روى الإمام مسلم في صحيحه حديثاً صحيحاً عن حذيفة رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال) الأمانة إذا استقرت لا تكون في السطح بل في جذر وفي عمق قلب الرجل، ولذا ترى الرجل غير الأمين في جوف الليل يسمع أغنية، من الذي يراقبك في تلك اللحظة؟ لا أحد يراقبك إلا الله، أمانتك فرضت عليك ألا تخون الله في أذنك، الرجل الأمين وهو في الشارع يمشي يرى أمامه امرأة متكشفة ليس معها زوج ولا أب ولا أخ، ولا أحد يراه فلا ينظر إليها، من الذي جعله يغض بصره؟ خوفه من الله وأمانته على استعمال هذه العين، يستلم الراتب ويعده مرة ومرتين وثلاثاً فيرى فيه خمسمائة ريال وبإمكانه أن يخفيها؛ لكن أمانته تفرض عليه أنه يرجع الخمسمائة ريال؛ هذه الأمانة إذا نزلت استقرت في جذر قلوب الرجال، والذي ما عنده هذه الأمور ما عنده أمانة، ولا في جذر قلبه شيء.
قال: (إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة) يعني: جاءت الأوامر بعد الأمانة والإيمان، والآن تأتي الأوامر قبل الأمانة والإيمان فلا يعمل الناس بالقرآن، يقرأ القرآن وهو ليس بمؤمن ويقرأ القرآن أو يسمعه ثم يغني، ويقرأه ويقوم ليزني، ويقرأه ويكذب يقرأه وينهب، يقرأ ويشهد زوراً، ويقرأ ويعق والديه، يقرأ ويقطع الصلاة، لماذا؟ لأنه علم القرآن قبل أن تستقر الأمانة في قلبه أي الإيمان.
قال: (فعلموا من القرآن وعلموا من السنة ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه ويظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المجل، كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبراً وليس فيه شيء) الجمر إذا دحرجته على رجلك أو يدك أو جلدك، ماذا يحدث؟ ينتفخ وينتبر وتراه كأنه شيء، لكنك لو فتحته ظهر الماء وهذا أثر الجرح، وإنما الأمانة يبقى لها شيء ظاهر لكن لو تختبرها فإنها لا شيء، اختبرها عند المرأة مباشرة تسقط، اختبرها عند الرجال مباشرة تسقط، اختبرها في صلاة الفجر فإنه ينام وليس هناك إلا أثر.
(فتراه منتبراً -يعني ظاهراً كأنه أمين- وليس بشيء، ثم أخذ حصىً فدحرجها على رجله ثم قال: فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً) تصبح الأمانة شيئاً عزيزاً، وتصبح نادرة حتى يقال في القبائل: إن في آل فلان رجلاً أميناً، ولقد تحقق هذا في بعض البلدان، إن القرية من أولها إلى آخرها لصوص ليس فيهم شخص يخاف الله إلا واحداً أو اثنين، فيقولون: والله فلان أمين يخاف الله، بينما الأمانة كانت موجودة في صدور الرجال كلهم ليس فيهم إلا واحد أو اثنان ليسو أمناء، وهذا من إدبار الدين وإقبال الدنيا.
قال: (حتى يقال للرجل: ما أجلده ما أظرفه ما أعقله، وما في قلبه من الإيمان حبة خردل -ذوق، أخلاق، والله يعلم أنه ليس في قلبه شيء من الإيمان- قال حذيفة: ولقد جاء عليَّ زمان وما أبالي أيكم بايعت، لئن كان مسلماً ليردنه عليَّ دينه، ولئن كان غير ذلك ليردنه على مواليه، وأما اليوم فما كنت لأبايع أحداً إلا فلاناً وفلاناً) وهذا كان في عهد القرون المفضلة يقول: لا يوجد من أبايع إلا فلاناً وفلاناً؛ لأني أعرفهم أمناء لا يغشون العسل، ولا يجعلون البضاعة الجيدة في الأعلى والرديئة في الأسفل، ولا يضغطون (التنك) من اليمين والشمال والرمان الكبار في الأعلى والصغار في الأسفل، أين الأمانة؟ ويريد أن ينزل مطر من السماء، بهذا ينزل عليه حجارة ولعنة من السماء، لماذا لا تضع الرديء على جنب والجيد على جنب، وتقول: هذه بخمسين وهذه بعشرة، من أجل الذي معه مبلغ كبير يشتري كثيراً، والذي لديه قليل من المال يشتري لأولاده على قدر ما لديه من المال ويأخذ له بعشرة، لكن أن تضع الجيد مع الرديء وتغش المسلمين وتريد من الله أن يرحمك؟! لا إله إلا الله! يقول حذيفة: (لقد كنت ما أبالي أيكم بايعت) يقول: كنت أبيع وأشتري وأنا مغمض؛ لأني أعرف أني أبيع وأشتري من أمين لا يغشني (واليوم ما كنت لأبايع أحداً إلا فلاناً وفلانا) معدودون على الأصابع في عهده رضي الله عنه فكيف بعهدنا؟! إنا لله وإنا إليه راجعون! من علامات الساعة، وهذه العلامات اسمها علامات فساد الضمير وفساد الذمم، ولكن ليس على العموم، بل يبقى في الأمة أفراد وتبقى في الأمة الفرقة الناجية، وبقدر وجود العلم وانتفاء الجهل وبقدر تدعيم قضايا الإيمان في قلوب الناس يوجد الإيمان، وأنا أعرف كثيراً من الناس -بفضل الله- أصحاب مزارع عندهم إيمان، وأذكر مرة أني صليت الفجر في المسجد وذهبت إلى السوق بعد صلاة الفجر لأجل أن أشتري حوائجي من بداية النهار؛ لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (بارك الله لأمتي في بكورها) فجئت ووجدت أحد المزارعين جزاه الله خيراً أتى (بفرسك) في (زنابيل) فقلت: بكم؟ قال: هذا بخمسين ريالاً، قلت: وهذا بكم؟ قال: هذا بعشرين، قلت: ماذا في هذا؟ قال: انظر هذا أمام عينك، كله هكذا، يعني: رديء، وذاك جيد، قلت: اسكبه لي، فسكبه لي وإذا به فعلاً والله ما فيه حبة ترميها، قلت: بارك الله لك، قال: ماذا تريد! أغش ذمتي، وقد كنت أغشها وربي يضربها بالبرد، ويضربها بالبلاء ويأتيه آفة، ويأتيه جذم وذهب (الفرسك) يقول: ويوم سرت أنا بالطريق الصحيح ربي أعطاني، وإذا خرب شيء بسيط فإنما هو بسبب ذنوبنا، وعنده عشرون زنبيلاً الحبة -ما شاء الله- تشتريها وأنت مغمض عينيك، فالأمة فيها خير والحمد لله، ولكن تحتاج إلى توعية وإلى دعم وإلى علم حتى تستقيم على منهج الله سبحانه وتعالى.(40/10)
تداعي الأمم على الأمة الإسلامية
ومن علامات الساعة التي وقعت ولا تزال مستمرة: تداعي الأمم على الأمة الإسلامية، والتداعي يعني: التكالب، حتى غدا المسلمون كالأيتام على موائد اللئام، ونعني بالأمم: أمم الكفر الذين لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، والذين يتعادون في كل شيء إلا في حرب المسلمين فهم أصدقاء فيما بينهم، ويتحدون من أجل القضاء على المسلمين، ومن أجل ألا تقوم لهم قائمة، ولذا يحاربون المسلمين، ولا يريدون أن تقوم لهم قائمة في أي بيئة أو أي بقعة وفي أي زمان أو مكان، وهذا مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث بمجموع طرقه صحيح، وقد أخرجه الإمام أبو داود وابن عساكر والإمام أحمد في مسنده وأبو نعيم في الحلية، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، والحديث عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها) ترون القصعة التي في وسط السفرة كل شخص يمد يده إليها وكذلك تصبح الأمة الإسلامية.
وقد مر زمن على الأمة الإسلامية تداعت عليها دول الكفر وتقاسموها جزءاً جزءاً، فجزء أخذته بريطانيا، وجزء أخذته فرنسا، وجزء أخذته أمريكا، وجزء أخذته روسيا، وجزء أخذته ألمانيا، وجزء أخذته إيطاليا، أي: كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعدما تقاسموها صبغوا المسلمين في بلاد المسلمين بالكفر والضلال وخرجوا وسلموهم القيادة وقد صاروا مثلهم، وأصبح المسلم يتشبه بأخلاق الكفار، -ولا حول ولا قوة إلا بالله! - إلا في قليل من بلاد المسلمين، وهذا مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، قال قائل: أومن قلة يومئذ نحن يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل) وغثاء السيل: هو الذي يأتي في أول السيل ترونه كثيراً، لكنه بعر وعيدان وشوك، تمسكه بيدك وإذا به ينتهي وكأنه لا شيء، وهكذا أكثر المسلمين -إلا من رحم الله- غثاء كغثاء السيل: (ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم) اليهود شراذم مبعثرة في كل أطراف الأرض، قال الله فيهم: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:61] وهم أصلهم أولاد الخنازير، وفي نفس الوقت قال الله فيهم: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ} [الحشر:14] لا يقدر اليهودي أن يبرز لك بسكين أو بعصا إلا من وراء جدار أو من وراء دبابة أو من فوق طيارة: {إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] هؤلاء هم اليهود؛ لكن في زماننا ثار اليهود واستأسدوا، واحتلوا المقدسات، وأصبحوا يرعبون المسلمين، بينما كان المسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ينصر بالرعب لمسيرة شهر، مسيرة شهر أماماً ومسيرة شهر وراءً ومسيرة شهر يميناً ومسيرة شهر شمالاً كل من يسمع بالمسلمين يدخل في قلوبهم الرعب ويخافون، والآن هزمنا بالرعب مسيرة سنين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولن يعود لهذا الدين ولهذه الأمة مجدها إلا بما عاد لأولها كما في الأثر: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، صلاح أولها بالزهد واليقين، وأيضاً يكون صلاح آخرها بالزهد واليقين، وهو إن شاء الله كائن بإذن الله عز وجل.
قال: (وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، قال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) وقد وقع هذا كثيراً حينما تداعت الأمم الصليبية على المسلمين وغزوا الأمة، وحينما تداعت الأمم المغولية في عهد التتار؛ خرجوا وهم قبائل متوحشة من منغوليا ومن أواسط آسيا، وخرجوا يسلبون ويقتلون وينهبون، وأشاعوا الرعب والفساد في الأرض حتى وصلوا إلى بلاد المسلمين، ودخلوا بغداد وقتلوا الخليفة وقضوا على الخلافة الإسلامية، وقتل في بغداد أكثر من ستمائة ألف نسمة، وقيل: ثمانمائة ألف، وقيل: مليون، حتى ورد في كتب التاريخ أن المرأة من المغول كانت تأتي على المجموعة من المسلمين فتقول لهم: ناموا فينامون، فتقول: مكانكم فتذهب وتأتي ومعها الحجر وترضخ رأس الأول وذاك جالس بجواره وهكذا، فتضرب ثمانية أو تسعة، تهشم رءوسهم كما يهشم الحبحب، واختبأ الناس أربعين يوماً في الأقبية والبيوت حتى انتشرت الروائح وتسمم الجو ومات خلق لا يعلمهم إلا الله، وخرجوا من بغداد وجاءوا إلى الشام، ولكن وقف لهم المسلمون، وخرج الجيش المسلم من مصر في عين جالوت بقيادة قطز ومعه العلماء، ومن ضمن من معه العز بن عبد السلام، وأحمد بن تيمية يقول المؤرخون: فما استقر؛ لأنهم اختاروه، قالوا: نريد الحرب يوم الجمعة ونريدها ساعة الخطبة والأئمة على المنابر يدعون الله بالنصر للمسلمين، نريد أن نبدأ في تلك اللحظة، وبدءوا، وما هي إلا ساعة من نهار حتى رفع الله عن الكفار يده وأسلموا ظهورهم، وقتلهم المسلمون قتل رجل واحد بسبب الإسلام الصحيح.
ولكن ما الذي يعصم الأمة من هذا التداعي؟ فهناك شيء يمنعها من التداعي ألا وهو دينها الذي يقف حاجزاً دون مطامع أعدائها، فمهما مكر الأعداء ومهما كانت قوتهم؛ فإنهم لن ينالوا من هذه الأمة نيلاً إذا كانت متمسكة بعقيدتها ودينها، وأقرب دليل: ما يعيشه إخواننا في أفغانستان، فدولة الروس العظمى، وهي القوة العظمى الثانية في العالم، فهي وأمريكا سواء، يتسابقون في مجال العلم وفي مجال القوة، اجتاحوا المجر في ست ساعات، ودخلوا أفغانستان وكانوا يتصورون أنها نزهة ست ساعات أو ثمان ساعات، لكنهم مكثوا بها تسع سنوات ولعقوا الدم من أجسادهم، ثم خرجوا يجرون أذيال الهزيمة بعد أن ركعوا، أمام من؟ أمام دول؟ لا، بل أمام مؤمنين مساكين ليس معهم سلاح إلا من أيدي أعدائهم.
لما سألوا سيافاً: من الذي يمدكم بالذخيرة والسلاح؟ قال: سلاحنا من الروس نذبح الروسي ثم نأخذ سلاحه ونذبح إخوته.
وقال لي أحد الإخوة: إن من الشباب المؤمن الذي ذهب من هذه البلاد شخص من المنطقة الشرقية من الثقبة يسمونه أسد الليل، وهو لا يعرف البندق، لا يعرف إلا (الساطور)، فكان إذا ناموا سرى في الليل مثل الأسد، ولا يأتي إلا ومعه رأس أو رأسان يسحبها، من الذي ربى الإيمان في قلبه، بينما هو من قبل كان مغنياً، لكن لما دخل الإيمان في قلبه أصبح أسداً يرعب جيشاً، مثل القعقاع بن عمرو، لما أرسل أحد القادة إلى عمر يطلب النجدة، قال: أرسلت لك القعقاع بن عمرو، وإن جيشاً فيه القعقاع لا يهزم.
الذي يعصم من هذا -أيها الإخوة! - ويحفظ للأمة دينها ومقدساتها وبلادها هو دين الله، علينا بالدين فقط نتمسك به ولن يجعل الله لأحد علينا سبيلاً: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141] لكن يوم أن نتخلى عن الدين يسلط الله علينا الأعداء: (من عصاني وهو يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني) قبل عام (67) كان الناس يقولون في أغانيهم: (الميج يتحدى القدر).
ويقول آخر: نحن على موعد مع أم كلثوم لتغني لنا في تل أبيب: (أنت عمري، جينا راحة الدنيا كلها).
لا تل أبيب ولا غيرها، والله المستعان.
لماذا؟ لأنا تركنا الله، ويوم جربوا في عام (73) الإيمان والدين والعلم؛ رد الله الكفار وقطعوا القناة وحطموا خط (برليف) الأسطوري الذي قالوا عنه: لا يمكن لأحد أن يتخطاه، قطعه الرجال بالماء وبالعزيمة، وهم يقولون: الله أكبر، ولو زاد الناس هداية لزادهم الله نصراً.
وهكذا كن مع الله يكن معك، دين الله عز وجل هو الذي تكفل الله عز وجل أن ينصرنا به، وفي الحديث الذي يرويه ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال والحديث في صحيح مسلم قال: (إني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها الله بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة بعامة، وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها) لما تسمعون الآن تصريحات سياف وتصريحات قلب الدين حكمتيار، يعني تصريحات شخص رأسه في السماء، يطلبون منه أن يقابل وزير الخارجية الأمريكي يقول: لا نقابله، ما هؤلاء الرجال؟! قوة الإيمان والعقيدة، يقول هنا: (ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً) إذا كان بعضهم يقتل بعضاً نزع الله عنهم يده، وتخلى عنهم وبالتالي يحصل عليهم الفساد والدمار.
ولذا -أيها الإخوة- فلا أمن ولا أمان ولا نصر ولا سؤدد لهذه الأمة إلا في ظل دينها.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يردنا إلى ديننا رداً قويماً، وأن يصلح شباب المسلمين، وجميع المسلمين، وحكام المسلمين في جميع ديار المسلمين، وأن يردهم إلى دينه القويم رداً جميلاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(40/11)
الأسئلة
.(40/12)
بعض الألفاظ الشائعة وحكمها
السؤال
ما حكم هذه الألفاظ -وهي شائعة بين الناس-: (عليك وجه الله)، (مثل أمي)، (أفتح الكترة نشوف ربي وعواله)؟
الجواب
هذه الألفاظ منهي عنها وبعضها شرك -والعياذ بالله- أما (عليك وجه الله) فورد حديث والحديث رواه الإمام المنذري في الترغيب والترهيب وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب وهو من رواية الطبراني في معجمه أنه قال صلى الله عليه وسلم: (ملعون من سأل بوجه الله) فلا تقل: أسألك بوجه الله، أو عليك وجه الله؛ لأنه لا يسأل بوجه الله إلا الجنة، فإذا استرخصت هذا الأمر وعرضت وجه الله على كل شيء دل على أنك لا تعظم الله ولا تقدره، فبعض الناس يعرض عليك وجه الله على كأس ماء، عليك وجه الله أن تشرب وأنت قد شبعت ما تقدر لكن يجبرك -والعياذ بالله من ذلك- فلا يجوز، ومن وقع في هذا فعليه أن يتوب ويستغفر الله عز وجل.
أما (مثل أمي) فهذا -والعياذ بالله- في حكم الظهار، هو يقول: إن زوجته عليه مثل أمه، يعني: أن المرأة التي يأتيها هي أمه، وهذا ظهار أو بمعنى ثانٍ يقول: مثل أمي، يعني أنا امرأة مثل أمي، كأنه يقول أنا أنثى مثل أمي، بعض الرجال أمه أحسن منه ويمثل، لكن هذه الألفاظ لا تجوز ولا تنبغي أن تخرج من فم الرجل، وبعض النساء تقول: عليَّ مثل أبي، أو مثل رءوس عيالي، وهذا كله من الألفاظ التي لا تليق.
كذلك: فك الكترة أو افتح الشباك نشوف ربي وعواله، وبعضهم يقول: أشهدت عليك راعي ذا الكبد الخضراء من أجل السماء، يقول أن هذه السماء الكبد الخضراء لله، وهذا غلط وشرك والعياذ بالله.
هذه الألفاظ لا ينبغي للمسلم أن تجري على لسانه.(40/13)
حكم الجلوس في بيت الميت للعزاء وصنع الطعام
السؤال
توفي هذا اليوم جار لي، ونصبت خيام، واجتمع الجيران لاستقبال المعزين وأنا من الجيران فهل أبقى معهم، أم أذهب بعد العزاء إلى عملي؟
الجواب
روى الإمام أحمد في مسنده حديثاً صحيحاً عن جرير بن عبد الله البجلي قال: (كنا نعد الجلوس للعزاء وصنع الطعام في بيت الميت جزءاً من النياحة)؛ لأن النياحة هي إظهار أي مظهر يعترض فيه على قضاء الله وقدره، ولها صور: فمن صورها: لطم الخدود، وشق الجيوب، ونتف الشعور، ورفع الأصوات، وهذه من صور النياحة.
ومن الصور أيضاً: تعطيل الأعمال، والجلوس في البيوت، والمظاهرة والإضراب عن العمل، ونصب السرادقات والجلوس قياماً وقعوداً، كل ما جاء شخص قاموا وكلما خرج قعدوا، وأيضاً فيه: تعطيل أعمال الناس، ومصالح المسلمين بحجة أنه في عزاء، هذا ليس من هدي الصحابة، ولا من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا أصل له في دين الله، بل الأصل أن يدفن المسلم وأن يعزى صاحب العزاء في المسجد أو في المقبرة أو في الطريق أو في السوق ولا داعي للذهاب إلى بيته؛ أينما لقيته فعزه، أما أن يجلسوا ويجلس أقاربه والجماعة كلهم والذي يغيب يا ويله، وسود الله وجهه وما فيه شيمة، وآل فلان لا ينظرون إليه، وماذا نقول لهم، فهذه عادات جاهلية ما أنزل الله بها من سلطان.
والذي يلزمنا -أيها الإخوة- نحن كطلبة علم أن نبدأ نحن بأنفسنا، إذا مات جارك أو قريبك فادخل وأنت عند الباب قل: أحسن الله عزاءكم، وجبر الله مصابكم، وغفر الله لميتكم، إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، ولا نقول إلا ما يرضي الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، أما الجلوس في العزاء فغير مسنون وهو بدعة، وبعض طلبة العلم يقعدون وبعضهم يأخذ كتاباً ويقرأ ويحدث ويقول: هذا تجمع أستغله، لا تستغل التجمع الذي هو بدعة؛ لأن التجمع الذي ما هو بطاعة الله لن يكون فيه خير في طاعة الله، وإلا تجدونهم يجلسون على السواليف وعلى العلوم التي ما أنزل الله بها من سلطان.(40/14)
كيفية التعامل مع الأقارب ودعوتهم إلى دين الله
السؤال
أنا شاب هداني الله إلى طريق الحق، وأبعدني عن الضياع بسبب رفقة صالحة، وأخذت أدعو أهلي حتى -والحمد لله- ابتعدوا عن اللهو ومنكراته، إلا إن أحد إخواني أعرض، وهو لا يصلي ولا يزال يستمع الأغاني، وأنصحه فيعرض عني، وأحياناً يحصل بيني وبينه مضاربة ومشادة، وفوجئت في أحد الأيام أن أمي تمنعني عن أصحابي الطيبين حتى أرضيتها وقلت: لن أذهب اليوم، فما الحل أرشدوني وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً: بارك الله فيك وهدانا الله وإياك إلى صراط الله المستقيم، وثبتنا الله وإياك على الإيمان، وما قمت به من دعوة أهلك هو الطريق الصحيح لأن: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) والذي لا ينجح مع أمه وأبيه لا ينجح مع الناس، وأسلوبك الطيب مع أمك وأبيك وإخوانك حتى استقاموا طيب، لكن يبدو أنك عنفت على أخيك بدليل أنك تقول: حتى أنك ضاربته، وهذه ما هي دعوة أن تضارب أخاك؛ لأنك إذا ضاربته استقطبت عداوته، وبالتالي خسرته، ولكن عليك باللطف معه، وعليك بالصبر والدعاء له، ودعوته والإهداء له، والتؤدة معه وعدم الاستعجال، الهداية ليست بيدك، أنت تريد أن يهديه الله والله ما أراد أن يهديه، والله يقول: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل:37] ربما أنك حريص على هداية أخيك والله يعلم أنه ليس أهلاً للهداية، أتريد أن يغير الله سنته من أجلك؟ لا.
أنت فقط تدعو والباقي على الله.
أما أمك فيبدو أن تغيير موقفها ضدك ومنعك من الذهاب إلى إخوانك بناءً على تغيير موقفك أنت منها، أو من إخوانك، إما بعصيان أو بشدة أو بعنف، لكن عد إلى اللطف واللين، فما كان اللين في شيء إلا زانه، وما كان العنف في شيء إلا شانه.
والحديث الآخر: (بشروا ولا تنفروا، يسروا ولا تعسروا)، (وما خير الرسول صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً) بعض الناس يبحث لأهله عن أشد الأمور حتى ينفرهم.
يا أخي: انظر أرخص شيء وأقل شيء وسيرهم عليه ما لم يكن إثماً، لا يفهم بعض الناس من كلامنا هذا أنه يجلب لأهله المنكر ويقرهم على الشر ويقول: يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، فهذا ليس تيسيراً، التيسير في حدود ما أحل الله، والتبشير في حدود ما أحل الله، أما أن تحل لهم الحرام وتعطيهم الحرام، وتغير الحدود وتقول: بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا، فما بشرت بل عثرت -والعياذ بالله- وخربت.(40/15)
حكم الشيشة للنساء
السؤال
هناك رجل يسمح لزوجته أن تدخن الشيشة، وعندما نصحته قال: إنني تزوجتها وهي تشرب الشيشة من عند أبيها، وهذا على مزاجها؟
الجواب
الله أكبر! يا هذا الإنسان المتحرر المتثور، حسناً تزوجتها وهي على الشيشة فما موقفك من شيشتها؟ موقفك أن تهديها -يا أخي- وأن تدلها، أما أن تتركها على مزاجها، فلا.
هي على مزاجها في حدود دائرة الحلال أما في الحرام فليست على مزاجها، أنت تدلها على دين الله، أما هذه الشيشة فهي ضدك؛ لأنها تخرب فمها عليك وتحول فمها مثل البيارة -والعياذ بالله- ولو أنك قربت من شخص مشيش أو مدخن فإنك تهرب من رائحة فمه، فكيف إذا كان فم زوجتك -والعياذ بالله- مثل البلاعة كيف تسلم عليها؟ كيف تستأنس بها؟ إلا إذا كان فم هذا بلاعة ثانية، فإذا بهم سواء فالله المستعان.(40/16)
استعمال اللين في تعليم الأم والصبر على ذلك
السؤال
والدتي مسنة، وهي كثيرة الصلاة، ولكنها لا تعرف كيف تصلي، وإذا علمتها قالت: ما معي إلا ما معي؟
الجواب
لا حول ولا قوة إلا بالله، هذه الأم على الفطرة ولكنك تأتي تعلمها الصلاة بالمضاربة، قبل أن تعلمها الصلاة اقرأ عليها من كتاب الترغيب والترهيب، أو من الكتب التي فيها ذكر للجنة أو النار، وأنا أدل الإخوان على كتابين يجب أن يشتروهم هذه الليلة بإذن الله، الكتاب الأول اسمه: التخويف من النار والتعريف بدار أهل الخزي والبوار للشيخ ابن رجب الحنبلي، هذا الكتاب شيء يهول العقل، ويعطيك كل ما في النار من أولها إلى آخرها مما جاء في كتاب الله وفي سنة محمد صلى الله عليه وسلم.
والجانب الثاني في الجنة: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، وثمن الكتابين عشرون ريالاً، يعني هذا بعشرة وهذا بعشرة تزيد أو تنقص، أرجو أن تشتروهما هذه الليلة، وإذا أتيت إلى الوالدة خذ لها وصف الحور العين، وما أعد الله للمؤمنين في الجنة، وقل لها: يا أمي! أتريدين أن تكوني مع هؤلاء، تريدين أن تكوني حورية عيناء؟ قالت: نعم، فقط عليكِ بالصلاة، وفي الليلة الثانية تأتي لها العذاب والنار والأغلال والأنكال والسلاسل في النار، وتقول لها: تريدين تسلمين، الصلاة، كيف يا ولدي؟ صلاتك غير صحيحة، كيف أصلي يا ولدي؟ أعلمك كيف تصلين، اقرئي الفاتحة: الحمد لله رب العالمين، علمها هذه فقط، لكن بعضهم يأتي بالآيات كلها وبعدها يخليها سنة، كيف تتعلم؟ اضبطي هذه الليلة كلها الحمد لله رب العالمين، الليلة الثانية: الرحمن الرحيم، هي في السابق تقول: الرحمنُ الرحيم، قل: لا، الرحمنِ الرحيم.
يا أخي: الحديد إذا أدخلته النار لان ولسان أمك لا يلين؟! يلين ولكن يريد صبراً، أنا أعرف أناساً والله كانت ألسنتهم أقسى من الحجر، ودرسوا على المشايخ وألسنتهم الآن مثل العسل بكتاب الله عز وجل، فأنت إذا لم تنجح مع أمك من تريد أن يكفيك بها؟ مسئوليتها عليك أنت، لكن بالترغيب وبالترهيب، باللطف، لكن بعضهم يقول: أنت لا تعرفين وليس لكِ صلاة، من يوم خلقت وأنت لا تصلي، قالت: وأنت لا ردك الله، ولا رد صلاتك؛ لأنها جاهلة لا تعرف جنة ولا ناراً، لكن رغبها بالجنة وخوفها من النار بأسلوب تستقيم معك إن شاء الله.(40/17)
برنامج يومي نافع في تربية النفس والأهل
السؤال
طالب علم تزوج حديثاً يريد جدولاً ونظاماً ناجحاً يمشى عليه، بحيث يكون هذا البرنامج نافعاً في تربية نفسه أولاً، وتربية أهله، ودعوة الناس إلى الله؟
الجواب
هذا الموضوع يحتاج إلى محاضرة كاملة وليس هذا مكانه، وإنما أدل الأخ الكريم على شريطين أو شريط واحد اسمه: رسالة إلى كل عروسين بالإخراج الجديد.
وبعض الإخوة كتب لي رسالة جزاه الله خيراً يقول فيها: نلاحظ أنك تدل الناس على أشرطتك، وهذا شيء لا نقبله؛ لأنه جزء من الدعاية للنفس.
وأنا يعلم الله لو أعلم أن هناك شريطاً لغيري ينفع لدللت عليه، لكن مصيبتي أنني لا أسمع أشرطة غيري، والسبب: عدم وجود الوقت عندي، إلى درجة أنني لا أجد فرصة أجلس مع أهلي أو آكل أو أشرب معهم، فأنا بين عمل ودعوة، وبين سفر والتزامات ومجتمع، فما عندي فراغ لأسمع شريطاً لأدل الناس عليه، فإذا أحد سألني: ما هو أحسن شريط؟ فلا أعرف إلا أشرطتي فقط، فأقول: خذ الشريط هذا، ليس معنى ذلك أنه دعاية لي؛ لأني لا آخذ عليها فلوساً حتى أعمل دعاية لنفسي، أما لو أني أبيع الشريط بفلوس وأن المحلات يعطوني شيئاً كان يقال: إنها دعاية، لكن أشهد الله أني لا آخذ ريالاً؛ لأن الله أغناني من فضله، فإذا كنت أعرف شريطاً فيه مصلحة للمسلمين وقد سمعت أن الناس استفادوا منه، فما المانع أن أدل الناس عليه ولو كان لي، هل في هذا مانع يا إخوان؟ إن كان هناك مانع فلن أقول كلمة! قولوا بصراحة يا إخواني، بارك الله فيكم.
وهناك شريطان: واحد اسمه: حقوق الزوج وواحد اسمه: حقوق الزوجة، وهذا يكفل للرجل أن يعرف حقوق زوجته عليه فيؤديها، وتعرف المرأة حقوق زوجها عليها فتؤديها، وبالتالي إذا قام كل بحقه وواجبه، وأعطى الحق الذي عليه انتصف الناس وعاشوا في سعادة، والمشاكل تحصل الآن من عدم الإنصاف، المرأة لا تقبل الظلم والرجل لا يقبل التقصير، إذا قصرت ضربها، وإذا ظُلمت قامت عليه، لكن إذا قام بحقوقها وقامت بحقوقه فكل واحد منهما يسير بالخط الصحيح من أجل أن يسعدوا إن شاء الله.
أما هذا الموضوع فإنني إن شاء الله أطلب من الله أن يمكنني من إعطاء ندوة كاملة عن البرنامج الإيماني للمؤمن من أول يومه إلى آخره.(40/18)
سلسلة اليوم الآخر: علامات الساعة المستمرة [الحلقة الثالثة]
إن من أركان الإيمان التي لا يتم إيمان المرء بدونها الإيمان باليوم الآخر.
وقد أخفى الله عن عباده وقت قيام الساعة وذلك لحكم جليلة، ولكن وضع لها علامات تدل على قرب مجيئها لكي يستعد المسلم لذلك اليوم، وفي هذه المادة تكلم الشيخ حفظه الله عن الساعة ومجيئها، وما أعد الله للمؤمنين وما توعد به المكذبين، كما ذكر بعض العلامات الدالة على قرب الساعة.(41/1)
الساعة آتية لا ريب فيها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: أيها الإخوة في الله: الحديث عن الساعة وأهوالها، وعن ذلك اليوم المهول الذي تحدث فيه تلك الأحداث الصعبة، والقضايا المذهلة، حديث ترتعد منه القلوب، وتقشعر منه الأبدان، إذا تصوره الإنسان التصور الحقيقي، وتخيله التخيل الإيماني.
والله عز وجل يؤكد قضية الإيمان بالبعث وبالجزاء والنشور تأكيداً عظيماً بما يقسم به تبارك وتعالى من مخلوقاته، فإن له عز وجل أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وليس للعبيد أن يقسموا إلا به، ومن أقسم بغير الله فقد عظمه، ومن عظم غير الله فقد أشرك بالله، ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله) وفي الحديث الآخر يقول عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك).(41/2)
إقسام الله عز وجل بمخلوقاته على قيام الساعة
وقد سمعت في قراءة الإمام -جزاه الله خيراً- القسم بالمرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات والملقيات، وهي الرياح والملائكة يقسم الله بها على شيء هو أن هذا الوعد كائن: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} [المرسلات:7] أي: إنما توعدون من الجزاء والنشور والبعث والحساب، ودخول أهل الإيمان إلى جنات الرضوان، ودخول أهل الكفر والفسق والفجور والعصيان إلى النيران: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} [المرسلات:7].
ويبين الله عز وجل حالة الكفار والمنافقين والمكذبين حينما يوقفون في عرصات القيامة ليس معهم شيء مما أشغلهم في هذه الدنيا من منصبٍ أو ولد أو مالٍ أو زوجة أو غير ذلك، ثم يقال لهم على سبيل التهكم والاستهزاء: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المرسلات:29] يعني: اذهبوا وانظروا الشيء الذي كنتم تكذبون به وهو النار: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات:30 - 31] أي: ظل دخان النار، وظل لهب جهنم (لا ظليل) أي: ليس تحته ظل ولا يمنعك من النار، ولا يغني عن اللهب: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات:32] الشرارة الواحدة كالقصر العظيم.
كأنه في تتابعه وتطايره جمالت صفر، قيل معنى جمالة: حبال السفن الغليظة بعضها يكون كغلظ الإنسان، وقيل: بمعنى الإبل، {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} [المرسلات:35] أي: ممنوع المراجعة، وممنوع الاستعتاب والتلطف والرجاء والاعتذار {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:36 - 37] الله أكبر! ويل لهم والله ثم ويل لهم! ويكرر الله هذه الكلمة مرات ويل يومئذ للمكذبين، ويل لهم حينما أخطئوا طريق الله، ويلٌ لهم حينما عرضوا أنفسهم لعذاب الله، ويلٌ لهم مع ضعفهم وقلة حيلتهم يوم يقفون عراةً حفاةً غرلاً بين يدي الله، لا يمنعهم من الله أحد.(41/3)
تساؤل الكافرين عن كيفية البعث
{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ} [المرسلات:38] لأن الكفار يقولون: إذا أمكن بعثنا فكيف نصنع بالأولين؟: {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} [الواقعة:48] يقولون: أين ذهبوا، قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة:53 - 56].
وتعجبوا من إمكانية الإعادة لهذه الأجساد التي بليت وتفتت، وذهبت شذر مذر، قالوا: كيف يعيدها؟ فهذا الذي قد بلي منذ زمن كيف يأتي به رب العالمين؟ فأجابهم الله وقال لهم: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28] إذا كان هذا صعباً عليكم فإن خلقكم وبعثكم كله لا يساوي عند الله جهد خلق نفس واحدة، ويقول لهم: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] كيف تتعجبون من قدرة الله على إعادة الناس ولا تتعجبون من قدرة الله العظيمة في خلق هذه السماوات والأرض، إن الأولين ما ضاعوا وما ذهبوا، إنهم موجودون في سجل الله الخالد الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} [المرسلات:38] من آدم إلى آخر شخص كلهم موجودون.
ثم: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} [المرسلات:39] تحدٍ أتستطيعون أن تصنعوا شيئاً؟ كيدوا، وماذا يصنعون والملك الواحد من الغلاظ الشداد يأخذ بيده هكذا فيلقي سبعين ألفاً في النار؟ والملائكة: {غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] وجهنم يؤتى بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، ولو تركت لأتت على أهل الموقف برهم وفاجرهم: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان:12 - 14] تشهق عليهم كما تشهق البغلة على الشعير: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان:12].
قالوا للرسول: كيف تراهم جهنم ألها عينان؟ قال: أما سمعتم قول الله: إذا رأتهم نعم لها عينان، تراهم وتعرفهم، وأنهم غرماؤها؛ وأنهم الذين سوف تتولى تعذيبهم: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلطَّاغِينَ مَآباً * لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} [النبأ:21 - 25] وأهل الإيمان يقولون: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان:65] {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} [المرسلات:39] هل يستطيع أحد أن يعمل شيئاً ذلك اليوم؟! لا.(41/4)
صفة المتقين في الدنيا وابتعادهم عن معاصي الله
ثم يصف الله عز وجل حالة أهل الإيمان وأهل التقوى -جعلنا الله وإياكم منهم- أنهم صدقوا المرسلين، وآمنوا بالكتاب المبين، وساروا على النهج القويم، وخضعوا وأذعنوا واستسلموا لله رب العالمين، لا يرفعون رءوسهم على الله، بل إذا أمروا قالوا: سمعنا وأطعنا، ولو على قطع الرقاب، يقول عبد الله بن سلام لما نزل قول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:66] قال: والله لو كتبها لقتلناها، وها هم -الآن- أهل الإيمان يقتلون أنفسهم في سبيل الله عز وجل، فالذين خضعوا لله، وسلموا أنفسهم وقيادهم لله، عيونهم راضخة لأمر الله فلا ينظرون إلا إلى ما أحب الله، أسماعهم مستسلمة لله فلا يسمعون إلا ما أحل الله، ألسنتهم رطبة بذكر الله، لا يمكن أن تتكلم بكلمة تغضب الله، يزنون الكلام قبل خروجه، فإن كان خيراً نطقوا به، وإن كان شراً ردوه، وإن كان شبهة سكتوا، والسلامة كرامة.
فروجهم محفوظة عن الوقوع فيما حرم الله، وأيديهم مكفوفة عن الامتداد إلى ما حرم الله، وأقدامهم قاصرة عن أن تحملهم إلى معصية الله، هؤلاء رضخوا لله، ثم أعملوا البدائل: بدل النظر المحرم النظر المباح والحلال، النظر في كتاب الله، النظر في ملكوت الله، بدل السماع المحرم والكلام الخبيث أتوا بالكلام الطيب وهو تلاوة كتاب الله، ذكر الله، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بدل الزنا المحرم أتوا بالبديل وهو الزواج الحلال، وهكذا استخدموا أنفسهم في الطريق الصحيح الذي رسمه الله لهم، يقول فيهم تبارك وتعالى في نفس الآية قال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات:41]-نسأل الله من فضله- ظلال: ظلال أشجار الجنة، وعيون جارية: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ} [الأعراف:43].(41/5)
صفة الجنة التي أعدها الله لعباده المتقين
كل مؤمنٍ في الجنة تجري من تحت قصره أربعة أنهار، ونحن الآن تجري من تحت بيوتنا أنهار لكنها أنهار المجاري، لكن أنهار الجنة غير ذلك: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد:15] وهذه الأنهار نزع الله منها كل شيء يعيبها، إنها خمر فيها لذة، وخمر الدنيا ليس فيها لذة بل يزيغ منها العقل وتجعل الإنسان مثل الحمار يركب أمه أو أخته، ويتصرف تصرف المجانين، بينما خمر الجنة لا تنزف منها العقول، ثم إن عسل الدنيا ليس مصفى وعسل الآخرة مصفى.
ثم من لبن لم يتغير طعمه ولبن الدنيا يتغير طعمه، ولهذا ينتهي تاريخ اللبن، وإذا شربته بعد أسبوع تسممت، أما بعد عشرة أيام فتموت، لكن لبن الجنة لا يتغير.
لم يتغير طعمه، ثم {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد:15] أي: ليس راكداً متعفناً؛ لأن الماء إذا ركد أسن، وإذا أسن تعفن وظهرت منه رائحة، وأصبح غير صالح للشرب أو الاستعمال.
يقول الله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [المرسلات:41 - 42] ورد في بعض الأحاديث ذكر فواكه الجنة أنها أمثال القلال ألين من الزبد، وأحلى من العسل، ثم فواكه دانية يعني إذا كنت جالساً فإن الفاكهة تتدلى عليك، وإذا وقفت وقفت الفاكهة معك، قد تقول بعقليتك الصغيرة: كيف؟ نقول لك: كل ما في الجنة لا يمكن أن يتصوره عقلك، يقول الله عز وجل: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] اذهب بالخيال كل مذهب، واذهب بالأفكار والتصورات إلى أبعد مدى، ثم اعلم أن أفكارك وتخيلاتك لن تصل إلى حقيقة ما في الجنة: {وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المرسلات:42 - 43] الله أكبر! هنيئاً مريئا جزاءً على عملكم الذي كنتم تعملونه في الدنيا.
كنتم تخافون الله وتراقبون الله، وكنتم ترتعدون من خشية الله، وكانت أقدامكم مصفوفة في بيوت الله، كانت أقدامكم وأصلابكم واقفة في الليل من خشية الله، كانت أعينكم مغضوضة عن محارم الله، كانت أسماعكم مصونة عن محارم الله، كانت ألسنتكم مكفوفة عن الحرام، والآن تأخذون الأجرة أليس كذلك؟ يقال: لا يحج الحاج إلا لمغفرة، ولا يعمل عامل إلا بأجرة، والذي عمل لله من الدنيا ما أخذ في الدنيا شيئاً، بل ربما يجد في الدنيا العذاب بعض أهل الإيمان يخرجون من الدنيا وهم مقتولون أو مسجونون، أو مضطهدون لم يجدوا شيئاً من راحة الدنيا، وبعض أهل الكفر والنفاق والجرائم والمعاصي يعيشون عظماء قادة تصفق لهم الدنيا، وتهتف لهم الجماهير، وبالرغم من هذا ألا يصل لهم جزاء؟ لا بد من جزاء، يقول الله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] ويقول: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] ويقول: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20].(41/6)
الدنيا سجن المؤمن، والآخرة فيها جنته
هذه دار ابتلاء ليس فيها جزاء، ولهذا لما ركب الإمام ابن حجر العسقلاني وكان قاضي القضاة في مصر؛ ركب على خيله وخرج ومعه حاشيته، فاعترضه يهودي، وأمسك بالخطام وقال: يا شيخ! قال: نعم.
قال: تزعمون أن رسولكم يقول: (إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) فأي سجنٍ أنت فيه وأي جنة أنا فيها؟! وكان اليهودي فقيراً مقطع الثياب فقال: أي سجن أنت فيه وأنت على الخيول ومعك هذه الأشياء وأي جنة أنا فيها؟ فرد عليه ابن حجر رحمه الله قال: ما ينتظره أهل الإيمان إذا قيس على ما أنا فيه فإنهم في سجن، وما ينتظرك وينتظر أهل الكفر إذا قيس على ما أنت فيه فأنت في جنة.
أنت في بسطة إذا قيس على ما في النار.
قال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المرسلات:43].
والمفسرون يقولون: لِمَ لم يقل الله عز وجل كلوا واشربوا وانكحوا واسكنوا والبسوا؟ لماذا لم يذكر إلا الأكل والشرب فقط رغم أن في الجنة أكلاً وشرباً ولباساً ونكاحاً وسكناً؟ قالوا: للأغلبية، فإن غالبية نعيم أهل الجنة أكل وشرب، يتلذذون بمطاعمها ومشاربها، ولهذا أربعة أنهار من تحت بيتك، هذه أربعة أنهار من أجل ماذا؟ من أجل أن تشرب من العسل، ومن الخمر، ومن اللبن، ومن الماء.
أما الأكل: فمن لحم طير مما يشتهون، والفواكه متعددة ذكر الله منها نوعين في سورة الرحمن في الجنة الأولى: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:52] وفي الجنة الثانية قال: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68] فيقول الله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [المرسلات:43 - 44] يعني هذا شأننا، وهذا عدلنا، وهذه مشيئتنا؛ أننا نجزي أهل الإحسان بما هم أهله {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] كيف تحسن ولا يحسن إليك المحسن؟ كيف تكون محسناً في هذه الدنيا في تصرفاتك ولا يجزيك المحسن العظيم؟ قال: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [المرسلات:44].
ثم يقول عز وجل وهو ملتفت إلى الكفار وهم في النار في طبقات جهنم يقول: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات:46] أي في الدنيا، يقول: كلوا واشربوا وتمتعوا قليلاً ستين سنة أو سبعين سنة، وهي لا تساوي لحظة من لحظات يوم القيامة؛ لأن اليوم الواحد من يوم القيامة يساوي خمسين ألف سنة من أيامنا في الدنيا.
فيقول الله: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات:46] أولئك محسنون والله يجزيهم، وهؤلاء كانوا يتمتعون في الدنيا: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:46 - 48].
إذا قيل لهم اعبدوا الله، خافوا الله، والتعبير بالركوع على العبادة للتغليب أيضاً؛ لأنها أشرف عبادة، أشرف عبادة على وجه الأرض الصلاة، أقدس موقف تقفه بين يدي الله هذا الموقف: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:46 - 48].
بعد كل هذه النذر، وبعد كل هذه المحاذير، وبعد كل هذا الوصف (وصف النار)، وبعد كل هذه الأيمان بالمرسلات، والعاصفات، والفارقات، والناشرات، والملقيات، يهدد ويتوعد ويبين مصير أهل النار ومع هذا كله يرفضون ولا يركعون، قال الله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات:50] بماذا يؤمنون بعد هذا كله؟ إذاً لا فائدة، لا يؤمنون إلا إذا قيل لهم: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المرسلات:29] وقيل لهم: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:14].(41/7)
بعض علامات الساعة
وقد كان الكلام في الماضي ولا يزال عن علامات هذا اليوم (يوم القيامة) العلامات التي تسبق وجوده، وقلنا إن العلامات منها ما انقضى وانتهى، ومنها الذي لا يزال مستمراً ولا نزال فيه، وهذه الليلة سنذكر لكم بعض تلك العلامات التي لا تزال مستمرة الحدوث وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم.(41/8)
من علامات الساعة وقوع الخسف والقذف والمسخ
من ذلك: الأحداث التي تحدث في الأمة من الخسف والقذف والمسخ الذي يعاقب الله به أقواماً من هذه الأمة، يخسف ببعض الناس ويقذف بآخرين، ويمسخ آخرون قردةً وخنازير، وهذا البلاء يقع بسبب تعاطي الأمة للذنوب والمعاصي وإعلانها بذلك؛ لأن المعصية إذا ظهرت ضرت الناس أجمعين، وإذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) إذا أعلن المنكر ورفع عقيرته، وأصبح صاحب المنكر لا يبالي بأن يرتكب المعصية كشرب الخمور، ولبس الرجال للحرير، وللذهب، والوقوع في الزنا واللواط، وأكل الربا ونحو ذلك من الجرائم والكبائر التي ربما تصل إلى درجة الاستحلال، أعني: لا يمارسها الإنسان وهو يعرف أنه على ذنب، وإنما يمارسها مستحلاً لها -والعياذ بالله- راداً شريعة الله في تحريمها، إذا حصل هذا حصل العذاب.
ففي معجم الطبراني بسندٍ صحيح عن سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيكون في آخر الزمان خسفٌ وقذف ومسخٌ، إذا ظهرت القينات والمعازف، واستحلت الخمور) إذا ظهرت القينات يعني: المغنيات، التي تسمى اليوم النجوم، وهي نجمة حقها الرجم والعذاب واللعن، ويسمونها: (كوكب الشرق) ونجمة المسرح، ونجمة الليلة، تجدها مسلمة تقول إنها مسلمة، وتقول: إن شاء الله أنا على موعد معكم في الموسم القادم على الأغنية الجديدة إن شاء الله، وبإذن الله يوفقني ربي أغني أغنية جديدة، كيف يوفقك الله لعمل هذه المعصية؟ لا حول ولا قوة إلا بالله!! إذا ظهرت القينات في الأمة وظهرت المعازف وآلات اللهو التي تصد عن ذكر الله، وتقسي القلوب، وتصرفها عن القرآن، وتجذبها وتشدها إلى الحرام، واستحلت الخمور وشربت، وهذا موجود في كثير من بلدان المسلمين، تباع الخمور علناً ويحميها القانون، ولا ينكرها أحد، والمغنيات لا تكاد تمشي عشرة أمتار أو عشرين متراً إلا وترى مسرحاً أو ملهى، والمعازف تباع كالكتب في الدكاكين، هذه إذا أعلنت حصل للأمة بسبب إعلانها خسفٌ وقذف ومسخ.
وروى ابن ماجة عن عبد الله بلفظ: (بين يدي الساعة خسفٌ ومسخٌ وقذف) وله شاهد من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكون في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، قالت: قلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم إذا ظهر الخبث) والعياذ بالله.
والخسف والقذف والمسخ فسر في كتب العلم بعدة تفسيرات، قيل المسخ هو: أن يمسخ باطن الإنسان فيصبح في أخلاق القردة والخنازير، لا يهمه في حياته إلا الجنس، وهذه حياة القردة والخنازير، ولا يغار على محارمه، لا على ابنته ولا على امرأته ولا على أخته أي: مثل الخنزير؛ لأنه تبلد شعوره إلى درجة أنه يفرح أن تكون ابنته معها عشيق ورفيق، بل يبارك لها إذا رآها مع رفيقها يقول: مبروك -إن شاء الله- على الخطوبة، يعني تتدربي معه الآن في الحرام وبعدها يخطبك ثم تصيري زوجته وهو زوجك، فهذا ممسوخ وهو قرد يمشي في ثوب رجل، هذا حصل له المسخ، وسيحصل له القذف والخسف والعياذ بالله.
وروى البخاري عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ولينزل أقوامٌ إلى جنب علم -يعني جنب جبل- يروح عليهم بسارحة لهم -غنم- يأتيهم لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غداً فيبيتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة) وهذا الحديث وصله الطبراني والبيهقي بسندٍ صحيح.
فهذه من علامات الساعة (ظهور القينات والمغنيات والمعازف، وشرب الخمور ولبس الحرير).(41/9)
من علامات قرب الساعة أن يفيض المال فلا يقبله أحد
ومن علامات قرب الساعة المنتظرة أو التي تسير الآن ونحن فيها: كثرة المال حتى أن الرجل ليعطى الزكاة فلا يقبلها، ويردها ويقول: هذه قليلة، ويبحث صاحب المال عن فقيرٍ يقبل صدقته فلا يجد، وقد قال صلى الله عليه وسلم لـ عوف بن مالك والحديث في صحيح البخاري وكان آنذاك في غزوة خيبر: (اعدد ستاً بين يدي الساعة -أي: عد ست علامات قبل الساعة- ذكر منها: استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار ويظل ساخطاً) وهذا الكلام لا نتصوره الآن؛ لأنك لو أعطيت شخصاً فلوساً لا يردها، بدليل أننا في الماضي قبل ثلاثين أو أربعين سنة ما كنا نتصور أن أحد يُعطى كسرة عيش ويردها أبداً، بل الذي يُعطى كسرة عيش يعتبر وجد كنزاً كبيراً، كان إذا هب ضيف وأعطوه كسرة وهو ضيف ولا أحد يأخذ كسرة إلا الضيف ثم قسمها نصفين وأكل منها نصفاً والباقي وضعه في جيبه، ليذهب به لأطفاله، فإذا دخلوا نظروا إلى يديه، أمعه شيء؟ وكانوا إذا ذبحوا الذبيحة لا يضعونها على الصحن المفطح ويقولون: كُلْ كيف شئت، لا.
الذبيحة الواحدة للقرية كلها، يمكن فيها مائة رجل، وتوضع الذبيحة في إناء مطبوخة ويوضع المرق وقليل من العيش والعصيد بجانبه ويقوم الكبار ليأكلوا، وكانوا يقدرون الطعام على قدر الموجودين، وعلى قدر أهل البيت والجيران، فإذا أكلوا لقمتين لقمتين قام الكبير، فقاموا كلهم، لماذا؟ حتى يقولون له: عاد فوق البطن لحية، أي أن الشخص يستحي أن يأكل ولا يدع للذي بعده، فيقومون قبل أن يشبعوا، وتأتي المجموعة الثانية يأكلون قليلاً ثم يقومون، وتأتي المجموعة الثالثة كذلك، فإذا أكملوا وبقي شيء لأهل البيت، وبقي شيء يوصل للجيران من المرق والعيش، أما اللحم فلا يأتي إلا وهم مجتمعون كلهم، وأتوا بالمقسم فيقطع اللحم بالشفرة، ثم يجمع قليلاً وينفخ يده ويقول: الزم بعضها -ليس فيها إلا عظم- فيقول الآخر: اسلم! وهكذا، والقسم لا يعلم صاحبه هو جميل أم قبيح، يأخذ الشخص قسمه ويأكله، ولكن لا يأكله كله، يأكل جزءاً بسيطاً، والباقي يضعه بين ثوبه وجلده ويذهب به لأهله، وإذا بقي معه قطعة من الشحم فهذه كرامة ما بعدها كرامة، الذي نسميها اليوم (زفر) أو زهومة، لكن في الماضي كانت عندهم مثل العطر، إذا قام في الصباح يقول: شم! ما هذا؟ قال: على كرامة البارحة أبشرك، على شحم ولحم.
قال: الله يهنيك! وإذا بقي معه قطعة من هذا الشحم فإنه يحتفظ به ويضعه في شنطته لماذا؟ من أجل أن يكون دهاناً لأقدامه المتشققة من البرد والتعب والحفى والشوك والحجارة، لا يوجد أحذية ولا جوارب، ولا نوم إلى الساعة الثامنة، ثم تغسل بالمغسلة بالماء الحار وتلبس الحذاء وتذهب لتداوم على طاولة وكرسي دوار وتركب سيارة، بل تقوم قبل نصف الليل تشد على الثور وتذهب إلى البئر لتعمل، وتذهب لجمع الحطب، وتكد وتكدح والذي لا يكد فإنه يموت، لا يقعد شخص في البيت أبداً، كل شخص في البيت له وظيفة، من الطفل الصغير إلى الرجل الكبير، والمرأة تذهب لتحتطب وتستقي، والبنت تذهب لترعى، والصغير يقعد مع البهائم، كل شخص لديه عمل، والذي ليس معه عمل يطردونه يقولون: اذهب! لي فيك خير، فقط تأكل وتنام بعده، فكلٍ يقوم بدور.
ما كنا نتصور ولا كنا نصدق أن أحداً يعطى رغيفاً ويقول: لا أريده، الآن يأتيك فقير فتفتح له الباب وتقول: هذا قرص، وهذا أرز، وهذا لحم، وهذا إدام، فيقول: شكراً أريد أموالاً، فهو تاجر يريد رصيداً، لا يريد أكلاً، تقول: أعطيك أرزاً يقول: لا.
أعطني عشرة ريالات أو خمسة ريالات، ومستقبلاً ومن علامات الساعة أن يفيض المال حتى تعطيه منه فيقول: شكراً.
وهذا قد وقع -أيها الإخوة! - ولكنه ربما يتكرر، فقد ذكروا في التاريخ أنه في زمن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كانت الزكاة تخرج ولا يوجد من يقبلها، وكان يقول: [اجعلوا هذا حيث ترون من الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله] يبحث عمن يأخذ فلا يجد، فيرجع بالزكاة لا يجد لها أحداً يأخذها، وهذا سيكون في هذا الزمان أو في الأزمنة المقبلة والله تعالى أعلم.(41/10)
الأسئلة
.(41/11)
شروط التوبة الصحيحة
السؤال
ناس يعملون الربا والزنا ويأخذون الرشوة ويقولون: نستغفر الله؟
الجواب
إذا كانوا صادقين في الاستغفار وتابوا إلى الله، فإن الله غفور رحيم يغفر الذنب العظيم مهما كان، ولو كان رباً أو زناً أو رشوة، إذا تاب الإنسان واستغفر الله ورجع إلى الله فإن الله غفور رحيم.
أما إذا كانوا يستغفرون الله بألسنتهم وهم مقيمون على هذه الذنوب فهؤلاء يستهزئون بالله؛ لأنه ورد في الحديث: (التائب من الذنب والعائد إليه كالمستهزئ بربه) فالاستغفار والتوبة تقتضي من العبد خمسة شروط حتى تكون مقبولة: الأول: الإقلاع.
الثاني: الندم.
الثالث: العزم على عدم العودة.
الرابع: إذا كان الذنب في حق آدمي التحلل منه.
الخامس: أن تكون التوبة قبل الموت.
فإذا انتقض شرط واحد من هذه لم تقبل التوبة.(41/12)
حكم السب واللعن ومجالسة أهله
السؤال
في بعض المجالس يكثر السب واللعن للوالدين، ولعن الشخص لأخيه، بل إن بعضهم إذا دخل على المجلس لا يسلم على أخيه ولكن يقول: لعنة الله عليكم أين كنتم! فماذا نقول لهؤلاء؟ وإذا كان الجلوس مع هؤلاء لظروف العمل فماذا أصنع؟ وهل أجلس معهم، وهل عليَّ إثم، وهل تلحق اللعنة بي وأنا مؤمن بالله، وإذا نصحت هؤلاء لا يستجيبون لي فما العمل؟
الجواب
السب واللعن والشتم من علامات الفسق؛ لأن المؤمن ليس باللعان ولا بالطعان ولا بالفاحش ولا بالبذيء، ليست هذه من أخلاق أهل الإيمان، أخلاق أهل الإيمان الطهر والصفاء، والعفاف والنقاء، والصدق والوفاء، ليس عندهم هذا الكلام الساقط، يقال: إن عيسى عليه السلام مر ومعه بعض حواريه على جيفة، فكل شخص وصفها، فشخص قال: ما أنتن رائحتها، وشخص قال: ما أقذر شكلها، وعندما أتى إليها هو قال: ما أحسن بياض أسنانها، قالوا له: ماذا بك؟ قال: لا أريد أن يعتاد لساني البذاءة فبحث عن أحسن شيء في هذه الجيفة وهو بياض الأسنان، قال: لا أريد أن أعود لساني البذاءة في القول.
فالذي يسب ويشتم ويلعن -والعياذ بالله- يدلل على أنه ليس من أهل الإيمان، وأنه من أهل الفسق، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن باللعان ولا بالطعان ولا بالفاحش ولا بالبذيء) والحديث الآخر: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر، ولعن المؤمن كقتله).
فلا ينبغي لك -أيها المسلم- أن يكون لسانك سباباً ولا شتاماً؛ بل عليك أن تكون ذاكراً لله، تالياً لكتاب الله، وقافاً عند أوامر الله عز وجل.
وهؤلاء الذين تضطرك ظروف العمل لأن تجلس معهم عليك أن تنصحهم، وأن تحاول أن تصحح وضعهم، فإن استطعت فذاك -والحمد لله- وإن أبوا واستطعت أن تنتقل من هذا العمل فالحمد لله، وإن لم تستطع فاجلس ولكن في عزلة تامة عنهم (عزلة شعورية) وبعد ذلك لا يضرك من هذا شيء إن شاء الله، لأنك مكره على الجلوس معهم.(41/13)
حكم الغناء في الإسلام
السؤال
ما حكم الغناء في الإسلام؟ وهل هو حرام أم حلال؟
الجواب
الغناء معروف حكمه في الشرع وهو الحرمة، والأدلة فيه كثيرة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمقام لا يتسع لذكرها، وقد وعدت في أبها أن نخصص ندوة كاملة للحديث عن الغناء وحكمه في الإسلام، ولكني أنصح الإخوة المستعجلين بشريط موجود في الأسواق اسمه حكم الإسلام في الغناء للدكتور الشيخ عبد الرحيم الطحان، وهذا من سمعه -فإنه- يستأصل الأغاني من قلبه بإذن الله إذا كان فيه خير.(41/14)
حكم إدراك الركوع والإمام راكع
السؤال
ورد حديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وفي بعض الأوقات ندرك الإمام وهو في الركوع ولا يمكننا قراءة الفاتحة، فهل تحسب الركعة أم نأتي بركعة ثانية؟
الجواب
هذا موضع خلاف بين أهل العلم، فالأئمة الأربعة، وجماهير العلماء يرون أن من أدرك الركوع مع الإمام قبل أن يرفع فقد أدرك الركعة، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود: (من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة) ولحديث أبي بكرة في صحيح البخاري وصحيح مسلم حينما دخل وكبر والرسول صلى الله عليه وسلم راكع فركع خلف الصف ثم دخل وسأله قال: (من هذا؟ فأخبره قال: زادك الله حرصاً ولا تَعُدْ) وقيل: (ولا تُعِدُ) وقيل: (ولا تَعدْ).
أما حديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) فهو في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وهو ما استدل به أهل الحديث يتزعمهم البخاري رحمه الله وهو يرى أنه لا بد من قراءة الفاتحة في كل ركعة، وأن من أدرك الركوع ولم يقرأ الفاتحة لا تحسب له ركعة، وهذا رأيه، أما رأي جماهير أهل العلم والأئمة الأربعة أنها تحسب ركعة للدليل، وأجابوا على هذا الحديث فقالوا: هو حديث صحيح ولكنه عام، وأما حديث: (من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة) فهو حديث خاص، والحديث الخاص مقدم على العام؛ لأنه في عين القضية.(41/15)
حكم تحية المسجد وقت النهي
السؤال
الذي يدخل المسجد في وقت النهي هل يحق له أن يصلي تحية المسجد؟
الجواب
أيضاً هذه مسألة خلافية بين أهل العلم، هل إذا دخل الإنسان المسجد في وقت النهي فهل يجلس أو يصلي؟ ورد في ذلك حديثان متعارضان: الحديث الأول: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) هذا حديث النهي عن الجلوس إلا بعد صلاة ركعتين.
والحديث الآخر: حديث النهي عن الصلاة في هذه الأوقات، والجمع بينهما أن يقال كما قال الإمام الشافعي وبعض أهل العلم: إنها تصلى؛ لأنها ذات سبب، إذ أن النهي إنما هو عن النافلة المطلقة التي لا سبب لها، أما تحية المسجد فهي نافلة لها سببها وليست نفلاً مطلقاً، وسببها دخول المسجد، وما دام أنه جاءنا أمر أن لا نجلس حتى نصلي ركعتين فلنصل ركعتين ولنجلس، ومن دخل المسجد ولم يصل ركعتين وجلس فلا شيء عليه، فقد قال بعض أهل العلم بأنه يجلس ولا يصلي ركعتين، فالأمر فيه سعة، من صلى فله سلف، ومن جلس فله سلف ولا ينكر عليه، ولكن من وقف، لأن بعض الناس يدخل ويظل واقفاً فلا هو صلى ولا هو جلس، يعني لا أتى بحديث هذا ولا بحديث هذا، فأنا أقول: إذا دخلت فصل أو اجلس، أما أن تظل واقفاً فلا نعلم من أين أتيت بهذا.(41/16)
واجب الزوج تجاه زوجته وتربيتها على ترك الحرام
السؤال
أنا شاب متزوج وزوجتي تسمع الأغاني، وقد نصحتها بعدم السماع وحدثتها ولكنها لا تستمع إلى الأحاديث، وتقول: إنها تحب سماع الأغاني ولا تحب أن تسمع الأحاديث! فماذا تنصحني؟
الجواب
أولاً: يا أخي الكريم: أنت أسأت الاختيار لهذه الزوجة ووقعت مع امرأة لا تحب الأحاديث بل تحب الأغاني، هذه لا تحب الله ورسوله ولا الدار الآخرة، فكيف تتزوج بمن لا تحب الله ورسوله ولا الدار الآخرة، هذه مصيبة.
إن كنت تزوجت بها وكنت تسمع إلى الغناء مثلها، فمثلما أصلحت نفسك يلزمك أن تصلحها بالرضا أو بالقوة؛ لأن المرأة هذه بيدك وأنت الرجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] والله عز وجل أمرك بأن تقيها النار، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] فزوجتك إذا لم تستجب بالتي هي أحسن فإنها تستجيب بالغصب، أما إذا كنت مهتدياً وملتزماً وتزوجتها وأنت تعرف أنها لا تحب الله ولا رسوله وأنها لا تحب إلا الأغاني فأنت أخطأت.
وقد يقول قائل من الشباب الملتزم: من أين لي بامرأة ملتزمة؟ نقول لك: ابحث فإن وجدت المرأة الصالحة فالحمد لله، وإن لم تجد فاشرط عليها، قل: حياتي كلها خاضعة للكتاب والسنة، لا أرتكب معصية ولا أقع في ذنب، فإذا أعلنت عن الرضا فالمؤمنون على شروطهم وستسير معك، وإذا قالت: لا والله لا أريد، قل: وأنا لا أريدك، إذا كنت لا تريديني، فأنا لا أريدكِ؛ لأن الحب في الله مقدم على الحب في الجنس، فإذا كانت فاسقة فكيف أحبها، وكيف أجلس معها وهي تحب الأغاني.
ثم إن المرأة التي تحب الأغاني ما معنى كلامها؟ كأنها تقول: لا أريد صوتك، أريد صوت المطرب الفلاني الذي صوته كأنه مزمار، فهل ترضى لزوجتك أن تحب صوت مغن؟ ما رأيك لو دخلت البيت ورأيت معها رجل يغني لها وهي تستمع وتهز رأسها، أترضى؟! وما الفرق أنها تسمع أو ترى.
فلا ترض -يا أخي- لزوجتك أن تسمع الأغاني، ونقول لهذه الزوجة المسكينة: اتقي الله أيتها المؤمنة! وتوبي إلى الله، وما دام أن زوجك صالحاً يدعوك إلى الله ويأمرك بطاعة الله، وينهاك عن معصية الله فاستجيبي له ولا تخالفي أمره، فإن أمره مطاع ما دام يأمر بطاعة الله عز وجل، وأنتِ في الأصل مأمورة بأن تطيعي الله ولا تعصيه ولا تستمعي إلى الأغاني لأنها من الأشياء التي حرمها الله عز وجل.(41/17)
وقت وجوب الحجاب الشرعي على البنت
السؤال
متى يجب على البنت الحجاب الشرعي؟
الجواب
يجب الحجاب الشرعي وجوباً عند البلوغ، ولكنها تُدرب عليه عند التمييز، يعني بعدما تبدأ بسبع سنوات تبدأ تدرب بالأمر فقط، وعندما تبلغ عشر سنوات تدرب بالضرب، فلا يبلغ عمرها أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة إلا وهي متدربة قد ألفت العباءة وألفت الحجاب، فبعضهم يدعها بدون حجاب وقد أصبح عمرها اثنتي عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة، تخرج وشعرها مكشوف، ووجهها ظاهر، لماذا؟ قال: إنها صغيرة، قلنا الصغيرة ستكبر، عوّدها من الآن على أن تتحجب وأن تتستر وألا تكون وقحة، وألا تكون جريئة على مجالسة الرجال.(41/18)
حكم الكلام والإمام يخطب
السؤال
جلست يوم الجمعة بجانب رجلٍ وأخذ يقول لي: اجلس جيداً، وأنا لا أكلمه؛ فهل صلاته تبطل، وآخر دخل أحد الإخوان وأخذ يصلي فقال له الإمام: اجلس.
الجواب
أما هذا الذي أمرك أن تجلس جيداً فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له، فصلاته لا تبطل لكن ليس له أجر الجمعة: (من قال اسكت والإمام يخطب فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له، ومن مس الحصى فقد لغا) والإسلام يركز ويؤكد على المصلين ضرورة الإصغاء والانتباه للخطبة؛ لأن الخطبة درس ووجبة أسبوعية كاملة، يتزود بها المسلم من الجمعة إلى الجمعة، لكن أن ينام أو يتكلم، أو يسهو أو يفكر في الدنيا ولا يعلم ماذا يقول الخطيب؛ فلا.
عليك أن تنصت وتصغي وتركز وتتابع؛ بحيث لو خرج الإمام من الصلاة وسئلت أنت عن الخطبة لأجبت عنها كاملة، كأنك حفظتها.
أما الذي دخل فصلى ومنعه الإمام فإن الإمام ما أصاب، إذا دخل الإنسان المسجد فينبغي له أن يصلي، وإذا جلس ولم يصل فإنه يطلب من الإمام أن يأمره بالصلاة؛ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجل الذي جلس فقال له: (قم فصل ركعتين).(41/19)
حكم الوضوء عند معاودة الجماع
السؤال
إذا جامع الرجل زوجته وأراد أن يعود إلى الجماع مرة أخرى؛ فهل يجب عليه الغسل بينهما أم الوضوء؟
الجواب
لا يجب عليه الغسل ولا الوضوء، ولكن يستحب له الوضوء من باب الاستحباب لا من باب الإيجاب.(41/20)
حكم قضاء السنة القبلية بعد الصلاة
السؤال
هل يجوز أن أصلي السُنةَ التي قبل الصلاة بعدها؛ لأني لم أجد وقتا لأصليها؟
الجواب
نعم السنن الراتبة تقضى، فمثلاً صلاة الظهر قبلها أربع ركعات إذا أتيت والإمام يصلي فصلها بعد ذلك.(41/21)
حكم الاستعانة بالجن ونماذج من ألفاظ العوام الشركية
السؤال
ما حكم الاستعانة بالجن، كقولهم خذوه، وكش، وبقعى، وسبعة، وخذيه يا الطير؟
الجواب
هذه الكلمات كلها شركية، وقد سألت أنا بنفسي سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وقلت: عندنا بعض العوام يقولون هذه الكلمات ولا يعلمون أنها شرك، قال: يبين لهم أنها شرك، فإن تابوا تاب الله عليهم، وإن استمروا بعد العلم فهم مشركون لا تؤكل ذبائحهم، ولا تقبل صلاتهم؛ لأنهم يدعون غير الله، والدعاء هو العبادة {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ * وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:17 - 18].
السبعة لا يضرون ولا ينفعون، ولا يضر ولا ينفع إلا الله الذي لا إله إلا هو، السماوات سبع، والأرضون سبع، وأيام الأسبوع سبع، والطواف حول الكعبة سبع، والسعي بين الصفا والمروة سبع، والأعضاء السبعة، لا يوجد سبعة من الجن فقط، إنما عليك ألا تدعو غير الله، أما إذا قلت (سبعة) أو (كش) أو (بقعى) أو (خذوه) أو (أهل الرمادة) أو (أهل الحماقة) أو (اختطفوه) أو (مصوا دمه) كل هذا شرك؛ لأنك دعوت الجن، ومن دعا غير الله فقد أشرك بالله، وهذا موجود عند النساء إلا من عصم الله، ولذا إذا ذهبت هذه الليلة إلى أهلك فأحضر زوجتك وأحضر أولادك ونبه عليهم، فهذا أعظم من الزنا، ومن الخمر، ومن الربا، أعظم من كل الذنوب؛ لأن من أشرك بالله ومات على هذا فإن الله لا يقبل منه صرفاً ولا عدلا، والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48] ويقول: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].
كذلك الذي يقول (والنبي) (وشرفي) (وبالحرام) كل هذه أيمان لا تجوز وهي من الشرك -والعياذ بالله- فالذي يقول: و (شرفي) و (مخوتك) و (صداقتك) و (العيش والملح الذي بيني وبينك) و (النبي) بعض الناس يقسم بالنبي ويتصور أنها مسألة سهلة، وإذا نصحته، قال: هذه لهجة، حسناً والشرك لهجة، ولا إله إلا الله التي يدخل فيها الدين لهجة، وطلاق زوجتك عندما تقول أنتِ طالق لهجة، والبنت الذي يزوجها أبوها بك يقول: زوجتك ابنتي كل هذه لهجة، تقول والنبي! هذا شرك وإنما هو رسول الله وهو عبد الله وليس إلهاً مع الله نعبده، وإنما نؤمن به ونتبعه ولا نعبده أو نقسم به أو بأحد غير الله، فلا يجوز قول: (فلا والنبي) ولا غيرها، وأيضاً الرجل يقول (مثل أمي) والمرأة تقول (مثل أبي) ومثل (رءوس عيالي)، هذا كله -والعياذ بالله- من الشرك.(41/22)
حكم الظهار
السؤال
ما حكم حلف الإنسان بالأقسام التالية: أنتِ عليَّ حرام كما تحرم عليَّ أمي، أو يقول: مثل أمي.
الجواب
أما إذا قال الرجل أنت عليَّ حرام كأمي فهذا ظهار، والظهار سماه الله منكراً من القول وزوراً، والذي ظاهر من زوجته خولة بنت حكيم، وكان الطلاق لم يشرع بعد، وما كان أحد يعرف الطلاق، فالله عز وجل شرع الطلاق بعد هذه القضية، كان الرجل إذا أراد أن يطلق امرأته قال: أنتِ عليَّ مثل أمي، أو كظهر أمي، أو كبطن أمي، فظاهر منها فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي قالت: يا رسول الله! لي أولاد كثير، إن تركتهم معه ضاعوا، وإن تركتهم عندي جاعوا، وسمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، تقول عائشة رضي الله عنها: ما أعظم سمع الله، تقول: والله لقد كانت خوله بنت حكيم تحدث الرسول في جانب الغرفة وأنا في جانبها الآخر والله ما سمعتها، ولكن الله يقول: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1].
ثم بين الله الحكم وقال: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:2] ثم بين الله الكفارة وهي: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة:3 - 4] الذي يقول هذا فعليه صوم شهرين متتابعين، ولا ينتقل إلى الإطعام إلا إذا عجز عن الصيام، والعجز عن الصيام يعني عن صيام رمضان؛ لأن بعض الناس يقول: لا أستطيع أن أصوم وهو يصوم رمضان، فالمقصود أن الذي يعفى عنه هو الذي يعجز عن صوم رمضان.(41/23)
كشف المرأة وجهها عند زوج أختها
السؤال
مشكلتي أن أزواج أخوات زوجتي -أي عدلاه- يدخلون بيت أبي وتكشف عليهم زوجتي وتجلس معهم، وقد كلمتها وكلمت أهلها ولكنها تغضب ويغضبون؟
الجواب
تغضب زوجتك عندما تقول لها تحجبي؟! أين رجولتك، فهل هي الرجل؟ لا.
أنت الرجل، فعليها أن تتحجب غصباً عنها، وإذا ما تحجبت فلا تبق معك، إما حجاب وإلا الباب، عش عزباً إلى يوم القيامة وتدخل -إن شاء الله- الجنة ويزوجك ربك باثنتين وسبعين حورية بدل هذه التي ترفض الحجاب، أما أن تسكت وتعيش معك وهي متبرجة وتكشف وجهها بين الرجال فأنت ساقط جبان؛ لأنك لم تلزمها بأمر الله؛ ولأنك عبد شهوتك، ولم تكن عبد مولاك وخالقك، ويوم القيامة تسحبك بلحيتك إلى جهنم، وتقول: هذا الظالم يا ربِّ أنصفني منه، كان يأمرني بكل شيء ولا يأمرني بطاعتك، فيا أخي المسلم! مُرها بالقوة.
وبالنسبة لأهلها فقل لهم: هذا الأمر يخصني؛ لأن حجاب زوجتي من خصوصياتي، أنا الذي أتحكم في هذه الموضوعات وفق أمر الله، والله أمر أن أحجبها من هؤلاء، ولا بد من الحجاب، إذا قالوا: لا، أو غضبوا، فقل: بضاعتكم ردت إليكم، كن ذئباً وارفضها، وبعد أيام يجعل الله لك عليها نصراً، ستدعوك هي ويدعوك أبوها ويقول: تعال تعال، إنما أردنا أن نفعل عليك حيلة.(41/24)
حكم خلوة المرأة بالأجنبي ولو كان عفيفاً
السؤال
زوج أختي يدخل بيتي عندما أكون موجوداً أو غير موجود، وكذلك يقوم بإيصال زوجتي إلى أهلها ويرجعها إلى بيتي بالسيارة بدون أن يكون معهم أحد، وقلت لها وللأهل: هذا حرام، فقالوا كلهم: ليس في ذلك بأس وأنت رجل كثير الشك؟
الجواب
يقول: إنه قال لأهلها: إن هذا حرام، ثم يرضى أن تركب مع زوج أخته وأن تذهب معه، وأن يدخل عليها في البيت، وأنت رجال شكوكي، الله أكبر يا إخواني! أين الغيرة، أين الشهامة، نحن لا نقول: إن زوجتك فيها بأس، ولا نتهم زوج أختك بأن فيه بأساً، وليس بالضرورة أن يكون فيهم بأس؛ لكن الحجاب أمر الله، ما دام أن الله أمر بالحجاب فلا بد أن نطيع الله، فقد تكون زوجتك عفيفة وطاهرة -إن شاء الله- وقد يكون هذا الرجل عفيفاً لكن يلزمهم مع العفة والطهارة الانصياع والإذعان لأمر الله، أما أن يتكلوا على أن قلوبهم طاهرة فيدل هذا على أن قلوبهم ليست طاهرة، إذ لو طهرت قلوبهم لاستجابوا لأمر ربهم؛ لأن الله يخاطب المؤمنين يقول: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53].(41/25)
حكم السفر إلى بلاد الكفار
السؤال
من يذهب إلى بلاد الكفر للنزهة والاستجمام بدون علم والده ولا رضاه، هل يجوز طرده وهجره؟
الجواب
أولاً: السفر إلى ديار الكفر على أربعة أقسام: قسم واجب، وقسم مستحب، وقسم مباح، وقسم محرم.
فالقسم الواجب: سفر لجهاد، وسفر الدعوة (يسافر يجاهد في سبيل الله، أو يدعو إلى الله).
القسم المستحب: إذا كان السفر لديار الكفر من أجل دراسة علم نافع لا يوجد في ديار المسلمين، وهذا العلم سيعود بالنفع على المسلمين، بشرط أن يكون آمناً على نفسه، قادراً على إظهار شعائر دينه.
القسم المباح: وهو سفر العلاج وسفر التجارة، من يسافر يعالج أهله في الخارج، أو تجارة بشرط أن يكون آمناً على نفسه من الفتنة، قادراً على إظهار شعائر دينه.
القسم المحرم: هو سفر التمشية والنزهة والاستجمام، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء ممن بات بين ظهراني المشركين) وأيضاً: (لا يتراءى نار المسلم مع نار الكافر) وديار الكفر فيها من البلاء والمصائب ما لا يعلمها إلا الله، وقد حمانا الله بأن عشنا في ديار الإسلام، فلماذا يذهب الإنسان ويمتع بصره بما حرم الله؟ ذنوبٌ ومعاص صانك الله منها فلماذا تذهب لتلطخ نفسك بها؟ وبعضهم يقول: أستجم، وأتمشى، ما الذي تتمشى عليه إنما ترى وجوه الكفار! ترى الخمور! وترى الكلاب والزنا! وترى القردة والخنازير! إذا أردت الاستجمام فاذهب إلى ديار المسلمين بشرط أن تكون آمناً على نفسك من الفتنة قادراً على إظهار شعائر دينك.
ولا يحتاج الأمر بذهاب النزهة إلى رضا الوالد حتى ولو رضي الوالد وأذن لك، فإن رضاه غير معتبر، ورضا الله قبل ذلك، إذا رضي أبوك أن تذهب إلى الخارج من أجل أن تستجم، فقد ارتكبت محرماً وارتكب الوالد أيضاً محرماً؛ لأن الراضي كالفاعل.(41/26)
حكم الذهاب للجهاد بغير إذن الوالدين
السؤال ما حكم الذي يذهب إلى الجهاد، هل يشترط إذن الوالدين؟
الجواب
نعم.
لا يصح أن يذهب الرجل إلى الجهاد إلا بإذن الوالدين؛ لأن حقهما مقدمٌ على حق غيرهما، والله يقول: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36].
فحقوق الوالدين مقدمة على كل حقٍ بعد حق الله عز وجل، فلا بد من استئذان الوالدين.(41/27)
حكم الصلاة في البيت وترك الجماعة بسبب المشاحنة
السؤال
عمري ستون سنة، وأنا في قرية صغيرة، ويوجد فيها مسجد صغير وأريد أن أصلي مع الجماعة، ولكن حدث بيني وبينهم مشاحنة، والآن أصبحت لا أحب أن أصلي معهم؛ لأنهم يحبون أن يتكلموا في الناس وهم لا يحبونني، وأصبحت أصلي في بيتي كل الفروض، وهذا منذ أكثر من عشر سنوات، وأصبحت لا أستطيع أن أذهب إليهم بعد هذه المدة، أما صلاة الجمعة فأصليها والحمد لله ولا تفوتني، فهل أنا محاسب لو مت؟
الجواب
أنت محاسب إذا مت بعدم صلاتك مع الجماعة، إذا كان بينك وبين الناس مشاكل لماذا تطورها إلى أن تقطع بيت الله؟ ما ذنب المسجد، هل بينك وبين المسجد مشاكل؟! هل بينك وبين الله مشكلة؟ فلا يجوز أن تقطع بيت الله عز وجل عن صلاتك فيه.
أما قولك يتكلمون في الناس فانصحهم ولا تتكلم معهم، ولا تحبهم، فليس شرطاً أن تحبهم ويحبوك، صلِ في بيت الله صلاتك واذهب إلى بيتك، أما أن ترتب على غضبك معهم أمراً آخر وهو ترك الجماعة فهذه مصيبة، فعليك أن تتوب إلى الله قبل الموت وتستغفر الله عز وجل عما حصل منك من تقصير.(41/28)
حكم من لا يعرف اتجاه القبلة
السؤال
أنا في دار لا أعرف اتجاه القبلة، وكان ذلك الوقت وقت صلاة المغرب، فصليت على ما غلب ظني أنها قبلة، وعندما كنت في التشهد الأول مر بي صاحب سيارة وقال: القبلة على اليسار يا رجل، فقطعت صلاتي وأقمت من جديد وصليت فهل يجوز لي ذلك، أم أستدير إلى القبلة ويكفي هذا؟
الجواب
نعم.
إذا اجتهدت واتجهت إلى القبلة ثم جاءك رجلٌ وأنت في الصلاة وقال: اتجه يميناً أو شمالاً، فاستدر يميناً أو شمالاً والصلاة صحيحة، ولا يطلب منك الإعادة، وإذا صليتها ثم سلمت منها واتضح لك أنك على غير القبلة فلا يلزمك إعادة؛ لأنك صليتها بناءً على اجتهادك والله لا يكلف نفساً إلا وسعها.(41/29)
حكم التوكيل في إمامة المسجد
السؤال
هل يجوز التوكيل في أي حال من الأحوال، والسائل إمام مسجد؟
الجواب
نعم، إذا كان الإمام له عمل يذهب فيه، وهذا العمل نادر لا يمكث فيه طويلاً؛ لأنه لا يخلو رجل من عمل، فلا بد أن يذهب الإنسان إلى وليمة، أو يذهب في سفر، أو يذهب للعمرة، أو يذهب في مراجعة، وهو إمام أو مؤذن؛ فينبغي له أن يوكل ولا يدع المسجد بغير وكيل.(41/30)
حكم التوسل بالرسل والصالحين والقرآن
السؤال
هل يجوز التوسل بالرسل أو الصالحين أو بالقرآن؟
الجواب
لا يجوز التوسل إلا بالعمل، ولا تتوسل بالناس، بل توسل بعملك، كما في حديث الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار -والحديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم - فتوسلوا بصالح أعمالهم، ولهذا جاء في الحديث القدسي: (وما تقرب إليَّ عبدي بعملٍ أحب إلي ممن افترضته عليه) فتتوسل بعملك وجهدك لا بجهد غيرك.(41/31)
حكم تعليم الإسلام للمرأة الأجنبية من قبل الرجل
السؤال
عند أقاربي خادمة نصرانية تريد أن تسلم، هل يجوز لي أن أعلمها الإسلام؟
الجواب
تعلمها بشرط عدم الخلوة، وإذا وجدت إمكانية لتعليمها عن طريق النساء فهو أفضل، فإذا لم تجد وأردت أن تبلغها فلا تخل بها، بل تبين لها أحكام الشرع وهي محجبة ولا تنظر إليها، ولا تفتتن بها، ثم إنه أخطأ الذي أتى بخادمة نصرانية؛ لأنه لا يجوز أن يستقدم عاملاً نصرانياً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر فيه بإخراج الكفار من جزيرة العرب.(41/32)
حكم الدخان
السؤال
الدخان والأغاني، ما حكمها؟
الجواب
أما الأغاني فقد أجبنا، وأما الدخان فحكمه حرام، وأدلة تحريمه كثيرة جداً، أذكر منها سبعة على سبيل الإيجاز: أولاً: أنه خبيث والله قد قال في القرآن الكريم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [لأعراف:157] والعقول كلها مجمعة على أن الدخان خبيث، لا يوجد أحد يقول: إن الدخان طيب، حتى الحيوانات لا تأكله، في اليمن يضعون التبغ وهو أخضر في فم الحمار فيرفض أن يذوقه وهو أخضر، وأنت تشربه وهو يابس، لا حول ولا قوة إلا بالله! فهو خبيث، وما دام أنه خبيث فماذا يصير حكمه؟ الحرمة؛ لأن الله قال: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] والله يقول: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:5] ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172] والله طيب لا يقبل إلا طيباً، فإذا أكلت خبيثاً صرت خبيثاً، وبعضهم يقول: إنه مكروه، إذاً أنت مكروه، فتأكل المكروه يا مكروه، هل أحد يريد أن يصير مكروهاً؟! لا.
ثانياً: أنه إسراف وتبذير، فالذي يحرق ريالاً أو أربعة ريال في (باكت) فهذا مجنون، ولو أحرقنا الآن عشرة ريال أمامكم ماذا تحكمون عليَّ؟ تحكمون عليّ بالجنون، فكيف بمن يحرق ريالاً ويحرق جوفه، إنه مجنونان وليس مجنوناً واحداً.
الثالث: أنه مفتر ومسكر، والدليل على ذلك أن شارب الدخان في رمضان إذا أفطر وشرب واحدة تبنج وتخدر ولم يستطع أن يقوم، أما الآن فلا يتبنج؛ لأنه مدمن دخان، أصبح مزاجه كله دخاناً، مثل مدمن الخمر لا يسكره الخمر لإدمانه عليه.
الرابع: أنه مضر بالصحة، والله قد حرم علينا كل مضر، قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29] والآن ترون (الباكت) مكتوباً عليه التدخين يضر بصحتك فلا تدخن، أليس كذلك؟ والناس يقرءون الكلام ويدخنون، لو أن شخصاً اشترى بسكويتاً وهو فاسد ولا يصلح للأكل هل تستطيع أن تأكله وهو بسكويت حلال؟ ولو اشترى شخص علبة (منجا) مكتوب فيها: هذه (المنجا) متسممة تضرك، هل سيشربها وهي طيبة؟ أعوذ بالله من عمى القلوب يا إخواني، الدخان مكتوب عليه تحذير رسمي، التدخين يضر بصحتك فلا تدخن، والشخص يشتري بأربعة ريال ويشعلها ويدخن.
الخامس: أنه لا يذكر الله عليه، ليس هناك أحد يسمي ويقول: باسم الله على الدخان، والله يقول: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121].
السادس: أنه لا يحمد الله عند خاتمته، فلا يوجد شخص إذا انتهى من الدخان قال: الحمد لله الذي أطعمني وسقاني، على ماذا تحمد الله، على النار والعياذ بالله لو تكلمت بها يضحك الناس عليك.
السابع: أنه يعلِّم صاحبه خصلة من خصال الحيوانات، وهي أن الإنسان إذا أكل طعاماً وبقي منه شيء رفعه، أما الحيوان إذا أكل طعاماً وبقي منه شيء داسه، وشارب الدخان إذا انتهى من (السيجارة) وضعها تحت قدمه وفحسها.
والمصيبة الأخرى أن يكون المدخن شيبة، وهذه من أعظم المصائب؛ أن ترى شخصاً في رأسه شيب وما زال يدخن -أعوذ بالله- أنت الآن تتجهز إلى الآخرة وما زلت تشرب الدخان! تلقى الله عز وجل وأنت مدخن وفمك مثل (البيارة) فم شارب الدخان (والشيشة) والذي يمضغ القات فمه -والعياذ بالله- مثل الجيفة، إذا اقتربت منه فإنك تشم رائحة كريهة جداً؛ لأن رئته ملتهبة، وبلعومه كله مملوء (بالنيكوتين) وأسنانه مسوسة ومسودة، وشفته محرقة، وانظر في (شكمان) السيارة تجده أسود وهذا فمه وحلقه مثل (شكمان) السيارة، انظر في المطبخ وانظر في البيت، المطبخ أسود والبيت منور، فقلب المؤمن الذي لا يدخن منور، وقلب ذلك المدخن وصدره مثل المطبخ أو مثل (الشيشة) والعياذ بالله.(41/33)
التوبة النصوح والاستمرار على الطاعة
السؤال
أنا شاب أذنبت ذنوباً لا يعلمها إلا الله، ولكني تبت وأسأل الله أن يتقبل توبتي، وأنا الآن أصلي الفروض والنوافل وأقوم جزءاً من الليل -والحمد لله- وأصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وأتصدق بقدر ما أستطيع، فهل تنصحني بإضافة أعمال أخرى إلى ذلك، وهل يجوز قراءة القرآن نظراً في صلاة الليل، وأحياناً أتقدم بالناس وأحس في نفسي بالخوف؟
الجواب
أولاً: أسأل الله أن يتوب عليك -يا أخي- وأن يثبتنا وإياك على الإيمان، أما ما تقوم به الآن من عمل فهو عمل جليل أسأل الله أن يزيدك خيراً وهداية وتوفيقاً، والمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، فلا تزد إلا إذا قدرت على هذه واستمريت، وكثر الله خيرك، أما قراءة القرآن في الليل نظراً من المصحف فلا بأس بها؛ لأن عائشة كان لها إمام يصلي بها التراويح نظراً.
وأما كونك تتقدم بالناس وتحس بالخجل؛ فهذا شيء طبيعي أن تحس بالخجل، ولكن بالتعود والاستمرار سوف يذهب عنك هذا الخجل، وسوف تكون قادراً على مواجهة الناس من غير خجل بإذن الله.(41/34)
علامة قبول التوبة عدم العودة إلى الذنب
السؤال
شاب له علاقة مع امرأة -والعياذ بالله- وقد عمل بها جريمة الزنا، فيتوب ويرجع، والآن هو تائب، فهل توبته الأخيرة مقبولة؟ وهل التوبات السابقة مقبولة؟ وهل يحاسب على ما فعله قبل التوبة الأخيرة؟ وهل هناك مكفرات لذنبه؟
الجواب
أما توبته الأخيرة إذا تاب بالشروط الخمسة المذكورة سابقاً فهي مقبولة -إن شاء الله- وتوبته السابقة ما دام رجع منها فهي غير مقبولة، إذ لو قبلت لاستمر، لكن دليل عدم قبولها أنه رجع وانتكس -والعياذ بالله- أما أنه يحاسب عليها فإذا تاب توبة صحيحة صادقة نصوحاً فلا يحاسب؛ لأن الله يغفر الذنب العظيم، ويقبل التوبة، ويعفو عن السيئة بشرط الصدق مع الله.
أما هل هناك مكفرات فالمكفرات هي زيادة الحسنات؛ لأن الله يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود:114 - 115].
وأسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يتوب علينا جمعياً، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله أعلم.(41/35)
رسلاً مبشرين ومنذرين
إن الله عز وجل قد خلق الإنسان لعبادته، ثم جعل له أدلة في طريقه لتدله على طريق الحق، وهي: الفطرة، والآيات الكونية، والعقل.
وهذه كلها حجة على العبد باعتبارها دلته على طريق الحق، ثم لما لم تكن هذه الحجج قاطعة أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الآيات السمعية، وبها تكون الحجة قد اكتملت.(42/1)
موقف النبي صلى الله عليه وسلم من تكذيب المكذبين
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله! هذا الدرس يلقى بمدينة جدة في جامع الشعيبي، بعد مغرب يوم السبت الموافق (28 ربيع الآخر عام 1416) للهجرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وعنوانه: (تأملات قرآنية) وكما قلنا في أول درسٍ من هذه السلسلة: إن هذه التأملات ليست تفسيراً للآيات التي نتلوها، وإنما هي نظرات ووقفات وتأملات نسترشد فيها بهدي تلك الآيات، ونسير في الايحاءات القرآنية التي تهدف إليها تلك الآيات التي يتم اختيارها من بعض سور القرآن الكريم.
وتأملاتنا هذه الليلة ستكون لآياتٍ من سورة النساء، هذه الآيات يقول الله عز وجل فيها: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً * رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [النساء:163 - 166].
نزلت هذه الآيات على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يواجه موجةً عارمة من التكذيب، والرد، والرفض في كل الجبهات، وعلى كل الاتجاهات، فالكفار مغالطون ومعاندون، يجحدون هذه الرسالة ويأبون أن يصدقوا بها، رغم أن لديهم علم اليقين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق، ولهذا يقول الله تعالى له في سورة الأنعام: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} أي: هم يعرفون أنك صادق {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] وقضية العناد هذه لا تملك لها علاجاً، قد يصر شخص على ألا يقبل منك ولا يصدقك ولو كنت صادقاً فكيف تتصرف معه؟ بل لم يكن عندهم شك في أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق.(42/2)
موقفه صلى الله عليه وسلم من تكذيب قريش له
عندما بعث الله الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتب والرسل إلى ملوك أهل الأرض، بعث برسالة إلى هرقل -عظيم الروم- وقبل أن يقرأها كان عنده علم بصدقه صلى الله عليه وسلم، ويعرف أيضاً أنه زمن خروج نبي، فأراد أن يتثبت فقال: هل من جماعته أو عشيرته أو قرابته أو من العرب أحد في تلك الديار موجود عندنا؟ قالوا: نعم.
فجاءوا بمجموعة من تجار العرب ومعهم أبو سفيان، فوضع أبو سفيان أمامه وصف البقية خلفه، وقال للذين معه: قفوا وراءه صفاً واحداً، وسوف أسأله أسئلة، فإذا كذب أشرتم إشارة تدل على أنه كذاب، يقول أبو سفيان: [والله لولا أنه يؤثر عني أني كذبت لكنت كذبت] لكن العربي لا يكذب حتى لو كان كافراً، فكيف يكذب وهو مسلم؟ ولقد أصبح اليوم المسلم لا يتمسك بعروبته ولا بإسلامه، فلقد أصبح أكذب شخص في الدنيا هو المسلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله! لكن العربي وهو كافر، يقول: خشيت أن ينقل أو يؤثر عني أني كذبت، فوقف أمامه وجعل يسأله الكثير من الأسئلة، والشاهد من هذه القصة: أنه سأله في النهاية: هل جربتم عليه كذباً؟ فقال: لا.
فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس، ثم يكذب على الله! الكذاب كذاب على الناس وعلى الله، والكذاب كذاب من يوم يولد وهو يكذب ويتعلم الكذب ولا يصل إلى الأربعين سنة إلا ومعه شهادة الكذب، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف الكذب في حياته، أي: ما كذب كذبة صغيرة ولا كبيرة، لا في جاهليته ولا قبل البعثة ولا بعدها، صلوات الله وسلامه عليه، ثم يكذب بعد أربعين سنة؟! لا.
ما كان ليكذب صلى الله عليه وسلم، ولما نزل قول الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] صعد على الصفا ودعا بني هاشم وبني عبد المطلب وقال: (إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم) ثم قال: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً مصبحكم أو ممسيكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً قط -معروف أنك صادق، أو بعد أربعين سنة تكذب؟! - قال: فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديد) قالوا: تباً لك، ألهذا جمعتنا؟! قالها أبو لهب، فأنزل الله فيه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1].
فلم يكن عندهم شك في صدقه صلى الله عليه وسلم، ولكنه العناد والإباء والرفض والاستكبار من هم؟ كفار مكة ومشركوها.(42/3)
موقفه صلى الله عليه وسلم من تكذيب اليهود له
أما الفئة الثانية: فئة اليهود: اليهود يعرفون أنه نبي، يقول الله عز وجل: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] هل عندك شك في أولادك؟ أي: لو دخلت مجمعاً، أو مدرسة، أو ملعباً ورأيت ملايين الأولاد، هل تخطئ أولادك؟! والله إنك تعرف أولادك من بين ملايين الناس، كذلك اليهود يعرفون سماته وصفاته وعلاماته الموضحة في كتبهم كما يعرفون أبناءهم، ثم قال الله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146] وبعد ذلك لماذا كذبوا؟ {حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] يعرفونه ولكن الحسد بدأ يأكل قلوبهم، يقول الله تعالى فيهم: {حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة:109] كيف تنتقل الرسالات من بني إسحاق إلى بني إسماعيل؟! الرسالات كلها كانت في إبراهيم، ثم في ولده إسحاق، ثم في ولده يعقوب، ثم في ولد يعقوب، ثم تسلسلت الرسالات على هذا المنوال، ثم نقل الله هذا الشرف من بني إسرائيل -وهم بنو يعقوب- إلى بني إسماعيل وهو محمد صلى الله عليه وسلم لِمَ نقله؟ لما حصل من اليهود من الرفض، والتكذيب، ونقض العهود، وقتل الأنبياء، والحيل، وارتكاب المعاصي حتى لعنهم الله تعالى، قال الله عز وجل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
فالله عز وجل لما تمادوا في غيهم وطغيانهم قال فيهم: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} [المائدة:13] لعنهم الله؛ لأنهم يعاهدون ثم ينقضون المواثيق، ويحتالون على الله، أي: يحرم الله عليهم الحرام فيصطنعون حيلة على الله ليحلوا ما حرمه.
ومما حرم الله عليهم الصيد يوم السبت، فقالوا: نحفر حفراً يوم الجمعة، ويأتي السمك في هذه الحفر يوم السبت، ونمسكه يوم الأحد!! هذه حيلة على من؟! على من يحتالون؟! قال الله تعالى عنهم: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً} [الأعراف:163] حرم الله عليهم الصيد يوم السبت، ولهم أن يصيدوا يوم الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، لكن في هذه الأيام لا توجد الأسماك؛ ويوم السبت يمتلئ البحر بالسمك، بل تأتي شرعاً، أي: تقلب بطونها لهم لتريهم، كأنها تقول لهم: إني موجودة، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ} [الأعراف:163] فلما أخذوا منها، قال الله عز وجل: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65] مسخهم الله تعالى قردة.
فهؤلاء عندما انتقلت الرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس من نسل إسحاق بن إبراهيم، ولكنه من نسل إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام امتلأت قلوبهم حقداً وحسداً فكذبوا ورفضوا، أي: شككوا في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم رغم علمهم ويقينهم أنه رسولٌ من عند الله.(42/4)
حزنه صلى الله عليه وسلم لمصير المكذبين
كان النبي صلى الله عليه وسلم إزاء هذا التكذيب، وهذا الرفض والاستهزاء والإيذاء والمحاربة يكاد قلبه يتفطر؛ لأنه ليس أصعب على النفس البشرية من أن تكذب وهي صادقة، فلو أتيت بخبر إلى الناس تقول: إني رأيت بسيارة مقلوبة بسبب حادث فقالوا: كذاب.
ما رأيك؟ ماذا تفعل؟ يتقطع قلبك، تقول: كيف كذاب؟! قالوا: كذاب كذاب، تقول: رأيت بعيني، يقولون: كذاب ماذا يحصل لك؟ وما هي ردة الفعل عندك؟ صعبة جداً لا تتحملها.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه، والكفار يقولون: هو من الجن، ولو تيقنا أنه من الجن لعالجناه، وإن كان هذا الذي يأتيه خبال داويناه سبحان الله! صادق مصدق يأتيه الوحي من السماء بالقرآن المبين، ومع هذا يكذب! فكانت نفسه من داخله تتقطع أسىً وحسرة، ويعزيه الله عز وجل ويقول له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6] أي: لعلك مهلك نفسك؛ تريد أن تقتل نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا القرآن لا عليك: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8] {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} [لقمان:23] {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} [الزخرف:83] {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} [الحجر:3] اتركهم {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:25 - 26].
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، كان يتألم أن يكون هؤلاء في النار، كان يريد أن ينقذهم من النار، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت الفراش تتقحم في هذه النار وأنا آخذ بحِجزكم) أي: أنا أبعدكم عن النار وأنتم تتزاحمون للوقوع فيها، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد.
ما أرحم هذا النبي! {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فتأتي هذه الآيات في سورة النساء لتثبته، وتشعره بأنه نبي، وأنه يوحى إليه، وأن هذا الوحي ليس خاصاً به، وإنما سبقه فيه سلسلة من الأنبياء ممن اختارهم الله عز وجل، وجعلهم وسطاء وسفراء بين السماء والأرض، فاصطفاهم الله عز وجل، قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] الله يصطفي ويختار؛ فاختار هؤلاء الأنبياء ليكونوا رسلاً يهدون الناس.(42/5)
قصة نوح عليه السلام
قال الله عز وجل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163].
ونوح هو أول الرسل؛ أول رسول بعثه الله إلى الأرض هو نوح عليه السلام، بعد أن بدل الناس دينهم، وعبدوا الأصنام، وعبدوا غير الله عز وجل، بعث الله عز وجل نوحاً عليه الصلاة والسلام، فمكث يدعو في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومارس ألواناً متعددةً وصنوفاً كثيرة من أساليب الدعوة: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} [نوح:5] كان دءوباً في عمل الدعوة، أي: ما كان يدعو بمحاضرة في الشهر مثلنا، لا.
بل ليلاً ونهاراً.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح:5 - 7] حتى لا يسمعوا {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} حتى لا يروه {وَأَصَرُّوا} أي: على الشرك {وَاسْتَكْبَرُوا} أي: على الآيات {اسْتِكْبَاراً} ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} [نوح:8] أي: دعوة علنية {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح:9] دعوة سرية، أي: كل واحد يدعوه لوحده {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} [نوح:10] وهذا من أعظم أساليب الدعوة أن تذكر الناس بنعم الله، فإنك إذا ذكرت الناس بنعمة الله أشعرتهم بحب الله لهم الذي تفضل عليهم بهذا الفضل {إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} [نوح:10 - 18] إلى آخر الآيات.
ورغم كل هذه الأساليب والطرق والوسائل والمدة الزمنية الهائلة -ألف سنة إلا خمسين عاماً- قال الله تعالى له: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود:36] وقال عز وجل: {وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40] قال المفسرون: كان نتيجة هذا العمر الطويل والجهد الكبير اثني عشر رجلاً فقط.
ألف سنة ليلاً ونهاراً ثمرتها اثني عشر رجلاً! وبعد ذلك لما قال الله تعالى: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36] أي: لم يعد هناك من سيدخل في الدين، فدعا نوح ربه: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26] أي: إذا لم يعد هناك من سيدخل في الدين فما الفائدة التي تنتظر من هؤلاء.
{إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ} [نوح:27] إن كنت يا رب لم تعذبهم وتهلكهم فسَيُضلوا هؤلاء الاثنى عشر الذين معي ويزعزعوهم ويردوهم عن دينهم، وإذا ولدوا لا يلدون إلا فاجراً كافراً: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:27].
قال تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر:11] انظروا إلى الاستجابة الربانية! جاءت بعد بذل الجهد البشري وهكذا الأنبياء ما كانوا يدعون على أقوامهم مثل ما نفعل الآن؛ بمجرد أن تدعو واحداً ولم يستجب تقول: أهلكه الله سبحان الله! أنت تريده على مرادك؟! وهدايته ليست على مرادك، بل بإرادة الله، فإذا أذن الله له بالهداية نزلت، ولهذا نوح ما دعا من أول أسبوع، ولا أول سنة، ولا أول مائة سنة بل لم يدع بعدها إلا لما قال الله تعالى له: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ} [هود:36] قال: يا ربِ! ما دام أنه لن يؤمن أحد فما فائدة بقائهم؟ إنك إن تذرهم لا يؤمنوا، أنا يا رب لا أصبر عليهم إلا رغبة في إنقاذهم، لكن ما دمت قد أخبرتني بعلمك السابق أن هؤلاء لن يؤمنوا {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} [نوح:27] لم يبق منهم إلا الإضلال {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:27].
فالله عز وجل علم صدقه، وجهده فعذبهم، قال الله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:11 - 12] أي: التقى ماء السماء مع ماء الأرض وحصل الطوفان والغرق! أغرق الله عز وجل أهل الأرض كلهم، ولم ينج من تلك الفيضانات وذلك الطوفان إلا من ركب في السفينة، وكان الله عز وجل قد أوحى إليه أن يصنع الفلك، وكان يصنعه في الصحراء -لا يوجد بحر- وكلما مر عليه ملأ من قومه سألوه، قالوا له: ما هذه السفينة يا نوح؟ قال: هذه السفينة سوف أركب فيها وأنجو وأنتم سوف تغرقون كلكم، قالوا: أين البحر؟ -أتصنع السفينة في الربع الخالي؟ السفينة تصنع عند البحر- قال تعالى: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:38] يعني: ضحكوا عليه، ولكن كان عنده ثبات على الحق، وكان على يقين من أمر الله تعالى، وما كان ضعيفاً، وهكذا يجب أن يكون المسلم حتى ولو سخر منه.
إذا سخر منك أحد؛ لأنك تمسكت بالدين، أو بالسنة، أو سلكت الطريق الصحيح، فيجب أن تثبت ولا يحملك هذا الاستهزاء على أن تتراخى، أو أن تضعف، أو ترى أنك على شيء غير طيب لا.
{قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] أي: نحن أولى بالسخرية منكم، أنتم تسخرون منا ونحن على الحق، فنحن أولى بالسخرية منكم؛ لأنكم على باطل.
ثم نزل الماء وحملت السفينة كل المؤمنين من أهله في العقيدة؛ لأن الله تعالى قال له: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون:27] يعني: أهله في العقيدة لا من النسب، ولكن نوحاً عليه السلام كان يظن أن معنى أهله: زوجته وأولاده وجماعته كما نظن نحن، فأركب المؤمنين وقال نوح لولده وكان كافراً: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} [هود:42] لكن عقلية الولد عقلية مادية، قال: سأذهب إلى جبل! يظن أن المسألة سهلة، والحقيقة أن هذا طوفان من رب العالمين، لا ينجو منه أحد: {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43] فقام نوح وتذكر أن الله قد وعده أن ينجي أهله: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45] أي: أنت قلت لي: أركب الأهل وهذا ابني من أهلي، قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] إن الأهلية -أيها الإخوة- هنا أهلية الدين، فإذا كان ولدك ليس على الإسلام فليس ولدك، وإنما رابطة العقيدة هي أعظم رابطة تربط بينك وبين الناس، والله تعالى يقول: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ} [المجادلة:22].(42/6)
تتابع الأنبياء من بعد نوح
أوحى الله إلى نوح وإلى النبيين من بعده، وعدد الأنبياء والرسل كثير، لم يقص الله علينا في القرآن إلا قصة أربعة وعشرين نبياً ورسولاً؛ جاء منهم ثمانية عشر في سورة الأنعام من قول الله عز وجل: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} [الأنعام:83] وستة جاءوا متفرقين في ذكرهم في القرآن الكريم، قص الله عز وجل في القرآن بعضهم وبعضهم ما قصهم، قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [النساء:163] ابن إسحاق.
{وَالْأَسْبَاطِ} [النساء:163] أولاد يعقوب.
{وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} [النساء:163] الزبور الكتاب الذي أنزل على داود كان {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:164] أي: في القرآن {وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] وموسى مختص بهذا، كل الرسالات كانت تنزل وحياً إلا رسالة موسى فقد كلمه الله تعالى، يقول الله تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] فهو كليم الله {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} [الأعراف:143] إلى آخر الآيات.
والرؤية المنفية هنا رؤية الناس لله في الحياة الدنيا، فإنهم لا يستطيعون ولا يقوون على مواجهة نور الله عز وجل، ولكن يوم القيامة يرون الله تبارك وتعالى كما صحت بذلك الأحاديث، وجاءت بذلك الآيات، وعقيدة أهل السنة والجماعة: أن أهل الإيمان يرون ربهم يوم القيامة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يرى ربه، وأن يمتع أبصارنا وإياكم برؤية وجهه الكريم في الدار الآخرة.
وهذا خلافاً لعقيدة المعتزلة وبعض الخوارج كـ الإباضية فإنهم لا يرون أن الله يرى، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وقد رد عليهم العلماء، فقالوا: نعم.
لا ترونه؛ لأنكم في الدار الثانية؛ لأن الله تعالى يقول: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ} من هم هؤلاء؟ هم أهل النار {يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] وهذه الآية فيها دلالة على أن الله لما أخبر أن الكفار محجوبون عن الله، فيدل على أن أهل الإيمان ليسوا بمحجوبين عن الله سبحانه وتعالى، ويقول الله تعالى في آية أخرى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] يستدل أهل السنة والجماعة على إثبات الرؤية بهذه الآيات، وكذلك الأحاديث في الصحيحين: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة النصف لا تضامون في رؤيته) هذا حديث في الصحيحين، وهو صريح ولا مجال لتأويله.
هذا كليم الرحمن موسى عليه السلام، ثم قال عز وجل بعدها: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164].(42/7)
وظيفة الأنبياء وأتباعهم
بين الله عز وجل وظيفة الأنبياء ودورهم، ودور أتباعهم إلى يوم القيامة فقال: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [النساء:165] هذه وظيفة الداعية، سواء كان رسولاً أو وارثاً للرسول صلى الله عليه وسلم.(42/8)
التبشير بالجنة لمن عمل صالحاً
هم مبشرون برحمة الله وبما أعده الله لأهل الإيمان من السعادة في الدنيا، وعند الموت، وفي القبر وفي أرض الحشر، وفي دار السعداء في جنةٍ عرضها السماوات والأرض: (فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
فهؤلاء الأنبياء يبشرون الناس بهذا، ويتصور بعض الناس أن آثار الدين والإيمان فقط في الآخرة! وهذا ظن خاطئ، إن بشرى الدين وآثاره معك في الدنيا قبل الآخرة، ففي الدنيا بشرى الأمن والطمأنينة والسعادة والراحة والرزق والتوفيق والهداية والسداد، كل هذه تأتي في الدنيا، والله إنه لا سعادة في الدنيا إلا في دين الله، يقول الله عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] ما هي الحياة الطيبة؟ حياة الدين، والقلب، والإيمان حياة شرح الصدر! والتوجه إلى الله، ومحبته، ومحبة رسوله ودينه وبيوته وكتابه، والاستعلاء على النفس، والانتصار على الشهوات، والترفع عن النزوات هذا هو الدين، وهذه هي الحياة! ليست الحياة الطيبة زنا، أو كأس خمر، أو غانية، أو سهرة، أو رحلة، أو تمشية، أو أكلة؟! هذه حياة البهائم والحيوانات، والله تعالى يقول في الكفار: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] ويقول الله عز وجل: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].
فالرسل يبشرون الناس بهذه الحياة {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} [النحل:30] أي: حسنة في الدنيا.
ما هي هذه الحسنة في الدنيا؟ أنك تعيش مربوطاً بربك، أي: تعيش وأنت تتلقى توجيهاتك وتعليماتك في كل جزئية من جزئيات حياتك من الله، أي تكريم أعظم من هذا التكريم؟ أنت تتلقى كل توجيه حتى وأنت تأكل أي مادة، شهوة من شهوات النفس، تأكل باسم الله، وتأكل بيمينك، وتأكل مما يليك، بل تأتيك التعليمات الربانية التي جاءت على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنت تمارس شهوتك؛ تأتي أهلك، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يأتي أهله فيقول: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ثم رزق ولداً إلا عصمه الله من الشيطان) الله أكبر! ما أعظم هذه الحياة، أن تعيش في الأرض مربوطاً بالسماء؛ في كل حركة قبل أن تعملها تسأل نفسك: ماذا أصنع؟ ماذا قال الله سبحانه وتعالى؟ ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لكن بغير القرآن والسنة كيف يعيش الإنسان؟ يعيش ضائعاً ضالاً، تتخبطه الشياطين، وتتقاذفه الأهواء، وتلعب به الفتن، لا يدري إلى أين يتجه، ضال يقول الله عز وجل: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] أهذا مثل هذا؟ {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]؛ شخص يمشي في ظلمة الليل ومعه نور كلما مر على حفرة، أو مطب، أو شوكة، أو مسمار، أو أي شيء اهتدى بالنور الذي معه، وشخص آخر يعيش في الظلمة لا يدري أين يسير يتخبط {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:122] ليست ظلمة واحدة ولكنها ظلمات {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
فتعيش في الدنيا بالإيمان بهذه الحياة -حياة الدين- وعند الموت إذا مت تجني ثمرات الإيمان، وأولها الثبات على لا إله إلا الله، وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) يعني: من علامات حسن الخاتمة أن تقول عند الموت: لا إله إلا الله، هذه تعتبر جواز سفر وبطاقة مرور إلى الجنة، لكن من الذي يقولها هناك أيها الإخوة؟! هناك لا يتكلم اللسان إلا بتثبيت من الرب، يقول الله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] فمن ثبته الله على لا إله إلا الله في الدنيا ثبته الله عليها في الآخرة؛ لأن العلماء يقولون: إن أول واجب وآخر واجب هي: لا إله إلا الله، بمعنى: أن الشخص إذا أراد أن يدخل في الإسلام ماذا يلزمه أن يقول؟ لا إله إلا الله.
ولو صلى قبل أن يقول: لا إله إلا الله، فما حكم صلاته؟ غير مقبولة، ولو زكى، وحج، وجاهد ومات في سبيل الله قبل أن يقول: لا إله إلا الله فإنها لا تنفع، فلابد أن تقول: لا إله إلا الله قبل أي عمل، لماذا؟ قالوا: لأن هذا عهد، أي: هذه اتفاقية توقعها مع الله قبل أن تدخل في الدين، تقول: لا إله إلا الله -أي: توقع الاتفاقية مع الله- وبعد ذلك تنفذ أحكام لا إله إلا الله، فإذا نفذتها فإنك عند الموت تقول: لا إله إلا الله، لماذا؟ لأنك صادق في كلمتك الأولى، ونفذت الاتفاقية، وأوفيت بالعهد، فكان على الله أن يثبتك عليها.
ولكن إذا قلت: لا إله إلا الله، وبعد ذلك خنت العهد ولم تنفذ الاتفاقية، لم يثبتك عند الموت، لماذا؟ لأنك ساقط في الاتفاقية.
شخص كان يدخن، وعندما مات قالوا له: قل لا إله إلا الله، قال: أعطوني دخاناً، قالوا: ما معك دخان، الرجل يريد أن يدخن حتى في القبر، لا يريد أن يمشي إلا بدخان، قالوا: سوف تموت الآن، قل: لا إله إلا اله، قال: أنا بريء منها، والله لا أقولها! بريء من لا إله إلا الله؛ لأنه ما عاش عليها.
وآخر كان يسير بسرعة جنونية والسيارة ترقص على نغمات الأغاني، بل بعضهم يركب (ديسك) موسيقى صاخبة -غربية- ولا يدرك ما يقال، لا يدري أهو كلام إنجليزي أو فرنسي، ولكن فقط يراه مع الناس - (ما الخيل يا شقراء) - فكان يسير بسرعة جنونية فحدث له حادث مروري، وجاءوا عليه وقد قطع (الدركسون) بطنه، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، قال له الناس: قل لا إله إلا الله، قال: هل رأى الحب سكارى مثلنا، وكان الشريط يغني هذه الكلمة، قالوا: قل لا إله إلا الله، ستموت الآن لا يوجد معك سكارى ولا حب، قال: أعطني حريتي أطلق يدي، يقول: فكوني! لكن لن يفكوك فهؤلاء ملائكة ليس عندهم لعب، أنت الآن مطلوب للمحاكمة عند رب العزة والجلال، أين المفر؟ {كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة:11 - 12].
فهذه الكلمة: (لا إله إلا الله) هي العهد الذي بينك وبين الله، إذا وفيت بها عند الحياة تثبت عليها عند الموت، وإذا ثبت على لا إله إلا الله كانت هذه هي أول علامة من علامات حسن الخاتمة -نسأل الله وإياكم من فضله- والله كم هو شرف لك أن تقول: لا إله إلا الله عند الموت، وكم هو عار أن يصرف لسانك عن لا إله إلا الله، فتعيش ستين أو سبعين سنة وتموت ولا تقدر أن تقول: لا إله إلا الله! والذي لا يقدر أن يقول هذه الكلمة عند الموت كيف ستكون خاتمته؟ نعوذ بالله وإياكم من ذلك.
وفي القبر يسأل ويثبت، وفي الحشر يثبت ويفرح، الملائكة عند رأسه تقول: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] وبعد ذلك في الجنة يقال لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ} أي: نظراؤكم {تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:70 - 72] الأنبياء والرسل هم المبشرون بهذا كله.(42/9)
الإنذار من عذاب الله في الدنيا
منذرون، أي: من لم يستجب ينذرونه من عذاب الله في الدنيا، ولا يتصور أحد أنه إذا عاش في لذة وبسطة أنه في نعيم، لا والله.
إنه في عذاب ولو ملك الملايين، يقول الله عز وجل: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة:55] بعض الناس يتصور أن الأموال الحرام عذاب في الآخرة فقط، لا.
بل هي عذاب في الدنيا أيضاً؛ عذاب في التجميع، والحصر والمحافظة والإنفاق في الحرام، وعذاب إذا مات، ويراها أمامه وإذا به يُجن.
رجل من الأثرياء زرته لأطلب منه المساهمة في مشروع خيري، فقال: هذه الملايين ما جاءت إلا وأنا قريب من الموت، قلت: ما بك؟ قال: مصاب بالسكر، ولا آكل إلا الحبوب، حبة في الصباح وحبتين في المساء، وخبز يابس، وكوب من الحليب، لا شحم ولا لحم ولا أرز ولا فواكه ولا خضروات ولا أي شيء، قلت: قدمها أمامك، قال: أنت مجنون؟ ذهب عقلك؟! قلت: والله إنك أنت المجنون فلا أنك ستقدمها ولا ستأكلها، محروم فقط! محافظ عليها حتى يموت.
أجل -يا أخي الكريم- عذاب هذه الدنيا إذا لم يكن فيها دين! والأنبياء والرسل ينذرون ويحذرون الناس من عذاب الدنيا إذا تركوا الدين، ولا نقول للناس: دعوا الدنيا، لا.
إذا جاءتك الدنيا وأنت على دين فنعم المال الصالح في يد العبد الصالح، تستعين به على الطاعة، وتخرج منه الزكاة، وتؤدي فيه الحقوق، وتساهم في أعمال البر هذا مطية إلى الآخرة، بل يوجد ركن من أركان الدين لا يقوم إلا بالمال، وهو ركن الزكاة، وعثمان رضي الله عنه لما جهز جيش العسرة بثلاثمائة بعير، قال عليه الصلاة والسلام: (ما ضر عثمان ما صنع بعد اليوم) مال لكن نعم المال الصالح في يد العبد الصالح، ودعوتنا ليست لترك المال، ولكن لجمع المال من الحلال وإنفاقه في وجوه الخير والحلال، ولا مانع من التمتع بشيءٍ منه في الحلال؛ لأن الله تعالى يقول: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) إذاً: لا مانع أن تشتري سيارة جيدة فارهة ولو كانت غالية، لكن تجعلها في طاعة الله؟ فتذهب بها إلى العمرة، ومجالس الذكر، والمساجد، وتزور بها الأرحام، ولا مانع أن تذهب بها إلى المسجد النبوي، أو إلى النزهة بأهلك إلى الجنوب أو إلى أي منطقة، أو تقضي بها حوائجك، لا مانع، فهذا طيب.
كذلك لا مانع أن تسكن في عمارة واسعة ومكيفة وجميلة، لكن تعمرها بذكر الله وبطاعة الله، ولا مانع أن تتزوج بزوجةٍ جميلة أو اثنتين إذا رزقك الله، ولكن تربيهن على الدين وهكذا.
لكن المصيبة، واللعنة، والخسارة، والدمار، أن يعيش الإنسان في دنياه بمعزلٍ عن الدين؛ مال لكن من الحرام، وصرف لكن في الحرام، وعمارة لكن مملوءة بالحرام، وسيارة ولكن تستخدم في الحرام، ما قيمة السيارة هذه؟ بعد السيارة نعش، وبعد العمارة والقصر قبر، وبعد الحياة والنور ظلمات، وبعد التحصيل والأوامر سؤال، يقول الله عز وجل: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93] {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:24] وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزولا قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع) الأقدام مثبتة في عرصات القيامة لا تتحرك حتى تجيب، فإذا أجاب سمح له بالتحرك إلى الجنة، وإذا لم يجب يسحب على وجهه إلى النار.
(وعن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه) انظروا كلمة (أفناه) للعمر، لكن (شبابه أبلاه) مثل الثوب الذي كان جديداً ثم بلي، كذلك الشباب يبلى، أين أبليت شبابك؟ في طاعة الله؟ بعض الناس يقول: اتركني أبلي شبابي في المعاصي وإذا صرت شيخاً كبيراً تبت إلى الله، لا.
يا أخي! فلعلك لا تتوب، فالذي يشب على شيء يشيب عليه، ويموت عليه، كم رأينا الآن كباراً في السن أعمارهم سبعين أو ثمانين سنة وهم ألعن من الشياطين! فالذي لا يوجد فيه خير في شبابه لا يوجد فيه خير في شيبته:
إن الغصون إذا عدَّلتها أعدلت ولا تلين إذا صارت من الخشب
فشبابك كالغصن تستطيع أن تلوي فيه نفسك على الدين، لكن إذا خشبت فلن تستطيع، خشب على قل الدين والعياذ بالله.
أجل أنت -يا أخي في الله- يوم أن تعمل بطاعة الله تدخل الجنة {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:70 - 72] فالدنيا إذا لم تستقم على منهج الله، ورفضت إلا أن تعيش في الدنيا على المعاصي، فترقب عذاباً في الدنيا، وعند الموت، وما هو العذاب عند الموت؟ قال العلماء: الحرمان من نطق الشهادة، حتى إن الرجل ليقول: رب ارجعون.
من أجل أن يعمل الصالحات ويقول: لا إله إلا الله، فتقول الملائكة: لماذا تريد أن ترجع؟ ما الذي تملكه هناك؟ قال: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً} [المؤمنون:100] لم يقل: لعلي أرى أولادي، أو مؤسستي، أو رصيدي، أو العمارة ما أغلقتها، والمزرعة ما رأيتها، والماسة مملوءة بالمعاملات، لا.
هذا كلام فارغ، فقد عرف أن هذا لا ينفع، فقال: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً} [المؤمنون:100] حسناً لماذا لا تعمل عملاً صالحاً من الآن؟ تبقى على السيئات حتى يضرب رأسك في القبر، ثم تقول: ردوني؟ ما معك إلا ما عملت؟ {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:100 - 104].(42/10)
الإنذار من عذاب الله في القبر
ثم ينذرك الأنبياء والرسل من عذاب القبر.
وعذاب القبر -أيها الإخوة- كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منه، فقد ثبت في الصحيحين أنه كان يقول بعد فراغه من التشهد في الصلوات: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) وكان يقول صلى الله عليه وسلم: (استعيذوا بالله من عذاب القبر).
وكان عثمان رضي الله عنه إذا ذكر عذاب القبر بكى، وإذا ذكر الجنة والنار لا يبكي، فقيل له في ذلك: قال: [إن القبر أول منازل الآخرة، فإن كان حفرة من حفر النار فمن بعده أشد، وإن كان روضة من رياض الجنة فما بعده أفضل] ولهذا كان يخاف من عذاب القبر؛ لأنه المنزلة الأولى، فإن كان قبرك روضة فما بعده الجنة، وإن كان القبر حفرة من حفر النار كان ما بعده النار؛ لأنه المقدمة، والوجبة الأولى، والوجبة الثانية والأخيرة في جهنم، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فالقبر تنجو منه بإذن الله عز وجل يوم تستجيب لأمر الله، لكن إذا عييت! يسأل في قبره: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: هاه.
لا أدري، وبعد ذلك في عرصات القيامة يبعث والخوف يغشاه، يقول الله عز وجل وهو يصور لنا هذا المشهد حتى كأننا لنراه رأي العين: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [المعارج:43 - 44] ترهق، أي: تعلوه الذلة والخوف {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:44] وبعدما يتورط في ورطات يوم القيامة يمر على الصراط فيسقط على أم رأسه، ويأخذ كتابه بشماله، ويطرد من حوض النبي صلى الله عليه وسلم، ومن مظلة الرحمن، ويوزن فيطيش ميزانه؛ لأنه تافه ورخيص لا قيمة له عند الله: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف:105] يسحب على وجهه إلى النار، لا يمشي مشياً، هل يريد أحداً أن يمشي إلى النار؟ لا.
لكن الله عز وجل قال: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48] ويقول الله عز وجل: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء:97] وبعد ذلك إذا وصلوا إلى النار يدفعون فيها: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:13 - 16] نعوذ بالله وإياكم من سخط الله.
وفي النار -أيها الإخوة- ما لا يتصوره العقل، يقول الله عز وجل: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] يبدو لهم من العذاب ما لم يخطر لهم في بال وكما أن في الجنة ما لا يتصوره العقل وكذلك أيضاً ففي النار ما لا يتصوره العقل من العذاب، نعوذ بالله وإياكم من عذاب النار.(42/11)
حجج الله تعالى على عباده
{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [النساء:165] أيها الإخوة! ألا يكفي هؤلاء الرسل، وخاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام؟! لكن الله تبارك وتعالى جعل الحجة بالرسل، قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] يعني: لا توجد حجج بعد الرسل؟ بلى.
ولكن رحمة الله واسعة، فالله عز وجل قد أقام الحجة على الناس بأشياء كثيرة:(42/12)
أولاً: الفطرة
فطرهم على الدين، وهذا هو العهد الذي أخذه الله عز وجل على آدم وذريته في الأزل، يقول الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] هذا الميثاق الأول {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا} [الأعراف:172] أي: لئلا تقولوا: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف:172 - 173] فالله عز وجل أخذ علينا العهد في الأزل، فقد ورد في الحديث: (إن الله عز وجل مسح بيده على ظهر آدم، فنثر ذريته كالذر، ثم أشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى) وهذه يسميها العلماء: الفطرة التي غرسها الله سبحانه وتعالى في طبع كل إنسان، فهو يعرف أن هناك خالق ومعبود وهو الله سبحانه وتعالى، ولهذا فالإنسان عابد بفطرته، لكن المشكلة أن من الناس من عبد غير الله؛ لأن الناس كلهم يعبدون، ولا يوجد أحد في الدنيا إلا وعنده إله، حتى في زمن الأولين عبدوا الهياكل، والكواكب، والنجوم، والشجر، والحجر، والبقر، والشيطان لكنها معبودات باطلة إلا الله فعبادته حق.
ونتصور الآن أكثر من ألف مليون هندوسي يعبدون البقرة! انظروا إلى العقول الضالة بقرة لا تدري أين رأسها من عفاسها، وهم جلوس عند استها يعبدونها ما هذه العقول؟! ذهب أحد الإخوة إلى الهند، يقول: دخلنا في معبد من معابدهم وقت عبادتهم -ينظر ما هم عليه- يقول: فوجد مجموعة من كبارهم، دكاترة، وبريفسورات، وعظماء، عندهم عقول، وهم يحنون رقابهم مستسلمين خاضعين عند البقرة، والبقرة تستجر، تأكل ولا عرفت من الذي عند رأسها أو استها، أو من الذي يعبدها أو لا يعبدها، ومن الذي يحلبها أو يذبحها، لكنها عقول أضلها الشيطان -والعياذ بالله- وعبدوا الحجارة، يقول إبراهيم عليه السلام: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:67] كيف تعبدون هذه، {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] {الَّذِي خَلَقَنِي} [الشعراء:78] هذه حجارة ما خلقت، وبقرة ما رزقت، لكن الذي يستحق العبادة هو الخالق الرازق: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:80 - 81] {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:77 - 82] هذه هي خصوصيات الرب، اذكر لي واحداً من الآلهة تفعل هذا؟ من الذي يحييك ويميتك إلا الله؟ من الذي إذا مرضت يشفيك إلا الله؟ من الذي يطعمك ويسقيك إلا الله؟ لو أرد الله أن لا تطعم من في الأرض، وأرادت البشرية كلها أن تطعمك ما يطعمك إلا الله: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَم} [الأنعام:14].
فهذه الآلهة الباطلة التي تعبد من دون الله ليس لها مقام، والله عز وجل قد خلق للناس فطرة العبودية، ولهذا جاء في الحديث يقول عليه الصلاة والسلام -والحديث في الصحيحين -: (كل مولود يولد على الفطرة -أي: الإسلام- فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) ولم يقل في الحديث: أو يمسلمانه؛ لأنه مسلم بفطرته، وفي الحديث القدسي في صحيح البخاري يقول الله عز وجل: (إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين) فهذه حجة العهد والميثاق الأول.(42/13)
ثانياً: الآيات الكونية
بث الله عز وجل آيات وعلامات تدل عليه في السماوات والأرض والنفس البشرية، وهذه كافية، يقول الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53] والله عز وجل في هذه الآيات يدعونا إلى التأمل والنظر: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:5 - 6] {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} [آل عمران:190 - 191] وإذا استعملت النظر والتأمل والتبصر والتفكر كانت سبباً للهداية، ولهذا خاطب القرآن أصحاب العقول، فالأعرابي الذي فكر قبل الرسالة يقول: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، وأرضٌ ذات فجاج، وسماءٌ ذات أبراج، وبحارٌ تزخر، ونجوم تزهر، أفلا يدل ذلك على السميع البصير؟!! فهذه الآيات الموجودة حجة أخرى.(42/14)
ثالثاً: العقل
إن الله سبحانه وتعالى زود الإنسان بالعقل من أجل أن يعرف ربه، يقول عز وجل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] ويقول: في آية أخرى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأحقاف:26] لماذا؟ قال: {إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ} [الأحقاف:26] ألغوا العقول، والعقل نفسه حجة، ولهذا جعل الله العقل مناط التكليف، بحيث إذا سلبك العقل رفع التكليف عنك: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق) لو أن شخصاً مجنوناً ليس عنده عقل فإن الله لا يؤاخذه يوم القيامة، لماذا؟ لأنه ليس له عقل.
(والنائم حتى يستيقظ) لأن النائم لا يملك العقل، فهو يتصرف تصرفات وهو لا يدري، وإذا استيقظ، قالوا له: أنت تكلمت وفعلت قال: والله لا أدري.
(والصغير حتى يبلغ) لأن تصرفات الصغير غير مسئولة، فالصغير ليس عنده ضوابط، ومتى يكتمل عقله؟ إذا بلغ: سِنَّ الرشد، والنضج، والتكليف، فإذا بلغ فإنه يؤاخذ، وأما قبل البلوغ فلا يؤاخذ.
لماذا جعل الله مناط التكليف هو العقل؟ لأنه يعتبر هادياً ودليلاً، لكن هذه الأدلة وهذه الحجج غير كافية بالنسبة لرحمة الله، لماذا؟ قال العلماء: لأن الفطرة قد تمسخ؛ ولأن الآيات الكونية والدلالات الموجودة في الآفاق والأنفس قد تغطى؛ ولأن العقل قد تغلب عليه الشهوة، الآن هذا كله لا يعقله الناس ولا يستجيبون له؟ أعطيكم مثالاً: الدخان: كل شخص من الناس يعرف أنه مضر، حتى المدخن نفسه تقول له: أسألك بالله من ناحية عقلية، هل الدخان مضر أم مفيد؟ ماذا يقول لك؟ لا يقدر أن يقول لك: إنه مفيد، أي فائدة في الدخان؟ مضر اقتصادياً، وصحياً، واجتماعياً كل شيء فيه مضر -أي: لا توجد أي مصلحة- وإذا قال لك: نعم.
إنه مضر، إذاً كيف تشتري المضر؟ أنت ألغيت عقلك؟ قال: نعم، لماذا ألغى عقله؟ لغلبة شهوته: شهوة العادة والألف والتعود.
إنه يشعل (سيجارة) ويمصها وينفخها وإن رائحتها تغير مزاجه وتريحه قليلاً! جعلت هذه الشهوة سلطاناً عليه أعظم من سلطان عقله، ولهذا يلغي عقله.
ولهذا فالعقل ليس كافياً ليكون حجة لوحده، انظر العقل كيف يشتغل عند الأطعمة: عندما تأتي الآن لتشتري لبناً من السوق وتنظر تاريخ الصلاحية -مثلاً- أمس (27) واليوم (28) وأنت اشتريتها وهي من يوم (27) هل تسكت؟ تدعو صاحب (البقالة) -أو سوبر ماركت- وتقول له: كيف تبيع هذا القديم، سأبلغ عنك البلدية، وفعلاً من حقك أن تبلغ البلدية؛ لأن هذا طعام غير صالح للاستهلاك -أي: طعام فاسد- وصاحب البقالة إنسان لا يهمه مصلحة ولا صحة الناس، أي: رجلٌ مادي يريد أن يمتص دماء الناس ولا يبالي بمن يموت! وبعض الناس يقول: هذه لا تضره (من رأى منكم منكراً فليغيره) هذا منكر، ومن المفروض أن يراجع صاحب (البقالة) كل الأطعمة التي عنده، ويتأكد من صلاحيتها البلدية أو الغرفة التجارية، لماذا؟ لأنه مؤتمن (ومن غشنا فليس منا).
فإذا رأيت طعاماً منتهٍ صلاحيته فلا تتناوله، وكل طعام -في الدنيا- موجود في الأسواق له تاريخ بداية ونهاية إلا الدخان! الدخان ليس له تاريخ صلاحية، خربان منذ صنع، وكتبوا عليه في العلبة: التدخين يضر صحتك، يعني: خربان، ومع هذا لا أحد يشتكي ولا أحد يقول: هذا فاسد، بل يشتريه بأربعة ريالات، ولا حول ولا قوة إلا بالله! لماذا؟ لأن العقل مرفوض لطغيان الشهوة، وكذلك المخدرات، والزنا، فلو أن شخصاً مارس الزنا، وقارن بين جريمة الزنا وما يترتب عليها من آثار في الدنيا والآخرة وبين لذتها، لوجد أنه لا يوجد نسبة ولا تناسب، لذة لا تتجاوز عشرين دقيقة أو ساعة، وبعد ذلك كم تعقبك إذا اكتشفت وقبض عليك على أنك زانٍ سقوط الاعتبار، والعار، والفصل من الوظيفة، والجلد في السوق إن كان الإنسان أعزباً، أو الرجم بالحجارة إن كان سبق أن تزوج أي: محصن، بعد ذلك يوصف بين الناس بأنه زانٍ بعض الناس يقول: سأختبئ ولا أحد يكشفني! لكن أين تختبئ من ربك؟!
وإذا خلوت بريبةٍ في ظلمةٍ والنفس داعية إلى الطغيان
فاستح من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
إن الله يراك يا أخي! أين تذهب من ربك؟ {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} [النساء:108] ألا تعلم أن الله محيط بعملك هذا وأنه يراك؟ أين خوفك من الله؟ لم جعلت الله أهون الناظرين إليك؟ لو أن أحداً يراك ألا تستحي؟ إنك لا ترضى أن تمارس الجريمة أمام طفل عمره سنة، تخاف أن يخبر، أو يشير إذا كان لا يتكلم، تقول: يمكن أن يشير لكنه ضعف الإيمان والعياذ بالله.(42/15)
رابعاً: إرسال الرسل بالبينات
فالعقل ليس كافياً لإقامة الحجة، رغم أنه وسيلة من وسائل إقامة الحجة ومناطاً للتكليف، لكن ما هي الحجة القاطعة التي اقتضتها رحمة الله؟ هي إرسال الرسل ببيانات أو لمصالح: أولاً: أن العبد لا يمكن أن يعرف مراضي الله ومحابه، ولا مساخطه، ولا مكارهه إلا عن طريق الأنبياء، فقد يؤمن الإنسان بالله ويهتدي، لكن لا يعرف ماذا يحب الله حتى يأتيه، وماذا يكره الله حتى ينتهي منه؟ لابد من رسالة، فأرسل الله الرسل؛ لكي يعلموا الناس: هذا حرام وهذا حلال هذا يرضي الله وهذا يسخط الله.
ثانياً: إقامة الحجة حتى لا يأتي من يقول: يا رب أنا لم أعلم، قال الله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء:165] فاقتضت حكمة الله عز وجل إرسال الرسل.
نقف -أيها الإخوة- هنا بعض الوقفات: أولاً: ضخامة المسئولية بالنسبة للرسالة، وقد قام الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه بهذه المسئولية خير قيام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم لما أنزل الله تعالى عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل:1 - 2] كان في هذا تربية وتجهيز وتأهيب لدور الرسول صلى الله عليه وسلم الذي سوف يباشره بهداية البشرية، وقبلها، قال الله تعالى له: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] لأنه لما رجع من الغار قال: (دثروني) وقد أوحي إليه بإقرأ، وأرسل بالمدثر، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ} [المدثر:1 - 2] ليس هناك نوم {فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:2 - 7].
من أول لحظة قال الله له: لا بد أن تصبر على هذه الدعوة، ويقول له في السورة التي بعدها: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} وهو يتزمل ويتدفأ في البيت {قُمِ اللَّيْلَ} [المزمل:2] تهيئة، وإعداد، وتدريب للقيام بالمهمة، وأول عمل: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:2 - 4] لماذا؟ قال: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] ستكلف بمهمة شاقة! ونحن نعرف -أيها الإخوة- مقدار مشقتها من عجزنا بتربية أولادنا، فبعض الناس عنده ولد أو اثنين أو ثلاثة، يقول: أنا والله عجزت عن تربيتهم، هو مكلف بتربية أولاده لكنه عاجز عن تربيتهم، فكيف بمن يكلف بهداية البشرية من أولها إلى آخرها إلى قيام الساعة؟!! هذه المهمة صعبة أم ليست صعبة؟ صعبة، وقد مارسها صلى الله عليه وسلم وقام بها خير قيام، ولقي في سبيلها العناء والمشقة، ولما قال له ورقة بن نوفل -ابن عم خديجة -: [إنه الناموس الذي أنزل على موسى ليتني كنت فيها جذعاً، لأنصرنك حين يخرجك قومك] فقال عليه الصلاة والسلام: (أو مخرجي قومي؟!) لم يكن يتصور أن قومه سيخرجوه؛ لأنه كانت له منزلة عظيمة عندهم، كان محبوباً؛ لأنه صادق ونظيف وطاهر وأمين، وفيه كل صفات النبل، وكمالات البشرية: (أو مخرجي هم؟) معقول! ما فوضوه في وضع الحجر الأسود إلا لحبهم له: لما اختلفت القبائل فكل قبيلة تقول: نحن نضعه، حتى تجردت السيوف، فقالوا: نحكم شخصاً، فدخل عليه الصلاة والسلام، قالوا: حكموه، هذا الصادق الأمين! فقال: هاتوا رداء، ووضع الحجر في وسطه، وجعل كل قبيلة ترفع من طرف حتى أوصلوه إلى مكانه، وبعد ذلك أخذه بيديه ووضعه في مكانه الشريف، فالقبائل تحبه، ومكة تعظمه، فهو لا يتصور أن يخرج أو يطرد، قال: (أومخرجي هم؟ قال: نعم.
إنه لم يأتِ أحد بما جئت به إلا عودي).
وهكذا أوذي عليه الصلاة والسلام، فقد صب على ظهره سلى الجزور، وبصق في وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وأدمي عقبيه، وشج وجهه وطورد، وحوصر هو وقومه ثلاث سنوات في الشعب حتى أكلوا ورق الشجر، وتقرحت أشداقهم، وصاروا يبذلون كما تبذل الأباعر، طرد من مكة: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]؛ أخرج من مكة إلى المدينة، وطورد بعدها في المدينة، وحورب من كل فئات الأرض، ومع هذا فحياته كانت جهاداً حتى نصر الله دينه، وبلَّغ رسالة ربه، وأدى أمانة الله لأمته، ووقف في يوم عرفة يقول للناس: (ألا هل بلغت، فقال الناس: اللهم نعم.
فيقول: اللهم فاشهد، وكان يرفع يده إلى السماء ثم ينكتها إلى الأرض ويقول: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد) وينزل عليه قول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] ثم يموت صلوات الله وسلامه عليه! ويترك هذه التركة، وهذه العهدة والمسئولية للدعوة إلى الله على أمته من بعده إلى يوم أن تقوم القيامة.
كانت الأمم السابقة إذا مات نبيهم أتى نبي بعده إلى أن اختتمت الرسالات برسالة الإسلام وبرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم سمى الله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ولا دين بعد دينه، ولا نبي بعده، وجعل مسئولية الدعوة من بعده على أمته، فأمته كلهم ورثة لهذه التركة، يقول الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا} [يوسف:108] أنا وحدي فقط؟ لا.
{أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].(42/16)
ما يلزم الأتباع تجاه الدعوة بعد الرسل
فإذا أردت أن تكون من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لزمك أن تكون داعية، أي: القضية لم تكن اختيارية، وليست بالمزاج والكيف؛ هل يمكن أن تكون داعية أو غير داعية؟ لا.
بمقتضى أنك مسلم لا بد أن تكون داعية، وليس معنى هذا -أيها الإخوة- على مستوى المنابر والخطب، لا.
داعية على أي مستوى، أقل مستوى أن تكون داعية على مستوى نفسك، من الذي يستطيع أن يقول يوم القيامة: يا رب: والله ما استطعت أن أدعو نفسي إلى الله -أي: ممنوع من دعوة نفسه- هل يستطيع أن يقول هذا أحد؟ ولو أن الأمة فقط دعت إلى الله على هذا المستوى؛ وأن كل مسلم دعا نفسه إلى الله وأمرها بطاعته ونهاها عن معصيته، كيف سيكون حال الأمة؟ لا نحتاج إلى دعاة، إلا مجرد التثبيت والتذكير فقط؛ لأن كل شخص داعية في نفسه، وإذا أنت صلحت في نفسك لم يبق صلاحك محصوراً عليك، سينتشر، هل يوجد في الدنيا صالح 100% ولم تصلح زوجته؟ أبداً.
مستحيل، وأنتم تنظرون الآن والحمد لله كل الشباب الملتزمين زوجاتهم ملتزمات، وبعضهم يتزوج امرأة غير ملتزمة وبمجرد أن يعيش معها أسبوعاً أو أسبوعين يقرأ عليها القرآن والأحاديث، مباشرة تلتزم، تريد من يهديها إلى الله فاهتدت إلى الله.
فصلاحك أنت دعوة، ثم الدائرة الأوسع من صلاح النفس صلاح الأسرة، وتبدأ الأسرة باللبنة الأولى بالزوجة (وخيركم خيركم لأهله) والناس يحملون الحديث: (خيركم خيركم لأهله) يعني: خيركم في الأكل والشرب والتعامل! لا.
هي تشمل هذا، ولكن الخيرية الأعظم: (خيركم خيركم لأهله) ديناً وتربيةً، وكان صلى الله عليه وسلم خير الناس لأهله في هذا المقدار بالقدر المتكامل، أمهات المؤمنين كن كلهن فقيهات في الدين، لكن تجد بعض الدعاة والطيبين زوجته أجهل من الثور، ولا يوم من الأيام قرأ عليها حديثاً، وتراه يحدث الناس، لكنه في البيت إما أن يسكت أو يشاجر، سبحان الله! أولى الناس بالخير أهلك، أولى الناس بالبر والعلم أهلك لا بد أن يكون لك حلقة معهم، إذا كنت داعية وإماماً فعليك أن تذهب إلى البيت لتعلم أهلك ما علمته الناس، وإذا لم تستطع أن تعيد كل شيء فخذ الشريط واتركهم يسمعونه، فإذا انتقلت الدعوة من محيطك النفسي الذاتي إلى المحيط الزوجي الأسري.
أيضاً تنتقل إلى المحيط الأسري الأكبر وهم الأم والأب والإخوة والأخوات، والأبناء والبنات، طبعاً المحيط الأسري الأكبر نوع من الحساسية والصعوبة، خصوصاً دعوة الوالدين والإخوة والأخوات، ليست كدعوة الزوجة، دعوة الزوجة سهلة؛ لأن لك عليها سلطان وقوامة، وتستطيع أن تفرض عليها الحق، وإن كان الأولى أن تقنع به، لكن إذا ما اقتنعت بالطيب تقتنع بالغصب، لكن بالنسبة لأمك وأبيك العلاقة حساسة، والنظرة إليك نظرة ليست متكاملة، أنت تنظر إلى نفسك بمنظار أن عمرك أربعون سنة أو خمسة وثلاثون سنة، لكن والدك ينظر إليك ويعطيك متوسط عمر، يعرف أنك كنت صغيراً، سنة أو سنتين أو خمس كنت مشاكساً وكسولاً وكذاباً ودجالاً ثم في يوم من الأيام هداك الله وتأتي إلى أبيك لتعلمه الدين، ماذا يقول لك؟ يقول: عجيب.
مطوع! الآن تعلمني الدين، اذهب يا دجال، أنت ما تركت كذبة باردة إلا وقلتها! حسناً يا أبي: أنا كنت كذلك لكن الله منَّ عليَّ بالهداية لكن ماذا تفعل مع أبيك؟! تأتي إلى أبيك بمنطق الأستاذية والتعالم؟ لا.
تعال من منطق الود والرحمة والحب والخدمة والعرض، لا تفرض على أبيك حراماً أو حلالاً! لا.
قل: نسأل الشيخ، أو نسمع شريطاً، أو اترك غيرك يعلمه، أما إذا علمته أنت فلن يقبل منك أبداً؛ لأن من عرفك صغيراً حقرك كبيراً، فالناس الذين يعرفونك وأنت صغير يحقرونك وأنت كبير، لكن إذا ذهبت إلى أناس لم يعرفوك صغيراً، فسيقولون لك: يا شيخ، لكن الذين يعرفونه يقولون: هذا لعاب.
نعرفه.
ماذا تصنع مع أمك وأبيك؟ لا تصدر عليهم الأوامر، ولا تبين لهم الأحكام مواجهة، وإنما أولاً بالحب والخدمة، والبر، والصلة، والإحسان حتى يحبوك؛ لأن النفوس مجبولة هكذا؛ جبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها.
وبعض الشباب يوم أن يهتدي ينفصل عن الأسرة، ويخرج من الزملاء والإخوان والذهاب والمجيء، وكلما دعاه أبوه: تعال يا ولدي.
أعطيني لبناً، يقول: مشغول، اذهب بأهلك إلى المستشفى، يقول: والله مشغول؛ معنا محاضرة، اذهب بهم إلى السوق، قال: عندي موعد، يقول: الله أكبر عليك وعلى محاضراتك ومواعيدك هذه، والله ما رأينا الشر إلا من يوم أن رأينا محاضراتك ودعواتك! كرهت أباك للدين بأسلوبك، لكن المفروض من حين أن اهتديت أن تلتزم البيت، ولا تذهب ندوة أو درساً، أو اجتماعاً، إلا بإذن أبيك، تقول له: يا أبي! أنا مشغول اليوم؟ تريد أن أذهب السوق؟ أو أذهب بالأهل إلى المستشفى، أو أذهب بهم إلى النزهة، هل يوجد ضيوف سوف يأتونك؟ لا يا ولدي ليس عندنا شيء.
تريدني؟ لا.
اجلس يمكن يأتي أحد، أذهب السوق؟ لا.
فأنا أريد أن أحمل المشتريات عنك! بعض الآباء نراهم -يا إخواني- عمره ستين أو سبعين سنة وهو يحمل المشتريات على كتفه وولده نائم، ما عليك إذا كان ولده سيئ فاسق، لكن ولده طيب وملتزم لكنه لا يخدم والداه، وهذه الخدمة للوالدين من أعظم أنواع البر، بل سماها الرسول صلى الله عليه وسلم جهاداً؛ فإنه لما جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ائذن لي بالجهاد، قال: أحيٌ والداك؟ قال: نعم.
قال: ففيهما فجاهد) يعني: ابذل جهدك في سبيل رضاهم، وبعض الناس يريد رضى أبيه بدون جهد، وإذا رأى أباه يشدد عليه، قال: أبي متعب جداً.
لا تظهر طاعتك إلا مع الأب الذي مثل هذا، أتريد أباً مفصلاً على مرادك، إذ لا يظهر فضلك إذا كان أبوك طيباً، بل لا بد أن تكون باراً بالأب الذي ضد مقاصدك، أي: إذا أردت أن تذهب، يقول: لا تذهب، فتقول له: حسناً، ولو كان عندك مباراة، لكن عند أبيك ضيوف، من يصب الشاي؟ خاصة إذا كانوا يعلمون أن عنده ثلاثة أو أربعة أولاد بينما هو الذي يأتي بالشاي والقهوة ويصب وهو متعب! أين أولاده؟ ماذا يقول الناس؟ يقولون: لا بارك الله في أولاده! والله ما رأينا واحداً منهم.
لكن عندما يأتي الضيوف وأولاده كلهم مصطفون، واحد يفتح الباب، وآخر يرحب بالضيوف، وآخر يحضر القهوة، وآخر يشغل المكيف وكل واحد يخدم من جهة! سيقول الناس: ما شاء الله! الأولاد من أمامه وعن يمينه ويساره يخدمونه، بارك الله فيهم، فإذا خدمت والدك بهذا الأسلوب أحبك، وإذا أحبك أحب الدعوة التي تدعوه إليها، ويحمد الله ويقول: الحمد لله، والله ولدي من يوم أن اهتدى ما شاء الله، الدين هذا خير وهداية، فقد اهتدى ولدي وجلس معي، ولم يذهب، ومن بعد العشاء يذهب، الله يوفقه، الله يرشده، لكن أن تخرج إلى الشارع؟ حتى ولو كنت على خير، لا.
هذا لا يريده أبوك، أبوك لا يطمئن قلبه إلا إذا رآك في البيت، خصوصاً في هذه الأزمة -يا إخواني- وأنت سوف ترى عندما تكبر ويأتي لك أولاد كيف يتقطع قلبك إذا دق الباب عليك بعد منتصف الليل! لماذا تخرج إلى الشوارع؟ أما تعلم أنه لا يخرج في الليل إلا الحيوانات، فمن بعد العشاء اجعل قلب أبيك يرتاح، اجلس في البيت، اقعد على كتبك وانفع أهلك، هذا ما يجب أن تكون عليه.
فإذا صلحت أنت في نفسك وأصلحت زوجتك وبنيك وبناتك، وأباك وأمك وإخوانك وأخواتك كنت داعية، وتبعث يوم القيامة مبعث الأنبياء، فكما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد) نبي يوحى إليه يأتي يوم القيامة ولا أحد معه، وثلاثة أنبياء في سورة (يس) معهم واحد، قال الله عز وجل: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس:14].
فيا أخي في الله! لا خيار لك بحكم إسلامك وتبعيتك لهذا الدين، ومتابعتك لهذا الرسول الكريم إلا أن تكون داعية إلى الله، على أي مستوىً من المستويات، لكنك لا تعذر في مستوى نفسك وزوجك وأولادك، أما بعد ذلك فحسب الاستطاعة، فإن منَّ الله عليك بقدرة وعلم وتوفيق؛ فكلما زدت في هداية الناس زادك الله من فضله (لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم) (لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من الدنيا وما عليها) (ومن دلَّ على هدى كان له مثل أجر فاعله دون أن ينقص من أجورهم شيئاً).
وكل عمل وعبادة فهي لازمة إلا عمل الداعية، فإن عمله متعدِّ، ونفعه دائم، وإذا هدى الله عز وجل على يديك رجلاً واحداً، فإن هذا الرجل وما يعمله من خير كله يسجل في حسناتك، إذا صلى فلك أجر مثل صلاته، وكذلك إذا زكى، وكل عملٍ يعمله لك مثل عمله، ما هذا العمل أيها الإخوة؟! فالله الله -أيها الإخوة- بأن يكون هم المسلم هذا الدين، على الأقل نفسك، لا تدع للشيطان وسيلة في إضلالك وأنت تستطيع أن تنقذ نفسك من النار {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء:165] ثم قال الله عز وجل بعد ذلك وهو يشهد {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [النساء:79] على أنه رسول من عند الله، قال: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ} [النساء:166] رغم تكذيب هؤلاء، فإذا كذبك وعاندك الكفار، وشكك في رسالتك المنافقون واليهود، فالله يشهد أنك رسوله (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [النساء:166].
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يثبتنا وإياكم على الإيمان، وأن يشرح صدورنا وإياكم للإسلام، وأن ينور قلوبنا وبصائرنا بالقرآن، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنه سميع الدعاء.
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا ونعمتنا واستقرارنا، ا(42/17)
دعوة للإنفاق في سبيل الله
وقبل البدء في الإجابة على بعض الأسئلة نقرأ رسالة جاءتنا من هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، فرع جدة، يطلبون الحث على التبرع للإخوة المسلمين في الشيشان، وأيضاً يطلبون الدعاء لهم؛ لأن وسيلة المناصرة لهؤلاء الإخوة تتم بأمرين: المناصرة بالدعاء، وهذا أعظم سلاح؛ لأن الله عز وجل لن يعدم الأمة من رجلٍ صالح يدعو، ولعل في دعوة مؤمن ما ينزل الله به النصر على هؤلاء، فلا نبخل حتى بالدعاء، فندعو الله أن ينصرهم ويثبت أقدامهم.
وأيضاً نصدق دعاءنا بالتبرع، وما ننفق في هذا المجال إنما هو باقٍ عند الله تبارك وتعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] والذي نأكله ونلبسه هذا يبلى ويفنى (يقول ابن آدم: مالي مالي وليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت) والبقية للورثة، أنت مسئول بتجميعها وتموت، والذي أكلته أفنيته، والذي لبسته أبليته، والتي تصدقت بها أبقيتها، والبقية للورثة، والله تعالى يقول: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] والإنفاق ليس من حقك فهو من حق الله، يقول الله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] وبعد ذلك لمن تنفق، للجماعة أو لنفسك؟ {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة:272] فأنت رابح على كل الاتجاهات، فنطلب من إخواننا المساهمة في صناديق هيئة الإغاثة.
وأيضاً هذه رسالة أخرى من الندوة العالمية للشباب الإسلامي، وهذه الندوة المباركة التي تقوم بأنشطة في خدمة الدعوة إلى الله عز وجل في جميع أنحاء العالم، وهي ممن يحظى بدعم وتأييد المسئولين في هذا البلد المبارك حفظهم الله، ولها أنشطة وبرامج ووسائل متعددة في نشر الدين ودعوة الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهم أيضاً صناديق عند الباب، ونرجو ألا تعود هذه الصناديق كما جاءت، إنها جاءت خماصاً -يعني: لاصقة بطونها بظهورها- ونريد إن شاء الله ألا تعود إلا وهي بطاناً من الخير الذي تقدمونه إن شاء الله لإخوانكم.(42/18)
الأسئلة(42/19)
وسيلة قضاء الدين
السؤال
سائل يطلب منكم أن تدعو له في ظهر الغيب فإن عليه ديناً كثيراً، وآخر يسأل أن تدعو له جهاراً بالثبات على الدين؟
الجواب
أما الأول الذي عليه دين؛ فنسأل الله أن يقضي دينه، ولكن نقول له: انو الأداء؛ لأن من استدان ونيته الأداء أدى الله عنه، ومن استدان ونيته الإتلاف أتلفه الله، فمن الناس من يتورط في الديون وله نية على ألا يسدد، فهذا يتلفه الله؛ لأنه يريد إتلاف أموال الناس، ولهذا يتورط ويتوسع فيأخذ سيارة ديناً وهو يعرف أنه لا يستطيع أن يسدد، هذا متلاعب ومتهوك، ولا يجوز له أن يعمل هكذا؛ لأن كل شيء يمكن إلا الدين، الدين هذا يقول عليه الصلاة والسلام فيه: (والذي نفسي بيده! لو مات أحدكم شهيداً ما دخل الجنة حتى يوضع عنه دينه) نعم.
الدين همٌ في الليل ومذلةٌ في النهار، وصبرك على نفسك أولى من صبر الناس عليك، وتعيش عزيزاً بأقل شيء من التكاليف التي تعيش عليها أفضل من أن تعيش ذليلاً تأتي بوجهك إلى كل شخص، لماذا؟ لأنك تريد سيارة جديدة، وكنباً، وغرفة نوم بخمسة عشر ألف ريال، وتريد من حقوق الناس، ماذا ينفعك؟ لا والله، نم على الحصير، وكل العيش الناشف، واسكن في كوخ وأنت عزيز النفس، سليم الذمة، بريء من هذا، فإذا كان عليك دين: أولاً: لا تتوسع في الديون.
ثانياً: انو الأداء.
ثالثاً: ضع برنامجاً للقضاء: مثلاً إذا كان راتبك ثلاثة آلاف ريال: حدد مصروفاتك واقتصرها إلى أضيق نطاق، وليس ضرورياً أن تشتري كل يوم لحماً، أو دجاجاً، أو سمكاً، إذ يمكنك أن تأكل في اليوم حبة بطاطة وعليها خيار وبصل وخبزة، وهذا مثل سَمكٍ بستين أو بسبعين ريالاً والإنتاج واحد، بل كلما كان الطعام أغلى كلما كان الطعام أخس في البذل، وقد سألت أحد الأطباء عنده دكتوراه في التغذية على أحسن الأطعمة، قال: أعطيك كلمة، قلت: نعم.
قال: أرخص الأطعمة هي أنفع الأطعمة، وأغلى الأطعمة هي أضر الأطعمة، يقول: فأنت اكتفي -يا أخي- بشيء بسيط من الأكل، ووفر نقوداًَ من راتبك واقض دينك، ضع لهذا اليوم ألفاً، والشهر الثاني ضع ألفاً وهكذا، وبعد سنة أو سنتين تكون قد انتهيت من الدين، لكن بعضهم متورط في الديون، والأكل من أحسن ما يمكن، والسيارة بدل سيارة، والفرش والموكيت يغير كل سنة، والزوجة ذهبها من يدها إلى كوعها، والديون مائتين أو ثلاثمائة ألف، ويقول: ادع الله أن يقضي ديني، كيف يقضي دينك وأنت لا تشعر بأنك مديون؟ نسأل الله أن يقضي دينك، ولكن أعنا على نفسك بهذا الترتيب.
أما الأخ الذي يطلب أن ندعو الله له بالثبات؛ فنسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يثبتنا جميعاً، وهذا الدعاء من وسائل الثبات، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الثابتين يقول: (يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك قال الصحابة له: أتخشى وأنت من الله بالمكان الذي أنت منه؟ قال: كيف لا أخشى وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) والله يثني على أهل الإيمان ويقول: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8] فنحن نقول: اللهم ثبتنا بالقول الثابت يا رب العالمين حتى نلقاك، اللهم كما أنعمت علينا بنعمة الإسلام فلا تنزعه منا حتى نلقاك يا رب العالمين.(42/20)
طريق القرب من الله
السؤال
ما هو الطريق للقرب من الله تعالى؟
الجواب
طريق القرب من الله عز وجل بثلاثة أمور: الأمر الأول: بالكتاب والسنة.
الأمر الثاني: بتصديق الأخبار.
كل ما أخبر الله به في كتابه أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته تصدق به وتأخذه مأخذ اليقين.
الأمر الثالث: وتنفيذ أوامر الله وترك نواهيه، والقرآن والسنة كله إما خبر، أو أمر، أو نهي، فالخبر تصدقه، والأمر ترضخ له، والنهي تتركه، وبعد ذلك تصل إلى الله.(42/21)
معنى كلمتي (المزيد) و (النجائب)
السؤال
ما هو يوم المزيد، وماذا يقصد بالنجائب؟
الجواب
يوم المزيد هو بمنزلة يوم الجمعة من أيام الدنيا، يوم القيامة، وهذا يوم يطلب الله عز وجل من أهل الجنة أن يذهبوا فيه للتسوق، وطبعاً السلع المعروضة في الجنة تؤخذ من غير ثمن، وفي هذا اليوم يتجلى الله عز وجل على الناس:
فيرونه سبحانه من فوقهم نظر العيان كما يرى القمران
ويحدثهم ويكلمهم كما يحدث أحدنا صاحبه، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما منكم إلا وسيكلمه ربه مواجهة ليس بينه وبينه ترجمان) نسأل الله أن يمتعنا بهذا النعيم.
أما النجائب فهي وسائل للنقل، أي: لنقلهم إلى القصور التي يسكنون فيها بالجنة.
وكل ما تسمعونه من قصور ونجائب وأنهار هذه فقط أسماء، وأما الحقائق فلا يعلمها إلا الله، يقول الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] ليس في الجنة من الدنيا إلا الأسماء، إنما الحقائق على حقيقتها، يقول الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُن جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] فتأتي هذه النجائب وهي وسائل النقل لتحمل أهل الإيمان من قصورهم ودورهم ومنازلهم إلى السوق الذي أعد ليوم المزيد؛ من أجل التسوق، مشاهدة الرب تبارك وتعالى، ومن أجل النعيم الذي نسأل الله وإياكم ألا يحرمنا من فضله.
وأكتفي بهذا والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(42/22)
وفرحوا بالحياة الدنيا [1،2]
إن الفهم الخاطئ أو التصور الخاطئ للشيء يجر إلى الحكم الخاطئ والعمل الخاطئ، فتصور الإنسان لهذه الدنيا على غير حقيقتها يجر إلى عمل لا يفيد ولا ينفع، بل قد يضر، وبذلك يخسر المرء دنياه وأخراه، وبما أن صانع الشيء أعرف بصنعته وما يصنعه، فكذلك الدنيا، ولله في ذلك المثل الأعلى، فالله عز وجل هو من نلجأ إليه في معرفة حقيقة الدنيا لكي نسير سيراً صحيحاً فنفوز في الدنيا والآخرة.(43/1)
فهم الناس للدنيا فهماً خاطئاً
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أيها الإخوة في الله! هذه الحياة التي نعيشها ونقضيها على ظهر الأرض ذات هدف، والذي يبدو من تصرفاتنا على ظهرها أننا ما عرفنا الغرض منها، ودائماً الحكم على الشيء فرع عن تصوره، تصورك للشيء وفهمك له يبعثك على الحكم عليه، فإذا كان التصور صحيحاً والفهم صحيحاً كان الحكم صحيحاً، فهذه قاعدة عند العقلاء كلهم، وإذا كان التصور خاطئاً والفهم خاطئاً ترتب على ذلك أن يكون الحكم خاطئاً، هذه الحياة فُهمت من قبل الكثير من الناس على غير مراد الله منها.(43/2)
تصورات خاطئة للحياة الدنيا عند الناس
هناك قوم ظنوها فرصة للعد من الشهوات، وللاستكثار من الملذات، فهم يتنافسون على الرغيف، ويتطاحنون في سبيل الريال، ويعضون ويستغرقون في مطالب البطن والفرج، لا يشبعون بشيء ولا يقنعون من شيء؛ لأن تصوراتهم أنها فرصة، ما دامت فرصة للشهوات: لماذا لا يلبس؟ ولماذا لا يأكل؟ ولماذا لا ينكح؟ ولماذا لا يتمتع؟ ولماذا ولماذا؟ يريد ألا يخرج من هذه الدنيا إلا وقد استغرق بكل شهواتها، فجمعوا في سبيل تحقيق هذه الشهوات الأموال، وظنوا أنهم بهذه الأموال يستطيعون أن يحققوا السعادة التي توفرها لهم هذه الإمكانيات والقدرات، وعند التطبيق العملي لهذه الفكرة الخاطئة فوجئوا بالحقيقة المرة التي تضعهم في المواجهة الصعبة في أن السعادة ما حققت بالمال، بل كان المال سبباً رئيسياً في شقائهم، يقول الله عز وجل: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55] سبحان الله! المال عذاب {يُعَذِّبَهُمْ بِهَا} [التوبة:85] نعم عذاب، عذاب في جمعه وتنميته وتثميره، وعذاب عند مفارقته والابتعاد عنه، فهو عذاب في البداية وفي الوسط وفي النهاية، عذاب في عذاب في عذاب والإنسان في الأصل ما جمع المال إلا ليرتاح ولكن بالمال شقي:
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
وقوم ظنوا هذه الدنيا أو هذه الحياة مركزاً ورتبة ومنصباً وجاهاً ووظيفة، فقضوا الأعمار والسنوات الطوال في سبيل التحصيل حتى تسلموا أعلى المناصب وارتقوا إلى أعلى الرتب، وإذا بهم بالمناصب والرتب يشقون لا يسعدون.
وقوم ظنوها بكثرة الأولاد وكثرة العيال وكثرة الزوجات وإذا بالأولاد والزوجات يتحولون إلى عذاب فوق عذاب.
إن الثمار والنتائج كانت شيئاً طبيعياً لتصورات الناس، وإذا رأيتم الآن أصحاب الأموال الذين يستغرقون حياتهم في تثميرها ويتطاحنون عليها لا ترون عندهم نعيماً أبداً، هل يأكل التاجر (صاحب الأموال) ورقاً؟ يطبخ ورقاً أبو خمسمائة من أجل أن يأكل أحسن من الفقير؟ هل يفصل ثوباً قيمته خمسمائة؟ أو يلبس بشتاً مفصلاً من ورق؟ هل يسكن عمارة مبنية بالذهب؟ لا.
بل يأكل كما يأكل الفقير، ويشرب كما يشرب الفقير، وينام كما ينام الفقير، ويركب كما يركب الفقير لكن هو فقير في ذاته، الأموال خلف ظهره وليس في عينيه إلا الفقر كما جاء في الحديث، يقول عليه الصلاة والسلام: (من أصبح والدنيا همه -مفتوح قلبه فقط على جمع المال من أين يأتي بالمال- جعل الله فقره بين عينيه) فلا يرى إلا الفقر، البنوك ممتلئة، والأرصدة مرتفعة، والمخازن كثيرة، والمحطات كثيرة، والأراضي كثيرة، والعمارات كثيرة، لكن كلها وراء ظهره وليس بين عينيه إلا الفقر فأينما ذهب فالفقر بين عينيه، وإذا سألته: كيف الأحوال؟ كيف الأمور؟ قال: والله يا أخي! الأمور متأزمة، والسيولة النقدية غير متوفرة، والعالم متخبط اقتصادياً، ونخشى أن يحصل زعزعة في المال.
وهو مسكين فقير لماذا؟ لأن الفقر بين عينيه.
(من أصبح والدنيا همه فرق الله عليه شمله) أول شيء، فرق الله عليه شمله: أي شتت عليه أمره، فتراه يسعى ولا يدرك، من الصباح إلى المغرب وإذا جئت تسأله: ماذا صنعت؟ ماذا عملت؟ قال: والله ما قضيت لي غرضاً، ذهبت البلدية وعقّدوها، ذهبت مكتب العمل وما أفلحت، وذهبت الجوازات وعلى الله أن يمشوا معاملتي، وذهبت الإمارة والله لم أجد أحداً يمشي المعاملة، لماذا؟ لأن أمره مشتت ومفرق؛ لأنه اهتم بالدنيا ولم يهتم بالآخرة.
(وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له) والله لا الدنيا تأتي بالطلب والحرص، ولا الفقر يأتي بالكسل، وإنما الأرزاق مقسومة والأسباب مشروعة، والله يقول: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32].(43/3)
ثمار الفهم الصحيح للدنيا
قال: (ومن أصبح والآخرة همه) أصبح وفي قلبه مثل النار تشتعل من خوفه من الله، ومن خوفه من لقاء الله، ينام على الفراش الوثير الطويل العريض ولكن هذا الفراش في غرفة النوم الواسعة لا تنسيه ضيق القبر، ويعيش على الأنوار الساطعة وفي العمارات الشاهقة ولكن هذه الأنوار وهذه السقوف المنقشة والمطلية لا تنسيه ظلمة القبر، يعيش مع زوجته وأولاده وأسرته وأقاربه ولكنه لا ينسى ظلمة القبر ووحشته، فهو يعيش هنا بجسده وقلبه في الآخرة، مسافر إلى الله بقلبه، جسده في الأرض وروحه عند الله عز وجل.
يفكر! من حين أن يصبح وقلبه معلق بالآخرة: كيف يعمل الصالحات؟ كيف ينجو من السيئات؟ كيف يتقرب إلى الله؟ كيف يسلك الطرق الموصلة إلى الله؟ ينفذ إلى الله من كل باب، ويصل إلى الله من كل طريق، بالخطوة يمشي إلى الله، بالأذن والكلمة يسمع فيمشي إلى الله، باللسان يتكلم به في الخير ويعمل به الخير فيصل إلى الله، باليد يمشي إلى الله، المهم رجل ينتهز الفرص، متاجر مع الله، لا يحقر من المعروف شيئاً ولو أن يتبسم في وجه أخيه المسلم، إذا لقي أخاه يبدأه بالسلام ويقول: السلام عليكم، الله يصبحك بالخير، كيف حالك يا أخي؟! يريد أن ينال أجراً بهذا السبب رغم أنه لن يخسر شيئاً، يقول عليه الصلاة والسلام: (تبسمك في وجه أخيك صدقة) ويقول: (لا يحقرن أحدكم من المعروف شيئاً ولو أن يلقى أخاه بوجه طلِق) وفي رواية أخرى: (طلي) وفي رواية أخرى: (طلْ).
المهم أن هذا هو المتاجر، وهذا هو الموفق الذي يريد أن يعيش لله يحول حياته كلها ويصبغها بصبغة الدين، موظف ولكنه موظف مؤمن فيدخل على الله ويصل من باب الوظيفة، يأتي مبكراً ويلقى المراجعين بأسلوب طيب ووجه بشوش، يقدم لهم الخدمات ويسهل لهم الأمور، ويفتح لهم الثغرات، ويجد لهم الطرق التي تمشي أمورهم وتقضي حوائجهم وفق الأنظمة، ولا يرى طريقاً يسيرة إلا سار بها بين الناس، وبعد ذلك إذا لم يجد فرصة اعتذر إليهم بوجه طيب وقال لهم: يا إخواني! أنا والله أتمنى أن أخدمكم ولكن النظام كما تعرفون يحتم علينا أن نعمل هكذا وهكذا وقد بحثت لكم عن إمكانية لقضاء اللازم لكن لم أستطع فلا تؤاخذوني، فما ظنكم بهذا الرجل؟ ماذا يقول الناس عنه؟ يقولون: جزاك الله خيراً وبارك الله فيك، والله كأنك قد عملت لنا المعاملة كلها.
لكن بغير الأسلوب هذا يمكن أن يفتح الإنسان على نفسه طريقاً إلى العذاب والنار -والعياذ بالله- بأسلوبه السيئ، لا يأتي إلا متأخراً، وإذا دخل غرفته أغلق الباب عليه، وإذا جاء المراجع نهره وقال: ما الذي أتى بك؟ اخرج، امسك طابور، اذهب هناك، أنا مشغول الآن والمراجع ساكت لا يتكلم مع أن كل مراجع معه لسان، وكل مراجع معه يد يستطيع أن يضارب ويستطيع أن يصفعه، لكن يخاف أن يتكلم فتتوقف المعاملة، يخاف أن يمد يده فيصل في مكان ليس جيداً؛ ولذا يسكت ويتحمل ويقول: طيب، جزاك الله خيراً، أبشر، ندخل في الطابور كأنه شحات على بابه، فإذا جاء الله قال: عندك رقم؟ قال: لا.
ليس عندي رقم، أنا مسكين لا أعرف الأرقام.
قال: اذهب، ماذا تريد مني؟ أقلب لك في الدفاتر هذه كلها؟ أنا موظف لك لوحدك، اذهب واحضر برقم أو لا تأت عندي ولا تراجعني! لا إله إلا الله! فإذا خرج هذا المراجع من عند الموظف المخذول، فما رأيكم ماذا يقول؟ يدعو عليه، يقول: الله أكبر عليك ما هذا العفريت! من أين جاءنا هذا الجني؟ الله لا يوفقه، الله يجعلها في وجهه، وفعلاً يستجيب الله؛ لأن الناس شهداء الله في أرضه، إذا أجمع الناس على حب رجل؛ لأنه يقدم لهم الخير ويعمل لهم الخير أحبه الله، وإذا أجمع الناس على كراهية إنسان؛ لأنه شرير -والعياذ بالله- كرهه الله عز وجل.(43/4)
الهم الأخروي يورث قناعة في القلب
قال: (من أصبح والآخرة همه جمع الله له شمله) أي: يسر له أموره، لا يسير في طريق إلا وربنا ييسرها له، كل أمر ييسره الله له لماذا؟ لأنه جعل همه الله، وجعل همه الآخرة فقضى الله عنه دنياه وشئون دنياه.
(جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه) يقول في الحديث: (ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس) فقد تجد إنساناً فقير نفس وهو مليونير، وتجد غني نفس وهو فقير ليس عنده ريال واحد لكن اسأله عن حاله يقول: في نعمة والحمد لله، ولو سألته: هل معك في جيبك شيء؟ قال: ليس عندي شيء، ولكن عندي فضل الله، وأنا معافى، وآمن، ومتزوج، ومعي أطفال، ومعي البيت الذي يكفيني أنا وأولادي، معنا رزقنا الذي ييسره الله، الحمد لله على كل حال، وهذا هو الغني حقيقةً (ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس).
شكا رجل إلى أحد الصالحين قال له: إني أشكو إليك قلة المال، وضياع العيال، وليس عندي شيء.
قال له: أتبيعني عينك؟ قال: لا.
قال: أتبيعني إياها بمائة ألف دينار؟ قال: لا.
والله لو أعطيتني مليوناً، والله لو أعطيتني الدنيا من أولها إلى آخرها ما أبيعها.
قال: حسناً معك عينان بعني واحدة فقط.
قال: لا.
لا أقبل في واحدة منها شيئاً.
قال: أتبيعني أذنك؟ قال: لا.
قال: أعطيك فيها مائة ألف دينار.
قال: والله لا أعطيك.
قال: واحدة لك وواحدة بعها.
قال: لا أبيعك شيئاً.
قال: أتبيعني لسانك؟ قال: لا.
قال: أتبيعني شفة من شفتيك؟ قال: لا.
قال: أتبيعني يدك.
قال: لا المهم عدد له النعم فكانت بقيمة مليون.
قال: كيف تشكو الفقر وعندك سلع قيمتها مليون ريال؟ بالله الذي عنده هذه السلع فقير؟! والله ليس فقيراً {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8 - 9].
الآن من فضل الله ورحمته حينما خلق الله للإنسان هذه الأجهزة زوده من كل جهاز مهم وضروري للإنسان ونافع اثنان لي يكون هناك احتياط، فإذا تعطلت عين عملت الأخرى، وإذا تعطلت أذن كأن تنحرف الطبلة بقيت الأخرى تعمل وكذلك الشفتان والأسنان واليدان والرجلان، لكن الأشياء الضارة والتي منها خراب كثير والتي تدخل صاحبها النار واحدة فقط.
خلق الله للإنسان فماً ولساناً، فما رأيك لو أن شخصاً معه لسانين؟ كان والله لا يدخل الجنة -استغفر الله- لأن أكثر ما يدخل الناس النار الفم والفرج، والآن الشخص معه فرج واحد ولا يستطيع أن يضبط نفسه فكيف لو معه اثنان؟! لأحرق الدنيا بشهوته، فالنافع جعله اثنين اثنين، والضار جعله واحداً، وبعد ذلك أمر الله أن تضبط هذا الواحد، يقول عليه الصلاة والسلام: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة) ويقول في الحديث -والحديث في جامع السيوطي وهو صحيح- يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا تزوج العبد أو المرء فقد استكمل نصف دينه فليتق الله في النصف الآخر) كثير من الشراح يعرف معنى هذا الحديث إلا أن بعضهم وهو ابن القيم رحمه الله إنسان متخصص في معرفة مقاصد الشرع ومعرفة أسرار الحديث النبوي فيقول: إن الحديث يقول: (إذا تزوج العبد بقي نصف دينه) بقي النصف الثاني ما هو؟ الدين حفظه على شيئين: نصف حفظ الفرج، ونصف حفظ اللسان، فإذا تزوجت استكملت نصف الدين، يعني: حفظت فرجك، فاتق الله في النصف الثاني -في لسانك- لأن أكثر ما يدخل الناس النار الفم والفرج.
قال: (وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) أجل.(43/5)
معرفة ماهية المخلوق لا يكون إلا بالرجوع إلى الخالق
الذي يلزمنا كعقلاء أن نتعرف في الدرجة الأولى وفي أول أمرنا على هذه الحياة: ما هذه الحياة؟ هذا السؤال المهم، ولماذا جئنا إليها؟ وإلى أين ننتقل منها؟ هذه الأسئلة المحيرة حارت في فهمها العقول في القديم والحديث، والذي يعرف الإجابة الصحيحة عليها هو خالقها {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] أعرف الناس بالصنعة من؟ صانعها، وإذا تعطلت الآلة تأخذها إلى من؟ إلى من صنعها حتى يصلحها؛ لأنه أعرف الناس بأسرارها، فإذا تعطلت وذهبنا إلى غير صانعها زادها عطلاً، إذا توقفت الساعة فأين تذهب بها؟ إلى الوكالة، لكن لو ذهبت بها إلى صاحب (البنشر) وقلت له: يا (بنشري!) أصلح لي الساعة، قال: هاتها.
وعبأها زيتاً وشحمها، ما رأيك تصلح أو تتعطل أكثر؟ إذا تعطل المسجل أو الراديو أين تذهب به؟ إلى مصلح الراديو، عند الوكالة، قطع الغيار عندهم والأسرار و (الكتلوج) لكن إذا ذهبت به عند النجار وقلت له: الراديو معطل لا يعمل.
قال: هاته.
وضرب له مسماراً، ودقه (بالقدوم) ونشره وقال: تفضل، فما رأيك يصلح أو يخرب؟ يخرب لماذا؟ لأنك ترد الصنعة إلى غير صانعها، الله خالقك أيها الإنسان! والله خالق هذه الحياة، والله منزل القرآن، إذا أردت أن تسير سيراً صحيحاً اعمل بتعليمات الخالق، واعمل بتعليمات الذي أرسله الله لتشغيل هذا الإنسان وهو القرآن: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].(43/6)
اللجوء إلى غير الله نتيجته الفشل
لماذا فشلت البشرية اليوم؟ لماذا تريد أن تداوي عللها فتفسد نفسها؟ لأنها كلما أرادت أن تصلح رجعت إلى غير الله ففسدت، ويوم أن تعود إلى الله وتتعالج من أدوائها بأدوية القرآن والسنة وتسير على المنهج الصحيح تصلح كما صلحت في زمن من الأزمان وفي فترة من الفترات، يوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأرض وكانت القلوب غلفاً والآذان صماً والأعين عمياً، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، كانت العرب تزني بحليلة الجار، وتشرب الخمر، وتزني، وتلعب الميسر، وتقتل النفس، وتئد البنت، وكانت أخلاق شيطانية إلى أبعد الدرجات، فلو أنك أتيت بشخص من هؤلاء العرب الذين كانوا قبل الإسلام لا تجد فيه خصلة صالحة أبداً، لقد كان عمر بن الخطاب يعبد صنماً من تمر فإذا جاع أكله، أكل ربه! وكان يدفن ابنته، يكسر ظهرها ويضعها في الأرض ويدسها، فتصوروا قسوة قلبه كيف وصل إلى هذه الدرجة؟! ولما ردت الآلة إلى صانعها، لما عاد العرب بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله، وعملوا بتعليمات الكتاب والسنة، كيف صلح الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟! كيف انفتقت المواهب؟! كيف خرجت الطاقات وتحولت النفوس تحولاً رأسياً رأساً على عقب!(43/7)
التحول العجيب في حياة عمر عندما رجع إلى الله
عمر بن الخطاب الذي كان هذا قلبه وهذه قسوته يقول عبد الرحمن بن عوف: [مررت أنا وأمير المؤمنين وهو يعس] يعس: أي يقوم بتفقد أحوال المسلمين في الليل، مسئول عن المسلمين، لا ينام الليل، كان يشعر بعظم المسئولية ويقول: [والله لو عثرت بغلة في العراق لكنت مسئولاً عنها يوم القيامة: لم لم أمهد لها الطريق]؟ ويقول للمرأة التي مر عليها في الليل وهي تغلي الماء وتضع فيه حجارة والصبية حولها يتضاغون جوعاً قال: [يا أمة الله! ماذا تعملين؟ قالت: أولادي جياع وليس عندي طعام، فأنا أشعل النار على القدر وفيه ماء وحجارة، وأحرك في الحجارة والماء وأقول للأولاد: اصبروا اصبروا حتى يغلبهم النوم، قال لها: أنا آتيك بطعام، فرجع وهو يبكي، ودخل بيت المال وأتى لها بدقيق وسمن وأعطاها، فأبعدت الحجارة ووضعت الدقيق والسمن وأيقظت الأولاد وأشبعتهم، فلما أكملت قالت: والله إنك أفضل من عمر، ولم تعلم أنه عمر، قال لها: يا أمة الله! وما يعلم عمر عنك؟ هلا ذهبت إليه حتى يعطيك.
قالت: لا يعلم عني وهو أمير المؤمنين؟! كيف يلي ويكون مسئولاً عن إمارة المسلمين ولا يعلم عني حتى آتيه؟! قال: والله إن الناس كلهم أفقه من عمر حتى هذه المرأة].
يقول عبد الرحمن: [كنت معه وهو يعس في الليل] لا ينام الليل كما روت السنن والسير أنه لم يكن له فراش، وكان النوم يسبقه ويسرقه إما تحت ظل شجرة، أو تحت حائط، أو في المسجد، المهم كلما غلبه النوم نام قليلاً وقام، فقيل له: [يا أمير المؤمنين! ألا نتخذ لك فراشاً؟ قال: لا.
ما لي وللنوم، إن نمت في الليل أضعت نفسي، وإن نمت في النهار أضعت رعيتي] يقول: أنا لا أنام، الليل لربي أصلي، والنهار للرعية أرعى أمورهم.
يقول: [فكنت معه، فمررنا على بيت فيه صبي يبكي، ثم عدنا والصبي لا يزال يبكي، فدق الباب -لم يتحمل عمر أن يسمع صراخ الصبي ولا يعرفه، لكن قلبه رقيق، القلب القاسي بالكفر أصبح رقيقاً، رقة متناهية في الإسلام- فدق الباب قال: يا أمة الله! أسكتي غلامك فإنك أم سوء -يقول: ألا ترحمين هذا الولد الذي يبكي طوال الليل؟ أسكتيه- قالت: كيف أسكته وعمر يفرض للفطيم خراجاً فأنا فطمته قبل الموعد من أجل أن يكتب له خراجاً من بيت مال المسلمين، قال: أرضعيه وسنكتب له خراجاً] يقول عبد الرحمن: [فوالله ما عرفنا قراءته في صلاة الفجر من كثرة نحيبه وبكائه! ثم نادى في اليوم الثاني مناد أن عمر يكتب خراجاً لكل مولود في الإسلام، فلا تفطم المرأة ولدها قبل الموعد وإنما له خراج منذ أن يخرج من بطن أمه] هذا عمر، وهذه رقته.
أما عقليته المتحجرة التي كانت تأكل الصنم بعد أن تعبده فكيف كانت عقلية عمر بعد ذلك في الإسلام؟ كان يقترح على النبي صلى الله عليه وسلم فلا يوافقه الرسول فحسب وإنما يوافقه القرآن، وقد عد العلماء أن عمر وافقه القرآن في واحد وعشرين موضعاً، إذا قال كلاماً نزل الوحي يصدق عمر.
قال: [لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى للرسول صلى الله عليه وسلم] فأنزل الله قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125].
وقال: [يا رسول الله! لو خاطبنا نساءك من وراء حجاب] فأنزل الله قوله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53].
وقال في غزوة بدر عندما انتهت المعركة وقبض على الأسرى استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في الأسرى يقتلهم أو يفدون، أو ماذا يصنع بهم؟ فأشار أبو بكر رضي الله عنه فقال: (يا رسول الله! أبناؤك وإخوانك وأبناء إخوانك لماذا تقتلهم؟ ولكن يفدون أنفسهم فنحن بحاجة إلى المال.
قال: وأنت يا عمر.
قال: لا يا رسول الله! أعداؤك وأعداء دينك قاتلوك وأخرجوك، اقطع رقابهم) قوي في دين الله! فالنبي صلى الله عليه وسلم مال إلى رأي أبي بكر؛ لأنه رحمة على العالمين، (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما) صلوات الله وسلامه عليه {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] والله يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] رحمة -صلوات الله وسلامه عليه- على العالمين، رحمة على الإنس، والجن، والطير، والحيوانات، وعلى كل شيء، حتى أنه مر ليلة من الليالي صلوات الله وسلامه عليه على قوم في البادية وعندهم خيمة، وإذا بوسط الخيمة ظبية مربوطة، وإذا بها تبكي وتهز رأسها، فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه: (أتدرون ما تقول هذه؟ قالوا: لا.
قال: إنها تقول: إنها تركت طفلين لها، وطلبت مني أن أشفع لها عندكم فهل تسمحون لها تذهب ترضعهم وترجع؟ قالوا: إن كانت ترجع يا رسول الله! فلا مانع؟ قال: ترجعين؟ -يخاطبها وهم لا يفهمون الكلام- فأشارت برأسها، قال: أطلقوها.
فلما أطلقوها ذهبت وأرضعتهم وإذا بها تأتي تسلم نفسها! فقالوا: يا رسول الله! هي لله عز وجل، فأطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم) أرسل رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه.
ولما جاءت القمرة تبكي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من فزعها بفرخيها.
قال شخص: أنا يا رسول الله! قال: ردها) فهو رحمة على كل شيء صلوات الله وسلامه عليه.
ولكن كان أمر عمر عند الله أفضل، اختيار عمر بقتلهم عند الله أفضل، قال الله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال:67] ثم قال: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68] يقول صلى الله عليه وسلم بعدها: (والله لو نزلت نار من السماء لاحترق هذا الوادي بمن فيه ولما نجا منها إلا عمر).(43/8)
حقيقة الدنيا والسبب الذي خلقنا الله من أجله
هذه الحياة -أيها الإخوة- خالقها وفاطرها ومنشئها هو الله {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] إذا أردنا أن نعرف حقيقتها فلنسأل عنها خالقها، يا رب! ما هذه الحياة؟ هي دار لعب: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد:26] ويقول مؤمن آل فرعون في سورة غافر: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39] {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64].(43/9)
الدنيا لهو ولعب
كأن سائلاً يسأل فيقول: يا رب! أخبرنا عن هذه الحياة، أخبرنا عن حقيقتها، وما المراد منها، وما الذي بعدها حتى نعمل لما بعد هذه الحياة؟ فيجيب الله في سورة الحديد بصيغة الأمر الموجه إلى الناس يقول: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد:20] اعلموا أنتم يا مكلفين! اعلموا حقيقة هذه الحياة {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الحديد:20] هذه الدنيا التي نعيشها الآن لعب، أحب شيء عند الناس اللعب، لو علم أن هناك سمرة في الوادي ذهب لها من الخميس، ولكن لو قيل: إن هناك ندوة في المسجد قال: شغلتونا، كل يوم وأنتم تحدثون.
والشيطان ما شغلك كل يوم وهو يلعب بك؟ وشغلة الشيطان سهلة ومحببة.
الوظيفة التي من أجلها خلقك الله: سماع كلام الله، سماع حديث رسول الله في مجلس من مجالس الإيمان، في روضة من رياض الجنة، تحفك فيه الملائكة، وتغشاك فيه السكينة، وتنزل عليك فيه الرحمة، ويباهي بك الله في الملأ الأعلى، وينادي مناديه في آخر الجلسة: (أن قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات) هذه عند كثير من الناس شغلة، يقول: اشغلونا، حتى أن بعضهم يتورط في جلسة من الجلسات فإذا قام المحدث هرب كأنه شاهد ثعباناً أو أسداً، ولكن إذا كان هناك لعب أو (دقة عرقوب) أو ختان أو سمرة قال: دعونا نذهب نطرب، فتلك ليست شغلتك؟ لأنها في سبيل الشيطان، تظله فيه الشياطين، يغشاه القلق والاضطراب، تنزل عليه العذاب -والعياذ بالله- يباهي به الشيطان؛ لأنه مجلس لا يذكر الله فيه (وما جلس قوم في مجلس لم يذكروا الله تعالى فيه إلا كان عليهم هذا المجلس حسرة وندامة يوم القيامة) وفي الحديث: (ما من مجلس يجلس فيه الإنسان ثم يقوم ولم يذكر الله فيه إلا تفرقوا على مثل جيفة حمار).
لكن تلك ترضي الشيطان، وبعد ذلك أين يجلس؟ على الطين، وبعد ذلك ليته يجلس مثل جلسة الإيمان التي -الحمد لله- كلاً منا جالس لا تعب ولا شيء، لا.
يدق الأرض دقاً ويقفز ويضرب ويهز جسمه ولكن لا يشعر بتعب؛ لأن الشيطان ينفخه، كلما نقص هواه قال له: انتبه.
وإذا أرادوا أن يبطلوا السمرة قال: يا جماعة! بدري الساعة الثانية عشرة، دعونا نسمر، هذه فرصة لا تفوت، فإذا انتهت السمرة وذهب، فك الشيطان سجنه، وذهب البيت وإذا به مرهق، كأنه مضروب من سنة! لماذا؟ يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [مريم:83] ترجه رجاً -والعياذ بالله- إلى المعاصي وإلى الذنوب، حتى إنكم لترون هذا الذي يشغل الاستريوهات في سيارته، يركب سماعة هنا وسماعة هنا، وسماعة هنا وسماعة هنا وبعد ذلك يقول: أريد مسجل استريو! لماذا الاستريو؟ قال: لا أريد موسيقى بسيطة، أريد موسيقى مرجوجة، لأن عقله مرجوج -والعياذ بالله- وإذا نام في البيت في غرفة النوم ركب سماعة كبيرة، والله إني دخلت عند شخص في غرفته ولديه سماعة مثل الدولاب! -لا حول ولا قوة إلا بالله- ما هذه؟ قال: هذه للموسيقى الغربية، يقول: إذا نمت أريد أن أسمع الموسيقى الغربية كي ترجني، لا يأتيه النوم إلا وقد ركبته الأباليس -والعياذ بالله- لا حول ولا قوة إلا بالله! ينام المسلم على ذكر الله وهذا ينام على ذكر الشيطان لترجه الموسيقى، قلت: لماذا هذه؟ قال: للموسيقى الغربية، هذه موسيقى حالمة، موسيقى تجلب الهدوء، موسيقى تريح النفس وتزيل الإرهاق وتريح الأعصاب.
قلت: الحمد الله أنها تعطلت، والله ما منها راحة لا في الدنيا ولا في الآخرة لا حول ولا قوة إلا بالله! وإنا لله وإنا إليه راجعون! هذه الدنيا لعب ولهو يحبها الناس، فاللهو جزء من اللعب لكنه أخص منه، اللعب أعم واللهو أخص؛ لأنه يلهو به الإنسان، ويضيع الوقت به.
ويقول بعضهم: تعال نلعب ورقة، وما هي الورقة؟ ورقة! يلعب بها العقلاء وكبار القوم والناس، يقتلون في سبيلها الأوقات الطوال، بعضهم يجلس بعد العشاء ولا يقوم إلا الساعة الثانية عشرة أو الواحدة أو الثانية وهو متقابل هو ورفيقه، يضرب الأرض بيده، ويزعل ويشتم ولماذا أنت ما أعطيتني؟ كيف أنا ما شفت إشارتي لك؟ ما قلت لك كذا بفمي ولا بعيني ولا بإصبعي؟ لا حول ولا قوة إلا بالله! بل بعضهم يسب بعضاً، يقول لي شخص وقد تاب الله عليه، يقول: والله ما وجدت في نفسي أنني في موقف ذلة في مثل مرة من المرات وأنا كنت ألعب هذا الورق -يقول- وفي مرة من المرات الذي أمامي اشترى -يعني: اللعب- واللعب عليَّ فلازم أعطيه شيئاً يمسك اللعب به؛ لأن الدنيا كلها عنده، وهو عينه في وأنا ما انتبهت -يقول- فوضعت قطعة من الورق أخذها أحد الأخصام -يقول- فقال لي ذاك: أصلك بقرة -يقلل من شأنه وهو مدير إدارة كبير- قال: يا أخي! وصل الأمر إلى هذا الحد؟ قلة الأدب إلى هذا الحد! أنا مدير إدارة ومسئول -يقول- فوضعت الورقة له وقلت: في أمان الله هذا عنده نفس أبية؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] يقول: ومن تلك الليلة تبت إلى الله وتاب الله عليَّ.
هذا هو اللهو، تعال نلهو، نسمر، نتمشى، نفحط، نتكلم، هذا لهو، كله باطل، لا يجوز لك، ما خلقك الله لتلهو، قلت لأحدهم: لا تمض أوقاتك في هذه الخزعبلات.
قال: يا شيخ! فأين تريدني أن نذهب؟ قلت: تحفظ القرآن؟ قال: لا والله.
قلت: حسناً هل تحفظ نصف القرآن؟ قال: لا.
قلت: تحفظ ربعه؟ قال: لا.
قلت: تحفظ جزءاً منه؟ قال: لا.
قلت: تحفظ سورة الملك التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (وددت لو أنها في قلب -أو في صدر- كل مسلم من أمتي) لأنها تدافع عنه في القبر؟ قال: لا.
قلت: تحفظ سورة الواقعة التي يقول فيها ابن مسعود: [أن من قرأها في ليلته كفاه الله شر الفاقة في الدنيا]؟ قال: لا.
قلت: تقرأ سورة الدخان، تقرأ سورة يس التي هي قلب القرآن؟ قال: لا.
قلت: حسناً يا أخي! عندك وقت تلعب؟ عندك وقت تلعب بلوت؟ هل تحفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل تعرف تفسير: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:1 - 3] ما معنى غاسق إذا وقب؟ قال: لا أعلم.
قلت: وتلعب بلوت -ما شاء الله- فارغ، ليس عندك وقت تملأه، لماذا لا تقرأ تفسير ابن كثير؟ لماذا لا تقرأ صحيح البخاري؟ لماذا لا تقرأ رياض الصالحين؟ لماذا لا تقرأ كتاباً في الفقه؟ لماذا لا تتعلم دينك لتعبد الله وتعيش مسلماً قوياًَ في إيمانك؟(43/10)
هذه الدنيا زينة
هذه الدنيا زينة، ترون البيت قبل أن يليس سمنت مع بطحاء مرصوص في قالب، لا يستطيع أحد أن يسكن فيه، لكن من أجل أن نخدع أنفسنا نليس، وبعد ذلك ندفن ونرش ونفرش ونأتي بالكنب والستائر، لماذا هذا؟ زينة فقط، ونغير كل سنة الموكيت والسيارات التي تشاهدونها الآن تمشي في الأسواق، حتى أن الكفار أدركوا أننا سطحيون، وأن عقولنا في عيوننا؛ ولهذا يخرجون موديلات كل سنة، وما هو الموديل هذا؟ يخرج موديل ما بينه وبين الموديل الأول إلا الخط الذي من الجنب، الباغة التي يلصقها، باغة صفراء أو باغة حمراء، قال: هذا موديل ثمانية وثمانين، ويضع لك اصطب من هنا أو مرآة كبيرة، وإذا أتيت بسيارتك سبعة وثمانين ورأيت المرآة قال: يا شيخ! أما موديل ثمانية وثمانين رهيب الله أكبر يا هذا الرهيب! ما فيه رهيب؟ قال: رهيب يا شيخ! المرآة كذا، والاصطبات شكل ثاني، (والطيس) -بعضهم يقول: حتى (الطيس) - في الموديلات تتغير، (الطيس) التي يدوس بها الإنسان في النجاسات، (الطيس) لا بد موديل ثمانية وثمانين.
وبعضهم يبيع سيارته بخمسة عشر ألف وهو اشتراها بأربعين ألفاً، وذهب وأخذ سيارة بخمسين لماذا؟ موديل جديد، من أجل ماذا؟ زينة.(43/11)
الدنيا تفاخر وتكاثر
وتفاخر بينكم: مفاخرة ومكابرة ومسابقة: فلان بنى، والله لأبني، فلان عمل، والله لأعمل، فلان عمل البئر وصبها، كيف تكون بئرنا غير مصبوبة وبئر فلان مصبوبة؟ فلان وفلان، المهم مفاخرة، وليست مفاخرة في الآخرة، مفاخرة في الدنيا، ولهذا يقول أحد السلف: إذا نافسك جارك في البنيان فنافسه في قيام الليل، وفي الصيام، وفي الحديث (ولا تنظر إلى من هو فوقك انظر إلى من هو دونك فإنه أحرى ألا تزدري نعمة الله) لكن في الدين انظر إلى من هو فوقك.
{وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الحديد:20] تكاثر، تسابق، تطاحن، تناحر، لا بد أني أكثر، لا بقليل يشبع ولا بكثير يقنع مثل شارب البحر كلما شرب كلما زاد عطشه، مثل النار: كلما قيل لها: هل امتلأت؟ قالت: هل من مزيد، هل بقي أحد.(43/12)
ضرب الأمثال على حقيقة الدنيا
هذه الدنيا بخمسها: لعب، ولهو، وزينة، وتفاخر بينكم، وتكاثر في الأموال والأولاد، حسناً ما مثلها يا رب؟! لأن الأمثال تقرب المعاني، والله قد ضرب في القرآن بالأمثال العديدة وقال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21] وقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] ودائماً المثل هو وسيلة إيضاح تقرب المعنى وتفهمه وتدخله في الأدمغة، فهذه الدنيا كما قال قال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الحديد:20] ما مثلها؟ قال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ} [الحديد:20] الغيث: النبات الذي يأتي في أول الزرع الأخضر الجميل، الذي منظره جميل وملبسه جميل وشكله جميل إذا هبت عليه الريح تراه يميل مع الريح ثم ترده الريح، وإذا أسقيته يميل، يعني منظر جميل، فهذه الدنيا {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20] الكفار هنا: يعني الزراع، ليس هم كفار بالمعنى الشرعي بل بالمعنى اللغوي؛ لأن الكفر بالشيء تغطية الشيء، وسمي الكافر كافراً؛ لأنه يغطي نعم الله ويغطي حقائق الإيمان ويخادع نفسه، والزارع يسمى كافراً في اللغة وليس كافراً في الشرع، لا.
هو مؤمن، لكنه يضع الحب في الأرض ويغطيه فقال الله: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20] هذه الدنيا أولها {ثُمَّ يَهِيجُ} [الزمر:21] يكبر {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} [الزمر:21] هذه هي المرحلة الثانية من الدنيا {ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} [الحديد:20] يجبس ويتحطم ويسقط.
يقول ابن خلدون في مقدمته: يذكر أن مراحل الحياة ثلاث مراحل: مرحلة الشباب، ومرحلة الأشد، ومرحلة الشيخوخة والكهولة، فمرحلة الشباب تبدأ من أول العمر إلى العشرين، والإنسان ينمو في هذه الفترة نمواً متعادلاً جسدياً وعقلياً، ينمو عقله وينمو جسده سواء، في توافق زمني بحيث لا يسبق عقله جسده ولا يسبق جسده عقله، يسمونه العمر الزمني أو العمر العقلي في التربية، إلى العشرين، وفي العشرين يقف نموه الجسدي، طول ثوبك وأنت ابن عشرين هو طول ثوبك إلى أن تموت، هل هناك أحد يزيد طوله بعد العشرين؟ يمكن يتوسع لكن بحسب العوامل الأكلية، إنما يطول، لا.
ثوبه وهو ابن عشرين هو ثوبه إلى أن يموت، بعد العشرين يتوقف النمو الجسدي ويستمر النمو العقلي إلى الأربعين يكتمل النمو العقلي، والذي عقله وهو ابن أربعين ليس مثل عقل ابن عشرين، عقل ابن عشرين فيه طيش، فيه حماس، فيه تسرع، فيه غضب، لكن ابن الأربعين، لا.
فيه انضباط، فيه تعقل، وتوازن، واعتدال يزن الأمور بموازينها، يقيس النتائج على مقدماتها، بعد ذلك يقيس المقدمات على نتائجها، ينظر من منظار أوسع، ولذا ما بعث الله نبياً إلا في الأربعين، قال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15] فعند الأربعين يكتمل أشد الإنسان ويكتمل عقله، فلا يزيد عقل الإنسان بعد الأربعين، ولهذا الذي لم يعقل قبل الأربعين لن يعقل بعدها، وورد في بعض الآثار: [إذا بلغ الإنسان الأربعين من عمره ولم يغلب خيره على شره قبله الشيطان بين عينيه، وقال: فديت وجهاً لا يفلح أبداً] وقال في الأثر الآخر: (إذا بلغ الإنسان الأربعين من عمره ولم يغلب خيره على شره فقد تجهز إلى النار) أي: حجز وقطع تذكرة إلى النار إلى جهنم؛ لأنه مدة أربعين سنة وهو مع إبليس متى سيعود إلى الله؟ لا إله إلا الله! يقول العلماء: بعد الأربعين تنعكس المسألة، يستقر النمو العقلي ويبدأ النمو الجسدي بالنزول، من الأربعين إلى الستين تنزل قدرتك الإنسانية، عينك التي كانت حديدية ترى البعيد أصبحت ضعيفة، أذنك المرهفة التي كانت تسمع أدق الأصوات أصبحت لا تسمع، ماذا تقول؟ ارفع صوتك، ما أسمع، أسنانك التي كانت تكسر أصبحت لا تكسر شيئاً، تبدأ تسوس وتخلعها وتركب تركيبة وترقع من هنا لكن لا ينفع شيء، يدك القوية المفتولة انتهت، عضلاتك انتهت، رجلك التي كنت تدق بها في الأرض مثل الحديد، ركبك التي كانت -ما شاء الله- تصعد الدرج وأنت صاعد تقول: (والله! إن ركبي ضيمة معي روماتيزم) فمتى يكون هذا؟ من الأربعين إلى الستين.
يقول العلماء: في الستين ينزل الجسد والعقل معاً، حتى العقل يبدأ يضعف، ولذا ترون الشيبة في السبعين والثمانين نفسيته مثل نفسية الطفل يزعل من أتفه الأسباب ويحرق لأتفه الأسباب؛ لأن الله يرده، قال الله عز وجل: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [النحل:70] وقال: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} [الروم:54].
يقول لي أحد الإخوة: والله إني أعرف شيبة لا يأكل إلا بالرضاعة! وقد بلغ أكثر من مائة سنة -وهو في البيت- ما لديه سن، ولا يستطيع أن يأكل أي طعام فيعطونه الرضاعة وهي ممتلئة بالحليب ليرضع، مثلما كان يرضع وهو صغير.
ولذا أمر الله عز وجل المسلم بالإحسان إلى والديه قال: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] "أف" هذه ليست كلاماً أصلاً، لا يوجد أحد يقول: أف.
ما معنى أف؟ هل لها مفهوم في اللغة؟ لا.
الأف هي: عملية التعبير عن التضجر وعدم الرضا؛ هذه حرام أنك تقولها لأبيك، فكيف بمن يسب أباه؟ كيف بمن يشتم أباه؟ كيف بمن يتكلم على أبيه ويرفع صوته على أبيه ويقول: اسكت، شغلتنا يا ذا الشايب! الله أكبر! {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23].
حملتك أمك تسعة أشهر كرهاً، قال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} [الأحقاف:15] تصور: إذا أنت شبعت بالليل ثم ملأت بطنك ثم أتيت لتنام لا يأتيك النوم حتى ينهضم طعامك، والطعام كله يمكن مثل يديك هذه، لكن كيف وأنت تتغذى في بطنها تسعة أشهر؟ تأكل من غذائها، وتمتص من دمها، وتنمو من جسدها، وبعد ذلك بطنها لك غرفة كاملة مهيأة، تقوم وتشتغل وتنام وأنت قاعد في قرار مكين، وبعد ذلك وضعتك كرهاً، يقول العلماء: إنه في لحظة من لحظات خروج الجنين من بطن أمه حياً تمر المرأة بلحظة فيها من العذاب ما لولا أن الله تبارك وتعالى رحمها وأبقاها لما تتحملها الجبال! نعم.
تصور رأساً وجسماً يخرج من ذاك المكان الضيق، من الذي أخرجه؟! قال الله: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس:20].
وبعد ذلك بعد أن تخرج بعد الآلام والمعاناة والتعب تأخذك أمك وتلصقك إلى ثديها، ويترجم حنانها وعطفها إلى لبن حلو عذب، من أحسن الأطعمة في الدنيا، تعطيك طعامها، وبعد ذلك في الليل إذا مرضت لا يأتيها النوم -تعرفون الذين عندهم أولاد إذا مرض ولدك تنام سبعين نومة، وهي جالسة- طوال الليل وأنت في حضنها، وإذا جاءك الأذى عندها وجئت إلى أبيك ورآك أبوك قال: يا ولد! اذهب إلى أمك، اذهب، يا امرأة! غسلي الولد! ماذا بك؟ ألست أبوه؟ لا يستطيع أبداً، لكن الأم لا تتقزز منك أبداً.
يقول لي أحد الإخوة: هناك امرأة معروفة بأنها نظيفة إلى درجة بعيدة جداً، أي: امرأة لا تقبل أي شيء، لدرجة أنها إذا دخلت بيتها تأخذ المفتاح وتنفخه قبل أن تدخل المفتاح تقول: لكي لا يتوسخ ويكون هناك تراب يخرب علينا القفل من الداخل، وبعد ذلك تزوجت وأتى لها أولاد ووضعت النظافة تلك كلها بالنسبة لأولادها، يقول: والله إنها أحياناً تغسل أولادها ويأتي الطعام فلا تتحرج أنها تذهب تغسل يديها، تقول: كلها واحد، ترى أن أذى ولدها بالنسبة لها أنه طعام من حبها، من عطفها، من شفقتها عليك، ولو خيرت بين حياتك وموتها لاختارت حياتك بأعلى صوتها، بعض الأمهات تقول: والله إنني أريد أن أموت ولا يموت الابن.
فإذا ما كبرت وأصبحت رجلاً (عضلات ووظيفة) قلبت الموجة على أمك، خاصة إذا تزوجت بواحدة وأحببتها فإنك تكره أمك، وتبقى مع زوجتك، البسمة للزوجة، والسمرة للزوجة، والذهب الأصلي للزوجة، والملابس الغالية للزوجة، والطيب الغالي للزوجة، والهدايا للزوجة، والكهلة هناك، إذا مر عليها في الأسبوع مرة صبحك الله بالخير، الله يحسن خاتمتك، وسلم على يدها أو على أنفها، وكذلك إذا اشترى لها ذهباً أخذ لها من (الفالصو) وقال: إنها قديمة، إنها عجوز.
وإذا اشترى لها ملابس أخذ لها من أبو خمسة أو أبو ستة متر، لماذا؟ عجوز، والله لو كانت العصا قد خرقت يدها لكنها تعرف الجميل والقبيح، وتريد ذهباً أحسن مما تريد امرأتك.
القضية قضية اعتبارية، لما ترى فلذة كبدها الذي شقها وعقها وأتعبها طوال حياتها خيره كله لبنت الناس، وأنا أين جميلي؟ أين تضيعني أنا؟ أين هذا؟ ولهذا جاء في الأثر: من فضل زوجته على أمه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، كيف يا أخي؟! هذه أمك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابي لما سأله: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أبوك - ثم قال- ثم أدناك فأدناك) لم يقل امرأتك في الحديث كله، يعني: الأقرب فالأقرب، ولكن المرتبة الأولى والثانية والثالثة للأم، وبعد ذلك الرابعة للأب، والمراتب الأخرى هذه قسم الناس على كيفك يا أخي، لكن الآن: المرتبة الأولى للزوجة، والمرتبة الثانية للزوجة والمرتبة الثالثة للزوجة، والأم أين هي؟ ما لها ميزة ولا لها كرت عند أكثر الناس، ال(43/13)
حقيقة ما بعد الحياة الدنيا
هذه الحياة وهذه الدنيا، عرفناها يا رب! نريد الآخرة فما فيها؟ سنموت في هذه الحياة، سننتقل منها رغم أنوفنا، والله يقول: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:34 - 35] والذي ليس عنده تصديق أنه سيموت ينتظر حتى يموت {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
وهناك عالم أو طبيب قرأت عنه في مجلة، كان يجري أبحاثاً على إمكانية إبقاء الروح في الإنسان، فماتت أمه فطمع في أن تنجح أبحاثه حتى يعيد الروح إلى أمه، وخشي أن يدخلها في القبر فتأكلها القبور فصفدها ووضعها في الثلاجة حتى ينهي الأبحاث ويردها لتعيش، ومضى عليها ثمان عشرة سنة وما انتهت أبحاثه، ثم مات أبوه فوضعه فوق أمه في الثلاجة، وبعد سنة مات صاحب الأبحاث وهو لا يزال يبحث، فأخرجوه هو وأمه وأباه ووضعوهم في المقبرة، فالموت حق.
الموت باب وكل الناس داخله يا ليت شعري بعد الباب ما الدار
وقال الآخر:
الدار جنة عدن إن عملت بما يرضي الإله وإن خالفت فالنار
هما محلان ما للمرء غيرهما فاختر لنفسك أي الدار تختار
قبل أن تحدد من الآن، إن كنت تريد الجنة فاسلك سبيلها، وإن كنت تريد النار فاسلك سبيلها، يقول عليه الصلاة والسلام والحديث صحيح: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى -فاستغرب الصحابة وقالوا: من الذي لا يريد الجنة، أهناك أحد لا يريد؟ - قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) فالذي لا يريد طاعة الله هذا لا يريد الجنة، والذي يريد طاعة الله يريد الجنة (من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) ستموت، وستخرج من هذه الدنيا، ستخرج من القصر إلى القبر منكوساً رأسك الأول.
بعد هذه الحياة حينما تنتهي أيامك على دهرها، ويأتيك داعي الله بالمغادرة إلى الدار الآخرة، تخرج منها كما دخلت فيها {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94] ما رأينا في حياتنا رجلاً جاء إلى الدنيا وخرج منها ومعه دفتر شيكات لكي يكتب شيكات لمنكر ونكير ولملائكة العذاب لكي يسهلون عليه الأمور ويعرفون أنه صاحب مال وأنه صاحب مكانة، لا.
لا يعلمون عنك، المال في الدنيا لكن في القبر ليس معك شيكات، ولو معك فلوس لا تمشي عملة الدنيا في الآخرة، عملة الدنيا ورق وعملة الآخرة حسنات، وأنت أتيت وتركت الورق وراء ظهرك والحسنات ليس منها معك شيء، مفلس، وتريد أن تأخذ الجنة بالفلس، صحيح أنك في الدنيا ما قصرت، ما عليك خلاف، عمارات وسيارات وأولاد وكل شيء، لكن الآخرة ما معك فيها؟ ماذا صنعت بالآخرة؟ هذا المهم، هذا المعول عليه.
تخرج من هذه الدنيا كما يقول الناظم:
ولدتك أمك يا ابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
الإنسان يخرج إلى الدنيا، وهذه عادة وطبيعة يشترك فيها كل أطفال الأرض سواءً كانوا مسلمين أو وكفاراً عرباً أو عجماً يهوداً أو نصارى سوداً أو بيضاً، كلهم، أي طفل من حين أن يخرج يبكي، لماذا؟ ورد أن الشيطان يضرب الإنسان في ضلعه، فيخرج وهو يصيح، رغم أنه خرج من الضيق إلى السعة لكن يصيح لا يريد هذه الساحة، كان هناك محفوظاً فلما خرج ضربه الشيطان، فأنت تبكي ولكن الناس حولك يضحكون سروراً، بشروه بولد، الحمد لله جاءه ولد، جاء له رجل، يفرحون، يقول: فاعمل لنفسك -عملاً صالحاً- أن تكون إذا بكوا -لأنه سيأتي يوم تموت أنت ويبكون عليك- ضاحكاً مسروراً، لتخرج من الدنيا وأنت تضحك وهم يبكون مثلما جئت إلى الدنيا وأنت تبكي وهم يضحكون، لكن لا تأتي تبكي وتخرج منها تبكي إلى النار، تأتي باكياً وتخرج منها باكياً إلى جهنم، هذه هي المصيبة، سوف تخرج من هذه الدنيا.
لهوت وغرتك الأماني وعندما أتمت لك الأفراح فوجئت بالقبر
يتعب الإنسان ويكد ويجتهد ويأخذ الرتب ويأخذ المناصب فإذا زانت له من كل جانب جاء الموت ليخربها من كل جانب.
أحد الناس كان عنده عقارات وجاءته شوارع وبعد ذلك جاءته ملايين فجئت أزوره وهو مريض فقلت له: كيف حالك؟ كيف أنت؟ إن شاء الله بخير، قال: بخير، لكن لم تأتني الأموال إلا وقد أصبحت شايباً، وعلى فراش الموت، يا حسرتي! يقول: أموال ماذا أصنع بها وأنا شايب.
قلت: أنفقها تنفعك.
قال: أين؟ قلت: في الآخرة.
قال: أنت مطوع، قلت: جزاك الله خيراً، لكنه أبى أن يموت ويتركها، مخذول -والعياذ بالله- والله لو كان فيه خير لنفسه لعمل صالحاً من هذا المال، لكنه محروم حقيقة والعياذ بالله.
كما يقص علينا أحد الإخوة قصة يقول: كان هناك رجل بخيل وعنده مال، ودائماً لا يأكل إلا خبزة ناشفة قبل أيام الفقر، وهناك في هذه القرية عامل يمني يشتغل لكن لا يشتغل أي عمل إلا ويتقنه ولكن يشترط شرطاً، يشترط أن الفطور قرص بر، والعشاء -لم يكن هناك غداء في تلك الأيام (ما مثلنا دحس) ولم يكن إلا وجبتين فقط- بر ومعه كأس من السمن، تريد أن يشتغل عندك تعمل هذا الشيء، ولا يشتغل عندك أبداً إلا بهذا الشرط، فجاء هذا الرجل المحروم إليه وقال: تعال.
هذا تاجر عنده من السمن الكثير الكثير، قال: يا فلان! نريدك في شغل.
قال: طيب، لكن بشرطي.
قال: أبشر.
اشتغل له يوم وجاء في الضحى وإذا به يذهب له وأتى له بقرص ذرة على غير الشرط.
قال: ما هذا؟ قال: قرص ذرة.
وإذا به يرجم بالمسحاة والحكل وقال: والله لن أشتغل معك مرة ثانية، أنت كذاب، كيف تكذب علي؟! قال: لا.
أبداً، أكمل عملك ما يكلمه إلا أنت.
قال: لماذا؟ أنا شرطي أنك تعطيني قرص بر وكأساً من السمن.
قال: أبشر أبشر، لكن أنه عملك.
قال: اذهب، والله لن أشتغل حتى تأتي بها.
فذهب إلى البيت وأتى له بقرص بر وأتى له بكأس سمن، وأتى أيضاً بقرص الذرة، ما أتى لنفسه بقرص من البر مثل العامل، فقام هذا ووضع القرص في السمن وأكله، وذاك يأكل القرص الذرة ناشف.
قال: غمس يا عمي غمس.
قال: لا.
لن أغمس، قطر أنت، قطر.
يقول: كل وقطر لا تغمسها كاملة، يقول: كل اللقمة هكذا وقطرها حتى لا ينتهي السمن.
قال: طيب، فيأخذها ذاك ويغطسها ويغطسها لا يقطر ولا شيء، وما إن انتهى من قرصه قام الآخر والتفت هكذا فأخذ السمن وشربه، ما بقي له ولا قطرة.
ويوم أعطاه قال: أشهد بالله يا عمي أنك محروم.
فبعض الناس محروم -والعياذ بالله- من الخير، أنت ستخرج من الدنيا وليس معك من الدنيا شيء، قدم أمامك عملاً صالحاً حتى تلقاه بين يدي الله تبارك وتعالى، ابن مسجداً، ساهم في عمل الخير، أرسل للمجاهدين الأفغان، ساهم في جمعيات القرآن الكريم، أنفق على الفقراء والمساكين، لا تتاح لك فرصة من فرص الخير والإنفاق في سبيل الله إلا وتضرب فيها بسهم ولو قليلاً، لو مائة ريال، لو ألف ريال، لو ألفين ريال، المهم لا تخرج من عمل فيه خير وأنت صفر مفلس، أبداً، كلما شرع لك مشروع فيه خير لا تقل: لا والله، لا أضع، اجبر نفسك، اجبرها على الإنفاق؛ لأنك بهذا تربح مع الله تبارك وتعالى.(43/14)
أصحاب العذاب والمغفرة يوم القيامة
يقول تعالى: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الحديد:20] التي نعيشها {إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] متاع الخداع، مثل الفقاعة، الفقاعة التي ترونها تطلع في الصابون ما شاء الله كبيرة لكن انفخها، هل بقي شيء منها؟ هذه الحياة فقاعة، بيتي، قصري، أولادي، عماراتي، وإذا ذهن الواحد وضربوا برأسه في القبر أين المرأة؟ والله ليس معي شيء، فأين العمارة! والسيارة! والأولاد؟! فلا يرى إلا ما قدم، لا يرى عن يمينه إلا ما قدم، وعن شماله إلا ما قدم، كذلك أمامه لا يرى إلا ما قدم، ألا (فاتقوا النار ولو بشق تمرة) لا يرى إلا جهنم أمامه، ولا يتقي النار إلا بشق تمرة بالمال والإنفاق في سبيل الله عز وجل.
{وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] لمن العذاب الشديد؟ ولمن المغفرة والرضوان؟ من هم أصحاب العذاب الشديد؟ ومن هم أصحاب المغفرة من الله والرضوان؟ هؤلاء ذكرهم الله في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع من القرآن: قال الله عز وجل حكاية عن موسى وهارون حينما قالا لفرعون: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48] {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ} [طه:48] الذي ذكر الله فيه وقال: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الحديد:20] {أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48] هذه أعمدة الكفر: تكذيب بالحقائق الإيمانية، وتولي عن التكاليف الشرعية، فلا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولا بالملائكة، ولا بالرسل، ولا بالأنبياء، ولا بالبعث، ولا بالجنة، ولا بالنار، ولا بالصراط، ولا بالميزان، ولا بالكتب، فهذا التكذيب.
والتولي: لا يصوم، ولا يصلي، ولا يحج، ولا يتصدق، ولا يعمل الخير، ويقع في الشرور، وهذا عليه العذاب.
وقال عز وجل: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [الليل:14] أي: تشتعل وتضطرم {لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [الليل:15] من هو يا رب؟! قال: {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:16].
وقال في سورة القيامة: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] التراقي هي عظم الترقوة، والروح إذا أذن الله بخروجها تأتي إلى الترقوة ثم تبقى هناك، لا تنزل فيحيا ولا تخرج فيموت، يقول تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83] {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} [الواقعة:84] جلوس عند رأس الميت {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة:75 - 86] هل عندكم قوة {تَرْجِعُونَهَا} [الواقعة:87] هل تقدرون أن تردوا الروح؟ من يستطيع أن يرد الروح إلى الداخل؟ هل يستطيع أحد في الدنيا؟ رئيس جمهورية الاتحاد السوفيتي " تشير نمكو " و" بودقرني " هؤلاء الكبار لما جاءهم الموت هل نفعتهم صواريخهم؟ قنابلهم؟ دباباتهم؟ جيوشهم؟ ترجع لهم الأرواح؟ لا.
{تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:87].
قال: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [المدثر:26 - 27] راق هنا: أي: راقٍ يرقى، أو طبيب أو معالج {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:28] أي: تأكد له أنه خارج من هذه الدنيا {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] يمكن حضر منكم أحد جنازة إنسان وكان ينظر في أرجله كيف كانت؟ أصبحت ملفوفة هكذا، ملفوفة على بعضها {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] لأن علامات الموت كثيرة منها: ميلان الأنف؛ لأن الأنف هذا غضروف والحياة تدب فيه، فإذا خرجت الروح منه مال الأنف، وانخفاس الصدغين، والصدغ هذا فيه حياة إذا خرجت الروح تصير هذه قعرة وهذه قعرة، وانفكاك المفاصل، وبرودة الأطراف والتفاف السيقان.
{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:29 - 30] والله -يا إخوة- إن هذه الآية إنها تهز نياط القلوب لو كان في القلب إيمان وخوف من الله وقوة يقين {إِلَى رَبِّكَ} [القيامة:30] ربك يقول لك: إنك سوف تكون في هذا الوضع في يوم من الأيام طال أو قصر، سوف تكون في هذا الموقف الذي تلتف فيه ساقك بساقك، وتكون ضعيفاً لا حول لك ولا قوة! ثم {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:30].
كيف تلقى الله ووجهك أسود؟ كيف تلقى الله وعملك سيء؟ كيف تلقى الله وكتابك مملوء بالمعاصي والذنوب؟ {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} [القيامة:30 - 31] عكس هناك {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ} [القيامة:31 - 32] ماذا؟ {كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:32] هذا السبب {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} [القيامة:33] يتعجرف {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة:34] أولى لك أن تطيع، الكفر ليس خياراً فاضل ولا بديل حسن لك، الأولى لك الهداية، أولى لك الإيمان، أولى لك الالتزام، أولى لك سنة النبي صلى الله عليه وسلم {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} [القيامة:34 - 36] يتركك الله سدى هملاً؟ ما تركك الله وأنت نطفة -خرجت من ذكر أبيك مثل قطعة المخاط- ما تركك الله وأنت نطفة بل حملك نطفة إلى أن جاء مع البويضة وصار أخلاطاً، وصار من هذه الأخلاط علقة، وبعد العلقة مضغة، ومن المضغة عظاماً، ومن العظام إنساناً، ومن الإنسان شق الله سمعه وبصره، ثم أخرجه ثم رباه ثم كبره، إذا صرت رجلاً هل يضيعك الله؟ يحفظك وأنت نطفة ويضيعك وأنت رجل؟! {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:36 - 40] بلى وهو على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
قال الكفار لما سمعوا بخبر البعث: كيف يبعثنا الله ونحن موجودون وقد مات أناس وبقي أناس يموتون؟ قال الله عز وجل: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28] صعب عليكم لكن عند الله ليس بصعب، وقال: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7] قال الله: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] وقال: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] كيف تستبعد من الله أن يعيدك وأنت لا تتفكر فيما خلق الله وخلقك من لا شيء؟ الإعادة أسهل من البداية في عرف الناس أما في ميزان الله لا أصعب ولا أسهل، كل شيء عنده قادر عليه {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134] وله القدرة الغالبة ولا غالب له {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21].
هذه الثلاث الآيات بينت لنا أن العذاب على من كذب وتولى.(43/15)
المغفرة والرحمة لمن أحسن الظن وأحسن العمل
أما المغفرة والرحمة والرضوان التي يتشدق بها العصاة في أكثر الأوقات والأحيان حينما يدعون إلى الله وهم مقيمون على الذنوب ومنغمسون في الخطايا فيقولون: الله غفور رحيم، هؤلاء كما يقول ابن القيم: يسيئون الظن بالله؛ لأنهم يتصورون أن الله يعطيهم على المعاصي حسنات، ويعطيهم على المخالفات جنات.
فهؤلاء ما عرفوا الله، ولهذا يقول: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:74] إنهم يصفون الله بصفة تتعارض مع صفات كماله وجلاله، كأن الله لا يعرف يجازي عباده، والله له سنن في الكون أنه يجازي فقال: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31] وقال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:89 - 90] تعمل السيئات وتذهب عند ربي وتقول: الله غفور رحيم؟ يقول الحسن البصري: [إن قوماً غرهم حسن الظن بالله حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم يقولون: نحسن الظن بربنا.
قال: كذبوا والله لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل] أنت إذا كنت مدرساً عند المدير تحضر أكمل تحضير، ليس تحضيراً صورياً، لا.
تحضر، معنى التحضير: تطلع على المادة قبل أن تدخلها، وتراجع مراجع المادة، تعرف معاني الكلمات، تعرف أسرار الحديث، كل مادة سواءً رياضيات أو حديث أو اجتماعيات أو أدب أو أي شيء، تحضر المادة في الليل، تقرأها وتطلع عليها، تجيب على كل تساؤلات الطلاب، وبعد ذلك تأتي مبكراً مع أول الدوام، تقف في الطابور، تفتش على الطلاب، وبعد ذلك تدخل الحصة مع أول دقيقة، لا تخرج إلا بعد آخر دقيقة، لا تستأذن، طوال العام ما لك ولا إذن واحد، تقضي كل أغراضك بعد الدوام، وبعد ذلك إذا طلب المدير منك أي أمر، تقول: حاضر، حصة فارغة أنا آخذها يا أستاذ! لا يهمك، عندنا نشاط، تحسن العمل في كل شيء، وبعد ذلك ماذا تتوقع بعد كل هذا الإحسان؟ تتوقع الترقية كذا أو لا؟ تتوقع العلاوة، تتوقع البقاء في المدرسة، تتوقع التقدير، لماذا؟ لأنك محسن، فتحسن وتحسن الظن، تحسن العمل مع المدير، وتحسن الظن في المدير.
لكن لو أنك فاشل في الدراسة، التحضير هذا لا تحضر، وكلما قال لك: أين التحضير، قلت: يا شيخ! التحضير هذا كلام صوري، أزعجتمونا بالتحضير، ليس فيه غير نكتب طوال الليالي، والله ما أقرأه ولا أفتحه وإني أرجم به على الماسة وإني لا أراجع فيه، يا أخي! التعليمات هكذا لازم تحضر مادتك، هذه التربية تقول: لازم، طرق التربية والتعليم -مثلاً- تحضر المادة، قال: يا شيخ! كلام فاضي، أنا أحضر من رأسي، رأسي ممتلئ بالعلم، وهو دجال وليس في رأسه حبة.
وبعد ذلك لا يأتي إلا وقد بدأت الحصة، وإذا أتته الحصة وصفرت قعد يتكلم مع هذا ويتكلم مع المدير: يا مدير! ما رأيك؟ يقول له: يا أخي! الحصة بدأت، قال: حاضر، وبعد ذلك خرج ووصل إلى الغرفة حق الفصل بعد ذلك تذكر رجع إلى الفصل: آسف يا أستاذ! نسيت الطباشير، حسناً لماذا لم تدخل وتركت واحداً من الطلاب يأتي لك بالطباشير؟ قال: لا.
لا أريد أن أكلف على الطلاب، وهو ما قصده إلا تضييع خمس دقائق من الحصة، وبعد ذلك رجع: هل الدفتر هنا، أريد وسيلة الإيضاح هذه، أريد الكرة الأرضية، أريد الخريطة هذه، أريد صورة الحمار أو الحصان أو الجمل، المهم يضيع الوقت.
وإذا دخل على الطلاب جلس وقال: اقرءوا يا طلاب! جاء المدير فقام، وبعض المدرسين يغلق الباب من الداخل ويقول: اقرأ يا ولد! وينام على الماسة؛ لأنه سهران في الليل، وبعد ذلك ما رأيكم إذا عرف المدير، إذا أتت حصة أي مدرس قم عنه، قال: يا شيخ! كل ساعة وهذا غائب كل يوم، وأنت لا ترى إلا أنا، عندي شغل، المرأة مريضة، أريد أن أذهب إلى الصحة، أريد أن أذهب إلى السوق، كل يوم له عذر، بالله ما ظنكم بهذا المدير؟ هل يرقي هذا المدرس؟ طيب وإذا رقاه ماذا يكون هذا المدير؟ مغفل؛ لأنه لا يعرف كيف يجازي المدرس الطيب والمدرس البطال.
أما يستحي الشخص أن يقول: إن الله غفور رحيم، وهو لا يتوب من الذنوب؟ يصر على الذنوب ويقول: إن الله غفور رحيم، والله يقول: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50] هو غفور رحيم لمن تعرض للرحمة {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:55 - 56] أما أن تقيم على المعاصي والذنوب وتداوم عليها وترجو من الله الرحمة والغفران فهذا كذب ودجل، وربنا تبارك وتعالى قد ذكر في القرآن لمن الرحمة ولمن الغفران فقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] تريد أن تكون من أهل المغفرة وفر هذه الشروط الأربعة: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه:82] أي: أقلع وندم وارتحل عن الذنوب والمعاصي (وآمن) صحح قضايا إيمانه (وعمل صالحاً) سار في الخط المستقيم، وبعد ذلك (ثم اهتدى) استمر؛ لأن الهداية السطحية، الهداية الزمنية الوقتية، الهداية الموسمية يهتدي أسبوع وبعد ذلك ينتكس، ويهتدي في رمضان وبعد ذلك يترك في شوال، لا ما يصلح، هذا كذاب متلاعب، الهداية أن تهتدي وأن تستمر وأن تثبت على الإيمان حتى تلقى الله عز وجل، هذه هي الهداية الصحيحة، ثم اهتدى {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82].
هذه أسباب الرحمة وهذه أسباب العذاب، أسباب العذاب: التكذيب والتولية، التكذيب بالحقائق الإيمانية والإعراض عن التكاليف الشرعية، أما أسباب الرحمة والغفران فهي: التوبة، والإيمان، والعمل الصالح، ثم الاستمرارية حتى تلقى الله تبارك وتعالى.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلني وإياكم من أهل الرحمة والغفران، وأن يجيرنا وإياكم من العذاب والنيران، وأن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يستعملنا فيما يحبه، وأن يجنبنا ما يسخطه إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(43/16)
الأسئلة(43/17)
حكم مس عورة الغير وأثرها على الوضوء
السؤال
فضيلة الشيخ هل مس عورة الغير ينقض الوضوء مثل أم الطفل إذا مست عورة طفلها، وهذا أمر منتشر بين الأمهات، أرجو تبيين ذلك وفقكم الله؟
الجواب
إذا مست المرأة عورة طفلها وهي تغسله فقد انتقض وضوؤها، سواءً كان هذا الطفل ذكراً أو أنثى؛ لأن مس الفرج قبلاً كان أو دبراً للإنسان أو لغيره كبيراً كان أو صغيراً ينقض الوضوء.(43/18)
حكم ماء التحلية للوضوء
السؤال
نسمع من كثير من طلبة العلم أن ماء التحلية لا يجزئ في الوضوء نظراً لتغيير طعمه بمواد، أرجو الإجابة وفقكم الله؟
الجواب
ليس بصحيح، ماء التحلية ماء حلال؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل في الحديث الصحيح قال أحد الصحابة: (إنا نركب البحر وليس معنا من الماء ما يكفينا، أنتوضأ بماء البحر؟) فأجاب صلوات الله وسلامه عليه بالإجابة الشافية الكافية وزيادة وقال: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) فإنه صلى الله عليه وسلم لما سمع أنهم قد خفي عليهم حكم طهورية مائه علم بمقتضى الحال أن خفاء حكم ميتته أعظم فبين بالجواب الشافي، وهذا من شأن العالم أنه إذا سئل عن جواب أجاب وزاد فقال: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) والذي يأتي من التحلية هو من البحر في الأصل، فهو طاهر، والمواد التي تضاف عليه طاهرة؛ لأن الأصل في الأشياء الطهارة والإباحة إن شاء الله.(43/19)
حكم طواف الوداع للمعتمر
السؤال
ذهبت أنا وأخي لأداء العمرة، وعند دخولنا مكة مكثنا مدة لا تقل عن ساعتين نبحث عن سكن، ثم بعد ذلك أخذنا العمرة، وبعد ذلك جلسنا ثمانٍ وأربعين ساعة نصلي في الحرم ولم نوادع، فما الحكم في المسألتين؟
الجواب
المسألة الأولى: في البحث عن سكن أو الراحة قبل مباشرة العمرة، جائز ولا شيء فيه، دخلت مكة وأنت تعبان ولا تستطيع أن تطوف وأردت أن تبحث لك عن بيت، وجدت لك بيتاً ثم دخلت فيه وتوضأت أو كان وقت غداء أو عشاء أو راحة وارتحت ثم ذهبت تباشر العمرة لا شيء في ذلك إن شاء الله.
أما الوداع للعمرة فقد اختلف أهل العلم فيه، واتفقوا على أنه بالنسبة للحج واجب لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعلوه آخر عهدكم بالبيت) واختلفوا في حكم الوداع بالنسبة للعمرة: فقال قوم بالوجوب قياساً على الحج، وقال قوم بعدم الوجوب، ولكن حملوه على الاستحباب؛ لأن القياس في العبادات غير وارد؛ لأنها توقيفية.
والصحيح الذي يفتي به أهل العلم أنه غير واجب، فمن استطاع أن يطوف فمستحب، ومن لم يستطع فلا شيء عليه ولا يلحقه شيء بإذن الله عز وجل.(43/20)
حكم ترك الحج مع القدرة والاستطاعة
السؤال
لي والدة لم تحج حجة الإسلام وهي في صحة طيبة، ولكن لا تقبل الركوب في السيارة وتقول: إذا مت حج لي، فما حكم ذلك علماً أنها في صحة جيدة، وتستطيع الحج ولكن نفسها غير قابلة الحج؟ أفتوني جزاكم الله خيراً؟
الجواب
يجب عليها أن تحج بنفسها ما دامت في صحة طيبة، حتى ولو لم تكن تقبل السيارة؛ لأنها إذا ما قبلت السيارة لماذا تقبلها في التمشيات وفي العزائم، يعني: لا تركب السيارة أبداً؟ ليس معقولاً، لا يوجد أحد في الدنيا لا يركب السيارة حتى الحمير والجمال والثيران والبقر، فهذه نعمة من نعم الله، فهذه المرأة عليها أن تذهب إلى الحج وتركب السيارة إلا إذا كانت مريضة فقد ورد في الحديث: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن أبي شيخاً كبيراً أدركته حجة الإسلام ولم يحج ولا يستطيع أن يستوي على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: حج عنه) فإذا كانت المرأة صحيحة ومتعافية فتخوف بالله، وتدعى إلى أداء فريضة الله؛ لأنه من استطاع الحج ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً، وعمر يقول: [لقد هممت أن أرسل إلى الأمصار فأبحث عن قوم لم يحجوا وهم يستطيعون فأضرب عليهم الجزية، ما هم عندي بمسلمين، ما هم عندي بمسلمين، ما هم عندي بمسلمين] فتخوف بالله ويقال لها: اتق الله، وعليك أن تحجي حجة الإسلام، وفي زماننا الحمد لله الأمور مهيأة، والسيارات مرتاحة، والطرق معبدة، والأمور كلها هناك طيبة: أمن وعافية ورخاء فعليها أن تحج.
أما إذا قرر الأطباء أنها مريضة، ولا تستطيع أن تركب السيارة، ولا تستطيع أن تتحمل مشاق الحج من زحام أو من طواف أو شيء، وكانت هرمة أو مقعدة جاز الحج عنها، والله أعلم.(43/21)
حكم تعاطي الشمة
السؤال
لي والدة تتعاطى (البردقان) وقد قمت بنصحها لكن تعتذر أن عندها ألم في الأسنان؛ لأنه يداويها، وقد حاولت أن أذهب بها إلى المستشفى لعلاجها ولكن تمنع، سؤالي: ما حكم الفلوس التي أدفعها لها، ونحن ندفعها في شراء هذه المادة، علماً أنه ليس لها مصدر عيش إلا من عندي بعد الله عز وجل، وما حكم عدم ذهابي بها إلى المستشفى لعلاجها نظراً لكونها تمنع من المستشفى؟
الجواب
أولاً: (البردقان) أو (الشمة) باللسان الدارج والدخان والجراك كل هذه خبائث -والعياذ بالله- لا ينبغي للمسلم مزاولتها أو إتيان شيء منها؛ لأن في الطيبات ما يغني عنها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172] كلوا من الشحم واللحم والعسل والموز والبرتقال والتفاح، كم أحل الله من الطيبات؟! ولكن أكثر الناس ترك هذا كله أقبل على الخبائث، مثل أبي جعران، أبو جعران هذا لا ينبسط ولا ينظر الدنيا كلها إلا إذا غرس أنفه في قطعة من النجاسة ودقدقها برأسه حتى يعمل كرة، ولو وضعت عند أنفه قطعة من القطن وفيها ورد يموت، لا يستطيع يعيش إلا على القذارة، وإذا شم الورد قتل كما يقول ابن الوردي، فالطيبات فيها غنية وفيها كفاية {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون:51] أما الخبائث، جنس الخبائث فهي محرمة كما في سورة الأعراف: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:156 - 157] فكل طيب حلال وكل خبيث حرام، نأتي نسأل: (الشمة) والدخان و (الجراك) والشيشة طيبات أم خبائث؟! خبائث، ليس هناك شخص في الدنيا يقول: إنها طيبة، حتى الحمار -أكرمكم الله ومجلسكم- في اليمن يقول لي أحد الإخوة: إن مزارع التبغ -الدخان- خضراء مثل البرسيم، والحمير تموت جوعاً وتظهر أضلاعها ونأتي إلى عند الحمار بقطعة من الدخان نعطيه فيرفض، يقول: هذا لا يصلح، يقول: استحوا على وجوهكم، ولكن البشر لا يشربونه إلا وقد يبس، بعدما ييبسونه ويقرطسونه ويتبخرون عليه، لا حول ولا قوة إلا بالله! ومرة كنت ألقي محاضرة في جيزان في مدرسة من مدارس الثانوية فتكلمت عن هذا الموضوع، فأحد المدرسين قال لي: يا شيخ! أنتم تقولون: إن الله يحل الطيبات ويحرم الخبائث؟ قلت: نعم.
هذا قرآن، قال: أنا أعتبر الدخان من الطيبات، قلت: لماذا؟ قال: هكذا، أنا أقول: طيبات.
قلت: طيب، عندك أولاد يا أخي؟ قال: نعم.
قلت: إذا رأيت في يد شخص منهم حلوى أو بسكويت أو تمر تزعل أو تغضب؟ قال: لا.
لا أغضب.
قلت: وإذا رأيت في يد ولدك دخاناً؟ قال: لا أرضى، قلت: لماذا؟ قال: لأنه بطال، وبلسانه والله، قلت: والبطال يعني خبيث.
فضحك الرجل وضحك الناس عليه، وبعد ذلك في آخر الجلسة قال: أستغفر الله وأتوب إلى الله من الدخان.
فهذه أمك لا تشتري لها هذه الشمة ولو لم يبق معها شيء، أما الفلوس التي تعطيها يجب عليك أن تعطيها فلوساً، كلما طلبتك فلوساً تعطيها، لكن لا تشتري لها، إذا أعطيتها الفلوس فأنت تعطيها بقصد إعفافها وإغنائها، فإذا أرسلتك تقول: أعطي لي بهذين الريالين شمة.
قل: لا.
أعطِ لها بدل هذه الشمة علبة سكر أو علبة طحينية أو حلاوة أو زبيب أو لوز أو شيء من الطيبات، أما هذه الخبيثة هذه التي رائحتها -والعياذ بالله- تعف، تجد الواحد جالس في مجلسه فمه كذا أو كذا ويبزق مثل الدجاجة، عيب عليك، هذه ليست جيدة حتى في خلق الإنسان فضلاً عن دينه.(43/22)
حكم نقل الكلام الذي يحصل بين الزوجين
السؤال
إني أخبركم أني أحبكم في الله تعالى، ثم أخبركم أنه قد حصل بين صهري وأمي نزاعاً حيث حصل بينه وبين زوجته نزاع، والله أعلم أن السبب من أمها، وقامت الأم بنقل الكلام إلى أبي البنت، ثم قام أبو البنت بسب صهري فقمت بهجر أمي في نقلها هذا الكلام تأديباً لها حتى ترجع إلى الحق، فما الحكم جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أمك أخطأت خطأً بسيطاً، وأنت أخطأت خطأً مركباً، أردت أن تكحلها فأعميتها، وأردت أن تعربه فأعجمته، لا شك أن تدخل الأم بين الزوجة وزوجها حرام ولا يجوز؛ لأنه إفساد، وينبغي ألا تتدخل الأم إلا بالخير، وينبغي للزوجة ألا تشكي على أمها كل شيء، يعني: يجب أن توطن زوجتك وأهلك على أن أي خلاف بينك وبين زوجتك ينبغي أن يبقى في دائرة الأسرة ولا ينفذ إلى الأم؛ لأنه إذا نقل إلى الأم أو إلى الأب زعلوا، وأنتما تتراضيان من ثاني ليلة، وتقعد الأم زعلانة لماذا؟ لأن الزوج وزوجته الخلاف بينهم شيء طبيعي، لا بد من الزعل، مثل أواني المطبخ: الفنجان يدق في الملعقة والملعقة تدق في الشوكة، يعني: شيء طبيعي، فإذا زعلت عليك أو زعلت عليها وذهبت تخبر أمها أو هي أخبرت أمها من يرضي أمها؟ لكنك ترضي المرأة في اليوم الثاني وتصطلحون وتلك زعلانة، فوطن زوجتك على ألا تخبر أمها.
والأم أيضاً ينبغي إذا نقلت لها ابنتها شيئاً فلا تكبر الموضوع، تقول: لا.
تصطلحون، وهذا زوجك وأبو أولادك، ولا ينبغي أن تخبريني بشيء مما يحصل بينكم، أما تدخلها فهذا إثم وعليها ضرر.
وأما أنت فدورك مع أمك دور الإصلاح لا دور الإفساد، دور النصح والتوجيه والإرشاد بأن تقول لها: يا أمي! بارك الله فيك ووفقك لما يحبه ويرضاه، أنت من أهل الخير، وأنت فيك خير، وتعرفين هذه زوجة الرجل وتريده وتحبه، ولكن الخلاف بينهما شيء طبيعي، فلا تحاولين أن تنقلي كلاماً بينهما، وإذا نقلتي فاستغفري الله والله يتوب عليك، وأنت من أهل الخير.
أما أنك تهجرها، الله أكبر! ما هذا العلاج! تهجر أمك! هذا عقوق، والعقوق هذا من أعظم الكبائر، يقول صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، ثم كان متكئاً فجلس وقال: ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) فاستغفر الله، وعد لمراجعة ومراضاة أمك، وإذا أردت أن تعالج أي أمر عند أبيك أو عند أمك ديني أو دنيوي فلا تراجعه ولا تعالجه إلا بأعظم أسلوب وبأسهل أسلوب فإذا أطاعوك وإلا فلست بمقصود.(43/23)
كيفية دعوة الأهل
السؤال
أشهد الله على محبتك في الله، وبعد مع الأسف أنا أحاول أدعو أهلي ولكني ضعيف الشخصية، فماذا أفعل؟
الجواب
أولاً: أحبك الله الذي أحببتني فيه، وأسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يظلنا وإياكم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله؛ لأن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين أقوام ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مقامهم من الله عز وجل -يعني: على منزلتهم- على منابر من نور.
فجفا رجل من آخر الجلسة -أعرابي- قال: جلهم يا رسول الله لنا.
قال: أقوام من بلاد شتى يجتمعون على الذكر، ينتقون من الذكر أطايبه كما ينتقي آكل التمر من التمر أطايبه) فنسأل الله أن يظلنا في ظل عرشه بالمحبة له تبارك وتعالى (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه) هذه من أوثق عرى الإيمان.
أما دعوتك وأسلوبك في دعوة أبيك وأمك وأسرتك فأولاً: يجب أن تأخذ نفسك أنت بالكمال، يعني: أنت في نفسك وفي حقيقتك وفي سلوكك تأخذها بالكمال، ولا تحمل أهلك حملاً على أنك تغصبهم غصباً على الدين؛ لأنك كنت قبل أن تهتدي ضال، ولو أن واحداً من أهلك اهتدى قبلك وجاء بالأسلوب القوي لرفضته وما أطعته {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94] فأنت في نفسك خذ نفسك بكل ما أمرك الله به، أما إخوانك وأمك وأبوك فعليك أن تتدرج معهم، أولاً: قدم الخدمة المتناهية لأمك وأبيك، لازم أباك ملازمتك لظلك، إذا دق شخص عندكم في البيت تفتح الباب، وإذا جاء الضيف فإذا بك في البيت تصب القهوة، وإذا غاب أبوك وإذا بك موجود تحمي الأسرة، وإذا احتاج أبوك إلى غاز أو إلى ماء أو إلى مقاض وإذا بك تقضي اللازم.
لكن بعض الشباب المتدين الطيب لا يجلس في البيت دقيقة، من يوم تشرق إلى نصف الليل وهو مع الإخوة في الله وفي الندوات وإذا دخل قام يصيح: هذا حرام هذا حلال، فيقول الأب: الله أكبر عليك وعلى حرامك وحلالك، لا نراك إلا من السواد إلى السواد وتدخل أوامر ونواهي! من يقبل كلامك هذا؟! لا يصلح، أول شيء قدم الخدمة، وبعد ذلك قدم الخدمة لأمك، إذا كانت أمك تقوم بخدمة البيت ورأيتها يجب أن تشاركها، رأيتها تأخذ الطعام بعدما تنتهون من الطعام قل: والله لا تأخذين الصحون، قد طبختي أنا سأرفع الصحون، وجمِّع الصحون واذهب إلى المطبخ وافتح الحنفية وغسلها، وهذا ليس عيب عليك، رأيتها تكنس وتدف المكنسة قل: يا أمي! دعيني أتريض، أحسن من اللعب في الشوارع، والله لا يكنس الدار إلا أنا، وبعد ذلك إذا قمت من سرير النوم في الصباح لا تقم وتدع غرفتك كأنه نام فيها جني أو عفريت، البطانية في أرض، والمخدة في أرض، والثياب في أرض، والسروال في أرض، وكتاب العلوم في أرض، والراديو في أرض، أعوذ بالله من بعض الشباب يخرج كأنه عفريت، لا.
نظف غرفتك، وزع كتبك، رد فراشك، نظم المخدة، افتح النافذة، ثم بعد ذلك خذ المكنسة واكنس الغرفة واكنس الذي أمامها، تأتي أمك بعد ذلك عندما تراك تخدمها بهذا تبحث عن رضاك، فتقول لها: يا أمي! ما رأيك -الله يجزيك الخير- أنك تتحجبي، فإن الحجاب فيه طاعة الله، تقول: إي والله، الله يجزيك الخير ويوفقك الله يا ولدي! والله إن فيك خيراً، والله من يوم هداك أن فيك بركة.
لكن بعض الأولاد حمل على الأمة، حتى منديل المخاط يجعل أمه تغسله، وبعد ذلك إذا دخل قال: يالله تحجبي، الله أكبر! أوامر، ضابط يأمر وينهي! فتقول أمه: الله أكبر عليك، لا تدخل إلا تضارب ولا تخرج إلا تضارب فقط، فلا يطيعونك، فأنت أولاً: خذ نفسك بالكمال، وتعلم العلم، وقدم الخدمة لأمك وأبيك، وأحسن إلى إخوانك، ثم بعد ذلك قدم الدين، اجعل هذا طعماً مثل الذي يريد أن يصطاد سمكاً ماذا يصنع؟ يضع لها طعماً في الأمام، لماذا؟ هل هو يريد أن يكرم السمكة؟ لا.
يريد أن يغريها حتى يأتي بالسمكة فيلتقطها، وكذلك أنت عندما تريد أن تصطاد واحداً إلى الدين قدم له طعماً: من الخلق، من البذل، من الحب، من الوفاء، لكي يأتيك، لكن ما رأيك لو أن شخصاً جاء عند سمكة ويوم أتت أخذ حجراً ورجمها؟ تهرب السمكة، مثلما يصنع أكثر الدعاة الآن، بالقوة، يضرب أخاه، وينهر أمه، ويتكلم على أبيه: أبي هذا فاسق، أبي هذا ليس فيه خير، لا يصلي في المسجد، حتى قيل لي: إن أحد الشباب ساكن في بيتهم في صندقة فوق السطح، حتى أكله يقول: لا آكل معكم، لماذا؟ قال: عندكم منكر، أنت أكبر منكر، لو أنك طائع لكان أول بركة هدايتك أنك استطعت أن تنجح في هداية أمك وأبيك (لأن خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) والأهل يشمل الأم والأب والزوجة والإخوان والأولاد، أما أن تبقى في برج عال تنظر إلى الناس من علو، الناس ضالون، الناس فاسدون وأنت الصالح، ولا تقوم بأي دور، فهذه سلبية ليست من هدي الإسلام.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(43/24)
حوار مع منتكس
تحدث الشيخ في هذه المحاضرة عن الانتكاسة وهي: حالة مرضية تصيب بعض الملتزمين، كما عرفها الشيخ، وقد تكلم الشيخ في إطار هذا الموضوع عن الوسائل المعينة على الثبات، ثم ذكر أسباب الانتكاسة مبيناً الوسائل التي يمكن بها علاج هذه الظاهرة، والتي تعد من أخطر الظواهر المؤثرة على مسيرة التزام الشباب.(44/1)
ظاهرة الانتكاسة: (أسبابها وعلاجها)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
وبعد: أيها الأحبة في الله: تلقيت قبل موعد أذان المغرب بنصف ساعة فقط، وبالتحديد في الساعة السادسة إلا ربع، مكالمة هاتفية من الشيخ/ جابر المدخلي الأمين العام للتوعية الإسلامية بـ مكة، يطلب مني أن ألقي هذه المحاضرة بديلاً عن الشيخ/ محمد المختار الشنقيطي وذلك لظروف مرضه، نسأل الله عز وجل أن يكتب له الشفاء العاجل.
والحقيقة لقد ترددت -بل اعتذرت- والسبب أن البديل دائماً يكون ثقيلاً مهما كان، الناس جاءوا وهم متهيئون لسماع رجل بعينه، فإذا جاء الغير كان هذا الغير ثقيلاً لا يريد أحد أن يسمعه، وما أود أن أكون ثقيلاً على إخواني.
فقلت للشيخ: سوف آتي وأشاورهم فإن رأوا أنني سأصبح ثقيلاً عليهم اعتذرت، وخرجنا وذهب كلٌ إلى بيته، والسلامة كرامة كما يقولون، وإن قبلوا بشرط ألا أكون ثقيلاً عليهم فلا مانع من الاستمرار معهم إلى العشاء، وأنا أعرض عليكم هذا الرأي فما رأيكم، هل تودون الاستمرار ولا أكون ثقيلاً عليكم؟ بارك الله فيكم.
البديل ثقيل لماذا؟ هناك حكاية: رجل جاءه ضيوف ولا يود أن يكرمهم -يعني: ضيوف ثقلاء- ولكن لابد له من أن يقدم لهم وجبة الطعام، فنزل إلى المرعى الذي فيه الأغنام وأخذ واحدة من الأغنام وأخذ السكين وبدأ يذبح الذبيحة، فصاحت الذبيحة من ألم حرارة الموت، فقال لها يخاطبها يقول: اصبري فوالله إنكِ مغصوبة وأنا مغصوب، يقول: أنتِ مغصوبة لا تريدين الموت وأنا مغصوب لا أريد أن أذبح، وأنا أقول لكم: أنتم مغصوبون وأنا مغصوب فاصبروا على ما واجهتم.
موضوع المحاضرة: "الانتكاسة أو الانتكاس أسبابه وعلاجه"، كنت قبل فترة ألقي درساً في جدة ووعدت أهل جدة بمحاضرة بعنوان: "حوار مع منتكس" ولما كان هذا الموضوع هو موضوع هذا الدرس فأنا أقدم هذا الموضوع الذي كنت سألقيه في جدة بعد أيام وليالي؛ لأنه موضوع جاهز.
الانتكاسة: حالة مرضية تصيب بعض الملتزمين الذين وفقهم الله عز وجل للاستقامة على دين الله، وهي والحمد لله في مجتمعنا لا تشكل ظاهرة عامة، بحيث نخاف منها أو ننظر إليها بنظرة شؤم، لا.
هي حالة نادرة تقع في أفراد بسطاء بدليل استقامة الآلاف المؤلفة، واستمرارية العاملين والحمد لله في سلك استقامتهم، فهذه ليست مثار خوف عندنا، ولكننا ننبه عليها للتحذير منها من باب الوقاية؛ لأن مسألة الثبات على الدين حتى الممات شيء لابد منه، إذ أن العبرة والمعوَّل على الخواتيم -الخاتمة- إنما الأعمال بالخواتيم، وأنت يقاس لك عملك على آخر أداء تؤديه قبل الوفاة، فلو ثبتَّ طوال حياتك وزللت قبل الوفاة بلحظات، لم تعد لك كل سابقة حياتك، ولو انحرفت طوال الحياة ثم ثبتَّ عند الممات لختم الله لك على هذا الثبات وهذا معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (منكم من يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، ومنكم من يعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) هذا الحديث له مغزى وله هدف، والمثبطون والمنهزمون أمام شهواتهم يستدلون به على غير وجهه الشرعي فيقول أحدهم وهو منغمس في الذنوب، يقول: أنا أعمل بعمل أهل النار حتى إذا كان بيني وبين النار ذراع عملت بعمل أهل الجنة، هذا كلام غير صحيح؛ لأنك لا تملك الهداية، لا.
ليس هذا هو مقصد الحديث.
مقصد الحديث: بيان أن على المسلم الذي يلتزم بالدين أن يتمسك ويثبت إلى أن يموت، حتى لا يعمل عملاً من عمل أهل النار فيختم عليه به ويدخل النار.
والثاني: أن على العاصي الفاجر البعيد عن الله أن يسارع بالتوبة وألا يؤجل ولا يسوف، حتى يعمل عملاً صالحاً؛ لأنه قد يموت بعد هذا العمل الصالح فيدخله الله الجنة، هذا هو هدف الحديث؛ لأن العبرة بالخواتيم.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله الثبات ويقول: (يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك) ويخبر الله عز وجل عن عباده المؤمنين بأنهم يقولون: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8] يدعون الله عز وجل أن يثبتهم وألا يزيغ قلوبهم بعد أن هداها، ويطلبون من الله رحمة وهذه الرحمة يقول عنها المفسرون: هي رحمة التثبيت.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.(44/2)
وسائل الوقاية من الانتكاس: (عوامل الثبات)
وقبل ذكر أسباب الانتكاس هناك وسائل للوقاية من الانتكاس -وسائل للثبات- أبدأ بها؛ لأنها المهمة:(44/3)
الاعتصام بكتاب الله
يقول الله عز وجل: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:43 - 44] فالله عز وجل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم والأمر عام للأمة بالتمسك بل: (استمسك) الفعل هنا مبني بالمزيد ليس مبنياً من الثلاثي ولا من السداسي (استمسك) والزيادة في المبنى تدل على الأصالة والعمق والقوة في المعنى: (استمسك) أي: بكل ما أوتيت (بالذي أوحي إليك) أي: بالقرآن الكريم.
والله عز وجل يقول في القرآن الكريم أنه مثبت، يقول: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:32] فهو مثبت لفؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، ومثبت لفؤاد كل مسلم من بعده إلى يوم القيامة، وما علمنا أن رجلاً اعتصم بكتاب الله وعاش مع القرآن وأضله الله أبداً، اعتصم بالقرآن والله عز وجل يحميك من الضلال، وتثبت على الإيمان حتى تلقى الله تبارك وتعالى، هذا أعظم مثبِّت، والاعتصام بكتاب الله يكون بالتالي: أولاً: تلاوةً، ثم تدبراً، ثم عملاً وتطبيقاً؛ لأن التلاوة هي سبيل التدبر، والتدبر هو طريق العمل، والعمل هو الهدف من القرآن، فالله لم ينزل القرآن ليتلى وإنما أنزله ليطبق في عالم الناس: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29] فتتلو كتاب الله كما أنزل تلاوة شرعية: {وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4] الترتيل يقول فيه علي رضي الله عنه هو: [إخراج الحروف ومعرفة الوقوف] يعني: أحكام التجويد، إذا ضبطت أحكام التجويد صرت تالياً مع السفرة الكرام البررة مع الملائكة، لك فضل عظيم عند الله عز وجل.
تلاوة ثم تدبر أي: تفهم لمراد الله عز وجل من هذا الكلام الذي وجهه إليك، وهذا بالرجوع إلى كتب التفسير المعتبرة، وأفضل ما ندل الشباب عليه خصوصاً المبتدئين كتاب أيسر التفاسير للشيخ/ أبي بكر الجزائري، وهو كتاب عظيم ألِّف بأسلوب عصري يشتمل على الآيات، ثم يأتي بعدها بمعاني الكلمات، ثم يأتي بالمعنى الإجمالي للآيات، ثم يأتي بالهداية التي هدت إليها هذه الآية -أي: الأحكام المستفادة من هذه الآيات- بأسلوب موجز فيه صفاء ووضوح ورقة وجذب للقارئ، وهذا من أعظم الكتب، وقد قرأت فيه وسررت كثيراً بما فيه.
وبعد التدبر يأتي العمل.
وهذا هو معنى الاعتصام بكتاب الله عز وجل.(44/4)
فعل طاعة الله وترك معصيته
كل ما وعظك الله به، وكل ما أمرك الله به، وكل ما نهاك الله عنه، احرص على أن تطبقه لماذا؟ حتى تثبت، لماذا يكون عدم تنفيذ الأوامر سبيلاً إلى التراخي والرجوع والضعف والانتكاس ثم الردة؟ لأنك تسير إلى الله وسيرك حثيث، يقول الله عز وجل: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] ويقول عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] ويقول: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] وسرعتك ومسابقتك وفرارك تقتضي منك أن تكون جاداً، لكن ما رأيكم برجل مسرع ويتلفت يريد أن يرجع، أو يقف؟ هل يستمر إن وقف أمام معصية من المعاصي؟ أو أمام نظرة إلى امرأة، أو أمام أغنية يستمعها، أو أمام شهوة محرمة يقع فيها، أو أمام صلاة ينام عنها، أو أمام واجب شرعي يتركه؟ هذه معوقات تعيقك عن السير في سبيل الله، وبالتالي إذا وقفت يصعب عليك السير مرة أخرى، لكن ما دمت جاداً وتمشي بقوة فإنه يصعب على الشيطان إرجاعك.
يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: لابد أن تسير إلى الله ولا تلتفت؛ لأن الالتفات يوهن القوى، يقول: انظر إلى الضبي -الضبي من الصيد الذي أوتي قدرة على السرعة في المشي، تجد بطنه لاصقة بظهره وأقدامه خفيفة، يعني: إذا مشى على الرمال يقفز قفزات كأنه ريح- يُرسل عليه الكلب المعلم، وقوته ليست كقوة الضبي وسرعته ليست كسرعة الضبي، لكن الكلب يدركه ويأتي به لماذا؟ قالوا: لأن الضبي يجري ويتلفت -عينه في الكلب- والكلب يجري ولا يلتفت، الكلب عينه أمامه يريد أن يأتي بالضبي، ولو أن الضبي استمر ولم يلتفت لما وصل إليه، لكن كلما تلفت رأى الكلب فيظن أنه قريب فيضعف، فينظر المرة الثانية فيقول: قد قرب وسوف يعضني فيضعف فيمسكه الكلب.
كذلك أنت في طريقك إلى الله وفي فرارك وراءك كلب اسمه: إبليس يريد أن يمسك بك، فلا تلتفت؛ لأن التفاتتك تعني وقوفك عند المعاصي، تسمع أغنية كنت قد سمعتها في الماضي فتقول: أسمعها قليلاً، هذه التفاتة تنظر إلى امرأة، غض بصرك واستغفر الله لكن إذا طولتها قليلاً أو كررتها فهذه التفاتة يصيدك بها الشيطان.
فعليك أولاً أن تنفذ كل ما أمر الله عز وجل به، وتبتعد عن كل ما نهاك الله عنه، حتى تثبت، ويقول الله في هذا المعنى في القرآن الكريم: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66] أشد تثبيتاً، أعظم مثبت لك أن تفعل ما أمرك الله، وتنتهي عما نهاك الله، (ما يوعظون به) ما جاء في كتاب الله، وأنا أعرف كثيراً من الشباب أوصلته انتكاسته إلى الردة، وإلى الكفر بالله، والخروج من الإسلام، وسببها: أنه وقف عند الأغاني بإيحاء من شيطان من شياطين الإنس، ولهذا العنوان قصة: شاب من شباب الصحوة التزم بالدين وتمسك به تمسكاً قوياً، بل غالى فيه وشدد على نفسه، وكنت أنصحه بالاعتدال والوسطية، حتى أنه كفر أهله في البيت وكفر أباه وقام بأعمال غير سليمة، وكنت أحاول أن أسدده، ثم لما زاد عليه الأمر خرج من بيت أهله وذهب إلى الجهاد الأفغاني، ومكث مع المجاهدين قرابة شهرين، ورجع وكان في استمراريته في العمل حماس ودعوة وانقطاع وأعباء، ليله ونهاره كله للدعوة، وبعد ذلك حصل له الموقف أن ركب مع زميل وكان هذا الزميل يستمع الأغاني، فمد يده إلى المسجل وأقفل، فقال له زميله: لماذا أقفلت؟ قال: حرام، قال: من قال أنه حرام؟ -زميله شيطان رجيم، شيطان ناطق- ثم قال له: العلماء والمشايخ وكل الناس والكتاب والسنة يقولون: لا.
ليست حراماً الدين في القلوب، والأغاني هي كلمات تدخل من هنا وتخرج من هنا، تسمعها لتروح عن نفسك ومن الذي قال لك أنها حرام؟ قال: الشيخ/ سعيد بن مسفر، قال: ما عرفت إلا هذا الإنسان المعقد؟ لا تأخذ الدين منه، فأصابت الشاب المسكين هزة؛ لأن الرجل يحب الأغاني ويود أن يجد عليها طريقاً ويجد من يسول له ويرخص له فيها فأخذه ذلك الشيطان وذهب به إلى البيت، وقام أخرج له كتباً من الكتب التي تبيح السماع، وهناك بعض الأئمة مثل ابن حزم الظاهري يرى أن الغناء ليس الغناء بالآلة.
والغناء بالعود والآلة والطنبور والكمان، جميع هذه الوسائل محرمة عند أهل العلم كلهم، لكن بعض أهل العلم يرى أن الغناء بالكلام الذي نسميه أناشيد إسلامية، يقول: إنها حلال، فهذا الذي يعنيه ابن حزم، وقد حملها على أنها الأغاني كلها، ورجع الشاب إلى البيت ليسمع الأغاني سماعاً صحيحاً بقوة وبإعجاب وبتركيز؛ لأنه قد منع نفسه منها ودخل الشيطان إلى قلبه من هذا الباب، وبرد في عبادته، ثم ترك الصلاة في المسجد، وصار يصلي في البيت، وبعد فترة ترك الصلاة بالكلية وارتد عن دين الله، وجاءني خبر أنه ترك الصلاة وأصبح له فكر آخر عن الحياة كلها.
فذهبت إليه في بيته لزيارته وكنت حينما أزوره في بيته يفرح كثيراً بي، وينزل مثل الخيل ويستقبلني ويذهب معي، لكن ذهبت يوماً من الأيام وسيارته عند الباب فقلت: فلان موجود؟ قالوا: من نقول له، قلت: قولوا له فلان، فقالوا: ليس موجوداً فعلمت أنه لا يريدني، وذهبت وعدت مرة أخرى فقالوا: ليس موجوداً.
ثم حاصرته إلى أن أمسكته، ويوم أمسكته وهو واقف بالسيارة أوقفت سيارتي ونزل من السيارة وكان يخجل مني كثيراً، فعانقته عناقاً حاراً وقلت له: ماذا بك هل عملت بك شيئاً؟ لماذا لا تريد أن تقابلني؟ قال: لا.
وإنما أنا مقصر وأنا خجلان منك، قلت: لا.
كلنا مقصرون تعال اركب معي، فركب وذهب معي في السيارة وأخذته إلى البيت وجلست معه.
قلت له: بلغني أنك تركت الطريق وتنكبته ورجعت عن الإسلام؟ قال: نعم.
قلت: الآن أريد أن أناقشك مناقشة جريئة وجادة ولا تجامل، المجاملة لا تصلح في هذا الموضوع، أنت تركت هذا الطريق فإما أن تقنعني أن هذا الطريق غير صحيح وأرجع معك، أو أقنعك أنه طريق صحيح وترجع معي، قال: تفضل، قلت له: أسألك بالله هل تركت طريق الالتزام والدين، ورجعت إلى طريق الانسلاخ والكفر؛ لأن طريق الإسلام والالتزام غير صحيح، والطريق الذي أنت فيه الآن صحيح؟ أريد أن ترد من قلبك، قال: من قلبي؟ قلت: نعم.
قال: والله إني أعلم من قرارة نفسي أن طريق الدين والالتزام هو الصحيح، وطريق الكفر الذي أنا فيه هو الخطأ.
قلت له: سؤال آخر: هل في الدنيا رجل عاقل يترك الطريق الصحيح ويرجع إلى الطريق الخطأ؟ قال: لا.
قلت: إذاً أنت غير عاقل، قال: لا.
أنا عاقل لكن أخبرك لماذا تركت الطريق، قلت: لماذا؟ قال: لأن الطريق الصحيح صعب، والطريق الخاطئ بسيط وسهل، قلت: الآن عرفنا النقطة، أمسكنا رأس الحبل الآن.
قلت له: أنا معك أن طريق الالتزام وطريق الدين صعب، لكن هل تركت الصعب إلى السهل أم إلى الأصعب، قال: إلى السهل، قلت: لا.
أنت مخطئ، تركت الصعب إلى الكارثة وإلى المصيبة والدمار، وإلى الهلاك في الدنيا والآخرة، قال: كيف؟ قلت: أليس غض نظرك عن الحرام صعب؟ قال: نعم.
وهذا الذي أتعبني -يقول: بصره أتعبه، كل ساعة وهو يغض بصره مما أدى إلى أن تعب- قلت: لم تركت غض البصر وأطلقت لبصرك العنان للنظر إلى وجوه النساء وقعت في الأصعب؟ قال: ما هو الأصعب؟ قلت: أن يملأ الله عينيك من جمر جهنم، فانتبه الرجل.
قلت: ما هو الأسهل أن تغض عينك وتصبر قليلاً أو يملأها الله جمراً من نار جهنم؟ قال: جمر جهنم أصعب، قلت: الأغنية التي تسمعها الآن، صون سمعك عنها صعب أليس كذلك؟ قال: نعم.
قلت: وإذا سمعت الأغاني وقعت في الأصعب؟ قال: لماذا؟ قلت: من استمع إلى مغنٍ أو مغنية صب الله في أذنيه يوم القيامة الرصاص المذاب، هل الأسهل لك أن تصون سمعك عن الأغنية وتعاني معاناة بسيطة، أم أن تغني وتسمع الغناء ويصب الله عليك الرصاص المذاب؟ قال: لا.
والله هذه أصعب.
قلت: قيامك لصلاة الفجر صعب أليس كذلك؟ قال: نعم.
قلت: القيام أصعب أم أن يرضخ رأسك بالصخر في النار؟ قال: هذه أصعب، قلت: إذًا أنت تركت الصعب إلى ما هو أصعب، أنا معك في أن طريق الاستقامة والدين صعب؛ لأن الصعوبة هذه توصلك إلى الجنة، وضربت له مثالاً قلت: هل الدراسة سهلة أم صعبة؟ قال: صعبة، قلت: نعم.
صعبة من كل صورها، صعبة من النهوض مبكراً، أنت خلال الفترة الصيفية تنام إلى الظهر، لكن في الدراسة من الساعة السادسة والنصف وأنت تجمع كتبك وتركب وتذهب، وقد تتأخر فتجد المدير أو المراقب على الباب والعصا بيده، يصيبك واحدة منها على ظهرك، فتهرب منه، وتدخل على المدرس فيقال لك: أين الواجب؟ أين الدرس؟ حصة وامتحانات وبلاء ومشاكل، فيها صعوبة، قال: نعم.
فيها صعوبة، قلت: لماذا يصبر الناس على صعوبة الدراسة؟ من أجل تأمين المستقبل، ونحن لماذا نصبر على صعوبة الإسلام وصعوبة الالتزام والدين؟ من أجل تأمين مستقبل ستين سنة، ومن أجل تأمين وظيفة وبيت وبعدها قبر.
لا.
بل من أجل تأمين مستقبل أبدي سرمدي إلى آخر الزمان، في جنة عرضها السماوات والأرض، نؤمن مستقبلنا في الدنيا والآخرة بهذا الالتزام بهذه الصعوبة.
فقلت: يا أخي! أنا معك أن طريق الالتزام والدين صعب، ولكن الأصعب والأهم والكارثة والمصيبة يوم أن تترك هذا الطريق، وتسير في الطريق الخطأ، وبعد ذلك تمشي فيه يعني: معجباً ومخدوعاً بما فيه من اللذات والمتع البسيطة، ثم تقف عند جدار الموت وتنزل وتدخل النار وتقول بعد ذلك كما قال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99].
فتقول الملائكة: لماذا تريد أن ترجع؟ فيقول: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100] فلا تستطيع؛ لديك فرصة واحدة، الآن الطالب المهمل إذا أهمل طوال العام الدراسي ودخل القاعة وسلموا له أوراق الأسئلة فقرأ الأسئلة ولم يستطع أن يجيب على سؤال واحد، فقال للمدير: من فضلك نصف ساعة أخرج خارج القاعة أقرأ الإجابة وأعود، هل يطيعونه؟ هذا مثل ذاك لما دخل القبر قال: يا رب! ردني أعمل صالحاً، قال الله: {كَلاَّ إِنَّهَا(44/5)
قراءة قصص الأنبياء وأخذ العبر من القصص القرآني
يقول الله عز وجل: {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120] قصص الأنبياء في القرآن ليست كقصص الإسرائيليات أو التسالي أو للقضاء على الأوقات لا.
قصص وعبر ودروس عملية وقعت في عالم الواقع، يقول الله عز وجل: {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف:111] يعني: ما كانت روايات كاذبة، وقال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف:3] {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111] هذه القصص القرآنية يجب أن تمر عليه باعتبار وبتدبر وبتأمل وبأخذ فائدة منه، حتى تثبت على دين الله تبارك وتعالى.(44/6)
الدعاء
المثبت الرابع: الدعاء في كل وقت وفي كل لحظة وفي سجودك وفي ليلك وفي نهارك: يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك، هذا من أعظم وسائل التثبيت حتى تثبت على دين الله تبارك وتعالى، وهذه هي أسباب الوقاية من المرض.(44/7)
أسباب الانتكاسة
أما أسباب الانتكاس أو لماذا ينتكس الإنسان؟ فهي كالتالي:(44/8)
الغلو والتشدد في دين الله
السبب الأول: الغلو والتشدد في دين الله عز وجل؛ لأن الغلو يؤدي إلى تجاوز الحد وكل ما تجاوز حده انقلب إلى ضده، وتصبح ردود فعل، مثل البندول: البندول يتحرك حركة معقولة لكنه عندما ترفع إلى الأعلى ويشد ثم يترك ثم تضطرب حركته، وكذلك من يغلو في دين الله عز وجل ويتشدد ويتنطع ويحدث في دين الله ما ليس فيه، حتى ولو كان بنية صالحة، فالنبي صلى الله عليه وسلم حذر من الخوارج، وقال في الصحيحين لرجل اسمه حرقوص دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ثم ولى، فقال صلى الله عليه وسلم: (يخرج من ضئضئ هذا أقوام تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وعبادتكم إلى عبادتهم، وأخبر أنهم يخرجون من الدين -ينسلخون من الإسلام- كما يخرج السهم من الرمية).
فالعبرة ليست بكثرة العمل، وإنما العبرة بكيفية العمل، فكم من عامل يعمل عملاً ليس فيه أمر الله ولا أمر رسول الله ولا ينال عليه أجراً، فلابد من التوسط والاعتدال وهذا مؤشر دقيق؛ لأنه قد يساء فهمه؛ نظراً لبعد الأمة عن تعاليم دينها، وللفارق الزمني البعيد بينها وبين الكتاب والسنة حصلت عندها نظرة عكسية، بحيث نظرت إلى التمسك بالدين أنه من الغلو.
يعني: بعض الناس الآن يطلقون التطرف والغلو على من يطبق الشرع الصحيح، إذا رفع ثوبه عن الأرض بحيث طبق السنة، قالوا: فلان متشدد لماذا؟ قالوا: ثوبه إلى نصف ساقه لكن لو سحب ثوبه كما تسحب المرأة عباءتها لقالوا: فلان ما شاء الله معتدل، وهذا عين خطأ.
فالاعتدال: هو أن تأتي بالدين كما شرع الله وشرع رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا رأينا شاباً يرفع ثوبه إلى نصف ساقه عملاً بالسنة قلنا هذا شاب معتدل، لكن إذا رأيناه يرفع إلى ركبته ماذا نسمي هذا؟ غلو، أليس كذلك؟ هذا هو منطق الشرع.
رأينا إنساناً يكبر ويضع يده اليمنى على اليسرى على صدره في الصلاة، نقول هذا شاب معتدل، لكن إذا رأيناه يكبر ويضع يده اليمنى على اليسرى على رقبته، نقول: هذا غلو؛ لأن رواية وائل بن حجر في زيادة ابن خزيمة على صدره، كان يضع يده اليمنى على اليسرى على صدره، لكن بعض الناس قد يغالي ويضعها على رقبته ويخنق نفسه وهذا من الغلو.
وإذا سمعنا إنساناً يقال له: أوصل الكهرباء إلى بيتك فيقول: لا.
الكهرباء هذه تشغل الأغاني عند الناس فأنا أقاطع الكهرباء، وهذا غلو، أي نعم.
وآخر عنده كهرباء لكنه لم يشتر مكيفاً لأولاده ولا مروحة لماذا؟ يقول: أريد أن أشعر بالتعب في سبيل الله، نقول: هذا غلو وليس من دين الله تبارك وتعالى.
آخر معه إمكانية أن يشتري سيارة ولكنه لم يشتر، نقول له لماذا؟ يقول: أريد أن أتعب.
لا.
ليس هذا من دين الله فهذا هو الغلو، أما الاعتدال والوسطية، فهي الدين؛ لأن الله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] أمة محمد هي أمة الوسطية والاعتدال، وعدم الغلو وعدم المجافاة وعدم التراخي والضعف وإنما على الكتاب والسنة، تؤدي صلاتك كما أداها النبي صلى الله عليه وسلم، تصوم كما صام النبي صلى الله عليه وسلم، تؤدي زكاتك كما أداها النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا تزيد عما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين: (أن ثلاثة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوا إلى أزواج رسول الله، وسألوا عن عبادته فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها، فقام أحدهم وقال: أما أنا فلا أنام الليل، وقال الثاني: وأنا لا أفطر الدهر، وقال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء -أتبتل- فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بخبرهم نادى بالصلاة جامعة وقال: ما بال أقوام يقولون ويقولون ويقولون، أما والله إني لأعلمكم بالله وأخشاكم له وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، يرسم لأمته المنهج الوسطي، هذا غلا وقال: ما أفطر.
لماذا؟ لأن صيام الدهر منهي عنه، وذاك قال: أقوم الليل، فلا ينبغي لك أن تقوم الليل كله، قم ثلثاً ونم ثلثين من الليل، لكن أن تقوم الليل كله دائماً فهذا لا تطيقه أنت ولا يطيقه غيرك، وهذا غلو في دين الله عز وجل، وقد جاءت الأدلة بالنهي عنه، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند: (إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) وفي صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (هلك المتنطعون) يعني: المتشددون على أنفسهم بغير دليل شرعي، تقول له: أأكل؟ قال: لا.
لماذا؟ قال: هذا فيه ترفه وفيه تنعم.
هذا تنطع، كُل مما حل الله لك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172] {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون:51].
إن الطيبات هذه أحلها الله تبارك وتعالى فكل منها واستعن بها على طاعة الله واعمر بيتك بطاعة الله، اركب جديداًَ والبس نظيفاً، وتزوج جميلاً، وابن جميلاً، لكن: اركب سيارة جديدة واستخدمها في طاعة الله، تزوج زوجة جميلة وربها على دين الله، ابن عمارة طويلة عريضة واستخدمها في طاعة الله، واعمرها بذكر الله، من قال لك أن هذا حرام، إن هذا هو النظر الذي يؤدي بك في النهاية إلى الانتكاس والعياذ بالله.
أيضاً يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في سنن أبي داود (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، وإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع) هؤلاء الرهبان شددوا وابتدعوا، قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَاكَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27] ما كتبها الله عليهم ولكنهم هم الذين ابتدعوها وترهبوا، ويظنون أنها دين وليست بدين، وفي صحيح البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا) (وما خيِّر صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً)، بعض الشباب الآن يختار الأعسر يقول: من باب الحيطة، وهذا لا ينبغي، إذا خيرت بين أمرين فخذ الأيسر، لماذا؟ لأن هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً في الصحيحين يقول عليه الصلاة والسلام: (اكتفوا من الأعمال بما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل) يعني: ركعتين في جوف الليل تصليهما أفضل من أن تصلي في الليلة عشر ركعات ثم تنام شهراً لا تصلي، صل ركعتين فقط ولكنهما تؤثران في قلبك أعظم من أثر مائة ركعة في ليلة.
الآن انظر إلى الماء: إذا صببت الماء قطرة قطرة على الصخرة بعد سنة تجد أن هذه القطرة التي نزلت على الصخرة قد حفرت في الصخرة أليس كذلك؟ لكن لو أخذت الماء الذي نزل ودفعته دفعة واحدة على صخر هل يتأثر؟ لا يتأثر، لكن الاستمرارية تتأثر فكونك تستمر في عمل صالح تنفق في اليوم ريالاً أفضل من أن تنفق في اليوم مائة ثم تقعد سنة لا تنفق ولا ريالاً، كلما رأيت فقيراً وقف عند سيارتك أعطه ريالاً، اجعل في شنطتك بعض الريالات، أفضل من أن تفتح الشنطة وتجد فقيراً واحداً فتعطيه عشرة ثم يلقاك عشرة فقراء فلا تعطهم شيئاً، فأيهما أفضل أن تنال دعوة من فقير واحد أو من عشرة فقراء؟ فأنت عندما تعطي عشرة فقراء تنال من كل فقير دعوة حتى يخلف الله عليك، قال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] فهذا أول سبب من أسباب الانتكاس وهو: الغلو والتشدد أكثر مما شرع الله، وهذا القيد من عندي؛ لأن التمسك بما شرع الله لا يسمى غلواً ولا تشدداً، التمسك به هو الاعتدال وهو الوسطية وهو الحق، لكن الذي نخدر منه هو الزيادة على دين الله، حتى لا يجد المتفلتون طريقاً من هذا الكلام إذا رأوا شاباً متمسكاً قالوا: هذا متشدد لا.
ليس متشدداً، الشاب المتمسك بالسنة ليس متشدداً بل هو معتدل؛ لأنه على الوسطية التي شرعها الله في كتابه، وسنها رسوله صلى الله عليه وسلم في هديه وسنته.(44/9)
مفارقة الجماعة وإيثار العزلة
ثانياً: من أسباب الانتكاسة: مفارقة الجماعة، وعدم الاختلاط بالصالحين، وإيثار العزلة، بعض الناس يكره الشباب الطيب، ويكره الجماعة، ويقول: لوحدي، ووحدك هذه فيها خطورة عليك؛ لأنه إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة) والله يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول والحديث في سنن الترمذي: (عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد) الشيطان مع واحد لكن مع الاثنين لا يستطيع عليهم، مع ثلاثة لا يستطيع أن يمشي معهم، لكن مع واحد يدخل عليه ويوسوس له حتى يضله، فعليك أن تتقي الله وتلزم الجماعة.
السؤال
من هم الجماعة؟
الجواب
هم الذين على الحق ولو كان واحداً، ليست الجماعة بالكثرة، ولا بالحزب، ولا بالدعوة الفلانية، الجماعة: من كان على ما كان عليه رسول الله وأصحابه، ولو ما في الأرض إلا شخص فهو الجماعة، والبقية صفر على الشمال، يقول الله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] إبراهيم فرد في الأمة لكن هو الأمة، والبقية لا شيء؛ لأن الميزان عند الله هو الدين، والله يزن الناس على ضوء تمسكهم بكتابه وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فعليكم بالجماعة والجماعة هم أهل الحق ولو لم يكن إلا واحداً.(44/10)
الغفلة عن الموت والدار الآخرة
ثالثاً: من أسباب الانتكاسة: الغفلة عن الموت والدار الآخرة: يغفل الإنسان عن المصير وينسى الآخرة فيقسو قلبه، وينتج عن هذه القسوة أثر في القلب فيرجع، فيجب عليك أن تتذكر الموت باستمرار، وأن يكون جسدك هنا وقلبك في الآخرة تنام في القصر، وقلبك في القبر، تنام على الفراش الوفير وقلبك في القبر الضيق، تنام على النور وعينك على الظلمة في القبور، يعني: مفاهيمك وأحاسيسك ومشاعرك كلها في الآخرة، وأنت جالس هنا، تعيش بقلبك أحوال الآخرة، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم شرع للأمة زيارة القبور، وقال: (إني كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة).
والزيارة الشرعية أن تزور القبر لتدعو لصاحبه، لا أن تدعوه وتستغيث به، والزيارة الشركية أن تذهب إلى لمقابر، كما هو موجود في بعض البلدان يذهبون إلى القبور ليطوفون بها ويدعونها من دون الله وهذا شرك؛ لأن هذا الذي تدعوه يقول الله عنه: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14] فتدعو للقبر تقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، أنتم السابقون ونحن اللاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، ثم تدعو لهم: اللهم اغفر لنا ولهم ولا تفتنا بعدهم إلى آخر الدعاء المأثور.
ثانياً: لا تشد الرحال إليهم، أن تشد رحلك وتسافر إلى أي قبر ولو إلى قبر المصطفى الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ لحديث صحيح: (لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا) يعني: المدينة، فإذا أردت المدينة يجب أن تكون نيتك زيارة المسجد النبوي، ومن المعلوم أنك إذا أصبحت في المدينة فإن من السنة أن تسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن لا يكون هدفك أن تشد الرحال لزيارة القبر ابتداءً؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، أما إذا كنت في البلد في مكة، تسلم على المقابر تمر من عندها وتدعو لهم؛ لأن هذا حق لهم عليك.(44/11)
التهاون بالعمل اليومي للمسلم
رابعاً: من أسباب الانتكاس: التهاون في العمل اليومي للمسلم: مثل النوم عن الصلوات المكتوبة، وتفويت تكبيرة الإحرام، أو تفويت ركعة أو ركعتين من الصلاة، لأن بعض الناس لا يأتي إلا بعد الأذان، ثم يتأخر حتى تقام الصلاة وهو غير متوضئ فيقوم لكي يتوضأ، ثم يأتي مسرعاً فيدرك ركعة أو نصف ركعة ويقوم ليقضي ما فاته، هذه بداية الانتكاس، فإذا رأيت شاباً يفعل هذا فاعلم أنه سينتكس، لأنه تهاون في عمل اليوم والليلة.
وعمل اليوم والليلة لا بد منه، مثل: قراءة القرآن الكريم: فلابد أن يكون لك ورد يومي من القرآن لا يقل عن جزء، أيضاً إهمال النوافل والرواتب، بعض الشباب لا يصلي الرواتب سبحان الله! كيف تهون عليك راتبة رتبها لك النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً ترك قيام الليل، وصلاة الضحى، وأذكار الصباح والمساء، كل هذه اسمها عمل اليوم والليلة للمسلم، عملك ووظيفتك، فعمل الموظف الكتابة، وعمل العسكري الحراسة وعمل العامل البناء، وعملك كمسلم هذه وظيفتك -وظائف اليوم والليلة- لابد أن تقوم بها ولا تقصر فيها، وإذا قصرت فيها كان تقصيرك فيها وعدم اهتمامك بها سبيلاً مؤدياً إلى الانتكاس والعياذ بالله.(44/12)
أكل الحرام
خامساً: من أسباب الانتكاس: أكل الحرام: لأنك إذا أكلت الحرام غذيت جسدك بالحرام، ونبت لحمك من حرام، فالنار أولى بالحرام، وكل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، لا ينفع عمل ولا ينفع دعاء؛ فالذي مطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، أنى يستجاب له؟ وهذا معنى الحديث في صحيح مسلم، والدليل على أن العمل لا ينفع قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليأكل اللقمة من الحرام لا تقبل له صلاة أربعين نهاراً، ومن اشترى ثوباً بعشرة دراهم وفي ثمنه درهم من حرام لن يقبل الله له صلاة ما دام عليه هذا الثوب) فلابد أن يكون كسبك حلالاً (100%)، احذر من الحرام، جاء في الصحيحين قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه) حمى الله: محارمه لا تقترب منها، الراعي إذا قرب من المكان المحمي أفسدت بعض الغنم ذلك المكان، لكن إذا كان بعيداً فلا يحصل شيئاً، وكذلك أنت لا ترع دينك عند محارم الله، فتقع وأنت لا تدري.
فعليك -يا أخي في الله! يا من تريد أن تستقيم وتلتزم وتستمر وتثبت- أن يكون كسبك حلالاً، وأن تراجع نفسك باستمرار في قضية تصفية الكسب، أي شيء يأتيك فيه حرام أوقفه، ولا يقول لك الشيطان: إن هذا يقلل من دخلك ويهز ميزانيتك لا وألف لا، من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، أعرف أحد الإخوة كان يعمل في بنك ربوي وكان راتبه ضخم جداً، وكلما أراد أن يقدم تذكر الشيك الذي في آخر الشهر وخدره الشيطان بالشيك، قال له: اقعد اقعد إلى أن جاءت لحظة من لحظات القوة الإيمانية، قرر وتقدم باستقالته وترك العمل، واختبره الله فترة بسيطة ثم عوضه الله برزق هو فيه أعظم من كل ما قد رزق من الحرام، ويقول لي بعد ذلك: والله إنني في راحة نفسية لو كنت آكل الطين لكان أعظم لي مما كنت أعيشه من عذاب داخلي يوم كنت آكل الحرام، فهذا أهم شيء، فلا تقل: إني إذا تركت الحرام يضيق عليَّ رزقي، قد يختبرك الله ويبتليك لكن اصبر، فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.(44/13)
التقصير في حق البدن وحق النفس والأهل
سادساً: من أسباب الانتكاس: التقصير في حق البدن، وفي حق النفس، وفي حق الأهل، وفي حق الأولاد، بسبب اشتغال الإنسان العامل للإسلام بضخامة الأعباء من ندوات ومحاضرات، وقراءة وزوار وزملاء يذهبون ويرجعون، بعد ذلك لا ينام ولا يأكل، ولا يغسل ثيابه، ولا يجلس مع زوجته، يستمر مثل المنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، ما أخذ محطة راحة، الآن عندما تأخذ مكينة وتشغلها أربعة وعشرين ساعة ماذا يصير؟ سوف يحصل لها خلل، لكن عندما توقفها عن العمل وتجعلها ترتاح لا يحصل لها شيء، فمكائن الكهرباء تعمل ثمان ساعات ثم يطفئونها ويشغلون مكينة أخرى حتى تبرد الأولى وهكذا، وكذلك نفسك تحتاج إلى محطات راحة، فعدم إعطاء النفس حقها يسبب لها الخلل والتوقف، وترى بعد ذلك الشخص الذي كان يعمل بجهد قد انتكس -والعياذ بالله- ولو أنه مشى على مهله وأعطى حقه وحق نفسه وحق أهله، لكان معتدلاً.
وحق النفس مثل الخروج بالأهل في نزهة إلى الصحراء أو إلى البحر، بشرط ألا يختلط مع أناس، ولا يحدث منكراً، ولا تبرجاً، ولا تصويراً، ولا تضييع للفرائض، ولا يقع في معصية، فهذا حسن فالأنس بالأهل والسمر والجلوس معهم، شيء حث عليه الإسلام.
يقول عليه الصلاة والسلام: (إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً فآتي كل ذي حق حقه) رواه البخاري في صحيحه، كن معتدلاً، لكن أن تعطي الحقوق كلها لله وتترك أهلك ونفسك فالله لا يريد منك هذا؛ لأنه غني عنك، فلا بد أن تعدل بالقسمة، حق الله لا تقدم عليه أي حق، وحق نفسك لا تضيعه من الراحة والاستجمام والهدوء والانبساط والأكل الطيب، والدابة الطيبة، والمركوب الطيب، والثوب الطيب، والفراش الطيب، هذا كله طيب يبعث فيك قوة ونشاطاً وتجديداً لحياتك، ومن حق زوجتك وأهلك أن يفرحون بك، فبعض الإخوان أهله لا يرون منه شيئاً، كلما دخل المنزل دخل ومعه زميل، ليس منظماً لوقته ولا منسقاً في وضعه، لا يستقبل المكالمات في وقت معين، ولا يستقبل الزوار في وقت معين، ولا يخرج مع الإخوان في وقت معين، بل يخرج كل وقت، ويستقبل كل وقت، وينام كل وقت، وبعد ذلك أهله يريدون بعضاً من وقته فلا يجدون، وكلما طلبوا منه شيئاً قال: لا أستطيع أنا مشغول، زوجته معه في عذاب، تتمنى زوجته أن ينتكس من أجل أن يعود ليجلس معها بل تدعو عليه -والعياذ بالله- فلابد من إعطاء النفس حقها؛ لأن هذا سبب من أسباب التثبيت إن شاء الله.(44/14)
عدم تهيئة النفس لمواجهة معوقات وصعوبات العمل في طريق الله
السابع: من أسباب الانتكاس: عدم تهيئة النفس لمواجهة معوقات وصعوبات العمل في طريق الله، يتصور بعض الناس أن الالتزام وأن الدين طريق مفروش بالزهور، وهذا مخالف لسنة الله، والله قد قال في سورة العنكبوت: {ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3] أي: أيظن الناس أنهم سيتركون بسبب قولهم هذه الكلمة ولا يقدم لهم ابتلاءات وامتحانات، إذا ظن هذا الظن سيسقط، لكن إذا هيأ نفسه، وأعدها لمواجهة أي صعوبة، يتوقع أنه يسجن، يتوقع أنه يمرض، يتوقع أنه يفقر، يتوقع أن امرأته تخرج من بيته، يتوقع أنه يقتل، يتوقع كل شيء في سبيل الوصول إلى مرضاة الله تبارك وتعالى، فإذا ما جاء هذا الأمر المتوقع، يجد النفس مهيأة لاستقباله فيكون الوقع هين، والأثر بسيط، لكن حينما لا تكون النفس متهيئة له، كيف يكون الأثر؟! النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره ورقة بن نوفل وقال له: (ليتني معك إذ يخرجك قومك، قال صلى الله عليه وسلم: أومخرجي هم؟ قال: نعم.
ما جاء أحد قومه بمثل ما تأتي به إلا أخرجه قومه وآذوه، فقال: الله المستعان) استعان بالله عز وجل.
أيضاً عثمان بن عفان لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصحيحين يقول أبو موسى الأشعري: (تبعت رسول الله بعد أن خرج من المسجد ودخل بئر أريس -يعني: بستان أريس في المدينة - يقول: فجلس على شفير البئر ودلى رجليه ثم قال: يا أبا موسى! لا تأذن لأحد إلا بعد أن تخبرني، يقول، فقلت: الحمد لله أنا اليوم بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: فجاء أبو بكر فقلت: يا رسول الله! أبا بكر، قال: ائذن له وبشره بالجنة، يقول: وبعد قليل طرق الباب طارق، قلت: من؟ قال: عمر، قلت: عمر يا رسول الله! قال: ائذن له وبشره بالجنة، يقول أبو موسى فقلت: ليت أبا عامر يأتي) يقول: يا ليت أخي يأتي، يظن أن كل من جاء دخل، وهي ليست هكذا إنما هي لأناس معينين، يقول: (فليت أبا عامر يأتي، يقول: فجاء ثالث وطرق الباب، قلت: من؟ قال: عثمان، قلت: يا رسول الله! عثمان، قال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فقال عندما بشره: أبشر بالجنة على بلوى تصيبك، فقال: الله المستعان).
هذه تهيئة الرسول صلى الله عليه وسلم هيأ نفسية عثمان لقبول البلاء، ولذا كان عنده يوم أن قتل أربعمائة عبد في حراسته وهم مملوكون وقد كان تاجراً، فقالوا: ندافع، قال: من ألقى سلاحه فهو حر، فوضعوا السلاح كلهم يريدون الحرية، وأعتقهم لوجه الله، وجلس على مصحفه لا يدفع عن نفسه حتى دخلوا إليه وذبحوه وسال دمه الشريف على المصحف، رضي الله عنه وأرضاه.
فلا بد أن تتوقع وأن تهيء نفسك، للابتلاء، ولا تسأل الله البلاء وسل الله العافية، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تتمنوا لقاء العدو ولكن إذا لقيتموه فاثبتوا) نسأل الله العافية، ولكن نسأل الله أن يثبتنا إذا لقينا ذلك.(44/15)
صحبة الأشرار والعصاة
الثامن: من أسباب الانتكاس: صحبة الأشرار والعصاة، مثل صحبة ذلك الرجل الذي أضل نفسه وأضل غيره معه؛ لأن القرين السيئ يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب، أدخل جملاً أجرب في مائة جمل سليم، هل تعديه بالعافية أم يعديها بالجرب؟ يعديها بالجرب؛ لأن المرض ينتقل، والعافية لا تنتقل، وضع تفاحة معفنة في صندوق صحيح هل التفاح الصحيح يصلح المعفنة أم المعفنة تعفن الصندوق كله؟ كذلك ضع شخصاً خبيثاً مع عشرة صالحين يفسدهم كلهم، ولهذا في الحديث في الصحيحين يقول عليه الصلاة والسلام: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل حامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك أو تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحاً خبيثة) فإياك -يا أخي- من مجالسة رفقاء السوء فقد قيل عن جليس السوء:
عن المرء لا تسل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأردى فترد مع الردي
... ويقول الآخر:
فلا تصحب أخا الفسق وإياك وإياه
فكم من فاسق أردى مطيعاً حين آخاه
يقاس المرء بالمرء إذا ما المرء ماشاه
وللناس على الناس مقاييس وأشباه
وللقلب على القلب دليل حين يلقاه
كن مع شكلك، هل رأيت حمامة تمشي مع الغربان؟! هل رأيت كلباً يمشي مع الغزلان؟! لا يمشي معها إلا لأنه يريد أن يفترسها، لا تمش إلا مع من هو مثلك على الدين والاستقامة، وإذا مشيت مع قرناء السوء أهلكوك.(44/16)
ارتكاب المعاصي والاستهانة بصغائر الذنوب
التاسع: من أسباب الانتكاس: مقارفة المعاصي والاستهانة بصغائر الذنوب: يقول الله عز وجل: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المطففين:14] أي: غطى القلوب: {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] تستهين بنظرة أو بأغنية أو بكلمة أو بخاطرة أو بمعصية فتنكت في قلبك، يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في صحيح مسلم قال: (تعرض الذنوب على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أُشربها -أي: قبلها- نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب ردها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: قلب أسود مرباد كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض كالصفاء لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض) فأنت اجعل في قلبك حاجزاً ضد الذنوب، كلما جاء ذنب رده، لماذا؟ حتى لا ينكت في قلبك نكتة سوداء ثم تتراكم هذه النكت السوداء ثم يصير راناًَ، فيكون قلبك مرباداً ثم ينكسر القلب وينتهي، وهذه الردة -والعياذ بالله- والكفر.(44/17)
علاج الانتكاس
أما العلاج من أجل أن تثبت في الطريق؛ لأن الطريق إلى الجنة ليس سهلاً، أشعر نفسك أنك تريد الجنة، عمير بن الحمام لما قال عليه الصلاة والسلام: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، قال: جنة عرضها السماوات والأرض؟! قال: نعم.
قال: بخٍ بخ، قال: ما حملك على هذا؟ قال: أريد أن أكون من أهلها ثم رمى تمرات كانت في يده وقال: إنها والله لحياة طويلة أن أمكث حتى آكل التمرات وقام وقتل في سبيل الله) هذه طريق جنة حافظ على نفسك من الآن؛ لأن الطريق هنا صعب، والأصعب منه الصراط، والأصعب منه العرصات، والأصعب منه تطاير الصحف، والأصعب منه الطرد من الحوض، والأصعب منه خفة الميزان، والأصعب من ذلك السحب على الوجه إلى النيران.
اضبط نفسك الآن وداوم واصبر وقل: يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك، وقل: يا رب سلِّم سلِّم، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، توقع أنك سوف تموت ذلك اليوم، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، توقع أنك تموت في الليل، وإذا صليت فصل صلاة مودع، فقد تصلي العشاء ولا تستطيع أن تصلي الفجر، هكذا المؤمن خطوة خطوة، إلى أن يقف عند جدار الموت وينزل إلى الجنة بإذن الله، وعلاج هذه الظاهرة بتسعة أمور:(44/18)
الحرص والمواظبة على الطاعات
أولاً: الحرص الكامل والمواظبة على الطاعات: حرص كامل ومواظبة، لا يؤذن إلا وأنت في المسجد، وإذا كنت عبد سوء فتأتي بعد الأذان، أما بعد الأذان، ما معنى الأذان، معنى الأذان أن تقوم، لكن بعضهم يؤذن المؤذن فينام، جاء في الحديث الذي في صحيح مسلم: (من سمع المنادي فقال مثلما يقول ثم سأل الله لي الوسيلة وجبت له شفاعتي يوم القيامة) يعني: تقول مثلما يقول، أي: أنك تؤذن، ولهذا جاء في الصحيحين قوله عليه الصلاة والسلام: (لو تعلم أمتي ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا).
فأنت تؤذن مع المؤذن وتأتي أول شخص، ولا بد أن تكون الأول دائماً في الطاعات، وفي مكة في الحرم إذا استطعت وكل مكة حرم إن شاء الله، في أصح أقوال العلماء، لكن تتفاوت مكة أيضاً فالذي بجانب الكعبة يختلف عمن هو بعيد منها، وأيضاً الصف الأول ليس مثل الصف الثاني، فخير صفوف الرجال أولها، ويتفاوت الناس فاحرص دائماً أن تصلي في الحرم، وأن تصلي في مسجد الكعبة، وإذا صليت في مسجد الكعبة فاحرص على الصف الأول، ليكن عندك هم وحرص، فأنت طالب آخرة، كل ما تعلم أنه يوصلك إلى الآخرة ويزيد من درجتك عند الله فاحرص عليه، ولا تفرط وتتساهل به، إذا سمعت بجنازة يصلى عليها فاقعد، وتجد بعض الناس يسمع بالجنازة يصلى عليها ويمشي وكأنه أمر عادي ولا يعلم أنه محروم من أجرها، وفي الحديث: (من حضر الجنازة حتى يصلى عليها كتب له من الأجر قيراط، وإذا حضر أحد الدفن كتب له قيراطان قيل: وما القيراط؟ قال: مثل جبل أحد) أي: حسنات.
فلا بد من الحرص على الطاعة بكل صورها وأشكالها، طاعة الصلاة، وطاعة الصيام، وطاعة القيام، طاعة الزكاة، طاعة النافلة، طاعة الحج، طاعة العمرة، طاعة بر الوالدين، طاعة ذكر الله، طاعة قراءة القرآن، طاعة الدعوة إلى الله، طاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، طاعة الحب في الله والبغض في الله، طاعة إكرام الضيف، طاعة الزيارة، هذه اسمها طاعات، فاحرص عليها وزد من الاهتمام بأمرها.(44/19)
البعد عن المعاصي
ثانياً: البعد عن المعاصي دقيقها وجليلها: من أي باب ومن أي طريق، من باب النظر إلى الحرام، أو من باب سماع الحرام، أو من باب الغيبة والنميمة والسب والشتم الحرام، أو من باب الفرج والزنا واللواط، أو من باب البطن -أكل الحرام- أو من باب اليد -البطش الحرام- أو من باب الرجل -السير إلى الحرام- أقفل كل أبواب المعاصي، وضع من قلبك جندياً عليها، وقل: يا عين خافي من النار، يا أذن لا توجد أغانٍ، فالله ما خلق هذه الأذن للغناء، يقول الله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36].
يا لسان قف! قل خيراً تغنم، واسكت عن الشر تسلم، يا رجل لا تحمليني إلا إلى طاعة الله وإلى المساجد وإلى حلق الذكر، وإلى الزيارة في الله، يا يد لا تمتدي إلى حرام، أقفل أبواب الشر من أجل أن تتعالج (100%).(44/20)
الوسطية والاعتدال
ثالثاً: الوسطية والاعتدال: عن طريق الرجوع إلى الكتاب والسنة، لا تقصر ولا تقفز؛ لأن تجاوز الدين خطأ والتقصير عنه خطأ، والحل هو الوسطية، والوسطية تعرف عن طريق العلماء الموثوق في علمهم، من تثق في علمه ودينه وأمانته تستشيره، وتحاول أن تأخذ دينك ممن هو على علم وعلى بصيرة.(44/21)
ملازمة الصالحين وصحبتهم
رابعاً: ملازمة الصالحين وصحبتهم وملازمة الجماعة وعدم العزلة: فإن الشيطان يفترس الإنسان إذا كان منفرداً.(44/22)
الاستعداد وتهيئة النفس لمواجهة المصائب
خامساً: الاستعداد وتهيئة النفس لتلقي ومواجهة أي صعوبة عن طريق الله عز وجل.(44/23)
البعد عن قرناء السوء
سادساً: البعد كل البعد من قرناء السوء وإخوان الضلال وإخوان الشر والأشرار، انتبه! اقطع صلتك بهم مهما كان حبك لهم وحدد موقفك منهم بصلابة، وقل لهم: لستم مني ولا أنا منكم، كما قال إبراهيم: (كفرنا بكم).
لابد أن يكون موقفك قوي: {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] زميل دراسة أو جار، إذا رأيته تاب امشِ معه وإذا لم يتب اهجره في الله عز وجل؛ لأن الهجر في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان.(44/24)
إعطاء النفس حقها
سابعاً: إعطاء النفس حقها، فلا تقصر في هذا الجانب وتمنعها حقها من المباحات، ومداعبة الأهل، ومداعبة الأولاد، إذا دخلت باب البيت من حين أن تدخل خذ الولد وارفعه إلى فوق ولاعبه واضحك معه، كان الأطفال يركبون على ظهر رسول الله وهو في الصلاة، وقد صعد الحسن على ظهره، فأطال في السجود حتى كاد الصحابة يسبحون، فلما رفع رأسه اعتذر وقال: (إن ابني هذا ارتحلني) يقول: ركب علي.
من وسائل العلاج: التكامل في حياة المسلم لإعطاء النفس حقها، وإعطاء الأهل حقهم، وإعطاء الأولاد حقهم، بالمداعبة وبالنكتة البريئة، وبالنزهة وبالرحلة وبالسمر اللطيف في المباحات، يروي الإمام مسلم عن حنظلة الأسدي أنه قال لـ أبي بكر وقد لقيه، قال: (نافق حنظلة! قال: ما ذاك؟ قال: نكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكون قلوبنا في غاية الرقة، ثم نخرج فنعافس النساء والأولاد فتقسوا قلوبنا، قال أبو بكر: وأنا مثل ذلك -الذي عندك أنا أحس به، هيا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال: لا يا حنظلة! ساعة وساعة) يعني: القلوب لا تبقى دائماً على وتيرة واحدة وإنما ساعة وساعة، ساعة تكون رقيقة، وساعة ينبغي للإنسان أن يعود فيها إلى مباحاته وإلى شئونه العامة، ثم قال: (أنتم بشر لستم ملائكة) يقول: (لو أنكم تبقون في الطرقات وفي الشوارع وعند أهلكم كما تبقون يوم أن تكونوا عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات) يعني: لانقلبتم عن بشريتكم ولأصبحتم ملائكة، ولكنكم بشر والبشرية ملازمة للإنسان، ففي حدود ما أباح الله لا ينبغي للإنسان أن يقصر، وأن يضيع هذا مدعياً أنه من الدين، فإن هذا قد يؤدي إلى ردود فعل عكسية قد لا تكون سليمة مع بعض الناس، قد تكره الإنسان في الدين، وتكره الزوجة في الإسلام، وتكره الأولاد، وينشئون معقدين لا يريدون أن يكونوا مثل أبيهم على الالتزام بأسباب تقديمه الصورة المعتمة القاتمة عن الدين، وإلا فإن في ديننا فسحة، وفي ديننا مجال لإظهار ذلك، والذين يمارسون الحياة الكاملة الطيبة الإسلامية مع زوجاتهم ومع أولادهم، يعيشون أكرم عيشة.
نعم.
بعض النساء تتصور أن ما في الدنيا أعظم من زوجها، ملتزم لكن يقوم بالحق الكامل، يدخل وهو مبتسم ويضع يده عليها يضمها ويقبلها ويلاعبها ويخرج معها، وهنا هو الصحيح، لكن بعضهم يدخل عندها كأنه عسكري لا يبتسم ولا يضحك ولا يمزح، وإذا دخل أخذ الكتاب وجلس يقرأ، تقول: الله أكبر عليك مع الكتاب ليل نهار، -يا أخي- اجعل للكتاب وقتاً، وللنكتة وقتاً، وللسمر وقتاً، أما أن تعقدها وتقدم هذا الشيء فهي تتصور أن هذا هو الدين فينعكس ذلك في نفسها تقول: ما هذا الدين الذي أتيت به أنت؟ لكن لو قدمت الدين بالقالب الصحيح، وقت الجد اقرأ، ووقت الأنس تجلس مع زوجتك وتلاعبها، فقد كان صلى الله عليه وسلم وهو أكرم خلق الله يداعب أهله، وقد سابق عائشة مرة فسبقته ومرة سبقها، من منا يسابق زوجته الآن، هل هناك أحد يسابق زوجته الآن؟ لو أن شخصاً آخر قام بهذا لقالوا: هذا أخبل مجنون، سبحان الله! ما أقسى قلوبنا.
يا أخي! سابقها، داعبها، العب رياضة أنت وإياها، ابتسم لها، قبلها، خذها معك للمسجد الحرام تصلي معك، اخرج بها في نزهة، عوضها إذا منعتها من الحرام، بعض الشباب يقول: لا أدخل بيتي جهاز تلفزيون ولا فيديو ولا دش نقول: جزاك الله خيراً حميتهم لكن أوجد البدائل؛ لأن هذا يحدث فراغاً عندها، فإذا حدث الفراغ هذا وما ملأته أنت بالحق ملأته هي بالباطل، وإذا لم تأت بالتلفزيون تضطر أنها تسمع التلفزيون ولو بالتليفون، تقول لزميلتها: ضعي السماعة بجانب التلفاز حتى نسمع المسرحية، لماذا؟ بسبب سوء التطبيق من قبل بعض الناس، فوسائل العلاج أنك تعطي أهلك حقهم من المباحات.(44/25)
تذكر الموت
ثامناً: تذكر الموت: اجعل ذكر الموت بين عينيك، ألست ستموت؟ نعم.
متى؟ لا تدري.
أليس ممكن الآن؟ نعم.
ممكن الليلة؟ نعم.
ممكن في كل لحظة، هل جهزت نفسك؟ بعد كل لحظة ممكن أن تموت، يخبرني أحد الإخوان في رسالة لي هنا، يقول: هناك شاب حضر محاضرة للشيخ/ عبد الله الحماد الرسي وخرج من المسجد وذهب إلى البيت ونام، ومات بعد ساعة من نومته، مات لكن بعد خروجه من المسجد وبعد طاعة وبعد محاضرة، وبعد أيام رؤيت له رؤية حسنة، رآه بعض رفاقه فقالوا: ما صنع الله بك؟ قال: بشر أهلي أنني في الجنة، نسأل الله أن تكون هذه الرؤية حق، وأن يجعله في الجنة، ولا نقول إلا خيراً؛ لأنه خرج بعد الطاعة إن شاء الله، فأنت توقع الموت بعد كل لحظة، يمكن يقع هذا الكلام علي الليلة، ويمكن على أحد منكم.
كم من إنسان ركب سيارته وما نزل منها باختياره، وكم من إنسان لبس ثوبه وما خلعه هو بل قطعت أزراره من رقبته، وكم من إنسان نام على فراشه وما استيقظ منه، وكم من إنسان خرج من بيته وما عاد إليه، فتذكر الموت؛ لأنك إذا تذكرت الموت تضبط نفسك وتمشي على الطاعة وتترك المعاصي.(44/26)
محاسبة النفس ومراقبتها
تاسعاً: محاسبة النفس ومراقبتها على فترات: إما يومياً أو أسبوعياً أو كل ليلتين، فلابد من جلسة مع النفس، محاسبة كما تحاسب الغريم، فتشارطها وتحاسبها وتتابع سيرها، تحاسب عينك، أين أنت يا عين؟ أين نظرتي؟ أين الإيمان؟ نظرت اليوم تقول: أستغفر الله وأتوب إليه، يا أذن ماذا سمعتي اليوم؟ سمعت غيبة أستغفر الله وأتوب إليه، يا لسان تكلمت اليوم في موضوع ما كان لي أن أتكلم فيه وليس لي علاقة به، أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، وهكذا هذه المحاسبة لها أصل في الدين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] هذه -أيها الإخوة- مجمل الوسائل التي يستطيع المسلم بها أن يثبت على دين الله، ومن حصلت له انتكاسة أو ضعف أو تراخٍ أو كسل في الدين يستطيع بالأسباب التسعة الأخيرة أن يعالج ضعفه وتراخيه وكسله، وأن يعود إلى الجدية والاستمرارية في طريق الله، وأن يسأل الله الثبات ويصبر على هذا الطريق، فإنه وإن كانت فيه صعوبة فإن نهايته مشرقة وهي الجنة.
نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا وإياكم من أهلها، وأن ينجينا وإياكم من النار، وأن يثبتنا على هذا الدين حتى نلقاه، وأن ينصر دينه وأن يعلي كلمته وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنه سميع الدعاء، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(44/27)
هذه الأيام مطايا [2،1]
إن من أراد أن يعرف حقيقة الدنيا فعليه بكتاب الله عز جل، لأنه لن يجد كتاباً يصفها على حقيقتها كما وصفها القرآن الكريم، ومن خلال قراءة كتاب الله يجد المرء أن هذه الدنيا ما هي إلا محطة للتزود للآخرة.
وزيادة من الله في بيان زيف الدنيا حذرنا من الشيطان ومصائده، وعهد إلينا بشديد عداوته لنا، وما من خديعة رصدها إلا وجعل الله لنا منها الفكاك والنجاة.(45/1)
حقيقة الدنيا
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(45/2)
وصف الله لحقيقة الدنيا
أيها الإخوة في الله! يقول الله عز وجل في كتابه العزيز مخبراً عن حقيقة هذه الحياة التي يبدو أننا لم نعرفها حتى الآن، وعرفنا منها ما لا يريده الله عز وجل منا، فجاء الأمر من الله عز وجل يصحح عقولنا ويلفت أنظارنا ويخبرنا عن حقيقة هذه الحياة؛ لأنه هو خالق هذه الحياة، فيقول عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الحديد:20] هذه خمسة أشياء عرفناها من هذه الدنيا، والله يقررنا على هذا بالأمر بالعلم بذلك، ولكن ما بعد هذه الحياة {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:20 - 21] فهذه الحياة الدنيا مضمار وميدان سباق، ولكن إلى أين؟! إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض، لكن لما عاش الناس في غير الميدان الطبيعي الحقيقي لهم سابقوا ولكن إلى نار هاوية.
{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد:21] لمن يا رب أعدت هذه الجنة؟ وهيئت وزينت؟ {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
هذه الآيات تقرر حقيقة الدنيا، وحقيقة الآخرة، والمراد منا حينما أوجدنا الله في هذه الدار، إنها ميدان عمل، ومضمار تسابق، وإن الليل والنهار والشهر والسنة مطايا نركبها إلى الجنة أو إلى النار، بحسب السير، فمن الناس من قطع مراحل حياته متزوداً بغضب الله وسخطه ولعنته، يصبح على معصية الله، ويمسي على معصية الله، ويفتح عينه باستمرار في معصية الله، ويخصص أذنه على الدوام في سماع معاصي الله، ويتكلم بلسانه فيما يسخط الله، ويأكل بفمه وينزل في بطنه ما حرم الله، ويطأ بفرجه فيما حرم الله، ويمد يده إلى ما حرم الله، ويسير بقدمه ويسعى إلى ما يسخط الله، فهذا قد شد رحله وعزم وسافر إلى دار الدمار والنكال، أعاذنا الله وإياكم منها.
ومن الناس من عرف سر وجوده وحقيقة وجوده، وعلم أنه يناط به أمر:
قد هيأوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
فشد راحلته، وحمل عصا السير على عاتقه، وشمر وقال: إليك ربي لا ألوي عن راحلتي إلا إليك، فقطع رحلة عمره متجهاً إلى خالقه، مسخراً كل ملكاته وإمكانياته في مرضاة الله، فهو مع الله في الليل والنهار والسر والجهار، يصلي مع الله، ويعمل في مكتبه وهو مع الله، ينام على ذكر الله، ويأكل ويأتي أهله باسم الله، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحب ويبغض في الله، ولا يصرف دقيقة من دقائق حياته الغالية إلا بما يعود عليه بالنفع في الدار الآخرة.
فهذا هنيئاً له هذا المسير، وليس بينه وبين الجنة إلا أن يقف في آخر مرحلة من مراحل هذه الحياة عند جدار يسمى الموت، وهناك يقال له: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
نسأل الله من فضله.(45/3)
أثر مطية الدنيا على من امتطاها
عنوان المحاضرة (هذه الأيام مطايا) والناس راكبون عليها، ينزلون من مطية الليل ويركبون مطية النهار، وينزلون من مطية النهار ليركبوا مطية الليل، ومطية تحمل وأخرى تضع، حتى تنتهي الرحلة، وفي نهايتها يعامل الإنسان على ضوء ما عمل في هذه الرحلة.
هذه الأيام مطايا أين العدة قبل المنايا أين الأنفة من دار الأنايا أين العزائم أرضيتم بالدنايا إن بليَّة الهوى لا تشبه البلايا وإن خطيئة الأحرار لا كالخطايا
يا مستورين ستظهر الخفايا قضية الزمان لا كالقضايا ملك الموت لا يقبل الوساطة ولا يأخذ الهدايا أيها الشاب! ستسأل عن شبابك أيها الكهل! تأهب لعتابك أيها الشيخ! تدبر أمرك قبل سد بابك
يا مريض القلب! قف بباب الطبيب يا منحوس الحظ! اشك فوات النصيب
لذ بالجناب قليلاً وقف على الباب طويلاً واستدرك العمر قبل رحيله وأنت بداء التفريط عليلاً
يا من عليه نُذر الموت تدور يا من هو مستأنس في المنازل والدور لا بد من الرحيل إلى دار القبور والتخلي عما أنت به مغرور غرك والله الغَرور بفنون الخداع والغرور
يا مظلم القلب وما في القلب نور الباطن خراب والظاهر معمور إنما يُنظر إلى البواطن لا إلى الظهور لو تفكرت في القبر المحفور وما فيه من الدواهي والأمور كانت العين منك تدور
يا من يجول في المعاصي قلبه وهمه يا معتقداً صحته في ما هو سقمه يا من كلما زاد عمره زاد إثمه يا قليل العبر وقد دق عظمه يا قليل العقل وقد تيقن أن القبر عما قليل يضمه كيف نعظ من قد نام قلبه لا عينه وجسمه
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم، قد كبلتك خطيئتك.
وقيل لـ ابن مسعود رضي الله عنه: [ما نستطيع قيام الليل، قال: قيدتكم خطاياكم].
قال الأصمعي رحمه الله: خرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام، وزيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا أطوف بالكعبة بالليل، وكانت ليلة قمراء، إذ أنا بشاب ظريف الشمائل، حسن الوجه، عليه أثر الخير، وإذا هو متعلق بأستار الكعبة ويقول: [إلهي وسيدي ومولاي! غارت النجوم، وهدأت العيون، إلهي! أغلقت الملوك أبوابها، وقامت عليها حجابها، وبابك مفتوح للسائلين، جئت أنتظر رحمتك يا كريم] فما زال يردد هذا الدعاء حتى وقع مغشياً عليه، قال: فدنوت منه فرفعته فإذا هو زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، قال: فبكيت لبكائه، فوقعت قطرة من دمعي على خده فأفاق، وقال: من هذا الذي شغلني عن ذكر مولاي؟! فقلت له: يا ابن بنت رسول الله، أنا الأصمعي، فما هذا البكاء وما هذا الجزع؟ أليس الله يقول فيكم أهل البيت: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب:33]؟ فقال: [هيهات هيهات يا أصمعي، إن الله خلق النار لمن عصاه وإن كان حراً قرشياً، وخلق الجنة لمن أطاعه وإن كان عبداً حبشياً] قال: فتركته على حاله ومضيت.(45/4)
تُعرف حقيقة الدنيا بما يأتي بعدها
أيها الإخوة! هذه هي الدنيا، شباب ونضرة، ثم شيخوخة وهرم، قصور بعدها قبور، ونور بعده ظلام، وأنس بعده وحشة، وسعة في المنازل بعدها ضيق في القبور، ونعيم وطعام وشراب ولباس ولكن تنتهي أيام هذه الحياة، يقول الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207].
هب أنهم تمتعوا بكل متاع، وتلذذوا بكل لذائذ الدنيا، ولكن ماتوا وقابلوا ربهم والله ساخط عليهم، فماذا يبقى معهم من النعيم، إن النعيم واللذائذ تفنى وتذهب وتبقى آثامها وتبعاتها، وإن الطاعات والمعاناة في إتيانها تذهب وتنتهي ويبقى ثوابها وأجورها، فلا تغتر يا أيها الأخ في الله! وأنت تسير في مراحل هذه الحياة، لا تغتر بالمعوقات والمثبطات، بل اسلك سبيل الصالحين، ولا يغرك قلة السالكين، واحذر من طريق الهالكين، ولا تغتر بكثرة السالكين {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116].
اسلك السبيل الواضح الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، مستقيماً لا عوج فيه، ولا انحناءات ولا التواءات، بل محجة بيضاء ليلها كنهارها، ليس فيها غبش ولا ظلمة، لا يزيغ عنها إلا هالك.(45/5)
صراط الله واحد، وسبل الشيطان متعددة
يقول الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153] فالصراط واحد، والسبل المؤدية إلى النار كثيرة، أما الطريق المؤدي إلى الجنة واحد، ولكنه طريق متعدد المسارات، والناس يتسابقون فيه من كل مسار، والنهاية الجنة.
أما طريق النار فهي سبل ملتوية، وطرق متعددة على رأس كل منها شيطان، يزين للناس ويضلهم ويمنيهم، ويعدهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً.
وأنت أيها المسلم في هذه الحياة تقف الآن على مفترق طرق: طريق الجنة وطريق النار، طريق الجنة قد نصبت لك أعلامه، ولاحت لك علاماته، وعليه لوحات إرشادية، بينها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللوحات الإرشادية التي على طريق الإسلام والجنة لوحات عظيمة، مكتوب فيها: الطريق فيه شيء من الصعوبة؛ أشواك، وحجارة، ومطبات وغيرها، ولكن نهاية هذا الطريق جنة عرضها السماوات والأرض، فيها (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) فيها السرور والحبور، فيها القصور والحور، فيها أنهار اللبن والخمر والعسل وماء غير آسن: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] هذه طريق الجنة، وفي الطريق نوع من المعاناة؛ لأنها حفت بالمكاره: بالجهاد بالصلاة بالصيام بالزكاة بالحج بغض البصر بحفظ الفرج بصون السمع بحفظ اللسان بترك الحرام بفعل الطاعات.
لكن المؤمن إذا سار على هذا الطريق فإنه مأمور بالجدية، وبالمثابرة وبالتقوى، بحيث لا يضع يده ولا قدمه إلا في الطريق الصحيح، وهذا معنى التقوى: أن يشمر ويتقي الله.
ليل نهارٍ، وشهراً وسنة، وسنة بعد سنة، حتى يقف عند جدار الموت، ويقال له: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:70 - 72] ماذا تظن الجنة؟ حوش بقر! تريد اثنين وسبعين حورية، وملكاً ينفذه بصرك مسيرة مائة عام، وأن تنظر ببصرك إلى وجه الرحمن، وتسمع بأذنك خطابه، ويكون لك في الجنة قصور من ذهب ومن در مجوف، ومن تحت قصورك أنهار تجري تريد كل ذلك بالمعاصي والذنوب، وبالأماني والكذب، لا والله.
يقول ابن القيم رحمه الله:
والله لو أن القلوب سليمة لتقطعت ألماً من الحرمان
لكنها سكرى بحب حياتهاالد نيا وسوف تفيق بعد زمان
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحد لا اثنان
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد بين الأراذل سفلة الحيوان
يا سلعة الرحمن كيف تصبر الـ خطاب عنك وهم ذوو إيمان
يا سلعة الرحمن لولا أنها حجبت بكل مكاره الإنسان
ما كان عنها قط من متخلف وتعطلت دار الجزاء الثاني
لكنها حجبت بكل كريهة ليصد عنها المبطل المتواني
وتنالها الهمم التي ترنو إلى رب العلا في طاعة الرحمن
هذه امتحانات! وكلما كانت الرتبة أكثر كان الامتحان أصعب، أليس كذلك؟! الآن امتحانات الثانوية هل هي مثل امتحانات أول ابتدائي؟! وامتحانات الابتدائية هل هي مثل امتحانات الجامعة؟! كلما كانت العطية والغنيمة أكبر، كانت الأسئلة أكثر، لماذا؟ حتى لا يصل إلى هذا المكان إلا الأهل والكفء، أما لو أنها لمن جاء فكل واحد يريدها، لكن لا بد من الامتحان، ولا بد من الاختبار: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] أي: ليختبركم أيكم أحسن عملاً {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف:7] هذا الطريق الأول، طريق الجنة وفي هذا الطريق مع الصعوبة والمعاناة أربعة أعداء متربصون بهذا الإنسان:
إبليس والدنيا ونفسي والهوى كيف النجاة وكلهم أعدائي(45/6)
عداوة إبليس للإنسان
أما إبليس فعداوته أزلية قديمة قدم الإنسان، منذ خلق الله آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، فرفض الشيطان أن يسجد حسداً لآدم وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء:61] وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين} [الأعراف:12] فالله عز وجل لا يخطئ في حكمه {وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70] {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54].
إبليس نظرته مقلوبة، ورأيه منكوس، يقول: النار تأكل الطين فهي أفضل من الطين؛ فلا ينبغي أن تسجد النار للطين، قال الله له: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص:77 - 78] ما زنا، ولا سرق، ولا لاط، ولكن خطّأ الرب، وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين} [الأعراف:12] قال: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص:77 - 78] {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] ثم قال: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16] أي: لأزينن لهم في الأرض، وقال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] قال الله لآدم: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه:117] {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35] لا تقربا هذه الشجرة، كلا من كل ثمار الجنة، ولكن: من أرادها كلها أو حرمها كلها.
ولكي تعرفوا كيف يأتي إبليس إلى الواحد منا، جاء إلى أبينا آدم، وآدم أحبَّ الخلود في الجنة؛ لأنه ليس من أهلها بالأصالة، بل هو خلق طارئ غريب، وليس من الملائكة، وإنما هو قبضة من التراب، ونفخة من الروح من السماء، فيخاف الغريب باستمرار أنه يخرج من هذه الجنة، يريد داراً مملوكة له.
فأتاه إبليس من هذا الجانب وقال له: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20] وبعد ذلك حلف لهما: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] ولهذا لا تطع كل من يحلف لك أنه ينصحك؛ لأن إبليس حلف أنه ناصح وهو كاذب، وما كان آدم يظن أن أحداً يحلف بالله فاجراً، وبعد ذلك قال: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] إذا أكلت من هذه الشجرة تصبح من الملائكة! ولا تخرج منها! {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:22] أي: بمكر وكيد وخديعة ودهاء {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [الأعراف:22] كل شجر الجنة أكله لا يترك أثراً إلا رشحاً كالعرق وله ريح المسك، إلا هذه الشجرة من يأكل منها لابد أن يخرج منه أذى، ولذا قال الله لآدم: لا تأكل منها من أجل ألا تخرج أذى، وجاء الشيطان بعد أن أكل {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:27].
قال الله عز وجل: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:123] انزلوا جميعاً، فالعداوة ابتدأت في الجنة وانتهت بالاستقرار في الدنيا، والله يقول: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:123 - 126].
نزل آدم إلى الدنيا ورأى الدار غير الدار، كان عهده بالجنة وما فيها من الحور والقصور والأنهار، وإذا به يأتي إلى هذه الدنيا الدنيئة الحقيرة التي لم ينظر الله إليها منذ خلقها، والتي لا تزن عند الله جناح بعوضة، كما جاء في الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) دنيا تافهة حقيرة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيها: (ما الدنيا في الآخرة -أي: نسبتها- إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم -أي: في البحر- فلينظر بم ترجع) ترجع بنقطة، هذه النقطة هي الدنيا والآخرة، ونحن نتطاحن عليها، ونضيع ديننا في هذه النقطة، ونتذابح ونتناحر في جناح البعوضة، ونترك جنة عرضها السماوات والأرض.
نزل آدم ورأى الدار غير الدار فصحح الوضع، قال الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121 - 122] تاب ورجع.
قال ابن القيم: (فحي على جنات عدن) يقول: أنت لست باقياً في هذه الدار، ولست مخلوقاً من أجل هذه الدار، نحن أصلنا في الجنة، وديارنا ومنازلنا في الجنة، وزروعنا وثمارنا وأنهارنا وزوجاتنا في الجنة، لكن العدو أخرجنا منها ولا بد من أن نرجع، يقول:
فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطت به أوطانه فهو مغرم
وأي اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تحكم
يقول: إن الغريب إذا فارق بلاده ودياره فإن قلبه يتعلق بدياره حتى يعود إليها، مهما تمتع في الدار التي هو فيها، لا يريد إلا داره، وكذلك قلوب أهل الإيمان معلقة بالجنان، يعيشون بأجسادهم في الأرض وأرواحهم في السماء، أرواحهم تحلق في العرش، يريدون العودة إلى دار الكرامة والسعادة، نسأل الله من فضله.(45/7)
تحذير الله لنا من عداوة الشيطان
إبليس هو أول عدو في طريق المؤمنين إلى دار السلام، نبه الله على عداوته، فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] لكن الحقيقة المرة: أن أكثر الناس اتخذه صديقاً، يقول بأن الشيطان عدوه، ولكنه في الحقيقة صديقه، يأمره الله بقراءة القرآن، ويأمره الشيطان بالغناء فيستمع الغناء ويترك القرآن، أليس هذا حقيقة؟!! ولو أجرينا استفتاء أو إحصائية لمن يستمع القرآن ويداوم عليه باستمرار، ومن يستمع الغناء ويداوم عليه باستمرار، لوجدنا فارق النسبة كبيراً بين من يستمع الأغاني ويترك القرآن، وإذا قلت له: الشيطان عدوك أم صديقك؟ قال: الشيطان عدو لي لعنة الله عليه، عدو لكنه راقد فوق رقبته! عدو لكنه يقوده ويوجهه! يلف بك على كل شر عنده، ما هو عدو لك بل صديق، الشيطان يأمر بالربا والله يأمر بالبيع، قال الله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] ولكن تجد سوق أرصدة المسلمين في بنوك الربا وتجدها بالمليارات ويرابون ويقولون: هذا ليس ربا، هذه فوائد، وهي في الحقيقة خسائر ونكبات ودمار؛ لأن الله ما أذن على صاحب ذنب كما أذن على صاحب الربا، وكيف تحارب ربك والله غالب على أمره.
تخرج بعماراتك وسياراتك ودكاكينك وأكياسك ورتبتك تحارب ربك، لو سلّط عليك جندياً من جنوده البسطاء ما تقدر له.
سلط الله على النمرود بعوضة كجندي بسيط من الجنود، دخل من أنفه واستقر في دماغه وامتص دمه، وتربى على مخّه حتى أصبحت كالحمامة في رأسه، وكانت تضطرب باستمرار، فدخل عليه رجل من خدامه وعبيده قال: اضرب رأسي، فضرب رأسه بالسيف فشقه نصفين، ونزل السيف على جناح البعوضة فكسره، فقالت: ربي دخلت بطاعتك، والآن انكسر جناحي، قال: تريدين دية أم تريدين جناحاً؟ قالت: ما هي الدية؟ قال: مثل الدنيا منذ خلقتها حتى أفنيها، قالت: ما أريدها، أريد جناحي، وإذا الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة.
أنت ضعيف تحارب خالقك! قال الله عز وجل: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] يعني الذي يرابي قد أعلن الحرب على الله، والحرب قائمة الآن بينه وبين الله، ولكن الغلبة لمن؟! لله، من الذي يستطيع أن يغلب ربه؟!!(45/8)
مزالق أوقعنا فيها الشيطان
الآن أوروبا وأمريكا التي تمردت على الله، واستباحت حرماته، سلط الله عليها جنداً من الجنود الذين قال الله فيهم: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفتح:4] جندي بسيط لا يرى بالعين المجردة ولا بالتيلسكوب ولا بالمجهر الإلكتروني، هذا الجندي شبحه الآن يزعزع أمريكا وأوروبا ويخوفهم ويرعبهم، عجزت جامعاتهم، وكليات الطب فيهم، وأطباؤهم، بل يموت الطبيب وهم يرونه ولا يصنعون له شيئاً، هذا الجندي اسمه (الإيدز) وما أدراك ما الإيدز؟! أين كان هذا؟ الإنسان موجود من زمان، لماذا ما وجد مع الإنسان مثل ما وجدت الأمراض مع الناس؟! إن هذا جندي جديد من الجيش، من أفراد قوات الصاعقة الربانية، إنه بسيط لا تراه أمريكا حتى تحاربه، يدخل في الجسد فتنهار المقاومة ويموت الإنسان وينتهي، لماذا؟ عقوبة ودمار من الله للإنسان، فالذي يرابي يعلن الحرب على الله.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح عند البخاري عن سمرة بن جندب رضي الله عنه، في حديث الرؤيا الطويل لما جاءه الملائكة قال: (قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا، فأتينا على رجل يسبح في نهر من دم) وتصوروا نهراً من دم، أنت الآن إذا ذبحت ذبيحتك، وطاش الدم في يدك تقززت حتى تغسل يديك، وهل تأكل والدم في يديك؟! وإذا كنت ملطخاً بالدم فماذا تصنع؟! فكيف بمن يسبح في الدم (فإذا رجل يسبح في الدم، وآخر على طرف النهر وعنده كومة من الحجر وذاك يسبح إليه، فإذا قرب منه فتح فاه فرجمه في حجر وبلع الحجر في بطنه ثم يذهب إلى هناك ويرجع، فقلت: من هذا؟ قالا لي: انطلق انطلق -وفي نهاية الحديث- قال: أما الرجل الذي يسبح في الدم فهو آكل الربا).
وفي مسند أحمد يقول صلى الله عليه وسلم: (لأن يزني الرجل بست وثلاثين زنية في الإسلام أعظم من درهم يصيبه من الربا) وعند ابن ماجة يقول صلى الله عليه وسلم: (الربا بضع وسبعون حوباً، أدناه ذنباً كأن ينكح الرجل أمه) وهذا أقل شيء، والآن يمارسه المسلمون إلا من عصم الله، أعلى شيء أن تأتي بأموالك وتقول: أريد عليها ربا، أو فائدة، أو كما يسمونها عمولة، أو تكاليف موظفين، يخففون الاسم ويستبيحون محارم الله بتغيير المسميات.
يسمون الخمور مشروبات روحية، كيف مشروبات روحية؟! الروح شرابها من هذا الخمر؟! الروح غذاؤها من الله، لكنهم عكسوا المسألة وقالوا: الخمر مشروبات روحية، ويسمون الزنا الذي يقول الله فيه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] ويقول فيه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] ويقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما عصي الله بذنب بعد الشرك أعظم من نطفة يضعها الرجل في فرج لا يحل له).
يسمون الزنا علاقات جنسية، ويسمون السحر وألعاب السيرك ألعاباً بهلوانية، يأتون بساحر كذاب ويأخذ سيخاً ويركزه في الأرض ويحنيه إلى عينه ويخيل إلى الناس أن هذا المنتصب سيخ حديدي وهو في الحقيقة حبل، ومرة من المرات دخل رجل من الموحدين على مثل هذا الساحر وقال له: أنت تقول إن عينك تستطيع أن تثني سيخاً حديدياً طوله (16) ملي، وفعلاً يضعه أمامه ويضعه على عينه حتى يثنيه مرة ثانية بعينه، فقال له: نعم، قال له: إصبعي أقوى أم السيخ؟ قال: السيخ أقوى، طبعاً السيخ تدقه لا ينحني إلا بقوة فظيعة جداً، لكن الإصبع ممكن تنحني، قال: تدري ما نريدك تحني السيخ، أريد إصبعي تحنيها فقط، قال: لا.
ما أقدر، فتفله في وجهه وطرده، لأنه دجال كذاب ساحر فيسمونها ألعاباً بهلوانية.
ويسمون نكاح اليد بالعادة السرية، فالذي يرابي هذا ما اتخذ الشيطان عدواً، بل اتخذه صديقاً، والذي يترك الزواج وكلما أخذ إجازة خرج إلى خارج المملكة، لماذا؟ قال: أريد أن أكمل ديني، يذهب هناك يكمل دينه، ويأتي وقد أصبح في جهنم، أول ما ينزل في أي بلد يسأل، في سيرلنكا وفي الدول الخبيثة المجرمة، يأتي من أرض الحرمين ليأخذ عمرة، نسأل الله أن يأخذ عمره أو يتوب عليه، تترك المقدسات والحرمين الشريفين، تترك مكة المكرمة ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، والله يخرجون لا يذهبون إلى العمرة في العشر ولا إلى قيام الليل في العشر الأخيرة، وإنما يذهبون إلى خارج الديار ليزنوا، وليخرجوا على الآداب والقيم والمفاهيم الإسلامية.
هذا ما اتخذ الشيطان عدواً وإنما اتخذه صديقاً.
والله حذرنا من الشيطان، فقال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61] وقال لنا في آية أخرى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف:50] بئس والله أن تبدل ربك بشيطانك، ربك الذي خلقك وأخرج إبليس من أجلك، تذهب تصادق إبليس وتترك ربك، أين عقلك؟! لماذا أخرج الله إبليس؟! لأنه ما سجد لك، فطرده الله إكراماً لك، وبعد ذلك عندما أطعت الشيطان، وخرجت من الجنة ونزلت إلى الأرض، قال الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه:117] ثم تأتي تطيع الشيطان، قال الله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف:50].
وبعد ذلك عدو له صفة متميزة، عدو لا تراه، وهذه المشكلة فيه قال عز وجل: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] إذا كان عدو أمامك تستطيع أن تحاربه وتتقيه وتحاول أن تفتك به؛ لأنك تراه، لكن ما الحيلة في عدو لا تراه وهو يزين لك، يجعل القبيح حسناً، والحرام حلالاً، والخير شراً، والشر خيراً، والزنا جميلاً، والغناء جميلاً، والصلاة ثقيلة، والقرآن مزهداً، والدين معقداً، هذا هو الشيطان، وهذا هو إبليس يقلب لك الحقائق!(45/9)
مداخل الشيطان على ابن آدم وموقفه منه
موقفك منه التشمير لعداوته، والتصدي له بالاستعاذة بالله من شره، متى تستعيذ بالله من شر الشيطان؟ في أربع حالات:(45/10)
الباب الأول: عند ورود أمر الله
إذا كنت نائماً وسمعت المؤذن يؤذن لصلاة الفجر والجو بارد والفراش وثير والزوجة بجوارك جميلة، والمؤذن يقول: الله أكبر! والشيطان يقول: لا.
النوم أكبر، وهو لا يقولها لك لكنها في إحساسك وذهنك، ثم يقول المؤذن: الله أكبر، ثم يأتي الشيطان ويقول: الفراش أكبر، الزوجة أكبر، لا يزال هناك وقت!! ماذا يسمى هذا؟ أذان إبليس، وهذه إيحاءات الشيطان، فما موقفك؟ تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200] إذا كنت نائماً وهذه الصراعات تتجاذب نفسك فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، واقفز من فراشك كما يقفز الأسد، لا تقم بهدوء لأنك إذا قمت بهدوء يلحقك إبليس، والله إن بعضهم يلحقه إلى الحمام ويرده ليركب عليه ويبول في مسامعه؛ لأن الإنسان إذا نام عن صلاة الفجر كما جاء في الحديث: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل ينام الليل ولا يصلي الفجر في المسجد، قال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه) أي لغمه، ما رأيكم في واحد لغمه الشيطان إلى مسامعه، كيف يصبح هذا؟ يصبح شيطاني، لأن الوقود من الشيطان، لا يسمع كلاماً طيباً ولا يتكلم كلاماً طيباً، ولا ينظر إلى طيب، لماذا؟ لأنه مزود بالوقود الشيطاني.
فأنت إذا كنت جالساً في فراشك وتتقلب وسمعت الله أكبر، فأول شيء تقوله بعد فتح عينيك: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور، أصبحت على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص وعلى دين نبينا محمد وملة أبينا إبراهيم، اللهم ابعثني إلى كل خير، واصرفني عن كل شر، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم قم كالأسد، وهنا تنحل عقدة، كما جاء في الحديث: (إذا نام العبد حضره الشيطان وعقد على ناصيته ثلاث عقد) ثلاثة أقفال حتى لا تصلي الفجر، ورباط مقيد لا يربط بهدوء، لا بل يربط ربطاً لا ينفك إلا بالأمور الثلاثة هذه قال: (فإذا ذكر الله وقام انحلت عقدة) يعني: انفك القفل الأول (فإذا دخل وتوضأ وخرج وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون انحلت عقدة ثانية) وينفك القفل الثاني، ولكن بقي واحد فانتبه، فإذا خرجت إلى المسجد وذكرت الله عند بابك وتقول حين تخرج: باسم الله توكلت على الله اعتصمت بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أبغي أو يبغى علي، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي، اللهم ابعثني إلى كل خير، اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، ومن أمامي نوراً، فتدعو بهذه الأدعية، ثم تذكر الله بأذكار الصباح إلى أن تصل المسجد، فتدخل المسجد وتقدم رجلك اليمنى وتقول: باسم الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك، اللهم صل على محمد، ثم تأتي وتصلي ركعتي الفجر، ثم تجلس فتقرأ القرآن، ثم تصلي بحضور قلب، ثم تقرأ بعد الصلاة الأذكار النبوية المشروعة، ثم إن كنت من أهل جلسة الفجر، من أهل العمرة والحج التامة التامة فتجلس، وإن كنت من أهل التصفير والتحضير والنوم، فارجع ومعك خير وقد انحلت عقدك الثلاث، وتصبح عبداً في حفظ رب العالمين، كما جاء في الحديث الصحيح: (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي).
معنى في ذمة الله أي: في عهده وأمانه، ولو عشت ذاك اليوم فتعيش مع الله، وإن مت فإلى الجنة، نعم، معقول يدخلك الله النار وأنت في أمانه وفي عهده وذمته، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله).
فالشيطان يمكر ببعض الناس الطيبين ويقول لهم: قوموا الليل، فإذا قاموا الليل رقدهم عن صلاة الفجر، وبال في مسامعهم، والله ما نفعك قيامك؛ لأن قيام الليل نافلة، وصلاة الفجر فريضة، وأعظم شيء تتقرب به إلى الله هو الفريضة.
(ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) أحب شيء إلى الله الفريضة، وبعد ذلك، عندما تحافظ على كل الفرائض تأتي وتتحبب إلى الله بالنوافل قال: (وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه) وهنا أصبحت العلاقة بينه وبين الله قائمة، إذا سأل أعطى، وإذا استغفر غفر له، وإذا استعاذه أعاذه (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن؛ يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد له منه).
هذا العدو اللدود -الشيطان- عند ورود أمر الله عليك مباشرة تستعيذ بالله منه.
وعندما تأتي تخرج زكاة مالك فتعد الأموال ويأتي الشيطان، مثلاً: عندك مليون ريال، والمليون فيها خمسة وعشرون ألفاً، لا يأتي الشيطان ويقول: والله باقي بركة تسعمائة وخمسة وسبعون ألفاً، بل يأتي ويقول: خمسه وعشرون ألفاً، تخرجها كلها! هذه تشتري بها سيارة والله غفور رحيم.
فيجعل لك الكبير هو الذي تخرجه لله، والصغير هو الذي يبقى لك، لكنك إذا سمعت مثل هذا الإيحاء قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اخسأ يا عدو الله، وإذا دعيت للإنفاق في سبيل الله، مثلاً للجهاد وللمجاهدين الأفغان؛ لأن مساعدتهم ليست نافلة علينا بل واجبة، ليس لك خيار في مساعدة إخوانك الذين يواجهون الرصاص بصدورهم، ويلتحفون السماء ويفترشون الأرض، خاصة هذه الأيام، أنت الآن في بيتك مكيَّف بالمكيف، وعندك ثياب شتوية وملابس داخلية وعباءة والدفاية والزوجة، تخرج من البيت إلى المسجد كأنك من رجال الفضاء ما تجد الرياح إلى وجهك طريقاً، وبعد ذلك مملوء بالطعام، تدخل البيت على فراش ارتفاعه نصف متر، وتتقلب على هذا الفراش ثلاثة أمتار في ثلاثة أمتار، وتتبطح من طرفه إلى طرفه، ولك إخوان يعيشون على قمم الجبال، والثلوج تقطِّع أبدانهم.
يقول لي أحد الإخوة الذين ذهبوا هناك: والله إنهم لا يلبسون إلا الثياب البيضاء التي نسميها نحن (لاس) يقول: والله إنها ملبدة بالثلج، وإن بعضهم لا يكاد يحرك يده أو أصابعه من البرد، ولكنه يذكر الله ومع الله، ثم ماذا يأكلون؟! يأكلون الرغيف الجاف، ينقعه في الماء ويدقه ويأكله، ولا فراش ولا ثلاجة ولا مكيف، ثم أين هو جالس؟! جالس تحت أزيز الطائرات والقنابل تنفجر عند رأسه، والمدافع ترميه وهو يزحف على بطنه حتى يذهب ويزعزع أعداء الله، وحق له ذلك والحمد لله، روسيا الدب الروسي الذي دمر العالم وأرهب واجتاح دولة المجر في ست ساعات، لكن تسع سنوات والمجاهدون الضعاف الذين لا يملكون شيئاً حتى السلاح إلا من أيدي أعدائهم ركع الروس على الأرض وانسحبوا صاغرين خائبين بسبب قوة الإيمان.
ولهذا نقول لجيوشنا ولحرسنا ولقواتنا: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] لا ينصرنا إلا الله، فلا نستطيع أن ننتصر على أعدائنا بقوة السلاح فحسب؛ لأنه يملك مثل ما نملك بل ربما أكفأ، لكن السلاح الفتاك الذي نملكه ولا يملكه العدو هو سلاح الإيمان، وإذا استعملنا هذا السلاح والله ما تقوم لنا الدنيا كلها بأسرها ولماذا؟ لأن الله معنا، ومن كان الله معه، فلا يهزم، يقول عمر رضي الله عنه في رسالته إلى قواد الجيوش الإسلامية، يقول: [والله إني أخشى عليكم من الذنوب والمعاصي أعظم مما أخشى عليكم من الأعداء، فإنما نقاتل بالله].
وأرسل نجدة إلى القعقاع بن عمرو وقال: [إن جيشاً فيه القعقاع لا يهزم] وكان القعقاع من العباد.
كان محمد بن مسلمة في المعركة ومعه محمد بن واسع إمام من أئمة العلم، فكان محمد بن واسع في الليل يقوم وفي النهار يدعو، فيقول محمد بن مسلمة: [والذي نفسي بيده! إن إصبع محمد بن واسع أعظم عندي في الجيش من ألف شاب طرير، ومائة ألف سيف شهير] يقول: ما أريد شباباً أقوياء وسيوفاً مع معصية وكفر وزندقة وإلحاد، هؤلاء لا ينصرهم الله، نقول لجيوشنا ولحرسنا ولقواتنا: عليكم بطاعة الله واحذروا من معصية الله، فإن المعاصي تنخر أديانكم، والذنوب تدمر إيمانكم، وبعدها لا يصبح لكم شرف الرباط في سبيل الله، لأنكم اليوم تعيشون أعلى درجة من درجات الجهاد وهو الرباط، أنتم على ثغور الدين، والمقدسات، تذودون بنحوركم عن دين الله عز وجل، فإذا احتسبتم النية لله وأصلحتم العلاقة بينكم وبين الله كنتم مرابطين في الدنيا، وإذا متم على الفراش أو بالشهادة أنزلكم الله منازل الشهداء، أما إذا عشنا على المعاصي والذنوب وأصبحنا مرتزقة، فقط همُّ الواحد منا الراتب في آخر الشهر، والثلاجة تكون مملوءة، والفلة مكيفة وجميلة، وبعد ذلك لا عبادة ولا صلاة، فهذا خزي ودمار وعار ولن ينصر الله الدين بمثل هذه الأشكال.(45/11)
الباب الثاني: عند ورود المعصية
إذا مرت عليك معصية من المعاصي فإن الشيطان يقوم بدور الوسيط في سبيل إضلالك بهذه المعصية، تخرج إلى السوق وتمر امرأة كاشفة متبرجة ويقع بصرك عليها، فيأتيك الشيطان ويقول: انظر، ولكن إذا جاءك هذا الشعور قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
شكا إلي شاب من الشباب هداه الله والتزم، وجاءني في يوم من الأيام إلى المسجد وقال لي: يا شيخ! الحمد لله كل شيء طيب وأنا استطعت أن أتخلص من كثير من الذنوب، ولكن بقي شيء صعب عليَّ، إذا خرجت إلى السوق أو رأيت امرأة أحس أن قوة خارجة عن قوتي تلف رأسي غصباً عني إليها، إبليس ماسك (الدركسون) يلفه مع المرأة، كيف أصنع؟ قلت له: أعطيك علاجاً ولكن تعمل به؟ قال: ما هو، قلت: إذا أحسست بهذه القوة قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فذهب الرجل وبعد يوم جاءني، وقال لي: جزاك الله خيراً، قلت له: ماذا بك؟ قال: والله ذهبت أجرب هذه الليلة، وذهبت إلى السوق لأشتري أغراضاً فرأيت امرأة فغضضت بصري خوفاً من الله، ولكن شعرت أن هناك ما يجذبني نحوها فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا بي أنجح.
يقول الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200] إذا جئت في الليل وأنت نائم، تمر يدك في مؤشر الراديو على أغنية من الأغاني وأنت تعرف هذه الأغنية من الماضي والشيطان يحببها لك، فلا تقف عندها بل أسرع بيدك واهرب من إبليس وقف على إذاعة القرآن الكريم وقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وإذا سلمك أمين الصندوق الراتب وأعطاك ستة آلاف أو سبعة آلاف وعددتها وإذا بها زائدة مائة ريال، وعددتها مرة ثانية وثالثة وإذا بها زائدة مائة ريال، والشيطان يقول: حق الحكومة، يا رجل! الناس يأخذونها (بالكريكات) وأنت هذه فقط! من مال الحكومة! لا.
ليست هذه من مال الحكومة، بل مال هذا أمين الصندوق، وأمين الصندوق يدفعها من راتبه، كما أن مال الحكومة أيضاً ليس حلالاً، بل من أعظم الحرام، وإذا أخذته يكون من الغلول الذي يقول الله فيه: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (لا ألفين أحدكم يأتيني يوم القيامة وعلى رقبته بعير له رغاء، يأخذه من بيت مال المسلمين، فيقول: أغثني) يريد أن يأخذ الجمل من على رقبته؛ لأن الله تعالى يقول: {يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام:31] فشيء تأخذه اليوم تحمله يوم القيامة، (فيقول: أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يأتيني يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء) شاة أخذها من مطعم، أو التغذية عشرة كباش كل يوم، لكن يذبح ستة والباقي للجيب الخاص، هذه كلها مقيدة مربوطة إلى أن تموت، يربطها الله في رقبتك كلها ويدخلك بها النار، (فيقول: أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يأتيني يوم القيامة وعلى رقبته رقاع تخفق) يقول المفسرون: رقاع تخفق أي الملابس، بدلة أو كوت أو فنيلة أو شراب ليس لك، أي: لم يسلم لك، ولكن أنت أمين المستودع تُلبِس الجماعة كلهم، وتلبس بناتك وعيالك كلهم، هذه كلها تأتي بها يوم القيامة في رقبتك، والله لو دبوس واحد أو قلم أو ورقة تحضرها.
أحد السلف مات، فرؤي بعد موته فقيل له: ما صنع الله بك؟ قال: غفر لي، غير أني محبوس عن الجنة بإبرة استعرتها ولم أردها.
فهو لم يسرقها ولكن فقط استعارها ولم يردها، كيف بالذي يأخذها من بيت مال المسلمين؟!! يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في البخاري في قصة غلام اسمه كركرة في معركة من المعارك جاءه سهم فمات، فقالوا: هنيئاً له الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي غلها من المغانم -لم تصبها المقاسم- لتشتعل على ظهره في النار).
قال العلماء: إن هذه الشمله تساوي درهمين، فجاء رجل وقال: (يا رسول الله أخذت شراكين -شراكين من حق الغزو- فقال: شراكين من نار) مال الحكومة ليس سهلاً، لا تأخذ شيئاً من بيت مال المسلمين، مما أسند إليك ولو ورقة ولو قلماً ولو دبوساً، يكفيك راتبك فقط، فإذا جاءك شيطان يقول لك: المائة هذه خذها، قل: لا.
وردها إلى أمين الصندوق وقل له: هذه زائدة وقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.(45/12)
الباب الثالث: في حالة الغضب
الغضب جمرة من الشيطان يشعلها فيك، ولهذا عندما جاء أبو هريرة وقال: (يا رسول الله! أوصني قال: لا تغضب، قال: أوصني، قال: لا تغضب) وأخبر عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم).
أما ترى الإنسان إذا غضب كيف يتحول من إنسانيته إلى إنسان آخر، ترى الإنسان طبيعياً ولكن إذا غضب كيف يتحول، أولاً: تنتفخ عروقه؛ لأن الشيطان دخل منها، ثم تبرز عيونه، ثم يضطرب ويرتعد، ويسب ويشتم ويلعن، وربما يطلِّق ويضرب، وربما يقتل وهو غضبان، فإذا جئت إليه وقلت له: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ما يقولها، يقول: أنت لا تدري ماذا عمل بي هذا، تقول له: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يقول: أنت لا تدري ما عمل، يا أخي! قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، والله لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لجلس.
الغضب أيها الإخوة! باب كبير وواسع من أبواب الشيطان، يهلك الكثير من الناس بسببه، يطلق الرجل زوجته من أجل سبب تافه، ولكن عن طريق الغضب، ثم يندم، فإما أن يذهب إلى العلماء ليستفتي إن كان له فتوى، أو يترك هذه الزوجة ويحطم بيت الزوجية، أو يضيع دينه ويبقى مع زوجته وهي حرام، ويصبح أولاده أولاد زنا، ويأتي زوجته سفاحاً والعياذ بالله، وسبب هذا كله الغضب، بعضهم يقتل أخاه المسلم بسبب الغضب، ثم يندم ولكن بعد فوات الأوان.
كم من واحد الآن في السجن يعض أصابعه العشر ويتمنى أنه ما عرف هذه الحياة، وسبب القتل تافه وبسيط، بعضهم يقتل من أجل كلمة واحدة، ولو أنه مؤمن ومتقيد بآداب الشرع كان إذا جاءه الشيطان من هذا الباب قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
يخبرني أحد المسئولين عن رجل ينتظر الموت ومحكوم عليه بالسيف، وسببه أنه كان يسير في طريق وتجاوزه آخر، فلما تجاوزه رجع إلى الخط وضايقه، فجاء الشيطان ونفخ في هذا الرجل الأخير وقال له: انظر هذا يضايقك يريد أن يقلبك، ولو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يريد أن يقلبني ولكنه ما قلبني، نفخه الشيطان فداس على البنزين ولحقه إلى أن تجاوزه وكان انتقامه أكبر منه، يريد أن يقلبه، ويقوم هذا للمرة الثالثة ويلحقه ويأتيه الشيطان ويقول له: هذا عدوك، وأصبحوا مثل الأطفال، حتى تجاوزه ثم أوقف السيارة واعترضه في الخط ونزل بالمسدس، والتقيا هذا معه مسدس وهذا معه شقوف، فأخرج مسدسه وقتله، وبعد ذلك قبض عليه وجيء به في السجن وهو الآن يموت كل لحظة، ذاك المقتول أخذها على غير موعد ومات، لكن هذا القاتل منذ قبض عليه وهو يموت، ومنذ أن حقق معه وهو يموت، وكل جمعة وهو يموت، وكل ثلاثاء وهو يموت، وعندما يسمع قدم عسكري يموت، وبعد ذلك إذا أخرج للقتل وقيل له: قم اغتسل واكتب وصيتك، وإذا أخذ وربط من يديه وقدميه وركب في سيارة الشرطة وغمضت عيناه وجيء به وأنزل من السيارة ورأى الناس كلهم ينظرون إليه، ونظر إليهم وهم يريدون أن يعودوا بعد لحظات إلى بيوتهم وأزواجهم وأعمالهم وهو يقاد إلى (المقصمة) ثم يجلس ويقرأ عليه الإعلان وهو يسمع، ثم بعد ذلك تأتي الرصاصة لتضرب في ظهره وهو ينتظرها، فرق بين من يموت فجأة، وبين من صدره مفتوح للبندقية ينتظر متى تنفضه نفضاً، ثم تفتح صدره وتخرج رئته وقلبه وكبده أمامه.
وهذا كله عقاب الدنيا، وبقي شيء يشيب الرءوس في الآخرة، هذا كله بسيط قياساً على عذاب الآخرة، يقول ابن عباس عند قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء:93] قال: [كيف أحكم له بالتوبة وهذه من آخر ما نزل في آخر سورة النساء] واختلف أهل العلم في توبة القاتل: فقال بعضهم: لا توبة له، وقال بعضهم: له توبة؛ لأن القتل أقل من الشرك، والصحيح أن له توبة ولكن بشرط: أن يسلم نفسه لولي الدم، أما أن يقبض عليه باضطرار فلا.
بمعنى: أنه إذا قيل له وهو في السجن: هذا الباب مفتوح تريد تجلس وتسلم من عذاب الآخرة، أو تذهب إلى أهلك والآخرة بعد ذلك؟ إن كان جلس وقال: والله ما أخرج.
هذا تاب، وإن كان قال: لا.
والله المرأة والعيال، فهذا كذاب دجال ما تاب.
وأسباب هذه الجريمة والمصيبة أنه تجاوزه بالسيارة، طيب كم نسبة تجاوز الإنسان لك بالسيارة.
كل يوم يتجاوزك، مرة بالسنة أو بالسنين كلها، وإذا أخطأ عليك ودقك، قل له: الله يسامحك وسلم عليه:
لما عفوت ولم أحقد على أحد أرحت نفسي من هم العداوات
إني أحيي عدوي عند رؤيته لأدفع الشر عني بالتحيات
وأملأ الوجه بشراً حين مقدمه كأنما قد حشا قلبي مودات
إذا رأيت عدوك يريد أن يقحمك في المآسي فتبسم، إن شر الناس من تركه الناس اتقاء شره، والحديث في البخاري يقول صلى الله عليه وسلم لما استأذن عليه رجل قال: (ائذنوا له بئس أخو العشيرة).
فأنت يا أخي المسلم! في ساعات الغضب اضبط نفسك وقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
حضرت مرة بين رجلين، وأحدهم معه عصا والآخر معه فأس، وهم عمال في مزرعة وجئت وإذا بهم والشيطان قد شغل (المواطير) كلها، وما بقي إلا أن يعلن البدء، لكن الله عز وجل ساقني لهم في تلك اللحظات، فمسكت الذي رأيته كأن الشيطان (معشِّق) عليه، فمسكته على جنب وقلت له: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
قال: ما تعرف ما صنع بي.
قلت: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
قال: ما علمت يا شيخ! قلت: قل أعوذ بالله.
فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإذا به جلس، والله الذي لا إله إلا هو إن عيناه رجعت، وعروقه هدأت وجلس، وقمت لذاك وإبليس راكبه، فقلت: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
قال: ما علمت هذا ما صنع.
قلت له: قل أعوذ بالله، فكررتها عليه ثلاثاً وأربعاً، حتى قالها فجلس فلما جلس قاما وتصافحا، قال: يا شيخ! أرأيت الشيطان كيف كان يورطنا، جزاك الله خيراً يا شيخ.
{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200].
جاءنا رجل يسألنا في المسجد أنه طلق زوجته بعد صلاة المغرب بالطلاق الثلاث المحرمات ويريد فتوى، قلت له: ما هي الأسباب؟ وأين كنت؟ قال: كنت في الدوام وبعد ذلك معزوم، وما جئت إلا مع المغرب.
قلت: لما دخلت سمّيت الله؟ قال: لا.
والله يا شيخ نسيت.
قلت: دخل معك إبليس؛ لأنك إذا دخلت بيتك فمن السنة أن تقول: باسم الله، وإذا تعشيت تقول: باسم الله، وإذا جئت زوجتك تقول: باسم الله، وإذا لبست نعلك تقول: باسم الله، وإذا رجلت رأسك تقول: باسم الله، لكن إذا سويت شيئاً من غير ذكر الله تراها كلها لإبليس، إذا دخلت دخل معك إبليس، وإذا تعشيت أكل معك إبليس، وإذا جئت زوجتك جاءها إبليس قبلك، ولهذا يصير الأولاد شياطين لأنهم أولاد إبليس، وإذا تدهنت وما سميت تدهّن معك إبليس، فقلت له: هل سميت حينما دخلت؟ قال: لا.
والله.
قلت: دخل معك إبليس، وماذا حصل؟ قال: دخلت وجلست، ولاحظت قمامة في المجلس، انظروا كيف الشيطان يصنع من الحبة قبة.
قال للمرأة: لماذا لم تكنسي المجلس، ما عندك من عمل طوال اليوم؟! قالت: عجيب! تكمل دوامك، ثم تذهب تتغدى عند أصحابك وتتركنا ولا تجينا والآن تزيد تدخل تضارب.
قال: أنتِ ما فيكِ خير.
قالت: بل أنت ما فيك خير.
المهم تشاجرا وتضاربا فصكعها فصاحت وشبت النار وقال لها: أنت طالق، وله ستة أطفال منها، ولد وبنت في المستوى الثانوي واثنين أولاد في المتوسط، واثنين أولاد صغار، قاموا يصيحون، وشبت النار في الأسرة وجاء الرجل وهو يرتعد: دلني يا شيخ، قلت: أعوذ بالله يورطك إبليس إلى فوق رأسك وبعد ذلك تأتي أدلك، ما عندي لك دلالة، ما عندي فتوى في هذا الموضوع، الطلاق بالثلاث، قال: طلاق بالثلاث، لا يفتي فيه أحد إلا شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في هذا الزمان، يفتي فيه ولكن ليس على الإطلاق، انظر المصلحة المرجحة، أما الذي يلعب بالأيمان، هذا دجال، يعزر ويضرب وقلت له: لو كنت في المحكمة وجئتني لجلدتك وعزرتك.
فلا تغضب إذا المرأة غضبت، إذا دخلت وهي غضبانة قل لها: السلام عليكم، كيف الحال ما بك اليوم، واضحك لها، لكن إذا دخلت وهي زعلانة قلت: أكون أنا زعلان أكثر وتقابلتما وصارت مشكلة، لا تغضب أبداً لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب، وإذا رأيت في الطعام شيئاً لا تغضب ولا تسبه اسكت؛ لأنك إذا سبيت الطعام كأن يكون الملح أو الفلفل زائداً.
أولاً: عبت الطعام فهذا خلاف للهدي النبوي؛ لأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما عاب طعاماً قط، إن أعجبه أكل وإلا ترك.
ثانياً: لفت نظر الجالسين، ربما لم يعلموا بالذي علمت به أنت، فإذا لفتَّ نظرهم أصبح عندهم حساسية ضد الطعام هذا وما أكلوا منه.
ثالثاً: أوغرت صدر المرأة المسكينة تتعب لك وأنت تخرب طعامها، ما الحل؟ تسكت، إن أعجبك كل، وإلا قف، قل: أنا شبعان أفطرت اليوم في المكتب فطوراً جامداً، وبعد ذلك عندما تكمل الطعام، تقول للمرأة: حقيقة طعامك اليوم من أروع ما يكون، والله ما أدري كيف سويتيه اليوم، بس ما أدري وأنت تحطي له الملح كأنك غمست الملعقة قليلاً طلع فيه ملح زايد، لكن غداً يحسن أنك تخففي الملح، تقول: والله قد بان لي أنك ما أكلت، أنا آسفة يا زوجي ويا عيالي، وغداً تصلح الطعام من الصباح، لماذا؟ لأنك عالجت الموضوع بحكمة، لكن ما ظنك لو أنك قلت من أول ما ذقته: ما هذا صبيتي الملح كله، أين عقلك؟! ما معك من شغل يا بنت الحرام، جالسة راقدة، أنا أكد وأشتغل وأتعب وأجيء والطعام هكذا، وقام، قالت: الله أكبر عليك يا ذا الجني، وهي قالت: والله ما أذوقه، وقال العيال: والله ما نذوقه، وصار اليوم تعب، وجاء الليل هي زعلانة وهو زعلان، هي في دار وهو في دار، والأولاد زعلانين، وإذا جاء الصباح تقوم تطبخ تسوي الرز، ماذا تصنع ما تسوي فيه ملح بالمرة خائفة من الرجَّل.
فإذا جاء يأكل قال: الملح قليل، أمس ملح زيادة واليوم ما(45/13)
الباب الرابع: عند ورود الشهوة
إن الشهوات التي تأتيك لتفتنك وتسيطر عليك وتدغدغ مشاعرك مثل شهوة المال والمنصب والجاه والنساء أو أي شهوة من الشهوات، هذه إذا رأيت أنك تورطت فيها قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إذا كنت آمراً وتحت يدك مأمورون وجاءتك شهوة الإمرة، تكون نقيباً أو ملازماً أو رائداً، أو مقدماً أو مسئولاً كبيراً وعندك صف ضباط، أو أفراد وجاءك الشيطان ينفخ فيك، يقول: انظر النجوم فوق ظهرك، انظر الضفادع! إذا جاءك تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] قل له: سأدخل القبر بدون بدلة، هل سمعتم أحداً دخل القبر ببدلته، جاء ومعه التيجان، من أجل أن يقولوا له: ما رأيك يا أفندي حساب أم لا حساب، لا والله لا يقولون لك: يا أفندي ولا أبندي! يعرفونك أنك مؤمن أو غير مؤمن، مصلي ومن أهل الإيمان ونعم بك، والله لو على ظهرك (درزن) نجوم ما تنفعك، يقول الله تبارك وتعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] إذا جاءتك شهوة المال والطغيان، وعندما يأتيك المال وتراه شيكات وأرصدة وأموالاً وراتباً، قل له: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:37].
واذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم والحديث في مسند أحمد وهو صحيح قال: (التقى مؤمنان على باب الجنة، مؤمن غني ومؤمن فقير، فلو أنه غني فاجر ليس هناك طريق إلى الجنة؛ لأن تحويله على النار، لكن هذا مؤمن غني من أهل الإيمان- قال: فأدخل الله الفقير لتوه) ما عنده شيء، مثل الذي يريد أن يسافر المطار يريد أن يسافر جدة أو الرياض أو الدمام ويأتي يقول: ما عندي (عفش) وفي لوحة الركاب بدون عفش، أعطهم الورقة ويعطونك البطاقة ادخل الطيارة، لكن هذا الذي عنده عشرين أو ثلاثين (كرتون) ينزلها من السيارة ويحملها على العربيات، ويأتي يقف بها في الصف، وبعد ذلك قسائم وأوراق ويحملها، وما ينزل إلا آخر واحد من هناك ويجلس يرقبها، وهي رحلة بسيطة من هنا إلى مكة أو إلى الجنوب.
لكن رحلتك إلى الآخرة إذا جئت وأنت محمل دنيا، وما عندك عمل صالح، قال: (فأدخل الله المؤمن الفقير لتوه، وحبس المؤمن الغني ما شاء الله أن يحبس) حساب بدون عذاب، سين وجيم، من أين وفين، وهو ما أخذ ريالاً حراماً، ولا صرف ريالاً في حرام؛ لأن مسئولية المال نوعان: مسئولية الأخذ، ومسئولية الإنفاق، فالأخذ يجب أن يكون حلالاً، والإنفاق يجب أن يكون حلالاً، لا تدفع ريالاً في علبة دخان، تأتي يوم القيامة تقول: صرفتها في دخان، ما الدخان؟ كيف تخرجها عند ربك؟ يسألك الملك: ما الدخان؟ غذاء؟ تقول: لا.
شراب؟ لا.
دواء؟ لا.
لباس؟ لا.
ما هو؟ تقول: دخان دخان، حسناً أكمل الدخان هناك في دار الدخان: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10] أعوذ بالله أين عقلك؟! تحرق ريالك وتحرق جيبك، وتغضب ربك وتطرد ملائكته، تأخذ هذا المخزي الخبيث، الناس يتطيبون بالطيب ويشترونه بمئات الريالات وعشرات الريالات، وأنت تشتري بخورك من بول إبليس ومن شجرة الشيطان الرجيم، وتأخذها في علبة وتتبخر بها كل يوم.
لا تصرف ريالاً في حلق لحية، كما يقولون الآن: يأتي الواحد عند الحلاق ويجلس هكذا، يضع له اثنتين عند أذنيه، ويجذب لحيته من الأذن إلى الأذن، وبعد ذلك يدبغه، ويأتي بالصابون وأيدي الحلاق وسخة؛ لأنه ما غسل يديه طوال اليوم، وذاك مستسلم مغمض عينيه! وبعد ما يكمل يضع اللحية عند رجليه! وبعد ما ينتهي يقول: نعيماً، الله لا ينعم عليك، ليس نعيماً بل جحيماً تحلق لحيتك وتقول: نعيماً، وهذا يقول: أنعم الله عليك، ويفتح الحقيبة ويطلع له أبو عشرة، تفضل هذه أجرة حلق اللحية، الله المستعان! ولا حول ولا قوة إلا الله! وعشرة أحاديث صحيحة في البخاري ومسلم والمسند نرفضها: (قصوا الشوارب وأعفوا اللحى) (أكرموا اللحى) (أرخوا اللحى) (أسدلوا اللحى) (خالفوا المجوس).
(خالفوا المشركين) وكلها على جنب ولكن من نتبع ريجن وجورباتشوف الذين لحاهم مجلدة ونحن مسلمون أتباع محمد بن عبد الله نحلق اللحى ونعارض الرسول صلى الله عليه وسلم معارضة قوية، قال: (قصوا الشوارب واعفوا اللحى)، قلنا: لا.
نحلق اللحى ونخلي الشوارب، ترى شنبه كبير فتقول له: ماذا بك؟ يقول: شنب، شنب!! الشنب مأمور بحلقه وبإزالته وتقصيره، لماذا تخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم؟ والله أنك مسئول عن العشرة الريال بين يدي الله يوم القيامة، وبعضهم يقول: ما دام أنا مسئول إذاً أنا أحلقها، أنا أوريكم في لحيتي ويذهب إلى البيت ويشتري له سكاكين ومكائن ويجلس أمام المرآة ويجلد، ويحاربونها، تريد الحياة وهم يريدون لها الموت! كل يوم وهي تريد الحياة ولكن تحارب بالسلاح الأبيض، والله لو حاربنا إسرائيل كما حاربنا لحانا لأنهيناهم؛ لأن الحرب قائمة بيننا وبين اللحى ولا حول ولا قوة إلا بالله! فأنت مسئول عن كل ريال تنفقه، وبعض الناس ما يحلقها هكذا، بل يعمل فيها ديكورات مرة هنا مثل الختم الرسمي، ومرة هنا ويربطها بحبل ومرة يسوي خط إسفلت عرضه اثنين سنتيمتر من هنا ومن هنا! ومرة بعضهم يجعل له شنباً مع اللحية ويخلي فمه مثل الفتحة وسطها، يا جماعة الخير أين عقول المسلمين؟! ما هذا اللعب في وجوهنا ولحانا يا إخواني؟ وأصبحت مهزلة والله، هذه لحية زينك الله بها وجملك بها، وجعلها من أصل تكوينك، يقول الله عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] لو جئنا على واحد قطع نخرته ما رأيكم فيه، هل هو مشوه لنفسه؟ نعم.
كذلك الذي يحلق لحيته يشوه نفسه؛ لأن الله ما أوجدها فيك وأمرك أن تبعدها، وما أمرك الرسول بحلقها، فأنت من الآن جهز الجواب، وإذا جاء يوم القيامة قل: والله كنت أحلق لحيتي بالفلوس هذه، هناك تعلم أن عذراً أقبح من ذنب.
(فالتقى المؤمنان على باب الجنة، فدخل الفقير والغني حبس -حبس بالسؤال والجواب، أتدرون كم حبس؟ حبس خمسمائة عام، ثم دخل الجنة؛ لأن حرام الدنيا عقاب، وحلالها حساب- قال: فدخل المؤمن الغني الجنة، ولقيه صاحبه في داخل الجنة قال: والله يا أخي! لقد خشيت عليك، ما الذي حبسك عني؟ -يقول: يا أخي! خفت أنهم ذهبوا بك الدار الدانية، ما الذي حبسك؟ - قال: حبسني مالي، حبست محبساً سال مني من العرق ما لو أن ألف بعير أكلت من حمض النبات ثم وردت عليه لصدرت عنه رواء).
ألف بعير، والبعير ما يرويه برميل إذا عطش، إذا أكل الحمض الذي يقطع جوفه من العطش ثم وفد على الماء يعبي برميلاً، هذا مقدار شرب ألف بعير هو عرق السؤال والجواب، كيف عرق العذاب؟! عرق العذاب يلجمهم في النار، كما جاء في الحديث: (أن أهل المحشر منهم من يلجمه العرق إلجاماً، ومنهم من يغطيه، ومنهم من يسبح فيه).
فيا أخي المسلم! إذا جاءك المال ورأيته متزخرفاً فاصرفه في سبيل الله، استعن به على طاعة الله {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} [القصص:77] ليس هناك مانع أن تسكن وتركب وتتزوج وتأكل وتكرم الضيف وتلبس ولكن الزائد حوله إلى الآخرة.
أما أن تكنزه وتتباهى وتتعاظم به على المسلمين، فالمال هذا لا ينفع يوم القيامة بل يكون وبالاً على صاحبه في الدنيا والآخرة.
هذه الأربعة الأحوال للشيطان، العدو الأول من الأعداء الأربعة الذين قلت: إنها في طريق الذاهب إلى الله، في طي المراحل على طريق المطايا، أربعة أعداء:
إبليس والدنيا ونفسي والهوى كيف النجاة وكلهم أعدائي
وقد تكلمت في هذا المجلس عن العدو الأول اللدود وهو إبليس.
أما الحديث عن الدنيا فيحتاج إلى مثل هذا المجلس، والحديث عن الهوى يحتاج إلى مثل هذا المجلس، والحديث عن النفس الأمارة بالسوء يحتاج إلى مثل هذا المجلس، ولما كان الوقت ضيقاً فإننا نرجئ ذلك إلى فرصة أخرى بإذن الله، نسأل الله أن يقدرها على خير.(45/14)
الأسئلة
الحمد لله رب العالمين، أولاً: أسأل الله العلي العظيم أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يبقي فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
هذه المجالس المباركة أيها الإخوة! هي مجالس النفحات الرحمانية، والهبات الربانية، ومن يجلس فيها ويتابعها ويحبها ويألفها يحبه الله عز وجل ويألفه، وتعرفون الحديث الصحيح في البخاري ومسلم: (أن لله عز وجل ملائكة سيارة) والحديث بطوله لا أريده لكن الشاهد منه في آخر الحديث قال: (أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول أحد الملائكة: إن فيهم رجلاً ليس منهم، فيقول الله: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
فهذا المجلس نحن نطلب من الله عز وجل أن يرحمنا جميعاً ببركة الصالحين منا وبفضل المؤمنين، وإلا فنحن كثيرو الذنوب والمعاصي، مقصرون في حق ربنا، ولكن نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعل ذنبنا مغفوراً، وعملنا صالحاً مقبولاً، وأن نكون ممن يناديهم الله في آخر الجلسات: أن قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات.
الإخوة المسئولون عن النشاط والثقافة في الحرس يلفتون النظر إلى ضرورة التبرع للإخوة المجاهدين في هذه الليلة، وهناك إخوة سيقفون على الأبواب وعندهم تنظيم رسمي في أخذ هذه المبالغ وإيصالها إلى الجهات المعنية إن شاء الله، وحتى يجتمع لنا الخير كله في سماع العلم والتدليل على أن هذا السماع صحيح، يجب أن نخرج من جيوبنا ما ينفعنا بين يدي الله يوم القيامة، ولنجعل نحن في هذه الليلة المجاهدين ضيوفاً علينا، وأعتقد أنه لو أتاك مجاهدٌ الليلة ودخل بيتك فلن ترده، أليس كذلك؟ تعشيه وأقل عشاء تعشيه مائة ريال، فلا نريد أن ينقص عشاء أي مجاهد هذه الليلة عن مائة ريال من جيبك، وإن لم تكن موجودة هذه المائة فأعلى فئة من الفلوس في جيبك؛ لأن بعض الناس إذا فتح الحقيبة يريد يتصدق قال هكذا، وقلب أم خمسمائة هذه ما عليها سبيل، وأبو مائة هذه تلحق بها، وأبو خمسين هذه ممنوعة، وأبو عشرة هذه كذلك، ويدور أبو ريال وأبو خمسة، لا.
نريد اليوم إن شاء الله ترفع رأسك، ثم أنت من تعطي؟ تعطي ربك؟ الله عز وجل غني عنك، لكن يقول الله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة:245] فأنت الآن تضعها مائة تجدها يوم القيامة ملايين، يربيها ربك كما تربي فُلوك، ولكن إذا عييت وما أعطيت، خسرت أنت والله غني عنك، والجهاد قائم بدون ريالك ومائتك، لكن أنت محتاج إلى الله.(45/15)
دور العلماء في دعوة الوافدين من غير المسلمين
السؤال
قريباً ستكون الدورة العالمية في الرياض، وسيجتمع في هذا البلد جميع الديانات، وسيدخل النساء والرجال لأداء الألعاب مثل الكرة وغيرها، فما هو دور العلماء في هذا الموضوع؟
الجواب
دور العلماء وطلبة العلم والدعاة إلى الله واضح وليس عليه خفاء في أن يجري الترشيد والتنبيه واستغلال هذه التجمعات خصوصاً في أماكنها؛ لأننا نفترض أن الشباب الذين يأتون منهم فئات كثيرة غير مسلمة، وهؤلاء سينزلون في فنادق أو أماكن استراحة، ولا نتوقع أنهم يأتون إلى المساجد ولا نريد أن يذهبوا إلا بعد أن ينسق مع الجهات المعنية في الرئاسة العامة لرعاية الشباب، ويطلب تحديد مواعيد للقاءات بهم، ولتكن في الليل بعد صلاة العشاء، ويكون القادر على التحدث عنده قدرة في عرض الإسلام العرض الشيق؛ لأننا والحمد لله في بلدنا المسلم المتماسك، بلدنا نموذج من بلدان العالم، فإذا جاءوا ووجدوا هذا النموذج العملي المطبق في الأمن والاستقرار والرخاء والعلاقات والصلات، وفيما يسيطر على مجتمعاتنا بفضل الله من خير، ثم قيل لهم: إن هذا كله من ثمار الإسلام، الإسلام الذي يربي الإنسان على خلق معين في الدنيا والآخرة هذا فيه جزء من الدعوة.
وأنا أقترح أن يقوم الإخوة المهتمون ومنهم صاحب السؤال، بالاتصال بسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، لتتولى الرئاسة العامة للدعوة والإفتاء والإرشاد التنسيق مع الرئاسة العامة لرعاية الشباب في هذه الدروس فهذه فرصتنا، ما نريد أن يأتوا ليلعبوا ثم يعودوا، نريد أن يأتوا ويستفيدوا مما عندنا من الخير؛ لأنه ليس على وجه البسيطة أمة على الهدى إلا أمة الإسلام، والحمد لله ونسأل الله الثبات عليه.(45/16)
حكم تقصير اللحية بسبب الألم
السؤال
إنني أحبك في الله، هل يجوز التقصير من اللحية لأن لحيتي تؤلمني عندما يتكاثف الشعر، وهل يجوز نتف الشعر من الوجنتين؟
الجواب
أحبك الله يا أخي! كما أحببتني فيه، ونسأل الله أن يظلنا وإياكم جميعاً في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، بسبب المحبة فيه؛ لأن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله.
أما اللحية فاللحية اسم لما نبت في الذقن واللحيين، ولا يجوز للمسلم أن يأخذ منها شيئاً بل عليه أن يدعها كما خلقها الله، إن كانت طويلة فهي كرامة، وإن كانت على أي مقدار فلا تتعرض لها بسوء، اعقد معها هدنة وصلحاً وارفع عنها السلاح، سواء بالطعن أو بالنتف أو بالتخضيب كما يصنع بعض الشيبان، إذا طلع الشيب في وجهه:
والشيب في رأس الفتى لوقاره فإذا تعلاه المشيب توقرا
(وما من مسلم يشيب في الإسلام شيبة إلا كانت له نوراً على الصراط يوم القيامة) وهو النذير الذي قال الله عز وجل عنه: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] يعني: نذير الموت، لكن بعض الناس إذا جاءه هذا الشيب عمد إلى الصبغ حق الأحذية ولطخ بها لحيته، من أجل أن يصبح شاباً مزيفاً، وكلما صبغها طلعت لكنها من تحت بيضاء، لا.
لا تخضب، ولكن يجوز أن تخضب بالحناء والكتم يغير لون الشيب من البياض إلى الحمرة الداكنة، أما السواد فلا يقول صلى الله عليه وسلم: (إن أقواماً في آخر الزمان سيأتون يخضبون لحاهم كحواصل الحمام، لا يجدون ريح الجنة) وقال لـ أبي قحافة: (غيروا رأسه وجنبوه السواد).
أما أن تقصرها أو تنتفها أو تحكحك فيها لا، لكونها تؤلمك، أبداً ليس بصحيح، ما السبب! لك لحية غير الناس، إنما هذا شيء في نفسك وحساسية عندك، لكن ألزم نفسك أنك ما تقربها.(45/17)
عدم إمكانية الجمع بين اللعب وطلب العلم
السؤال
علمنا سابقاً أنك كنت تلعب في أحد النوادي وكنت كابتن الفريق ولك أيضاً مشاركات أخرى، السؤال: كيف استطعت أن تجمع بين النادي وطلب العلم، مع أني لم أستطع أن أفعل ذلك، وأيضاً نرجو منك إخبارنا ببعض تجاربك الرياضية؟
الجواب
أما هذا الماضي الذي ذكره الأخ فهو صحيح، ولكنه ماض عفا عليه الزمن إلى غير رجعة، ماضٍ لا أفخر به لا هنا ولا في الدار الآخرة، بل أحزن عليه، سنوات عجاف من عمري قضيتها لا دين ولا دنيا، ولم أستطع خلال فترة عمري فيها أن أكسب علماً حتى يقول الأخ: كيف استطعت أن توفق بين العلم والكرة، ما كان طلب العلم في تلك الأيام، وما جاء العلم إلا بعد أن حولت الموجة على طريق الله، ونسأل الله أن يثبتني وإياك على ذلك؛ لأن العلم واللعب نقيضان، كما لا يجتمع الليل والنهار لا يجتمع اللعب والعلم، اللعب يريد وقتاً والعلم يريد وقتاً، تريد تلعب وتتعلم ما يصلح.
يقول الشافعي: من اشتغل عن العلم بشراء بصلة لم يتعلم.
وكان ابن شهاب الزهري إذا دخل السوق يدخل مسرعاً قيل له: لمَ؟ قال: أخشى أن أسمع كلاماً من كلام الناس فيدخل في قلبي فيختلط بالحديث؛ لأنه كان يسمع ويسجل من أول مرة، وكان يحفظ من مرة واحدة، يقول: ترددت بين الشام والعراق والحجاز خمسة وأربعين سنة والله ما استطرفت فيها حديثاً واحداً.
أي: لا يوجد حديث واحد إلا وهو في رأسي، ويقول: والله ما استودعت قلبي شيئاً فنسيه قط، لا يمكن يضع في قلبه حديثاً وينساه، وهذا ابن شهاب الزهري دخل هو وسليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك، فقال هشام لـ سليمان بن يسار: من الذي تولى كبره في قضية الإفك؟ والمعروف أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، لكن هشام يقول: لا.
هو علي بن أبي طالب، وهو غير صحيح، فقال سليمان بن يسار: الذي تولى كبره عبد الله بن أبي، قال: كذبت، إنه علي، فقال سليمان: أمير المؤمنين أعلم، وسكت، ودخل الزهري قال له: يا بن شهاب من الذي تولى كبره؟ قال: عبد الله بن أبي، قال: كذبت بل علي، قال: أنا أكذب! لا أبا لك، بل كذبت أنت وأبوك وجدك، والله لو نادى منادٍ من السماء أن الكذب حلال ما كذبت.
يقول: أنا ما أكذب فضلاً عن أن أعرف أنه حرام أو غير ذلك، فما يصلح يا أخي! أن تلعب بل نظم وقتك لطلب العلم، وابدأ بالقرآن الكريم قراءة وترتيلاً وحفظاً مع التجويد، ثم تدبراً وتفسيراً مع أيسر التفاسير، كتاب صدر حديثاً اسمه أيسر التفاسير للشيخ أبو بكر الجزائري، كتاب مفيد ثم اقرأ في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأدلك على كتاب يجمع الصحيحين وهو كتاب اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان لمؤلفه محمد فؤاد عبد الباقي، هذا جاء بالأحاديث التي اتفق عليها البخاري ومسلم وجاء بها على لفظ البخاري ورواية البخاري، ولهذا إذا قرأتها كأنك تقرأ قرآناً صحيحاً، ما في شك أبداً، اقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم واحفظ وانقل هذا العلم للناس، وأعط العلم كلك يعطيك بعضه، وإذا أعطيته بعضك لا يعطيك شيئاً.(45/18)
قصة إخراج الجن من الإنس
السؤال
اعلم علم اليقين بأني أحبك في الله: ونأمل التكرم بإعادة قصتكم مع الجني والمرأة وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً أحبك الله! أما القصة مع الجني فهي واردة في الشريط لكن ما هو جني والحمد لله، آخر واحد قبل أسبوعين كان على فتاة وجيء بها إليَّ وقرأت عليه وكان مارداً خبيثاً إذا قرأت عليه وهو في رأسها يتأذى ويصيح ثم يذهب في بطنها، فأقرأ عليه في بطنها فيذهب في كتفها، ثم يذهب في رجلها، المهم أتعبني كثيراً، ولكني استمريت معه حتى ضايقته بفضل الله عز وجل وأردت التحدث معه فتحدث وأخبرني.
سألته عن اسمه فأخبرني باسمه وأخبرني بقبيلته من بلاد غامد وأخبرني بديانته بأنه يهودي، قلت له: في يهود هناك؟ قال: كل الفئات، يعني كل الأديان موجودة، فقلت له: لم جئتها؟ قال: أحبها، قلت له: لم تحبها؟ قال: هكذا، قلت: تخرج؟ قال: أخرج.
قلت: ولا تعود؟ قال: بلى أعود، قلت له: لا.
لا تعود، قال: لا أستطيع، المهم استمريت في القراءة معه وضايقته كثيراً وأخيراً قال لي: أخرج ولا أعود، قلت: تعاهد، قال: أعاهد، قلت له: قل: عاهدت الله، قال: عاهدت الله، قلت له: الذي لا إله إلا هو، قال: لا.
لأن اليهود مشركون، قلت له: بلى! قال: لا.
قلت له: بلى، قال: لا.
وأخيراً ضربته وصفقته حتى قال: لا إله إلا هو، أنا أخرج من هذا الجسد ولا أعود إليه أبداً ولا إلى جسد مسلم، وقلت له: فإن عدت فعليك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، قال: لا.
حرام عليك، قلت: لا حرام عليك أنت يا عدو الله، المهم لا زلت به إلى أن انتصف الليل وأعياني أن يقول هذه الكلمة، وأخيراً تعبت وانقطع صوتي وأنا أقرأ ورضيت به أن يخرج بدون أن يلعن نفسه، وخرج وذهبوا وهم في الخميس ساكنون، وبعد ليلتين اتصلوا بي وقالوا: جاء، قلت: أحضروه الله المستعان! وجاء وقرأت عليه وضايقته حتى خرج، وبعد ذلك إن شاء الله لم يرجع.
وهذه قصة من عشرات القصص، ونحن نقول للناس: تحصنوا من الشيطان والجن بالدين؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:99] اقرأ في كل ليلة آية الكرسي وسورة الإخلاص والمعوذتين في بيتك، اقرأ سورة البقرة في بيتك فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله شيطان، اقرأ في كل صباح وفي كل مساء هذه الآيات آية الكرسي والمعوذتين والإخلاص، وأيضاً قل: لا إله إلا الله في اليوم مائة مرة، فإنها حرز لك من الشيطان، والحديث عند البخاري عن عبد الله بن عمر، المهم تحصن، أما إذا ما تحصنت فأنت عرضة للعدو.(45/19)
حكم مشاهدة الكرة في التلفاز
السؤال
هل يجوز مشاهدة كرة القدم في التلفاز مع ما فيها؟
الجواب
لا أدري؛ لأن القول بالحرمة أو الحل فيه مسئولية، فأنا أطلب من الأخ أن يسأل الهيئة الدائمة للإفتاء.(45/20)
توبة من اختلس أموال الكفار في بلادهم
السؤال
أنا شاب أمضيت أول حياتي في اللهو واللعب وذهبت إلى أمريكا للدراسة وحصل مني اختلاس لبعض المحلات هناك، ورجعت إلى بلدي وهداني الله وتبت إن شاء الله توبة نصوحاً فما هو العمل بالنسبة لما بدر مني تجاه الاختلاس وأذية الناس؟
الجواب
التوبة تجب ما قبلها، ومهما كانت غدراتك أو فجراتك أو آثامك، فإن الله يغفرها جميعاً بشرط التوبة؛ لأن الله تعالى يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] لكن {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54] فكل شيء عملته من المعاصي فإنك بالتوبة تجبه وتقضي عليه بغير أثر رجعي.
أما المال فإن كان لمسلم فإنه ينبغي لك أن تعيده إليه، وإن كان لكافر محارب فإنه يؤخذ ويرصد في مصالح المسلمين، وهؤلاء الذين أخذت عليهم في أمريكا ليسوا محاربين؛ لأن دارهم دار كفر ولكنك مستأمن فيها أيام دراستك، ولهذا نرى أن تأخذ هذا المال الذي أخذته وتعده وتحصره وترسله للمجاهدين الأفغان ليقتل به أعداء الله وتبرأ به ذمتك إن شاء الله.(45/21)
حرمة الاختلاط وخطره
السؤال
نخبرك أولاً أننا نحبك في الله، ونرجو أن تبين لنا خطر الاختلاط بين الرجال والنساء وخاصة عند أهل القرى والبادية، مع إفادتنا ما حكم كشف المرأة أمام الطبيب للمعالجة؟
الجواب
يقول صلى الله عليه وسلم والحديث صحيح: (إن الدنيا حلوة خضرة -طعمها زين ومنظرها أزين- وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، ألا فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) وفي الحديث أيضاً يقول صلى الله عليه وسلم: (ما تركت على أمتي فتنة أشد من النساء على الرجال) ومن أجل هذه الفتنة حرم الله عز وجل التبرج وأمر النساء بالحجاب وأمر الرجال بغض البصر، حتى تردم هذه الحفرة، ويقضى على هذه المعضلة، لكن إذا تبرجت المرأة وكشفت وجهها ونظر إليها الرجل واختلط بها، وُجدت الفتنة وشبت النار وتسبب هذا في فساد الدين ووجود الزنا.
إن الرجال الناظرين إلى النساء مثل الكلاب تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحوم أسودها أكلت بلا عوض ولا أثمان
لا تتركن أحداً بأهلك خالياً لو كان في النساك مثل بنان
فما موقفك أيها المسلم؟ أن تأمر زوجتك بالحجاب، وموقف المرأة المسلمة أن تلتزم بالحجاب طاعة لله لا انقياداً لأمر الزوج؛ لأن من الأزواج من يأمر زوجته بالتبرج، يقول: تكشفي؛ لأني ذهبت عند فلان وترك امرأته تكشف عليَّ، وأنت تتغطين، لا والله، ما أنت بأحسن منها، يعني أرني زوجتك أريك زوجتي، واشتراكية، ومسالفة في الأعراض، لا.
وبعضهم عنده امرأة غير جميلة يريد أن يرى نساء الناس فيغصبها غصباً أن تتبرج، حتى إذا ذهب يرى نساء العرب، خليها تصب القهوة وتجيب النار، وأولئك يستحون يقولون: والله يوم عنده دخلنا ما جاء بالقهوة غير زوجته، هاتي القهوة يا فلانة! وهذا مرض خطير لا يجوز في الشرع، والله عز وجل قد ذكر ذلك في آية الحجاب في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59] وقال: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} [الأحزاب:60] والمنافقون هم الذين يرضخون في سوق التبرج ويحبون النساء {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب:60] والمرض مرض الزنا ومرض الشهوات {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا} [الأحزاب:60 - 61] هذه لعنة ربانية صدرت عليهم في كل مكان وجدوا فيه {أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:61 - 62].
فلا يجوز للمرأة أن تكشف إلا على من أجاز الله لها الكشف عليهم وهم ثمانية أصناف في سورة النور أربعة من الأقارب وأربعة من غير الأقارب: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} والبعل في الشرع واحد وليس القبيلة كلها {أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} أبو البعل أي العم {أَوْ أَبْنَائِهِنَّ} ولدها {أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} ولد بعلها من غيرها وهي عمته {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} [النور:31] ولد خالها وولد عمها، وقريب الزوج هذا الحمو، والحمو الموت، هؤلاء الأقارب ومن غير الأقارب أربعة: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} يعني: المرأة تكشف على المرأة {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} يعني: المرأة التي عندها عبد مملوك تكشف عليه؛ لأنه ما يستطيع يكشف عورتها؛ لأنه يخاف منها {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور:31] التابع للزوج: مثل الخادم، والراعي، والعامل، والسائق، والتابع للزوج يجوز له أن يكشف على المرأة بشرط: أن يكون مخصياً كما قال الله عز وجل: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} يعني ليس له شهوة، فهو مخصي، لكن عندما نأتي بواحد فلبيني ونتركه مع المرأة والبنات يذهب بهن إلى المدرسة والسوق، حتى لا يسب عيالنا أحد، كيف أجعل واحداً يذب عن عرضي وأودع الذيب على الغنم.
أصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض بالمال
الحياة بغير عرض حياة تعسة نكدة لا قيمة لها، أنا أسوق بناتي ولأولادي إلى المستشفى، ولا أرضى بأي حال من الأحوال أن يسوق أحد لأولادي أبداً ولو ماتوا، والله لو تموت في البيت ما تركب مع أجنبي، هذا هو الرجل المؤمن.
أما أودعها من أجل أن يقولوا: والله معنا سواق، لا تأت بسواق، أنت سواق أهلك، بأي حال من الأحوال ولا تأت براع، يرعى الغنم في النهار ويرعى النسوان في الليل، ولا تأت بعامل في المزرعة، ولا تأت بأحد، وإذا اضطررت إلى عامل فاعمل له بيتاً في المزرعة، ويجلس فيها ولا يأتي البيت أبداً، أما أن يجلس يطلع وينزل ويسير ويجيء عاملنا وسائقنا وراعينا، هذا سم، هذا الموت الأحمر، {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31] الطفل الصغير غير المميز الذي لا يعرف الجميلة من القبيحة يجوز للزوجة أن تكشف عليه، أما إذا كان ذكياً مميزاً يعرف إذا رأى امرأة قال: والله فلانة جميلة هذا لا يجوز أن تكشف له وجهها.
أما حكم الشرع في كشف المرأة على الطبيب فإنه ينبغي للرجل أن يحرص ألا يكشف إلا عند امرأة طبيبة، هذا في الدرجة الأولى، ولكن إذا لم يجد واضطر، فإنه يجوز عند الضرورة أن تكشف عند طبيب، ولكن تكشف العضو الذي فيه المرض، إذا كان ألمها في بطنها فليس هناك داعي أن تكشف وجهها، تنام على السرير وزوجها موجود، ويغطي المنطقة كلها إلا المنطقة التي يكشف فيها الدكتور بالسماعة أو بأي شيء.
أما تكشف عن وجهها لكي تعالج بطنها فما الفائدة.
أما غيره فلا، إذا كان المرض في الأسنان، فلا مانع، أو مرض في العين فلا مانع أيضاً، المهم عند الضرورة يجوز، وبغير ضرورة لا يجوز، ولكن مع وجود المحرم، لا تجعل الدكتور يجلس معها وراء الستارة وأنت قاعد هناك، لا.
الطبيب ليس ملكاً بل بشر مثلك.(45/22)
حكم تفريق المسلمين بإطلاق الألقاب والمسميات
السؤال
ما رأيكم فيمن يفرق المسلمين، ويقول: نحن السلفيون وهؤلاء أهل الحديث وهؤلاء جماعة التبليغ هل يجوز هذا؟
الجواب
هذا تفريق ما أنزل الله به من سلطان، وهذه اللوحات والشعارات والدعايات هي التي تقسم المسلمين، ليس عندنا شعار ولا لوحة إلا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ما عندنا إلا كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، من سار عليها فهو من أهلها ومن اجتنبها فهو عدوها.
أما أن أحمل شعاراً معيناً: أنا سلفي! أنا إخواني! أنا تبليغي! من أين جئنا بهذه الأسماء؟ ومن أين جاءت هذه المسميات؟!! يقول صلى الله عليه وسلم: (كلها في النار إلا واحدة، قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي).
فلا ينبغي لنا أيها الإخوة! أن نقسم المسلمين شيعاً وأحزاباً وجماعات، ولا أن نتناحر ونتطاحن فيما بيننا وأعداؤنا يتربصون بنا، بل نسير في الطريق الإسلامي الموحد طريق الكتاب والسنة فقط، وهو واضح والحمد لله.(45/23)
حكم لعب الورق والبالوت
السؤال
نحن في هذه المحاضرة وكأن على رءوسنا الطير، ولكن بعد ذلك نجتمع على لعب الورق والبلوت لنتسلى ونقضي الوقت، نريد أن توضح لنا هل يجوز ذلك أم لا؟
الجواب
تتسلى، تتسلى والنار أمامك، تتسلى والقبر في انتظارك، تتسلى والصراط مضروب أمامك، كيف تتسلى يا أخي؟! عجبت للنار كيف ينام هاربها! وعجبت للجنة كيف ينام طالبها! كان سلفك يا أخي! قليلاً من الليل ما يهجعون، ما ينامون الليل ويراوحون بين ركبهم وجباههم يصلون وبالأسحار هم يستغفرون، وأنت تتسلى، كونك تتسلى ما عرفت حقيقة نفسك وتقول: تقضي وقتاً، لو سألتك يا من تقضي الوقت: هل حفظت القرآن كله؟ تقول: لا.
هل تحفظ جزء عم؟ لا.
هل تعرف تفسير: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:1 - 3] ما هو الغاسق إذا وقب؟ تقول: ما أدري! وتقول: تريد تقضي وقتاً، وما تعرف تفسير سورة من كلام الله، وما تعرف حديثاً من أحاديث رسول الله، وما تعرف سنة من سنن رسول الله وتلعب الورق، فالله المستعان! إنا لله وإنا إليه راجعون! يا أخي: ما عندك وقت الآن، وقتك كله يجب أن تملأه؛ لأن الوقت هو عمرك، فاملأه بطاعة الله وبذكره، وبطلب العلم، وبما ينفعك في الدنيا والآخرة.
أما الساعات التي تقضيها في البالوت فقد جاء في الحديث: (ما من ساعة تمر على ابن آدم لا يذكر الله فيها إلا كانت عليه حسرة وندامة يوم القيامة) (وما جلس قوم في مجلس لم يذكروا الله تعالى فيه إلا تفرقوا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم هذا المجلس ترة) يعني: عهدة ومسئولية.
فما هناك مجال نلعب يا إخواني! نحن أمة السيف والجهاد والقرآن والعلم والعمل، أما اللعب فليس هو لنا، اللعب للأمم التي تعيش في غير ميادينها الطبيعية، أما ميداننا فهو ميدان شريف جدي، ميدان عمل للدنيا وللآخرة، وبعضهم يلعب البالوت وإذا قالت له المرأة: أحضر لنا حليباً للولد، قال: لا.
لا أستطيع أن أذهب؛ لأني مشغول بالبالوت، يدع ولده يبكي طوال الليل من أجل أن لا يقطع اللعب.
وبعضهم عنده مسكة البالوت وما عنده غاز، تقول المرأة: ما عندنا غاز، قال: غداً، لا.
يا أخي! خدمتك لزوجتك وقضاؤك لأهلك لوازمهم عبادة، لكن البالوت هذا أفيون هذا الزمان، وهو سحر عقول الناس، ثم لو فكرت فيه بعقلك تجد أنه لا يليق بك، ورق مصبغ (وولد وبنت وشايب وشريه وهاف وسبيد وديمن) وغيره هذه من أرشيف الماضي، وبعد ذلك تمر الساعة والساعتان والثلاث والأربع والوقت يمر؛ لأنه في طاعة الشيطان، بل بعضهم والله لا يريد يقوم إلا الفجر، وبعضهم يذهب يدق على الناس وهم لا يريدونه، لكنه يجلس؛ لأنه مخمور بعقله في البالوت، ثم يقوم اثنان ويأتي اثنان وهو جالس لا أحد يقول له: تفضل، ثم إذا مر الليل قال: أنا أريد قسمي معكم، أعوذ بالله من خسة النفس ودناءتها، وبعضهم تراه رجل عاقل أمامك مدير إدارة في رتبة ومنزلة ويأتيك بيده يخبط الأرض الله أكبر! ثم في آخر الجلسة يجب أن يتخاصموا: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] قولوا: إن شاء الله انتهينا.
كان هناك مدير إدارة عندنا في الجنوب يلعب البالوت وكان يعلمني بنفسه وقد تاب الله عليه، يقول: الذي اشترى زميلي واللعب علي، فلازم أعطيه طلبه من أجل أن يمسك اللعب هو بالولد والتسعة والباقيات كلها، يقول: فأنا ما انتبهت عليه يريدني أنظر إليه ماذا يريد، يقول: ما نظرت ونزلت قطعة في غير يده، يقول: فغضب وقال لي -وهذا مدير إدارة كبير- قال له: أصلك بقرة! بعضهم ربما تقول له: بقرة فيقول: صدقت ما انتبهت لك، ما مديت لساني، لكن هذا حر أبي عنده شهامة فأوقف اللعب، وقال: إلى هذا الحد يا فلان، نزلت الآداب إلى أن أصبحت أنا بقرة، قال: يا أخي! ما رفعت رأسك أعلمك ما أريد، قال: هذا آخر عهدها، والله ما ألعبها مدى الحياة، وتاب الله عليه، هو ليس ببقرة، ولكن بعض الناس لا.
والله المستعان!!(45/24)
وصف الجنة والنار في أبيات من الشعر
السؤال
أنا أحبك في الله، أرجو منكم أن تعطينا قصيدة في وصف الجنة والنار؟
الجواب
أحسن ما قيل في الجنة ما قاله ابن القيم في النونية الشافية الكافية رحمه الله يقول:
فاسمع إذاً أوصافها وصفاتها تيك المنازل ربة الإحسان
هي جنة طابت وطاب نعيمها فنعيمها باق وليس بفان
أوما سمعت بأنه سبحانه حقاً يكلم حزبه بعيان
ويرونه سبحانه من فوقهم نظر العيان كما يرى القمران
أعظم نعيم على أهل الجنة أنهم يرون الله، يقول الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ * وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} [يونس:26 - 27] ماذا لهم؟ {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:27] تريد هؤلاء أم هؤلاء؟ يقول الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} يعني: الجنة {وَزِيَادَةٌ} يعني: النظر إلى وجه الله، فما أعطي المؤمنون في الجنة أعظم من النظر إلى وجه الله، {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:26] واحد كسب السيئات واشتغل في الدنيا على المعاصي بالنظر والغناء والكلام والسب وضيَّع الطاعات، قال: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} ما جزاء هذا، أنعطيه الجنة؟! لا.
{جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً} [يونس:27] يسود وجه العاصي حتى يصبح مثل الليل الأسود.
تشد أقدامهم إلى النواصي وتسود وجوههم من ظلمة المعاصي
وينادون من جنابها بكياً من ترادف عذابها
يا مالك قد أفقرنا الحديد يا مالك قد نضجت منا الجلود يا مالك قد تقطعت منا الكبود يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود يا مالك العدم والله خير من هذا الوجود
أما الأبيات في ذكر النار فكثيرة جداً منها:
جهنمٌ ولظى من بعدها حطمة ثم السعير وكل الهول في سقر
وبعد ذاك جحيم ثم هاوية تهوي بهم أبداً في حر مستعر
لهم مقامع للتعذيب مرصدة وكل كسر لديهم غير منجبر
نعوذ بالله وإياكم من النار.(45/25)
حكم شراء العملة الأجنبية بعملة محلية
السؤال
ما حكم شراء العملة الأجنبية بالعملة السعودية، بقصد التجارة حتى يرتفع سعرها ثم يبيعها ويصرفها عملة سعودية؟
الجواب
لا يوجد محذور، (إذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم) كما جاء في الحديث، تشتري دولاراً بريال سعودي، وتجعله عندك، وإذا ارتفع الدولار أو انخفض استبدلت العملة بكيفك، هذا يسمونه سوق العملة أو البورصة، ولكن بشرط التقابض، أما أن تشتري شيئاً بدون التقابض فلا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) لازم تدفع مائة ريال وتأخذ بها ثلاثين دولاراً، أما أن تدفع فلوساً ولا تأخذ شيئاً (دين أو في شيك أو في البنك فهذا لا يجوز).(45/26)
حكم لبس البرقع
السؤال
فضيلة الشيخ ما حكم لبس البراقع؟
الجواب
البراقع أسلوب من أساليب الشيطان في التبرج يوهم المرأة أنها محجبة وهي متبرجة؛ لأن البرقع يكشف أعلى شيء وأغلى وأجمل في المرأة وهو عينها، يقول الناظم:
إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
وإذا أردت أن تتزوج امرأة أين تنظر؟ في أرجلها أم في أعينها؟ وإذا كانت غير جميلة، تقول: الله أكبر عليكِ! ما ترى الفم والأنف.
لا ترى إلا العيون؛ لأن العيون التي فيها السهام، والرماح والمدافع، فما نريد حجاباً كهذا، وإنما حجاب ساتر؛ لأن بعض النساء تأخذ لها شيئاً خفيفاً، لا.
نريد حجاباً قاتماً كالليل الأسود لا ترى خلفه شيئاً، وحجاب في يديها قلامس؛ لأن اليد إذا كشفت، يأتي الشيطان يقول: انظر إلى جمال اليد، أما المغطى، فلا.
إذا خرجت امرأتك خليها تخرج من رأسها إلى قدميها ملبسة، على أرجلها جوارب سوداء وتلبس عباءة فضفاضة، وإذا دخلت بيتك تريد أن تتمتع ما في مانع، لكن لك لحالك، أما أن تخرج وتري الناس فيشاركونك في عرضك لا.(45/27)
حكم إلزام أحد الناس بالزواج ممن لا يريد
السؤال
هل يجوز هذا العمل في الإسلام كمن يقول: ابنة عمي لي ولا تخرج لرجل غيري أي: لا تتزوج غيري.
وهذه العادة شائعة في هذا الزمان أرجو إبداء النصيحة؟
الجواب
هذه عادة الجاهلية جاء الإسلام فأبطلها وحرمها ونهى عنها، وقال: نهى أن يرث الرجل المرأة {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْها} [النساء:19] كانت المرأة في الماضي تورث واليوم أيضاً تورث لابن عمها، لا يجوز؛ لأن النكاح نكاح رغبة ومحبة وود، وينبغي أن يقام على رضا وتفاهم وقناعة من الزوجة، أما أن تقصر على ابن عمها ولو كانت لا تريده فلا، أما إذا كانت تريده وهو يريدها فلا يوجد مانع، لكن إذا قالت: لا أريده، وقال أبوها: والله ما تعرفين إلا هو (لو تخلفي العصا يدك) فهذا حرام، سبحان الله تغصبها على طعام لا تريده، لا يجوز لك يا أخي! أو يأتون عند الولد ويقولون: بنت عمك لا تفوتك، قال: ما أريدها، قالوا: والله ما نرضى إلا أن تتزوج بها، تريد له واحدة لا يريدها، هذا لا يجوز، لا بد أن يتزوج الإنسان من يحب، الله يقول: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء:3] يعني: ما أحببتم، ولا يجوز الهجر ولا الحجر ولا يجوز الشغار، والشغار: أن تزوج الرجل بأختك على شرط أن يزوجك بأخته، أو تزوجه بابنتك حتى يزوج بنته لولدك هذا نكاح محرم وهو باطل والعقد فاسد، وإذا حصل فهو يفسد من الآن ولا يحتاج إلى طلاق؛ لأنه ليس هناك عقد، إنما يفرق بين الزوج والزوجة، والأولاد يلحقون بأبيهم إلحاقاً شرعياً، ولا يجوز الشغار ولا التحليل، شُبه المحلل في الحديث بالتيس المستعار، الذي يطلق زوجته ثم يأتي إلى رجل آخر فيقول: تزوجها وطلقها وحللها لي، افعل خيراً، هذا يفعل شراً؛ لأنه ملعون: (لعن الله المحلل والمحلل له) وإذا علمت المرأة فهي ملعونة، وإذا علم العاقد فهو ملعون، وإذا علم الشهود فهم ملعونون.(45/28)
درجة حديث: (أهون الربا مثل أن ينكح الرجل أمه)
السؤال
ما صحة هذا الحديث الذي معناه: بأن (أهون الربا مثل أن ينكح الرجل أمة تحت الكعبة أو تحت أستار الكعبة).
حيث إن كثيراً من الناس يعارضون ويقولون: إن هذا الحديث غير صحيح؟
الجواب
الحديث ذكره الإمام ابن ماجة في السنن والحديث فيه مقال، وهو يدور بين الضعف والحسن، ولكنه يستشهد به لما يعضده من الأدلة الصحيحة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(45/29)
حكم خروج المرأة إلى السوق بدون محرم
السؤال
أنا امرأة ملتزمة بطاعة الله، ولكني أخرج من المنزل إلى السوق وقد استأذنت من زوجي ولكن ليس معي محرم ويكون معي بعض النساء؟
الجواب
ما دمت ملتزمة أيتها الأخت! بطاعة الله، فإن مقتضى الالتزام ألا تخرجي إلى السوق، لا لوحدك ولا مع زوجك؛ لأن السوق فيه رايات الشيطان، ويعرضك للفتنة برؤية الرجال الأجانب، والله يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] ولا ينبغي للمرأة المؤمنة أن تنزل السوق بأي حال من الأحوال إلا على سبيل الاضطرار، وكيف يكون هذا الاضطرار؟ كأن تريد سلعة لا يستطيع زوجها أن يأتي بها لأنه لا يعرفها، ولو كان هذا الأمر نحن نقوله للناس ولا نعمل به، أنا أولادي والله ما يدخلون السوق، وما أرضى أبداً، وأي شيء يريدونه آتي به، أتعب نفسي ولا أتعب ديني وعرضي، أي شيء يريدونه أذهب أحضره وأشترط عليه أن يصلح أو أرجعه، وأحياناً والله أرجع ثلاث أربع مرات لكن هذا عندي أهون من أن أدخلها على الرجال وتشوفه ويشوفها، ما رأيكم تعب الأجساد أم تعب القلب والدين! أطلع وأنزل وأطلع وأنزل وعرضي مرفوع أحسن من أن آخذها معي وأدخلها الدكان وتشوف الرجل ويشوفها، فلا يجوز، لكن عند الاضطرار نقول: لا بأس مع الزوج وفي وقت لا يكون فيه تجمعات للرجال، ومن أقرب دكان، لا تجلس تستعرض المعرض من أول الدنيا إلى آخرها، كلما دخلت دكاناً قالت: ليس بجميل، والثاني ليس بجميل، وذاك مثل التيس وراءها؛ لأن بعض النساء تدخل المعرض هذا، وتقول: كل أقمشته ليست جميلة، ويوجد ألف لون أمامها وتقول: ليس بجميل! ما ترضى جعلكِ لا ترضين! اختاري من الدكان الذي جنبه، ثم يجب أن تكون متحجبة حجاباً كاملاً، ثم لا تكشف أمام الرجل ولا تكلمه ولا تفاوضه ولا تساعره، المرأة إذا دخلت لوحدها عند صاحب الدكان وفرده لها وقال: هذا يا عسكري! فك الإشارة، فيه أسماء للأغاني يحطونه على القماش، قالت: ألله أيش هذا القماش بكم هذا؟ قال: ستين، قالت: لا تكفي ضحكت له، قال: على شان خاطرك بخمسين، هذا الضحكة في عرضك، لا.
لا تبايع المرأة ولا تشاري، اشتر أنت وبع لأهلك وهم في البيت وأحضر الفاتورة والألوان، إذا اضطررت لغرض لا بد من رأيها فيه، مثل شراء موكيت للبيت قطعة دولاب، قماش يخصها تدخلها في مكان واحد تأخذ منه وترجع، وهي مثل السارقة.
أما أن يتجمعن ثلاث أربع نسوة ويركبن السيارة ويذهبن والرجال في الدوام، وأنا استأذنت، فهذا لا يرضي الله يا أختي المسلمة!(45/30)
دعوى الالتزام مع ملازمة سماع الأغاني
السؤال
أنا شاب أبلغ من العمر عشرين عاماً ومغرم جداً بسماع الأغاني وأرى فيها ترويحاً عن نفسي وحلاً لمشاكلي، وأريد أن ألتزم وأتوب ولكن لا أستطيع فبم تنصحني؟
الجواب
يبدو أنك عبد شهوة، وجنس، ومن كان عبد شهوة وجنس لا يصلح أن يكون عبداً لله، الذي يريد أن يسمع خطاب الرحمن لا يصلح أن يكون سامعاً لخطاب الشيطان.
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
إذا كنت تريد طاعة الله حقيقة، فتب إلى الله من الأغاني أول شيء، فإنها تحرق إيمانك ودينك كما تحرق النار الحطب، إذ لا يجتمع حب القرآن والغناء في قلب عبد مؤمن، يقول ابن القيم في النونية:
حب الكتاب وحب ألحان الغناء في قلب عبد ليس يجتمعان
لا يجتمعان أبداً، وأما كيف تعمل فبعزيمة الرجال وتصميم الأبطال، أحضر المسجل أو الشريط أو أي شيء عندك من الأغاني وضع عليها ناراً وأحرقها، وبعد ذلك قل: والله ما أسمع مهما كانت الظروف والأحوال، وهو نوع من الجهاد، جاهد نفسك وسوف يقبلك الله عز وجل وسوف تمر عليك لحظة تجد نفسك أن الأغنية إذا سمعتها كأنما هي رصاصة دخلت من أذنك، وهذا شأن المؤمنين الآن، أهل الإيمان الآن إذا سمع أي نغمة يصيح، صك صك صك، لماذا؟ قلبه حي، أذنه ربانية مؤمنة.
فأنت يا من تقول: إنها تدخل عليك السرور، جاهد نفسك واسأل الله أن يقبلك، ثم كلما جاءك هذا الشعور بأن تسمع الأغاني فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وفي الليل قم فصلِّ ركعتين واسجد، وفي السجود اطلب من الله أن يتوب عليك، وأن يعصم قلبك من الشيطان والأغاني وابك، فإن بكيت فاعلم أنك صادق، وإن لم تبك فاعلم أنك ما تبت إلى الآن، علامة قبول توبتك البكاء، ابك وحاول تعصر قلبك غصباً يبكي من خشية الله، قل: يا رب! يا ذا الجلال والإكرام! يا من بيده ملكوت كل شيء! اعصم قلبي من الأغاني والشيطان، يا رب! لا قدرة لي على النار، يا رب! أذني لا تتحمل الرصاص المذاب، (من استمع إلى مغنٍ أو مغنية صب الله في أذنيه يوم القيامة الرصاص المذاب) وابك واسأل الله أن يتوب عليك، وهذا إن شاء الله سبب من أسباب الهداية بإذن الله.
ثانياً: يذكرني الأخ بأن نجعل بديلاً وهو بديل طيب وهو القصائد والأناشيد الإسلامية، فهناك أناشيد يرددها بعض الشباب المؤمن، قصائد إسلامية ترفع الروح وتحث على الجهاد والبر والإحسان، فهذه طيبة، ولكن لا يكثر منها مثل الملح في الطعام؛ لأن بعض الشباب لم يعد يقرأ القرآن وإنما يغني وينشد، طوال يومه أناشيد وأناشيد وأناشيد، قلت: أين المواعظ؟ قال: يا شيخ نتسلى، قلت: طيب، نريدك تبكي أيضاً، خذ موعظة تبكيك وخذ نشيداً يسليك، لكن تريد نشداً طوال اليوم فلا يصلح، لابد أن يكون في حياتك نوع من التكامل والتجانس.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.(45/31)
ولو ترى إذ وقفوا على النار
إن المتأمل لنصوص الوعيد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجد مشاهد مفزعة، وأهوالاً عظيمة، مما أعد الله فيها من ألوان العذاب والنكال للكفار والمنافقين.
وفي هذا الدرس عرض الشيخ مواقف لأهل النار في عذابهم، وأصناف هذا العذاب من أكلهم، وشربهم، وملابسهم، وأليم عقابهم على أفعالهم، وطبقاتهم في النار.(46/1)
تصوير قرآني لمشاهد من العذاب
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيا أيها الأحبة في الله! هذا الدرس يأتي ضمن سلسلة الدروس الشهرية بعنوان: تأملات قرآنية) وهو يلقى في مدينة جدة في مسجد الحارثي بحي الإسكان الجنوبي، بعد مغرب يوم السبت الموافق (29 ذي القعدة 1415 للهجرة) على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام.
وعنوان تأملاتنا هذه الليلة قول الله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّار} [الأنعام:27] واختياري لهذا العنوان؛ لأن هذه الآية جاءت في سياق تأملاتنا لسورة الأنعام.
وذكر النار -أيها الإخوة- مطلوبٌ خصوصاً في هذه الأزمان التي شردت فيها القلوب عن الله، وغفلت النفوس عن تذكر الآخرة، حتى لكأن الذي يرانا يجزم بأننا إما أننا لا نؤمن بالنار، أو لا نعرف النار؛ لأن السلوك والأعمال والتصرفات توحي بهذا، فمن يعرف النار ومدى قدرته ومقاومته لها، ويؤمن بحقيقة وجود النار، ثم يسلك تلك المسالك ويتصرف تلك التصرفات، لا يمكن أن يصدق العقل هذا، لذا كان لا بد من ذكرها وما أعد الله عز وجل فيها، وما توعد الله الكفار والمنافقين والعصاة والفسقة من ألوان العذاب الذي لا يتصوره العقل.
يقول الله عز وجل: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].
كل ما يمكن أن يخطر في بال الإنسان من ضخامة وأصناف العذاب، فإن هذا الذي يخطر في البال لا يمكن أن يصل إلى جزء من حقائق ما سيكون في النار، ويكفينا قول الله عز وجل: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].(46/2)
مشاهد ورود أهل النار على النار
يقول الله عز وجل في سورة الأنعام وهو يصف لنا مشهداً من مشاهد العذاب يوم القيامة، وهذا المشهد هو: أخذ أهل النار وحبسهم على النار قبل إلقائهم فيها؛ لأنهم يساقون إليها، ويسحبون على وجوههم إليها، ويدفعون من ظهورهم دفعاً إليها، لا يأتون إلى النار باختيارهم، ولكن جاء وصف مجيئهم في ثلاث آيات: المشهد الأول: قال الله عز وجل: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} [الزمر:71] سوق الإهانة والتهديد والعذاب الشديد {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الزمر:71] تقول لهم الملائكة: أما جاءكم رسل ينذرونكم لقاء هذا اليوم ويحذرونكم من النار؟ {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71] بلى يعترفون {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:72].
المشهد الثاني: قال الله عز وجل: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [القمر:48].
المشهد الثالث: قال الله عز وجل: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء:97].
المشهد الرابع قال فيه عز وجل: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} [الطور:13] أي: يدفعون إليها دفعاً {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:14] ثم يحبسون على النار، والله يخبرنا عن هذا ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: لو ترى يا محمد! ولو تشهد هذا المشهد، انقل هذه الصورة إلى الأمة، بلّغ خلق الله هذا المشهد لعلهم أن ينزجروا أو يرتدعون، فيعملوا الصالحات قبل أن يصيروا إلى هذا المصير.(46/3)
توضيح لقوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)
قال عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:27 - 28]، يحبسون على النار، ويوقفون عليها، فيرون المزلة والغبن والحسرة والندامة، فيقولون: ((يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ)) يا ليتنا نعطى فرصة ثانية ونرجع إلى الدار الخالية، فنعمل فيها عملاً صالحاً؛ من أجل أن نفوز بالجنة وننجو من النار {وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27].
قال الله عز وجل: إن هؤلاء لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه؛ لأن الذي ينقصهم ليس الدليل؛ الآن الذي ينقص العاصي والفاجر والكافر هل هو الدليل على أن الله أرسل رسولاً صادقاً، وأنزل كتابَ حقٍ، وشرع دينَ حقٍ؟ لا.
الله عز وجل يخبرنا في القرآن أنهم لا يكذبون الرسول، قال الله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] ويقول عن فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14].
فالأدلة قائمة، لكن ما الذي يجعل الواحد -والدليل قائم، والبرهان ساطع، والحق واضح- يأبى؟ بسبب طبيعة التكذيب في نفسه، وطبيعة الانهزام والشر والعناد والرغبة في الباطل، وعدم الرغبة في الخير، ولهذا حتى لو أدخله الله النار ثم أخرجه منها سوف يعود في المعاصي، كيف أيعقل هذا؟! نعم يعقل.
وقد كنت أقول وأتأمل سبحان الله! كيف يكون هذا؟! حتى علمت من رجل وقع في ترويج المخدرات، وقبض عليه، وأودع في السجون، وفصل من وظيفته، وأسقط اعتباره، وصدرت عليه المحكوميات الطويلة، وعانى ما عانى من الهوان، وضاعت أسرته، وتشتت شمله، وضاعت أمواله، وفي يوم من الأيام قمت بزيارته ونصحته في السجن، وقلت له: هل لذة ومتعة المخدرات تساوي كل ما نالك من هذا العذاب في الدنيا، {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127]؟ فصلت وكنت في مركزٍ مرموق، وبددت ثرواتك، وضيعت أسرتك، وشتت شملك، وأسقط اعتبارك غداً تخرج من السجن فلا يلقاك في الشارع أحد يسلم عليك، وإذا أردت أن تتوظف ما أحد يوظفك، وإذا أردت أن تتزوج ما أحد يزوجك، وإذا دخلت في مجلس ما أحد يقوم لك، وإذا سلمت ما أحد يرد عليك السلام؛ لأنك شوهت سمعتك، وأسقطت نفسك، ما الذي ألجأك إلى هذا؟! فقال لي: يا شيخ سعيد! يكفي لا تلمني.
قلت: لن ألومك، لكن ماذا تنوي أن تفعل في المستقبل؟ هل أخذت درساً من هذا الوضع؟ قال لي: قد عضضت أصابع الندم يقول: عضيت على العشر وتبت إلى الله، وأعاهدك أنني إن شاء الله إن أخرجني الله سأسير سيراً حسناً، وسأسلك مسلكاً رشيداً، ولن تراني إن شاء الله على سوء بعد اليوم.
ومرت السنون والأعوام، وقضى في السجن سنين تهد الجبال، وخرج من السجن وزرته بعدها، وذكرته بوعده، وقلت له: خلاص الآن أعاد الله لك حريتك وأصبحت الآن طليقاً، فاسلك سبيل الهدى والرشاد واستقم على طريق الخير، ووضعت له منهجاً وبرنامجاً، ومرت الأيام ثم يحيط به قرناء السوء من جديد ولا أسمع إلا وهو يسجن من جديد، ويبلغني الخبر، قالوا: ليس في قضية ترويج فقط، بل ترويج وتهريب؛ لأن الترويج عقوبته في المرة الأولى السجن، والمرة الثانية نسف الرأس، فهذا يكفيه يوم روج المخدرات أنه يقتل، لكن لا، يريد يروج وتعاقد على تهريب وهرَّب المخدرات وكشفه الله، وأودع السجن، وبعدها ذهبت أزوره، قلت: أين عهدك يا فلان؟ قال: الشيطان! قرناء السوء! قلت: سبحان الله! صدق الله عز وجل: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28] الآن ما عاد معك فرصة تخرج، ومضت عليه أيام وليالي وصدرت المحكوميات وإذا به يعلن وأنا أسمع في الإذاعة أنه قد أقيم عليه حد المحاربة لله بقطع رقبته وضربها بالسيف، وخسر كل شيء، هو روج المخدرات يريد أن يتاجر، وهربها يريد أن يربح، فخسر رقبته ونفسه وحياته، ولا أعلم كيف سيكون مصيره عند الله عز وجل.
إذاً يا أخي! هذا المشهد لأهل النار يقول الله فيه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:27 - 28] ما الذي كان يخفيه الكفار من قبل؟ قال العلماء: بدا لهم ما كانوا يخفون من الإيمان والفطرة والتصديق بالله، فإن الله فطر النفوس على الإيمان به، يقول الله عز وجل: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وهي الدين {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة:36] ولكن يأتي الإنسان فيغطي الفطرة من أجل شهواته وملذاته، فإذا بعث، قال الله عز وجل: {بَلْ بَدَا لَهُمْ}، بل هنا حصل لهم ما كانوا يخفون من الإيمان والفطرة، ولكن هؤلاء طبيعتهم التكذيب، ولو خرجوا {لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.
هذه النار التي توعد الله بها الكفار والفجرة والمنافقين والعصاة وحذر منها أهل الإيمان وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].(46/4)
تكرار مشاهد النار في القرآن تأكيد لقيام الحجة
أيها الإخوة! كان يكفي في القرآن والسنة أن تذكر النار ويهدد بها مرة واحدة، ومن عصى فالنار، ولكن لقيام الحجة ذكر الله النار في القرآن في مواطن كثيرة، ومواضع عديدة، وبأحوال متعددة، ذكرها وذكر جميع ما فيها؛ حرارتها، شدتها، أبوابها، طباقها، عذابها، حياتها، عقاربها، ماؤها، هواؤها، طعامها، شرابها، ولا تمر عليك في القرآن صفحة أو صفحتان إلا وذكر النار أمامك لماذا؟ هل هذا عبث؟ لا.
لكن لقطع الحجة على الناس، وحتى لا يأتي أحد يوم القيامة يقول: ما أعرف النار يا رب! ثم جعل الله لنا أيضاً نموذجاً من النار مصغراً، حتى لا يقول أحد: يا رب! تحدثنا بالنار، ما ندري أن النار حارة، نحسب أن النار تمشية، أو نزهة، أو أكلة، وما أعطيتنا منها طرفاً، قال الله: لا.
{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ *
الجواب
=6005051> نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} [الواقعة:71 - 73].
جعل الله هذه النار تذكرة بالنار الأخرى، وإلا ما هي منها، وليست في درجتها، هذه جزء من سبعين جزءاً، يقول أحد الصحابة: [والله إنها كافية].
وأنا أقول: والله إنها كافية، والله لو تهددنا ربي أن يسجننا في حمام لكان هذا كافياً فكيف إذا سجننا في النار، وليست هذه النار بل ضعفها بتسعة وستين جزءاً، أي: إذا كانت درجة حرارة هذه النار مائة درجة فتلك حرارتها سبعمائة ألف، أين هذا أيها الإخوان؟! لا إله إلا الله!! يا أخي! أجارنا الله وإياك من النار؛ النار دار عذاب، أعدها الله عز وجل وهيأها لعقوبة ونيل من يخالف أمره، ويعصيه ويرتكب محارمه ويترك فرائضه، وأعد الله فيها من العذاب بما يتلاءم مع ضخامة المعصية، فإن الله لا يحب أن يعصى، فالله عز وجل لما أمر إبليس أن يسجد وما سجد طرده من الجنة، ونهى آدم أن يأكل من الشجرة وأبى إلا أن يأكل؛ أخرجه من الجنة، وكذلك أنا وأنت -يا أخي- لا ينبغي أن نعصي الله؛ لأننا إن عصينا الله فقد تهددنا بأن يدخلنا النار ويحرمنا من الجنة، ولقد حذر الله عز وجل منها كثيراً كما ذكرت لكم.(46/5)
وجوب وقاية النفس والأهل من النار
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] إن مسئوليتك تجاه نفسك وأهلك: زوجتك وأولادك وبناتك أن تقِهم، ماذا؟ ما قال: قِهم الجوع! أو البرد! أو الحر! أو المرض! هذه مسئوليات ثانوية، لكن قِهم أول شيء النار.
لكن من الناس من يحمي ولده من الجوع فيطعمه، ومن البرد فيدفئه، ومن المرض فيعالجه، ويحمي ولده وبناته وزوجته من الحر؛ فيورد لهم المكيفات، ثم لا يحميهم من النار، بل يقذفهم بنفسه إلى النار، ويشتري لهم وسائل الإفساد إلى النار، وأنا أسأل من عنده عقل: من يشتري (دشاً) ليركبه فوق بيته: هل هذا يقي نفسه وأهله النار، أم يقحم أهله ونفسه في النار؟ ويجلس الواحد على الأريكة وأمامه الجهاز وفي يده (الريمونت) ماذا؟ قال: أنتقل، من أين تنتقل: من روضة من رياض الجنة إلى روضة من رياض الجنة؟ من آية كريمة إلى حديث شريف؟ لا.
بل من فيلم إلى فيلم، ومن منظر خبيث إلى منظرٍ أخبث، ومن مسلسل إلى مسلسل، ومن شريط إجرامي إلى ألعن، ومن مباراة إلى أسوأ، ومن مصارعة وعورات مكشوفة إلى أشر، وهو جالس والمرأة والبنت والأولاد من حوله، ولماذا يا أخي المسلم؟! قال: لا أريدهم أن يخرجوا فيفسدوا في الخارج، أريد أن أفسدهم أنا بنفسي، يريد أن يتولى إهلاكهم هو بنفسه، سبحان الله العظيم ما أضل هذه العقول!! يا أخي! ولدك إذا فسد في الخارج فليس عليك ذنب إذا حرصت على ولدك ولكنه خرج من يدك وذهب إلى الشر احرص أيضاً لكن الله لا يسألك يوم القيامة عنه؛ لأنك ربيته على الدين وأبى إلا الشر، لكن إذا أوردته الشر أنت بنفسك وأقحمته في النار، ماذا سيكون عذرك أمام الله يوم القيامة، لا إله إلا الله! يقول لي أحد الناس وقد كان عنده هذا الجهاز وأخرجه يقول: والله إنني أنام وزوجتي بجواري، ثم أستغرق وأنقلب فلا أجدها، أقوم أبحث أين أولادي وآتي وإذا بها في الغرفة تنظر إلى مسلسل، وأولادي كذلك، يقول: أرقدهم من أجل المدارس، يقول: ثم أذهب وإذا بهم قد وضعوا المخدات فوق الفرش؛ حتى يوهموني أنهم ناموا، فأزيل الفراش وأنظر وإذا ما هو ولد بل مخدة راقدة، أين الولد؟ جالس ينظر إلى المسلسل الساعة الثالثة أو الرابعة قبل الفجر، ويذهب الولد إلى المدرسة وهو نائم.
ويشكي المدرسون الآن من نوم التلاميذ في الفصول، يضع الطالب رأسه على الطاولة وينام، ولا واجبات ولا دروس، لماذا؟ من أين جاء هذا الشر يا إخوان؟! من الشر الذي ركب على البيوت، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} [التحريم:6].
المسئولون عن إدارتها والمشرفون على التعذيب فيها ملائكة غلاظ في الخِلقة، شداد في التعامل.
{لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] إذا قال الله لهم: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] تصوروا كم يقوم لتنفيذ أمر الله؟! سبعون ألف ملك، والمأخوذ واحد فقط، لكن الذين يقومون لتنفيذ أمر الله سبعون ألف ملك، ما هو حجم الواحد منهم؟ قال في الحديث: (إن الملك الواحد ليلقي بيده سبعين ألفاً في النار) لا حول ولا قوة إلا بالله!! والله يقول: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24].
يؤتى بهذه النار يوم القيامة تقاد ولها سبعون ألف زمام، ومع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ويمسكونها، ولو تركت لأتت على كل برٍ وفاجر.
يقول عمر لـ كعب الأحبار: [يا كعب! خوفنا بالله، قال: يا أمير المؤمنين! اعمل عملاً وجلاً -أي: خائفاً- فوالذي نفسي بيده! لو جئت يوم القيامة بعمل سبعين نبياً إلى جانب عملك لظننت أنك لا تنجو من عذاب الله يوم القيامة ثم قال: إن جهنم لتزفر يوم القيامة زفرة لا يبقى معها ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا يخر على ركبتيه جاثياً] خوفاً من النار، {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان:12 - 14] تغيظ مما فيها من غيظ على أعداء الله المقتحمين لحرمات الله، المضيعين لأوامر الله وفرائضه (وزفيراً) تزفر وتشهق كما تشهق البغلة على شعيرها، وكما يزفر العدو على عدوه؛ لأن هذا عدو، يقول الله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان:65] (غراماً) مثلما يمسك الغريم بغريمه، وغريمتهم هنا النار؛ لأنهم تمردوا على أوامر الواحد القهار.
يقول الله: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات:36] ويقول: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان:12].(46/6)
طبقات جهنم بحسب أعمال أهلها
واعلم يا أخي! أن النار سبع طبقات، كل طبقة فيها عذاب أشد من الأخرى، وإن كان لكل طبقة من العذاب ما هو أعظم مما يتصوره العقل، يقول الله عز وجل: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر:43 - 44]، هذه الطباق وهذه الأبواب الضخمة سبعة، جهنم طبقة أولى -أعاذنا الله وإياكم منها- ولظى طبقة ثانية، والحطمة، والسعير، وسقر، والجحيم، والهاوية.
جهنم ولظى من بعدها حطمة ثم السعير وكل الهول في سقر
وبعد ذاك جحيمٌ ثم هاوية تهوي بهم أبداً في حر مستعر
ولقد ذكر الله لنا بعض الأعمال التي توصل إلى كل طبقة من هذه الطباق -والعياذ بالله-.(46/7)
أولاً: جهنم
وهذه أسوأ شيء -والعياذ بالله- قال عز وجل: {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً} [الكهف:102] وقال: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} [الزمر:71].(46/8)
ثانياً: لظى
وهذه أخبر الله أنها للذين لا يشكرون الله عند الرخاء، ولا يصبرون عند البلاء، ويمنعون حق المال، ويعرض بعضهم عن الحق، فقال عز وجل في القرآن الكريم: {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى} [المعارج:15] أي: النار {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:16] الشوى: أي: الفؤاد والقلب، إذا سمع بها الواحد ينتزع فؤاده من قلبه ويطير قلبه من داخله من الخوف {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى * إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:17 - 22] جعلنا الله وإياكم منهم.(46/9)
ثالثاً: الحطمة
ثالثاً: الحطمة: وهذه ذكر الله عز وجل أنها مسكن أهل الغيبة والنميمة وتجميع الأموال من غير حقها، قال عز وجل: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1] يهمز ويلمز، أي: يغتاب وينم {الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ} [الهمزة:2] يجمع أموالاً، وعدده: أي: شكله ونوعه، وقيل: أي: يعده، فلا ينبسط ولا يرقد حتى يعده، صوت الدراهم بين يديه أعظم من التسبيح، لها لذة إذا صار يعدعدها {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة:3] (كلا) ما يخلد بهذا المال {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} [الهمزة:4] والنبذ: هو إلقاء الشيء بإهانة، تقول: نبذت النواة، أي: رميتها، ينبذ هذا في النار، لكن أين ينبذ؟ {لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} [الهمزة:4 - 5] أما تعرفها يا محمد؟! إنها نار الله التي أوقد عليها {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} [الهمزة:6 - 7] أي: يصل عذابها إلى الفؤاد {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} [الهمزة:8] أي: مغلقة {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة:9] في سلاسل وأغلال.(46/10)
رابعاً: السعير
وهو مسكن المكذب بيوم القيامة: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} [الفرقان:11] {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك:5].(46/11)
خامساً: سقر
وقد ذكر الله عز وجل عدة أعمال توجب دخول سقر، وهي أربعة: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43] الذي لا يصلي: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:44] الذي لا يتصدق: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر:45] الذي ليس له اتجاه معين يخوض فيه، إن جلس مع الطيبين طيب، وإن جلس مع الفسقة فألعن منهم.
{وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:46]، والذي يكذب بيوم القيامة.
قال الله عز وجل: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:39 - 47] يعني: حتى جاءهم الموت.(46/12)
سادساً: الجحيم
وهذه للمتكبرين، يقول الله: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} [الدخان:47 - 48] لماذا؟ قال: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] كنت متكبراً على الله، لا تأتي إلى بيوت الله ولا تصلي مع عباد الله، وتشعر أنك أكبر منهم، وأن حجمك أضخم منهم، منفوخ بالمال؛ وبالمنصب وبالعافية وبالجنس وباللون وبالشباب، هذا ضعوه في الجحيم: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} [الدخان:47] والعتل قال العلماء: هو الأخذ بقوة، خذوه بعتل وبقوة وبشدة، اسحبه على وجهه {فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:47] ما معنى سواء الجحيم؟ قالوا: وسط الجحيم، ما هو على الطرف؛ لأن الذي على الطرف قد يخرج لكن ضعوه في الوسط، أي: لن يخرج، {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} [الدخان:48] الماء المغلي صبوا فوق رأسه منه.
يقول الله: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج:20] يحرق الجلد ويصهر البطن، كيف؟ قالوا: بمجرد أن يوضع على الرأس يخرق طبقة الرأس؛ لأن له حرارة شديدة ما يسيل فقط، يسيل ويخرق الرأس ويصل إلى البدن، لا حول ولا قوة إلا بالله!!(46/13)
سابعاً: الهاوية طبقة أهل النفاق
وهي أسفل طبقات النار، وهي للمنافقين -أعاذنا الله وإياكم منهم- يقول الله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145] واختار الله لهم هذه الطبقة مع شدة عذابها ونكالها؛ لأنهم كانوا يخدعون أهل الإيمان، ويخادعون الله {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9].
يقول الله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10] يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، قلوبهم قلوب أهل الإيمان، وأعمالهم أعمال أهل الكفر والشياطين -والعياذ بالله- فالله عز وجل يقول فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:8 - 9]، وفي الحقيقة ما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون، {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة:10] وهو مرض النفاق -والعياذ بالله- علامات النفاق معروفة؛ لأن النفاق ينقسم إلى قسمين: 1 - نفاق اعتقادي.
2 - نفاق عملي.
فالنفاق الاعتقادي يخرج الإنسان من الملة -والعياذ بالله- ويخلده في النار.
والنفاق العملي يجعل فيه خصلة من خصال النفاق ولكن لا يخرجه بالكلية من الدين.
فالنفاق الاعتقادي هو: بغض الإسلام، وبغض الله والرسول صلى الله عليه وسلم، وكره تكاليف الشرع، حتى ولو مارسها وأداها وهو يبغضها فهذا نفاق؛ لأن المنافقين كانوا يؤدونها، يقول الله عز وجل: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54] كانوا يزكون لكن بالغصب، ويصلون لكن بكسل، فالله سماهم كفاراً، لا بد أن تصلي وأنت مرح مسرور، مبسوط القلب، منشرح الصدر أنك تؤدي صلاتك وتقف بين يدي مولاك وخالقك، وإذا أخرجت زكاةً فتفرح أن جعل الله يدك العليا، وجعل في مالك حقاً للفقير المسكين، وجعلك صاحب مال وثراء، كان بالإمكان أن تنقلب المسألة وأن تكون فقيراً تطلب، لكن الله جعلك من أصحاب اليد العليا، وهم خيرٌ من اليد السفلى.
فتفرح بهذا، أجل بغض الإسلام، أو بغض شيء من الدين، أو كراهية انتصار المسلمين، أو الفرح بانتصار الكفار، أو التشفي من أهل الإيمان؛ هذا نفاق اعتقادي.
النفاق العملي: لا يخرج من الدين ولكنه له خصال وهي خمس علامات: 1 - إذا وعد أخلف.
2 - إذا حدث كذب.
3 - إذا اؤتمن خان.
4 - إذا عاهد غدر.
5 - إذا خاصم فجر.
(فمن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها) هكذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله يقول: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة:8] أي: من الإيمان وما عنده دين، {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:9] أي: مكانه هاوية، وهؤلاء هم المنافقون الذين كانوا يتصورون أن معهم شيء من العمل بناءً على كلامهم الكاذب، لكنهم في الحقيقة كانوا يخادعون الله فليس لهم شيء، وموازينهم خفيفة وطائشة، {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:9 - 11] والعياذ بالله.
هذه -أيها الإخوة- بعض أوصاف وصفات أهل هذه الطباق السبع.(46/14)
ذكر حر النار وبعيد قعرها
أما عن حر النار وعمقها فإن: [حرها شديد، وقعرها بعيد، ومقامعها من حديد] كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
يروي الإمام أحمد وأصحاب السنن حديثاً صحيحاً عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن ناركم التي توقدون جزءٌ من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: يا رسول الله! والله إنها كانت لكافية، قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وتسعون جزءاً كلها مثل حرها).
أنت الآن لو حاولت أن تقيس درجة حرارة النار، وأن تعرف مقاومة جسمك لحرارة النار، لعرفت أنك لا تستطيع الصبر على النار، لا تحاول أن تأخذ جمرة لكن خذ ماءً حاراً؛ إذا قدم لك الشاي وهو حار لا تقدر أن تشربه، وإذا أكلت طعاماً حاراً أحرق لسانك، وكوى بطنك، فكيف بمن يأكل ويشرب ناراً؟! وما هو حر نارنا هذه بالنسبة إلى تلك النار؟! لا حول ولا قوة إلا بالله، والحديث صحيح.
ويروي الإمام مالك والترمذي بسندٍ صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أوقد على النار ألف عامٍ حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف عامٍ حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف عامٍ حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة).
ويروي البخاري ومسلم حديثاً في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لي بنفسين، فأذن لها بنفسين: نفسٌ في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير والبرد).
قال تعالى: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81].
أما عمق النار إذا ألقوا فيها، فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع وجبة -أي: هزة ورجة- فقال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إن هذا حجراً رمي في النار منذ سبعين خريفاً فهو يهوي في النار الآن) كم تتصور عمق النار؟ لا إله إلا الله!! بمعنى: أن من نزل فيها لا خروج له، من أين يتسلق؟ أطول سجن في الدنيا جداره عشرة أمتار فكيف الذي مسافة النزول فيه سبعين سنة، والحجر نزل ووصل في تلك اللحظة التي أخبرهم بها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال في حديث آخر عند الترمذي: (إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم تهوي سبعين عاماً ما تفضي إلى قرارها) أي: ما تصل إلى قعرها، ويروي الترمذي حديثاً آخر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ويل وادٍ في جهنم يهوي فيه الكافر أربعون خريفاً قبل أن يبلغ إلى قعره) هذا ويل، ولكن تلك تحته والعياذ بالله.
أما كيف يردها الناس فقد ذكرت أن ورود الناس على أربعة أقسام: 1 - ناس يساقون سوقاً.
2 - وناس يسحبون على وجوههم.
3 - وناس يدعون على وجوههم.
4 - وناس -والعياذ بالله- يحشرون على وجوههم عمياً وبكماًَ وصماً.
ويساقون إلى النار جماعات وزمراً.(46/15)
أحوال أهل النار
يقول الله عز وجل: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} [إبراهيم:49] مقرنين في الأصفاد كما تقرن البقر في الأضماد، كل ثلاثة أربعة في صفد واحد {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:50] سرابيلهم أي: ثيابهم {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن:41] يأخذه الملك من الملائكة بناصية رأسه مع رجله ثم يرمى به في النار -والعياذ بالله- ينبذ في النار، وهكذا تأخذهم الملائكة بهذا العذاب {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32].
يقول في الحديث: (لو أن حلقة من السلسلة وضعت على جبال الدنيا لرضتها) أين؟ اسلكوه، أي: تدخل من فمه وتخرج من دبره، قالوا: لماذا؟ قالوا: ليشوى في النار كما تشوى الدجاجة في الشواية {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:31 - 32] لماذا؟ {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة:33].(46/16)
صفة ثياب أهل النار
ما هي ثياب أهل النار؟ الثياب صفائح من النار، يقول الله عز وجل: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:19] وتصور ثوباً من نار!! أنت الآن لا تقبل ثوباً من كيس خيش، لو فصلنا لك وأعطيناك على جلدك وقلنا: ارقد في هذا الثوب.
هل تتحمله؟ تقول: لا.
والله لا أتحمله، لماذا؟ جلدك رقيق ناعم لا يتحمل كيساً ولا صوفاً ولا يتحمل إلا (فلينة) داخلية من القطن الملبد من الداخل، لكن ثياب أهل النار من نار، الثوب نفسه صفائح من النحاس المحمي الذي هو نار أحمر، ويلبس الثوب.
يقول الله: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:19 - 22]-نعوذ بالله وإياكم من النار- بعد ذلك: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:50] هذه الثياب.(46/17)
صفة طعام أهل النار وشرابهم
ماذا يأكل أهل النار؟ لا إله إلا الله!! العذاب من كل شيء، يقول الله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17].
أما الطعام فقد ذكر الله أنه الزقوم والضريع، يقول الله عز وجل: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ} [الدخان:43 - 45] أول الأمر ينشف في الحلق، فإذا نشف لا يطلع ولا يخرج وهو نار، فيتذكر أنه كان يجيز الغصة بالماء، قال الله: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] فيدخل الماء الحار مع الزقوم، فإذا جاء هنا قال الله عز وجل: {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:45 - 46] مثلما يغلي الماء -والعياذ بالله- وبعدها يقول الله عز وجل: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات:62 - 63] فتنة أي: عذاباً {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:64].
وتصوروا شجرة تنبت في النار كيف تكون؟! المعروف أن النار تحرق الشجر، لكن هذه ضد النار، بل تنبت في أصل النار: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:64] {طَلْعُهَا} [الصافات:65] ثمرها وفاكهتها كيف؟ قال: {كَأَنَّهُ رُءوُسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:65] قال المفسرون: وكيف تكون رءوس الشياطين؟ هل يعرف أحد رأس الشيطان؟ لا.
لكن قالوا: على سبيل التمثيل، فإن أسوأ صورة وأسوأ شكل هو رأس الشيطان، هل تتصور أن رأس الشيطان جميل؟ لا.
رأس الشيطان قبيح ومنظره كريه، وطلع الشجرة مثل رءوس الشياطين، قال الله عز وجل: {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا} [الصافات:66] من هذه الشجرة: الزقوم.
وبعدها لن يأكل لقمة وانتهى الأمر، بل يأكل حتى يشبع، فهو لا يريد أن يأكل، لكنه مجبر عليه، فإذا جاء الطعام إليه وهو لا يريده أجبر على الأكل منه.
قال الله: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ} [الحج:21] فتضربه الملائكة بالمقمعة فيعود يأكل خوفاً من المقمعة، وإذا أكل أول لقمة لا يريد الثانية {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الصافات:66].
ثم يقول الله عز وجل: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم:15 - 16] ما قال: يشربه، قال: (يسقى) يبنى هنا الفعل المجهول يشرب يسقى يغصب عليه {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم:16] قيح ودم يتجرعه، لماذا يتجرعه؟ بالقوة {وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم:17] ما يقدر يشربه، من الذي يشرب قيحاً ودماً؟ والله لو وضع أمامك كوباً قد ملئ قيحاً ودماً وواحد على رقبتك بالسيف يقول: اشرب أو السيف، والله تنقطع رقبتك ولا تشرب، لماذا؟ لأنك لو حاولت، وأخذت أول شربة كادت تخرج كبدك ورئتك وقلبك وتموت، فكيف بثانية وثالثة ورابعة؟ فكيف بالذي يشرب طوال حياته قيحاً ودماً وصديداً في النار؟ هل بلغ في تصورنا هذا -يا إخواني- أم أننا نتكلم عن أساطير، والله إنه كلام الله، فلا نقول كلاماً من عندنا، أين عقولنا؟! هل آمنا حقيقة بالجنة والنار؟! والله لو آمنا بالنار حقيقة ما كان هذا وضعنا، الذين آمنوا بالنار حقيقة حتى رأوها رأي العين حتى تغيرت حياتهم، يدخل الواحد في الإسلام ويتغير كل شيء في حياته، يقلب حياته رأساً على عقب على منهج الله، أما الدين البارد والإحساس المتبلد بحيث يسمع قرع وعذاب النار ولا يهمه، وكأن النار أعدت لغيره، لا.
ما أعدت إلا لنا للناس {وَقُودُهَا النَّاسُ} [التحريم:6] لا البقر ولا الشجر، لا حول ولا قوة إلا بالله!! وهناك نوع آخر اسمه الضريع، يقول الله: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6] وما هذا؟ هذا -والعياذ بالله- {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:7] كلما أكل وإذا به جائع، أنت تأكل من أجل ماذا؟ من أجل الألم والحرقة التي تعاني منها في بطنك، فتأكل طعاماً فتسكت المعدة، لكن هذا الطعام إذا دخل في البطن لا يغني من جوع، ولا يسمنك، ولا تنتظر منه فائدة، {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:6 - 7] ما هو الضريع؟ الضريع: هو شجر من شوك تأكله الإبل، نسميه نحن في الجنوب (شبرم) لا أدري ماذا تسمونه أنتم هنا، شجر ينبت في الصحراء ولكن فيه دوائر كبيرة، وهذه الدوائر مزروعة شوكاً لا يقدر أحد أن يقرب منه ولا حتى من شوكة واحدة منه، لكن الإبل أعطاها الله قدرة عليه، يأتي البعير يفتح فمه ويأكله؛ لأن فم البعير من الداخل شديد الجلد، يكسر الشوك ويمضغه، كذلك هذا الضريع، لكن هنا أخضر وهناك من نار وفيه شوك، إذا أكل لا يسمن ولا يغني من جوع، نعوذ بالله وإياكم منه.
أما الشراب، فقد ذكرناه وهو الحميم والصديد والغسلين؛ والغسلين هو: ما يخرج من فروج الزانيات والزناة، يجمع في أواني من نار ويقدم شراباً لأهل جهنم، والعياذ بالله.
ثم ذكر الله الطعام والشراب بقوله عز وجل: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} [المزمل:12 - 13] ذا غصة: لا ينزل إذا وصل للحلق يبس.
{وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29] يغاثوا بماء: أي: كالقيح والدم، يشوي الوجوه: إذا وصل الإناء إلى فمه سقطت فروة وجهه في الإناء {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29].
ويقول: {مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم:16 - 17] ويقول: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] والعياذ بالله.(46/18)
ضخامة جسم الكافر في النار
اعلم يا أخي! أن الكفار في النار لا يبقون على وضعهم في الدنيا، وإنما تضخم أجسادهم ويزاد في طولهم وعرضهم، ورد في الحديث: (ما بين منكبي الرجل من أهل النار مسيرة ثلاثة أيام)، وورد عند مسلم والترمذي قال عليه الصلاة والسلام: (ضرس الكافر مثل جبل أحد).
إذا كان هذا الضرس! إذاً فكيف الرأس؟!! الذي فيه الرأس اثنان وثلاثون ضرساً، فإذا كان الواحد مثل الجبل كيف الرأس؟ ثلاثون جبل هذا في الرأس والرقبة، والمقعد جاء في الحديث قال: (مقعد الكافر في النار كما بين مكة والمدينة) (420كم)، هذا الكرسي الذي يجلس عليه في النار، لماذا؟ من أجل الإحراق؛ لأنه لو ترك هكذا تأكله النار على مسافة آلاف الأميال، لكن يضخم كي تأخذه النار ويبقى فيها.
ثم جلده مسيرة ثلاثة أيام، وتبدل الجلود كل يوم أربعمائة مرة من شدة الإحراق، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء:56] لماذا؟ قال: {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] لا إله إلا الله! نستغفر الله ونتوب إليه، ونعوذ بالله من هذا المصير.
والنار محكمة مطبقة مؤصدة محيطة من شمال وجنوب، ومن شرق وغرب، من فوق وتحت فلا مفر {كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة:11 - 12] يقول الكافر: أين المفر؟ أين نذهب ونهرب؟ قال الله: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} [الهمزة:8] أي: مغلقة مطبقة محكمة -والعياذ بالله- ويقول: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29] أي: أسوارها وحصونها {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29].
كم غلظ الجدار؟ ورد حديث في الترمذي يقول عليه الصلاة والسلام: (لسرادق النار أربع جدر -أي: الأسوار أربعة أسوار- كل جدارٍ مسيرة أربعين سنة) من يبني جداراً يجعله (20 أو 50 سم) إن كان صبة، أما في النار فهو مسيرة أربعين سنة، هذا جدار وبعده جدار وبعده جدار حتى لا يخرج، ومن يخرج من النار؟! لا حول ولا قوة إلا بالله! ويقول: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:55] ويقول: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر:16].
أما وسائل التعذيب في النار -والعياذ بالله- فشديدة، ومن أشدها وأبعدها -أعاذنا الله وإياكم منها- الحيات والعقارب، حيات كالجمال وعقارب كالبغال إذا لدغت الواحد يسري سمها في جسده أربعين سنة وهو يجد ألم اللدغة.(46/19)
صراخ أهل النار وتلاعنهم وتلاومهم فيما بينهم
لأهل النار صراخ وصياح وعويل ومجادلات وتكذيب وملاعنة {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] يتلاعنون في النار ويصيحون ويصطرخون، ويقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} [المؤمنون:107] لكن لن يخرج أحد منها، ويزفرون في النار، وبعضهم يرد على بعض: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ} [ص:59] قال أولئك: {بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ} [ص:60 - 61] أي: بعضهم يدعو على بعض، وهذا واقع الآن في الدنيا، لو مسكوا مجموعة من أهل جريمة لتلاعنوا وما دخلوا السجن، وتضاربوا قال: أنت، بل أنت، بل أنت، وهو سجن فيه أكل وشرب ونوم، كيف سجن النار لا حول ولا قوة إلا بالله؟! ثم يحصل في النار نوع من التلاوم، فيقولون كما أخبر الله عنهم: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66] يلوم نفسه أنه لم يطع الله، {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب:67 - 68] ويتحاجون أيضاً يقول الله: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:47 - 48] يقول: نحن كنا نتبعكم, ونمشي على منهجكم وطريقتكم فعلى الأقل احملوا عنا أكثر مما نحمل نحن، قالوا: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:48].(46/20)
استغاثة الكفار في النار بمالك ثم بخزنة جهنم
ويخبر الله عز وجل أنهم لا يخرجون منها ولا يموتون {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36] ويسألون عن المسئول؟ من صاحب الكلمة؟ فيقال لهم: هذا المسئول الأول.
مالك، فيدعونه ويقولون كما قال الله: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] لا يطلبون الخروج؛ لأنهم يعلمون أنه ليس هناك خروج، لكن يطلبون الموت، اطلب من الله يا مالك! أن يقضي علينا، فيقول لهم مالك: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:77 - 78].
وبعد أن ييئسوا من مالك يطلبون من خزنة جهنم التخفيف ولو إجازة يوم، يقول الله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49] يريدون إجازة ليوم واحد في العمر الطويل الأبدي، يريدون يوماً واحداً يذوقون فيه برد النوم؛ لأنه لا نوم في النار، ولا في الجنة؛ لأنك تنام في الدنيا من أجل أن ترتاح، وأنت في الجنة مرتاح طوال حياتك، لماذا تنام؟ فالنوم يقطعك عن أنك تتمتع بالزوجات وبالمناظر، وبالأكلات في الجنة، وأيضاً النوم في النار متى ترتاح؟ فلا أحد ينام، يقول الله: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً} [النبأ:24] إلا عذاباً وشقاء.
وتصور شخصاً يريد النوم، وكلما رقد ضربته، كيف تكون حالته، رجاء تعبان من العمل وقال: أريد أرقد قلت له: ما عليك ارقد وارتاح لكن لا تغمض عينك، قال: أريد أرقد نصف ساعة، قلت: لا ما في نوم، وكلما أغمض عينيه (صفعته) ما رأيك في هذا العذاب من أجل ساعة أو ساعتين بعد سهر يوم أو يومين، هؤلاء ساهرون طوال الحياة -والعياذ بالله- ما في نوم في النار يقول عز وجل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:49 - 50] إن الله أدخلكم النار وقد أعذركم {قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:50].(46/21)
استغاثة الكفار بالله بعد يأسهم من خزنة جهنم
بعد هذا يطلبون من الله، قالوا: ما نفعنا مالك ولا نفعونا خزنة النار، ادعوا الله فيدعون الله ويقولون: {رَبَّنَا} هذا الصوت جاء في النار، لو قالوا في الدنيا: ربنا.
لقال الله لهم: لبيكم، لكن ربهم في الدنيا الهوى والشيطان ولما دخلوا النار {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:106 - 108]، فبعدها يقولون كما قال الله: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21] ما لنا مهرب من العذاب سواء صبرنا أم جزعنا؛ فيبكون حتى يجف الدمع.
ثم يبكون حتى تنقطع الدماء، ثم تسيل مجاري في خدودهم من كثرة الدماء، تسيل أخاديد خد الواحد ورأسه كبير رأسه مثل ثلاثين جبل من جبل أحد، والدموع والدماء تنزل من كثرة الصراخ والعويل والعذاب الشديد يصير في الخد نهر ويصير أخدود من كثرة العذاب والبكاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله!! وهكذا -يا أخي في الله- يخلدون في النار في عذابٍ متواصل، لا يفتر عنهم يقول الله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:74 - 75] والإبلاس هو اليأس، ولهذا سمي إبليس إبليس؛ لأنه قد يئس من رحمة الله، والله قال له: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر:34 - 35].(46/22)
صفات المؤمن الناجي من النار
أخي في الله! كل ما سمعت من العذاب والنكال والأهوال إنما أعدها الله للكفار والمنافقين، ولم يعدها لأهل لا إله إلا الله، لم يعدها لأهل الإسلام، من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله من قلبه، وجرد لا إله إلا الله بالتوحيد، وجرد محمداً رسول الله بالمتابعة والاتباع، وأقام الصلوات الخمس حيث ينادى بهن في المساجد ومع جماعة المسلمين، وبكمال الطهارة والخضوع والخشوع وحضور القلب، وأدى الزكاة إذا توفر المال وتوفرت فيه شروطه، وصام رمضان، وحج بيت الله الحرام، وبر والديه، ووصل رحمه، وقرأ كتاب ربه، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأحب في الله وأبغض في الله، وجاهد في سبيل الله بقدر ما يستطيع من الجهد، وبذل ما يستطيع من الإمكان، جهاد الكلمة واللسان والمال والنفس، كل هذا من الجهاد.
ثم امتنع وابتعد وانزجر عما حرم الله من الكبائر؛ فحفظ عينه مما حرم الله، وحفظ أذنه، ولسانه، وفرجه، ورجله، وبطنه، وكف يده، إذا قام بهذا فإنه -أيها الإخوة- بعيدٌ من هذا العذاب كله.
المؤمن سالم بإذن الله لا يأتيه شيء من هذا كله إلا مبرة القسم؛ لأن الله عز وجل قد قال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] بل إن النار تصيح تقول: يا مؤمن! جز -أي: امش- فقد أطفأ نورك ناري.
نور المؤمن يؤثر على إخماد النار، فلا تصل إليه لتحرقه، وإنما هو يطفئها ويمر من عليها.
أهل الكفر والنفاق هم أهل النار، أما أهل الإيمان، وأهل لا إله إلا الله، والاستقامة على دين الله، والحب في الله والبغض في الله، الذين صبغوا حياتهم بصبغة لا إله إلا الله، وصاغوا أمورهم على أحكام لا إله إلا الله، وساروا خاضعين خاشعين مستسلمين مذعنين منقادين لأوامر الله، لا يرفعون رءوسهم على أمر الله، ولا يشاقون الله ولا رسول الله، وإنما سمعنا وأطعنا، يقول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:66].
قال عبد الله بن سلام: [والله لو أمرنا بقتل نفوسنا لفعلنا] رضي الله عنهم وأرضاهم، الله ما جعل علينا في الدين من حرج -أيها الإخوة- بل شرع لنا ديناً قويماً وهدانا صراطاً مستقيماً، ونزع منا الحرج، وما كلفنا إلا بما نستطيع، هل في تكاليف الشرع علينا مشقة أيها الإخوة؟! لا والله، نحن عبيد، كان بالإمكان أن نعبد الله ليل نهار مثل الملائكة، فرض الله علينا بداية خمسين صلاة، ولو صلينا خمسين صلاة كنا كل نصف ساعة في صلاة، لكن الله برحمته تبارك وتعالى، وبسبب مراجعة رسول الله له بإشارة من موسى عليه السلام له نزلها من خمسين إلى خمس، فبقيت خمس في الأداء لكنها خمسون في الثواب، صلِّ خمساً وخذ خمسين ثواباً، وتضيع الخمس كذلك، إذاً ماذا تريد بعدها؟ لم تعد تريد الدين، من ضيع خمس صلوات إذاً لم يعد يبقى له دين، تقعد من بعد الفجر تصلي الفجر الآن (4.
30)، وتقعد إلى (12.
30) كم جلست ساعات بدون صلاة؟ ثمان ساعات -يا إخواني- بدون صلاة، لا إله إلا الله! ما هذه النعمة! ثم تصلي الظهر (12.
30) وتقعد ثلاث ساعات ونصف، ثم تصلي العصر وتقعد إلى المغرب ساعتين ونصف، ثم إلى العشاء وتصلي وترقد إلى الفجر، ما هذه النعمة يا إخواني؟ ما علينا مشقة في الدين.(46/23)
حرمة الزنا ومذهب أهل السنة في أهل الكبائر
حرم الله الزنا وأباح لنا ما هو أطهر وأنظف وهو: الزواج، والزواج والزنا سواء في العملية الجنسية، لكن الزواج نظيف والزنا خبيث، ما يكلف مسئولية ولا يجعل لك مسئولية على ولد، ويفسد الأنساب، ويحلل الأسر، ويهتك الأعراض، ويجعل الحياة بهيمية، الحيوانات ما عندها زواج، هل سمعت أن حماراً تزوج بحمارة؟ أو عقد ثور على بقرة؟ أو تيس على عنزة؟! لا.
هذه حيوانات، كذلك الإنسان بغير الدين حيوان، ولهذا في أوروبا والغرب والشرق ما عندهم هذا، صحيح يقترن بزوجة رسمية، لكن الزنا شيء عادي، الزوجة واحدة ومائة صديقة وزانية والعياذ بالله.
فالله عز وجل ما جعل علينا في الدين من حرج، بل شرع لنا ديناً عظيماً سهلاً هيناً وإنه ليسير على من يسره الله عليه، فإذا رفض الواحد شيئاً من الدين وكفر فالنار، وإذا أطاع فالجنة.
أما صاحب الكبيرة والمعصية والذنب فهو مسلم إن حافظ على الصلوات وقام بالأركان ولكن تزل قدمه، قال العلماء: صاحب الكبيرة فاسق بمعصيته مؤمن بإيمانه، تحت مشيئة الله في الدار الآخرة، إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له، خلافاً للخوارج والمعتزلة.
فـ الخوارج قالوا: صاحب الكبيرة كافر في الدنيا وهو مخلد في النار.
والمعتزلة قالوا: في الدنيا لا كافر ولا مسلم، بل منزلة بين المنزلتين، لكنه في الآخرة كافر في النار مخلد.
وهذا خطأ ومعارض للأدلة، والصحيح هو مذهب أهل السنة والجماعة: أنه مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته، تحت مشيئة الله في الدار الآخرة، إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه.
ولا يعني هذا -أيها الإخوة- أن نقلل من أهمية المعاصي، فإن المعاصي صعبة، ولا تستطيع أيها المسلم! أن تتحمل لحظة واحدة في النار، فلا تجعل لك -يا أخي- خيارات، ولا تأتي وأنت على خطر، بل تب إلى الله من كل ذنب، واستقم على منهج الله دائماً، حتى تلقى الله وأنت مسلم؛ فيحلك دار الكرامة، وينجيك من دار الهوان، أعاذنا الله وإياكم من ذلك، إنه على كل شيء قدير.
يمكث أهل الكبائر في النار بقدر ذنب كل واحد منهم، الذي معه ذنوب يقعد أكثر من غيره، والذي أقل ذنوباً يجلس أقل، بقدر الجريمة، فإذا خرجوا وما بقي أحد إلا أهل الكفر، تمنى الكفار أنهم كانوا مسلمين، يقول الله: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2] يقولون: يا ليتنا كنا مسلمين، وعرفنا الله ولو بشيء بسيط؛ لأن أهل الكبائر خرجوا من النار.(46/24)
ذبح الموت وحسرة أهل النار
بعد خروج العصاة -أيها الإخوة- ودخول أهل الجنة الجنة واستكمالهم فيها، يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيوضع بين الجنة والنار ويذبح ويقال: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت، والحديث في الصحيحين يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار فيذبح، ثم ينادي منادٍ: يا أهل الجنة! خلودٌ فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً ونعيماً، ويزداد أهل النار حزناً وعذاباً أليماً) لأن عندهم أمل أنهم في أن يخرجوا أو يموتوا، لكن إذا قيل لهم: خلود فلا موت، فهؤلاء يحزنون، وأهل الجنة خلود فلا موت يفرحون، لماذا؟ لأن أي واحد يأتي إلى مكان يخاف ألا يخرج منه إن كان جيداً ويريد أن يقعد دائماً، فأهل الجنة خالدون فيها أبداً، وأهل النار خالدون فيها أبداً، وبعدها تسود وجوههم، يقول الله عز وجل: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:27].
إلهي لست للفردوس أهلاً ولا أقوى على نار الجحيم
فهب لي توبة واغفر ذنوبي فإنك غافر الذنب العظيم
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم ارحمنا برحمتك، واغفر لنا ما سلف منا وكان من الذنوب، اللهم اغفر لنا وطهرنا بالتوبة يا رب العالمين! واستعملنا فيما يرضيك، اللهم طهر أعيننا من الخيانة، وألسنتنا من الكذب، وأيدينا من الجريمة وقلوبنا من النفاق، وجوارحنا من المعاصي، وارحمنا يا رب العالمين! واهدنا إلى سواء السبيل.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك سميع الدعاء.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(46/25)
الأسئلة(46/26)
صعوبة ترك المعصية بعد إلفها
السؤال
إني شخص قد منَّ الله عليَّ بالهداية، ولكن يوجد لديَّ معصية لا أستطيع تركها، وقد تركت كل المعاصي إلا هذه المعصية، أرشدنا بطريقة لكي أتركها؟
الجواب
أولاً: نحمد الله الذي هدى هذا الشاب، ونسأل الله أن يكمل له الهداية، ولكن -أيها الإخوة- الهداية دائماً تأتي ثمرة للمجاهدة كما في قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] لأن الجنة غالية، والنار حرها شديد، فلا يمكن لأحد أن ينال هذه السلعة وهي الجنة وينجو من النار بدون معاناة ومجاهدة وتعب، وكل المعاصي والذنوب والآثام إذا وجدت من الإنسان قوة في الإرادة وعزيمة وتصميماً فإنه يتغلب عليها بعد الاستعانة بالله عز وجل وأخذ الأسباب، لكن إذا ضعف الإنسان وتراجع أمام شهوة من الشهوات أو معصية من المعاصي فإن الشيطان يستغل هذا الضعف، ويبدأ معه في حرب وتراجع إلى أن يقحمه فيما هو أعظم.
ولهذا نقول للأخ الكريم: تذكر وأنت تقدم على هذه المعصية تذكر أول شيء أن الله يراك.
أوحى الله إلى نبي من الأنبياء أن بلغ قومك إذا أرادوا معصيتي هل يعتقدون أني أراهم أو لا يعتقدون؟ أسألك إذا خلوت بنفسك وأردت أن تمارس المعصية؛ هذه معصية العادة السرية، هل عندك عقيدة أن الله يراك، أو لا يراك؟ إن كنت تعتقد أن الله لا يراك فقد كفرت، ولا حاجة لأن تصلي وتصوم؛ لأنك كافر؛ لأن عقيدتك أن الله لا يراك.
وإن كنت تعتقد أن الله يراك فلم لا تستحي منه؟!! لم كان الله أهون الناظرين إليك؟!! لو أحد رآك من زملائك أو من إخوانك أو أهلك وأنت على هذه القذرة هل ترضى؟ هل ترضى أن يراك طفل؟ إذاً كيف ترضى أن يراك الله ولا تستحي من الله؟ تستخفي من الناس ولا تستخفي من الله وهو معك، إذ تبيت ما لا يرضى من القول، لا إله إلا الله!! يقول الله في الحديث القدسي: (فلم كنت أهون الناظرين إليهم) لماذا كان الله في نظرك أهون ناظر بحيث تستحي من طفل ولا تستحي من الله؟!
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
هذه العادة السرية أنا أسميها: العادة الشيطانية وهم يسمونها: العادة السرية لتلطيفها، وإلا فاسمها في الشرع: نكاح اليد؛ لأن الإنسان يزني بيده، وقد ورد في الحديث لعنته: (لعن الله ناكح يده) وإن ناكح يده يوم القيامة يبعث ويده حبلى، وما من حيوانٍ منوي يخرج عن طريق الاستمناء باليد إلا وتحمل هذه اليد منه، لكن متى تطلع آثار الحمل؟ يوم القيامة، كيف تبرئ نفسك -يا أخي- إذا أتيت يوم القيامة ويدك حبلى فيها ثمانمائة أو تسعمائة ولد، مصيبة يا أخي! كيف هذا، هذه عادة خبيثة محرمة، والدليل قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5 - 6] فقط، أي: أمة عندك، {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:6 - 7] أي: المعتدون المتجاوزون لأمر الله، لو كان نكاح اليد سائغاً لأباحه الله {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم:64].
الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين يقول: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع -ما قدر ما قال: فعليه بيده- فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).
فأولاً: يا أخي! استشعر عقوبة الله، وتذكر أن لذة المعصية البسيطة لذة الإمناء وأنت تمني فيها متعة ولذة بسيطة لا تعدل حرقة النار، ولا تعدل لذعة النار، فاغلب نفسك يا أخي! وجاهد نفسك مرة ومرتين وثلاثاً وأربعاً، وإن كان لك إمكانية في الزواج أو أبوك له إمكانية فتزوج، وإن لم تتزوج فعليك بالعفة، يقول الله عز وجل: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] ومن يستعف ماذا يصير له؟ يعفه الله، انظر إلى كثير من الشباب لا يعملونها ولا يفكرون فيها أبداً لماذا؟ استعفوا، أما أن تجلس وبالك وفكرك فيها أين إيمانك؟ وأين دينك؟ وأين خوفك من الله؟ تصور شخص أخذ لك صورة (بالكاميرا) في تلك اللحظة، ثم بعدها أراك، قال: انظر كيف كنت تعمل، أما تخجل؟ لا تفعلها إلا القردة والكلاب، هذا العمل لا يليق بالإنسان -يا أخي- أنت مسلم، مؤمن، من أهل لا إله إلا الله، يدك طاهرة ونظيفة، تسجد عليها، وتصلي لله، وتكبر بها، ثم تعمل بها هذه الجريمة والعياذ بالله!! حسناً كيف تصنع؟ أولاً: الخوف من الله، والمراقبة لله.
وبعدها هناك وسائل تتخذها للابتعاد عن هذه العادة الشيطانية وهي كالآتي: 1 - لا تكثر من الطعام.
حاول أن تعمل لك حمية بحيث لا تأكل إلا بعض الطعام الخفيف الذي يقيم جسمك وعودك، ولا يبعث فيك الشهوة.
2 - اعمل أي عمل مهني، إذا كان أبوك مزارعاً تعمل معه في المزرعة، أو كان أبوك تاجراً اشتغل في الدكان، خذ (الأكياس) واحمل (الكراتين) من أجل الطاقة هذه تذهب، ما عندك دكان ولا مزرعة، اعمل لك حركات رياضية وتمرن، ولا تبقي شيئاً إلى أن تطيح وتفنى، اعمل لك من هذه الأثقال وخذها وضعها، ودر على البيت ما في مانع، وإذا أتيت للفراش لا تأتي إلا وأنت منهك من أجل أن تنام.
3 - إذا أحسست برغبة في مثل هذا الشيء قم صلِّ لله ركعتين، أحد سألني فدليته على هذا الموضوع قلت: كلما راودتك نفسك صل ركعتين، وجاءني بعد فترة وقال: والله ما عاد جاءتني؛ لأن النفس علمت أني أصلي، قالت: إذاً هذا لا فائدة فيه وهكذا.
4 - اقرأ القرآن.
5 - ابتعد عن قرناء السوء.
6 - اسأل الله الهداية، اطلب من الله أنه يعفك، وبعدها إن شاء الله يعفك الله.(46/27)
حكم ذكر الموت والخوف منه بشكل دائم
السؤال
أرجو بإذن الله إيجاد الحلول لحالتي النفسية وهي كما يلي: 1 - التفكير في الموت تفكيراً يطول عليَّ حتى يخيفني، وأقول: كيف نغدو ونروح والموت من خلفنا.
2 - إذا أخبرت أو أعلمت بمريضٍ مخطئ أو غير ذلك أفكر كثيراً وأقول: كيف أغفل وأنسى حالة فلان وهو سوف يموت، ويذهب عني حتى النوم.
3 - لو أسند إليَّ تجهيز ميتٍ فإنني أعتذر؛ لأنني أتصور حدوث حالةٍ نفسية لو فعلت ذلك.
4 - إذا رأيت الميت أفزع ويستمر الخوف حتى في الليل ويذهب عني النوم.
الجواب
حالتك -يا أخي- ليست مرضاً نفسياً، وإنما هي حالة إيمانية، هذا هو الصحيح، ما تعيشه الآن من خوف من الموت أو إذا رأيت ميتاً، أو إذا ذكر الموت، هذا هو الذي يجب أن يكون؛ لأن الرسول أمرنا بهذا، قال: (أكثروا من ذكر الموت) وكان الصحابة هذا شأنهم عند ذكر الموت؛ يذهبون إلى المقابر، ويرون المرضى، ويحضرون صلاة الجنازة، ويغسلون الموتى ويكفنونهم ويصلون عليهم، من أجل ماذا؟ من أجل ذكر الموت؛ لأنه كلما أكثرت من ذكر الموت كلما حجزك عن المعصية، ودفعك إلى الطاعة.
وأخونا مسكين يقول: إني مريض مرضاً نفسياً، لا والله لست مريضاً، بل المريض النفسي الذي لا يذكر الموت، هذا هو الغافل، أما أنت فأنت عندك قلب حي بذكر الله وبذكر الموت، فاستمر على هذا ولا تفكر في غيره، حتى يأتيك الموت وأنت مستعدٌ له إن شاء الله.(46/28)
حكم التسبب في قتل النفس بسبب عدم إسعافها
السؤال
هذا شاب قد أورد رسالة طويلة، ومضمون هذه الرسالة أنه يحكي قصته فيقول: بأنه صدم طفلة صغيرة، وخاف على نفسه من الورطة فذهب إلى بيته، وبعد فترةٍ علم أن الطفلة قد ماتت، ولكنه حتى الآن لم يخبر أهلها بأنه كان السبب في ذلك؛ لأن علته في ذلك أن هذه الطفلة قد خرجت هي بنفسها على السيارة ولم يصدمها هو بنفسه، فما هو الحل حيال هذه المشكلة؟ وكيف سيقابل الله عز وجل؟ وما ينبغي أن يعمله وإن كان في ذلك قطع رقبته مثلاً؟
الجواب
هذا الفعل شنيع جداً وجريمة، ولو كنت حاكماً أنا أو قاضياً وجاءني مثل من يفعل هذا الفعل يصدم إنساناً ثم يذهب ويتركه لحكمت عليه بالقتل؛ لأن كونك غير عامد صحيح، لكن صدمتها ماذا تعمل؟ تتركها! أدجاجة هي أم قطة! هذه إنسانة، ذهابك عنها بعد صدمها كأنك قتلتها عمداً، ولذا لو كنت قاضياً لحكمت عليك بالقتل؛ لأنه ارتكب جريمة.
ثم -والعياذ بالله- ارتكب أشد منها، وضيع دم مسلمة، وضع الأسرة الآن كيف قلوبهم على هذه الطفلة؟ وهذه في ذمته، ولذا نقول له: عليه بالمسارعة إلى تسليم نفسه للسلطة، وإخبارهم باليوم والحادث والمكان، وهم سيراجعون السجلات وسيعرفون البنت ويعرفون أهلها، ويأتي أهلها ويقول لهم: أنا ارتكبت هذه الخطيئة، وكانت البنت هي التي خرجت عليَّ، ولكني جاهل لا أعرف، والآن تبت إلى الله، ومنَّ الله عليَّ بالهداية، والحمد لله، ووجدت أن من واجبي أني آتي لأضع يدي في أيديكم ونفسي لكم بما تريدون وما يحكم عليه الشرع، وطبيعي فإنهم سيكونون كرماء؛ لأنهم يعرفون أن الذي جاء بك إليهم هو الله وخوفك منه، ما أحد يعلم عنك لو أنك استمريت في معصيتك وضلالك، لكن لما جئتهم بالوجه الحسن، أتوقع إن شاء الله أن يكونوا كرماء وأن يقولوا: عفا الله عنك، وأن تأخذ منهم الرضا، ولا مانع من أن تمكث في السجن فترة عقوبة لما وقع منك، إذا جلست ستة أشهر أو سنة فالسجن هذا شيء بسيط حتى تسلم من النار وتبعد نفسك من وخز الضمير وألم القلب والنفس.(46/29)
دخول الجن في بدن الإنس حقيقة
السؤال
ظهر في هذه الفترة أقوال لبعض المشايخ وهو الشيخ علي العمري، ينكر فيها دخول الجني إلى بدن الإنسي، ويقول السائل: إن هذا القول أحدث بلبلة عند الكثير من الناس؟
الجواب
أنا حقيقة الذي أعرفه وسمعته بأذني من كلام الشيخ علي العمري أنه لا ينكر دخول الجني إلى بدن الإنسي؛ لأنه يعرف أن هذا وارد في الكتاب والسنة، ويعرف أنه عايش الفترة من الزمان وعاش مع الجن وسمعهم، لكن الشيخ يقول: إن كثيراً من الحالات التي يتصور الناس فيها أنها تلبس بالجن غير صحيحة، وأنا أوافقه على ذلك، بعض الحالات هي إيحاءات نفسية، أي: الواحد نفسه متصور أن معه جنياً، وليس معه جني، ولذا إذا قلت له: هل فيك جني مسلم، أو كافر؟ قال: كافر، هو نفسه يقول: كافر؛ لأنه متصور أن عليه جنياً كافراً، ولا شيء عنده أصلاً، وقد مرت بي حادثة مثل هذه.
جاءني شخص وأنا في أبها، الولد جالس وقال أخوه: هذا مصروع معه جنية، فقمت قرأت عليه، وبعد ما انتهيت من القراءة قلت: اخرجي يا عدوة الله، ظننت أن عليه جنية مسلمة أو كافرة فلم يتكلم قلت: إذاً هذا جني لا يتكلم، فضربته في رأسه، ثم ضربته الثانية، المهم فتح عيناه وهو مغمض طوال الوقت وأنا أقرأ، وقال: تكلمني أو تكلم الجني، قلت: أنت تسمع كلامي؟ قال: إي والله، قلت: وتشعر بضربي؟ قال: إي والله، قلت: قم، الله أكبر عليك! ما فيك جني ولا فيك شيء، المسكين جاء لي من بيته وهو متصور أن فيه جني، ولهذا حين كنت أكلمه وهو ساكت كان يحسب الكلام للجني الذي عليه، وهو ليس فيه شيء.
فأكثر الحالات -أيها الإخوة- عند بعض النساء خاصة، يعني بينها وبين زوجها شيء، مثلاً تحب زوجها وتريده لها، وفيها شعور أنها مسحورة، ومن أين؟ والله بنت عمته تريد تتزوج به، وفعلت لي شيئاً، والله إني أحس نحو زوجي بنوعٍ من الفتور، كنت أحبه والآن أعزف عن فراشه، إذاً أنا مسحورة، فإذا ذهبت عند القارئ وقرأ عليها، قالت: مسحورة، من سحرك؟ فلانة سوت مشكلة بين الأسرة، ولا معها سحر ولا فيها شيء، كونها لا تحب زوجها بعض الأيام فكل المتزوجين هكذا، هل يبقى الزواج والحب طوال الأيام؟ الدنيا تتقلب والقلب يتقلب.
إذاً: أيها الإخوة! معظم الحالات وأكثرها حالات نفسية توحي إلى النفس خاصة عند النساء وليس فيهن جن.
إنما كون الجن يدخل في الإنسان نعم يدخل، وقد ثبت هذا بالكتاب والسنة، الرسول قال للرجل: (اخرج عدو الله) أي: ماذا؟ اخرج من البدن، وقال الله في القرآن: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] أي: مس الجن.
أما كون بعض الناس ينكرون فهذا الخطأ وقالوا: إن الجن من النار والإنسان من الطين، كيف يدخل هذا في هذا؟ أصلي وأصلك من طين، لكن هل أنا كومة طين؟ لا.
الأصل طيني لكن بعد أطوار تسلسل وصار لحماً ودماً، كذلك الجن؛ الجن أصله ناري لكنه الآن ليس ناراً، الرسول مسكه، قال: (حتى وجدت برد لعابه على يدي) ما أحرق الرسول برد اللعاب، والشيطان من الجن، يقول: (ولولا دعوة أخي سليمان لربطته في سارية المسجد، ولأصبح غلمان المدينة يلعبون به) فكونه مخلوقاً من النار لا يمنع أنه يدخل في الإنسان؛ لأن له طبيعة غير طبيعته الأصلية التي كان عليها يوم خلقه الله من النار، فالجن يدخلون في الناس، والذي أعرفه وقد سمعته بأذني في محاضرة ألقاها الشيخ علي العمري في أبها قال: أنا لا أنكر أن الجن يدخلون في الإنس، لكني أقول بخبرتي الطويلة: إن معظم الحالات التي مرت عليَّ أكثرها ليست مساً من الجن، وإنما هي إما أمراض نفسية، أو إيحاءات داخلية، وما يحصل من كلامٍ على بعض ألسنة الناس إنما هو من النفس الباطنة.
وما النفس الباطنة؟ نفسك مهيأة ومركبة على شيء وهي فاهمة، ولهذا ما إن يأتي كلاماً إلا أن تقول هذا الكلام، وليس حقيقة منك ولا من غيرك، وإنما هو من نفسك الداخلية الباطنة.
أسأل الله لي ولكم أن يهدينا سواء السبيل والهداية.
ثم أيها الإخوة! هذا الموضوع أنا أسميه من العلم الفضلة، والجهل به لا يضر والعلم به لا ينفع، وليست قضيتنا مع الجن، قضيتنا الآن مع الإنس، مع الدعوة إلى الله، مع تقوية الإيمان، مع تثبيت العقيدة، مع تحرير الناس من الكبائر.
أما الجن وما يتعلق بهم، فنستعيذ بالله منهم، ونتحصن بالآيات والدلائل، وليس له سلطان علينا، يقول الله: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99 - 100].
والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(46/30)
أسباب الهداية [1،2]
تحدث الشيخ في هذه المحاضرة عن نعمة الهداية مبيناً أنها من أجل النعم التي أنعم الله بها على عباده؛ لأنها هي التي تنفع في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، كما تحدث عن بعض النعم التي سماها بالنعم المؤقتة مثل المال والولد والوظيفة، وختم حديثه بذكر عشرة أسباب من أسباب الهداية.(47/1)
من نعم الله على خلقه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونؤمن به ونتوكل عليه، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واقتفى أثره واتبع منهجه وسنته، وعنا وعن جميع المسلمين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:(47/2)
نعمة الهداية
أيها الإخوة في الله: إن نعمة الهداية نعمة لا تعدلها نعمة، نعمة تلحقك آثارها في هذه الدنيا فتعيش سعيداً، إذ لا سعادة بغير هداية: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:36 - 37] {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:28 - 29].
إن نعمة الهداية تلحقك آثارها في الساعات الحرجة، واللحظات الصعبة حينما تزول الحجب وتنكشف الحقائق وتبدو الأمور على وضعها الطبيعي، دنيا زائلة شباب فاني حياة منتهية آخرة مقبلة ملائكة نازلة وملك الموت موكل بقبض روحك ونقلك من هذا الدار إلى الدار الآخرة، هنالك تنفعك نعمة الهداية، فيثبتك الله بالإيمان: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] هذا الكلام عند الموت، أي: لا تخافوا مما أمامكم ولا تحزنوا على من خلفكم، فهناك اطمئنان على المستقبل والماضي والحاضر، فالمستقبل لا تخافوا منه، والماضي لا تحزنوا عليه، والحاضر: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] لماذا؟ قالوا: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ} [فصلت:31] لأنكم كنتم أولياء الله في الدنيا، فنحن أولياؤكم في الدنيا والآخرة: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:31 - 32].
إن نعمة الهداية تنفعك في القبر المظلم الموحش، في القبر الذي نحن اليوم في غفلة عنه، نسكن القصور وننسى القبور، نعيش في النور وننسى ظلمات القبور، نرقد على الأسرة والفرش وفي غرف النوم الطويلة العريضة وننسى اللحد وظلمته، والقبر وضغطته، والسؤال وشدته، في تلك اللحظات تأتيك نعمة الهداية، ويلقنك الله عز وجل حجتك ويثبتك؛ لأنك كنت في الدنيا ثابتاً غير متزعزع أو متذبذب أو متلون، وإنما ثابت ثبوت الجبال الشوامخ، ثابت على دين الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27].
إذاً: من ثبت هنا ثبَّته الله في القبر، وعلى الصراط، وفي عرصات القيامة، حتى يدخله الله دار الثابتين -جعلنا الله وإياكم منهم- ومن زاغ هنا وانحرف، انحرف في القبر، وعند الموت، وعلى الصراط، وفي العرصات، حتى يدخل دار المنحرفين، أجارنا الله وإياكم منها.
وفي القبر لن تنطق الشهادات ولا المناصب ولا الكراسي الدوارة، ولا العمارات والبنوك والمؤسسات، ولا العضلات، ولكن تنطق فقط القلوب المؤمنة المهتدية التي عرفت الله في هذه الدنيا.
وفي عرصات القيامة مروراً بالجسر الرهيب المضروب على متن جهنم الجسر العظيم الذي جاءت مواصفاته في الأحاديث الصحيحة بأنه: أدق من الشعر، وأحد من السيف، وأحر من الجمر، وأروغ من الثعلب، والناس مأمورون كلهم بالسير عليه، إذ لا وصول إلى الجنة إلا من خلاله، ووسائل النقل ووسائل العبور هي العمل الصالح، فمن جاء بوسيلة نقل جيدة عبر، ومن جاء بغير وسيلة نقل خسر وهوى في النار.
إن نعمة الهداية تجعلك تعبر الصراط، قيل لبعض السلف وقد رُؤي في منامٍ: ما صنع الله بك؟ قال: وضعت قدمي الأولى على الصراط والثانية في الجنة.
أي: أنه ليس هناك تأخر أبداً، ولعله لم يكن لديه في الدنيا شيء سوى الإيمان والعمل الصالح، فترى في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بأسباب نعمة الهداية.
إذاً نعمة الهداية عظيمة، نعمة لا تعدلها نعمة، والنعم كلها من الله، يقول الله عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] ويقول: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53].
نعمة المال والولد والزوجات والمناصب والرتب، والعافية والصحة، والأرزاق والأمن، كل هذه نعم، نحمد الله الذي لا إله إلا هو عليها، ونسأله المزيد من فضله، لكنها نعم مؤقتة، فهي تنفعك إذا كنت حياً، لكن إذا خرجت من الدنيا فليس معك شيء من ذلك، وهناك فقط نعمة واحدة هي التي تنفعك هنا وهناك، والعقل يفرض عليك إذا كنت عاقلاً، أن تهتم بالنعمة التي تنفعك في الدنيا، وعند الموت، وفي القبر، وعلى الصراط، وتنفعك وبالعرصات وإلى أن تدخل الجنة؛ فعليك أن تعطي للنعم الأخرى بقدر ما تنفعك.(47/3)
نعمة المال
إذا كانت نعمة المال تنفعك في الدنيا، فاشتغل بالمال بقدر ما ينفعك في الدنيا، والباقي حوله إلى الآخرة، كما قال الناصحون لقارون فإن قارون كان ثرياًً، بل كان من أثرى أهل الأرض، مفاتحه التي هي مفاتيح المخازن {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76] أي: إن العصبة الرجال لا يستطيعون أن يحملوا مفاتيح المخازن، فلما خرج متبختراً متزيناً مفتخراً بهذا المال، قال له قومه: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76]، أي: لا تفرح بالدنيا إذا سيقت لك، بل احزن منها وخف، فإنها استدراج لك وابتلاء واختبار، والله زوى الدنيا عن أنبيائه ورسله إكراماً لهم، وبسطها على أعدائه والعصاة من عباده إضلالاً لهم، ولم يبسطها إلا لنبي واحد وهو: سليمان، فاعتبرها بلية وقال: {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40] فلم يعتبرها نعمة، وإنما اعتبرها مصيبة وابتلاء واختباراً، فقالوا له: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76].
ولكن إذا بُسطت عليك الدنيا وفتحت لك، فلا تردها إذا جاءت من الحلال، ولكن اعمل لها (تحويلة) إلى الآخرة: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} [القصص:77] أي: بهذه الأموال {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77] فقال هذا المغرور التعس، الغبي الجهول: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78] يقول: أنا صاحب عقلية تجارية، أنتهز الفرص وأغتنم المناسبات، وكلما أتيحت لي فرصة اغتنمتها، ولذا أُثريت وأصبحت صاحب مال، وما علم المسكين أن في هذه الدنيا من هو أشد قوة وأعظم عقلاً منه، ولكنه يعيش فقيراً.
يقول أهل العلم: كان هناك رجل فقير وكان عقيماً، لكنه عاقل ولبيب، وكان هذا الفقير مبتلىً بالفقر أي: ليس عنده شيء، لم يستطع أن يجمع عبر شهور مبلغاً من المال ليشتري به حذاءً، فنزل إلى السوق يمشي على قدمين حافيتين، ومعه درهمين في جيبه قد رصدهما لشراء الحذاء، وفي الطريق التقى برجل يسوق أمامه أربعين حماراً، وكانت الحمير هي وسائل النقل الشائعة، أي: هي السيارات المنتشرة في عهدهم، وكان ذلك الرجل خلف الأربعين حماراً يضربها ويطردها من هنا إلى هنا، فلحقه الفقير قائلاً: يا أخ العرب! لمن هذه الحمير؟ قال: لي.
قال: كلها لك.
قال: نعم.
كلها لي، فقال: هلا ركبت واحداً منها، لماذا تمشي وهي أمامك وكلها لك؟ قال الرجل: يا أخي! أنت لا تعلم ما هي المشكلة، قال: وما هي؟ قال: إذا ركبت عليها صارت تسعة وثلاثين حماراً، وإذا نزلت زادت وكانت أربعين حماراً.
فهذا المغفل لا يعرف أن يعد حميره؛ إذا ركب على حمار عد الذي أمامه ونسي الذي تحته، فإذا نزل صارت كلها أمامه فأصبحت أربعين حماراً، فقال: إذاً نمشي وتزيد حماراً ولا تنقص، فتعجب هذا الرجل الحكيم وقال: سبحان الله! هذا الرجل لا يعرف أن يعد حميره وعنده أربعين حماراً، وأنا عندي عقلية عظيمة وليس لدي أحذية ألبسها.
إذاً الرزق ليس بالعقلية، ولا بالفرص، وإنما بتقسيم الله، يقول الله عز وجل: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32] فالمال نعمة، ولكنه نعمة إذا استغل في طاعة الله.
ولكي يكون نعمة فإن هناك شروط: أولاً: أن يجمع من الحلال، ويُنفق في الحلال، وأن يخرج منه الحقوق والواجبات، وإلا تحول المال إلى لعنة في الدنيا قبل الآخرة، يقول الله عز وجل في سورة التوبة: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا} [التوبة:55] أي: بالأموال والأولاد {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55].
ويذكر الإمام أحمد في مسنده حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (التقى مؤمنان على باب الجنة: مؤمن غني، ومؤمن فقير) أما لو كان الغني فاجراً، فإنه ليس له طريق إلى الجنة؛ لأن هناك (تحويلة) من الصراط على جهنم، لكن هذا مؤمن استطاع أن يعبر الطرق كلها وأن ينجو إلى أن وقف على باب الجنة بإيمانه، ولكن عنده مال، والآخر فقير وعنده إيمان، قال: (فأدخل الله المؤمن الفقير لتوه) هذا الفقير عنده إيمان ولكن ليس لديه متاع، عندما تسافر الآن من الرياض إلى جدة، وتأتي إلى الكونترول فتجد أن هناك لوحة مكتوب عليها: الركاب بغير عفش لا أحد يؤخرهم، يعطون البطاقة ويدخلون مباشرة، لكن إذا جئت عندهم ولديك عشرة كراتين وشنط، عندها يقولون لك: على جنب، قف هنا والتزم بالطابور افتح وزن ويتعبونك من أجل رحلة ساعة أو ساعتين.
حسناً! والذي لديه رحلة مدى الحياة إلى الآخرة، كيف ينجو؟ كيف يكون تعبه في الطريق؟ فالأموال مسئولية وعهدة على صاحبها.
قال: (وحبس المؤمن الغني ما شاء الله أن يحبس) أي: حبس للسؤال فقط، فليس هناك عذاب؛ لأنه ناجح، قال: (ثم أدخله الله الجنة، فالتقى به صاحبه الفقير المؤمن -التقى به في الجنة- فقال: يا أخي! لقد تأخرت عليّ حتى خشيت عليك) يقول هذا المؤمن الفقير: والله إني خفت عليك، فقد ظننت أنك ذهبت إلى النار، ما الذي أخرك؟ ما الذي حبسك عني؟ (قال: يا أخي! حبسني مالي، حبست محبساً سال مني من العرق ما لو أن ألف بعير أكلت من حمض النبات، ثم وردت عليه لصدرت عنه رواء) ألف بعير! هذا مقدار ما سال من العرق، البعير إذا أكل من حمض النبات لا يرويه برميل، فما بالك بألف برميل في سين وجيم! ليس هناك أذى ولا مطرقة، وإنما فقط سؤال عند الباب، فكم جلس هذا الغني؟ خمسمائة سنة، أي: نصف يوم بحساب اليوم الآخر: (يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم، بخمسمائة عام) أي: بنصف يوم؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47].
إذاً نقول للناس: لا تردوا المال إذا كان من الحلال، ولكن استعينوا به على الحلال، أكرموا منه الضيف، صلوا به الأرحام، تفقدوا به الجيران، ابنوا به المساجد، أنفقوا منه في ميادين البر والإحسان، أمدوا بها المجاهدين المحتاجين إلى هذا المال، الذين يلتحفون السماء، ويفترشون الأرض، ويأكلون فتات العيش، ويجاهدون بنحورهم في سبيل الله، وأنتم لديكم أموال فأنفقوها في سبيل الله.
يقول تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41] ويقول: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص:77] وبعد ذلك ليس هناك مانع من أن تبني لك عمارة أو تشتري لك سيارة، أو تتزوج لك بزوجة جميلة، أو أن تأثث لك بيتاً بأحسن الأثاث، أو أن تأكل من أحسن الطعام، أو تلبس من أحسن الثياب (فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) (وإن الله جميل يحب الجمال) والله عز وجل يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].
إذاً: المال نعمة لكن بشرطه، وشرطه: أن يكون من الحلال، أما إذا كان من الحرام فالله لا يقبل منك به عمل؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، فإن لم يصرفه في الحلال، ويُخرج منه الحقوق والواجبات تحول هذا المال إلى نقمة.
أكثر الناس الآن أصحاب الأموال (المليونيرات) تجده مبسوطاً؛ لأنه إذا دخل مجلساً فبمجرد أن يدخل من هناك والمجلس كله ينتفض له، ويقولون: وعليك السلام! ولو ما قال السلام عليكم، لماذا؟ لأن المال والشيكات والمنزلة الاجتماعية سلمت، وإذا جاء إلى مكانه تجد الكل يقولون: هنا يا أبا عبد الله، هنا يا أبا محمد، لكن إذا دخل الفقير وقال: السلام عليكم بأعلى صوته ما قالوا وعليك السلام، وإذا كان هناك من يرد السلام لقال: وعليك السلام بينه وبين نفسه، ولا أحد يقول تعال هنا، لماذا؟ لأن المال له قيمة هنا، لكن في الآخرة تؤخذ هذه الأموال على جنب: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:37] {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].(47/4)
نعمة الولد
الولد أيضاً نعمة، لكن لا ينفع إلا إذا أصلحه الله هنا، فإذا رزقك الله ولداً صالحاً وربيته على كتاب الله وسنة رسوله، وعلمته القرآن مثل هذ الولد المبارك الذي قرأ أمامكم فهذا ينفع الله به، نسأل الله أن يثبِّته على الإيمان وجميع أبناء المسلمين.
وأنا أرجو أن يكون وقوف هذا الولد دعوة لكم يا من حضر في أن تعلموا أولاكم القرآن، إن هذا النموذج القرآني العظيم، الذي وقف أمامكم دعوة صامتة لكم، فلعلكم لديكم أولاد، بل بالتأكيد أن لديكم أولاداً، لكن هل أقرأتموهم هذه القراءة؟ هل ألحقتموهم بالمساجد؟ هل حرصتم على قراءة القرآن في المساجد كحرصكم على قراءة العلم في المدارس؟ ليس هناك شخص في بلادنا الآن إلا وهو يحرص كل الحرص على إلحاق ولده بالمدارس النظامية، حتى قبل السن القانونية، فبعضهم يأتي بولده وعمره أربع سنوات، يقول: سجلوه، اجعلوه مستمعاً، فيقولون: لا يجوز، النظام من ست سنوات فما فوق، فيقول: لا.
أرجوكم من فضلكم الولد مستعجل على الدراسة لماذا؟ هل حباً في العلم أو الدين؟ لا.
بل تعلم العلم لغير الدين، فيريد أن ينجح بسرعة من أجل أن يتخرج بسرعة، ويأخذ مرتبه بسرعة، أو يأخذ نجمة أو وظيفة بسرعة، الدنيا فقط، لكن هل جاء بهذا الولد إلى المسجد وقال للشيخ: علمه كتاب الله، وإذا غاب عن المسجد هل يغضب كما يغضب إذا غاب عن المدرسة؟ لا.
فلو غاب عن المدرسة لقطَّع جلده، ولكن في العصر تجده يقول: لا تذهب يا ولدي فلديك واجبات، هل واجبات الدنيا أهم من واجبات القرآن، هل حرص الإنسان على الدنيا أهم من حرصه على الدين؟ هذه مصيبة! علم ولدك القرآن، وأدخله مدارسه، فإنه قد جاء في الحديث: إن الرجل والمرأة يوم القيامة يكسوان حلة لا تقوم لها الدنيا، ضوؤها أعظم من ضوء الشمس، فيقولان: بم هذا يا رب؟ فيقال: بإقرائكما ولدكما القرآن.
هذه جائزة الأم المثالية التي تقرأ كلام الله، والتي تريد أن تقرأ كلام الله، وقد سمعت أنه يوجد هنا في هذا الحي المبارك مدرسة للنساء، وهي مدرسة لتعليم القرآن الكريم على كافة المستويات، ابتدائي للصغار، وبعد ذلك محو الأمية للنساء اللاتي لا يعرفن القراءة ولا الكتابة، وللمثقفات والمدرسات والجامعيات على كل المستويات، وما يلزم الشخص منا إلا أن يقول لزوجته أو ابنته: اذهبي إلى هذه المدرسة، وسجلي من بعد العصر إلى المغرب، وهذه نعمة في هذا الوقت الضائع، الذي تضيعه النساء في القيل والقال والتمشيات، وأذهب عند فلانة، وآكل مع فلانة! يأكلون لحوم البشر، ويذاكرون في الموضات والتقليعات والتفصيلات والكلام الفاضي، بل سمعت أن النساء الآن لهن اهتمام بالرياضة أعظم من الرجال، فكل واحدة معها لاعب مفضل، وإذا قيل لها: من لاعبك المفضل؟ قالت: فلان.
إذاً: لا نعيب على الرجال إذا لعبوا أو أحبوا الكرة؛ لأنهم يلعبون أصلاً، لكن المرأة ما علاقتها بالكرة؟! وهذه مصيبة والله يا إخوان، ما بقي إلا هذه! تضاربت امرأتان، قالت إحداهما: فلان أحسن، فقالت الأخرى: لا.
ذاك أحسن.
فلا حول ولا قوة إلا بالله! فإقراء القرآن للأولاد وللبنات وللزوجات فضيلة، والحجة قائمة والحمد لله، ففي كل حي بل في كل مسجد مدرسة لتحفيظ كتاب الله، ولكن لا نرى فيها أبناء الذوات والشخصيات، بل نرى فيها الصغار والضعفة من الناس، الذين يرجون بذلك وجه الله عز وجل، ولكن البقية مشغولون بغير دين الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون! فالولد نعمة إذا هداه الله في الدنيا، وبعد موتك لأنه سيدعو لك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث -ذكر منها-: وولد صالح) أي: ليس أي ولد، شرط، فإذا كان ولداً فاسداً ثم دعا لك رجعت دعوته على وجهه، كيف يدعو وهو فاسد؟ لا يشفِّعه الله إذاً، ولكن: (ولد صالح يدعو له).
فالمال نعمة بقيده، والولد نعمة إذا هداه الله تعالى.(47/5)
نعمة الوظيفة والمنصب
الوظيفة نعمة إذا استعنت بها على طاعة الله، والرتبة أو المنصب نعمة إذا سخرتها لدين الله.
أولاً: ما تعاليت بها على الناس ولا تكبرت، كما يصنع بها بعض الموظفين، أو رؤساء الأقسام، أو مدراء الإدارات؛ إذا دخل الإدارة فإنه من عند الباب يرفع (بشته) ويكون رأسه في السماء، وإذا مر على الناس أخذ ينظر فيهم ولا يسلم، فإذا قيل له: لماذا لا تسلم؟ قال: السلام ينقص من شخصيتي، ويضعف هيبتي أمام الناس، فأنا أريد أن أحتفظ بشخصية قوية من أجل أن يخاف الناس مني، ويسيرون العمل بشكل مضبوط، فتجده لا يسلم على الفراشين ولا الموظفين الصغار، وإذا دخل عليه أحد وهو جالس على الطاولة، رفع عينيه دون أن يرفع رأسه، كأنه يريد أن ينطحه، وإذا سلم عليه أحد لا يرد عليه السلام إلا همساً، وإذا أعطوه المعاملة، ما قبلها ولا مد يده لها، بل يقول: ضعها على الطاولة، ماذا تريد؟ الله أكبر! ما هذا الكبرياء والتغطرس بالوظيفة، فلو أن الوظيفة بقيت لغيرك ما وصلت إليك، والكرسي كما يقولون دوار.
فكرسي الحلاق كل يوم عليه شخص، فلم يبق لغيرك حتى يبقى لك، إذاً لماذا تنتفخ؟ لماذا تتكبر على عباد الله بهذه الوظيفة وهي عارية عندك؟! لماذا لم تستخدمها في طاعة الله؟ فإذا دخلت إدارتك فلا تأت عند الباب إلا وقد بدأت بالسلام: السلام عليكم السلام عليكم ورحمة الله صبحكم الله بالخير كيف حالكم؟ فإذا دخلت المكتب فسلم على الفراش، وإذا جاءك أي شخص مراجع له عمل عندك، فعليك أن تقطع عملك وأن ترفع رأسك إليه، فتقوم إذا حياك، لا تحيه وأنت جالس، بل حيه على الهيئة التي هو عليها، إن كان هو جالس فأنت جالس، وإن كان هو واقف فأنت واقف، كن مثله، وبعد ذلك تصافحه وتقول له: أي خدمات يا أخي، ماذا تريد؟ أي غرض، غرضك اعتبره منتهياً، ولو ما انتهى، وإذا لم ينته تقول له: الله يوفقك ويبارك فيك ويرزقك ويكثر من أمثالك.
هكذا تكون عابداً لله عز وجل بالوظيفة، وبعد ذلك إذا أذَّن المؤذِن للظهر وفي يدك أعظم معاملة، أو في أذنك أعظم مكالمة، أو كان عندك أهم اجتماع، فعندها تقفل القلم، وتضع السماعة، وتلغي الاجتماع وتقول: إلى الله، دعانا الله.
لكن بعض المدراء لا يعقد الاجتماعات إلا في وقت الصلاة، وهذا اجتماع يخيم عليه الشيطان؛ لأنه ضاعت من أجله فريضة الله عز وجل، فالوظيفة هذه نعمة إذا سخرتها في طاعة الله، فنصرت بها الضعيف، أو أقمت بها الحق، أو قدمت بها خدمة للمسلمين، فخدمتهم فيما يتعلق بعملك، فبششت لهم، وقضيت حوائجهم، وسعيت في مصلحتهم، عندها تكون هذه الوظيفة رحمة عليك في الدنيا وعزة وسعادة في الآخرة.
لكنّ هذه الوظيفة تكون فقط إلى الموت، وأما القبر فإنك لا تدخله بوظيفتك، هل سمعتم أن ضابطاً دخل القبر بنجومه على كتفيه؟ أو مديراً دخل ببشته أو طاولته؟ أو تاجراً دخل بشيكاته وصناديقه؟ لا.
{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94] أي: يخرج الغني والفقير، والقوي والضعيف، والأمير والمأمور، والملك والمملوك، كلهم يقوم في البدلة الرسمية الموحدة، وهي الكفن: الإزار والرداء واللفافة: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94] أي: ما جئتم بشيء، فقط جئتم بالعمل، والعمل من أين أخذتموه؟ من النعمة التي أرسلت لكم وهي رسول الله صلى الله عليه وسلم {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164].
هذا هو الدين وهذه هي الهداية، فمن أخذ بها نفعته في الآخرة، ومن تركها ضل في الدنيا وشقي في الآخرة، يقول ابن عباس: [تكفل الله عز وجل لمن عمل بالقرآن ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة] {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ) أي: من سار على هذه الهداية {فلا يضل ولا يشقى * وَمَنْ أَعْرَضَ} [طه:123 - 124] أي: الذي لا يريد الهداية، والطريق الواضحة أمامه، فأعلامها واضحة، وأماراتها واضحة، كالمحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يحيد ولا يزيغ عنها إلا هالك، فهذا قد أعرض أو رفض.
قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [طه:124] هذا الذي أعرض لابد أن أعطيه الفطور في الدنيا والعشاء في النار، ما هو الفطور؟ قال تعالى: {إِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] هذا الفطور وهو الوجبة العاجلة، ثم ماذا قال جل ذكره: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] وهذا هو العشاء.
تصوروا أن شخصاً يُحشر أعمى، ويؤمر بالسير على الصراط وهو أعمى، فكيف يمشي على الصراط؟ {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} [طه:125] نعم.
فالجزاء من جنس العمل: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا} [طه:126] أي: هناك في الدنيا: {فَنَسِيتَهَا} [طه:126] تعاميت عنها تجاهلتها فكل شيء له في ميزانك وفي برنامجك مكان إلا القرآن والدين والهداية لا تريدها، فللمباريات وللتمشيات مكان، وللبلوت والكيرم وللدوام وللنوم وللطعام مكان، ولكن للعلم للقرآن للصلاة لهداية الله لا.
عندما تأتي هذه الأشياء يصبح البرنامج مزحوماً ولا فيه فراغ، فتجده يقول: والله أنا مشغول، حسناً! تعال ندوة، قال: أنا مشغول، ماذا عندك؟ ليس عنده شيء، أشغل نفسه بما لا يشغله الله به، أشغل نفسه بما يضره في الدنيا والآخرة والعياذ بالله، قال عز وجل: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:126].(47/6)
أثر الهداية في النجاة من عذاب الله ودخول الجنة
نعمة الهداية -أيها الإخوة- نعمة عظيمة جداً، وجديرة والله بكل اهتمام، ويكفينا أنك بالهداية تنجو من عذاب الله في النار، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:74 - 77] هذه هي أمنيتهم! يقولون: نريد الموت! فلا يريدون الفكاك؛ لأنهم يعلمون أن الفكاك ممنوع، فقالوا: نريد الموت {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] لماذا ماكثون؟ قال: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ} [الزخرف:78] أي: القرآن والدين والهداية الربانية {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف:78 - 80] كانوا تاركين مضيعين؟ ولم يعلموا أن سرهم ونجواهم فضلاً عن أن ظاهرهم مسجل عند الله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80].
فكل شيء مسجل عليك: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:14] {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:15 - 17].
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج:19] أي: أن الثياب هناك من النار، وليست كثياب الدنيا، بل من النار، فتصور كيف تكون حالتك! {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:19 - 21] إذا أعيوا من العذاب جيء بالمقامع: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:22].
إخواني! من نار جهنم وما فيها من العذاب والأنكال؟! أما تعتبرون بهذه الأحوال؟! أما تحذرون من سلاسلها والأغلال؟! فواعجباً والله لمن يقرع سمعه ذكر السعير وهو بالله من عذابها غير مستجير! أفيك جَلَدٌ على الحميم والصديد والزمهرير؟! أفيك جَلَد على نار وقودها الناس والحجارة، أم قد رضيت لنفسك بهذه الخسارة؟! فيا ويح من كانت هذه الدار داره! ألا إنها نار وقودها الناس والحجارة!
والنار منزل أهل الكفر كلهم طِبَاقُها سبعة مسودة الحفر
جهنم ولظى من بعدها حطمة ثم السعير وكل الهول في سقر
وبعد ذاك جحيم ثم هاوية تهوي بهم أبداً في حر مستعر
فيها غلاظ شداد من ملائكة قلوبهم شدة أقسى من الحجر
لهم مقامع للتعذيب مرصدة وكل كسر لديهم غير منجبر
سوداء موحشة شعثاء مظلمة دهماء محرقة لواحة البشر
فيها العقارب والحيات قد جمعت جلودها كالبغال الدهر والحمر
لها إذا ما غلت زور يقلبهم ما بين مرتفع منها ومنحدر
فيا إخواني! انجوا بأنفسكم من عذاب الله! فوالله الذي لا إله إلا هو، ألا نجاة في هذه الدار ولا فوز في دار القرار إلا بطاعة الله، والتمسك بهدي رسول الله والسير على دين الله.
فإذا فعلنا ذلك أيها الإخوة! وتمسكنا بالدين، وعملنا العمل الصالح، ماذا سيكون جزاؤنا؟ ما هو الجزاء أيها الإخوة؟ هل هي وظيفة كما نشتغل الآن؟ إن هؤلاء الطلاب الذين ترونهم أيام الامتحانات لا يذوقون الطعام، ولا يهنأون بالمنام، ويجلسون في المساجد والطرقات وعلى الشوارع وهم يقرءون الكتب بالليل والنهار من أجل أن ينجحوا -وهذا حسن- لكن ماذا عملوا للآخرة؟! ماذا عملوا للجنة؟! إن الجنة -أيها الإخوة- سببها الهداية والعمل الصالح، والتوفيق من الله الذي لا إله إلا هو.
إن الجنة ريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مضطرد، وثمرة ناضجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام أبدي في دار سليمة، وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة، ومحلة عالية بهية، أرضها وترابها المسك والزعفران، وسقفها عرش الرحمن، وملاطها المسك الأذخر، وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر، ثمارها ألين من الزبد وأحلى من العسل، وأنهارها من خمر لذة للشاربين، ومن ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن عسل مصفى، وفاكهتها مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، غلمانها وخدمها ولدان مخلدون، كأنهم لؤلؤ مكنون، واسمع لزوجاتها يا من تريد الزوجات:
فكن أيماً لما سواها فإنها لمثلك في جنات عدن تأيم
وكن مبغضاً للخائنات بحبها لتحظى بها من دونهن وتسلم
فيا خاطب الحسناء إن كنت راغباً فهذا زمان المهر والمقدم
يا من تحبون النساء، يا من تريدون الجمال والعفة والشوق والحب العظيم، أخروه إلى أن تتزوجوا بالحلال، ثم التزموا لتجدوا الكواعب والأتراب في جنات رب العالمين.
زوجاتها الكواعب الأتراب، اللاتي جرى فيهن ماء الشباب، تجري الشمس من محاسن وجهها إذا ضحكت، ويضيء البرق من بين ثناياها إذا ابتسمت، لو اطلعت على الدنيا لملأت ما بين السماء والأرض ريحاً، ولاستنطقت أفواه الخلائق تهليلاً وتكبيراً وتسبيحاً، إذا رأوها قالوا: لا إله إلا الله! من عظمة هذه المرأة الحورية، ولتزخرف لها ما بين الخافقين، ولأغمضت عن غيرها كل عين، -أي: خمارها- نصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها، لا تزداد بطول الأحقاب إلا حسناً وجمالاً.
فليست نساء الآخرة كنساء الدنيا، نساء الدنيا تكون معها مدة تُسمى شهر العسل، وبعد ذلك تتحول الدنيا إلى بصل، ثم ولادة وحمل ونفاس وأطفال ومشاكل، لكن هذه لا.
لا تزداد مع طول الأحقاب إلا حسناً وجمالاً، ولا يزيد طول المدى معها إلا محبة ووصالاً، مبرأة من الحبل والولادة والحيض والنفاس، مطهرة من البول والغائط وسائر الأدناس، لا يفنى شبابها، ولا تبلى ثيابها، ولا يخلق ثوب جمالها، ولا يمل طيب وصالها، لم يطمثها قبله إنس ولا جان، كلما نظر إليها ملأت قلبه نوراً، وكلما حادثته -أي: كلمته- ملأت أذنه لؤلؤاً منظوماً ومنثوراً، إذا ضحكت في وجه زوجها أضاءت الجنة من ضحكها، وإذا انتقلت من غرفة إلى غرفة أو من قصر إلى قصر، فكأنما هذه الشمس تنقلت في بروج فلكها.
هذا وأعظم نعمة يمن الله بها على أهل الجنة: أن الله عز وجل يحل عليهم رضوانه، فلا يسخط عليهم أبداً، ويحادثهم ويتجلى لهم، ويرونه من فوقهم سبحانه، فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة، ويا قرة العيون بالنظر إلى وجه الله بالدار الآخرة، ويا خيبة العصاة المحرومين الراجعين بالصفقة الخاسرة.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة:22 - 25].
فاسمع إذاً أوصافها وصفاتها:
تيك المنازل ربة الإحسان
هي جنة طابت وطاب نعيمها فنعيمها باق وليس بفان
أو ما سمعت بأنه سبحانه حقاً يكلم حزبه بجنان
ويرونه سبحانه من فوقهم نظر العيان كما يُرى القمران
ولهم منابر لؤلؤ وزبرجد ومنابر الياقوت والمرجان
هذا وخاتمة النعيم نعيمهم أبداً بدار الخلد والرضوان
فنسأل الله وإياكم من فضله، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، يا حي يا قيوم، يا فارج الهم، يا كاشف الغم، يا أرحم الراحمين، يا ذا الجلال والإكرام، نسألك باسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، أن تجعلنا وآباءنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وجميع المسلمين من أهل هذه الدار، وأن تنجينا من دار الخزي والبوار برحمتك يا أرحم الراحمين.
هذه أيها الإخوة! آثار الهداية، فإذا بقي أحد يقول: لا أريد الهداية! عندها نقول له: جعلك الله لا تريد، أبعدما رأيت الطريق لا تريد؟! فقد قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127] ويقول: {ومَنْ كَفَر فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} [لقمان:23] ويقول: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:25 - 26] وكانت نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم تتقطع وتذوب ألماً وحزناً حينما يُكذَّب وهو صادق، فقال الله له: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8] أي: اتركهم وما عليك إلا أن تبين لهم الطريق: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْ(47/7)
من أسباب الهداية
أولاً: اعلم أن الله هو الهادي {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد:27] {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] ولكن لهذه الهداية وسائل وأسباب، مثل الرزق.
الآن: أليس الله هو الرزاق ولكن للرزق أسباب أيضاً، فالله هو المطعم لكن للإطعام أسباب، والله هو المعافي والمشافي ولكن الشفاء والعافية لها أسباب، فالله هو الهادي ولكن للهداية أيضاً أسباب.
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
ومن أسباب الهداية عشرة، أو من أسباب الهداية عشرة، فلا نقول كل أسباب الهداية؛ لأن هناك الكثير غيرها.(47/8)
السبب الأول: التوبة إلى الله
أول سبب يا من تريد الهداية، وأعظم سبب تحصل به على الهداية، وبدون تحقيق هذا السبب لا تتم لك الهداية، ألا وهو: التوبة إلى الله، إذ لا يهدي الله من لا يتوب، إن لو أن هناك شخصاً لا يتوب كيف يهديه الله وهو لا يتوب؟ فإذا كان مقيماً على الذنوب، عينه وأذنه ولسانه في الحرام ويقول: الله يهديني، وهو مُصر على الذنب، فهذا لا يمكن أبداً، فأول شيء قضية التخلية قبل التحلية.
فإذا أردت رخصة مرور لزمك أن تتعلم قيادة السيارة، فتذهب إلى مدرسة القيادة، ثم تدفع الرسوم، ثم تداوم المدة، ثم تحضر الامتحان، ثم تأخذ الشهادة، ثم تراجع المرور، فتقف في الطابور، ثم تدفع النقود المقررة، وبعد ذلك تجيء في يوم ثان أو ثالث وتأخذ الورقة من أجل أن تعبر بها في شوارع الدنيا، فكيف تريد أن تعبر على الصراط وما عندك رخصة للآخرة؟ كيف تريد أن تتجول في شوارع الجنة، كيف تريد أن تطير في أنهار الجنة، وعلى أشجار الجنة وما عندك رخصة إلى الآخرة؟ ما رأيكم بشخص يريد أن يقود السيارة وهو جالس في البيت، يقول: أريد أن أقود السيارة، لكن لا أريد أن أتعلم، التعلم هذا ليس بحسن، ولا أريد رخصة، هل يُسمح لهذا بقيادة السيارة؟ كذلك في الهداية لا بد أولاً من التوبة، التوبة إلى الله، فالتوبة هي سبيل الهداية، يقول الله عز وجل: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد:27] يعني: الذي لا ينيب لا يهديه الله، ويقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] وبعد ذلك: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54] أي: إذا أردتم أن يهديكم الله فأنيبوا وارجعوا إليه.
إذاً لا بد من التوبة.
فيا من تريد الهداية! عليك أن تجري اختبار محاسبة لهذه النفس على الأعمال، وتأخذها جارحة جارحة، ومشكلة مشكلة، فتجعل بينك وبين نفسك مشارطة، وقد ذكر الشيخ أبو بكر الجزائري في كتابه منهاج المسلم، في مقدمة الكتاب.
الآداب ومنها: الأدب مع الله، والأدب مع رسول الله، والأدب مع القرآن، والأدب مع الوالدين، والأدب مع الزوجة والولد، والأدب مع الجيران، والأدب مع النفس، وقال: إن هذه النفس لابد لها أولاً من مشارطة، فتشارطها شرطاً كأنك تشارط غريباً، فإنك إذا دخلت أنت وغريب في شركة فإن أول شيء تفعله معه هو أن تعقد معه عقداً أو تكتب معه شروطاً، فرأس المال كذا وكذا، وسوف يتحرك هذا المال بكذا وكذا، وسوف تقسم الأرباح بكذا وكذا، ونسبة الأرباح حسب نسبة الأموال.
المهم أن هناك مشارطة مع النفس، وبعد المشارطة تأتي المراقبة، وبعد المراقبة تأتي المتابعة، وبعد المتابعة تأتي المحاسبة، وبعد المحاسبة تأتي المؤاخذة، إذاً هناك خمسة شروط: تشارطها، ثم تراقبها، ثم تتابعها، ثم تحاسبها، ثم بعد ذلك تؤاخذها، وكان هذا شأن السلف.
خرج أحد السلف من بيته إلى المسجد فمر بعمارة، فسأل: لمن هذه العمارة؟ قالوا: لفلان، فذهب إلى البيت، ولما دخل البيت وأراد أن ينام بدأ يعيد شريط اليوم المحاسبي، قال: في الصباح صليت في المسجد ثم خرجت من المسجد إلى البيت، ومررت بطريق كذا وكذا، ثم مررت بفلان وسلمت عليه، ومررت بمسكين وأعطيته، ثم ممررت على ضعيف وواسيته، ثم مررت بفلان وفلان -المهم أنه حاسب نفسه- فوجد هذه الكلمة: مررت على عمارة وسألت عنها وقلت: لمن هذه العمارة؟ فقال في نفسه: لماذا يا نفس؟ ماذا تريدين؟ لماذا تتدخلين فيها؟ أتريدين مثلها؟ يا نفس يا أمّارة، ثم بدأ يعاتبها، وبعد ذلك أصدر الحكم عليها، فقال: والله لأعاقبنك بصيام سنة.
فما رأيكم بهذا؟! فهذه نفسه بيده، لا تقدر أن ترفع نفسها عليه؛ لأن النفس كالجواد، إما أن تركبها أو أن تركبك، إن ركبتها ذهبت بك إلى الجنة، وإن ركبتك ذهبت بك إلى النار؛ تصير حمار نفسك، كثير من الناس الآن يقول: نفسي تقول لي، أي: ليس ربه الذي يقول له، ولا دينه، لا.
بل يقول: هواي، وكيفي، ونفسي، وأنا على هواي وكيفي ومزاجي ورأيي، لا.
فهواك ومرادك يجب أن يكون على مراد الله، وعلى ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلا بد أولاً من التوبة، وتأتي عن طريق المشارطة مع النفس، فتأتي إلى العين وتقول: يا عين! يا من كنتِ من أجل نعم الله عليّ في هذه الحياة، إذ لو طمس الله بصرك أيها الإنسان كيف تكون حياتك، أليست هذه النعمة عظيمة؟ تصور وضعك وأنت أعمى مغمض العينين، لكن أشرقت الأرض في وجهك {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} [البلد:8] هذه من نعم الله عليك، فيا عين! أنت من صنع الله، لم تصنعك أمي، ولا اشتراك أبي، ولا أنا زرعتك في رأسي، إنما أنت نعمة من الله، ولا بد أن تسيري أيتها العين فيما يرضي الله، والذي يرضي الله هو: أن أنظر بها في كتاب الله، أو في سنة رسول الله، أو كتب العلم، أو ملكوت السموات والأرض لأهتدي بالنظر إلى الله، أو مصالحي المعاشية الدنيوية، أو أعمال رزقي ووظيفتي، تجارتي زراعتي لكن لا أنظر بها مطلقاً في ثلاثة أماكن: المكان الأول: لا أنظر بها إلى محارم الله، النساء، لماذا؟ لأن الله أمرني فقال سبحانه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] أي: قل يا محمد للمؤمنين: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وكأن أحداً يقول: يا رب لماذا؟ قال: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] من الذي يعرف الأزكى؟ إنه الله، يعرفك، لأنه هو الذي خلقك: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:14] فيعرف الذي يصلحك والذي يفسدك، فلم يأمرك بغض بصرك إلا لأن في هذا راحة لقلبك.
فأشارط عيني على ثلاثة أمور: ألا تنظر إلى حرام، وألا تنظر إلى مسلم بعين احتقار وازدراء، وألا تنظر إلى ما متع الله به مسلماً من دنيا فانية: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه:131] فهذه هي المواطن الثلاثة حرام أن تنظر إلى امرأة لا تحل لك، حتى لا يسمّر الله في عينك مسمارين من نار بكل نظرة، وأن تنظر إلى مسلم بعين احتقار وازدراء إما لمال، أو لضعف، أو لجنس، أو للون، أو لمنصب، فالناس في الإسلام سواسية كأسنان المشط، (لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى).
أو أن تنظر إلى أخ لك مسلم أعطاه الله دنيا، فتجيء وتقول: هذه العمارة له ونحن نحسبه فقيراً! هذه الأرضية له! هذه الوظيفة فيها! فلا.
لأنك إنما تعترض على تقسيم الله عز وجل؛ لأن القسمة بيد الله، وهو الذي قَسم، فكأنك تقول: لماذا يا رب تعطي هذا وتترك هذا! فأنت ليس لك علاقة؛ لأن القاسم والرزَّاق هو الله عز وجل.
فتشارط عينك هذه الشروط، ثم تنتقل إلى الجارحة الثانية والخطيرة وهي جارحة اللسان فتشارطها، وهذه الجارحة تفتك فتكاً عظيماً في الدين، إذ لا يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم، والحديث صحيح رواه الحاكم والترمذي بسند صحيح عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وفي نهاية الحديث قال له النبي صلى الله عليه وسلم وقد سأله عن عمل يدخله الجنة ويباعده عن النار: (لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه -ثم أخبر بالأوامر كلها وقال في النهاية:- ألا أدلك على ملاك ذلك كله؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: كف عليك هذا -أمسك لسانك- قال: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على مناخرهم أو قال على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم).
احذر لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الأقران
وقد وردت في اللسان أحاديث وآيات عظيمة تبين خطره، ففي البخاري ومسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سُئل: (أي المسلمين أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده) وفي صحيح البخاري ومسلم -أيضاً- قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) بمعنى: أن الذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر يتكلم الكلام النابي، والمرء مخبوء تحت لسانه، وإذا أردت أن تتعرف على ما في قلب إنسان فانتظر حتى يتكلم، فإذا تكلم فإنما يغرف من قلبه؛ لأن القلوب قدور، والألسنة مغاريفها، فمن كان في قلبه خير ظهر على لسانه، ومن كان في قلبه شر ظهر على لسانه، والإنسان قفل ومفتاحه لسانه.
وفي صحيح البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من يضمن لي ما بين لحييه وفخذيه أضمن له الجنة) وفي صحيح البخاري ومسلم أحاديث لا تترك لأحد مجالاً، فليس هناك كلام أصح بعد كتاب الله عز وجل من صحيح البخاري ومسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) كلمة واحدة.
وفي صحيح مسلم عن جندب بن جنادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً قال لأخيه وقد نصحه) كان أخوه مسرفاً على نفسه بالذنوب، وهذا رجل طيب اللسان، فنصحه ونصحه ولكنّ أخاه مسرف دائماً، فجاء يوماً وهو على المعصية فغضب وقال: (والله لا يغفر الله لك، فقال الله: من هذا الذي يتألى عليّ؟! قد غفرت له وأحبطت عملك).
انظروا إلى الكلمة! بواعثها حسنة ودوافعها الحماس والغيرة على دين الله،(47/9)
السبب الثاني: العلم
إذ بغير علم لا يمكن أن تهتدي، كيف تهتدي وأنت أعمى؟ كيف تهتدي وأنت لا تعرف الطريق؟ فالعلم نور {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] ونعني بالعلم: العلم الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، علم الكتاب والسنة، فلا بد أن تتعلم شيئاً من دين الله ليهديك به الله عز وجل.(47/10)
السبب الثالث: الإيمان والتصديق
الإيمان والتصديق؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس:9].(47/11)
السبب الرابع: الدعاء
أن تدعو الله بالهداية في الليل والنهار، وفي السر والجهر، وفي خلواتك وجلواتك، وركوعك وسجودك، تقول في كل لحظة: اللهم اهدني فيمن هديت، فلقد كان سيد الهداة صلى الله عليه وسلم، فيما ترويه عائشة -والحديث في الصحيح: (كان إذا افتتح صلاته بالليل، قال: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اخُتلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
وفي الدعاء المأثور في القنوت: (اللهم اهدني فيمن هديت) فادع الله يا أخي، والله لا يردك أبداً بإذن الله؛ إذا أنت خضعت وجلست وتذللت بجبهتك وجبينك وأنفك في الأرض لله وأنت تدعوه في الهداية فلن يردك الله.(47/12)
السبب الخامس: اتباع الكتاب والسنة
والدليل قوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18].(47/13)
السبب السادس: الاعتصام بالله
والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101] وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل: (وعزتي وجلالي ما اعتصم عبد من عبادي بي فكادته السموات والأرض إلا جعلت له منها مخرجاً، وعزتي وجلالي ما اعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني إلا قطعت عنه أسباب السماء، وأزحت الأرض من تحت قدميه، ثم لا أبالي في أي واد هلك) فاعتصم بربك والجأ إليه، وتمسك بحبله عز وجل.(47/14)
السبب السابع: المجاهدة في الله
والدليل قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] فكلمة (لنهدينهم) مؤكدة هنا باللام والنون المشددة الثقيلة، وبعد ذلك جاءت نتيجة الهداية، نتيجة المجاهدة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] والمجاهدة في أربعة أشياء: جهاد النفس، والشيطان، والمنافقين، والكفار، وكل واحدة من هذه لها مراتب، وما هذا بمقام تفصيلها.(47/15)
السبب الثامن: الصلاة
فمن أعظم وسائل الهداية المحافظة على الصلاة، فالذي لا يصلي لا يهديه الله؛ لأن الله قال في أول سورة البقرة: {ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2] من هم؟ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [البقرة:3] فهؤلاء يهديهم الله.(47/16)
السبب التاسع: الرفقة الصالحة
الرفقة الصالحة الزملاء الطيبون الإخوان في الله، وهؤلاء تختارهم من المسجد، تتعرف عليهم من بين الركع السجود، أهل الأجسام النحيلة، والقلوب الرقيقة، والعيون الدامعة، والقلوب الخاشعة، الذين قد وقفوا بأقدامهم وبركبهم، يراوحون في الليل بين جباههم وأقدامهم بين يدي الله! تعرف عليهم وتحبب إليهم وخذ منهم: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71].
يقول ابن كثير: هذا مثل ضربه الله عز وجل لمن له أصحاب طيبون يدعون إلى الهداية، وأصحاب ضالون يدعون إلى الضلال، فمن استجاب للهداة صار معهم، ومن استجاب للضلال صار معهم -والعياذ بالله- حيران في الأرض.(47/17)
السبب العاشر: الابتعاد عن رفقة السوء
عن المرء لا تسَلْ وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
يقول الإمام علي رضي الله عنه:
فلا تصحب أخ الجهل وإياك وإياه
فكم من فاسق أردى مطيعاً حين ماشاه
يقاس المرء بالمرء إذا ما المرء ماشاه
وللناس على الناس مقاييس وأشباه
وللقلب على القلب دليل حين يلقاه
(الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) والذي يحب السيئين سيئ، والذي يحب الطيبين طيب، والقرآن قد أعطانا في هذا دليلاً واضحاً في قصة ذلك الرجل؛ وهو عقبة بن أبي معيط عليه من الله ما يستحق، فقد كان رجلاً حليماً رقيق القلب وأراد أن يسلم، لكن لما كان له صاحب خبيث منعه هذا الخبيث من الدين، فقد سافر هذا الخبيث إلى الشام فجاء عقبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجلس في مجلسه، واستمع إلى القرآن ورق قلبه وأراد أن يسلم، فلما وصل زميله ذاك في الليل سأل زوجته فقال: ما فعل خليلي؟ قالت: صبأ.
-أي: اهتدى وأسلم- فترك البيت وذهب إليه وطرق عليه الباب وقال: سمعت أنك صبأت؟ فقال: أبداً ما صبأت، أنا معك، أنا رفيقك، فقال له: والله لا أرضى عنك حتى تذهب إلى محمد فتبصق في وجهه، فقال: أبشر -وليته ما بشر- فخرج وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وليس له من يحميه آنذاك، كان وقتها الغلبة والدولة للكفر، وكان المسلمون قلة مستضعفون في الأرض، فخرج إلى النبي وهو جالس في مكة عند الكعبة، فجاء إليه ودعاه قائلاً: يا محمد! فلما التفت تفل في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يستطع الرسول أن يفعل شيئاً، لماذا؟ لأن عقبة هذا من صناديد قريش، ومن عظماء مكة، لا يستطيع أحد أن يقول له كلمة.
فمات عقبة -قتل في غزوة بدر - ولقي الله فأدخله الله النار، فتذكر ما الذي أهلكه، وإذا به زميله هذا، فقال الله عز وجل: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان:27] أي: عقبة وغيره ممن كان على شاكلته، ولم يقل الله في الآية: يعض على إصبعه، بل قال: على يديه، أي: يأكلها كلها: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [الفرقان:27] أي: يا ليتني اتخذت مع الرسول طريقاً، يا ليتني مشيت وراءه {يَا وَيْلَتَى} [الفرقان:28] يدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28] وهنا يقول المفسرون: إن فلاناً هنا نكرة، والتنكير للتعميم، وهو مقصود، إذ أن كل من أضلك عن الله يدخل في فلان سواء كان شريطاً أو كتاباً أو زميلاً أو مدرساً أو أخاً أو أي شخص أضلك عن الله، وسوف يقول الضال يوم القيامة: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:28 - 29].
كما أن هناك كثير من الشباب اليوم يهتدي لشهر أو شهرين أو ثلاثة، ثم لا يجلس جلسة واحدة على أغنية أو فيلم إلا وقد غُسل مخه من الدين وعاد ألعن مما كان عليه في السابق! ينتكس والعياذ بالله! قال الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المنافقون:3] أي: أن الله قد ختم على قلبه؛ لأنه ذاق طعم الإيمان ثم انتكس، بصَّره الله بالطريق وأقامه على السبيل ثم بعد ذلك رجع، فهذا لا يهديه الله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3] أي: لا يعلمون عن الله شيئاً والعياذ بالله.
هذه هي العشرة الأسباب، وكل واحد منها يحتاج إلى ندوة أو ندوتين، لكن نحن نتكلم على سبيل التعميم، وإذا أمد الله في العمر، وهيأ فرصة مناسبة؛ فإن شاء الله نكملها، ولها توابع أخرى، فأسباب الهداية عشرة، وعلامات الهداية عشرة، وهناك موانع الهداية أو عوائق الهداية، وهذه أيضاً عشرة، فهناك عشرة موانع أو حواجز وسدود بين الإنسان وبين الهداية، لا يهتدي حتى يبتعد عنها كلها، إذاً كيف يهتدي وأمامه عشرة سدود؟! نقول: لابد أن يتجاوزها واحدة تلو الأخرى حتى يصل إلى الهداية، وهذه يراد لها عشرة أوقات.
لكن نسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يهدينا إلى سواء السبيل.(47/18)
الأسئلة(47/19)
حكم صوت المرأة وكشف وجهها
السؤال
سمعت لكم في أحد الأشرطة، أن مكالمة المرأة الغريبة بالتليفون حرام؛ لأن الأذن تعشق قبل العين، ولكن لدينا فتوى لأحد المشايخ -لا نذكر اسمه- أنه أجاز كشف الوجه للمرأة؛ لأنه ليس بعورة، ويجوز فيها سماع صوت المرأة؛ لأنه ليس بحرام، فما رأيكم؟
الجواب
ليس لي رأي ولا للشيخ رأي، وإنما الحكم لله ورسوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] والحكم الذي لله ولرسوله يقتبس من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء نهر النقل بطل نهر العقل، فلا نشغل فكرنا ولا نقبل كلام شيخ بعد أن يأتي الكلام عن الله ورسوله.
أما الكلام عن الله في كشف الوجه وما يتعلق به، فقد ذكر العلماء أن الوجه أعظم ما يمكن أن يوجب الإسلام على المرأة تغطيته، إذ أنه مجمع الزينة والفتنة، ولا يتصور بحال من الأحوال أن يأمر الشرع المرأة المسلمة ألا تضرب برجليها ثم يبيح لها أن تكشف وجهها، يقول الله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] فكيف يكون هذا حراماً بينما يكون كشف الوجه حلالاً؟ والوجه هو الذي فيه العينين، والشفتين، واللسان، والأنف، والخدين، والجبين، والذقن، وهو مجمع الفتنة كلها، ثم نقول: اكشفوه، ولكن عليكم بحجاب الأرجل، والله قد قال في كتابه العزيز: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53].
وقد قالت عائشة في قصة رجوعها من غزوة بني المصطلق وقد لحقها صفوان بن معطل رضي الله عنه، وكانت قد تأخرت -وبعد ذلك دارت حولها الفِرية العظيمة التي أفشاها وأشاعها عبد الله بن أبي عليه لعائن الله المتتابعة- فقالت رضي الله عنها: [وكان يعرفني قبل نزول آية الحجاب] يعني: أنها الآن متغطية لم يعرفها، إلا أنه يعرفها من قبل نزول آية الحجاب.
وبعد ذلك يقول الله عز وجل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] ما هو الجيب؟ الجيب هو: فتحة الثوب التي تدخل منها المرأة رأسها، والله أمر بأن يضرب الخمار على الجيب، إذاًَ أين يقع الخمار؟ على الرأس، ولن يصل الخمار على الجيب إلا إذا مر بالوجه، إلا إذا عمِلت له تحويلة كي تغطي الأذن وتترك الوجه.
أهذا يعقل؟! {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا} [النور:31] وقال عز وجل قبلها: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] هنا المُعول على بعض كلمات المفسرين، قالوا: (ما ظهر منها) أي: الوجه والكفين، لماذا؟ قالوا: استثناها الله.
بأي دليل؟ قالوا: بأدلة أخرى.
إذاً فنأتي على أدلتهم دليلاً دليلاً ونفنّدها كلها، ونرد عليهم: دليل الفضل بن عباس، ودليل المرأة سفعاء الخدين، ودليل أسماء أن المرأة إذا بلغت سن المحيض فإنه لا يجوز أن يظهر منها إلا هذا وهذا، وقد رد أهل العلم على هذه الأحاديث: أما حديث الفضل بن عباس فإنه كانت المرأة الخثعمية محرمة، وإحرام المرأة في وجهها، والرسول ما أقر الفضل، بل صرف وجهه عن النظر إليها.
أما دليل سفعاء الخدين فإنه كان قبل الحجاب، أي أنه منسوخ.
أما دليل أسماء بنت أبي بكر، فإنه منقطع؛ لأن خالد بن شريك الذي روى الحديث ما أدرك أسماء، فالحديث منقطع، وهو ضعيف، بل قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله: إنه موضوع، ولا يحتج به.
إذاً ماذا بقي معهم؟! بل هم في الحقيقة مفلسون، قال العلماء: (ما ظهر منها) أي: شكلها العام الذي لا تستطيع أن تخفيه.
مثلاً: إذا تحجبت المرأة ولبست حجابها الكامل من الكفوف والشرابات وغيرها، ثم خرجت متحجبة مثل الغراب الأسود، فهل يبقى فيها فتنة؟ نعم.
شكلها العام هذا فيه فتنة، لكن أين تذهب؟ تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء؟! فالله عفا عن هذا الشيء، أما أن نقول: (ما ظهر منها) وجهها، إذاً ما هو الحجاب؟ وقد عُرف في الدين نزول آية الحجاب، وسورة الحجاب، والحجاب حجاب الوجه.
أما الزينة التي قال الله عز وجل فيها: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] أي: ما ظهر من الزينة؛ لأن الضمير في اللغة يعود على أقرب مذكور، وأقرب مذكور الزينة، والزينة هنا تنقسم إلى قسمين: زينة خلقية، وزينة كَسبية، والزينة الخلقية أي: الوجه والكفين، والزينة الكسبية أي: الملابس التي تلبسها، ولنرجع إلى القرآن الكريم، ونسأل المفسرين عن كلمة الزينة، وكيف استعملت في القرآن؟ وهل أريد بها الزينة الخلقية أم الكَسبية؟ لنرى أنها في أحد عشر موضعاً من كتاب الله أريد بها الزينة الكَسبية، ومن أراد المزيد فليرجع إلى كتاب اسمه أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، فقد تكلم بكلام عظيم كالذهب الأحمر في كتابه المذكور في سورة الأحزاب عند قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] لماذا قال الله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59]؟ أي: أن المرأة لا تُعرف بهذا الحجاب، ولكن تعرف بوجهها، فلو أتينا أمامك الآن بمائة امرأة، وبينها زوجتك وابنتك وأختك وهن كلهن متغطيات، ثم قلنا لك: أخرج لنا منهن امرأتك وأمك وأختك؟ هل تستطيع أن تخرجهن من بين النساء؟ فإذا كشفنا وجوههن، وقلنا: أين امرأتك؟ لقلت: تعالي يا فلانة.
فالله أمر المرأة أن تغطي وجهها حتى لا يعرفها أحد فيؤذيها، يتعرف مثلاً على جمالها فيؤذيها: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59].
فالحجاب حجاب الوجه؛ لأن الوجه هو الإنسان، فأنا عندما أتكلم معك أنظر إلى وجهك، فلو أني أخذت أتكلم معك الآن وأنا أنظر إلى رجلك وأقول: كيف حالك؟ فسوف تقول لي: ارفع رأسك! الله أكبر عليك، تكلمني أم تكلم أرجُلي؟! ثم يأتي هذا فيقول: غطوا الأرجل ولكن اكشفوا الوجه.
وأما الأحاديث الصحيحة الكثيرة فهي في مضانها، ولا مجال لأن نزعزع إيماننا، والذين قالوا بكشف الوجه والكفين علماء، لكن نسأل الله أن يغفر لهم زلتهم، وإنهم والله خدموا الماسونية خدمة جليلة بدون مقابل؛ لأن أول هدف من أهداف الماسونية في نبذ الدين وتشتيته هو: خلع الحجاب؛ لأنه إذا خُلع الحجاب فتح الباب، والأمم والشعوب التي وضعت الحجاب وضعت معه الدين، وهاكم ترون وتسمعون، ونحن في هذه البلاد نسأل الله ألا نضع الحجاب، وأن يحفظ لنا الحجاب على وجوه النساء، وأن يحفظ عيوننا من النظر إليهن ليبقى لنا ديننا، لكن يقولون: (ضع النار بجانب البارود ولا تشعل) وهذا مستحيل.
أما الصوت فاسمع فيه كلام الله لا كلامي، يقول الله عز وجل: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] فالذي قلت إنه حرام هو: المحادثة بالتليفون، وهي المحادثة المشبوهة، المحادثة التي فيها ريبة، وتأنث، وصوت رخيم، وتشبيب، فهذه لا تجوز، أما الرد على التليفون بالصوت المعروف، كما قال الله عز وجل: {وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] فليس فيه شيء، فإذا تكلمت المرأة مع عالم تسأله، أو تكلمت مع رجل تشتري منه أو تبيع أو مع قاضٍ تشهد عنده فليس هناك شيء، أما أن تتكلم بكلام لين رطب فيه مرض وفيه جنس وفيه زنا؛ فهذا محرم؛ لأن الله تعالى يقول: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32].(47/20)
الحث على مد يد العون للمجاهدين
السؤال
فضيلة الشيخ! إن إخواننا على الجبال يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، أجسامهم عارية وبطونهم جائعة، وقد حصل ما حصل لهم، وكثير من الناس يظن أنهم بعد تشكيل هذه الدولة استغنوا عن غيرهم، ولكنهم يقابلون الآن أعتى قوة، وهم يحصدون نتائج جهادهم، فهل من كلمة توجيهية لهذا الجمع المبارك لمد يد العون لهم والوقوف معهم؟
الجواب
جزى الله أخانا خيراً.
أولاً: اعترافاً بالفضل لأهله، نقدر ونشكر باسم كل مسلم هذا الموقف النبيل الذي وقفه ولاة الأمر في هذه البلاد حينما أعلنوا كلمة الحق مدوية في العالم كله باعترافهم الصريح والمبادر الأول بحكومة الأفغان الإسلامية، فشكرَ الله لهم وثبتهم وهداهم ووفقهم، وهذه رفعت رأس المسلمين، وأوجدت راية للمؤمنين يعتز بها إخواننا المجاهدون، فإنهم يقولون: نحن نعتز باعتراف المملكة العربية السعودية بدولة الأفغان الإسلامية، وهذا الاعتراف يعدل اعتراف جميع دول الأرض كلها، فبارك الله في ولاة الأمر، ووفقهم الله عز وجل وهداهم إلى صراطه المستقيم.
أما نحن فموقفنا ليس أن نتفرج كما نحن الآن عليه، بل يجب أن يكون موقفاً مضاعفاً؛ لأن الإخوة أرغموا الروس على التقهقر والانسحاب، لكن الروس مكرة، فجرة ملحدون، ما خرجوا إلا بعد أن لغموا الأرض بثلاثين مليون لغم، وهي موجودة الآن في الأرض، وممتدة عبر شبكات أرضية وعلى أشكال كثيرة، منها: الأقلام، ومنها الفراش، ومنها البرايات والحلوى وعلب السجاير، ألغام كثيرة، اللغم الواحد منها يفجر سيارة، ثم بعد ذلك لغموا الأرض بالسلاح ومدوا إخوانهم من الشيوعيين الكفرة الموجودين في الحكم بأعتى أنواع الأسلحة، بل إن هؤلاء مستميتون؛ لأنهم يعلمون أنهم لا يستطيعون أن يحيوا مع الإسلام، فهم كفار ملاحدة لا يسلمون بسهولة؛ ولذلك يقول القادة: نحن نحارب الآن أكثر من حربنا سابقاً؛ لأن الروسي كان يحارب وهو ينظر إلى الهزيمة ليخرج إلى بلده، بينما الأفغاني الكافر يحارب وأين يذهب؟ ليس معه إلا أنه يحارب حتى يموت، ولذلك فالمعركة الآن شديدة جداً جداً، وتستوجب منا جهداً مضاعفاً، لكن بم؟ إن عجزنا عن الجهاد بأنفسنا فلا أقل من أن نجاهد بأموالنا، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف:10 - 11].
وقد وصلتني رسالة من أحد الإخوة القادة، يقول لي فيها: نريد من كل مسلم أن يجعل الجهاد كواحد من أطفاله، فإذا كان لديك مثلاً ثلاثة أولاد، وتعطي كل ولد خمسة ريالات من أجل السندوتش والعصير، فهذا الأخ يقول: نريد أن يكون الجهاد ولداً رابعاً، فإذا كان عندك أربعة أولاد فاجعل الجهاد ولدك الخامس، وهكذا، اجعل فسحة للمجاهدين في حساباتك، كل يوم خمسة ريالات، فيكون في الشهر مائة وخمسون ريالاً، فلو أن كل مسلم دفع شهرياً مائة وخمسين من راتبه للمسلمين المجاهدين، لكان المسلمون المجاهدون على أعظم مستوى من القوة، فنقول لكم أيها الإخوة: جاهدوا بأموالكم وأنفسكم.(47/21)
الرد على من يمتنع من الهداية بحجة أن الله قد كتبه من الأشقياء
السؤال
فضيلة الشيخ! إذا دعوت بعض الناس إلى الله تعالى يحتج عليَّ ويقول: لو أن الله هداني لكنت مثلك، فكيف أرد عليه؟
الجواب
ترد عليه بما رد الله عز وجل على من قال هذه الكلمة: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} [الزمر:57] هذه علة المنهزمين، وحجة الشياطين، يقول الله عز وجل: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} [الزمر:54 - 56] يعني: لئلا تقول نفس {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} [الزمر:56 - 57] فهذه الكلمة نفسها جاءت في القرآن الكريم: {لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:57 - 58] قال الله عز وجل: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا} [الزمر:59] أي: قد هديتك، فبعض الناس يقول: لو أن الله هداني، فالله قد هداك.
ولكن ما معنى الهداية؟ الهداية هي الهداية الشرعية أي: الدلالة، فالله دلك ففطرك على الإسلام، ودلك فأنزل لك كتاباً وأرسل لك رسولاً، ودلك فبين لك الخير وأمرك به، وبين لك الشر وحذرك منه، فماذا تريد بعد ذلك؟ هل تريد أن يُنزِل لك الله ملكاً من الملائكة يأخذ بأذنك فيقول صلِّ إذا جاءت الصلاة.
إذاً ليس هناك فائدة إذا اهتديت؛ لأنك إنما اهتديت بالقوة.
فالهداية هي: الدلالة، والله تعالى يقول: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} [الزمر:57] قال الله تعالى: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} [الزمر:59] أي: بلغتك دلالاتي {فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:59].
فليس لأحد حجة الآن؟ ما يدريك أن الله لم يهدك؟ هل اطلعت على الغيب؟ بعض الناس عندما تنصحه يقول لك: لا يا شيخ! يمكن أن الله كتبني شقياً.
حسناً، لماذا لا تَحتمل أن الله كتبك سعيداً مادامت كلمة شقي وسعيد في علم الغيب؟ لماذا احتملت الخيار الأسوأ انهزاماً أمام شهواتك؟ إن قضية شقي وسعيد ليست من خصوصياتك، أنت عبد مأمور، عملك أن تطيع الله ولا تعصه، وأن تثق أن الله لا يظلمك أبداً {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40].
أما أن تتدخل في قضاء الله وقدره وتقول: لعل الله كتبني شقياً، ولهذا أنا سوف أصبح شقياً، فهذا من الانهزامية والتبعية للشيطان والنفس والشهوات.(47/22)
كيفية تربية الأبناء
السؤال
كيف نربي أولادنا وبناتنا، علماً بأن البنات لا يذهبن إلى المساجد لقلة وجود المدارس الخاصة بالنساء في المساجد؟
الجواب
هذا سؤال عام يحتاج إلى تفصيل ووقت طويل، لكن القول المختصر فيه: أن تربيهم على طاعة الله، وأن تحميهم من معصية الله، وطاعة الله في الأوامر، ومعصية الله ممثلة في النواهي، هذه هي التربية، فكونك تأتي إلى الولد فتقول له: الغناء والزنا واللعن والسب حرام، الصلاة واجبة، هذه هي التربية، وأما بالنسبة للبنات فيتعلمن أيضاً في البيوت، وتحاول أن تجتهد في البحث عن مدرسة قريبة من مدارس القرآن الكريم، وأعتقد أن في الرياض العديد من المدارس، وليس بالضرورة أن تكون هناك مدرسة بجانب بيتك، لا.
احمل ابنتك بالسيارة واذهب بها إلى المدرسة لتقرأ كلام الله عز وجل، وانتظرها ساعة ثم ارجع لها وخذها، فهذه مسئوليتك وهذا دورك، فلا تتصور أن أحداً سوف يقوم بدورك عنك.(47/23)
حكم المرأة المؤمنة التي تدخل الجنة وليس لها زوج
السؤال
فضيلة الشيخ! تكلمتم جزاكم الله خيراً عن نساء أهل الجنة من الحور العين، فما بال نساء أهل الدنيا في الجنة، وخصوصاً المرأة التي تدخل الجنة وزوجها إما أن يكون فاجراً أو كافراً والعياذ بالله ولم تتزوج بعده؟
الجواب
هذا تكلم عنه أهل العلم، وذكر شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله في كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح كلاماً عظيماً عن هذا الموضوع: وذكر أن المرأة المؤمنة التي تدخل الجنة وزوجها مؤمن فهي له -معه- لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] وأخبر تبارك وتعالى أن الملائكة يستغفرون لمن في الأرض ويقولون: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7 - 9] فالمؤمنة إذا دخلت الجنة وزوجها مؤمن كانت له، أما إذا دخلت الجنة وكان زوجها فاجراً أو كافراً من أهل النار عوضها الله عز وجل بزوج مؤمن من الذين ليس لهم أزواج مؤمنات في الدنيا، والله عز وجل عدل: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].(47/24)
معالم على طريق الهداية
السؤال
إذا أراد الإنسان أن يهتدي فهل هناك معالم توصيه بها؟
الجواب
نعم.
إذا أراد أن يهتدي وسار في طريق الهداية، فهناك دلالات ومعالم وإشارات على طريق الهداية: أول دلالة: قراءة القرآن الكريم.
لا بد أن تجعل لنفسك ورداً من كتاب الله لا يقل عن جزء يومياً وهذا أقل ما يمكن، فالذي يختم في أكثر من شهر مقصر في كتاب الله عز وجل، فلقد كان السلف رضوان الله عليهم يعدون الذي يختم في أكثر من شهر هاجراً لكتاب الله، فاجعل لك ورداً يومياً من كتاب الله لا يقل عن جزء، ويكون هذا الجزء بالتدبر والتمعن ومعرفة أسباب النزول ومعاني المفردات والكلمات، وأيضاً المعنى الإجمالي للآيات، ولا تقرأه هذرمة.
ثانياً: اجعل لك ورداً معيناً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأعظم كتاب ندل عليه: اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، هذا الكتاب اشتمل على الأحاديث الصحيحة التي اتفق عليها البخاري ومسلم وأُوردت بنص رواية البخاري؛ لأن هناك روايات كثيرة، لكنه حذف المكرر وحذف رواية مسلم وجاء برواية البخاري؛ لأنها أشمل وأكمل، فاقرأ كل يوم حديثاً وتعرف على شرحه من كتب شروح السنة.
ثالثاً: عليك بالطاعات والفرائض والمحافظة عليها محافظة دقيقة، ابتداءً بالصلاة.
رابعاً: الابتعاد عن المعاصي والذنوب والكبائر والمكروهات.
خامساً: البحث عن الرفيق الصالح، والحذر من رفيق السوء.
فإذا سرت على هذه المعالم الست مباشرة، تصل إن شاء الله وتصبح من المهتدين.(47/25)
كلمة توجيهية لاستغلال ليالي رمضان
السؤال
فضيلة الشيخ! لم يبق على شهر رمضان المبارك سوى أيام قليلة، ولكن وللأسف كثير من الشباب هداهم الله، يستعدون لقضاء لياليه الكريمة في السهرات الباطلة، والبعض الآخر يستعد للسفر لبلاد الكفر في آخر الشهر لقضاء إجازة العيد بين الفاجرات وارتكاب المعاصي، فما هي نصيحتكم لإخواننا هؤلاء؟ وما هو توجيهكم لاستغلال مثل هذه الليالي المباركة؟
الجواب
شهر رمضان موسم من مواسم الخير، وفرصة من الفرص الربانية التي يتيحها الله عز وجل للمؤمنين للدخول عليه من أوسع باب ومن أسهل طريق، وكان السلف يسألون الله عز وجل أن يبلغهم رمضان، يقولون: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان.
يقول الناظم:
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب حتى عصى ربه في شهر شعبان
ها قد أظلك شهر الصوم بعدهما فلا تصيره أيضاً شهر عصيان
أتل الكتاب وسبح فيه مجتهداً فإنه شهر تسبيح وقرآن
كم كنت تعرف ممن صام في سلف من بين أهل وجيران وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم حياً فما أقرب القاصي من الداني
ومعجب بثياب العيد يقطعها فأصبحت في غدٍ أثواب أكفان
حتى متى يعمر الإنسان مسكنه؟ مصير مسكنه قبر لإنسان
ولقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح برغم أنف من أدرك رمضان ولم يغفر له، عندما صعد المنبر فقال: (آمين آمين آمين، قال الصحابة: لم يا رسول الله تقول آمين؟ قال: جاءني جبريل فقال: رغم أنف من أدرك رمضان ولم يغفر له) شهر رمضان تغلق فيه أبواب النيران، وتفتح فيه أبواب الجنان، وتغل فيه مردة الشياطين، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل! ويا باغي الشر أقصر! وتضاعف فيه الحسنات، وبعد ذلك تسهر للشر؟ يقولون: نحييه، أتشكل لك جماعة شر من أجل أن تحيي ليالي رمضان؟! أهكذ يكون إحياء رمضان؟! لا.
إنما أحياؤه بالقيام وبالعلم، وبتدبر وتلاوة كتاب الله، أما إحياؤه بالورق والبلوت والجراك والشمة والدخاخين والسهرات القاتلة، فهذا إماتة لرمضان والعياذ بالله.
فإذا جاء رمضان شكل لك جماعة، لكن جماعة إيمانية، كل ليلة عند شخص على شيء من علم، اليوم تفسير، وغداً حديث، وبعده فقه، وبعده توحيد، وهكذا أما اليوم على البلوت، وغداً على الورق، وبعده على الكيرم، فهذا لا يجوز.
وأما من يذهب إلى خارج المملكة ليأخذ عمرة؛ لأنه ورد في صحيح البخاري: (عمرة في رمضان تعدل حجة معي) فالعمرة إلى مكة، لكن من يأخذ عمرة ويخرج خارج المملكة، ليقضي على دينه في الخارج! هذا لا يأخذ عمرة، بل يبيع عمره يضيعه والعياذ بالله، نقول له: اتقِ الله في نفسك! واتقِ الله يا ولي أمره! وإذا لم تخرج أنت وخرج ولدك فالمال الذي خرج به ليزني أو ليسكر والله إن إثمه كله في رقبتك.
وقد أتانا في رمضان الماضي أحد الأثرياء في أبها ودخل معنا في المسجد يصلي، وبعد الصلاة دعاني فقال لي: هيا معنا، قلت له: وأين تسكن؟ قال: أسكن في شقة من الشقق التي للمصيفين، قلت له: الحق أن تأتي معي، قال: ما في حق ولا حقوق، نحن جيران المسجد، فدخلت عنده من باب الإكرام له، وكنت غير مشغول في تلك الليلة، وإذا جماعته الذين معه كلهم أصحاب دنيا، ملايين، فضاق صدري، وأصبحت مثل الطائر في القفص، أريد ذكر الله وهؤلاء ليس عندهم إلا الأراضي والعقارات، قلت: يا أخي.
قال: نعم.
قلت له: أنت من أهل الملايين؟ قال: نعم.
قلت: أحسن الله عزاك في حياتك! وأين ملايينك؟ قال: الحمد لله في خير، قلت: كم بنيت من مساجد؟ قال: لا شيء.
قلت: كم أرسلت للمجاهدين؟ قال: لا شيء إلا الزكاة، كم كم وأخذت أسأله، ثم قلت له: أين أولادك؟ قال: عندي أولاد في الرياض وأولاد في فرنسا.
قلت: ما يفعلون؟ قال: يصيفون.
قلت: ومن أين لهم المال؟ قال: المال مني.
قلت: وزودتهم أيضاً بالمال، والله لا يعصون الله في شيء إلا وهي في رقبتك يوم القيامة، انتبه! لا تعط ولدك ريالاً واحداً ليخرج خارج هذه البلاد، وولاة الأمر حريصون على ألا يعطوا أحداً جواز سفر إلا بموافقتك أنت، كيف ترسل ولدك إلى الأماكن الموبوءة القذرة المنتنة، وتزوده بالمال وتقول له: اذهب، ثم تريده أن يرجع ومعه دين، لا.
لا يمكن أبداً بأي حال من الأحوال.
أما ما يصنعه الناس اليوم في استقبال شهر رمضان على أنه موسم من مواسم الأكل، فهذا خطأ وضد شريعة الصوم، وإنما شرع الصوم من أجل أن نعرف ألم الجوع ونعاني معاناة الفقير، ونصبر عن الطعام، لكن حولنا وقلبنا المسألة! أصبح رمضان شهر طعام ومطاعم، يقضي الرجل سحابة نهاره من الصباح إلى العصر وهو متنقل بين البقالات، بل رأيت أحد أقاربي وهو يريني كشف الطلبات وفيه كرتون شربة! كرتون شعيرية! قلت: كرتون! لماذا كرتون؟! قال: رمضان كريم! قلت: رمضان كريم لتأكل فيه؟! رمضان كريم لتشتري فيه كرتوناً وتوزعه على الفقراء الذين ليس لديهم شيء، ليس لكي تملأ مخازنك، وتأكل حتى تمتلئ كل أجزاء بطنك.
تصوروا أن بعضهم لا يستطيع أن يقوم من السفرة؛ لأنه لا يفطر على تمرات، وإنما يفطر على تمرة وشربة وسنبوسة وحلوى، وشراب، وعصيرات، ولو أن جملاً أكل هذا الفطور كله لمات، ثم يذهب ليصلي فيبحث عن أقرب مسجد وأسرع إمام، ثم يرجع بعد المغرب إلى العشاء والسفرة ممدودة، ولا بد أن يعمم عليها كلها، كيف يترك هذه، بل يأكل من هذه وهذه ومن هذه، ولو أكل من كل نوع لقمة لامتلأت بطنه وانفقع، ولكن يأكل من هذه قليلاً ومن هذه قليلاً، وإذا انتهى قال: ائتوا بالماء لأغسل يدي، وبعد ذلك إذا أذَّن العِشاء لا يستطيع أن يقوم من مكانه، إذا أراد أن يقوم فاتته الفريضة.
فكثير من الناس يدركون التراويح ويضيعون الفريضة، والتراويح سنة مؤكدة والفريضة فريضة، ويأتي يصلي النافلة ويترك الفريضة، فهذا منكوس -والعياذ بالله- وبعضهم يبحث عن إمام يصلي صلاة حسنة خفيفة، يعني: يريد أن يصليها في غمضة عين، وإذا وجد شخصاً مؤمناً يرتل كلام الله، ويخشع في كلام الله، قالوا: هذا مُعقد مُشدد! والله إن أرجلي قد تكسرت! ولماذا تكسرت رجلاك هنا ولم تتكسر في السوق وأنت من الصباح إلى المغرب هناك، في البقالات والأسواق المركزية، وعند الحنيذ والحلويات والمشويات والمقليات؟ لكن عندما تكون بين يدي الله في ركعتين أو أربع أو ست ركعات تتكسر أرجلك، وإذا بك متعب هنا ونشيط هناك، فهذا قلب فاسد والعياذ بالله.
وأقول لكم يا إخواني: استقبلوا شهر رمضان بتلاوة كتاب الله، وبمدارسة العلم، ولا تشتر شيئاً جديداً، بل اترك رمضان مثل شعبان تماماً.
وأنا شخصياً قلت لأهلي: والله لا آتي بشيء زائد عن شهر شعبان، بل أُنقص، لأننا كنا نفطر ونتغدى ونتعشى في غير رمضان، وفي رمضان ماذا جرى؟ هو سحور وفطور فقط، أي: وجبتين، إذاً أُنقص الثلث؛ لأنه لا يوجد غداء.
وبعد ذلك اجعل أهلك يصنعون لك نوعاً أو نوعين من الطعام فقط، ثم أفطر على تمرات أو ماء، ثم قم إلى المسجد وارجع على نوعين من الطعام، وبعد ذلك صل، وبعد الصلاة ارجع إلى أهلك فإن كان هناك شيء خفيف تأكله وإلا فاصبر حتى تتسحر (تسحروا فإن السحور بركة).
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(47/26)
أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً
إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان لغاية عظيمة ولهدف جليل ألا وهو عبادة الله سبحانه وتعالى وإفراده بالتوحيد والعبودية، وأمر بذلك وأنزل الكتب وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فمن أقر لله بالعبودية وأفرده بالتوحيد نال ما بشره الله به، ومن خالف وعصى نال ما توعده الله به، فعلى الإنسان في هذه الدنيا أن يعمر أوقاته بما يعود عليه بالعاقبة الحميدة في الآخرة.(48/1)
الغاية من خلق الإنسان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: عباد الله: ما هذه الحياة؟ وما حقيقتها؟ ولماذا جاء إليها هذا الإنسان؟ ومتى سينقل منها بعد أن يؤدي دوره على مسرحها؟ وما هو المصير الذي ينتظره بعد أن يخرج رغم أنفه منها؟
الموت باب وكل الناس داخله يا ليت شعري بعد الباب ما الدار
الدار جنة عدن إن عملت بما يرضي الإله وإن خالفت فالنار
هما طريقان ما للمرء غيرهما فاختر لنفسك أي الدار تختار
أيها الإخوة في الله: هذه الحياة لغزٌ محير، حارت في فهمه العقول في القديم والحديث، وعجزت كل الفلسفات البشرية أن تحل هذا اللغز أو تقدم الإجابة الصحيحة على هذه التساؤلات، وضل الإنسان، وشقي وحار، واضطرب وتاه، وبقي سعفة في مهب الرياح في صحراء هذه الحياة، لا يدري من أين جاء، ولا يدري لماذا جاء، ولا يدري إلى أين يصير بعد هذه الحياة.
إن حصول الشقاء لهذا الإنسان هو لقاء إعراضه عن مولاه، وتحقيق لقول الله عز وجل فيه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:124 - 127].
ضل الإنسان؛ لأنه لم يتعلم من الله الذي خلقه.
إن حكمة الخلق لا يمكن أن يتعرف عليها الإنسان من عندياته، فلابد أن يتعلم هذه الحكمة من الذي خلقه، وأنت أيها الإنسان لم تخلق نفسك، قال الله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36] إن خالق الإنسان وخالق الكون هو الله الذي لا إله إلا هو: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر:62 - 63] {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً * إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيراً * إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} [الإنسان:2 - 5].
الأبرار: أي المستجيبين لله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:5 - 6] ليسوا عباد الشهوات، ولا عباد الذنوب والمعاصي والمنكرات، ولكنهم عباد الله، أخضعوا أنفسهم في هذه الدنيا لأوامر الله، واستسلموا لشريعة الله، وآمنوا بالله، رضوا به رباً، وبدينه ديناً، وبنبيه نبياً، فعاشوا على نورٍ من الله وبرهان: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان:6 - 7].
تعلموا هذه الحقيقة من الله، أنهم ما خلقوا عبثاً؛ لأن العبث محال على الله، بل العبث غير لائق بك أيها الإنسان! لو بنيت جداراً في بيتك، أو صممت عملاً في محيط اختصاصك، ثم سألك أحد الناس، وقال لك: لمَ هذا؟ فقلت: عبثاً، أليس نقصاً في رجولتك؟ أليس قدحاً في عقليتك أن تعمل شيئاً عبثاً بدون حكمة؟ نعم.
والمحال الأعظم أن يخلق الله هذا الكون وهذه العوالم، سماوات وأرض، وبحار، ونجوم، وجبال وشجر، ودوابٌ وأنعام، وليلٌ ونهار محال أن يخلقها الله عبثاً.
يقول الله عز وجل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون:115 - 116] تعالى وتقدس أن يخلق شيئاً عبثاً: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116] وقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان:38] {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:17 - 18].
ويقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27].
إن الله عز وجل ما خلقك عبثاً، بل خلقك لحكمة، هذه الحكمة تعرفها من قول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] هذه حكمة خلقك، وهذا سبب وجودك: أن تعمر هذه الحياة بعبادة الله: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58].
الرزق مكفول، والعمر محدود، والإمكانات موفرة، والمنهج واضح، والطريق مستقيم، وأنت مأمورٌ أن تسير على هذا المنهج، وأن تواصل السير على هذا الطريق المستقيم، وألا تلتف أو تنحرف؛ فإنك إن انحرفت عن هدي الله وعن طريق الله، كان المصير دماراً وعذاباً في الدنيا، ودماراً وبواراً في النار: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] يعني: في الدنيا معيشة ضنكاً، والله ولو امتطى أحدث الموديلات، ولو امتلك ملايين الريالات، ولو نكح أجمل الزوجات، ولو سكن أرفع العمارات، ولو احتل أحلى وأعلى الرتب والمناصب، وقلبه بعيدٌ عن الله، فإن هذه كلها لا تزيده إلا عذاباً.(48/2)
السعادة في ظل الإيمان
في ظل الإيمان بالله، وفي ظل الدين يعيش الإنسان سعيداً ولو سكن كوخاً، ولو أكل رغيفاً، ولو لم يتزوج زوجةً، ولو لم يحتل منصباً، ولو لم يملك ريالاً واحداً؛ لأن الله جعل السعادة في دينه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96] فالمنهج والحكمة التي خلقك الله من أجلها هي العبادة، والذي يعيش على غير هذه الحكمة، يعيش ضالاً ضائعاً منحرفاً.
يقول شاعرهم:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟ كيف سرت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري؟ ولماذا لست أدري؟ لست أدري؟
ووالله إن هذا لمنتهى العذاب، أن يعيش الإنسان وهو لا يدري لماذا يعيش، وهذا السبب هو الداء الذي تعاني منه البشرية اليوم، رغم أنها استطاعت أن تحقق من الإنجاز العلمي في المجال المادي ما يبهر العقول، ولكنها في الجانب الروحي والإيماني تعيش في فقرٍ روحيٍ وخواءٍ إيماني؛ فسبب لها هذا الشقاء، فتجدهم -الآن- في الغرب ينتحرون وتزعزعهم وتقلقهم الأمراض النفسية.
والطب النفسي لم يكن موجوداً، والأمراض النفسية سببها عدم القرب من الله، سببها التفكير في هذه الحياة، يفكر الواحد يقول: أنا لماذا أعيش؟ فيقول: أعيش لآكل، فيقول: حسناً! وأنا آكل لماذا؟ فيكون
الجواب
إنك تأكل لتعيش، وتعيش لتأكل، وتأكل لتعيش، وهكذا تبقى في حلقة مفرغة، تأكل لتعيش، وتعيش لتأكل وبعد ذلك يجب أن تجيب بالجواب الحتمي: ثم أموت، تموت رغم أنفك، فلا يبقى لك منصب، ولا تبقى لك رتبة، إذ لو بقيت لغيرك ما وصلت إليك، ولا يبقى لك شباب إذ أن شباب هذه الدنيا إلى هرم، وعافيتها إلى سقم، وحياتها إلى موت، وقصورها إلى قبور، ونورها إلى ظلام.(48/3)
دعوة إلى المحاسبة والاستدراك قبل الرحيل
هذه الأيام مطايا أين العدة قبل المنايا أين العزائم أرضيتم بالدنايا؟ إن بلية الهوى لا تشبه البلايا وإن خطيئة الأحرار لا كالخطايا قضية الزمان لا كالقضايا! ملك الموت لا يعرف الوساطة ولا يقبل الهدايا
أيها الشاب! ستسأل عن شبابك أيها الكهل! تأهب لعتابك أيها الشيخ! تدبر أمرك قبل سد بابك يا مريض القلب قف بباب الطبيب يا منحوس الحظ اشك فوات النصيب
لذ بالجناب ذليلاً وقف على الباب طويلاً فأنت بداء التفريط والتسويف عليلا
يا من عليه نذر الموت تدور يا من هو مستأنسٌ في المنازل والدور لا بد من الرحيل إلى دار القبور والتخلي عما أنت به مغرور غرك والله الغرور بفنون الخداع والغرور يا مظلم القلب وما في القلب نور الباطن خراب والظاهر معمور إنما ينظر إلى البواطن لا إلى الظهور لو تفكرت في القبر المحفور وما فيه من الدواهي والأمور كانت عين العين منك تدور
يا من يجول في المعاصي قلبه وهمه يا معتقداً صحته فيما هو سقمه يا من كلما زاد عمره زاد إثمه يا طويل الأمل وقد تيقن أن اللحد عما قليلٍ يضمه استدرك العمر قبل رحيله فكيف نعظ من قد نام قلبه لا عينه وجسمه
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: [إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار، فاعلم أنك محروم، كبلتك خطيئتك].
فيا عباد الله! الحكمة التي خلقكم الله من أجلها هي العبادة، والذي لا يسير في هذه الحكمة ولا يمشي في هذا الخط سيعيش في عذاب، شاء أم أبى، يقول الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:36 - 37].
بالإيمان تعيش سعيداً، وبالإيمان تموت سعيداً حينما يأتيك الطلب الذي لا يستطيع أن ينجو منه أحد الموت قاهر الجبابرة قاهر العظماء لا يمتنع منه أحدٌ لا ملك بملكه ولا أميرٌ بإمارته ولا تاجرٌ بتجارته ولا قوي بعضلاته ولا عالمٌ بمعارفه لكن الكل يموتون: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] وهذه القضية عبر الاستطراد والاستقراء للتاريخ ما علمنا أن أحداً شذ عنها، هل سمعتم بأن إنساناً استطاع أن ينجو من الموت؟ لا.(48/4)
البعث والنشور
هذه قضية ثانية: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:16] فما دام أن الأولى حصلت وهي أن الموت سنة جارية على الكبير والصغير، فلابد أن تحصل الثانية وهي البعث، إذ لو تخلفت الأولى؛ لجاز أن نقول: تتخلف الثانية، وعندما يأتي الموت لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
عند الموت لا تحاسب ولا تعامل على ضوء منزلتك الاجتماعية، ولا رتبك الوظيفية، ولا أرصدتك المالية، ولا وضعك الرياضي، ولا شهاداتك العلمية، كل هذه نفعتك في الدنيا؛ لكن عند الموت يوجد مؤهلات أخرى إذا جئت بها نلت الكرامة وإذا لم تأت بها ليس لك عند الله قيمة.
ما هي مؤهلاتك في الآخرة؟ التوحيد الخالص الصلاة الخاشعة في جماعة المسلمين الزكاة المدفوعة الصيام الزاكي الحج المبرور بر الوالدين صلة الأرحام الدعوة إلى الله الأمر بالمعروف النهي عن المنكر العيش لهذا الإسلام الدفاع عن هذا الدين الحب في الله البغض في الله هذه مؤهلات تنفعك عند الموت ولو كنت في أقل رتبة، ولو كنت لا تملك ريالاً واحداً، لكن لو عندك أعلى رتبة وأعظم مال ولا تملك هذه المؤهلات فليس لك عند الله قيمة: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف:105] هذه موازين الدنيا، لكن موازين الآخرة تختلف عن موازين الدنيا.
مر رجلٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في طمرين -طمرين يعني: ملابس رثة- باليين، وحالة رثة، وهيئة ضعيفة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ما ترون في هذا -يعني: ما رأيكم في هذه الشخصية- قالوا: هذا رجل ضعيف، جدير إذا خطب ألا ينكح، وإذا تكلم ألا يسمع له، وإذا دخل ألا يقام له -يعني: ليس له قيمة في المجتمع- فهز صلى الله عليه وسلم رأسه، ثم مر رجلٌ آخر على حصان -شخصية بارزة- عليه ثيابٌ عظيمة، وفي يده سيفٌ مصلت، يمتطي جواداً عظيماً، قال: وما رأيكم في هذا؟ قالوا: هذا حري إذا خطب أن يزوج - لا أحد يرده- وإذا تكلم أن يسمع له، وإذا دخل أن يقام له، فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفس محمدٍ بيده إن الأول أفضل عند الله من ملئ الأرض من مثل هذا) لماذا؟ لأن الموازين هي موازين ربانية، فعند الموت لا تعامل على ضوء شيء من هذه الماديات، فانتبه لنفسك؛ لأن الله يقول: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94] جئت إلى الدنيا واستقبلوك في خرقة، وعشت على ظهر الدنيا حتى تموت، ثم يخرجونك منها في خرقة ثانية، وأنت لما بين الخرقتين.
هل سمعتم أن إنساناً دفن في قبره ومعه دفتر الشيكات؟ أو دفن في قبره وعليه البدلة الرسمية ذات الرتب العالية؟ أو دخل في قبره ومعه أولاده أو أمواله أو أزواجه؟ لا والله ما سمعنا بهذا، بل يخرج الإنسان من الدنيا كما تخرج الشعرة من العجين، ويلف في الكفن، ويفرد في قبره، ويوضع معه العمل، فإن كان قد تعرف على العمل وعمل صالحاً؛ فأنعم به وأكرم، وإن كان غافلاً، ضالاً، تائهاً، يشبع بالشهوات ويلهو في المعاصي والمنكرات، ولا يؤدي الفرائض ولا الواجبات، لا يعرف مسجداً، ولا يقرأ قرآناً، ولا يحني رأسه لدين الله؛ فهذا إذا ضرب رأسه في القبر انتبه مثل النائم السكران، وقد أخبر الله عنه بقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] لماذا؟ تقول له الملائكة لماذا ترجع؟ قال: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100].
فلماذا لا تعمل من الآن؟ ما الذي غرك؟ تؤجل العمل حتى تدخل القبر ثم تقول ردوني أعمل صالحاً؟! كلا.
لن يردوك، لم يعد هناك فرصة، فاعمل الآن قبل غد.
{لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100].
قال الله: {كَلَّا} [المؤمنون:100] وكلا: أداة زجر وردع وتوبيخ: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:100] هذا المتلاعب، هذا المهمل يريد الشيء على ما يريد، ومثله كمثل طالب في المدرسة أو في الجامعة، أخذ المقررات الدراسية، وعرف الواجبات، ولكنه أهمل ولم يحضر حصةً، ولم يصغ لدرسٍ، ولم يحل واجباً، ولم يحضر المدرسة، وفي آخر العام الدراسي عُلق جدول الامتحان وقال له زملاؤه: بقي معك فرصة الامتحان بعد عشرين يوماً، أو بعد خمسة عشر يوماً، فذاكر واجتهد.
قال: بلا امتحانات بلا تعقيد، دعوني أعيش بلا هم، هذا الامتحان يُعَقدني، ولما جاءت الامتحانات دعاه أبوه وجاء به غصباً ليمتحن، فدخل قاعة الامتحان، ولما قدمت له أوراق الأسئلة نظر إليها، ورأى أنه لا يعرف منها حرفاً واحداً، فقام وقال: أريد رئيس لجنة الامتحان.
فسألوه: ما بك؟ قال: أريد رئيس اللجنة، فلما حضر قال له: يا أستاذ! أرجو منك أن تعطيني خمس دقائق أو عشر دقائق لأخرج خارج القاعة أراجع هذه المواد ثم أعود وأختبر.
ما رأيكم هل يعطونه ذلك؟ لا يعطونه ذلك أبداً، يقولون: اذهب يا دجال، أنت كذاب لعاب، طيلة العام جالس على اللعب وبعد ذلك تريد أن تنجح مثل هؤلاء المجتهدين؟ لا.
فليس معك إلا الذي معك، فالذي في رأسك اكتبه، إن كان صواباً تنجح، وإن كان خطأ تسقط وترسب.
أيها الأحبة: هذه امتحانات الدنيا، وكذلك امتحانات الآخرة فذاكر من الآن، لا تهمل أوامر الله، ليس لديك إلا فرصة واحدة، وليس لديك إلا دور واحد، جنةٌ أو نار، لا يوجد بعدها فرصة أخرى، أما الدنيا إذا سقطت في الدور الأول تنجح في الدور الثاني، وإذا لم تنجح هذه السنة تنجح في السنة الثانية، وإذا لم تدرس أصلاً تعيش ولو بغير وظيفة أو بغير دراسة، لكن ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار، ومؤهلات الجنة هي الأعمال الصالحة، تنفعك في الدنيا، وتنفعك عند القبر وعلى الصراط، وتنفعك بين يدي الله عز وجل.
أما من يرفض الدين ويستمر سادراً في غيه، عبداً لشهواته؛ فهذا ما سنبين جزاءه في الخطبة الثانية.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(48/5)
الجزاء المترتب على عدم الاستجابة لداعي الله
الحمد لله على إنعامه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: عباد الله: قد علمتم جزاء الذين يستجيبون لداعي الله، يقول الله عز وجل: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى} [الرعد:18] الحسنى: هي الجنة، والذين لم يستجيبوا؟ {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [الرعد:18].
إذا كان الشخص لا يريد طريق الله يُترك؛ لأن الله يقول: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:83] {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3] {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات:46] ويقول الله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:25 - 26] ويقول: {فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [لقمان:23].
الذي لا يريد السير على الطريق الصحيح سوف يندم، ويعضُّ على يديه وليس على أصابعه، يأكل يديه أكلاً، كما ذكر الله القصة في سورة الفرقان، يقول عز وجل: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان:27] الظالم لنفسه بالمعاصي؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1] {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [الفرقان:27].
يقول: ليتني اتبعت طريق النبي وسنته وسرت على هديه: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28] (فلان) نكرة، فلان خليل من فلان؟ فمن الممكن أن يكون زميلاً، أو شريطاً، أو كتاباً، ومن الممكن أن يكون ريالاً أو درهماً أو ديناراً، ومن الممكن أن يكون منصباً أو جاهاً، ومن الممكن أن يكون زوجة أو والداً أضله عن الله، يقول الله: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان:28 - 29] حرفني عن طريق الله بعد أن هداني الله: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:29].
يعض الرجل على يديه من الحسرة والندامة، حين يرى أهل الإيمان يقادون إلى الجنان، وهو يقاد إلى النيران، يُسحب على وجهه، يقول الله: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48] ويقول الله عز وجل: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} [الإسراء:97].
قالوا: (كيف يا رسول الله يمشي على وجهه؟! قال: أليس الذي أمشاه في الدنيا على قدمين قادر أن يمشيه في الآخرة على وجه؟ قالوا: بلى) الآن نرى حيوانات وزواحف تمشي على وجوهها كالسلحفاة، والحية، والعقرب، والثعبان كلها تمشي على وجهها، ويوم القيامة يُبعث الكافر يمشي مثلما تمشي الحية، يزحف على وجهه إلى النار، ويُسحب، وكذلك الفاجر والعاصي: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48 - 49].
ولا يوجد شيء عبثاً، الله خلقك وخلق فيك العينين، والشفتين، واللسان، والأذنين، واليدين، والرجلين، والقلب، والفؤاد من أجل ماذا؟ من أجل أن تأكل وتشرب وتلعب وتنام وتداوم؟! فقط من أجل هذا؟ لا.
فهذه عمل الحيوان، فلو سألت الحمار أو البقرة أو الثور ماذا يفعل؟! ليس له إلا أن يأكل ويشرب وينكح ويرقد، وأنت تريد أن تصير مثله، هؤلاء الملاحدة والكفار الذين يقولون: نحرر الإنسان من الدين، وهم في الحقيقة ينزلونه إلى مرتبة الحيوان، يجعلونه كالكلب والخنزير، والقرد والحمار.(48/6)
الفرق بين الإنسان وسائر المخلوقات
إن الفارق بين جميع المخلوقات وبينك أيها الإنسان! هو هذا الدين وهذا الإيمان، والذي ليس له دين ليس له -والعياذ بالله- قيمة في هذه الحياة، والله يقول فيهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] ويقول: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
لديه عقل لكنه لم يستعمله في طاعة الله، استعمله في المنكر والباطل وأمور الدنيا، وله عين لكنه ما استعملها في النظر إلى ملكوت الله، وإلى كتاب الله وسنة رسول الله، بل استعملها في النظر إلى النساء، ومتابعة الحرام، فيحرق قلبه ويُغضب ربه، وله أذن ما استعملها في سماع آيات الله، وبعض الناس يمر عليه الشهر ولم يسمع فيه آية من القرآن، وبعض الناس يدخل عليه الشهر ويخرج ولم يقرأ فيه من المصحف حرفاً واحداً، وإذا حمل المصحف في يوم جمعة أو في صلاة من الصلوات، قرأ من أي مكان، من غير تدبر ولا تمعن، والآن كلكم دخلتم قبل الخطبة وقرأتم القرآن، وبعد الصلاة لو وقف واحد على الباب وسأل كل واحد ماذا قرأت؟ وما هي السورة التي قرأت؟ يمكن أن تعرف السورة، ولكن ما هي المواضيع التي طرقها القرآن في قراءتك له؟ ما هي الأوامر الموجهة لك؟ ما هي النواهي المنهي عنها؟ ما هي الأخبار التي جاءت في القرآن الذي قرأت؟ يمكن لا ينجح (1%) قرأ القرآن من وقت دخوله وهو يتمتم، لكنه لا يدري ماذا يقول، فكيف تأتي الهداية؟ فالحسرة والندامة تقطع قلب الإنسان وهو يُقاد إلى النار، حينما يرى أهل الإيمان يقادون إلى الجنة، وفي الدنيا يعيش في عذاب، يعيش الإنسان في هذه الدنيا قبل الآخرة في عذاب، إذا لم يكن مسلح بالإيمان، ولذا يغالط الإنسان نفسه؛ بأن يضفي على حياته أشياء كثيرة من المسليات والملهيات، من أجل أن ينتقل من واقعه المرير؛ ليعيش في بعدٍ عن الله، إذا اشترى مجلة أول شيء يقرأه فيها الصفحة الضاحكة، يريد أن يضحك، وإذا اشترى جريدة فأول شيء يبحث عنه نكتة اليوم، وإذا علم عن فلم سارع بشرائه ليضحك، وإذا سمع بمسرحية يريدها لكي يضحك، فلماذا؟ لأن هذا الإنسان داخله في عذاب، ويريد أن يسلي نفسه عن هذا العذاب بهذه الأشياء؛ فيزيد الطين بلة، (يريد أن يكحلها فيعميها) إذا أراد أن يبعد ما في نفسه من العذاب فعليه بكتاب الله وبالتوبة إلى الله، وبالرجعة إلى دين الله، ينزع الله من قلبه القلق والحيرة والاضطراب، ويزرع الله في قلبه الأمن والطمأنينة والأمان؛ لأن هذه من ثمار الدين: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].(48/7)
حال المؤمن عند الموت
إن العبد المؤمن إذا جاءه ملك الموت تأتيه البشارات من الله، تبشره الملائكة وهو عند أهله، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30].
الله أكبر! قالوا: ربنا الله، ثم برهنوا على هذا الادعاء بالاستقامة.
ما هي الاستقامة؟ هي السير على الطريق الصحيح، وأنتم تعرفون عندما يقال: فلان رجل مستقيم، أي: يمشي على الطريق الصحيح، وفلان منحرف، أي: مائل عن الطريق، يقع في الزنا في الغناء في الربا في الرشى في الكبر في الغلط وذاك مستقيم من بيته إلى مسجده إلى عمله إلى مسئولياته، فلا تراه إلا في الحق، ولا تجده إلا فيما يرضي الله، فقدمه لا تحمله إلى منكر ويده لا تمتد إلى منكر وعينه لا تمتد إلى حرام وأذنه لا تسمع لحرام ولسانه لا يتكلم بحرام وبطنه لا يمكن أن يسقط فيها شيء من الحرام وفرجه لا يمكن أن يطأ الحرام والاستقامة -كما يقول الرياضيون في تعريف الخط المستقيم: إن الخط المستقيم هو أقرب الطريق بين نقطتين- وهي نقطة الدنيا ونقطة الآخرة، وأقرب طريق موصل لها الخط المستقيم.
لكن الخط المنحرف فيه منعطفات، وهذه المنعطفات توصل الإنسان إلى النار، فالله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] ماذا يحصل لهم في الدنيا؟ قال الله: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30] أي: عند الموت: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] لا تخافوا مما أمامكم، ولا تحزنوا على من خلفكم، أمان على الماضي والمستقبل، فالمستقبل: لا تخف، والماضي: لا تحزن، والحاضر: قال: {وَأَبْشِرُوا} [فصلت:30] هذا الحاضر: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] وكأن الواحد يقول: لماذا هذا الاستقبال؟ ولماذا هذه البشرى؟ ولماذا هذه الطمأنة؟ قالوا: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [فصلت:31].
لما كنتم أولياء لله في الدنيا؛ نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولو كنتم أولياء للشيطان، تطيعونه وتعبدونه وتسيرون في خطه، لكنا لكم أعداء؛ لأن الله سمى هؤلاء أعداء: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ} [فصلت:19] أولياء الشيطان هم أعداء الله، وأولياء الله هم أعداء الشيطان، فالذي يوالي الله تواليه الملائكة، والذي يعادي الله تعاديه الملائكة، فتقول الملائكة: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [فصلت:31].
كنا في الدنيا معكم نثبتكم على الإيمان، وفي الآخرة معكم.
قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} [فصلت:31] لأنكم حجزتم أنفسكم في الدنيا عن الشهوات، يمر الشاب المسلم على الأغنية وهي تقطع قلبه مما كان يحبها في الماضي، لكنه يقارن ويوازن بين غضب الله وسخطه وبين هذه الأغنية، فيؤثر رضا الله ويترك الأغنية وقلبه يتقطع يريد أن يغني، هل تتصورون أن المهتدي والملتزم أنه لا يحب الأغاني؟ لا.
بل يحبها، مثلما تحبها أنت، يمر على المرأة ويراها جميلة تؤشر له بعينها أو بيدها؛ ولكنه يغض بصره خوفاً من الله، ونوازع الشهوة في قلبه تحترق؛ لكنه يقهرها خوفاً من الله؛ فيصبر والعاقبة للصابرين.
يقوم في الليل ليصلي، ويقوم إلى المسجد في الفجر ليؤدي الصلاة، والبرد قارص، والظلام دامس، والنوم جميل، والفراش دافئ، والزوجة جميلة؛ ولكنه يسمع: الله أكبر! فيترك كل شيء ويقوم إلى الله أكبر، هذه فيها تعب؛ ولكنه أرغم نفسه على هذا، يقول الله عز وجل يوم القيامة: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} [فصلت:31].
يبدلك الله بالزوجة اثنتين وسبعين زوجة، وبالأغنية -كما جاء في الحديث- تركب مزامير من مزامير آل داود على أوراق الجنة، ثم تعزف تلك المزامير بعد أن تهب عليها ريحٌ من تحت العرش، يقال لها: المثيرة، فتعزف بألحانٍ ما سمعت بمثلها الآذان، تغني معها الحور العين على ضفاف حضيرة القدس، يسبحن الله عز وجل بالعشي والإبكار، هذا السماع العظيم، بدلاً من (يا ليل يا عين)، تركت هذا من أجل ذاك، فنلت الدنيا والآخرة.
{وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:31] أي: ما ترغبون وما تريدون، هذا جزاء المؤمنين، وذاك الذي لا يريد نقول له: اصبر وانتظر، يقول الله عز وجل: {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} [الدخان:59] {وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} [السجدة:30] ويقول: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].(48/8)
حال الكافر والعاصي عند الموت
إن الكافر يعيش هذه الدنيا في عذاب، ويوم يموت تأتيه ملائكة العذاب، وتقول: يا أيتها الروح الخبيثة! أخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب، فتخرج روحه ثم لا يدعوها طرفة عين حتى يضعونها في مسوح من النار، ويصعدون بها إلى السماء، ولها ريحٌ كأنتن ريحِ جيفةٍ وجد على وجه الأرض، ثم يدعى بأسوأ الأسماء التي كان يعرف بها في الدنيا، فإذا بلغ بها السماء واستفتح لها، غلقت أبواب السماء دونها؛ لأن الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف:40] لا يدخلون الجنة، ولا تفتح لهم أبواب السماء.
لماذا؟ لأنهم استكبروا، والكبرياء خطيرة، الكبرياء هي منزلة للشيطان، تكبر فماذا حصل؟ يعني: صاحب الشهوة والمعصية يرجى له توبة، لكن صاحب الكبرياء يُخاف عليه من اللعنة، لأن آدم عصى مشتهياً فتاب وتاب الله عليه، وإبليس عصى مستكبراً، لما قال الله له اسجد: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] فكتبت عليه اللعنة، ونحن أكثر ما نخشى من الكبر، خصوصاً على أصحاب الرتب، فأصحاب الرتب يأتيهم الشيطان ويزين لهم الكبرياء والتعالي والتعاظم على من هو دونهم في الرتب، فيحصل لهم من هذا ضلالٌ لا يعلمه إلا الله، فتواضع لله يرفعك في الدنيا والآخرة؛ لأن من تواضع لله رفعه الله، ومن تعاظم على الله، وضعه الله.
تجد مثلاً المدير أو القائد أو الزعيم أو اللواء أو الأمير، إذا تواضع (وبش) وسلَّم ورقَّ واحترم وقدر الناس، هؤلاء يحترمونه من قلوبهم.
وإذا أحيل على المعاش والتقاعد بعد ذلك فلا تذهب منزلته من قلوبهم، تبقى منزلته في قلوبهم إلى أن يموت، ويوم أن يموت ويذكر يقولون: (الله يذكره بالخير)، لكن المتكبر المتعاظم يُحترم لكن بالقوة، فإذا زالت عنه الرتبة والله لا يسلمون عليه في الشارع، لا يقولون له: السلام عليكم، لماذا؟ لأنه كان يفرض عليهم بالقوة؛ لكن لو أنه أعطاهم الاحترام بالقدوة، وانتزع منهم الحب بالتواضع؛ لتغير ذلك نحوه، فمن تواضع لله رفعه، والذين يستكبرون كما جاء في الحديث والحديث في صحيح مسلم قال: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر) هذا مثقال ذرة فكيف بالذي عنده قنطار من كبر؟ يمشي وإذا مشى كأن أنفه معلق في السماء، لا يمشي وعينه في الأرض، لا.
هكذا لماذا تتكبر؟ وبماذا تتكبر؟: {يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:6 - 7] لماذا تتكبر؟! ارجع إلى أصلك، يا بن الأربعين سنة! أين كنت قبل أربعين سنة؟ كنت نطفة مذرة، خرجت من مجرى البول مرتين، الأولى: من ذكر أبيك، والثانية: من فرج أمك، وأنت بين هذا وذاك تحمل في بطنك العذرة، ثم نهايتك جيفة قذرة، لماذا تتعاظم على الله؟ تستكبر بمالك تستكبر برتبتك تستكبر بعضلاتك المال مال الله والرتبة من الله العضلات من الله العافية من الله الجمال من الله الشباب من الله لماذا تتعاظم على عباد الله بما هو لله وليس منك في شيء؟! عيب عليك هذا، تواضع لخالقك، يرفعك خالقك في الدنيا والآخرة، وإذا أبى إلا أن يتكبر، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا} [الأعراف:40] بعض الناس تقول له: صلِ في المسجد، قال: لا يا شيخ! أنا أصلي في مكتبي، لماذا؟ قال: إذا صليت في المسجد يأتي بجانبي صاحب الرتبة الضعيفة، وأنا لا أريد أن يسقط اعتباري، أريد أن أصلي لوحدي ولا يصلي بجانبي إلا واحد مثلي، لا إله إلا الله! يسقط اعتبارك إذا أتيت في الصف الأول؟! يسقط اعتبارك إذا أتى بجانبك الجندي؟! والله يعلو اعتبارك، ووالله ترتفع منزلتك، لماذا؟ لأنك تتواضع لخالقك الذي بيده مقاليد الأمور، من الذي قلدك هذا المنصب، من الذي أعطاك هذه الرتبة؟! إنه الله، ليس أنت، إنه خالقك ابتلاك بهذا من أجل أن تتواضع له، وتتواضع لعباده، فإذا تعاليت وتعاظمت؛ وضعك الله واحتقرك في الدنيا والآخرة: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40].
إذا دخل البعير في خرق الإبرة؛ دخلوا الجنة، وهذا يسمونه العلماء تعليق على المستحيل، يعني: مستحيل أن يدخل الجمل في خرق الإبرة، وهؤلاء من المستحيل دخولهم الجنة: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف:40 - 41].
ثم في القبر يذله الله، وفي النار يهلكه الله، من أجل ماذا؟ من أجل ارتكابه معصية الله، وتركه طاعة الله.
بالله يا إخواني في الله! يا أهل العقول الرشيدة! هل يسوغ لنا العقل هذا أن نضيع سعادة الدنيا والآخرة، وأن نقع في خزي الدنيا والآخرة من أجل المعصية؟! لا والله لا خيار لنا، إن الخيار الأمثل، والبديل الأفضل أن نسير في طاعة الله، والله يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] الخيار الصحيح لك: الدين.
الكفر والمعاصي والمنكرات ليست بخيار، شبعنا والله شبعنا، لعب الناس حتى تعبوا، ورقصوا حتى انثنوا، وغنوا حتى ملوا، ثم يأتي المغني (ونمططه ونراقصة ونلاعبه) فيخرج المغني والرقاص من الدنيا وليس معه شيء، لكن إذا تعبت في طاعة الله تخرج ومعك ذهب أحمر، تخرج ومعك عمل، يقول الله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30].(48/9)
كل نفس بما كسبت رهينة
عبد الله أنت الآن في سوق الدنيا، وسوف تصدر منها إلى الآخرة محملاً بما عملت، يقول الله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل:89] إذا سابقت في هذا السوق وجمعت لك حسنات، وجمعت العمل الصالح ورجعت إلى الله، قال الله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} [النمل:89 - 90] عاش في الدنيا يجمع السيئات والعياذ بالله، ويلقط الجمر بعينه: فينظر إلى الحرام وبأذنه يسمع الغناء وبلسانه يتكلم بالغيبة والنميمة واللعن والسب والشتم، ويمشي إلى الحرام، جاء بالسيئة، ليته ما جاء.
مثله كمثل رجل غاب عن أهله، جلس في العسكرية عشر سنوات وهو غائب يجمع المال، ثم رجع إلى أهله وليس معه إلا (مشعاب وباكت دخان) وليس معه شيء، ويوم دخل؛ أين نقودك يا ولدي؟! أنت عشر سنوات وأنت غائب، ماذا معك؟! قال: لا شيء، والله لا يوجد غير الراتب كنا نأخذه ونأكله، فما رأيكم في أهله هل يفرحون به؟ والله لا.
فقد لا يصنعون له العشاء، ويطردونه من نفس البيت، (الله لا يكثر خيرك، ولا يجمل حالك) إن كنت تغيب عشر سنوات ثم تأتي بباكت الدخان، هذا لا نريده، وإذا قال: يريد أن يتزوج، لا أحد يزوجه؟! والله لا يزوجونه قط، لماذا؟ لأنه ضايع لا يحفظها.
لكن ما رأيكم في رجل غاب عشر سنوات ويجمع الريال على الريال، ولما أكمل المدة، أخذ إجازة وجاء إلى أهله محمل سيارة كاملة، الفرش، والأثاث، والثلاجة، والغسالة، والأدوات المنزلية، والهدايا، كسا أهل القرية من أولهم إلى آخرهم، ما ترك رجلاً ولا امرأة إلا أهدى له غترة أو شيلة أو ثوباً، أو بشتاً، ثم دخل على أهله وأخرج الفلوس يعطي أمه، ويعطي أباه، ويعطي إخوانه، ويعطي أنسابه، ما رأيكم في هذا؟ كيف يبيت الليلة؟ كل واحد يسلم على رأسه، وكل واحد يسلم على يده، ويذبحون الذبائح له، ويأخذه أهل القرية من طرفهم إلى طرفهم، عزائم كل يوم، وإذا تكلم، وقال: أريد فلانة؟ قالوا: الذي تريد مع الذي تريد، الله يحييك (ومرحباً ألف).
وأنت الآن خذ رجولتك من الدنيا، لا تأت إلى الآخرة بالمنكرات، لا تأت بقطع صلاة وقلة دين، بل جئ بإيمان وعمل صالح، يزوجك الله بالحور العين، يقول الله: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:90].(48/10)
أهمية المحافظة على الصلاة
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته، وأول ما نوصيكم به: التوحيد الخالص والمحافظة على هذه الصلوات، فإنها عمود هذا الدين، فأنتم درع هذه الأمة، وأنتم حماة دينها وقوة دفاعها عن مقدساتها، فإذا ما تمسكتم بطاعة الله، وتمسكتم بدين الله، وحرصتم على أمر الله، وإلا فإن الدرع مكسور، والوقاية مخروقة، ولا ينفع درع وهو خربان، عليكم مسئولية، إن جاز للناس أن يتهاونوا في الدين فلا يجوز أن تتهاونوا به أنتم؛ لأنكم مرابطون على ثغور الإسلام: (رباط يوم في سبيل الله أعظم من صيام سنة).
إن متم؛ متم شهداء، وإن عشتم؛ عشتم سعداء، تعيشون عيشة الرجال، وتقفون مواقف الأبطال، تذودون عن حماكم، وعن مقدسات المسلمين، وتقفون بنحوركم على ثغور المسلمين، ولكن صححوا وضعكم مع الله، واحذروا من الذنوب والمعاصي؛ فإنها حجابٌ بين العبد وبين الله، احذر من الذنب فإنك لا تقاتل العدو، إلا بدين وإيمان ونصرة من الله، فإذا استويت أنت والعدو هو عاصٍ وأنت عاصٍ، هو زان وأنت زان، هو فاجر وأنت فاجر، إذاً: هنا تكون الغلبة للسلاح، والسلاح يمكن عنده أكثر منك، لكن السلاح الفتاك والقوة التي لا تُقهر والعدد الذي لا ينقص هو الإيمان، ووالله إن رجلاً من المؤمنين ليعدل آلاف من الكفار.
لما استنفر قادة المسلمين أرسلوا لـ عمر بن الخطاب يطلبون نصرة ونجدة، فأرسل لهم القعقاع بن عمرو، وقال: إن جيشاً فيه القعقاع لا يُهزم، عده العلماء بألف رجل، ألف رجل لكن القعقاع يضعهم على جنب، بماذا؟ ما كان قوياً في جسمه، لكن قوي في قلبه، عنده قلب أقوى من الجبال، السلاح الذي يحمله قلبٌ ضعيف هذا سلاح خربان.
والله إذا وجدة قوة في قلب قوي وقلب مؤمن واثق بالله عز وجل لو ما عنده إلا عصا؛ فإن عصاه أفتك من المدفعية التي مع الإنسان الجبان الذي لا يريد الله ولا الدار الآخرة.
فنقول لكم أيها العسكريون: أنتم في بلاد الإسلام، وفي مهد الإسلام، وفي ظل دولة الإسلام، تحكمكم شريعة الله، تذودون عن حمى الله، تذودون عن مقدسات المسلمين، واجبكم عظيم تجاه دينكم، والحرص على مقدساتكم، بحفظ ما بينكم وبين الله تبارك وتعالى.
ألا وصلوا على خير خلق الله محمد بن عبد الله، فقد أمركم بذلك مولاكم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وعلى الخلفاء الراشدين وعلى الصحابة أجمعين، وعن التابعين وعن تابع التابعين، وعنا معهم بمنِّك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر الكفرة واليهود والملحدين وأعداء الدين، اللهم أنزل عليهم بأسك الشديد، وعذابك الأكيد، فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعل عملهم في رضاك، اللهم اهدهم إلى هداك، اللهم من أرادهم أو أرادنا في هذه الديار أو غيرنا من ديار المسلمين بسوءٍ أو شرٍ أو كيدٍ أو مكر، فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، وأنزل عليه بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وارزقهم البطانة الصالحة، واجعلهم عوناً لك ولعبادك على طاعة الله، ناصرين لدين الله، اللهم ثبت أقدامهم وانصرهم على القوم الكافرين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر عبادك المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك في الأفغان وفي فلسطين، وفي جميع بقاع المسلمين، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم قوِ قلوبهم، اللهم مدهم بعونك وتأييدك، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدام أعدائهم، واجعل أعداءهم غنيمة للمسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم نوِّر على أهل القبور قبورهم، اللهم اغفر للأحياء ويسر لهم أمورهم، اللهم فرج هم المكروبين، واشفِ مرضى المسلمين، واقضِ الدين عن المدينين، واكتب الصحة والسلامة والعافية لنا ولكافة عبادك المؤمنين، في برك وبحرك أجمعين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا غيث الإيمان في قلوبنا، وغيث المطر في بلادنا وأوطاننا، اللهم إن بالبلاد والعباد من اللأواء والشدة والضيق ما لا نشكوه إلا إليك، فلا تحرمنا يا مولانا من فضلك، ولا تؤاخذنا بما فعله السفهاء منا، إنك أنت أرحم الراحمين.(48/11)
فيم يفكر المسلم؟
يقول سبحانه وتعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فدلنا عز وجل على التفكر والنظر والتأمل، مبيناً أن من أعظم ما يفكر فيه العبد ويتأمله هو خلقه، متذكراً أنه خلق من ماء مهين، ثم يتفكر في كتاب ربه سبحانه وتعالى، والأمر الذي خُلق الإنسان من أجله، والنعم الكبرى التي وهبه الله إياها كالرزق والأولاد وغير ذلك.(49/1)
كلام ابن مسفر عن أهمية التفكر في كلام الله ومجالاته
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
وبعد: أيها الأحبة في الله: الفكر والنظر والتأمل والاعتبار هو الخطوة الأولى التي تسبق قيام الإنسان بأي عمل في هذه الحياة، وعلى ضوء سلامة الفكر تتحدد سلامة الخطوات التي يخطوها الإنسان في هذه الدنيا، وهو شيء أمرنا الله عز وجل به، أمرنا بالنظر فقال الله عز وجل: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:6 - 8] إلى آخر الآيات، وأمرنا بالتفكير، فيقول عز وجل: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2] وفكر المسلم فكر نير لا يسير ولا يتجه إلا في الاتجاه الصحيح، يفكر في شيء مهم: كيف ينجو من عذاب الله؟ كيف يفوز بجنة رب العالمين؟ كيف يدخل الجنة؟ كيف ينجو من النار؟ يفكر في كل خطوة يخطوها، يفكر في كل نظرة ينظرها، يفكر في كل كلمة يتلفظ بها، يفكر في كل تصرف يتصرف به، وأثره عليه؛ أثره عليه في هذه الدار، وأثره عليه عند الموت، وأثره عليه في القبر، وأثره عليه في أرض الحشر، وأثره عليه في الجنة أو النار، هذا الفكر فكر نير، فكر رباني، وهو يأتي نتيجة فهم الإنسان لحقيقة الحياة، من فهم الحياة فهماً حقيقياً منبعثاً من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان تفكيره سليماً، أما من فهم الحياة فهماً مغلوطاً، فهماً بهيمياً، فهم منها ما تفهمه الحيوانات والبهائم والأنعام، فحصر اهتماماته وتفكيره في شهواته، كيف يأكل؟ كيف يشبع؟ كيف ينكح؟ كيف يلبس؟ كيف ينام؟ كيف يسكن؟ كيف يتوظف؟ كيف يركب؟ هذه مُتع، هذه أفكار بهيمية لا تعدو هذه الحياة.
أما المؤمن المسلم فإنه يفكر تفكيراً يختلف عن هذا.
أجل فيم يفكر المسلم؟ يفكر أيها الإخوة -كما يقول الشيخ ابن القيم عليه رحمة الله في كتابه البديع: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي - ويقول قبله: إن على المسلم إذا أراد النجاة أن يحفظ أربعة أشياء: أولاً: الفكر أي: الأفكار.
ثانياً: النظر.
ثالثاً: اللفظ.
رابعاً: الخُطا.
فإن هذه هي المسارات التي يسلك بها الإنسان طريقه إما إلى الجنة وإما إلى النار، فمن حفظ أفكاره فلم يفكر إلا في خير، وحفظ نظراته فلم ينظر إلا في حلال، وحفظ ألفاظه فلم يلفظ إلا في حلال، وحفظ خطواته فلم تحمله خطواته إلا فيما يرضي الله، فهذا اكتب له السعادة وادع له بالجنة بإذن الله.
أما من ضيع أفكاره يهيم بها في كل واد، وضيع نظراته ينظر بها إلى كل جميل ولو كان حراماً، وضيع ألفاظه يخوض بها في كل ميدان، وضيع خطواته يخطو بها إلى كل مكان، هذا ضائع ضال، وسوف يعض على يديه يوم القيامة ويقول: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:1 - 2].
فيا أخي: من الآن حدد خطواتك ونظراتك وألفاظك، وحدد فكرك واهتماماتك.
ثم يقول: إن فكر المسلم لا يعدو خمسة أشياء سوف نتحدث عنها إن شاء الله بشيء من الاقتضاب والاقتصار؛ لأن كل عنصر يحتاج إلى محاضرة: - الفكر الأول: التفكر في كلام الله، في القرآن الكريم، الكلام العظيم الذي هو هداية ونور، يقول الله فيه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى:52 - 53].
تفكير المسلم يحتل جانباً كبيراً منه القرآن الكريم، ولهذا الصحابة لما نزل عليهم القرآن أطار النوم من أعينهم، لم يعد إلا التفكر في الآخرة التفكر في الجنة التفكر في النار، التفكر في الوعد، التفكر في الوعيد، التفكر في الخبر، التفكر في الحكم، كلٌ مع القرآن، ولهذا لم يَبْقَ في حياة المسلم فراغ لغير القرآن، يقول أحد السلف: آيات القرآن أطرن النوم من عيني.
ولكن ما مجال الفكر في القرآن؟ كثير من الناس يريد أن يعتبر ويتدبر القرآن لكنه لا يدري ما المجالات والطرق والمسارات التي توصله إلى الفكر القرآني، الله عز وجل دعانا إلى التفكر، يقول الله عز وجل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].
ويقول عز وجل: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21].
ويقول عز وجل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82].
ويقول عز وجل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
هذا هو السبب على القلوب الآن أقفال، ما يدخل الفكر القرآني في القلوب، أقفال ماذا؟ أقفال الدنيا، أقفال الشهوات، أقفال الشبهات، أقفال الغفلة، أقفال نسيان الآخرة.
أما إذا انفتح القلب والله ما يسأم من كلام الله، يقول ابن القيم: والله لو صحت منا القلوب ما شبعت من كلام الرحمن.
مسارات ومجالات التدبر لكتاب الله عز وجل كثيرة:(49/2)
المجال الأول: التفكير في دلالة القرآن على صدق الرسالة
أول مسار: أن تتفكر في كون هذا القرآن دليلاً واضحاً وبرهاناً ساطعاً على أن هذا هو محمد بن عبد الله رسول من عند الله، الله جعل القرآن للرسول صلى الله عليه وسلم معجزة ودلالة وبرهاناً على أنه نبي، وما من نبي يبعث إلا ويؤيد بمعجزات، وكانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الخالدة هي القرآن الكريم، يقول الله فيها: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51] أي: ما كفاهم دليل على نبوته إنزال القرآن الكريم؟! هذا الكتاب الكريم معجز في كل شيء: معجز في بلاغته معجز في فصاحته معجز في بيانه معجز في تشريعاته معجز في أحكامه معجز في الاقتصاد معجز في السياسة معجز في الاجتماع معجز في الحدود معجز في الأخلاق معجز في الآداب وفي كل شيء، تلبس الإعجاز في كل كلمة من القرآن الكريم، وهل يمكن أن يأتي بهذا القرآن بشر؟! لا والله، والله ما فيه حرف إلا من الله تبارك وتعالى، ولهذا تكفل الله بحفظه وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] وهاهو محفوظ بأمر الله منذ نزل إلى أن تقوم القيامة، ما يزاد فيه حرف، ولا ينقص منه حرف، لماذا؟ لأنه كلام الله.
إذاً كلام النبي صلى الله عليه وسلم -الحديث النبوي- لفظه من الرسول ومعناه من الله؛ لأن الرسول لا ينطق عن الهوى، لا ينطق إلا بوحي من الله عز وجل، لكن كلامه الذي ينطقه هو بوحي من الله عز وجل معنىً، ولفظه من الرسول يسمى حديثاً، بينما كلامه الذي ينطقه عن الله تبارك وتعالى قرآناً هذا كلام الله.
استطاع الكذابون والوضاعون أن يضيفوا أحاديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، سمعتم بهذا؟ طلبة العلم يعرفون هذا الأمر، وكتب الموضوعات كثيرة، ما معنى موضوع؟ أي: كذاب عدو للإسلام والمسلمين يضع حديثاً ويقول: قاله الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وتَقَبَّله بعض الأمة وهو مكذوب وموضوع، إلى أن قيض للأمة ولدين الله عز وجل من يحفظه بتمحيص وتفريق وتنقية الباطل من الحق، حتى بقي دين الله محفوظاً، لكن يوجد أناس تقولوا وكذبوا، لكن لا يوجد شخص كذب على الله وأضاف حرفاً واحداً في القرآن الكريم.
حتى مسيلمة، مسليمة من؟ من يعرف أباه؟ لا يوجد شخص في الدنيا إلا يعرف باسم أبيه إلا مسيلمة، إذا قيل مسيلمة قالوا: الكذاب، وهو اسمه: مسيلمة بن حبيب الكذاب، هذا ادعى النبوة لكن ما استطاع أن يضيف في القرآن، كتب للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد: فإني قد أُشركت معك، فلك نصف الأرض ولي نصفها.
يحسب أنها ذبيحة! يقسم الأرض! فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم جواباً، انظروا جواب النبوة! قال: (من محمد رسول الله، إلى مسيلمة الكذاب أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده).
من على وجه الأرض، هل يوجد في الدنيا الآن كم يشهد أن مسيلمة رسول الله؟ لا أحد، حتى عياله الذين من صلبه يقولون: مسيلمة الكذاب، لكن على وجه الأرض الآن أكثر من مليار مسلم يشهدون أن محمداً رسول الله، دين الحق دين عظيم، فهذا الكتاب الكريم يشهد شهادة بأعلى صوت ومن أعلى منبر أنه كلام الله، وأنه من عند الله، وبالتالي تطمئن نفسك إذا قرأت القرآن ورأيت إعجاز القرآن، تسكن نفسك وتسير في الخط؛ لأنك على يقين، تعبد الله على نور، تعرف أنك على الحق، والله الذي لا إله إلا هو أن من على وجه الأرض كلهم على باطل إن لم يسلموا.
اليهود على باطل، النصارى على باطل، الملاحدة على باطل، الهندوس على باطل، البوذيون على باطل، كل هؤلاء إلى النار، من الذي على الحق؟ المسلم، وما نقول هذا من عاطفة أو من حماس أو من اندفاع أو من تعصب؛ لأننا مسلمون، لا.
نقوله من منطق الحق عندنا وثيقة، ما هي وثيقتنا في هذا الكلام؟ القرآن الكريم.
هل يمكن أن يكون هذا القرآن كلام بشر؟ لو كان كلام بشر لكان بإمكان البشر أن يأتي بمثل هذا الكلام، لكن لما عجز البشر أن يأتوا بمثل هذا الكلام يقول الله عز وجل: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] لماذا؟ لأنه كلام الله، ولا يمكن أن يأتي البشر بكلام الخالق، خالق البشر تبارك وتعالى، فأنت حينما تقرأ القرآن وتتدبر، وتمر عليك آيات ومعجزات، يزداد قلبك إيماناً، وهذا مجال عظيم، يثبت فيه قلبك على الإيمان والدين.(49/3)
المجال الثاني: مجال النظر في أوامر الله
المجال الثاني من مجالات التأمل والتدبر للقرآن الكريم: مجال النظر في أوامر الله وما جرت عليه من صلاح، كل الأوامر، أمر الله عز وجل بالتوحيد والعقيدة، أمر الله بالصلاة، أمر الله بالزكاة، أمر الله بالحج، أمر الله بالصوم، أمر الله ببر الوالدين، أمر الله بصلة الأرحام، أمر الله بالدعوة إليه، أمر الله بالجهاد، كل أوامر الله ما إن تعمل الفكر فيها وتفكر إلا وتجد أن في مشروعيتها وفي أمر الله بها خيراً عظيماً لهذه الأمة.
هذه الصلاة يقول الله عز وجل فيها: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] الصلاة هذه لها مصلحة عظيمة، لماذا؟ لأنك تستحي أن ترى منكراً وستصلي بعد قليل أو كنت تصلي قبل قليل، هذه زاد وقوت لك، كأنها تمدك بطاقة من أجل أن تصارع الحياة وعندك إيمان تتزود به في كل يوم خمس مرات.
ويقول الله في الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} [التوبة:103] هل تدري أنك إذا دفعت الزكاة أنك تطهرت وزكوت؟ وما معنى تطهرت؟ أي: انتصرت، كنت متنجساً بنجاسات المادة التي يمكن أن تجذبك وتجعلك أرضياً، لا.
زكيت نفسك وطهرتها ارتفعت بها، علوت على المادة، انتصرت على النفس، أخرجت المال، وهو تحت قدمك، وصرت أنت سيد المال، لكن لما تبخل أنت على المال ولم تخرج زكاته تصير أنت عبد المال وعبد الدنيا.
الصوم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).
الحج، يقول عليه الصلاة والسلام: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197].
هذه الأحكام الشرعية التي أمر الله عز وجل بها، والأوامر كلها مصالح للعباد، أمر الله ببر الوالدين، بصلة الأرحام، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لماذا؟ لمصلحة العباد، فما من جزئية من أوامر الله إلا وفيها مصلحة، هذا مجال ثانٍ.(49/4)
المجال الثالث: النظر والتأمل في المحرمات التي حرمها الله في كتابه
المجال الثالث من مجال التأمل: هو مجال النظر والتأمل في المحرمات التي حرمها الله، ما من محرم حرمه الله إلا وفي تحريمه مصلحة، جاءت الشرائع كلها وفي نهايتها الشرع الإسلامي بحفظ الكليات الخمس لصالح العباد: الدين العقل المال النفس العرض.
فحفظ الدين بقتل المرتد: (من بدل دينه فاقتلوه) حفظ الله العقل بتحريم الخمور، وحفظ الله المال بقطع يد السارق، وحفظ الله الأنفس بقتل القاتل، حفظ الله الأعراض برجم الزاني أو جلده إن كان بكراً، كل هذه أوامر الله، لولا تقييم الشرائع والشريعة الإسلامية لهذه الأحكام لضاعت أديان العباد وأموالهم وأعراضهم، وضاعت أنفس العباد وعقولهم، وإذا ضاعت هذه الكليات هل يبقى حياة؟ تصبح الحياة حياة بهائم، شريعة الغاب، فما من شيء أَمر الله به أو نهى الله عنه إلا وفيه مصلحة، يعرفها الإنسان وقد لا يعرفها، لكن بالتدبر والتأمل، لما تسمع قول الله تبارك وتعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] أمر من الله أنك تغض بصرك وتحفظ فرجك، يقول الله بعد ذلك: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30].
ذلك أفضل لك، والله! ما يعرف هذه الآية إلا من طبقها، أهل الإيمان لما طبقوها عاشوا في راحة وسعادة، تجد المؤمن كلما رأى منظراً صرف عينه إن كان حراماً، لكن الذي ما عنده إيمان كلما رأى امرأة أطال نظره إليها، الله يقول: غضوا وهو يقول: لا.
وبعد ذلك ماذا يحصل بعد هذا؟ يرجع إلى البيت مريضاً، فهو قد رأى منظراً، ثم منظراً ثانياً، وآخر أحسن، وكم سوف تنظر، وكم تقدر عليه؟ حتى لو أردت أن تتزوج لا يحل لك إلا أربع في الشرع، لكن إذا نظرت إلى أربعمائة في الشارع تقدر تتزوج بهن كلهن؟ ما تستطيع، أجل، ما هناك حل إلا أن تغض بصرك، قال الله: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30].
أفضل وأريح لقلبك، وأتقى لربك، وأهنأ لنفسك أنك تغض بصرك من أجل أنك لا ترى إلا زوجتك، لكن لما تنظر إلى فلانة وفلانة وعلانة، تنظر إلى أشكال غريبة يزينها الشيطان، وترجع إلى البيت مريضاً، بعض الشباب -وقد ذكرت هذا الكلام- يخرج من بيته وما في قلبه مشكلة، ويرجع وهو مطعون القلب، يقول له أبوه: تعشَ يا ولد قال: ما أريد العشاء، ماذا فيك؟ قال: آه! الزفرة تقض صدره، لماذا؟ ماذا حصل؟ حريق في الصدر، من أين هذا الحريق؟ من نظرة واحدة فقط:
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل
لكن غض بصرك يسترح قلبك، يقول المثل: (نافذة يأتيك منها ريح أغلقها واستريح).
لكن تفتح عينك على الناس تفتح عينك على العذاب وعلى النار -والعياذ بالله- هذا المجال الثالث من مجالات النظر وهو أن تعرف أن في كل نهي وفي كل شيء حرمه الله مصلحة لك أيها الإنسان ليس قيداً، بعض الناس يقول: هذه قيود، هذه حدود من شخصيتي، هذا كبت، لا.
هذه مصلحة لك، لولا القيود لكنت متفلتاً، تقيد الآن من أجل أن تنفلت عند الموت وتدخل الجنة، ترى كل شيء، وتنظر إلى وجه الله في الدار الآخرة، تنظر إلى الحور العين، تنظر إلى وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم، تنظر إلى وجوه الأنبياء كلهم، تنظر إلى وجوه الصحابة كلهم، لكن تفتح عيونك الآن في وجوه الزانيات المومسات يقفل الله عز وجل بصرك عن نظرك إليه يوم القيامة: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15].
لا ترى الله يوم القيامة، من يرى البعيدُ والعياذ بالله؟ يرى فرعون وهامان وقارون وإبليس في النار، فيكمل معهم والعياذ بالله، هذا مجال ثالث.(49/5)
المجال الرابع: التفكر في قصص القرآن والأمثال
المجال الرابع: أن تتفكر في قصص القرآن، الله قص في القرآن علينا قصصاً، هذه القصص الهدف منها العبرة، يقول الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف:111] ليس حديثاً يفترى، وليس أساطير ولا روايات، ولا مسرحيات تكتب، هذه قصص حق: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف:3] فإذا مر عليك قصص القرآن قف عنده وتأمل وانظر وتدبر، انظر قصة يوسف وما بها من عبر، انظر قصة إبراهيم وما فيها من عبر، انظر قصة نوح وما فيها من العبر، كلما وجدت قصة خذ منها عبرة، وتصور أنك تستفيد من هذه القصص.
وتفكر في أمثال القرآن الكريم: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21] يضرب الله لك مثل القرآن الكريم، يقول: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} [الحشر:21].
لو خاطب الله بالقرآن الجبال الصم الرواسي لرأيتها خاشعة متصدعة، وقلبك أقسى من الجبل ما يخشع لكلام الله! {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ} [يونس:67] سبحان الله! عبرة لكن من يعتبر؟ صاحب القلب السليم الأمثال هذه مجال نظره.(49/6)
المجال الخامس: التفكر فيما أعده الله للمؤمنين
وأيضاً من مجالات الاعتبار بالقرآن الكريم: أن تتفكر فيما أعد الله عز وجل للمؤمنين في الجنة -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها، وآباءنا وأمهاتنا وإخواننا المسلمين- تنظر لما أعد الله في الجنة للمؤمنين، حتى قال الله في القرآن: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] وفي الحديث الصحيح يقول ابن مسعود: [إن أدنى أهل الجنة منزلة، من يعطى قدر الدنيا منذ خلقها إلى يوم يفنيها وعشرة أمثالها] قال راوي الحديث: انظر إلى ما يقول ابن أم عبد، عن أدنى رجل فكيف بأعلى رجل؟ قال: [ذاك ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر].
هذا الملك العظيم يدلك على عظمة الثمن، ليس برخيص: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) عندما تعرف أنك لك اثنتين وسبعين حورية في الجنة، الواحدة منهن -من نساء الجنة- لو أشرفت على الأرض لطمس نورها ضوء الشمس والقمر، ولو أنها في المشرق ورجل مزكوم في المغرب لشم رائحتها، تخرق أنفه على بُعد المشرق والمغرب: (نصيفها -أي: شيلتها على رأسها- خير من الدنيا وما عليها) اثنتين وسبعين حورية تريدهن مجاناً؟! الآن امرأة واحدة ما لقيتها إلا بعد قَلْعِ ضرسك، لكن هذه حورية، كبدها مرآتك، وكبدك مرآتها، عليها سبعين حلة، ترى مخ ساقها من وراء الحلل، تريدها مجاناً؟!! بعض الناس يريدها وهو ينام عن صلاة الفجر، ويريدها وهو يغني، ويريدها وهو يدخن، يقال له: اترك الدخان، قال: والله يا شيخ أريد أن أتركه لكن ما استطعت، اجلس يا عبد السيجارة على ما أنت عليه! لا حول ولا قوة إلا بالله! فعندما تعرف ما أعد الله لأهل الإيمان في الجنة تقول: والله هذه السلعة غالية، والله تحتاج إلى تعب، ولقد قال عليه الصلاة والسلام: (ألا هل من مشمر للجنة؟ إن الجنة لا خطر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وقصر مشيد، وريحانة تهتز، قال الصحابة: نحن المشمرون يا رسول الله! قال: قولوا: إن شاء الله).
وشمروا رضي الله عنهم وصدقوا: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].(49/7)
المجال السادس: التفكر فيما أعده الله للكافرين
وإذا نظرت في المقابل إلى ما أعد الله لأهل النار في النار، -أعاذنا الله وإياكم من النار- يقول الله في القرآن الكريم عن النار: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].
النار وما أعد الله فيها من السلاسل والأغلال والأنكال، ومن الحميم والزقوم واليحموم، ومن العذاب الذي لا يتصوره العقل ولا يخطر في بال الإنسان، تعرف أن المعصية عليها أثر كبير في النار فتوقف، الله لا يتوعد بهذا الوعيد الشديد إلا لعظمة الكفر، ولعظمة المعاصي؛ لأن الله لا يُعصى، إذا كان الله عز وجل أخرج إبليس قال الله للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الحجر:34].
وأخرج أبوينا من الجنة بذنب واحد، قال الله لآدم: كل من الجنة إلا هذه الشجرة، جاء إبليس قال: كل منها، فلما أكل منها، قال تعالى: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً} [طه:123] وأنت ما زلت في الخلاء وتريد أن تدخل الجنة وعندك مليون ذنب، كيف المسألة؟! ما هي سهلة يا إخواني! نسأل الله يتغمدنا برحمته.
والله صعبة جداً جداً، ولكن نحن نتكل على عفو الله ورحمته، ونتوب دائماً، ونرجع ونصحح الوضع مع الله تبارك وتعالى، فهذه مجالات التفكير في كتاب الله باختصار، أعيدها مرة ثانية: أولاً: مجال النظر في كونه دليلاً من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: مجال النظر في كون أحكامه التي أمر الله بها ذات مصالح عظيمة على الأمة.
ثالثا: مجال النظر في كون الحرام والمحرمات التي حرمها الله في تحريمها مصالح للمسلمين.
رابعاً: مجال النظر في الأمثال وفي قصص القرآن وفيما أعد الله لأهل الجنة في الجنة -أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها- وفيما أعد الله لأهل النار من العذاب -أسأل الله أن يحرم أجسادنا ورقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا عليها- إنه على كل شيء قدير.
أما المجال الثاني من مجالات التفكير: أن تتفكر أيها المسلم في مخلوقات الله عز وجل، فيما بث الله عز وجل من الآيات الدالة على عظمته في السموات وفي الأرض، وهذا العنصر يتكلم فيه بشيء من التفصيل والدقة أخي فضيلة الشيخ: ناصر بن مسفر الزهراني شاعر الدعوة وخطيب جامع الحارثي في مكة المكرمة، والمحاضر بجامعة أم القرى، فليتفضل حفظه الله، وأرجو منه ألا يطيل، ويختصر من أجل أن يبقى لي بعض الوقت.(49/8)
التفكر في خلق الإنسان
الشيخ: ناصر بن مسفر الزهراني الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الإخوة المؤمنون: نزولاً عند رغبة فضيلة الشيخ وبعض الإخوة في أن أشارك في هذه الليلة الطيبة، استجبت لهذه الرغبة سائلاً الله تعالى أن ينفعني وإياكم بما نقول وما نسمع إنه على كل شيء قدير، وإن كان هذا المطلب وهذا العنصر بالذات الذي طلب فضيلة الشيخ أن أتحدث عنه هو أمر صعب وشاق، فمن هو الذي يستطيع أن يتحدث عن مخلوقات الله تعالى، وأن يلم بها، وأن يبين أسرارها، ومواطن الإعجاز فيها.
مخلوقات الله تعالى أعظم وأجل وأكبر من أن تحصى ومن أن يحيط بها إنسان:
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
عن أي شيء نتحدث أيها الأحبة! من مخلوقات الله تعالى؟ إن القرآن الكريم قد حثنا على التفكر في مخلوقات الله تعالى، وقد حثنا على التفكر في شيء يسير منها، لكي نستدل بهذا الجزء وبهذا القليل على الكثير الباقي من مخلوقات الله تعالى، فكان الحديث في القرآن الكريم عن أشياء وعن مخلوقات هي من أهم المخلوقات ومن أجلها ومن أعظمها، حثنا القرآن الكريم على التفكر في خلق السموات والأرض، وكم فيها من عبر؟! وكم فيها من أسرار من عظمة الله تعالى؟ وكم فيها من مواطن الإعجاز؟ أمرنا أن نتفكر في الشمس والقمر والليل والنهار والأرض والجبال، وفي مخلوقات الله تعالى للكائنات الحية، أمرنا أن نتفكر في الإبل، أمرنا أن نتفكر في أنفسنا، أشياء وأشياء كثيرة من مخلوقات الله تعالى حثنا القرآن على التفكر فيها.
لكن أيها الأحبة! -كما ذكرت- ما دمنا لن نستطيع الحديث عنها، فيكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، سنتحدث عن أمر واحد من مخلوقات الله تعالى لكنه من أعظم تلك المخلوقات، وأشدها تعقيداً، وإعجازاً، نتبين من خلاله سر العظمة والإعجاز، نتبين من خلاله عظمة الواحد الأحد سبحانه وتعالى؛ لأن التفكير ليس أمراً مقصوداً في ذاته، إنما الغرض من هذا التفكير أن نصل إلى الغاية، وهي معرفة الله سبحانه وتعالى، معرفة عظمة الله تعالى، معرفة هذا الخالق العظيم سبحانه وتعالى، لذلك سنتحدث عن أمر وهو قريب منا جداً، سنتحدث عن أمر نعرفه جميعاً، أتدرون عن أي شيء سنتحدث؟ سنتحدث عنا نحن، عن أنفسنا، عن خلقنا، عن الإنسان، استجابة لأمر الله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] إنه حديث موجز وسريع ومقتضب، أشارك به في هذه الليلة في الحديث عن سر الإعجاز في خلق الإنسان، وحينما يتأمل الإنسان الآيات القرآنية التي تكلمت عن خلق الإنسان والله يجد العجب العجاب، ويجد فعلاً عظمة الله تعالى في خلق هذا الإنسان، هذا المخلوق العجيب، من يتصور أيها الأحبة! أننا نحن هذا الكائن الغريب؟! هذه الأجسام العظيمة، هذه العقول، هؤلاء البشر الذين يمشون على الأرض من يتصور أن أصل هؤلاء جميعاً هو من نطفة؟! بل من نطفة قذرة يتقزز الإنسان منها لو رآها على ثوبه، لو وقعت على ملابسه لتقزز الإنسان منها، كما قال الله تعالى: {مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة:8].
بل حتى القرآن أحياناً يذكر هذه الحقيقة على استحياء: {كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج:39].
أدرى بنفسك، تعرف ماضيك، تعرف حقيقتك، (إنا خلقناهم مما يعلمون).(49/9)
مراحل خلق الإنسان في القرآن الكريم
وتعالوا بنا أيها الأحبة! قبل أن نعرج على ذكر شيء من أسباب العظمة، ومن أسرار الإعجاز الرباني في خلق الإنسان، نتأمل بعض الآيات القرآنية، آية أو آيتين، نتبين من خلالها حديث الرب سبحانه وتعالى عن خلقنا نحن، عن تكويننا، عن نشأتنا، عن سر الإعجاز في وجودنا، يقول الله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:5 - 7].
ويقول تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:12 - 14].
أيها الإخوة المؤمنون: من خلية واحدة، من عشرات الألوف الكامنة في نقطة واحدة من ماء الرجل تتحد ببويضة المرأة في الرحم، ينشأ ذلك الخلق المعقد المركب، وهو من أعجب الكائنات الحية، الخلية هي الحجر الأساس في بناء الإنسان، ومنها يبدأ سر الحياة، هذه الخلية التي لا ترى إلا بالمجاهر الضخمة فهي على صغرها عبارة عن بحر متلاطم مليء بالحيوانات المختلفة، وهي مليئة بالعناصر فيها حوالي ثمانية عشر عنصراً من الأكسجين والفحم والكبريت والكلس والفسفور، في جسم الإنسان من هذه الخلايا ألف مليون مليون خلية، ويستهلك الجسم في الدقيقة الواحدة من خلاياه سبعة آلف وخمسمائة مليون خلية، من يصدق أن هذه النقطة الصغيرة المتعلقة بجدار الرحم تكمن فيها جميع خصائص هذا الإنسان المقبل من صفاته الجسدية وسماته من طول وقصر وضخامة وضآلة، وقبح ووسامة، وآفة وصحة، كما تكمن فيها صفاته العصبية والعقلية والنفسية، وأن هذه النقطة الصغيرة الضئيلة في هذا الإنسان المعقد المركب الذي يختلف كل فرد من جنسه عن الآخر فلا يتماثل اثنان في هذه الأرض على الإطلاق، وهذه من أعجب الأشياء، هذه النقطة الصغيرة كل البشر لا يمكن أن يأتي اثنان متشابهان في كل الأشياء، مستحيل.
قد يتشابه اثنان مثلاً في لون الوجه، في لون العينين، في بعض الملامح البارزة لكن لا يمكن أن يتفق على وجه الأرض منذ فجر الخليقة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا يمكن أن ترى اثنين يتشابهان في كل الأمور، وفي كل الصفات، وفي المزاج، وفي التفكير، وفي الطبائع، لا يمكن، بل اللمحة العجيبة في ذلك أن الإبهام لا يمكن أن يتشابه فيه اثنان على وجه الأرض أبداً، تدرون متى يمكن أن يتشابه إبهامان على وجه الأرض، يقول العلماء: يحتمل أنه في حوالي أربعة وستين ملياراً من البشر، يمكن أن يتشابه إبهام اثنين من الناس، أي: لو وجد عندنا من البشر أربعة وستون ملياراً لعل اثنين منهم يتشابهون في الإبهام ولا يمكن أن يتشابه اثنان في الإبهام، وانظر إلى هذه العظمة ولذلك بعض العلماء يقول: هذه المعجزة لها إشارة في كتاب الله تعالى وهو قوله: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:4] قالوا: هذا هو المقصود.
{بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} فقلنا: لو أن في أربعة وستين ملياراً من البشر يمكن أن يتشابه فيهم اثنان، مع أن البشرية كلها على آخر الإحصاءات يمكن ما تصل إلى أربعة مليارات، ليس أربعاً وستين ملياراً، هذا المخلوق، هذه النطفة الصغيرة أيها الأحبة! من يصدق أنه سيتشكل منها ذلك المخلوق الكامل الذي هيأه الله سبحانه وتعالى وخلقه فأحسن صورته، انظر إلى هذا الإنسان كم فيه من بدائع صنع الله تعالى، كم فيه من الإعجاز، انظر إلى البصر، انظر إلى العين وما فيها من الإعجاز، انظر إلى السمع وما فيه من تعرجات تحفظها، انظر إلى السائل المر في الأذن، انظر إلى العين كيف جعل الله تعالى فيها سائلاً مالحاً؟! انظر كيف جعل الله تعالى الحدقة مصونة بالأجفان لتسترها وتحفظها وتسقلها وتدفع عنها الأقذاء، وجعل شعر الأجفان أسود ليساعد على استقبال الرؤية، وجعل كما ذكر ماء العين مالحاً وماء الأذن مراً وماء الفم حلواً؟! ولو أن ماء الفم على غير هذا الطعم، ما استطاع الإنسان أن يتلذذ بشراب على الإطلاق، وأعذب ماء في البدن الذي هو في الفم.(49/10)
إحصائيات علمية تبين عظمة خلق الإنسان
ثم انظروا -أيها الأحبة- إلى هذه الإحصائيات السريعة الموجزة في خلقنا نحن؛ لتروا عظمة الله وبديع صنعه في خلق هذا الإنسان! وفي حفظه منذ بدايته حتى ينزل إلى هذه الأرض ويفارقها! سبحان الله! ما أعظم خلق الله تعالى! نحن -أيها الأحبة- ما نتفكر في أنفسنا، الإنسان منا ينام لكن ما يفكر في ليلة من الليالي كيف ينام، الإنسان يفكر ويحتفظ في عقله بالصور العظيمة العجيبة ما يفكر في هذا العقل، ما يفكر في اليد، ما يفكر في بديع خلق الله تعالى فيها، ما يفكر في نفسه، ما يتأمل خلق الله سبحانه وتعالى.
دعونا نقف لحظات قصيرة جداً لنتأمل بعض سر الإعجاز في خلق الله تعالى للإنسان: وزن القلب حوالي ثلاثمائة واثني عشر جراماً، ينبض بمعدل سبعين نبضة في الدقيقة، أي: بمعدل مائة ألف مرة يومياً، هذا القلب، ينبض القلب الواحد في العام حوالي أربعين مليون مرة، تصور هذا الجهاز من حفظه، أي جهاز في الدنيا لا يمكن أن يعيش هذه المدة الطويلة بهذا الحفظ وبهذا الصون، مَنْ حفظه؟! وفي كل نبضة يدخل حوالي ربع رطل من الدم، ويضخ في يوم واحد اثنين وعشرين ألف جالون من الدم! -قد تستغربون، تقولون: هذا الشخص يمكن اليوم أتى بأشياء حلمها في الليل، هذا العلم أثبت هذه الأشياء، ليس من كيسي هذا العلم، هذا الطب، هذه الحقائق أتت حتى من غير المسلمين، هذا طب يفرض نفسه، ما هي اجتهادات ولا تخيلات، هذا علم- اثنين وعشرين ألف جالون من الدم، وحوالي ستة وخمسين مليون جالون على مدى حياة كاملة، يضخها القلب، فأي محرك يستطيع القيام بمثل هذا العمل الشاق؟! الدم الذاهب إلى الدماغ يعود إلى القلب في ثمان ثواني، بينما يعود الدم الذاهب إلى أصابع القدم في ثمانية عشر ثانية، وفي الدم خمسة ملايين كرية حمراء، في كل ملي متر مكعب واحد من الدم، خمسة ملايين كرية حمراء أي: تبلغ في مجموع الدم العام حوالي خمسة وعشرين مليون كرية حمراء.
وتفرش هذه الكريات سطحاً مقداره ثلاثة آلاف وأربعمائة وخمسين متر مربع، وإذا صفت كريات الدم الحمر التي في بدن واحد بجانب بعضها البعض، أي: لو أتينا إلى الكريات الحمر في إنسان وصففناها بجانب بعضها البعض كم تتصورون أنها تمتد؟ كم يكون طولها؟ لو صفت بجانب بعضها البعض فإن مجموع هذه الكريات ينشئ طولاً يغلف الكرة الأرضية ستة أو سبع مرات، وتمشي الكرية الحمراء في رحلتها لنقل الأكسجين ألف ومائة وخمسين كيلو متر في عروق البدن، يحوي الجسم البشري أكثر من ستمائة عضلة، وأكثر من مائتي عظم، وتحوي العضلة المتوسطة الحجم على عشرة ملايين ليف عضلي، في كل يوم يتنفس الإنسان خمسة وعشرين ألف مرة، يسحب فيها مائة وثمانين متر مكعب من الهواء، يتسرب منها ستة أمتار ونصف متر مكعب من الأكسجين إلى الدم، عمل العضلات مجتمعة في اليوم يساوي ما حمولته عشرون طناً -عمل عضلات جسم الإنسان الواحد يساوي ما حمولته عشرون طناً- في المعدة حوالي خمسة وثلاثين مليون غدة للإفراز، في الدماغ ثلاثة عشر مليار خلية عصبية، ومائة مليار خلية دبقية استنادية تشكل سداً منيعاً لحراسة الخلايا العصبية من التأثر بأية مادة، في العين الواحدة حوالي مائة وأربعين مليون مستقبل للضوء، في العضو الذي يمثل شبكية الأذن حوالي ثلاثين ألف خلية سمعية لنقل كافة أنواع الأصوات، وهذا إعجاز أيضاً، لو تسمع ألف صوت من أول ما يكلمك الشخص تعرف صوته، من الذي أعطاك هذا التمييز تعرف صوت هذا من صوت هذا؟! في الدم الكامل خمسة وعشرين مليون مليون كرية لنقل الأكسجين، وخمسة وعشرين مليار كرية بيضاء لمقاومة الجراثيم ومناعة البدن، ومليون مليون صفيحة دموية لحفظ الدم ضد النزف وإيجاد التخثر في أي عرق نازف.
ومما يذكر هنا أن الكريات الحمر تقوم بنقل ستمائة لتر من الأكسجين لخلايا الجسم كل أربع وعشرين ساعة، يعتبر الكبد أكبر غدد البدن، ويزن ألف وخمسمائة غرام، وفيه من الخلايا ثلاثمائة مليار خلية، في الكبد وحده! يمكن أن تتجدد هذه الثلاثمائة مليار كلياً خلال أربعة أشهر، الكلية تزن مائة وخمسين غراماً فيها مليون وحدة وظيفية لتصفية الدم، ويرد إلى الكلية في مدة أربعٍ وعشرين ساعة ألف وثمانمائة لتر من الدم، يضخ القلب حوالي ثمانية آلاف لتر من الدم، داخل الجملة الدورانية التي تمتد في جسم الإنسان حوالي مائة وخمسين كيلو متر.
هذه أيها الأحبة! حقائق عظيمة، وكما ذكرت قد يستغرب الإنسان ومن يتصور أن هذا جزء يسير؟! والله ما أتيت إلا بغيض من فيض، وهذه الأشياء يسيرة جداً، وإلا فهذا المخلوق مخلوق عظيم عجيب، من يتصور أن هذا كله موجود في هذا الكائن الحي، في هذا الإنسان؟ فمتى تفكرنا -أيها الأحبة! - في بديع صنع الله تعالى، وفي عظمة خلق الله تعالى لنا؟ إن التفكر في الإنسان -أن يتفكر في نفسه- من أعظم الأشياء التي تقوده إلى معرفة الخالق، وإلى توحيد الله تعالى، وإلى إجلال الله تعالى، وإلى زرع مهابة الله تعالى في قلب الإنسان وفي صدره:
وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى عالم أكبر
فمن الأمور التي يفكر فيها المسلم أن يتفكر في نفسه، كما قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].
وإلى غير ذلك من الآيات العظيمة، وأنا في الحقيقة أعلم أنكم ما أتيتم إلا حباً في الشيخ؛ لذلك اعتذر إن كُنت أخذت شيئاً من وقته ووقتكم، وأسأل الله العلي القدير أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، وأترك المجال إلى الشيخ سعيد حفظه الله، فليواصل مشكوراً مأجوراً.(49/11)
التفكر في نعم الله على العبد
الشيخ/ سعيد بن مسفر شكر الله لك، وأثابك الله، ونسأل الله عز وجل أن يجعل في هذه الإحصاءات ما يقوي إيماننا بالله عز وجل، وهذا أمر شرعي ندب إليه القرآن، يقول الله عز وجل: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5].
لأن نظرتك هذه تبعد عنك الخيلاء والكبرياء، وتعرف أصلك أيها الإنسان، ثم نظرتك في خلق الله، وكيف خلق الإنسان: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:21 - 22].
هذه تجعلك تؤمن عن يقين وتقول في ثقة: أشهد أن لا إله إلا الله، وإلا فمن خلقك؟ إن لم يكن ربك الذي خلق كل شيء من خلقك؟ الملاحدة ينسبون خلقك إلى الطبيعة، ما هي الطبيعة؟ الأرض التي تدوسها بقدمك تخلق؟! الأرض الصماء البكماء العمياء تمنحك السمع والبصر والعقل؟! لا والله، ما خلقنا إلا الله عز وجل.
{هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:1 - 3].
فنشهد أن لا إله إلا الله شهادة من أعماق قلوبنا، ونشهد أن محمداً رسول الله، ونشهد أن هذا هو الحق، وأن الدين هو الحق، وأن البعث هو الحق، وأن كلما جاء به كتاب الله حق، وهذه نتيجة كما سمعتم في سورة الحج في آية البعث، يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:6 - 7] هذا هو مجال النظر في مخلوقات الله.
التفكير الثالث: التفكير في نعم الله عليك أيها الإنسان، وهذه ضرورة؛ لأنك إذا ذكرت نعم الله حصلت لك المحبة لله، فالذي ينعم عليك هو الله، وما من نعمة تمر عليك إلا والله مجليها ومسديها: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ * وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:53 - 18].
نعمة الخلق والإيجاد، نعمة الرزق والإمداد نعمة العافية والإسعاد نعمة الإيمان، كل النعم من الله تبارك وتعالى، فإذا تفكرت فيها، وعرفت هذه النعم، حصل لك حب منعمها ومسديها، وطريق النظر أن تنظر إلى من هو دونك، طريق معرفة نعم الله عليك أن تعرف وتنظر إلى من هو دونك في النعمة، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أحرى ألا تزدروا نعمة الله).
إذا كنت في بيت متواضع فانظر إلى الذين يستأجرون، وإذا كنت تركب سيارة فانظر إلى الذين يمشون، وإذا كنت معافى فانظر إلى المرضى، وإذا كنت طليقاً في حرية فانظر إلى السجناء، وإذا كنت في وظيفة فانظر إلى العاطلين، المهم أنك تنظر إلى نعم الله التي تحل بك وحرمها غيرك، مثلاً إذا معك سيارة طراز (90) لا تنظر إلى سيارة طراز (93)؛ لأنك تقول: سيارتي قديمة، لكن طالع في الذي معه (83) أو (70)، تقول: والله سيارتي أحسن من غيري، فأنت أحسن من غيرك؛ لأن الناس يتفاضلون في النعم من أجل عمارة الكون، يقول الله عز وجل: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32] هذا المجال الثالث وهو النظر في نعم الله.(49/12)
التفكر في النفس البشرية
المجال الرابع من مجال الفكر: النظر في النفس البشرية، ودناءتها كما يقول ابن القيم: النفس دنيئة وطبيعتها أنها أمارة بالسوء، ما هي آمرة، بل أمارة، وأمارة هنا صيغة من صيغ المبالغة، لا تأمر مرة، بل تأمر باستمرار، فإذا عرفت طبيعة نفسك كثفت جهدك لمحاربة نفسك، النفس تكره القيود، النفس تحب الدعة، تحب الخمول، ما تحب الالتزام في شيء، انظر إلى نفسك الآن إذا وقفت في الصلاة لمدة عشر دقائق كيف تشعر بضيق وقلق، لكن إذا خرجت السوق وجلست أربع ساعات تجوب الأسواق ما تشعر بتعب، أليس كذلك؟ لماذا؟ لأن هذا قيد وهذا فيه (فلتة).
انظر إذا جلست في محاضرة ساعة، عينك كل قليل في الساعة، متى تكمل هذه المحاضرة، لكن انظر إلى اللاعبين والمشاهدين لملاعب الكرة، إذا انتهى الوقت الرسمي للمباراة يتمنون أن يكون تعادلاً؛ من أجل أنه يكون تمديد للمباراة ووقت إضافي، خاصة إذا كانت المباريات بالخروج المغلوب؛ وأنا أعرف هذا الكلام قد عشت فيه سنين، يقولون: نريد نصف ساعة، ويتمنون أيضاً أنه ينتهي الوقت الإضافي بالتساوي من أجل ركلات الجزاء، يريدون أن يطول الوقت، لماذا؟ لأنه (كلام فاضي) إنما الجد التي تعيشه النفس في محاضرة أو في سماع شيء طيب في حصة دراسية، والحصة الدراسية (45) دقيقة وعين الطالب كل وقت في الساعة، وكذلك المدرس، وكل واحد ينتظر متى يسمع الصفارة؛ لأنها قيد في مصلحة، لكن لو كان لعباً، لا أحد يريد أن يقوم، يجلسون على الورق من بعد صلاة العشاء إلى الفجر ولا يحسون بتعب، هذه النفس هكذا! ما مسئوليتك؟ مسئوليتك أن تفكر كيف تؤدب هذه النفس؟ كيف تسوقها إلى الله في بساط الخوف من الله؟ كيف تأخذ عليها؟ لأن نفسك إما أن تسيطر عليها أو تسيطر عليك، إن أرغمت نفسك وسخرتها، ولهذا جاء في الحديث: (الكيس من دان نفسه) إذا سخرتها بقوة الشرع حملتك إلى طريق الله، أما إذا سيطرت عليك هي وأصبح البعيد حمار نفسه، هذا تقوده نفسه إلى النار، ولهذا يقول الله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41].
ويقول عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} أي: نفسه {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23] ما هناك نظر، لا يوجد اعتبار، أنت إذا أردت أن تصلي صلاة الفجر تأتيك النفس تحدثك: ارقد بقي وقت، تقول لها: لا.
كلما أوحت إليك نفسك بتأخر عن طاعة أو بتحفزٍ إلى معصية فاعلم أنها من النفس الأمارة بالسوء، جاهدها، كم يستمر جهاد النفس؟ يستمر جهاد النفس فترة إلى أن تشعر نفسك أنه ليس لها سيطرة عليك، وأنك رجل راجح العقل، ما تطيعها أبداً، تقوم تنتقل إلى مرتبة ثانية اسمها اللوامة، ثم بعد ذلك تسوقها إلى أن تصبح نفسك مطمئنة، تطمئن أي تسكن إلى الله، لا تريد إلا طاعة الله، ما تريد إلا الصلاة، ما تريد إلا المسجد.
فإذا جاهد الإنسان نفسه حتى تطمئن على طاعة الله، وتصبح طاعة الله قرة عين الإنسان، ويحبب الله إليه الإيمان، كما قال عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان) هناك يستمر على هذا حتى ينتهي أجله، ثم يدعى الدعاء الخالد، الدعاء الرباني، المبشر بالجنة، والذي قال الله فيه: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:27 - 28] راضية في ذاتها، مرضي عنها من قبل خالقها وبارئها: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:29 - 30].
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها.
فهذه النفس يا أخي الكريم! لا بد أن تقف منها موقفاً جاداً، احذر أن تلعب عليك نفسك، أو أن تخدعك، أو أن تزين لك الباطل، أو أن تكرهك في الحق، قاومها إلى أن يسهل عليك قودها.
يقول ابن القيم: إن النفس كالجواد.
والجواد حينما تريد أن تدربه لا بد أن تأخذه بقوة إلى أن يمشي، أما إذا أخذته من غير عسف فإنه سوف يرميك، ولا بد أن يعسف الجواد، يعسف أي: يدرب على المشي والسباق، وهذه النفس لابد أن تدربها على السير في طاعة الله.(49/13)
مقطوعة شعرية يلقيها الزهراني
حقيقة إنه لا بد من الاستعداد؛ لأن هذا شيء معروف، فالشعر له في النفوس منزلة كبيرة وما أذكر أني وقفت موقفاً إلا طلب مني شعر، وهذا لا يستغرب؛ لأن أمة العرب كما يقولون: أمة شاعرة، والعربي لا يخلو من رجلين اثنين: إما أن يكون شاعراً، أو متذوقاً للشعر، وجدت في جيبي مقطوعة من آخر القصائد أسمعكم إياها، وأسمعكم جزءاً من قصيدة أخرى.
أما المقطوعة فكانت في أمسية شعرية في مكة المكرمة في ثانوية أبي زيد الأنصاري لتحفيظ القرآن الكريم، فكتبت مجموعة أبيات سميتها رسالة إلى أبي زيد الأنصاري وهو من حفاظ القرآن الكريم وممن جمع القرآن:
طاب اللقاء بين أحباب وسمارِ وآن لي أن أبث اليوم أشعارِ
يا فتية الحق أنتم فجر نهضتنا أنتم لأمتنا كالكوكب الساري
يا من وعيتم كتاب الله طاب لكم أنساً وفخراً ونلتم خير تذكارِ
أنتم فخار لنا أنتم سعادتنا وليس أصحاب طنبور ومزمارِ
أمجادنا بـ أبي زيد وحنظلة بـ مصعبٍ وابن مسعودٍ وعمارِ
كم من وسام أبا زيد ظفرت به مجاهد، حافظ، والفرع أنصاري
نلت الهدى من رسول الله فزت به غضاً طرياً كمثل السلسل الجاري
إن بات غيرك في غيٍّ وعربدة وفي خمول فأنت الساجد القاري
نم يا أبا زيد مسرور الفؤاد فما زالت جحافلنا تمضي بإصرار
هم فتية عشقوا نشر الهدى وأتوا من قرب مسرى رسول الله والغار
ساروا على نهجه الميمون في ثقة وأعرضوا عن طريق الذل والعار
وهذه قصيدة عن العميان نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المبصرين في الدنيا والآخرة، كنت في اجتماع لبعض الأطباء عن مكافحة العمى في العالم الإسلامي، فطلبوا مشاركة فقدمت هذه القصيدة، بدأتها طبعاً بذكر بعض أخبار العمى، ثم آخر القصيدة حول الموضوع الذي كانت حوله تلك الندوة وذلك اللقاء، لكن لضيق الوقت أقتصر بمقطع من أول القصيدة على حسب ما أحفظ منها:
قالوا بلا بصر يمشي فقلت لهم عمى البصيرة أقوى من عمى البصرِ
إن العمى أن ترى النهج القويم فلا تمشي إليه وتبقى حائر الفكرِ
إن العمى أن يعيش القلب في شُبَهٍ كظلمة الليل في غيٍ وفي نكرِ
إن العمى أن ترى الإنسان مظلمة حياته عاش بين الكأس والوترِ
إن العمى أن ترى العينين مبصرة لكنها من هدى الباري بلا بصرِ
وانظر عماية من ضلوا وما انتفعوا بأعين ماثلتها أعين البقرِ
عين ترى كل ما في الأرض وامتنعت من نور خالقها يا خيبة النظرِ
ليس التقى مظهراً أو حسن هندمة وليس في أعين فتانة الحَوَرِ
إن التقى أن يعيش القلب ممتلئاً بنور مولاه يأبى ظلمة الخَوَرِ
وأفضل الناس عند الله أعظمهم تقوى فما قيمة الأشكال والصورِ
قد عاتب الله خير الناس في رجل أعمى وخلده في الآي والسورِ
وكم إمام لنا قد كان ذا ضرر في أول العمر أو في آخر العمرِ
كان ابن عباس أعمى وهو عالمنا وترجمان الهدى فاسأل عن القمر
قتادة وعطاء سادة النجب والترمذي الذي قد ساد في الأثر
والعكبري وأبو حيان والذهبي والشاطبي الذي قد جاء بالدرر
وذو المصنف فانظر في مصنفه لهو ابن حنبل كم يلتذ بالسفر
أئمةٌ كثرٌ لم يحصهم قلمي وجف عن ذكر أمجاد لهم حبري
وانظر لباز التقى والعلم تبصره بدون عينين قد أربى على البشر
عبد العزيز الذي تهفوا النفوس له وتشتري نظرة في وجهه النَّضِر
كالبحر في علمه السامي وذو خلق كالمسك كالعنبر الفواح كالزَهَر
وقبله ابن حميد فارس بطل مضى وسيرته من أطيب السير
أنار بالعلم أنحاء الديار وما حال الـ ـعمى دون حسن الرأي والفكر
رأى بنور الهدى ما غاب عن مقل النور للقلب ليس النور للبصر
فرحمة يا إماماً عاملاً ورضاً يغشاك يا طيب الأنفاس والأثر
إن كنت فارقتنا جسماً فما برحت روح التقى والهدى معطاءة الثمر
ما مات من خلف الأبطال قد نهلوا من حسن تأديبهم من منهل عطر
وقبلهم شيخهم مفتي الديار فهم مثل النجوم وذاك الشيخ كالقمر
الشيخ ابن إبراهيم رحمه الله، هؤلاء كلهم عمي، لكنهم أُسُوْد، عمي لكنهم أبصروا بنور الله تعالى.
وقبلهم شيخهم مفتي الديار فهم مثل النجوم وذاك الشيخ كالقمر
ذاك الهزبر إذا ما صال صولته رأيت أعداء دين الله كالهرر
شيخ أبي قوي في مبادئه وكل زيف وضعف فهو منه بري
انظر فتاوى التقى ما كان يصدرها ممزوجة بانهزام النفس والخدر
أئمة صبروا بالعلم واشتهروا ما ردهم ضرر عن قمة الظفر
الطيب معدنهم والنصح ديدنهم نعم الرجال فهم فخر لمفتخر
بشرى لمن عاش والقرآن قائده يمشي به في دروب الخير والظفر
يا أمة غفلت عن درب عزتها ما بالها انغمست في الوحل والمدر
يجدُّ أعداؤنا في دعم باطلهم ويبذلون ملاييناً بلا حذر
حتى عمى العين نالوا منه بغيتهم بموفد بثياب الرفق مستتر
الرفق ظاهرهم والمكر مبدؤهم أحفاد نقفور كلب الروم والتتر
يعالجون عمى العينين كي يصلوا إلى عمى القلب يا للمبدأ القذر
كم أدمغ غسلوا كم درهم بذلوا وهم وما بذلوا في أمهم سقر
وأكتفي بهذا القدر والقصيدة موجودة ومسجلة، وحتى إن الإخوة أحرجوني أن أسجلها بصوتي، فهي مسجلة وموجودة في أمسية جديدة هي في طريقها إليكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(49/14)
ماذا أجبتم المرسلين؟
إن الله خلق العباد لمقصد نبيل، وغاية كريمة، ألا وهو عبادة الله سبحانه، ولذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وبناء على ما قدم في حياته توجه إليه الأسئلة وهو ما زال في قبره، ثم يوم القيامة يسأل مرة أخرى وبشكل مفصل عن كل ما عمل وقدم، فإن كان خيراً بشر به عند الموت، وذاق بعض نعيمه في حياة البرزخ، وإن كان عمله شراً بشر به عند الموت وذاق بعض عقابه في حياة البرزخ، ولذلك وجب على العباد الفرار إلى الله سبحانه، والتوبة إليه.(50/1)
طريقك نحو العلم والدعوة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله! أنفاس هذه الحياة معدودة، وساعاتها محدودة، ونفس يذهب فلا يعود، وساعة تمشي ولا ترجع، وأهوال تنتظرك -أيها الإنسان- يوم القيامة:
يوم عبوس قمطرير هوله فيه تشيب مفارق الولدان
فاتقوا {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} [المزمل:17 - 18] وهناك أسئلة واختبارات صعبة جداً لا ينجح فيها إلا من ثبته الله عز وجل، فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المثبتين في الدنيا والآخرة.
والناس في هذا الزمان -وفي كل زمان- الكثير منهم شغلوا أنفسهم أو تشاغلوا بما لا ينفعهم في الآخرة، وهذا من الفضول أن تشتغل بشيء لا ينفعك دنيا ولا آخرة، ويسميها العلماء علوم الفضلة التي الجهل بها لا يضر والعلم بها لا ينفع، إن علمت بها لم تنتفع، وإن جهلت بها لم يحصل عليك ضرر، وغالب الخلق في هذا الزمان ضالون بناءً على كيد من الشيطان ومكرٍ منه واستدراجه؛ لأنه العدو اللدود الذي أقسم أن يغوي الناس أجمعين، وأن يقعد لهم صراط الله المستقيم، وأن يأتيهم من بين أيدهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
هذا الشيطان سول للناس وأملى لهم، وزين لهم قضية تضييع الأوقات في ما لا ينفع، وهناك أمثلة كثيرة مما يضيق الوقت عن الحديث عنه، ولكن مثال واحد وهو ما تعود الناس أن يقرءوه في كثير من الصحف والمجلات ما يسمونه بالكلمات المتقاطعة، في جريدة أو مجلة يتعب الإنسان عقله ويجهد فكره في البحث عن هذه الكلمة أفقية كانت أو رأسية، وثم الكلمات التي توضع في هذه المربعات كلها مما لا ينفع بل ربما العلم بها يضر عندما يأتيك ستة مربعات ويقول: النصف الأول من اسم مغنٍ أمريكي مشهور، فما يهمك من اسم كافر ينعق في أقصى أرض الله؟! فتجهد نفسك على هذا السؤال الفارغ على أن تتعرف على أسماء المغنيين الأمريكيين حتى تصبح عندك أرصدة كبيرة من الثقافة بحيث إذا سئلت عن النصف الأول من اسم هذا المغني الكافر عرفته، وبعضهم يقيس ثقافته على مقدار قدرته على حل هذه الكلمات المتقاطعة، وإذا استطاع في النهاية حلها رفع رأسه تيهاً وعجباً وفخراً أنه استطاع أن يحلها، ولو سألته عن آية في كتاب الله أو حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مسألة علمية من مسائل الفقه الإسلامي لوجدته أجهل من حمار أهله، ولكنه في الكلمات المتقاطعة يفهم، هذه الكلمات المتقاطعة الجهل بها لا يضر والعلم بها لا ينفع.
والله سبحانه وتعالى قد أخبرنا عن الأسئلة التي ستكون لنا حتى نستعد لأدائها والإجابة عليها يقول الله عز وجل: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] هذا هو السؤال الهام: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ} [القصص:66] عميت عليهم، اسودت في وجوههم، أظلمت أفكارهم؛ لأنها أخبار عجيبة، أخبار كانوا في غاية من الضلال عنها، لم يكونوا يرفعون بها رأساًَ، وما كانوا يحاولون أن يتعرفوا عليها بل كان همهم في غيرها، فهنا أصبحوا عمياً عنها، لما كانوا عمياً عنها في دين الله في الدنيا قال الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء:72] وأيضاً يقول عز وجل: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93] فالسؤالان هما: ماذا أجبت المرسَل؟ أي الرسول صلى الله عليه وسلم، وماذا كنت تعمل؟ وجواب الأول هو: متابعة النبي صلى الله عليه وسلم بتجريد المتابعة له، وجواب الثاني وهو ماذا كنتم تعملون؟ بتجريد عبادة الله وحده وعدم الإشراك به.
وهناك سؤال ثالث يقول الله عز وجل فيه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44] تسألون عن هذا الذكر أي: القرآن، تسألون عن هذا الكتاب الكريم الذي أنزله الله نوراً وهداية للعالمين، تسألون عنه: عن حلاله وحرامه، وعن آياته وحدوده، وعن كل ما أمر الله به، وعن كل ما نهى الله عنه، وعن كل ما قص الله من خبر، وكل ما جاء فيه من حقائق: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44].
فستُسأل -يا أخي- عمن كنت تعبد؟ وماذا أجبت الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وعن هذا القرآن الكريم؟ والناس -وخصوصاً بعض الشباب- الذين وفقهم الله وهداهم وأقامهم على الصراط المستقيم ونور بصائرهم يشعرون ببعض الفراغ، وأيضاً لديهم حماس وتطلعات لخدمة الدين، ويريدون أن يقفزوا قفزاً، وأن يتجاوزوا أكثر من أحجامهم فيصبحون (كالمنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى).(50/2)
البداية في تعلم العلم الشرعي
يشكو عليَّ أحدهم فيقول: ثم ماذا يا شيخ؟! أنا كل يوم في ندوة، فمرة عند الشيخ عائض القرني وليلة أخرى في ندوة المسجد هذا، وأسمع المواعظ ثم ماذا أعمل؟ قلت له: هل حفظت القرآن؟ قال: لا.
قلت: وهل عرفت شيئاً! وأنت تجلس عند الشيخ القرني طوال سنة ونصف؟ وهل حفظت حديثاً بسنده وبجميع تفاصيله وأقوال العلماء فيه وشروحه وأحكامه ومستنبطاته؟ فقال: لا.
قلت: أنت الآن تريد أن تتجاوز أكثر من وضعك، أول شيء في مراحل التكوين الإيماني للمؤمن هو التدعيم بقوى العلم، وأنتم تعرفون عندما تقرءون سير السلف من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ومن التابعين وتابعي التابعين، ومن الصالحين، ومن أئمة الدين إلى يومنا هذا، أول ما يبدأ الإنسان في بناء نفسه عن طريق العلم فيحفظ القرآن كله، ولا نريد حفظاً كما يحصل الآن في بعض مدارس تحفيظ القرآن الكريم يحفظون في المدارس الرسمية أو المدارس الخيرية وينسون، مثل القربة تصب فيها من الأعلى وهي مخروقة من الأسفل، فلو جلست تصب فيها من يوم خُلقت إلى أن تَموتَ لا تجد فيها قطرة؛ لأنها مخروقة.
فكثير من الناس يحفظون وينسون، لكن الجد كل الجد في أن تحفظ وتحتفظ، تحفظ السورة وتحتفظ بها، ولا تحتفظ بالسورة إلا إذا داومت عليها وأكثرت مراجعتها وكررتها، ثم بعد أن تكمل القرآن تظل باستمرار الحال مرتحلاً؛ ترتحل من آخر القرآن وتحل في أوله، وما دمت على هذا الوضع مع القرآن، يزداد إيمانك، وتتنور بصيرتك، ويثبت الله قدمك، ويجعل الله لك مجالاً في دين الله عز وجل لا يمكن أن تتصوره إلا عن طريق القرآن الكريم، أما أن تسأل وتقول: وبعد ذلك ماذا أعمل؟! وأنت ما حفظت ولا جزءاً واحداً من القرآن الكريم؟ فهذا دليل على أنك ما فهمت إلى الآن ما هي مقومات بنائك الإسلامي.
ابدأ! أولاً: إن كنت قد حفظت القرآن ممن يسر الله لك الحفظ في مدارس تحفيظ القرآن الكريم فراجع محفوظاتك، وإن كنت لم تحفظ القرآن فابدأ بحفظ المفصل من سورة (ق) إلى سورة الناس، ابدأ بحفظ المفصل حفظاً جيداً واستوعبه حتى تهضمه بحيث يكون زادك الذي تقرأ به في كل مناسبة؛ لأن بعض الشباب تقول له: صل بالناس في صلاة الفجر يقول: لا أدري ما أقرأ، لا يدري ماذا يقرأ من القرآن! وإن كان قد حفظ فليس حفظاً متقناً وما حفظه ينساه.
فلا بد أن تستوعب المفصل كاملاً، ثم بعد ذلك تراجع تفسيره في أشهر التفاسير وأيسرها ومختصرها بحيث تعرف أحكامه، وتعرف أسباب نزوله، وتعرف مكيه من مدنيه، وتعرف الآيات التي تدل على أحداث معينة، بعد ذلك إذا أردت المزيد وكان عندك طاقة أكبر خذ البقرة وآل عمران، ثم انتق من السور، ألا تستطيع أن تحفظ مثل سورة الكهف والإسراء ومريم وطه وغافر ويس والصافات والدخان وجميع السور التي وردت فيها فضائل معينة؟ احفظها، فإذا حفظت كل هذه السور بقي عليك عملية تربيط بينها، بحيث السورة التي حفظتها هنا وهذه ما حفظتها تربط بينها بسورة واسطة وبعد فترة من الفترات ستجد نفسك بعد سنتين أو ثلاث أو أربع أو خمس سنوات وإذا بك حافظ للقرآن الكريم عن ظهر قلب، لكن إن بقيت على الوضع هذا بدون محاولات ستمر عليك عشرات السنين وأنت على عهدك ما تغيرت ولا حفظت شيئاً، ومرت عليك السنون، وضيعت عمرك في غير فائدة، هذا بالنسبة للقرآن الكريم.(50/3)
البداية في تعلم السنة
أما بالنسبة للسنة المطهرة: ابدأ بالحفظ فيها، وأول ما تبدأ في حفظ الصحاح لتكون ثقافتك مبنية على صحيح كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث تثق من نفسك بأنك تتكلم في أي موطن أو أنك تستشهد بأي حديث أنك لا تستشهد إلا بالحديث الصحيح، والصحيحان قد جمعا في كتاب واحد من مجلدات ثلاثة اسمه: اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، والمؤلف رحمه الله اقتصر على رواية مسلم؛ لأن كل حديث عند البخاري وعند مسلم يأتي بعدة روايات إما عند مسلم رواية أو روايتان أو عند البخاري رواية أو روايتان أو ثلاث أو أربع مثل حديث: (إنما الأعمال بالنيات) ورد فيه عدة روايات، لكن المؤلف رحمه الله الذي ألف هذا الكتاب ألفه واقتصر على الرواية المشهورة المتكاملة بأشهر الروايات وجاء بها، وذكر لك الباب والكتاب في الصحيحين بحيث إذا أردت أن تراجع في الفتح أو في شرح مسلم أو أن تراجع في أي كتاب من كتب الحديث فإنه يسهل عليك، فابدأ في حفظ كتاب اللؤلؤ والمرجان، واجعل لنفسك برنامجاً معيناً كأن تحفظ في كل يوم حديثاً واحداً وتراجعه، فيكون في الأسبوع سبعة أحاديث، في يوم الجمعة تراجعها جميعها، يصبح في الشهر ثلاثين حديثاً وفي آخر يوم من الشهر تراجع الثلاثين حديثاً.
تجد نفسك بعد شهر وإذا بك عالم من علماء الأمة الإسلامية، ينصر الله بك الدين، ويفتح الله بك القلوب وينور بك الأبصار؛ لأنك أصبحت إنساناً معبأً بالثقافة الإيمانية الممثلة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا تعرف كيف تقضي وقتك ولا تشعر في يوم من الأيام بأنك في فراغ أو أنك تحتاج إلى من يقول لك: ثم ماذا؟ لأن هذا الذي يقول: ثم ماذا؟ مشى إلى أن وصل في منقطع أو في فلاة ولم يعلم أين يتجه، فهذا أخطر شيء على الإنسان، كأنه في مفترق طرق أو أنه في دويرة لا يعرف أين اتجاهه، الذي يقف تائهاً يسهل على أي شخص أن يقتنصه يقول: تعال من هنا، لكن عندما يكون منوراً بالقرآن ومنوراً بالسنة وبالثقافة الإسلامية الأصيلة المقتبسة من كتاب الله ومن سنة رسول الله يتضح له الطريق؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي) ويقول: (تركتكم على المحجة البيضاء -أي: الطريق الواضحة التي ليس فيها غبش- ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك).
هذه مقدمة أردت أن أجيب عليها إجابة عامة على السؤال الذي ذكره لي أحد الإخوة لتكون الفائدة عامة أسأل الله لي ولكم التوفيق في الدنيا والآخرة.(50/4)
ثبوت عذاب القبر ونعيمه
عذاب القبر ونعيمه: الإيمان به جزء من عقيدة المؤمن، فعقيدة أهل السنة قائمة على الإيمان به، وأنه حق، والأحاديث الواردة فيه متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن أبي العز في كتابه شرح الطحاوية: تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لهذا أهلاً أو لذاك أهلاً نسأل الله أن ينجينا من عذابه وأن يجعلنا من أهل رحمته ورضوانه.
وأيضاً سؤال الملكين: هذا ثابت بالأحاديث المتواترة، فيجب على المسلم المؤمن اعتقاد ثبوت ذلك، والإيمان به والجزم والقطع به، ولا يتكلم في الكيفية، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته لكونه لا عهد له، وليس مما يلاحظ بالجوارح والحواس في هذه الدار، والشرع لا يأتي أبداً بما يستحيل على العقل، بل إن الشرع يأتي بما تحار به العقول أما تحيره فلا، فإن عودة الروح إلى الجسد بعد مغادرتها له عودة ليست كالعودة المعهودة لها في الدنيا، بل تعاد إليه إعادة تختلف كل الاختلاف عن الإعادة المألوفة في هذه الدار.(50/5)
اختلاف خروج الروح عند النوم عن خروجها حال الموت
فالروح تخرج من الإنسان مرتين: مرة عند النوم ومرة عند الموت، فتخرج من الإنسان عند النوم ولكنها لا تذهب بعيدة بل تكون قريبة بحيث إذا أردتها تأتي.
أما الخروج النهائي فهو عند الموت تخرج ولا تعود في هذه الدار، تعود في مرحلة ثانية من مراحل هذه الحياة وهي بعد الموت في القبر، وعودتها هناك تختلف عن عودتها في الدنيا، يقول الله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] أي: والتي لم يقض الله عليها بالموت يتوفاها أيضاً في منامها: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر:42] ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين) ويقول الإنسان عندما يستيقظ من نومه: (الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور).
ويقول أحد العلماء وهو يمثل لهذه القضية: إن الروح في خروجها عند النوم وفي خروجها عند الموت مثلها مثل الموظف الذي يترك العمل في إجازة والذي يترك العمل في استقالة وطي الكشف، فالذي يترك العمل في إجازة يترك عنوانه عند العمل بحيث إذا حصلت طوارئ أو حالة استدعاء عاجلة يتصلون به فيأتي؛ لأنه لا زال في العمل ولا زالت رابطة الوظيفة قائمة بينه وبين إدارة عمله، ولذا إذا أرادوه أن يأتي ولو كان في إجازة يقطعون إجازته، ولو كان في عمل لا يستطيع أن يقول: لا، بل يجب عليه أن يأتي؛ لأنها إدارته، أما المفصول نهائياً أو المطوي قيده تنتهي صلته بالوظيفة، ويستلم حقوقه، وينهي جميع التزاماته في هذه الوظيفة، ولو دعوه بعد ذلك يقول: ليس لي علاقة بكم! فالإنسان إذا نام تخرج روحه وتجلس قريباً من جسده، لماذا تخرج؟ قال العلماء: تخرج الروح ليرتاح الجسد؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يرتاح إلا بغياب الروح، ولو بقيت الروح مع الإنسان ولم ينم فإنه لا يرتاح، ولذا الإنسان إذا أراد أن ينام وأتى من عمل أو دوام أو سفر وهو متعب ومنهك ومحطم القوى ويريد أن ينام، فإنه لا بد من خروج روحه في النوم حتى بعد ساعتين أو ثلاث أو أربع أو خمس أو ست ساعات حسب ساعات النوم توقظه، وإذا به مرتاح جداً ولم يعد هناك أي تعب ولا ألم ولا شيء.
لكن! إذا أردت أن يرتاح على السرير ليس خمس ساعات بل عشرين ساعة، ولكن بدون نوم كلما نام أيقظته هل يرتاح؟ تقول له: حسناً! استرح لكن لا تنام! هل يرتاح؟ بل يتعذب رغم أنه مستلقٍ على السرير وجسمه مرتاح، ولا يؤدي أي دور لكن الروح موجودة، الراكب موجود على المركوب، والمركوب لا يستطيع أن يرتاح والراكب عليه، هل تستطيع إذا سافرت في سفر ومعك حمار أو جمل ثم أردت أن تنام فهل تنام على ظهر الحمار؟ لا يمكن -أبداً- بل يجب عليك أن تنزل من على ظهر الحمار، وتنزل العفش لكي يرتاح الحمار أو الجمل، ليمكنك السفر عليه مرة ثانية، والناس هكذا كلهم.
في القديم إذا سافروا ووصلوا إلى مكان معين فإنهم ينزلون وينزلون عفشهم من على دوابهم من أجل أن ترتاح دوابهم.
كذلك سيارتك هذه عندما تصل في مكان معين وتريد أن تنزل فهل تجعلها شغالة أم تطفئها؟ تطفئها، لكن إذا وقفت سيارتك وذهبت تنام وجعلتها شغالة إلى الصباح تأتي وقد انتهى الوقود وانفجر المحرك.(50/6)
ثبوت عذاب القبر ونعيمه بالدليل العقلي
وكذلك هذا الإنسان لا يمكن أن يرتاح جسده إلا في ظل غياب روحه، فخروج الروح من الجسد إلى القبر أو إلى النوم يختلف هذا عن هذا فهذا اختلاف جوهري كلي؛ لأن الاختلاف هنا شيء غير معتاد على ما ألفت عليه الروح في هذه الدنيا.
وقال صاحب الطحاوية في موضع آخر: اعلم أن عذاب القبر هو عذاب الفترة البرزخية الواقعة بين موت الإنسان وبعثه منذ أن يموت إلى أن يبعث.
هذه فترة اسمها البرزخ فترة حياة القبور، وكل من مات وهو يستحق عذاباً ناله نصيبه من العذاب، أو كان يستحق نعيماً ناله نصيبه من النعيم قبر أو لم يقبر، أكلته السباع أو احترق حتى صار رماداً، ولو نسف في الهواء أو صلب على الأخشاب أو عُلق في المشانق أو غرق في البحار وأكلته الحيتان أو كان في أي مكان فإن العذاب يصل إلى روحه وإلى بدنه كما يصل إلى الإنسان المقبور في القبر كيف؟ لا ندري، هذا عالم آخر اسمه (عالم البرزخ) لا نعرف حقيقته، ولكن يجب علينا الإيمان بحقائقه التي تواترت في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يريد أن يعرف حقائق ما بعد هذه الحياة فإنه إنسان يريد أن يحمل عقله ما لا يتحمل، كعقل الطفل الذي في بطن أمه ويريد أن يعرف حقائق الحياة وهو لا زال في بطن أمه، لا يمكن حتى يخرج إلى الحياة ويكبر وينمو ويبلغ سن التكليف ويعرف الكثير في الدنيا.
كذلك الإنسان لا يعرف ما في القبور إلا إذا دخلها، يعرف هل فيها نعيم أو جحيم -نعوذ بالله وإياكم من الجحيم- وما ورد من السؤال في القبر، وما ورد من الاختلاف للأضلاع والضغطة للميت كل ذلك حق يجب الإيمان به، ولو لم يدفن الإنسان في القبر ولو نسفته الريح وأكلته السباع والحيتان، فإن الله يجمعه وينال جسده من العذاب أو من النعيم ما يناله صاحب القبر، يجب أن يفهم هذا كله على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم من غير غلو ولا تقصير.
وقد أنكرت الملاحدة أصحاب العقول المادية المتحجرة التي لا تؤمن إلا بما ترى بعينها أنكروا حياة البرزخ وذهبوا إلى مذاهب بعيدة من الفلسفة والتمنطق وقالوا: ليس ذلك بحقيقة، وأولئك كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وقد ظن أولئك أن أبصارهم الضعيفة يمكن أن ترى كل شيء، وأن أسماعهم يمكن أن تسمع كل شيء، ونحن اليوم نعلم من أسرار الكون ما كانت أسماعنا وأبصارنا عاجزة عن سماعه ورؤيته رغم وجوده.
الموجات الصوتية المنبعثة والمنتشرة في جميع أجواء الأرض هذا المسجد الآن ممتلئ بملايين الموجات، لكن لا نراها بأعيننا، ولا نسمعها بآذاننا، ولا نمسها بأيدينا، ولا نتذوقها بألسنتنا، ولا نشمها بأنوفنا، ولا يستطيع كتاب أن يأتي بها، وإنما يستطيع أن يلتقطها جهاز صغير هو (الراديو) ففيه وسيلة استقبال هذه الموجات والتقاطها من الأجواء وترجمتها، وإذا بك تفتحها فتسمع موجة آتية من جدة، فتحولها فتأتي موجة من الرياض، وتحولها فتأتي موجة من أمريكا ومن لندن ومن أقصى الأرض، من التقط هذه الموجات رغم أنك لا تراها وهي موجودة؟ التقطها (الراديو).
الجاذبية الموجودة الآن وهي قانون من قوانين الكون أن الله جل وعلا جعل كل ما على الأرض مجذوباً إليها، وهذه حكمة منه؛ لأنه لو لم يجعل الجاذبية في خصائص الأرض لكان أي واحد يرتفع لن يستطيع أن ينزل إلا إذا ربطوه.
يعني: إذا خرج أحدهم من السيارة وأراد أن ينزل فلا يستطيع أن يصل إلى الأرض إلا إذا أتى آخر وجذبه إلى الأرض، لماذا؟ لأنه لا يوجد جاذبية، ولكن الله وضع هذا القانون وهو أن كل ما على الأرض يجذب إليها، أين الجاذبية؟ هل نراها بأعيننا؟ هل رأينا حبالها وهي تربط الإنسان وتسحبه؟ موجودة لكننا لا نراها، وليس كل ما لا نراه غير موجود.
الكهرباء الآن تسري في السلك الكهربائي ولا نراها، رغم أن السلك الكهربائي هذا والكهرباء موجودة منذ خلق الله الأرض، لكن ما اكتشفت إلا على سبيل الصدفة والمصادفة، اخترعها شخص مخترع وهو يدير جهازاً عبر تحويله فإذا به يحس شيئاً في يده، فقوى السلك وخرجت كهرباء، وطورها الإنسان حتى أصبحت عماداً من أعمدة الحضارة الحديثة.
فكثير من الأشياء لا يمكن أن نراها ولا أن نلمسها بجوارحنا بالرغم من وجودها.(50/7)
الأدلة الشرعية في إثبات عذاب القبر ونعيمه
أما الأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على ثبوت عذاب القبر ونعيمه فقد ترجم البخاري في كتابه: الصحيح في كتاب الجنائز لعذاب القبر فقال: باب ما جاء في عذاب القبر، وساق في الترجمة قبل الحديث قول الله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام:93] وقال عز وجل: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة:101] وقال: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:45 - 46].
فالآية الأولى ساقها الإمام البخاري مستشهداً بها في تعذيب الملائكة للكفار في حال الاحتضار، والآية الثانية استدل بها على أن هناك عذابين يصيبان المنافقين قبل عذاب الآخرة: العذاب الأول ما يصيبهم في الدنيا على أيدي المؤمنين، والثاني ما يصيبهم في القبر على أيدي ملائكة عذاب القبر، قال الحسن البصري في قوله عز وجل: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة:101] قال: [عذاب الدنيا وعذاب القبر].
{ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة:101] فـ (ثم) هنا تفيد الترتيب مع التراخي، كأن العذاب المرتين هذا قبل عذاب يوم القيامة، مرتان في الدنيا يكون العذاب: وهو ما ينال الكافر والمنافق والعاصي والظالم والفاجر من ظلمة في قلبه وقسوة، ومن ضيق وحرج، ومن اضطراب وقلق، ومن تبرم -والعياذ بالله- وظلام في عقله، هذا والله إنه أعظم عذاب، عذاب لروحه عذاب لنفسه عذاب لقلبه، وبالتالي يندرج هذا العذاب على كل جوارحه، ثم العذاب الثاني ما يناله في القبر، وهذا من عظيم استشهاد العلماء رحمهم الله واستنتاجهم لأحكام القرآن: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة:101] قال: الأولى في الدنيا والثانية في القبر، وقال الطبري في كتابه تفسير ابن جرير التفسير الذي كل الأئمة عالة على ابن جرير فيه، يقول: والأغلب أن إحدى المرتين هي عذاب القبر والأخرى تحتمل أحد ما تقدم إما من الجوع أو من السبي أو من القتل أو من الإذلال أو من القلق أو من الحيرة التي تحصل للإنسان البعيد عن الله في هذه الدنيا.
أما الآية الثالثة وهي قوله عز وجل: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] فهي حجة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار لـ أهل السنة على إثبات عذاب القبر، فإن الله تبارك وتعالى قرر أن آل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً، وهذا قبل يوم القيامة، ثم قال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] والعياذ بالله.
قال القرطبي في كتابه أحكام القرآن: يقول: الجمهور على أن هذا العرض يكون قبل يوم القيامة يعني في البرزخ وهو حجة في تثبيت وتدليل الناس على عذاب القبر.
ومن الإشارات القرآنية الدالة على ثبوت عذاب القبر ونعيمه قوله تبارك وتعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] وفي حديث البراء بن عازب الذي أخرجه الإمام أحمد في المسند وأخرجه الإمام أبو داود في السنن وهو صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقعد المؤمن في قبره أتي ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله تعالى: ((يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)) [إبراهيم:27]) نزلت هذه في عذاب القبر.
وقد روت لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، والحديث عنها عظيم جداً أم المؤمنين حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصديقة بنت الصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه، اسمه أبو بكر بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عويمر، أول من أسلم على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين في الغار، وخليفته صلوات الله وسلامه عليه، وضجيعه في القبر في غرفة عائشة رضي الله عنها، وهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأفقه نساء الأمة على الإطلاق، وكانت فقيهة عالمة بكل أمور الأمة في الدين، في الفقه وفي التفسير وفي الحديث وفي اللغة وفي الشعر وفي الطب حتى الطب كانت طبيبة، وسألها عروة بن الزبير ابن أختها فقال: [يا أماه! من أين تعلمت الطب؟ فقالت: كان الناس يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه فأعي ذلك] عندها علم عظيم رضي الله عنها وأرضاها، أمها أم رومان بنت عامر رضي الله عنها وأرضاها، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بعد وفاة خديجة؛ لأنه ما تزوج على خديجة حتى ماتت، وأيضاً دخل بها في المدينة بعد غزوة بدر، تزوج بها وعمرها ست، ودخل بها وعمرها تسع سنوات، روت علماً كثيراً مباركاً، أكثر من ألفين ومائتين وعشرة أحاديث، لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بكراً غيرها، ولم يحب من أزواجه مثلها، وكانت تفخر بذلك رضي الله عنها.
يروي البخاري ومسلم في الصحيحين قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أريتك في المنام ثلاث ليالٍ -قبل أن يتزوجها ورؤيا الأنبياء وحي- جاء بك الملك -أي جبريل- في قطعة من حرير فيقول: هذه امرأتك فأكشف عن وجهك فإذا هي أنت، فأقول: إن يك هذا خيراً يمضيه الله) وفعلاً تزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان يُظهر حبها للناس كلهم، ففي صحيح البخاري وصحيح مسلم أيضاً عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها) فهي حب رسول الله، وأبوها حب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان الصحابة يعرفون ذلك فكانوا يتحرون بهداياهم يومها، فإذا كان عندها في اليوم الذي هو فيه يرسلوا الهدايا؛ لأنهم يعلمون أنه يحب أن يهدى إليه في بيتها رضي الله عنها وأرضاها، يروي البخاري ومسلم أيضاً أن عائشة قالت: (كان الناس يتحرون بهداياهم يومي وليلتي فاجتمعن صواحبي -يعني: أمهات المؤمنين- إلى أم سلمة رضي الله عنها فقلن: إن الناس يتحرون هداياهم في يوم عائشة وإنا لنريد من الخير مثل ما تريد، فقولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر الناس أن يهدوا إليه في أي بيت من بيوته) لا ينتظرون في ليلة عائشة ويأتون بالهدية، انظروا كيف النساء بطبيعتهن رغم جلالة قدرهن وعلو منزلتهن وأنهن أمهات المؤمنين، لكنهن بشر يخضعن لما يخضع له البشر ويحببن ما يحبه البشر من هدية أو كرامة.
(فجاءت أم سلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فسكت ولم يرد عليها -أول مرة- ثم جاءت ثانية فذكرت ذلك فلم يرد عليها، ثم جاءت ثالثة فذكرت ذلك فقال لها: يا أم سلمة! لا تؤذيني في عائشة فإنه -والله- ما نزل علي الوحي في لحاف امرأة منكن غيرها) صلوات الله وسلامه عليه ورضي الله عنها وأرضاها.
يقول: لا تؤذيني فيها، لا تبلغن منزلتها، ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة أي: مع امرأة منكن غير عائشة رضي الله عنها، وهذا يبين عظم مكانتها ومنزلتها ويكفيها أنها الطاهرة المطهرة المبرأة من فوق سبع سماوات، نزلت براءتها من الله قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، وسمى الله الحديث الذي دار حولها وحول عرضها سماه (إفكاً) والإفك: هو أكذب شيء في الكلام وقال: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] وحذر الناس من هذا الإفك فقال: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:15 - 16] هذا كذب عظيم لا يمكن أن يكون، لكن دار هذا الكلام وأشاعه المنافقون الذين يصطادون في الماء العكر، ويحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا فنزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ} [النور:11] إلى آخر الآيات، يكفيها هذا شرفاً وفضلاً رضي الله عنها.
وورد في صحيح البخاري وصحيح مسلم حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، وخديجة ينت خويلد وقاطمة ينت محمد وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) الثريد: هو الخبز المقطع مع اللحم المقطع، هذا أفضل أكلة كانت في زمنهم! من يأكل لحماً ويأكل خبزاً معاً؟ في ذلك الزمن ما كان يأكل هذا إلا الم(50/8)
سماع النبي صلى الله عليه وسلم لأصوات المعذبين في القبور
هل سُمِعت أصوات للمعذبين في القبور؟ نعم سمعت.
أولاً: سمعت بالأحاديث الثابتة من قِبَلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أطلعه الله وأسمعه وأعطاه القدرة على سماع عذاب أهل القبور أعطاه الله القدرة ففي الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط -بستان، والحائط يطلق على البستان الذي يكون فيه العنب- لبني النجار على بغلة له ونحن معه إذ جفلت به فكادت أن تلقيه وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة).
أقبر: جمع قبر، والقبر على وزن (فَعْل) مما يجوز جمعه على وجهين: على وجه أَفْعُل وفُعٌوْل فتستطيع أن تقول: قبر وقُبُور، أو قَبْر وأقَبْرُ، وعلى وزنه مثل شَهْر فتقول أَشْهُر وتقول شُهُور فالله ذكرها في موضعين فقال: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً} [التوبة:36] وقال: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:226] فتجمع قَبْر على أَقْبْرُ وعلى قُبُور، ويجمع شَهْر على أَشْهُر وعلى شُهُور، فهنا جمعه النبي صلى الله عليه وسلم على وزن أَفْعُل.
فقال: (إذا ستة أَقْبُر أو خمسة أو أربعة قال: من يعرف أصحاب هذه الأَقْبُر؟ فقال رجل: أنا أعرفها يا رسول الله! فقال: متى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الجاهلية قبل الإسلام، فقال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها ولولا ألا تدافنوا -يعني: لو سمعتم صيحة معذب لمتم ولما وجد بعضكم من يدفن بعضاً من الخوف والهلع- لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه) رواه مسلم في صحيحه من رواية زيد بن ثابت رضي الله عنه، وزيد هذا ترجمته من أعذب التراجم وسيرته من أعظم السير، فهو زيد بن ثابت بن الضحاك الخزرجي البدري رضي الله عنه وأرضاه الصحابي الجليل شيخ المقرئين وإمام الفرضيين وكاتب وحي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان من كتبة الوحي وأعلم الناس بالفرائض، قال: (أعلمكم بالحلال والحرام علي وأفرضكم زيد) حتى قال بعضهم: لو مات زيد لما علمت الأمة كيف تقسم الفريضة، وهذا العلم أعظم علم وهو أول ما يفقد من الأرض؛ لأن (العلم إما آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة وما سوى ذلك ففضل) والفرائض علم عظيم يتخصص به زيد وله مذاهب فيه، والذي درس الفرائض في الكلية يعرف مذاهب زيد في بعض أقواله التي تميز وانفرد بها من سائر الصحابة، هذا الصحابي الجليل حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه القرآن، وتلا عليه ابن عباس وأبو عبد الرحمن السلمي، وهما من القراء الذين قرءوا على زيد بن ثابت رضي الله عنهم، وهو الذي تولى قسمة الغنائم يوم اليرموك، زوجته اسمها أم سعد بنت سعد بن الربيع رضي الله عنها، وسعد بن الربيع صحابي أنصاري قتل في غزوة أحد، وهو الذي قال: [والله! إني لأجد ريح الجنة من دون أحد] وما عرف إلا ببنانه عرفته أخته بأنملة ليس في جسمه مكان إلا وفيه ضربة، بنته هي زوجة زيد بن ثابت رضي الله عنه، ولد له اثنا عشر ولداً منهم وهو الكبير خارجة بن زيد وهو صحابي، وزيد بن ثابت أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم لغة اليهود لما قدم المدينة وكان اليهود يكتبون ويكاتبون فخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمكروا فأمره أن يتعلم لغتهم العبرية، قال: [فتعلمتها في خمسة عشر يوماً] أتقن لغة اليهود وهي لغة كبيرة جداً في خمسة عشر يوماً رضي الله عنه وأرضاه، قدم مرة على ابن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبر الأمة وترجمان القرآن؛ فأخذ بركاب حصانه فقال له زيد: [تنحَ عني يا بن عم رسول الله! فقال له ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا].
هذا ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم ينزل ويمسك بركاب حصان زيد وذاك يقول: تنح لا تمسكه يا بن عم رسول الله! أنت أفضل مني! أنت أقرب! أنت من بيت النبوة! فيقول: [هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا].
كلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه زيداً بكلفة عظيمة وبجهد كبير؛ حفظ الله به الدين إلى يوم القيامة، كلفه أن يجمع القرآن بعد غزوة اليمامة ومقتل سبعين صحابياً من أهل القرآن، أشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أبي بكر أن يجمع القرآن، فقال أبو بكر: [كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟] لأن الرسول لم يأمر بجمع القرآن، وإنما كان يأمر بحفظه، وما كان يأمر بتدوينه! فقال عمر: [إني أرى الموت قد استحر في الصحابة، وأكثر الذين يموتون أهل القرآن، فإن أردت أن تأمر فليحفظ وليكتب، قال عمر: فما زلت به حتى شرح الله صدره بما شرح به صدري، فجاء إلى زيد بن ثابت وكلفه بهذه المهمة، يقول زيد: والله! لحمل الجبال أسهل عليَّ من هذه المهمة -لأنه جهد، وليس بالسهل- فقال له: يا زيد! إنك شاب عاقل ولا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فقلت له: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: والله إنه خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح الله صدره وصدر عمر رضي الله عنهم، فكنت أتتبع القرآن من اللخاف والرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال] وقد بقيت هذه الصحف عند الصديق، ثم عند الفاروق عمر، ثم عند حفصة بعد موت عمر، ثم أرسلت به إلى عثمان فلما أخذه عثمان، أمر زيد بن ثابت وأمر مجموعة من كبار الصحابة أن يكتبوا المصحف العثماني الذي هو موجود بين أيدينا، وسيبقى موجوداً إلى يوم القيامة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، أليس هذا جهداً عظيماً؟ من كلف به؟! من نال شرفه؟! من قام بمسئوليته؟! هذا الرجل موقفه هذا يعدل مواقف الأمم كلها إلى يوم القيامة إنه موقف عظيم رضي الله عنه وأرضاه، كان من فقهه رضي الله عنه -وهذا يجب أن يكون شأن طلبة العلم والدعاة إذا سئلوا- كان إذا سئل عن أمر قال: أوقع؟ فإن قيل: نعم وقع؛ أفتى فيه بما يعلم، وإن قيل: لا.
ما وقع لكن لعله يقع، قال: دعوه حتى يقع؛ لأن بعض الناس يفترض أشياء ليست موجودة ولا وقعت ويورط العالم أو الداعية أو المفتي في أنه يقول كلاماً لقضية لم تقع أصلاً، فيكون قول القائل ليس له مبرر، فهذا من فقهه رضي الله عنه.
بعض الناس يسأل يقول: يا شيخ! في شخص عمل كذا؟ فأقول: من الشخص هذا؟ فيقول: شخص، فأقول: دعه يتكلم هو؛ لأنه إذا كان يهتم بأمر دينه يأتي يسأل بنفسه؛ لنعلم ماذا قال لزوجته بالنص بالحرف؛ لأن الحكم فرع عن الكلام الذي يصدر من السائل (الحكم على الشيء فرع عن تصوره) فقد تسأل سؤالاً بأسلوب يكون حكمه غير الحكم الآخر فيما لو سأله إنسان آخر بأسلوب آخر، فكان رضي الله عنه من فقهه أنه إذا سئل يقول للسائل: أوقع الأمر هذا التي تسأل عنه؟ فإن قال: وقع، أجاب بما يعلم، وإن لم يكن قد وقع يقول له: اتركه حتى يقع، وكان من ألطف الناس وأكرمهم, ومن أحسنهم خلقاً ولكن مع مَن؟ مع أهله في بيته يكون متواضعاً بسيطاً لطيفاً مزاجاً كثير التلطف، ولكن كان من أشد الناس توقراً واحتراماً مع الناس، كان وقوراً يهابه الناس إذا رأوه، لكن إذا دخل بيته يضع هذه الهيبة؛ وهذا من هدي الكريم صلى الله عليه وسلم.
بعض الناس تجده في خارج البيت صاحب أخلاق ما شاء الله! ولكن إذا دخل بيته يكون سيء الخلق مع أهله -والعياذ بالله- دخل الأقرع بن حابس على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا به يقبل الحسن والحسين، فقال: (يا رسول الله! إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، فقال: ما أصنع لرجل قد نزع الله الرحمة من قلبه؟!).
لا يا أخي! يجب عليك إذا دخلت بيتك أن تتواضع، إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحله الحسن والحسين ويقول: (نِعْم المطية لكما).
وفي يوم من الأيام أبطأ الرسول صلى الله عليه وسلم في السجود حتى كاد الناس يسبحون وهو ساجد فظن الصحابة أنه نسي أو قبض فلما انتهى من الصلاة قال: (إن ابني هذا ارتحلني وأنا ساجد، فكرهت أن أزعجه).
وكان صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر فدخل الحسن من الباب فجعل يتعثر من ردائه ويسقط ويقوم؛ فقطع الخطبة ونزل، حتى إذا جاء إليه حمله وأكمل الخطبة، هذه رحمة عظيمة منه صلوات الله وسلامه عليه، فيجب أن تكون أنت في بيتك رحيماً، إذا دخلت بيتك قَبّل أولادك قَبّل بناتك، لاعبهم، داعبهم، تواضع معهم، ادخل المطبخ وشارك المرأة؛ هذه الأمور تحببك إليهم وتجعلهم يألفونك، لكن إذا كنت غليظاً من يأتي يلطفهم؟ من تتصور أنه يقوم بهذا الدور؟ تتصور الجماعة يدخلوا يلاطفوا زوجتك؟ تتصور الجيران؟ لكن من الناس من إذا طرق عليهم أبوهم الباب وكأن الشيطان الرجيم دخل عليهم! يقال لأحدهم: أنت كيف تعمل إذا دخلت البيت؟ قال: إذا دخلت سكت المتكلم، واستيقظ النائم، وقعد القائم، طوارئ! دخل الغول! دخل العملاق الذي يسيطر! لكن هذا الغول إذا خرج إلى الخارج أذل من الدجاجة.
أسد علي وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافرِ
أي: عنده هنا بطولة على المرأة الضعيفة، وفي الخ(50/9)
الأسئلة(50/10)
كيفية نصيحة من لم يحضر صلاة الجماعة
السؤال
وجهت بعض النصيحة لبعض الشباب في المحافظة على الصلاة في الجماعة في المسجد فقال لي: لست بمسئول عني أنا أصلي في المنزل -والله غفور رحيم- فماذا أعمل له؟
الجواب
استمر في نصحه وتهدي له بعض الكتب الإسلامية والأشرطة الدينية لعل الله أن يهديه؛ لأنه إذا صلى في غير المسجد أو في البيت من غير عذر شرعي؛ فإن بعض أهل العلم قد قالوا بعدم قبول صلاته، وبعضهم قال بعدم صحتها، وبعضهم قال: إنه ارتكب إثماً من أعظم الآثام؛ لأنه ترك واجباً دلت عليه الأحاديث والآيات من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والصلاة جماعة في المسجد شيء معلوم من الدين بالضرورة، حافظ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وحافظ عليها أصحابه من بعده، وحافظ عليها سلف الأمة، وهو ديدن المؤمنين، وهو عنوان أهل الإيمان، ولا يصلي في بيته إلا منافق كما قال ابن مسعود: [من سره أن يلقى الله غداً مؤمناً فليحافظ على هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق] نسأل الله أن يهدي هذا الشاب لكي يصلي في المسجد حتى ينمو إيمانه إن شاء الله.(50/11)
حكم معاكسة النساء وعمل قوم لوط
السؤال
بين لنا حكم معاكسة النساء؟ وحكم من يعمل عمل قوم لوط؟ والعياذ بالله!
الجواب
أما معاكسة النساء والاتصال بهن سواء كانت هذه المعاكسة عن طريق الهاتف، أو عن طريق المراسلة، أو عن طريق المتابعة بالسيارات، أو عن طريق النظر إلى النوافذ والبيوت فكل هذا محرم في شريعة الله عز وجل، وهو ليس من أخلاق أهل الإيمان، بل هو من أخلاق السفلة عباد الشهوات الذي يمتلئ الإنسان منهم من رأسه إلى قدمه شهوة محرمة -والعياذ بالله- ولا يقيم لله أمراً، ولا يخاف من الله عقوبة، ولا يراقب الله ويعلم أن الله يراه في هذه اللحظات، فهذا عبد شهوته، هذا مثله مثل العير -والعياذ بالله- فإنه إذا رأى أنثى فإنه يرفع مسامعه ويطردها، لكن العاقل المؤمن إذا رأى شيئاً من هذا فإنه يخاف الله عز وجل ويغض بصره ويذكر أن الله يراه.
يقول الحسن البصري لما قيل له: [كيف نستعين على غض البصر؟ قال: بعلمك ويقينك أن نظر الله إليك أسرع من نظرك للمرأة التي تنظر لها]
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
استشعر مراقبة الله عز وجل، واعلم بأن الله يراك تبارك وتعالى ويعلم ما في قلبك: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] فإذا كنت في الليل لا تقتحم على المسلمين بيوتهم ولا تنتهك حرماتهم، ولا تستعمل هذه الآلة وهذا الجهاز (الهاتف) الذي هو وسيلة من الوسائل الطيبة التي أتاحها الله للناس في هذا الزمان ليقضوا أغراضهم لا تستعملها استعمالاً سيئاً -والعياذ بالله- فتقتحم على الأسر وتعاكس النساء، ماذا تستفيد بهذا؟ ماذا تكسب؟ تكسب سخط الله، تكسب إحراق قلبك، تكسب إحراق دينك ويقينك، تكسب خدش عرض أخيك المسلم؛ وكل هذه التبعات والمسئوليات تكتب عليك إن لم تتب إلى الله أو عوقبت عليها، ووالله! لتعاقبن على كل نغمة، ويوم القيامة تكون هذه تلوى عليك في النار إن لم تتب إلى الله عز وجل، لا تعاكس أحداً، وإذا كانت لك رغبة في المكالمة والمحادثة مع النساء فسارع في الزواج وتزوج؛ لأن المكالمات لا تحل إشكالك، بل تُذكِّي النار وتُشِبُّ الجحيم في قلبك؛ لأنك إذا كلمت امرأة لا تحل لك وأنت في أرض وهي في أرض احترق قلبك، فمن الذي سوف يجعلك تركب مع ابنته أو تقعد مع ابنته، وهب أنك استطعت أن تصل إلى الحرام فهل وصولك إلى الحرام يحل مشكلتك معها؟ لا.
سيبقى الحرام يزيد ويزيد، لا يحل مشكلتك مع النساء إلا زوجة حلال، تتزوج بها وتستحلها بكلمة الله، ثم حدثها من الشروق إلى الغروب لا تنام، وكلمها بالهاتف، فهذه زوجتك وحلالك.
أما عمل قوم لوط فهو محرم -والعياذ بالله- يقول عبد الملك بن مروان: [والله لو أن الله ما حدثنا في القرآن عن عمل قوم لوط والله ما صدقت أن ذكراً يركب ذكراً] لأن هذا غير موجود في الحيوانات لا يوجد حمار يركب حماراً، الحمار أعقل من الذي يعمل هذا العمل، القرود والخنازير والكلاب من أشد الحيوانات جنساً، ولهذا يضرب بها المثل في النذالة والخسة والحقارة لكنها -وهي أشد شيء في ذلك- لا يركب الذكر الذكر مستحيل أبداً، لا يركب قرد كلبة ولا يركب كلب حمارةً أبداً، وإنما من جنسه، لكن اللوطي -والعياذ بالله- لا يتورع أن يركب رجلاً، ولا يتورع أن يركب كلباً، ولا يتورع أن يركب حتى حمارة، لماذا؟ أقذر إنسان على وجه الأرض بل أقذر مخلوق -والعياذ بالله- ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) وحكم الصحابة فيه التحريق بالنار، وحكمهم فيه أنه يحمل إلى أعلى مكان في المدينة ثم يرمى ويتبع بالحجارة أخذاً من عمل الله بقوم لوط الذين قال الله فيهم: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:82 - 83].
وقد ورد في بعض الآثار أنه (إذا ركب الذكر الذكر اهتزت السماوات والأرض لغضب الله عز وجل فتمسك الملائكة بأطراف السماء وتقرأ سورة الإخلاص حتى يسكن غضب الرب، ولولا البهائم الرتع والشيوخ الركع والأطفال الرضع لصب الله العذاب على أهل الأرض صباً بسبب هذا العمل) فالله يقول: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:80] إن هذا هو غاية المسخ للإنسانية، وغاية الشذوذ وإخراج الإنسان من إنسانيته أن يتحول إلى أن يكون أقذر من الكلاب والقردة والخنازير -والعياذ بالله- فلا يعمل، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط).
أما عذابهم في الآخرة فلا يتصوره العقل نعوذ بالله وإياكم منه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(50/12)
مداخل الشيطان [2،1]
إن الشيطان هو عدو الإنسان الأول منذ خلق الله آدم عليه السلام، وقد جعل هذا العدو مهمته في هذه الحياة إغواء بني آدم بشتى الطرق والوسائل؛ ليعرض عن الله ويتنكب طريق النجاة.
وقد اتبع الشيطان في سبيل تحقيق هذه الغاية وسائل متعددة، ومداخل مختلفة، وهذه المداخل هي التي تناولتها هذه المادة في معرض التحذير منها.(51/1)
النعمة الحقيقية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله هذه الوجوه الطيبة، وجمعنا الله وإياكم في الدنيا على طاعته وفي الآخرة في دار كرامته ومستقر رحمته، اللهم آمين.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
وبعد: أولاً: أشكر شباب هذه البلدة المباركة، الذين وفقهم الله وهداهم إلى الصراط المستقيم، وأدركوا المسئولية الملقاة على عاتقهم تجاه ذويهم وأهليهم، فبادروا إلى مثل هذه الندوات الإيمانية، والجلسات العلمية التي تحيي القلوب، وتبارك النفوس، وترضي الله تبارك وتعالى، وهذا من توفيق الله عز وجل لهم ولأهل هذه المنطقة الذين أحسبهم صالحين يستحقون مثل هذا الخير وهذا الفضل، فإن النعمة الكبرى على الناس ليست نعمة الأكل والشرب، ولا نعمة المال والوظائف، والسيارات، هذه نعم لكنها نعم تزول، إن النعمة الكبرى هي نعمة الإيمان، نعمة الدين، فمن أوتي الدين فقد أنعم الله عليه بأعظم نعمة على وجه الأرض، يقول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] أي: ديني، ويقول عز وجل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح:1 - 2] أي: دينه، فليس بمنعم على من يتقلب في النعم المادية وهو عدو لله عز وجل، ليس بُمنعم عليه من يتوعده الله بأن يسجنه في نار جهنم إذا مات وهو على طريق الشيطان، هذا ليس في نعمة، ولهذا يقول الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ} [التوبة:55] لا تتصور أن من عنده مال وأولاد وبيوت ومساكن ومؤسسات ومزارع ولكنه بعيد عن الله، وعدو لله؛ هاجرٌ لكتاب الله هاجرٌ لبيوت الله قاطعٌ لرحمه عاقٌ لوالديه والعياذ بالله سبَّاب شتَّام مغتاب نمام شاهد زور حالف فجور عدو لله لا تجده في موقع إلا وهو في الشر، وعنده ثراء ونعمة ولكنها ملغمة بسم، متى تنفجر؟ يوم أن يموت، وإذا بها تقطعه قطعة قطعة في جهنم، فيتمنى أنه ما عرف هذه النعم، يقول الله تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55].
فالنعمة الحقيقية -أيها الإخوة في الله- في مثل هذه المجالس، ووالله! للحظة يقضيها الإنسان في هذه الندوات، وساعة يقضيها في هذه الأماكن خير من الدنيا وما عليها وسوف يموت، وسوف يجد يوم القيامة الساعات والدقائق مسجلة، إما في ديوان الحسنات وإما في ديوان السيئات، ويتمنى أنه قضى كل حياته في مثل هذه المجالس، فهنيئاً لكم، وبارك الله فيكم، وبارك الله في شبابكم، ونطلب منكم المزيد، ونطلب منكم العون والتأييد، والدعم والجلوس معهم؛ لأنهم إذا وجدوا الإقبال ووجدوا الانصباب والانكباب على العلم استطاعوا أن يذهبوا إلى العلماء، وإلى الدعاة، وأن يجلبوهم لكم، فهم أطباء القلوب.
لكن إذا رأوا الإعراض، فيأتي الداعية أو العالم ولا يجد أحداً من يكلم؟! يقول: كفى الله المستعان! وهنا تحصل النكبة، ويحصل الدمار والإعراض عن الله، ومن أعرض عنه الله عز وجل دمره الله في الدنيا والآخرة، ومن أقبل على الله بقلبه وقالبه، فإن الله عز وجل يبارك له في حياته وماله، ورزقه وأولاده، وزوجاته وفي كل شئونه.(51/2)
حال المقبل على الدنيا المعرض عن الآخرة
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أصبح والدنيا همه) ككثير من الناس، ينسى الموت وينسى الآخرة، وكأنه لن يموت؛ قلبه مفتوح على مصراعيه للدنيا والعياذ بالله، (من أصبح والدنيا همه، فرق الله عليه شمله) فالعمل الواحد يصبح مائة عمل، أي: بدل أن يجمعها ربي يفرقها، ولا تتجمع في أي حالة من الأحوال (فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه) ولا يرى إلا الفقر ولو كان معه عشرون مليوناً، فالملايين في البنك لكن الفقر أمام عينيه، فكلما تلفت إذا بالفقر بين عينيه والعياذ بالله! فيطرد ولا يلحق، مثل شارب البحر: كلما ازداد شربه ازداد عطشه والعياذ بالله، حتى لو أتيت تسأله وهو ثري وغني وفي خير، كيف أنت؟ كيف الأمور؟ قال: والله! الأمور صعبة هذه الأيام، الأمور تعبانة، والميزانية متدهورة، والسيولة النقدية غير متوفرة، والأزمات قائمة، والعياذ بالله! كأنه لا يملك ريالاً لماذا؟! الفقر بين عينيه؛ الأموال وراء ظهره والفقر بين عينيه، فلا يرى إلا الفقر، فقير حتى على نفسه، فقير حتى على أولاده، وجماعته، ما منه خير والعياذ بالله! (جعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له)؛ المكتوب له لا بد أن يأتي ولا يحول دونه أحد.
ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (ومن أصبح والآخرة همه)؛ أصبح وهو يفكر في يوم الآخرة: يفكر في القبر وضغطته، واللحد وظلمته، والصراط وحِدَّته، والموقف وشدته يفكر في عمله يفكر في صلاته وقراءته للقرآن، ورضا والديه عليه؛ هل أصبحا يدعوان له أم يدعوان عليه يفكر في رحمه؛ هل أصبحت رحمه راضية عنه فهي تدعو له؛ كلما ذكرته قالت: مدَّ الله في أجله، الله يوفقه، الله يوسع له في رزقه، أم أنها تقطعه وهو يقطعها وهي تدعو عليه؛ تقول: الله يقطعه كما قطعني، ألهب الله عظامه فكثير من الناس موجه ظهره إلى الدنيا بل قامت العداوة بينه وبين جميع أقاربه وأرحامه من أجل الدنيا، والعياذ بالله! وتسبب في نكبة نفسه بلعنة الله وسخطه في الدنيا والآخرة فيفكر المؤمن في هذا وبعد ذلك يصحح الغلطات، كلما رأى في نفسه قصوراً أو خللاً تاب واستغفر ورجع وأصلح حاله مع الله عز وجل.
(ومن أصبح والآخرة همه جمع الله له شمله) أي: يسر الله أموره، كلما أراد شيئاً إذا به يتيسر؛ إن جاء ليراجع تسهلت، وإن جاء ليشتري اتسعت، وإذا أراد أي شيء إذا به ميسر؛ يرى اليسر في كل طريق؛ لأن الله يسر له الموقف (جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه) وليس فقره بين عينيه؛ غناه في قلبه ولو كان فقيراً تجده غنياً، لو لم يكن عنده شيء، كيف أنت؟ قال: الحمد لله؛ في ألف نعمة، أبشرك، آمنين سالمين آكلين شاربين راكبين ساكنين مستورين، من هو الذي في مثل نعمتنا في هذا الزمان، كيف كنا نتمنى قبل خمسين سنة، لو أتينا بالآباء والأجداد وقلنا لهم: تمنوا النعم كلها، لانتهت بهم الأماني دون أن يبلغوا ما نحن فيه من النعم، من كان يحلم أننا نعيش فيما نحن فيه اليوم، تغير كل شيء في حياتنا: تغيرت المساكن، والملابس، والمآكل والمشارب والمراكب والأواني، وتغير كل شيء هل بقي شي من الماضي في بيوتنا الآن؟ ما بقي شيء، أين هي؟ في المتاحف والآثار، إذا دخلت الآثار، يقولون: هذه آثار الماضي، وما هي؟ الملحف والنطع، والجاعد، والجلة، والفنجان الحيسي، والبرمة، والقدر ذاك، كل هذه آثار، آثار من؟ قال: هذه من العصور القديمة، وما عرف أنها من قبل ثلاثين سنة.
أبي وأبوك وجدي وجدك عاشوا عليها وغير الله حالتنا كلها؛ تدخل على الرجل الآن في بيته فتجد المفارش والملابس والأشياء التي لم يحلم بها، يقول الواحد منا: أنا في الدنيا أم في الجنة؟ كان الناس في الماضي إذا جاء مطر وجاءت السيول، يخافون من المطر في الليل؛ لأنهم يخشون من (الغادي) من يستطيع أن يصعد ليسد تسرب الماء من السقف في الليل، فيتجمعون ويضعون الأواني تحت هذا (الغادي) كأس هنا، وتحت ذاك صحن، وتحت ذاك قدر، وتحت ذاك فنجال، وتبدأ النواقيط، طن طن تسمعها مثل الموسيقى طوال الليل، وأحياناً لا يبقى في البيت مكان، فيتجمعون في زاوية أو في ركن أو في (الريشة)، ويضعون عليهم (نطعاً) أو ملحفاً حتى لا يأتيهم (الغادي).
واليوم من هو الذي لا يفرح بالمطر في الليل؟ وبيوتنا مسلح، لو يهطل بالليل والنهار لا نشعر به.
وسياراتنا وجميع نعمنا، هذه نعم! فإذا أصبح الإنسان فيها آمناً وشعر بنعمة الله، وقيل له: كيف أنت؟ قال: الحمد لله، أنا في نعمة ما بعدها نعمة، قال عليه الصلاة والسلام: (وجعل غناه في قلبه).(51/3)
توفر الدروس الوعظية نعمة وحجة
فأنتم أيها الإخوة! في جميع النعم؛ النعم المادية، والنعم الدينية؛ المادية هي ما تعرفون، والدينية هي هذه الندوة، هذه الجلسة، لا يوجد في كل قرى عسير وشهران وقحطان مثل هذا الدرس، ففي المدن نعم؛ في أبها والخميس، لكن البلدان الأخرى لا يوجد، ويسر الله لكم من أبنائكم من يأتون ويطلبون من العلماء، ووالله لقد خجلت كثيراً من كثرة إلحاحهم عليّ حتى خفت من الله، وأنا لا أرفض المجيء لأني مستغن عن الله؛ ولكن لأني مشغول ومرتبط كثيراً، حتى إن صوتي انقطع في بعض الظروف، ولكن من خجلي من هؤلاء الشباب وهم يأتون، كأنه يطلبني صدقة! يلح عليّ يقول: اتق الله، اتق الله، لابد أن تأتي فأخجل وآتي، وأقول: بارك الله في هؤلاء الشباب، وجزاهم الله عنا وعنكم وعن الإسلام خيراً، ونسأل الله أن يزيدهم؛ لأنهم نور، هؤلاء أنوار في قريتكم، والنور ما يسير بعده إلا النور.
لكن ما ظنكم لو أن هؤلاء الشباب في المخدرات، أو في الزنا والخمور واللواط وفي الشرور، وجلبوا عليكم الشر والفساد، وأصبح الواحد في المجلس إذا جلس لا يريد أن يقال له: يا أبا فلان، لماذا؟ لأن فلاناً في السجن والمخدرات أو خمار، أو زاني، أو قليل دين، والآن كثير منكم يفرح إذا كان في المجلس، وقالوا: يا أبا فلان، قال: نعم.
لماذا؟ لأن ولده كان على المنبر يخطب، ويدعو إلى الله، يبشر بدين الله، ما من هداية تحصل على يد هذا الولد إلا وكما هي في ديوان ولده فهي في ديوان أبيه مثله، لماذا؟ لأنه سبب فيه {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] قال العلماء: إن الولد من سعي أبيه، وإن جميع حسنات الولد مثلها لأبيه إذا رباه على الدين، فلتفرحوا بهذا الخير، ولتؤيدوهم وتناصروهم وتأتون، ماذا يوجد من المغرب إلى العشاء؟ ماذا نعمل في البيوت إذا لم نأت؟ بعض الناس يقول: أقعد من المغرب إلى العشاء؟! وأين تذهب، إذا لم تجلس هنا أين تذهب؟ ما الذي يشغلك؟ لقد أراحك الله يا أخي! كان الناس في الماضي فعلاً لا يدخلون بيوتهم بعد المغرب إلا وقد تكسروا؛ الذي يرعى من وقت شروق الشمس إلى غروبها، أو على البئر من شروق الشمس إلى غروبها، أو يقطع أو يحطب، والآن ماذا معك من شغل؟ نائم من وقت شروق الشمس إلى غروبها، وإذا كنت موظفاً تأتيك النقود من الدولة وأنت جالس على كرسي، إذا تعبت وقعت وانصرفت.
بعض الناس يقول: متعب، من ماذا؟! قال: من التوقيع، أو من كتابة معاملة، ويلف الورق ويضعها فوق بعضها، وبعضهم ريحه الله بأولاد صالحين وموظفين وليس عنده وظيفة فيأتونه بالخيرات وهو راقد، لا يرعى ولا يعمر ولا أي شيء؛ بل جالس، لماذا لا تستغل هذه النعمة؟ وإذا رأيت أنه يوجد درس مثل هذا الدرس وكان حتى في القرية الثانية فاذهب إليه، فكيف وقد جاء الله به إليك وأنت تترك ولا تأتي، هذا إعراض يا إخواني! الذي لا يأتي إلى مجالس الذكر خصوصاً مجلس الذكر في القرية فهو معرض، يجب أن تخصص هذا اليوم؛ ليلة الأحد من كل أسبوع لله، لا تعزم فيها ولا تنعزم، ولا تسافر فيها، ولو أن أحداً عزمك فقل له: معزوم، عند من؟ عند رب العزة والجلال، عند رب السماوات والأرض.
إذا أردت أن تعزم أحداً، لا والله! إن كنتم ستأتون فلتأتوا بعد العشاء؛ لأن عندنا ندوة، وإذا ربطت نفسك ببيت الله وبالذكر خلال حياتك -كل أسبوع تأتي هنا لتسمع- فاعلم بأن هذه حياة قلبك بإذن الله، لكن إذا أعرضت عن الله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا} [طه:124 - 126] أتتك آيتنا إلى قريتك، وجئناك بالعلماء من كل وادٍ ومن كل مدينة، شرفوهم طلابكم ثم تركتم المجيء، ما ظنكم لو جاء أمر في ليلة الإثنين أن من حضر الندوة يصرف له بعدها مائة ريال، هل أحد يترك ولا يأتي؟! والله إنهم سيأتون من العصر، والذي لا يستطيع فسيأتي بالعصا، كل يدق الثاني: أنا الأول أنا الأول لماذا؟ لأن الصرف بالصف الأول؛ مائة ريال.
لكن ليس فيها مائة ريال، هل تدرون ماذا يوجد في هذه الجلسة؟ أعطيكم حديثاً في البخاري، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن لله ملائكة سيارة -أي: متجولة، تطوف حلق الذكر، أي: مهمتها البحث عن أماكن الذكر- فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله -مثل جلستكم هذه- حفوهم إلى عنان السماء، ثم يصعدون إلى الله عز وجل فيسألهم الله وهو أعلم: كيف وجدتم عبادي؟ قالوا: وجدناهم يذكرونك ويسبحونك ويهللونك ويحمدونك، فيقول الله: ما وجدتموهم يسألونني؟ قالوا: يسألونك الجنة) نسأل الله وإياكم الجنة، والآن، ماذا تريدون في هذا المجلس؟ ما تريدون إلا رضا الله، من الذي قادكم بالعصا، أو أخذكم بالقوة، ومن الذي سيعطيكم نقوداً بعد هذه الجلسة؟ ما جئتم إلا لله، وعملكم بإذن الله خالص لوجه الله، ترجون رحمة الله وتخشون عذابه، كل منكم يقول: اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار.
(فيقول الله: وهل رأوا الجنة؟ قالوا: لا، ما رأوها، قال: كيف لو رأوها؟ قالوا: لكانوا لها أشد طلباً وفيها رغبة، فقال الله: فما وجدتموهم يستعيذون بي، قالوا: وجدناهم يستعيذون بك من النار، فيقول الله: وهل رأوها؟ -هل رأوا النار وما فيها من الأغلال والأنكال والسلاسل والحميم والسموم واليحموم- هل رأوا ما بها من العذاب؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوها؟ قالوا: لازدادوا منها هرباً ولها خوفاً، قال الله عز وجل: أشهدكم أني قد غفرت لهم) اللهم إني أسألك من فضلك في هذه الساعة أن تغفر لنا ذنوبنا وذنوب آبائنا وأمهاتنا، وإخواننا وأخواتنا، وجميع المسلمين.
يا إخواني: إن الله لا يعجزه شيء؛ الله كريم وفضله عظيم الله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فطلبوني فأعطيت كل واحد مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) إذا أدخلت الإبرة في البحر وأخرجتها كم ينقص البحر؟ أينقص شيء؟ هل يدري البحر أنك أخرجت الإبرة؟ اذهب من طرفه وانظر ما نقص هذا البحر إن خزائن رحمة الله واسعة! فنحن إذا طلبنا الله عز وجل في مجلس يقول الله عز وجل -والحديث في صحيح البخاري: (أشهدكم أني قد غفرت لهم، قال أحد الملائكة: رب! فيهم فلان بن فلان كثير الذنوب والمعاصي -ليس منهم؛ ليس من الصالحين والذاكرين لله- ولكن مر لحاجة فجلس، عرض قلبه لذكر الله- قال: رب! فيهم عبدك الفلاني ليس منهم، ولكن أتى لحاجة فجلس، قال الله عز وجل: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) حتى هذا الذي ليس من أهل الذكر، لكن لما لان قلبه لذكر الله وجلس غفر الله له، فهنيئاً لكم، وأرجو الله تبارك وتعالى أن يوفقكم للمحافظة والمداومة وأن يوفق شبابكم للمداومة ولو لم يجلس معهم أحد، ليس ضرورياً أن يمتلئ المسجد، حتى لا يقول أحد: ما جاء أحد، اجلس ولو لم يجلس معك إلا الأربعة العمدان هذه، اجلس واذكر الله في هذه الليلة، لو لم تكونوا إلا أربعة أو خمسة من الشباب، افتحوا كتاب رياض الصالحين، وتفسير ابن كثير، وصحيح البخاري، أو اقرءوا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب الفقه الإسلامي، تعلموا أمور دينكم ليلة في الأسبوع من بعد المغرب إلى العشاء، هذه ساعة تضيع على أكثر الناس، وكثير من الناس يضيعها في غير مصلحة؛ إما في كلام، أو علوم، أو جلسة، أو منادمة مع المرأة، أو عشاء، أو مشاهدة ما لا يرضي الله، أو سماع شيء مما لا يرضي الله لكن ساعة تقضيها في بيت من بيوت الله، وتخرج وقد غفر الله ذنبك، ورفع درجتك، وأعلى منزلتك خير لك من الدنيا وما فيها، هذه مقدمة.(51/4)
الشيطان مكره وخطواته
أما موضوع المحاضرة فهو بعنوان: (مداخل الشيطان) نعوذ بالله جميعاً من الشيطان.
الشيطان العدو اللدود لهذا الإنسان، والعداوة قديمة قدم التاريخ، ضاربة في جذور الزمن، فمنذ بدء الخليقة حصلت العداوة بين الشيطان وبين أبينا آدم، وهي معركة ضارية، قامت وستستمر إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وهناك تنتهي، فريق في الجنة وفريق في السعير، هذه العداوة بدأت بدافع الحقد والحسد والاستكبار والإباء، وهي من أمراض إبليس.
لما خلق الله آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، اعتبر إبليس هذا تكريماً أكثر من اللازم، ونظر إلى عنصره ومادة تكوينه فوجد بعقله المقلوب أنه أحسن حالاً من آدم، فرفض السجود، قال الله عز وجل حينما قال للملائكة: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:71 - 72] قال الله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [ص:73].(51/5)
امتثال الملائكة لأمر الله
إن الملائكة لا تعصي الله؛ الملائكة الغلاظ الشداد لا يعصون الله ما أمرهم، يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في صحيح الجامع: (أذن لي أن أتحدث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة عام) هذه رقبته، يا أيها الإنسان! وتعصي ربك، وهذا من حملة العرش: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] رقبته مسيرة سبعمائة عام، وفي بعض ألفاظ الحديث: (خفق الطير) أي: سرعة الطير، {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم:6] وإسرافيل؛ نافخ الصور، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم الصور، وأصغى ليتاً) أي: أنصت بأذنيه لأمر الله، رجلاه تحت تخوم الأرض السابعة، وركبتاه في السماء السابعة، ورقبته ملوية تحت العرش، والعرش على كاهله.
جبريل عليه السلام له ستمائة جناح، لما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فرد اثنين من أجنحته فسد ما بين الخافقين) ما بين المشرق والمغرب، اثنين! وكم بقي؟ خمسمائة وثمانية وتسعون جناحاً، أرسل الله جبريل مع الملائكة على قوم لوط، الذين كانوا يعملون باللوطية، وهو أن يأتي الذكر الذكر، وهذه معصية ما عملها أحد من العالمين إلا قوم لوط ومن سار على شاكلتهم، حتى الحمير والكلاب والقردة والخنازير لا تعملها؛ ما رأينا كلباً يركب كلباً، ولا حماراً يركب حماراً، ولا خنزيراً يركب خنزيراً، لكن سمعنا أن هناك من البشر من هو ألعن من الخنازير والكلاب والقردة والحمير، يركب الرجل الرجل، فعذب الله هذه الأمة بأن أرسل عليهم جبريل، قال: فغرس جناحه إلى أن بلغ تخوم الأرض ثم قلبها عليهم وكانوا أربع مدن، في كل مدينة أربعمائة ألف نسمة، وما هو بقليل، أربعمائة ألف نسمة؛ نصف مليون إلا قليلاً، قال: ثم حملهم على جناحه، جبالهم وزروعهم وثمارهم ودوابهم وبيوتهم وذكورهم وإناثهم، كلهم سواء، إلى أن سمعت الملائكة في السماء عواء الكلاب ونواء القطط! رفعهم إلى السماء، ثم قلبها عليهم، قال الله عز وجل: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:82 - 83] هذا جبريل، ملك من الملائكة، وهذا خلقه وهذا شأنه وهذا تكوين الله لخلقته، يطيعه ولا يعصيه.
وكذلك كل الملائكة، قال الله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ} [ص:74] ولهذا فالعاصي قدوته إبليس، أتريد أن تكون كإبليس؟ أتريد أن تكون شيطاناً رجيماً ولا تكون من الملائكة؟ تخلَّق بأخلاق الملائكة وأطع الله ولا تعصه، فلا يعصي الله إلا إبليس ومن سار على دربه واتبع طريقته من ذريته؛ أعوان الشياطين -والعياذ بالله- فهم الذين يعصون الله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [ص:74].(51/6)
خطوات الشيطان في إخراج آدم من الجنة
لما سأله الله تعالى: لماذا لا تسجد يا إبليس؟ {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76] وهذا خطأ، فإنه كان يتصور أن النار أفضل من الطين، وهذا خطأ، إذ الطين أفضل من النار؛ لأن النار وسيلة إحراق وتدمير، والطين وسيلة حياة وتعمير، إذ كيف تخرج حياة الناس كلها إلا من الطين؛ الثمار، والفواكه، والخيرات كلها من الطين، فغير صحيح أن النار أفضل من الطين، قال الله عز وجل بعدها: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص:77 - 78].
نعم.
لعنه الله، وطرده وقال لآدم وهو في الجنة: {يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه:117] بين الله له، كشف الله له الأمر: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117] انتبه! اجلس في الجنة، لا تطع عدوك {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه:118 - 119] نعيم في نعيم، وبعد ذلك: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35] هذه الشجرة يقول عنها المفسرون: إن جميع ثمار الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كانت كافية لكل مطامع آدم، لكن هذه الشجرة؛ لأن كل من أكل من ثمار الجنة يخرج منه مسك؛ العرق ريحته ريحة المسك إلا هذه الشجرة، من أكل منها يخرج منه أذى، وما في الجنة مكان للأذى، فالله حرمها عليه وقال: لا تأكل من هذه الشجرة، وجاء الشيطان إلى آدم ليخرجه من الجنة، بعد أن بين الله له عداوته وقال: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه:117] انتبه.
لا تطعه.
وجاء إليه بالمكر والحيلة، وقال له: {يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] وهذه الشجرة في الحقيقة هي شجرة الخروج؛ الذي يأكلها يخرج من الجنة، لكن جاءه بغير الموضوع وقال له: (شجرة الخلد) أي: الذي يأكلها يصير خالداً في الجنة، وهذه هي لغة الشيطان وأعوانه، وكثير من الشباب الآن يقع في حبائل الشر والفتن والجرائم عن طريق المكر؛ يأتي واحد ويقول: تريد أن تذهب إلى خارج البلد وتذهب عنك الهموم وترى مصر وأنت هنا؟ قال: نعم.
قال: دخن واحدة فقط، فتبدأ السقطة بدخانة تريد أن ترتاح وتذهب منك المشاكل؟ تريد أن تذاكر الدروس وأنت منبسط؟ قال: نعم، قال: خذ حبة من المخدرات، فيبدأ الانزلاق بأول حبة تريد أن ينشرح صدرك؟ ابحث فقط عن فتاة تتكلم معها في التلفون، أو ترسل لها رسالة، أو تقابلها في مكان، أو أي شيء.
حتى يورطه في جريمة الزنا والعياذ بالله، من أين هذه الأفكار؟ من الشيطان، كما أضل آدم يريد أن يضل أبناءه إلى يوم القيامة، فجاء إلى أبينا آدم وقال له: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] لأن آدم كما يقول المفسرون: ليس من أهل الجنة في الأصالة، أهل الجنة بالأصالة هم الملائكة، أما آدم هو من أهل الجنة بالتبعية، أي: أصله من الأرض وجاء به الله عز وجل، فهو ليس من أهل الجنة بالأصالة؛ فهو خائف، ودائماً الغريب الذي يقيم في أرض طيبة أرض أمن أرض خيرات وهو ليس من أهل هذه الأرض، يخاف أن يخرج منها، فهو يريد أن يحصل على إقامة دائمة، لا يخرج منها، من أجل ما في هذه الجنة، فجاءه إبليس من هذا الجانب وقال له: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20] يقول: إذا أكلتما من هذه الشجرة سوف تصبحان من الملائكة، وتصبحان من الخالدين في الجنة، ثم قال: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] حلف لهم بالله إنه لهم ناصح وهو كذاب، ولهذا لا تصدق الذي ينصحك بالباطل ولو حلف لك، لا تصدقه، فإن الشيطان قد حلف لأبينا آدم، وأخرجه من الجنة وهو كذاب، قال الله تعالى: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:22] أي: دلاهما بكيد ومكر {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ} [الأعراف:22] بمجرد أن أكل الشجرة أبونا آدم {بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [الأعراف:22].
أوجد الله لهما مخارج لهذا الأذى {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف:22] بدءوا يتسترون {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] قال الله عز وجل: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:123] أخرج الله آدم، وأخرج الله إبليس، أخرجهم إلى الأرض {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً} [طه:123] يا آدم ويا إبليس كلكم {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:123] انتبه، لا تتخذ الشيطان صديقاً لك {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً} [النساء:119].
سمعتم الآية: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] يقول ابن عباس: [تكفل الله لمن اتبع القرآن والسنة ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة] لكن من أعرض عن الدين والقرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [طه:124] يتولاه الشيطان رأساً {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:124 - 127].(51/7)
عداوة الشيطان وحزبه للإسلام
بين الله عز وجل عداوة الشيطان لنا وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6] هل في الدنيا أحد يريد أن ينصح عدوه بخير؟ لا أحد أبداً، فعدوك لا يمكن أبداً أن يأمرك بخير، أو يدلك على خير، عدوك عدوك؛ الآن اليهود أليسوا أعداء العرب؟ إسرائيل عدوة العرب الآن، وعدوة المسلمين الأولى، هل يمكن أن نثق في إسرائيل؟ هل يمكن أن تعطينا شيئاً فيه خير؟ لا، لماذا؟ لأنها عدوة، فإذا وثقنا فيها وصدقناها وأخذنا صادراتها، وتعاملنا معها، هل يمكن أن تدلنا على خير؟ لا.
كثير من الناس الآن يقول الله تعالى لهم: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] لكن اتخذوه ولياً، وصادقوه، وصادقوا جماعته وربعه، يرقص وهو في الجيب! وكثير من الناس أبغض شيء عنده بيت الله، يداوم كل يوم ولكن لا يدخل إلى المسجد إلا يوم الجمعة، يستمع الأغاني في الصباح والمساء وفي السيارة والمكتب وفي كل مكان، ولا يمكن أن يفتح المصحف إلا في رمضان، أو يوم الجمعة إن كان نشيطاً، هذا عدو لله ولي للشيطان؛ لأن القرآن كلام الله، والأغاني كلام الشياطين، وكثير من الناس الآن كرسيه محجوز في القهوة، كل ليلة وهو يخرج من بيته، يترك زوجته وأولاده، وأين تذهب؟ قال: أذهب أعمّر، ماذا تعمر؟ يعمر شيشة وهو يدمر ولا يعمر -والعياذ بالله- يدمر نفسه وأخلاقه وماله، يخرج ويترك زوجته وأولاده ويأتي ليقرقر، كما يقول أحد الإخوة، يقول: إن المقاهي مساجد الشيطان، وبعد ذلك المؤذنون فيها هم المغنون، وما دخلت أبداً ولا سمعت عن قهوة إلا وفيها سماعات ومسجلة وأشرطة وأغاني، هل سمعتم مقهى قرآن أو موعظة؟ هل دخل أحد مقهى وسمع فيها شريطاً للشيخ ابن باز أو للشيخ محمد بن عثيمين أو للشيخ عائض القرني؟ لا.
ليس فيها إلا أشرطة الشياطين والمغنين، وبعد ذلك المرجانة -أي: الشيشة- مجالس إبليس! وكل واحد عند رأسه مرجانة وفي رأس المرجانة نار، النار هي نار الشيطان؛ لأنه مخلوق من النار، ولا تتزين شيشته إلا بالنار، يقرقرون ويكبرون للشيطان فإذا انتهى مسحها وأعطاها لزميله، وخرج بريحته الكريهة، إذا مررت من عنده تكاد تتقيأ من ريحة فمه والعياذ بالله! ورجع إلى بيته بريحته هذا عبد للشيطان، يقول الله عز وجل: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف:50] بئس أن تستبدل ربك بالشيطان الرجيم، بئس للظالمين بدلا، ربك الذي خلقك ورزقك وغذاك ورباك وسترك وهداك ووفقك، تتركه وتأخذ عدوك الذي أخرجك وطردك ولعنك ويريد أن يوصلك جهنم، أتطيعه؟! أين عقلك أيها الإنسان؟!(51/8)
الشيطان وتخويفه للإنسان بالفقر
وبعد ذلك يسير كثير من الناس في ركاب الشيطان، كيف؟ بعض الناس يقول: كيف يدخل الواحد في ركاب الشيطان؟ نقول له: إن الله قد بين ذلك في القرآن، يقول الله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268].
كل أمر تجده في نفسك رغبة في الشر فاعلم أنه من الشيطان، وكل أمر تجده في نفسك تقاعساً عن الخير فاعلم أنه من الشيطان؛ فإذا جئت لتخرج من جيبك نقوداً لتتصدق بها، اعتراك نوع البخل فمن هو الذي أمرك بهذا؟ الشيطان؛ لأنه يعدك الفقر، يقول: اغلق الشنطة!! تخرج منها خمسة أو عشرة!! فيغلق الشنطة، لكن قيمة الدخان! إذا جئت لتشتري دخاناً، يقول الشيطان لك: اشترِ هذا.
ريال الدخان مخلوف، يقول إبليس: الذي يقع في يد الشيطان مخلوف، ولو جاءك فقير في صباح يوم من الأيام وطرقت عليك الباب امرأة وقالت المرأة: انقطعت بي السبل، ولم أجد بلاغاً إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رزقك أن تعطيني خمسة ريالات لآخذ لأولادي شيئاً، أبونا ميت وأنا في حالة من الفقر، أريد بريال خبزاً وبريالين جبناً وبريالين طحينية، أفطر أولادي، أسألك بالله الذي رزقك! ربما يحن قلبك عليها وتقول: تفضلي هذه خمسة ريالات، ثم في اليوم الثاني جاءت، ودقت الباب: قالت: أسألك بالله، خمسة ريالات ثانية، فستقول لها: أنت جئت بالأمس؟ نعم جئت بالأمس، ما معي إلا الله ثم أنت، قال: طيب إن شاء الله، وإذا جاءت اليوم الثالث: هل تعطيها؟ ستغلق الباب، وإذا دقت الجرس تقول للمرأة: انظري فإن كانت تلك فاطرديها، أنا حكومة هنا كل يوم خمسة ريالات؟! وإذا خرجت عليها رأيتها وأصرت إلا أن تدق الباب فربما تأخذها بالعصا، وتقول: أعطيناك خمسة وثاني مرة خمسة وكل يوم خمسة خمسة، مائة وخمسين في الشهر، والله لا أفتح لك الباب، فلو أعطيتها خمسة، ففي الشهر ماذا يكون رصيدك عند الله يوم القيامة، ورد في الحديث: (إن الصدقة لتقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير، وإن الله ليربي لأحدكم صدقته كما يربي أحدكم فلوه) ويأتي الرجل يوم القيامة فيجد حسنات كأمثال الجبال، يقول: يا رب! من أين هذه؟ ليس عندي شيء، قال: هذه صدقاتك رباها الله عز وجل وضاعفها لأن الله تعالى يقول: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39].
خمسة ريالات قدرت عليها، وفي اليوم الثالث تطردها، لكن أربعة ريالات قيمة الدخان؟ هل جاءك الشيطان وثبطك عن شراء الدخان؟ وبعضهم يستلفها، ولو يجعل أولاده يموتون جوعاً، وبعض الرجال ليس عنده أو عند أولاده نقود ويشتري دخاناً، لماذا؟ لأنه حق الشيطان، لمن يدعها؟ هذه مسواك إبليس؛ لأن الشيطان مخلوق من النار أليس كذلك؟ ومسواكه من أين؟ من النار، ولهذا أبى الشيطان إلا أن يمسوك أتباعه وأصحابه بمسواكه، إن مسواك النبي صلى الله عليه وسلم ثمنه ريال، يكفيك من يوم الجمعة إلى الجمعة، وقد يستمر معك جمعتين، وبعد ذلك (مطهرة للفم، مرضاة للرب)، يقول عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) والحديث في الصحيحين، ويقول الإمام الصنعاني في كتابه سبل السلام: يا عجباً لأمة تضيع سنة يقول فيها نبيها أكثر من مائة حديث.
ورد في فضل السواك أكثر من مائة حديث، وجاء الشيطان عند أهل الدخان وأقنعهم بمسواك آخر من النار، ما هو؟ من الدخان، وبعد ذلك كم؟ هذا يكفيك عشرة أيام، أو خمسة عشر يوماً بريال، ومرضاة للرب ومطهرة للفم، ومن أعظم شيء يتقرب به العبد إلى الله، فجاء الشيطان إلى الناس، وأقنعهم بترك السواك، وأخذ سواكاً آخر لكن من مادة الشيطان، من خلق وتكوين وتركيب الشيطان، وبعد ذلك كم؟ مسواك يكفي في الأسبوع؟ لا.
في اليوم عشرون مسواكاً (باكت) وبعد ذلك من مسواك إلى مسواك، وبعضهم أربعين مسواكاً.
وهذا المسواك يطيب فم الإنسان أم يخبثه؟ يخبثه، فلو مررت من عند شارب الدخان وشممت رائحة فمه كأنك تشم رائحة بيارة والعياذ بالله، حتى إن من الرجال من يعذب امرأته؛ مدخن ويريد أن يسلم على امرأته وهي تتمنى أن تسلم عليه، لكن إذا قرب منها جاءت الريحة إليها، فغمضت، أو قبلته قبلة واحدة بسرعة ولفت، لماذا؟ لأنها لا تريد أن تشم رائحته والعياذ بالله! لقد أكرم الله الإنسان بفتحة طاهرة عليا وهي الفم، فجاء الشيطان وحول الفتحة العليا إلى رائحة كريهة والعياذ بالله، حتى إن بعض المدخنين إذا كان في إدارة حكومية أو محكمة أو مع رجال فيهم خير، ويريد أن يدخن لا يعرف أين يدخن، ممنوع التدخين في الدوائر الحكومية، فأين يدخن؟ في الحمام؛ فتجتمع له رائحتان فينبسط! والله لو أنه ليس في الدخان إلا هذا، هل سمعتم أن واحداً يستطيع أن يأكل سندويتشاً في الحمام؟ يستطيع أن يشرب شاياً في الحمام؟ لماذا؟ لأنه ليس مكانها لا تطيب لي نفس أن آكل في الحمام حتى ولو كنت في حد الموت.
لكن يقدر أن يشرب الواحد الدخان في الحمام، لماذا؟ لأنه المكان الصحيح للدخان، لكن يشربه في المسجد، يشربه بين يدي العلماء؟ لا يقدر؛ لأنه خبيث، ولذا يا إخواني! نقول لشارب الدخان: اتق الله في نفسك، اتق الله، راجع نفسك من الآن وقرر، إذا كنت رجلاً وشهماً وصاحب إرادة قوية قرر من الآن التوبة، لتكون طيباً، لأن الله تعالى يقول: {وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور:26].
هل الدخان طيب أم خبيث؟ خبيث، والذي يدخن كذلك، لأن الله تعالى يقول: {وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] هل ترضى أن يقال لك خبيث يا شارب الدخان؟ لماذا تقبل الخبيث؟ لماذا تضعه في فمك؟ لماذا تشربه؟ لماذا تنفخه؟ لماذا تضعه في جيبك؟ لماذا تشتريه؟ لماذا تبيعه؟ لماذا تروجه؟ إنه خبيث، وقد حرم الله الخبيث وقال: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157].(51/9)
أقسام العمل من حيث الخير والشر
كثير من الناس سار في ركاب الشيطان، وأطاع الشيطان وترك الله عز وجل، وطبيعي أن من عاش مع الشيطان أهلكه الله في الدنيا والآخرة، ثم يموتون كلهم، أولياء الله وأولياء الشيطان، ويقابلون ربهم على ضوء الأعمال التي سلكوها، والأعمال عملان: عمل صالح، وعمل سيئ.
العمل الصالح: ما أمر الله به، وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم.
والعمل السيئ: ما أمر الشيطان به؛ لأن الله تعالى يقول: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268] كل سوء وكل شر هو من الشيطان الرجيم، وتجد حساباتك عند الموت، ويقدم لك كشف الحساب، يقال لك: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29].
هذا كتابك، اقرأ كتابك، اقرأ ملفك، هذه درجاتك وعلاماتك التي كنت عملتها في الدنيا {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:14 - 15].
ويقوم الناس من قبورهم بعد أن يكون أهل الإيمان وعباد الرحمن، ليسوا عباد الشيطان والشهوات، بل عباد الله الذين نزعوا أيديهم من الشيطان وسلموا أنفسهم لله؛ سلموا أعينهم لله فلا ينظرون بها إلى حرام، وسلموا آذانهم لله فلا يستمعون بها إلى حرام، وسلموا ألسنتهم لله فلا يتكلمون بها في غيبة أو نميمة أو لعن أو سب أو شتم أو شهادة زور أو يمين فجور أو حرام، وسلموا أيديهم لله فلا يمدونها إلا إلى ما أحبه الله، وسلموا أرجلهم إلى الله فلا تحملهم ولا يسيرون عليها خطوة واحدة إلا فيما يرضي الله، وسلموا فروجهم فلا يمكن أن يطئوا بها إلا فيما أباح الله، وسلموا بطونهم فلا يمكن أن ينزل بها لقمة إلا مما أحل الله عز وجل هؤلاء هم عباد الرحمن؛ رضخوا لله، وأذعنوا لشريعة الله، هؤلاء يوم القيامة يموتون ويقال لهم عند الموت: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
وفي القبر يثبتهم الله، يقول الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] ويحول القبر إلى روضة من رياض الجنة، وتأتيهم أعمالهم على أحسن عمل، أنا عملك الصالح حفظتني حفظك الله، ويوم القيامة يبعثون من قبورهم {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62].
يمرون على الصراط كالبرق الخاطف، يأخذون كتبهم بأيمانهم، هذه شهادتك: ناجح، يردون الحوض فيشربون شربة واحدة، من شرب منه شربة واحد لم يظمأ بعدها أبداً، يوزنون وإذا بهم موازينهم راجحة ثقيلة، عمل صالح وتقوى، وخوف من الله ورجاء ودعوة وبر وقرآن.
لكن ذلك ماذا عنده: دخان، وأغان، وحلق لحية، ومشعاب، وكذب، ومسجل، ويا ليل ويا عين هذه رجولته، وإذا خرج لعنه الله وطرده على أساس هذا العمل، والعياذ بالله! فالمؤمن له ميزان وله ثقل عند الله، وبعد ذلك يدخل الجنة، يقال لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:70 - 71].
أما أتباع الشيطان، عبيد إبليس؛ لأن الله تبارك وتعالى سماهم عبيداً للشيطان؛ لأن العبودية ليست سجوداً وركوعاً، بل العبودية طاعة، فإذا أطعت الله فأنت عبد الله، وإذا أطعت الشيطان فأنت عبد الشيطان، ولهذا فهؤلاء يعيشون في الدنيا على طاعة الشيطان.(51/10)
حرص الشيطان ومقابلته لأوامر الله بأوامره
واعلموا أيها الإخوة! أنه ما من أمر لله إلا ويقابله أمر للشيطان، فمن وقع في أمر الله فهو عبد الله، ومن ترك أمر الله وقع في أمر الشيطان شاء أم أبى؛ أمر الله بالصلاة والشيطان أمر بالنوم، فإذا كنت مع الله فإنك تقوم لتصلي، وإذا كنت مع الشيطان راقداً على الفراش في صلاة الفجر، هذا ميزانك؛ أمر بالصلاة في ذلك الوقت والشيطان أمر بالنوم في ذلك الوقت، أنت مع من؟ الله أمر بالقرآن، والشيطان أمر بالأغاني، أنت مع من؟ الله أمر بالنظر إلى الحلال، والشيطان أمر بالنظر إلى الحرام، أنت مع من؟ الله أمر بأكل الحلال، والشيطان أمر بأكل الحرام، الله أمر بالبيع والشيطان أمر بالربا، أين أنت؟ الله أمر بالعسل والطيبات والشيطان أمر بالدخان والخبائث والخمر والمخدرات، أين أنت؟ لا يمكن أن تقع بأمر لله عز وجل إلا وأنت متحرر من أمر الشيطان، ولا يمكن أن تقع في أمر من الشيطان إلا وأنت متحرر من أوامر الله، شئت أم أبيت، وقد يقول واحد من الناس: أنا لا أطيع الله ولا أطيع الشيطان، معقول؟! أنت لابد أن تنظر، وليس هناك شخص لا ينظر، لكن هناك من ينظر فيما يحبه الله ويرضاه، وآخر يتلفت إلى النساء، هذا عبد للشيطان، ولابد أن تسمع، فهناك من يسمع القرآن وآخر يسمع الأغاني، لا يوجد أحد يقول: لا والله، أنا لن أتلفت وسأغلق عيني.
ولا أسمع، فسوف أسد مسامعي، ولا آكل ولا أشرب، ولا أقوم ولا أجلس، ولا أخرج ولا أجلس، من هذا؟ هذا الميت الذي مات، هذا نذهب به إلى القبر.
أما الحي فلابد أن يسمع ويتلفت، وينظر ويتكلم، ولكن إما بما يرضي الله فهو عبد الله، أو بما يرضي الشيطان فهو عبد للشيطان.
وهؤلاء الذين يعيشون في الدنيا على هذا الوضع هم عند الموت خبثاء، جاء في الحديث تقول لهم الملائكة: (يا أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب) اخرجي الآن للحساب، كنت خبيثة ومفلوتة، والآن اخرجي للحساب، إلى سخط من الله وغضب، وفي القبر يسأل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ يقول: هاه، هاه، هاه، لا أدري؛ لأن الله يضله، يقول: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
وبعد ذلك يأتي عمله على أخس صورة، عمله دخان، وقطع لرحمه، وعقوق لوالديه، وإساءة لجيرانه وجماعته ومشاكله وتحريشه، وغيبته ونميمته، وإفساده، مثل قطة أبو عريش، فقد أحرقت أبو عريش بذيلها، احترق ذيلها في عشة وخرجت وذهبت إلى العشة الثانية وخرجت وأحرقت الثالثة، حتى أحرقت مدينة.
وكذلك من الناس من دوره مثل دور قطة أبو عريش، يحرق القرية كلها بلسانه، يأتي عند فلان، ويقول: هاه سمعت ماذا قال فلان؟ قال: والله يقول: فيك وفيك، وأعطى وأخذ منه كلاماً، وراح عند ذاك حتى يفسد، يشعل النار والفتنة بين الجماعة والعياذ بالله.(51/11)
العاصي وحاله يوم القيامة
فالإنسان العاصي يوم يموت ويجد عمله يأتي عمله على أشوه صورة، وعلى أخس شكل، يقول له: (أنا عملك السيئ ضيعتني ضيعك الله) وبعد ذلك يبيت في قبره إلى يوم القيامة على العذاب، ثم إذا بعث من في القبور وخرج من قبره وإذا به يرى النكبات، لا إله إلا الله!! يقول الله عز وجل: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:43 - 44] {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:7 - 8] يوم صعب والله.
يوم عبوس قمطرير هوله فيه تشيب مفارق الولدان
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
الله أكبر! ما أعظم الأحداث، يخرج الإنسان وهو خائف وجل ليس عنده شيء، مفلس ما عنده عمل، وبعد ذلك يأتي على الصراط فيسقط، فيأتي ليأخذ كتبه في اليمين فتضرب يمينه على كتبه فتسقط يمينه، ما معه يمين، فيأخذها بشماله -رغماً عنه- لأن الله تعالى يقول: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:21] ليس الأمر على ما يريده المرء، وبعد ذلك يأتي ليوزن عمله، فيخف ميزانه ليس عنده شيء، قال الله تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف:105] وما هو وزن تارك الصلاة وما معه من قيمة؟ ليس له وزن في الدنيا حتى يكون له وزن في الآخرة، فالذي ليس له وزن هنا ليس له وزن عند الله تبارك وتعالى.
وبعد ذلك يأتي ليشرب من الحوض فيطرد، يطرد كما يطرد الكلب! يذاد عنه، تطرده الملائكة، تقول: ما شربت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ما شربت دينه، ما عشت عليه حتى تشرب من هديه، وتشرب من حوضه صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك يسحب على وجهه إلى النار، قال الله عز وجل: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} [الإسراء:97]؛ أصم أعمى أبكم، يسحب على وجهه! وأعز شيء فيك يا رجل وجهك، لأن تسحب على ظهرك وعلى رجليك وعلى ركبتيك وعلى كل عضو أهون من أن توضع على وجهك فيسحب وجهك على الطين والحجارة! هذا أسوء منظر أهل النار، يقول الله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً} [الإسراء:97]؛ لأنه كان أعمى هنا عن الدين، كانت عيونه مفتحة لكن في الحرام، لا يستريح إلا إذا جلس مع النساء؛ يتكلم، ويأخذ ويعطي، مسرور، لكن بعد هذا السرور لعنة، يقول: (يا آكل الشحمة تخرجها شيئاً آخر) لا تنشرح نفسك بالمعصية الآن، خف من ربك الآن حتى يعوضك الله في الجنة، قد تجد معاناة؛ كون الإنسان لا يجلس مع النساء ولا يستمع الأغاني، ويتمسك بدين الله، قد يكون في ذلك نوع من المعاناة والصعوبة، لكنها لا تعدل شيئاً بالنسبة لمعاناة الآخرة، وبعد ذلك إذا جلست مع النساء في الدنيا بالحرام، وتفكهت معهن، أضعت على نفسك نعيماً عظيماً في الجنة، بينما إذا غضضت بصرك عن النساء هنا، يعطيك الله في الجنة نعيماً ليس بعده نعيم، من ضمنها اثنتان وسبعون حورية، يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو أشرفت إحداهن -من حوريات أهل الجنة على الأرض- لآمن من على ظهرها بالله الواحد الديان) كلهم يقولون: لا إله إلا الله! ما هذا الجمال! نصيفها -شيلتها- على رأسها خير من الدنيا وما عليها، لو أنها في المشرق وواحد في المغرب لشم ريحها؛ رائحتها وهي في المغرب تشمها وأنت في المشرق، بعض النساء رائحتها إذا شممتها تنفر منها من شدة الرائحة العفنة والعياذ بالله! فمن ابتعد عن دين الله ليس له قيمة، وليس له وزن عند الله عز وجل، كان أعمى عن دين الله عز وجل فيحشره الله أعمى أصم، قال تعالى: {عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} [الإسراء:97] أبكم عن الدين لا يقول كلمة خير، كلامه كله غيبة ونميمة وسب وشتم واستهزاء وسخرية، فلان كذا وفلان كذا فهل أنت الذي خلقته؟ من عاب الصنعة فقد عاب الصانع، لو أن أحداً يفصل نفسه لكان فصل على أحسن مقاس، لكن ربي هو الصانع، فلان الأسود، فلان الأبيض، فلان المتين، فلان الضعيف، فلان الأعور، فيقطع لحوم المسلمين، يأكل من لحومهم، ولكن يأكل دماً يوم القيامة، والعياذ بالله! لسانه أبكم عن ذكر الله، يغني يضرب: يا ليل، يا ليالي، في كل سمرة هو الأول، ولكن في كل ندوة لا تراه، أبكم عن الحق، والدين، والقرآن، لسانه يشتغل في الباطل، قال الله عز وجل: {عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} [الإسراء:97] أصم عن دين الله، لكن منفتح على كل شر: {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ} [الإسراء:97] أي: كلما انطفأت وتنازلت: {زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء:97].
نعوذ بالله من ذلك! ويصلون في النار، والنار -أجارنا الله وإياكم من النار- حرها شديد، وقعرها بعيد، وعذابها أكيد، وطعام أهلها الزقوم، وشرابها المهل والقيح والدم والصديد، أمانيهم فيها الهلاك، وما لهم منها فكاك، قد شدت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوههم من ظلمات المعاصي ينادون من شعابها بكياً من ترادف عذابها: يا مالك! قد أثقلنا الحديد، يا مالك! قد نضجت منا الجلود، يا مالك! قد تقطعت منا الكبود، يا مالك! العدم والله خير من هذا الوجود، يا مالك! أخرجنا منها فإنا لا نعود.
يقولون: أطلقنا نرجع نعمل عملاً صالحاً من أجل أن نتوب، قال الله عز وجل: {اخْسَئوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] لا خروج أبداً من النار، لماذا؟ قال: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً} [المؤمنون:110] كثير من العصاة يضحكون على المتدينين، فلان مطوع، ماذا تكون أنت يا أبا السيجارة، اضحك على نفسك، ابك على نفسك، يا ضال، يا منحرف، يا عبد الشيطان! تضحك على عباد الله وأهل القرآن، والدعوة، والصلاة، والدين، والعفة، والشهامة، والمروءة، والطهارة، وأنت على الزنا والغناء وعلى قلة الدين، لا إله إلا الله! {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:110 - 111] نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الفائزين.
في تلك اللحظات وهو في النار، يتدبرون ويتفكرون في هذا العذاب العظيم الذي ما بعده عذاب، ويعيدون شريط الذكرى، لماذا نحن هنا؟ من الذي ورطنا هنا؟ فيجلس بعضهم مع بعض، ويقولون: الشيطان الشيطان.
إنك لو جئت في درس على مجموعة من السجناء في السجن، وقلت لكل واحد: تعال، ما الذي أتى بك إلى هنا؟ من الذي ورطك في القتل؟ ماذا سوف يقول؟ يقول: الشيطان، وأنت ما الذي ورطك في الزنا؟ قال: الشيطان، وأنت ما الذي ورطك في السرقة؟ قال: الشيطان، كل واحد يقول: الشيطان ورطهم وتركهم في السجن.
كثير من الناس ورطهم الشيطان وكأنهم ليسوا مسئولين، لكن إن لم يتوبوا فسوف يسجنون في سجن ما منه خروج، وهو سجن جهنم، وإذا جئت في يوم من الأيام تقول: ما الذي أتى بك في النار؟ قال: الشيطان، الشيطان أتى بي هنا، {أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان:29] يقول الله عز وجل: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان:27] يأكل من هنا إلى هنا، إنك إذا اشتريت سلعة بخمسة في السوق ووجدتها في دكان آخر بريال، ماذا يصير في قلبك؟ الندم، أم لا؟ وهي بريال، لكن أخذتها بخمسة من دكان، تقول: الله! كيف هذا الكلام، بخمسة وهي بريال، كنت سآخذ خمس حبات، لماذا آخذها؟ أين عقلي؟ أين تفكيري؟ لماذا لا أبحث في السوق؟ وتبقى في قلبك نقطة وحرقة لا تنساها.
فإذا جئت يوم القيامة وقد اشترى أهل الإيمان الجنة وأنت شريت النار، قال الله عز وجل: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9] غبن يقطع القلوب، وقد ورد في الحديث: (إن أهل النار يؤخذون إلى أن يؤتى بهم إلى الجنة، فتفتح الجنة على مصارعها، فيقال لهم: هذه الجنة، قالوا: نعم، قالوا: هذه قد أعدها الله لكم لو أنكم أطعتم الله ورسوله) فيرون شيئاً لا يتصوره العقل، (ولكن لما عصيتم الله ورسوله بدلكم الله بدار ثانية فيؤخذون فيرجعون بحسرة وندامة ما رجع بها الأولون والآخرون) قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27 - 29].
ويعيدون شريط الذاكرة إلى أن سبب نكبتهم في هذه النار هو الشيطان، فيلعنون الشيطان، ويتبرءون من الشيطان، لكن لا ينفع! أحد الناس جئته في السجن وأنا ألقي درساً عليهم وبينت لهم في جريمة القتل، ولما خرجنا أمسكني رجل مسن، قال: يا شيخ! أين هذا الكلام قبل أن آتي إلى هنا؟ قلت: ما قضيتك؟ قال: القتل، أنا أنتظر السيف في الغداة والعشي، يقول: والله لو أني سمعت هذا الكلام ما دخلت السجن، يضربني أو يذبحني، لكن لا أدري! الشيطان ورطني في مسائله، لكن لا أدري كيف أرقعها الآن؟ أحييه من الموت؟ لا.
ليست إلا موت رقبتي.
وما يدري ما عليه عند الله يوم القيامة، من الذي ورطه في هذا؟ الشيطان، فالشيطان يورط كثيراً من الناس في مثل هذه الأعمال، ثم يو(51/12)
مداخل الشيطان
ولكن ما هي مداخل الشيطان؟ وهذا موضوع المحاضرة.
مداخل الشيطان كثيرة، نذكر منها فقط مدخلين رئيسين، بوابتين كبيرتين، يدخل الشيطان منها إلى قلوب كثير من أهل النار، وما أضل الشيطان الناس إلا من هذين البابين، يقول ابن القيم رحمه الله: ما أهلك البشر إلا شبهة أورثت شكاً في دين الله، أو شهوة أورثت تقديم الهوى على محبة الله.
هذان البابان: شبهات، وشهوات.(51/13)
مدخل الشبهات
ما هي الشبهات؟ ما يلقيه الشيطان في عقل الإنسان من الأفكار الخبيثة: شبهة الكفر، شبهة وجود الله أو عدمه، شبهة أن الرسول صادق أو غير صادق؟! شبهة هل هذا الدين حق، أو ليس بحق؟ شبهة هل في القبر عذاب أم لا؟ شبهة هل في الآخرة نار وجنة أم لا يوجد؟ من يورد هذه الأفكار؟ الشيطان، قال الله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [النساء:120].
شبهة حب الزنا وتزيينه، شبهة حب الربا وأنه أحسن شيء لتنمية الأموال، وتكثير الأرصدة في البنوك، شبهة الاعتداء والعدوان، هذه اسمها شبهات، ترد على الإنسان.
ومحاربتها عن طريق تعميق قضايا الإيمان في النفس البشرية، وقطع دابر الشيطان بالقطع اليقيني وبالجزم الإيماني على أن كل حقائق الإيمان حق، لا يخالطك فيها شك، تزول الجبال ولا تزول عقيدتك في الله عز وجل، وأدلة هذا مبثوثة في الكون كله:
ففي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
ويقول الله تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [محمد:10] {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] والكون مبثوث فيه جميع الآيات الكونية التي تدلك على الله تبارك وتعالى، بل السماء والأرض، والليل والنهار، والشجر، والجبال، والدواب والأنهار، والثمار، كل هذه إذا تفكرت فيها تجد أن آثار القدرة الإلهية فيها، تدلك على الله الذي لا إله إلا هو، يقول الشاعر:
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاهدات بأن الله ليس له شريك
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
تبارك وتعالى، فحينما تتأمل وتتفكر تقطع الطريق على الشيطان وتقول: لا إله إلا الله، الله حق والشيطان يخسأ، قاتله الله، تفكر في نفسك أنت يا أخي، وفي خلقك وتركيبك وفي خلياتك وجزئياتك، وفي أكبر شيء فيك، في كل جزئية منك آية تدل على الله، وسوف أتكلم معكم فقط عن جزئية أو جزئيتين من خلقك أيها الإنسان أولها: القلب.
القلب: مضخة أوجدها الله في الجسم، وهي مضخة حساسة ولها أهمية كبيرة، بحيث تشتغل مدى الحياة، وإذا توقفت لحظة ما الذي سوف يحصل؟ يموت الإنسان، إذا توقف القلب لحظة واحدة يموت الإنسان، يسمونها جلطة، أو السكتة القلبية، أي: سكت القلب فمات الإنسان، هذه العضلة يقول العلماء: تضخ في كل دقيقة ثمانين ضخة، هي عضلة، هذه الضخة ماذا تصنع؟ ترسل الدماء، مثل المكينة؛ تسحب الدم وتذهب به إلى العروق والجسد، وإذا توقفت هذه المضخة فإن الإنسان يموت مباشرة، فهي تضخ ثمانين ضخة في كل دقيقة، أي: في اليوم الواحد أكثر من مائة ألف ضخة، وفي عشرة أيام مليون ضخة، وفي شهر ثلاثة ملايين ضخة، وفي عشرة أشهر ثلاثين مليون ضخة، وفي عشر سنوات ثلاثمائة مليون ضخة، وأي جهاز وأي مكينة تقوم بهذا العمل ولا تخرب ولا تتوقف؟! لا إله إلا الله! من الذي يجري لها صيانة؟ من يزيتها؟ من يعرف عنها شيئاً؟ لا إله إلا الله! هذه المضخة العظيمة، التي هي آية من آيات الله تبارك وتعالى، تضخ بعضلة لا إرادية، أي: عضلة أوتماتيكية من عند رب العالمين، فما لك فيها علاقة أنت، لكن عضلة يدك بعضلة إرادية، هذه عضلة وهذه عضلة، عندما تريد أن قبض يديك تقبضها، أو تمد عضلة رجلك تقوم وتقعد وبكل عضلاتك، لكن قلبك بعضلة تشتغل بدون إرادة منك؛ لأنها لو توقفت لتوقفت حياتك، فالله خلقها عضلة أوتماتيكية، فما ظنكم لو أن عضلة القلب إرادية، بحيث من أراد أن يعيش يحرك عضلة قلبه، والذي لا يريد أن يعيش يوقف عضلة قلبه ويموت، هل كان أحد سوف يشتغل بغير قلبه؟ لا أحد يعمل عملاً إلا وقلبه ينبض حتى لا يموت؛ لأنه إذا وقف مات، وبالتالي كيف يعيش الإنسان؟ كيف يعمر؟ كيف يبني؟ كيف يشتغل؟ كيف يكتب؟ كيف يعمل أي شيء، بل كيف ينام؟ إذا جاء لينام يدعو امرأته، يقول: تعالي، أنا سوف أنام قليلاً، ضعي يدك على قلبي ويدك الثانية على قلبك، لكن لا تغفلي، سوف نموت كلنا، فيرقد له ساعة وبعد ذلك إذا أرادت أن تنام قامت ترمحه برجلها، قم شغِّل قلبي وقلبك، أريد أن أرقد ساعة، لكنك نائم وقلبك يعمل -يا أخي- ثمان ساعات وقلبك يشتغل! وزوجتك راقدة وقلبها يعمل، وأبناؤك راقدون وقلوبهم تعمل! من الذي شغل هذه العضلة؟! لا إله إلا الله! وبعد ذلك من أسرار الخلق أن الله جعل في كل آدمي من الأعضاء النافعة اثنين اثنين، والأعضاء الضارة واحداً واحداً، إلا القلب عضلة نافعة وهو واحد، فيوجد سر؛ العين منها اثنتان، لماذا؟ لأنها نافعة، فقد يصاب الإنسان بمرض بعينه أو عور أو ألم أو إصابة، فيكون معه عين ثانية، أليس كذلك؟ وكثير من الناس الآن عيونهم مفتحة لكن لا يرى إلا بعين واحدة، وواحدة فيها ماء، وكثير من الناس تصيبهم حوادث وتعمى عيونهم، فإذا تعطلت واحدة إذا بالثانية تعمل.
وهناك أذنان، حتى إذا أصيبت واحدة بالصمم إذا بالثانية تعمل، وكثير من الناس لا يسمعون إلا بأذن، لماذا؟ انخرقت الطبلة؛ ما رأيكم لو كان له أذن واحدة؟ كانت مصيبة.
وبعد ذلك جعل الله عز وجل يدين، تنقطع واحدة وإذا بالثانية شغالة، وجعل الله رجلين، وجعل الله كليتين، والناس الآن يعيشون بكلية واحدة، فترى أنه لا يشتغل الآن عندك إلا واحدة، تشتغل الاثنتين لكن بالتناوب، لكن إذا ذهبت واحدة تقوم واحدة مدى الحياة بالعمل، فأعطاك الله صفايتين، لماذا؟ من أجل ألا تخرب واحدة فتموت فوراً، وإذا بالثانية تعمل، أو تتبرع لأحد أقربائك فتعطيه كليتك، من ركب هذه الكلية؟! لا إله إلا الله! وهناك رئتان، إذا خربت واحدة إذا بالثانية شغالة، لكن الأشياء الضارة، واحدة واحدة، عضلة اللسان واحدة، وفرج واحد، ما رأيك لو أن معك لسانين، واحداً هنا وواحداً هنا، أنت الآن ما نجحت مع لسان، ما أمسكته، أفسدت الدنيا بلسانك، ولا نجحت في الدنيا بفرج واحد، ولو كان معك فرجان، كان ذلك هماً عليك كبيراً، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فجعل الله لك من النافع اثنين ومن الضار واحداً إلا القلب جعله واحد وهو نافع، لماذا؟ قال الله عز وجل: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4] لماذا؟ لو أن معك قلبين، والقلب هو مركز الإحساس، لكان قلب يريد أن يرقد، وقلب يريد أن يذهب للعمل، وقلب يحب فلاناً، وقلب يكرهه، وقلب يريد أرزاً وقلب يريد عصيدة ومرقاً، وقلب يريد أن يواصل الدراسة، وقلب يقول: لا والله، لا أواصل، فمن تطيع منهم الآن؟ فهذا لا يصلح، إنه لا يصلح إلا قلب واحد: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4].
هذه آية من آيات الله، في كل جزئية منك! ورأسك، من رقبتك إلى فوق، تجد أن الله أجرى في هذا الرأس أربعة أنهار: نهر في العين مالح، ونهر في الأذن مر، ونهر في الفم عذب، ونهر في الأنف مخاطي مالح، من الذي أفرز الأنهار هذه كلها والمادة كلها واحدة، مالح في عينك، لماذا؟ لأن عينك شحمة، لو لم يكن فيها مادة مالحة لتعفنت ودودت وظهر الدود من عينك، ومر في أذنك، لأن أذنك مجرى للسمع، فلو ما جعل الله هذه المادة الصمغية المرة موجودة لقمت في الصباح ومسمعك مليء بالبراغيث أو بالقمل، ودخلت في رأسك، فمن الذي سوف يخرجها من رأسك؟ لكن الله جعل هذه المادة السامة المرة، بمجرد وأنت نائم تأتي الحشرات إلى مسمعك، ثم تهرب ولا تدخل مسمعك من الذي قام في يوم من الأيام وقال: والله في مسمعي حشرات؟ لا تستطيع أن تدخل؛ لأنه يوجد مادة ضدها.
وفمك جعل الله فيه اللعاب، اللعاب حلو ومذاقه طيب، لماذا؟ من أجل أن تهضم به الطعام وتمضغه، وتقطع وتكسر وبعد ذلك تنزل! وجعل الله المادة المخاطية في أنفك، لماذا؟ لتمتص وتحجز الأتربة والغبار الذي يدخل رأسك، ولو كنت الآن في المزرعة من الصباح إلى الظهر ثم جئت تتوضأ وتستنثر، أما تلاحظ أنه يخرج من الاستنثار تراب؟ أين كان هذا التراب؟ لقد أمسكته الأغشية التي في الأنف، ولولاها لدخلت إلى رأسك ودخل غداً مثلها وتتكون في رأسك كوم طين من يخرجها من رأسك؟ وما ظنك لو أن الله تبارك وتعالى جعل المادة التي في أذنك تفرز من فمك، فكيف تأكل؟! أو جعل الله المادة التي في أنفك تخرج من فمك؛ المخاط، كيف تصنع؟! أو جعل الله المادة الملحية تخرج من فمك، كيف تصنع؟ لكن من عَلَّم العين أن تفرز مادة ملحية؟ من علم الأذن أن تفرز مادة صمغية مرة؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو.
لا إله إلا الله نقولها ونقطع بها دابر الشيطان ونرد الشيطان، هذا في إيمانك في الله.
أما في إيمانك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فتؤمن به إيماناً جازماً ليس فيه شك؛ لأنه الصادق المصدوق، بعثه الله بالهدى ودين الحق، وأيده بالمعجزات الخالدات، أعظم معجزة على وجه الأرض القرآن، يقول الله تعالى فيه: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت:51] ثم أيده الله بمعجزات كثيرة، قال العلماء: إنها أكثر من ألف معجزة، كلها أدلة قائمة وبراهين على أنه نبي، منها: أذكر لكم أمثلة بسيطة وليس هذا مقام الحصر ولكنه مثال، وإلا فمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم ما ورد في السنة من الأحاديث الكثيرة، منها: حنين الجدع.
كان صلى الله عليه وسلم يخطب على جذع من نخل، وجاءت امرأة من بني النجار، وأمرت علامها فصنع له منبراً من ثلاث درجات، فلما جاء يوم الجمعة، صعد المنبر وترك الجذع، فبدأ الجذع يحن عليه كما تحن الناقة على فصيلها حتى سمع الصحابة كلهم حنين الجذع، فقطع الخطبة ونزل من المنبر، وجاء إلى الجذع، وضمه على صدره وجعل يسكته كما تسكت الأم طفلها حتى سكت، صلوات الله وسلامه عليه.
منها: إيمان الضب؛ فقد كان رجل من بني سليم يكره النبي صلى الله عليه وسلم كراهية شديدة.
يقول: دخلت مكة فإذا الناس مجتمعون على الرسول صلى الله عل(51/14)
مدخل الشهوات
هذا الباب الأول؛ باب الشبهات.
الباب الثاني وهو باب عظيم، ويقع كثير من الناس فيه؛ يقودهم الشيطان إلى النار عن طريق باب الشهوات، وفيه خمسة مسارات: - الشهوة الأولى: شهوة الفرج.
وأكثر ما يدخل الناس النار الفرج والفم، ويتم هذا عن طريق الزنا ودواعيه وأسبابه، وهذه الشهوة استطاع الشيطان أن يستغلها أسوأ استغلال؛ لأن الله عز وجل ركبها في الإنسان؛ شهوة الجنس وحُب النساء غريزة، خلق الله الإنسان وركبها فيه، لماذا؟ ليبقى الجنس البشري، حتى يكون عند الرجل ميل إلى المرأة، وعند المرأة ميل إلى الرجل، فيلتقيان عند نقطة شرعية اسمها الزواج، ويحصل من هذا اللقاء ذرية، وبالتالي يستمر النسل البشري، وتعمر الأرض بعبادة الله.
لكن لو أن الله خلق الرجل لا يريد المرأة، وخلق المرأة لا تريد الرجل، وعاش الرجل لوحده، والمرأة لوحدها، ومات وماتت، ماذا بقي؟! تفنى الأرض أليس كذلك؟ وجعل الله هذا الميل من أجل عمارة الأرض لمن يعيش فيها، ولكن جاء الشيطان ودمر الإنسانية عن طريق استغلال شهوة الميل عند الرجل وعند المرأة عن طريق اللقاء في غير النقطة الشرعية؛ في غير الزواج، عن طريق الزنا، فحصل بالزنا الدمار والوبال والشر المستطير والعياذ بالله، والله حرمه، وحرم كل دواعيه، قال الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] ما قال: لا تزنوا، بل قال: لا تقربوا، كل ما يوصل إلى الزنا، فهو حرام.
ما هو أول ما يوصل إلى الزنا؟ أول نافذة: النظر، هل يزني أحد دون أن يرى؟ الذي يغض بصره هل يزني؟ لا يزني؛ لأنه يغض بصره أصلاً، لكن أول شيء في طريق الزنا هو النظر، يقول الشاعر:
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
يضر خاطره ما سر ناظره لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطر
ولهذا أمر الله بسد هذه النافذة وقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30].
وأمر النساء أيضاً بنفس الأمر وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31] إلى آخر الآيات.
فهنا الأمر بغض البصر، وأنت مأمور يا عبد الله! بغض بصرك؛ لأنك يوم أن تتمادى في النظر إلى الحرام، تقع في الشرور حتى تصل والعياذ بالله إلى الزنا، يقول أحدهم:
نظرة فخطرة فسلام فكلام فموعد فلقاء
فزنا فجهنم.
بدأت بالنظر وانتهت بالنار، لا حول ولا قوة إلا بالله! وكما يقال: نافذة يأتيك منها ريح، سدها واسترح.
هذه النافذة يأتيك منها ريح الزنا إذا فتحتها على النساء، سدها وغطها واسترح، وإذا غطيتها أرحت قلبك وأرضيت ربك، وأيضاً أحببت زوجتك؛ لأن الذي يتلفت في النساء يكره امرأته؛ لأنه يرى موديلات وأشكالاً عجيبة وغريبة؛ يذهب إلى زوجته يتفحصها، وإذا لم يجد الذي في النساء كلها، يكرهها، فإذا دخل لا يسلم عليها، قال: (الله أكبر عليك يا ذي الجنية) قالت: (وأنت الله أكبر عليك يا ذا العفريت)؛ لأنها رأت أحسن من بعلها، فيكرهها وتكرهه ويتضاربون وتصير المشاكل، لكن الذي يغض بصره، ولا يرى غيرها، إذا دخلت قال: ما هذه الجميلة! ولو كانت غير جميلة؛ لكن لأنه ما رأى غيرها، يقول: هذه ملكة جمال العالم ما رأى غيرها! وكذلك المرأة التي لا ترى إلا بعلها من يوم أن تراه تقول: ما شاء الله، الله يوفقك يا فلان، لماذا؟ لأنها ما رأت غيره، لكن إذا كانت مختلطة ومشتركة، وكل واحد يتلفت، يرى هذه عيناها جميلتان، وتلك أنفها جميل، وتلك فمها أجمل، وتلك خدودها فاتنة، وجبينها كذا وتلك خصرها كذا، ويتلفت في امرأته فقد تكون عيناها جميلة، لكن أنفها ليس جميلاً، أو قامتها غير جذابة، من أين تجمع لك واحدة مفصلة فيها حسن جميع نساء العالمين؟ ليس هناك واحدة كاملة، الذي يريد كاملة ففي الجنة، الكاملة هي الحورية ونساء الجنة.
أما نساء الدنيا فلابد من النقص، وأنت تتلفت في النساء، ولذا فالذي يتلفت في النساء، يكره زوجته، وبالتالي تسوء عشرته، ويغضب ربه، ويطمس بصيرته، ويعمي الله قلبه عن الدين في الدنيا والآخرة.
لا يمكن أن يفتح الله قلبك وأنت تنظر في النساء.
أحد الشباب قال لي: كيف أتوجه للدين؟ قلت: غض بصرك فقط، أعظم شيء، قال: كيف أغض؟ قلت: إذا دعاك الشيطان إلى النظر فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هذه شهوة الزنا عن طريق النظر، هذه باب إلى الحرام، وعن طريق الاختلاط والتبرج والمجالس المشتركة وهذه والحمد لله بدأت تتلاشى في مجتمعاتنا المسلمة والحمد لله.
كان الناس في الماضي يختلطون ويجلسون، لكن اليوم سمعنا أن كثيراً من المؤمنين وقفوا وهداهم الله، وقالوا: إلى متى ونحن ضالون؟ إلى متى ونحن مع الشيطان؟ قد أخطأنا كثيراً، تبنا إلى الله، وفرضوا الحجاب والحمد لله.
إن البادرة الآن تأتي من النساء أكثر من الرجال، يتصل بي تلفونياً المئات من النساء، يقلن: بعلي يريد أن أكشف على أخيه، أو أكشف على ولد عمه، أأطيعه أم لا.
أقول: لا تطيعيه، قالت: يقول: سيطلقني، قلت: يطلقك، طلاقك وتدخلين إلى الجنة خير من أن تجلسي معه ويذهب بك إلى النار، لا يجوز أن تطيعيه؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإني لأعجب كثيراً والله من رجل يأمر زوجته بالتبرج، هي صالحة ومتدينة، يقول: لا.
تلفتي في الجماعة كلهم، أعوذ بالله من الدياثة، هذه جزء من الدياثة، إن الله جعل المرأة خاصة بك، من أجل ألا ترى غيرها ولا ترى غيرك، تستأنس بها وتستأنس بك، وتسكن إليها وتسكن إليك.
فالتبرج والاختلاط والتكشف والمجالس المشتركة، هذه مما حرمه الله في دين الله عز وجل؛ لأنه يؤدي إلى الزنا؛ ولأن البيوت النظيفة دائماً هي التي لا يوجد فيها أبداً اختلاطات، وقد يقول بعض الناس: ما عندنا زنا ونحن نتبرج، صحيح، ليس عندك زنا كبير، لكن عندك الزنا الأصغر؛ لأن زنا العينين النظر، وزنا اللسان الكلام، وزنا الأذن السماع، وزنا اليد البطش والغمزة والدقة، وزنا الأرجل المشي في ظلام الليل، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه، هذه هي، تريد أن تجلس إلى أن تقع في الكبيرة؟! بعض الناس يقعد ويقعد إلى أن يقع فيها، وهو يمشي في طريق الزنا خطوة خطوة والعياذ بالله! بل سدها من أول خطوة، وحجب أهلك، وحجب زوجتك، وحجب أخواتك، وحجب أمك، وارض بما أمرك الله به؛ لأن الله عز وجل شرع القرآن وشرع الحجاب في القرآن.
الأمر بالصلاة في القرآن، لكن أين التفصيل؟ هل في القرآن صلاة ظهر وعصر ومغرب، وأربع ركعات وثلاث ركعات، لا توجد، ولكن توجد في السنة النبوية، والزكاة أمرها في القرآن وتفصيل الأنصبة في السنة، والحج أمره في القرآن والتفصيل في السنة، والصيام أمره في القرآن والتفصيل في السنة، لكن الحجاب أمره في القرآن، والتفصيل في القرآن! في سورة النور يقول الله عز وجل: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] والبعل في الشريعة واحد.
{إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور:31] والأب في الشرع واحد، لكن بعض البنات تسلم على الشيبان كلهم: أبي محمد، وأبي علي، وأبي عبد الله، وأبي زعطان، وأبي فلتان، وتسلم على رأسه ويسلم على رأسها، وبعض كبار السن يحب هذا السلام، ولو كان مسناً ولكن ما زال في قلبه (أخضر) والعياذ بالله! ويدخل على البنات ويقول: تعرفين أني كالأب، والله أنت أبوها وأنت تنظر إليها لا حول ولا قوة إلا بالله! {أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] أبو بعلها أي: عمها؛ لأنه لا يجوز أن ينكحها بعد ولده.
{أَوْ أَبْنَائِهِنَّ} [النور:31] ولدها.
{أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] ولد بعلها من غيرها وهي عمته، لأنه لا يجوز له أن يتزوجها بعد أبيه.
{أَوْ إِخْوَانِهِنَّ} [النور:31] أخوها من النسب أو من الرضاع.
{أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ} [النور:31] أولاد أخيها وهي عمتهم.
{أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} [النور:31] أختها وهي خالتهم، يكفي إلى هنا، يبقى كثير من الأقارب؛ باقي ابن العم، وابن الخال.
وخال الزوج، وعم الزوج بالنسبة للمرأة.
وعندما سألوا الرسول قالوا: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ القريب الذي ما جاء أمر به، قال: (الحمو الموت، الحمو الموت، الحمو الموت) ونحن اليوم نحجب عن البعيد، ونكشف على الموت، هذا المتدين الملتزم أما المفلوت فهو يكشف على الموت وغيره، لكن من الناس من عنده دين وعنده غيره، لكنه يقول: والله لا أقدر أن أحجب امرأتي عن أخي.
سبحان الله! وبعض الإخوان يغضب إذا حجب أخوه زوجته عليه، إذا جاء ليحجب زوجته قال: الله! تشك فيّ وأنا أخوك، وهل معنى الحجاب أنه شك؟ لا يا أخي، أنا لا أشك فيك، لكني أطيع الله عز وجل، ولا أشك في امرأتي، لو أني أشك في امرأتي ما أبقيتها في بيتي، ولو أشك فيك يا أخي ما آخيتك، ولكن أطيع الله وأمتثل أمر الله في الحجاب، أترون الذي يقول: أنا لا أحجب امرأتي على أخي؛ لأني لا أشك فيها، مثله مثل شخص جاء رمضان وبعد ذلك أكل في الظهر حتى شبع، ويوم قلنا له: ما لك؟ قال: يا جماعة الخير اتركوني، أنا والله أطيع الله ورسوله، وأحب الصوم، لكن لماذا أعذب نفسي؟! أتغدى الآن والصوم في القلوب! ما رأيكم فيه؟ هذا مثل الذي يقول: الحجاب في القلوب، وآخر قيل له: صل، قال: الصلاة هذه تعب؛ أقوم أصلي وبرد وطلعة ونزلة والله إني لأحب الله ورسوله ولو لم أصل! ما رأيكم فيه صادق أم كذاب؟ فكذلك آية الحجاب مثل آية الصلاة وآية الصوم.
والذي يقول: لا والله.
إن الحجاب في القلوب وإن قلبي طاهر؛ ولكن لن أحجب عائلتي، لماذا تؤمن بآيات القرآن في الصلاة والصوم ولا تؤمن بآية الحجاب؟!! يقول(51/15)
حالات الاستعاذة من الشيطان
وأقول لكم في النهاية، ما الحل بالنسبة للإنسان الذي يريد ألا يقع في حبائل الشيطان؟ الحل: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، كيف؟ تستعيذ بالله في ثلاث حالات: - الحالة الأولى: عند ورود أمر الله عليك؛ إذا كنت نائماً وسمعت المؤذن يؤذن في أذان الفجر، فهناك: أمر بأن تصلي، وأمر آخر من الشيطان بأن ترقد.
أما يجد الإنسان نوعاً من هذا؟ كلنا نجد رغبة في النوم والكسل والتثاقل من الذي يثقلك ويكسلك؟ الشيطان، والذي يدعوك هو الله، من تطيع؟ الله، قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200] قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، واقفز كالحصان، واذهب توضأ؛ لأنه جاء في الحديث: (إن الشيطان يعقد على ناصية ابن آدم إذا نام ثلاث عقد: فإذا قام وذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت الثانية، وإذا صلى انحلت الثالثة، فأصبح طيب النفس نشيطاً، أما إذا رقد بال الشيطان في أذنيه وقال: نم، عليك ليل طويل) ويحدثني أحد الإخوة، يقول: عنده ولد فأيقظه وأخذه من الفراش (ودفدفه) إلى أن دخل الحمام، ويوم صلى وسلموا، تلفت يميناً ما رآه، وتلفت شمالاً ما رآه، وتلفت في الصفوف التي خلفه ما رآه، قال: عجيب، أقومه إلى الحمام ولا يأتي، فرجع الرجل وهو يشتعل غضباً والمشعاب في يده، قال: والله لأغلقن عليه وأضربه حتى يموت! هذا الرجل بطل، ما يضع البطانية عليه، ويقول: أرقد.
الله يطول عمرك ويبارك فيك، خاصة إذا معه راتب، ما يريد أن يكسر خاطره، لكن يُغضب الله، ما يريد أن يغضب ولده، ويقول: أكسر خاطره ويذهب ويتركني! دعه يذهب ويخليك؛ لأن الذي يرزقك هو الله من قبل، هو الذي يلقي الرزق عليك، أتتخذه ولياً من دون الله، والله ما في حياته بركة، ولا في راتبه بركة، والله إنه يقودك إلى جهنم، أخرجه وتبرأ منه ولو تأكل الطين، والله إنه أفضل من أن تأكل من راتب هذا العدو لله، القاطع للصلاة، الهاجر لبيوت الله عز وجل، فالرجل دخل عليه بالصميل ويوم أن جاء إلى الفراش يبحث عنه وإذا به غير موجود في الفراش، وتلفت من الشباك لينظر السيارة فلعله صلى في مسجد آخر، وإذا بالسيارة واقفة! ليس بالمسجد أو بالفراش أين هو؟ تلفت وتلفت، وإذا به يرى نوراً من تحت الباب في الحمام، فاقترب ليسمع شيئاً فلم يجد حركة، دق باب الحمام ودق وإذا به ينتبه قال: نعم نعم، ففتح الباب، قال: ما بك؟ قال: رقدت فوق الكرسي، لا إله إلا الله! مسكين، ما استعاذ بالله من الشيطان الرجيم.
في بيت الشيطان راح يصلي لإبليس، نعم؛ لأن الحمامات بيوت الشياطين والعياذ بالله.
استعذ بالله كلما ورد أمر لله، فلو علمت أن هناك ندوة في مسجد في ليلة جمعة وبعد ذلك أردت أن تأتي، وبعد ذلك أتاك شعور تقول: برد، قد طبخت المرأة العشاء، من أجل أن نتعشى قبل العشاء ونرقد بعد العشاء، والعيال مسرورون لا، تعال.
هذا من الشيطان، تعال اجلس، كلما أمرك الله بأمر ووجدت فيه مانعاً من الأمر فهذا من الشيطان، اذهب واستعذ بالله.
الحالة الثانية: عند ورود نهي، إذا عرضت عليك معصية؛ مررت بالشارع ورأيت امرأة متبرجة، فنظرت إليها، هذا من الشيطان غض بصرك، إذا لم يتركك الشيطان فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا سمعت أغنية وأنت تبحث عن الأخبار أو تقلب الراديو فأغلقها وقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وكلما ورد عليك نهي من الله فاستعذ بالله.
الحالة الثالثة: عند الغضب؛ لأن الغضب من الشيطان، أما ترون أن الإنسان إذا غضب كيف يتغير؛ أول شي ينتفض؛ لأن الشيطان اشتغل في عروقه، ثانياً: تخرج عروقه وقرينته تتحرك؛ الأوداج الكبار هذه، وبعد ذلك تبرز عيونه، وبعد ذلك تنتصب العروق في جبينه، وبعد ذلك تتصرف تصرفات خبل، إذا صورت تلك الحركات ورآها بعد ذلك تقول: انظر، قال: الله أكبر على إبليس، ما هو أنا، وفعلاً ما هو أنت بل الشيطان.
أما ترى الذي يطلق زوجته وهو غضبان، ثم يندم إذا تذكر بعد ذلك، يذهب يطرق أبواب القضاء والعلماء، من واد إلى واد ومن أرض إلى أرض، يريد فتوى، يقتل هو غضبان ثم يندم، يضرب أولاده ويلاعنهم، ويخاصم جيرانه وهو غضبان.
أخبرني أحد الإخوة اليوم في العمل، يقول: حضرت قصة؛ لأنه سمع شريطاً فيه من هذا الكلام، يقول: قصة والله أنا حضرتها بنفسي بين رجلين في قرية من القرى، رجل كبير السن ورجل شاب، يقول: وعندنا أن الشباب يحترمون الشيبان؛ في الماضي ما كان يستطيع الشاب أن يفتح فمه على شايب، لكن في قلة الدين وغمرة الدنيا أصبح لسان الشاب -والعياذ بالله- على كتفه؛ يسب الشيبان ولا يقدر كبيراً ولا يقدر أبداً شيبة، يقول: فجلس في المجلس، يقول: حضرت معهم وإذا بالشاب هذا منفلت بلسانه ومتعنت، يعطي الشايب هذا، أنت يا شيبة، يا يا، يقول: لما رأيت الرجل بلغ منه الغضب، قمت إليه، وقلت له: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال: لم يرض أن يتعوذ بالله من الشيطان، وبدأ يسب ويشتم، فما عرفت ماذا أفعل، وذاك الشايب بدأ يتكلم، فذهبت إلى الشايب فقلت: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقال الشايب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فبرد وسكت، ورجعت إلى ذاك: قل: أعوذ بالله، قل أعوذ بالله لم يقل، لكن يقول: كررتها عليه، حتى قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يقول: فلما قالها جلس، ويوم أن جلس قال: جزاكم الله خيراً، يقول: وهدأ وصلح والحمد لله.
فعليك إذا جاءك الغضب أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
أما ترى الإنسان الآن إذا غضب، ثم قلت له: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لا يقولها؛ لأن الشيطان معه في تلك اللحظات، ولو قالها لبرد، ولذهب الشيطان: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200] والله تعالى يقول: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:97 - 98].
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يحمينا وإياكم من همزات الشيطان، وأن يحفظنا وإياكم من السوء والشرور والفساد والإعراض عن الله تبارك وتعالى، وأستسمحكم العذر في الإطالة عليكم، أشير إشارة إلى أسئلة وردت هنا فقط.(51/16)
الأسئلة(51/17)
فضل الإنفاق في سبيل الله
السؤال
يوجد في المسجد مندوب هيئة الإغاثة الإسلامية فنرجو التنويه بفضل الإنفاق في سبيل الله، وإغاثة إخواننا المسلمين الفقراء في مشارق الأرض ومغاربها، الذين يموتون جوعاً ويموتون من البرد ويحتاجون إلى قيمة الغذاء والدواء والكساء في أفغانستان وفي فلسطين وفي أفريقيا؟
الجواب
نعم.
نحن في نعمة من الله، ومن المفترض علينا إذا أردنا أن نحفظ هذه النعمة أن نخرج منها، تريدون أن تبقى النعم؟ ما يبقيها إلا طاعة الله، فلنخرج من حقنا، قد كنا فقراء فأغنانا الله، وكنا عالة فأعطانا الله عز وجل، فنريد إن شاء الله أن يقوم الأخ الكريم المندوب معه كرتون عند الباب، وأخرج من جيبك، ولا تخرج من المسجد إلا بشيء، ولا تعمد إلى الدنيا ولا تأخذ خمسة أو عشرة، خذ أعلى شيء، لماذا؟ من تعطي؟ تعطي العرب؟ تعطي نفسك؟ {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة:272] {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60] أنت تضع المائة أو الخمسين، والله إنك تربح، والحديث صحيح تقول عائشة وقد ذبحوا ذبيحة قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (هل بقي منها شيء؟ قالت: ذهب كلها إلا كتفها -أنفقوها كلها إلا الكتف- قال: لا.
قولي: بقي كلها إلا كتفها) الذي ذهب هو الباقي والذي عندنا هو التالف، يقول الله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96].(51/18)
عاقبة عقوق الوالدين وقطيعة الرحم
السؤال
يقول: ما عاقبة عقوق الوالدين وقطيعة الأرحام؟
الجواب
عقوق الوالدين حرام، ومن عق والديه عقه أولاده، ويزيدون له قليلاً؛ لأنها كبيرة من كبائر الذنوب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر -والحديث في الصحيحين - فقال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين) ويقول الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] ويقول تبارك وتعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] ويقول: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36] إذاً ما هو العقوق؟ العقوق أن تقول لهم: أف، وأن ترفع صوتك عليهم، وتخالف أمرهم، وتتمرد عليهم، لو يقولون: دق مخ ساقك هنا، قل: حاضر، يقولون: قم نصف الليل، قل: حاضر، تعرفون الرجل الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين، جاء من المرعى -كان طوال يومه يرعى- وجاء وإذا بأبيه وأمه قد رقدوا، وحلب لهم وجلس بالقدح على رءوسهم وامرأته وأولاده يتضورون جوعاً عنده، قال: والله لا تشربون حتى يشرب أبي وأمي، والله لا أقومهم حتى يقوموا، فما قاموا حتى أتى الفجر، وهو واقف! طوال اليوم يرعى ثم يقف طوال الليل بالقدح، أين هذا يا إخواني؟ بعض الأولاد ليس فيه خير لا لنفسه ولا لأبيه والعياذ بالله.
وأما الأرحام فكذلك؛ فإن قطيعة الرحم مما يقطع الله به الرزق، والله عز وجل يقول: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23] فالذين يقطعون أرحامهم عليهم من الله اللعنة، وأيضاً يصم الله آذانهم ويعمي أبصارهم، لماذا؟ لا يرون الحق؛ عندما تقول له: أختك -قريبتك- قطعتها، قال: ما أدري عنها، ليست مني، إنها ذهبت مع بعلها وتركتني، إنها إنها هذا أصم، ما يسمع كلام الله، وأعمى الله بصيرته، فهذا والعياذ بالله (من قطع رحمه قطعه الله و) (لا يدخل الجنة قاطع رحم) (ليس الواصل بالمكافئ، الواصل الذي إذا قطعته رحمه وصلها) والحديث صحيح في مسلم، قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأعطيهم ويحرمونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، قال: إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل).
صل ولو أنك قد أخطأت، يا رجل (السماح رباح) إلى متى وأنت غضبان، وأختك غضبانة، أو قريبك أو جارك.
والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(51/19)
مفهوم العبادة
العبادة ليست شعاراً يرفع، بل هي هدف سام مرتبط بالعلم والعمل، وبدون العمل بالعلم، يصير العلم وبالاً على صاحبه، وكذلك العبادة بدون علم.
والأمة تعيش في جاهلية جهلاء، ولن يخرجها من جاهليتها إلا الاهتمام بالعلم الشرعي، ونشره في جميع الأماكن، وعلى مختلف الفئات الموجودة في المجتمع، حتى يتسنى لها عبادة الله العبادة الصحيحة كما يريدها ربها.(52/1)
سبيل استقامة القلوب وحياتها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله! إن حاجة الإنسان إلى سماع العلم والذكر أعظم من حاجة الأرض إلى نزول الغيث، فإن ذكر الله والعلم الشرعي هو غيث القلوب، وكما أن المطر هو غيث الأرض، فإذا انحبس المطر عن الأرض اغبرت، وأُجدبت وانقطع خيرها، وتغير لونها، وانعدمت فيها الحياة، وإذا نزل فيها المطر اخضرت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج، وتغير لونها، وطابت الحياة فيها.
كذلك قلوب الناس، إذا نزل عليها الذكر، والعلم الشرعي، لانت وانقادت وصلحت واستقامت، وطابت حياتها، بل الحياة الحقيقية في قلوب الناس إنما تنبع من مقدار استجابة الناس لهذا الدين، ليست حياة الناس كحياة البهائم، إن الحياة المماثلة لحياة الحشرات والبهائم حياة مشتركة، لكن للإنسان حياة أخرى غير تلك الحياة، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24].(52/2)
الإيمان والعمل الصالح
ما الذي يحيينا؟ الإيمان بالله، والاستقامة، والعمل الصالح وفق هذا الدين، هذا الذي يحيينا، بمعنى: أن الذي لم يستجب ليس بحي، هو حي لكن حياة البهائم، ويقول عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97].
قال العلماء: كيف يكون من عمل صالحاً وهو مؤمن؟ يقول الله أنه سوف يحييه حياةً طيبة، وهو حي أولاً، فكيف يحييه ربي؟ قالوا: كان حياً، لكن كان في حياة خبيثة، بهيمية، يشاطره فيها الحيوان، إنما بالإيمان يحيا حياة سماها الله طيبة.
ما هي الحياة الطيبة؟ هي حياة الجسد؟ لا.
حياة الأكل الشرب الملابس المساكن المراكب المناصب الرتب الوظائف؟ لا.
حياة الزوجات الأولاد إنها حياة القلوب.
ولهذا قال الله عز وجل بعد هذه الآية التي قرأتها أولاً: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24] إذا لم تستجب حال الله بينك وبين قلبك، وإذا حال الله بينك وبين قلبك فماذا تفعل له؟ يصبح كل عملك ضد نفسك، ولهذا يقول عز وجل: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] يصبح الإنسان عدوَّ نفسه، ينظر بعينه إلى ما يضره، ويسمع بأذنه ما يضره، ويمشي بقدمه إلى ما يضره، يمد يده إلى ما يضره، ويأكل ويطأ ما يضره، وكل ضرر يترتب على نفسه يحرص عليه.
وبعد ذلك! الأشياء المفيدة له يرفضها الصلاة تنفعه لا يريدها، لماذا؟ لأنها تنفع، هل هناك شخص في الدنيا يستطيع أن يقول: إن الصلاة تضر؟ لا يوجد.
هل هناك شخص في الدنيا يقول: إن قراءة القرآن تضر؟! لا يوجد، لكن لا يريدها لأنه عدو نفسه، لكن قراءة المجلات يريدها، هل هناك شخص يستطيع أن يقول: إن دخول المساجد يضر؟! وهل رأيتم شخصاً دخل المسجد يوماً من الأيام، وقيل له وهو على باب المسجد: ادفع أجرة الدخول؟! لا.
إن طاعة الله ليس فيها خسارة، بينما معصية الله تلحق ضرراً بالنفس والمال.
هل هناك شخص يدخل دور السينما أو ملاعب الكرة أو يشتري مجلة بدون مقابل؟ إن الواحد ليدخل النار بماله، يدفع المال على نفسه حتى يصل بها إلى النار -والعياذ بالله-.(52/3)
العلم الشرعي وذكر الله
يقول الله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24] فلا تحيا القلوب حياة حقيقية إلا بالعلم والذكر، وما يعانيه الناس اليوم من جفاف في الروح، وقسوة في القلب، وتحجر في العين، وكسل في الجوارح عن العبادة، ورغبة في الشر، وتوازن وكسل في الخير، سببه الأول والأخير نقص العلم.
بعضهم يمر عليه شهر لم يقرأ القرآن، وبعضهم تمر عليه سنة لم يحمل المصحف، ولا سمع كلمة الله، ولهذا أكد الله عز وجل على هذه الأمور تأكيداً عظيماً، حتى تستمر حياة القلب، ويضمن استمرارية حياة القلب، أَما أمرنا الله بالذكر، وشرع لنا أذكاراً في الصباح والمساء، وخطبة يوم الجمعة كوجبة أسبوعية للقلب، وأكد على ضرورة الإنصات فيها، لدرجة المنع من مس الحصى، تجلس والحصى بجانبك فلا تمد يدك عليه، والرجل بجانبك يتكلم لا تقول له: اسكت، وهذا أمر بالمعروف، لكن إذا قلت: اسكت فقد لغوت، ومن لغى فلا جمعة له، لماذا؟ لكي تستمر في التركيز الذهني على سماع الخطيب.
لكن ما الذي يحصل اليوم عند المسلمين، إلا من رحم الله؟ لا يخرجون إلى الجمعة إلا بعد أن يخرج الخطيب، فإذا بدأ الخطيب يخطب قام صاحبنا من النوم، واغتسل ولبس، وركب السيارة، وذهب إلى المسجد مع انتهاء الخطبة، ثم صلى ركعتين في الخانة، ثم رجع فتراه يقول: صليت الجمعة، إنه مسكين!! لم يعرف قدر الجمعة، أخي! لماذا لا تأتي من الصباح؟ كان السلف يخرجون في الساعة الأولى، ففي الحديث الصحيح: (من جاء في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن جاء في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن جاء في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً ومن جاء في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن جاء في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة) بعد خمس ساعات، الساعة الأولى من أول النهار، إن الذي يأتي بعد ذلك الوقت لم يقرب شيئاً؛ تطوى الصحف بما سجل.
لأنه إذا دخل الإمام طويت الصحف، والذي يأتي بعد دخول الإمام، لا يسجل من السابقين، يعني: أجزأته الجمعة؛ لكن هل هو من أهل الفضل والسبق، والعمل الصالح؟! إن الذي يأتي من أجل أن يباشر هذه العبادة، فإنه يقرأ القرآن، ويصلي ما شاء الله، ثم يهيء نفسه للاستماع للخطبة، وتلقي هذه البيانات الربانية.
ماذا يقول الخطيب؟ يبلغ عن الله أمره، ويقول للناس: اتقوا الله، ويبدأ بالحمد لله، ويشهد أن لا إله إلا الله، ويبين أوامر الدين، وأنت معني بهذه الأوامر، أجل هذه وجبة لك ولروحك، لكن وجبة الروح الآن ضائعة عند كثيرٍ من المسلمين، وترتب على هذا الضياع فراغ في حياة الناس، مُلئ هذا الفراغ بالأشياء الأخرى الضارة، مُلئ بالسهرات وبالأفلام والمسلسلات وبمتابعة للكرة والمباريات وبالجرائد والمجلات وبالنزهات والخروجات وو.
كأن الأمة لم تخلق للدين، إن حياة الأمة فراغ لكل شيء إلا الله! وإن في ترتيبات المسلم كل شيء إلا الله! وماذا يحصل بعد ذلك؟ يموت القلب، وإذا مات القلب -والعياذ بالله- انعدمت الحياة الحقيقية عند الإنسان، يقول الله تبارك وتعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122] بالدين، ويقول عز وجل: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر:19 - 21] ثم قال: {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22].
الذي في قبره وهو ميت جسده لا يسمع، الآن تعال إلى صاحب قبر واقعد بجانبه، هل يسمعك؟ كذلك هناك ناس الآن مدفونون؛ لكن ليسو مدفونين في الأرض، إنهم مدفونون في أجسامهم يقول الشاعر:
وأرواحهم في وحشة من جسومهم وأجسادهم قبل القبور قبور
إنه مقبور، إنه قبر يمشي على رجلين، قلبه ميت لا يذكر الله، لا يحب الله لا يحب رسول الله لا يذكر الجنة ولا النار ولا القبر ولا العذاب، كل شيء في ذهنه إلا هذه الأمور، وهو يعلم أنه سوف يموت، ولكن إذا مات ورأى الأمور على حقائقها حضر عقله، فيقول كما قال الله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] فتسأله الملائكة: لماذا تريد أن ترجع؟ فيبين لماذا يريد أن يرجع، فلا يقول: لأرى أولادي، أو وظيفتي، أو عمارتي، أو المزرعة أسقيها، أو السيارة أسير بها، لا.
لا.
هذا كلام لا يريده كله، عرف أنه كان مشغولاً بما لا فائدة فيه، وإنما يقول: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً} [المؤمنون:100].
حسناً اعمل الآن، ما الذي يضرك لِمَ لا تعمل، تضيع العمل الصالح، وتستمر في المعاصي والذنوب والغفلة عن الله، وتترك الطاعة، إلى أن يضرب رأسك في القبر، ثم تقول: ردوني أعمل صالحاً، من يجيبه؟ أتدرون ما مثل هذا أيها الإخوان، مثله مثل طالب مهمل من أول العام إلى آخره لم يحضر ولا حصة، ولا فتح كتاباً ولا يعرف حرفاً، ويوم جاء الامتحان دخل مع الطلاب لكي يمتحن معهم في القاعة، وأعطي ورقة الإجابة، فلما قرأها لم يعرف شيئاً، لأنه لم يدرس شيئاً أصلاً، لو أنه ذهب إلى مدير اللجنة وقال: يا أستاذ، قال: نعم، قال: من فضلك نصف ساعة، أذهب لأرى الإجابة ثم أرجع فأكتبها، ما رأيكم هل يوافقونه على طلبه؟ لا.
لا يوافقونه.
لو وافقوه هل يسمى هذا امتحان؟ سيقول له رئيس اللجنة: اقعد على رأسك، إن كان عندك شيء فاكتبه وإذا لم يكن عندك شيء فهذا نتيجة إهمالك، وهذا هو نفس الوضع، لو أن شخصاً يعيش طوال حياته على المعاصي، وإذا مات دخل القبر فقال: رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً، قال الله: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].(52/4)
أهمية العلم الشرعي
لماذا أيها الإخوة جفت الأرواح، وتحجرت العيون، وقست القلوب، واشتغلت الجوارح بالمعاصي، وكسلت عن الطاعات، كل ذلك بسبب نقص العلم الشرعي عند الأمة.
ولهذا فإن الله تبارك وتعالى أول ما أنزل من كتابه الأمر بالقراءة قال: اقرأ! والرسول أمي لا يقرأ، وأمية الرسول صلى الله عليه وسلم دليل من دلائل نبوته، إن الله لم يجعله نبياً متعلماً، لماذا؟ لأنه لو كان متعلماً وكاتباً وقارئاً لقال الكفار: هذا من بنات أفكاره، هذا القرآن من عنده ومن تأليفه، ولهذا قال الله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} لو قرأت وكتبت {إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] ولحصل الشك.
قال: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:49]، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمي، ويأتيه ملك الوحي، والحديث في صحيح البخاري، وهو جالس في غار حراء، وقد حبب إليه الخلاء صلوات الله وسلامه عليه، كان يخرج من مكة ويذهب إلى جبل النور، ويجلس في غار حراء الليلة والليالي ذوات العدد، وكان يتزود بالزاد معه، يجلس يومين أو ثلاثة أو أربعة أو أسبوعاً أو عشرة أيام وهو يتفكر لأنه ما كان يقر بعبادة الأوثان، وما كان يقر ما عليه قومه من الشرك، والكفر، والزنا، والخمر، والميسر، والقتل، كل هذه لم يقرها؛ لأن الله رباه تربية خاصة، فكان يجلس في الغار، فجاءه جبريل فضمه، يقول: (فغطني حتى نال مني الجهد -حتى بلغت نهاية التحمل- ثم أرسلني، ثم غطني، ثم أرسلني، ثلاث مرات، ثم قال لي: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ -الرسول ليس بقارئ، ماذا يقرأ؟ - قال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، قال: اقرأ ثلاث مرات، قلت: ما أنا بقارئ، قال: اقرأ -لكن قراءة خاصة قراءة ربانية- {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5]) إذن! الإنسان بغير القراءة والعلم لا قيمة له، الآن من منا يخفى عليه شئون الطعام أو قيادة السيارة أو الملابس؟ يعني: متخصصون في هذه الأشياء، لكن عندما تأتي إلى الناحية الشرعية الدينية، التي هي الهدف الرئيسي من خلقنا، أصبحت ثقافة الناس الآن ثقافة موبوءة، فلو طُلِبَ الإجابة على سؤال، وقيل مثلاً للحاضرين في أي مجتمع كان، لو نعزف لكم الآن طرفاً من أغنية، ونطلب من الذي يسمع العزف أن يبين لنا من المغني؟ ومن وضع الكلمات؟ والملحن؟ تجد مئات الأصابع ترتفع، كل واحد يقول: أنا أعرف، إنها أغنية فلان، ولحنها فلان، لماذا؟ ثقافة موسيقية ضخمة، لأنه منكب على الأغاني ليلاً ونهاراً، مشغل جهاز الصوت في السيارة على الأغنية، ويدخل البيت على الأغنية، وينام على الأغنية، ويستيقظ ويقوم عليها، حتى أصبح رأسه أغنية، حتى إن بعضهم لا يكتفي أن يغني هو، لا.
بل يريد أن تغني الدنيا كلها.
وقد ذكرت هذا مرة، كنت مرة في أبها ووقفت عند إشارة مرور، وإذا بشخص بجانبي صاحب سيارة منذ أن وقف شعرت أن سيارتي تهتز، أصبحت ترقص، فطالعت كذا، فإذا بالرجل مركب في سيارته استريو على الأبواب، وفي المقدمة والخلف، ويرفع الصوت على آخر شيء، فكأن السيارة كلها تهتز، وسيارتي كأنها أصيبت بالعدوى؛ لأنها معه على أرضية واحدة، فأنزلت الزجاج وسلمت عليه، فطبعاً رآني ورأى شكلي، استحيا فخفض الصوت، قلت له: ما هذا الضجيج، قال: أيش، قلت: سيارتك ترقص كلها، يعني: لم تكتف بأن ترقص أنت، حتى الحديد تريده يرقص، بل رقصتني وأنا جالس بجانبك يا أخي! قال: يا شيخ! والله إنك تعرف الشباب، قلت: لا يا أخي! يعني شباب للنار، اتق الله، الأمة نضجت، الأمة شبعت من الأغاني، ما ضيعنا القدس إلا بالأغاني، وما حاربتنا إسرائيل إلا بجيش من المغنين والمغنيات، نحن أمة الجهاد، والدعوة، والكتاب والسنة رائدة قائدة، لسنا أمة مغنية وتافهة رخيصة، فلما قلت له هذا الكلام قال: جزاك الله خيراً، ثم أعطيته أشرطة إسلامية.
الشاهد في الموضوع: أن ثقافة الناس مثل هذه النوعية، لكن لو تأتي بآية وتقول له: هذه الآية في أي سورة من كتاب الله؟ من يعرف؟ يتلفتون ولا يعرف أحد منهم، ابحثوا لنا عن مطوع يعرفها، وأنت؟! يعني: الدين خاص بالمطوع فقط؟ لو سألناك: أيش ديانتك؟ تقول: مسلم، حسناً هذه السورة من الإسلام، هذه من كتاب الله، هذا دينك، لكن للأسف لا يحفظ من كتاب الله شيئاً، وإنما يحفظ الأغاني، والرذائل، والحكايات، والعلوم، وأسماء المغنيين، وأسماء اللاعبين، وكل شيء إلا الكتاب، فلا يحفظ منه شيئاً، كيف يأتيه الدين أيها الإخوة؟!(52/5)
الداعية واغتنام الفرص
يقول أحد الإخوة -وقد كان في قاعة أفراح- يقول: دخلت قاعة الأفراح، وإذا هي مملوءة بالرجال، وكل واحد يتكلم مع الذي بجواره، وهم ينتظرون العشاء، يقول: فتدخلت، وقلت: هذا وقت ضائع يستفاد منه في الدين، فقال للناس وهم جلوس: يا جماعة الخير، الآن نعيش هذا الوقت في انتظار العشاء، فما رأيكم لو استفدنا من هذا الوقت؟ قالوا: جزاك الله خيراً، قال: كلكم والحمد لله مسلمون، وسمعتم من الخطب، والمواعظ، والمحاضرات، والدروس الشيء الكثير، منذ خلقنا الله ونحن نسمع، الآن أطلب منكم شيئاً واحداً، قالوا: ما هو؟ قال: أريد من كل واحد منكم أن يأتي بحديث مما يعرف من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقط حديث واحد، هل أنتم مستعدون؟ قالوا: مستعدون، قال: ونبدأ الآن من جهة اليمين.
وبدأنا بشخص من جهة اليمين، من غير ترتيب، هذا الشخص طبعاً يبحث ويبحث، قال: يا شيخ! فاجأتني الآن لا أعرف حديثاً واحداً، يمكن عنده لكن حين فاجأه لم يتذكر، قال: تدري يا شيخ، قال: ماذا.
قال: انقل السؤال للذي خلفي، فنقل السؤال للذي وراءه، قال: هل عندك حديث؟ ظل يفكر، ثم قال: الذي ورائي، والذي خلفه قفز وهرب كي لا يلحقه السؤال، وكل شخص بدأ يتهرب ويبحث، وفجأة الذي بعده وجد حديثاً واحداً بعد ساعة، حسناً هذه أمة الإسلام لا تعرف أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؟(52/6)
ضرورة نشر العلم بين جميع فئات المجتمع
أين تجلس الأمة؟ ألا يوجد في البيت حلقات علم ألا يوجد في العمل حلقات علم، ألا يوجد في المسجد حلقات علم، قولوا لي أيها إخوة: من هو المسلم الذي في كل ليلة بمجرد أن ينتهي من العشاء، ينادي زوجته وأولاده وبناته، ثم يقول: اجلسوا، وقام بإحضار كتاب رياض الصالحين، ليعرفوا ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليهم الحديث الأول وقال لهم: احفظوه كلكم بالشرح، قالوا: ننام على الحديث، أين هم هؤلاء أيها الإخوة؟ إن شاء الله يكن لهم وجود ولكنهم قلة، نحن لا نريدهم قلة بل نريدهم أغلبية، نريد حلقات العلم تنتشر في كل صقع، وبقعة، وبيت، ودار، وعمل، أين الزميل الذي يرفع السماعة على زميله: السلام عليكم، صبحك الله بالخير، كيف حالك يا أخي، يا أخي والله البارحة قرأت حديثاً للنبي صلى الله عليه وسلم، إنه حديث عظيم، اسمع هذا الحديث ثم يقرأه عليه، وذاك يسمعه ويسجله، ويرفع السماعة لشخص آخر ويسمعه الحديث.
لكن للأسف فإن الذي يحصل الآن السلام عليكم، هل رأيت الفيلم ليلة أمس؟ الله! نهاية حزينة للبنت، مسكينة، والله يا أخي لقد توترت أعصابي، وما جاءني نوم ليلة أمس، والمرأة والأولاد يبكون، هذا والفيلم كله كذب في كذب، أصل المسلسل هذا تمثيل، ما معنى تمثيل؟ يعني: كذب، عندما آتيك وأتظاهر لك بأني معوق.
تقول: ما بك إنك تمثل، وتضحك عليَّ، أنا أعرفك ليس فيك شيء، فكذلك هذا الممثل، يضحك على عقول الناس، ويجلس الواحد مشدود الأعصاب طوال الليلة.
إنه كاتب روائي كذاب فعل القصة، وأتى بكذابين، وقال: طبقوها في الواقع، وظلوا شهرين يتدربوا عليها وجاءوا يضحكون على الناس، أفتكون ثقافتنا إلى هذه الدرجة الهزيلة؟ وهل أتتلمذ على هؤلاء؟! مصيبة أيها الإخوة!! فبدلاً من المسلسل الذي تجلس تنظر إليه، قم بإحضار رياض الصالحين، فإذا انتهيت من رياض الصالحين أو قبل ذلك تناول الكتاب الكريم، ثم قل: تعال يا ولدي اقرأ لنا من قول الله عز وجل: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:1 - 3].
هذه السورة احفظ منها ثلاث آيات، وأنا أحفظ منها ثلاث آيات، ثم قم بإحضار تفسير ابن كثير، أو إحضار أيسر التفاسير للجزائري، وتأمل ماذا يقول الله في هذه الآيات؟ ما معنى: (والفجر)؟ معناها: يقسم الله بالفجر.
ما هي الليالي العشر: أهي العشر من ذي الحجة، أم العشر الأخيرة من رمضان؟ (والشفع والوتر) ما هو الشفع والوتر؟ لو تسأل الآن أطرف شخص من المسلمين تقول: ما معنى قول الله عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:1 - 3] كم قد قرأنا هذه السورة؟ قرأناها آلاف المرات، ما معنى غاسق إذا وقب؟ من يدري ما معنى غاسق، وما معنى وقب، لماذا؟ لكن لو سأله عن أي سؤال آخر فإنه قد يجيب، أفيليق هذا -أيها الإخوة- بالأمة، أمة الإسلام والإيمان، الله تبارك وتعالى سيسألنا عن هذا الدين، الله يقول: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93].
ويقول في آية ثانية: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6] ويقول عز وجل: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:24] سيسألنا الله عن هذا الدين، وسيشكونا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله يوم القيامة: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30] القرآن مهجور في قلوب الناس وحياتهم، مهجور هجر تلاوة، وتطبيق، وعمل، واستشفاء، والتحاكم والرجوع إليه، وموجود هناك في البيوت من أجل البركة، وإذا قرأ الواحد في المسجد قرأ قراءة لا يدري ما أولها وما آخرها.
تدخل يوم الجمعة المسجد، تجد الناس يقرءون، لكن قف عند واحد وأغلق المصحف، وقل له: السلام عليكم كيف الحال؟ أنت تقرأ جزاك الله خيراً، فإني سائلك ماذا أمرك الله به، من حين بدأت القراءة إلى الآن ما هي الأوامر التي أمرك الله بها في الآيات التي قرأتها؟ يقول: لا أدري.
ما الذي نهاك الله عنه؟ ما الذي أخبرك الله به؟ لأن القرآن ثلاثة أشياء لا يخرج عنها: إما أمر، أو نهي، أو خبر.
أما أمر الله فمثل قوله: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام:72].
أو نهي: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء:32].
أو خبر: يخبرك الله عن الجنة، أو النار، أو الأمم، أو الرسل، أو الأنبياء.
هذه أخبار الله.
فمقتضى الأمر الاستجابة، ومقتضى النهي الابتعاد والانزجار، ومقتضى الخبر التصديق، فأنت تقرأ كلام الله، وفيه أمر الله لكن لا تعلم ما الذي أمرك به، لماذا؟ لأنك تقرأ بدون قلب، الواحد يقرأ وهمه آخر السورة متى ينتهي منها، يعد الورق، ليس همه أن يعلم ويتعلم، همه آخر الجزء، هذه الأمور أيها الإخوة! أمور خطيرة جداً، لا بد أن نراجع حياتنا وحساباتنا، وكيف نتعلم العلم الشرعي، حتى تحيا به هذه القلوب.(52/7)
تعدد وسائل نشر العلم الشرعي
عند إعادة الحلقات، والثقافة الإسلامية، فإنه قد هيأ الله تبارك وتعالى للناس من الفرص والإمكانيات ما لم يكن مهيئاً في الماضي، الآن أساليب طلب العلم الشرعي معك، تشتري الشريط بأربعة أو خمسة ريالات، وتذهب إلى البيت وتشغله.
يشتغل ما لم تغلقه، ما يغضب عليك، ولا تعشيه ولا تغديه ولا ترحب به ولا شيء.
من يمكن يدرس أهلك في البيت بخمسة ريالات، لو أخذت عالماً تقول: والله يا شيخ! تعال أريدك، فإنه يشغلك: يريد عشاءً، ومبيتاً، ويجلس يتكلم مع المرأة، وإذا أسكته غضب منك، لكن لا! شريط بخمسة من الريالات، فيه محاضرة تسمعها أنت وأهلك، ومتى تسمع؟ إذا لم تتمكن من الاستماع في البيت، وذلك لوجود بعض الموانع، فخذ زوجتك معك في السيارة وأسمعها الشريط؛ لأنها لا تستطيع أن تستمع مع وجود الأطفال.
وتشتري الكتيب! الآن الكتيبات هذه يسمونها الوجبات السريعة، لأن عصرنا هذا عصر السرعة، لأنه لا يستطيع أحد أن يقرأ في المجلدات، ولذلك فقد قام العلماء وطلبة العلم باختصار هذه المواضيع، وتقديمها كتيبات للناس، عندما تدخل المكتبة تخرج مالاً من جيبك، وتشتري مجموعة من الكتب في جميع الفنون بمائة، تبني مكتبة بقيمة كبش، الكبش بأربعمائة ريال، لكن لم تشغلنا إلا بطوننا.
أنا سألت أحد الأشخاص قلت له: يا أخي كم مضى عليك من حين اشتريت شريطاً؟ قال: من العام الماضي، معه شريط بخمسة خلال سنة، لعله سمعه مرة ورماه.
قلت: حسناً واللبن متى اشتريتم؟ -اللبن بأربعة ريالات- قال: أشتري كل ليلة علبتين بثمانية ريالات، يشتري لبناً كل يوم بينما في السنة شريطاً واحداً بأربعة ريالات، كم أعطينا للروح وكم أعطينا للجسد؟ للجسد تسعة وتسعون في المائة من الراتب، وللروح واحد في المائة، وليته يصفى حتى الواحد في المائة.
إن من النافع والمفيد أن نستمع إلى الشريط الإسلامي، ونقرأ الكتاب الإسلامي، ونسمع إذاعة القرآن الكريم، وقد هيأ الله عز وجل في بلدنا المبارك هذا إذاعة متخصصة في نشر الدين الإسلامي، اسمها (إذاعة القرآن الكريم)، تفتتح برامجها الساعة السادسة صباحاً، وتختتم برامجها الساعة الثانية عشر مساءً، ثمانية عشر ساعة، تبث بدون توقف لا تبث كلمة فيها شر.
حتى الموسيقى التي تأتي قبل الأخبار، ممنوعة فيها فلا توجد، ليس هناك إلا قال الله، قال رسوله، وبرامج إسلامية، هذه اعتبرها مدرسة في البيت بل كما قال ابن باز -رحمه الله-: إنها جامعة.
لكن هذه المدرسة نسميها الإذاعة اليتيمة، لا أحد يحبها إلا من رحم الله، وإذا جاء المؤشر على إذاعة القرآن، تراه يحرك المؤشر على إذاعة أخرى، تبث الأغاني والموسيقى.
أمة هزيلة مريضة، المريض لو تعطيه الشحم لا يأكل منه؛ لأنه مريض لكن لو كان صحيحاً، لكان مثل البعير، يأكل الأخضر واليابس، الأمة يوم أن كانت حية، كانت تقبل على القرآن والسنة والعلم، لكن لما مرضت، ذهبت نحو الأطعمة السامة، أقبلت على الأغاني، والمسلسلات، والأفلام، والخزعبلات، وإذا جيء لها بالقرآن وبالسنة أعرضت عنهما، والسبب في ذلك أمراض القلوب، التي تؤدي عند الاستمرارية إلى موت القلوب -والعياذ بالله-.
فيا إخوتي في الله! أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجزي خيراً من سعى إلى إنجاح هذا المجلس، وهم الإخوة القائمون على التوعية الإسلامية في سلاح الحدود، والمسئولون عنها، هؤلاء يدركون أهمية هذه الدورس، ويعرفون قيمة الدعوة، وضرورة حياة القلوب عن طريق العلم الشرعي.(52/8)
الطريق إلى السعادة الحقيقية
وأنا أقول لكم أيها الإخوة: إذا أراد الإنسان منا أن يحيا الحياة الإيمانية الحياة الحقيقية الحياة التي تكسبه السعادة في الدنيا والآخرة يسعد في هذه الدنيا بالإيمان ويسعد عند الموت حينما يموت وهو يقول: لا إله إلا الله ويسعد حينما يدخل القبر، ويجيب على الأسئلة؛ لأنه تعلم الإجابة في الدنيا فإذا قيل له: من ربك؟ فإنه قد عرف من هو الله، ما دينك؟ من نبيك؟ فتراه يجيب، هنالك يقول الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
ويكون من السعداء يوم تقوم الساعة، ويخرج من قبره، والملائكة تطمئنه، وتقول له: {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:98 - 72].
ليس بما كنتم تلعبون وتسهرون، إنه لمن العبث -يا أخي- أن تضيع عمرك في السهر على الورق، بعضهم يمضي أربع أو خمس ساعات من بعد العشاء إلى الفجر، وهو يلعب الورق، والنهاية ماذا؟ قال: والله خسرت، هل هذا كلام؟؟ لو رأيت أولادك يلعبونها مع أنهم أصحاب قيم، وأصحاب مبادئ، وأصحاب مراتب، وأصحاب رتب فماذا تقول لهم؟ تقول: والله كنت أحسب أنكم رجال، لكن وجدتكم أطفالاً، يا أخي! هذه ليست لكم، هذه مكعبات، الغرض منها إلهاء الأولاد؛ لأن الولد لا يستطيع أن يبني بيتاً كبيراً، فتراه يبني له بيتاً صغيراً على قدر عقله ومعرفته، لكن أنت أيها العاقل! لماذا لا تشتغل بحفظ كتاب الله؟ والله إنه لمن العار على الواحد أن يكون عمره أربعين أو خمسين سنة ولا يحفظ جزء عمّ، وإذا قدم للصلاة خبط في الآيات، أين أنت طول حياتك؟ لماذا لم تحفظ كتاب ربك؟ ما الذي أشغلك عن الله تبارك وتعالى؟ ولكي نحيا الحياة الحقيقية، ونسعد السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة، علينا بالرجوع إلى العلم، وطلبه، والعمل والتطبيق، فيما نتعلم من شريعة الله عز وجل.
وحتى يمكن وضع برنامج، أو تصور بسيط لطلب العلم، نبدأ بالبدايات البسيطة:(52/9)
حفظ كتاب الله وتفسيره
أولاً: يبدأ الإنسان بحفظ جزء عمَّ، من سورة الناس إلى عمَّ يتساءلون، وهذا بإمكان الإنسان أن يحفظه خلال شهرين، ولا يتم الحفظ إلا على يد من لديه القدرة على ضبط قواعد التجويد، يعني: ليس هناك مانع، من أن يجتمع ثلاثة أو أربعة من الزملاء يتعارف بعضهم على بعض، وبعد ذلك يحددون لهم جلسة، إما في سكن أو بيت، وكل ليلة يجلسون عند واحد، وليس بالضروري كل ليلة، بل حتى ليلة في الأسبوع، أو ليلتين في الأسبوع، ويجلسون على كتاب الله.
من خلال جلوسهم مع بعضهم، يتعرفون على المتقن منهم، فيكون هو الذي يصحح لهم التلاوة ويبدأ كل واحد منهم الحفظ، ويسمعون لبعضهم البعض ما حفظوه، الله أكبر! (ما جلس قومٌ في مجلسٍ يقرءون القرآن ويتذاكرونه إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) لكن: (ما جلس قومٌ في مجلسٍ لم يذكروا الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم هذا المجلس ترة ومسئولية يوم القيامة).
فكم من مجلس نجلسه الآن نقوم منه عن مثل جيفة حمار؟ وكم من مجلس نقوم منه وقد حفتنا الملائكة؟ فأول شيء حفظ جزء عمَّ، بعد حفظ جزء عمَّ، مراجعته بالتفسير، وأحسن كتاب أدلكم عليه هو كتاب في خمسة مجلدات للشيخ أبو بكر بن جابر الجزائري اسمه أيسر التفاسير، وهذا الكتاب ألف بطريقة حديثة، ومختصر من جميع كتب التفاسير، ومبوَّب بطريقة منظمة، يأتي بالآيات، ثم يشرح المفردات، ثم المعنى الإجمالي، ثم يأتي بالأحكام والهدايات التي هدت إليها هذه الآية، إنه عظيم من أعظم ما أُلف في التفسير، تقرأ الآية وتقرأ تفسيرها وانتهى الموضوع.
أكملت جزء عمَّ، انتقل إلى جزء تبارك، أكملت جزء تبارك، انتقل إلى جزء قد سمع، انتهيت من قد سمع، أكمل حفظ المفصل إلى سورة ق، ما شاء الله، أصبح عندك المفصل حفظاً وتفسيراً، إنك بهذا تصبح عالماً إن من يحفظ المفصل وتفسيره، يصير عالماً، هذا في القرآن الكريم.(52/10)
حفظ الأحاديث النبوية
ترجع بعد ذلك إلى كتب السنة، وأحسن كتاب ندل الناس عليه هو كتاب رياض الصالحين، وله شرح في مجلدين، اسمه نزهة المتقين لشرح رياض الصالحين، أيضاً مؤلف عصري، ألفه مجموعة من الدكاترة، من أصحاب العقيدة السليمة، تأخذ الحديث وتجد فيه نفس الأسلوب، شرح المفردات والشرح الإجمالي والأحكام.
وكل يوم تقرأ الحديث مع إخوانك، وزوجتك، وبعد ذلك أخذت اليوم حديثاً، وليكن الحديث الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) هذا في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، تعرف على معنى الحديث ثم قم بترديده، ترجع إلى البيت فتعلم زوجتك، اجعل ولدك يردده، ما يمر عليك اليوم الثاني إلا وقد قلته عشرين أو ثلاثين مرة، وبعد ذلك يكون قد انطبع في ذهنك، ثم الحديث التالي ثم التالي وهكذا.
لكن بعضنا الآن تمر عليه السنة، وما حفظ فيها حديثاً واحداً، لكن لو أنك كل يوم تحفظ حديثاً، كم ستحفظ في السنة؟ ستحفظ ثلاثمائة وخمسين حديثاً، رياض الصالحين فيه من الأحاديث ألف وتسعمائة، يعني خلال أربع سنوات نحفظ رياض الصالحين، إذا حفظنا كل يوم حديثاً، الآن من الكبار لم يحفظوا إلا رياض الصالحين، وبلوغ المرام، فإذا حفظوا هذين الكتابين، بلوغ المرام في أدلة الأحكام، ورياض الصالحين في فضائل الأعمال، لم يبق شيء في الدين، كل الدين محفوظ، فما عليك إلا أن تحفظ يومياً حديثاً مع شرحه.(52/11)
التفقه في دين الله
ترجع بعد ذلك إلى كتب الفقه الإسلامي من أجل أن تعرف كيف تعبد الله؟ كيف تصلي وتصوم وتحج وتتصدق وتتعامل؟ لا بد من فقه، هناك كتاب اسمه: السلسبيل في معرفة الدليل، هذا الكتاب يشرح أدلة زاد المستقنع، وهو مختصر في فقه الحنابلة، ومقرر على الطلاب في المعاهد العلمية، وشرحه الروض المربع المقرر على الطلاب في كلية الشريعة، لكنه مشروح بتوسع، فالشيخ الذي ألف الكتاب هذا رجل صالح.
ألفه بالدليل، يأتي بالمسألة، والدليل عليها كذا وكذا، ثم يأتي بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، هذا ما شاء الله! فلو أنك أخذت كل يوم صفحة مع نفسك، مبتدئاً بباب الطهارة وأقسام الماء، فإنك تجد أنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر، ونجس، ما هو الطاهر؟ ما هو الطهور؟ ما هو النجس؟ متى يتنجس الماء؟ هذه أحكام فقهية، يجب أن نعرفها، بعض الناس يا إخواني! زوجته معه منذ عشر سنوات، ومع ذلك لا تعرف كيف تغتسل من الجنابة!! ولا تعرف أحكام الحيض!! وإذا جاءها الحيض تقعد بعد الحيض يومين أو ثلاثة لا تصلي، وهي لا تدري، وإذا تركت صلاة واحدة كفرت، من ترك صلاة واحدة من غير عذر فقد برئت منه ذمة الله، لكن لا تدري، تقول لها: لماذا لا تصلين؟ قالت: أريد أن أطهر، وهي قد طهرت منذ أسبوع، لكنها تريد أن تهرب من الصلاة، وزوجها لا يدري، لكن لو يدري أنها لم تصلح الغداء في يوم من الأيام كسر ظهرها؛ لأنه يريدها تطبخ له، لكن تتعلم الدين هذا لا يهمه، لأننا ما يهمنا إلا الأمور المادية -والعياذ بالله- هذا الكتاب الثالث اسمه السلسبيل في معرفة الدليل.(52/12)
العلم بعقيدة أهل السنة والجماعة والسيرة النبوية
الرابع: كتاب في العقائد، لكي تكون عقيدتك قوية، وأحسن كتاب ندل عليه الناس الآن، كتاب اسمه: معارج القبول في شرح سلم الوصول للشيخ/ حافظ الحكمي، عالم من علماء المملكة توفي رحمة الله عليه، وهو من أهل المنطقة الجنوبية، من أهل جيزان، عالم عظيم، ألف رسالة اسمها سلم الوصول، ثم قام بعد ذلك بشرحها في مجلدين وهو موجود في الأسواق، أو في ثلاثة مجلدات كما في بعض الطبعات، تأخذ منه عقيدة أهل السنة والجماعة.
أيضاً كتاب خامس، ينبغي أن يكون عندك، وهو في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب اسمه مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للشيخ/ محمد بن عبد الوهاب، هذا مختصر سيرة الرسول، يأتيك بجميع أحداث السيرة وأسرارها، والمعاني المقتبسة منها، تضع هذه الخمسة الكتب عند رأسك.
وتأخذ بعض الكتب الأخرى مثل: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لـ ابن القيم لأنه علاج القلوب، يبين لك أسباب المعاصي، وعقوبات المعاصي، وزاد المعاد في هدي خير العباد لـ ابن القيم يبين لك هدي النبي صلى الله عليه وسلم، يعني أنا أضمن أن تشتري هذه الكتب كلها بما لا يزيد عن مائتي ريال، يعني: بقيمة نصف كبش، تكوِّن مكتبة إسلامية عند رأسك، وتتعلم وتعلم زوجتك، وأولادك، وينور الله بصيرتك، ويحيي الله قلبك، وتصبح إنساناً مرموقاً، تصبح لك أهمية، تصبح ثقافتك ثقافة إيمانية، لك قيمة، ووضع، ومعنى في الحياة.
لكن بغير العلم والدين ما هي قيمة الإنسان؟ والله ليس له قيمة، ولا له أي معنى، لماذا؟ لأنه تافه، لأن اهتماماته تافهة، وأمانيه تافهة، اهتماماته كلها، أن يأكل ويشرب ويتزوج ويرقد، هذه اهتمامات الكفار التي يعملونها ويسعون لتحقيقها، لكن عندما تكون اهتماماتك من النوع الإيماني، أن تعبد الله، وتدعو إلى الله، وتستقيم على منهج الله، وتربي أهلك على طاعة الله، وتربي أولادك لتخرج للمجتمع رجالاً فضلاء ينفعون الناس.
لكن بعض الآباء لا.
لا يهمه إلا أن يأكل ويشرب، بل يخون الأمانة، ويورد على أهله الشر، وبلغ الناس مبلغاً لا يتصوره العقل، لا يمكن أن رجلاً عاقلاً يخاف الله، ويؤمن به يشتري صحناً للاستقبال، والبعض يسميه طبقاً، وفعلاً هو طبق الشيطان، أحضر الشيطان في هذا الطبق، جميع الشرور الموجودة في العالم، وأفلام الجنس والمسلسلات الخليعة التي تبث في العالم كله يجمعها هذا الطبق، طبق الشيطان.
ويحضرها لأولاده وزوجته فتراهم يتنقلون عبر الموجات عن طريق الزر، ينتقلون عبر هذه القنوات فلا يجدون إلا الشرور، يقول شخص من الناس: أدخلته إلى البيت فأفسد عليَّ الأسرة في شهرٍ واحد، ولدي والله كان ترتيبه الأول، بعد إدخال هذا الصحن الخبيث وبعد شهر، صار ترتيبه الحادي عشر، والشهر الثاني يطردونه من المدرسة، يقول: آمره بالنوم فيتناوم، وبعد ذلك أذهب كي أنام، وإذا به يقوم ولا ينام، أراقبه في الصباح فإذا به عند التلفاز، بل يقول: أنام أنا بنفسي، وزوجتي بجانبي وأعلم أنها بجانبي، يقول: وأقوم نصف الليل، وأتلفت ولا أجد زوجتي، ذهبت لمشاهدة الفيلم، هربت وذهبت تنظر إلى المسلسل.
مصيبة يا إخواني! أليس هذا من خيانة الإنسان لدينه وتضييعه لأمانته؟ والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] كيف تقيهم النار؟ بتعليمهم الشرع والدين: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] ليست حطباً ولا خشباً، بل هي حجارة؛ حجارة النار من الكبريت، لما سئل النبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! أحجارة النار مثل حجارة الدنيا؟ قال: والذي نفس محمدٍ بيده! لصخرة من صخر النار أعظم من جبال الدنيا بأسرها) هذه التي تشتعل على الكافر في النار، والفاسق والعاصي، عليها ملائكة موكلون بالتعذيب، من هم؟ {مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} [التحريم:6].
غلاظٌ في التعامل، شداد في الخلقة، يقول: لو أخرج واحد وجهه على أهل الأرض لماتوا من تشويه خلقته، وليس عندهم مجاملات ولا حسابات: هذا من الجماعة، ولا ينفع هاتف، ولا شيء: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
تورد أهلك النار؟ الله يقول: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] وأنت تورد نفسك وأهلك النار، وتشتري ما يقودك إلى النار؟ قولوا لي بربكم أيها الإخوة: هل الذي يعرض في هذه الأطباق والصحون خير أم شر؟ شر.
وهل نحن بحاجة إلى شر حتى نستورد الشر، لا والله، نحن نحتاج إلى الخير، ولا نحتاج إلى الشر.
هذا وأسال الله الذي لا إله إلا هو، أن يجزي من كان سبباً في إقامة هذا المجلس خيراً، وأن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يحيي قلوبنا بنور العلم والإيمان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(52/13)
علامات الساعة المتبقية [1]
تحدث الشيخ في أول المحاضرة عن محبة الله وكيفية حصولها، وذكر الأعمال المؤدية إليها من ترك المعاصي والقيام بالأوامر، وضرب على ذلك أمثله من بعض الأعمال، ثم بدأ بالحديث عن علامات الساعة المتبقية، وذكر منها عودة جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً، وانتفاخ الأهله، وتكليم السباع والجمادات للناس، وإخراج الأرض لكنوزها.(53/1)
أسباب محبة الله
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
نعمة تحبيب الإيمان وتزيينه في قلب المؤمن وتبغيض الكفر والفسق والعصيان، وكون الإنسان راشداً في كل تصرفاته، وفي كل ما يأتي ويذر هذه النعمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه ذكرها الله، في سورة الحجرات، فيقول ربنا عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7].
وهذا التحبيب للإيمان والتزيين له في قلب المؤمن، والتبغيض للكفر، يقابله في الجانب الآخر في قلب الكافر والفاسق والمنافق والعياذ بالله أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان، ويكره الإيمان ويبغض طريقه وأهله، وهذا هو الضلال بعينه.
وحتى تكون ممن حبب إليه الإيمان، وزين في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان؛ لا بد من أشياء تسبق هذا الأمر، ولا بد من سلوك تسلكه، وطريق تسير فيه، وجهود تبذلها، وأسباب تتعاطاها، فإذا علم الله منك صدق الإخلاص، وقوة الطلب، وحسن المتابعة؛ قذف بعد ذلك النور في قلبك وهو معنى حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم.
فهذا لا يأتي مباشرة من الباب، فلابد أن تبذل جهداً كبيراً حتى يصل هذا الأمر إلى قلبك، ومعنى هذا الأمر جاء صريحاً وواضحاً في الحديث القدسي الذي يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى، والحديث في صحيح البخاري: (ما تقرب إليَّ عبدي بعمل أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه) فالله يحب منك شيئاً وهو الفريضة، وأيضاً حتى يحبك لا بد أن تأتي بالنافلة.
فهو يحب منك العمل وهو الفريضة، ولكنه لا يحبك أنت إلا إذا تقربت إليه بالنوافل: (فإذا أحببته -إذا تقرب إليَّ بالفرائض ثم تقرب إلي بالنوافل، ثم حصلت له المحبة من الله- كنت سمعه الذي يسمع به) لا إله إلا الله! أي تكريم أعظم من هذا أن تسمع بالله، وأن يكون سمعك مسدداً، فلا تسمع إلا ما يرضي الله، ويكون سمعك ربانياً لا يمكن أن يستسيغ أو يستمرئ شيئاً يغضب الله، فتكون موفقاً في السمع؛ فلا ترضى ولا ترتاح إلى سماع كلمة تغضب الله، ولكنك تطمئن وتسكن وترتاح إذا سمعت كلاماً يحبه الله؛ لأنك تسمع بالله: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) أي: أن يكون موفقاً، ومسدداً، ومحاطاً بالعناية الإلهية في بصره؛ فلا يمكن أن يقع ببصره في شيء يغضب الله، هل يمكن أن يبصر بالله إلى ما يبغض الله؟ لا.
إن الذي يبصر بالله يبصر على أمر الله، وعلى ضوء إرشاد الله، ولا يمكن أن يقع بصره على شيء يغضب الله.
من ذا الذي يسمع بالشيطان، ويبصر بالشيطان؟ إنه الذي يقع بعينه ويسمع بأذنه ما يبغضه الله، ولا يحب ما يحبه الله، بل يحب عكس ما يحب الله؛ لأنه لا يسمع ولا يبصر بالله، بل يسمع ويبصر بالشيطان، فيقع بسمع الشيطان وبصره فيما يغضب الله.
(كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه) بلغت الدرجة فيما بينه وبين الله أنه بمجرد أن يسأل الله يعطيه، فهو عبد يعيش مع الله (كنت سمعه الذي يسمع به) فكل تصرفاته وحركاته، وبطشه، وسيره كلها بالله وعلى منهج الله، وبعد ذلك يحصل له من الله كرامة؛ فتزول بينه وبين الله الحجب، ولم يعد هناك إلا اتصالاً مباشراً: (ولئن سألني لأعطينه) لأعطينه: هنا مؤكدة بتوكيدين، النون المشددة الثقيلة واللام، لم يقل: أعطيه بل قال: (لأعطينه).
(وإن استعاذني لأُعيذنه) وفي بعض روايات الحديث خارج صحيح البخاري، وهي زيادة في السنن: (وما ترددت بشيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن؛ يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه) وهذا معنى الرشد، وهو أن تكون راشداً في كل تصرفاتك، ليس هناك غواية؛ لأن هناك رشد وهناك ضلال وغواية، فالراشد الذي يسير في طريق الراشدين مسترشداً بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(53/2)
الأعمال المؤدية إلى تحقق الإيمان في قلب العبد
سألني أحد الشباب وقال لي: إنه التزم، واهتدى، ولكن يقول: بأي ضوابط وموازين أستطيع أن أعرف هل أنا مؤمن أم لا؟ يقول: أنا في قلبي خوف، وعندي أمل، لكن لا أعلم، أريد شيئاً أمسكه بيدي وأرى أني عليه، وأعلم إن شاء الله أني من المقبولين عند الله عز وجل.
فقلت له: يا أخي الكريم! هذا من أبسط الأمور والحمد لله أننا نعبد الله عز وجل في طريق واضح، ومحجة ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، ليس في ديننا أسرار، ولا خيالات، ولا معميات ومتاهات، بل ديننا دين الوضوح، وموازيننا ثابتة، وضوابطنا واضحة، قلت له: إذا أردت أن تعرف هل أنت مؤمن أم لا؛ فاعرض نفسك على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعرف أين موقعك ومن أنت؟ فإن وجدت أنك مع الأوامر فتأتيها، ومع النواهي فتذرها، ومع الأخبار فتصدق بها؛ فاعلم أنك مؤمن، وكن على يقينٍ أن الله لا يضيع عملك، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40].(53/3)
اتباع الأوامر والحرص عليها
قال الرجل الشاب وهو جالس معي: وكيف أعرف ذلك من نفسي؟ قلت: سأعطيك أمثلة: هل تصلي صلاة الفجر في المسجد؟ قال: لا.
قلت: لماذا؟ قال: نومي ثقيل والطقس بارد وأنا أسهر لأذاكر مع زملائي.
قلت له: إذن كيف وصفت نفسك بأنك ملتزم؟ كيف عرفت؟ قال: الحمد لله أنا أحب الخير.
قلت: هذه دعوى، فكل واحد يقول: أنا أحب الخير، ولكنها دعوى لا تثبت إلا بدليلها، فدليل حبك للخير هو الانقياد والإذعان لأوامر الله، والذي لا يصلي الفجر في المسجد هذا يعلن عدم إيمانه بالله، لماذا؟ للحديث الصحيح في البخاري ومسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر) فهي أثقل من الجبال على المنافق (ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً) أي: لو يعلمون بعظم الثواب وعظم الدرجة والمنزلة العظيمة التي يتبوؤها صاحب صلاة الفجر.
فهذا المنافق الذي يعيش في بيته ويسحب البطانية على رأسه ويستمر في نومه رغم أنه سمع حي على الصلاة، حي على الفلاح، وسمع الصلاة خير من النوم، والله لو كان يعلم معنى الإيمان حقيقةً لقام واستجاب وأتى ولو حبواً على ركبتيه ويديه، لكنه لا يعلم، يعني أن الإيمان عنده فاسد.
(أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً) وفي بعض ألفاظ الحديث: (ولو أن أحدهم يعلم أن في المسجد مرماتين حسنتين لشهد الجماعة) والمرماة هي: الضلع، والنبي صلى الله عليه وسلم يمثل بما هو في أذهان الناس، فإن في أذهانهم في ذلك الزمان الجوع والفقر، وعدم وجود شيء من الطعام، والضلع الواحد بما عليه من اللحم يشكل أكبر كرامة، ولو يعلم الشخص أن في المسجد ضلعين بلحمتها، (حسنتين) يعني عليها لحمة وشحمة لشهد الجماعة.
واليوم الناس أتخمت بطونهم من اللحوم، ولو علموا أن هناك طعاماً فلن يأتوا، لكن نقول لهم بما يحبون: فلو قيل لكم من يشهد صلاة الفجر في جماعة يأخذ رقماً من البلدية ويأخذ منحة أرضية، والذي يأتي الأول يأخذ الأول، ويأخذ المواقع الجيدة على الشوارع الجيدة، ما رأيكم هل أحد ينام ذاك اليوم؟ بل والله ينامون في المسجد، ويتنازعون على الصف الأول والثاني، وكل واحد ينام في مكانه، وكل ذلك من أجل حب الأراضي والدرهم والدينار الذي دخل في قلوبنا.
لكن حب الله وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحاول.
قال تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، ولذا لا يقوم الإنسان المنافق لصلاة الفجر، ربما يصلي المغرب؛ لأنه آتٍ من التمشية، وربما يصلي الظهر؛ لأنه أدركه في الدوام، وهي فرصة للتخلص من العمل قليلاً، يعني: يمضي وقتاً، لكن العور يظهر في صلاة العصر وصلاة الفجر، ولذا رتب النبي صلى الله عليه وسلم عليهما الجنة، فقال: (من صلى البردين دخل الجنة) والحديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم، والبردين برد النهار: العصر، وبرد الليل: الفجر، وقد جاء الأمر بهاتين الصلاتين في القرآن على وجه الخصوص، ففي العصر يقول الله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] رغم أن الوسطى من الصلوات لكن التأكيد عليها لوحدها لدليل أهميتها، ويقول في الفجر: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78] ويقول صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي) ومعنى في ذمة الله: أي في عهد الله وأمانته، بمعنى أنك إذا مت في ذلك اليوم وأنت في ذمة الله لا يدخلك الله النار.
كيف يعذبك وأنت في ذمته؟ (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي، ومن صلى العشاء في جماعة فهو في ذمة الله حتى يصبح، ومن مشى في ظلمة الليل إلى المساجد لقي الله بنور ساطعٍ يوم القيامة) (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) ونعرف هذا في واقعنا الآن، تجد مسجداً في أحد الأحياء يصلون صلاة المغرب ستة صفوف، أو سبعة وفي الفجر يصلون صفاً، ما بالهم؟ قد يقول أحد الناس نوم، نقول: لا.
ليس نوماً، ما بالهم في رمضان لا ينامون؟ أفي رمضان ينامون عن السحور؟ والذي ما عنده ساعة ألا يذهب ويشتري ساعة؟ والذي ما عنده منبه تراه طول الليل يتقلب وعينه على الساعة، متى سوف تأتي الساعة الثالثة والنصف ويقوم يتسحر، لماذا؟ يخاف أن يصبح دون طعام، فيصوم بدون سحور، وتعتبر كارثة عند الشخص، إذا طلع عليه النهار ذلك اليوم ولم يتسحر، يقوم كأن الدنيا قد خربت، ما بالك؟ قال: طلع النهار علينا، وما أكلنا، ويذهب إلى الدوام مهموماً، وزوجته مهمومة، وأهله مهمومون، لكن هل يحصل له هذا الشعور إذا قام يوماً من الأيام ولم يصلِ الفجر في الجماعة؟ أبداً.
طبيعي، لا يفكر أن يصلي في المسجد جماعة، ولهذا كانت الفجر مقياساً وضابطاً من ضوابط الإيمان.
صلاة العشاء والفجر في جماعة المسلمين في استمرار لا يوفق لها إلا مؤمن، ولا يحرمها ويتكاسل عنها إلا منافق، أعوذ بالله وإياكم من النفاق.
فقلت للأخ الكريم هذا ضابط، قال: عرفت أنني لست بمؤمن ولهذا إن شاء الله من غدٍ، أصلي الفجر؟(53/4)
اجتناب المنهيات والبعد عن أسبابها
قلت: نعم.
لكن بقي شيء.
إذا نظرت إلى امرأة وهي تسير في الشارع تنظر لها أو تغض بصرك؟ قال: والله أتلفت، قلت: أين الإيمان؟ مسكين أنت ما عرفت الإيمان، أنت تتصور أن الإيمان أشياء ذهنية، وأشكال ظاهرية، ولكن الإيمان يشمل الشكل الظاهري، والمعنى الباطني والذهني والسلوك العملي، الإيمان في تعريف أهل السنة والجماعة هو: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وتطبيق بالجوارح والأركان، هذا هو الإيمان، يزيد بالطاعات، وينقص بالعصيان، كيف تنظر إلى امرأة والله قد قال لك في القرآن في سورة النور {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]؟! إن الذي ينظر إلى النساء كأنه يقول: يا رب! أنا لست منهم، فالذي ينظر في الحرام وفي النساء ويمتع عينه بالحرام كأنه يقول: إنك يا ربِّ أمرت رسولك أن يوجه الأمر للمؤمنين، وأنا لست من المؤمنين.
فالذي يرضى أن يكون من غير المؤمنين؛ ينظر أين يكون إن لم يكن منهم؟ أعوذ بالله وإياكم من النفاق: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] فلا توجد قوة في الأرض تستطيع أن تسيطر على بصرك إلا قوة الله بفعل إيمانك، تستطيع أن تضحك على الناس، وأن تنظر في بيت شخص وعينك على زوجته في الشباك، فإذا جاءك وقال: لماذا تنظر في عيالي؟ تقول له: وما عيالك؟ قال: أراها في الشباك، وأراك تنظر إليها، فتقول: سبحان الله! أنت نظرتك سيئة -يا أخي- أنا أنظر في نوع الألمنيوم للشباك يعجبني هذا المنظر ولهذا سوف أذهب لأعمل مثله، لكن الله يعلم أين تنظر أنت، فتستطيع أن تضحك على الرجل وتقول: إني لا أنظر في بيتك بل أنظر في العمارة أو الشكل الخارجي للمبنى، لكن الله يقول: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] ولذا ورد في بعض الأحاديث في السنن: (من غض بصره احتساباً لوجه الله أبدله الله إيماناً في قلبه يجد حلاوته إلى يوم يلقاه) أي: ليس فيها رياء، ربما يدخل الرياء كل شيء إلا هذه المسألة لا يدخلها رياء؛ لأنك تغض بصرك ولا أحد يستطيع أن يضبطك إلا الله.
قلت له: هل تسمع الأغاني؟ قال: نعم.
قلت: ما أبقيت من الدين شيئاً، ما هو الالتزام في نظرك؟ قال: وماذا هناك في الأغاني؟ قلت: أما سمعت قول الله عز وجل وهو يصف أهل الإيمان في سورة المؤمنون فيقول: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] أي: قد فازوا ونجحوا وحصلت لهم السعادة في الدنيا والآخرة بفوزهم في الدنيا بالإيمان، وبإنزالهم في الآخرة في الجنان: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:2 - 3] فالمؤمن يترفع ويتنزه عن هذه القذارات، فالأغاني أوساخ وكلام ساقط، وألحان هابطة، لو فكرت فيه بعقلك وليس بشهوتك -انتبه! إذا فكرت بشهوتك في الأغاني لقمت ترقص، لكن إذا فكرت بعقلك في الكلمات والألحان والبداية والشكل والمضمون- لتقيأت ورفضت هذا الكلام وترفعت عنه، وقلت: هذا كلام لا يصلح، ما خلقني الله لهذا، ثم اسأل نفسك: أتكون هذه الأغاني في ميزان الحق أو في ميزان الباطل يوم القيامة؟! من يقول: إنها في ميزان الحق؟ كل شخص يقول: إنها في ميزان الباطل، ولما سئل الإمام أحمد عن الأغاني.
سألهم وقال: أحق هو؟ قالوا: لا.
قال: فماذا بعد الحق إلا الضلال، ما دام ليس حقاً أين يكون؟ يكون في الضلال، فلماذا تعيش مع الضلال، فلا تسمع الأغاني وكن معرضاً عنها؛ لأن الله يقول: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] إذا أتى في مجلس وسمعهم يغنون؛ يقول: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين، وإذا أتى في حفل زواج ورآهم يرقصون؛ يقول: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين، إذا أتى في مجلس فيه نميمة يقوم وينكر بالرفض والتحدي لماذا؟ {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص:55] {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3] هذه صفات أهل الإيمان، فكيف تسمع الأغاني وتنظر إلى الحرام، ولا تصلي الفجر في المسجد ومع هذا تقول: إني مؤمن؟ قس نفسك على هذا.
ولو ذهبنا نستقصي الآيات والأحاديث لطال المقام جداً، لكني أتيت بها كمقدمة.(53/5)
أعمال تنافي الإيمان
وأذكر بعض ما ينافي الإيمان على سبيل الاختصار: الكذب: الكذاب ليس بمؤمن الذي يكذب على مديره، أو موظفيه، أو زوجته، أو أولاده، أو إخوانه، هذا الكذاب يقول الله عز وجل فيه: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل:105]، كان النبي صلى الله عليه وسلم عند امرأة فقالت لولدها: تعال أعطيك تمرة، فجاءها فأعطته تمرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما إنك لو لم تعطه لكتبت عليكِ كذبة) ليس هناك داع للكذب، لماذا تكذب أصلاً؟ لو احترقت الدنيا كلها لا تكذب، وكن واضحاً، فإذا جئت متأخراً في الدوام، وسئلت: لماذا؟ فقل: نمت ولا تقل: بنشر إطار السيارة،.
فتبنشر على جسر جهنم؛ لأنك خفت هذا وما خفت الله.
وبعضهم يخرج من الدوام ويأتي المدير يبحث عنه أثناء الدوام فيسأله: أين كنت؟ يقول: في الحمام تريدني أستأذن منك حتى في الحمام؟ وهو قد كان في السوق يتبضع يوم الثلاثاء ويريد أن يأخذ قسمه من السوق، ثم مرت الأيام وبعد يومين أو ثلاثة وإذا بواحد من زوار المدير أو من زملائه أو من جلسائه في مجلس من المجالس، قال: أما زال فلان عندكم؟ قال: نعم.
قال: ما شاء الله، كنت أظنه قد استقال.
قال: لماذا وما يدريك به؟ قال: رأيته أمس في السوق، يتبضع الله يوفقنا وإياه.
قال: متى رأيته؟ قال: الساعة الحادية عشرة.
قال: أمس الساعة الحادية عشرة كان في الحمام.
ويدعوه المدير في اليوم التالي، ويقول: تعال يا فلان! أين كنت أمس، في الحمام أو في سوق الثلاثاء.
قال: والله الذي لا إله إلا هو إني كنت في الحمام.
فماذا تقولون لهذا؟ وإذا أتت الصلاة ذهب ليصلي، فهذا مستهتر بالله كذاب، والكذاب ليس فيه خير، لكن ما عليك إذا خرجت بدون إذن ورجعت إلى المدير ودعاك، وقال: أين كنت؟ قلت: والله كنت في السوق.
فيقول: لماذا تخرج بدون إذن، هل العمل فوضى؟! فتقول: لا والله ما هو فوضى، لكن استحيت منك وخفت أن أطلبك فترفض، وإذا رفضت وخرجت بعد الرفض تصير العقوبة عقوبتين، فقلت: سأنزل، فإن رجعت ولم تعلم بخروجي سلامات والحمد لله، وإن كشفتني فالله يعينني على الجزاء، فهذه أبسط والله مليون مرة من أن تقول له: والله الذي لا إله إلا هو إنني ما خرجت، لماذا؟ لأنه باليمين سيصدقك، لكن من داخل قلبه يكذبك، ويقول: فلان صادق ليس له مصلحة في أن يخبرني عنك، وبعدها تسقط من عينيه إلى يوم القيامة عرف أنك كذاب، لو تأتي غداً بخبر صادق مائة بالمائة لقال: كذاب؛ لأنه قد جرب عليك كذباً، لا تخاف الله، ولا تحترم أوامر الله عز وجل، قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل:105] {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل:105] فالغش مُنافٍ للإيمان، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث، والحديث في السنن: (يطبع المؤمن على كل شيء إلا الكذب والخيانة) فيمكن أن يكون جباناً، أو بخيلاً، أو عنده بعض صفات النقص؛ فالكمال لله، لكن يستحيل أن تجد في المؤمن خصلتان هما: الكذب والخيانة، فلا يعقل أن يخونك سواء علمت أو لم تعلم؛ لأن الخيانة مضادة لصفات المؤمنين، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27] وفي الحديث يذكر صلى الله عليه وسلم صفات المنافقين والحديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم فيقول: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان).
كذلك الوعد: فوعد المؤمن صادق، وإذا أرغم على إخلافه كان ذلك بمبررٍ شرعي وبعذر مقبول، وقبله يستبيحه، أما أن يقول: طيب ولا يأتي، لا.
فإنه يسهل عليك ألف مرة أن تقول: لا.
قبل الموعد ولا تخلف بعد الموعد، فإنك تستطيع أن لا تلزم نفسك، فتقول لأخيك لا أستطيع يا أخي! أتريدني أن أقول: حسناً ثم أكذب؟ لا.
أقول لك: لا.
أحسن مما أشغلك وأشغل نفسي.
فهذا أحسن لك وأحسن للناس.
ذكر الله عز وجل من علامات المؤمنين، الخوف من الله عند ذكره، فقال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4].
هذه مجمل صفات الإيمان وإلا فهي كثيرة جداً جداً، وما عليك -يا أخي- إلا أنك كلما مررت بصفات المؤمنين تقف عندها وتراجع نفسك وتسأل أين أنت من هذه الصفات؟ فإن وجدت أنك معها وأنك تدور في فلكها؛ فاعلم أنك مؤمن ولا يخالطك شك، وكن فقط في حالة من الخوف والرجاء خوف أن لا يقبل الله منك، ورجاء أن يقبل الله منك، وإلا فإن الله عز وجل لا يضيع عملك، يقول الله عز وجل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] ويقول: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة:105].
فلسنا والحمد لله في حاجة إلى أن يعيش الإنسان في أوهام، وإنما عليه أن يثق بعدل الله، ويثق برحمة الله، ويتعرض للأسباب التي توصله إلى هذه العدالة، وهذه الرحمة، التي نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المؤمنين إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.(53/6)
علامات الساعة الآتية
علامات الساعة التي تحدثنا عنها في الماضي علامات جاءت وانقضت، وعلامات حدثت ولا زالت مستمرة إلى اليوم ويمكن أن تستمر إلى قيام الساعة، وعلامات لم تحدث بعد، وهي ستحدث وليس بينها وبين الساعة كبير وقت، يعني إذا أتت فهي آخر إنذار، فالإنذارات الأولى هي العلامات التي أتت، والعلامات التي لا زالت تأتي.
والتي ستأتي هي ما سنتحدث عنه في هذا الوقت.(53/7)
أولاً: عودة جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه والحديث في صحيح مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض، وحتى يخرج الرجل زكاة ماله فلا يجد أحداً يقبلها، وحتى تعود أرض العرب جناتٍ وأنهاراً) وعودتها مروجاً وأنهاراً إما بسبب ما يقوم به أهلها من حفر الآبار، وزراعة الأراضي، مما هو حادث الآن في زماننا، إذا ذهبت إلى الصحاري القاحلة التي لا عيش فيها ولا حياة تجدها أصبحت مروجاً خضراء، فقد حفر الناس الآبار، وأخرجت الأرض خيراتها من الماء، ثم استغلت هذه المياه بشكل علمي منظم حديث وزرعت هذه الأماكن حتى حصل الاكتفاء الذاتي والحمد لله وحصل التصدير للعالم، وهذا ما كان يتوقع أبداً، وكان الخبراء يراهنون على أن هذا غير ممكن، فكيف بأرض صحراوية يموت الناس على ظهرها عطشاً تصدر الحبوب؟ لكن هذا من فضل الله ورحمته وبركته.
وإما بسبب آخر وهو الذي يرجحه العلماء: وهو أن الأرض عبر آلاف السنين يحصل تغير في مناخها، ويتحول مناخ المناطق الحارة إلى مناخ المناطق الباردة، وبالعكس مناطق باردة تصير صحاري بفعل الشموس والقحط وانحباس الأمطار.
وأن جزيرة العرب كانت في يوم من الأيام مروجاً وبساتين وأنهاراً، ثم صارت إلى ما هي عليه الآن وسيمر أزمان وتعود كما كانت، وهذا التفسير هو الذي يتفق مع نص الحديث فإن الحديث يقول: (ولا تقوم الساعة حتى تعود) ولم يقل حتى تصير أو تكون، كأنها كانت في وضع وستعود إليه، فهذه العودة ستكون في آخر الزمان مروجاً وأنهاراً، حيث تصبح سهولها الجرداء سهولاً خضراء فيحاء، وهذا هو الأظهر الذي يتفق مع نص الحديث.
وراوي الحديث صحابي جليل، وهو أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه، عبد الرحمن بن صخر الدوسي، حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلاف الأحاديث، رغم قصر مدة إقامته مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلم في السنة السابعة، وما جلس مع الرسول إلا زهاء الأربع سنوات أو تقل، وبالرغم من هذا كان يلازمه وما كان يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي قد دعا له بالحفظ، فلا يسمع شيئاً من رسول الله إلا حفظه، وأخبر صلى الله عليه وسلم: (أنه لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق) فلا يحب أبا هريرة وأمه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق.
يقول أبو هريرة في الحديث الصحيح: (خرجت من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أتلوى من الجوع وقد مرت بي ليالٍ ما ذقت طعم الطعام، يقول: فجلست أتعرض للصحابة أسألهم عن آيةٍ في كتاب الله، يقول: والله إنني أعرفها، لكني أسأل لعله يقول: تعال معي، يقول: فمر أبو بكر فسألته فأجابني وذهب ولم يدعني إلى بيته، يقول: ثم سألت عمر فأجابني وذهب ولم يدعني إلى بيته، يقول: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته فأجابني وقال: اتبعني يا أبا هريرة) اللهم صلِّ وسلم على رسول الله، وتدرون ما في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ذاك اليوم؟ والله ما فيه حبة تمر، من منّا ما في بيته طعام الآن، كانت تمر ثلاثة أهلة لا يوقد في بيت آل محمد النار، قال عبد الله بن الزبير لـ عائشة: [يا أماه! وماذا كنتم تأكلون؟ قالت: ما كان لنا من طعام إلا الأسودان التمر والماء] يعني رديء التمر الأسود والماء.
وهل اليوم يمر على بيت أحدنا ولا يوقد فيه النار؟ لا والله، بل نيران تضرم، فإذا دخلت المطبخ كأنك في معركة مع الصحون والقدور والمواقد ولا إله إلا الله! كل ذلك من أجل البطن، لا إله إلا الله! (قال: فتبعته، فلما دخل بحث في بيته فما وجد شيئاً، يقول: وإذا بهديةٍ تهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجيران قعب فيه قليل من اللبن، يقول: فقلت: الحمد لله، سأشرب أنا وإياه وسيكون لي نصيب منه، قال: يا أبا هريرة! قلت: نعم، قال: ائتني بأهل الصفة -وأهل الصفة سبعين رجلاً وماذا يكفيهم هذا؟ - يقول: فذهبت وأتيت بهم).
وأهل الصفة هم فقراء المؤمنين الذين هاجروا إلى المدينة وليس لهم أهل ولا معهم شيء، فهم جالسون في المسجد (قال: فدعوتهم فجاءوا، فلما دخلوا المسجد قال: اسقهم، قلت: في نفسي وما أصيب من هذا؟ يقول: لو أني كنت الأول لشربت، لكن أنا الذي أسقيهم -والذي يسقي لابد أن يكون آخر شخص يشرب- يقول: فأعطيت الأول والثاني والثالث والرابع حتى أكملوا، يقول: والله ما نقص منه شيء) فقلت: (بقيت أنت يا رسول الله! وأنا، قال: اشرب، قال: فشربت، قال: اشرب، قال: فشربت، قال: اشرب قلت: والله ما أجد له مسلكاً يا رسول الله! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم) هذا أبو هريرة رضي الله عنه -والذي سبه البعض من المنحرفين عن عقيدة السلف- يقول: (لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض، حتى يخرج الرجل زكاة ماله فلا يجد من يقبلها، وحتى تعود جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً).(53/8)
انتفاخ الأهلة
ومن العلامات: انتفاخ الأهلة، يعني: أن يرى الهلال عند ظهوره كبيراً، حتى يقال: في ليلة ظهوره هذا الهلال عمره ليلتين أو ثلاث ليال، فهذه من علامات الساعة، والحديث أخرجه الألباني في صحيح الجامع الصغير وقال: صحيح الإسناد، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اقتراب الساعة -أي من علامات قرب وقوع الساعة- انتفاخ الأهلة) وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اقتراب الساعة أن يرى الهلال فيقال لليلتين، وأن تتخذ المساجد طرقاً، وأن يظهر موت الفجأة) هذا الحديث أيضاً عزاه في صحيح الجامع إلى الطبراني وقال إسناده حسن.
(أن يرى الهلال يقال لليلتين، وأن تتخذ المساجد طرقاً) يعني أن يكون الواحد له حاجة في السوق وبيته في الجانب الآخر، فيصعب عليه أن يلتف فيختصر الطريق ويتخذ المسجد طريقاً، وهذا موجود في مكة المكرمة، ولما قرأته مرة على أحد الإخوان قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، كثير من الناس لا يغدو ولا يمشي إلا باختراق المسجد الحرام؛ لأن اللفة طويلة، فهو يختصر الطريق، فيدخل من باب ويخرج من الباب الثاني، ويتخذ المسجد طريقاً.
(وأن يظهر موت الفجأة) وموت الفجأة هو ما يحصل للناس من وفاةٍ غير متوقعة، إما بمرض مفاجئ، أو بحادث مروع، وهو للمؤمن راحة، وعلى المنافق حسرة، فالمؤمن لا يدري إلا وقد انتهى، والمنافق عليه حسرة؛ لأنه لا يمكن من التوبة ولا يعطى فرصة لتصحيح الوضع مع الله عز وجل، وهذه كثيرة، ما كان موت الفجأة مشهود بكثرة عند الناس، فما يأتي موت إلا بمرض وتعب، أما الآن لا.
قَلَّ من يموت على فراشه، وما نسمع الموت إلا في حوادث، ينزل الواحد وما يتصور أنه يموت ويموت في ذلك اليوم الذي ما يتصور فيه، يموتون بالمئات، تسقط الطائرة وفيها ثلاثمائة راكب كلهم كانوا أحياء وفي لحظة إذا بهم أموات، تنقلب السيارة بالأسرة كاملة، الرجل والمرأة والأولاد بعضهم يضحك، وبعضهم يتكلم، وبعضهم يشرب العصير، وفي لحظة واحدة كلهم يموتون.
وقد سمعنا بالحادث الذي وقع لبعض طلاب العلم والشباب المؤمن الملتزم الذي نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يسكنهم فسيح جناته، اللهم أسكنهم فسيح جنانك، وأدخلهم في رحمتك ورضوانك، وعوض أهلهم خيراً، واجبر قلوبهم إنك على كل شيء قدير.
وهذا الحادث المروري وقع لبعض إخواننا في الله وكانوا صائمين، وأحدهم كان متوفياً والمصحف في يده، والثاني الذي لحقه بعد فترة أمضى في الإنعاش عشرة أيام أو أكثر أو أقل ومات بالأمس.
وكان صائماً يوم أن وقع له الحادث ودخل في غيبوبة حتى توفي رحمة الله تعالى عليهما، ما كانوا يفكرون بموتهم في تلك اللحظات، وآلاف الحوادث تحصل للناس ولكن هنيئاً للمؤمن، وويلٌ للمنافق.
ويلٌ له يوم أن يموت، كما سمعتم قصة ذلك الشاب الذي وقع له حادث وهو يغني، وجاءوا عليه بدل أن يقول: لا إله إلا الله، كان يقول في نفس اللحظات: هل رأى الحب سكارى مثلنا؟ فكان يغني بأغنية أم كلثوم ويقول: هل رأى الحب سكارى مثلنا؟ والشريط يغني وهو معصور بطنه، وقلبه بمقود السيارة وهو لا زال يغني، قُبض على هذه الكلمة، والله ما رأى الحب أسكر ولا أفشل منك يا بعيد، عاش على شيء فمات عليه والعياذ بالله.
فمن علامات الساعة أيضاً موت الفجأة.(53/9)
تكليم السباع والجمادات للناس
من علامات الساعة: تكليم السباع والجماد للناس، كيف هذا؟ اسمعوا الحديث، روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: عدى ذئبٌ على شاة -في عهد النبي صلى الله عليه وسلم- فتبعه الراعي، وانتزعها منه -طارده حتى أطلقها- ولما أخذها أقعا الذئب على ذنبه -أي جلس على فخذه وذنبه وارتكز على يديه هذا هو الإقعاء- وقال: ألا تتقي الله تنزع مني رزقاً ساقه الله إلي، فقال الراعي: عجباً! ذئبٌ مقعٍ على ذنبه يكلمني كلام الإنس، قال الذئب: ألا أنبئك بأعجب من ذلك؟ -أن أكلمك بلسانك ولكن أتريد الأعجب من هذا؟ - محمد صلى الله عليه وسلم بـ يثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق، قال: فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة، فزواها إلى زاوية من زوايا المدينة ثم أتى رسول الله صلى عليه وسلم فأخبره الخبر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودي بالصلاة جامعة، ثم خرج فقال للراعي أخبرهم، فأخبرهم، فقال صلى الله عليه وسلم: صدق! وهذه من علامات الساعة، ثم قال: (والذي نفسي بيده! لا تقوم الساعة حتى يكلم السباع الإنس، ويكلمه عذبة سوطه، وشراك نعله، ويخبره فخذه بما أحدَث أهله بعده) هذه من علامات الساعة.
وقد يكون هذا الذي يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم إما شيئاً خارقاً للعادة والمألوف كما نشهده فيما أخبر الله عز وجل عنه به من شهادة الأعضاء على الإنسان يوم القيامة: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] أو كما قال عز وجل: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:19 - 20] يمكن أن يكون هذا هو المقصود، أو بما سيمكن الله البشر من علوم ومخترعات يستطيعون بها تسجيل الأصوات مثلما هو حاصل الآن، بعض الناس يضع مسجلاً في زاوية من زوايا البيت لا تعلم بها المرأة، وإذا رجع فتح المسجل، وقام المسجل يعطيه كل شيء، وبعضهم يضع المسجل على التلفون، فيسجل المكالمات التي تأتيه ولا يدري أحد بها، هذا مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.(53/10)
إخراج الأرض لكنوزها
من علامات الساعة إخراج الأرض كنوزها، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تفيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الاسطوان من الذهب والفضة، فيأتي القاتل فيقول: في هذا قتلت، ويأتي القاطع فيقول: في هذا قطعت، ويأتي السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً) وهذه آية من آيات الله، حيث يأمر الحق أن تخرج الأرض كنوزها، وقد سمى الرسول بأفلاذ الكبد، وأصل الفلذ قطعة من كبد الإنسان أو كبد البعير، ومعنى الحديث: التشبيه، أي: تخرج الأرض ما في جوفها من القطع المدفونة والكنوز والجواهر على شكل الاسطوانات والسواري، وعندما يرى الناس كثرة الذهب والفضة يزهدون فيها ويتألمون؛ لأنهم ارتكبوا المعاصي وقطعوا الطريق، وسرقوا من أجل الحصول على هذه الأشياء، وهذه ستكون في آخر الزمان.
هذه أيها الإخوة! بعض علامات الساعة التي تسبق قيامها، وبقي العلامات الأخيرة وهي العشر العظام: طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، وخروج النار التي تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر، ونزول عيسى، وخروج الدجال، وغير ذلك من العلامات التي سوف نتحدث عنها إن شاء الله في الجلسة القادمة، وإذا وقعت واحدة منها تتابع وقوعها كنظام انقطع، يعني مثل عقد معك انقطع تبدأ الأولى والبقية كلها وراءها.
نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يلهمنا رشدنا، وأن يثبتنا جميعاً على الإيمان؛ إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.(53/11)
الأسئلة(53/12)
صلاح الظاهر وفساد الباطن
السؤال
أنا شاب يحسبني الناس ملتزماً ويعدونني من الشباب المؤمن، ولكنني في الخلوة والانفراد أتابع المسلسلات، وأستمع الأغاني، وأختلس النظرات إلى الحرام رغم أنني أعلم أن ذلك حرام، وأتحرج بعد ذلك إذا رآني الناس، أرجو أن ترشدوني؟
الجواب
نقول لك: عليك أن تتقي الله أيها الشاب! وأن تراقب الله تبارك وتعالى، وألا يكون لك ظاهر صالح، وباطن سيء، لا تكن معروفاً عند الناس بالالتزام والدين، ومعروفاً عند الله بالفسق والفجور، فإن الناس لا ينفعونك ولا يضرونك، والله لو مدحك الناس كلهم من أولهم إلى آخرهم، والله يذمك ما يمنعونك من الله، ووالله لو ذمك الناس كلهم والله يمدحك لا يضروك ولا ينفعوك عليك أن تراقب الله بالدرجة الأولى.
جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أعطني فإن مدحي جميل وذمي قبيح قال: كذبت! ذاك هو الله) إذا مدحك الله سعدت، وإذا ذمك الله شقيت، لكن الناس إذا مدحوك في المجالس والأماكن، فما تسمع إلا: فلان طيب ما شاء الله! لكن سلوكك مع الله في الباطن فاسد فماذا يصنع لك الناس؟ هل عندهم شيء ينفعك؟ الحياة، والموت، والرزق، والرفعة، والعافية؛ كل هذه بيد الله، وكل شيءٍ بيد الله، والناس لا يعطونك مثقال ذرة إلا بأمر الله، إذن لِمَ تراقب الناس؟ عليك أن تراقب الله، وإذا رضي الله عنك أرضى عنك الناس كلهم.(53/13)
حكم الاكتفاء بالبرقع -النقاب- دون الخمار في الحجاب
السؤال
ما حكم البرقع في البادية، فإنهم لا يقدرون على الخمار هل يجب عليها لبس الخمار أم أن البرقع يكفي، كما أن بعض الناس يقول: أنه سمع في بعض البرامج أن البرقع ليس فيه شيء؟
الجواب
أقول أنا وقد سمعت أن بعض العلماء يقولون إن البرقع ليس فيه شيء، أما أنا فأقول: فيه شيء، بل أنا أقول: لو خرجت المرأة ووجهها مكشوف أفضل من أن تخرج وعليها برقع يرى الناس عينها؛ لأن العيون هي مجمع الزينة، وهي القتالة:
إن العيون التي في طرفها حورٌ قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يسلبن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنسانا
ما قال: إن الشفاه أو الأنف أو الخدود.
هذه مكملات، الكلام للعيون، إذاً: عيون جميلة تذبح كما يقولون: كل شيء جميل، وإذا كانت العيون بها عيب فكل شيء قبيح، ولذا إذا كلمت الشخص أتنظر في رجله؟ أو مسمعه؟ في عينه، ولو نظرت في صدره وأنت تكلمه، لقال: ارفع رأسك وكلمني، أتكلمني أم تكلم بطني؟ كلمني وانظر في عيني، يعني العيون هي المعنية بالكلام، فإذا حجبت المرأة أنفها وفمها وأظهرت عينيها، فماذا بقي؟ بل ربما يكون فمها ليس حسناً، ولا أنفها، ولا خدودها، لكن عينيها جميلة وأظهرت العيون؟! وقد كنت مرة في تبوك؛ ووجدت ظاهرة البرقع منتشرة هناك في الشمال، فقلت لهم: لو وضعت البرقع على عنز -وجربوا وكل شخص في بيته غنم أخذ برقع المرأة وألبسه العنز- إذا ما تقع صريعاً عند رأسها ميت تفتنك العنز بعيونها؛ لأنها أجمل ما في العنز، ولكن البرقع يخفي أنفها وفمها فإذا أخفيت أنفها وأظهرت عيونها تقع مباشرة في الفتنة بها.
فنقول للنساء: لا تلبسن البرقع وعليكن بالحجاب، وبعض النساء تقول: نلبس من فوق البرقع خماراً، فما فائدة البرقع ما دام أن هناك خماراً من فوقه؟ لا.
ضعي البرقع وخذي خماراً كثيفاً؛ لأن بعضهم يقول: يستدل بما أثر عن ابن عباس أنه كان يسمح بوضع خرق في العين، الخرق هذا ليس مثل البرقع، فالخرق الذي في العين على مستوى يمكن (1سم2) أما هذه الفتحة الطويلة (3سم × 6سم) ثم من هنا واحدة تقطبه لكي لا ينفتح كثيراً، ثم تبدوا العيون كلها، فالجفن والحواجب والعيون تطلع، ولا يبقى شيء، بل توجد الآن موضة جديدة وهي اللثام، قلنا: ما هذه؟ قالت: متحجبة، الله المستعان! يقول لي أحد الإخوة بعدما وصلنا هنا: جزاك الله خيراً، قلت: لماذا؟ قال: ذهبت من تلك الليلة وأخذت البرقع ووضعته على العنز، يقول: ما رقدنا تلك الليلة، قلت: عافاكم الله من البلاء.(53/14)
إهمال المدارس في جمع الطلاب للصلاة
السؤال
ما رأيكم في بعض المدارس التي لا تأمر الطلاب بالصلاة في المدرسة فهل على المدير أو المدرسين مسئولية في هذا، رغم أن المدرسين في هذه المدرسة يشهد لهم بالخير؟
الجواب
نعم عليهم مسئولية، ومن أعظم الوسائل التربوية التي نربي بها أبناءنا في المدارس أن نعلمهم الصلاة، ولا ينبغي لمدير يتقي الله، ولا لمدرسين يخشون الله؛ أن يمر وقت الصلاة في المدرسة دون أن يصلي الطلاب؛ لأنها جزء من التربية العقدية، صحيح أن في خروج الطلاب ووضوءهم كلفة لكنها كلفة في حقها، لماذا لا نشعر بهذه الكلفة في حصة الرياضة، وهي حصتان في الأسبوع ولها مدرس، ويقوم الطلاب بتبديل ملابسهم وهناك موجهون يراجعون؟ أما الصلاة عمود الإسلام، وفرق ما بين المسلم والكافر، فيأتي الشيطان عند المدير ويقول: ما عندك ماء، كيف يصلون بغير وضوء؟ لا.
والله لو أدفع من راتبي نصفه ثمن ما يتوضأ به الطلاب، لست خسراناً؛ لأنه ما من طالب يتوضأ بهذا ويصلي إلا وأجره لي دون أن ينقص من أجره شيئاً.
وإذا كنت لا أستطيع أنا وأنا المدير بمفردي أقوم مباشرة مع المدرسين بالتبرع، ونعمل صندوقاً خيرياً للصلاة في المدرسة، بينما والحمد لله عند المدارس إمكانيات عن طريق إدارة التعليم التي تؤمن ذلك، وإذا لم تتوفر الإمكانية نذهب للمحسنين ونقول: أعطونا ليصلي أبناءنا، ونقول للآباء كذلك، المهم نسلك كل سبيل في سبيل إقامة الصلاة في المسجد، ولا يجوز للمسلم مديراً أو مدرساً أن يصرف الطلاب ولم يصلوا؛ لأن بعض المدرسين يضغطون البرنامج حتى ينتهي عند السادسة مع الأذان، ثم يقول: كلٌ يصلي في بيته، فتضيع الصلاة بين البيت والمدرسة، ويذهب الطالب إلى البيت ويقول: صلينا، وهو لم يصل، أو صلينا في الطريق، وإن أتى يصلي، فيصلي متأخراً، لكن صلاة الجماعة في المدرسة تعكس اهتمام المدير بالصلاة، وتغرس في ذهن الطالب وقلبه حب الصلاة وأهمية الصلاة، ثم ملاحظة الأخطاء، وضبط الطلاب بكلمة قبل الصلاة، وكلمة بعد الصلاة، وتوجيه الطلاب، هذا كله من أساسيات التعليم، وكل تعليم ليس فيه صلاة فهو فوضى، لا بارك الله في تعليم يتم في مدرسة وليس فيها صلاة؛ لأن الصلاة هي الثمرة، فما الفائدة من يوم دراسي كامل من الصباح إلى الظهر ثم نضيع الثمرة، مثل هذه الشجرة الطويلة التي ليس فيها ثمرة، لو متّ جوعاً ليس فيها إلا مثل البعر -هذا شجر البلدية- ما فيه ثمرة، هل فيه فائدة؟ علم بلا عمل كشجر بلا ثمر.(53/15)
الفرق بين الغلو والغلول
السؤال
ما هو الفرق بين الغلو والغلول؟
الجواب
الغلو: الزيادة وتجاوز الحد في دين الله بإحكام شيء ليس من دين الله.
والغلول: أخذ شيء من بيت مال المسلمين بغير حق.
والغلو: التنطع، والتشدد -التطرف كما يسمى- طبعاً ليس على مفهومهم الآن في المجتمعات المنحلة، فعندهم المتطرف يعني الذي يصلي إذا رأوه يصلي في المسجد قالوا: هذا متطرف، يصلي في المسجد.
وإذا رأوه أطلق لحيته قالوا هذا متطرف ترك لحيته، وأنتم؟ قالوا: نحن والحمد لله مسلمون نصلي في البيوت ونحلق لحانا.
لا أنتم متطرفون، وذاك ليس متطرفاً بل هو المعتدل، المعتدل هو الذي يتقيد بشريعة الله، والمتسيب هو الذي يترك دين الله، والغال هو الذي يأتي بدين ليس في دين الله، كأن تقول له: تعال عندنا للعشاء، قال: وما عشاكم؟ قلنا: عشانا رز ولحم قال: لا.
هذه تقسي القلب، أنا لا آكل إلا الشعير، هذا غلو في دين الله، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172].
يقولون له: تزوج قال: لا.
أريد زوجاً خيراً منهن في الآخرة، نقول له: لا.
هذا غلو، الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أفضل من عَبَدَ الله كان يتزوج، يقول: (إني أتقاكم وأخشاكم لله، ولكني آكل اللحم، وأتزوج النساء، وأصوم، وأفطر، وأنام، وأقوم؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني) هذا غلو.
يقال له: استعمل الكهرباء، قال: لا.
هذه الكهرباء ليست جيدة، وهذه الكهرباء لن تدخل بيتي، لماذا؟ يقول: هذه التي جلبت لنا الشر، فالناس يشغلون عليها الأغاني، والتلفزيونات، والمنكرات، ولهذا أنا لا أحب الكهرباء، حسناً على هذا فالهواء الذي تستنشقه الآن الناس الذين يعصون الله يستنشقونه، أليس كذلك؟ فلا تستنشق الهواء؛ لأن العصاة يستنشقونه، ولا تشرب الماء؛ لأن العصاة يشربونه، ولا تأكل الطعام، وبالتالي تنتهي وتموت.
يا أخي! هذه الكهرباء نعمة من نعم الله، من استغلها في طاعة الله فعليه من الله الرحمة، ومن استعان بها على معصية الله، فالله الذي يحاسبه يوم القيامة، أما أن تقول: لا! بعضهم في بيته يقول: لا تضع مروحة، فهي تشغلك عن ذكر الله وتبرد عليك في بيتك، فهل هذا اسمه غلو والله قد قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171].
والغلول كما قلت لكم: هو أخذ شيء من بيت مال المسلمين بغير حق، ويدخل فيه هدية الموظفين.
فإذا كنت مديراً أو ضابطاً، أو مسئولاً، ويوجد من المراجعين من له معاملة عندك، ويريدها أن تنجز ولكنها تعقدت، ويعرف أنه لو أتى بطريقة مكشوفة وأتى يريد أن يعطيك مالاً فيمكن ألا تقبل؛ فيعطيك هدية، فتقبلها وطبيعي أن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها، فإذا أعطاك هدية في الليل، جئت في الصباح تسأل عن معاملته، أين معاملة فلان؟ أنجزوها فهذا رجل فيه خير، الله يبارك فيه! لماذا؟ لأنه في الليل أتاه بخروف في البيت.
وأحدهم مدير مدرسة أتاه أبو الولد، وقال: رمينا لكم بلحمة في البيت، قال: وما هي اللحمة قال (طلي) والله ما شريته لكن من وسط الغنم، أبشرك من فضل الله علينا سارحة من البيت، وأتينا بخروف للعيال، لماذا؟ لأنه قبل الامتحانات، والولد تحصيله العلمي ليس جيداً، فأعطاه.
ومن يوم أن رآه ومدير المدرسة في الامتحانات يوصي المدرسين ويقول: انتبهوا فهذا يهمنا أمره؛ لأن الثلاجة مليئة باللحمة من أبيه.
فهذه رشوة، فهل قام هذا الرجل صاحب الغنم ووزع على كل المسلمين خرافاً؟ أم أعطاك أنت أيها المدير؛ لأن ولده عندك، وإذا نجح الولد وأصبح في المتوسطة هل سيأتي في الابتدائية ويعطيك خروفاً؟ والله لا يعطيك شعرة، وبعضهم يأتي بصندوق تمر، وصندوق زبيب، وكعك بالسمن والعسل، لكي تمشي المعاملة، هذا اسمه رشوة وهي أمحق وألعن من الرشوة الصريحة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم غضب على عبد الله بن اللتبية لما استعمله على الزكاة فرجع من الزكاة وهو يقول: هذا لي، وهذا لبيت مال المسلمين، قال: من أين لك؟ قال: أهديت إلي -ما هي التي أهديت له؟ شملة- فغضب صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً حتى لكأنه يفقع في وجهه حب الرمان، ونادى الصلاة جامعة، ثم قال: (ما بال أقوامٍ نستعملهم على الزكاة فيعودون ويقولون هذا لبيت مال المسلمين وهذا أهدي لنا، أفلا قعدوا في بيوت أمهاتهم وآبائهم، أكان يأتيهم شيء؟) لا.
إلا رجل تتهادى أنت وإياه بسبب قبل الوظيفة وبعد الوظيفة، بينك وبينه صلة صداقة، أو رحم أو جيرة وبينك وبينه هدية، فإذا أتى إليك أهداك، وإذا أتيت إليه أهديته، ثم صرت أنت في منصب واستمرت الهدية وليس لها أي مصلحة عندك، فهذه ليس فيها شيء، لكن من له مصلحة عندك فحديث النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (هدايا العمال -المسئولين- غلول) والله يقول: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161].
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الأغنياء بدينه إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وأسأل الله لنا ولكم العافية في الدنيا والآخرة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(53/16)
علامات الساعة المتبقية [2]
البعث نبأ أزعج الكفرة؛ لأن بعده الجزاء والحساب، وقد غيب الله علم الساعة لحكم جليلة ولكن وضع له علامات تدل على قرب وقوعه؛ ليتأهب المرء لذلك اليوم بالعمل الصالح المستمر، وفي هذه المادة كلامٌ نفيس عن الساعة وعلاماتها الكبرى.(54/1)
تقرير مبدأ البعث
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فإن نبأ البعث والقيام من القبور للجزاء والحساب والمؤاخذة نبأٌ أزعج الكفرة، وزلزل كيان قلوبهم؛ لأنهم لا يريدون أن يسمعوا بهذا الخبر، يريدونها حياةً متفلتةً من الضوابط والقيود، والمؤاخذة والمسئولية، يريدون أن يعيشوا في هذه الدنيا عيشة البهائم والحيوانات ويتنافسون في الشهوات، ويستغرقون في الملذات، ثم يموتون كما تموت الحمير والبقر ولا يبعثون ولا يسألون ولا يؤاخذون، هذه إرادتهم وهذا منتهى آمالهم، ولكن إرادة الله عز وجل وحكمته في الخلق اقتضت غير ذلك.
فالإنسان ليس حيواناً ولا بهيمة، الإنسان مخلوقٌ مكرم خلقه الله عز وجل لغاية ولحكمة أكبر من حكمة الأكل والشرب، والشهوات والملذات؛ خلقه الله عز وجل لأرفع عمل وأقدس رسالة ألا وهي العبادة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وهذا معنى التكريم الذي يقول الله عز وجل فيه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] والذي يقول عز وجل فيه: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18].
إرادة الله عز وجل اقتضت إعطاء هذا الإنسان نوعية خاصة من بين سائر المخلوقات ألا وهي الإرادة، لم يجعله الله إنساناً آلياً يعبد الله بغير إرادة ولا اختيار، بل منحه القدرة وأعطاه الاختيار على أن يسلك طريق الإيمان، أو أن يسلك طريق الجحيم والكفر والنيران -والعياذ بالله- ووعده إن أطاعه بالجنة، وتوعده إن عصاه بالنار، وجعل لهذا الفصل ولهذا الامتحان موعداً، وضرب له أجلاً، ألا وهو يوم القيامة، ويوم القيامة هو اليوم الذي حدده الله عز وجل ليكون موعداً لفصل القضاء بين الناس، ومحاسبتهم على ضوء أعمالهم، ومجازاتهم على سلوكهم.(54/2)
الحكمة من جعل موعد البعث والموت غيباً
وقد غيب الله علم هذا اليوم عن الناس لحكمة عظيمة، وهذه الحكمة هي أن يكون الإنسان متأهباً باستمرار؛ حتى إذا فاجأه شيء من أحداث القيامة يكون مستعداً، كما غيب الله عز وجل عن الإنسان موعد الموت، فهل يدري أحد متى يموت؟ لا يدري، ولهذا يقول الله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34] لا يستطيع أحد أن يحدد ماذا يحصل له في الغد، أو متى يموت، أو في أي وقت، أو في أي زمانٍ ومكان، وقد غيب الله علم الموت عن الإنسان ليكون متأهباً باستمرار، إذا أتى الموت وإذا به حاضر.
لكن لو علم موعد الموت لأمكن للإنسان أن يتفلت وأن يكفر وأن يشرد عن الله، وقبل الموت بأسبوع أو أسبوعين يتوب، وبالتالي ما تحققت الحكمة من العبادة، وسيبقى الناس كلهم كفرة وقبل شهر أو شهرين يتوبون وهل تعمر الأرض بالطاعة إذا عُلم الموت؟ لا.
إذاً: غيب علم الموت وقيل للناس اعبدوا ربكم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وقال لهم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] أي: حتى يأتيك الموت.
وهذه الساعة ظل الكفار يتساءلون عن خبرها، وقال فيهم ربنا عز وجل: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] أي: عن أي شيء يتساءلون ويخوضون؟ عن الحقيقة الكبرى التي يتجاهلونها ويعرضون عنها، ويسفهون حلم من قال بها رغم أدلتها القاطعة، وبياناتها الساطعة، ورغم آثار الله وقدرته في الأرض، فخلق الإنسان دليل على البعث فالله يقول: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28].
فيقول ربنا جل وعلا: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] عن أي شيء يسألون ويتساءلون وهم ما بين مكذب ومصدق وظان وشاك؟: {عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ:2] الذي يستوجب منهم التصديق لعظمته؛ ولأن أمر البعث عظيم جداً، إذ بدون البعث لا يستقيم سلوك الناس في هذه الحياة: {عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:2 - 4] (كلا) أداة زجر وردع وتوبيخ: {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:5] والتكرار للتأكيد.(54/3)
الأدلة على حقيقة البعث والنشور في سورة النبأ
بدأ ربنا تبارك وتعالى في جولة أرضية وجولة سماوية بالتقرير على مبدأ البعث فقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} [النبأ:6] ألم نمهدها ونهيئها من أجل استقبالكم للعيش عليها ولبلوغكم سن التكليف، ثم بلوغكم آيات الشرع وأحكام الشرع، ثم قيام الحجة عليكم؟: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} [النبأ:6 - 10] وليس هذا وقت تفسير لبعض هذه الآيات وأسرارها، لكني أوردتها للدلالة على أمر البعث وأنه كائن لا محالة، ثم بعد ذلك قال عز وجل: {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} [النبأ:13] بعد الجولة الأرضية جولة في الملأ الأعلى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً} [النبأ:14] المعصرات: أي: السحب {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} [النبأ:15 - 16] كل هذا لماذا؟ {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} [النبأ:17] عملنا هذا من أجل يوم الفصل فإنه كان ميقاتاً مضروباً، وموعداً معلوماً لفصل القضاء، وسمي يوم الفصل لأنه يفصل بين الخلائق، يفصل بينهم ويقسمون إلى فريقين: فريق: أهل الإيمان -جعلنا الله وإياكم منهم- إلى الجنة، وفريق: أهل الكفر والمعاصي والنفاق -نعوذ بالله جميعاً منهم- إلى النار.
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} [النبأ:17] وكأن قائلاً يقول: يا ربِّ متى هذا اليوم؟: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} [النبأ:18] لا يستطيع أن يتخلف أحد عن هذا المجيء؛ لأن الله يقول: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] لا يخفى من الناس أحد على الله عز وجل، يحضرون كلهم من آدم إلى آخر واحد يموت: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً * وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً} [النبأ:18 - 19] لنزول الملائكة: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً * إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلطَّاغِينَ مَآباً} [النبأ:20 - 22] الطاغين: أهل الطغيان الذين طغوا وبغوا وتجاوزا الحدود، طغوا على أوامر الله، وطغوا على عباد الله، وطغوا على أنفسهم؛ لأن الطغيان ضلال وهلاك في الدنيا والآخرة، {لِلطَّاغِينَ مَآباً} ومصيراً: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} [النبأ:23 - 25] وانظرا إلى التعبير بالحميم بعد البرد، قال الله {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً} [النبأ:24] يقول العلماء: (برداً) يحمل معنيين: نوماً، وقيل شراباً بارداً؛ ولكن ليس شراباً ولا برداً {إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} [النبأ:25] والحميم هو الماء الذي بلغت درجة غليانه أقصى درجة، وتصور أنك عندما تكون وعطشان في مدينة من المدن الحارة ثم قدم لك ماء يفور فتشربه فيزيدك ناراً، لكن لو قدم لك ماء بارداً يبرد جوفك لكان ذلك حسناً، ولهذا يطلب أهل النار من أهل الجنة: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50].
أمر البعث أيها الإخوة! شيء لا محالة من وقوعه، وله علامات، وقد ذكرنا في الماضي بعض العلامات وسوف نختم هذه الليلة ذكرها، وذكرنا في الأسبوع الماضي في خميس مشيط اثنتين من علامات الساعة الكبرى التي تأتي قبل حدوث الساعة مباشرةً، يسمونها الآيات العشر العظام، التي إذا وقعت فلن يكون هناك شيء إلا الساعة بعدها، وإذا وقعت الأولى تتابعت كنظام، أي: كمسبحة أو عقد انقطع فتتابعت خرزاته.(54/4)
من علامات الساعة الكبرى: نزول عيسى وخروج الدجال
من علامات الساعة: نزول عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة وأزكى السلام، وقد أخبر الله عز وجل في القرآن الكريم أن اليهود لم يقتلوه كما يزعمون، وأن هذه الدعوة التي ادعوها باطلة، رغم أن النصارى صدقوها، والحقيقة التي يخبرنا الله عز وجل عنها وهي الصدق، والحق في القضية أن عيسى لم يقتل، ولكن الله عز وجل ألقى شبهه على غيره فقتلوا ذلك الشبيه، وهو شبيه طبق الأصل لعيسى بن مريم، فظنوا أنه قتل، والله يقول: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] أما هو فقد رفعه الله عز وجل إلى السماء، وقضية عيسى كلها؛ من خلقه، ومن رفعه، ومن نزوله كلها قضية خاصة به، مغايرة لما اعتاد الناس عليه، فإن الناس يخلقون من أم وأب وعيسى خلق من أمٍ بلا أب، وقد أشكل هذا الأمر على اليهود والنصارى فقالوا: إنه ابن الله، تعالى الله عز وجل عن أن يكون له ولد، يقول الله: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:90 - 95].
صاحب هذه القوة هل يحتاج إلى ولد يساعده؟! صفة الولد هذه صفة كمال في البشر، فالرجل من صفات الكمال فيه أن يكون له ولد أليس كذلك؟ لأنه ضعيف يحتاج إلى مساعد، فيقول: (الولد للحورة والبورة والكبر والحاجة) لكن الله عز وجل صفة الولد له صفة نقص في كماله تبارك وتعالى، فلا يجوز أن ينسب له الولد؛ لأننا إذا نسبنا له الولد نبسنا له الحاجة وهو منزه عن ذلك، ولهذا قال الله لما سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينسب ربه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2] أي: الذي تصمد وتحتاج وترجع إليه كل الكائنات ولا يحتاج إلى أحد {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4].(54/5)
بيان خلق عيسى عليه السلام
ولذا لما أشكل خلق عيسى عليهم وقالوا: كيف يكون ولد من أم بدون أب، لا بد أن يكون له أب، فمن أبوه؟ رد الله عز وجل عليهم كيف تستشكلون أمر عيسى أن خلق من أمٍ بلا أب، ولا تستشكلون أمر آدم أن خلق من غير أم ولا أب، ولهذا قال الله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59].
والناس مخلوقون على أربعة أشكال: الأول: شكل من أم بلا أب وهو عيسى.
الثاني: شكل من أب بلا أم وهي حواء، فمن هي أمها؟ ليس لها أم، خلقها الله من ضلع آدم الأيسر، ولهذا خلقت من ضلع أعوج وليس من ضلع سمح -أي مستقيم- ولهذا ليس هناك في الدنيا امرأة سمحة، لا بد أن يكون فيها عوج، وأعوج ما في الضلع أعلاه -أي لسان المرأة- ولهذا يقولون في المثل: أول ما يموت في المرأة عقلها، وآخر ما يموت لسانها.
المرأة هكذا، ولذا أنت إذا تعاملت مع المرأة على هذه القاعدة استمتعت بها ونجحت معها دون مشاكل، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (إن النساء خلقن من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فاستمتعوا بهن على عوجهن) إذا كنت تريد امرأة ليس فيها عوج فلا توجد إلا في الجنة لماذا؟ لأن الله قال: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [الواقعة:35] أنشأهن الله كرامة لك يا عبد الله في الجنة: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} [الواقعة:36] * {عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:37] عُرُباً: يعني متحببات، المرأة العروب التي لا يكرهها الشخص، عروب يعني تتبعل لزوجها بشكل يجعلها ملكة جمال في عينه، تتبعل له في كلامها، وفي رائحتها، وفي ملابسها، في كل حياتها عروب: {عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:37] يعني في سن واحدة.
فحواء خلقت من أبٍ بلا أم، أي: عكس عيسى، وآدم خلق من غير أم ولا أب قبضة من الطين، نفخ الله فيه من روحه ثم أسجد له الملائكة وأنزله بعد المعصية والمخالفة إلى هذه الأرض.
وسائر الخلق كلهم مخلوقون من أبٍ وأم، فخلق عيسى في الأصل إعجاز وآية، لماذا خلقه الله عز وجل من أم بلا أب؟ قال الله عز وجل: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً} [مريم:21] نجعل خلق عيسى دلالة على قدرة الله وعظمته، آية من آيات الله أن يوجد مخلوق من أمٍ بلا أب، قد تقولون: كيف يوجد رجل هكذا؟ مستحيل الآن في العلم وفي الطب، لابد من حيوان منوي يخرج من رجل ويأتي إلى بويضة في المرأة ويحصل التلقيح والاختلاط ثم يعيش هكذا في عرفنا، لكنّ رب العالمين لا يعجزه شيء: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39] تبارك وتعالى، ليس في حسابات الله شيء معجز أبداً، المعجز والصعب علينا نحن؛ لأننا بشر لا نملك من أنفسنا ولا لأنفسنا نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، أما الله فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء سبحانه تبارك وتعالى.
فعيسى عليه السلام حينما خلق كان خلقه آية، وحينما رفع كان رفعه آية، ما مات ولا قتلوه، قال الله عز وجل: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء:157 - 158] وأشار الله عز وجل في القرآن الكريم إلى أن عيسى عليه السلام سينزل في آخر الزمان، وأن النزول سيكون علامة من علامات قرب قيام الساعة: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:61].
كما أخبر أن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) في ذلك الزمان سيؤمنون به وهو يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159] يؤمنون به في آخر الأمر وهو يحكم بالإسلام، ينزل عيسى ليحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاء تفصيل هذا في السنة المطهرة، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم خبراً صحيحاً وهو عندما تشتد فتنة الدجال، وفتنة الدجال تحدثنا عنها بإسهاب في الأسبوع الماضي في الخميس، والذين تابعوها وحضروا الجلسة حصل لهم فهم كامل فيها، والذين ما حضروها فأوصيهم أن يشتروا هذا الشريط، ليكونوا على علم؛ لأن فتنة الدجال فتنة من أشد الفتن التي ستمر بالبشر، ولم يعرفوا فتنة أعظم منها منذ خلق الله آدم إلى يوم القيامة، ليس هناك أعظم من تلك الفتنة، فإنه يأتي بأشياء لا يأتي بها أحد من الناس، فيحيي الأموات، ويأمر الأرض فتنبت، ويأمر السماء فتمطر، ويدخل الخربات فتخرج الكنوز معه، عنده جنة وعنده نار، يقتل الشخص ويرمي بكل شق في أرض ثم يجمعها ويحيه، ويدعي أنه الله، فينطلي هذا الكلام على كثير من البشر فيتبعونه بالملايين، والذي لا يتبعه يشق رأسه -ومن الذي يصبر على شق الرأس؟! - الذي لا يتبعه يضع المنشار على رأسه وينشره إلى أن يصبح شقين.
والآن تجد الناس يخرجون من الدين بغير دجال، يخرجون من الدين بأغنية، أو بشبهة، أو بلعبة، أو بفلوس، بل بعضهم بدون أي شيء، فكيف إذا رأوا الدجال؟! ولكن الله عز وجل قد بين لنا أمر الدجال، وبينه صلى الله عليه وسلم في السنة بحيث أنه من يسمع ذلك الشريط كأنما يرى الدجال واقفاً أمامه، أعور والله ليس بأعور، والعور في عينه اليمنى، كأنها عنبة طافية مفقوعة، ثم أفجح، وهو رجل كبير ضخم طويل، يأكل ويشرب وينام ويبول ويتغوط، يجري عليه ما يجري على البشر، والله عز وجل ليست هذه من صفاته كلها، ولذا أهل الإيمان إذا رأوه علموا أنه الدجال؛ حتى ذلك الرجل الشاب المؤمن الذي يأتي إليه فيقسمه ثم يرجم به في الشرق والغرب ثم يرده مرة أخرى، فيقول: والله ما ازددت إلا إيماناً بأنك الدجال، فلا يسلط عليه ولا على أحدٍ من بعده من المسلمين، وعندما تشتد فتنة الدجال على الأمة ويضيق الأمر بأهل الإيمان في ذلك الزمن ينزل الله عز وجل عبده عيسى عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق في الشام.
روى الطبراني في معجمه عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينزل عيسى عند المنارة البيضاء شرقي دمشق) وهذا الحديث صحيح ذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير.(54/6)
أول عمل يعمله عيسى في الأرض: هو قتله الدجال
وقد وصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم صفة أو حالة نزوله فقال فيما يرويه أبو داود بسند صحيح: (ليس بيني وبين عيسى نبي، وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه رجلٌ مربوع -مربوع القامة- إلى الحمرة والبياض؛ كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل) أي: من الادهان كأن رأسه يقطر ولو لم يصبه بلل، وأول عمل يقوم به عيسى بعد نزوله هو مواجهة الدجال، يبحث عنه حتى يأتيه، فبعد نزوله يتجه إلى بيت المقدس، حيث يكون الدجال محاصراً لعصابة من عباد الله المؤمنين وبينما هو كذلك إذ يأتي عيسى من شرقي دمشق فيأمرهم عيسى -وهم بالداخل- بفتح الباب، فإذا انصرف قال عيسى: افتحوا الباب، فيفتحون ووراءه الدجال ومعه سبعون ألف يهودي من أتباعه، كلهم ذو سيف محلل وسياج، كلهم مقاتلون، فإذا نظر الدجال إلى عيسى عليه السلام ذاب كما يذوب الملح في الماء، فيهرب فيدركه عند باب لد، واللد مدينة من مدن فلسطين وهي موجودة الآن مع اليهود في فلسطين، يدركه عند باب اللد الشرقي فيقتله، يقضي عليه عند باب اللد، ويهزم الله عز وجل اليهود.
هذا الحديث ذكره الإمام السيوطي وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير.
وفي صحيح مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رآه عدو الله -يعني الدجال- ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته) هو يذوب وعندما يراه يذوب لكنه لا يذوب حتى ينتهي إنما يتضاءل ويدركه ويقتله، والسر في قتله ولم يتركه حتى ينتهي ليزيل شبهة تبقى في قلوب الناس أنه ربما يرجع.
وإن الله عز وجل أعطى لعيسى عليه السلام رائحة خاصة لنفسه إذا وجدها الكافر مات منها على بعد، والحديث في صحيح مسلم، عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: (فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق واضعاً كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمام كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريحه أو ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه) أينما يبلغ مدى عينه، نفسه يذهب على مدى عينه، فيطلبه -يعني يطلب الدجال- فيدركه في باب لد فيقتله، ثم يأتي عيسى بن مريم قوماً قد عصمهم الله من الدجال فيمسح وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم من الجنة.(54/7)
الأعمال التي يقوم بها عيسى بعد قتله الدجال
ما هي الأعباء التي سيقوم بها عيسى بعد قتله للدجال؟ يقضي عيسى على الدجال أولاً، ويخرج يأجوج ومأجوج في زمانه كما سيأتي، ويفسدون في الأرض فساداً عظيماً لا يعلمه إلا الله لكثرتهم، ويدعو عيسى عليه السلام ربه عز وجل، فيصبحون موتى لا يبقى منهم أحد، وعند ذلك يتفرغ عيسى بعد هلاك الدجال وهلاك يأجوج ومأجوج للمهمة التي أنزله الله من أجلها، ألا وهي تحكيم شريعة الله عز وجل، والقضاء على المبادئ والدعوات والأديان المنحرفة، فلا يبقى في الأرض دين ولا مبدأ، ولا دعوة إلا دعوة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ففي صحيح البخاري وصحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب -الصليب شعار النصارى- ويقتل الخنزير، ويضع الحرث، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها) يعني من تسابق الناس ورغبتهم في فعل الخير، يعملون الأعمال الصالحة، ويتفاضلون ويتنافسون في عملها، حتى تكون السجدة الواحدة عند أحدهم أفضل من الدنيا وما عليها، سباق في العمل الصالح، لماذا؟ لأن الأرض كلها عمرت بدين الله عز وجل.
وفي رواية لـ مسلم قال: (والذي نفسي بيده لينزلن ابن مريم حكماً عدلاً وليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية -لا يوجد إلا الإسلام أو السيف، إما دخول في دين الله أو القتل- ولتذهبن الشحناء من الناس، ولينقضين التباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد) تقول: خذ فلوساً، يقول: لا أريد، لأنه مشغول بما هو أهم من ذلك، الخير موجود وهو مشغول بطاعة الله تبارك وتعالى.
وفي صحيح مسلم أيضاً، عن النواس بن سمعان حين ذكر حديثاً طويلاً فيه الدجال ونزول عيسى بن مريم، وخروج يأجوج ومأجوج، وفي آخر الحديث ذكر صلى الله عليه وسلم دعاء عيسى ربه فقال: (فيستجيب الله ويهلك يأجوج ومأجوج، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم -زهم يأجوج ومأجوج؛ لأنه يأتيهم مرض في حلوقهم، مثل النغفة، تطلع له مصيبة في رقبته حتى تضيق عليه مجرى النفس فلا يستطيع أن يتنفس فيموتون كلهم، ثم ينزل عيسى وقد ملأ الأرض زهمهم يعني رائحتهم ونتنهم- فيرغب إلى الله عز وجل، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت فتحملهم وتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطراً فيغسل الله الأرض حتى يتركها كالزلقة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتكِ، وردي بركتك، فيأكل العصابة من الرمانة) العصابة: يعني مجموعة من الرجال، يأكلون رمانة ويشبعون منها ويستظلون بقحفها، يعني: المكان الذي كان فيه الرمان وهم عصابة من الرجال يأكلون من الرمانة، ثم ينصبونها خيمة ينامون تحتها من كبر الثمرة، هذه الثمرة مثل الخيمة فكيف الشجرة؟ لماذا؟ لأن الله عز وجل قد غسل الأرض من أدران العباد، إن الفساد الذي ترونه الآن في الثمار كله بأسباب ذنوب الناس ومعاصيهم، والله ما تغير شيء في الأرض من مطر، ولا من ثمر، ولا من مرض، ولا من وباء إلا بأسباب ذنوب العباد، يقول الله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] فإذا غسل الله الذنوب ولم يبق في الأرض شيء قال الله للأرض: أخرجي البركة التي كانت فيكِ، والتي كان يجب أن تكون موجودة فيك بكل زمان لو أن الناس استقاموا على دين الله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجن:16] لكن كيف ينتظر الناس أن يسقيهم الله الماء والمطر وهم على المعاصي والذنوب، كيف؟ لا يمكن أبداًً، ولو سقاهم الله لسقاهم بدون بركة، ولو دعوا الله فلن يستجيب لهم؛ لأنهم لم يتوبوا من المعاص والذنوب، ادع الله وأنت نظيف طاهر من الذنوب والمعاصي ليستجيب الله لك، أما أن تدعو الله وأنت غافل، فلا يستجيب الله للغافل ولا للعاصي غير المضطر: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62].
(فتأكل العصابة من الرمانة ثم يستظلون بقحفها، ويبارك الله في الرسل -الرسل: اللبن- حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس) يعني الواحدة تكفي القبائل، الفئام: يعني: القبائل من الناس، قبيلة عسير وقحطان وشهران تكفيهم لقحة واحدة، من البركات التي أنزلها الله عز وجل: (وإن اللقحة من البقر لتكفي القبيلة الواحدة، وإن اللقحة الواحدة من الشاة لتكفي الفخذ من الناس) يعني المجموعة الذين هم (مائة مائتين ثلاثمائة أربعمائة نفر) تكفيهم واحدة من الغنم، وهذا كله بسبب البركة التي تنزل على الناس حين يحكمون بشريعة الله، ويلتزمون بمنهج الله، ولا يبقى في الأرض كفر، ولا معصية، ولا دين إلا دين الإسلام حتى لا يوجد شخص يعصي الله عز وجل، فهناك تنزل عليهم البركة.
ومما يؤخذ من النصوص في موضوع عيسى عليه السلام أنه نازل لا محالة في آخر الزمان، والتكذيب بنزوله تكذيبٌ بالقرآن وبما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أشار الله إلى ذلك في قوله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} [النساء:159].
ثانياً: أن عيسى عليه السلام يحكم بشريعة الإسلام.
ثالثاً: أنه يقضي على جميع الأديان ولا يقبل من أحدٍ إلا الإسلام، ولهذا فإنه يكسر الصليب وهو رمز النصارى، ويقتل الخنزير الذي حرمه الله عز وجل، ويضع الجزية فلا يقبل من اليهود والنصارى إلا الإسلام، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (يقاتل الناس على الإسلام ويدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الله بزمانه الملل كلها إلا ملة الإسلام).
الرابع: أن الرخاء يعم، وأن سيادة السلام والأمن في ذلك الزمان تنتشر ولا يبقى في الناس حرب ولا قتل ولا شحناء، وإنما أمن وأمان وإسلام ورخاء لم تعرفه البشرية عبر حياتها الطويلة.
أما مكثه في الأرض ومدة بقائه: فإنه يمكث في الأرض أربعين سنة، وهذا ورد في حديث صحيح في سنن أبي داود قال: (فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون) وهو في أثناء إقامته أربعين عاماً يحكم بالإسلام، ويصلي إلى قبلة المسلمين، كما ثبت أنه يحج البيت العتيق عليه صلاة الله وسلامه، ففي صحيح مسلم، وفي مسند أحمد قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بـ فج الروحاء حاجاً ومعتمراً) والروحاء مكان على طريق مكة والمدينة يبعد عن المدينة حوالي أربعين ميلاً، والرسول يقسم أنه سوف يهل، أي سيأتي من بيت المقدس على طريق المدينة، ويهل من طريق الروحاء بين مكة والمدينة على بعد أربعين ميلاً حاجاً ومعتمراً، اللهم صلِّ وسلم على رسول الله.(54/8)
من علامات الساعة الكبرى: خروج يأجوج ومأجوج
من علامات الساعة: خروج يأجوج ومأجوج، وهما أمتان عظيمتان من ذرية آدم، ثبت في الصحيحين أن الله عز وجل يقول لآدم: (يا آدم! أخرج بعث النار، قال: ربي وما بعث النار، قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة -لا إله إلا الله- فحينئذٍ يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، فقال صلى الله عليه وسلم لما رأى الصحابة تأثروا: إن فيكم أمتين ما كانتا بشيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج) وطبعاً من كل ألف واحد إلى الجنة صعب جداً، متى تكون أنت؟ في المائة الأولى أم المائة الثانية أم المائة الثالثة؟ تسعمائة وتسعة وتسعون للنار، وأنت واحد من الألف -نسأل الله لنا وإياكم أن نكون من الناجين- لكن التسعمائة والتسعة والتسعين التغطية والنقص يأتي من يأجوج ومأجوج، ليفرح أهل الإيمان، وليطمئنوا إلى أنهم إن شاء الله من الناجين والله عز وجل لا يخلف الميعاد: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44].
المهم أنك تأتي بالذي عندك من عبادة وعقيدة وسلوك ومعاملة وإخلاص وأخلاق إذا أتيت بها فلا تخف لأن الله لا يظلمك: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء:40] ويقول: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:89 - 90]: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160] إذا أتيت بحسنة واحدة آتاك الله عشر حسنات.
وقد أخبر الله تبارك وتعالى أن السد الذي أقامه ذو القرنين مانع لهم من الخروج، هم الآن موجودون في علم الله ولا نعلم مكانهم حتى لا يأتينا أحد ويقول: أنا رأيت الكرة الأرضية وطلعت إلى القمر ورأيناهم، نقول: إنهم موجودون أو إنهم سيأتون، يعني إذا أذن الله عز وجل بخروجهم خرجوا، وبعض العلماء يقول: إن العدد الذي يتكاثر منه الآن شعب الصين عدد غير معقول أبداً فقد بلغوا الآن ألف مليون، يعني ربع سكان الأرض من الصين، وهم يتكاثرون مثل الجراد، وبعض الصينيات تلد ستة في المرة الواحدة، بطنها صغير لكنها تلد ستة أو سبعة أو ثلاثة أو أربعة، بينما المرأة هنا لا تلد إلا واحداً.
ومدينة بكين عاصمة الصين عدد سكانها عشرة مليون نسمة، يعني بقدر سكان المملكة العربية السعودية، هذا في مدينة واحدة ومدنهم كثيرة جداً.
فلا نستطيع أن نجزم أنهم هؤلاء؛ لكن قد يكونون من ذريتهم، يعني هؤلاء الألف مليون الآن أليسوا يتزوجون؟ يتزوجون ويتناكحون ويتناسلون، بمعنى أنهم يتكاثرون فلا تمر فترة من الزمن إلا وقد صاروا مثل عددهم الآن عشرات المرات.
يقول الله عز وجل: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً} [الكهف:97].
وهنا تعبير جميل وإشارة لطيفة في قول الله عز وجل: (اسطاعوا)، (واستطاعوا) {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف:97] لا يقدرون على الظهور، ثم قال: {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً} [الكهف:97] ما قال (اسطاعوا) لأنهم ما داموا عاجزين عن الظهور فهم أعجز من أن ينقبوه؛ فزاد في بناء الكلمة، هناك (اسطاعوا) رباعي، وهنا (استطاعوا) سداسي، والزيادة في المبنى تدل على العمق والأصالة والقوة في المعنى، فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً، لكن إذا جاء وعد الله وأمر الله قال الله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} [الكهف:98] ولا يمنعهم سد في ذلك الوقت، ويخرجون مثل الجراد: {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} [الكهف:98] ثم يخرجون كموج البحر مثل البحر إذا فاض على الناس، يقول الله عز وجل: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} [الكهف:99] وذلك قرب قيام الساعة: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} [الكهف:99].
وقد أخبر الله عز وجل في موضع آخر عن نقبهم السد وخروجهم منه، قال عز وجل: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ * إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:96 - 98]-نعوذ بالله جمعياً من ذلك- {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء:99 - 100].
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه فتح من ردم يأجوج ومأجوج في عصره فتحة بسيطة، وهذا إنذار أنه إذا فتح من شيء شيء فبداية الفتح الكبير، والحديث في صحيح البخاري تقول زينب بنت جحش رضي الله عنها: (دخل صلى الله عليه وسلم يوماً عليَّ فزعاً مرعباً وهو يصيح، لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرٍ قد اقترب، فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! -أليس الصلاح أمان من العذاب- قال: نعم إذا كثر الخبث) إن الغالبية تأخذ حكم الندرة، أنت الآن عندما ترى ثوراً أسود وفيه شعرات بيض، فماذا تقول: أبيض أو أسود؟! تقول: ثور أسود ولو وجد فيه مائة شعرة بيضاء، وإذا رأيت ثوراً أبيض وفيه مائتا شعرة سوداء ماذا تقول: أسود أو تقول أبيض؟ تقول أبيض، فالغالبية تأخذ الحكم، إذا كثر الخبث، وكثر الفساد نزل التدمير والعذاب، وإذا كثر الصلاح وعم الخير ولو وجدت جزئيات فساد فإن الله عز وجل يرحم العباد.(54/9)
من علامات الساعة الكبرى: طلوع الشمس من مغربها
من علامات الساعة: طلوع الشمس من مغربها، وهذه علامة كبيرة وآيةٌ دالة على وقوع الساعة والحديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا جميعاً فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً) وتلك الليلة يقول المفسرون عنها: أنها تكون طويلة، أي: تغرب الشمس من هنا وينتظر شروقها بعد عشر ساعات أو إحدى عشر ساعة حسب طول الليل والنهار، لكن في تلك الليلة التي تشرق من مغربها ترجع إلى هنا عشر ساعات، ثم تستأذن الله في أن تشرق من مشرقها كالعادة، فالله عز وجل لا يأذن لها؛ لأن ما من يوم تشرق فيه الشمس إلا بإذن الله، فيطول ليل الناس، لأن الشمس ما طلعت عليهم؛ لأنها رجعت، وبينما هم ينتظرون في الليلة الثانية إذا بها تشرق من المغرب، فعند ذلك كل واحد يقول: لا إله إلا الله، لكن لا ينفع، قال عز وجل: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:158] الذي آمن من قبل تلك الليلة بلحظة واحدة تنفعه، لكن عندما يراها وقال: لا إله إلا الله! لا ينفع، لا بد من التوبة قبلها، ما لم تطلع الشمس من مغربها أو يغرغر الإنسان، تقبل توبة الناس كلهم ما لم تطلع الشمس من مغربها، لكن إذا طلعت من الذي سيبقى على كفره، حتى جورباتشوف سيقول: لا إله إلا الله؛ لأنه رآها طالعة من المغرب فهنا {لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158].(54/10)
من علامات الساعة الكبرى: خروج الدابة
من علامات الساعة: خروج الدابة، والدابة آية من آيات الله تخرج في آخر الزمان؛ حين يكثر الشر ويعم الفساد، ويكون الخير قليلاً في ذلك الزمان، وهذه الدابة ذكرها الله عز وجل في القرآن، قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82] وهذه الدابة هي مغايرة لما تعارف عليه الناس وعرفوه من دواب الأرض؛ لأنها تخاطب الناس وتكلمهم، ومعها ختم ولها شم، تختم في جبين المؤمن يا مؤمن، وتختم في جبين الكافر يا كافر، حتى يتبايع الرجلان في السوق بكم يا كافر؟ قال ذاك: بخمسين يا مؤمن، ما عاد محمد ولا علي ولا زيد؛ إلا كافر ومؤمن فقط، ثم إنها مكتوبة في جبينه لا يستطيع أحد أن يمسحها، أو يجري عملية ليزيلها، مختومة في جبينه إلى أن يدخل النار، وذاك مؤمن إلى أن يدخل الجنة بإذن الله عز وجل.
وقد ذكرت جملة أحاديث؛ منها ما رواه الإمام البخاري والإمام أحمد وذكرها البغوي في حديث علي بن الجعد، وأخرجه أبو نعيم بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنه يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم ثم يعمرون -يعني يعش الناس وعليهم هذه العلامة- حتى يشتري الرجل البعير فيقول: ممن اشتريته، فيقول: اشتريته من أحد المخطمين) أي الذي فيه العلامة كافر أو مؤمن -نسأل الله تبارك وتعالى أن يحمينا وإياكم- وهي تخرج من صدعٍ تحت الصفا من جبل في مكة -وهو غار تخرج منه- فتحشر الناس وتسوقهم وتتركهم لا يفوتها هارب، ولا يدركها طالب، وتأتي به وتضع في جبينه ذلك الأمر، ونعوذ بالله من أن يكتب في جبين أحدنا كافر.(54/11)
خروج النار من قعر عدن
من علامات الساعة أيضاً: خروج النار التي تحشر الناس إلى أرض المحشر؛ لأن المحشر لا أحد يريد أن يأتي فيه، والناس يتفلتون منه، مثل -الآن- المرور إذا أمسكوا ناساً على الإشارات، أو الفحص الدوري أو الرخص، فلا يمسكون إلا الذي يرونه؛ لكن إذا رآهم شخص من بعيد لف، إذا كنت ذاهباً الخميس ورأيت أنهم يمسكون الناس عند السجن هناك إذا بك تأخذ الطريق على اليسار تريد الهروب.
كذلك رب العالمين يحشر الناس كلهم يخرج ناراً تحشر الناس حشراً، تبيت معهم حيث باتوا، إذا ناموا نامت، وإذا قاموا قامت، وتقيم معهم حيث قاموا، وتحشرهم إلى أن تذهب بهم إلى أرض المحشر، هذه النار تخرج في آخر الزمان من قعر عدن، وقد حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كيفية حشر الناس بالنار، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين وراهبين، وعلى بعير وعلى بعيرين، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الناس لا يستطيعون الخلاص منها، وأنها تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا) هذه سبع علامات من علامات الساعة العظام.(54/12)
من علامات الساعة الكبرى: وقوع ثلاثة خسوف
وبقي ثلاث وهي الخسوف التي تحصل في الأرض، خسفٌ في المشرق، وخسفٌ في المغرب، وخسفٌ يقع في جزيرة العرب، فإذا وقعت هذه الأمور كلها فإن الساعة بعدها تقع بدون أي تأخير -نعوذ بالله أن تقوم الساعة علينا- لأنها لا تقوم إلا على شرار الخلق، ولا تقوم حتى لا يقال في الأرض الله الله، حين ينزع القرآن، ويسرى عليه بالليل، فلا يبقى من القرآن على المصاحف هذه حرف واحد، فيصبح الناس ولا في صدر أحدهم آية، ولا في كتب أحدهم سطر واحد، فيعيشون لا يعرفون حلالاً ولا حراماً، ثم يصير مثل الحكاية أن في مكان كذا رجل يقول: لا إله إلا الله، يعرف لا إله إلا الله، يقول: لا يعرف من الدين إلا هذه الكلمة، وهذا شيء غريب ونادر، هنالك تقوم الساعة على شرار الناس، نعوذ بالله وإياكم من معصية الله ومن غضب الله تبارك وتعالى.(54/13)
الأسئلة(54/14)
مسألة: الكفارة إذا تعددت الأيمان
السؤال
عليَّ أيمانٌ كثيرة لا أعرف عددها هل أكفر بكفارة واحدة أم ماذا أعمل، أنا في حيرة من أمري؟
الجواب
إذا حلف الإنسان على شيء معين ثم رأى أنه حنث في يمينه فإنه عليه كفارة يمين، وهي على التخيير بثلاثة أشياء: عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، لا ينتقل إلى الصيام إلا بعد العجز عن هذه الثلاث، وإذا كانت يمينين، حلف مرة في مناسبة ثم حلف أخرى في مناسبة، ثم حلف في مناسبة على هذا الشيء المعين، كأن يكون حلف أنه لا يدخل على جاره، ثم ذكر في موضع آخر وقال: والله لا أدخل عليه مرة أخرى، ثم في مجلس آخر قال: والله لا أدخل عليه، حلف أكثر من مرة ثم أراد أن يكفر فإنه يكفيه لجميع هذه الأيمان كفارة واحدة.
أما إذا حلف على أشياء متعددة حلف أن لا يدخل على جاره فعليه كفارة، ثم حلف أن لا يذهب إلى زميل له مثلاً وحنث في يمينه فعليه كفارة أخرى، وهذا الأخ عنده أيمان متعددة ولا يعرف كم عددها، يسأل نفسه هل هذه الأيمان على شيء واحد أو على أشياء متعددة؟ إن كان على شيء واحد وهي أيمانٌ متعددة فيكفي كفارة واحدة، وإن كانت هذه الأيمان على أشياء متعددة فيحصر هذه الأشياء ويعدها، ويكفر على كل نوع من هذه الأيمان كفارة لكل واحدة.(54/15)
وسائل تعين على الابتعاد عن التدخين
السؤال
أريد أن أبتعد عن التدخين، فما هي الطريقة الصحيحة إلى ذلك؟
الجواب
هناك طرق علمية ذكرها العلماء والأطباء، ولكنها أثبتت فشلها، إنما الطريقة الصحيحة استشعار عظمة الله، والخوف من عذاب الله، ويقينك أيها المدخن أنك مسئولٌ بين يدي الله عن كل ريال تنفقه في هذا الدخان، وأنك مؤاخذ بين يدي الله عن كل تصرف منك في السبيل؛ لأن الحديث: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: منها: عن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه) فهل يستطيع شارب الدخان أن يقف بوجه قوي أمام الله ويقول: كنت أشتري بهذا الريال دخاناً؟ لا يستطيع، لا يستطيع أن يشرب في المسجد، ولا بين يدي العلماء، ولا في المحاكم، ولا مع أهل الفضل، فكيف يستطيع أن يعترف به يوم القيامة؟ فاستشعر هذا.
ثم اعرف ضرره المالي عليك، وضرره الجسمي، وضرره الخلقي، وضرره الديني، وضرره العقلي، واعرف أنه لا خير فيه من طريق من الطرق، ليس فيه خير أبداً ولا أي مصلحة، والعالم كله يعترف بأنه مضر، والمسلم أولى الناس بأن يتركه، فاستعن بالله واطلب من الله أن يعصم قلبك، وصمم بتصميم الرجال، وعزيمة الأبطال، واستشعر أن بينك وبين هذه السيجارة معركة وانظر هل أنت أقوى أم هي؟ فإن كنت أقوى من السيجارة انتصرت عليها وصممت على تركها، وإن كنت أضعف من السيجارة تقول: والله ما أقدر عليها، إذاً: الذي ينهزم أمام سيجارة من سجائره هذا مسكين مهزوم في كل شيء، ولن يستطيع أن ينجح لا في الدنيا ولا في الآخرة والعياذ بالله.
ثم وسائل عملية منها: أولاً: أن تبتعد عن المدخنين، ومجالس المدخنين؛ لأنك كلما ذكرت وشممت رائحتهم تذكرت الدخان.
ثانياً: أن تضع في جيبك علبة الدخان التي تفرغها من السجائر وتضع فيها من حلوى النعناع، بحيث إذا أردت أن تخرج جمرة تخرج بدلها حبة حلوى، ومصها، مرة ومرتين وثلاث حتى يعينك الله عز وجل، ثم لا بد من الإرادة، فأهم شيء الإرادة، الأطباء الآن والدكاترة كلهم يقررون ويعترفون أن الدخان سبب رئيسي في إصابة الإنسان بأمراض خطيرة، ومع هذا أكثر فئة تدخن هم الأطباء.
وقلت مرة لطبيب دخلت عليه وهو يدخن وقلت: أليس الدخان مضراً؟ قال: بلى.
قلت: هل تنصح الناس منه؟ قال: نعم والله، قلت: من تنصح؟ قال: أنصح أصحاب القرحة المعدية، وأصحاب التهاب القلوب، وأصحاب التهاب الرئة، قلت: لماذا؟ قال: هذا يفتك بهم، قلت: وأنت ما تتوقع؟ قال: والله أتوقع لكن أنا ضعيف إرادة، مسكين ضعف إرادة وهو يعرف أن هذا خطير وأنه مضر، وهو أعرف الناس بأمراضه وآثاره ومع هذا يدخن.(54/16)
حكم زكاة الحلي ومقدارها
السؤال
كيف تخرج زكاة الذهب؟
الجواب
زكاة الذهب في أصح أقوال العلماء أن الذهب الذي يلبس والذي لا يلبس فيه زكاة إذا بلغ النصاب، يعني إذا زاد عن ثمانين جراماً، تؤخذ هذه الحلي كلها في وعاء ويذهب بها إلى الصائغ ويزنها، ثم تُسعر بسعر وقتها، ثم يضرب ناتج قيمتها في اثنين ونصف وتخرجه، إذا كان ثمن هذه الحلي عشرين ألف تخرج خمسمائة ريال، وإذا كان ثمن هذه الحلي عشرة آلاف تخرج مائتين وخمسين ريالاً، وهكذا؛ والباعة والصائغون يعرفون هذا، تقول له: كم زكاتها؟ يزنها ويحسبها ويضربها ويقول لك: عليها مائة ريال أو مائتا ريال أو ثلاث أو أربع، تخرجها أنت إن أردت تبرعاً عن امرأتك وهو جائز، وإلا فالواجب أن تخرجها صاحبة الذهب من ذهبها أو من مالها الذي عندها، وإذا لم يكن عندها شيء تبيع قطعة منها وتخرج الزكاة.(54/17)
كيفية دعوة الأقارب وغيرهم
السؤال
أنا شابٌ اهتديت بفضل الله سبحانه وتعالى، وأردت أن أبلغ أهلي دعوة الله، وأنتزعهم مما هم فيه من الضلالٍ عملاً بقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] وبقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] ولكنني وللأسف الشديد فشلت، وقد وقف في وجهي والدي بحجة واهية، وهي أنني متشدد أو متزمت، والعكس صحيح فأنا لست متزمتاً، ولقد سلكت معهم جميع الطرق في الحكمة، ولكن للأسف ما أفادت، فوالدي لا يريد أن يسمع الأشرطة الدينية، أيضاً لا يأمر إخوتي بالمعروف، ولا ينهاهم عن المنكر في الدين، أفيدوني ماذا أعمل؟
الجواب
الدعوة دائماً -وهذه خذوها قاعدة أيها الشباب- حينما تأتي من الأسفل إلى الأعلى يكون قبولها صعب؛ لأن الأب ينظر إلى مصدر الدعوة من مَن؟ فإذا بها من ولده الذي كان يعهده أنه جاهل، وربما كان لهذا الولد ماضٍ سيئ منحرف، فهو يقيسه بأثر رجعي، ويزنه بمنظور قديم، ثم يزيد الطين بلة أن الولد أحياناً يكون شديداً يعنف أبيه، ويقسو على إخوانه، ويقسو على أمه، فتحصل بينهم الفجوة، ويتكهرب الجو بينه وبين أهله، ويؤدي هذا إلى رفضهم الحق رغم أنهم يدركون أنه على الحق، لكن لأن الحق مصدره ولدهم فلا يريدونه؛ عناداً له، يقول أبوه أقوم أصلي، قال: والله إنه قام من أجلي، والله ما أقوم حتى يذهب، يعاند ولده بمعصية الله، وبعض البيوت الراديو مغلق ليس فيه أغانٍ، لكن من يوم يسمعون ولدهم دخل قال: شغلي الراديو، أتى المطوع، (خليه يقول كلمة واحدة) فإذا رفعوه ودخل الولد قال: غلقوه، قال: وما دخلك يا ملقوف وقام ولطمه، رغم أن الراديو مقفول قبل أن يأتي الولد، لكن لماذا؟ عناد، وهذا ابتلاء من الله للمؤمن، واختبار لك أنت أيها المؤمن، وفي نفس الوقت ربما يكون عقوبة له، كأن يكون أسلوبك شديداً؛ لأنهم يقولون: إنك متزمت ومتشدد، لأن التزمت في نظر الناس الآن هو التمسك بالدين، في بعض البيئات إذا التزم الشخص وأطلق لحيته، ورفع ثوبه، وصلى في المسجد وحجب زوجته قالوا: متطرف، متطرف عندهم، يعني: تمسك بالدين، وإذا ترك الصلاة وزنا وسكر قالوا: مستقيم، لماذا؟ لأنه على الأغاني وعلى الطرب وعلى اللعب، وهذه أعراف جاهلية، فالمستقيم حقيقةً يسمونه متطرفاً، والمتطرف حقيقةً هم الذين تطرفوا لكن بجانب الشيطان والعياذ بالله.
وصار أهلك يقولون: إنك متزمت لا نقول: إنهم صادقون، لكن ربما معهم مبرر بسيط من قسوتك، فأنت عليك أولاً أن تصبر، وأن تدعو الله لهم في الليل، وتدعوهم إلى الله في النهار، ثم عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة، والابتسامة، وعدم البغض.
انظروا يا إخواني! أيها الشباب! أيها الدعاة! الداعية لا يبغض في الله، قضية الحب في الله والبغض في الله هذه أمر عام، لكن الداعية يؤجل قضية البغض؛ لأنك إذا أبغضته في الله كيف يستجيب لك، هل يستجيب لك وأنت تبغضه؟ بعض الناس يقول: سوف أبغضه في الله إلى أن يهتدي، فإذا اهتدى راضيته! لا يهتدي أصلاً وأنت تبغضه وإذا اهتدى فقد تكون هدايته عن طريق غيرك الذي ما أبغضه، وبالتالي يفوتك أجره، افتح قلبك له، أحبه ولو كان عاصياً لا مداهنة وإنما طلباً وأملاً في نجاته وهدايته، إذ لا يمكن أبداً أن يطيعك وأنت تبغضه، أول درجات الطاعة أنه يحبك وتحبه، ثم بعد ذلك يستجيب لك، أما إذا أبغضته فهذه سلبية تجعل الناس كلهم فسقة وعصاة ومجرمين وأنا أبغضهم في الله، لكن ستأتي عليك لحظة ما معك في الدنيا شخص واحد؛ لأنك تبغض الناس كلهم، لكن لو كنت تحب الناس، وتدعو الناس مثلما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الناس، يأتي حتى الكفار، يجلس عند أبي الوليد ويقول: اسمعني يا أبا الوليد وهو المغيرة بن شعبة يعطيه كلام الله ويناديه باسمه، ويقول: يا أبا جهل، يدعوهم ولا يهجرهم، فالداعية لا يبغض ابتداءً.
وأذكر لكم قصة يعلمني بها أحد مدراء المدارس الثانوية في منطقة من المناطق يقول: كان عندنا مدرس، وهذا المدرس خريج جامعة الملك سعود، يدرس كيمياء وفيزياء شيطان رجيم -والعياذ بالله- تجمعت فيه جميع الشرور، ما من شر في الأرض إلا وفيه، يقول: وجاءنا في المدرسة وأفسد علينا في المدرسة ما لا يمكن أن يتصوره العقل، فماذا نصنع به؟ وكلما ذهبنا للإدارة ونقول لهم انقلوه قالوا: أين نذهب به ما معكم إلا هو، يقول: أفسد الطلاب، أفسد المدرسين، يقول المدير: اتخذت موقفاً منه فأبغضته وأبغضه كل الطيبين في المدرسة، يقول: ثم جاءنا مدرس صالح نسأل الله أن يبارك في جهوده، يقول: لما أتى عُين في المدرسة مدرس دين (خريج كلية الشريعة) وداعية، كان بإمكانه من يوم أن أتى ورأى الناس يتكلمون عن هذا كان قال: أبغضه في الله، فلما حذروه في المدرسة قالوا له: انظر هذا الرجل فاسد، خبيث، مجرم، انتبه منه، قال: من هو؟ قالوا: فلان، قال: خيراً، المدرسون كلهم في غرفة لوحدهم يجلسون وهذا جالس هناك في غرفة لوحده، يدخن السيجارة؛ لأن التدخين ممنوع في المدرسة وضعوا له غرفة لوحده، فهو يريد أن يستوعب خمس دقائق في تدخين مستمر فتراه ينتهي من الأولى ويشعل الثانية وهكذا، يقول: دخلت عليه وجلست معه، السلام عليكم، كيف الحال يا أخي؟ فتعجب منه بلحيته ومدرس دين، ويعرف أنه مدرس دين، ويأتي يحييني بهذا الأسلوب، وفي اليوم الثاني كذلك، وفي اليوم الثالث ذهب إليه وجلس معه في الغرفة، قال: يا أخي! قال: نعم.
قال: أنا مدرس جديد وبحثت عن سكن ما لقيت، وعلمت أنك عزوبي فهل تقبلني يا أخي أسكن معك؟ قال: أنت تسكن معي وأنت مطوع؟ قال: نعم أسكن معك يا أخي؟ قال: ما أصلح لك، والله ما أصلح لك يا أخي، قال له: يا أخي دعني أسكن معك على الأقل مؤقتاً إلى أن أجد لي بيتاً أو تجربني يا أخي ربما أنفع وأصلح للسكن معك، جربني على الأقل يا أخي أنا جالس في الفندق ليس عندي بيت وما وجدت، هل تسمح لي بغرفة أسكن معك فيها؟ قال: بشروط، قال: أنا لا أصلي، قال: وما لي ولك إن كنت لا تصلي، وهل تصلي لي؟! الصلاة لربك، إن صليت فالله يجزيك خيراً وإن رفضت فما أنا وكيل عليك يا أخي! قال: أنا أدخن، قال: دخن إلى أن تدوخ، قال: عندي أغانٍ، وأفلام، ويأتينا أناس، قال: إن شاء الله لا ترى مني إلا كل خير فذهب ووضع له غرفة وسكن معه، ولم يقل له كلمة في الدين إنما خدمة، يذهب قبل نهاية الدوام، يذهب هو قبله ويغسل الصحون وينظف ويطبخ الغداء ويعمل السلطة، ومن يوم يأتي يحضر له ويأتي يتغدى، إذا غلق يريد ذاك مسكين يريد يكافئه يقوم قال: والله لا تغسل صحناً، يا أخي أنا، قال: أنا عزوبي منذ أن خلقني الله، ولهذا لا يمكن أن تغسل الصحون أو تطبخ ما دمت معك، فأنا طباخك وأنا الغسال حقك، قال: جزاك الله خيراً، وقام وأخذ الصحون ونظفها.
ويأتي في يوم الجمعة أو الخميس الذي فيه الغسيل يدخل بهدوء ويفتح غرفته عليه، ويأخذ شراريبه، ويأخذ ثيابه وبجامته، ويذهب يغسلها، ولا يقوم ذاك من النوم إلا والفطور مجهز، والجبنة والقرصان قد أحضرها من السوق، واستمر على هذا فترة من الزمن وهو يخدمه ولا يكلمه ولا كلمة في الدين، ولا يقول له شيء، فإذا رآه يدخن أو يغني أغلق غرفته ويذهب لوحده، فعندما رأى ذاك الرجل الخدمة المتناهية والبذل والعطاء أحبه حباً لا يمكن أن يحب أحداً مثله؛ لأن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها.
أما أن تأتي إلى شخص وتبغضه وتقول أنا أبغضه في الله وأريده أن يهتدي؟ لا يمكن أبداً، هذا يبذل ويبذل ويهديه، وكلما نزل إلى جدة؛ لأن هذا الداعية أهله في جدة، كلما نزل إلى جدة لا يأتي من هناك إلا بهدية، ما هي الهدايا التي يأتي بها؟ لم يأتِ له بشريط إسلامي، ولا بكتاب إسلامي؛ لأنه يعرف أنه مريض لا يقبله، أتى له مرة ببجامة، ويأتي له بمناشف، وشراريب، وجزمة من جنس ما يريد، وهذا كلما تأتيه هدية ما هذا الإنسان؟ هذا إنسان غريب! أخيراً في يوم من الأيام وهم يتغدون قبل صلاة العصر قال: يا أخي أراك دائماً مسروراً ومبسوطاً وفرحاً، فما هو السر الذي يجعلك مسروراً، ويجعلك مبسوطاً، قال: الصلاة، أنا والله يا أخي تنتابني الهموم والمشاكل والغربة والتعب فإذا دخلت المسجد وصليت، والله إن الله عز وجل يذهب ما في قلبي ويشرح صدري؛ حتى كأني أشعر أنني أسعد إنسان في الدنيا، قال: ما رأيك؟ أصلي معك اليوم، قال: نجرب، لو أنه قال له: قم صل معي لقال: لا.
لكن جاءت منه عرضاً، قال: لكن ما يصلح لك وضوء اغتسل، فذهب واغتسل ولبس ثوبه وخرج يصلي، وهو ذاهب إلى المسجد وقف في الصلاة وقال: اللهم إني يا ربي وقفت بين يديك فلا تردني خائباً، وقف بين يدي الله عز وجل وصلى صلاة العصر ولما رجع قال: والله صدقت، والله إني أشعر الآن بحالة ما كنت أشعر بها في الماضي، قال: إذاً: اسمع هذا الشريط، وسمعه، وأكمل الشريط وأخذ شريطاً آخر وكتاباً آخر وهكذا.
فيقلب الله حياته رأساً على عقب، وأصبح من الشباب المؤمن الملتزم، وحصل على بعثة وذهب إلى أمريكا لدراسة الماجستير والدكتوراه، وهو الآن لا يزال هناك، حصل على الدكتوراه، ورفض أن يرجع إلى هنا، لا زال هناك يقولون: يبذل حياته للدعوة إلى الله، ينتقل وما معه شغلة ولا وظيفة ولا عمل إلا الدعوة إلى الله، يتنقل من ولاية إلى ولاية، ومن عمارة إلى عمارة، ومن اجتماع إلى اجتماع، ويخوض أمريكا كلها بالدعوة إلى الله، وكل هذا بأسباب صبر ذلك الرجل عليه، لكن لو أنه أتى من أول يوم وقال: هذا خبيث هذا قليل دين وما فيه خير، لا يا أخي! فأنا أقول لأخينا هذا الصالح المبارك الطيب الشاب: الله يوفقنا وإياك، اصبر على أبيك، واصبر على أهلك.
فندعو الأخ الكريم إلى الصبر على أهله، وإلى التودد والتحبب إليهم، والخدمة لهم، وليعلم أن قضية الهداية وقلب القلوب هذه ليست بالأمر الهين، خصوصاً عند كبار السن الذين قضوا أعمارهم المديدة على نوعٍ ونمطٍ معين من الحياة، ثم يريد الشاب أن يغيرها بين يوم و(54/18)
حكم ظهور المرأة أمام زوج أختها
السؤال
أنا امرأة أسكن مع أختي وبناتها، وزوج أختي في الخمسين من عمره، وبناته متزوجات، فهل لي أن أظهر عليهم وأنا مغطية رأسي لأنني ساكنة معهم؟
الجواب
أما على أختك وبناتها فاظهري عليهن ولو كان رأسك غير مغطى، أما زوج أختك أو أزواج بنات أختك فإنهم أجانب وغير محارم، ولا ينبغي أن تكشفي لهم لا رأسك، ولا وجهك، ولا يديك، ولا شيئاً من أجزاء جسدك ولو كنت ساكنة معهم، فعليكِ إذا كنت ساكنة معهم أن تخصصي جزءاً من السكن لإقامتك فيه إذا دخلوا البيت، وأما إذا خرجوا وذهب الرجال إلى دوامهم فتحركي في البيت بحريتك التامة، لكن إذا علمتِ أنهم دخلوا فالزمي غرفتك وحددي حركتك بين الغرفة التي أنت فيها والأماكن التي تعلمين أنهم لا يصلون إليها؛ لأنه لا يجوز شرعاً أن تكشفي لهم بارك الله فيكِ.(54/19)
حكم لبس الخلاخل للنساء
السؤال
هل لبس الخلخال في قدم المرأة بدون صوت حرام؟
الجواب
لبس الخلخال في قدم المرأة حلال سواءً بصوت أو بغير صوت، حتى لو كان فيه صوت فإنه حلال، لكن المرأة مأمورة إذا سارت في الطريق أن لا تضرب بأرجلها ومعها خلخال يحدث صوتاً، أن تسحب أرجلها في الأرض سحباً دون أن تهزها حتى لا يسمع أو يعلم السامع زينتها، يقول الله: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] أما كونه حلالاً فهو حلال إن شاء الله.(54/20)
حكم لبس القفاز للمرأة في الصلاة
السؤال
هل لبس القفازات للمرأة أثناء الصلاة حرام؟
الجواب
لا، لبس القفاز للمرأة أثناء الصلاة أمر مباح، لكنه غير واجب أن تغطي هذه المناطق، أما في الإحرام فلا يجوز للمرأة أن تلبس القفازات في الإحرام، وعليها أن تبعدها وتكشف وجهها إذا لم يرها الأجانب، أما إذا كان هناك رجال -كما هو كائن الآن في مكة لا يمكن للمرأة أن تطوف في الحرم والحرم خالٍ من الرجال، فإن الرجال موجودون في كل الأوقات- فإنها تغطي لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كنا إذا قابلنا الركبان أسدلنا، وإذا جاوزونا كشفنا) لأن إحرام المرأة في وجهها وكفيها.(54/21)
حكم المال المتبقي عند أمين الصندوق
السؤال
أنا محاسب، ويتوفر عندي في بعض الشهور هللات وأنصاص وبعض الريالات وتصل إلى مائة وخمسين ريالاً، وبعض الشهور ينقص عليَّ من الرواتب مثلها أو أكثر منها، فأدفع من راتبي، فهل يجوز لي أن آخذ ما يتوفر لي مقابل النقص الذي يحصل عليَّ؟
الجواب
لا.
لا يجوز لك، إذا كنت أميناً للصندوق فعليك أن تدفع لكل صاحب راتب راتبه حتى الهلل؛ لأن بعض الموظفين أو المحاسبين أو أمين الصندوق له -مثلاً- ألفان وخمسمائة وستون ونصف ريال، وهو لا يأخذ معه هللاً؛ لأنه يريدها تتوفر، وذاك يستحي أن يظل يقاحطه ويماحطه على نصف ريال، فيقول: هل عندك فلوس؟ قال: ما عندي امش، لكن لو أعطيته فوقها أعطه النصف قبل الراتب، الفلوس هذه قائمة على حقوق، ولن يقول لك خذ النصف، هل سيقول هذا؟ ما يقول لك شخص: امسك النصف، كان قال لك خذ حتى المائة أو المائتين، لا فهو يريد حقه كله، لكنه يستحي أن يقول: أعطني نصف ريال أو ربع ريال أو خمسين هللة، فعليك إذا كنت محاسباً أن تصرف ضمن مبالغك التي تصرفها تصرف الفلوس، ثم تجمعها وتعطيهم، فإذا أكملت حساباتك واجتهدت على أنك تعطي كل ذي حق حقه وبقي عندك شيء فلا يجوز لك أن تأخذها، وإنما تنفقها في مصالح المسلمين، على المجاهدين الأفغان، أو تضعها في جمعية خيرية، أو في جمعية القرآن الكريم على نية أصحابها، أما ما تتحمله من نقص في الرواتب في بعض الشهور فهو عقوبةً لك جزاء إهمالك في العد؛ لأنك عديت المائتين ثلاثاً ووضعتها ورقتين تحسبها ورقة واحدة، فزدته واحدة، فإذا نقصت من يتحملها؟ يتحملها المتسبب، والمتسبب هو أنت، وعليك أن تعد المرة الأولى بإتقان، ثم تعد المرة الثانية، ثم تسلمه إن شاء الله، ولا ينقص عليك شيء بعد العد المتقن، وكذلك هناك مقابل، فالدولة تصرف مبلغاً قدره (20%) تسمى بدل أمانة الصندوق أو المحاسبة، بينما بعضهم يأخذ (20%) ومن يوم أن توظف لم يخصم من راتبه ريالاً، وإذا خسر ريالاً فيريد أن يأخذ من المائة والخمسين مقابل الهلل.(54/22)
حكم تعاطي الشيشة
السؤال
ما قولكم فيمن يتعاطى الشيشة ويقول: بأنه لا يستطيع أن يتركها حينما تقام الصلاة، ثم إنه يقول: إنها لا تؤثر على عقله؟
الجواب
حتى السكران لا تؤثر الخمرة على عقله، الآن ترون السكارى في الغرب مدمنين، يشرب الواحد قارورة ويركب الطيارة يسوق، ويركب السيارة ويذهب إلى العمل، لماذا؟ لأن أمزجتهم أصبحت أمزجة خمرية لا يؤثر فيها الخمر، الآن أحضر شخصاً ما شرب الدخان وأعطه سيجارة، منذ أن يأخذها يسعل ويدوخ، ويسقط ويتقيأ، ويأتيه مثل السكار، لكن شارب الدخان المدمن يشرب ولا يؤثر فيه.
أحضر شخصاً لأول مرة يأخذ الشيشة تراه يتقيأ ويكح، خبيثة -والعياذ بالله- لكن إذا تعود عليها أصبح مزاجه شيشة والعياذ بالله.
أما كونه لا يستطيع أن يصبر عنها حتى وقت الصلاة نقول له: قل لنا بربك إذا دخلت قبرك ماذا تقول؟ أعطوني شيشة لا أصبر عنها، وإذا أتاك منكر ونكير يقولان: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ماذا تقول؟ تقول: أعطوني تعميرة أول شيء أركب الرأس ثم أجاوبكم، يحضرون لك تعميرة لكن من جهنم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هناك قصة سمعتها من شريط وقد سمعتها من عالم من علماء اليمن أخبرني بنفسه أن رجلاً من علماء اليمن صالحاً ولا نزكي على الله أحدا، كان مبتلىً بالشيشة، ورأى في منامه أنه مات وأن الله أدخله الجنة بفعل إيمانه وصلاحه وتقواه، وأعطاه الله في الجنة كل نعيم، ولكن رأى كل نعيم وما انبسط منه؛ لأنه لم يلق الشيشة، فطلب من الله أن يعطيه الشيشة وهو في الجنة، قال الملائكة: وما هي الشيشة، فعلمهم، قالوا: لا يوجد في الجنة نار حتى نضع لك ناراً، فكأنه ما انبسط، قالوا له: انظر هذه النافذة افتحها وخذ لك ناراً، فقام وفتح النافذة وأدخل يده ليأخذ نار من أجل أن يعمل الشيشة، يقول: فاحترقت يمينه من بنانه إلى منكبه، وقام في الصباح ويده فحمة سوداء، وعاش طول حياته بدون يمين، وجاءه هذا العذاب في الدنيا، هذا الكلام سمعته في شريط وحدثني به أحد العلماء قبل فترة طويلة، والعهدة على الراوي.(54/23)
حكم الجلوس مع رفقاء السوء
السؤال
أنا ساكن مع شباب لا يصلون، ويشربون الشيشة والدخان، ويسمعون الأغاني؛ فهل يجوز لي أن أبقى معهم وقد نصحتهم ولكنهم لم يستجيبوا لي؟
الجواب
لا يجوز لك أن تبقى معهم، مادام أنهم مدخنون، ومشيشون، ويسمعون الأغاني ولا يصلون، وأنت شاب، ولست داعية، ويخشى عليك من أن يجروك معهم، نقول: اتركهم واذهب إلى مكان آخر، أما لو كنت داعية مثل ذاك فإن بإمكانك معايشتهم ودعوتهم إلى الله، لكن ما دام أنك سليم بس؛ لأن الناس ثلاثة: أطباء وسالمون ومرضى، فالذي يدخل بين المرضى من هم؟ الأطباء، لا يدخل بين المرضى إلا الطبيب، أما السالم ماذا يعمل به؟ يعمل له حجر صحي، حجر إيماني، يقال: لا تذهب هناك، لو ذهبت ستنتقل إليك العدوى.(54/24)
حكم بقاء المرأة تحت رجل لا يصلي
السؤال
لي أخت متزوجة من رجل لا يصلي ولا يصوم ويمنع ولده من الصلاة، فما حكم ذلك؟
الجواب
لا يجوز لك أن تبقيها تحت هذا الرجل الكافر، فالذي لا يصلي ولا يصوم كافر، وبالتالي بقاء أختك معه حرام، والله تبارك وتعالى يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141] والإسلام يعلو ولا يعلى عليه، والله يقول: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] هذا إذا كانت مسلمة وتصلي، أما إذا كانت مثله فوافق شن طبقة.
الذي يترك الصلاة كافر، ولو ترك صلاة واحدة، الذي يصلي واحدة ويترك واحدة ما صلى، الصلاة تؤدى كاملة: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103].(54/25)
حكم الشركة الإسلامية الاستثمارية
السؤال
هناك شركة إسلامية اسمها الشركة الإسلامية الاستثمارية للاستثمار الخليجي؛ لا نعرف ما حكم هذه الشركة، وهل هي إسلامية أم لا، وهل يجوز لنا أن نستثمر أموالنا فيها؛ نرجو منك توضيحاً لهذه المسألة للناس ورد الشبهات التي ترد عليها إن كانت إسلامية أثابك الله؟
الجواب
حقيقةًً كنت متوقفاً في هذه المسألة، إلى أن اطلعت على جميع أعمال هذه الشركة عن طريق مديرها المهندس عبد الهادي الشهري مدير الإدارة الإقليمية في المنطقة الجنوبية وهو من إخواننا الدعاة الذي نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحداً، ذهب معنا إلى منطقة تهامة وجلست معه وناقشته وكان معي أحد الإخوان والمشايخ واستفسرت منه من كل الشبهات التي ترد على هذا العمل، وكيف تستثمر الأموال، وبيَّن لي بياناً شافياً بما لا يدع مجالاً للشك في أن هذه الشركة الإسلامية هي البديل الإسلامي الناجح للبنوك الربوية، وأنه يلزم كل مسلم أن يتعاون معها، وأن يؤدي دوره في خدمتها لتكون نموذجاً إسلامياً لاستثمار أموال المسلمين.
وقلت لهم في سؤال وهي شبهة يقولها الناس: إذا وضع شخص ماله عندكم، ثم أراد أن يسحب منه فأعطيتموه شيكاً على البنك، فكأن أموالكم في البنك، قال: صدقت، قلت: كيف؟ قال: لكن متى نعطيه الشيك؟! نعطيه بعد ثلاثة أيام قلت: لماذا؟ قال: لأن الأموال ليست في البنك، لو أن أموال الشركة في البنوك لكان بمجرد ما يسحب ماله نعطيه شيكاً مباشرةً بنفس اليوم، لماذا نؤخره ثلاثة أيام؛ لأن أموالنا ليست في البنوك، والبنوك هي قضية تحويل فقط، يأتينا مال وما عندنا مال نضعه في البنك ونحوله في نفس الليلة، ولا يبيت في البنك ليلة واحدة، نرسل برقية رأساً لـ جدة يأخذونه، ومن جدة يرسل إلى المقر الرئيسي للشركة الاستثمارية، يقول: فإذا أردنا أن نقبض المال -المال ليس موجوداً- نقوم نطلبه ونطلب من المشترك أن يصبر علينا اثنين وسبعين ساعة حتى ترسل منا برقية إلى البنك أن سلموا فلاناً الفلوس، ونعطيه ورقة على البنك، بحيث لا يبقى المال في البنك الربوي ولو يوماً واحداً، فنقول: إن شاء الله أن هذه من البدائل الإسلامية التي هي بدائل طيبة.(54/26)
حكم التورية
السؤال
ما حكم التورية؟
الجواب
التورية أن يقول الإنسان كلاماً يفهم منه غيره غير ما يعنيه هو، يقول العلماء فيها إنها من الكذب، ولكنها جائزة فقط عند الضرورة، أما بغير الضرورة فلا تجوز.
ما هي التورية؟ التورية شخص من السلف أظنه الذهبي، كان عنده في بيته غرفة اسمها دمشق، وكان إذا دق عليه أحد وما أراد أن يخرج ذهب إلى الغرفة التي اسمها دمشق، وإذا سأل الناس زوجته أو بنته عنه، قالت: في دمشق، فيفهم الناس أنه في دمشق الشام، وهي تعني أنه في غرفته دمشق.
وأحدهم كان يقول لزوجته ضعي دائرة في الجدار وهي عند الباب ترد عليه، فيقولون: فلان موجود فتضع إصبعها في الدائرة وتقول: ليس هنا، يعني قصدها ليس في الدائرة، وذاك يفهم ما هو هنا يعني ليس في البيت، هذه عند الضرورة تجوز، لكن بغير الضرورة لا تجوز؛ لأنها تعلم الكذب.(54/27)
حكم سماع الأغاني مع عدم الرضا
السؤال
لي إخوة وهم أولاد خالي، وأنا أذهب معهم إلى المدرسة في الصباح وفي المساء ويشغلون المسجل على الأغاني، ولا أدري ماذا أفعل هل أذهب معهم أم أسير على أقدامي، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أقول لك: الأفضل لك ألا تذهب معهم في السيارة وألا تسمع الأغاني؛ لأنه يُخشى عليك ما دمت شاباً والأغاني اليوم فتنتها في القلوب أعظم فتنة على الناس، من الشباب من ينسلخ من دين الله على أغنية، يتوب ويمشي في الهداية أسبوع أسبوعين، سنة سنتين، ثم يسمع أغنية ويترك الدين من بعدها، فلا حول ولا قوة إلا بالله، فنخشى عليك، ولهذا أتعب نفسك وامش على أقدامك، أو امش على سيارات غيرهم، أما هم فلا تركب معهم، وإذا كانت السيارة (هيلوكس) فاركب في الصندوق لكي لا تسمع أغاني.(54/28)
حكم التهاون في المواعيد
السؤال
ربما أعد بعض الإخوة بموعد وأنسى فهل أنا من المنافقين؟
الجواب
لا؛ لأن الله عفا للأمة ما حدثت بها نفسها، أو أخطأت أو نسيت: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] فإذا وعدت شخصاً ونسيت، فإن الله لا يؤاخذك، لكن بشرط أن لا تكذب من البداية.(54/29)
مسألة: المسبوق يصير إماماً إذا قام بعد سلام الإمام
السؤال
إذا أدرك مع الإمام ركعتين في الصلاة الرباعية وقام ليكمل الباقي فأتى رجل آخر ثم دخل معه، فهل يصح أن يكون إماماً؟
الجواب
نعم يصح، إنسان دخل المسجد وأدرك ركعتين، ثم لما سلم الإمام قام يكمل، فأصبح بقيامه إماماً للمسجد منفرداً عن إمامه الأول يجوز له أن يكون إماماً لغيره، كما يجوز للمنفرد أن يكون إماماً لمن يدخل معه في الصلاة.(54/30)
حكم ظهور المرأة على أخي الزوج
السؤال
أنا شاب ملتزم إن شاء الله، ولكني أسكن مع أخي في البيت والوالد متوفى، وامرأته لا تتحجب عني وأنا أغض بصري بقدر ما أستطيع فما الحل؟
الجواب
استمر في غض بصرك، وكلما دخلت فغض بصرك، حتى تخجل المرأة ولا تجلس معك، وأرجو أن تكون ملتزماً حقيقة لا كما سألني بعض الإخوة في مدرسة تحفيظ القرآن الكريم بالأمس حين كنت عندهم، فقال لي شاب من الشباب: أنا ملتزم ولكنه قال: إن الأغاني وحب الكرة يسري في دمي وعظمي وجسدي، وأسمع المسلسلات، وأشاهد الفيديو.
قلنا: هذا ملتزم!! ملتزم بالشيطان، أين الالتزام؟ أظن الرجل يتصور أن الالتزام هيكل أو شكل، ربما أنه رفع ثوبه، أو ربما ترك لحيته، ليس هذا التزام يا إخواني! هذا بعض الالتزام، رفع الثوب وإطلاق اللحية من السنة لكن ليست هي كل الدين، هي شيء من الدين، ومن أخطر ما يمكن أن تقنع نفسك بأنك ملتزم حينما تظهر للناس أنك ملتزم والله يعلم من قلبك أنك خربان، ومطلع عليك أنك من الداخل تحب الأغاني وترى الزنا والنساء، وتكره الصلاة ولا تصلي، فيكون لك وضع عند الناس ولك وضع آخر عند الله، عند الناس دين ولحية وثوب قصير وملتزم، ولكن إذا خلوت بربك بارزت الله بالعظائم، وكما جاء في حديث ثوبان قال: (يأتي أقوامٌ يوم القيامة بحسنات كأمثال الجبال، فيقول الله لها: صيري تراباً فتصير تراباً، فيقولون: ربنا لِمَ؟ قال: كنتم إذا خلوتم بي بارزتموني بالعظائم) فالله يذهب بعملهم كله والعياذ بالله.
فلا نريد أن يفهم الناس أن الالتزام شكل أو شيء معين، فالالتزام يعني الخضوع والانقياد والإذعان الكامل لكل شريعة الله، وليس معنى هذا أن يكون الإنسان معصوماً، لا.
قد يقع في الخطأ، قد ينام عن صلاة، قد يخطئ، لكنه يتوب، ويستغفر ويصحح الوضع؛ لكن المصيبة فيمن يدعي أنه ملتزم ثم يصر على المعاصي، يعني عينه باستمرار في النساء وهو ملتزم، بعض الشباب تراه في السوق تراقبه وهو نازل أو طالع عندما يرى امرأة يقعد يتلفت، وأين الالتزام يا فلان، الله يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] وأنت لماذا تفتح؟ قد يقول بعضهم إنه يحب الاستطلاع، استطلاع ماذا؟ استطلاع الشر، بمجرد ما ترى خيال امرأة أو شبح امرأة أو سوادها غض بصرك يستريح قلبك أول شيء؛ لأنك إذا نظرت النظرة الأولى هذه مسموح بها، الثانية جمرة، الثالثة جمرتين، الرابعة تصبح مريضاً، لكن غض بصرك من أول الأمر؛ لأنه لا يوجد أعظم من غض البصر.(54/31)
حكم الذهاب للجهاد بدون إذن الوالدين
السؤال
أنا شابٌ ملتزم وأحب الجهاد حباً عظيماً، ولكنني حاولت الذهاب ووالديَّ غير موافقين، وكذلك عملي غير موافق، أرجو منك نصيحة يا شيخنا والسلام عليكم؟
الجواب
نصيحتي لك يا أخي المسلم أن تقنع والديك إذا استطعت بالموافقة، مسألة العمل وما يتعلق به هذا أنت حر فيه، لكن المهم موافقة الوالدين؛ لأن طاعتهما وبرهما مقدم على الجهاد، إن الله يقول: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36] فلا يجوز لك أن تذهب وهما غير راضيين، وعليك أن تقنعهما وأن تأخذ موافقتهما فإن وافقا فالحمد لله، وإن رفضا برئت ذمتك وانتهى دورك، وبقي عليك أنك تجمع الفلوس وترسلها لإخوانك المجاهدين، فإن الله جعل الجهاد بالمال عوضاً عن الجهاد بالنفس، إذ يقول عليه الصلاة والسلام: (من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا).(54/32)
حكم الذبح لغير الله لأجل العلاج
السؤال
لي طفل أصابه المرض ولم أدع طريقاً بـ المملكة إلا اتبعتها؟
الجواب
إن شاء الله ما اتبعت طريقة الشرك بالله -والعياذ بالله- لأن بعض الناس يقول: لم أدع شيئاً، حتى الشرك ذهب له، لماذا تذهب إلى الشرك؟ (من ذهب إلى كاهن أو ساحر فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد) اذهب في علاج نفسك وأولادك إلى الطرق المشروعة، إما في المستشفيات أو إلى الرقية الشرعية، أما الكهنة والسحرة فحذار من الذهاب إليهم.
السائل: وأخيراً ذهبت إلى من يقال عندهم: (طب شعبي).
الشيخ: هذا هو الطب الشيطاني.
السائل: وأوصاني بعمل أشياء علمت بعدها أنها لا ترضي الله، كأن أذبح دون ذكر اسم الله.
الشيخ: يقولون له: اذبح ولكن لا تسم، يقول واحد: لماذا لا أسمي؟ قال: الاسم للإنس، إذا أردت أن تذبح لك أنت ولعيالك فاذبح وسم، أما الجن لا يريدون الاسم، فإذا ذبحت وسميت ما ذاقوها، أنت تذبح لكي يذوقونها تريد يأكلونها أو لا؟ قال: لا أدري قال: لا.
إذا لم تذبح لهم ما عافوا ولدك، فذبح لهم بغير اسم الله وهذا هو الشرك: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:163 - 163] لعن الله من ذبح لغير الله، من ذبح للجن فعليه لعنة الله والعياذ بالله.
السائل: كأن أذبح لغير الله، وندمت أشد الندم ولا أعلم ما الكفارة.
الشيخ: الحمد لله أنك أدركت أنك أخطأت، وعليك أن تتوب إلى الله عز وجل، والكفارة التوبة وتجديد التوحيد والاستقامة على دين الله، والثبات، ولو ابتليت بكل أمراض الأرض كلها لا تذهب إلا إلى الله، كن عبداً ربانياً في السراء والضراء، لا تكن عبد عافية إذا كنت في عافية وحدت، وإذا أتاك مرض ذهبت للمشركين، وبعض الناس يقول: المريض (خبل) لا والله ما هو (خبل) المريض المشرك (خبل)، أما الموحد والله لو قطع قطعة قطعة، ولو جلس مريضاً إلى أن يموت فلا يمكن أن يذهب إلى غير الله؛ لأنه يقارن بين عافية مؤقتة وبين شرك وخلود في النار، فيجد أن العذاب الذي يناله من المرض مع تكفير السيئات ورفع الدرجات أعظم والله وأخف من أن يناله عذاب ولو ليلة في النار؛ نعوذ بالله وإياكم من النار.(54/33)
مجاملة الآخرين في سماع الأغاني في السفر
السؤال
أنا طالب في الجامعة ولا يوجد لدي سيارة، وأضطر في بعض الأوقات الذهاب إلى الديرة مع زميل لي في السلك العسكري، وفي الطريق يشغل المسجل على الأغاني، وعندما أحاول منعه، يقول لي: أنا أصلي وأسمع الأغاني ويقول: لا تكتمنا، حيث المسافة ثلاثمائة وثمانون كيلو متر، فما الحكم؟
الجواب
لا تكتمنا!! هذه المصيبة يا إخواني! إن القرآن أصبح عند كثير من الناس كتمة، والأغاني هي الكتمة حقيقةً، لما تسمع الأغاني وهي تغضب الله، وتصب بأذنيك يوم القيامة الرصاص المذاب، هذه هي اللعنة والكتمة، أما لما تسمع كلام الله الذي يبارك النفس والروح ويزكيها هذا هو النعيم، نقول لك: ثلاثمائة وثمانون كيلو يعني أربع ساعات تسمع أغاني كيف قلبك إذا وصلت بيتك؟ ممسوخ -والعياذ بالله- لا تذهب معه ولو تمشي على وجهك أو تقعد في بلدك هذا الذي أنت فيه سنة أو سنتين لا ترى أهلك، لا تمش معه في أي حال من الأحوال، قد تقول: ما عندي فلوس، ما عندي سيارة نقول: لا داعي الآن أن تذهب، عطلة الأسبوع اقضها في أبها والأسبوع الثاني ييسر لك من يحملك إلى بلدك أو يأتيك من المكافأة مبلغ لتذهب إلى بيتك وأنت سالم من المعصية، لا حول ولا قوة إلا بالله.(54/34)
الدليل على أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر
السؤال
قلت إن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، فما الدليل حيث أن الصلوات خمس وكل واحدة تصير الوسطى؟
الجواب
صدقت، ولو لم يرد دليل لكانت المغرب وسطى بين الظهر والعصر، وبين الفجر والعشاء، لكن العصر هي الوسطى حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قلوبهم وأجوافهم نارا) فدل حديثه على أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.(54/35)
حكم الجمعيات
السؤال
نرجو التوضيح في الجمعيات فقد كثر الكلام فيها، وقد سمعنا بعض المشايخ يقول إنها حرام، وسمعنا أخيراً أنها صدرت فتوى فيها بأنها حلال، فما الحكم في ذلك؟
الجواب
الجمعيات سبق أن تكلم عنها الشيخ صالح الفوزان في أبها وقال: إنها حرام، وناقشت أنا والشيخ عائض القرني الشيخ عبد العزيز بن باز فيها وأخبرنا بأنها حرام، ولكننا ناقشناه جزاه الله خيراً فوعدنا أن يعرض أمرها على هيئة كبار العلماء، وفعلاً عرضت في الجلسة الأخيرة في الطائف على مجلس كبار العلماء وصدرت فتوى بأنه لا مانع منها، هذه الفتوى برقم (164) في 26/ 2/1410هـ وقد قيل فيها: بعد النظر بهذه القضية قرر المجلس بالأكثرية -يعني أكثرية أعضاء المجلس- أنه لا مانع من هذه المعاملة؛ لأنه لا يلحق أو لا يترتب على هذا القرض منفعة للمقرض حتى تصير ربا، وإنما يستعيد المقرض ماله فقط بدون أي زيادةٍ أو نقص، وقالوا في نفس التقرير: إن الشرع المطهر لم يرد برد المنافع وإنما بمشروعيتها، فما دام فيها منفعة للناس، وليس فيها ضرر عليهم فإن شاء الله أنها جائزة، وهي بديل طيب عن الاستقراض من البنوك، فإن الإنسان لا يخلو من حاجة، يحتاج إلى شراء سيارة، يحتاج إلى ترميم بيته، يحتاج إلى تزويج ولده، يحتاج إلى زواج نفسه إذا كان ليس متزوجاً، أو عنده زوجة وأراد التعدد، يحتاج إلى حفر بئر إذا كان مزارعاً، يحتاج إلى تسوير مزرعته، وراتبه قد يكون ألفين أو ثلاثة فلا يستطيع أن يوفر شيئاً، فإذا أراد شيئاً يذهب مع مجموعة من زملائه في إدارته أو مدرسته أو في أي مكان (عشرين شخصاً مثلاً) يقول: ما رأيكم نعمل جمعية من ألف ريال، ولكن أريدها أنا الأول؛ لأني محتاج، قالوا: حسناً أعطوه عشرين ألفاً يفك عن نفسه، فهذه الجمعية كل شهر ألف ريال بدون زيادة أو نقص، أحسن من أن يستلف من البنك ويعطيهم أرباحاً (10%) أو (20%).
فنحن نرى أن هذه الجمعية إن شاء الله مباحة، وليس فيها شيء بإذن الله عز وجل، وهذا هو ما قرره مجلس كبار العلماء بأكثريتهم، نسأل الله عز وجل لنا ولكم التوفيق في الدنيا والآخرة.(54/36)
الأذى والابتلاء في حياة المؤمنين
الابتلاء سنة ربانية جارية إلى يوم القيامة، وقد تكلم الشيخ في هذا الدرس عن الأذى والابتلاء في حياة المؤمنين، وتناول صوراً للابتلاء، فذكر التكاليف الشرعية، وذكر الفتة في الدين، ومثّل لذلك بما لاقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من أذى قريش، وما لاقاه أصحابه، وذكر منهم آل ياسر وبلالاً وخباباً وغيرهم.(55/1)
الابتلاء سنة ربانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
وبعد: أيها الأحبة: هذا الدرس يلقى في مسجد الشربتلي، بحي الربوة، بمدينة جدة، بعد مغرب يوم السبت الموافق: (29/ رجب عام 1418 للهجرة)، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
وهو ضمن السلسلة المعنونة: بـ (تأملات في السيرة النبوية) وعنوان هذه المحاضرة: (الأذى والابتلاء في حياة المؤمنين).
إن الابتلاء سنّة ربانية، يبتلي الله عز وجل بها من يدعي الإيمان؛ لأن الادعاء سهل، لكن إثبات صحة هذا الادعاء أمرٌ عسيرٌ، فمن السهل عليك أن تدعي ملكية عمارة أو شارع كامل، أو مدينة بأسرها؛ أو دولة بأسرها، لكن إذا طُلب منك إثبات ملكيتك بالدلائل فإنه من الصعب على الإنسان أن يثبته إلا إذا كان صادقاً في هذا الادعاء.
فادعاء الإيمان ليس أمراً هيناً نظراً لأن ثمرة هذا الادعاء سعادة الدنيا والآخرة، فالذي يكون مؤمناً حقيقياً فإن الإيمان الحقيقي يضمن له الفوز في الدارين، والسعادة في الحياتين، فهذه الثمرة ليست سهلة حتى يكون الإيمان سهلاً، لذا فإن الله لا يترك الناس عند هذه الدعوى، بل لا بد من ابتلائهم؛ يقول الله عز وجل في أول سورة العنكبوت: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2] لا يفتنون أي: لا يُختبرون: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3] ويقول عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142] ويقول عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
ومجال الامتحان والابتلاء والفتنة لا يحدده العبد؛ وإنما الذي يحدده هو الله، وإذا استعجل العبد الفتنة وطلبها وكله الله إلى نفسه، وخلى بينه وبين نفسه، ولهذا لا تتمن الفتنة ولا البلاء ولكن سل الله العافية، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تتمنوا لقاء العدو) لأن بعض الصحابة كانوا يقولون: متى نراهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو ولكن إذا لقيتموهم فاثبتوا) وآخرون استعجلوا القتال فقال لهم الله: لا يوجد قتال، لا يوجد إلا صلاة وصوم فقط، ففي فترة الاستضعاف التي كانت تعيشها الأمة في بداية عهد النبوة، لم يكن قد أذن بالقتال؛ لأن القوة غير متكافئة، والإمكانيات غير متقابلة، فالمؤمنون في قلة وفي ضعف، والكفر كان في قوة، فأي مناوشة للكفر بقتال معناه القضاء على الإسلام، وهذه سنّة ثابتة في حياة الأمة إلى يوم القيامة، فحينما تكون الأمة مستضعفة فليس من مصلحتها أن تواجه القوة الكافرة، ولكن الأولى أن ينصرف الناس إلى شيء آخر غير القتال.
قال الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء:77] أي: عن القتال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء:77] أي: لما كتب الله عليهم القتال، كان أول من انتكس هم هؤلاء الذين كانوا يقولون: متى القتال؟ فلا تستعجل، وعليك أن تعبد الله سبحانه وتعالى على بصيرة وعلى كتاب وسنّة، وإذا فرض الله عليك البلاء من غير طلب منك ولا سؤال له، فإن الله عز وجل يعينك ويثبتك، وصوره كثيرة: فمن صور الابتلاء: الابتلاء بالتكاليف الشرعية: كالصلاة والصوم والزكاة والحج، فهذا من البلاء؛ لأن فيه تعباً ومشقة.
ومن صور الابتلاء: الابتلاء بتحريم المحرمات من الشهوات؛ لأن في النفس البشرية ميل إلى الشهوات، فالله حرمها والنفس تريدها.
وتصديق الأخبار -أيضاً- من الابتلاء، فالله أخبرنا في القرآن، وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم في السنّة بأشياء يلزمنا أن نصدق بها، حتى ولو لم تهضمها عقولنا؛ لأن عقولنا محدودة، نعم.
لها قدرة على الاستيعاب والفهم، ولكن هذا العقل لا يستطيع أن يلم بكل حقائق الكون، فعليك أن تقبلها مادامت عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا مجال إن جاءت أن تحكم عقلك فيها؛ لأنك إذا أردت أن تخضعها لذلك فلعلك تخطئ، ومعناه: أنك قدمت العقل على أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله قد ذكر أن أهل الإيمان إيمانهم في قلوبهم، ليس في عقولهم، قال الله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1 - 3] والغيب ما لا يدركه العقل! فنحن آمنّا بالله رغم أننا لم نره، ولكنه أخبرنا عن نفسه في كتابه، وأخبرتنا عنه رسله في جميع الرسالات، وعرفناه بالعقل، وعرفناه بآياته ومخلوقاته التي بثها في الكون، فلا ينبغي لنا أن نعطي العقل أكبر من حجمه، بحيث نقول: لا نؤمن بالله حتى نراه بأعيننا، ونلمسه بأيدينا! ولما أراد موسى عليه السلام أن يمارس هذه العملية وهو كليم الله ومن أولي العزم، قال الله: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] ولما كلمه الله سبحانه وتعالى وأعطاه موعداً للمقابلة مرة ثانية، قال عز وجل: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] يريد أن يرى رب العالمين، فإنه ليس عند موسى شك في الله؛ لأنه كلمه، لكن من باب حب الاستطلاع، يريد أن ينظر بعينه إلى الله، فقال له الله عز وجل: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] أي: لن تثبت عينك ولن تستطيع أن تتحمل قوة رؤية الله: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} [الأعراف:143] جبل الطور: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] أي: أنه يمكن لك ولكن بشرط أن تكون مثل الجبل بالقوة، ولكنك لست في قوة الجبل: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} [الأعراف:143] هذا الجبل الأشم المخلوق من الحجارة الصم، صار دكاً كله، ولكن أين موسى؟ موسى بعيد عن الجبل، لم ينظر موسى إلى الله، وإنما تجلى الله للجبل، فمن أثر تجلي الله على الجبل خر موسى صعقاً وقال: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143].
فعقلك أيها الإنسان محدود وإمكانياتك محدودة، فإذا جاءت الأدلة من الكتاب أو من السنة، فهذا معناه أن الأمر انتهى وآمنا بالله؛ لأنه لا أحد أصدق من الله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122].
وإذا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر صدقنا به حتى ولو لم تقبله عقولنا.(55/2)
صور من البلاء الذي مر به أهل الحق
من صور البلاء أيها الإخوة: ما يتعرض له المؤمن من فتنة في دينه، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا يكون دائماً في فترات ضعف الأمة، حينما يصير للكفر قوة وللباطل غلبة، لا يرضى الكافر أن يبقى المسلم معافى في دينه وفي عقيدته، بل يتحرش به، ويفتنه في دينه، وهذا تعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بداية الدعوة الإسلامية بشكل أكبر، وتذكره كتب السيرة وسوف نستعرض بعضه في هذه اللحظات في هذه الليلة المباركة.
لم تُجدِ جميع الوسائل ولا الأساليب ولا الطرق التي عملها كفار قريش، لصد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دعوته، وما بقي إلا القوة، وكما يقال: آخر العلاج الكي، فحملوا معول الهدم، وبدءوا في الأذية والابتلاء للنبي صلى الله عليه وسلم وللصحابة من السابقين الأول رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان أبو لهب -عليه من الله ما يستحق- إذا سمع عن رجل أنه أسلم وله شرف وله منعة، أنبه وشتمه وقال له: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك ولنضعفن رأيك، ولنضعن شرفك.
وإذا كان تاجراً جاء إليه وقال له: سوف نكسد تجارتك، ونهلك مالك.
وإن كان ضعيفاً، ضربه وآذاه وأغرى به غيره.(55/3)
بلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم استفحل الأذى حتى في الفترة التي أعلن فيها النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة، وأضحى يظهر شعائر الدين، مثل الصلاة عند الكعبة، فلم تستطع قريش أن تصبر؛ فقد روى مسلم في صحيحه: أن أبا جهل قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرن وجهه في التراب، قال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وصلى حول الكعبة، فقام كفار قريش وأخبروا أبا جهل، فجاء وهجم على النبي صلى الله عليه وسلم، وما فاجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، كأن شيئاً يهدده، فقيل له: مالك؟ -لأن الناس لا يرون شيئاً، إنما يرونه يتقي بيديه كأن أحداً يصفعه، قيل له: مالك؟ قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة، فقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو دنا مني؛ لاختطفته الملائكة عضواً عضواً) قال: وأنزل الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق:6] إلى قوله عز وجل: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى} [العلق:9 - 10] ثم قال عز وجل: {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19].
يروي البخاري أيضاً عن عروة بن الزبير قال: سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم قال: [رأيت عقبة بن أبي معيط -عليه من الله ما يستحق- جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فوضع رداءه في عنقه، فربطه في عنق النبي صلى الله عليه وسلم ثم خنقه خنقاً شديداً حتى كاد يقضي عليه، وفي هذه الأثناء أقبل أبو بكر فدفعه عنه وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم].
وهذا من مواقف أبي بكر الخالدة، أنه منع النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الكافر.
وروى البخاري ومسلم أيضاً من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزورٌ بالأمس، نحرها أصحابها، وأخرجوا أذاها وسلاها وروثها من بطنها؛ فقال أبو جهل: أيكم يذهب إلى سلى جزور بني فلان، فيأخذها ويضعها بين كتفي محمد إذا سجد) وسلى الجزور أقذر ما فيها، فلما رآه ساجداً قال: اذهبوا وخذوا هذا السلى وضعوه بين كتفيه إذا سجد، فانبعث أشقاهم والعياذ بالله، وأخذ السلى، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه صلى الله عليه وسلم، فضحك القوم، وجعل بعضهم يميل على بعض من شدة الضحك، يقول: وأنا قائم أنظر، يقول: لو كان لي منعة لطرحته عن ظهر نبي الله صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم ساجدٌ لا يرفع رأسه، حتى انطلق رجل فأخبر فاطمة في البيت، فجاءت وهي جويرية، أي: وهي صغيرة، فطرحته عن ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أقبلت عليهم تشتمهم فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته رفع يديه إلى السماء ودعا عليهم، يقول ابن مسعود راوي الحديث: [فوالذي نفس محمد بيده، لقد رأيت الذين سماهم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر] وحملهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى القليب، والقليب: البير الذي ليس فيه ماء، وخاطبهم فقال: (هل لقيتم ما وعدكم ربكم؟ فالصحابة قالوا: تخاطب قوماً لا يسمعون؟ قال: والذي نفسي بيده لهم أسمع لكلامي منكم، ولكنهم لا ينطقون).
وآذى عتبة بن أبي لهب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفل في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك) فاستجيب دعاؤه، وأكله السبع وهو في الزرقاء في الشام، إذ كانوا في سفر، وكان ينام وسط الناس خوفاً من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى إليه الأسد وأكله من وسطهم وهم نيام.(55/4)
ابتلاء الصحابة رضي الله عنهم وتعرضهم للأذى
هذا بعض الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم وأوذي أيضاً معه الصحابة، ومنهم أبو بكر قام خطيباً في المسجد الحرام، فضربه المشركون ضرباً عنيفاً وممن ضربه عتبة بن ربيعة، جعل يضربه بالنعل على وجهه، حتى سال الدم فلم يعرف وجهه من كثرة الدماء.
وممن ضُرب من الصحابة عبد الله بن مسعود، وكان أول من جهر بالقرآن بين أظهر المشركين، وحذره النبي صلى الله عليه وسلم من عدوان المشركين عليه، وعندما فعل ذلك ضربوه على وجهه حتى أثروا فيه، فقال له الصحابة: هذا ما خشينا عليك، فقال: ما كان أهون أعداء الله عز وجل منهم الآن، والله لئن شئتم لآتينهم غداً بمثلها.
وممن أوذي أيضاً عثمان بن مظعون، وقصته يا إخواني تبعث على العجب وتبين لنا قوة إيمان هؤلاء الرجال، عثمان بن مظعون رجع من الهجرة الأولى إلى الحبشة ولكن قريشاً رفضت أن يدخل أحدٌ إلا في جوار أحد، فدخل في جوار الوليد بن المغيرة، وهو من كبار قريش، ولما رأى عثمان بن مظعون الأذى الذي يقع على الذين دخلوا في غير جوار، ورأى نفسه لا أحد يؤذيه لأنه في جوار رجل عظيم، فقدم إلى مجلس قريش ولما قدم إلى مجلس قريش في مكة وفيهم لبيد بن الأبرص شاعر جاهلي، يقول:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
قال عثمان: صدقت، فلما جاء بالشطر الثاني:
وكل نعيم لا محالة زائل
قال: كذبت، فإن نعيم الجنة لا يزول، قال: لبيد الشاعر الجاهلي: يا معشر قريش! والله ما كنت أظن أن أؤذى وأنا في مجلسكم! فقال رجل من القوم: إن هذا من سفهاء قومه، قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قولهم شيئاً، فرد عليه عثمان حتى تفاقم الأمر، فقام إليه ذلك الرجل فلطمه على عينه ففقأها، والوليد بن المغيرة قريب منه، وقبل ذلك رأى عثمان بن مظعون أن الصحابة يتعرضون للأذى فجاء إلى مكة وقال: إني قد تركت جوارك يا وليد إلى جوار الله، لأنه يريد أن يأتيه أذى، فهو يرى الصحابة يؤذون وهو لا يؤذى، فقال: خرجت من جوارك يا وليد بن المغيرة إلى جوار الله، ولما جاء في مجلس قريش وآذوه والوليد جالس ينظر، قال له: يا ابن أخي والله إن كانت عينك لفي غنى مما أصابك، لقد كنت في ذمة منيعة، فقال عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في ذات الله! -الله أكبر! لا إله إلا الله!! - وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس، فقال له الوليد: هلم يا ابن أخي إن شئت فعد إلى جواري، فقال: لا، وترك جوراه.
وممن كان يعذب أيضاً من الصحابة، الزبير بن العوام كان يعذبه عمه، ويعلقه في حصير ويشعل عليه النار، ويقول: ارجع إلى الكفر فيقول الزبير: لا والله لا أرجع.(55/5)
آل ياسر وما نالهم من البلاء
أما من ناله العذاب بشكل أكبر فهم الموالي، أي الأرقاء، الذين كانوا عبيداً مسترقين ثم أسلموا، فهؤلاء تحملوا نصيباً كبيراً من الأذى والتعذيب.
وأول أسرة تعرضت للعذاب وكلها أسرة موالي، كلها أرقاء، أسرة آل ياسر، رضي الله عنهم وأرضاهم، كانت هذه الأسرة يضرب بها المثل فيما لاقاه المستضعفون من الابتلاء في أول تاريخ الإسلام، وقد كان بنو مخزوم وهم أسياد آل ياسر يخرجون بهم إذا حميت الظهيرة، فيعذبونهم برمضاء مكة، ومر بهم النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة وهم يعذبون، فنظر إليهم، وقال لهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة) وكانت أول شهيدة في الإسلام هي سمية بنت خياط أم عمار وزوجة ياسر، طعنها أبو جهل عليه من الله ما يستحق، مر عليها وهي مقيدة بيديها وأرجلها في الرمضاء وهي تقول: أحد أحد، فطعنها بالرمح في قبلها وماتت، وكانت أول من أريق دمه وأول شهيدة نالت شرف الشهادة في سبيل الله في الإسلام، وأيضاً مات زوجها ياسر، مات شهيداً من شدة العذاب، ورمي ابنه عبد الله بسهم فمات، وتفننوا في إيذاء عمار بن ياسر ولد سمية، حتى أجبروه في يوم من الأيام على أن يتلفظ بكلمة الكفر بلسانه، وقد ذكر جمهور المفسرين، أن سبب نزول قول الله عز وجل: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل:106] أنها نزلت في عمار؛ لأنهم عذبوه حتى انتهى صبره، ثم قالوا له: والله لا نتركك من هذا العذاب حتى تسب محمداً، وتكفر بمحمد، فقال كلمة الكفر مضطراً، ثم لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم شكا إليه وقال: (يا رسول الله! والله ما تركوني حتى نلت منك وسببتك، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، قال: إن عادوا فعد) ونزل قول الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:106].(55/6)
بلال بن رباح وصبره على الأذى في سبيل الله
وممن أوذي أيضاً وناله قسط كبير من الأذى والابتلاء في سبيل الله بلال بن رباح الحبشي، وأمه اسمها حمامة رضي الله عن الجميع، كان طاهر القلب، صادق اللسان، قوي الإيمان، عميق الإسلام، وكان سيده أمية بن خلف، يخرجه إذا حميت الظهيرة -وكانت مكة من أشد البلاد حرارة، حتى يتحاشا الناس المشي فيها حفاة؛ لأنها تحرق أرجلهم- ثم يجرده من ثيابه، ثم يضعه على البطحاء التي هي مثل النار، ثم يؤتى بصخرة عظيمة قد حميت مثل حمى الأرض فيضعها على صدره، ثم يقال له: لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فكان وهو في هذا البلاء العظيم يردد: أحدٌ أحد أحدٌ أحد أحدٌ أحد، لا يهمه أن يناله ما ناله في سبيل الله، ولذلك بلغ رضي الله عنه وأرضاه منزلة عظيمة من الإسلام، كان يحبه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمر بن الخطاب يقول: [أبو بكر سيدنا، وأعتق بلالاً سيدنا].
عمر المخزومي يجعل بلالاً سيداً، رغم أنه في ميزان الناس عبد، لكنه في ميزان الإسلام والإيمان والدين سيد، بلغ درجة جعلت عمر المخزومي يجعله سيداً من سادات المسلمين رضي الله عنه وأرضاه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (إيه بلال، ما الذي تصنع؟ فوالذي نفسي بيده، إني لأسمع خشخشة نعليك في الجنة قال: لا شيء يا رسول الله، غير أني كلما أحدثت توضأت، وكلما توضأت صليت لله ركعتين) لأن الوضوء سلاح المؤمن، وأنت مخلوق للعبادة، وما دام أنك مخلوق للعبادة، فيجب أن تكون مستعداً باستمرار للعبادة، وتكون مستعداً باستمرار للعبادة بالوضوء، بحيث إذا أردت تصلي إذا بك متوضئاً، وإذا دخلت فريضة إذا بك متوضئاً، المهم أنك دائماً على طهارة، وبعد ذلك إذا توضأت وصليت ركعتين، صار نور على نور، فالصلاة نور والوضوء نور، ولهذا كان هذا العمل العظيم الذي يفعله هذا الرجل العظيم، وأقره النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم فيعتبر من سننه صلى الله عليه وسلم بالإقرار.
يقول بلال أعطشوني يوماً وليلة، ثم أخرجوني فعذبوني في الرمضاء في يوم حار.
وعندما رآه أبو بكر في هذه الحالة، ساوم سيده على شرائه، فاشتراه وأعتقه رضي الله عنه وأرضاه.(55/7)
خباب بن الأرت وصبره على الابتلاء
وممن عذب من الموالي خباب بن الأرت، وهو من خزاعة سبي في أيام الجاهلية، وبيع بيع الرقيق في مكة، وكان مولى لامرأة يقال لها: أم أنمار الخزاعية، ثم حالف بني زهرة وكان يعمل حداداً يصنع الأسنة والسيوف، وكان من السابقين إلى الإسلام، وعندما أظهر إسلامه، لاقى صنوفاً شتى من العذاب في المال والنفس، ومما روي في ذلك أنهم كانوا يأخذون بشعر رأسه فيسحبونه بشعر رأسه ويلوون عنقه بعنف، وأضجعوه مرات عديدة على صخور ملتهبة، وأوقدوا ناراً ووضعوه عليها فما أطفأها إلا شحم ظهره، حتى بردت النار، كما ذكر خباب ذلك عن نفسه وقد كشف ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم.
وكانوا يضجعونه على الرضف وهي الحجارة المحماة، ومع ذلك لم ينالوا منه ما أرادوا من الردة، بل كان ثابتاً ثبوت الجبال على عقيدته، وله قصة مشهورة مع العاص بن وائل، وهو من صناديد قريش والقصة مذكورة في البخاري ومسلم والذي يرويها هو نفسه، خباب بن الأرت، يقول: كنت قيناً -أي حداداً- في مكة، فعملت للعاص بن وائل سيفاً، فجئت أتقاضاه، فقال: لا أعطيتك حتى تكفر بمحمد، فقال: لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى يميتك الله ثم يبعثك، قال: أجل إذا أماتني الله ثم بعثني، فسوف أقضيك، من باب التهكم والاستهزاء، فأنزل الله عز وجل فيه قوله سبحانه وتعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:77 - 78].(55/8)
عبر وفوائد من الابتلاء
وعندما اشتد البلاء بـ خباب وببعض الصحابة، اشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم صبروا حتى زاد ذلك على طاقتهم كبشر، فأتوا إلى النبي والحديث في البخاري، أتوا إليه وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، وهو مستضعف صلى الله عليه وسلم وهم مستضعفون، فقالوا له: ألا تستنصر لنا يا رسول الله! ألا تدعو الله لنا، قال: كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه إلى نصفه، أي يغرسون إلى نصفه، ثم يجاء بالمنشار فيوضع على رأسه بين عينه فيشق اثنتين، ينشرونه من مفرق رأسه إلى آخره، حتى يصير قسمين، ما يصده ذلك عن دينه، هذا فيمن كان قبلنا، أي: وأنتم الآن جاءكم شيء بسيط بالنسبة لما جاء الأولين، فنحن جاءنا -أيها الإخوة-: نحن الآن ما نصبر على صلاة الفجر، فلا نقوم نصلي الفجر، وبعضنا لا يصبر على سماع أغنية، يقول: لا أستطيع وإذا سمعت الأغاني انغلق قلبي، نقول له: أفتريد الجنة مع هؤلاء؟ وبعضهم ما يصبر على سيجارة يقول: أريد أن أتركها لكن ما قدرت، لا إله إلا الله! وبعضهم لا يستطيع أن يغض بصره عن الحرام، هذا ابتلاء، فكيف لو أن أحداً ضربك على الدين، وقال لك: لو صليت ضربناك عشرة أسواط، الآن ترك الصلاة بدون سوط بدون تعب بدون شيء ما ينتظرون أحداً يضربهم على الصلاة، هؤلاء الذين كان الرجل يؤخذ ويوضع في حفرة إلى نصفه ثم يؤتى بالمنشار ويوضع على مفرقه ثم ينشر، تصور أنك أنت في هذا الوضع؟ وضعت في الحفرة وأتوا بالمنشار وبدءوا في النشر برأسك، كيف يكون وضعك في تلك اللحظات؟ تكفر أم لا تكفر عندما ترى المنشار أمامك، تقول: ماذا تريدون؟ سوف أكفر سبعين مرة، لكن ذلك لا يكفر وهم يشقون رأسه وينشرونه وينزلونه على مخه ثم على عيونه، ثم أنفه ثم رقبته، ما قد مات إلى الآن، ثم بعد ذلك إلى أن يكون نصفين وهو ينشر ولا يصده ذلك عن دين الله، لا إله إلا الله!(55/9)
عظم مكانة المبتلين في الدين
كذلك بقية الموالي مثل حمامة والدة بلال وعامر بن فهيرة، وأم عبيس، وامرأة اسمها زنيرة، وأخرى اسمها النهدية، وجارية بني عدي، التي كان يعذبها عمر قبل أن يسلم، وقد أعتق هؤلاء أبو بكر رضي الله تعالى عنه، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لو وزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر بالأمة كلها، إلى يوم القيامة، وما طلعت الشمس على أفضل بعد النبيين من أبي بكر) وانظروا إلى أعماله، فمن ضمن من دخل على يديه في الإسلام سبعة من العشرة المبشرين بالجنة، كلما سمع أن أحداً من المسلمين يعذب اشتراه، وأعتقه لوجه الله.
ولما رآه أبوه وهو أبو قحافة يشتري هذه الرقاب العظيمة، وهذه الأنفس الأبية التي تعذب في الله، ويعتقها، قال: يا بني! إني أراك تعتق رقاباً ضعيفة، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالاً يمنعونك ويقومون دونك، فقال له أبو بكر: يا أبت إني إنما أريد بذلك وجه الله عز وجل، فأنزل الله فيه قوله سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 - 7] إلى أن قال عز وجل: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:19 - 21] هذه نزلت في أبي بكر وعده الله أنه سوف يرضى يوم القيامة.
ولما أسلمت زنيرة وأعتقها أبو بكر، أصيبت بمرض في عينها فعميت، فقال كفار قريش: والله ما أعماها إلا اللات والعزى، فبلغ الخبر أبا بكر الذي أعتقها، فقال: كذبوا والله، والله لا تضرها اللات والعزى ولا تنفعها، اللهم رد بصرها فرد الله بصرها وأخزى هؤلاء الكفرة، قال تعالى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:72 - 74] فكانوا يعبدون الأصنام التي لا تضر ولا تنفع؛ لأن من مقتضيات الإله الذي يعبد أنه قادر على الضر والنفع، أما إله لا يضرك ولا ينفعك، بل بعضهم يبول عليه، وبعضهم يأكله، فكيف تعبده؟!(55/10)
تأخر النصر يبين الصدق والنفاق
ربما يتساءل بعض الناس ويقول: لماذا هذا العذاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللصحابة أليسوا على الحق؟ لماذا لم ينصرهم الله ابتداء؟ ولماذا لم يعصمهم الله من إيذاء الكفار والمشركين؟ والجواب على هذا التساؤل هو: أن للإنسان في الدنيا أول صفة أنه مبتلى، وأنه مكلف بإعلاء الدين وإظهار كلمة الإسلام، العبودية لله سبحانه وتعالى، فالله يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ} [الملك:2] أي: يختبركم {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] وقال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف:7].
فمستلزمات العبودية والابتلاء والتكليف تحمل المشاق، ومجاهدة النفس والأهواء، والصمود في وجه الابتلاءات والفتن، والفتنة والابتلاء هي المحك وهي الميزان الذي يميز به بين الصادق والكاذب، قال الله تعالى فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:8 - 10].
وجد أناس قالوا: آمنا؛ لكن لما جاء المحك، لما جاء الابتلاء لم يثبتوا تأتي صلاة الفجر فلا يصلون، وأثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، جاء الجهاد فتخلفوا، جاء الإنفاق فكانوا يلمزون في الصدقات، لما طلبوا للجهاد قال أحدهم: لا تفتني أنا إذا جئت ورأيت النساء لا أستطيع أن أقاتل، قال الله: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة:49] طلب منهم الإنفاق قالوا: هذه أخت الجزية.
أيها الإخوة: البلاء سنة إلهية، وسنة كونية ربانية، فإنه لا بد من البلاء للإنسان، حتى يتميز أهل الإيمان من أهل النفاق، لكن كما ذكرت لكم -أيها الإخوة- وهو أن المسلم عليه أن يسأل الله العافية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس حين سأله وقال: (أدع الله لي يا رسول الله، قال: سل الله العافية، قال: زدني، قال: سل الله العافية، ثم قال: يا عباس! يا عم رسول الله ما أوتي عبد في الدنيا ولا في الآخرة أحسن من العافية) فنحن نسأل الله السلامة والعافية، ولكن إذا نزل البلاء فلنصبر ولنحتسب ذلك عند الله سبحانه وتعالى.
وفيما نحن فيه من الابتلاء ما يكفينا ويغنينا عن ابتلاء آخر في جسدك أو في مالك أو في نفسك، عليك أن تثبت وأن تستعين بالله سبحانه وتعالى وأن تقوم بالتكاليف فإن فيها غنية.
فالتكليف بالصلوات الخمس نوع من الابتلاء فإن أوقات الصلوات تتعارض مع راحة البال، فالموظف يجئ من الدوام الساعة الثانية والنصف ويتغدى وبعد قليل يؤذن العصر، فإما أن يذهب يصلي، وإما أن ينام، إن كان عنده إيمان ذهب وصلى، وإن كان إيمانه ضعيفاً أو عنده نفاق فإنه ينام عن صلاة العصر، وفي البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) وحبط أي: فسد، والحبط هو داء يصيب المواشي إذا أكلت شيئاً من أنواع النبات، فتنتفخ بطونها حتى تحبط وتموت، كذلك العمل يحبط، أي: يفسد إذا ضيعت صلاة العصر.
وفي مسلم: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر ماله وأهله) أي: كأنه خسر ماله كله وأهله كلهم، والله يقول: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] والصلاة الوسطى قال بعض العلماء: إنها صلاة العصر، الله أفردها بالذكر لأهميتها، نضرب مثالاً على ذلك لو أنك موظف، ويأتيك المدير بمجموعة من المعاملات، ويقول لك: اعمل الإجراءات على المعاملات هذه وخصوصاً هذه، ويخرج لك إحدى المعاملات ويقول أكمل الإجراءات على كل المعاملات، وبالذات هذه فانتبه، فماذا تعمل؟ وبأي معاملة سوف تبدأ؟ تبدأ بهذه التي نبهك عليها، لكن لو أتممت كل المعاملات إلا التي نبهك عليها، وأتيت اليوم التالي وأعطيته المعاملات فقال: أين التي قلت لك عليها؟ فتقول: والله ما عملتها، يغضب أم يرضى عليك؟ يغضب، يقول: على شأن يأكد لك من أجل أن تسويها تقوم تضيعها، ولله المثل الأعلى، الله يقول: حافظوا على الصلوات كلها، لكن قال: والصلاة الوسطى، فضيعنا الصلاة الوسطى -يا إخواني- الآن أقل معدل في الصلوات صلاة الفجر والعصر، العصر دائماً الناس يأتون من الدوام وحين يتغدى ينام، ويسمع الأذان فيقول: أتسطح، فيتسطح ثم يتبطح ثم يركبه الشيطان والعياذ بالله، ولا يقوم إلا الساعة الرابعة أو الخامسة.
من حين تسمع الأذان مباشرة قم إلى المسجد، واحذر من هذه النومة التي قبل صلاة العصر، ما في إمكانية، خصوصاً هذه الأيام أيام الشتاء؛ لأن الليل طويل والنهار قصير، فما تنام إلا إذا كان لا بد من النوم فلا مانع بعد العصر، أما أن تنام قبل العصر، فلا.
حتى لا تضيع وقت صلاة العصر، هذه فيها بلاء، ود الناس لو أن المسألة بالمزاج، كأن صلاة العصر الساعة الثانية والربع، حدد الدوام؛ لأنه قد صلى الظهر في الساعة الثانية عشرة ومن الساعة اثنتين وربع يصلي إلى اثنتين ونصف ويتغدى وينام إلى المغرب، لكن الله هو الذي يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] أي: مفروضاً معلوماً في جميع الأوقات، فالذي حددها هو الله، يقول الله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78] أي: الظهر والعصر: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78] أي: المغرب والعشاء ثم قال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78] أي صلاة الفجر.
فالصلاة فيها تكليف، والزكاة فيها تكليف؛ لأن المال محبوب إلى النفس، وإذا جئت لتخرج الزكاة فأنت تبرهن في إخراجك على أن حبك لله أكثر من حبك لهذا المال، والصيام فيه تكليف، تدع شهوتك وطعامك وشرابك وزوجتك من أجل الله، فهذا نوع من التكليف، والحج تكليف، كل التكاليف الشرعية فيها مشقة، وهي نوع من الابتلاء، وكذلك الشهوات المحرمة، فميل النفس إلى الزنا، وميلها إلى لخمور، وميلها إلى ممارسة الربا، وميلها إلى شرب المحرمات، وكل هذا في النفس البشرية، وهو ابتلاء، ولكن المؤمن عنده إيمان قوي يحجزه ولو قطعوه قطعة قطعة؛ لأنه يخاف الله، بل لو دعي إلى الجريمة يقول: إني أخاف الله رب العالمين.
هذه أيها الإخوة: إشارة إلى الابتلاء وهذا في حياة المؤمنين، ونترك ما بقي من الوقت للإجابة على بعض الأسئلة التي وردت منكم؛ لأني كنت قد وعدتكم في تخصيص بعض الحلقات للأسئلة لكن من الصعب أن نخصص حلقة كاملة، وسوف نختصر الدرس ونعطيكم وقتاً كافياً للأسئلة.(55/11)
الأسئلة(55/12)
قراءة القرآن أفضل من سماعه
السؤال
امرأة لا تجيد قراءة القرآن، فهل يجزئ سماعها للقرآن عن القراءة؟
الجواب
الله تعبدنا بقراءة القرآن، وأمرنا بالتلاوة، وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من قرأ حرفاً من القرآن كان له بكل حرف حسنة والحسنة بعشرة أمثالها، فهذه المرأة التي لا تجيد القراءة عليها أن تتعلم، ووسائل التعليم متوفرة، وحلقات العلم الآن موجودة، فبإمكانها أن تذهب إلى حلقات العلم، وتبدأ تتعلم حتى يكون لها أجر في التلاوة إلى جانب تعلمها وتلاوتها بلسانها، ولا بأس أن تستمع القرآن بأذنها، فإن سماع القرآن -أيضاً- فيه دواء، فقد ثبت في الصحيحين أن ابن مسعود قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ عليَّ يا بن مسعود! قال: كيف أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: اقرأ فإني أحب أن أسمعه من غيري) فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم لسماع القرآن من غيره دليل على أنه في ذلك فضيلة، وأن ذلك مشروع، ولكن لا يكفي أن تسمع للقراءة فقط، لا بد أن تتعلم؛ لأن الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأه وهو يتعتع فيه، وهو عليه شاق له أجران، أجر التلاوة وأجر المشقة، ففي ذلك فضل كبير إن شاء الله.(55/13)
تفسير قوله تعالى: (ومن يوق شح نفسه)
السؤال
ما معنى قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]؟
الجواب
الشح أقصى درجة من درجات البخل، والعياذ بالله، والبخل من أسوء الصفات التي يتصف بها الرجل، والسخاء يغطي كل عيب في الرجل، والبخل يفضح كل مكرمة في الرجل، ولهذا من صفات الله أنه كريم، ولما خلق الجنة قال: (تكلمي قالت: قد أفلح المؤمنون، قال: بعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل) فلا تكن شحيحاً ولا تكن بخيلاً، ولا تكن مقتراً؛ لأن درجات البخل ثلاث، بخيل ومقتر وشحيح، فالبخيل هو الذي إذا عزم رجلاً قدم له من الطعام ما يكفي نصف واحد، يعطيه نصف قرص وما يكفي إلا قرص، أعطاه نصف قرص، هذا بخيل والذي أخس منه المقتر الذي يصنع له ربع قرص، والشحيح من يعزم الآخرين، ويقول: ما عندنا شيء، والبيت مليء، أصعب شيء عليه أن أحداً يأكل في بيته، ولهذا سئل شخص شحيح، قالوا: من الشجاع في نظرك؟ قال: من سمع وقع أضراس القوم على رغيفه ثم لم يتفطر قلبه، يقول: هذا أشد الأبطال، الذي ما ينقطع قلبه حين يسمع الناس يهرسون في قرصه، فهذا بطل، والعياذ بالله، فالله سبحانه وتعالى ذم هذه الصفة، وبين أن الذي يوقى ذلك فقد أفلح، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [التغابن:16] أي من يكفيه هذه الصفة ولا يكون عنده شح {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن:16] لأن الفلاح يأتي نتيجة الكرم.
أيضاً الكرم فيه شيء ممنوع؛ لأن الكرم ثلاث درجات، كرم وهو ممدوح، وتبذير وهو ممقوت، وإسراف، فالمبذرين إخوان الشياطين، والمسرف: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] هؤلاء من هم، وكيف تفصيلهم؟ فالكريم هو الذي يعزم الرجل ويقدم له طعام رجل فقط.
والمبذر: هو الذي يعزم رجلاً ويقدم له طعام رجلين، والمسرف: -وكلنا في هذه الدرجة- من يعزم رجلاً ويقدم له طعام ثلاثة.
الآن يعزم الواحد ويقدم له طعام مائة، أي نعم، إذا قيل له: قال: الزاد للعيون ما هو للبطون، وهذا كذب وهو رياء ونفاق، لا والله العيون لا تأكل الذي يأكل البطن، وكان من طعام النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقدم لضيفه ما يكفيه، حتى ثبت أنه كان يلعق الإناء، أي: يلحسه بإصبعه أي أنه أكمل الزاد، وهذا ليس فيه شيء، من منا الآن يطبق هذه السنة في زماننا هذا، لو أردنا أن نلعق الآنية لتفقعت بطوننا، ليس على مجال العزائم فإن العزائم فيها إسراف لا يعلمه إلا الله، ولا يرضي الله، ودليل عدم رضى الله أن الناس كلهم لا يفكرون أن هذا إسراف، يعني ينفقون بسخاء، ولو طلب من أحد منهم ريالاً، أي: لو يخرج هذا الذي ذبح لك خروفاً أو خروفين، ويرى شخصاً عند الباب يريد ريالاً لطرده، لكن في سبيل الشيطان، الألف عنده أهون من ريال.
لكن على مجال البيت العادي، تجد البيت يقدم الطعام في السفرة، ويكفي للأسرة التي تأكل ويمكن معها أسرتين، ما تكفي المرأة أن تأتي بقدر أو بصحن من الإدام، تضع أربعة أو خمسة صحون، وتضع صحن الرز مملوءاً، وتضع اللحم من فوق، ثم بدل أن تأتي بقرص تقسمه على الأسرة، تأتي بخمسة أقراص، وكل واحد يكسر له من القرص كسرة، ويرمون الباقي، التفاحة يفتحونها ويأخذون قطعة صغيرة ثم يرمون الباقي، الإدام يأخذ من طرف الصحن ويترك الباقي، الرز يأخذ من طرف الرز ويترك الباقي، اللحم يأكل ويترك الباقي، هذا الباقي أين يذهب؟ يوضع كله في البلاستك، ويحمل ويوضع في الزبالة، نِعم عظيمة، قدرات إمكانات ثروات! والله تكفي لإغاثة المسلمين في جميع بلاد الأرض، كلها في الزبالة، ولذلك ترون كل يوم من الأيام عند كل بيت وعند كل شقة زبالة، لو فتحتها لوجدتها كلها عيش ولحم ورز وإدام وفواكه، وفي اليوم الثاني تجد الرجل يصعد بزنبيل مليء بالمقاضي، وفي الصباح ينزل زبالة، وضاعت حياة المسلمين بين الزنبيل والزبالة، كان هناك رجل دائماً كلما خرج من بيته قالت له زوجته: هاتٍ هات! تطلب طلبات، بل ما ينزل الآن إلا بكشف، يذهب إلى السوق ومعه بيان؛ لأنه يا ويله إذا رجع ونسي شيئاً يرجع يأتي به غصباً عنه، فقال: لها يوماً من الأيام أنت كل يوم تقولين: جيب معك، جيب معك، ما في يوم قلت لي خذ ولو شيئاً، قالت: خذ الزبالة نزلها معك، فقط هذا عمل الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا بد -أيها الإخوة- أن يكون للرجال مواقف جادة مع النساء؛ لأن هناك فلسفة شيطانية، وفكراً منحرفاً عند كثير من النساء، وهو عملية نتف ريش الزوج بالمصاريف الزائدة، وتأتي هذه الفلسفة من عقول بعض النساء الجاهلات تقول لابنتها أو لجارتها: انظري لا تتركي له ريشاً؛ لأنه إذا وفر المال سوف يتزوج ويتركك، فأنت انتفي ريشه أولاً بأول، لا يأتي آخر الشهر وباقي عنده ولا ريال، وهذا النظر غلط، هذا النظر حقيقة هو الذي يحمل الرجل على أن يتزوج، إذا وجد أن زوجته -والعياذ بالله- مسرفة وغير مُدبِّرة، وأنها تحاول أن تستهلكه وتستنفذ طاقته وإمكانياته وتتركه فقيراً على الحديدة باستمرار، يقول: بنت ندم ما هي زوجة، هذه نار، ويذهب يشتري سيارة ويستلف ولا ينتظر توفري له أنتِ، ويأتي بزوجة، أقول: إن من أعظم ما يجعل الزوج يحتفظ بزوجته، ويعيش معها عِشرة جميلة، ولا يفكر في غيرها، إذا رآها امرأة مؤمنة تخاف الله، تدبر الطعام، إذا طبخت أرزاً تضع فنجاناً فقط، ولا تضع ملء القدر، وتضع من الإدام ملء الإناء، لكن تقدم في السفرة صحناً واحداً، لها وله، وفاكهة تأتي بحبة أو حبتين، وإذا بقي شيء، أي شيء تأخذه وتضعه في الثلاجة، وتقدمه في العشاء في اليوم الثاني، يأتي آخر الشهر يجد الزوج وإذا معه مبلغ من المال، يقول: ما هذا؟ تقول: وفرنا الحمد لله، ما رأيك عندك مشروع تريد تتصدق في سبيل الله، ما رأيكم يذهب يتزوج على هذه؟! يذهب يدق عينها وهي التي تعيش معه همومه ومشاكله، وتحاول أن توفر عليه؟ أبداً ما يفعلها، أي رجل في الدنيا لماذا؟ لأن النفوس هكذا، النفوس تحب من أحسن إليها، فإذا المرأة أحسنت إليك، فتعاملها بالإحسان، لكن هذا الفكر المقلوب عند كثير من الجاهلات من النساء، يحملهن على أن تستهلك الزوج، فيذهب يبحث له عن امرأة أحسن منها، فيداويها بما كانت هي الداء لها.(55/14)
تائب يخاف من عدم قبول التوبة ومن شماتة الناس به
السؤال
قصرت كثيراً في جنب الله، بالوقوع في كثير من الذنوب والمعاصي ولكنني والحمد لله تبت إلى الله، وهناك أمر يلاحقني وهو أنني أشعر بأنه ليس لي توبة، وكذلك يعيرني أصحابي بما كنت عليه قبل أن أتوب فهل من توجيه؟
الجواب
الحمد لله الذي هداك وتاب عليك، وأسأل الله أن يهدينا جميعاً وأن يتوب علينا وعلى جميع المسلمين، وأما شعورك الذي يلاحقك بأنه ليس لك توبة، فهذا هو مصداقية توبتك؛ لأن من شروط التوبة: الندم، وهذا الندم هو الذي تشعر به الآن، إن قلبك يتقطع أسفاً وحزناً وندماً على ما فات منك في المعصية، وخوفك هذا وشعورك هو دليل صدق توبتك، وعليك أن تحسن الظن بربك، فإن الله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، يقول الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ} [طه:82] وكلمة غفار هنا صيغة من صيغ المبالغة {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] ويقول سبحانه وتعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:49] ويقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] وقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [آل عمران:133 - 135] مثلما فعلت أنت! {أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136] هذه الآيات كلها تبين لك وتفتح لك باب التوبة، وتعلمك أن ذنبك مغفور مائة بالمائة، وليس عندنا شك في هذا، فالله لا يخلف الميعاد، إنما الذي عليك أن تستمر في هدايتك ولا ترجع إلى ما كنت عليه، وثق بأن الله سبحانه وتعالى قد قبل توبتك.(55/15)
نصيحة على أبواب الاختبارات
السؤال
ما نصيحتكم والاختبارات على الأبواب، هل من توجيه؟
الجواب
أولاً: أنصح الشباب بتقوى الله سبحانه وتعالى؛ فإن التقوى سبب من أسباب فتح المغاليق للعلوم: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال:29] فإذا تبت إلى الله من الذنوب وكان بينك وبين الله علاقة قوية بالإيمان والتقوى منحك الله فكراً، ومنحك الله ذكاء وقدرة على إدراك العلوم والمعارف، سواء علوم دينية أو علوم دنيوية.
ثانياً: ننصح إخواننا بعدم الغش في الامتحانات، فإن الغش محرم ومن غشنا فليس منا.
ثالثاً: نطلب من إخواننا تنظيم الأوقات بالنسبة للمذاكرة، فيجعل الإنسان له برنامجاً بحيث يذاكر المواد بشكل منظم، وإذا أعطي جدولاً فليبدأ في مذاكرة المادة التي تقدم له في أول يوم، ثم في اليوم الثاني المادة الثانية، هذا في الأسبوع الأول، وفي الأسبوع الثاني يرجع عليها بنفس الترتيب في المذاكرة الثانية، في أول يوم من الامتحان يذاكر المادة الأولى وتكون المراجعة هذه للمرة الثالثة، ويأتي الامتحان فيستطيع أن يجيب؛ لأنه قد مر على هذه المسألة ثلاث مرات، ولكن بعض الشباب لا ينظم وقته، ولا يعرف يرتب أوقات المذاكرة، فيترك مادة من المواد إلى آخر يوم فيأتي يذاكرها ولا يزال ذهنه بعيداً عنها فلا يجيب في الامتحان لكن إذا كررتها مرة ومرتين وثلاثاً سهلت عليك الإجابة بإذن الله، وننصح إخواننا بعدم السهر، فإن التجربة والواقع أثبتت أن السهر الطويل في المذاكرة يؤدي إلى عدم القدرة على الإجابة على الأسئلة في يوم الامتحان، فإن للإنسان طاقة، ولعقل الإنسان قدرة محدودة فإذا أجهده في الليل، ثم نام قليلاً، وقام إلى الصالة ودخل فإنه لا يستطيع العقل استذكار تلك المعاني التي حفظها؛ لأنه في غاية من الإجهاد، وقد جرب أن أفضل الأشياء هو النوم المبكر، والمذاكرة المبكرة، أي ليلة الامتحان، فمن الأفضل أنك تنام مبكراً في الساعة التاسعة أو العاشرة، ولا مانع من أن تستيقظ آخر الليل، ثم بعد ذلك تقوم بالمذاكرة من بعد صلاة الفجر إلى وقت الامتحان.(55/16)
عقد القران يصير المرأة زوجة حقيقية
السؤال
أنا شاب منّ الله عليَّ بعقد القران على إحدى البنات الصالحات، وإلى الآن لم أدخل بها، فهل تعتبر زوجتي وهل يحل لي منها ما يحل للرجل من زوجته؟
الجواب
بعقد القران أصبحت زوجتك، ويحل لك أن تتصل بها وتحادثها وأن تزورها في بيت أهلها وأن تجلس معها، ولكن قضية الدخول والخلوة هذه لا بد من إذن أهلها، لا بد أن تستأذن أهلها ويأذنوا لك، ولا مانع أن تدخل بها في بيتها بعد معرفة أهلها، لماذا؟ لتحديد المسئولية؛ لأن بعض الناس يقول: زوجتي ثم يذهب بها ويخلو بها، ولا يدري أهلها، ولا يدري أهله، ولا يدري المجتمع، ثم يحصل شيء من القدر ويتخلى، ثم يتركها أو يطلقها، والناس ما عرفوا أنه قد دخل بها، فيحصل لها مشكلة في حياتها، فيشترط العلماء بخلوة الرجل بزوجته بعد أن يعقد عليها أن يكون ذلك بعلم أهلها وأهله، أو بعلم المجتمع عن طريق وليمة متواضعة، يعرفون أنه دخل بزوجته، من أجل أن هذه الآثار المترتبة على خلوته بها يتحملها هو، فإذا تخلى عنها في يوم من الأيام عرف أنه قد خلى بها، وهذا أفضل شيء.
أنا لا أرى داعياً لقضية تأجيل الزواج بعد العقد، لماذا؟! ما دامت زوجته فليأخذها من نفس اليوم ويمشي ولا داعي لقصور أفراح هذه كلها أشياء عفا عليها الزمن، وتحررت منها عقول البشر، وأصبحت مظاهر كلها كذابة، ويترتب عليها آثار سيئة على الزوج وعلى الزوجة، إن أبرك الزواج هو أيسره، إذا كان سعيد بن المسيب: يقول لـ أبي وداعة لما عقد له في المسجد بعد صلاة العصر وذهب؛ لأنه سأله: قال له: ما بك تأخرت؟ قال: ماتت زوجتي، قال: أزوجك ابنتي قال: ما عندي شيئاً، قال: ما أريد منك شيئاً، وزوجه بما عنده من القرآن، وبعد ذلك لما جاء بعد المغرب، وراح أبو وداعة في البيت، لم يتصور أنه يأتي بالبنت الآن، يريدها بعد زواج ووليمة، أذن للعشاء وإذا بالباب يطرق، فقلت: من؟ قال: سعيد، يقول: فقمت، كل سعيد أحتمله في الدنيا إلا سعيد بن المسيب؛ أربعون سنة ما سمع الأذان خارج المسجد قط، أربعون سنة وهو في المسجد، لكن أدركه الأذان في ذلك اليوم وهو خارج، قال: سعيد بن المسيب، قال: ففتحت الباب، خاف أبو وداعة: ماذا حدث؟ يكون تأسف ويريد أن يلغي الزواج أو أن هناك شيئاً، يعني: وقت حرج، لماذا تأتي في هذه اللحظة يا سعيد؟ ولما فتح الباب وإذا بزوجته (البنت) وراءه، أخذها بيدها ودفعها من ظهرها وقال: إن هذه زوجتك، وإني ذكرت أنك هذه الليلة ستبيت عزباً فكرهت ذلك، خذها بارك الله لك.
يقول: كيف ترقد الليلة عزوبياً وامرأتك عندنا، أين الآباء من هذا يا إخوان؟ لا إله إلا الله، زوجته لماذا تمسكها؟ مادام أنت أملكته وزوجته، لماذا تحجزها عنه وتحجزه عنها؟ من أقل أن تذبحوا وتذهبوا قصر الأفراح، وتخسروا، لا، من نفس عقد الزواج، امرأتك على كيفك إذا أردت تأخذ لك شقة في عمارة أو تستأجر لك غرفة في فندق فخذها، وإذا تريد تردها عندنا اتركها ترتاح ابنتك، بعض الناس يقول: لماذا؟ أتركها ينبسط على ابنتي ويتمتع بها، لا.
أبداً، أصلاً هي التي تنبسط ليس هو الذي ينبسط، أي نعم، وهي التي تتمتع ما هو الذي يتمتع، فأنت تمتع ابنتك لكن بعض الناس عقولهم والعياذ بالله ناقصة.(55/17)
من نسي فصلى بغير وضوء فعليه إعادة الصلاة
السؤال
صليت صلاة الفجر بدون وضوء نسياناً، ولم أتذكر إلا بعد صلاة العصر، فما العمل؟
الجواب
عليك أن تستغفر الله، وأن تتوضأ من جديد، وأن تقضي صلاة الفجر، أما صلاة الظهر والعصر، فإن كنت صليت على نسيانك وما توضأت، فأعد الصلوات كلها، وإن كان توضأت للظهر وللعصر فأعد فقط صلاة الفجر؟(55/18)
تبرك الصحابة بآثار النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل الصحابة كانوا يأخذون البصاق والنخام لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويتبركون به، وهل شرب عبد الله بن الزبير دم الرسول الله صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
نعم ثبت ذلك، ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم، كانوا يتبركون بفضل طهوره صلى الله عليه وسلم وبصاقه صلى الله عليه وسلم، وبكل شيء من آثاره، لأنه بركة على أمته صلوات الله وسلامه عليه، ولكن هذه البركة محصورة فيما دل عليه الدليل، فلا نتجاوز حدودها، لأن بعض الناس يأتي إلى الشيخ ويتمسح به تبركاً وهذا خطأ؛ لأنه ليس كرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولأن الصحابة ما كانوا يتبركون بعضهم ببعض، ولم يثبت أنهم بعد أن مات صلى الله عليه وسلم كانوا يتبركون ب أبي بكر، أو يتبركون ب عمر، أو يتمسحون بعلي أو بـ عثمان، فالرسول فقط يتبرك به، لأن الرسول شخص مميز -صلى الله عليه وسلم- وهو خير خلق الله، وأقرهم على هذا.
أما التبرك بالصالحين، أو بالأولياء، أو بالطيبين والتمسح بهم، أو بجلسة معهم، هذا كله، قد يؤدي إلى الشرك وهو بدع وليس عليا دليل من كتاب ولا سنة.(55/19)
حكم تأخير الصلاة عن وقتها
السؤال
أنا امرأة ملتزمة والحمد لله، ولكني ضعيفة في العبادة، حيث يمر الوقت ولا أصلي إلا بعد مرور الوقت بأكثر من ساعة؟
الجواب
أجل ملتزمة بماذا؟ مادام أنها ضيعت الصلاة، وتقول أنها ملتزمة والحمد لله! ملتزمة بضياع الصلاة! بقية السؤال: وذلك لأنني مشغولة في المنزل والأولاد ولا أجد همة تجعلني أصلي في وقت الصلاة؟ فكيف الحل الذي يجعلني ألتزم بالصلاة؟ الجواب: الالتزام -أيها الإخوة- ليس ادعاء، الالتزام يكون حقيقة ومضموناً، ومن أعظم علامات الالتزام الالتزام بالصلاة في وقتها، ومع جماعة المسلمين بالنسبة للرجال، وأما بالنسبة للمرأة فإنها مع أول الوقت، فحين تسمع الأذان المرأة أو الرجل يقوم الرجل يصلي في المسجد، وهي تدخل في غرفتها تصلي، وتقطع كل شغل، أي عمل في الدنيا عندها تتركه خلفها، لماذا؟ لأنها جاءت فريضة الله، تقول: أولادي فهل الأولاد أهم عندك من الله؟! الطبيخ أهم عندك من الله؟! الغسيل؟! سبحان الله!! {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103].
فلا ينبغي أن تنشغل المرأة بأي عمل غير الصلاة بل إذا سمعت الأذان.
ومن يوم تسمع الأذان كأنه لسعها حنش، تترك كل شيء وتدخل الحمام وتتوضأ، ثم تخرج وتلبس ملابس الصلاة، وتستتر ستراً كاملاً لا يبدو منها شعرة واحدة، ولا ظفر، ولا إصبع ولا بطن كف ولا ظهر كف، ولا ظهر قدم، حتى ظهر القدم ما يمكن أن يظهر في الصلاة، تأخذ شرشفاً كبيراً، وسيعاًُ طويلاً عريضاً يسترها حتى ما يبقى إلا وجهها ثم تستقبل القبلة، وتذهب إلى غرفتها لا تصلي في أي مكان، في الغرفة في مخدعها في مكان نومها، تفرش لها شيئاً طاهراً تصلي عليه، ثم تصلي السنن القبلية، إن كانت الظهر تصلي قبلها أربعاً وبعد ذلك تصلي الفريضة، ثم تأتي بالسنن البعدية، بهدوء وخشوع وخضوع وحضور قلب، ثم تقوم لتكمل شغلها، هذه الملتزمة الحقيقة، أما تلك التي تشتغل مثل المكينة في البيت، والصلاة تتركها حتى تتعب فإذا فنيت أتت تصليها قاعدة، لماذا؟ قالت: تعبانة تعبانة من صلاة، وأما على المطبخ وعلى المكنسة وعلى الشغل مثل الجنية والعياذ بالله، وإذا أتت الصلاة قالت: تعبانة، وملتزمة كذلك!(55/20)
مقالة: الله ما رأيناه لكن بالعقل عرفناه
السؤال
بعض العوام يقولون: الله ما رأيناه لكن بالعقل عرفناه؟ هل عندكم توضيح لهذه العبارة وهل فيها خطأ؟
الجواب
لا.
ليس فيها خطأ، فالله ما رأيناه بأبصارنا، لكن آمنا به بقلوبنا ورأينا علامات قدرته وآثار وجوده بعقولنا، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] أي: العقول، من هم؟ {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران:191] يتفكرن بماذا؟ بعقولهم، فالعقل جارحة خلقه الله للتفكر والاعتبار، من أجل النظر والاستدلال على الخالق سبحانه وتعالى، فالعبارة ليس فيها خطأ لكنها عامية، أي ليست سلفية حتى نقول: إنها صحيحة مائة في المائة، فهي كلمة عامية، لكن معناها صحيح.(55/21)
رجل يصلي في الصف الأول وأولاده لا يصلون
السؤال
ألاحظ إهمال كثير من الآباء لأولادهم في أمرهم بالصلاة فتجد أن أحدهم في الصف الأول، ولكن أبناءه في البيت، لا يحضرون الصلاة ولا يوقظ منهم أحداً، فهل من توجيه؟
الجواب
لا شك أيها الإخوة أن أول مسئوليات المسلم أمام الله سبحانه وتعالى أن يأمر أهله بالصلاة؛ لأن الله قد ضمن له الرزق، وقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] سبحان الله! يا أخواني فكروا معي في هذه الآية، لو أن مسئولاً كبيراً، جاء بك وكلفك بمهمة، وقال لك: عليك بهذه المهمة، ولا تلتفت للرزق فرزقك علينا، ما رأيك؟ هل سيحمل هماً؟ يذهب يشتغل بتلك المهمة وخلاص مكفول على المسئول، الله سبحانه وتعالى الرزاق الذي يرزق كل ما في الأرض {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] يقول: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] وظيفتك أنك توجه أهلك وزوجتك للصلاة، وبعد ذلك قال: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه:132] فماذا حصل؟ اشتغل الناس بالرزق وضيعوا الصلاة، تجده من الصباح إلى الساعة العاشرة وهو في الدكان، وإذا جاء الرزق، طيب وأولادك صلوا؟ قال: ما أدري عنهم، اهتم بالمكفول ضيع والواجب، وبعض الآباء ليس عنده شغل حتى بالرزق وإنما إهمال، يقول: يصلي ويخلي أولاده، لا يا أخي الكريم، لا تبرأ ذمتك إلا برعايتك لأولادك، وستجد صعوبة طبعاً، لكن اصبر وبعد أعظم وسيلة خذوها مني وهي نتيجة تجربة، هذه التجربة مارستها في تربيتي لأولادي والحمد لله، ونجحت فيها لحد بعيد، قضية الأمر بالصلاة، يقول لي أحد أولادي وربما تسمعون به وهو الشيخ أنس، داعية والحمد لله الآن يدرس الماجستير، يقول لي: كذا بالنص، يقول: يا أبتي كنت إذا أنت تدخلنا المسجد تأمرنا بالقوة، يقول: أشعر بضيق وتعب وأنا صغير، يقول: وأحس وأنا أرى الأولاد يلعبون في الشارع، أقول: الله يهنيهم، أبوهم لا يقول لهم: صلوا، ويقول: أشعر بأنك تعقدنا وأنك تزعجنا، كل ساعة صلاة صلاة، يقول: وبعدين مع الزمن أحببنا الصلاة، يقول: حتى لما كبرنا ما رأينا صعوبة ونحن نصلي؛ لأننا مدربون عليها من حين خلقنا، وكذلك يا أخي أولادك، هذه أعظم وسيلة، فتجد صعوبة، الولد ما يحفظ عن الصلاة أنها عمل عبادة، والولد لا يدرك العبادة، ولا يدرك لها لذة، ولذا هي جهد ضايع عنده، قد يصلي بغير وضوء، وقد يصلي بغير خشوع، لكن اجعله يصلي، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) رغم أنهم ليسوا مكلفين، لماذا؟ لكي يعتادوها فتسهل عليهم إذا كبروا لكن حين تتركه وهو ابن سبع، وتتركه وهو ابن عشر، ويصلي ابن خمس عشرة وهو مكلف إذا لم يصل صار كافراً، تقول له: صل، ما تدرب صلاة، ماذا يصلي؟ يراها أكبر من الجبال، ولا يصلي ولا يطيع لو تضربه وتحط ظهره على الحديد، ما يصلي، لماذا؟ وكما يقال:
إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت ولا تلين إذا صارت من الخشب
الغصن الأخضر قد تميله على كيفك، لكن إذا صار خشبة يابسة، تعال اعوجها أو صلحها! فلا يا أخواني الله الله في قضية أولادكم في الصلاة، وبعد ذلك القضية والأمر يحتاج إلى صبر؛ لأن الله يقول: {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] والاصطبار هنا فعل أمر من الخماسي، ما قال واصبر بل قال اصطبر وهو فعل خماسي، ويقول علماء اللغة: إن الزيادة في المبنى -أي مبنى الكلمة- من الرباعي أو الخماسي أو السداسي يدل على الزيادة في المعنى، فالله ما قال: اصبر بل قال: {وَاصْطَبِرْ} [طه:132] والاصطبار هو أقصى درجات الصبر.(55/22)
الطلاق لا يقع بحديث النفس
السؤال
هل يقع الطلاق من حديث النفس؟
الجواب
حديث النفس وسواس، والوسواس من الشيطان، والشيطان لا يجوز له أن يطلق امرأتك فلا يقع بحديث النفس، هي امرأتك أم امرأة الشيطان، حتى يطلقها بالوسواس، لا.
الذي يأتي في النفس أي شيء في النفس، ما يخرج ويترجم إلى كلام وإلى كتابة وإلى فعل، هذا ليس شغلك، أي شيء، بعض الناس يشتكي، يقول: يا شيخ والله أنا أوسوس، أفكر في الله، أفكر في الجنة، ويأتيني خوف، نقول له: الوسواس هذا ممن يقول: للشيطان ثم أترك الشيطان يوسوس حتى يذوب مادام أن أصله وسواس هذا عمله، أنت تريد الشيطان ما يوسوس هو يوسوس غصباً عنك؛ لأنه هذه وظيفته، أتركه يوسوس ولا عليك أي مسئولية من وسواسه، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام واشتكى الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الحمد لله الذي رد كيد عدو الله إلى الوسوسة) فإذا جاءك وسواس في أي شيء لا تلتفت إليه، فإنك غير مسئول عنه ولا مؤاخذ عليه، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا عن أمتي الخطأ والنسيان وما حدثت به نفسها ما لم تعمل أو تتكلم) إذا عملت أو تكلمت، إذا أنت وسوست في طلاق امرأتك، لا يؤثر، لكن إذا أخذت القلم وكتبت الورقة، خلاص طلقتها، أو دعيتها وتكلمت معها، وطلقتها، لكن مادام وسواساً، فهو للشيطان وبالتالي لا يمكن أن نحملك فعل غيرك، فعل الشيطان يتحمله الشيطان، والشيطان اتركه يطلق امرأته، أما امرأتك فليس له علاقة بها، ما يطلق هو.(55/23)
الابتلاء بزوجة لا تطيع زوجها
السؤال
ما رأيك فيمن ابتلي بزوجة لا تطيعه ولا تحترمه ولا تطيع له أمراً وهو يتأذى من ذلك فهل يطلقها أم يصبر عليها؟
الجواب
نعوذ بالله وإياكم من مثل هذه المرأة، وهذه مصيبة المصائب، وعقدة العقد ومشكلة المشاكل، أن يبتلى الرجل بامرأة من هذا النوع، لا تطيع ولا تحترم ولا تنفذ أمره، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة) وهي التي إن نظرت إليها سرتك، وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في نفسها وفي مالها، والمرأة التي لا تطيع الزوج لا شك أنها آثمة، وهذه معصية لله سبحانه وتعالى، والملائكة تلعنها إلى أن يرضى عنها زوجها، والتي لا تحترم زوجها أيضاً آثمة، والملائكة تغضب عليها، والله يغضب عليها من فوق سبع سماوات، إن الزوجية رق، المرأة كأنها عند زوجها رقيقة، بل حق الزوج مقدم على حق الأم والأب، الرجل حق الأم أهم شيء، ثم الأب ثم أدناك أدناك، أما المرأة فأولى الناس بالحق عليها زوجها قبل أمها وقبل أبيها، ولما جاءت عمة عمران بن حصين أخت حصين بن معبد، قال لها الرسول: (أذات زوج أنتِ؟ قالت: نعم يا رسول الله، قال: كيف أنت معه؟ قالت: لا آلوه جهداً -أي في الطاعة- ما حقه؟ قال: لو أن به قرحة، -أي قرحة يسيل الدم والقيح منها، من رأسه إلى قدمه- ثم لم تجدي أن تمسحيه إلا بلسانك ما قمت بحقه) وقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) فنقول لهذه المرأة إن كانت تسمع الكلام: اتقي الله، واعلمي أن طاعتك لزوجك أعظم من أي عمل تعملينه بعد فرائض الله سبحانه وتعالى.
أما قضية الطلاق أو الصبر عليها فهذا شيء يرجع تقديره إليك، نحن لا نعرف ظروفك كاملة حتى نقول لك: أمسكها أو طلقها، أنت الذي تقدر، فإن رأيت أن من مصلحتك أن تبقى معك هذه الزوجة وكانت تصلي وحافظة لما بينها وبين الله عز وجل، فيجب أن تنظر إليها نظرة كاملة؛ لأن بعض الناس ينظر إلى السلبيات من زوجته ويترك الحسنات، لا، الرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كما في البخاري: (لا يفرك مؤمن مؤمنة) أي: لا يبغضها (إن كره منها خلقاً رضي منها آخر) النساء ما فيهن كاملات، ما في امرأة إلا وفيها وفيها، فيها حسنات طيبة وفيها سيئات، فأنت انظر إلى المرأة بمنظار كامل، ثم وازن بين سلبياتها وإيجابياتها، فإذا رأيت جانب الإيجابيات غالباً فاصبر، ولو فيها نقص، لأن المرأة خلقت من ضلع أعوج، هل رأيتم في الدنيا ضلعاً مستقيماً مثل المسطرة؟ (وإن أعوج ما في الضلع أعلاه) فأعوج ما في المرأة لسانها (فاستمتعوا بهن على عوجهن) فالذي يريد امرأة مثل المسطرة ما فيها ولا عوجة، هذه في الجنة، أما في الدنيا ما في واحدة، فأنتم مشوها نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الصالحات.(55/24)
درس تربوي عملي في عدم الحلف بالله
نكتفي بهذا -أيها الإخوة- وحقيقة والله لا أريد أن أترك هذه الأسئلة؛ لأن أشعر بالإثم أن أسأل ولا أجيب، لا بد من الإجابة على سؤال الناس، ولكن يعلم الله أن ليس بالإمكان هذا، أي شيء فوق طاقة البشر، أن يجيب على كل الأسئلة، فأنا أقول للإخوة الذين ما أجيب على أسئلتهم لا يهملون الأسئلة، يكررونها مرة ثانية أو يتصلون تلفونياً بالمشايخ، وبالدعاة، وبالإمكان الاتصال بي، وتلفوني موجود في الدليل دليل الهاتف، يمكن السؤال (905) يعطوك التلفون وتتصل في أي وقت، ونسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق لما يحبه ويرضاه، وإلى اللقاء إن شاء الله في الحلقة القادمة وفي الجلسة بالشهر بالماضي ودرس التربوي لهذا الشهر تعودنا في كل شهر أن نأخذ درساً تربوياً حتى تتحول مجالسنا من مجالس سماع إلى مجالس عمل وتربية، وقد اخترت لكم في هذا الدرس أو في هذه الليلة، درساً تربوياً أطلب منكم الالتزام به، على مدار الشهر هذا، إلى السبت الأخير من شهر شعبان أن شاء الله، ثم بعد ذلك الاستمرار عليه، طبعاً نحن نعطي هذه الفترة تدريبية، لكن بعده ما تترك؛ لأن الله يقول واعبد ربك حتى يأتيك اليقين، فقط هذا فترة تدريب، هذا الدرس التربوي هو ألا تحلف بالله مطلقاً لا بار ولا فاجر، لماذا؟ لأن هذا يدل على تعظيم الله، يقول تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224] فلا ينبغي لك أن تحلف لا باراً ولا فاجراً، إذا طلب منك يمين فتعود على ألا تحلف، لماذا؟ لأنك إذا حلفت بالله باراً قادك هذا إلى أن تحلف بالله فاجراً، أما -إذاً- تحرجت من الحلف بالله وأنت بار، فهل يمكن أن تحلف بالله فاجراً، ما رأيكم؟ ما أقدر أحلف بالله، خذها بدون يمين، أنا ما أحلف، أنا أعظم ربي، هل يحلف بالله هذا فاجراً؟ لكن إذا حلف بالله والله والله، والله، وهو صادق، وبعد أيام يحلف وهو كاذب؛ لأنه استهان بالله، يقول العلماء: إلا إذا طلب منك عند قاضٍ في دعوى، تقتضي منك إظهار حق بإنكار، بيمين طلبها القاضي وأنت صادق، فلا بأس، إنما تجعل لسانك على كتفك، والله، والله، والله، والله، طوال اليوم فهذا استخفاف بالله، فنريد -أيها الإخوة- من الآن، أن نلزم أنفسنا، قلت: أترك اليمين غداً فضع ورقة في جيبك وكلما حلفت سجل مرة، آخر الشهر ترى كم حلفت، إن كان جاء آخر الشهر وأنت ما حلفت ولا يمين لا باراً ولا فاجراً، فأنت ناجح مائة في المائة، وإذا كان قد كان في واحد اثنتين ثلاث إلى عشر أنت ناجح تسعين في المائة، وهكذا، وأنت الذي تقيم نفسك حتى تعود نفسك على ألا تحلف بالله لا باراً ولا فاجراً والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصبحه وسلم.(55/25)
الطريق إلى الهداية [1، 2]
من أجل نعم الله على هذا الإنسان: نعمة الإيمان والهداية.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يحرص على الحصول عليها وأن يسعى في سبيل تحقيقها.
وبالهداية يجد المسلم السعادة في حياته الدنيا ويعيش طمأنينة عجيبة.
أما طريقها فسهل لمن سهله الله له: وهو بإعلان التوبة مما مضى، وعقد النية على الحرص على الأعمال الصالحة في المستقبل، وإحسان العمل في الزمن الحاضر.(56/1)
فضل مجالس العلم وأهله
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله: أولاً جزى الله القائمين على مدرسة تحفيظ القرآن الكريم في هذا المسجد خيراً، حينما هيأت هذا اللقاء، وأعادت للمسجد بعضاً من رسالته، فإن المسجد كان كل شيء في حياة المسلمين، وجزاكم الله خيراً حينما أجبتم الدعوة وجئتم لتشجعوا داعي الإيمان، ولتحضروا مجالس الذكر التي تحتاج إليها القلوب أكثر من حاجة الأرض إلى المطر، فإن غيث القلوب هو العلم، وغيث الأرض هو المطر، وأنتم ترون أن الأرض إذا حُبس عنها المطر أجدبت وأقحلت وتغير شكلها ولم تؤتي خيراً، وكذلك القلوب إذا حرمت من سماع العلم والذكر فإنها تجدب وتقصر وتقسو ولا يأتي منها خير.
وترون الأرض إذا نزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وكذلك قلوب أهل الإيمان إذا نزل عليها العلم -وأعني بالعلم هنا علم الكتاب والسنة: قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم- وسمعت الذكر والعلم الإيماني اهتزت كما تهتز الأرض، تهتز وتضطرب، وتخاف وتوجل وتشفق، ثم بعد هذه الحركة القلبية تزداد إيماناً، عبر الله عز وجل في الأرض المادية فقال: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] وقال في قلوب المؤمنين {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2] فتنبت القلوب حينما تسمع العلم من كل زوج بهيج من العمل الصالح، والبعد عما حرم الله.
وما دام الأمر كذلك فإن من الضروري أن يحرص المسلم على حضور مجالس الذكر ومتابعتها، وأن يجعلها في صلب برنامجه اليومي، ولا يجعلها على الهامش بحيث إن تيسرت حضر وإن لم تتيسر لم يحضر، وإنما يجعلها شيئاً رئيسياً وضرورياً في حياته؛ لأنها غذاء لقلبه، والله تبارك وتعالى يقول: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] ويقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:28 - 29].
هذه مقدمة لبيان فضل هذه المجالس التي نسأل الله عز وجل أن يجعلها في ميزان الحسنات، وأن يجعل الجلوس فيها وسماع العلم وقوله خالصاً لوجه الكريم.(56/2)
نعمة الهداية والإيمان وعظيم قدرهما
إن نعمة الهداية والدين والالتزام، والسير على الصراط المستقيم، من أجلِّ نعم الله على العبد؛ لأنها نعمة ترافقك آثارها في هذه الحياة، وعند الموت، وفي القبر، وعلى الصراط، وفي أرض المحشر حتى تدخل الجنة ببركة نعمة الإيمان.
إن الكفر والمعصية والنفاق والضلال مصيبة، ونكبة على الإنسان في هذه الدنيا وعند الموت، وفي القبر، وعلى الصراط وفي عرصات القيامة، ويوم يسحب على وجهه ويقذف على أم رأسه في النار، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
والناس اليوم يتطاحنون، ويتناحرون، ويتسابقون في سبيل تحصيل المال، وكثرة العيال، وعلو المنصب والجاه، وهذه النعم: نعمة المال والأولاد والمنصب والجاه نِعمٌ لا تنفع في الآخرة {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37] لا يقربك مالك، ولا ولدك، ولا جاهك عند الله خطوة واحدة، إلا بمؤهلات الإيمان والعمل الصالح {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:37].(56/3)
الإيمان غذاء الروح وراحة البدن
نعمة الإيمان هي النعمة التي ينبغي أن نحرص على الحصول عليها، وأن نَجِد السير في سبيل تحقيقها، وإذا حصلت فينبغي لنا أن نقبض عليها، وأن نعض عليها بالنواجذ حتى لا نحرمها؛ لأنها ترافقك في هذه الدنيا، فأنت في الدنيا بنعمة الإيمان تعيش حلاوة هذه الحياة؛ لأن هذه الدنيا لها طعم، ولذة هي لذة الإيمان، يقول ابن تيمية رحمه الله: (إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة)، ولما سجن رحمه الله في سجن القلعة في دمشق كان يقول لسجانه: (ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، سجني خلوة، وإخراجي من بلدي سياحة، وقتلي شهادة)، وكان ابن القيم رحمه الله يقول: (والله إنا كنا نزوره في السجن ولسنا مسجونين وقد جمعت علينا هموم الأرض فوالله ما إن نرى وجهه وهو بين الجدران وفي الحديد حتى يسرى عن قلوبنا).
وهذا بسبب نعمة الإيمان التي يقول الله فيها: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:139 - 140] ويقول: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104].
فالمؤمن بإيمانه يعيش في سعادة ولو لم يمكن من في شيء من ملذات هذه الحياة، والله لو سكن الكوخ، وركب الحمار أو مشى على قدميه، ولبس الثياب البالية المقطعة، وأكل من خشن العيش ومعه الإيمان؛ فوالله إنه في سعادة أعظم من سعادة الملوك، يقول أحد السلف: لو يعلم أهل الجاه والسلطان ما نحن فيه من اللذة والسرور لجالدونا عليها بالسيوف، أما بغير نعمة الإيمان، فوالله لو سكن الإنسان أعظم عمارة، ولو امتطى أحدث موديلات السيارات، ونكح أجمل الزوجات، وتغذى بأشهى المأكولات، وامتلك الملايين من الريالات وهو ليس ذا إيمان فوالله ما يزداد إلا عذاباً وشقاء؛ لأنه بهذه الإمكانات المادية إنما يرفه عن جسده؛ لأن الإنسان مكون من عنصرين: عنصر مادي وعنصر روحي، فالعنصر المادي الجسد غذاؤه من الأرض، لكن العنصر الروحي غذاؤه من السماء، فإن لم يتكامل في غذاءيه بعنصريه المادي والروحي فإنه يعيش مشلولاً، مقسوماً لا تحصل له السعادة إلا بالتكامل في حياته في مطالب الروح والجسد.
ولكن إذا سعُدت الروح حتى ولو لم تكتمل مطالب الجسد فإن الروح هي الراكب.
يقول ابن القيم رحمه الله: الإنسان بدنه مركوب وروحه راكب، ودائماً القيمة للراكب.
لو جاءك ضيف على دابة من وسائل الأولين وأدخلت حماره في المجلس، وأدخلت الصيف مكان الحمير ما ظنك بهذا؟ هل يعد هذا إكراماً؟! فيعيب عليك يقول: كيف تضعني هنا وتضع الحمار في المجلس، وإذا جاء العشاء قدمت العشاء للحمار وتركته بدون عشاء، وإذا جاء سألك قلت: والله ما أردت إلا إكرامك، أنا أعلم أن هذا الحمار هو الذي جاء بك، وهو الذي حملك وتعب حتى أوصلك عندي فأردت أن أكرمه؛ لأن إكرام الحمار إكرام لصاحبه، فيقول: صحيح، لكن الكرامة الكبيرة لي أنا، وأعط الحمار ما يستحق من الكرامة، أما أن تحرمني وتعطيه فهذا خطأ.
وكذلك الناس الآن يكرمون المركوب ويتركون الراكب، يكرمون المركوب وهو الجسد بالغذاء الحسن، واللباس الجميل، والمسكن الجميل، والمركب المريح، وإذا أصيب بمرض سارعنا في علاجه، وإذا جاءه الحر أخذنا الملابس الخفيفة للتخفيف عنه، وإذا جاء البرد لبسنا الملابس الشتوية لمقاومته، لا نريد أن ينال هذا المركوب شيء، والراكب محروم من غذائه، مسجون ما أعطيناه من حقه شيئاً، ولذا عاشت أرواحنا في ضيق، وعاشت أجسادنا في سعة:
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
أما ترون حينما ينام الإنسان، إذا تعب الإنسان في عمله، أو سفره، أو مذاكرته؛ فإنه يحصل له إرهاق وتعب، ويشعر بانحطاط في قواه، ووهن في عضلاته وهو يريد أن يرتاح، فما الذي يحصل لو أراد الإنسان أن يرتاح هكذا بدون نوم؟ كلما نام جاء شخص وأيقظه، وهو مستلقٍ على السرير، يقول له: استرح لكن لا تنم؟ أنت تريد أن ترتاح من العمل والتعب فخذ راحتك على السرير، ولكن إياك أن تنام، وكلما نام صب عليه الماء، ما رأيكم هل يرتاح هذا النائم؟! لا وإنما يرتاح إذا نام، لماذا؟ يقول العلماء: لأن الروح الراكب تنزل من المركوب، فيجد الجسد راحة من عدم ركوب الراكب، ولذا الإنسان إذا تعب طول يومه ثم نام ساعة أو نصف ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات، يقوم بعد النوم وهو نشيط كأنه ما عرف التعب، فما الذي حصل له؟ هل دخل في ورشة النوم؟! لا يوجد فيه ورشة، إنما الذي حصل أن الروح نزلت من هذا الجسد وبعدت في إجازة قصيرة لكنها سوف تعود، أما لو ذهبت ولم تعد فقد أصبح هذا موتاً، ولذا إذا أتيت إلى النائم بالرائحة عند أنفه يشمها فلا يشمها رغم أن حاسة الشم موجودة، وتأتي إليه بالأصوات الخفيفة عند أذنه فلا يسمعها، وتفتح عينه وتمرر أمامه أجساماً فلا يراها.
أجل العين ليست هي التي ترى، والأذن ليست هي التي تسمع، والأنف ليس الذي يشم، ولو وضعت في فم النائم قطعة سكر ما أحس بها، تريد أن تنادي الذي يشم، ويسمع، ويرى ويتذوق أين هو؟ ليس موجوداً الآن، تريد أن تناديه؛ أيقظه وقل له: فلان فلان، فإذا استيقظ فأعطه الرائحة يشمها، وأعطه الشيء يراه، ما الذي كان غائباً؟ الروح، إذا ذهبت الروح نزل الراكب من على الجسد فيرتاح الإنسان، وإذا رجعت بقي، مثل الآن الذي يركب سيارته باستمرار ولا يتوقف لابد أن يريحها، والذي يركب حماره ويسافر من أرض إلى أرض دائماً وما ينزل من على حماره سيموت الحمار، وكذلك هذه الروح.(56/4)
لا سعادة تعدل سعادة الإيمان
هذه الحياة كلها؛ لذتها وطعمها في حياة الروح، وإذا حُرِم الإنسان من غذاء الروح -الغذاء الإيماني- عاش في عذاب وشقاء، ولذا ترون البشرية اليوم في الشرق والغرب، في أوروبا وأمريكا بلغوا من التطور والتقدم والاكتشافات العلمية ما لا يصدقه العقل، أراحوا الجانب الجسدي لأبعد درجة، لدرجة أنه في أمريكا يقال: في المناطق الباردة ينامون وعليهم بطانيات كهربائية يضبط العيار عنده فيجعله مثل الخيمة الصغيرة، ويربط (الفيش) بالكهرباء وبعد ذاك عنده عيار يضبط به درجة الحرارة، كم يريد من الحرارة.
عشرين ثلاثين، وينام طوال الليل على هذا، بالرغم من هذا التكييف الذي يحصل له، وبالرغم من أن كل شيء في الدنيا مهيأ إلا أنهم في عذاب، حتى إن أعلى دول العالم نسبة في الانتحار هي أعلى دولة نسبة في التقدم والرقي وهي الدول الإسكندنافية: الدنمارك والسويد والنرويج أعلى نسبة الانتحار فيها؛ لأنهم ما وجدوا السعادة ولا الراحة في كل ما حققوه لأنفسهم من الماديات، فلما لم يجدوا راحة بل وجدوا أنهم في ضيق تخلصوا من الحياة بالانتحار.
يفكر أحدهم ويقول: أنا لماذا أعيش؟ فيقول: أنا أعيش من أجل أن أموت، فما دام أني أعيش من أجل أن أموت فأموت من الآن، لماذا أجلس سنة أو سنتين أو عشر وأنا آكل وأشرب وأصبح وأمسي حتى أموت، فيقفز قفزة إلى الموت ليتخلص من هذه الحياة، لكن الذي يقدم لك الراحة والطمأنينة، وينزع من قلبك القلق والاضطراب والحيرة، ويوجد في قلبك الاستقرار والأمان هو الإيمان، هو دين الله عز وجل، هي الهداية.
ولا تسعد في هذه الدنيا إلا بالهداية؛ لأن من الناس من يتصور أن آثار الدين فقط في الآخرة، ولهذا يقول: الدين سيحرمني من لذات الدنيا، فأنا أتمتع فيها والآخرة بعد ذلك، وهذا خطأ، الدين آثاره معك في الدنيا قبل الآخرة، والكفر معك آثاره في الدنيا قبل الآخرة، الكفر يزرع في قلب الإنسان الخوف والقلق، والحيرة والضلال، والتيه وعدم الرضا، مهما شبع ومهما ولغ من الشهوات؛ لكنه لا يجد الراحة والطمأنينة إن كانت أموال فهي عليه وبال، يقول الله: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55] إن كن زوجات وأولاد يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] ليس بديلاً للإيمان شيءٌ في هذه الحياة، فلا يوجد في الدنيا بديل للإيمان لإسعاد الإنسان في هذه الحياة.(56/5)
حال المؤمن والكافر في الحياة الأخروية
عند الموت هناك الساعات الحرجة، وهناك يقال:
ستعلمي حين ينجلي الغبار أفرس تحتك أم حمار
هناك تنكشف الأغطية يقول الله: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22].
عند لحظات الموت للإنسان المؤمن فإنه يتعرف على ثمرة الإيمان، ويحمد الله الذي هداه إلى الإيمان، وثبته بالإيمان بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وفي القبر يجيب، وجنانه ثابت، ولسانه طلق ويقول: ربي الله وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، ويوم القيامة يُبعث أبيض الوجه يقرأ كتابه بيمينه، ويقول: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20] ويمر على الصراط كالبرق الخاطف، ويوزن عمله فيرجح ميزانه، ثم يرد الحوض على النبي صلى الله عليه وسلم فيشرب شربة لا يظمأ بعدها أبداً، هذا الحوض كيزانه وأوانيه عددها كعدد نجوم السماء، وماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، من شرب منه شربة واحدة لم يظمأ بعدها أبداً.
ثم بعد ذلك يدخل الجنة ويقال له: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:70 - 71] في نعيم أبدي سرمدي، هذه كلها هي ثمرة الإيمان والعمل الصالح.
أما الكفر مع المال، أو الملك، أو الجاه، والأولاد فهذه لا تنفع شيئاً، بل تكون على صاحبها وبالاً في الدنيا والقبر، وعند الموت لا ينفعك المال ولا الأولاد ولا الجاه، وفي القبر لا تدخل القبر بمالك أو بكرسيك أو وظيفتك أو ملابسك أو ببدلة رسمية أو بنجوم أو بأولاد أو بأحد معك: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94] ثم بعد ذلك يوم القيامة تأتي في السؤال فلا تعرف، من ربك ما دينك من نبيك؟ لأنك ما ثبت على الدين هنا فلا تثبت على الجواب هناك {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
ويوم القيامة يقوم الإنسان فزعاً مذعوراً خائفاً؛ لأنه قد أمن الله في الدنيا فيخوفه الله يوم القيامة، فلا يجمع الله على عبده أمنين، ولا خوفين، من خاف الله في الدنيا {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] أما من أمن هنا فهناك الخوف الذي يقطِّع قلوبهم والعياذ بالله: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [المعارج:44] ذلة وخوف ومهانة {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:43 - 44].
ويأتون إلى الصراط كي يعبروا عليه فلا يمكنون من العبور؛ وأنهم لا يجدون وسائل نقل من العمل الصالح، وهذا ليس عنده شيء ولو كان هنا عنده ملايين، ولو عنده سيارة مرسيدس آخر موديل، وعمارة، ووظيفة، لكنه تركها وراءه وما أخذها معه إلى الآخرة، فيأتي على الصراط يريد مرسيدس، ولكن لا يمشي هناك إلا العمل وليس معه عمل، فماذا يحصل؟ من أول خطوة يضعها على الصراط يسقط، فيهوي في النار -والعياذ بالله- وبعد ذلك يريد أن يأخذ كتابه بيمينه ويريد أن يأخذ الجنة حتى بالكذب، ويرى أهل الإيمان يأخذون كتبهم بأيمانهم فيمد يمينه فتضربه الملائكة بمطرقة من حديد على كتفه فتخر يمينه فليس له يمين، فلا يستطيع أن يأخذ إلا بالشمال، فإذا أخذ كتابه بشماله قال: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:25 - 27] يقول: ليتني مت وما بعثت، ثم يتذكر ما الذي أضله وألهاه في الدنيا فيقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:28] كان يلهث وراء المال كالكلب لا يشبع من كثير ولا يقنع بقليل، مثل جهنم: هل من مزيد.
وطالب الدنيا مثل شارب البحر، كلما ازداد شربه ازداد عطشه، يملأ بطنه فيزداد ويلتهب جوفه، وهكذا طالب الدنيا {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] أي: ذهب عني السلطان، وذهبت عني الوظيفة، وذهبت عني المنزلة والمنصب والجاه، ويسترحم ولكن لا يرحم يقول الله: {خُذُوهُ} هذا الكذاب هذا الفاجر {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] والغل هو وضع القيد في الرقبة مع اليدين والقدمين، توضع يديه مع قدميه في رقبته في غل واحد {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:31 - 32] اسلكوه: تدخل السلسلة من فمه وتخرج من دبره، ينظم فيها كما تنظم الخرزة في المسبحة، لماذا؟ قال: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:33 - 37] أعاذنا الله وإياكم من ذلك، ويأتي يريد أن يزن أعماله وليس معه شيء، ما عمل إلا السوء -والعياذ بالله- فيرجح ميزانه بالسيئات.
وبعد ذلك يرد الحوض فتطرده الملائكة من بعيد، ما له طريق إلى الحوض، ثم يكردس في النار، أعاذنا الله وإياكم من النار كما قال الله عز وجل: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:71 - 72].
هذه آثار نعمة الإيمان، فهل هناك أعظم من هذه النعمة؟ لا والله، والله إن الأحرى والأجدر بالعاقل ألا يشتغل عن الآخرة وأن يجعل همه في كيف يحصِّل نعمة الإيمان، ثم كيف يثبت عليها.(56/6)
كيفية تحصيل نعمة الإيمان
أما كيفية تحصيل هذه النعمة؛ فسبيلها سهل، وطريقها يسير، كما يقول ابن القيم: هلمَّ لتدخل على الله من أقرب الطرق وأوسع الأبواب؛ لأن من الناس من يريد الهداية ولكن الشيطان يضخمها عليه، ويقول له: أنت لا تستطيع أن تهتدي، والدين ثقيل وكبير جداً، ولا مانع من أن تتدين لكن لا تأخذ الدين بعروقه -كما يقولون- وإنما خذ ورقة من رأس الدين، وعندها هل سيكون معك دين؟ إذا أردت أن تزرع شجرة في بستانك فماذا يتطلب الأمر منك؟ أن تأخذ (الشتلة) بعروقها، لكن لو جئت تأخذ من رأس الشجرة ورقة وتغرسها في البستان، فهل تغرس لك شجرة؟ لا.
لابد أن يؤخذ الدين بكليته، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] لا يوجد دخول جزئي أو نصفي، أو فيما أريد وأترك ما لا أريد فلا آخذ من الدين، إلا الذي يوافقني، لا.
لابد أن تأخذ الدين جملة واحدة؛ لأن التشليح في الدين لا يصلح، هل تأخذ سيارة ناقصة، لو جئت تشتري سيارة، وجئت تنظر إلى الإطارات وإذا بالإطار فيه ثلاثة مسامير والرابع ليس موجوداً فيعتبر هذا عيباً فيها، فلن تشتريها، وإذا اشتريتها تذهب بها على أن تكمل النقص، لا تريد أن تمشي في سيارتك وهي تنقص مسماراً واحداً، لكن من الناس من يريد ديناً؛ لكن ليس معه من الدين إلا ما يعادل مسماراً واحداً، بعض الناس ما معه من الدين إلا (البوري)، يعني: معه إسلام لكن ليس فيه شيء، لو نظرنا إلى شخص ركّب له في رأسه (بوري) ووضع له (حجاراً) ويمشي في الشارع ويضرب (بوري) نقول: ما هذا؟ يقول: سيارة أما تنظرون إليها؟ نقول: والله هذا مهبول وليس معه عقل، ومن الناس من ليس معه من الدين إلا المساحات، أو العيون.(56/7)
الهداية لا تعني العصمة من المعاصي
نحن لا ندعي أن صاحب الدين كامل لا يعصي الله عز وجل، لا.
فالعصمة للأنبياء، والعاصم هو الله، لكن نعني أنك تضع نفسك وتخضع كل حياتك لدين الله، عينك تخضعها للدين فلا تنظر بها إلى الحرام، وإذا نظرت مرة تستغفر وتتوب، أما أن تخصص عينيك للشر وللشيطان وأنت تصلي في المسجد فهذا حرام، لكن من يوم تخرج من صلاة العصر إلى المغرب وأنت في المعارض والأسواق تتتبع أعراض المسلمين، وتتلصص على محارمهم، وتملأ عينيك من الحرام وتقول: يا شيخ! أنا أصلي والحمد لله! نعم.
صليت ولكنك ما اتقيت الله في هذه العين، والله يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30].
أنت تخضع عينيك لدين الله ولكن لست بمعصوم، فقد تقع منك زلة و (قد) هنا لما يستقبل من الزمان على التقليل، وقد يقع منك شيء، فإذا وقع شيء تقول: أستغفر الله وأتوب إليه، ولذا شرع الاستغفار وشرعت التوبة، وبيّن الله أنه غفور رحيم، ولا يكون كذلك إلا لمن يخطئون ويذنبون؛ لأن هذه صفة من صفات الله، قال عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
معنى الدخول الكلي في الدين أنك تقول: يا رب أنا عبدك وأنت خالقي وسيدي ومولاي وإلهي، وأنا عبدك خاضع بين يديك، أخضع كل حياتي لأمرك، فعيني لا أنظر بها إلا ما تريد، وهذا معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه عن ربه عز وجل قال: (يقول الله تبارك وتعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بعمل أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به) إذا أحبك الله أصبحت عبداً ربانياً، لا تسمع إلا ما يحبه الله (كنت سمعه الذي يسمع به) هل تسمع شيئاً يغضب الله؟ لا.
لماذا؟ لأن أذنك هذه ربانية.
(وبصره الذي يبصر به) تصبح عينك هذه عيناً ربانية مهتدية؛ لأنها تبصر بالله، هل يمكن أن تبصر حراماً؟ لا.
(ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه) لا بد من الدخول الكلي بكل جوارحك، بسمعك، وبصرك، ولسانك، وبطنك، وفرجك، وقدمك، ويدك، تخضع نفسك لله، وتمشي في الخط، هذا معنى الاستسلام لله، الإسلام هو: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك والبراءة من أهله؛ هذا معنى الإسلام.(56/8)
فرح الله بتوبة العبد
يقول ابن القيم: هيا إلى الدخول على مولاك، فإنه أشد فرحاً بعودتك من رجل فرت عليه ثم وجدها كما جاء في الحديث: (كان في فلاة ومعه راحلته، وعليها زاده ومتاعه، فضلت عنه ولم يجدها، فبحث عنها حتى أيس منها، فنام تحت ظل شجرة ينتظر الموت فردها الله عليه، فلما أفاق وإذا بها واقفه عند رأسه عليها متاعه وزاده وماؤه فقال من شدة الفرح) لأنه كاد أن يموت حقيقة، إذا ما رجعت لمات، لكن كان في رجوعها حياة له، فكأنه قد حكم عليه بالموت والإعدام والله أعتقه.
ما رأيك في هذا الإنسان؟ إنسان حكم عليه بالقصاص وأخرج إلى السوق في ساعة الإعدام، ونزل من السيارة، ورأى (العساكر) مصطفة، ورأى الجموع محتشدة، وهو موثق بالقيود يساق إلى ساحة الإعدام، ووضع في القيد وقرأ عليه الحكم، وقبل إطلاق الرصاص عليه أو ضرب رأسه بالسيف قال له صاحب الدم: فكوه، هو معتوق لوجه الله، ما رأيكم في فرحة هذا الإنسان؟ هل يمكن أن تقاس؟ لو أخذنا شريحة من قلبه وحللناها كيف سيكون وضعه؟ وكيف هي نفسيته؟ هل في الدنيا أسعد منه وأعظم حالة منه في تلك اللحظات؟ لا.
فهذا الرجل لا يوجد في الدنيا أعظم حالة منه لما كان سيموت، ويوم استيقظ وإذا بالراحلة موجودة عند رأسه فقام وقال: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من فرحة هذا الرجل براحلته) لا إله إلا الله ما أعظم حلم الله، وما أعظم عفوه ورحمته! يفرح بك ربك إذا رجعت إليه أعظم من فرحة هذا الرجل الذي كاد أن يموت، أي فرح هذا، وأي نعمة هذه من الله عز وجل.(56/9)
كيفية إصلاح الأزمنة الثلاثة بالعمل الصالح
أنت يا إنسان! بين ثلاثة أوقات -أنا وأنت وكل كائن على وجه الأرض بين ثلاثة أزمنة- زمن مضى، وزمن مستقبل، وزمن حاضر، هل هناك غير هذه الأوقات الثلاثة؟ قال: أما الماضي كله فتصلحه بالاستغفار والتوبة، وهذا عمل قلبيٌ ولا تعب فيه، فلو أن الله كلفنا بأن أي ذنب عملته لابد أن تكفر عنه، وأي صلاة تركتها لابد أن تقضيها، وأي صوم ما صمته لابد أن تصومه، وكل كلمة قلتها تجازى عليها، لكن من رحمة الله تبارك وتعالى أنك إذا عملت أي عمل، أو أسأت أي سيئة، أو قصرت أي تقصير في الماضي ثم تبت فإن الله يغفر الذنوب جميعاً، يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان:68] قتل وإراقة دم {وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68] زنا وفاحشة {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:68 - 70] الماضي تستغفر الله فيه، وتتوب إلى الله من الذنوب والله يغفرها ويقلبها حسنات، هذا فضل أم ليس بفضل؟ أتعبٌ أن تقول: أستغفر الله؟ أم مشقة أن تقول: أتوب إلى الله مما عملت؟ لا والله ليس فيه تعب ولا مشقة، هذا الماضي كله.
والمستقبل: قال: والمستقبل تصلحه بالنية الحسنة؛ بأن تعزم على ألا تعصي الله، وهل في هذا تعب أن تعزم وتنوي بأنك لن تعمل سيئة؟ ليس فيه تعب، عمل قلبي ليس فيه مشقة عليك، ماذا بقي؟ ما دام ذهب الماضي، وذهب المستقبل ما بقي إلا الحاضر، ما هو الحاضر؟ لحظتك هذه التي أنت فيها يقول:
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها
الساعة التي أنت فيها الآن اجتهد فيها ألا تعصي الله، وأن لا تضيع أمر الله فقط، هل في هذا تعب؟ لا والله ليس فيه تعب، يقول معاذ بن جبل -والحديث في سنن الترمذي وسنن أبي داود وهو حديث صحيح- قال: (أصبحت في سفر وناقتي بجوار ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله! أخبرني عن عمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار؟ قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج بيت الله الحرام ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال له: ألا أدلك على أبواب الخير؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17] ثم قال: يا معاذ! ألا أدلك على مِلاك ذلك كله -ألا أدلك على السور الذي يجمع لك أركان الإسلام، وعموده وذروة سنامه ورأسه، ويجمع لك أبواب الخير كلها- قلت: بلى يا رسول الله! قال: كف عليك هذا وأخذ بلسان نفسه، قال: قلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم).
إن طريق الهداية سهلة جداً، ويسيرة على من يسرها الله عليه، وهي أنك تعلن التوبة والاستغفار من ذنوبك وخطاياك التي قد اقترفتها في الماضي مهما كثرت؛ لأنها ليست كثيرة على الله، يقول سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ} [الزمر:53]، يقول الواحدي رحمه الله كما في تفسير ابن كثير: إن هذه أرجى آية في كتاب الله، أولاً: قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (قل: يا عبادي)، و (عبادي) هنا عبارة فيها تلطف وتشويق أنه: يا مذنبين ما زلتم عبادي، يا مسرفين في الذنوب ما زلتم عبادي.
(قل: يا عبادي) يدعوهم الله، وبعد ذلك يصفهم أنهم الذين أسرفوا أي: أكثروا من الذنوب والخطايا والمعاصي: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] (إن) هنا حرف توكيد ونصب، فأكد ربنا تبارك وتعالى مغفرة الذنوب بهذا المؤكد، ثم أكد بتوكيد لفظي أخير قال: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] أي: مهما كثرت، ثم قال تذييلاً مناسباً: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] أي: فلا تستغربوا يا أهل الذنوب، ويا أهل الآثام، ويا أهل الإسراف؛ لا تستغربوا أن الله يغفر الذنوب؛ لأنه هو الغفور الرحيم، فمهما كثرت الخطايا والذنوب والمعاصي من زنا أو من خمور أو لواط أو شرك أو عقوق أو فجور أو أي شيء من الذنوب فإن الله يغفرها كلها: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50].
فعليك أن تتوب إلى الله تبارك وتعالى مما كان في الماضي، ولا يوجد في الدنيا من يقول: أنا لا أستطيع أن أستغفر، أو لا أستطيع أن أقول: أستغفر الله العظيم وأتوب إليه؛ إلا رجل محروم شقي ليس فيه خير، هذا الذي لا يستغفر ولا يتوب إلى الله، هذا لا يريد الله، ولا يحب الله، ولا الجنة، نقول له: الماضي كله بذنوبه يذهب، بل يبدل الله سيئاتهم حسنات، إذا كان عليك مليون سيئة يجعلها الله مليون حسنة، أي فضل هذا -أيها الإخوة- وأي كرم؟ لو أن عندك شخص أسأت إليه، كأن سرقت عليه ألف ريال -مثلاً- وبعد ذلك اعترفت في يوم من الأيام وأتيت عنده وقلت: يا أخي أنا كنت في يوم من الأيام في دكانك وسرقت عليك ألف ريال، والآن أشعر بصحوة في ضميري وأخاف من لقاء ربي، ولذا أنا أعترف لك بأن عندي ألف ريال، فأنا جئت بهذه الألف لك، وأنا أريدك أن تعفو عني، إذا كان كريماً جداً فسيقول لك: سامحك الله، وفلوسنا رجعت والحمد لله، وإذا كان كريماً وأعز قليلاً فسيقول لك: جزاك الله خير وسامحك الله، والله أنا لا أعلم عن هذه الألف، لكن ما دام أن فيك خيراً وجئت من أجل صحوة الضمير فالألف لك سامحك الله، لكن هل هناك شخص في الدنيا يعطيك الألف ويقول: هذه ألف أخرى من عندي جائزة؟! لكن أكرم الأكرمين تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعاً ويبدلها كلها حسنات، فليس هناك شخص يأتي ويقول: لا أستطيع أن أستغفر، بل تستطيع أن تستغفر إذا كنت تريد الهداية.
والمستقبل: لا يوجد شخص يستطيع أن يقول: لا أستطيع أن أنوي الخير، لماذا؟ قل: إن شاء الله ما أسرق، ولا أزني، ولا أترك فريضة، ولا أعق والدي، أسأل الله أن يعينني، وبهذا تكون قد أصلحت الماضي والمستقبل.
بقي معك الحاضر فاجتهد فيه، إذا خرجت من المسجد ورأيت امرأة فغض بصرك؛ لأن الله يراك، إذا دخلت البيت وسمعت أغنية فأغلقها؛ لأن الله يسمعك في هذه اللحظة ويراك، أو عُرض عليك حرام فلا تأكله؛ لأن الله عز وجل يعلم حالك، فإذا أذن المؤذن فقم إلى المسجد ولا تنم؛ لأن الله يراك، فإذا ظللت على ذلك يوماً ثم يومين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة فستشعر في أول الطريق بنوع من الوحشة والضيق؛ لأنك تتعود على أمر لم تتعوده، لكن دائماً كل الطريق تسير في أولها يكون ففيها صعوبة أليس كذلك؟ الطفل الصغير إذا بدأ يمشي كيف يمشي؟ أيجري مباشرة أم كيف يفعل به أهله؟ يوقفونه أول شيء، وينظرون أنه أتى بشيء من الدنيا، وبعد ذلك يأتي أبوه يقول: تعال فيأتيه يخطو الأولى، لكن لا يستطيع أن يأخذ رجله، فيمد له أبوه أصبعه يمسكها وينقل الخطوة الثانية بعد مشقة، هذا أول يوم، وثاني يوم ينقل الثانية، وبعد أسبوع يمشي، وبعد شهر يمكن يخرب البيت كله، وتقول أمه: اربطوه برجله، وهي من قبل كانت تقول: يا رب تمشيه يا رب تسيره، لكن إذا مشى أشاهد بعض الأمهات تربطه بحبل تقول: مؤذٍ.(56/10)
كيف تتعامل مع الشهوات بعد التوبة
يا من تريد أن تسير في طريق الإيمان أول ما تدخل في قضية الإيمان تشعر بأنك تريد أن تسقط، كلما تسمع أغنيه تريد توقف عندها، كلما تشاهد امرأة تريد أن تلتفت؛ لكن لا تلتفت، ولا تسمع، ولا تنم عن الفريضة، لا تعق والدك، لا تعص أمك، لا تحب إخوان السوء، لا تحتقر إخوان الخير، لا تمل من مجالس الخير، اقرأ القرآن، أحب في الله وأبغض في الله، أسبوع أو أسبوعين أو ثلاثة أو أربعة، وكلما ثبتَّ قويت، وكلما سرت في الطريق قويت حتى تسير في الطريق ولا أحد يسبقك، وبعد ذلك لا تشعر في الدنيا بلذة إلا بطريق الإيمان.
من الناس من لو تأخر عن الصلاة لشعر بأن قلبه فارغ، لا يستطيع العيش بدون صلاة، تجده طول الليل نائماً متعباً ولكن ما إن تأتي صلاة الفجر -وليس عنده ساعة ولا يسمع المؤذن- وقبل الأذان بساعة وإذا به جالس، من الذي أجلسه؟ الله تبارك وتعالى، كما يقول ابن القيم قي كتابه الجواب الكافي، يقول: إن الطاعات تولد أمثالها، وإن المعاصي تولد أمثالها، فالطاعة تولد طاعة حتى تصبح الطاعات هيئات راسخة، وملكات ثابته يمارسها الإنسان بدون عناء، تصبح الصلاة في حق المؤمن غذاء لا يستطيع أن يعيش بدونها.
بعض الشباب الذين هداهم الله إلى الإيمان إذا سمع نغمة موسيقية يضطرب وكأنها صعقة كهربائية، رغم أنه شاب، وبعض الشباب الآخرين الذين يحبون الأغاني إذا سمعها قام يرقص، وذاك كأنه مسه جني وشرد منها، لماذا ذاك يخاف من الأغنية وهذا يحبها؟ هذا يخاف من الله، وجاهد نفسه حتى كرهها الله إليه؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:7 - 8] فإذا كره الله إليك الكفر والفسق والعصيان، إذا رأيت امرأة كأنك ترى جنياً أو شيطاناً فتغض بصرك، ليس لأنك ملك من الملائكة، أو لأنه لا توجد عندك شهوة الجنس، بل ربما لديك شهوة هي أضعاف شهوة ذاك، لكن الله عز وجل كره إليك الكفر، وكره إليك الفسوق والعصيان، وحبب إليك الإيمان وزينه في قلبك فأنت راشد {فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:8] {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7].
أما الآخر الذي ما كرّه الله إليه الكفر والفسوق العصيان، إذا شاهد امرأة ولو أنها ليست بجميلة نظر إليها ولم يغض بصره؛ لأنه قد زين الشيطان في قلبه المعاصي، وكره إليه الطاعات، أي: أن الشيطان يتولى الإنسان فيزين له الكفر ويحبب إليه المعاصي والإيمان ويكرّه إليه الطاعات، فكن عبداً لله عز وجل وسر في الطريق وأبشر؛ فإن الله تبارك وتعالى يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم) ويقول: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17].
وطبعاً إذا أردت الهداية فلا بد أن تسلك سبيلها.
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
إن في الكون أسباباً وسنناً، ومن سنن الله في الكون: أن الله عز وجل يرزق الهداية لمن أرادها (فاستهدوني أهدكم).
اطلب من الله عز وجل هداية يهديك، لكن إذا أعرض العبد عن الله قال الله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] {انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة:127] الهارب من الله لا يرده الله، والمقبل على الله لا يرده الله، بل إذا تقربت إليه شبراً تقرب إليك ذراعاً، وإذا تقربت إليه ذراعاً تقرب إليك باعاً، وإذا أتيته تمشي أتاك هرولة، وكان الله إليك بكل خير أسرع.(56/11)
كيفية الحصول على الهداية
عرفنا الآن طريق الهداية فكيف نهتدي؟(56/12)
تجديد النية بالعمل الصالح
نهتدي عن طريق إصلاح الماضي بالاستغفار، وإصلاح المستقبل بالعزم على عدم المعاصي، وإصلاح الحاضر بالاجتهاد، فلا تعلم -يا أخي- متى تموت، ربما تموت الليلة وقد جددت النية، يقال: إن شخصاً من الإخوة في مصر كانوا جماعة في مسجد ولهم جار، وهذا الجار لا يصلي لا في المسجد ولا في البيت، وهو حشاش وطوال ليله في القهوة، أي: عربيد، دخل اثنان من الجماعة أو ثلاثة المسجد فقالوا: جارنا فلان لا يصلي، أين هو؟ قالوا: جالس في القهوة بعد العصر، فذهبوا إليه وهو جالس يلعب (الكتشينة) يسمونها الورقة وشخص أمامه، فواحد منهم دق عليه الماسة، قال: ماذا تريد؟ قال: أريدك لو تكرمت، قال: تفضل استريح، طلبوا (شاي) وشربوا معه، قالوا: نريد منك هذه الليلة أن تحضر في هذا المسجد المجاور، قال: لماذا أحضر؟ قال: هناك عالم سيلقي خطبة، وهذه الخطبة أسأل الله أن ينفعك بها، فجرد هذه الليلة لله عز وجل، فالله عز وجل فتح قلبه لهذا الكلام، ليس فيه موعظة بليغة، ولكن الإخلاص يدخل الكلام القلوب، فقال الرجل: أنا أجرب، يقول: نجرب، وأنه سيذهب يقول: جاء المغرب ونزل وأولئك ينتظرونه في القهوة، فأخذوه بيده وذهبوا به إلى المسجد وقالوا: أنت متوضئ؟ قال: وما متوضئ؟ (لا يعرف يتوضأ).
قالوا: تتوضأ للصلاة ألا تعرف تتوضأ؟ قال: لا أعرف، قالوا: تعال، وأدخلوه مكان الوضوء وتوضئوا أمامه وتوضأ مثلهم ودخل وصلى، وبعد أن سمع القرآن في صلاة المغرب ثم في الموعظة إلى العشاء وبعد صلاة العشاء، أمسك هؤلاء وهو خارج من المسجد قال: يا جماعة! أنا والله كنت في ضلال، وأنا أريد أن أصلي الفجر معكم في المسجد لكن كيف أستيقظ؟ قالوا: نحن نوقظك -لأنهم جيران- وندق عليك، قال: بالله عليكم ما تأتون إلى المسجد إلا وأنا الأول ولو كسرتم الباب علي تكسيراً أنا نومي ثقيل، لكن لا تمشوا إلا وقد استيقظت، قالوا: حسناً، وذهبوا معه إلى الباب وودعوه ودخل بيته.
دخل بيته في ساعة مبكرة على غير العادة، لم يكن يأتي بيته إلا وقد نامت زوجته، فلما دخل عليها بعد العشاء استغربت ماذا حصل لماذا أتيت في هذه الساعة؟ قال: نحن كنا مع ربنا هذه الليلة، قالت: الحمد لله الذي هداك، ماذا بك؟ قال: صليت المغرب والعشاء وسأذهب أصلي الفجر، فوالله ما أترك ولا صلاة، قالت: ومن يوقظك في الفجر؟ قال: الجيران، قالت: أنا أسمع الأذان وأوقظك، فجاء في الصباح في صلاة الفجر وأرادت أن توقظه فوجدته قد مات في فراشه، جلست توقظه وإذا به ميت فشعرت بالخوف، وإذا بالباب يطرق من قبل أولئك الإخوة الذين يريدون أن يصلي معهم، فتحت الباب قالوا: فلان أيقظيه ليصلي، قالت: الرجل ميت، دخلوا فوجدوه ميتاً، حملوه وغسلوه؛ أخرجوه إلى المسجد وصلوا عليه، ودفن وختم له إن شاء الله بحسن الخاتمة.
فلا تدري -يا أخي- ربما أنك تموت هذه الليلة فتب من الآن، ماذا تخسر لو تبت؟! تخسر ترك الصلاة، والأغاني، واللعن والسب والشتم، هذه ليست خسارة، بل تركها مكسب، إنك تكسب كل شيء مهم ولا تخسر شيئاً، وإنك بالمعاصي تخسر كل شيء ولا تكسب شيئاً مهماً، فمن الآن تب ولا تسوف ولا تجازف ولا تماطل، فإن المجازفة والمماطلة والتسويف أعظم خسارة، وكما ورد في الأثر: [أن أكثر صياح أهل النار وهم في النار يقولون: واهاً لمسوف]، يعني الذي يقول: (سوف سوف) وأنت لا تعلم متى تموت؟ لو عندك علم بذلك فليس عندنا مانع، لكن يمكن تموت الآن، فكيف تؤخر التوبة وأنت ليس عندك علم متى تموت، إن هذا من نقص العقل.
فهذه طريق الهداية وكيفية الحصول عليها، عن طريق: الاستغفار من الماضي، والعزم على عدم ممارسة الذنب في المستقبل، وإصلاح الحاضر بالاجتهاد وبالسير في طريق الله، وبالمحافظة على طاعة الله والبعد عن معصية الله، ويلزم هذا كله الدعاء والمجاهدة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].(56/13)
الأخذ بسنن الله في الكون
رتب الله تبارك وتعالى لنا في الأرض أسباباً نتعلم منها أنه لا يكون في هذه الدنيا شيء إلا بجهاد وتعب، لو أردت قرص عيش من الفرن ما أتاك القرص يمشي ولكن أنت تمشي إليه، ولو رجعت من السوق أو المسجد ودخلت بيتك، وبيتك يبعد عشرة كيلو عن المسجد أو السوق، أو قرية من القرى، ولما دخلت قالت زوجتك: نسيت أن أقول لك: ائت بكبريت، ماذا تعمل؟ تقول (حاضر) وتشغل السيارة وترجع إلى السوق وتأتي بالكبريت يمكن العلبة بكاملها قيمتها قرش، وفيها خمسين عوداً، لكنك تعود من أجلها، ليس هناك شيء في الدنيا يأتي إلا بتعب، هل يمكن لشخص أن يحصل على وظيفة وهو ما درس، أما الذي يدرس ويتعب -مثلاً- ست سنوات ابتدائي، وثلاث سنوات متوسط، وثلاث سنوات ثانوي، وأربع سنوات جامعة، وبعد ذلك -مثلاً- ماجستير أو دكتوراه يتعب حقيقة ويعاني ويسهر، لكن يتعب قليلاً ويستريح طول عمره، يذهب إلى منصب ووظيفة والناس كلهم يحترمونه، لكن شخص آخر درس إلى خامس ابتدائي أو سادس وقال: أنا آخذ وظيفة على قدري؛ وذهب يتوظف عسكري أو فراش أو عامل، يقعد ذليلاً إلى أن يموت، وذاك ينهره كل وقت انهض امش هات اصعد لماذا تأخرت ما الذي أتى بك؟ أنا أشاهد بعض الضباط ممن تخرج من الثانوية وجلس ثلاث سنوات في الكلية وبعد ذلك صار ملازماً، وذلك الذي توظف رقيباً من حين يراه يقول: هذه تعاسة؛ لكن هذا تعب ثلاث سنوات وسيرتاح طول حياته، هذا في مقام الدنيا وإلا قد لا يستريح في الآخرة، يمكن يكون ملازماً فاجراً قليل دين فلا يستريح ولو استراح في الدنيا فإنه يصير ملازماً في النار -والعياذ بالله- لكن نعني الملازم الطيب الذي يلازم دين الله في الدنيا والآخرة، هذا خير له في الدنيا والآخرة.
فنقول للناس: إنه ليس هناك شيء في الدنيا يحصل إلا بتعب، صاحب الدكان هل يأتيه المشتري وهو جالس في البيت؟! أبداً لا يأتيه إلا إذا ذهب صاحب الدكان يفتح الدكان، ويجلس ينشر البضاعة ويلمعها، لكن لو قعد في البيت وأغلق الدكان وقال: اللهم اجلب لي الزبائن كلهم واجمعهم لي يا رب، وبعد ذلك آخذهم كلهم وأبيع لهم في ساعة وأرجع أنام، هل يأتون؟ بعض الناس يقول: أنا لا أستطيع أن أفتح اثنتي عشرة ساعة، أجلس أرقبهم، لا.
أريدهم كلهم يرتصون عند الباب، وأبيع لهم كلهم، وأرجع لأنام وأرتاح، أيحصل هذا لتاجر من التجار؟ أبداً لا يحصل هذا.
والمزارع إذا أراد أن يزرع وجاء إلى المزرعة ونظر إليها مقحلة وليس فيها شيء، وقام يدعو: اللهم أنزل لي حراثة من السماء، وركب لي على البئر ماطوراً يا رب العالمين، وازرعها لي كلها بدون عمال وبدون شيء، هذا دعاء الكذابين، ما ينزل رب العالمين حراثة من السماء، لماذا؟ لأن لله سنناً في الكون لا يلغيها من أجل هذا الضعيف البليد الكسلان، وإلا فالله قادر أن ينزل؛ لكن الله يقول: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62] سنن الله جارية رغم أنف الكسلان، تريد مزرعة اذهب واحرث بنفسك؛ لأن الله أعطاك رجلاً وقدماً ويداً وقوة وعقلاً، وبعد ذلك ازرع، وشغل المكينة واسقها ماء، وقل: اللهم يا رب أنبتها؛ لأن الإنبات ليس لك، الإنبات لله: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:64] الله هو الذي يزرع، وأنت تأخذ بالأسباب وتترك الباقي على الله عز وجل.
وكذلك من يريد ولداً! أبصر الناس عندهم أطفال يملئون البيت سروراً وحبوراً وقال: أنا أريد أولاداً أريد بنتاً أو ولداً لأدخل البيت وأنبسط معهم وأمزح معهم، قالوا له: تزوج، قال: مشاكل الزواج من يوم تزوجت بهذه المرأة وهي تشغلني أين ذهبت؟ لماذا تسمر؟ لماذا تأتي؟ وهذا الزنبيل، وهذه المقاضي، وأحضر لي كسوة، وأخرجني لأهلي وللتمشية، هذه شغلة أنا لا أريدها، أنا أريد ولداً مباشرة، اللهم أنزل لي ولداً، ما رأيكم؟ هل يأتيه هذا الكسلان ولد؟ لا يأتيه ولد إلا إذا تزوج وتعب، الزواج لا يأتي بسهولة، يبقى يفكر: أين الزوجة؟ وبعد ذلك يختار ذات الدين، ثم بعد ذلك يعمل وساطات، ويرسل مراسيل، ويظهر لساناً عذباً وكأنه من الملائكة فلا أحسن منه، كما يقولون: على لسان الخطاب عسل، وبعد ذلك يدفع المهر، ثم يفعل الحفلات والولائم ويأخذ المرأة، وبعد ذلك يجلس مدة ثم تحمل المرأة وترتفع بطنها ويذهب بها كل أسبوع إلى المستشفى، وبعد ذلك ولادة، ثم يكبر الولد، ولا يأتي مباشرة يتكلم ويمشي، بل يريد له رضاعة، وحفائظ، ولفافات، وناموسية، أشياء كثيرة، وبعد سنة أو سنتين يمشي الولد، وتبدأ تحب البيت الذي فيه الولد، هذا بعد تعب شديد، هذه هي الدنيا.(56/14)
السعي وراء الهداية وطلبها
بعضنا يريد الهداية وهو لا يسلك مسالكها، يقول: اللهم اهدني فيمن هديت، ولكنه لا يقوم إلى الصلاة، يقول: اللهم اهدني يا رب العالمين وأنا قاعد على الأغاني، أريد أم كلثوم، أنبسط مع طلال مداح ومحمد عبده الشيطاني، اللهم اهدني يا رب العالمين، أنت لا تريد الهداية، ولو كنت تريدها لأغلقت الأغاني، الله أعطاك يداً مثلما تعرف تحركها على الأغاني حركها على القرآن، وأعطاك قدماً مثلما تحملك إلى القهوة تحملك إلى المسجد، وأعطاك عيوناً مثلما تنظر بها إلى المجلات العارية والمسلسلات انظر بها إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لماذا تشغل نفسك بالشيطان وتقول: اللهم اهدني فيمن هديت؟ لماذا لا تشغل نفسك بطاعة الله وتقول: اللهم اهدني فيمن هديت؟ تكون هناك صادقاً مثل الذي يزرع الزرع ويقول: اللهم أنبت لنا الزرع؛ ما رأيكم في شخص جاء على مزرعته ورشها بترولاً وقال: اللهم أنبت لنا الزرع، ما رأيكم أينبت له الزرع وهو يسقيها البترول؟ لا.
فكيف الله يهديك وأنت تسقي قلبك بنزيناً يحرق إيمانك وهو الغناء، لا يجتمع حب الغناء وحب القرآن في قلب عبد مؤمن، والله إنه أخطر على الإنسان من كل خطير، ومن أراد المزيد في حكم الغناء فليقرأ كتاب إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، كيف أن الغناء محرم من أربعة وعشرين وجهاً شرعياً، والناس اليوم مفتونين بالأغاني، ما تمر سيارة إلا وفيها أغاني، وما تشتري من عند خباز إلا والأغاني فوق رأسك، حتى رأيتهم وهم يصلحون سقف البيت والمسجل معلق عند رءوسهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كأننا أمة الغناء ولم نكن يوماً ما أمة القرآن.
فهذه طريق الهداية، هل فيها صعوبة يا إخوان؟ والله ليس فيه صعوبة، إلا واحد يقول: لا أريد، الذي لا يريد فعلى ما يريد، ولن نحزن عليه، الله يقول: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127] ويقول: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6] ويقول: {فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [لقمان:23] {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} [الروم:44] {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً} [فاطر:39] فلا تخف على شخص رفض أن تهديه وأنت تحب له الخير ولا تحزن عليه، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقطع قلبه أسفاً وندماً وحزناً على أمته، قال الله عز وجل: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف:6] أي: مهلك نفسك {عَلَى آثَارِهِمْ} [الكهف:6] لا.
{وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:127 - 128].(56/15)
وقفة مع من يريد الشفاعة يوم القيامة
أذكر لكم حديثاً بالمناسبة، والحديث في صحيح مسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (من سمع المؤذن فقال: مثلما يقول ثم سأل الله لي الوسيلة وجبت له شفاعتي يوم القيامة) وما أحوج المسلم والمؤمن إلى شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأنبياء والرسل من نوح إلى وعيسى وهم أولو العزم يطلب منهم يوم القيامة الشفاعة فلا يستطيعون التقدم لها وكل منهم يقول: نفسي نفسي! وهم أنبياء، كعب الأحبار يقول له عمر: [يا كعب ذكرنا بشيء من الآخرة، قال: يا أمير المؤمنين اعمل عمل وجل -أي عمل خائف- فو الذي نفسي بيده! إن جهنم يوم القيامة لتزفر زفرة ما يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا يخر على ركبتيه جاثياً، ثم قال: والذي نفسي بيده! لو جئت يوم القيامة ومعك عمل سبعين نبياً إلى جانب عملك ما ظننت أنك تنجو] فيوم القيامة يجعل الولدان شيباً، فهو مهول.
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
قد كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير
وإذا الجبال تقلعت بأصولها ورأيتها مثل السحاب تسير
وإذا البحار تأججت نيرانها ورأيتها مثل الحميم تفور
وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت فتقول للأملاك أين نسير؟
فيقال سيروا تشهدون فضائحاً وعجائباً قد أحضرت وأمور
وإذا الجنين بأمه متعلقٌ يخشى الحساب وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المقيم على الذنوب دهور
فما أشد خوف الإنسان يوم القيامة، وما أحوجه إلى شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها تجب لمن قال هذا الدعاء عقب كل أذان، ووالله إنه لسهل، ومع عظمه أكثر الناس مفرطون فيه، دائماً الشيء الثمين الغالي الشيطان يثقله على النفس، مثل: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين، ونهايته تقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، هذه في صحيح مسلم: (أن من قالها عقب كل صلاة، غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر) فلا يقولها إلا القليل، وعقب كل صلاة بشرط أن يعدها عداً مثلما يعد الذهب، لكن من الناس من لا يقولها إلا بالتخمين، بدون عد وهذا تفريط، أين التسبيح؟! بينما إذا كان يعد الراتب، يقول: واحد اثنين، ثلاثة ويفحصها لعل أن ورقتين تلاصقتا؛ لأنها فلوس، ولو شخص سلم عليك وأنت تعد لا ترد السلام عليه، ولو أشغلك تقول له: اسكت يا أخي! دعنا نعد الفلوس، وإذا كانت مضبوطة تقول: وعليك السلام، ماذا عندك؟ لكن التسبيح سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض) ويقول: (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) وكان سليمان عليه السلام في يوم من الأيام يسير على بساط الريح، فحجب الريح ضوء الشمس عن مزارع في قرية من القرى فتلفت الفلاح وإذا هو يرى الريح تمشي {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36] فقال: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً كبيراً، فسمعه سليمان فنزل، وقال: ماذا تقول؟ قال: أقول: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً كبيراً، قال: والذي نفسي بيده إن الكلمة التي قلتها أعظم مما أوتي آل داود.
يقول عليه الصلاة والسلام: (لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) كم طلعت عليه الشمس؟ تصوروا، نأخذ الكلام هكذا، أبها هذه لحالها، ما هي أبها، لو قال شخص: سبح ونعطيك عمارة من عمارات أبها لجلس يسبح عشرين سنة من أجل أن يعطوه عمارة، فكيف مما طلعت عليه الشمس وغربت؟ الجزيرة العربية كلها وليس المملكة العربية السعودية، وما هي المملكة؟ هي جزء بسيط في الجنوب الغربي من قارة آسيا، وما آسيا بالنسبة للأرض كلها؟ وما الأرض كلها بالنسبة للكرة الأرضية؟ الكرة الأرضية اليابس منها خُمسان، والماء ثلاثة أخماس، واليابس ست قارات، آسيا وأوروبا وأفريقيا وأستراليا وأمريكا الجنوبية وأمريكا الشمالية.
وما الأرض بالنسبة لبقية العوالم؟ آخر إحصائية قرأتها يقولون: إن الشمس حجمها أكبر من حجم الأرض مليون ومائتين ألف مرة، وآخر إحصائية يقولون: إنه اكتشفت الآن كواسارات، ليس مجرات ولا مجموعات (كواسارات) اكتشفت بواسطة (التلسكوب الراديوي) ليس الإلكتروني، أو البصري؟ لا.
عبر الموجات، يعني يرصد الأشياء بترددات وبذبذبات الصوت، اكتشفت هذه (الكواسارات)، يقولون: إن الأرض كلها بالنسبة لها كقبضة رمل على شاطئ البحر.
وهذه كلها من مخلوقات الله تعالى، لا إله إلا الله! (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) أحب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مما طلعت عليه الشمس وغربت.(56/16)
الأسئلة
.(56/17)
عقوبة المستهزئ بأحكام الله وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم
السؤال
ما عقوبة المستهزئ بأحكام الله، وبسنن الرسول صلى الله عليه وسلم، وبأهل الدين؟
الجواب
الدين له حصانة صانها الإسلام، وحذر من النيل من أهل الدين، واعتبره كفراً، يقول الله عز وجل في سورة التوبة: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] وهذه نزلت في المنافقين، كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فجلسوا تحت شجرة، وقام واحد منهم -كذاب منافق- يريدهم أن يضحكوا، وإلا فهو يعرف أنه كذاب، قال: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً وأجبن عند اللقاء! يعني بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، -عليه من الله ما يستحق- وهو يعرف أنهم أعف الناس بطوناً وأشجع الناس عند اللقاء، قد لصقت بطونهم بظهورهم من الجوع، لكنهم أسود الشرى.
يقول علي: [كنا إذا حمي الوطيس اتقينا بظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم] وفي يوم حنين يوم كشف ظهر المسلمين، ما تراجع الرسول، بل ركب بغلته وقال: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) هنا قال الله: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:26] وليلة من الليالي، يقول علي: [أفزعنا أمر في المدينة، قام منه الرجال وجفل منه النساء، وبكى منه الأولاد، وخاف الناس -صوت غريب- فخرجنا بسيوفنا جهة الصوت، فما هالنا إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم راجع من عنده قال: لم تراعوا].
فاطمأننا أنه لا يوجد شيء، قد ذهب وأتى بالخبر صلوات الله وسلامه عليه، وهذا الكذاب المنافق يقول: إنهم أجبن عند اللقاء.
وقال: إنهم أرغب بطوناً -أي: يأكلون كثيراً- وكان صلى الله عليه وسلم يواصل الصيام الليلة والليلتين والثلاث والأربع، ولما أراد الصحابة أن يواصلوا، قال: (لا تواصلوا، فإني أبيت يطعمني ربي ويسقيني).
خرج أبو بكر وعمر يوماً، وكل منهم يتلوى من الجوع ليس عنده شيء، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم كشفوا عن بطونهم وإذا بكل واحد قد ربط على بطنه حجراً؛ لأن البطن -هي المعدة- إذا فرغت من الطعام صارت فيها حرارة، تطلب طعاماً، فماذا يحصل؟ لا يوجد شيء، يضطر الواحد منهم أن يضع شيئاً من أجل أن يلتصق بطنها بظهرها فتسكت، ويربطون على بطونهم الحجارة، فلما كشفوا عن بطونهم كشف صلى الله عليه وسلم عن بطنه وإذا بحجرين، فما كان شهوانياً، ولا بطونياً صلوات الله وسلامه عليه، وهذا الكذاب يقول: هؤلاء أرغب بطوناً، فواحد من المؤمنين سمعه، قال: كذبت يا عدو الله والله إنك لمنافق، والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام يخبر الرسول، وأما أولئك الذين ضحكوا فأصابهم شيء من العذاب، فوجد الوحي قد نزل، وقد سبق الرجل، قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
فالله أثبت لهم إيماناً ثم نفى عنهم هذا الإيمان، وأثبت لهم الكفر بعد ذلك لهذا السبب، ومن يضحك من الأئمة، أو المؤذنين، أو الدعاة، أو الخطباء، أو القضاة، أو أهل العلم، أو أي شيء في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يضحك باللحية أو بالثوب، أو بأي شيء من معالم الدين، هذا كفر مخرجٌ من دين الله.
يقول راوي الحديث: (كأني به - هذا الرجل- وهو متعلق بنسعة ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكب رجليه وهو يقول: يا رسول الله! والله ما أعنيها، إنما كنت أقطع بها حديث الركب - أريد أقطع الطريق بالكلام هذا- يا رسول الله أأدخل النار وأنت بين أظهرنا، يا رسول الله فكلما قال له شيئاً قال: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]).
فحذار -يا أخي المسلم- انتبه! فهناك حصانة إسلامية لأهل الإيمان، لا تسخر من عالم، ولا قاضٍ، ولا شاب متدين، ولا إمام، ولا خطيب، ولا مؤذن، ولا من أي شيء فيه دين الله؛ لأن من ضحك من شيء في دين الله فقد استهزأ بالله، ومن استهزأ بالله كفر، ويوم القيامة يؤخذ المستهزئون فيدخلون في النار، أجارنا الله وإياكم من النار، ثم تفتح أبواب النار على مصاريعها، وتناديهم الملائكة تقول لهم: اخرجوا، هذه أبواب النار مفتوحة، جاءكم عفو فاخرجوا فيأتون مسرعين تتقطع قلوبهم، فيخرجون من النار، فإذا وصل أولهم الباب قفل الأبواب عليهم، فيرجعون بخيبة وبحسرة وندامة، ما ندم بها الأولون والآخرون، فيقولون: ما بكم؟ قالوا: إن الله يستهزئ بكم كما كنتم تستهزئون بعباده.
يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] إذا مر المؤمن قالوا: جاءك (المطوع)، وأنت ماذا؟ عاصٍ؟ جاءك صاحب اللحية، وأنت ماذا؟ (كوع) تسبني بلحيتي الذي خلقني ربي بها، أنا أسبك (بكوعك) هذا الذي حلقته، كما قال أحد الإخوة: التقى شاب مسلم متدين ذو لحية بشخص ليس معه لحية، وهذا المسكين صابر ما أراد أن يرد عليه، احترمه لكن ذاك (ملقوف).
قال: لماذا أنت تربي لحيتك، (أنكر عليه تربية اللحية).
قال: وأنت لماذا تحلق لحيتك؟ بنفس المنطق.
قال الحليق: أنا حر.
وقال صاحب اللحية: وأنا لست عبداً، وأنا كذلك حر.
قال: الشعر يحلق بأماكن ويترك بأماكن.
قال: ماذا تعني؟ قال: الشعر يترك في الرأس ويحلق في أماكن ثانية.
قال: أنا أحب أن تكون لحيتي مثل رأسي وأنت تحب أن تكون لحيتك مثل شيء آخر تعرفه أنت، فسكت.
فلا يحوز أن تستهزئ بصاحب لحية، قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:30 - 31] أي: يتفكهون، كأن الله شبه أعراض المؤمنين بالفاكهة للعصاة، يأكلون من رمان المؤمنين وأعراضهم، ويتفكهون بهم: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:32].
قال الله: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:33] ليسوا مسئولين عنهم {فَالْيَوْمَ} [المطففين:34] انقلبت المسألة اليوم، ورجعت الأمور على موازينها {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:34].
إذا غاروا عند أبواب النار ثم قفلت، قالت الملائكة: إن الله يضحك عليكم وأهل الجنة ينظرون، يقولون: انظروا، لكن ضحك الآخرة غير ضحك الدنيا: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:36] نعم.
جازاهم الله على فعلهم.
فلا -يا أخي المسلم- انتبه على نفسك، لا تضحك من شيء، فبعض الناس يقول فكاهات في بعض الآيات، تكون آيات قرآنية فيحرفونها ويقدمونها ويؤخرونها، هذا كفر، وبعضهم يأتي بفكاهات على الأحاديث، والأئمة، والمؤذنين، يقول: أريكم كيف الإمام الفلاني يصلي؟ وأريكم كيف أذان ذاك، ثم يضحكون كلهم، هذا لا يجوز في الشرع.(56/18)
نصيحة للآباء بسرعة تزويج البنات
السؤال
بم تنصح الآباء حينما يريدوا أن يقرروا تزويج بناتهم؟ وما هي المعايير الشرعية لاختيار الزوج الصالح؟
الجواب
أولاً: أنصح الآباء أن يسارعوا في تزويج بناتهم؛ لأن البنت كالثمرة تقطف عندما تنضج، وإذا تركتها مكانها إلى أن تسقط فسدت، من الذي سوف يأخذها من الأرض؟ ما تأخذها إلا دابة أو قطة أو كلب، فلا أحد يأتي قاصداً التقاطها من تحت، يقول: لا والله سوف آخذ شيئاً ما زال في مكانه، لكن إذا سقطت خربت، متى تعنس البنت؟ إذا تجاوزت سن الشباب، تتزوج بنت من تسع سنوات، إلى خمسة وعشرين، وبعدها تبدأ في العد التنازلي، تصل إلى الثلاثين وتنتهي فترة الزواج ثم تعنس، هل يأتي شخص عمره خمس عشرة سنة أو عشرين يأخذ امرأة عمرها ثلاثين مثل أمه؟ لا.
بل يأخذ امرأة في مثل سنه أو أقل منه، فلا يتزوجها أحد لكبر سنها، فأنت سارع بتزويج ابنتك؛ لأنك تلبي احتياجها الفطري؛ ولأنه ورد في بعض الآثار أن من لم يزوج ابنته، أو عضل ابنته أنه يوم القيامة يشرب من حيضها الذي كانت تحيضه في الدنيا.
والحيض عند المرأة دليل على أنها قابلة للإنجاب وللزواج، وهذه كل شهر تحيض وهم يحبسونها من أجل أنها موظفة، وكلما جاء من يخطبها قال: لا والله، إنها موظفة، فإذا جاء شخص قبيح وفيه عيب قال: جاءنا فلان ما رأيك؟ قالت: لا أريده، فإذا جاء من يصلح لها، لا يخبرها حتى لا توافق؛ لأنها تستلم كل شهر ستة أو سبعة أو ثمانية آلاف، يريد أن يكمل العمارة أو يشتري السيارة، أو يصلح المزرعة، أو يحفر البئر من ظهر الضعيفة وهي مربوطة في غرفتها، وهو كل ليلة مع أمها.
هذا لا يجوز في الشرع، فزوج بنتك بأول نصيب يأتيك، وإذا لم يأتك نصيب فابحث أنت، فالرجل الشهم والكريم هو الذي يريد أن يعيش مستور العرض، مأمون الجانب، كما صنع عمر رضي الله عنه، عمر أراد أن يزوج حفصة رضي الله عنها فعرضها على عثمان، فاعتذر، ثم عرضها على أبي بكر فسكت لأنه قد سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض بها ويوري، فعلم أن له بها حاجة، ثم أبدله الله عز وجل بخير منهما، رسول الله، زوجه الله بـ حفصة، فكانت أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، عرضها عليه وقبل، فهذه سنة عمرية.
تأتي إلى رجل وتقول: أنا أحبك في الله، وعندي بنت تصلح لك، ومن غلاها عندي عرضتها عليك، وما هي رخيصة عندي، لو أنها رخيصة لتركتها في البيت وأريدك أن تكون زوجاً لها.
ما هي معاييرك التي تتحراها في الزوج؟ الدين (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه -وفي رواية: وأمانته- فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).
الدين والخلق؛ لأن بعض الناس عنده دين لكن ما عنده أخلاق، يصلي لكن خلقه سيئ، هذا ما يصلح، وبعض الناس عنده خلق مثل العسل لكن لا يصلي، الله أكبر عليه وعلى خلقه، لكن المتكامل الذي خلقه طيب، وعبادته طيبة، خواف من الله، وقاف عند حدود الله، فابحث عنه، ولو جاز في الشرع أن تمهره أنت لكان، لكن لا يجوز المهر إلا من الزوج {وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] فاظفر بصاحب الدين، وابحث عنه، وإذا أتاك فلا ترده، إنك إن تفعل ورددته تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
ولا تغال -يا أخي- في المهور، ولا المظاهر، ولا الاحتفالات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي تتعب الزوج وتتعب المزوج، وأهل البيت ونهايتها لا شيء، بعضهم يخرج وهو مريض، ويتعب نفسه شهراً في نصب الخيام، والكراسي، مثلما وقع في الطائف، أخذوا البنت وهربوا بها وهو آخذ بالكراسي، لماذا المشكلة على نفسك، زوج بنتك بزواج إسلامي بسيط ما فيه كلفة ولا تعقيد، ولا خيام، ولا ضجة، فإن الزواج ستر.
قل لزوج ابنتك أو رحمك: تعال أنت وأبوك واثنان أو ثلاثة أو خمسة أو عشرة أو عشرين من جماعتك (الله يحييكم)، ويدخلون إلى بيتك، تذبح لهم ذبيحتين أو ثلاثاً أو ما يكفيهم بالضبط، واركبوا في السيارة وانتهى الموضوع، أما أن تقيم الدنيا وتقعدها وتتعب نفسك ورعيلك بهذه المظاهر التي ما أنزل الله بها من سلطان، هذا والله ما هو براحة في الدنيا وليس عليه أجر في الآخرة، إنما هو عذاب في الدنيا وقد يعاقب عليه الإنسان يوم القيامة.
أما ما ينفق من الأموال للمطبلين هؤلاء فهو سحت وحرام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإعلان النكاح والضرب عليه بالدف، والدف غير الزلفة، الدف: إطار مثل المنخل عليه جلد تضرب به أمة (قينة)، تضربه ضربات متواليات.
ولا ترفع الحرة صوتها ولو بالذكر، وإذا أخطأ الإمام وفي المسجد نساء، قال: (سبح الرجل وصفقت المرأة)، لا تقول سبحان الله، هناك وهم في المسجد بين يدي الله، خاشعين خاضعين، إذا قالت واحدة سبحان الله، الشيطان قال: اسمعوا الصوت، وفتنهم، لا تسبح، فكيف بالتي تغني، يقول: إن هذا من السنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدف)؛ لكن لا يوجد صوت، فصوت المرأة عورة {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] المرأة عورة ولسانها فتنة:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحياناً
من النساء من صوتها مثل المزمار ولو كانت عفريتة، لو رأيتها هربت منها، لكن صوتها يخذلك.
والأذن تعشق، أما ترى أنك إذا رفعت السماعة واتصلت على أحد زملائك أو جيرانك أو أقاربك ثم ردت عليك زوجته وصوتها جميل أنها فتنة، فأغلق التلفون ولا تطول معها الكلام، وأوص زوجتك أو أختك أن لا ترد إلا بأقصر عبارة، وإذا استطعت أن لا ترد هي فحسن؛ لأن الأذن تعشق قبل العين أحياناً.
فما يدفع لهؤلاء المطبلات ثمانية آلف وبعضهم يقول: عشرة آلف، وبعضهم محجوز من شهور، عشرة ألف -يا أخي- تبني بها مسجداً، أو ترسلها للمجاهدين الأفغان، أو لإخوانك المساكين في السودان، أو لـ بنجلادش، تنقذ بها أسراً، لا تنفقها في سبيل الشيطان -والعياذ بالله- وكذلك هؤلاء الشعراء والمنشدون يعطونهم ألفين أو ثلاثة، كل هذه -والعياذ بالله- ما أنزل الله بها من سلطان.(56/19)
شروط التوبة الصحيحة
السؤال
ما هي شروط التوبة الصحيحة إلى الله؟
الجواب
شروط التوبة كما بينها العلماء ثلاثة: أولاً: الإقلاع عن الذنب.
ثانياً: الندم على ما فات منك.
ثالثاً: العزم على عدم العودة إليه.
وهناك شرط رابع يضاف إليها إذا كان الذنب متعلقاً بحق آدمي يمكن إظهاره مثل الدين، إذا أخذت عليه مالاً ترجعه إليه، أما إذا كان في إظهار ذلك الحق مفسدة فلا، مثل أن يقع الإنسان مع زوجة أحد في معصية ثم تاب فلا يذهب إليه ويقول: إني تبت وأنا كنت فعلت مع ابنتك أو مع أختك، لا؛ لأن هذه تثير فتنة ومشكلة ولكن يستغفر الله، ولعل الله أن يتوب عليه.(56/20)
التوازن في الاهتمام بالرقائق والمناهج العلمية والتربوية
السؤال
ما يلاحظ على بعض الشباب الملتزمين في هذه المنطقة هو الاهتمام بالرقائق فقط، دون الاهتمام بالمناهج التربوية، مثل كثير من أشرطة الدعاة المشهورين، وكذلك يعتمد البعض على العاطفة عند متابعة الكتب والتسجيلات، وقد يتلقى معلومات من طرق غير صحيحة، فنرجو منكم النصيحة؟
الجواب
المناهج التربوية والعلم المؤصل على قواعد شرعية ضرورية لبناء حياة الإنسان الديني، لأن الرقائق مثل الملح في الطعام، والرقائق سماع المواعظ، والأحاديث التي فيها رقائق، والأبيات الشعرية، والقصص، هذه تحلي القلوب وتجليها وتصفيها، وتحببها إلى الدين، ولهذا صلى الله عليه وسلم كان يهتم بهذا الجانب، لكن لا بد من أسس يبني فيها الإنسان هدايته، ويتعلم فيها أصول دينه، يتعلم العقيدة، وأركان الإسلام، والإيمان كلها، وأدلة الإيمان بالله، وبالرسل، وبالكتب، وبالملائكة، وبالبعث بعد الموت، وبالقدر، وبالحوض، وبالصراط، وبالميزان، وبكل القضايا الإيمانية، ثم يتعلم بعد ذلك قضايا العبادات كيف يعبد الله، ولا مانع من أن يأخذ من هذه الرقائق مع التأكد على مصادرها، وأنها صحيحة إذا كانت متعلقة بأحكام شرعية، وإذا لم تكن بأحكام شرعية تحرم حلالاً أو تحلل حراماً فلا مانع من سوقها؛ لأنها ترقق القلوب ولا يترتب عليها شيء إن شاء الله.(56/21)
حكم من مات وعليه صوم
السؤال
لي والدة توفيت وعليها صوم أربعة أيام من رمضان الماضي، وذلك بسبب مرض الكبد، فماذا أفعل وفقكم الله؟
الجواب
إذا أفطرت من رمضان بعذر شرعي وهو المرض، ثم استمر بها المرض حتى ماتت فلا قضاء عليها؛ لأنها لم تتمكن من القضاء، أما إذا أفطرت ثم عوفيت بعد رمضان وتمكنت من القضاء ولكنها لم تقضي، فإن هناك خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يقول: عليها أن تصوم وهو ما يرجحه الجمهور، ومنهم من يقول: لا تصوم إلا إذا كان صوم كفارة أو نذر أوجبته على نفسها، وهو ما يرجحه الإمام أحمد في مسنده وابن قدامة في المغني، ومن أراد المزيد فليراجع المسألة.
فإذا كانت أمه استمر بها المرض حتى ماتت فليس عليها قضاء، لأنه ما أوجب عليها فهو يجب مع القدرة، والله يقول: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185] وليس هناك أيام أخر، فإذا ماتت ليس عليها شيء إن شاء الله.(56/22)
حكم دخول الحمو على زوجة أخيه التي ربته
السؤال
يقول: توفيت والدتي وأنا في الثالثة من عمري، فقامت زوجة أخي بتربيتي، وقد بلغت الآن من السن خمسة وعشرين سنة، فهل يجوز لي الجلوس والتحدث معها مع العلم بأنها تعتبرني كأحد أولادها، وهي تقول لي كذلك؟
الجواب
نحن نقول لك -يا أخي المسلم-: زوجة أخيك ليست محرماً لك، ولست بمحرم لها، وعليك أن لا تدخل عليها، ولا تجلس معها، ولا تكشف عليها، وأن تعلمها أنه لا يجوز لها أن تكشف لك حتى وإن ربتك، إلا إذا كنت قد رضعت من لبنها فإنها تكون أمك من الرضاع، أما بغير ذلك فإن الربيب من الولد لا يحرم، ربائب الرجل يعني الزوج الذي عنده زوجة وعنده بنت من زوجته التي دخل بها: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء:23] هذه تحرم عليك بنتها؛ لأن أمها قد دخلت بها.
أما إذا كان بنت زوجتك ولا تدخل بها، ولكن عقدت عليها فإن البنت لا تحرم عليك، ولا تسمى ربيبة إلا بالدخول.(56/23)
حكم حلق اللحية
السؤال
بعض الناس يقول: إن إعفاء اللحية سنة، والسنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها فنقول: إذاً حلق اللحية ليس محرماً ما حكم الشرع في ذلك؟
الجواب
الناس يخلطون في مسألة السنة المنهجية، وبين السنة العبادية، السنة التكليفية التي هي قسم من أقسام الحكم التكليفي، ففي الشرع الأقسام التكليفية خمسة، واجب ومحرم ومسنون ومكروه ومباح.
فالواجب هو: ما طلب الشرع من المكلف فعله طلباً جازماً كالصلاة.
المحرم هو: ما طلب الشرع من المكلف تركه طلباً جازماً مثل الزنا.
المسنون هو: ما طلب الشرع من المكلف فعله طلباً غير جازم مثل السواك.
المكروه هو: ما طلب الشرع من المكلف تركه طلباً غير جازم مثل أكل الثوم والبصل.
المباح هو: ما خير الله المكلف بين فعله وتركه، مثل أن تأكل أو تشرب أو تقوم، أو تلبس لباساً جميلاً، هذه مباحات.
نأتي إلى اللحية، ما حكم اللحية؟ فهل نضعها من السنة، أي: المسنون؟ لا.
هذه سنة من سنن المنهج؛ لأن الدين كله ماذا نسميه؟ سنة، الرسول يقول: (من رغب عن سنتي) أي ماذا؟ عن منهجي، وطريقي، وديني، ويقول: (عليكم بسنتي) أي: بمنهجي وبطريقي، ما هي سنته: أهي السنة العبادية في التكليف الشرعي؟ لا.
السنة في المنهج، نأتي إلى اللحية نضعها على واحدة من هذه الخمس، فنرى أنها واجب، لماذا؟ لأن الشرع طلب من المكلف فعلها طلباً جازماً ولم يقم على الصرف إلى الاستحباب قرينة، فقد ورد أكثر من عشرة آحاديث: (قصوا الشوارب) (أعفوا اللحى) (أكرموا اللحى) (أرخوا اللحى) (خالفوا المجوس) (خالفوا المشركين) وفي حديث الرجلين اللذين جاءا من اليمن وقد أرسلهما كسرى، فلما رآهما النبي صلى الله عليه وسلم وقد أطالا شواربهما، وحلقا لحاهما قال: (من أمركما بهذا؟ قالا: ربنا -أي: كسرى- قال: أما أنا فقد أمرني ربي بإعفاء لحيتي وقص شاربي).
فهو أنكر عليهم، وهذه قرينة تؤيد أن الفعل المأمور به للواجب إلا أن تأتي قرينة تصرفه إلى الاستحباب، وأيضاً لم يؤثر أنه صلى الله عليه وسلم حلق لحيته، ولا أحد من أصحابه، فدل الأمر بإبقائها على الوجوب، وعلى هذا يقول أهل العلم: إن حلقها محرم وإبقاؤها واجب، وحالقها آثم، وعليه أن يتقي الله، ماذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الأوامر: (أرخوا اللحى) (أكرموا اللحى) (خالفوا المجوس) (قصوا الشوارب) (اعفوا اللحى) هذه أوامر، وتقول: لا والله إنها سنة ما يدريك، وها نحن نقول لك إنها واجب.(56/24)
حكم تخفيف اللحية
السؤال
الذي يخفف اللحية ما حكمه؟
الجواب
لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ من لحيته شيئاً، ونقل البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا أحل من نسكه قبض لحيته، ثم قص ما زاد عليها، ويقول أهل العلم: إن فعل الصحابي إذا عارض قول النبي صلى الله عليه وسلم لم يعمل به، ولكن نقول للناس الآن: هبوا أنا لنا لحية ونضع إصبعاً فقط -لأن أطول لحية هي لحية الشيخ الأفغاني أنا جعلته يمسكها، وقبض عليها فما زادت إلا قليلاً- أين القبضة، والآن عند بعض الناس لحيته واحد (سم) ويقول معي لحية وكل يوم يقصرها، لا.
اترك لحيتك كما خلقها الله تبارك وتعالى؛ لأن لحيتك أوجدها الله، والله يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] فلحيتك جميلة، وهيبة لك وجمال.(56/25)
حكم الاستمناء باليد
السؤال
تبت من أحد الذنوب وهو نكاح اليد، ثم عدت إليه مرة أخرى وأنا على هذا الحال أتوب ولا أقصد العودة، وأعود فما الحل؟
الجواب
نقول لك: تب إلى الله الآن ولكن لا تلعب -يا أخي- لأن التائب من الذنب والعائد إليه كالمستهزئ بربه، تب إلى الله واعتصم به، وإذا جاءك الشيطان في لحظات يريد منك أن تمارس هذه العادة، فاقرأ القرآن واذكر الله واخرج من البيت، لا تنفرد بالشيطان حتى ينفرد بك فيوقعك في هذه الجريمة؛ لأنها -والعياذ بالله- محرمة كما نص أهل العلم عليها، وقد سألني أحد الإخوة قبل أسبوع، يقول: ما الأفضل الزنا أو نكاح اليد، فقلت له: لا مفاضلة في الحرام، ما هو الأفضل لحمة الميتة أو مرقتها، كلها ميتة، سواء مرقة أو لحمة، وهذا نكاح اليد أو زنا، كله حرام، الزنا محرم بالأدلة الشرعية، ونكاح اليد محرم بالأدلة الشرعية.
وعليك بالصوم إن كنت لم تستطع النكاح، وبعد ذلك ابحث عن الزواج، والحمد لله مجتمعنا الآن مجتمع متماسك، وما في أب من فضل الله يذهب له ولده ويقول: يا أبي أنا رجل الآن أريدك أن تزوجني، ما أظن أباً في الدنيا يقول: لا أزوجك، بل لو يستلف أو يبيع قطعة من بلاده أو السيارة، لازم يزوج ولده، لكن أكثر الشباب ترك الزواج وعزف عنه، وجالس على يديه -والعياذ بالله- ولا يريد أن يخسر شيئاً.(56/26)
حكم من يرتد ثم يسلم
السؤال
عندما يلتزم الإنسان ثم يرتد عن دين الله تعالى هل يحبط عمله؟
الجواب
اختلف أهل العلم في ذلك، وذكر ابن القيم رحمه الله أنه إذا خرج وارتد عن دين الله طبع على قلبه، ولكن بعض أهل العلم قال: إذا تاب توبة صالحة صادقة، رده الله إلى منزلته التي كان عليها وزيادة إن شاء الله، المهم يتوب إلى الله.(56/27)
حكم إمامة المدخن لغيره
السؤال
هل تجوز الصلاة للمدخن؟
الجواب
كيف؟ يعني: لا يصلي، الدخان معصية، ولا يكفر، وعليه أن يصلي، ولكن أظنه يعني هل يجوز أن يكون إماماً أظن السؤال هكذا، المدخن لا ينبغي له أن يؤم الناس إلا إذا كان الذي بعده كلهم مثله، فزكاة الأرض منها، فيؤمهم واحد منهم.
أما إذا كان يوجد شخص غير مدخن فلا ينبغي للمدخن أن يؤم؛ لأن الإمامة شفاعة: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، وإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سناً) والفسق هذا قدح في عدالة الإمام، فلا ينبغي له أن يؤم الناس، وعليه أن يتوب إلى الله من الدخان.(56/28)
وقت قيام الليل
السؤال
هل تجوز صلاة القيام قبل النوم؟
الجواب
صلاة قيام الليل يقول الله عز وجل فيها: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6] قال العلماء: ناشئة الليل هي التي ينشئها الرجل بعد نوم، أي: بعد ما يقوم من نومه، وأفضل الصلاة ما كانت بعد النوم، ولكن إذا كان الإنسان يخشى أنه إذا نام لا يقوم، وصلى العشاء -مثلاً- في المسجد، وأخر الوتر إلى أن ينام الساعة عشرة ونصف أو إحدى عشرة، ثم قام من الليل ركعتين أو أربعاً، ثم أوتر ونام، فهو من القائمين إن شاء الله، ولكن الذي يقوم بعد النوم أفضل؛ لأنه يجاهد نفسه، وجاء في الحديث: (يعجب الله من رجل يعالج نفسه وهو نائم حتى يقوم ليصلي) أجره لا شك أعظم.(56/29)
القرآن والسنة الصحيحة لا يخالفان الإثباتات العلمية
السؤال
بعد أن تطرقت للأرض والشمس أريد أن أعرف موقف المسلمين ومشايخنا من دوران الأرض، وقد سمعت أن بعضهم لا يؤيد ذلك، فما رأيك فيما أثبته العلم والأقمار الصناعية؟
الجواب
نقول -يا أخي- إن هذا من فضلة القول والحديث؛ لأن الله لن يسألنا يوم القيامة: لماذا لم تؤمنوا بأن الأرض تدور؟ يسألنا الله عز وجل: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] هذا السؤال {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93].
الله يسألك عن هذا ولا يسألك عن الأرض تدور أو لا.
إنما الذي ثبت والذي هو حقيقة ثابتة للعيان بالأقمار الصناعية وبالتصوير الصناعي أن الأرض كروية وأنها تدور، وقد أثبت القرآن في مفاهيمه وفي مضامينه أنها تدور؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:38 - 40].
عندما تدور الأرض وأنت لا تشعر بها طبيعي، أنت الآن عندما تكون راكب في السيارة، والسيارة تمشي، هل معنى هذا أن تنتقل من كرسيك إلى كرسي آخر، الطائرة تسير بسرعة ثمانمائة ميل في الساعة وأنت على الكرسي وما تحس بها، فدوران الأرض وعدم الإحساس بها لا يعني أنها ما تدور، ومادام ثبت بالعلم فليس في الدين ما يعارض ذلك، وعلماؤنا ومشايخنا يثبتون ذلك؛ لأنه لا يتعارض مع نص شرعي من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا لا يراد من الإنسان أن يدخل نفسه في هذه المعاني حتى يكذب الله ورسوله، خمس من الغيب استأثر الله بعملها، وما عداها فالله يقول: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس:101].
أمر الله البشر أن يسيروا في الأرض، وينظروا، ويتأملوا في خلق الله: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت:20] فإذا توصلنا بواسطة العلم التجريبي إلى حقيقة من حقائق القوم وأثبتها العلم، فلا يمكن أن يختلف القرآن مع حقيقة علمية؛ لأن صانع الكون ومنزل القرآن هو الله {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].(56/30)
قاعدة في مخالفة أهل الكتاب وغيرهم
السؤال
إن أحد المدرسين يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (خالفوا اليهود والنصارى، قصوا الشوارب واعفوا اللحى) يقول: فالآن اليهود والنصارى يعفون اللحى فنحن نخالفهم فنحلقها؟
الجواب
الله أكبر! يا هذا الفقيه! أعطيكم قاعدة من أجل أن تسيروا عليها، نحن أمة الإسلام أصل والأمم كلها لها تبع، ما رأيكم الآن إذا اليهود والنصارى يصدقون، ماذا نفعل نحن؟ نكذب من أجل أن نخالفهم، ماذا؟ إذا صدق اليهود والنصارى في مواعيدهم أنخلف الوعد؟ أنا سأخلف الميعاد معك، وإذا جئت تسألني لماذا تخلف الميعاد؟ قلت: لأن اليهود والنصارى يصدقون في مواعيدهم والرسول قال: (خالفوا اليهود والمشركين) فأنا أكذب، ما رأيكم في هذا الكلام؟ هذا مجنون صاحبه، نحن أصلاً عندنا دين، ما جاءنا من الله نعمل به، وبعد ذلك إذا اليهود والنصارى أخذوا صفة من صفاتنا فلا ينبغي أن نتركها من أجل أن نخالفهم.
نحن نعمل بديننا كأمر تلقيناه من الله، ونصدق في المعاملات، فإذا اليهود والنصارى صدقوا في المعاملات فهي صفة كمال نفخر بها أن اقتبسها اليهود والنصارى منا، نحن لا نخلف المواعيد، فإذا اليهود والنصارى لا يخلفون المواعيد، نحن نقول: صفة كمال في اليهود، أخذوها منا، لا نغش في البيع والشراء، وإذا هم لا يغشون لا نغش نحن حتى نخالفهم، ولكن نتمسك نحن بعدم الغش ونقول صفة كمال كانت فينا واقتبسها اليهود منا، كذلك إذا اليهود والنصارى أطلقوا لحاهم وأصبحوا باللحى، لا نحلق لحانا ونقول: صفة كمال فينا، وشيء من ديننا، وهو إطلاق اللحى، وهم اقتبسوه منا؛ لأننا نحن أصل وهم فرع، نحن أصل وهم تبع لنا، أما أن نكون تبعاً، إذا حلقوا اللحى خليناها وإذا خلوها نحلقها، نصير نحن الذيل لهم، هذه القاعدة مفهومة -يا إخوان- بارك الله فيكم ووفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.(56/31)
خلود الكافرين في النار
السؤال
هل هذا قول صحيح: أن الكافرين يعذبون بنار جهنم، ثم يرحمهم الله، ويدخلهم الجنة؟
الجواب
لا.
الله يقول: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167] الذين يخرجون من النار بعد أن يمحصهم الله هم أهل التوحيد، الذين ماتوا وهم يوحدون الله عز وجل ولا يشركوا به شيئاً، ولكنهم كانوا ملمين بشيء من الذنوب والآثام والمعاصي، هؤلاء في الدار الآخرة تحت مشيئة الله، إن شاء غفر لهم وأدخلهم الجنة بدون عذاب في النار ببركة توحيد الله، وإن شاء عذبهم في النار بقدر أعمالهم السيئة؛ لكن خاتمتهم إلى الجنة؛ لأنه كما جاء في الحديث (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) أي من توحيد.
أما الكافر فهو خالد فيها، يقول الله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6 - 7] نسأل الله من فضله {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [البينة:8] الأولى ليس فيها أبداً، الأبدية في سورة الأحزاب يقول الله عز وجل، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الأحزاب:64 - 65] وفي سورة البقرة (آية 167) ذكر الأبدية، وقد بوب ابن القيم رحمه الله في كتاب له عظيم اسمه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح في آخر الكتاب تكلم بكلام عظيم حول الجدل القائم بين أبدية النار وبين فنائها، ورجح هو فيما رجح، أنها تفنى؛ ولكن مذهب أهل السنة والجماعة أنها أبدية، وأنها لا تفنى، بالأدلة الشرعية، منها قول الله عز وجل (وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ} [البقرة:167].
ومنها قوله عز وجل: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:37] ومنها أن الله أخبر أن أهل النار لو خرجوا من النار لعادوا إلى الدنيا وكفروا، قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28] لأن نية الكفر متجددة في نفوسهم؛ فالله عز وجل جدد لهم العذاب وأبقاه أبد الآبدين: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً} [النبأ:23 - 24] نعوذ بالله وإياكم من النار.(56/32)
حكم إمامة المسبل ثيابه
السؤال
هل تصح الصلاة خلف المسبل؟
الجواب
نعم الصلاة صحيحة ولكن المسبل آثم، والمسبل: هو الذي يرخي ثوبه أو (بشته) أو سرواله، أو بنطلونه، أو إزاره، وقد ورد فيها حديث، ومن أراد أن يراجع ذلك ففي رياض الصالحين، فسيجد عشرة أحاديث كلها صحيحة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب عظيم، المسبل إزاره، والمنان في عطائه، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) ومنها قوله عليه الصلاة والسلام (ما أسفل من الكعبين ففي النار) ويعجبني أحد المشايخ يقول: إن شخصاً مر على شخص يسحب ثيابه في الأرض، فأمسكه بيده وسلم عليه وقال له: النار في أرجلك، ذاك مسكين خاف يحسب أن فيها ناراً، وإذا هو يرى قال: أين النار؟ قال: النار في ثيابك؟ قال: ليس هناك نار، قال: بلى.
الرسول صلى الله عليه وسلم أليس بصادق؟ قال: نعم.
قال: يقول الرسول: (ما أسفل من الكعبين ففي النار) والله أنت بما أسفل من الكعبين ثوبك في النار لكن ما تحس به الآن، تحس به إذا مت ودخلت القبر، أحرق الله ما تحت كعبيك، فالرجل رأساً ارتعد وذهب وقص ثوبه مباشرة.
أزرة المسلم إلى نصف الساق، فإن أرخاه إلى الكعب فما تحت الكعب ففي النار، وحديث خزيمة الأسدي رضي الله عنه وقد قال عليه الصلاة والسلام (نعم خزيمة الأسدي لولا طول جمته وإسبال إزاره، فلما سمع عمد إلى جمته فقصها، وإلى إزاره فقطعه) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل).
وقد قال العلماء: إن هذا خرج مخرج التهديد، وإلا فإن الصلاة في الدنيا مقبولة ولكن تحت نظر الله يوم القيامة، يقبلها أو يردها، لكن في الدنيا يسقط عنك سيف الإسلام، وأما سيف الآخرة فلا يسقطه عنك إلا اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول للذي ثوبه مسبل: عليك أن تقص ثوبك، وقد رأى عمر وهو مطعون شاباً يمشي وهو مسبل إزاره قال: [ارفع ثوبك؛ فإنه أتقى لربك، وأنقى وأبقى لثوبك] انظروا إلى الذي ثوبه طويل أول ما يتسخ من عند أرجله؛ لأنه يسحبه، ترى شكله قبيح والعياذ بالله.
لكن الثوب المرتفع نظيف وطيب، وإذا صلى تجوز الصلاة خلفه، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا خلف كل بر وفاجر، فإن أحسن فله ولكم، وإن أساء فعليه ولكم) أي: تصح الصلاة خلف المسلم حتى ولو كان فاسقاً أو فيه معصية، لكنه يأثم، والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(56/33)
تأملات قرآنية في سورة الأنعام [1]
اختص الله الإنسان من بين كل المخلوقات بخصائص كثيرة، ومن هذه الخصائص والصفات التي وهبها الله إياه ملكة التأمل في كل ما يحيط به، وذلك حتى يتسنى له الإطلاع على حقائق الأشياء، ومن ثم الاقتناع بها دون حيرة أو شك.
ومن أجلِّ ما يُمكن للإنسان تدبره القرآن الكريم بما فيه من الحقائق الواضحات، والآيات الباهرات.
وقد تناولت سورة الأنعام الكثير من القضايا التي يجدر بالمرء التوقف عندها، ومن أهم هذه القضايا قضية الإيمان والعقيدة الصحيحة، حيث تناولت السورة مناقشة هذه القضية مع عقل الإنسان، طارحة له الأدلة والبراهين التي لا يسعه أمامها إلا التوقف والتسليم.(57/1)
ضرورة التدبر لمعاني آيات القرآن
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تبقِ فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، وذهاب همومنا وغمومنا، وجلاء أحزاننا، اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نُسِّينا، وارزقنا تلاوته، والتأمل والنظر فيه، والعمل بأحكامه آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا، واجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، يا أرحم الرحمين! هذا الدرس يلقى في مدينة جدة بمسجد (الأمير متعب) في مساء يوم السبت، الموافق: (23/جمادي الثاني/1415هـ)، وهو بعنوان: (تأملات قرآنية)، ليس تفسيراً، وإنما هو وقفات وتأملات ونظرات، تتبعتُها وجمعتُها من كلام بعض المفسرين، وأسأل الله الذي لا إله إلا هو أن ينفعني وإياكم بها، وأن يرزقنا النظر والتأمل والتفكر والاعتبار في هذا القرآن العظيم.
إن من أعظم المصائب التي مُنِيت بها الأمة أيها الإخوة: أن حيل بينها وبين كتاب ربها، تقرأه ولكنها لا تعيه ولا تفهمه، تجد الرجل يقبل على القرآن ويتناول المصحف ويهذُّه هَذَّ الشعر، وينثره نثر الدَّقْل، وينتهي من آخر سورة، وتسأله: ما الذي فهمت من خلال هذه القراءة؟! فلا تكاد تجد أنه قذفهم شيئاً، وإنما يقرأ وهمه آخر السورة.
إن القرآن ما أنزل لهذا أيها الإخوة! لقد طلب الله منَّا أن نتأمل القرآن ونتدبره، قال تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].
ويقول عز وجل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82].
إذا وجدت أنك لا تعي ولا تتدبر ولا تتأمل ولا تعتبر فلتعرف أنَّ على قلبك قفلاً أو أقفالاً، فحاول أن تفتح هذه الأقفال، وأن تزيلها حتى تدخل في ميدان النظر والتأمل في كتاب الله عز وجل، إنَّ على القلوب أقفالاً كثيرة أيها الإخوة؛ أقفال الشبهات، والشهوات، والماديات، والمشاغل كلها تحول بين الإنسان وبين فهم كلام الله عز وجل؛ ولكن إذا أزال الإنسان هذه المعوقات، وأبعد هذه الحواجز، ودخل بنية خالصة لوجه الله ليقرأ وليتأمل كلام الله، وليشعر مَن هو هذا المتكلم بهذا الكلامَ؟ وما هو هذا الكلام؟ أي عظمة لك يا أخي! أن يخاطبك الله من فوق سبع سماوات؟ أي عزة أن ينزل الله عليك قرآناً؟ أي كرامة أن تخاطَب من الملك الجليل تبارك وتعالى؟ إنه فخرٌ عظيم، ومقامٌ جليل، لكن لمن عرفه وقدره.
والتأملات في هذه الدروس إن شاء الله ستكون من خلال النظر في سورة الأنعام.(57/2)
سورة الأنعام وما تحتويه من معالم عقدية سامية
سورة الأنعام من السور المكية التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة المكرمة، وهي كغيرها من السور المكية تحمل معاني غرس العقيدة في قلوب ذلك الرعيل الأول.(57/3)
الاهتمام ببناء العقيدة بناءً صحيحاً وقوياً
إن القرآن الذي نزل في مكة المكرمة في أول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كان يعالج قضايا العقيدة كان يهتم ويركز ويؤسس ويبني القضايا الهامة في الدين، وهي بمنزلة القواعد.
إذا أراد إنسانٌ أن يقيم عمارةً فإن تركيزه يكون على: على دراسة التربة أولاً.
ومعرفة قوة تحملها.
ثم معرفة حجم الأساسات.
ويبذل جهده ويركزه ويخسر كثيراً في سبيل تأسيس العمارة.
وكلما فكر في أن يزيد أدوار العمارة ويرتفع بها إلى أعلى؛ كلما كان التفكير في التأسيس مناسباً لارتفاع العمارة.
وبناء وعمارة الدين الإسلامي، بناء شامل، وعمارة ضاربة في جذور الزمن، وممتدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فكان لا بد أن يكون لها أساس قوي لا تُبنى على جرف هار حتى تنهار، ولا تبنى على تصورات واندفاعات وحماسات وخيالات وتذوقات، إنما تبنى على عقيدة في الله، توحي وتفسر كل ما هو حول الإنسان في هذه الحياة، مقتبسة من الوحي الرباني، والهدي النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام.
فكانت هذه المدة الطويلة -ثلاث عشرة سنة- من عمر الدعوة وهي تُصْرف في تثبيت هذه العقيدة قبل تلقي أي شيء من الأحكام، فلما ثبتت العقيدة، واستقرت حقائق الإيمان في النفوس، جاءت التكاليف الشرعية، فجاءت سهلة، بل طلبها الناس قبل مجيئها، طلبوا القتال قبل أن يؤذن لهم فيه، جاءت الصلاة فباشروها، والزكاة فدفعوها، والصيام فصاموا، والحج فحجوا، وتحريم الخمر فحرموه دفعة واحدة، منهم من كان الكوب في يده فرماه، ومنهم من كان في فمه فوالله ما شرب الشربة تلك {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91]؟! مباشرة: قالوا: انتهينا انتهينا، لماذا؟! لأن القاعدة قوية، والأساس سليم، ابنِ ما شئت، حَمِّل هذه القاعدة ما شئت؛ لكن يوم أن يُبنى البناء على قاعدة هشة لا تتحمل شيئاً، ولو كانت الطلاءات جميلة، والجدران مزخرفة، والنوافذ من الألمونيوم، والأبواب من الخشب، والفُرُش ضخمة؛ لكن الأساس فاسد، ولذا لا تعجب من دين إنسان مهما بلغ دينه مهما بلغت عبادته وأذكاره، انظر إلى التوحيد؛ فإن كان متيناً، وعقيدته قوية؛ فابن عليه، لماذا؟ لأنه أسِّس على رضوان من الله تبارك وتعالى، وعلى هدى، وإن كان شيئاً فارغاً من غير عقيدة ولا دين فإن هذا سينهار إما في الدنيا وإما في الآخرة.(57/4)
معالجة سورة الأنعام لقضايا العقيدة الأساسية
هذه السورة تعالج قضية العقيدة الأساسية: قضية الربوبية أولاً.
ثم قضية الألوهية.
ثم قضية الأسماء والصفات.
وهذه الأشياء الثلاثة هي أقسام التوحيد.
واهتمام بعض الناس بالألوهية، والأسماء والصفات، وإغفال جانب الربوبية خطأ في الدعوة، لا بد أن نعمق توحيد الربوبية في قلوب الناس؛ لأنهم إذا عرفوا الرب وحَّدوه، لماذا يحصل الشرك في حياة الناس؟ لعدم معرفتهم بالرب تبارك وتعالى، أو يعرف معرفة ذهنية صورية؛ لكن نريد معرفة حقيقية، ولذا الذين عرفوا الله وحَّدوه {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ} [فاطر:28] مَنْ؟! {الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] أي: إنما تقع الخشية والخوف لله من العلماء، العلماء يخشون الله؛ لأن مَن كان بالله أعْرَف كان منه أخْوَف.(57/5)
توحيد الربوبية في سورة الأنعام
بث الله في كتابه الكريم الآيات العظيمة التي تدلِّل وتعمِّق وتؤسِّس في قلوب البشر توحيد الربوبية: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام:12].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام:1]، هذه ربوبية.
{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} [المؤمنون:84].
{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام:12].
قل قل قل في القرآن الكريم وفي سورة الأنعام بالذات تأكيدٌ أكيدٌ وشديدٌ على قضية الربوبية.
وعندما يحصل عند الإنسان قناعة ويقين على أنَّ الله هو خالق الكون لا يسعه إلا أن يوحِّد خالق الكون، يوحِّده بفعله؛ لأن توحيد الربوبية هو: توحيد الرب بفعل الرب، فلا تجعل لله شريكاً فيما فعل، فتعتقد أنه الخالق، والرازق، والمحيي والمميت، والمعطي والمانع، والمدبِّر، والمسيِّر لهذا الكون، لا ينازعه بهذا أحد، وهذا أقرَّ به المشركون؛ لكن يأتي نتيجةً لتوحيد الربوبية التوحيدُ الآخر وهو: توحيد الألوهية، وهو: توحيد الرب بفعل العبد.(57/6)
توحيد الألوهية في سورة الأنعام
أنت عبد، والعبد من شأنه أن يكون عبداً وعابداً لله عز وجل، وهذه العبودية يجب أن تنصبَّ كلها في مسار التوحيد لله وحده، فكما وحَّدت الله بفعله، ولم تزعم بأن مع الله خالقاً، فلا بد أن توحِّد الله بفعلك، فلا تصرف لغير الله شيئاً من عبادتك، وهو: توحيد الألوهية؛ أن توحِّد الله بفعلك: فلا تعبد إلا الله.
ولا تدعُ إلا الله.
ولا تذبح إلا لله.
ولا تنذر إلا لله.
ولا تستغث إلا بالله.
ولا تستعن إلا بالله.
ولا تتوكل إلا على الله.
ولا ترجُ إلا الله.
ولا تخَف إلا من الله.
ما رأيك إذا استقرَّت هذه القضايا في قلب الإنسان كيف سيكون توحيده؟! لا نعني بالاستقرار هنا الاستقرار الذهني، لا، بل الاستقرار اليقيني.
إذا عرفتَ أن الحياة بيد الله، ماذا بقي عندك من خوف؟! إذا عرفتَ أن الرزق بيد الله، ماذا بقي عندك من الخوف من الفقر؟! من يبيع الدخان في دكانه إذا قيل له: لا تبع الدخان، هذا حرام، لا يجوز لك.
قال: الدخان يجلب الزبون، إذا لم يوجد دخان يأتي الزبون يقول: هل يوجد دخان؟ فأقول: لا، فيذهب، ولا يشتري مني، لكن عندما يكون الدخان موجوداً فإنه يشتري مع الدخان جريدة وسكراً وأرزاً، يا هذا ليس الدخان هو الرزاق؛ لكن هذه عقيدته، مسكين! لم يوحد الله، لم يعرف توحيد الألوهية إلى الآن، هل الرزاق هو الدخان أم الرحمن؟! {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} [الذاريات:58] هو الذي يجلب المشتري، ويجعله يقف على دكانك، ويشتري منك غير الدخان.
أنت أيها الزبون عندما تشتري من السوق، لماذا تقف عند هذا وتصرف نفسك عن هذا؟ هل هذا أعطاك شيئاً أو دعاك، أو ذاك طردك؟! لا؛ لكن الرزاق جعل في مالك رزقاً لهذا فساقك إليه، ولم يجعل في مالك رزقاً لهذا فصرفك عنه فلماذا تعتقد أيها البائع في سيجارة أنها ترزق؟! لا إله إلا الله!! هذا خلل، ينبغي أن تراجع فيه نفسك وحساباتك، فتكون عابداً بكل تصوراتك وأحوالك.(57/7)
قضية الأسماء والصفات وتبسيطها للناس
تأتي السورة لتعالج أيضاً قضية توحيد الأسماء والصفات، وهذا بأبسط الطرق وبمفهوم العوام -حتى لا ندخل في متاهات علماء الكلام- وليكن بفهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم والسلف الصالح؛ فإنهم فهموا توحيد الأسماء والصفات فهماً شرعياً بسيطاً منطقياً، فالله سمَّى نفسه بأسماء، ووصف نفسه بصفات، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سمَّى الله بأسماء، ووصف الله بصفات، فما موقفنا من هذه الأسماء والصفات التي جاءت عن الله وعن رسوله إلا أن نثبتها ونقرها، ولكن من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل، بل نؤمن بأنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]، فكما أنَّ لله ذاتاً لا تشبه الذوات، فكذلك له صفات لا تشبه الصفات.
ولهذا يقول ربيعة لما جاءه الرجل المبتدع قال: كيف استوى الله؟ يريد أن يسأل عن الاستواء، والاستواء قضية ضلَّت فيها أممٌ حتى عطَّلوا الله عن الاستواء الذي أثبته الله عز وجل في القرآن في سبع آيات {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فعطلوا هذه الصفة، لماذا تعطلونها؟ قالوا: لتنزيه الله.
فذهبوا إلى التنزيه فوقعوا في التعطيل.
فجاء المبتدع يسأل ربيعة: كيف استوى؟! فقال له ربيعة الرأي -شيخ الإمام مالك -: كيف الله؟! قلب السؤال عليه، يعني: كيف ذات الله؟! قال المبتدع: لا أدري قال: وكذلك الصفة فرع عن الذات، فكما أن الله لا يُكَيَّف، فأيضاً الصفات لا تُكَيَّف.
لا تقل كيف استوى كيف النزولْ أنت لا تعرف من أنت ولا كيف تبولْ!
ولما جاء الرجل يسأل الإمام مالك عن الاستواء قال له: الاستواء معلوم -يعني: معناه الشرعي واللغوي عندنا معلوم- والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ثم طرده، وقال: اخرج إنك مبتدع.
فلا تسأل عن الصفة، وإنما تؤمن كما قال الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] بمعنى: أنك لا تستطيع أن تكيِّف الصفة، (الكاف) هنا للتشبيه، ليس مِن شبيهٍ مثل الله، ليس كمثل الله شيء {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
فنؤمن بجميع الأسماء والصفات، وهذه العقيدة أيها الإخوان! هي عقيدة السلف، والذين ضلوا من الأشاعرة والجهمية والمعتزلة وأهل الكلام والكَرَّامية؛ ضلوا لأنهم دخلوا بعقولهم البسيطة في هذه القضايا، فضاعوا وتاهوا، وتمنوا وهم يموتون أنهم ما تاهوا في هذه الضلالات، حتى قال واحد منهم اسمه الخونجي: ها أنا أموت وليتني أموت على عقيدة جدتي أو أمي.
وهو عالم من علماء الكلام.
والآخر يقول:
نهاية إقدام العقول عِقالُ وآكثر سعي العالمين ضلالُ
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لكن اترك القيل والقال، واسمع مقال الملك المتعال قال الله، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، والذي يقتصر على الوحيين: الكتاب والسنة بفهم السلف؛ فهذا طريق النجاة، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11](57/8)
معرفة الله بآياته وأسمائه وصفاته
هذه السورة تعالج هذه القضايا لتعريف العباد برب العباد: من هو؟! ما مصدر هذا الخلق؟! ماذا وراءه من أسرار وألغاز؟! كيف تعرف؟! مَن يخبرك؟! يخبرك الذي يعلم السر في السماوات والأرض، وستبقى ضالاً وتائهاً حائراً إذا لم تتعلم مَن الذي خلق الكون والحياة، فجاءت السورة لتخبرك: مَن هو الله عن طريق عرض بيان أسمائه وصفاته: مَن هو الخالق لهذا الكون؟! ما وراء هذا الكون؟! ثم مَن هم العباد؟! مَن الذي جاء بهم إلى هذا الوجود؟! مَن أنشأهم؟! مَن الذي يطعمهم؟! مَن الذي يكفلهم؟! مَن الذي يدبر أمورهم؟! مَن الذي يقلِّب أفئدتهم وأبصارهم؟! مَن الذي يقلِّب ليلهم ونهارهم؟! مَن الذي يبدئهم، ثم يفنيهم، ثم يعيدهم؟! ولأي شيء خلقهم؟! عبثاً؟ لا.
إن الله مُنَزَّهٌ عن العبث، والله قد أبطل هذه الفِرْية التي عند الناس، وتوعد من قال بها بالويل في النار، يقول عز وجل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [المؤمنون:115 - 116].
ويقول عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء:16] يعني: عبثاً، {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:17 - 18]، لهم الويل بما يصفون الله بأنه خلق هذه الدنيا عبثاً.
ويقول عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص:27] أي: عبثاً، {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27].
الآن البشرية كلها مِن أولها إلى آخرها كثير ممن هم على وجه الأرض -إلا الموحِّد المسلم- يقولون: إن الدنيا خلقت عبثاً، فقط.
وإذا سئل: لماذا خُلِقْتَ؟ قال: لنأكل، ونشرب، ونتمتع؛ ولذا يقضون ليلهم ونهارهم في التنافس والإكثار من الشهوات، لماذا؟ مستعجلون؟ لأنهم يعرفون أنهم سيموتون، فيريدون أن يشبعوا ويحصلوا أكبر قدر منها؛ لأنهم لم يعرفوا من الدنيا إلا هذا، ولهذا يسميهم الله بهائم، حيوانات يقول عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12].
إذاًَ: ما دام أن الله لم يخلقك عبثاً فلا بد أن يكون هناك حكمة من خلقك، من أين تعرفها؟ مِن عندك؟ لا؛ لأنك لست أنت الذي خلقت نفسك، لو أنك خلقت نفسك لعرفت حكمة خلقك؛ لكن أنت خُلِقت رغم إرادتك، إذاً: الذي خلقك هو الذي يعرف لماذا خلقك.
فمن الذي خلق الناس؟! الله.
ولأي شيء خلقهم؟! وإلى أي أجلٍ أجَّلهم؟ وإلى أي مصيرٍ يُسْلِمهم؟ هذه الحياة المبثوثة في كل مكان في الأرض من يبثها ويوجدها بعد الموت؟! هذا الماء الهاطل، والنبات النابت، والحب المتراكب، والنجم الثاقب، والصبح البازغ، والليل الداجي، والضحى الساجي، والفلك الدوار، والقمر المنير، والشمس المضيئة، والكون كله، مَنْ وراءه؟! وماذا وراءه؟! وما هو خبره؟! الناس يموتون فلماذا يموتون؟! وإلى أين يذهبون؟! وأناس يولدون، لماذا يولدون؟! لماذا لم يستمر أولئك في الحياة ويأتِ أناسٌ جُدُد؟! لكن هذا يمشي رغماً عنه وهذا يموت، وهذا يولد رغماً عنه وهذا يمشي، هذا يؤدي دوراً، وذاك يؤدي نفس الدور، ويختلف معه بحسب سلوكه للسبيل السَّوِي أو السبيل الغَوِي! أسرار مجاهيل! هذه الأمم: أمة تباد، وأمة تحيا.
هذه القرون: تذهب، وتجيء غيرها، وتُهلك.
وأمم تُسْتَخْلف، مَن الذي يستخلف الأمم؟! ومن الذي يهلك الأمم؟! ولماذا يدركها البوار؟! وماذا بعد الاستخلاف والابتلاء؟! وماذا بعد الوفاة من مصير وحساب وجزاء؟!(57/9)
ما تهدف إليه سورة الأنعام
تطوف هذه السورة بالقلب البشري، وتحلق به في الآماد والآفاق، والأغوار والأعماق؛ ولكنها تمضي كلها على منهج القرآن، إنها لا تهدف إلى تصوير نظرية العقيدة، ولا إلى جدل يشغل الذهن والفكر؛ ولكن تهدف إلى تقرير حقيقة إلى تعريف الناس بربهم الحق؛ لتصل بهم من خلال هذا التعريف إلى العبودية الحقة لربهم الحق، فلا يعبدون الهوى، ولا الشهوات، ولا الأهواء والنفعيات، وإنما يعبدون الله يعبدونه بضمائرهم، وقلوبهم، وأرواحهم، يعبدونه بسعيهم وحركتهم، يعبدونه بشعائرهم، يعبدونه في واقعهم، فكله لله؛ لأنه السلطان الذي لا سلطان لغيره في الأرض ولا في السماء، هذا هو هدف السورة.
ويكاد اتجاه السورة يمضي إلى هذا الهدف من أولها إلى آخرها: الله هو الخالق، وتلمس هذه القضية من أول آية: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام:1] وماذا بعد ذلك؟ {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] جعل الظلمات ثم جمعها ووحد النور، النور واحد، والظلمات كثيرة: ظلمات الكفر، والنفاق، والشُّبَه، والضلالات، والأهواء، والشهوات كثيرة؛ لكن طريق الله واحد، ولهذا يقول الله عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257] أي: الظلمات الكثيرة، {إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257].
فمِن أول وهلة وأنت تقرأ السورة تجد ثناءً على الله.
لِمَ هذا الثناء؟! لأنه أهل الثناء والمجد؛ لأنه الخالق.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الأنعام:1]، وليس الحمد لِهُبَل، ولا للشيطان، ولا لِلاَّت، ولا للنفس، ولا للرغبات، بل لله، لماذا؟! {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] نور تكشف به.
يقول العلماء: إن النور مهما كان ضئيلاً يبدِّد الظلمات مهما كانت معتمة، إذا دخلت مجلساً أو صالة وقد انطفأت الكهرباء وخيَّم الظلام حتى لا ترى يدك، وأردت أن تبدد الظلمة من هذا المكان، ماذا تصنع لتبديد الظلام؟ تأخذ العصا؟! تلاكم؟! تضارب؟! لا، لا تفعل شيئاً، عليك أن تشعل النور، أي نور كان، مهما كانت نسبته، ولو صفراً، هذه (السهَّارية) نور، لو أن القوة فيها صفر أو (5) وات، أو (5) شمعات، لو أنرتها فإن الظلام الذي يملأ الغرفة أين يذهب؟! سوف يخرج من الباب، ولن يبقى، لماذا؟! لأنه دخل الذي يخرجه، وهو النور.
فإذا كان في قلبك ظلمة فكيف تخرجها؟! أشعل النور، بعض الناس في قلبه ظلمة، فيحاول إخراج الظلمة فيضيف ظلمة، عنده هم وغم فيقال له: أنت غضبان؟ فيقول: نعم.
فيقال: هيا نتمشى، نرى منظراً جميلاً.
فيخرج إلى السوق ليرى منظراً محرماً فتزداد الظلمات في قلبه.
أو يقول: هيا لنشتري شريطاً فيه أغنية، فيسمع الأغنية من أجل أن يزيل الظلمة، فيزيدها ظلمة على ظلمة.
أو يشتري شريط فيديو، أو يركِّب فوق سطح بيته صحناً فضائياً من أجل أن تنصبَّ عليه حمم الظلمات من كل أرض، ما عاد يريد ظلمة واحدة، بل يريد ظلمات العالم كله فوق رأسه، تخرخر على رأسه وامرأته وعياله، وكلما انتهت ظلمة انتقل إلى ظلمة، يعيش على الظلمات، هذا مظلم -والعياذ بالله- {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40].
والذي يعيش في ظلمات هنا يموت وهو مظلم القلب، ويتحول قبره إلى ظلمات، ويُحشر يوم القيامة في الظلمات.(57/10)
بين نور الإيمان وظلمات الكفر
يقول الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [الحديد:12] ما هو نورهم؟! كهرباء؟! كشاف؟! إنه نور القرآن، والإيمان، والدين، واليقين، معك نور في الدنيا، وكذلك عند الموت والقبر والصراط فالنور ملازم لك، وفي دار الأنوار النور كله، {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد:12]، أما أهل الظلمات، الذين كانوا في ظلمات الدنيا، وما تعرفوا على أنوار الله، وما حاولوا أن يدخلوا هذا النور في قلوبهم؛ فإنهم أدخَلوا كلَّ أنوار الدنيا إلا نور الله، وسمعوا كل كلام الناس إلا كلام الله ما سمعوه، وقرءوا كل كتب وجرائد الناس ولم يقرءوا كتاب الله، واهتدوا بكل هدي، ولم يهتدوا بهدي رسول الله، فعاشوا في الظلمات، تركوا مصدر النور؛ لأن القرآن سماه الله نوراً، يقول الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [النساء:174].
وسَمَّى رسوله نوراً: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب:45 - 46].
وسمى الله نفسه نوراً تبارك وتعالى، ومن أسمائه الحسنى: النور: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:35].
فإذا اكتسبت الأنوار من عبوديتك للجبار، وقراءتك لكلام الله، ومن الرسول صلى الله عليه وسلم عشت في النور، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ} [الحديد:28] ماذا؟! {نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد:28].
ويقول الله عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] وهل هذا مثل هذا؟! ما رأيكم برجل في ليلة مظلمة كُلِّف أن يعبر الطريق من قرية إلى قرية، وليس معه شيء، فكيف يصل هذا المسكين؟! لن يصل إلا وقد جرحته الحجارة، وأصابته الأشواك، وربما يقع في الحفر، ويسقط ويتعثر في (المطبات)، ويصطدم في الجدران، مسكين، ليس عنده نور.
وآخر كُلِّف بالمشي في نفس الطريق، وقالوا له: خذ (الكشاف)، ثم مشى، إذا رأى حفرة أو جداراً تجنبه، وإذا رأى شوكة تعداها، ويصل إلى المكان الذي قصده سليماً يسألونه: ماذا رأيتَ؟! لا شيء.
لماذا؟ معي نور؛ الحمد لله.
وهذه الدنيا هكذا، أنت مكلف أن تعبر هذه الدار إلى الله، وتمر وتجوز من هذه الدنيا إما إلى الجنة وإما إلى النار، فكيف تمشي بدون نور؟ إذا كانت الرحلة ساعة أو ساعتين فإنك تتعثر فيها إذا كنت بغير نور، فكيف تعيش ستين سنة بدون نور؟! أين هذا النور؟! تذهب إلى شركة الكهرباء؟! لا، هذا نور الدنيا، ينوِّر لك البيت فقط؛ لكن تريد نوراً ينور لك الدنيا والآخرة فبتمسكك بكتاب الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم تحصل على النور.(57/11)
من ظلمات النفاق في أرض المحشر
فهؤلاء الذين لم يكن لديهم نور الإيمان، وكانوا يعيشون في الظلمات، يقولون وهم يرون أصحاب الأنوار الربانية يمشون على الصراط: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13].
يقول المفسرون: {انظرونا} [الحديد:13] لها معنيان: أي انظروا إلينا؛ لكي تنعكس أنوار وجوهكم علينا فنرى الطريق.
وقيل: {انظرونا} [الحديد:13] يعني: انتظروننا، كشخص عنده نور وهو ماشٍ بسيارته، وأنت ليس عندك نور وتطارده، وتمشي على نوره، وفرَّ وتركك، فتقول: على مهلك، دعنا نرى الطريق معك، فيقول لك: إي نعم هذا في الدنيا.
يقولون: فررتم وتركتمونا، انتظرونا نقتبس من نوركم.
{قِيلَ} [الحديد:13] هنا فعلٌ ماضٍ مبني للمجهول بنى الله الفعل للمجهول لماذا؟ قال العلماء: لجهالة المخاطَبين، هؤلاء المنافقون مجهولون عند الله، ولذا لا يستحقون أن يقول الله لهم إلا هكذا، ولا يستحقون أن تقول لهم الملائكة إلا هكذا، ولا يستحقون أن يقول لهم المؤمنون إلا هكذا، وإنما (قيل) من القائل؟! مجهول، {قِيلَ ارْجِعُوا} [الحديد:13] ابحثوا لكم عن نور من الوراء، {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} [الحديد:13] اذهبوا إلى الدنيا، هذا نورنا تزودنا به من دار العمل، ارجعوا وراءكم، ابحثوا لكم عن نور، يقول العلماء: إن في هذا نوعاً من التهكم بأهل النار والمنافقين؛ لأنهم يحوِّلونهم إلى المستحيل، {ارْجِعُوا} [الحديد:13] وهم يعلمون أن الرجعة مستحيلة.
وقيل: إن في هذا لفت نظرهم إلى النار؛ لأن النار من ورائهم، يقولون: ابحثوا لكم عن نور من النار، والنار ليس فيها نور، نار الدنيا فيها نور؛ لكن نار الآخرة لا نور فيها؛ لأنها مظلمة؛ أوقد الله عليها ثلاثة آلاف سنة، ألف سنة حتى احمرَّت، ثم ألف سنة حتى ابيضَّت، ثم ألف سنة حتى اسودَّت، فهي سوداء مظلمة كالليل البهيم، نعوذ بالله وإياكم من النار.
{قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] يفصل الله بين أهل النور وهم المؤمنون -جعلنا الله وإياكم منهم- وبين أهل الظلمة -نعوذ بالله وإياكم منهم- وأنت هل تريد النور، أو الظلمة؟! لا بد أن تعلم من الآن، بعض الناس يقول: أريد أن أكون مع المؤمنين؛ لكن لا أعمل، مثلاً: شخص بنى عمارة وقال: أريد أن أدخل الكهرباء، ماذا يتطلب الموضوع منه؟! شخص يريد الكهرباء ولم يضعه في المخطط، عندما جاء المخطط الكهربائي قال: لا، لا نريد، وقال للمقاول: انتبه! نحن لا نريد الكهرباء، ثم لما اكتملت العمارة قالوا له: أدخل الكهرباء.
قال: لا.
ودخل في العمارة، هل يستأجرها أحد منه، أو يسكن فيها، لا يريد كهرباء من أساسها؛ لكن نحن حينما نضع مخطط العمارة هناك لوحة اسمها: المخطط الكهربائي، ثم نختار أحسن مخطط، وأحسن منفذ، وإذا انتهى نختار أحسن أسلاك، ومفاتيح، و (أفياش)، وإذا انتهينا ذهبنا لنقدِّم الطلب: هات ملفاً، اعمل، ادفع، قل حاضر، تفضل، خذ.
ارتفعت التسعيرة لا يهم، بسيط، هي كهرباء، لا نقدر أن نعيش من غير كهرباء لماذا وهي نور الدنيا، ونور ستين سنة.
إذاً: نور القبر ما رأيك فيه؟!(57/12)
مواضع التماس الإيمان في الدنيا
أتريد أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار؟! تريد أن يكون معك نور في القبر يضيء لك، وهي الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة نور) فأنت إذا أردت هذا النور اشغل نفسك به، راجع محطات النور هذه المساجد هي محطات النور الربانية، اجعل لك علاقة بها، بحيث أنك لا تغادرها في اليوم خمس مرات، في الفجر والظهر والعصر وأنت الأول، تكتسب الأنوار من محطة النور، ثم اجعل لك ورداً مع القرآن الكريم، اجعل لك ورداً مع السنة المطهرة، اجعل لك موعداً مع العلماء، الآن جلستكم في هذا المجلس هي نور لكم، ليس مني هذا النور؛ ولكنه من الله؛ لأنكم ما جلستم تريدون مالاً، ولا ثَمَّ عشاء بعد الجلسة، وإنما جلستم من أجل الله، والله ما أتى بكم إلا الله تبارك وتعالى، ولا نزكي على الله أحداً، هذه الجلسة نور، وستشعرون وأنتم تخرجون من المجلس كيف هي قلوبكم؟! هل هي مثلما دخلت، أم أنها ازدادت نوراً، إن شاء الله تزداد نوراً.
عندما تجلس في محطات النور، وتجلس عند العلماء والدعاة يزيدك الله تبارك وتعالى نوراً، إي نعم، {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} [الحديد:13] الذي من جهة أهل الإيمان -اللهم ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين- وما أفقرنا أيها الإخوان! وما أحوجنا إلى رحمة الله في الدنيا والآخرة -اللهم ارحمنا برحمتك في الدنيا والآخرة.
الملائكة تدعوا لكم يا إخواني! وأنتم في هذا المجلس، ملائكة الرحمن، وحملة العرش، يقول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] أي: لكم {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ} [غافر:7] لأهل صفتين: {لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر:7] ثم ماذا؟ {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر:7].
أول شيء: التوبة، بعض الناس يتبع سبيل الله وهو على المعاصي، ما نَصَح؛ لأنه يبني ويهدم، تراه يصلي ويذهب ليغني، يصلي ويذهب ليطارد النساء في الشارع، يصلي ويذهب ليدخن عند باب المسجد هذا ما تاب.
أول شيء: (التَّخْلِية) كما يسميها العلماء، إذا كان عندك كوب مملوء بالتراب، وأردت أن تشرب في هذا الكوب لبناً أو ماءً فماذا تعمل؟ وماذا ينبغي لك أن تفعله؟! العقل يقول لك: صُب التراب من الكوب، ونظِّفه، ثم ضع فيه ماءً أو حليباً واشرب؛ لكن لو قال لك واحد: اغسل كوبك من التراب؛ لكي نصب لك فيه حليباً أو ماءً، فقلتَ: لا، ما يهمك، يصلح، ضع الحليب على التراب، ماذا يحصل؟! هل تشرب بعد ذلك؟! هل تنتفع بالحليب؟! لا، رغم أنه حليب؛ لكن وضعته على تراب، كذلك بعض الناس يضع طاعةً، وصياماً، وصلاةً؛ لكن يضعها على تراب في قلبه، قلبه مملوء بالزيغ والضلال، نظف قلبك، ولهذا الملائكة تقول: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر:7] أي: أقلعوا عن الذنوب {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر:7 - 9] هذه دعوة من الملائكة، اللهم استجبها يا رب! فينا وفي إخواننا المسلمين، تدعوا لك الملائكة أن الله يقيك السيئات، أي: يحميك من الذنوب، ثم قالت: {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر:9] أنت تعرف الآن هل أنت ممن رحمك الله، أم لا؟ إذا رأيت نفسك وعرضتها على المعاصي والسيئات، فإن كنت صرفت نفسك، أعانك الله، فقد رحمك الله، وإن كنت وقعت فمسكين، ابحث عن رحمة الله، وهذه في يديك، وأنت تمر على مؤشر المذياع على أغنية سيئة، إذا أبعدتها فقد رحمك، وقاك السيئة {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:9].
هذا هو الفوز، هذه هي العزة، هذا هو الانتصار أن تنتصر على نفسك وشهوتك، وإن من ينتصر على نفسه سيكون حرياً بالنصر في كل ميدان؛ لكن المهزوم داخل نفسه كيف ينتصر على غيره؟! ولهذا تجد بعض الناس مهزوماً أمام سيجارة، أو منظر امرأة، يقف في الشوارع والطرقات، ويخرج إلى الأسواق ويتلصص بعين سقيمة مريضة إلى محارم الله، تراه مثل الكلب يُشَمْشِم، هذا مهزوم، لا يصلح؛ لكن ذاك المنتصر إذا رأى امرأة يقول: صحيحٌ أنه منظرٌ جميل، لكن طاعة الله أحلى، عذاب الله أقوى، أنا أقارن بين لذة المعصية وبين عقوبتها فأجد أن لذتها بسيطة، وعقوبتها طويلة عظيمة، إذا كان (مَن ملأ عينيه من الحرام ملأهما الله مِن جمر جهنم) و (من استمع إلى الغناء صبَّ الله في أذنيه يوم القيامة الآنك -أي: الرصاص المذاب-) إذاً كيف تعمل؟! صعب جداً عليك أيها الإنسان.
إذاً: {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر:9] اللهم قنا السيئات يا رب العالمين.
هكذا أيها الإخوة: السورة من أولها إلى آخرها تبدأ وتطوف وتحدد هذه المعاني العظيمة: فأولها: يدلك على الخالق: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام:1] وهو الرازق، {يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام:14] رزق العباد كلهم عليه، نفقة العباد كلهم عليه، ثم إنه مالِك؛ صاحب قدرة، الناس كلهم في قبضته، مَن الذي يستطيع أن يخرج عن قبضة الله؟! مَن الذي يستطيع أن يمتنع عن الله؟! والله لا غني يمتنع بغناه، ولا قوي يمتنع بقوته، ولا ملك يمتنع بمُلكه، ولا صاحب مال يمتنع بماله، وإنما الناس كلهم ضعفاء أمام قوته، فهو المالك المتصرف في الكون ومن فيه، بيده مقاليد الليل والنهار، بيده ملكوت السماوات والأرض، {يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون:88]، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:6] وهو العليم بالغيوب والأسرار، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] لا إله إلا الله! ولو كانت ورقة من شجرة في صحراء تنزل {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} [الأنعام:59] لا إله إلا الله! هل يُعْصى هذا الرب؟! أين أنت يا إنسان؟! إذا كانت الملائكة لا تعصي الله لأنها عرفت الله، عرفته المعرفة الحقيقية، يقول عليه الصلاة والسلام: (أطَّت السماء -أي: احدودبت وانحنت- وحُقَّ لها أن تئط، فما فيها موضع قدم إلا وملك راكع أو ساجد، يسبحون الليل والنهار) مِن الملائكة مَن هو راكع من يوم أن خلقه الله إلى يوم القيامة، وإذا بُعِثَ ونُفِخ في الصور بُعِث وهو يسبح ويقول: سبحانك! ما عبدتك حق عبادتك.
{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20]، يقول صلى الله عليه وسلم، وهو يتحدث عن ملك من حملة العرش، والحديث ذكره السيوطي في الجامع الصغير وصححه الألباني، يقول: (أُذِنَ لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقة مسيرة سبعمائة عام) هذا رقبة الملك وما بين شحمة الأذن إلى العاتق مسيرة سبعمائة سنة، إذاً: كيف الباقي؟ لا يعلمه إلا الله.
وجاء في الحديث الصحيح عن وصف جبريل أنه: (جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد فَرَد اثنين من أجنحته، فسَدَّ ما بين الخافقين) ما بين المشرق والمغرب، اثنان فقط، بقي بعدهما خمسمائة وثمانية وتسعون جناحاً، له ستمائة جناح، اثنان سَدَّا ما بين المشرق والمغرب.(57/13)
العلم بالله يورث الخشية والتأدب مع الله عز وجل
فهذه الملائكة رآها الرسول صلى الله عليه وسلم، رأى جبريلَ عند العرش وهو كالحِلْس البالي من خشية الله ومخافته، ومن الذين عرفوا الله: الأنبياء؛ الأنبياء عرفوا ربهم معرفة حقيقية، ولهذا يتأدبون معه، لا يعصونه، وحتى في الخطاب عندما تسمع وتتأمل في القرآن الكريم، تجد خطابات الأنبياء لله تبارك وتعالى عظيمة جداً.(57/14)
أدب عيسى عليه السلام مع ربه وخشيته منه
هذا عيسى عليه السلام يقول له الله يوم القيامة: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:117 - 118].
يقول العلماء: كيف يسأل الله تبارك وتعالى عيسى عليه السلام وهو يعلم أنه ما قال هذا الكلام؟! قالوا: ليقطع العذر على عُبَّاد عيسى، يعني: عُبَّاد عيسى قد يقولون يوم القيامة: إنَّا عبدناه لأنه قال لنا، فالله بدأ بعيسى: أنت قلت لهم يعبدونك وأمك من دوني؟ قال: ما قلت لهم.
فلا يأتي واحد منهم يقول: يا رب! إنَّا عبدناه لأنه قال لنا، انتهى لقد قطع الطريق عليهم من أول شيء؛ لكن انظروا أدب الخطاب مع الله.(57/15)
أدب يوسف عليه السلام مع ربه وتواضعه له
وهذا يوسف عليه السلام يقول: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101].
يقول: أنا لستُ منهم؛ لكن ألحقني بالصالحين، وهو العابد الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم؛ يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام وسائر الأنبياء.(57/16)
أدب موسى عليه السلام مع ربه وافتقاره إليه
وهذا موسى عليه السلام: لما خرج إلى مدين وجاء إلى الظل ورأى الناس يسقون جَلَسَ، ولم يطلب من أحد شيئاً إلا من الله عز وجل وبأدب جم قال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، يقول: الذي يأتي منك يا رب! أنا محتاج له؛ أنا أقبله.(57/17)
أدب أيوب عليه السلام مع ربه وحياؤه منه
وهذا أيوب عليه السلام: (18) سنة وهو مريض ما قال: يا رب! أريد العافية، يستحي، ولما قالت له رحمة بنت يوسف: أنت نبي مستجاب الدعوة، اطلب من الله أن يعافيك.
قال: منذ متى وأنا مريض؟ قالت: منذ ثماني عشرة سنة.
قال: وكم مكثت متعافٍ من قبل؟ قالت: ثمانون سنة.
قال: إني أستحي أن أطلب العافية حتى تبلغ مدة مرضي مدة عافيتي.
يقول: إذا أكملنا ثمانين سنة أخبريني أو أعلميني حتى أطلب من ربي أن يعافيني.
هؤلاء هم الذين يعرفون الله.
ثم لما دخلت دودة في قلبه، ودودة أخرى في لسانه، وبدأت تقرص، لم يبق هناك لحم، لم يبق إلا العظم، وحمى الله لسانه بالذكر، وحمى الله قلبه بالشكر، فلما أن جاءت الدودة تبحث وأرادت لسانه، صاح، وقال: ربِّ {إنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء:83] ولم يقل: فعافني، وإنما قال: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، إن كنت تريد أن تعافيني يا ربِّ، أو تميتني، أو تتركني فأنت أرحم الراحمين، رحمتك أختارها، انظروا إلى الأنبياء!! يقول العلماء: إن الضر الذي مس أيوب ليس ضر الألم، فقد مسه الضر منذ ثماني عشرة سنة؛ لكنه ضر التعطيل عن ذكر الله وشكره، هؤلاء هم الأنبياء.(57/18)
أدب النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه وتحمله لأذى قومه
وهذا محمد صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف وقد رجمه أهلها، وأغروا به السفهاء، وأدموا عقبيه، وطردوه، وبعد أن طردوه صار يمشي في طريق وعرة، يطلع جبلاً، وينزل وادياً، حتى يصل إلى وادي نخلة، وإذا به في الطريق ينزل عليه ملك الجبال بعد أن قال هذا الدعاء: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، إلى من تكلني-إلى أن يقول- إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي) يقول: إن كان ما يأتيني ليس بسبب غضبٍ منك يا رب! فلا أبالي (غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح به أمر الدنيا والآخرة؛ أن ينزل بي سخطك، أو يحل بي عقابك، لك العتبى حتى ترضى) هذا هو الدعاء العظيم.
فالذين يعرفون الله تبارك وتعالى؛ الملائكة، والأنبياء، والصالحون، يعرفون الله فلا يعصونه، وإذا وقعوا في معصية رجعوا إلى الله تبارك وتعالى.
فالله عز وجل هو الذي يقلب القلوب والأبصار كما يقلب الليل والنهار، هو الحاكم في الكون، الأمر أمرُه، والنهي نهيُه، والشرع شرعُه، والحكم حكمُه، لا تحليل لما حرم، ولا تحريم لما أحل، هذا كله من خصائص الرب وخصائص الإله، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] ما دام أنه الخالق لوحده فلا بد أن يكون هو الآمر لوحده، ولا يجوز أن يمارس أحدٌ هذه الأشياء مع الله تبارك وتعالى، أو مِن دون الله؛ لأنه لا يخلق ولا يرزق إلا الله، ولا يحيي ولا يميت إلا الله، ولا يضر ولا ينفع إلا الله، ولا يمنح ولا يمنع إلا الله، فلا يملك أحدٌ لنفسه ولا لغيره شيئاً في الدنيا ولا في الآخرة، فكيف ينافس الله في خصائص الألوهية، ما دام أن كل هذه الخصائص لله إذاً فله الأمر، وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، وهو على كل شيء قدير.(57/19)
عظمة سورة الأنعام ومكانتها
هذه السورة لما نزلت لم تنزل كغيرها من السور، وإنما نزلت بهيئة عظيمة، يروي ابن مردويه بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نزلت سورت الأنعام ومعها موكبٌ من الملائكة سدَّ ما بين الخافقين، لهم زجل بالتسبيح، والأرض ترتج بهم، ورسول الله يقول: سبحان الله العظيم، سبحان الله العظيم) نزلت هذه السورة ومعها موكب من الملائكة نزل مع السورة عددهم سبعون ألف ملك، لهم زجل؛ ولهم صوت بالتسبيح، والأرض بهم ترتج من عظمة هذا الشيء الذي نزل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سبحان الله العظيم! سبحان الله العظيم!) ينزه الله تبارك وتعالى.
هذا الموكب من الملائكة، وهذا الارتجاج في الأرض واضح في السورة، كما يقول بعض المفسرين: إنها هي نفسها ذات موكب، وموكبها ترتج له النفس، ويهتز له القلب، إنها مملوءة بالمواقف، وبالإيحاءات، وبالمشاهد، وبالمعاني، فما جاء في هيئة الملائكة من المعاني موجود فيها.
وتبدأ السورة بمواجهة المشركين؛ الذين يتخذون آلهة ويسوونها بالله، {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] أي: يسوون، حتى إنهم من فرط جهلهم ساوموا النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: اعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، يعني: مبادلة، القضية تجارية، سنة بسنة، فقال الله عز وجل حاسماً للقضية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1 - 6]، دينكم باطل فكيف أتبعه، آلهتكم مزيفة باطلة لا تملك، لا تخلق، لا تعطي، لا جزاء عندها، ولا جنة، ولا نار، فكيف أعبدها، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] مفاصلة؛ ولذا جاءت السورة: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] يتخذون آلهة من دون الله، بينما دلائل التوحيد تجبههم وتواجههم وتحيط بهم في الآفاق، والسماوات والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، بل تلامسهم في أنفسهم وكل ما حولهم، وكل ذرة من ذراتهم، وكل خلية من خلاياهم شاهدة على أن الله واحد
وفي كل شيء له آيةٌ تدل على أنه واحدُ
ولكن ما الذي يحملهم على الشرك؟! إنه الجحود والإنكار، ولهذا يقول الله في السورة: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].
تبدأ السورة بثلاث سمات ترسم الوضع كاملاً: أول سمة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] وفي هذه اللحظة تبدأ تعرض: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام:1 - 2] أعندكم شك بعد كل هذه الآيات؟! {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام:3] ثلاث آيات تغطي الوجود الكوني كله.
الأولى: في خلق السماوات.
الثانية: في الوجود الإنساني كله.
الثالثة: في إحاطة معاني الألوهية كلها.
أي إعجازٍ وأي روعة في كلام الله عز وجل!! إنه كلام الله، لا يمكن ولا يتصور أن هذا الكلام كلام بشر، إنه كلام الله الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
ثم تعرض السورة بعد ذلك موقف المكذبين الذين يرون آيات الله مبثوثة في الكون والحياة مِن حولهم، بل مع أنفسهم، ومع هذا العرض ينكرون، فيأتي التهديد بعرض مصارع الأمم التي كذَّبت، ويتجلى السلطان القاهر الذي أوقع بهم هذه المصارع والقوارع، فيبدوا عجباً موقف هؤلاء المنكرين، {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام:4]، والآية هنا تعني: العلامة والدلالة، ما تأتيهم دلالة، ولا حجة، ولا علامة مِن العلامات التي تدلهم على الله {إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام:4] فماذا ينفع فيهم هؤلاء؟! قال الله: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام:5] هؤلاء الذين كذبوا بالحق المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستهزءوا بالحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يأتيهم الخبر.
تروي كتب السنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم بدر على أهل القليب، وفيهم أبو جهل، وأمية بن خلف، ومجموعة من صناديد قريش، ثم قال لهم: (هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ ثم سكت، ثم قال: أمَّا أنا فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً) قال الصحابة: يا رسول الله! كيف تخاطب قوماً قد جيَّفوا؟! -كفار ماتوا، وانتفخت بطونهم، كيف تكلمهم؟! - قال: (والذي نفس محمدٍ بيده! إنهم أَسْمَع لكلامي منكم) يسمعون كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر مما يسمعه هؤلاء؛ فهو على سبيل التقريع والتوبيخ.
{فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ} [الأنعام:5] إذا قال الله: سوف يأتيهم؛ فمن الذي يرد حكم الله؟! {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * أَلَمْ يَرَوْا} [الأنعام:6] أما عندهم نظر؟! أليس هناك تأمُّل؟! {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} [الأنعام:6] الأمم السالفة مكن الله لهم من القدرات، وأعطاهم من القوى والإمكانات ما ليس لكفار قريش كعاد قوم هود {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:7 - 8] وقوم صالح هم هؤلاء بجانبنا هنا في مدائن صالح، كانوا ينحتون الجبال -بدون جرافات- بأصابعهم، يحفرون الجبال وتحفر لهم، ويبنون في الجبال بيوتاً، ثم يدخلون في الجبل، ويخرِّمونه من الداخل، ويعملون مجالس، وغرفاً، ومستودعات داخل الجبل، ولهذا الذي يمر منها ويراها يبكي، ويمر وهو مسرع -كما جاءت به السنة- لأنها منازل القوم الظالمين، ظلموا أنفسهم، فالله يقول لكفار قريش: {أَلَمْ يَرَوْا} [الأنعام:6]، أما رأوا هذه الأشياء؟! أما سمعوا بعاد، وثمود، والأمم السالفة الذين أفناهم الله؟! أين هم؟! ألم يأخذوا العبرة منهم؟! أليس الذي أفنى أولئك قادر على أن يفني هؤلاء؟! {أَلَمْ يَرَوْا} [الأنعام:6] في هذا لفت نظر قوي: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} [الأنعام:6] فماذا حصل؟! {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [الأنعام:6] وكما أهلكناهم بذنوبهم سوف يهلك الله كل صاحب معصية وذنب ويؤاخذه {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} [الأنعام:6] عملية تجديد للبشر، يأتي أناس ويذهب آخرون، والذي يذهب يذهب بما عمل، والذي يأتي يأتي ليجد ما يعمل، وكلٌّ يمر واللقاء عند الله تبارك وتعالى.(57/20)
كن مع الله كما يحب؛ يكن الله معك كما تحب
يقول الله تبارك وتعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل:89] {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [النمل:89] مَن عمل في الدنيا حسنات وجاء بها، فله خير من هذه الحسنات، {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [النمل:89 - 90] {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} [النمل:90] كيف تريد أن يعطيك الله جائزة حسنة وأنت جئت بسيئة؟! {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا} [النجم:31] أي: بالسوء، {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31] إذا أردت أن يكون الله لك كما تريد، فكن أنت لله كما يريد.
إذا أردت أن يكون الله لك كما تريد: رحيماً.
غفوراً.
ودوداً.
يدخلك الجنة.
ينجيك من النار.
يجعل قبرك روضة من رياض الجنة.
يجعلك في درجات عالية.
يعطيك النعيم؛ فكن أنت له كما يريد.
ماذا يريد منك أن تكون؟ يريدك أن تكون: عبداً.
طائعاً.
تواباً.
منيباً.
خائفاً.
وجلاً.
مشفقاً.
في قلبك مثل النار.
كأن النار ما خلقت إلا لك.
ترى كل حسنة تعملها تقول: ربما لن يقبلها ربي.
ترى أي معصية تعملها كأنها جبل.
هذا هو المؤمن، يرى الحسنات العظيمة يقول: هذه بسيطة، ماذا فعلتُ؟! ويرى السيئة البسيطة يقول: الله! أنا أعملها؟! أأنظر إلى النساء؟! أأسمع أغنية؟! أأنا آكل ريالاًَ حراماً؟! أأنا أنام عن صلاة مفروضة؟! أأنا أعق والدتي؟! أأنا أرفع صوتي على أبي؟! أأنا أقطع رحمي؟! أأنا أخون؟! أأنا أكذب؟! أأنا أغش؟! أأنا ألعن؟! أأنا أغتاب؟! أأنا أنم؟! حاسب نفسك، أنت بهذا الوضع تكون لله كما يريد، فيكون الله لك كما تريد، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89] {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} [النمل:89] ليس معه إلا الذي جاء به، ماذا تريد من الله أن يعطيك؟ غير الذي جئت به؟! {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:90]، الآن كل واحد منا يأتي بشيء، واحد يأتي بذهب، وواحد جاء ببَعَر -أكرم الله السامعين-، ذهب إلى زريبة الغنم وجمع البعر وملأ حقيبته، ونزل إلى السوق، ماذا سيلقى هذا؟! يلقى بَعَراً، وذاك عندما أتى بالذهب فإنه سيلقى ذهباً.(57/21)
خبر وتعليق
أريد أن أعلِّق على الدرس الذي أعلن عنه فضيلة الشيخ حامد حفظه الله مدير مركز الدعوة والإرشاد بـ جدة، والذي سيلقيه الشيخ الدكتور أحمد بن عبد اللطيف العبد اللطيف، وموضوع الدرس: الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
هذه أيها الإخوة! بشرى حقيقية لأهل جدة، وهي فضل من الله ورحمة ونعمة؛ أن يأتي العلماء من أماكنهم ليلقوا الدروس عليكم في هذه المدينة الطيبة الطاهرة إن شاء الله، وخصوصاً أصحاب الاختصاص؛ الدكتور أحمد معروف لدى طلبة العلم، ومعروف لديَّ أنا شخصياً، ولا أزكِّي على الله أحداً، معروف بالفضل والعلم والنبوغ، فقد كان أحد المناقشين لي في رسالتي للماجستير، وقد عرفت منه العلم والغزارة والاطلاع والعمق.
وهذه الرسالة رسالة الإمام ابن تيمية كتبها لأهل تدمر، تتحدث في مضمونها عن مجمل اعتقاد السلف؛ العقيدة الصحيحة لسلف هذه الأمة تضمنتها هذه الرسالة، فبناها على ثلاثة أشياء: على مَثَلَين.
وعلى أصْلَين.
وعلى سبع قواعد.
من أدرك المَثَلَين، وعرف الأصْلَين، وعرف السبع القواعد عَرَفَ مجمل اعتقاد السلف.
وهذه الرسالة ليست سهلة، فهي من أصعب الكتب لطالب العلم، وقد مرت بي أنا؛ كانت مقررة علينا في السنة الأولى، في كلية الشريعة، سنة: (1396هـ)، يعني: قبل عشرين سنة، لكن الجامعة فيما بعد -جامعة الإمام محمد بن سعود- غيرت المنهج، وجعلتها بعد أن كانت مقررة على السنة الأولى جعلتها مقررة على السنة الرابعة، وكنا نسميها ونحن في السنة الأولى شريعة: إنجليزي الكلية؛ لأنها مثل الطلاسم، مبهمات، ما ندري ماذا يقول الأستاذ؛ لأن ابن تيمية ألَّفها بأسلوب المناطقة، وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية كلام قوي، كأنما يَفْصُل من جبل؛ ولكن إذا وجدتْ هذه الرسالة العالم -ولا نزكي على الله أحداً- مثل الشيخ أحمد، فسيبسطها إن شاء الله وتفهمونها بإذن الله.
ولذا أدعو كل من في المجلس هذا أن يخصص يوم الثلاثاء من كل أسبوع من المغرب إلى العشاء، ساعة لعقيدتك، ساعة لسلامة قلبك من الضلالات، تعرف كيف هي العقيدة، إذا عرفت هذه العقيدة - الرسالة التدمرية - تستطيع أن تقف في أكبر مكان في الدنيا، وأمام أكبر عالم في الدنيا، وتُثْبِت عقيدة السلف؛ لأن عندك قواعد؛ عندك أصلان، ومثلان، وسبع قواعد تبني عليها العقيدة.
أرجو من الإخوة الكرام! طلبة العلم، أن يأخذ كل واحد منهم دفتراً، ويشتري الكتاب -والكتاب موجود في السوق، وله طبعة خرَّجها أحد طلبة العلم، ونال عليها درجة الماجستير- ويحضُر إلى المجلس بعد صلاة المغرب، ثم يعرف أن يوم الثلاثاء هذا اسمه: يوم التدمرية، إن كان معزوماً، فليقل: أنا معزوم من قبل، وإن كان سيسافر، فليجعل السفر يوم الأربعاء، لا يسافر يوم الثلاثاء، مهما كان، استمر مع الشيخ في جلساته، وستجد بإذن الله مصلحة ومنفعة كبيرة، أسأل الله أن ينفعني وإياكم بما نسمع وبما نقول.(57/22)
الأسئلة(57/23)
أهل الكلام وخوضهم في الأسماء والصفات بغير علم
السؤال
صدرتَ كلمتَك بالتعريج على التوحيد، وذكرت في كلمتك: ونترك متاهات العلماء بخصوص الكلام عن التوحيد.
فما المقصود بكلمتك: المتاهات؟ جزاك الله خيراً.
الجواب
المقصود بالمتاهات هو: الخلط في علم الكلام، وعلم الكلام المقصود به كما يعرفه العلماء: هو العلم الذي يتناول قضايا الأسماء والصفات والخوض فيها.
والذي ينصح به العلماء والذي هو معتَقَد أهل السنة والجماعة هو: إثبات الأسماء والصفات بمعانيها ومدلولاتها الشرعية واللغوية أيضاً، من غير تكييف لها ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل.
هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة.
أما الذين خاضوا في الكلام وخرجت بهم أفكارهم عن مدلولات الشرع، وعن نصوص الكتاب والسنة وأخضعوا القضية لعقولهم فقد ضلوا، وما وصلوا إلى شيء، بل -كما ذكرتُ لكم- ماتوا وهم لم يعرفوا شيئاً.
هذا هو المقصود.(57/24)
مخالطة الناس ودعوتهم إلى الهداية والصبر عليهم ونصحهم
السؤال
أنا شاب موظف ويوجد لديَّ زملاء هداهم الله ولكنهم يفعلون كثيراً من المعاصي، منها: ترك بعض الصلوات، والتخلف عن الجماعة، وشرب الدخان، والغيبة، والنميمة، وسب العلماء، والاستهزاء بالشباب الملتزمين، فما هي نصيحتكم لي.
هل أبقى معهم أم لا، مع أنني مستمر في نصحهم؟
الجواب
مخالطة الناس، وتغيير وضعهم، والصبر على أذاهم أفضل في نظر الشرع من اعتزالهم؛ لأن الاعتزال عمل سلبي يقدر عليه كل واحد، ولكن الإيجابية في أن تختلط بالناس صعبة، ولكن بشرط: أن تؤثر فيهم بالخير، ولا يؤثرون فيك بالشر، شأنك في ذلك شأن المصلحين، أو الأطباء، فالطبيب إذا دخل بين المرضى أعطاهم الدواء، وامتنع عن أخذ الداء؛ لكن إذا انعزل عن المرضى وقيل له: هنا مرضى، قال: أنا لا أحب المرضى ولا أقدر أن أدخل عليهم، وأنا طبيب سأقعد لوحدي، ابحثوا لي عن أناسٍ أصحاء أجلس معهم، هل هذا يسمى طبيباً؟! لا.
فأنت أيها الرجل الصالح! أيها الأخ الملتزم! ما دام أن عندك زملاء مرضى؛ إما بالمعصية، أو بالفسق، أو بالاستهزاء، وهذا كفر -والعياذ بالله- لأن الاستهزاء بالله يصل بالإنسان إلى درجة الكفر -والعياذ بالله- فأنت مطلوب منك بحكم موقعك وعملك معهم أن تعالج أمراضهم، وأن توجههم، وتستمر في نصحهم، ولا تستعجل منهم الهداية، فإن الله لا يعجل لعجلة أحد، الهداية بيد الله، والله ليس على ما تريد، إي نعم، أنت على مراد الله، عليك الإبلاغ والنصح، والله هو الذي يتولى الهداية، وقد تستمر في النصح شهوراً وسنوات ولا يستجيب الله.
لكن متى يلزمك أن تنتقل من هذا المكان؟! إذا رأيت عليك خطورة منهم، بحيث أنهم أصبحوا يشككونك، أو يؤثرون فيك، أو لا يسمعون كلامك، أو أنت نفسك لم تعد تدعوهم، لا بد لك أن تنجو بجلدك وتفر منهم.(57/25)
أهمية العلم ومكانته في مواجهة أهل البدع والخرافات
السؤال
هذا سائل من إحدى البلاد الإسلامية طلب مني أن أكتب له هذين السؤالين، يقول: إنه في ذلك البلد من قبيلة مسلمة ولله الحمد؛ ولكنهم يعملون أعمالاً تتنافى مع العقيدة، مثل: التوسل بأهل القبور، وطلب الأشياء منها، وعدم الصلاة، والذهاب إلى الكهنة والمشعوذين، وما إلى ذلك من الأعمال التي تتنافى مع كمال التوحيد، وأنهم يضغطون عليه، ويسخرون منه؛ لأنه متمسك بدينه، وهو يحاول نصحهم وإرشادهم إلى آخر سؤاله.
ثم يقول: نرجو من سماحتكم نصحه وإرشاده كيف يتعامل معهم، وكذلك نرجو أن تقدموا نصيحة لهؤلاء القوم لأنه يريد أن يعرض هذا الشريط عليهم إن شاء الله؟!
الجواب
أولاً -أيها الإخوة- إن من فضل الله عز وجل على كثير من إخواننا المسلمين، أن جاءوا إلى هذه البلاد، جاء بعضهم للحج أو للعمرة أو للعمل والتكسب؛ لكن المفروض عليهم والمطلوب منهم أن يتزودوا بالعلم الشرعي المتاح في هذا البلد، وخصوصاً العقيدة الخالصة من شوائب الشرك، والبدع، والخرافة، وقد مَنَّ الله تبارك وتعالى على هذه البلاد بالعلماء الربانيين الذين يبيِّنون للأمة أصول دينها، وصحيح عقيدتها، المأخوذة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لا يوجد عالم من العلماء الربانيين يأتيك ويقول لك: هذه عقيدة إلا ويعطيك دليلاً من كتاب أو سنة.
لا يوجد من يقول: قال شيخي، وقال الولي، وقال العارف، لا: بل قال الله، قال رسوله.
فإذا رزقك الله الإقامة هنا فينبغي لك أن تركز على علم العقيدة، ثم إذا ذهبتَ إلى بلدك، فلتحمل معك مع الهدايا، ومع الريالات، تحمل معك هذا العلم، وشيئاً من الكتب الشرعية والأشرطة من أجل أن تبدأ الدعوة هناك، وتبدأ التعليم، ولا شك أنك قبل أن تبدأ بالتعليم يجب أن تكون أيضاً على علم؛ لأنك إذا وقفت هناك وجادلت من عنده علم، وليس عندك علم فلا شك أنك ستكون مفلساً؛ لكن إذا تضلَّعت بالعلوم والأدلة من كتاب الله، ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وواجهتهم، فإنك ستواجههم بقوة وبحزم، ولن يستطيعوا مقاومتك؛ لأنهم يفتقرون إلى الدليل، وأنت عندك النور: الكتاب، والسنة.
ثم لا تتصور أن القضية سهلة؛ لأنهم عاشوا على هذا الفكر أو على هذا الأمر منذ سنين، فسيكون تغييرهم صعباً، فلا بد من الصبر، وابدأ بطلبة العلم، وبمن عنده رغبة في الخير والحق، ولا تأتِ إلى المتصلِّب، والمتعصب، ولا إلى الذي قد امتلأ رأسه من هذا الضلال، دعه واشتغل بغيره من الناشئة، كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما جاء إلى مشركي مكة كان تركيزه على الشباب، أما صناديد قريش لم يكن فيهم مصلحة، يعني: تضييع للوقت معهم، فكان يهتم بالشباب، ويهتم بالضعاف، ويهتم بالموالي، فهؤلاء اهتدوا، وأجرى الله عز وجل التغيير في الأرض على أيديهم.
فأنت إذا جئت فلا تبدأ بالعلماء الكبار؛ لأنك إذا أتيت بدعوة التوحيد إلى هؤلاء فكأنك تنافسهم أو تزيلهم من مواقعهم، فيتصدون لك؛ لكن دعهم على ضلالهم، وابدأ بمن تستطيع أن تصل إليه.
حتى تتمكن وتنتشر الدعوة ثم ادع الكبار.
أما النصيحة إلى هؤلاء فنقول لهم: اتقوا الله تبارك وتعالى، واعلموا أنه لن يمنعكم من الله أحدٌ، ولن يقبل الله عزَّ وجلَّ منكم عبادة، إلا إذا توفر فيها شرطا العبادة الصحيحة: الشرط الأول: أن تكون خالصة لوجه الله.
الشرط الثاني: أن تكون صواباً على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأي عبادة، أو عمل يتقرب به العبد إلى الله إذا لم يكن فيه إخلاص ومتابعة، فهو مردودٌ وباطل، وما نلمسه أو نسمعه من شتى بقاع الأرض من عبادات وأذكار، وطواف بالقبور، وذبح ونذور للأضرحة، كل هذا ليس عليه أمر الله، ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو لا يخلو من الشرك أو البدع والخرافة والعياذ بالله.(57/26)
الحجاب ستر وعفاف وعبادة
السؤال
مِن أسباب فتنة بعض النساء للرجال: جهلهن بصفة الحجاب الشرعي وحكمه، فنأمل من فضيلتكم بيان ذلك؟
الجواب
الحجاب أيها الإخوة! كما سبق وأن قلنا: هو دين وشريعة، تعبَّد الله المرأة به، كما تعبَّدها بالصلاة وبالزكاة وبالصيام وبالحج، أيضاً تعبَّدها بالحجاب، فالذي شرع الحجاب هو الذي شرع الصلاة، والذي أمر بالحجاب هو الذي أمر بالزكاة، فالمرأة تمارسه لا على أنه عادة، أو أنه تقليد، أو أنه نوع من الكبت، لا، بل تمارسه لأنه مأمور به شرعاً، تلبس الحجاب وهي تستشعر وقوفها بين يدي الله، فإذا استشعرت هذا، وجدت لذة وأنساً وطعماً لهذا الحجاب، الذي تنفِّذ فيه أمر ربها وخالقها.
الحجاب أيها الإخوة! الحجاب ليس جلباباً فحسب، بل الحجاب عقيدة ودين، مَن الذي أمر أيها الإخوة! أيها الأخوات! يا من تسمعون كلامي في المسجد أو في خارج المسجد! مَن الذي أمر بالحجاب؟! إنه رب الأرباب، إنه الله، يقول الله للنساء: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ} [النور:31] بدأ الحجاب هنا {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ} [النور:31] الخمار هو: الغطاء الذي تغطي به رأسها، تضرب المرأة بخمارها على جيبها {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] أي: مروراً بوجهها، {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا} [النور:31] لثمانية أصناف من الأقارب، وأربعة من غير الأقارب، {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] البعل، وهل يحتاج الأمر إلى بيان هذا، معروف أن المرأة تبدي زينتها لبعلها؛ لكن لماذا الله يذكرها؟! لبيان أن غيره حرام، {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور:31] أبوها؟! ينص الله على أنها تكشف وجهها له حتى يكون على غيره حراماً، {أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] أبو بعلها، {أَوْ أَبْنَائِهِنَّ} [النور:31] أولادها، {أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] ولد زوجها من غيرها، وهي عمَّته، {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ} [النور:31] إخوتها، {أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ} [النور:31] أبناء أخيها، {أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} [النور:31] أبناء أختها، فقط، وقُفِلَ الطريق، لم يعد هناك أحدٌ من الأقارب.
أما ولد العم، وولد الخال، والجماعة؟! لا، (الحمو الموت)، فأخو الزوج هو الموت؛ لأنه أجنبي، لو مات الزوج لتزوجها بعده، ما الذي يمنع؟! فلا يجوز.
أما الأربعة من غير الأقارب {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور:31] المرأة تكشف على المرأة، {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور:31] امرأة غنية وعندها عبد مملوك ملك اليمين فهي تكشف عليه؛ لأنها سيدته؛ ولكن لا تكشف عورتها، {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور:31] التابع للزوج، كالخادم، والسائق، والعامل، وأي واحد يتبع الزوج، تحت كفالته، أو تحت سيطرته وهيمنته؛ لكن بشرط أن يكون هذا السائق أو هذا العامل مَخْصِيَّاً، هذا كلام الله، {أَوِ التَّابِعِينَ} [النور:31] ماذا؟! {غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ} [النور:31] يعني: مَخْصِيَّاً، ليس معه ما مع الرجال؛ لكن إذا كان السائق ليس مَخْصِيَّاً، وتجعله يوصل المرأة؟! أين الغيرة يا إخواني؟! لا إله إلا الله! إنا لله وإنا إليه راجعون! والله مصيبة! أشهد بالله أنَّا نضحك مما يُبْكى منه يا إخواني! ثم قال بعدها: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ} [النور:31] الطفل؟! الطفل له قيود؟! نعم، ولو كان طفلاً، بشرط: أن يكون الطفل هذا لم يظهر على عورات النساء، أما لو كان رجلاً بالغاً فهذا ليس فيه خلاف سواءً ظهر أم لم يظهر؛ وإذا كان طفلاً عمره ست سنوات، ويعرف كيف يميز الجميلة من القبيحة فإن المرأة تحتجب منه؛ لأن بعض الأطفال ولو كان عمره خمس سنوات تجده ذكياً مميزاً، يدخل البيت ويرى المرأة ويصورها كلها ماذا بك؟! دخلت البيت وفيه امرأة جميلة.
فهذا يجب أن تحتجب منه؛ لأنه يعرف الجميلة من القبيحة، {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31].
هذا كلام الله يا إخواني! فالمرأة المؤمنة تمارس الحجاب على أنه طاعة، ولذا تلبسه وتهتم به، بأن تغطي كل شعرة، وظفر وبشرة منها، لا يظهر منها شيء، تلبس القفازين في يديها، وتلبس (الشراب الأسود) في رجليها، وتلبس الحذاء العادي الذي ليس بكعبٍ؛ لكي لا يرفع عجيزتها، وتلبس الغطاء المتين الذي لا يصف ولا ينمُّ عن وجهها، وتلبس العباءة المسيطرة والمهيمنة على كل جسمها، ثم إنه ليس هناك عباءة مزركشة، في لبس المرأة المسلمة سمعنا الآن أن هناك -وقد رأينا- عباءات مطرَّزة، هذه لم تعد عباءة، ولم تعد حجاباً، هذا الحجاب أصبح فتنة.
وسمعنا الآن أن نساءً يلبسن كاباً، ما هو الكاب؟! الكاب: مثل ثوب الرجل، ترى صدر وثدي المرأة، وكتفيها، ورقبتها، ومؤخرتها، لا يصلح هذا، لا بد من عباءة من رأسها إلى قدميها، بحيث لا يدري الناس ماذا تحته، فقط يرون شكلاً أسوداً؛ لكن الكاب يفصِّل المرأة، وترى كل شيء في المرأة، بدلاً من أن تلبس الثوب الأحمر، أو الأخضر، فلتلبس الثوب الأسود، هذا هو الأصلح، وبعضهنَّ تلبس شيئاً مثل البِشْت على رقبتها كأنها رجل، لا بد أن تلبس العباءة من فوق رأسها إلى أسفل قدميها وتسحبها؛ لأن بعض النساء الآن بدأن يرفعن العباءات إلى نصف الساق، ونخاف من أن ترتفع إلى الركبة، الرجل يرخي ثوبه، والمرأة ترفع ثوبها، بالعكس، الله يأمرنا بأن نرفع ثيابنا، والنساء تسحب ذيلها؛ لكن نحن بالعكس؛ الرجل يرخي، والمرأة ترفع، لا حول ولا قوة إلا بالله! ولا تتبرج بعطر ولا برائحة، وتلزم جانب الطريق، إذا خرجت المرأة في أي طريق لا تلتفت، لا تطالع إلا في موضع قدمها؛ لأن الالتفات دليل الرغبة في التفات الغير، فإذا رأى الناس واحدةً تتلفت هنا وهنا قالوا: والله إنها تبحث عن شيء؛ لكن عندما يرونها ماشية في الطريق، لا تلتفت لا يميناً ولا يساراً؛ فإن الرجل يعرف أن هذه ماشية مستقيمة، هذه (لا تعرف اللف ولا الدوران).
فلا تلتفت، ثم تلزم جانب الطريق، وتلتصق بالجدار، ولا تسلم على أحد، ولا ترد السلام، لماذا؟ لأن صوتها فتنة.
هذا هو الحجاب الشرعي، وما سوى ذلك فهو مغالطة وكذب.
والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(57/27)
تأملات قرآنية في سورة الأنعام [2]
إن المتأمل لآيات سورة الأنعام يجد أنها ناقشت قضية العقيدة بأسلوب عقلي، وبعد أن انتهت من سرد الحقائق التي لا يسع العقل ردها، بينت أن رحمة الله واسعة لكل من سلم بهذه الحقائق، وأوضحت الأجر الجزيل الذي ينتظر هذه الفئة من الناس.
بعد ذلك تحول الأسلوب إلى أسلوب وعيد وتهديد لكل من حمله عناده على التردد في قبول هذه الحقائق فضلاً عن رفضها بالكلية، وقد جاء في إطار ذل بيان مصارع المكذبين، ومصير المعرضين.(58/1)
تفسير آيات الرحمة من سورة الأنعام
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الأحبة في الله: هذا الدرس بعنوان: (تأملات قرآنية) ويأتي ضمن سلسلة الدروس التي هي بهذا العنوان، وتلقى بشكل دوري، مرة في كل شهر، ونتناول فيها بعض المفاهيم والنظرات والوقفات التي تهدي إليها وتدل عليها بعض آيات سورة الأنعام.
والآيات التي سوف نتأملها هذه الليلة هي في سعة رحمة الله عزَّ وجلَّ، وقد جاءت في بيان الله عزَّ وجلَّ أنه كتب على نفسه الرحمة، وجاءت هذه الآية في أعقاب الحديث عن التكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء، وما ختم الله عزَّ وجلَّ به من التهديد المخيف، ومن الوعيد الشديد لأولئك المكذبين والمعرضين، والذين يعدلون بالله عزَّ وجلَّ غيره من آلهتهم المزعومة، ثم ما جاء به من لفت الأنظار، وتوجيه القلوب إلى الاعتبار بمصارع المكذبين من الأمم الغابرة، وأن مصير من يكذب لن يختلف عن مصير أولئك المكذبين.
كما أنها تأتي -هذه الآيات- بعد الحديث الذي عرض حقيقة الألوهية في المجال الكوني والمجال الإنساني، وفي كل مجالات الحياة؛ عرضت حقيقة الألوهية في مجال خلق السماوات والأرض، فافتتح الله عزَّ وجلَّ السورة بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].
ثم لفت النظر من خلال خلق الإنسان من طين: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام:2].
ثم إحاطة علم الله عزَّ وجلَّ بسر وجهر الناس، وبما يكسبونه: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام:3].
تأتي هذه الآيات بسؤال يوجهه الله عزَّ وجلَّ إلى الناس، ويأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم، فيقول ربنا عزَّ وجلَّ للرسول صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام:12] ثم يأمره الله بالجواب، فيقول: {قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام:12] فإنه المالك، ولا يستطيع أحد أن يقول أو يتطاول أو يزعم أن له ما في السماوات وما في الأرض إلا الله، قد يزعم أو يتطاول بعض الناس فيدعي أن له شيئاًَ مما في السماوات والأرض، فقد تقول أنت: هذه أرضي ومزرعتي وعمارتي وشقتي؛ هذه جزئية لك، بقدرك بحسبك، وقد يقول -مثلاًَ- أمير منطقة: هذه منطقتي، ويقول رئيس دولة: هذه بلادي مملكتي دولتي لكن من يجرؤ على أن يقول: الأرض كلها أرضي، والسماء كلها سمائي، وما بينهما وما تحت الثرى لي، وما فوق الأرض والسماء لي؟! من يستطيع إلا الله؟! فالله تعالى يقول: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:12 - 13].(58/2)
تفسير قوله تعالى: (قل لمن ما في السموات والأرض)
هذه المساءلة تأتي لبيان وتقرير، ثم لمفاصلة، ومن ثَمَّ يبدأ التوجيه للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه المواجهة، مواجهة المشركين الذين يعرفون أن الله هو الخالق، وما كان مشركو العرب ينكرون هذه الحقيقة: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] فما كانوا يشركون في الربوبية، فقد كانوا يعرفون أن الخالق هو الله؛ لكنهم لا يتبعون هذه الحقيقة -حقيقة الربوبية- بالحقيقة الملازمة لها، وهي حقيقة الألوهية، فما دام أنه الرب فإنه المعبود لوحده، لكنهم كانوا يفصلون بينهما، ويعبدون آلهة مع الله.
وبدأت المواجهة بتقرير الربوبية من أجل جعلها لازماً للألوهية، فيقول عزَّ وجلَّ: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام:12] التي لا يجادلون فيها، فيقول الله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام:12] ولقد كان العرب -كما قلت لكم- في جاهليتهم أخف ضلالاً من جاهلية الناس في هذا الزمان، لماذا؟ تلك الجاهلية فيها ضلال وزيغ؛ ولكن الجاهلية الحديثة؛ جاهلية البعد عن الله في أبشع الصور، وهي درجة الإلحاد، هذه لا تؤمن بالحقائق، ولا تعرف حقيقة أن الله هو خالق الكون والحياة، والتي هي متعلقة بفطرة الإنسان وبتكوينه، وأن الله هو الذي خلق الإنسان وفطره على الإيمان به، يقول الله عزَّ وجلَّ: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30].
حتى الفطرة المركبة في الإنسان والتي هي أرضية لاستنبات هذا الدين، مُسخت هذه الفطرة وغُيِّرت، وجُعلت مضادة لما يمكن أن يكون صالحاً لإسعاد هذا الإنسان، إنهم كانوا يعرفون ويقرون أن لله ما في السماوات والأرض؛ ولكنهم ما كانوا يرتبون على هذه القضية نتائجها المنطقية من إفراد الله عزَّ وجلَّ بالعبودية والحاكمية في الأرض، وبهذا اعتُبروا من المشركين، وسُميت حياتهم بالحياة الجاهلية، فكيف -أيها الإخوة- بمن يخرجون على أمر الله كله، وعلى اختصاص الله كله، ويزاولون هذا بأنفسهم؟! بماذا يوصفون؟! وبماذا يمكن أن توصف به حياتهم؟! لا بد من إعطائهم صفة أخرى غير الشرك؛ إنها الكفر، والظلم، والفسق، كما قررها الله عزَّ وجلَّ في سورة المائدة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47].(58/3)