فضل صلاتي الفجر والعصر
ويقول عز وجل: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} [المعارج:19] أي: جنس الإنسان فيه هذه الصفة هلوع {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:20 - 23] لا يصلي واحدة فقط وبعدها ينفلت من المسجد أو يصلي المغرب من أجل أنه آتٍ من التمشية، ويصلي الظهر؛ لأنه في الدوام، لكن العصر لا تنظره في المسجد، أين هو؟ قالوا: راقد، لماذا؟ قالوا: جاء من الدوام وهو تعبان، فتغدى ثم رقد ولم يصلِّ إلا الساعة (الخامسة) أو أكثر، وقام قبل غروب الشمس، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تلك صلاة المنافق يقعد يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان -يعني قد بدأت بالغياب هناك- قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلا) ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (من فاتته صلاة العصر حبط عمله) والحديث في صحيح البخاري وقال عليه الصلاة والسلام: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر في أهله وماله ونفسه) وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] الوسطى هي: العصر بإجماع أهل العلم؛ لأنها وسط بين صلاتين في النهار وصلاتين في الليل؛ فصلاتا النهار: الفجر والظهر، وصلاتا الليل: المغرب والعشاء، والعصر بينها فهي الصلاة الوسطى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] وفي الحديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام: (من صلى البردين دخل الجنة) فالعصر فيها برد النهار والفجر فيها برد الليل.
فأكثر الناس لا يصلي الفجر ولا يصلي العصر، وربما يصلي المغرب والعشاء لكن الفجر تجد المسجد الذي فيه صفان ترى فيه (نصف صف) والبقية أين هم؟ كيف يعبدون الله في المغرب ويعصونه في الفجر؟ فهل الصلاة على مرادهم، أم على مراد الله؟! كيف تطيع الله في صلاة وتضيع الصلاة الثانية؟! لقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن: (أثقل الصلوات على المنافقين صلاتي العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوهما ولو حبوا، ولو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً حسناً أو مرماتين حسنتين) المرماتان أي: الضلعين، تلك الأيام أيام الفقر لو يدرون أن هناك لحماً يقسم ويعطى لكل واحد والله لا يتخلف عن الصلاة أحداً (لحضر الصلاة).
يقول عليه الصلاة والسلام: (فرق ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يشهدون الفجر) وهذا الحديث أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم وجعله مقياساً نقيس به الإيمان في صدورنا، لا تسأل هل أنت مؤمن، أم منافق؟ ولكن اسأل نفسك عن الفجر، فإن كنت من أهلها باستمرار فاعلم والله أنك مؤمن، وأن هذه من علامة الإيمان، وإن كنت لا تصلي الفجر ولو حافظت على الصلوات كلها لكنك لم تصل الفجر فاعلم أن هذه علامة النفاق، كما في الحديث: (أثقل الصلوات على المنافقين صلاتي العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا).
والله لو صدر أمر من المسئولين وقالوا فيه: إننا لاحظنا أن الناس تأخروا عن صلاة الفجر، ومن أجل ذلك قررنا صرف مكافأة تشجيعية من أجل حث الناس ودفعهم إلى أداء صلاة الفجر، وقد صدر الأمر بتخصيص عشرة ريالات لكل مصل في المسجد، هل سينام أحد عن صلاة الفجر؟! عشرة ريالات للكبير، وعشرة ريالات للولد، ومثلها للمرأة، وللبنت، والله لن تسعهم مساجدهم، وسوف يبنون مع هذا المسجد مسجداً ويجعلون فيه جزءاً للنساء، ولن يتأخر شخص، ولو أن شخصاً تأخر سيلوم نفسه ويعض أصابعه؛ لأن البيت إذا فيه ستة أشخاص وصلوا وأعطوا ستين ريالاً تأتي بها مقاضي ذاك اليوم كله، وتوفر الراتب.
ولو قام يصلي ورجع إلى البيت وولده ما زال نائماً وقد أقامه هل سيسكت؟ بل سوف يأخذ العصا ويضربه ويقول: يا قليل الخير، ليس فيك رجولة، الناس كلهم بالخارج يصلون في المسجد، والله إن ولد فلان وولد فلان وولد فلان كلهم يصلون إلا أنت يا قليل الخير لا تصلي، إلى الآن وأنت نائم؟!! لكنه يقوم يصلي ويمد البطانية على ولده، ويقول: إنه مسكين كان سهران بالأمس وكان يقرأ الكتب، فإذا جاء وقت المدرسة ضربه وأقامه، ولا يقيمه للصلاة، وإذا قيل له: أقمه، قال: أخاف أن أنفره وأعقده من الصلاة، لماذا لا تعقده من المدرسة؟ لكن الصلاة تجعله نائماً، لماذا؟ لأنه ليس في قلبك خوف من الله، ولا حرص على طاعة الله؛ لأن الصلاة هانت عليك، ولهذا تقوم بها كيفما كان، أما ولدك فلا يشغلك أمره، وأما الدنيا لما حلَّت في قلبك أهمك أمر ولدك فيها، ولو تأخر عن المدرسة يوماً واحداً لضربته وعاقبته.
يقول الله في الصلاة: {إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:22 - 23] دائمون، ثم ذكر الصفات كلها وقال في آخر الآيات: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ * فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ * فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج:34 - 43] الأجداث أي: القبور، سراعاً: هاربين إلى الله: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:44] ذلة: ذلة الكفر والمعاصي والذنوب.
فيا إخواني في الله! الصلاةُ الصلاة، الصلاة عماد الدين، وإنه والله من حفظها حفظه الله وحفظ له كل خير في الدنيا والآخرة، ومن ضيعها فوالله إنه لما سواها أضيع.
وقد ورد في بعض الآثار: [أن تارك الصلاة يموت نصرانياً ويبعث يهودياً، وأنه تنزل عليه في كل ساعةٍ ألف ألف لعنة وألف ألف سخط، وأنه إذا رفع اللقمة إلى فمه قالت له اللقمة: لعنك الله يا عدو الله تأكل من رزق الله ولا تؤدي حق الله.
وأنه إذا خرج من البيت قال له البيت: لا ردك الله من سفرك، ولا خلفك في أثرك، وأن الأرض التي يمشي عليها تلعنه، وأن كل شيء في السماء والأرض يلعنه] فالله قد لعنه؛ لأنه قد قطع الصلة بينه وبين الله عز وجل.(19/16)
ثمار المحافظة على الصلاة
الصلاة -يا عباد الله- إذا وجدت في بيت حلَّت فيه البركة والخير، كما جاء في بعض الآثار: [من حافظ على الصلوات المكتوبة أكرمه الله بخمس كرامات: أولاً: يرفع الله عنه ضيق العيش في الدنيا] لم نعرف أحداً حافظ على الصلاة قد ضيق الله عليه بل كلما ضاقت فرجها الله (احفظ الله يحفظك) احفظ دينك يحفظك الله ويغنيك في الدنيا والآخرة.
[ثانياً: يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب.
ثالثاً: يمر على الصراط كالبرق الخاطف.
رابعاً: يعطى كتابه بيمينه.
خامساً: يمد له في قبره مد بصره] هذه نتائج الصلاة.
أيها الإخوة: إنه والله ما حفظت نعم الله بأعظم من طاعة الله عز وجل، ولا استجلبت نعم الله بأحسن من طاعة الله، ولا نزل البلاء ولا المصائب ولا العقوبات إلا بأسباب معصية الله عز وجل، ونحن في هذا الزمن -والحمد لله على كل حال- نعيش في نعمة ليس فيها أحد، والذي عاش في الفترة الماضية من قبل (30) أو (40) سنة ثم يقيس ما نحن فيه من النعم على ما كان عليه الناس من قبل يعاني ويخاف ولا يفرح بهذه النعمة، الناس في فرحة وهو في خوف في قلبه منها مثل النار؛ لأنها ليست دائمة، ولا عرفها الآباء والأجداد، ويرى أنها لا تقابل بالطاعات، ولله في الكون سنة جارية لا تتبدل أنه فلا يمكن أن يجمع بين نعمة ومعصية.
(النعمة + معصية =عذاب) لكن (نعمة + طاعة =زيادة) والله يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] فنحن نخاف على هذه النعمة التي نحن فيها؛ أمن وأمان، وعافية في الأبدان، وأرزاق تأتي من كل مكان، ولكننا نقابلها بالمعاصي، وما من بيت إلا وفيه معصية، هذه المعصية سواءً كانت مسموعة أو منظورة، أو ترك طاعة أو مخالفة لأمر الله عز وجل، والله يقول في الحديث القدسي: (أنا والإنس والجن في خبر عظيم، أخلقهم ويعبدون غيري، أرزقهم ويشكرون سواي، خيري إليهم نازل وشرهم إليَّ صاعد، أتحبب إليهم بالنعم ويتبغضون إليَّ بالمعاصي).(19/17)
عظات وعبر من حياة الأمم السابقة
أيها الإخوة: لنا فيما ذكر الله في القرآن من الأمم عبرة؛ لأن الله أخبرنا في القرآن بخبر الأمم؛ لنعتبر، فالحمد لله الذي جعل لنا من الناس عبرة ولم يجعلنا للناس عبرة، يذكر الله تبارك وتعالى مثلاً في القرآن عن قوم سبأ في اليمن، يقول الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ} [سبأ:15] آية وعبرة لمن يعتبر {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} [سبأ:15].
أقاموا سد مأرب وضربوه بالرصاص، أي: كان اللحام الذي بين الحجارة وبين الأخرى لم يكن طيناً ولا اسمنتاً ولا مسلحاً بل كان رصاصاً، ولما أراد الله تبارك وتعالى أن يدمرهم بهذا السد؛ لأنهم عصوا وخالفوا الأمر، قال: {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} [سبأ:15] كانت الجنان لما أوقفوا السيل وسدوه ورجع الماء، وأجروا الجداول والأخاديد من الجنب وسقوا به الأرض {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} [سبأ:15] فكانت المرأة تدخل في البستان والمكتل على رأسها، ويداها مسبلتان وتخرج من الطرف الآخر فإذا المكتل قد امتلأ من كل شيء تمد يدها على ثمرة واحدة، جنان دانية، كان الطائر إذا دخل لا يعرف كيف يخرج من تشابك الأغصان {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15] فالأرض طيبة والخيرات متوفرة والرب غفور، فماذا حدث؟! أعرضوا، ولما أعرضوا عذبهم الله، قال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ:16] سماه الله سيل العرم؛ لأنه اقتلع كل شيء، سلط الله عليهم أولاً: جندياً من جنوده، من أضعف جنوده وهو الفأر الجرب؛ والجرب لا يأكل إلا الحب ويقضم الملابس، لكنَّ الله سلطه ليأكل الرصاص والحيود، فأكل السد ونخره، ثم أرسل الله الماء ليعذبهم به فكان يصرم السد مثلما يصرم السيف الزرع صرماً، والماء نعمة ولكن لما كان فيه غضب الله صار عذاباً.
كما صار قبل سنوات، من الذي منكم رأى وادي ضلع يوم أن نزل بالوادي ماء وليس ذلك ماء، كان إذا عرض على العمود الكبير وقد رأيت بعض الأعمدة فيه من الأسياخ والسيخ (32) مليمتر، وفيه أكثر من (25 سيخاً)، ولكن الماء يقصه، ماء يقص هذا؟ إن الماء رحمة لكنه فيه عذاب يأخذ الجسر من طرفه إلى أن يضعه على طرف الجبال، هذا لا يمكن أن يكون ماءً لا بد أن يكون فيه عذاب.
فالله لما أرسل عليهم سيل العرم اقتلع هذا السد ودمرهم وحروثهم وزروعهم وبيوتهم وشردهم في الأرض، ثم قال: {وَبَدَّلْنَاهُمْ} [سبأ:16] بدل ما كانت النعمة والبساتين والأنهار والآبار والخيرات، فلا يعملون ولا يزرعون ولا يبيعون ولا يشترون وإنما كان عليهم أن يشكروا ويعبدوا ويأكلوا من خيرات الله عز وجل، ولكنهم بدلوا وفجروا وكفروا وفسقوا وعملوا المعاصي فدمر الله عليهم الأرض: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ:16] أعطاهم الله بدل البساتين هذه بستانين لكن ما هي أشجارها؟! قال: {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:16] الخمط: الطلح، والأثل: الأثل الطويل الذي ليس فيه ولا ثمرة، والناس لا يأكلون الطلح ولا الأثل سوف يموتون، وحتى لا يموتوا أعطاهم الله السدر لكنه قليل {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:16] لكي يقتاتوا، ولا يموت السدر ففيه النبق، هل تعرفون النبق؟! الثمر الذي كان الناس ينزلونه ويأتون به ويكيلونه مثلما يكيلون الهيل، وكان يؤكل وقد رأيته في السوق قبل سنوات واشتريت منه، وأنا كنت أعرفه أيام الجوع وكان في طعمه لذة ويوم ذهبت للبيت وبدأت آكله وإذا به بلا طعم؛ لأن الجوع هو الذي جعل له طعماً في تلك الأيام، وإلا فهو كالعود، فقد رميناه، قلت لعيالي: كلوا فهذه كانت فاكهتنا قبل زمن، وكانت عبارة عن البرتقال في ذاك الزمان، قالوا: لا نريده، وإذا بهم رموه، كان يأكلونه الأولون لكي يسد جوعهم، تسد شيئاً في بطن الإنسان، قال الله: {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:16 - 17].
فنحن والله -يا إخواني- نخاف على هذه النعمة التي نحن فيها، وانظروا إلى مزارعنا يابسة، ليس فيها حتى قطرة ماء ولا زروع ولا شيء، وماذا كان آباؤنا وأجدادنا يعتمدون عليه من قبل؟ على الله ثم على الزرع، لكن هل أحسسنا الآن بجوع حين يبس الزرع؟! لا، ادخل السوق المركزي في كل قرية، حتى على الطرقات ادخل من الطرف تجد كل شيء، تجد اللحوم والأسماك والدجاج والطيور، وتجد الفواكه والمعلبات والحبوب، وجميع ثمار الأرض موجودة وتشتريها كيفما تشاء، والله ينعم عليك ويقول: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15] لكننا إذا أعرضنا فوالله إن عذاب الله وسنة الله عز وجل واحدة لا تتبدل.
ويضرب الله مثلاً في القرآن فيقول في سورة النحل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} [النحل:112] يقول العلماء: إنها كانت آمنة مطمئنة؛ لأنها استجابت لداعي الله وطبقت شريعة الله؛ فأعطاها الله كرامتين: الأمن والاطمئنان، الأمن: هو أمن الأوطان، والاطمئنان: هو اطمئنان القلوب، فقد يكون بعض الناس آمنين، أي: لا يوجد خوف ولا لصوص لكن ليس هناك اطمئنان في النفس، بل يوجد قلق وحيرة واضطراب، فلا ينام الليل ولا يشعر بأنه مرتاح، لماذا؟ لأن هناك أمناً في الوطن والبلد، وهناك قلق في النفس بسبب الذنوب والمعاصي، فالله عز وجل كافأ هؤلاء الرجال لما آمنوا وصدقوا أن رزقهم الأمان والاطمئنان: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [النحل:112].
مثلما هو عندنا اليوم تجلب لنا الأرزاق وأهلها في حاجتها والله، وما يشبعون منها، كما كنا من قبل كنا ننتج الحب فنأخذ الجيد لنبيعه ونأخذ الغثاء والباقي نأخذه ونأكله وذاك نكنزه لكي نبيعه في السوق، ونشتري بقيمته كسوة لعيالنا، أو أشياء أخرى، فهم يأخذون أحسن ثمارهم ويعلبونها وتأتيك إلى بلدك تأكلها، وهم يأخذون الرديء.(19/18)
الحث على شكر النعم
قال تبارك وتعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل:112] قال لي أحد الإخوة: جنينا على ثلاثة خرفان ونحن خمسة أشخاص، يقول: والله إننا خمسة ومنا صاحب البيت، أي: كان المدعوون أربعة والذبائح ثلاث، هل هذا يرضي الله؟ لا إله إلا الله! والله لو أتى لهم بنصف ذبيحة أو ربعها لشبعوا منها الأربعة، لكن ثلاث ويعتذر ويقول: الحقيقة أنتم أربعة والذبائح ثلاث كان الواجب لكل منكم واحدة، لكن اعذرونا على التقصير، نعذرك على التقصير والله إنه من فضل الله الذي آتاك لكنك ما عرفت طاعة الله ولا عرفت نعمة الله عز وجل، يقول: وقام هؤلاء المعزومون ليأكلوا وهذا عشاء وقد تغدوا عندما أتوا من وظائفهم الساعة الثانية والنصف وما زال الغداء في حلوقهم ولم ينزل إلى بطونهم يقول: وحينما بدءوا يأكلوا الخرفان وماذا يأكلون؟! يقول: كانوا يبعدون الشحم ويأكلون قليلاً جداً من اللحم ويتركون الباقي كما هو، ولا يوزعونه على الفقراء بل يرمونه في القمامة!! يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: (إني أمدهم حتى يرصعونه، ثم أمنعه حتى يشتهونه)، فهذا الأرز الذي نرميه في القمامة ما كان الناس قبلنا يعرفونه، يحدثني والدي يقول: والله كان هذا الأرز عبارة عن دواء إذا مرض أحدنا في أبها قالوا: ابحثوا له عن فنجان أرز عند آل بن عزيز أو عند آل ابن مسمار أو عند الخبارية من أهل أبها ابحثوا له عن فنجان أرز، وما كان في بلادنا أرز، ما كان عندنا إلا الطلح والعرعر، لكن الله رزقنا ثمرات كل شيء، فبدل أن تشكر هذه النعمة -يا إخواني- بدأت المعاصي في الناس، قال الله عز وجل: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] لباس الجوع -أعاذنا الله وإياكم من الجوع- يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنه بئس الضجيع) ويقول: (كاد الجوع أن يكون كفرا).(19/19)
مصيبة الجوع والفقر التي عاناها السابقون
الجوع -يا إخواني- مصيبة! كيف إذا دخلت بيتك -يا أخي المسلم- على زوجتك وأولادك وقالوا: لا يوجد عشاء، تقول: ابحثوا لنا قالوا: لا يوجد شيء، الولد يبكي والمرأة تبكي وأنت جائع وتعرف أنه ما في السوق ولا في الجيب شيء، وهذا والله كان يمر على الناس، كان الرجل إذا رأى الضيف يهرب، ماذا تقدم له فلا يوجد سوق مفتوح، وإن وجد سوقاً مفتوحاً فلا يجد فيه شيء وإن كان فيه أي شيء فلا يوجد مال يشتري به، فقر وجوع ومرض وخوف وهلع لا يعلمه إلا الله، ثم بدل الله أحوالنا كلها، بدَّل الله ملابسنا الآن وأصبحت ملابسنا فاخرة وجميلة ومتنوعة، أما الأولون فكانت ثيابهم كلها شكل واحد مبرم، مبرم كأنه -والعياذ بالله- جلد جمل، وإذا لبس المبرم هذا يلبسه ويصونه، وبعض النساء يأتي لها أولاد ومازال ثوب عرسها معها، وبعض الرجال يلبس ثوبه سنة وسنتين وثلاث، وإذا تمزق يضع له رقعة سوداء أو حمراء أو غبراء أي لون، وإذا تمزق من الركبة يضع له رقعة، وكذلك من مقعدته، وبعدها لا يغسل الثوب، وإذا قيل له: اغسل ثوبك؟ قال: إني إذا غسلته فإنه سيتمزق؛ لأني أريد الوسخ يقويه لكي لا يتمزق وما كانوا يلبسون سراويل ولا فنايل ولا شرابات ولا غتر، ولا بجامات ولا أكوات، ولا مشالح، ولا ثياب صيف ولا ثياب شتاء.
لا إله إلا الله! لا إله إلا الله! من هو الذي في بيته إبرة؟ إذا تمزق الزرار من الثوب هل ترد الزرار؟! لا.
بل يرمي، انقطع ماذا أعمل به؟ ومن هو الذي يرقع ثوبه إذا تمزق؟ لا يوجد شخص يرقع، بل والله يرمونها وهي جديدة وما تمزق فيها شيء، لكن يقول: قد لبسته كثيراً أريد غيره، وبعضهم تدخل دولابه ترى أمامك (20) بدلة و (20) ثوباً من كل شكل، وقد كان الناس من قبل ليس عندهم هذا الشيء، فمفارشنا في الماضي كانت خرائق معلقة لا نفرشها إلا في العيد فقط، وليست هي معلقة دائماً، فإذا أتى الضيف يرقد عليها، وإذا وجد ملحف، فلا تجد فيه شعرة ويفرشونه على الجميع، ثم يأخذون الملحف كلهم ولا يوجد لكل واحد فراش خاص وغرفة نوم يتقلب من طرف الغرفة إلى طرفها (4م × 3م) هذه نعمة أم ليست بنعمة؟! وبعد هذا كله موكيت وكنبات (بترينات) اسفنجات وقطنيات من كل ما لذ وطاب -فنحمد الله الذي لا إله إلا هو- أما المآكل والمشارب فحدث ولا حرج، فأنتم تعرفون ذلك.(19/20)
المعاصي سبب زوال النعم
هذه النعم -يا عباد الله! - والله إننا نخاف عليها، وإن سبب زوالها هي المعاصي يقول:
يا نعمة الله حلي في بوادينا وجاورينا ولا تغدين من داري
أجابت النعمة إن الشكر يلزمني وإن باب المعاصي باب إنداري
والله تبارك وتعالى يقول: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] لقد أصلح الله الأرض بالرسالات والأديان وأفسدها الناس بالمعاصي والعصيان، ولكن الله له سنة، يقول: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] وانظروا إلى من سواكم فوقكم في بلاد الحرمين إلى الذين في الشمال وفي الجنوب، والذين في الشرق والغرب، وكل دولة فيها حرب وضرب وفقر وحروب وأوبئة وكوارث، والله حاميكم في هذا البلد حمانا بماذا؟ هل لأننا صنف ونحن غير الناس؟! لا حمانا ببركة الدين على آثار ما عندنا من الدين ولكن نخاف يا إخواني نغير، والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] ويقول الله في الحديث القدسي: (وعزتي وجلالي ما تغير عبد من عبادي مما أكره إلى ما أحب إلا تغيرت له مما يكره إلى ما يحب، وعزتي وجلالي ما تغير عبد من عبادي مما أحب إلى ما أكره -يعني من المعاصي- إلا تغيرت له مما يحب إلى ما يكره) وإذا عذب الله الناس في الدنيا فإنه يعذبهم عذاباً عاجلاً: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الزمر:26].
وتعرفون القصة التي ذكرها الله عز وجل في سورة القلم عن أصحاب الجنة وأصحاب البستان، يقول الله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} [القلم:17] أي: اختبرناهم: {كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم:17] هؤلاء مجموعة من الأولاد كان أبوهم صالحاً وكان لهم بستاناً، وكان هذا الأب الصالح إذا خرجت غلة بستانه وزروعه قسمها ثلاثة أقسام: قسم يأكله هو وأولاده، وقسم يتصدق به لله، وقسم يرده في المزرعة، ولكن أولاده لا يريدون هذه القسمة، فحين مات أبوهم اجتمعوا وقالوا: إن أبانا ضيع رزقنا، لماذا يعطي الفقراء الثلث والله هذا حقنا ولا يخرج منه حبة واحدة، فاجتمعوا في الليل، {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا} [القلم:17] كلهم حلفوا: {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم:17] أي: في الصباح {وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ} [القلم:18 - 21] قاموا كلهم يتنادون قبل الفجر وقالوا: نحصده مبكراً أن يأتي الفقراء، أي: إذا تأخرنا سيدخلون علينا في البستان: {أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} [القلم:24] لا يدخل شخص فقير: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم:25] لكنهم تمالوا على الفسالة فالله يسري عليها بالليل، قال الله: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:19 - 20] ما صرمها الله لهم لكي يكفيهم حتى يروها جاهزة، بل صرمها وأعدمها وأحرقها، حتى أنهم ما عرفوا بلادهم: {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} [القلم:26] نحن ضائعون ليست هذه بلادنا، أين مزرعتنا؟! أين بستاننا؟! أين ضعنا؟!: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28] اذكروا الله: {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [القلم:29] {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} [القلم:32] ثم قال بعدها: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} [القلم:33] أي: هذا عذاب الدنيا: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم:33].
فنحن لا نخشى أن تزول منا هذه النعم، وإذا زالت فوالله إنها مصيبة، والله إنه يموت أكثر الناس ويؤلمه الجوع ولا أحد يرى شيئاً من هذه الفواكه ومن هذه الخيرات، إن أكثر الناس يموتون جوعاً، ولكن نخشى أن ينزل العذاب وتزول النعم وعذاب آخر وهو عذاب الله في الآخرة، ولكن إذا أردنا النعيم الذي بين أيدينا يكثر يزيد والذي ينتظرنا عند الله عز وجل يزيد فلنتمسك بطاعة الله؛ لأننا إذا تمسكنا بطاعة الله تبارك وتعالى أعزنا الله في الدنيا والآخرة، يقول الله تبارك وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10].(19/21)
الحث على تقوى الله وطاعته وحضور مجالس العلم
أيها الإخوة: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، والمحافظة على طاعة الله، وإن من أعظم طاعة الله هذه الحلقات المباركة التي يسعى إليها إخوانكم وأبناؤكم -بارك الله فيهم- في هذه القرى، هم لكم والله نور -يا إخواني! - وبعض القرى ليس فيها شخص داعية، بل بعض القرى نشأ منها نشء -والعياذ بالله- جروا على أهلهم الضلال والفساد، ولكن الله نور قلوبكم بأبنائكم وجعل فيكم من يدعوكم إلى الخير، وإلا كان بإمكانهم أن يذهبوا ويستمعوا الندوات في أبها، ويحضرون مجالس العلم وأهل القرى يرفضون المجيء، لكنهم يحبونكم ويعطفون عليكم ويقولون: نريد ندوة في كل مكان وفي كل قرية، والله إنها نعمة -يا إخواني- إن العلم يدعوكم ولا تأتون له، فلا بد من الحرص على هذه الندوة والمحافظة عليها، وأن يكون هذا موعداً رسمياً، أي: لا يمكن أن أتخلف عنه، وإن عزمت، قلت: لا والله أنا معزوم، أين؟! عند رب العزة والجلال على مائدة الله عز وجل، لكن بعضهم يعزم على أرز ولحم ويترك مائدة الله التي فيها قال الله وقال رسوله، وتلك عنده أحسن من هذه، وهو محتاج لكنه خسران، والعياذ بالله! نسأل الله أن يحفظنا وإياكم.
وأوصيكم بالمحافظة على هذه الندوة وتشجيعها ولمَّ أبناءكم حولها.
لقد كان في هذه الديار المباركة في الماضي ندوات وليست ليلة في الأسبوع، لا.
فقد كان آباؤكم يجلسون من المغرب إلى العشاء كل ليلة ولهم درس دين، ولا يتأخر أحد، وأين كان يذهب أحدهم في الصباح؟ كان من الصباح إلى المغرب وهو فلاح يرعى أو يعمل أو يحطب، لا يصل بيته إلا وهو تعبان جداً، لكنه يحب الله ورسوله؛ ولذلك فإنه يأتي يذكر الله عز وجل، وبعد العشاء أين يذهب؟ يذهب البيت فلا يوجد سراج ولا طعام ولا نار ولا دفئ ولا فراش، وينظر إلى امرأته، فلعل امرأته مريضة وينظر إلى ولده فإذا هو مريض، لكن لا -يا أخي- اليوم تنام طوال يومك، وأنت نائم يوم الجمعة، هل عمل أحد منا اليوم في الزروع؟! هل نجمع الحجارة والصخور اليوم؟! لا.
وينظر كل واحد منا إلى خيراته، وهو في نعمة عظيمة حتى يأتي المغرب.
-يا أخي- اقعد من المغرب إلى العشاء في ذكر الله، اذكر الله الذي لا إله إلا هو على هذه النعمة، ثم بعد العشاء سوف ترجع وتدخل بيتك وهو مضيء، كان الأولون ليس معهم نور ونورهم سراج إما لمبة أو فانوس أو عود ضوح يضوحون به حتى يحين وقت العشاء ثم يرمونه، لكنك أنت تدخل تلمس الجدار فإذا هوا يسرج كالشمس الشارقة، وإذا أردت أن تغتسل تذهب تحمي الماء بل تفتح الصنبور والحنفية فإذا به يصب لك ماءً حاراً، وهذا أمر لم يعرفه آباؤنا وأجدادنا السابقون.
والآن تتوضأ في الليل أو تغتسل ولا تحمي ولا تبرد، وبعدها غسلت ودخلت على زوجتك فإذا بها تنعم بالصحة؛ لأن الأولين كانوا يمرضون ولا يوجد مستشفيات، كان الشخص منهم يمرض ويظل يتعافى دون أن يجد العلاج، أو يسافرون به، أما الآن ولو كان صداعاً، قال: أعطوه (إسبرين) أو (بندول)، قالوا: صحة، أي: لم يبق مرض الآن في قريتكم هذه من طرفها إلى طرفها، لو فتشناها بيتاً بيتاً لا يوجد مريضاً -والحمد لله- وكان الناس سابقاً، وما من بيت إلا وفيه مريض ومعلول، لكنك تدخل غرفتك تريد أن تنام وإذا بأولادك -ما شاء الله- كلهم ينعمون بالصحة، وبعدها تفتح زوجتك الطعام وتأتيك بالسفرة والخيرات.
فهل أنت أولى بالجلسة مرة في الأسبوع؟! أم ذاك الذي يجلس كل يوم من بعد المغرب إلى العشاء على كتاب الله، وعلى ماذا يقرأ، هل على الكهرباء؟! لا، يقرأ على لمبة، وبعدها كانت المصاحف في ذلك الزمان ليست مثل مصاحفنا هذه -ما شاء الله- الحروف واضحة، وإنما كانت مصاحف مكتوبة بخط اليد وممزقة ولكن قلوبهم كانت معلقة بالله تبارك وتعالى.
فنحن -يا إخواني- كل شيء أقامه الله علينا حجة، ولكن ينبغي علينا أن نحرص، وأنا أعتقد -إن شاء الله- أنكم لو حافظتم على هذه الندوة باستمرار كل جمعه واخترتم في كل جمعة موضوعاً علمياً، نريدها مواعظ عائمة، يبدأ الإخوة بدروس منهجية؛ يبدءون في العقيدة، ثم العبادة، ثم في السلوك والمعاملات، فإن الله ينور بصائركم ويربي أبناءكم على الخير؛ لأن أولادكم إذا دخلوا وسمعوا الدين حفتهم الملائكة، فالعلم في المساجد، علم المدارس والكليات والجامعات علم لكنه ليس فيه بركة؛ لأنه علم من أجل الشهادة، ولهذا الطالب يخرج من صالة الامتحان، وقد نسى ما حفظه، لكن العلم المبارك هو علم المساجد؛ لأنها مساجد وأماكن النور، والملائكة تحفكم، والله عز وجل يذكركم فيمن عنده، ويباهي بكم في الملأ الأعلى.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يبقي فينا ولا فيكم شقياً ولا محروماً، وأن يجعلنا وإياكم من الشاكرين لنعمه المعترفين بها لله تبارك وتعالى، وأن يحفظنا وإياكم من كل سوء في الدنيا والآخرة، إنه على كل شيء قدير، والله أعلم.(19/22)
المرأة والزواج
الزواج آية من آيات الله ونعمة من نعمه، ولذا فإن الزواج في الشريعة الإسلامية له أهداف ومقاصد نبيلة من أجلها: المحافظة على النوع الإنساني، وكذلك تكوين المجتمع المسلم من خلال تكوين الأسرة، وهو الحل الوحيد لعلاج كثير من القضايا الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية، وحال المرأة في هذا كحال الرجل، فإن الزواج عصمة من الزلل، وباب من أبواب الخير المتمثلة في حسن التبعل للزوج، والصبر عليه وعلى تربية الأبناء الذين هم عماد مستقبل هذه الأمة.(20/1)
الزواج آية من آيات الله ونعمة من نعمه
أيها الإخوة المؤمنون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله سبحانه وتعالى كما جمعنا في هذا المكان الطاهر، وفي هذه الليلة المباركة أن يجمعنا في جنات النعيم وآباءنا وأمهاتنا وأخواتنا وذرياتنا وأزواجنا وجميع المسلمين، إنه غفور رحيم، إنه أرحم الرحمين وأكرم الأكرمين.
الزواج آية من آيات الله، ونعمة من نعم الله، جعله الله آية في معرض الاستدلال على عظمته، فاستشهد الله عز وجل على أن من آياته خلق السماوات والأرض، واختلاف الألسن والألوان، ثم قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] ونعمة من نعم الله سبحانه وتعالى إذ أن الإنسان لا يشعر بالسكن ولا بالاطمئنان ولا بالراحة إلا إذا حصل له هذا الأمر، ولهذا قال: {لِتَسْكُنُوا} [الروم:21] كأن الإنسان في قلق، وكأن الإنسان غير مرتاح، فإذا تزوج سكن {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] حث عليه الشرع، وأتى به لتحقيق هذا الأمر حتى تهدأ أرواحهم وتسكن قلوبهم.
قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق على صحته: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للطرف، وأحصن للفرج) هنا أغض من أفعل التفضيل، وأحصن أيضاً أفعل التفضيل، أعظم ما يمكن أن تغض به طرفك، وأن تحصن به فرجك هو الزواج: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء) هكذا يقول معلم البشرية وطبيب الإنسانية صلوات الله وسلامه عليه، وهو يوجه الأمة إلى الدواء العملي الناجع، إذا لم يتمكن الإنسان من الزواج.
وذكره الله عز وجل في معرض الامتنان على الأنبياء والرسل، قال: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38]، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أبرك هذه الأمة أكثرهم زواجاً، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الزواج، وكذلك هدي الأنبياء قبله، وهدي السلف من بعده، وبعض أهل العلم يوجبه على من يخشى على نفسه الفتنة، وبعضهم يجعله في مرتبة الاستحباب، ولم يرد أن أحداً رغب في تركه، أو حبذ التفرغ للدين والدعوة وتركه، فهو من الدين ومن الدعوة، بل إن أكثر ما يعينك على دينك، وعلى دعوتك إلى الله، وعلى الجهاد في سبيل الله الزوجة الصالحة؛ لأن فكرك ينحصر واهتماماتك كلها تتركز، وتبقى حاضر الذهن، حاضر الفكر، محصوراً في أعمال، لكن حينما لا تكون متزوجاً تتشتت بك الأفكار، وتذهب بك الهواجس، ويحصل للإنسان تعبٌ قد لا يتحقق معه نفعٌ في دينه ولا في دنياه.(20/2)
حكم الزواج وأهدافه
وقد شرع الله عز وجل الزواج لحكم ولأهداف ولغايات نبيلة، تغيب عن أذهان كثيرٍ من الناس، بعض الناس بحكم جهله لا يفهم من مشروعية الزواج إلا الجنس فقط، وهذا ليس هدفاً وليس من أغراض الزواج الجنس؛ الجنس وسيلة حتى يحصل اللقاء بينهما في النقطة الشرعية التي أباحها الإسلام وهي الزواج، وإذا حصل اللقاء تحققت تلك المصالح وتلك الغايات وتلك الأهداف النبيلة.(20/3)
المحافظة على النوع الإنساني
نفس العملية الجنسية فليست هدفاً في حد ذاته، ولكنها وسيلة تؤدي إلى الوصول إلى الغايات والأهداف التي شرعها الإسلام.
ومن هذه الحكم التي شرع الله عز وجل الزواج من أجلها: المحافظة على النوع الإنساني، فإن الله عز وجل خلق السماوات والأرض، واقتضت حكمته سبحانه أن يخلق هذا الإنسان من أجل أن يعبده في هذه الأرض، فهذه حكمة، ولو أن الله عز وجل لم يجعل عند الرجل رغبة في المرأة، ولم يجعل عند المرأة رغبة في الرجل لانقرض الجنس البشري، وخلت الحياة من الناس وما بقي فيها أحد، ولكن الله عز وجل ركب هذا الميل ليبقى سلالة البشر يتناسلون، ثم جعل لهذا الميل نتائج وآثاراً ومسئوليات.
وإذا تم اللقاء بين الرجل والأنثى في غير الزواج ضاعت تلك الآثار، ومن آثار اللقاء أن يحصل الولد وأن تحمل الأم، لكن إذا حملت الأم من غير زوج فمن يقوم برعاية هذا الولد؟ الذي زنا؟ لا.
فإنه يتخلى لعدم ثقته أولاً بأن هذا الولد له؛ لأنه يعتقد أن هذه الزانية التي مكنته من نفسها ستمكن غيره، وبالتالي فليس على يقين أن الولد له.
ثانياً: حتى ولو كان على يقين أنه له فيعرف أنه جاء من طريق حرام، فيقول: لماذا آخذه وأربيه وهو حرام في حرام، هي التي تتحمل، فينسلخ منها ويتخلى عنها، وتبقى هي في الميدان لوحدها تعاني من آثار الحمل، وقد ترتكب جرائم في التخلص منه، إما عن طريق الإجهاض، أو عن طريق قتله بعد أن يأتي، أو عن طريق إلقائه أي: تضعه في طريق عام، أو عند حديقة، أو في مسجد، أو في صندوق النفايات كما سمعتم في العام الماضي يضعونه في صندوق النفايات، جريمة أعظم من جريمة الزنا، وقد تحمل الولد فتبقيه معها فتجد ألماً ومعاناةً وحسرة كلما نظرت إليه؛ لأنه يذكرها بجريمتها، وينشأ هذا الولد المسكين في معاناة وفي تعب، ليس له ذنب هو أصلاً، الذنب والمسئولية للزاني والزانية، أما هذا فلا يحمل مسئوليته؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] هل له علاقة في الموضوع؟ لا.
ولذا لا يؤاخذه الله عز وجل على مسألة مجيئه، يؤاخذه الله على سلوكه، إذا بلغ سن التكليف، فإذا التزم بدين الله، وتمسك بطاعة الله، كان من أهل الطاعة ومن أهل العمل الصالح.
وإذا بلغ سن التكليف وانحرف عن منهج الله آخذه الله على انحرافه هو، لكن غالب من ينشأ من هذه الطريق يكون مصيره الانحراف؛ نظراً لفقدان التربية، وانعدام الجو الإيماني الذي يعيش فيه؛ ولأنه يعيش بدون إشراف وبدون توجيه وبدون تربية، وربما تلقفته الأيدي القذرة الملوثة فطبعته على طبع سيئ، وأحياناً ينشأ نشأةً طيبة فيهديه الله سبحانه وتعالى ولا ذنب له في جريمة والديه، أو الزاني والزانية.
فبقاء النوع البشري هدف من أهداف الزواج؛ لأنه قد يأتي واحد ويقول: الجنس البشري يبقى عن طريق الزنا، يبقى لكن تبقى حياة فوضوية، ولهذا جميع الأمم وعبر مدار التاريخ تعارفوا على الزواج، حتى في الجاهلية كان يوجد زواج، والآن في الدول الكافرة يوجد زواج، تجد عند اليهود، وعند النصارى، وعند المجوس، وعند الهندوس، كل واحد يشعر بأن يكون له زوجة خاصة به لأنها فطرة؛ لكي يربي ولداً له.(20/4)
الاستمتاع بالحياة عن طريق إنجاب الأولاد
من أهداف الزواج: الاستمتاع بالحياة عن طريق الأولاد، لأن الله يقول: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46] فواحد عنده مال لكن ما عنده أولاد، عنده نصف الزينة، ولذا يشعر بالألم، ويشعر بالحرمان، ويتمنى أن يكون له ولد، وقد كنت أعظ أحد الإخوة الذين ابتلوا بعدم الولد، ليس عنده ذرية، فوجدته في حالة نفسية صعبة، وقلت له: يا أخي! لا تكره أمر الله سبحانه وتعالى، فربما يكون في ذلك خير، فإن الله سبحانه وتعالى أعلم بما يصلحك، يقول: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} [الشورى:49 - 50] لماذا؟ {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى:50] فما تدري ما هو الخير لك؟ يمكن لو عندك أولاد لكانت حالتك أسوأ.
فقال لي: يا شيخ سعيد! أنا أعرف هذا، يقول: أنا أعرف أن الله اختار لي إن شاء الله الخير، لكن أنت لا تحس بما أحس به.
قلت: وما الذي تحس به؟ قال: أحس بألم شديد من السكون الذي يسيطر على البيت، يقول: أدخل البيت وإذا به كأنه مقبرة، نحن الذين عندنا أولاد نحس بتعب من الغلبة التي نشعر بها في البيت، عندما يدخل الواحد منا ويبدأ هذا يصيح، وهذا ينط، وهذا يرجم، وهذا يفتح، يقول: اسكتوا اسكتوا، والرجل يشكو من الحرمان ومن السكون الذي يحول البيت عنده إلى مقبرة، أنت لا تعرف نعمة الأولاد إلا إذا فقدتهم، ولهذا جعلهم الله زينة، زينة للأب وزينة للأم.
قد لا تتوفر هذه الزينة في أي شيء، ولهذا الأوربيون لما افتقدوا هذه النعمة في الأولاد نظراً لتقطع العلاقات الاجتماعية اضطروا أن يحققوها عن طريق تربية الكلاب، فتجد الواحد منهم عنده كلب يأكل معه على السفرة، ويحتضنه، والمرأة تأخذ الكلب وتذهب به، وتداعبه، لماذا؟ (لأن الطيور على أشكالها تقع) ولأنهم ما وجدوا ما يلبي الاحتياج الفطري في نفوسهم وفي أولادهم الذين لا يضمنون أنهم أولادهم أصلاً، وبالتالي بحثوا عما يلبي لهم ذلك في الكلاب.(20/5)
حماية المجتمع من التحلل والانسلاخ من القيم
وأيضاً من أهداف الزواج في المجتمع المسلم: حماية المجتمع من التحلل والانسلاخ من القيم؛ فإن أغلى ما يملكه المسلم بعد عقيدته ودينه هو عرضه، والعرض غالٍ عند المسلم، يقول:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض في المالِ
العرض غالٍ، وهو يمثل تاجاً على رأس المسلم، وهو تاج من زجاج يكسره أقل شيء، ولذا يود المسلم أن يدفن وأن يموت ولا يدور حول عرضه كلام، بل يود أن يبلغه أن ابنته أو أخته ماتت ولا يبلغه أن ابنته أو أخته انحرفت أو زنت -والعياذ بالله- فالمجتمع عن طريق الزواج يحصل له حماية، لماذا؟ لأن الغريزة الجنسية الفطرية في النفس تحققت بالطريق الصحيح وهو الحلال، لكن حينما نسد أبواب الحلال وهو الزواج فإنها تفتح أبواب الحرام قسراً؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يلغي سنة الله بقرار من عنده، ويقول: لا.
يا بنت لا تتزوجي، وأنت يا ولد لا تتزوج، انتبهوا، لا يمكن هذا الكلام، لا سيما في هذا الزمان، زمن الفتن، وزمن الإثارة، فإن كل ما حول البنت أو الولد يعمل على إثارتها، وهي ليست بحاجة إلى إثارة، وهو ليس بحاجة إلى إثارة، الغرائز الموجودة تحتاج إلى تقييد وكبت وتضييق، حتى جاء الأمر بالصيام لمن لم يستطع الزواج، لماذا؟ لتضييق مجاري الشيطان الذي يجري مع حركة الدم في الجسم، فإذا جئت تشعلها وهي أيضاً مشتعلة بطبيعتها حصل الحريق في حياة الإنسان، فيحمى المجتمع بالزواج.(20/6)
التعاون على تكوين الأسرة
من أهدافه أيضاً: التعاون على تكوين الأسرة، فإن الأسرة هي اللبنة الأولى في المجتمع، وهي مكونة من الأم والأب والأولاد، ولكن إذا لم يوجد زوج، وجاء للمرأة ولد من الحرام، فمن يقوم بهذا الدور في الأسرة؟ ليس هناك أحد، فهي تقول: لماذا أتحمل هذا ولا يوجد أحد، تضطر أن تتخلص منه أو تقتله كما سمعنا.
لكن حينما تعرف أنه ولد شرعي، وذاك الأب يعرف أنه ولد شرعي، ويحقق لهم المطلب النفسي من حيث الزينة في الحياة، في العمل أنت متعب مرهق في غاية الإرهاق والإجهاد، فما إن تدخل البيت وتجد طفلاً من أطفالك يقبل عليك فتحمله وتضمه إلا وأذهب الله عنك ما تشعر به من التعب، هذه نعمة أم لا؟ نعمة من أجلِّ النعم.(20/7)
تربية الأولاد
أيضاً من أهدافه: تربية الأولاد، فإن تربيتهم ينال عليها الإنسان ثواباً عند الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، كونك قمت بتوجيه هذا الولد: علمته الإسلام، وربيته على الإيمان، وأخذته إلى ساحل النجاة عن طريق الأخلاق الإسلامية، والمبادئ الإسلامية، والعقيدة الإسلامية، وعلمته كل شيء طيب، وحذرته من كل شيء سيئ، يأتي هذا الولد في ميزانك يوم القيامة، وتبعث يوم القيامة مبعث الأنبياء؛ لأن الله هدى على يديك ولدك، والله يقول: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [لنجم:39] قال العلماء: الولد من سعي أبيه، وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث منها: ولد صالح) وليس كل ولد، فقد تترك أولاداً يدعون لك لكن ليسوا على صلاح، ما يقبل الله دعاءهم، لا بد أن يكون الولد صالحاً، إن الله لا يقبل شفاعة السيئ، بل ولد صالح يدعو لك ويكون لك أنت أثر في تربيته فيدعو لك وأنت في قبرك فتأتيك الحسنات، كل يوم في سجوده: رب ارحمهما كما ربياني صغيراً.
اللهم اغفر لي ولوالدي؛ في كل صلاة، وقد أمر الله عز وجل بذلك قال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء:23] عندك: أصبحوا عندك، فأنت كنت عندهم عندما كنت صغيراً، واليوم كبروا وأصبحوا عندك {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] ثم مهما عملت فلن تكافئهم فماذا تعمل؟ {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24] وهذا لا يأتي إلا عن طريق الأولاد، من أين تأتيك حسنات إذا مت؟ قد لا يكون لك مال، وقد لا يكون عندك علم تخلفه، ولكن يكون عندك أولاد صالحون فيدعون لك بعد وفاتك، ويبقى الخير لا ينقطع يصلك على الدوام حتى إذا جاء لهم أولاد وقال: اللهم اغفر لنا ولآبائنا يأتيك وأنت جد، ويأتيك وأنت أبو الجد إلخ؛ لأنك أساس، وسبب في هذا الخير العظيم.(20/8)
خطورة عزوف الناس عن الزواج(20/9)
خطورة دينية
هناك خطورة -أيها الإخوة- بالغة تحصل حينما يعزف الناس عن الزواج، خطورة دينية؛ لأن الإنسان سيبقى مثل البعير، والزوجة القيد له، إذا هاج البعير ماذا يعملون فيه؟ يقيدونه، هائج أو ليس بهائج فالقيد في رجله، كذلك الرجل مثل الجمل الهائج، إذا لم يقيد يهيج ويؤذي ويبطش، ويعتدي، ويفعل حركات، ولا يستطيع أحد أن يرده، لكن إذا وضعت القيد في رجله توقف، كذلك الزواج للرجل كالقيد للجمل، واحد من الإخوة يقول: عانى من أولاده وهم يرفضون المكث في البيت -وهم طيبون- لكن اجلس يا ولد.
قالوا: لا نقدر على الجلوس نريد أن نخرج نحن رجال.
أنتم رجال ولكن اجلسوا في البيت، لا تخرجوا والخروج ليس حسناً، وقد يعرضكم للشر ويعرضكم للحوادث المرورية ويعرضكم لرفقة السوء، أخشى عليكم يا أولادي، هل شبعتم الآن؟ اجلسوا في البيت اقرءوا الكتب ناموا، يقول: فيجلسون بتعب، وبمعاناة، وأحياناً إذا شعروا أني رقدت خرجوا، يقول: فزوجت الأول والثاني منهم، يقول: ومنذ أن زوجتهم فإذا بهم يرقدون من العصر، ليس من المغرب، يصلي العصر ويدخل غرفته، ماذا بك يا ولد؟ قال: تعبان، وهو ليس تعبان، وبعد المغرب في الغرفة، نقول: يا ولد تعال اجلس معنا قال: لا.
تعبان، بعد العشاء في الغرفة، فأقول: جالس هو وزوجته.
هذه نعمة من نعم الله، فهذا العزوف عن الزواج يؤدي إلى خطورة، خطورة أول شيء دينية في أن هذا الشاب الذي ما تزوج مهما كانت ديانته، ومهما كانت رصيده من التقوى إلا أنه يمكن أن يقع؛ نظراً لوجود الدافع القوي وهي الغريزة الجنسية، فما تستطيع أن تضمن إلا بالزواج، فإنه أغض للطرف، وأحصن للفرج.
وأيضاً مظاهر خلقية فإن الإنسان إذا تزوج هدأت نفسيته، وحسنت أخلاقه، وشعر بمسئوليته، وأدرك دوره في الحياة، كذلك البنت وحدها في البيت تحس؛ لكن عندما تذهب زوجة وتضع نفسها في موضع المسئولية، وتعرف دورها، فيحصل من شعورها بدورها استقامة الناس، واستقامة أخلاق الناس.(20/10)
خطورة صحية
وأيضاً خطورة صحية، فإن الذي لا يتزوج قد يفعل المنكر؛ فيقع في جريمة الزنا، أو جريمة اللواط، ويترتب على هذا -والعياذ بالله- انتشار الأمراض، وشيوع الفاحشة، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن يقول: (خمس بخمس وأعوذ بالله أن تدركوهن، ذكر منها: وما فشت الفاحشة في قوم حتى أعلنوها أو استعلنوا بها إلا ابتلاهم الله بالأمراض والأوجاع التي لم تكن فيمن قبلهم) وهذا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وتحقق في هذا الزمن، فرغم كثرة الوعي الصحي، ووسائل النظافة، وكثرة المستشفيات، ومعرفة الناس للطب وأصوله، ومع هذا لما فشت الفاحشة وانتشرت في بعض البلدان، سلط الله عليهم الأمراض، وفي بلد أوروبي اسمه السويد، وهو بلد الإباحية الأول في العالم، وفيه أكبر عدد من المصابين بمرض الإيدز؛ مرض الإيدز يأتي عن طريق العلاقات المحرمة، وهو فقدان المناعة؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل في جسم الإنسان قدرة على مقاومة الجراثيم والأجسام الغريبة وتسمى المناعة، أي شيء يأتي الجسم يصدر أوامر لنوع من الكريات اسمها: كريات الدم البيضاء في الجسم تقتل أي جرثومة أو أي شيء يأتي، هذا الإيدز يأكل هذه الكريات ويقضي عليها، فيبقى الإنسان بدون مناعة وأقل نزلة برد تقتله، هذا المرض سلطه الله عز وجل في هذا الزمان بعد شيوع الفواحش، حتى نادى وزير الصحة عندهم ورئيس الصليب الأحمر عندهم يقول: إن علينا أن نعيد النظر في علاقاتنا الجنسية، بحيث نخصص لكل رجل امرأة واحدة، يعني: الإسلام.
والهربز، والسيلان، والزهري، كل هذه الأمراض الخطيرة التي تأتي عن طريق انتشار الفواحش، وعدم وجود الزواج.(20/11)
خطورة اجتماعية
وأيضاً هناك خطورة اجتماعية؛ لأن المجتمع يتكون من هذه الأسر، فإذا انقرضت هذه الأسر وبقي الواحد أعزب لا يتزوج؛ تحللت هذه الروابط الاجتماعية بين الناس، ولم يعد الناس يثق بعضهم ببعض، ولهذا معروف عندنا الآن عندما تأتي مثلاً في حي أهل الحي يقولون: لا نريد أن يسكن عندنا عزاب، لماذا؟ لأنهم يخافون، لكن عندما يأتي أمامك شخص وعنده زوجة، أنت ساكن في عمارة وفي شقة وهو في الشقة الأخرى ولكنك آمن لماذا؟ لأنك تحس أنه يعاني؛ لأنه يحمي عرضه ويحمي عرضك، ولا يمكن أن يمد عينه على عرضك؛ لأنه هو صاحب العرض، يخشى أن يعامل بنفس الأسلوب، لكن لو سكن فيها شخص أعزب لا يعرف قيمة العرض فإنك لا تطمئن إليه، بل تخاف منه، وتشتكي، فإما أن ينقل هو أو تنقل أنت، وهكذا فهذه خطورة وهذه أشياء تحدث عند الإعراض عن الزواج.(20/12)
عقبات في طريق الزواج
هناك عقبات جعلها الناس في سبيل الزواج، ما أنزل الله بها من سلطان، وهذه العقبات أدت أيها الإخوة! إلى كوارث وإلى مصائب، وما يحدث أو ما تسمعون به أحياناً ويطفو على السطح، وما هو موجود ولا يطفو على السطح كله بسبب وجود هذه العقبات.(20/13)
غلاء المهور
أول عقبة: غلاء المهور.
فإن الله سبحانه وتعالى شرع الزواج وجعل المهر تطييباً لخاطر المرأة وليس بيعاً وشراء، ثم إن المهر للمرأة ليس للولي، يقول الله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] أي: عطية من الله، فأمر الله الأولياء والأزواج بأن يؤتوا النساء صدقاتهن، يعني: مهورهن فلا يجوز للأب أن يأخذ المهر، فالمهر للبنت، لماذا تأخذه أنت؟ من الذي تزوج بك حتى تأخذ ستين أو سبعين ألفاً أو مائة ألف؟ بعضهم يقول: أنا تعبت عليها! تعبت عليها؟!! وهل هي سلعة؟ تكدها تكدها حتى تطلع رأس المال منها والتعب؟! هذه فلذة كبدك، هذه قطعة منك هذه جزء منك يجب أن تسعى في سعادتها، أما أن ترهنها وتحبسها حتى تأتي عندك بأعلى ثمن، ولهذا بعضهم إذا أتى يخطب قال: والله قد جاءنا من يدفع: مائة ألف، فهل عندك أكثر؟ فنزلها في (الحرج) تحت الميكرفون!! هل هي سيارة؟ أم قطعة أرض؟ ومن زاد شرى، لا يا أخي الكريم! المغالاة في المهور أدت إلى عزوف الشباب عن الزواج، وركود البنات في البيوت، وقام الشيطان يعمل عمله، واستغل هذا الخطأ من أجل فتح أبواب الشر التي فتحها الآباء وفتحتها أيضاً الأمهات، وفتحها أحياناً البنات، وأحياناً الأولاد، وسوف نعرض كل هؤلاء.
يقول عليه الصلاة والسلام: (أكثرهن بركة أيسرهن مهراً) ولو كان المهر وزيادته مكرمة في الدنيا أو أجراً في الآخرة لسبق إليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كان مهر بنات النبي صلى الله عليه وسلم يسيراً، وكان يعقد صلى الله عليه وسلم على خاتم من حديد، وزوج بعض أصحابه من بعض بسورة من القرآن، وتزوجت واحدة من الصحابيات زوجاً بإسلام زوجها، عندما أتى يخطب قالت: أنت رجل كافر ولا يحل لي أن أنكحك، قال: أرأيتِ إذا أسلمت تقبليني؟ قالت: نعم.
فكان هذا أعظم مهر في التاريخ أن قبلته وقبلت من مهرها أن يكون مسلماً في دين الله سبحانه وتعالى.
فالمغالاة في المهور مرفوضة من الناحية الشرعية، وتؤدي إلى كوارث، وليس في مهر البنت بركة، فإذا أخذت مهر البنت فقد أخذت ما ليس لك، فهو ممحوق البركة، ولكن يسر ييسر الله عليك، وفي نفس الوقت تستقيم حياة البنت؛ لأن الزوج الذي يعرف أن هذه البنت سببت له هذه المشاكل، وأرهقت كاهله بهذه الديون، وأوقعته بهذه المآسي، فبعض الأزواج لا يفكر فيذهب ويشتري سيارة أو سيارتين أو ثلاثاً، ويقع في الديون، فإذا تزوج وبعد أسبوعين أو ثلاثة إذا بهذا يطلب، وهذا يشط، وهذا يمط، وهذا يدعي، والحقوق تستدعي، تذكر من الذي عمل له المشكلة؟ البنت، نعم.
البنت هي نكبتي، وسأنتقم منها، ويبدأ يتعامل معها بسوء، ويقلب لها ظهر المجن، لماذا؟ لأنها كانت سبب نكبته، كل هذا بسبب المغالاة في المهور، لكن يوم يشعر بأنها جاءته بيسر ولم تكلف عليه يكرمها ويكرم أباها الذي أعانه على الزواج ولم يبالغ ولم يغال.(20/14)
المبالغة في طريقة الزواج وتكاليفه
وأيضاً من العقبات: المبالغة في طريقة الزواج وتكاليفه، فجعل بعض الناس منه مشكلة المشاكل، يعني: ما تدخل هذه المرأة على هذا الزوج إلا وقد (طلعت روحه) المفروض أن الزواج يتم بيسر، بمجرد أن عرفت أن عند فلان بنتاً، وسألت عن دينها وعن دينه، تذهب وتتكلم معه مباشرة، وهو إذا سأل عنك ورضيك زوجاً لبنته ففي نفس اللحظة يقول: تعالي يا بنت، انظري هذا، أتريدينه؟ وأنت انظر إليها هل تريدها؟ ثم إذا حصلت الموافقة من الطرفين انتهى، متى تريد يا ولد؟ بكرة؟ تفضل بكرة تعال إن شاء الله، أحضر معك أباك، وأحضر معك اثنين أو ثلاثة من أقاربك ونحن عندنا جيراننا سوف ندعوهم، ونشترك في وليمة واحدة (شاة فقط) ونذبح هذه الشاة ونعلن النكاح على مستوى الأسرة والجيران والأقارب، وتفضل بعد العشاء تعش وخذ امرأتك واذهب، وانتهت المسألة.
لماذا نقيم الدنيا ولا نقعدها في الزواج؟ أول شيء عند الناس الآن عزيمة في الخطبة، إذا أتى يخطب قال: لا تأتني لوحدك لا تأتني إلا أنت وأبوك وجماعتك لأجل الناس يرون الرجال، وذهب فجمع ثلاثين أو أربعين رجلاً، ثم ذبح ثلاثة أو أربعة خرفان، هذا فقط في الخطبة.
وبعد الخطبة جاءوا يسألون، قالوا: نريد العقد، قال: العقد في العطلة، وجاء العقد قال: أحضر معك رجالاً ولا تأت لوحدك، وأتى له بثلاثين أو أربعين رجلاً، وخمسة أو أربعة خرفان، ثم الزواج، قال: الزواج نريده في قصر أفراح، أو نريده في فندق ضخم (خمسة نجوم) لماذا؟ قالوا: لأن بنت فلان فعلت كذا، فلابد أن نفعل هكذا، ونريد (شرعة) غالية لا نريد من هذه الرخيصة أو تستأجرها، نريد واحدة جديدة وغالية، بعشرين أو بثلاثين أو بخمسين ألف (بعض الشرع) هذه (الشرعة) التي شرعها الشيطان وما أنزل الله بها من سلطان، ثم نريد أيضاً مغنية، فلا بد أن تأتي لنا بمطربة، وأيضاً نريد للرجال مطرباً، ونريد لهم شعراء، ونريد (دقاقين ومزلفين) وكم تذبح وكم سوف تحضر؟ قال: سوف أحضر جماعتي كلهم؛ لأنه مسكين هذا المتزوج قد انقطع ظهره من هذه التكاليف، فيريد جماعته يفزعون، فيطبع (2000) كرت، قال: لعل يأتي منهم ولو ألف، قال: سوف أحضر جماعتي كلهم، وهذا يقول: ما دام سيحضرون كلهم وأنا سوف أعزم جماعتي كلهم، كم خروفاً سيبقى لنا؟ خمسون أو ستون؟ وفي إحدى المناسبات في الطائف ذبحوا مائة وثلاثين ذبيحة، ما ترك في السوق تيساً ولا خروفاً، ذبحها كلها، من أجل هذه البنت وهذا الولد، لماذا؟ لماذا تحدث أزمة على الناس؟ لماذا تضيق على المسلمين في مآكلهم ومشاربهم؟ ثم لما غلقوا الأكل طبعاً مائة وثلاثين ذبيحة كل ذبيحة على أربعة صحون؛ يعني ستمائة صحن أو أكثر، وقسمت في محلات أكل الناس يقول شخص من الذين حضروا: والله بعض الصحون ما عليها إلا واحد، ويقول: ولما انتهى الناس وخرجوا والصحون كثيرة يقول: جاءت (القلابيات) وحملوا اللحم والرز، وكانت (القلابيات) تدوس الصحون -صحون الرز والفواكه والخضروات ويرمى به في النفايات؟ أهذا يرضي الله سبحانه وتعالى يا إخوان؟؟ ومن أين هذه كلها؟ من ظهر المسكين، تحسب أنه سوف يدفع أبوه؟! لا.
قد أخذ حقه وهو في الرصيد، لكن ادفع، وإلا والله ما تخرج عليك، ولهذا يقولون: (العرس نزعة ضرس).
صدقوا، لكن عند من لا يقيم هذه الآداب الشرعية، أما المؤمن فلا.
وأخبرني من أثق فيه من المشايخ في الرياض عن رجل صالح، عنده ثلاث بنات رباهن تربية إيمانية وعلمهن، ثم أيضاً توظفن، فقال لهن: هل تردن الزواج الآن؟ قلن: الذي يأتيك يا أبانا هو يأتي لنا، فذهب إلى المسجد وتعرف على ثلاثة شباب في المسجد، واختارهم من المسجد، أخذ واحداً منهم وقال له: تعال! تريد أن تتزوج؟ قال: نعم والله أريد ذلك، قال: أنا عندي بنت تصلح لك، وأنا والله من حبك اخترتك لها، تعال انظر إليها، أخذه معه بعد المغرب وأدخله عليها، قال لها: موافقة؟ قالت: موافقة، وأنت موافق؟ قال: موافق، قال: الخبر عندك انتظر حتى يأتيك مني خبر ثانٍ، وأتى بالثاني في الليلة الثانية، وأتى بالثالث في الليلة الثالثة، انتهى، الثلاثة كلهم وافقوا، ثم قال لكل واحد منهم: تأتيني أنت وأبوك وثلاثة أو أربعة من جماعتك في ليلة الخميس، ووعدهم كلهم في ليلة واحدة، الثلاثة الأزواج في ليلة واحدة، وذبح خروفاً واحداً، وقسمه على صحنين، ودعا أخاه وأولاده وجيرانه، ثم بعد المغرب وإذا بهم يأتون، تجمعوا حوله يمكن ما يتجاوزون (30) نفراً على الذبيحة، وبعد ما تعشوا جاء كاتب العقد وعقد للأول بـ (100) ريال، وللثاني بـ (100) ريال، وللثالث بـ (100) ريال، وأخذ الـ (300) ووضعها في جيبه، ثم قالوا له: متى الموعد؟ قال: كل شيء يتم الليلة، يا فلان! أخذ الكبير منهم على الزوجة الكبيرة، قال: نعم.
قال: تفضل قرب سيارتك فزوجتك حاضرة، وذهب ودعا زوجته تركب معه، قال: اذهبوا في الفندق ناموا هناك، وفي الصباح تأتونا لطعام الإفطار، وإن أردتم أن تفطروا في الفندق فتعالوا نتغدى، وقال للثاني مثل ذلك، والثالث مثل ذلك، وذهب، وفي الصباح ما أتوا طبعاً، وأتوا في الظهر يتغدون وكانت حياتهم من أسعد الحياة، ولا تعب ولا أتعب نفسه.
بعض الآباء ما يزوج بنته حتى يمرض من التعب، من حمل الخيام والكراسي، والذبائح، والعزائم والكروت، ثم أخذوا بنته وخلوه لحاله، وتذهب المرأة تلك، بعض النساء تلحق بنتها ويقعد في الليل لوحده، يرتب الأمور التي قد خربوها في هذا الزواج، لا يا أخي الكريم! ما ينبغي هذا كله، المبالغات هذه كلها ما أنزل الله بها من سلطان، وبعضها حرام، جلب المغنيات، والسهر إلى آخر الليل، وإيذاء المسلمين، هذا محرم، أباح الشرع وسيلة من وسائل الإعلان للنكاح وهي الدف، والدف إطار مثل المنخل على وجهه جلد والوجه الثاني فارغ، تضربه الأمة ولا تضربه الحرة، وعلى غير إيقاع، ليس على أنغام ولكن ضربات فقط طخ طخ طخ، من أجل لو سمع الناس هذا الضرب قالوا: ما هذا؟ قالوا: فلان تزوج، ولهذا قال: (أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدف) يعني للإعلان، مثل الجرس عندك في البيت الذي على الباب، أنت وضعت الجرس عندك لماذا؟ للإعلام أن هناك شخصاً يدق عليك، لكن إذا أتى واحد وقام يدق في الجرس بكثرة، تنزل عليه وتقول: تلعب أنت أم تدق جرساً؟ فنفس الشيء، الدف أبيح للإعلان للنكاح وليس للعب والرقص.
حتى قال العلماء: لا تضربه حرة، ولا يرافقه صوت، وإنما ضربات وإذا غنى الجواري الصغار بأبيات من الشعر فلا بأس، مثلما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم
ولولا الحنطة السمراء لم نسكن بواديكم.
أما الآن عود وكمنجة، وناي ومغنية، وكلام ساقط، وسهرات وأفلام وتسجيل وفيديو، ماذا بقي يا إخوان! أين أمة الإسلام، هذا لا يليق بنا نحن أمة الإسلام يا إخوان! نحن أصحاب رسالة، نحن أصحاب عقيدة، نحن خير أمة أخرجت للناس، فلماذا نتبع ونكون ذليلين، كلما عمل الكفار والغرب نعمل، نحن أمة رائدة، أمة قائدة، الأمم تبع لنا ولسنا ذيولاً للأمم الأخرى.(20/15)
اعتبار الدراسة والطلب عائقاً في طريق الزواج
ومن العوائق التي جعلها الآباء في سبيل الزواج: عائق الدراسة بالنسبة للشباب وبالنسبة للبنات، الولد يقول: أنا أريد أن أتزوج، قال: والله ما تتزوج حتى تتخرج من الكلية، لماذا؟ قال: تعتمد على نفسك، سبحان الله! ما تريد أن يكون لك فضل على ولدك، حسناً وإذا اعتمد على نفسه وتزوج، ما تريده يطيعك؟ لأنه يعتبرك أجنبي، جعلته يتزوج من حقه، وإذا قلت له: تعال، يقول: اذهب ما أعطيتني شيئاً، أنا الذي زوجت نفسي، لكن عندما تزوج ولدك من حقك؛ لأن هذا الحق الذي ما تريد أن تزوجه منه سيكون له أصلاً إذا مت؟ يأخذه الولد، يقول: يا ليتني تجملت، وبعضهم لا يقول: رحمه الله، لكن لما تشعر ولدك بأن فضلك لا يزال عليه بأن تزوجه من حقك، فتجعله غصباً عنه يطيع ويبقى حولك؛ لأنه يشعر بأنه محتاج لك، فزوجه منذ أن يطلب الزواج، ولا تجعل الدراسة عائقاً، بل مساعد على الدراسة، الولد لما يدخل الثانوية أو الجامعة يدخل البيت ويجد زوجته أمامه تأتي له بالشاي، وترتب له كتبه، ويأتي يذاكر، ما رأيكم في ذهنه كيف، صافٍ أو مشغول؟ صافٍ (100%)، يقرأ الحرف فيرسخ كل ما يقرأ ويهضم بسهولة؛ لأن ذهنه موجود، ولكن إذا دخل الغرفة وهي مبعثرة: كتاب هنا، وبراد هناك، وفنجان هنا، وشراب هناك، ومخدة هنا، وإذا دخل يريد يذاكر كيف يذاكر؟ من يوم يريد يذاكر جاء في ذهنه وجاءه الشيطان وسمع صوت، ورأى صورة، انتهى ما عاد يستطيع أن يذاكر، ولهذا أكثرهم فاشلون، وقد أثبتت دراسة أن أكثر الشباب الناجحين والمتفوقين متزوجون، وكذلك البنت لا يمنعها الزواج عن الدراسة، بل الزواج خير معين لها على الدراسة، فعائق الدراسة مرفوض، زوج ولدك وزوج ابنتك بمجرد النضج.(20/16)
عائق الوظيفة بالنسبة للبنات
وأيضاً عائق آخر: وهو عائق الوظيفة، وهذا عند البنات، فإن الأب إذا توظفت ابنته واستلم راتبها أول شهر وثاني شهر وثالث شهر وذاق طعم المال منها صرف الزواج عنها، لماذا؟ قال: لقد تعبنا عليها، كأنها سيارة يريد أن يكسب قيمتها من ظهرها، لا.
هذه ليست وسيلة كد، وكذلك لا تمارس معها تجارة، فلا يجوز أن تؤخرها بعائق الوظيفة، بل عليك أن تزوجها وتسعدها، ولا تأخذ من راتبها شيئاً، بل تعطيها إذا أغناك الله، وإذا كنت محتاجاً وفقيراً فهي من نفسها لن ترضى أن تستلم راتبها وتتركك، لكن بعض الآباء غني ويقول: حطوا لي من الراتب نصفه، أريد نصف راتب بنتي هنا، لماذا؟ قال: هكذا، فلا يحفظه لها وإنما يضعه لإخوانها، وهذا لا يجوز: (أنت ومالك لأبيك) أي: إذا احتجت أنت إلى شيء من مال ولدك فلا بأس، أما أن تأخذ مال ولدك لتعطي إخوانه، وتضيفه إلى رصيدك من أجل أن يوزع ماله ومالك إذا مت على إخوانه، هذا لا يجوز، ليس لإخوانه حق في ماله، إلا إذا توفي هو وليس له أولاد، فالرجل يريد حقه، وهذه البنت تريد حقها أيضاً، فلا يجوز لك أن تأخذ شيئاً من حقها، إلا إذا كنت محتاجاً أو أردت أن تحفظه لها، بشرط: ألا تضيق عليها؛ لأن بعض الآباء يضيق عليها في حفظ مالها وهي تحتاجه، تقول: أريد حقي يا أبي! ثم إن بعض النساء إذا تزوجت، ووثقت بزوجها، واطمأنت إليه، وصار عندها ذرية وأولاد لا تمسك شيئاً؛ لأنها ماذا تريد بالمال إذا كان أبوها قد أخذ المال، تريد أن تبرهن لزوجها أنها تحبه، وأنها تثق فيه، وأنها لا تدخر مالاً عليه حتى تضمن ولاءه، وتضمن محبته، واستمرار العيش معه؛ لأن بعض الأزواج إذا رأى امرأته لا تعطيه مالاً وراتبها وراء ظهرها، قال: هذه لا تثق بي، وبالتالي لا يكون سعيداً بها حتى يبحث عن أخرى ويتزوج غيرها، فلماذا تنكد على ابنتك أيها الإنسان؟ لا تجعل الوظيفة والراتب عائقاً عن الزواج.(20/17)
الاشتراطات الخيالية والمثالية
وأيضاً من العوائق التي توجد في الزواج: الاشتراطات الخيالية والمثالية، بعض الشباب إذا أراد أن يتزوج يريد امرأة مفصلة، يقول: لا أقبل أن أتزوج إلا بواحدة طولها كذا وكذا، وعرضها كذا وكذا، ووزنها كذا وكذا، وعيونها كذا وكذا، وشعرها طوله كذا وكذا، عجيب!! اذهب إلى (الورشة) وفصل لك واحدة! من أين نأتي لك بامرأة مفصلة؟! من تظن نفسك؟ بعض الناس تجده يطلب شروطاً خيالية وليست متوفرة فيه، هو نفسه ليس جميلاً ويقول: أطلب واحدة (حدها وردها) لا.
يا أخي الكريم! القضية قضية نسبية، والمسألة مسألة دين وأمانة، فإذا وجدت صاحبة الدين فاظفر بها تربت يداك، وإذا الله رزقك بصاحبة دين وجمال ومال وحسب فهذه حسنة الدنيا وجنة ما قبل الموت، لكن ليس بالضرورة أن تكون فائقة الجمال، من أين نظل نطبع بنات جميلات؟! وكذلك بعض الفتيات تضع اشتراطات خيالية، كلما أتى زوج قالت: أريد واحد (حده ورده) وتضع شروطاً في ذهنها ترتبها طول الحياة، وكلما أتى واحد قالت: لا أريده، لماذا؟ قالت: هذا ليس طويلاً هذا سمين هذا قصير هذا أسمر هذا ليس موظفاً هذا ليس هو جامعي، المهم أتت لها بشروط صرفت بها الخطاب عنها، إلى أن يفوتها سن الزواج، وقطار الزواج ثم تصبح عانساً حتى لو أعلنت عن نفسها فلن يأتيها أحد، وهذا من الاشتراطات الخيالية التي لا ينبغي أن تكون في ذهن الفتاة، ولا في ذهن الشاب، شرط واحد وهو الدين، إذا وجدت صاحب الدين فخذيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير).
وأنت إذا وجدت صاحبة الدين فخذها لماذا؟ لأن من تزوج امرأة لجمالها أورثه الله قبحها، ومن تزوج امرأة لمالها أورثه الله فقرها، ومن تزوج امرأة لحسبها أورثه الله ذلتها، ومن تزوج امرأة لدينها أورثه الله بركتها.
فهل تريد البركة؟ هل تريد الخير؟ هو مع صاحبة الدين.(20/18)
العلاقات غير الشرعية
وأيضاً من العوائق التي أقيمت في سبيل الصد عن الزواج: العلاقات غير الشرعية، فبعض الشباب تقول له: تزوج، يقول: لماذا أتزوج؟ الزواج عقدة الزواج مسئولية الزواج يكلفني أن أستأجر بيتاً أو شقة لا نريد الزواج، وإذا أراد قضاء الشهوة فإن استطاع في المجتمع الذي يعيش فه، وإلا فإنه يسافر إلى الخارج ليزني ويسكر والعياذ بالله, ويقع في الجريمة والفاحشة الكبرى، التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (ما عصي الله بذنبٍ بعد الشرك أعظم من نطفة يضعها الرجل في فرجٍ لا يحل له) (من زنى بامرأة في الدنيا كان عليه وعليها في القبر نصف عذاب هذه الأمة) (والذي نفس محمدٍ بيده إن ريح فروج الزناة ليؤذي أهل النار) (والذي نفس محمد بيده إن فروج الزناة لتشتعل ناراً يوم القيامة) وفي حديث البخاري حديث سمرة الطويل، قال: (ثم أتينا على تنور من نار أعلاه ضيق وأسفله واسع، وفيه رجال ونساء عراة يأتيهم لهب من تحتهم، فيرتفعون وينخفضون قلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء الزناة والزواني من أمتك) تترك الحلال والزواج وتذهب في الحرام أعوذ بالله، يقول الشاعر:
إذا وقع الذباب على طعامٍ كففت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماءٍ إذا كان الكلاب ولغن فيه
الأسد إذا أتى وهو يموت عطشاً، ولقي ماء يشرب منه كلب فإنه يذهب ولا يشرب مع الكلب؛ لأنه لو شرب فإنه يصير كلباً، فكيف تذهب في الزنا؟ كيف تقع في هذه الفاحشة؟ ثم بأي وجه تقابل ربك يوم القيامة وقد جاء في الحديث: (يؤتى بالزاني يوم القيامة فيوقف بين يدي الله، فتسقط فروة وجهه بين قدميه خجلاً من الله -يوم الفضيحة- يقول الله له: أزنيت عبدي؟ قال: لا يا رب -لأنه يوم أن زنى لم يكن يوجد أحد، وهو يعرف أنه ما كان يوجد أحد- فيقول الله: ألا يرضيك أن نقيم عشرة شهود؟ قال: بلى يا رب) يعني: أحضر شهوداً، من أين؟ لا يوجد أحد، فتبدأ الشهود من الجوارح وهذا معنى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} [يّس:65] تبدأ الجوارح، العين يقول: أنا للحرام نظرت، والأذن تقول: أنا للحرام سمعت، واللسان تقول: أنا بالحرام نطقت، واليد تقول: وأنا للحرام بطشت، والرجل تقول: وأنا للحرام مشيت، والفخذ تقول: وأنا فعلت، والأرض: وأنا حملت، والفرج يقول: وأنا باشرت، والملائكة تقول: وأنا اطلعت، والله يقول: وأنا سترت.
هذه عشرة أم لا؟ (يا ملائكتي خذوه، ومن عذابي أذيقوه، فقد اشتد غضبي على من قل حياؤه مني) فالعلاقات المنحرفة الغير شرعية تشكل عائقاً: يعتمد عليها بعض المنحرفين -والعياذ بالله- وهذا من أكبر الأخطاء.(20/19)
ترك القضية والبت فيها لرأي النساء
وأيضاً من العوائق: ترك القضية والبت فيها لرأي النساء، الإنسان لا يلغي أو يصادر رأي امرأته؛ لأن من النساء من عندها رأي مبارك مثل رأي خديجة رضي الله عنها؛ لما أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي أول ما نزل، ومثل رأي أم سلمة في غزوة الحديبية لما دخل عليها وهو مغضب قال: (آمر فلا أطاع، فقالت: يا رسول الله! ادع حلاقك واحلق أنت) فلما حلق النبي صلى الله عليه وسلم حلق كل الصحابة، فبعض النساء موفقة وفيها خير، وإذا استشرتها أعطتك رأياً طيباً، وبعض النساء لا تستشرها ولا تطعها، أنت شاور، ونحن لا نريد أن تستبد؛ لأن بعض الرجال مستبد، وقراراته استبدادية، ودكتاتورية في البيت، يريد أن يزوج البنت ولا يأخذ رأي أمها، لا.
خذ رأي الأم، فإن كان رأيها طيباً ومبنياً على حيثيات شرعية فخذ به، إن كان رأيها ما له سبب وإنما هو هوى فقل: لا.
أنت مخطئة، ورأيي كذا وكذا، خذ رأي البنت، أما ترك الأمر للمرأة بحيث تكون صاحبة القرار، فتطلب ما تريد من المتقدم فتعجزه وتهدده، فهذه ألبسها الثوب والعقال وتكون هي الرجل وخذ أنت ثوبها، الرجل القوام يأخذ برأي المرأة إذا كان حقاً، لكنه يرفضه إذا كان باطلاً، وإلا أصبحت الحياة الزوجية حياة فوضوية؛ لأنه لا يوجد رجل يتخذ القرار، حتى المرأة نفسها لا ترغب أن تعيش مع رجل ضعيف هزيل يجعل كل شيء بيدها؛ لأنها تحس أنها ناقصة، المرأة لا تحس بالأمن إلا في ظل الرجل العاقل الرجل القوي صاحب القرار، لكن الرجل الهزيل الضعيف يضطرها مسكينة أنها تظل رجلاً، وبالتالي تكون الحياة غير سليمة.(20/20)
الحقوق المشتركة بين الزوجين
وبعد هذه العقبات نتكلم عن أهمية العشرة: فإذا تم الزواج بالمعروف فإن الله سبحانه أمر الرجل بحسن العشرة مع المرأة، قال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم الرجال في النساء قال: (اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وخيركم خيركم لأهله) وإذا أردت أن تقيم نفسك فالذي يقيمك زوجتك، إن كنت طيباً عندها فأنت طيب عند الناس، وإن كنت سيئاً في البيت فأنت أسوأ عند الناس، والذي ليس فيه خير لزوجته ليس فيه خير للناس.(20/21)
حقوق الزوج على زوجته
القيام بالحقوق المشتركة، هناك حقوق مشتركة بين الأزواج، فحقوق الرجل: أولاً: خدمة الزوجة لزوجها، هذا حق أوجبه الله عليها.
ثانياً: حق الوطء والاستمتاع، فلا يجوز لها أن تمنعه من هذا الحق، بل لو دعاها وهي على أي وضع لا يجوز لها إلا أن تلبي، إلا أن تكون حائضاً، أو نفساء فلا يجوز لها أن تطيعه في الوطء المباشر، ولكن يجوز له أن يستمتع منها بما دون الفرج، أما لأي ظرف ثانٍ فلا يجوز؛ لأنها إذا منعته من الحق الذي يريده ربما تدفعه إلى أن يبحث عن الحرام، ولهذا قال العلماء: لا يجوز وفي الحديث المتفق عليه: (لا يجوز أن تصوم المرأة وزوجها شاهد إلا بإذنه) يعني صيام النافلة، تريد أن تصوم صيام النافلة فقبل أن تصوم تقول: سوف أصوم غداً، هذا إذا كان موجوداً، فإذا قال: تفضلي فالحمد لله، وإذا قال لا تصومي فلا تصومي، وإذا صمت فإنك آثمة؛ لأن بعض النساء تحب أن تصوم، وكلما دخل يريد زوجته قالت: صائمة هذا اليوم، ثم ماذا؟ أين أذهب أبحث لي عن واحدة ليست صائمة، لا ينبغي.
أيضاً من حقوق الزوج على زوجته حفظه في ثلاثة أشياء: أولاً: في عرضه، فإنها مؤتمنة على العرض، والخيانة الزوجية من أعظم أنواع الخيانات، ومن خانت زوجها ووقعت في جريمة فقد استحقت غضب الله سبحانه وتعالى؛ لأنها خدعته وأدخلت عليه من ليس له، ووطأت فراشه من لا يحل له، وقد تحمل من هذه الخيانة، وقد يكون هذا الولد محسوباً عليه، يأكل مع أولاده، ويصرف عليه، وينسب إليه وهو ليس له، هذه أعظم أنواع الخيانة، فيجب أن تحفظ عرضه، ثانياً: ويجب أن تحفظ ماله، فإنها مؤتمنة على المال، فلا تبذر ولا تسرف ولا تستهلك مال الرجل؛ لأن عند بعض النساء فلسفة مغلوطة، تقول: والله لا أدع له مالاً، وسأدعه فقيراً عمره، لأنه إذا كان لديه مال تزوج عليَّ، بالعكس هذه المسألة مقلوبة، الرجل الذي عنده زوجة تسرف في ماله وتبدد ثروته يرى أنها ليست زوجة صالحة، ويذهب يتزوج، ولو حتى بالدين، لكن الرجل الذي عنده زوجة يشعر بأنها تحفظ ماله، ولا تبذر ولا تسرف يقول: هذه المخلصة، والله ما أكافئها بأن أدق عينها أبداً، بل أبقى أنا وهي حتى نموت، فبعض النساء فهمهن مقلوب، تقول: والله لا أدع له مالاً، فهو يدعك ويخرجك من البيت، فلا تبذري في ماله، ولا تخرجي شيئاً إلا بإذنه، ولا تبالغي في قضية الطلبات؛ لأن هذه توغر صدر الرجل، بعض النساء منذ أن تعرف أن الرجل استلم الراتب أتت إليه، لازم تغير الملابس وتغير الذهب، وتذهب بي وتعود بي لا.
الأمور هذه كلها أمور ثانوية، أهم شيء السعادة الداخلية والسعادة القلبية، ليس الجمال جمال الذهب ولا جمال الملابس، الجمال جمال الدين، وجمال الأخلاق، وجمال التعامل، وجمال الأدب:
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلب عرياناً ولو كان كاسيا
فخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصيا
وأيضاً تحفظه في الشيء الثالث: وهو الأولاد، فإن الرجل لا يستطيع أن يشرف باستمرار على الأولاد؛ نظراً لمتطلبات الحياة المطلوبة منه، يطلب منه دوام، يطلب منه عمل، يطلب منه سعي في الأرض إلى الرزق، من الذي يقوم بهذا الدور؟ الأم؟ لا يقوم به إلا الأب أما الأم فلا تستطيع.
وأيضاً عدم الخروج من بيته إلا بإذنه، وعدم إدخال أي أحد إلى بيته إلا بإذنه؛ لأن البيت يعتبر مملكة، صاحب القرار فيه هو الزوج، إذا قال: لا تدخل فلانة، أو آل فلان لا يدخلون، فإذا جاءوا من عند الباب فقولي: والله أنا ممنوعة أن أفتح لك، ولو كان من كان، وأنت لا تخرجي إلا بإذنه؛ لأن من أسوأ ما يكون أن يأتي الرجل إلى بيته فلا يجد امرأته، ويسأل عنها قال: ما أدري، فمن يدري إذا لم تدر أنت، إذا كان الزوج آخر من يعلم عن امرأته، هذا من الضياع والتسيب.(20/22)
حق الزوجة على زوجها
أما حقوق المرأة على زوجها فكثيرة: أولاً: المعاشرة بالمعروف؛ أن يعاشرها بالمعروف.
ثانياً: الصداق؛ إن الله أمر بإعطائها صداقها.
ثالثاً: النفقة؛ فالزوج مطالب بالنفقة على زوجته، يقول الله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] فلا بد أن تنفق، وتشمل السكن والكسوة والطعام والشراب وأيضاً حق التعليم، يعلمها أمور دينها؛ لأن بعض الأزواج يظن أن مسئوليته في حدود الماديات، ولا يشعر بمسئوليته تجاه هذه المرأة في تعليمها أمر دينها، كإحضارها إلى المحاضرات، وشراء الكتاب الإسلامي، وإعطائها الشريط الإسلامي، وإدخالها مدارس القرآن، وإحضارها إلى مجالس الذكر التي للنساء، هذا كله من حقوقها؛ لأن هذا يسهل عليك إصلاحها، ويعينك على تربيتها، وأيضاً يجعلها صالحة لك؛ لأنها إذا عرفت حق الله وحقك قامت به، وبالتالي تستقيم الحياة الزوجية.(20/23)
أسباب المشكلات الزوجية
هناك مشاكل تحصل في البيوت بين الأزواج وبين الزوجات ولها أسباب:(20/24)
السبب الأول: الجهل
وأعظم أسبابها: الجهل؛ رجل جاهل بحكم الشرع في التعامل، وهي أيضاً جاهلة فيحصل نتيجة الجهل المشاكل الكثيرة، ولو عرف كل إنسان الحقوق التي له والتي عليه، وقام بالتي عليه وطلب التي له لاستقامت الحياة.(20/25)
السبب الثاني: سوء التصرف
ثانياً: سوء التصرف؛ فقد يتصرف الرجل تصرفاً أهوج أو أحمق، ويؤدي هذا إلى مشاكل وتتصاعد حتى تؤدي إلى الطلاق، ولو أنه تصرف تصرفاً عاقلاً وهادئاً وموزوناً لم يحصل شيء، كذلك بعض النساء تتصرف تصرفات سيئة تثير زوجها، تراه في حالات الغضب فتتكلم معه، لا.
إذا كان في حالات الغضب فاسكتي، بعضهم يكون غاضباً جداً فيقول: اسكتي وإلا طلقتك، قالت: طلقني، قال: اذهبي، ثم تعود لتستفتي، كثير من النساء الآن يستفتين تقول: طلقني زوجي - لماذا؟ - قالت: قلتُ: طلقني! - قلت: قد أعطاك ما كنت تطلبين.
- قالت: أريد أن أعود فعندي أولاد.
قلت: لماذا تطلبين الطلاق إذاً؟! هذا من سوء التصرف، لا.
بل مفروض على المرأة إذا رأت زوجها غاضباً أن تسكت إلى أن يهدأ؛ لأن الغضب من الشيطان، وإذا رأته يريد أن يتكلم تحط يدها على فمه تمنعه؛ لأن المتضرر بالطلاق هو المرأة، فهو تدمير لحياتها تشتيت لشملها وأسرتها طرد لها من مملكتها، تذهب إلى بيت أبيها ثم تصبح هناك خادمة في البيت، فتصبح مطلقة مرفوضة في المجتمع لا أحد يريدها، فلماذا تسعى الواحدة إلى هذا الأمر، وتسعى إلى حتفها بظلفها وبلسانها، فسوء التصرف دائماً سبب من أسباب المشاكل الزوجية.(20/26)
السبب الثالث: التعالي والتعاظم
وأيضاً التعالي والتعاظم؛ بعض الرجال يشعر بأنفة وعظمة أمام زوجته، وبعض النساء كذلك تشعر بعظمة أمام زوجها خصوصاً إذا كانت أعلى منه مؤهلاً، أو أكثر راتباً، أو أجمل شكلاً، أو أعلى نسباً، تشعر بأنها أفضل منه، لا.
لا ينبغي أن يشعر أحد بأنه أفضل من الآخر، بل لا بد من التواضع والتراحم والمودة والرحمة كما ذكر الله سبحانه وتعالى.(20/27)
السبب الرابع: سهر الزوج خارج البيت
وأيضاً من المشاكل الزوجية: سهر الرجل خارج البيت، وهذا من أعظم ما يؤلم المرأة، فإن المرأة تحتاج إلى من يسمر معها في بيتها ويؤنسها، وأكثر الرجال يضيع هذا الحق، فيقضي الليل من بعد المغرب إلى الفجر في البلوت وفي الورق، وزوجته مسكينة هناك، يضعها أمام خيارات صعبة، إما أن تعيش محرومة منه، أو أن تضطر أن تسهر على الحرام، مثلما سهر هو مع الزملاء، فتبحث لها عن زملاء!! لا.
يا أخي الكريم! تزوجت فاترك السهرات، واجعل سهراتك مع امرأتك، ومع أولادك، إذا دعاك زملاؤك لتلعب فقل: لا.
ما عندي لعب، عندي عمل ثانٍ؛ لأن السهر خارج المنزل منكر عظيم يؤدي إلى فضائح وإلى فجائع.(20/28)
السبب الخامس: سوء الظن
وأيضاً من المشاكل: سوء الظن، رجل يسيء الظن بزوجته، وهي تسيء الظن به، وإذا نزعت الثقة من الزوجين فشلت الحياة الزوجية، يجب أن تبنى على الثقة بحيث يشعر زوجك أنك موثوقة، لا يجرب عليك كذبة ولا خيانة، حاولي أن تزرعي الثقة في قلبه، فزرعها يحتاج إلى وقت، لكن هدمها سهل، وكذلك أنت ازرع الثقة في قلبها، لا تجعل مكالمات تأتيك تخليها تسيء الظن، وأنت راجع بالسيارة سترى امرأة -مثلاً- فلا تلفت إليها؛ لأنها تسيء الظن بك، وتغضب الله سبحانه وتعالى، فراقب الله تعالى؛ لأنه كما أنت تريد أن عينها عليك وحدك، هي أيضاً تريد أن تبقى عينك عليها فقط، ولا يجوز لك أن تمدها إلى الحرام.(20/29)
السبب السادس: التدخل السيء للأقارب
وأيضاً من المشاكل الزوجية ما يكون سببها: تدخل الأقارب الأم والأب أم الولد أو أبوه أم البنت أو أبوها، يتدخلون من أجل الحل فيزيدونها تصعيداً؛ لأن الأم حين تشكو إليها تقول: والله ضربني وقال لي وقال لي، قالت: أبوه هذا، والبنت ليست صادقة، البنت تعرف أنها إذا ذهبت البيت راح الضرب وراح الغضب وسمروا ورقدوا وانتهت، لكن تلك الأم يبقى الغضب في صدرها، فلا يجوز للبنت أن تشكي إلى أمها ولا إلى والدها، ولا يجوز للابن أن يشكو إلى أمه، وما به من زوجته، اجعل المشاكل بينكما فقط، وأي مشكلة تحصل بين الزوجين إذا خرجت من إطار الزوجين اشتعلت، لكن ما دام أنها داخل هذا الإطار لو ظل أسبوعاً غضبان وهي غضبانة فبعد الأسبوع ماذا يحدث؟ يتراضيا وتنتهي المشكلة، لكن إذا علمت أمها، تظل غاضبة سنتين، فلا تخبريها أبداً، ليس هناك داعٍ لبث المشاكل إلى خارج الأسرة.(20/30)
علاج المشكلات الزوجية
يخطئ بعض الناس حين يتصور أنه ليس من حل للمشاكل إلا الطلاق، فما أن تحصل أي مشكلة بسيطة إلا ويقفز رأساً إلى الطلاق، هذا خطأ، هناك حلول شرعية: أول حل: الوعظ والتعليم، وهذا يستغرق وقتاً طويلاً.
ثانياً: الهجر في المنام، لو أتيت لتنام فتوليها ظهرك أو تنام في غرفة ثانية، ليس الهجر في المعاملة، لازم تسلم عليها إذا دخلت.
ثالثاً: إذا ما نفع الهجر فالضرب الغير مبرح، وليس هذا من شأن الرجل الناجح في الحياة الزوجية بل جعله النبي صلى الله عليه وسلم قدحاً في الرجل، لما جاءت فاطمة بنت قيس تستشير النبي صلى الله عليه وسلم في أن تتزوج قال: (أما فلان فصعلوك) ليس معه شيء، (وأما فلان فضراب للنساء) ليس عنده تفاهم إلا بالعصا، كلما قالت شيئاً ضربها بالعصا، هذا لا يصلح؛ لأن بعض الأزواج فاشل لا يعرف أن يتفاهم إلا بالعصا.
شخص كان لديه عصاً معلقة في البيت سماها (ستر الله) وأي مشكلة يضربها بها حتى يكسر لها عظامها، ثم تذهب لتشتكي، فإذا أتوا إليه قال: ما بيني وبين أهلي شيء، والله ما بيني وبينهم إلا ستر الله، يعني ما بينه وبينهم إلا العصا.
هذا ليس فيه خير، الذي يضرب زوجته ويتعامل معها على أنها دابة كلما حدث شيء انتهرها وضربها هذا لا خير فيه، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يضرب زوجة له، بل الرجل الفاضل هو الذي يكرم هذه الزوجة، ولكن أحياناً وفي ظروف ضيقة قد يسوء خلق الزوجة، أو تنشز عليه، لكن ليست كل زوجة، وليس في كل حال، وإنما علاج لمرض نادرٍ قد لا يحصل، ثم إذا ما نفع حتى الضرب بعث حكمين من أهله وأهلها لبحث المشاكل، ثم إذا لم يوجد فائدة فالطلاق لكن بآدابه، أولاً طلقة واحدة، ثم في طهر لم يأتها فيه، لا يطلقها وهي حائض، ولا في طهر قد جامعها فيه؛ فذلك طلاق بدعي، وصاحبه آثم وهو يقع، ثم يطلق مرة؛ لأنه قد يطلق مرة واحدة وتذهب إلى البيت ويتألم وإذا به يردها، لكن أن يجمع الثلاث سواء، هذا من الأخطاء.
هذه أيها الإخوة! آداب الحياة الزوجية وما يتعلق بالمشاكل والحلول التي لها.(20/31)
أخطاء شائعة تقع في الزواج
وهناك أخطاء شائعة تقع في الزواج نعرض لها باختصار:(20/32)
تأخير الزواج بالنسبة للرجل أو المرأة
أول خطأ: تأخير الزواج سواء للابن أو للبنت، ومعاتبة من يسارع في تزويج بنته، عندك بنت بلغت خمس عشرة سنة أي: فقد نضجت، والثمرة تقطف عند النضج، وعلامة نضج البنت أنها بلغت، إذا حاضت، أو بلغت خمس عشرة سنة، وجاء خاطب فلماذا ترفض؟ زوجها لكي تطمئن نفسك، ولتشعرها بالمسئولية، والبنت في بيت أهلها ستظل صغيرة ولو بلغ عمرها أربعين سنة، ما تشعر بمسئولية، لكن زوجها وعمرها تسع سنوات أو عشر سنوات وتعال لها في اليوم الثاني تجدها عاقلة عقلها مثل الجبل، لماذا؟ أدركت أنها زوجة، وأن لها زوجاً، وأن لها مصلحة، ولذلك ترى بعض البنات في بيتها الآن لا تعرف إعداد الشاي، لكن دعها مع زوجها وتعال بعد شهر تجدها تطبخ لك جملاً، لماذا؟ امرأة، ويأتي زوجها ويقول: أنا عندي ضيوف اطبخي اعملي، هناك تقول لأمها: لا أدري اطبخي أو دعي الخادمة تطبخه، لكن هنا لا يوجد خادمة، اطبخيه أنت، فتضطر لأن تطبخ.(20/33)
تزويج البنات بغير الأكفاء والعكس
ومن الأخطاء: تزويج البنات بغير الأكفاء، فلا يبحث عن الكفاءة الدينية، أو تزويج الأولاد بغير الأكفاء من البنات، أو الاكتفاء بسمعة البيت، يعني: ولد -مثلاً- جاء من بيت صالح، لا ينبغي أن ننخدع بالبيت وصلاحه، بل لا بد أن نضم إلى صلاح البيت صلاح الولد، فقد يكون الولد فاسداً والبيت صالحاً، والذي سيتزوج هو الولد، لا أسرته، أو قد تأتي تخطب من بيت سمعة البنات فيه طيبة؛ لكن هذه البنت سمعتها سيئة، فلا ينبغي أن تغتر بهذا.(20/34)
عدم الاستشارة والاستخارة
عدم الاستشارة، بعض الآباء لا يستشير، وبعض الأبناء لا يستشير، أو قد يستشير من ليس أهلاً.
إياك أن تترك الاستخارة، الاستخارة مطلوبة، إذا هممت بأمر فتوضأ وصل ركعتين، ثم قل قبل السلام كما يرجح شيخ الإسلام ابن تيمية: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، اللهم إن كنت تعلم أن في زواجي من هذه المرأة خيراً لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره وأعني عليه، وإن كنت تعلم أن فيه شراً لي في ديني أو دنياي أو عاجل أمري أو آجله فاصرفه عني واصرفني عنه واكتب لي الخير حيث كان ثم رضني به) ثم ماذا تعمل بعد الاستخارة؟ لا كما يصنع بعض الجهلة والمغفلين والمبتدعة، يقول: أنا سوف أرقد بعد الاستخارة فإن رأيت حلماً جميلاً أقدمت، وإن رأيت حلماً سيئاً تركت، نقول له: أمات الشيطان أم أنه موجود؟ قد يعلم الشيطان بما استرق من السمع أن زواجك من هذه المرأة فيه خير، فيسوي لك رؤية سيئة لكي تترك الزواج، فالاستخارة أن تفوض أمرك إلى الله، وتذهب تخطب عند أهل هذه البنت، فإذا يسر الله الأمر فمعنى هذا أن الله اختارها لك، وإذا تعقد الأمر معنى هذا أن الله صرفها عنك، أما أن تنام على شقك الأيمن وإن رأيت رؤيا حسنة أو تضع يدك على قلبك إذا كان دق قلبك قوياً أو غير ذلك فالله ما اختاره إن كان وإن كان هذه كلها خرافات ما أنزل الله بها من سلطان.(20/35)
الحرج من عرض البنت على الكفء
وهناك خطأ أيضاً: وهو الحرج من عرض المولية على الكفء، بعض الناس عنده بنت، ويريدها أن تتزوج، ورأى شخصاً طيباً، لكن يقول: أذهب أدلها عليه؟! فيأتيه حرج، وليس فيه حرج، إذا رضيت بشخص في دينه فلا مانع أن تقول له: تعال، وأيضاً ذاك يجب أن يكرم هذه البنت لا يذهب ويقول: إن هذا عرضها عليَّ؛ لأن بعض الناس لئيم، إذا أكرمته وأعطيته ابنتك قال: والله لو أنك ما أتيت بها ما أخذتها، لا.
أكرمها لأنه عرضها، وإن تعرض فقد عرضها من هو أفضل منك، وهو عمر رضي الله عنه، عرض حفصة على عثمان وعلى أبي بكر، ثم خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فأصبحت أماً للمؤمنين رضي الله عنها وأرضاها.(20/36)
نكاح الشغار
ومن الأخطاء في الزواج: نكاح الشغار وهو أن يقول: ما أزوجك ابنتي إلا إذا زوجتني بابنتك، أو ما أزوجك أختي إلا إذا زوجتني بأختك، هذا نكاح باطل، وهو محرم.(20/37)
نكاح التحليل
وأيضاً نكاح التحليل، أن يطلق رجل امرأة ثلاثاً بائناً، ثم يريدها فيتفق هو وإياها على أن يحلها له رجل، فيذهب إلى رجل يقول: تعال، أريدك أن تصنع معروفاً، لقد طلقت زوجتي فلانة، وعندي أولاد وأنا أريدها وهي تريدني لكن اللسان والشيطان، أنا سأعطيك مبلغاً وأريدك أن تعقد عليها ثم تفكها ولا تدخل بها ثم أنا أتزوجها، هذا اسمه نكاح التحليل: (لعن الله المحلل) وسماه الرسول (التيس المستعار) لأنه استعير لفترة مؤقتة، لابد أن يكون نكاح رغبة، ويذوق عسيلتها وتذوق عسيلته، ومن دون تواطؤ بينه وبين هذا الزوج، أما إذا وجد تواطؤ صار النكاح باطلاً، والذي يحصل بعده أيضاً باطل.(20/38)
الحرج من رؤية المخطوبة
وهناك من الأخطاء: الحرج من رؤية المخطوبة، بعض الآباء يقول: لا أدعه ينظر إلى ابنتي؟ أهي سيارة حتى يكشف عليها؟ نقول: إذا تحرجت من هذا فقد خالفت السنة الزواج في نظر الشرع بناء، والبناء لا يبنى إلا على أساس، وأساس البناء القناعة، كيف تريده أن يتزوج امرأة لا يعرفها، فلا بد أن يراها وتراه، في حدود المباح شرعاً بوجود المحرم، ويرى منها بعض ما يدعوه إلى نكاحها.
وعلى النقيض من ذلك هناك من يسمح بأن يرى كل شيء من البنت، في بعض المجتمعات يقول: أنا أتزوجها حتى أدرس نفسيتها، وأدرس أخلاقها، وأحللها (أدخلها المختبر) وأرى عناصرها، ثم بعد ذلك يعمل كل شيء، فإذا رأى كل شيء طلقها قال: هذه سوف تروح مع غيري، وهذا كله غلط، والصحيح ألا يعرف الزوج عن الزوجة شيئاً إلا بالسؤال، ثم يراها إذا تحقق أنه سوف يتزوجها، فإن رأى ما يعجبه أقدم، وإن رأى ما يكره كتم، لا يذهب ليخبر الناس يقولون له: ماذا فيها؟ قال: والله ليست جميلة، والله طويلة، والله سمينة، لا.
أنت نظرت إليها بأمر الشرع فلا تهتك عرضها وعرض وليها، إذا سئلت: لماذا ما تزوجت؟ تقول: النصيب ما حصل نصيب، وقل: فيها خير وفيها بركة.
لماذا؟ لتحفظ لها مكانتها ولوليها أيضاً مكانته.(20/39)
دبلة الخطوبة من الأخطاء الشائعة
هذه بعض الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس، ومن ضمن ذلك الدبلة التي شاعت الآن، والشبكة، وإدخال الدبلة في يدها، وهي تدخلها في يده، هذه كلها تصورات جاهلية وأفكار نصرانية، هذه الدبلة من عادات النصارى؛ لأنه ليس عندهم عقد شرعي، عندهم الخاتم، إذا أدخله صارت زوجته، وإذا نزعه انحل الزواج، الخاتم هذا لا تدخله في يدك أعطها خاتماً أو خواتم وهي تدخله بنفسها وتستخدمها، إنما تلبسك وتلبسها وتشبكك وتشبكها هذا كله كلام ليس له أساس وغير مشروع في شريعة الله عز وجل.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الزوجات الصالحات، وأن يعيننا على تزويج بناتنا وأبنائنا، وأن يديم علينا في هذه البلاد المباركة أمننا ونعمتنا وديننا واستقرارنا، وأن يوفق ولاة أمورنا وعلماءنا ودعاتنا وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.(20/40)
الأسئلة(20/41)
حكم التصوير
السؤال
مجموعة من الأسئلة تسأل عن مسألة تصوير المحاضرات، بعضها تسأل وبعضها تستنكر؟
الجواب
لقد ذكرت هذا في محاضرة سابقة، وقلت: إن مسألة التصوير مسألة خلافية، إذا كان التصوير بالآلة، أما إذا كان التصوير باليد فبإجماع العلماء أنه محرم، وورد فيه أدلة كثيرة، أكثر من عشرة أحاديث (لعن الله المصورين يؤخذون على شفير جهنم فيؤمرون بنفخ الروح أو يلقون في النار) هذه أحاديث كثيرة، هذا إذا كان الإنسان يأخذ القلم والريشة ويصور؛ لأنه يبدع، وينشئ، ولهذا من أسماء الله الحسنى ماذا؟ المصور {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24]، ويقول: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر:64] يعني ماذا؟ يعني خلقكم أبدعكم {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران:6] سبحانه وتعالى، فإذا كان التصوير باليد فإنه مجمع على حرمته، وإذا كان التصوير بالآلة فهنا الخلاف على ثلاثة أقوال: - القول الأول: ليس حراماً، لماذا؟ قالوا: لأنه ليس تصويراً، وإنما ظل انعكس عن طريق العدسة، مثل إذا وقفت أمام المرآة ورأيت ظلك هل أنت مصور؟ لا.
ظلك جاء في المرآة، وكذلك العدسة، ظلك انعكس فيها، لكن الفرق بين عدسة الكاميرا وبين المرآة أن الكاميرا تثبت الظل، والمرآة لا تثبته؛ فالمصور لا يستطيع أن يكبر عينك، ولا يصغر خشمك، ولا يوسع فمك، ولا يطول رأسك، الخلقة التي خلقك الله عليها ينقلها، فهو ما صور بل ثبت الظل فقط، هذا القول الأول.
-القول الثاني: قالوا: لا.
هو المصور؛ لأنه هو الذي يضبط الكاميرا، وهو الذي يحدد المسافة، وهو الذي يضغط الزر، وهو الذي يطبع، وهو الذي يحمض، فيشمله الوعيد.
- القول الراجح وهو وسط بين القولين.
قالوا: الصورة تبقى على الأصل في حرمتها، إلا ما تدعو له الضرورة، فما تدعو له الضرورة فهو مباح، أي ضرورة؟ قالوا: الضرورة أولاً الأمنية، الآن لولا الصورة الموجودة في حفيظتك وفي جوازك ما عرف التمييز بين الناس، هذه ضرورة أمنية وكذلك الضرورة الاجتماعية والضرورة الدعوية، مثل هذه المحاضرة هذه المحاضرة سجلت وستبقى مسجلة يستفيد منها آلاف البشر، بل ملايين البشر، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأنا كنت في الحقيقة متردد في قضية تصوير المحاضرات إلى أن سافرت في العام الماضي إلى السويد، والدنمارك، والنرويج، ورأيت إخواننا هناك، وكنت أظن أنه لا يوجد مسلمون إلا في المملكة العربية السعودية، يوجد في العالم ألف مليون مسلم، في المملكة فقط خمسة عشر أو ستة عشر مليون، والباقي تسعمائة وخمسة وثمانون مليوناً في بقية العالم، وعندما جئت وإذا هناك مساكين يفتقرون إلى العلم، يقولون: لا يوجد عندنا علماء، قلت: كيف تتعلمون؟ وإذا بالأشرطة كلها موجودة، ويقولون: نحن نحضر محاضرة، كل ليلة محاضرة مع عالم، من أين العالم؟ قالوا: أكثرهم من السعودية ومن الكويت ومن مصر ومن الأردن، وإذا بالأشرطة، العلماء موجودون، قالوا: أنتم لا تأتونا لكن يأتينا من العلماء غيركم، يأتي العالم في شريط لا يأكل ولا يشرب، ولا يحجز تذكرة، ولا عشاء ولا شيء إلا يتكلم، وإذا أكمل أغلقوه، هذه نعمة أم لا؟ فلماذا بعض الناس يقول: لا.
لا نريد، هذه صورة، اسأل هذا المتعصب فتش جيبه في صورة؟ طبعاً من الذي ما في جيبه صورة الآن، كل واحد في جيبه ريال، أو خمسة أو عشرة أو خمسون، لماذا هنا حلال؛ لأنها قروش! وإذا هي للدعوة حرام، نحله عاماً ونحرمه عاماً، أنا أرى أن ضرورة الدعوة أهم من كل ضرورة؛ لأن هذا دين الله، والأمة والحمد لله تشهد صحوة، والعودة إلى الإسلام ليست في بلاد المسلمين فقط بل في بلاد الكفار، والعلماء لا يمكن أن يصلوا إلى كل مكان، لكن يمكن للشريط أن يذهب إلى كل مكان.
أما الصور الأخرى أيها الإخوة! الصور المحرمة صور الغرام وصور النساء وصور الفتن، هذه تبقى على أصلها وهي محرمة، لكن صورة مفيدة وفيها مصلحة للمسلمين، وفيها علم ينقل، لا شك أن ذلك إن شاء الله مباح بل هو أمر مطلوب، وأسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكم التوفيق.(20/42)
ما يجب على من عدد الزوجات
السؤال
يقول: أرجو ألا تميل علينا أيها الشيخ! فنحن أكثرنا متزوجون بأكثر من واحدة؟
الجواب
ما نميل عليك يا أخي الكريم! ولكن نقول لك: اتق الله واعدل، فإن الرجل إذا عدد لزمه العدل، فإذا عدل ارتاحت المرأة، أكثر النساء يشتكين من التعدد؛ لأن زوجها لا يعدل، الخطأ ليس في التشريع، الخطأ في التطبيق، ولو أن الرجال إذا تزوجوا عدلوا لاستقامت الحياة، لكن المرأة تكره الظلم، وحينما يعيش زوجها معها فترة ثم يضيعها ويأخذ له زوجة جديدة ويذهب يجلس عندها ويهمل الأولى، فلا يصرف عليها، ولا يسمر معها، ولا يعدل معها، ولا يراعيها، ويجلس هناك، المرأة تكره الظلم، وبالتالي تصيح وتقول: التعدد ليس مرضياً، لكن لو أنه عدل وقام بواجب المرأة الأولى ولم ينكر فضلها لدعى النساء إلى التعدد، بل بعض النساء يتصلون بالتلفون ويقولون: الله أكبر! ما أعظم التعدد، قلت: كيف؟ قالت: الرجل مسئولية وقيامي بخدمته وواجبي نحوه كبير، وما دام وجدت امرأة ثانية تساعدني بهذا الواجب تساعدني عليه تقول: ليلة وهو عندي أهتم به، وأطبخ له عشاء، وأهتم بنظافتي له، ورائحة بيتي، وتربية أولادي، تقول: والليلة الثانية آخذها إجازة ثم أرتاح، فهذا فضل من الله سبحانه وتعالى، فمسألة التعدد ليست خطأً في الشرع؛ لأن الذي شرع التعدد هو الله والله يقول في حديث قدسي: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) أيمكن أن يحرم الله الظلم ثم يبيح التعدد وفيه ظلم؟ لا.
التعدد ليس فيه ظلم من حيث التشريع، ربما يكون فيه ظلم من حيث إساءة التطبيق، أما إذا عدلت مع زوجتك وأعطيتها حقها كاملاً فإنك تعيش في أمن؛ لأن الذي خلقها هو الله، وهو أعلم أن هذا لا يضرها: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] سبحانه جلت قدرته، ونحن لا ندعو إلى التعدد، لكننا نقول بأنه شريعة، وإلا الرجل الذي يرزقه الله بزوجة صالحة يحبها وتحبه، ودود ولود، تفي بمتطلباته وتحقق كل أغراضه ويعيش في راحة وسعادة، يحمد الله عليها؛ لأن الله يقول: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3].
ذاك الرجل الآخر عنده ظروف، بعض الناس بمجرد أن يسمع أن فلاناً تزوج يغضب رأساً، خاصة النساء، ويدعون عليه، لو يتزوج واحد في المغرب قالوا: الله يكسره لماذا يتزوج؟ حسناً وما يدريكم ما هي ظروفه؟ وما يدريكم ما هي أحواله؟ وما يدريكم ما هي معاناته مع زوجته؟! ما يتزوج أحد إلا من حاجة، فلماذا نتدخل في خصوصيات الناس؟ فنسأل الله سبحانه وتعالى الصلاح، وللزوجات صلاح أزواجهن، واستقامة حياتهن، وتربيتهن وأولادهن، والرضا بشريعة الله سبحانه وتعالى.
والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(20/43)
من وحي رمضان
إن لشهر رمضان المبارك مكانة عظيمة في نفوس المسلمين، ولكن ما هي الغاية من مشروعية صيام شهر رمضان، ومن قيامه؟ الغاية من صيام شهر رمضان هي التقوى واستكمال العبودية لله عز وجل، فهو بمثابة المحطة التي يتزود فيها العبد المؤمن من الأعمال الصالحة التي تعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة، فعلينا أن نستغل رمضان استغلالاً جيداً، وألا نضيعه بالسهر في الليل على المحرمات، وبالنوم في النهار، وعدم حضور الصلوات مع الجماعات في المساجد.(21/1)
أهمية رمضان وفضل العبادة فيه
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
مرحباً بكم -أيها الإخوة- في هذه الليلة النورانية، التي اجتمعت فيها الأنوار من كل جانب؛ أنوار الصيام، وأنوار التراويح والقيام، وأنوار القنوت والبكاء من خشية الملك الديان، وأنوار القرآن، وأنوار بيوت الرحمن: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35].
اللهم اجعل لنا من هذا النور أوفر الحظ والنصيب، واجعل لنا من هذا النور نوراً في قلوبنا، ونوراً في أبصارنا، ونوراً في أسماعنا، ونوراً في ألسنتنا، ونوراً عن أيماننا وعن شمائلنا، ومن أمامنا ومن خلفنا، ومن فوقنا ومن تحتنا، اللهم أعظم لنا نوراً واجعل النور بين أيدينا مع الذين قلت فيهم: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الحديد:12] اللهم اجعل لنا هذا النور في الدنيا والآخرة.
أيها الإخوة: هذه الأنوار لها دلائل وعليها براهين، ستبقى صلاتنا وتراويحنا وقيامنا وتلاوتنا بل وحتى بكاؤنا ستبقى عرائس من الزهور، حتى إذا أكدناها وصدقناها بأعمالنا وتصرفاتنا دبت فيها الأنوار؛ لأن من الناس من يقول: أنا أحضر إلى المسجد ولا أبكي، نقول له: كيف أنت إذا نظرت إلى الحرام؟ هل تغض بصرك؟! كيف أنت إذا استمعت إلى الحرام؟ هل تصون سمعك؟! كيف أنت إذا سمعت الناس يخوضون؟ هل تكف لسانك؟! كيف أنت مع الزنا؟! كيف أنت مع اللواط؟! كيف أنت مع الغناء؟! كيف أنت مع الربا؟! كيف أنت مع كل المحرمات؟! كيف أنت مع الطاعات؟! فإن كان كما يرضي الله على الهدي الصحيح؛ على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كان هو المؤمن الحق، أما إذا بكى هنا، فإذا لاحت له معصية وقع فيها، يبارز الله بالعظائم، ويستخفي من الناس، ولا يستخفي من الله فهذا يقول الله فيه وفي أمثاله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] عمل أجوف لا روح فيه، صورة شكل لا معنى لها، إن الحقيقة هي في السلوك، والعمل، والتطبيق، والمراقبة، والخشية، والشعور بالمراقبة الربانية لك -أيها المؤمن- في الليل والنهار، في السر والجهار، وقد ذكر أئمة الحديث حديثاً صحيحاً عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأقوامٍ يوم القيامة لهم حسنات كأمثال جبال تهامة فيقول الله لها: صيري هباءً فقال الصحابة: لم يا رسول الله؟! قال: كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) هذه مشكلتهم؛ أنهم في الخلوة يجترئون على معصية الله، وبين الناس ربما يتظاهرون بخشية الله، وهي علامة النور الصوري؛ لأنه ينفع مع الناس، ولكنه مع الله ينطفئ، أما النور الحقيقي فإنه مع الناس ومع الله يزداد، إذا لم يكن هناك أحد يراك إلا الله فإنك تشعر بعظم المراقبة.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
إذا غابت عنك أعين الناس فإن عين الله لا تغيب عنك أبداً: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32].
أيها الإخوة في الله: هذه الأنوار وهذه الليالي الرمضانية الإيمانية، ما أعظم وما أجمل أن يقضيها المؤمن في رحاب الله، ومع كلام الله، ومع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! وشهر رمضان شهر الذكريات، شهر المعاني والإيحاءات، شهر الخيرات والبركات، شهر الفوز والمكرمات، يفرح به المؤمن، ويتمنى لو كان الزمان كله رمضان، يفرح حين مقدمه، ويعيش أعظم ساعاته في شهر رمضان، ثم إذا ولى رمضان يبكي عليه حزناً وشوقاً، فقد كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، فإذا انتهى رمضان دعوا الله ستة أشهر أن يتقبل منهم ما عملوه من حسنات في رمضان.
رمضان
أيا شهر الصيام فدتك نفسي تمهل بالرحيل والانتقال
فلا أدري إذا ما عدت يوماً على هذي الحياة بخير حال
أتلقاني مع الأحياء حياً أو انك تلقني في اللحد بالِ
رمضان
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجبٍ حتى عصى ربه في شهر شعبان
ها قد أظلك شهر الصوم بعدهما فلا تصيره أيضاً شهر عصيان
اتلُ الكتاب وسبح فيه مجتهداً فإنه شهر تسبيحٍ وقرآن
كم كنت تعرف ممَّن صام من سلفٍ من خير أهلٍ وجيرانٍ وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم حياً فما أقرب القاصي من الداني
ومعجب بثياب العيد يقطعها فأصبحت في غدٍ أثواب أكفان
حتى متى يعمر الإنسان مسكنه مصير مسكنه قبر لإنسانِ
هذا الشهر الكريم من أجلِّ العبادات ومن أزكى القربات، فرضه الله بصيغة الكتابة، ثلاثة أشياء في القرآن والأوامر الربانية جاءت بصيغة الكتابة، وكأنها صكوك ربانية لا تقبل النسخ، ولا التبديل، ولا الاستثناء؛ ثلاثة أمور صعبة على النفس: الأمر الأول: الصيام: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183].
الأمر الثاني: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178].
الأمر الثالث: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216].
ثلاثة أمور: صيام، وقصاص، وقتال.
يقول العلماء: إن جعل الصوم مع القتل والقصاص مشعر بأهمية الصوم وعظمته، وأنه لا يقبله ولا يتحمله ولا يرضخ له ولا يحبه إلا المؤمن، ولهذا خاطب الله أهل الإيمان بهذه الصفة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ} [البقرة:178] أي: فرض وأوجب وألزمتم به {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:178] وحتى لا يقول أحد: لماذا يا رب! نحن دون بقية الناس؟ قال: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:178] أي: ليس الصيام أمراً بدعاً في حياة الأمم والشرائع، لا، إنه سنة الله، إنه دين الله الذي لا يتبدل في جميع الديانات والرسالات؛ فما من نبيٍ بعث، وما من شريعة نزلت، وما من كتابٍِ نزل إلا وفيه الأمر بالصيام، كما فيه الأمر بالصلاة وبالتوحيد، ولكن تختلف الشرائع، {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48] كان صوم الأولين أنهم يمسكون عن الطعام والشراب والكلام، حتى الذي يتكلم كلمة يفطر ويقضي اليوم، بكلمة واحدة! ولهذا لما جاءت مريم بولدها عيسى عليهما السلام، قالت: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:26] وذلك عندما قيل لها: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:28] فأشارت إليه لم تتكلم، قال تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} [مريم:29] فتكلم هو وقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم:30 - 31].
كل شريعة سبقت نزل فيها الأمر بالصوم، ولهذا عزانا الله وقال: الأمر لا يخصكم فقط بل إنه يخص كل الأمم: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183].(21/2)
الحكمة من الصيام
ثم جاء التبرير والتوضيح لهدف الصيام، والحكمة من فرضيته فقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] ليس الغرض تعذيبكم أو تجويعكم، فليس لله حاجة في ترككم طعامكم وشرابكم، ولكن الغرض تربيتكم ورفع درجاتكم، والهدف تعويدكم على الانتصار على النفس وشهواتها وملذاتها، تعويدكم على الانتصار على كل المباحات، فالغرض هو التقوى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، وإذا صرتم متقين حصلت لكم الخيرات من كل جانب، إذا صرتم متقين فإن الله وليكم في الدنيا والآخرة، يقول تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:19].
إذا صرتم متقين فيقول الله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات:41] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان:51] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} [الطور:17] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55].
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] حتى تتقوا، فإذا وصلتم إلى درجة التقوى وهي: الشعور بالمراقبة لله الذي لا إله إلا هو، إذ أن الصوم هو العبادة الوحيدة التي لا يطلع عليها إلا الله؛ بإمكان كل واحدٍ أن يتظاهر أنه صائم، وبإمكانه بالخفية أن يفطر، من يعرفك؟! من يلازمك أربعاً وعشرين ساعة؟! من يراقب تصرفاتك؟! ولهذا جاء في الحديث أن الله عز وجل يقول: (كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به)، لم كان الصوم لله خالصاً من بين الأعمال؟ لأنه لا يمكن أن يعرف حقيقته أحد إلا الله.
ذكرت قصة حصلت لي في الجنوب في أبها: فقد كنت في معهد علمي ألقي محاضرة، وبعد المحاضرة وانفضاض الناس أمسك بي شاب تشرق أنوار الإيمان من وجهه، عليه بهاء الإيمان والدين، وقال لي: يا شيخ! عندي سؤال على انفراد، قلت: تفضل، قال: أنا شاب تائه تبت ورجعت إلى الله منذ تسعة أشهر، وسبق وأن مضى عليَّ سبعة رمضانات لم أصم لله فيها يوماً واحداً، ولم يسجل لي في صحيفتي حسنة واحدة من أول عمري؛ لا صلاة، ولا صيام، ولا أي عمل، قلت له: أين تعيش؟ قال: في هذا البلد، قلت: وأبوك وأمك لا يدرون أنك لا تصوم ولا تصلي؟ قال: أقول لهم: إني أصوم ولكني آكل في الخفية، وأقول لهم: إني أصلي ولكني أخرج من البيت ثم أعود وأقول لهم: قد صليت، قلت: وماذا بعد هذا؟ قال: حتى أراد الله أن يهديني، قلت: وكيف كانت الهداية؟ قال: خرجت من بيتنا في القرية لأذهب إلى منطقة محائل من أجل حضور مباراة بين ناديين كبيرين في المنطقة، يقول: فلما انطلقت في الخط تسرب الهواء من إطار السيارة، والحمد لله أنه حين تسرب الهواء من الإطار تسرب معه الشر من تلك اللحظة، وبدأت الحياة الإيمانية بتسرب الهواء من إطار السيارة.
يقول: السيارة فيها إطار احتياطي، لكن سوف تفوتني المباراة إن قمت بتركيبه، يقول: فقمت بإيقافها على حافة الطريق، وأوقفت أول سيارة، وركبت حتى أحضر المباراة من أولها، وما إن ركبت في السيارة إلا وصاحبها يضع يده على الشريط، ثم قام بتشغيل شريط إيماني لم أسمع في حياتي مثله، يقول: إنه لم يحضر صلاة جمعة ولا خطبة ولا ندوة ولا محاضرة، يقول: أنا معزول عن الله أعيش مع الشيطان أربعاً وعشرين ساعة، يقول: فسمعت هذا الكلام فدخل أذني واستقر في قلبي، وبدأت أراجع نفسي وأضرب حساباً مع نفسي، وأقول: أين أنا من هذا الكلام؟ وماذا لو مت الآن ودخلت النار؟ كيف أصحح الغلطة؟! لماذا لا أتوب؟! يقول: وصلت إلى محائل وقررت التوبة.
والتوبة والهداية -أيها الإخوة- ليست أمراً معجزاً للإنسان، هي قضية سهلة ما عليك إلا أن تقلع عن المعاصي، وتعلن التوبة والرجوع إلى الله، وإما أن تستمر على ما أنت عليه من المعاصي، فتعيش في ظلمات الكفر -والعياذ بالله! - والنفاق والمعاصي.
يقول: وعندما وصلت إلى مدينة محائل نزلت من السيارة ولم أذهب إلى المباراة، فركبت سيارة غيرها ورجعت إلى سيارتي، ومن ذلك اليوم رجعت إلى الله.
يقول: وقد مرت عليَّ سبعة رمضانات لم أصمها فماذا أصنع؟ قلت له: لو قلنا لك: بأن تصوم سبعة رمضانات فهل تصوم؟ قال: والله أصومها حتى لو كان سبعين رمضان.
عندما دخل الإيمان انفتح القلب، وانشرح الصدر وتلألأ، وبدأت الهداية والخشوع والخضوع لله عزوجل.
قلت له: ليس عليك صوم؛ لأنك كنت في حكم الكافر، ما دمت لا تصلي ولا تصوم، فإن الله عز وجل يعفو عنك إن شاء الله، والتوبة تجب ما قبلها، والإسلام يهدم ما قبله، ولكن العبرة والمعول على المستقبل، فاستمر واثبت حتى تلقى الله، لا تتذبذب ولا تتردد ولا ترجع، فإن الذي يرجع وينتكس عن طريق الحق، هذا خائب لا خير فيه ولا يصلح للجنة؛ وهذه مشكلة يشكو منها بعض الشباب، يقول: أنا التزمت قليلاً ثم تظهر علامات الانتكاسة فيه يريد أن يرجع، تعرفون ما هو السبب؟ السبب: أنه لما سار في طريق الإيمان لم يخلِ قلبه وجوراحه من الآفات والشوائب والأخلاط، ثم جعل الخير على هذه الشوائب فما انتفع به، فإذا كان عندك كأس مملوء بالتراب والقذر، وجاءك شخص وأعطاك لبناً وقال: هات كوبك أصب لك فيه لبناً، هل تصب اللبن والحليب في هذا الكوب؟!! لا.
وإذا صببته هل تستفيد من الكوب مع وجود هذه القذارة فيه؟! بل يفسد عليك هذا اللبن.
إن العقل يفرض عليك أن تغسل هذا الإناء، وتعقمه وتطهره، ثم تضع فيه اللبن لتستفيد منه، بعض الناس الآن يريد أن يجمع بين الخير والشر، يريد أن يصير طالباً مهتدياً ومنتظماً، ولكنه يحب الأغاني والنظر المحرم، والأفلام والربا والزنا، ويقول: أنا أحسن من غيري، أنا أصلي وأصوم لكن هل أكون ملتزماً دائماً؟! ففرضية الصيام سببها وحكمتها وعلتها: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] ثم يقول عز وجل بعد هذا: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] يسهلها رب العالمين، يقول: لماذا الخوف؟ ولماذا لا تصومون، هل هو كثير؟ {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] العام فيه (360) يوماً، فرضنا عليكم فيها صيام (30) يوماً فقط، و (330) يوماً تأكلون فيها، ثم إن نسبة الصيام قليلة وسهلة، لو فرض الله علينا الصيام طوال العام أفي إمكاننا أن نرفض؟! لا نرفض والله، بل نصوم، لو فرض الله رمضان طوال العام لكنا صائمين، وما كنا مفطرين، لماذا؟ لأن الذي يفطر له النار، ولكن من رحمة الله أن جعل لك صيام شهر واحد، ثم جعل الشهر يعدل عشرة أشهر، وجعل ستة أيام في شهر شوال تعدل شهرين، بمعنى: أنك إذا صمت رمضان وأتبعته ستاً من شوال كأنك صمت العام كله، كما جاء في صحيح مسلم: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كمن صام الدهر كله).
{أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] ثم جاء الفرج من الله، وقال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] إذا ابتليتم بمرضٍ خارجٍ عن إرادتكم، أو ابتليتم بسفرٍ تحتاجونه لتحقيق مصالحكم؛ لأن مصالح البشر قائمة على التبادل والمعاوضات، والسفر والذهاب والمجيء، ويحتاج الإنسان للسفر؛ والسفر قطعة من العذاب، ولذا قد يحتاج إلى الإفطار، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] هذه حكمة الصوم.(21/3)
مميزات شهر رمضان المبارك
ورمضان -أيها الإخوة- له ميزات في شريعة الله: أولاً: فرض في السنة الثانية، فهو من أوائل ما فرض.
ثانياً: صام صلى الله عليه وسلم تسعة رمضانات.
ثالثاً: أنزل فيه القرآن.
رابعاً: فيه: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3].
خامساً: تفتح في أول ليلة من لياليه جميع أبواب الجنة، فلا يبقى منها باب مغلق، وتغلق أبواب النيران فلا يبقى منها باب مفتوح، وتُغلُّ فيه مردة الشياطين والجن، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل! ويا باغي الشر أقصر! وكتب الله صيامه، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامه، وقال في الصحيحين: (من صام رمضان -وقامه- إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) تخرج من رمضان وليس عليك من الذنوب ذنب واحد كيوم ولدتك أمك، تخرج إلى المصلى لصلاة العيد والملائكة على أفواه السكك والطرقات تقول للمسلمين: اخرجوا إلى رب كريم يغفر الذنب العظيم، وتوزع الجوائز والهبات والهدايا على الطرقات، ولا يرجعون من المصلى إلا وقد غفر الله لهم ذنوبهم بإذن الله، يغفر الله في كل ليلة لألف ألف، كلهم قد استوجبوا النار، ويغفر في آخر ليلة لثلاثين ألف ألف، كلهم قد استوجبوا دخول النار؛ هذا شهر رمضان المبارك، ولكن وما أمر لكن! لكن وما أشدها! ماذا فهم المسلمون من رمضان؟! هل تحققت في قلوبهم هذه المعاني؟! هل استلهموا هذه الإيحاءات؟! هل أدركوا هذه الأعطيات من الله؟! إن الألم ليعصر قلوب المؤمنين، حينما يرون أن الناس -إلا من رحم الله- لم يفهموا من رمضان إلا معاني ضد أهداف رمضان؛ معاني عكسية، فرمضان يريد شيئاً وهم يعملون أعمالاً ضد أهداف رمضان.(21/4)
الإيحاءات الرمضانية
سأتكلم لكم عن خمسة إيحاءات، مما نستوحيه من رمضان والناس على خلاف ذلك:(21/5)
رمضان شهر الصيام والقيام لا شهر الشراب والطعام
الإيحاء الأول: إن كثيراً من المسلمين -إن لم نقل جلهم وأغلبهم ومعظمهم- شعروا أو فهموا أن رمضان شهر الطعام، وبرهنوا على هذا بتصرفاتهم؛ فتراهم في آخر يومٍ من شعبان أو قبله بيومين أو ثلاثة يتوجهون إلى الأسواق، وكأنهم لا يأكلون إلا في رمضان، كأنهم طوال السنة جائعون، ودخل رمضان شهر الأكل، ويملئون بيوتهم بشتى أصناف الطعام، وتقوم النساء بتقديم البيانات وكشوف الأطعمة للأزواج وتقول: هذه حاجيات رمضان، وشوال أليس له حاجيات؟! وشعبان ورجب أليس لها حاجيات؟! لكن رمضان له حاجيات، لماذا؟ لأنه شهر الأكل، بينما هو شهر الصوم، فقد فرضه الله لكي نعطل جزءاً كبيراً من وقتنا عن الطعام، وبالتالي يحصل توفير في أموالنا، وندخره لننفق به على إخواننا الفقراء والمساكين، لكننا غيَّرنا هذا المفهوم وجعلنا شهر رمضان شهر الأكل والطعام فينهال الناس على الأسواق، ولا يشترون بقدر الحاجة، ولكنهم يشترون بغير مقدار (بالكراتين) المرأة تقدم له قائمة، وتقول: (كرتون) شعيرية، و (كرتون) مكرونة، و (تطلي)، وشربة، وكريمة، و (قمر الدين)، ووقطر الموز؛ وقطر الموز هذا العلبة منه تكفي لشهر؛ لأنها قطرات فقط، وإذا لم يأت (بكرتون) يا ويله! لأن الحياة كلها أصبحت (كراتين) الله المستعان!! وبعدها يذهب هذا الرجل ويحمِّل سيارته بشتى أنواع الطعام ويخزنها في البيت، ثم يملأ الثلاجة، وفي أول يوم من رمضان في الصباح يتنقل في المحلات وفي الأسواق، ثم يأتي بكل شيء، ثم تقوم ربة البيت من بعد صلاة الظهر وهي في حالة استنفارٍ كامل؛ تستنفر كافة القوى في البيت؛ الخادمات والأولاد والبنات، وحتى الرجل يشغلونه ويقولون له: تعال تعاون معنا، ثم توقد النيران على الأطعمة، وتتعدد إلى خمسة عشر أو عشرين نوعاً من أنواع الأطعمة، ومن بعد الظهر إلى المغرب وهي مشغولة بالطبخ من أجل ماذا؟ قالوا: من أجل أن رمضان كريم، وبعدها يأتون ليفطروا على سبع تمرات وفنجان قهوة وفنجان الماء وشبعوا، ألستم تشبعون من هذا أيها الإخوان؟! والله كل المسلمين يشبعون من التمرات ومن كوب الماء والقهوة، ولو اكتفوا بهذا وصلّوا لكانت صلاتهم مريحة، ولعاشوا عيشة هنيئة، ثم إنهم لا يكتفون بهذا عند الإفطار، وإنما يأكل مع التمرات والسنبوسة، واللقمة، والشربة، والعصائر، والمهضمات، هذا هو الفطور الذي ينهي معدة جمل، أما العشاء فلا يبلعه إلا فيل، ويذهب ليصلي المغرب ثم يعود بعد صلاة المغرب وأمامه عشرات الأصناف، ويجلس ولا بد أن يأكل من كل صنف منها، والويل له إن لم يمد يده على كل صنف منها؛ لأن المرأة سوف تغضب وترفع صوتها عليه، وتقول: وأنا أشتغل لمن؟ وأنا أصلحته من أجل من؟ وأنا واقفة على رجلي طوال اليوم من أجل من؟ والله لا بد أن تأكل من هذا، ومن هذا، والله والله وذلك الرجل يقول: حسناً! حسناً! حسناً! حسناً! ويأكل ويأكل! وإذا امتلأ بطنه فلا يبقى له نفس، إن المعدة تقسم ثلاثة أثلاث؛ ثلثٌ للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس، لكن الناس يملئون الثلاثة الأثلاث طعاماً، والماء يحشونه حشواً، وأما النفس فلم يعد هناك نفس، بعدها لم يستطع أن يتكلم، أما وقت التراويح، فإنهم لا يأتون للصلاة إلا متأخرين، الآن بين أذان المغرب وأذان العشاء مقدار ساعتين، وتراهم يأتون والإمام يصلي وهم هناك خلف المصلين، حسناً! أين هم من بعد المغرب؟ قالوا: كنا نأكل، ولو أنهم ملئوا سيارة خلال تلك المدة لملئوها! لا إله إلا الله! ثم بعد ذلك يذهب ليصلي وهو متعب مريض الجسم، مثقل بالأحمال التي قد ملأ بها بطنه، فيرى التراويح هذه من أعظم المهمات، وإذا وجد إماماً خاشعاً تالياً لكتاب الله، أي: يؤدي الصلاة بطمأنينة غضب عليه، وضاقت أخلاقه، وصلى ركعتين وخرج، وإن كان شجاعاً صلى ثلاثاً أو أربعاً، وإن صلى إلى آخر الصلاة تنظر إليه بين الصلاة وهو يراوح بين رجل ورجل، يقدم هذه ويؤخر هذه، وإذا دخل في الصلاة دخل كأنه واقع في قدر، من أجل المعدة المرهقة المتعبة المثقلة بشتى أنواع الطعام، ثم يخرج وبعدها يرجع ليأكل إلى السحور، طوال الليل مكسرات، وفواكه، ومشروبات، ومهضمات، ثم إذا جاء السحور قال: نريد سحوراً جامداً انتبهي! نريد شيئاً يبقى في بطوننا إلى المغرب، ثم يأكل إلى أن يؤذن، بل إن شخصاً سألني البارحة، يقول لي: هل أنا أتوقف من الأكل مع بداية الأذان، أو مع آخر الأذان؟ لا يريد أن يتوقف ولا دقيقة، قلت له: إذا أذن للمغرب هل أنت تأكل مع بداية الأذان، أو مع نهاية الأذان؟ قال: مع بداية الأذان، قلت له: لماذا لم تنتظر حتى يكمل الأذان؟! لماذا في السحور تأكل حتى ينتهي الأذان؟ فعليك أن تتوقف عند أول كلمة من أذان الفجر، كما أنك تبدأ بالفطور عند أول كلمة من أذان المغرب، لا عليك يا أخي! لو توقفت عن الأكل في السحور قبل عشر دقائق، لماذا تأخذ بنفسك إلى آخر درجة، لماذا؟ يقول: لا أريد أن أفوت دقيقة لا آكل فيها.
قولوا لي بربكم -أيها الإخوة- هل تحقق مفهوم الصيام من هذا الصائم؟ لقد شرع الله الصوم من أجل أن يشعر الإنسان بمرارة الجوع وشدة الألم، فيحس أن هناك مسلمين في العالم الإسلامي يموتون جوعاً، ويعيشون رمضان طوال العام لا يذوقون الأكل.
يقول لي أحد قادة المجاهدين: إن ثلاثة عشر مليون مسلم في أفغانستان من اللاجئين يتعرضون الآن للموت والمجاعة، والمجاهدون الأفغان الآن يبيعون أسلحتهم ليشتروا لأولادهم طعاماً، ومائتا طفل يموتون يومياً من الجفاف، ونحن نموت تخمةً وشبعاً، وبعد ذلك يذهب إلى (المستشفى)، فترى صفوف البشر بعد صلاة التراويح وهم ذاهبون إلى (المستشفيات) ونرى الأطباء في العيادات الخارجية؛ طبيب الأذن لا يوجد أحد عنده! وطبيب العين لا يوجد أحد عنده! وطبيب الأرجل والعظام لا أحد يأتيه! والناس كلهم مثل النحل على طبيب الباطنية، وكلهم باطنية، وكل شخص يشتكي: بطني يا (دكتور)! بطنك من عمل يدك، أوقف يدك، بعضهم مملوءة بالحبوب يأكل ويقول: هذا يهضم، وهذا شراب يهضم، لا تهضم ولا تكظم، دع الطعام في الثلاجة، وبعدها اعمل برنامجاً إسلامياً للغذاء، فهناك برنامج إسلامي للغذاء في رمضان، بعض النساء تتصور أن زوجها بخيل، وعليه أن ينفي عنه هذه التهمة، ويأتي إليها ويقول: يا فلانة! تقول: نعم، يقول: كم صرفنا في شعبان؟ مصاريفنا إلى كم تصل؟ تقول: تصل إلى ألفي ريال، ورمضان كريم نريد أن نصرف فيه ستة آلاف ريال، لكن بطريقة تختلف عن طريقة الناس، ما هي هذه الطريقة؟ الطريقة: أن نضع خمسة آلاف صدقة في يد الله، نرسلها لإخواننا الفقراء والمساكين في أفغانستان، لنفطّر بها الصائمين هناك، وألف ريال نشتري بها طعاماً خفيفاً نفطر على تمرات فقط، ونرجع نتعشى ونأتي لنا بقرصين من العيش، أو ثلاثة أقراص من العيش نأتدم بحساء شربة، أو قطعة لحم بسيطة في مرق، أو قليل من الأرز ثم أذهب لأصلي، وبعد الصلاة نأتي لننام، وقبل الفجر نتسحر على تمرات؛ لأنه خير سحور المؤمن التمر، وإذا وجد عليه شيء من الفاكهة فلا مانع، ماذا تقول المرأة؟ إن كانت مؤمنة تقول: جزاك الله خيراً ما دام هذا فعلك، هذا صحيح ليس ببخل؛ فلو أنك بخيل لم تدفع خمسة آلاف ريال، لكن بعض النساء -والعياذ بالله- شبيهة بالسائمة لا تريد إلا أن تأكل وترقد، ولهذا إذا لم يأت لها بهذه الطلبات يا ويله! سوف تأكل عرضه، وقد تسبه عند الجيران وأقاربه وأهله وتقول: فلان أجاعنا، الناس في رمضان يأكلون ونحن نموت جوعاً بسبب هذا الرجل.
لا، وأنا أهمس -أيها الإخوة- همسة، في أذن أخواتي المؤمنات الموجودات في هذا المسجد، والسامعات لهذا الشريط أن يتقين الله في رمضان، نريد أن نحدث تغييراً في حياتنا، وفي طريقة غذائنا في رمضان، وبقي معنا خمسة عشر يوماً -أيها الإخوان- نحن الآن في النصف وبقي معنا خمسة عشر يوماً بإمكاننا أن نغير، وأن نضع برامج خفيفة سهلة للطعام، بحيث لا توقد نار، ثم أرجع إلى المرأة التي كانت تقف من بعد الظهر إلى المغرب على النيران أقول: تعالي من بعد الظهر إلى المغرب واقرئي القرآن، فبعض النساء الآن دخل رمضان وقد انتصف ولم تختم القرآن مرة واحدة، مشغولة (بالسنبوسة) تقليبها وتقريصها وتقطيعها وقليها وأخذها، هذه ليست مهمة في رمضان: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] ما هو للأكل ولا للأقراص، تعالي لا نريد اليوم (سنبوسة) تعالي نقرأ القرآن، من بعد الظهر إلى المغرب ونحن نقرأ القرآن، وإذا جاء المغرب سهل ماذا سيحصل لنا، ليس هناك مشكلة، هذه البطن ليست مشكلة، فالأمر سهل، فضع في معدتك تمرتين وامتلأت، وبعدها والله ليس هناك أحسن من قلة الطعام، يقول الإمام الغزالي: سألت الأطباء فقلت لهم: ما سر طبكم؟ قالوا: في قلة الطعام، وسألت العلماء وقلت لهم: ما حكمة علمكم؟ قالوا: في قلة الطعام، وسألت الفقهاء فقلت لهم: ما علة فقهكم؟ قالوا: في قلة الطعام، وسألت الزاهدين في الدنيا فقلت لهم: ما سر زهدكم؟ قالوا: في قلة الطعام، فوجدت قلة الطعام فيه كل خير في الدنيا والآخرة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما ملأ ابن آدم وعاءً شرٌ من بطنه) أي وعاء تملؤه ليس هناك أشر من بطنك (وبحسب ابن آدم لقيمات) ليس (لقمات) بل (لقيمات) تصغير أي: اثنتان أو ثلاث أو أربع (وكان صلى الله عليه وسلم يربط على بطنه الحجر والحجرين والثلاثة) من الجوع، وكان بإمكانه أن يأكل، لكن يقول: أريد أن أجوع يوماً وأشبع يوماً، فإذا جعت سألت الله، وإذا شبعت شكرت الله تبارك وتعالى.
فالإيحاء الأول من رمضان: أن نعتبره شهر الصيام والمعاناة والتعب، لا شهر الطعام والشراب، هل بإمكاننا أن نحقق هذا البرنامج؟ نعم بإمكاننا، وأن نوفر المبالغ الزائدة التي نصرفها في شتى أنواع الطعام ثم نرميه، فيا ليت الناس يطبخون الطعام ثم يأكلونه، لكنهم يصنعون هذه الأصناف، ثم ينتهون من أكل ما قدروا عليه، ثم يصبون الباقي على السفرة، يفتح البرتقالة ويأكل منها جزءاً فقط، وثلاثة أرباعها ترمى، ويفتح التفاحة ويأكل منها الربع وثلاثة أرباعها يدعها، ويأ(21/6)
رمضان شهر التهذيب والانتصار على النفس
الإيحاء الثاني من رمضان: أن من أهدافه الانتصار على النفس، والاستعلاء على النزوات، بحيث تتهذب أخلاق المسلم، ويصبح خلقه خلقاً إسلامياً رفيعاً لا يغضب ولو استثير نعم.
ولو استثير لماذا؟ لأنه صائم، ولهذا جاء في الحديث: (فإن سابه أحد فليقل: إني صائم) أي: أنا صائم وأستطيع أن أنتصر على الشهوات، وأن أرتفع عن كل هذه الأشياء، وبعد ذلك أهتم بنفسي فأهذبها، فبالتالي لو أن شخصاً أتاني يريد أن أغضب وأنا صائم، لا، بل أقول له: أنا صائم، والله لا أقدر أن أنزل معك في الإساءة، وأنا أتدرب على الخلق الرفيع لِمَ؟ لأني متحرر عن شهوات النفس، مستعلٍ على الأخلاق الرديئة، لكن الذي حصل اليوم أن أخلاق الناس -إلا من رحم الله- تسوء وتفسد في رمضان، فلا تسمع المضاربات والمشاكل والخصومات، وثوران الأعصاب وحدة التصرفات إلا في رمضان، وإذا جئت إليه وجدته غضبان ومتلفعاً بعمامته، وإذا جئت تقول له: ماذا فيك؟ قال لك: اذهب امش من عندي، ابحث لك عن عمل، رمضان كريم هي منتهية إلى هنا، لماذا هي منتهية؟ من أجل أن بطنه فارغة، سبحان الله! مسكين هذا، هذا عبد بطنه؛ إذا امتلأت بطنه ضحك واستراح وتخلق مع الناس، وإذا فرغت بطنه ثار وغضب، لا يا أخي! لست عبد بطنك، ولا عبد شهوتك، إنك عبد مولاك وخالقك، والذي خلقك يريد منك أن تتهذب بالأخلاق الإسلامية، وأن تستعلي على النفس وشهواتها وآفاتها، ومن أعظم آفاتها الغضب، فلا تغضب وأنت صائم، حتى ولو استثارك شخص، نعم.
قد تكون مديراً أو موظفاً أو رئيس قسم، ويأتيك مراجع من المراجعين وهو غضبان بسبب أن معاملته تأخرت، فيقول: أنتم ليس فيكم خير، موظفوكم يلعبون، لا يأتون إلا الساعة الحادية عشرة، يبدأ العمل من الساعة العاشرة وهم يأتون الساعة الحادية عشرة، ويأتون ليناموا على المنضدة، ومعاملتي ضائعة، وأنا لي أسبوع وأنا آتي، فماذا عليك أن تقول لهذا المراجع؟: صدقت بارك الله فيك جزاك الله خيراً أبشر ولا يهمك هل عندك رقم؟ لا.
ليس عندي رقم، أعطيتموني سبعين رقماً وضيعتها من كثرة الأرقام، أبشر أنا أعطيك الرقم، وتقوم معه إلى (الإرشيف) أو الوارد وتخرج له المعاملة، وتذهب إلى غير واحد حتى تقضي حاجته وأنت تبتسم، لماذا؟ لأن الإسلام والصيام هذب أخلاقك، لكن الذي يحصل الآن أنه لو أتى شخص بهذا الأسلوب فيا ويله! يقول له: لا تدخل عندي، وشخص ثان يقول: لا تدخل بعد الصلاة أيضاً، لماذا؟ قال: إني صائم، واعلم أني في قمة الغضب، سألقيها في وجهك، إذا أردت أن تعطيها فتعال في الفطر إن شاء الله، عندما يكون الشخص مفطراً يأكل ويشرب ويدخن وهو مستريح، أما الآن فليس عنده دخان ولا عنده شاهي، فالغضب قد بلغ الذروة، لا، ليس هذا مراد الإسلام من الصيام، إن هدف الصيام تهذيب الأخلاق، حتى ولو أن شخصاً أراد منك أن تغضب، فإنك تترفع وتقول: إني صائم.
هذا الإيحاء الثاني.(21/7)
رمضان شهر الجهاد لا شهر الدعة والقعود
الإيحاء الثالث: قضية السهر في رمضان؛ وهذه مشكلة المشاكل، وعقدة العقد عند المسلمين.
فقد شرع الله صيام رمضان، وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام ليله، وبعد القيام ينصرف الناس إلى بيوتهم، وينامون ليستيقظوا، فيتسحروا ويصلوا الفجر، ثم يباشروا أعمالهم بقوة ونشاط، ولكن الذي يحدث الآن أن رمضان تصبح لياليه كلها سهراً، لا ينام الإنسان في رمضان إلى الفجر، ثم يأتي في الصباح وهو متعب، إما أن يأخذ إجازة، وأكثر الناس يأخذ إجازة في رمضان يقول: رمضان شهر النوم، نريد أن نأكل في الليل ونرقد في النهار، فهذا لم يقصر!! النهار نوم والليل أكل هذا هو رمضان، بينما الصحابة والسلف في النهار جهاد، والليل صلاة وقيام، رهبانٌ بالليل فرسانٌ في النهار، ولهذا كانت معارك الإسلام كلها تقوم في رمضان؛ غزوة بدر في رمضان، فتح مكة في رمضان، معارك التتار في رمضان، فكل الغزوات الإسلامية الفاصلة كانت تقوم في رمضان، لماذا؟ لأن المسلمين كانوا أكثر قوة ونشاطاً وإقداماً؛ لأنهم انتصروا على شهوات البطن فهم أقوياء، لكن الآن عندما سهر الناس في الليل تعطلت قواهم وخارت إمكاناتهم في رمضان، فنجد الموظف نائماً على مكتبه، ونجد الطالب نائماً على كرسيه، ونجد المدرس نائماً في المدرسة، ونجد البنت نائمة؛ كلهم نائمون، ماذا هناك؟ يقول أحد مدراء المدارس: دخلت على مدرس فصل في نهار رمضان، وحين دخلت وإذا بالطلاب نيام والمدرس نائم، يقول: فأخذت الكرسي وجلست بجانبهم، أريد أن أنتظر حتى يستيقظ، وينظر أني جالس أراقبه، وأني وجدته وهو نائم، يقول: فقعدت قليلاً فإذا بهم كلهم (يخطون) وبعدها رقدت معهم، رقد المدير والمدرس والطلاب في نهار رمضان، لا إله إلا الله! لماذا؟ لأن نوم النهار لا يحقق حاجة الجسم كنوم الليل، لو نمت في النهار من الفجر إلى المغرب، فإنك تقوم وأنت مريض، لكنك لو نمت في الليل ساعة أو ساعتين تقوم وأنت نشيط، لماذا؟ يقول العلماء: هذه آية من آيات الله؛ فقد قال الله في القرآن الكريم: {يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} [القصص:72] وقال: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً} [الأنعام:96] قال العلماء: إن الناس ينامون في النهار، فلماذا خصص الله السكن في الليل؟ فبعد البحث والتشريح والدراسة والتأمل، وجدوا أن في مخ الإنسان خلايا، وأن هذه الخلايا إذا نام الإنسان في الليل سكنت، وإذا نام الإنسان في النهار بقيت مفتوحة، فيقوم الإنسان من نوم النهار وكأنه لم ينم، تنظر إليه ينام من الصباح ويقوم وهو ضعيف ومتعب، يريد أن ينام طوال اليوم، لكن دعه ينام ساعة أو ساعتين في الليل فإنه يقوم ما شاء الله والحمد لله! ذهب النوم، لماذا؟ لأن هذه الخلايا نامت.
فنوم الليل ضروري -أيها الإخوة- ولا داعي للسهر، خصوصاً السهر المحرم، حين يسهر الناس في ليالي رمضان المبارك على معصية الله؛ يسهرون على الأفلام، ومجالس الغيبة والنميمة وأكل لحوم البشر، أو السهر في الذي هو أشبه بلعب الأطفال، كلعب الورق الذي يعني ابتلي به كثير من الناس، حتى العقلاء منهم وكبار السن يلعبون الورق (البلوت)، وهذا شيء يستغرب من العقلاء، ولا ينبغي لهم أن ينزلوا إلى هذا المستوى، فهذا الورق أصله لعبة للأطفال، أنت لو جئت إلى مجموعة من الأطفال وهم يلعبون الورق لم تنكر عليهم، ولو جئت إلى مجموعة من الأطفال يلعبون المكعبات، تعرفون المكعبات البلاستيكية التي يلعب بها الطفل ويعمل منها بيوتاً؟ فإنك لا تنكر عليه، أو رأيته يلعب بسيارته أو بطائرته أو بدبابته أو ببندقيته، لكن ما ظنك إذا جئت إلى رجل كبير عمره أربعون سنة، ومعه كيس من المكعبات ويبني منها عمارة، تقول: ماذا تعمل؟ يقول: والله أبني لي عمارة من المكعبات، أو يكون معه سيارة صغيرة يلعب بها، تقول له: ماذا بك؟ قال: ألا تنظر الموديل الجديد، ما رأيك في عقلية هذا الرجل؟ أما تحكم عليه بأنه مجنون وعقليته عقلية الأطفال؟! نعم.
بالله هل هذا عمل العقلاء أيها الإخوة؟! إنه عمل أطفال، وبعدها يقضي الواحد الساعة والساعتين والثلاث والأربع والخمس والست إلى الفجر وهم يلعبون، لا يكلون ولا يملون، وهم مع ذلك يقامرون بأوقاتهم وحياتهم، وهذا يقوم وذاك يقعد، وبعد ذلك زوجته في البيت تنتظره ولا يأتي، ومن حين يدخل يقول لها: اعلمي أني سوف أتأخر الليلة، وهذه القاصمة على المرأة، تقول: لماذا تتأخر الليلة أين ستذهب؟ وماذا بقي عندها إلا أنت؟ تريد منك أن تؤانسها وتسامرها، وأنت تقول: لا.
(البلوت) الليلة عند فلان وفلان وفلان، وإذا جاءت ليلته قال: اعلمي أن اللعب الليلة عندي، يا ويل تلك المرأة من الليلة! فإنها تحضر الشاهي و (النسكافية) والحليب والقهوة، كأنها (مكينة) طالعة نازلة طوال الليلة، والعصائر والفواكه، إلى الفجر وهم يلعبون الورق، وبعدها إذا قالت لهم: اتقوا الله يا جماعة! هذا لا يرضي الله، قالوا لها: ماذا تريدين أن نعمل؟ هل نذهب لنأكل لحوم الناس؟ ومن قال لكم: أن تأكلوا لحوم الناس، إذا لم تأكلوا لحوم الناس رجعتم إلى الورق! لا.
إن المسلم ليس في حياته فراغ -أيها الإخوة- المؤمن مشغول، وكل دقيقة من دقائقه يجب أن يستغلها، في أي مصلحة له في الدنيا أو في الآخرة، أما إذا شعر أن عنده فراغاً فليعلم أنه فارغ من الإيمان، ما من ساعة تمر من ابن آدم إلا كانت عليه حسرة وندامة يوم القيامة، إذا لم يذكر الله فيها: (ما جلس قوم في مجلس لم يذكروا الله تعالى فيه إلا تفرقوا عن مثل جيفة حمار).
نحن نخاطب العقلاء والمنصفين ونقول لهم: اتقوا الله، إن مجالس (البلوت) هذه مجالس قمار بالوقت، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90 - 91] نعم.
يجب على المؤمن أن يقول: انتهينا؛ لأنه يلعب (البلوت) ويوجِد في قلبه البغضاء والعداوة بينه وبين من يلعب أمامه، وبينه وبين الذي يغلبه، وبعدها يصده عن ذكر الله، لا يذكر الله طوال الوقت إلا بالأيمان الفاجرة فتمر عليهم الساعات والدقائق ولا يذكرون الله، والعياذ بالله.
فنقول أيها الإخوة: ليس هناك مانع من السهر المحدود المباح إذا كان على ما يرضي الله؛ إما أن تسهر مع زوجتك؛ وهذا من أعظم الأشياء، أو تسهر مع قريبك تزوره، أو مع رحمك تزورها، أو مع جارك تصله، أو مع مصالحك الدنيوية، كأن يكون عندك مكتب أو مؤسسة أو دكان، فليس هناك مانع، لكن إلى مستوى معين من الليل إلى منتصف الليل وهذا طويل، ثم تعود بعد منتصف الليل إلى بيتك وتنام، وتربي أولادك على النوم إلى السحور، ثم تقوم في السحور وتتسحر وتذهب إلى المسجد؛ هذا هو البرنامج الإيماني بالنسبة للسهر، أما من يقضي ليله في السهر الفارغ، ثم ينام سائر اليوم، هذا لم يعرف رمضان حقيقةً.(21/8)
رمضان شهر القرآن والدعوة إلى الله
الإيحاء الرابع من إيحاءات رمضان: أنه شهر القرآن: والله يقول فيه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان} [البقرة:185] يقول العلماء: إن تخصيص الذكر بنزول القرآن في رمضان، فيه إشارة ودعوة للمسلم على أن يجعل رمضان كله للقرآن، ولهذا كان السلف إذا دخل رمضان عطلوا حلقات العلم؛ التفسير الفقه الحديث التوحيد، جميع الحلقات تؤجل، وتبدأ كل حلقاتهم قرآناً في قرآن، يختمون بالليل والنهار، حتى روي أن الإمام الشافعي كان يختم في كل رمضان ستون ختمة، ختمةً بالليل وختمةً بالنهار، لا يُرى إلا قارئاً، لا يفتر لسانه من قراءة القرآن، لكن اليوم كم نقرأ من القرآن؟ الله المستعان! يمكن في أول رمضان ينشط بعض الناس وتكون عنده همة ويأخذ المصحف ويقرأ، لكن انتظر إلى اليوم الثاني تجد بعضهم لا زال في البقرة لم يكملها، يمر عليه خمسة عشر يوماً وهو لا زال فيها، وهناك بعض المؤمنين يختمون في كل يومين مرة، أو في كل ثلاثة أيام مرة، أو في كل أربعة أيام مرة، أو في كل خمسة أيام مرة، فشهر رمضان شهر القرآن.
اتل الكتاب وسبح فيه مجتهداً فإنه شهر تسبيح وقرآن
لا بد من تلاوة كلام الله في كل أوقاتك، ليكن مصحفك في جيبك، وفي مكتبك، وعند سرير نومك، وفي سيارتك، وكلما وجدت فرصة للتلاوة، حتى في العمل فاقرأ، إنك إذا كنت في وظيفتك فالمطلوب منك أن تصرف وقتك للوظيفة؛ لأن الوظيفة واجب والتلاوة نافلة، لكن إذا انتهيت من المعاملات ولم يبق عندك أي معاملة على مكتبك فاجلس وخذ المصحف واقرأ، وإذا جاءت المعاملات فضع المصحف وأنجز المعاملات، وبعد ذلك إذا أتيت لتنام فاقرأ، ومن حين يؤذن لكل صلاة أنت الأول، إذا كنت في الدوام عندما يؤذن فانزل الأول، من حين يؤذن تأتي لتصلي وترجع، تتعشى عشاءً خفيفاً وكن الأول، ولا تتأخر واذهب إلى المسجد مبكراً كي تقرأ القرآن، الفجر تتسحر وتأتي المسجد وتقرأ، تصلي الفجر وتقرأ، فاجعل كل حياتك في رمضان للقرآن.
وبعدها تقرأ بتدبر، لا تهذرم: (لا تهذوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، ولكن قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب) إذا رأيت آية من أوامر الله قف عندها واسأل نفسك، أين أنت منها؟ إذا رأيت نهياً من نواهي الله اسأل نفسك أين أنت من هذا النهي؟ اسأل نفسك أين أنت من هذا الخبر؟ قف عند القرآن وعجائبه وخذ العبر منه فهو {هُدىً لِلنَّاسِ} [البقرة:185] تأخذ من القرآن فكرة ومعنى الدعوة، لماذا؟ لأن الله يقول: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185] فتحمل أنت مشعل الهدى والبينات، وتسير به بين الناس، فتدعو نفسك وزوجتك وأولادك وجيرانك وإخوانك، وتدعو زملاءك في العمل، وجلساءك في المكتب، وكل من تعرف، لماذا؟ لأن الدعوة هي تركة النبي صلى الله عليه وسلم، التركة التي خلفها لنا النبي صلى الله عليه وسلم: الدين والدعوة، يقول الله عزوجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
إن مسئولية الدعوة مسئولية كل مسلم، فكل مسلم يجب أن يدعو بحسبه وليست الدعوة هي علو المنابر وحضور المحاضرات وإلقاؤها، لا.
هذه جزء من الدعوة، لكن الاستقامة على الدين دعوة، تأييدك لرجل يأمر بمعروف ووقفتَ معه وقفة الحق دعوة، إذا رأيت صاحب منكر تقول له: يا أخي! هذا منكر لا يجوز لك.
هذه دعوة، كل أساليب الدعوة يجب أن تسلكها انطلاقاً من قراءتك للقرآن، فمصيبة الأمة اليوم أنها صامتة، بل متفرجة، لو جئت إلى اثنين في الشارع وقد رأيت أنا هذا بعيني، وليس من أهل البلد وإنما هو من إخواننا الوافدين، خرج رجل مواطن من المسجد، وبيده (سيجارة) على باب المسجد وأشعلها، خرج وأنا أصلي في المسجد، عندما خرج هذا الرجل اعترضه أخٌ آخر في الطريق وسلم عليه وقال له: يا أخي أما كنت تصلي الآن؟ قال: نعم، قال: يا أخي! لا ينبغي لك بعد الصلاة أن تعصي الله (بالدخان)، تب إلى الله منه، فهذا الرجل المسكين المواطن غضب، ورأى أنها إهانة له أن يوجه له شخص نصيحة، لا سيما وأنه يرى أن هذا الأخ ليس من المقيمين، فغضب عليه وزمجر وصاح فيه صيحة عنيفة، وقال: أصلك (ملقوف) وماذا دخلك فيَّ؟ وهل أنت وحدك الذي تعرف الدين؟! نحن أهل الدين، وبدأ يشتمه، وسمعت الصياح وأنا في المسجد، فخرجت وإذا بالناس كلهم واقفون، والله ليس فيهم واحد ينصر هذا الأخ المسكين، إلا أنهم كلهم متفرجون، فجئت فقلت: ما الذي حصل؟ قال: هذا الذي لا يفهم وهذا قلت: وماذا هناك؟ قال: ينصحني ويقول لي: لا أدخن -والدخان في يده- قلت: وما المانع أن ينصحك؟ هل الدين لك فقط؟ لو أن فيك ديناً وخيراً لم تدخن يا أخي! نعم ينصحك: (الدين النصيحة) يا أخي! فنظر إلي وقام يطفئ (السيجارة)، قال: النصيحة ليست بهذا الأسلوب؟ قلت: ماذا قال لك: هل ضربك أو شتمك؟ قال: يقول لي: المفروض ألا أدخن، حسناً! فقط المفروض ألا تدخن يا أخي! اتق الله يا أخي! الحق ضالة المؤمن، أو لأنه من دولة أخرى، أو من جنسية أخرى، فأنت لا تقبل الحق؟ قال: لا.
فقط أنا لا أرضى أن أحداً يقول لي، قلت: لا بد أن ترضى، ويجب أن تخضع للحق إذا كنت مسلماً، والذي لا يرضى بالحق فالله يقول: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32] بعدها قام الناس قلت: يا جماعة! لماذا أنتم ساكتون؟ أليس هذا على حق؟ قالوا: نعم على حق.
قلت: لماذا تسكتون؟ لماذا لا تناصرونه؟ أو من أجل أن هذا أجنبي وهذا من أهل البلد، الحق يا أخي! ضالة المؤمن، يجب أن تناصر الحق من أيٍ كان مصدره، ومع أي إنسان يحمله، الدين ليس وقفاً لأحد، الدين دين المسلمين من شتى بقاع الأرض.
فيجب أيها الإخوة: أن نكون ألسنة ناطقة بالحق، ولكن بحكمة ورأفة وحب وشفقة، ليس بسب وشتيمة وانفعال، مثل هذا الأخ، قال له: يا أخي! الله يجزيك خيراً، أنت خارج من المسجد المفروض ألا تدخن، فقط، فهذا نعرفه من ماذا؟ من قراءة القرآن يقول الله: {هُدىً لِلنَّاسِ} [البقرة:185] ليس هدىً لك أنت، بل هدى للناس كلهم ومن أين تجيء؟ يقول الله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فالدين رحمة للعالم كله، ونحن -أيها الإخوة- ما دام عندنا إمكانية أن نبلغ دين الله فلنبلغ عن الله ولو آية، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو حديثاً واحداً.
هذا الإيحاء الرابع: وهو تلاوة القرآن.(21/9)
رمضان شهر التدرب على الأعمال الصالحة
الإيحاء الخامس وهو مهم جداً: وهو أن شهر رمضان بمنزلة الدورة التدريبية التي يعقدها الله للمؤمنين شهراً في كل عام، للتدرب على العمل الصالح، يتدرب المسلم فيها على القيام والصيام، والإنفاق والبذل والعطاء، وغض البصر، وصيانة السمع، وكف اللسان، وحفظ الفرج، المهم من أول رمضان إلى آخره وهو متعبد لله، سائر في طريق الله في الإيجابيات وهي الطاعات ويبتعد عن السلبيات وهي المعاصي، حسناً وبعد أن تنتهي هذه الدورة ماذا يراد منك أيها المسلم؟! يراد منك أن تستمر على نفس الأداء، تستمر على تدريباتك التي أخذتها في رمضان، فكنت تصوم في رمضان فصم ستاً من شوال، كنت تقوم في التراويح فقم جزءاً من الليل في بيتك، كنت تغض بصرك في رمضان فغض بصرك في شوال، كنت قد هداك الله من المخدرات والدخان والمفترات والخبائث فاتركها في شوال، عرفت المساجد في رمضان، يجب أن تستمر على صلاتك في المساجد في شوال، وكنت تنفق من مالك في رمضان يجب -أيضاً- أن تنفق من مالك في شوال، فقد تدربت على الأعمال الصالحة.
لكن الذي يؤلم القلب أن كثيراً من المسلمين إذا انتهى رمضان انتهت علاقتهم بالعمل الصالح، إذا انتهت آخر ليلة من رمضان تراهم يودعون فيها المساجد، وترون في ليلة العيد، في صلاة الفجر من يوم العيد، كم يصلي في المسجد الذي فيه عشرة صفوف؟ ترون فيه صفاً واحداً، أما الآخرون انتهى رمضان وانتهت العبادة، لا إله إلا الله! إن أصحاب العبادات الموسمية هؤلاء لا تنفعهم يوم القيامة؛ لأن الله عزوجل يطلب منا أن نعبده حتى نلقاه، يقول الله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] أي: الموت، وليس حتى يأتي شوال، والذي يعبد الله عزوجل يجب أن يعبده في كل وقت وحين، والذي يعبد رمضان، فرمضان شهر لا ينفع ولا يضر، وافرض -مثلاً- أنك عبدت الله في رمضان ثم تركت في شوال، ومت في شوال ماذا ينفعك رمضان؟ العبرة بالخواتيم -اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها.
فينبغي للمسلم أن يكون هكذا، أنك إذا صليت العشاء ثم انتقض وضوءك قبل السلام، فما حكم صلاتك؟ باطلة، وإذا صمت نهار رمضان وأفطرت قبل الغروب بدقيقة واحدة، فما حكم صيامك؟ باطل، وكذلك إذا عبدت الله ثم تركت قبل الموت، لا ينفع شيء من عمرك الأول.
فلا بد -أيها الإخوة- من الاستمرار في العمل الصالح، وهذا الإيحاء نعرفه من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه بستٍ من شوال كان كمن صام الدهر كله) وأحد السلف يقول: [بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان] ولا يعني هذا أن يكون الناس في شوال على مقدار العبادة في رمضان، لا.
فرمضان مميز بالصيام الدائم، مميز بالقيام الدائم، مميز بالإنفاق الكثير، لكن المستوى الأدنى في شوال حفظ الفرائض والرواتب في المساجد، المستوى الأدنى في شوال أن تصوم ثلاثة أيام، أو تصوم الست من شوال، المستوى الأدنى أن تتصدق ولو بخمسة ريالات يومياً من جيبك لإخوانك المجاهدين، أو الفقراء والمساكين، المستوى الأدنى أن تكون ذاكراً لله، أما المعاصي فالمستوى فيها أنك لا تعصِ الله لا في رمضان ولا في شوال، فإن الله يغضب إذا عصي في شوال كما يغضب إذا عصي في رمضان، والله حرم المعصية في كل زمان ومكان، وعلى أي أرض، وتحت أي سماء، يقول الله في الأثر الإلهي: (إني إذا أطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية، وإني إذا عصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد).
هذه -أيها الإخوة- خمسة إيحاءات من رمضان: الإيحاء الأول: الطعام وبرنامج الغذاء الإسلامي.
الإيحاء الثاني: الغضب والتوتر.
الإيحاء الثالث: السهر.
الإيحاء الرابع: قراءة القرآن والدعوة إلى الله.
الإيحاء الخامس: الاستمرار والثبات بعد رمضان على الإيمان والعمل الصالح حتى يلقى العبد ربه.
فإذا أخذنا هذه المعاني من رمضان، وفهمناها على المراد الشرعي منه، أما إذا فهمنا أن رمضان هو شهر الأكل في الليل، والسهر والنوم في النهار، فلم نعرف رمضان وستمر علينا جميع الرمضانات، ونخرج منها مثلما دخلنا فيها، ولهذا يقول أحد السلف: علامة قبول رمضان أن تكون في شوال أحسن منك حالاً قبل رمضان.
أما الذي تنظر إليه وهو في شعبان وشوال سواء، معنى ذلك أنه لم يقبل منه رمضان، ما علامة قبول رمضان ونجاحك في رمضان؟ أن تكون في شوال إنساناً جديداً، تختلف عما كنت عليه في شعبان، أما إذا كنت في شعبان تغني وفي شوال تغني، في شعبان يزني، وفي شوال قد يزني، في شعبان يرابي وفي شوال -أيضاً- يرابي، في شعبان لا يصلي في المسجد، وفي شوال ترك الصلاة في المسجد، إذاً ما قيمة رمضان عند هذا؟ رمضان دخل وخرج وما زدت فيه إلا أن أكلت وسهرت ونمت ولعبت، وانتهى رمضان دون أن تحصل منه على المعاني التي شرعها الله، والتي قال الله فيها: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يعيننا وإياكم على الطاعة والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(21/10)
الأسئلة(21/11)
حكم دعم المجاهدين الأفغان
السؤال
هناك من يثبط الناس عن دعم المجاهدين، بحجة أن الحرب أصبحت حرباً أهلية بين الأفغانيين بعضهم بعضاً؟
الجواب
هذا المثبط مسكين جاهل لا يعرف الأمور على حقيقتها، وينبغي له أن يكون من المؤمنين الواعين لحقائق الأمور ولا يكون جاهلاً، وينبغي له إذا لم يعرف ألا يتدخل في شيء من مثل هذه الأمور، إن الحرب الآن -أيها الإخوة- ليست حرباً أهلية، إنها حرب بين راية الإسلام وراية الكفر، والكافر سواء كان أفغانياً أو كان روسياً فهو كافر، فالكفر ملة واحدة، والراية المرفوعة الآن راية إسلام، أمام راية شيوعية حمراء يرفعها الشيوعيون الأفغان، ويؤيدهم الشيوعيون الروس بالسلاح والمال والخبراء وجميع الإمكانيات، فلا ينبغي للمسلم أن يتأخر عن دعم إخوانه؛ لأن فرضية الجهاد ليست على الأفغانيين فقط، إنها مسئولية كل مسلم، ولكنهم قاموا بالنيابة عنا للدفاع عن الإسلام في بلادهم، ونحن ينتظر منا أن نقوم بدعمهم، وأن نقاتل معهم بأموالنا وبدعائنا إن لم نستطع أن نقاتل بأنفسنا.(21/12)
نصيحة للآباء بسرعة تزويج بناتهم وأبنائهم
السؤال
هنا مشكلة مرسلة من بعض الفتيات، وهي مشكلة خطيرة جداً يقلن فيها: نشتكي إلى الله من مشكلتنا التي نعاني منها، ولا يشعر أحدٌ بمعاناتنا، هذه المشكلة هي مشكلة الزواج، فآباؤنا -سامحهم الله- منعونا من حقنا الشرعي بحججٍ واهية وأعذارٍ غير صحيحة، ويواجهوننا بالرفض؛ إما لسلك الطرق غير الشرعية، أو بقضاء حياة العنوسة التي نعاني منها الأمرَّين، فتذهب حياتنا سدى، وهكذا تصل أعمارنا إلى السن المتقدمة دون أن نتزوج، فنرجو منكم النصيحة لآبائنا، عسى أن تصل إلى آذانهم وقلوبهم؟ وما رأي الإسلام في ذلك؟ أفتونا وجزاكم الله خيراً، ونرجو منكم الدعاء لنا، وتأمين الحاضرين على دعائكم جزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذه -أيها الإخوة- مشكلة ينبغي أن نصغي لها بآذاننا وقلوبنا.
سنة الله غالبة، والذي يريد أن يلغي سنة الله بفكره، فالله غالب على أمره، سنة الله غالبة وهو أن هذه المرأة تبحث عن رجل يقول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] آية من آيات الله أن الزوجة والبنت لا تسكن إلا إلى زوج؛ وهذا الزوج هو الذي يلبي احتياجها، من الأمن والطمأنينة والسكن والمودة والرحمة، وإذا حُلتَ بينها -أيها الأب- وبين السكن مع الزوج عذبتها، وأنت لا نشك في أنك تبحث عن سعادتها، ولا نشك في أن أحداً من الآباء يبحث عن شقاء ابنته أبداً، إنه يسارع بها إلى المستشفى إذا مرضت، ويعطيها الغذاء والدواء والكساء والأموال، لكنه أحياناً ينسى الحاجة الرئيسية عندها وهي الزوج، وإذا جاء الزوج الذي يخطب يرفضه، لا.
يا أخي المسلم! إن من مقتضيات عطفك ورحمتك وشفقتك على ابنتك، أن تبحث عن سعادتها، وسعادتها لا تكون إلا في زواجها، ومتى تزوجها؟ عند النضج، والنضج متى يبدأ؟ من بلوغ المرأة سن الحيض، إذا حاضت المرأة فهذا دليل وإشعار على أنها أصبحت قابلة للزواج، والذي يلغي سنة الله في ابنته، وتحيض ابنته في كل شهر وطوال السنين، فقد ورد في بعض الآثار: (إن حيضها يجمع يوم القيامة ويسقى به والدها).
يشرب حيض ابنته؛ لأنه منعها من الزواج، بينما هو في علاقة جنسية ليلية مع أمها أو مع عمتها، لا يصبر عن امرأته أسبوعاً، لو تهرب امرأته عند أهلها أسبوعين لا يأتيه النوم، ويذهب ويدفع الأموال ويطرح الرضا والمصالح من أجل أن يأتي بالمرأة، وابنته محصورة في غرفتها تعاني الأمرَّين، تسمع وترى وتلتهب فيها عوامل الشهوة، ولا تريد البنت الطيبة أن تكسر عرض أبيها، ولا أن تخدش حياء أسرتها، ولا أن تعرض نفسها للذئاب البشرية الفاتكة فتعيش معذبة محرومة من لذة الحياة، بسبب ماذا؟ بسبب طمع والدها؛ إما أن يكون طامعاً في راتبها إذا كانت موظفة، أو يكون طامعاً في نسيبٍ يتخيره هو على نظره، لا يا أخي! إذا أتاك من ترضى دينه وخلقه فزوجه، والحمد لله الساحة اليوم مملوءة بالطيبين، لقد كان الرجل في الماضي إذا أراد أن يزوج ابنته، يقف محتاراً كيف يزوج ابنته لا يجد أحداً، لا يلقى إلا (مخنفسين) و (معربدين) ولا يسوون شيئاً، لا يأمنه الواحد منا على حماره فضلاً على أنه يعطيه ابنته، لكن اليوم والحمد لله المساجد مملوءة، والمجتمعات مملوءة بأصحاب الإيمان، بشباب القرآن بالملتزمين، ولكن الملتزمين لم يجدوا زوجات، أنا أعرف في هذا المسجد ما يقارب ألفي شخص يريدون أن يتزوجوا، لو أقول: ارفعوا أصابعكم لرفعوا أصابعهم، هؤلاء من يزوجهم والبنات يملأن البيوت؟! كل بيت تنظرونه في الصباح تخرج البنات منه صفوفاً يركبن في السيارات وينزلن عند المدارس والكليات مئات وآلاف البنات فهؤلاء لم يتزوجن، والشباب لم يتزوجوا، وبالتالي من الذي يستفيد من هذا؟ الشيطان يستغل هذا الرفض وهذا المنع من أجل أن يكسر الحواجز، ويفتح الطرق والميادين والقنوات الشيطانية عبر الاتصالات الهاتفية، وعبر الرسائل الغرامية، وعبر الخروج إلى الأسواق والمنتزهات، وبعدها قد تتم اللقاءات المحرمة، وتعيش الأمة في فساد لا يعلمه إلا الله، ويتمنى الزوج أو الأب الذي منع ابنته، يتمنى أنه لم يعرف الحياة، يوم يعلم أنَّ ابنته قد زنت، أو قد ذهبت عذارتها، أو قد ضبطت مع رجل في سيارة، أو ضبطت في مكالمة، أو كشف في (شنطتها) رسالة، وأبوها هو السبب في هذا كله.
نقول لإخواننا في الله: اتقوا الله في فلذات أكبادكم، اتقوا الله في بناتكم، زوجوهن إن جاءكم الخاطب الكفء، وإذا لم يأتكم الخاطب الكفء فعليك أن تبحث أنت لابنتك عن زوج، ابحث أنت، فأنت تصلي في المسجد وابنتك لا تصلي في المسجد، ولا تقدر أن تتكلم مع أحد، ولا تعرف من هو الذي يجيء، ولكن أنت تعرف المسجد، فإذا نظرت إلى رجل فيه خير ودين فادعه وقل له: تعال، هل أنت متزوج؟ فإن قال: لا والله، قل له: هل تشتغل؟ فقال: والله ليس عندي وظيفة أنا أدرس، حسناً أنا سوف أزوجك، سوف يقول: الله يجزيك خيراً، الله يبارك فيك، ويقبل رأسك، يقول أحد الإخوان: عندي ثلاث بنات، والله إن أزواجهن عندي مثل عيني، وعندي أولاد والله لا ينفعونني بشيء.
فتبحث عن الزوج وتختاره أنت، وتأتي به إلى البيت وتجعله يرى البنت وتراه، فإذا انتهى الأمر وتيسرت الأمور، فخذ منه عشرة ريالات أو ألف ريال أو مائتي ريال، وتعقد له، وتأتي بكبش أو ذبيحة، وتدعو أباه، ثم تتعشون سوياً، ثم ادفع إليه زوجته، وبعدها اذهب للنوم وعينك آمنة، وظهرك آمن، وقلبك آمن، إن ابنتك أصبحت مع رجل يحميها ويقوم بلوازمها، لكن أن تغلق عليها الباب كل ليلة وأنت تنام مع زوجتك مهما فعلت، إما أن تكسر عرضك، وإما أن تعيش في عذاب، وإذا مت أنت فأول من يخاصمك هذه البنت بين يدي الله، وأذكر أني ذكرت لكم القصة عن تلك البنت التي مرض أبوها في المستشفى، فلما جاءت إليه تزوره مع بقية الأسرة، وعمرها خمس وثلاثون سنة، لم يأتها الخطاب، انتهى، من الذي سوف يأتيها وعمرها خمس وثلاثون سنة؟ الثمرة تقطف في سن النضج، لكنها إذا انتهت واضمحلت، لم يعد أحد يأتي إليها، فلما جاءت قال: سامحيني يا ابنتي! لأنه عرف أنه قد ضرها، قالت: قل: يا الله، قال: يا الله، قالت: ثم قل: يا الله، قال: يا الله، ثم قل: يا الله، قال: يا الله، قالت: إن الله يلهب عظامك، وإن الله لا يسامحك لا في الدنيا ولا في الآخرة، قال: قولي: لا إله إلا الله، قالت: لا إله إلا الله، قتلك الله، الآن عمري خمسة وثلاثون سنة ولو أنك زوجتني وعمري عشرون سنة لكان معي ولد كبير عمره الآن خمس عشرة سنة يقوم بي يوم أن تموت أنت الآن، لكن الآن سوف تموت أنت وأخواتي تزوجن إن أتيت عندهن أتيت خادمة لأزواجهن، وإخواني تزوجوا، إن جئت عندهم ضاقوا مني، وإن قعدت لوحدي ضقت من الحياة، وإن أردت الزواج فلا أحد يتزوجني الآن.
فزوج ابنتك يا أخي! إذا بلغت خمسة عشر عاماً زوجها أو ستة عشر أو سبعة عشر، بعضهم يقول: أنا أريد أن تكمل تعليمها، فلتكمل تعليمها من يمنعها؟ التعليم لا يمنعه الزواج، بل الزواج أعظم مؤيد للتعليم، زوج ولدك وابنتك، فنحن بحاجة إلى البشر -يا إخواني- بلادنا بلادٌ طيبة وخيراتها كثيرة، بلادنا واسعة وفيها خير، يشبع فيها جميع شعوب الأرض، ونحن قاعدون لا نزوج بناتنا ولا أولادنا، لا يا إخواني! تكاثروا تناسلوا، وبعدها لا تعقدوا أمور الزواج، اتقوا الله! إن الرجل الحر الشهم المؤمن لا تنام عينه، ولا يستقر قلبه إلا إذا عرف أن ابنته أصبحت عند رجل يحميها ويقوم بلوازمها، أما أن تقوم بربط بناتك وتجعلهن مربوطات وحبيسات في البيت، فإنك بهذا تقترف أعظم مصيبة وجريمة في حقهن وفي حق مجتمعك، وفي حق دينك ونفسك، وسوف تعض أصابع الندم يوم القيامة إذا وقفت بين يدي الله وقد خنت هذه الأمانة.
أما الدعاء: فأدعو الله لهؤلاء البنات أن يرزقهن الصبر، وأنا أوصيهن بالصبر، فالبنت والشاب إذا لم يتيسر لهما الزواج فليس هناك فرصة للحرام؛ لأن الله يقول: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33].
فنحن نقول للبنات: إذا لم يرض الآباء أن يزوجوهن استعففن واصبرن، فإن صبركن على عدم الزواج أخف من النار، وأخف من عذاب الله.
وأيضاً الشباب نقول لهم: اصبروا وسيجعل الله للصابرين فرجاً إن شاء الله.(21/13)
المحافظة على الطاعات باجتناب المحرمات
السؤال
ما رأيكم في الذين يصلون التراويح مع المسلمين، ويحضرون دعوة المسلمين، ثم يعودون إلى بيوتهم ليشاهدوا المسلسلات في أفلام الفيديو، ويسمعوا الأغاني؟
الجواب
هؤلاء مساكين؛ لأنهم يفسدون أعمالهم، كما أن الحسنات يذهبن السيئات أيضاً: السيئات تذهب الحسنات، يجب أن تبني وتحمي ما بنيت -يا أخي- تبني عملاً صالحاً وتحميه من الفساد، أما أن تبني نصف ساعة تراويح، وتقعد ثلاث أو أربع ساعات على الأفلام والأغاني فإنك تخرب أكثر مما تصلح، يقول الشاعر:
أرى ألف بانٍ لا يقوموا لهادمٍ فكيف ببانٍ خلفه ألف هادمٍ(21/14)
مشروعية العمرة في رمضان
السؤال
نصيحة للمعتمرين لاحظت ما يلي: كثرة الكلام عن العمرة بين الناس، هل اعتمرتم، أم لا؟ كأنها أصبحت موضة؟
الجواب
لا يا أخي! لم تصبح موضة، ولا نريد أن نشعر الناس بأنهم إذا تساءلوا عن العمرة أنهم مخطئون، أبداً، فإذا اعتمرت فالحمد لله، وإذا سألك شخص: هل اعتمرت؟ فقل: نعم.
ولا يسألك إلا عن أمر مهم، أما العمرة في رمضان ففيها حديث في صحيح البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: (عمرة في رمضان تعدل حجةً معي) كأنك حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم، أما إذا تساءل الناس عن العمرة فهذا من باب التناصح والتذاكر، تقول: هل اعتمرتم؟ أقول: لا والله، تقول لي: لماذا يا أخي! لا بد أن نعتمر، فهذه فرصة، أو أنا أعتمرت والحمد لله، هذا هو الهدف منها التذكير، أما إذا كان الغرض منها المباهاة أو الرياء، فهذا لا يجوز والعياذ بالله.(21/15)
النساء وخروجهن إلى الأسواق بعد التراويح في مكة
السؤال
بعض الناس يذهب إلى العمرة، ثم يترك لنسائه الحبل على الغارب في التجول في شوارع مكة وأسواقها، فبم تنصحهم؟
الجواب
ننصحهم بعدم تركهم يعملون هذا؛ لأن الذهاب للعمرة للطاعة وليس للمعصية، صحيح بعض النساء إذا دخل الرجال في التراويح خرجت وذهبت إلى الأسواق تقضي حاجتها، وترجع إلى المسجد الحرام كأنها تصلي، لم يعرف زوجها وهذا لا ينبغي، يجب أن تصلي وتجلس في المسجد الحرام، وإذا كانت بحاجة إلى شيء فعلى زوجها أن يقضيه لها.(21/16)
مناصحة الجار الذي لا يصلي أو هجره
السؤال
لي جار لا يصلي سواء في رمضان أو في غيره، فما الحكمة في نصيحته؛ لأنه منغمسٌ في الفسوق؟
الجواب
ليس في الفسوق بل منغمس في الكفر؛ لأن الذي لا يصلي كافر، وعليك مناصحته بزيارته وإهدائه كتاباً إسلامياً أو شريطاً إسلامياً ودعوته مرة ومرتين، فإذا قبل منك النصيحة واستجاب إلى كلامك، فاستمر حتى ولو لم يأت ليصلي في المسجد، لكن استمر معه حتى يهديه الله، أما إذا رفض النصيحة، ورفض الكتاب، ورفض الشريط فيجب رفعه لولي الأمر، فتذهب إلى الحسبة والهيئة وتقول لهم: لي جار لا يصلي، هذا رقم هاتفه، أو هذا عنوان بيته، أو العمارة التي هو فيها وأنا برئت ذمتي، ثم تقاطعه في الله؛ لا تسلم عليه، ولا تزوره، تبغضه في الله حتى يرجع إلى الله تبارك وتعالى.(21/17)
حكم زواج الشغار
السؤال
والدي زوج رجلاً بأختي، والرجل زوجني أخته، والبنات راضيات وسعيدات، وأنا والرجل الذي تزوج راضيان، وقد رزقنا بأولاد.
فما حكم هذا الزواج؟ علماً بأنه يوجد شرط: بأن كل واحد يزوج الثاني، وما حكم النكاح؟
الجواب
هذا النكاح باطل واسمه: نكاح الشغار، وهو حرام، ولو كن راضيات وسعيدات، ولو كان فيه مهر، ما دام فيه شرط بأنك لا تزوجني إلا إذا زوجتك، فهذا هو الشغار، ولهذا ينبغي لصاحب هذا السؤال أن يصحح الوضع من الليلة؛ لأن حياتهم الآن قائمة على الحرام، والأولاد الله أعلم بحكمهم، والحياة كلها شر ولعنة -والعياذ بالله- عليهم أن يذهبوا إلى قاضي الجهة الشرعية التي عندهم ويصححوا الوضع، ويؤتى بالزوجات، ويعاد العقد من جديد ليصبح عقداً شرعياً، أما العقد الأول الذي فيه شرط المبادلة، فإنه شرط فاسد والنكاح باطل وهو نكاح الشغار.
وإذا ماتت إحداهما فليجددوا للتي ما زالت حية، والتي قد ماتت نسأل الله أن يتوب عليه وعليها.
أسأل الله عز وجل لي ولكم التوفيق، والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(21/18)
لا تقنطوا من رحمة الله
نَهَجَ الإسلام في التعامل مع النفس البشرية منهجاً عظيماً، ينطلق من علم الله عز وجل فهو الذي خلق النفس وسواها، وألهمها فجورها وتقواها، فهو يعلم ضعفها وحقارتها وتسلط الشهوات والشبهات عليها.
ومن طبيعة النفس البشرية أنها جبلت على الخطأ لكن الله جعل لها باباً واسعاً وهو باب التوبة والرجوع إليه وعدم القنوط من رحمته.(22/1)
الحث على الإنابة والرجوع إلى الله تعالى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله! هذا الدرس بعنوان: (لا تقنطوا من رحمة الله) وهذا العنوان جزء من آية كريمة في كتاب الله عز وجل، وقد بين الله عز وجل فيها للناس الذين أسرفوا في الذنوب وأمعنوا في الخطايا، فدعاهم ألا يقنطوا من رحمة الله، ودعاهم أيضاً بأن سماهم عباده فقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:53 - 54] إلى آخر الآيات.
ومنهج الإسلام في التعامل مع النفس البشرية منهج عظيم ينطلق من علم الله عز وجل بحقيقة هذه النفس؛ لأن الله عز وجل هو الذي خلق النفس: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8] {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] يعلم ضعفها، وحقارتها، وتسلط الأعداء عليها، ولذا فإن الله تبارك وتعالى عاملها عن علم، وفرض عليها ورباها من طليق الفهم بها والعلم بأسرارها، فالنفس تعتمد في الأصل على إدراك الحق، هذا مطلب، وهو: أن يدرك كل إنسان الحق الذي من أجله خلقه الله تعالى {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19].
الناس أحد رجلين: رجل يعلم الحق والدين وأدركه، ومعنى الإدراك يعني: بلوغ هذه الحقائق إلى أعماق النفس البشرية.
هذا يسمى إدراك، ليس فهماً ولا علماً، لا.
إدراك يقيني، هذا رجل وفقه الله فأدرك.
- وآخر لم يدرك ولم يعرف الحق فهو أعمى عن طريق الحق: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء:72].
فالأول: أدرك الحق، وترتب على إدراكه للحق أن سار في طريق الحق؛ فقام بالفرائض والواجبات، وانتهى عن المحارم، وترك المعاصي والمنكرات، وهذا الفعل كفيل بأن يصل به إلى أعلى درجات الكمال إذا قام بأوامر الله وانتهى عما حرم الله، لم يعد إنساناً بشرياً بسيطاً عادياً، بل يرتفع عن مستواه؛ لأن الله تعالى يقول: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:7 - 9] أي: ارتفع بها، التزكية هي: الارتفاع والعلو بالنفس البشرية {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10] أي: غمسها ولطخها بالذنوب والمعاصي، فإذا فعل الإنسان الطاعات وترك المعاصي ارتفع إلى ذروة الرفعة، فهنا يصبح جديراً بأن يكون من عباد الله، وأن يكون خليفة في الأرض، إلا أن الإنسان بحكم بشريته، وطبيعة خلقه لا يبقى دائماً في سمو، بل ربما تعثر به القدم وتزل، وربما يسقط إما بسبب جهله، أو شهوته، أو ضغط شبهة، أو بتأثير رفقته، كل هذه مؤثرات تحاول أن تجذب الإنسان وهو في طريق السمو والارتقاء، شهوات، شبهات، رفقة، غفلة، جهل كل هذه اسمها مثبطات، فيحصل له بهذا انحراف عن السير في الطريق الصحيح.(22/2)
أثر الانحراف الديني على الإنسان
إن هذا الانحراف يهبط به وينزله من المستوى الإنساني، ويحول بينه وبين التطهر والترقي والتسامي فيسقط ويقل قدره عند الله، وينحط إلى الدرك الذي يعوقه عن النهوض بتبعات هذا الدين، فيألف المعاصي، وتثقل عليه الطاعات، وحين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة لا يكون له رسالة في الكون، ولا هدف ولا مثل، وإنما تتجه جميع قدراته وإمكاناته لإشباع غرائزه، وإيثار مصالحه، والتنكر للمصالح الأخرى، فيصبح شخصاً أنانياً فقط.
همه أن يدور كل شيء في فلكه هو، ويوم أن تخلو الحياة من الضمائر الحية والأفراد الصالحين تتحول الحياة إلى صراع، وحلبة لا يكون فيها إلا شبه صراع الحيوانات المفترسة، وهذا معنى قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] ويقول عز وجل: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] لماذا؟ لأنهم نزلوا من المستوى الإيماني عن الرقي الديني إلى المستوى البهيمي، وعاشوا كما تعيش البهائم.
هنالك لا تكون لهم قيمة إلا بالعودة إلى الله والتمسك بحبله، يقول الله عز وجل: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:43 - 44] ذكرك، شأنك، علوك، منزلتك، كيانك، وجودك كله أين؟ في كتاب الله: {وإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ} بغير القرآن لا ذكر لك، بغير الدين لا معنى لوجودك، بغير الإيمان لا قيمة لك، من أنت؟ أنت ذرة من ذرات هذا الكون، أنت حشرة من الحشرات التائهة فيه، لكن بالإيمان أنت أكبر وأعظم من فيه.
وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
لكن متى؟ يوم أن تستمسك، ولكن كيف؟ لا بد من الشعور، والإنسان ينزل لا بد أن يستشعر ذلك في نفسه، وأن هناك صارخ وداعية يدعوه يقول: لا تستجب لهذا النزول، ارجع ولا تقنط من رحمة الله؛ لأن الشيطان يقول: انتهى الأمر، أنت لا تعمل، أنت نازل فلا تصعد، ما لك والتعب فلن يغفر الله لك؟ ويضخم الشيطان خطاياك، ويكبر سيئاتك، ويقول: أنت مجرم مسيء، حتى يحول بينك وبين الرقي مرة ثانية وهذا وحي إبليسي.
أما الوحي الإيماني فإنه يهتف بك ويقول لك: أنت إنسان
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه يتقلب(22/3)
الإنسان مجبول على الخطأ
لست ملكاً مطهراً، ولا بشراً معصوماً، إنما أنت بشر تنازعك القوى، وتتجاذبك الأهواء، وتتغلب عليك طبائعك، فتسموا أحياناً وترتفع، وتنزل أحياناً وتخلد، أجل عليك ألا تستجيب باستمرار لداعي الهبوط، بل صحح خطأك، وعالج مرضك، واغسل ذنبك، واستأنف السير مع ربك من جديد، يقول عليه الصلاة والسلام وهو يبين طبيعة البشر: (كل ابن آدم خطَّاء -الخطيئة هي شأن بني آدم ولكن- وخير الخطائين التوابون) هذا الحديث رواه ابن ماجة والحاكم والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
(كل ابن آدم) وأنت من بنيه، أتريد أن تبقى ملكاً لا تخطئ ولو مرة واحدة؟ هذا غير ممكن! لا يوجد أحد في الدنيا لا يخطئ، كلكم خطاء، ولكن الخطيئة في حياة المسلم عارضة وفي حياة الفاجر ثابتة الخطيئة ملازمة لذاك أما المسلم فلا، تعرض له فقط، ولكن يتوب مباشرة منها (وخير الخطائين التوابون) هكذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم.
ويقول عليه الصلاة والسلام والحديث في صحيح مسلم: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها) وبسط اليد من قبل الرب هو عملية استعجال، أنت اليوم أذنبت في النهار والله في هذه الليلة يبسط يده لجميع المسيئين والمذنبين ارجعوا بسرعة، ارجع ولا تستمر في المعصية.
وبسط اليد يعني: دعوة من الله تعالى لعباده ولذا قال: (يبسط يده بالليل) لمن؟ ليس للصالحين، وإنما للمسيئين: (ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل).
إلى متى؟ (حتى تطلع الشمس من مغربها).
والله عز وجل وهو يعلم طبيعة البشر وضعف الإنسان يقول في كتابه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ويقول وهو يحدث عن أبي البشر آدم عليه السلام: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121 - 122] ويقول: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37].
هذه الكلمات التي قالها آدم هي قول الله عز وجل: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] لما قالها تاب الله عز وجل عليه وهدى، ولم يقلها إبليس، مع أن المعصية كانت مشتركة؛ المعصية من إبليس رفضه السجود، والمعصية من آدم أكله من الشجرة، وترتب على هاتين المعصيتين وهي ترك الأمر من قبل إبليس: اسجد.
فما فعل الأمر، وفعل النهي من آدم: لا تأكل، فأكل، وهما أساس المعاصي في الدنيا كلها، ليس هناك معصية إلا أن تفعل محذوراً أو تترك مأموراً، وترتب على هاتين المعصيتين أن الله قال لآدم وإبليس: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123].
إبليس لم يتب بل طلب الإنظار من أجل الإضلال: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [ص:79] قال الله تعالى له: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [ص:80] أما آدم قال: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] فلما قالها وتلقى هذه الكلمات من الله عز وجل تاب الله عليه، قال تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121 - 122] وقال له وللناس أجمعين في خطابٍ رباني كريم منه عنوان المحاضرة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} أي: أكثروا {عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:53 - 54].(22/4)
سعة مغفرة الله عز وجل
يقول عز وجل: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:110] هذا كلام الله -يا أخي- لا داعي للقنوط، ولا داعي إلى أن تستسلم لأهواء الشيطان: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} أي: بمعصية {ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:110].
ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث قدسي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل، والحديث في سنن الترمذي يقول: (يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي) الله أكبر!! يروي ابن أبي حاتم -والقصة عند ابن كثير - أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سقط حاجباه على عينه من كبر سنه وتقدم عمره، وقال: (يا رسول الله! رجل غدر وفجر، ولم أدع حاجة ولا داجة إلا اقترفتها، ولي ذنوب لو قسمت على أهل الأرض لأهلكتهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ قال: نعم.
قال: اذهب فإن الله قد كتب لك بكل سيئة حسنة -فالرجل تعجب! سيئات تتحول إلى حسنات- قال: وغدراتي وفجراتي -يعني الكبار الضخمة التي لا يتصور أنها تغفر- قال: وغدراتك وفجراتك! فولى الرجل وهو يقول: لا إله إلا الله، الحمد لله) ذكر هذا الأثر الصحيح ابن كثير عند تفسير قول الله عز وجل: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70].
ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) الغرغرة: بلوغ الروح إلى آخر منتهاها، بمعنى: ليس هناك إمكانية، وأصبحت مثل توبة المضطر الذي إذا وصلت الروح وبدأت تغرغر فلا تنفع توبة؛ لأن الإنسان رأى الموت، لكن قبلها يقبل الله التوبة ويعفو عن السيئات.(22/5)
طريق التوبة في الإسلام
أيها الإخوة: التوبة في الإسلام أمر سهل لا يحتاج إلى كاهن كما في المسيحية، ولا إلى شيخ طريقة كما في الصوفية، ولا إلى الذهاب إلى عالم أو مكان معين، لا.
إنما هي يقظة قلب، واستشعار نفس بالانحراف عن الطريق ولزوم العودة إلى الله عز وجل، وهذه بإمكان كل شخص أن يعملها؛ أن يوقظ نفسه ويقول: والله أنا مذنب، أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، ويدخل على الله من أقصر طريق، بثلاثة أمور: 1 - الأمر الماضي يصلحه بالاستغفار: وهذا ليس فيه تعب، هل هناك تعب أن نستغفر الله فيبدل الله سيئاتنا كلها حسنات؟ ليس هناك تعب.
2 - والأمر المستقبل تصلحه بالنية الحسنة: أن تنوي ألا تعمل في المستقبل إلا كل خير، وهل في النية تعب؟ بعض الناس لا يريد أن ينوي حتى فعل الخير في النية، تقول له: تعمل فيما بعد؟ قال: لا.
لا يريد أن يعمل الخير حتى في النية، ماذا بقي بعد الماضي والمستقبل.
3 - بقي الحاضر: ما هو الحاضر؟ الحاضر هو: أي لحظة تمر عليك، قبل لحظة كانت مستقبلاً، وبعد لحظة تصير ماضياً يقول:
ما مضى مضى والمؤمل غيب ولك اللحظة التي أنت فيها
هذه اللحظة اجتهد فيها، وجاهد نفسك على أن تفعل أمر الله وتترك نهيه، وبالتالي تصبح من التائبين الذين يقبل الله تبارك وتعالى توبتهم وتسعد في الدنيا والآخرة.(22/6)
فرح الله بتوبة عبده
والله تبارك وتعالى يفرح بتوبة العبد، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لله أفرح بتوبة عبده من رجلٍ كان في فلاة ومعه راحلته وعليها زاده وطعامه، فضلت عنه -أي: ضاعت- فبحث عنها فلم يجدها وعرف أنه ميت، فاستسلم للموت ونام تحت ظل شجرة يائساً منها، فردها الله عليه، فاستيقظ فإذا بها واقفة على رأسه وعليها طعامه وزاده فأخطأ من شدة الفرح فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك) يريد أن يقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك، فأخطأ! ما ظنكم في فرحة هذا الإنسان، هل في الدنيا أفرح منه؟! شخص حكم عليه بالهلاك، ثم أعيدت له الحياة، كيف تكون فرحته؟! لا شك أنها فرحة عظيمة.
فالله عز وجل -وله المثل الأعلى- أفرح بتوبة العبد من فرحة هذا الرجل برجوع ناقته، رغم أن الله عز وجل لا تنفعه طاعة المطيعين ولا تضره معصية العاصين، وإنما هو الضار النافع.
يقول عز وجل في وصف المؤمنين التائبين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} [آل عمران:135] أي: ذكروا عظمة الله، وما أعد الله عز وجل للعصاة وأهل الفواحش والكبائر: {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] ما هو جزاؤهم وقد فعلوا فاحشة كبيرة لكن استغفروا الله؟ قال الله عز وجل: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:136] يقول المفسرون: ما أعظم رحمة الله! هؤلاء ماذا عملوا؟ عملوا معاصٍ -فواحش- لكن لما بدلوها بالاستغفار والتوبة أعطاهم الله الجنة وقال: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:136] حَسَبَ الله سيئاتهم من النعم، يعني: من العمل الذي يرضي الله تبارك وتعالى، لماذا؟ لأنهم ختموها بالتوبة والاستغفار.
ولكن المصيبة -أيها الإخوة- والكارثة والتي ليس معها نجاة هي الإصرار على الإثم، والتمادي في المعصية والاستمرار فيها، وهو مظهر من مظاهر عدم معرفة الله وتوقيره، ومظهر من مظاهر الفراغ الداخلي من الإيمان، والموت القلبي من الدين للذي يرتكب الكبيرة ويصر عليها ويستمر ولا يشعر بأنه على ذنب، ولا يحاول أن يستغفر، ولهذا يقول الله في أهل النار: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:45 - 46] يعني: كانوا ملازمين للذنب ومستمرين في المعصية؛ ولهذا جزاؤهم النار والعياذ بالله!(22/7)
المبادرة والإسراع إلى التوبة
أما التوبة فيجب أن تكون عن قريب، يعني: بسرعة من الآن، لا تؤجل حتى تقول: أكبر، لا تدري تكبر أو لا تكبر، لا تقل لي: غداً، أو حتى بعد العشاء، الآن قل: أستغفر الله العظيم وأتوب إليه.
ففي الحديث في صحيح مسلم عن الأغر المزني يقول عليه الصلاة والسلام: (عباد الله! توبوا، فإني أتوب إلى الله في اليوم الواحد مائة مرة) مائة مرة يستغفر وهو سيد العابدين، يستغفر من غير ذنب، فكيف بي وبك -يا أخي- لا نستغفر الله ولا نتوب إليه!! يقول عز وجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:17] إذا تابوا من قريب بعد ممارسة الذنب وما أجَّلوا، ولا استمروا ولا أصروا على المعصية، فإن الله عز وجل يقول فيهم: {فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:17].
وإذا قارن الإنسان بعمق الإخلاص يعني: عمل وعنده إخلاص، وأيضاً يقين كان هذا مما يستوجب رحمة الله تعالى، يقول عز وجل: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54].(22/8)
أركان التوبة
يقول عز وجل: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى، هذه أربعة أركان للتوبة: 1 - توبة.
2 - إيمان.
3 - عمل صالح.
4 - بعد ذلك استمرارية، ثم الهداية.
ويقول عز وجل {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:68 - 70].
وقد روى ابن مسعود (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أصاب من امرأة قبلة -قبَّل امرأة لا تحل له- فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، فنزل قول الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] فقال الرجل: ألي هذا يا رسول الله خاصة؟ قال: بل لجميع أمتي) لكن انظر: الرجل عنده مؤشر حساس، قبلة جعلته يأتي إلى النبي ويقول: يا رسول الله! هلكت، ماذا تريد؟ قال: أقم علي الحد، يظن أن الرسول سيأخذه ويربطه بحبل ويرجمه بالحجارة من أجل قبلة، ما سكت عليها وذهب يمارسها ويكررها، لا.
ذهب يتطهر منها بسرعة، شعر بالذنب أيقن بالمصيبة؛ فأنزل الله فيه قرآناً: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] فالرجل ظن أنها كرامة له، قال: (ألي يا رسول الله خاصة؟ قال: بل لجميع أمتي كلهم).
اللهم صل وسلم على رسول الله، الحديث هذا في الصحيحين.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قام فصلى ركعتين أو أربع ركعات يحسن فيهن الركوع والسجود ثم استغفر الله غفر الله له) رواه الطبراني في المعجم الكبير وقال: حديث حسن، وتسمى هذه الصلاة صلاة التوبة.(22/9)
مكفرات الذنوب
ولكن هناك أشياء من الأعمال الصالحة يسميها العلماء: مكفرات الذنوب، أو يسميها بعضهم: الحسنات الماحية، وأنا أتيت بها تحت مسمى: (لا تقنطوا من رحمة الله) وهي خمسة عشرة خصلة تعملها -أيها المسلم- وهذه بإذن الله ماحيات لا يبقى معها ذنب بإذن الله عز وجل، وهي:(22/10)
المكفر الأول: الوضوء
الوضوء هذا من أعظم المعقمات، روى مسلم عن عثمان رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من توضأ نحو وضوئي هذا غفر له ما تقدم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة) رواه مسلم.
يقول عثمان للصحابة وقد توضأ: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ كوضوئي هذا ثم قال: من توضأ مثل هذا الوضوء -وضوءنا الموجود الآن هو وضوء عثمان الذي نقله لنا العلماء- غفر له ما تقدم من ذنبه -كل الذنوب مغفورة وبعد ذلك قال:- وكانت صلاته التي يذهب إليها ومشيه إلى المسجد نافلة) يعني: زيادة فضل من الله تبارك وتعالى! والحديث الثاني أيضاً في صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرجت كل خطيئة بطشتها يده مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجليه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقياً من الذنوب) رواه مسلم.
هذا أول معقم، ولهذا أكثر من الوضوء، حاول ألا تصلي صلاةً إلا بوضوء حتى ولو كنت متوضأ؛ يجوز إذا كنت متوضئاً أن تصلي الصلاة التي بعدها بنفس الوضوء، لكن الأفضل أن تتوضأ، ولو صليت جائز، لكن إذا أردت الأفضل فتوضأ، لماذا؟ للحديث الوارد في صحيح مسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (ألا أنبئكم بما يرفع الله به الدرجات، ويمحو به السيئات؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: إصباغ الوضوء على المكاره) وهذا يحصل في البلاد الباردة مثل الطائف وأبها والباحة، إذا أصبغ الشخص وضوءه يحصل عنده برد، أما في مكة دفء والحمد لله، فلو أصبغت الوضوء يكون لك الأجر، وأنت سالم من البرد، وليس عندك شيء بإذن الله عز وجل (وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط) هذا أول مطهر من الذنوب.(22/11)
المكفر الثاني: الصلاة
أداء الصلاة مع الجماعة، أما في البيت ففيها نظر إلا بعذر شرعي، ويحقق شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الاختيارات الفقهية عدم صحة صلاته إلا من عذر شرعي؛ مريض، أو نائم، أو غافل، أو خائف، أما إذا لم يجد عذراً وهو يسمع المؤذن ويقول: سوف أصلي هنا، وبعضهم يقول: أريد درجة ولا أريد سبعة وعشرين، ليس لك درجة، ففي الصحيحين: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) قال العلماء: مع العذر؛ الذي له عذر وصلى في بيته له درجة، أما بغير العذر فليس له درجة ولا أي شيء، فما له إلا غضب، لماذا؟ قالوا: في الصحيحين حديث يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، فآمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق برجالٍ معهم حزمٌ من حطب فأحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم بالنار، لولا ما فيها من الذراري والنساء) فلا يحرق عليه الصلاة والسلام بيوت الناس بالنار إلا على ترك واجب، وأمر مهم وهو الصلاة، فلا بد أن تصلي في المسجد.
وإذا صليت في المسجد فهذه تمحو السيئات بإذن الله، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم -والحديث صحيح رواه البخاري -: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يومٍ خمس مرات) في أمام بيتك نهر وكلما خرجت اغتسلت من الماء خمس مرات (هل يبقى من درنه شيء؟ -هل يبقى فيك قذر أو درن أو وسخ؟ - قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا) فإذا كنت على موعد مع الله في كل يوم خمس مرات: الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، كل يوم وأنت في المسجد هل يبقى معك ذنوب؟ لا تبقى أصلاً، وبعد ذلك لا تعمل ذنباً، ليس عندك فرصة كي تذنب؛ لأنك إنسان مؤمن، كيف تذنب وأنت تعرف بعد ذلك أنك ذاهب للصلاة؟ من الذي يعمل الذنب والمعصية؟ الذي لا يأتي المسجد، أما أهل المساجد فإن الله يحميهم، ويعصمهم ويسددهم ويوفقهم، لكن إذا انقطع المسلم عن المسجد افترسه الشيطان ولعب عليه وأضله -والعياذ بالله- أجل هذه الصلاة تعتبر مكفراً من مكفرات الذنوب ومطهراً لها.
والحديث الثاني في هذا الموضوع: هو الصلاة، والحديث في صحيح مسلم يقول عثمان رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم تحضره صلاة مكتوبة -يعني: تحضر عليه الصلاة- فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله) هذه كفارة الذنب إلا الكبائر، فالكبائر هذه لا تكفرها إلا التوبة أو النار، إما أن تتوب أو النار، فليس هناك خيار آخر، فالتوبة أسهل ما دام ليس هناك إلا النار؛ لأن النار لا تستطيع لها، فأفضل لك أن تتوب؛ لأن التوبة وإن كان فيها تعب لكنها أسهل بملايين المرات من عذاب النار والعياذ بالله! والحديث الثالث: وهو في الصحيحين، يقول عليه الصلاة والسلام: (صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في سوقه وفي بيته بخمس وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا كتبت له بها حسنة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في صلاة ما لم يؤذ أو يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه.
ولا يزال في صلاةٍ ما انتظر الصلاة) هذا المكفر الثاني وهو الصلاة.(22/12)
المكفر الثالث: صلاة الجمعة
والحديث في صحيح البخاري عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة) وغسل الجمعة -أيها الإخوة- شيء ضروري، وهناك خلاف بين أهل العلم، هل هو واجب، أو مستحب؟ بعض أهل العلم يرى أنه واجب لما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم).
ولكن بعض أهل العلم والمحققين منهم يقولون: إنه ليس بواجب، وإنما هو مستحب على سبيل التأكيد.
فأنت مطلوب منك أن تغتسل يوم الجمعة، واسمع إلى الثواب الذي يترتب على غسلك: (لا يغتسل رجلٌ يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر) يعني: يتدلك، ويتنظف، ويتطيب، ويلبس ملابس طيبة، ويزيل كل ما في جسده من قذر، حتى يطلع مثل الشامة، هذا يوم عيدك، يوم الجمعة: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهرٍ، ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين -يصلي حيث انتهى به الصف- ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) رواه البخاري.
ذنوب سبعة أيام! من يوم أن تصلي إلى الجمعة القادمة تذهب عنك ذنوب سبعة أيام! هذا فضل كبير -يا إخواني- والله الذي لا إله إلا هو أن الله عز وجل ليتيح لنا فرصاً ويفتح لنا مجالات من مجالات المغفرة والعفو، لكن الكثير منا مقصر، فإنا لله وإنا إليه راجعون!(22/13)
المكفر الرابع: دعاء ختم الصلاة
وهي الأذكار التي عقب الصلاة، هذه فيها دليل على أنها تغفر الذنب وتمحو السيئات بإذن الله عز وجل، والحديث في صحيح مسلم يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من سبح الله دبر كل صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) رواه مسلم.
لكن هذا شرطها: أن تكون عقب كل صلاة، واجعلها -يا أخي- لازمة من لوازم صلاتك، لا تقم ولو احترقت الدنيا عند الباب، لا تقم بأي حال إلا وقد أتممتها، كم تستغرق هذه؟ أحد إخواننا عدها في الساعة وضبطها بأصابعه، سبحان الله سبحان الله، أو سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثاً وثلاثين، عدها فبلغت دقيقتين فقط، هذه تخسرها، فداوم عليها عقب كل صلاة، والحديث في صحيح مسلم يكون جزاؤك: أن غفرت خطاياك وإن كانت مثل زبد البحر.(22/14)
المكفر الخامس: الحج والعمرة
لما في الصحيحين، يقول عليه الصلاة والسلام: (من حج فلم يرفث أو يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) ترجع مخلوقاً جديداً ليس عليك ذنباً واحداً، لكن بشرط: ألا ترفث ولا تفسق، والرفث: هو الجماع ودواعيه من التقبيل والملاعبة وغيرها، والفسوق: هو المعاصي بجميع أشكالها، كبيرها وصغيرها، دقيقها وجليلها.
وأيضاً يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في صحيح البخاري: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة) فالعمرة والحج مكفر من مكفرات الذنوب.
ولذا يا أخي في الله! يا من أكرمك الله بأن تعيش في مكة! لا ينبغي لك أن تفوتك حجة واحدة، وأكثر من العمرات، إذا أصبح رأسك أسود مثل الحمة فاخرج إلى أدنى الحل وأحرم وادخل مكة وخذ عمرة؛ فإن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، أما الحج فلا يكلفك شيئاًَ، يأتون من أقاصي الأرض، وأنت هنا فقط تذهب عرفات وترجع، وبإمكانك أن تجلس كل الأيام في منى في بيتك، وتأتي فقط لتنام ليالي التشريق، وترمي الجمرات، ولو رميت في الليل.
يعني: عمل الحج بالنسبة لأهل مكة سهل، وعليهم أن يحجوا ويخرجوا من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم.(22/15)
المكفر السادس: الجهاد في سبيل الله
مر رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -وهم في غزوة- بشعبٍ وفيه ماء، وهذا الماء عذب فأعجبه -أعجبه الماء العذب والشعب الأخضر- فقال: [لو اعتزلت الناس، وأقمت في هذا الشعب أعبد الله -يريد أن يعتزل ويعبد الله ولا يعصيه- ولكن لن أفعل حتى آتي وأستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم] فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذنه فقال: (لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟! اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
فواق ناقة يعني: الفترة التي بين الحلبتين، إذا حلبت الناقة وانتهى الحليب منها، الفترة من حلبها إلى أن تدر ويأتي حليب ثانٍ وتحلبها اسمها هذه فترة فواق (من قاتل في سبيل الله فواق ناقة -يعني: ساعة أو ساعتين- وجبت له الجنة) اللهم صلَّ وسلم على رسول الله.(22/16)
المكفر السابع: حسن الخلق
وهذا أمرٌ مكتسب، بإمكانك أن تكتسبه؛ لأن العلماء يقولون عن الأخلاق: (إن الأخلاق والطباع ليست طبيعة في الإنسان وإنما هي كسبية)، يعني: خلق الوفاء: بإمكانك أن تكون وفياً وبإمكانك أن تكون خائناً، خلق الصدق: بإمكانك أن تكون صادقاً وبإمكانك أن تكون كاذباً، خلق الكرم: بإمكانك أن تكون كريماً وبإمكانك أن تكون بخيلاً، خلق الشجاعة، والمروءة، والشهامة، والبر، والابتسامة، ونفع الناس هذه أخلاق كسبية تستطيع أن تعملها، وليس في الإسلام أعظم منها بالنسبة لغفران الذنوب، ومنها طبعاً السماحة، فعليك أن تكون سمحاً؛ لا تكن معقداً على كل شيء، وكذا البشاشة، سبحان الله العظيم! هذه أخلاق يرزقها الله بعض الناس، موظف أو مسئول يرزقه الله بهذا فيكسب ود الناس كلهم، يسلم عليه الناس كلهم (السلام عليكم) (وعليكم السلام، حياك الله، تفضل يا أخي!) ويقوم ويجلسه عنده، وبعد ذلك يعرض مشكلته فيحاول حلها له، أبشر حاضر إن شاء الله أعملها، ويقوم ويتصل ما رأيكم؟ هل هناك إمكانية؟ فإذا عجز قال: يا أخي! والله أتمنى أن أقضيها لك؛ لكن لم أستطع يا أخي! ما رأيكم في هذا المراجع يقول: جزاك الله خيراً قضيتها! قضى الله شأنك وحاجتك! والله جهدك هذا ومقابلتك هذه كأنك قضيت حاجتي كلها يوفقك الله.
هذه أخلاق، هل خسر هذا شيئاً؟ لا.
ما خسر أي شيء، بل كسب الدعاء، وكسب الحب في قلوب الناس.
وآخر، موظف مثله لكنه فقير في الأخلاق، ليس عنده ولا ربع قنطار ولا ربع ملي، ودخل عليه المراجع: السلام عليكم، يريد أن يسلم عليه أول شيء ينظر: إن كان يعرفه رد السلام وإن كان لا يعرفه قال: ماذا هناك؟ بدلاً من أن يقول: وعليكم السلام، قال: توجد معاملة، قال: أين الرقم؟ قال: ليس عندي رقم، قال: ماذا تريد أن أفعله لك؟ إنه لا يوجد لديك رقم، تريدني أن أبحث كل الدفاتر هذه؟! اذهب من هنا.
ماذا يقول المراجع المسكين؟ يذهب ويخرج من هناك وهو يقول: الله أكبر عليه، جعلها الله في وجهه، لا وفقه الله وجاء الثاني ودعا عليه، وجاء الثالث أتدرون أن هذه الدعوات لا تذهب؟ (أنتم شهداء الله في أرضه).
فلماذا لا تكسب الجميل يا أخي؟! الكرسي هذا ليس ملكك، كرسي دوار لم يأتك إلا وقد كان عند غيرك وسيذهب منك إلى غيرك، اكسب الجميل، خاصة إذا كنت في منصب بشرط: أن يكون هذا الجميل يتفق مع النظام، لا تخرق النظام، لا نقول: تخرق النظام، لكن النظام فيه فرص ومجالات، وإمكانات للمساعدة، فما دمت تجد إمكانية للمساعدة لأي مسلم فهذا من حسن الخلق، فإذا عجزت مرة وما استطعت أن تعمل شيئاً معه فأقل شيء بشاشة الوجه، يقولون: (لاقيني ولا تغديني).
يعني: لو لقيت شخصاً عند الباب قل: أهلاً تفضل، والله تدخل إن شاء الله تتغدى معي كأنك غديته، لكن لو لقيته وقلت: تفضل، امش! ثم أدخلته وغديته خروفاً، يقول: الله أكبر عليك مضيف! يضاربني! ما هذا؟! فلا -يا أخي- لا بد من الخلق، ولا بد من بشاشة الوجه، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (تبسمك في وجه أخيك صدقة) ماذا تخسر؟ لماذا لا تضحك وتبتسم لأخيك؟ لن تخسر أي شيء في تبسمك، ويقول صلى الله عليه وسلم: (طلاقة الوجه خير من القرى) و (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقَ أخاك بوجه طلق) لأن الوجه هذا فأل؛ عندما تلقى الشخص ويبتسم لك ويقدم لك خدمة باللسان تنبسط، وتنشرح نفسك، لكن شخص يعبس بوجهك، تتكتم وتتعقد ويضيق قلبك، فلا -يا أخي- كن بهذا الخلق: بشاشة الوجه، وطلاقة المحيا، والصفح عن الإساءة، لا تقعد تحاسب الناس على كل إساءة، اعف، شخص ضايقك في الطريق فيما بعد مر عليك وقال: آسف، قلت: مع السلامة، إذا ما قال: آسف قل: لا تهتم.
تفضل، شخص ضايقك وأخطأ عليك تجاوز عنه، لماذا؟ أنت صاحب خلق، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا) هذا الحديث رواه البخاري.
المصافحة هذه درجة ثانية بعد السلام، الدرجات ثلاث: سلام، مصافحة، معانقة، فإذا سلمت هذا الواجب، صافحت عظيم، عانقت فهذه زيادة الحب، خاصة إذا كان بعد وقت طويل، ليس كل وقت كلما لقيته تعانقه، وتكسر رقبته، لا.
لكن بعد أسبوع رأيته عانقه؛ لأن هذا من الود، لكن إذا رأيته بعد شهر عندما جاء ترفع أصابعك قليلاً هذا من الجفاء، لكن عندما تقوم وتحرك يده وتعانقه، هذا مما يغفر لك الذنب بإذن الله عز وجل.
ويقول عليه الصلاة والسلام والحديث صحيح أيضاً: (تلقت الملائكة روح رجلٍ ممن كان قبلكم فقالوا له: أعملت خيراً؟ قال: كنت أنظر الموسر، وأتجاوز عن المعسر، قال: فتجاوز الله عنه) رواه البخاري.
هذا ما عمل شيئاً، فقط الذي كان موسراً كان ينظره -يعني: يمهله- والذي كان معسراً ليس عنده شيء يقول: سامحك الله، لا نريد منك شيئاً، قال الله عز وجل: (أنا أحق بهذا منك) تجاوز الله عنه، وغفر الله له! وغفران الذنب يأتي باستمرار نتيجة وجود الرحمة، ووجود الرفق في قلب الإنسان، يقول عليه الصلاة والسلام: (بينما كلب يطيف بركية -كلب كان يطوف على ركية فيها ماء- وكاد يقتله العطش -كاد يموت من الظمأ، ولا يستطيع أن ينزل الركية، بئر لو سقط فيها لمات- إذ رأته بغي -زانية- من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها -أي: خفها- فاستقت له، فسقته فغفر الله لها به) وهي بغي لكنها سقت الكلب رحمة به فغفر الله لها به! هذه من الأخلاق التي يغفر الله عز وجل بها ذنوب المؤمنين، ما من عمل أعظم عند الله عز وجل في الميزان من حسن الخلق، ويقول عليه الصلاة والسلام: (كاد حسن الخلق أن يذهب بخيري الدنيا والآخرة) (إن أقربكم مني منزلة يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبعدكم مني منزلة يوم القيامة كل جعظري جواظ مستكبر) هذا بعيد عن الله وبعيد عن الرسول صلى الله عليه وسلم.(22/17)
المكفر الثامن: الآلام والأمراض والبلايا التي تصيب الإنسان
إن الله عز وجل عدل لا يظلم مثقال ذرة، فإذا ابتلى إنساناً عوضه، إذا ابتلاك الله عز وجل بفقد بصرك يعوضك بالجنة، وإذا ابتلاك الله بمرض يمحص به خطاياك ويعوضك، وإذا انتهت خطاياك رفع درجاتك في الجنة، المهم ألا تظن أن شيئاً يضيع عليك إذا ابتلاك الله، فقط بشرط: الاحتساب والصبر، وأن تشعر بأن هذا من الله، وأن الله لا يظلم مثقال ذرة، فتحتسب هذا البلاء عند الله، أي: تتوقع عليه جزاءً وثواباً من الله عز وجل، أما التبرم والسخط وعدم الرضا، ولماذا أنا من بقية الناس؟ ولماذا أنا أمرض دائماً؟ ولماذا أولادي يمرضون ولماذا؟ من رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط.
فالسخط لا يرفع المصيبة نازلة نازلة، لكن يضيع الأجر، والرضا يكسبك الثواب من الله تبارك وتعالى، فكل ما يصيبك من ألم فهو مطهر لذنوبك وسيئاتك، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلمٍ يصيبه من نصبٍ، ولا وصبٍ، ولا هم، ولا حزن، ولا غمٍ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في ولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، فلا يزال البلاء بك حتى تلقى الله وليس عليك خطيئة واحدة.
وورد (أن أقواماً يأتون يوم القيامة ولهم حسناتٍ كأمثال الجبال فيقولون: بم هذا يا ربنا؟ -يقولون: ما عملنا هذه الحسنات، هم يعرفون أنفسهم، ليس عندهم هذا كله- فيقال: إن هذا بالبلاء والمرض الذي أصابكم في الدنيا، أعطاكم الله به هذا ثواباً، يقول: فيتمنى أهل العافية الذين كانوا متعافين في الدنيا أنهم ما تعافوا يوماً واحداً، ويتمنون أنهم كانوا أمراضاً طول الزمان لما رأوا من ثواب الذين ابتلاهم الله عز وجل) فإذا ابتلاك الله فاصبر.
وفي حديث صحيح في مسند الإمام أحمد: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إن لي ابنة أريد أن تنكحها -تريد تزوجه البنت- وإنها يا رسول الله -وقامت تدعو وتبين أنها وأنها وأنها- حتى كاد النبي صلى الله عليه وسلم أن يوافق عليها، وإنها يا رسول الله لم تشتك قط) يعني: ما مرضت طوال حياتها، شابة متعافية صحيحة ناصحة يعني: ما يحتاج مثل اللاتي نريد الآن، أكثر الناس إذا تزوج امرأة قال: هل هي مريضة؟ إن كانت هي مريضة تذهب عند أهلها ليس عندي مستشفى، لا -يا أخي- الله يجري لك الأجر وأنت لا تعلم، ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ قال: (لا حاجة لي بها) لما قالت أمها: إنها لم تشتك قال: (لا حاجة لي بها، قالت: لم يا رسول الله؟! قال: لو أحبها الله لابتلاها).
فأنت إذا عندك زوجة وعندها بلاء هذه أحبها الله، وأكرمها، وقم بخدمتها، اتخذها طريقاً إلى الجنة، فلا مانع من أن تأخذها إلى المستشفى، لا مانع من أن تتعب، لكن احتسب ذلك عند الله، أما أن تتخلى عنها؛ لأنها مريضة فهذا ليس من أخلاق المؤمنين، بعض الناس تجده طيباً مع الزوجة؛ لأنها متعافية، فإذا مرضت أخذها ووضعها عند أهلها، قال: ابنتكم مريضة عالجوها أنتم، وإذا تعافت جاء يأخذها، ما شاء الله عليك! يعني: لا تريد أن تتعب، هذا ليس من أخلاق أهل الإيمان والرجولة والمروءة.(22/18)
المكفر التاسع: كفارة المجلس
يحصل من الإنسان في مجالسه لغط، أو كلام فاضٍ، أو غيبة، أو نميمة، أو خلط في الحديث، أو شيء ليس منه فائدة، لكن إذا قام وختم كلامه بهذا الدعاء مسح هذا الكلام كله، يقول عليه الصلاة والسلام: (من جلس في مجلسٍ فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
إلا غفر الله له ما كان في مجلسه ذلك) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
هذه اسمها كفارة المجلس يعني: ماحية الذنوب التي في المجلس، احفظ هذا الدعاء: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، محت كل الذنوب التي قد قلتها في مجلسك، لكن بشرط: ألا تتعمد أن تقول شيئاً، ولكن شيء كثر فيه اللغط، وتجاوز الحد عليك أن تذكر الله تبارك وتعالى، وهذا من كفارة الذنوب.(22/19)
المكفر العاشر: ملازمة الاستغفار
هذا الاستغفار أمان من العذاب، وماحٍ للذنوب، ومبارك في الأولاد، وموسع في الأرزاق، الاستغفار عظيم: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيقٍ مخرجاً ومن كل همٍ فرجاً) هذا الحديث رواه أبو داود، وفي سنده مقال لكنه يستشهد به، والله تعالى يقول: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10 - 12] {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] يقول ابن عباس: [ذهب الأمان الأول -يعني: وجود النبي صلى الله عليه وسلم- وبقي الأمان الثاني إلى يوم القيامة وهو الاستغفار] فإذا لزمت الاستغفار باستمرار فإنك بإذن الله عز وجل تمحو الذنوب، ولا يكون معك ذنب إن شاء الله.
وأيضاً هناك سيد الاستغفار، وهو حديث في الصحيحين، يقول عليه الصلاة والسلام: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، وأبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
من قالها في النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل موقناً بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة) رواه البخاري ومسلم.
هذا سيد الاستغفار.
قال: (يا شداد! ألا أدلك على سيد الاستغفار؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: قل فإنك إذا قلتها في الليل موقناً بها فمت من ليلتك دخلت الجنة، وإذا قلتها في النهار موقناً بها فمت دخلت الجنة) وهذه اجعلها من أذكار الصباح والمساء.(22/20)
المكفر الحادي عشر: التسبيح والتحميد
هذا ورد فيه حديث في الصحيحين، يقول عليه الصلاة والسلام: (من قال: سبحان الله وبحمده في يومٍ مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت كزبد البحر، أو كقطر المطر، أو كماء البحر، أو كعدد رمل عالج) سبحان الله وبحمده، هذه تقولها في دقيقتين، وهي سهلة جداً، سبحان الله وبحمده في كل يوم مائة مرة، وأحسن وقت تقولها وأنت تطوف -مثلاً- أو تنتظر الصلاة في المسجد الحرام، أو قبل أو بعد الصلاة، المهم في كل يوم تقول مائة مرة سبحان الله وبحمده، هذه من أعظم الأذكار؛ لأن فيها حديث في الصحيحين أنها تحط عنك الذنوب والأوزار بإذن الله عز وجل.(22/21)
المكفر الثاني عشر: اجتناب الكبائر
من يجتنب الكبائر يمحو الله عنه الصغائر، يقول الله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31] والكبائر هي: الذنوب الكبيرة التي جعل الله عز وجل عليها حداً شرعياً، أو توعد عليها بالنار، أو لعن فاعلها، أو سماها الشرع كبيرة، وليس لها حد معين، بل كل ذنب توعد الله له بحد شرعي، أو بعقوبة في النار، أو لعن فاعله، أو بين الشرع أنها كبيرة فهي من كبائر الذنوب، وأما غير ذلك فهو من صغائر الذنوب، يقول عز وجل: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32] اللمم هي: الذنوب الصغائر التي يلم بها العبد من غير إصرار.(22/22)
المكفر الثالث عشر: حسن الظن بالله
وهذا من أعظم الأشياء، حسن الظن يجب أن يرافقه حسن العمل؛ لأن الذي يحسن الظن ويحسن العمل هو الذي يحسن الظن حقيقة بربه، أما الذي يحسن الظن بالله ويسيء العمل فهذا يسيء الظن بالله؛ لأن من العقل والمنطق أنك إذا أحسنت الظن في إنسان أن تحسن العمل معه، أليس كذلك؟ إذا أحسنت الظن في المدير أنه يرقيك فما الذي يلزمك؟ أن تحسن العمل حتى يرقيك، لكن من يسيء العمل ويحضر متأخراً دائماً، وينصرف مبكراً دائماً، ويغيب غالب أيام الأسبوع، وإذا كلَّ عملاً ضيعه، ثم يحسن الظن بالمدير أن يرقيه، هل هذا من حسن الظن؟ بل هذا من سوء الظن بالمدير؛ تسيء الظن به أنه لا يعرف كيف يجازي الموظفين عنده، ولله المثل الأعلى.
يقول الحسن البصري: [إن قوماً غرهم حسن الظن بالله حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، يقولون: نحسن الظن بالله، كذبوا والله لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل] فإذا رأيت شخصاً يحسن العمل، ويحسن الظن، هذا هو الصادق، أما الذي على المعاصي والمنكرات، وتارك للطاعات، وإذا نصحته، قال: الله غفور رحيم، وأنا أحسن الظن.
نقول: كذاب، أنت ما أحسنت الظن بالله، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء) ويقول عليه الصلاة والسلام: (حسن الظن من حسن العبادة) {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56] فإذا اتقيته وعبدته فأحسن الظن به في أنه لن يضيع عبادتك وعملك.
أما أن تعمل السوء وتحسن الظن به فكأنك تتهم الله عز وجل بأنه لا يعرف كيف يجازي عباده، وطبعاً يأتيك حسن الظن من علمك بسعة رحمة الله، فالله عز وجل رحيم ورحمته وسعت كل شيء.
يروي البخاري ومسلم في الصحيحين عن عمر رضي الله عنه، يقول: (قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبي -يعني: الذين يؤخذون في الحروب من نساء وأطفال- فإذا امرأة من السبي تبحث عن صبيها -فالحرب فرقت بين المرأة وولدها، ولما جمعوا الغنائم جعلت تبحث عن ولدها- فلما وجدته أخذته بشدة، وألصقته ببطنها وأرضعته) ما ظنكم في تلك اللحظة، وكيف حنانها، وفرحتها، ورحمتها بذلك الولد، وقد يئست منه وضاع منها؟ لقيته ومباشرة ضمته وأعطته ثديها وحنت عليه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة لما رآها: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ -يقول: هل هذه المرأة التي هذا وضعها مع ولدها الصغير هل ترميه في النار؟ - قالوا: لا والله -الصحابة قالوا: والله ما تطرحه وهي تقدر على منعه- قال عليه الصلاة والسلام: لله أرحم بعباده من هذه بولدها) اللهم ارحمنا برحمتك الواسعة.
لله مائة رحمة؛ تسعة وتسعون ليوم القيامة، وواحدة أنزلها إلى الأرض بها تتراحم جميع المخلوقات، جميع الرحمات الموجودة في قلوب الناس كلهم وفي قلوب الحشرات والحيوانات والبهائم كلها هذه جزء من الرحمة التي هي جزء من مائة رحمة من رحمة الله عز وجل، وعند الله يوم القيامة تسعة وتسعون رحمة، نسأل الله أن يدخلنا في رحمته الواسعة.
يقول الحسن البصري: [ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قوماً غرتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، قالوا: نحن نحسن الظن بالله.
كذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل].(22/23)
المكفر الرابع عشر: دعاء الملائكة
الملائكة تدعوا لأهل الإيمان الذين يذنبون، ورد في الصحيحين أنهم يدعون في المسجد؛ إذا خرجت المسجد وصليت فالملائكة فوق رأسك تقول: (اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم تب عليه)، رواه البخاري ومسلم (ما من مسلمٍ يتطهر في بيته فيحسن الوضوء، ثم يخرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا حط عنه بها خطيئة، ورفع له بها درجة، ولا تزال الملائكة تصلى على أحدكم مادام في مصلاه تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم تب عليه، ما لم يؤذ أو يحدث، وما يزال في صلاة ما انتظر الصلاة).
والدعاء الثاني في سورة غافر: يقول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} [غافر:7] يعني: الملائكة {وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] يعني: لكم {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر:7] الدعاء اغفر لمن؟ ليس للناس كلهم {لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر:7] يعني: مشوا في الطريق {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7] هذا كلام الملائكة تقول لكم: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر:8] ثم تقول الملائكة: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر:9] أي: اصرف عنهم المعاصي والذنوب والسيئات، اللهم قنا السيئات يا رب العالمين! {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:9] هذه الملائكة تستغفر لك؛ لأنك أهل للاستغفار، ويستغفرون لمن؟ للذين آمنوا، الشروط التي جعلتك تستحق استغفار الملائكة وهي: أن تكون مؤمناً وتائباً ومتبعاً للسبيل، فتستغفر لك الملائكة.(22/24)
المكفر الخامس عشر: عفو الله عز وجل
وما أعظم عفو الله، فهو ذو رحمة واسعة، وذو فضل عظيم، وهو عفو يحب العفو، ويغفر الذنب، ويقبل التوبة، ويعفو عن السيئات، يقول عليه الصلاة والسلام: (يدني الله المؤمن منه يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه، فيذكره بذنوبه -يذكره بالمعاصي- ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: رب أعرف -لا يستطيع أن ينكر- قال عز وجل: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته بيمينه).
نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يسترنا وإياكم في الدنيا والآخرة، وأن يعفو عنا جميعاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:193 - 194].
يقول أبو العتاهية:
إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني
فما لي حيلة إلا رجائي لعفوك إن عفوت وحسن ظني
وكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضلٍ ومنِّ
إذا فكرت في ندمي عليها عضضت أناملي وقرعت سني
أجن بزهرة الدنيا جنوناً وأقطع طول عمري بالتمني
ولو أني صدقت الزهد فيها قلبت لأهلها ظهر المجن
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني
وهانحن نقول كما قال أبو العتاهية: يظن الناس فينا خيراً وإنا لشر الخلائق إن لم يعف عنا تبارك وتعالى.
نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يعفو عنا جميعاً وعن جميع المسلمين، وأن يكرمنا بالقيام من هذا المجلس وقد غفر لنا ذنوبنا، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله وصحبه وسلم.(22/25)
الأسئلة(22/26)
عوامل الثبات على دين الله عز وجل
السؤال
نحن مجموعة من الشباب نحضر هذا المجلس لأول مرة، ونحن سعداء بما نسمع، نرجو منكم توجيه نصيحة لأمثالنا لعل الله أن يهدينا ويتوب علينا؟
الجواب
أقول لهم: مرحباً بكم في طريق الإيمان، ورياض الجنة، وحلق الذكر، ومجالس الملائكة، مرحباً بكم وأنتم تضعون أقدامكم في الطريق الصحيح، حياكم الله وحيا الله من دلكم على هذه الجلسة المباركة، وأسأل الله أن يزيدكم هداية وتوفيقاً وثباتاً على هذا الدين، ووصيتي إلى نفسي وإليكم وإلى كل مسلم الثبات عن طريق فعل ستة أشياء هي المثبتات: 1 - المداومة على قراءة القرآن ولو صفحة كل يوم مع التدبر.
2 - المداومة على قراءة السنة ولو حديثاً في كل يوم.
3 - المداومة على فعل الطاعات جميعها.
4 - الحذر من جميع الذنوب والمعاصي كبيرها وصغيرها.
5 - البعد عن رفقاء السوء.
6 - البحث عن الرفقاء الصالحين.
إذا أنت تمسكت بهذه الست فلا ترجع -بإذن الله- أبداً وتستمر على الطريق الصحيح إن شاء الله.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(22/27)
الدروس المهمة لعامة الأمة
أورد الشيخ حفظه الله في هذه المحاضرة رسالة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله المسماة بـ: الدروس المهمة لعامة الأمة، فتحدث بداية عن الحث على السير في طريق السعادة، ثم تحدث عن أهمية هذه الرسالة، وبين معنى الشهادة وشروطها، وأركانها وواجباتها وسننها، كما تحدث عن بعض النقاط المهمة في الرسالة، وختم حديثه بالكلام عن الموت والمسائل التي تتعلق بالميت.(23/1)
الحث على السير في طريق السعادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فقد خلق الله عز وجل هذا الخلق -الإنسان- لهدف جليل ولحكمة نبيلة أوضحها الله في محكم التنزيل فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فالوظيفة الرئيسية للإنسان هي العبادة، وحتى يعبد الله عز وجل على بصيرة أنزل الله كتابه الكريم، وأرسل رسوله صلوات الله وسلامه، عليه وبيّن للناس طريق الحق ودعاهم إليه، وبين لهم طريق الباطل وحذرهم منه، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيّ عن بينة، فسار الموفقون -أصحاب البصيرة- ساروا في الطريق الصحيح الذي يقول الله فيه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] صراط مستقيم واضح لا اعوجاج فيه ولا غبش ولا التواءات ولا انحناءات، والأمر بالاتباع لا بالابتداع، والتحذير من السبل التي على رأس كل منها شيطان يزينها، ويملي للناس ويسول لهم في الدخول فيها، والنهاية أنها تفرق عن سبيل الله {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] هذه وصية الله، سار الموفقون في الطريق -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم- وانحرف العمي المخذولون الذين ما عرفوا حقيقة هذه الحياة، ولم يعرفوا دورهم، ولماذا خلقهم الله عليها، ساروا في الطرق الملتوية، اتبعوا الشياطين، وساروا في ركابهم: {اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف:30] وسبب ذلك: أنهم عميٌ ما فتحوا بصائرهم على طريق الله، يقول عز وجل: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء:72] من عاش في الدنيا أعمى عن طريق الله حشره الله أعمى عن صراط الله؛ لأن أول الصراط هنا ونهايته الجنة، امسك الصراط هنا وامسك الخط الصحيح ولا تمل يميناً ولا شمالاً والنهاية الجنة، لكن من زاغ هنا زاغ هناك، ومن انحرف هنا انحرف هناك، ومن ضل هنا ضل هناك، وأكثر من ذلك، قال: {وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء:72] ويستغرب الأعمى يوم أن يحشره الله أعمى وقد كان بصيراً {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} [طه:125 - 126] نسيتها وتعاميت عنها {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:126] والجزاء من جنس العمل، من نسي آيات الله نسيه الله بالعذاب هناك، ومعنى: نسيان الله يعني: إهماله له، وخلوده في جهنم أعاذنا الله وإياكم منها.
ولكن هذا الطريق -أيها الإخوة- الذي هو طريق السعادة يحتاج إلى علم ومعرفة، وبغير العلم والدراية والمعرفة لا يستطيع أن يواصل السير فيه، لا تكفي العاطفة، والحماس، ولا تكفي الرغبة، بل لا بد من إشارات وإرشادات، وعلامات ودلالات يتمسك بها الإنسان حتى يصل إلى الله، فإن الطريق بعيد، والعقبة كئود، والحمل ثقيل، والبحر عميق، والسفر طويل، والناقد بصير، ولا يخارجك -أيها الإنسان- إلا الذي لا إله إلا هو بعد أن تأخذ بالأسباب.(23/2)
أهمية رسالة الشيخ عبد العزيز بن باز ومعنى الشهادة وشروطها
كان الشخص منا يفكر باستمرار كيف يمكن أن يدل إنساناً على كتاب أو شريط بمجرد ما يرى أنه اهتدى، إذا قال لك: دلني على شريط أو دلني على كتاب.
فإنك تفكر كثيراً وأنت تريد أن تدله على شيء محدود ولكنه شامل كامل يفي بالغرض فلا تجد، وهناك أشرطة كثيرة قد لا يستطيع الإنسان سماعها، أو كتب كبيرة لا يستطيع الإنسان استيعابها، ولكن وقع الاختيار على رسالة هامة تكتب بماء الذهب ألفها سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الرئيس العام لـ إداراة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، مد الله في أجله، ومتع الله المسلمين بعمره، وهذه الرسالة سماها: الدروس المهمة لعامة الأمة، يستفيد منها العالم والعامي، والرجل والمرأة، والكبير والصغير، وهي من قبل الرئاسة العامة توزع بالمجان، ووزعت على أئمة المساجد من أجل قراءتها على المصلين؛ لأنه لا يستغني عنها مسلم في حال من الأحوال، إذ أنها اشتملت على الأساسات والقواعد الرئيسية التي يحتاجها المسلم أياً كان هذا المسلم، وفي أي بقعة، وتحت أي سماء، وفوق أي أرض، أي مسلم يقرأ هذه الرسالة ويعتقد ما فيها ويعمل بما فيها فهي وسيلة نجاة بإذن الله عز وجل، هذه الرسالة سنقولها هذه الليلة إن شاء الله مع شيء من التفصيل والشرح المبسط لعلها تستوعب في شريط، ثم يدل على هذا الشريط حينما تعلم بهداية إنسان تقول: اسمع هذا الشريط فإنه يكفيك ويشفيك إن شاء الله.
الدرس الأول في هذه الرسالة يتعلق بالقاعدة التي يبنى عليها الدين وهي: شهادة أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله.
وهي المفتاح التي تفتح به الجنة، وهي الباب الذي يدخل منه الإنسان إلى الإسلام، إذ لا يقبل من الإنسان عمل إلا بعد أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، هذه الكلمة العظيمة هي التي قالها الله لموسى عندما قال موسى: (يا رب! علمني قولاً أذكرك به، قال: يا موسى! قل لا إله إلا الله، قال: يا رب! كل عبادك يقولون هذا، قال: يا موسى! لو أن السماوات والأرض وعامرهن غيري وضعت في كفة ولا إله إلا الله في كفة لرجحت بهن لا إله إلا الله).
ومعنى هذه الكلمة: أن (لا إله) نافية لجميع ما يعبد من دون الله، فكل إله باطل إلا الله، (إلا الله) تثبت الألوهية لله وحده لا شريك له، ولذا الجاهليون ما قالوها، لأنهم يعرفون مدلولها، ولذا قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] لأنهم يعبدون ثلاثمائة وستين صنماً حول الكعبة، وعندهم آلهة بشرية وآلهة صنمية، ومن كل نوع: يعبدون الشمس، والقمر، والنجوم، والكواكب، والجن، والشجر، والحجر، والتمر، والكلاب وحتى الفروج والشيطان، ولكن لا إله إلا الله هذه كلمة التوحيد الأولى، معناها: لا إله معبود بحق (إلا الله) تنفي جميع المعبودات إلا الله، وتثبت العبادة لله وحده لا شريك له.
ولها شروط سبعة لا بد من معرفتها: الشرط الأول: العلم وهو منافٍ للجهل.
الشرط الثاني: اليقين وهو منافٍ للشك.
لا بد أن تقول: لا إله إلا الله موقناً من قلبك يقيناً جازماً ثابتاً لا يزول ولو زالت الجبال عن أماكنها، لا يخالطك فيها شك، فهذا هو اليقين المنافي للشك.
الشرط الثالث: الإخلاص المنافي للشرك.
لا بد أن تقولها مخلصاً بها، إذ من قالها وهو يشرك مع الله لا تنفعه لا إله إلا الله ولو قالها مليون مرة.
الرابع: الصدق المنافي للكذب.
تقولها صادقاً، لا كما قالها المنافقون الكذبة، في عهد الرسول حين قالوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:8 - 10].
الخامس: المحبة المنافية للبغض.
تحب لا إله إلا الله، وتحب أهل لا إله إلا الله، وتحب في لا إله إلا الله، وتوالي من أجل لا إله إلا الله، وتعادي من أجل لا إله إلا الله، وتبغض من أجل لا إله إلا الله، وتحيا من أجل لا إله إلا الله، وتموت في سبيل لا إله إلا الله، هذا معنى المحبة.
السادس: الانقياد المنافي للترك.
تنقاد لأحكام لا إله إلا الله، تخضع وتذعن وتستسلم لأوامر لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
السابع: القبول المنافي للرد.
تقبل لا إله إلا الله بصدر منشرح، تفرح بأحكام لا إله إلا الله بقلب مفتوح، الموجة متجهة إلى الله عز وجل، لماذا؟ لأن الذي يعمل بغير رغبة ومحبة ولا قبول لا يقبل الله منه، يقول الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] هذا معنى شروط لا إله إلا الله.
أما معنى وشروط أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمعناه: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، هذه معنى أن محمداً رسول الله، تقتضي هذه الكلمة منك ما دمت تشهد وتعتقد أن هذا رسول أرسله الله إلى الجن والإنس فإن مقتضى هذه الشهادة وهذا الإيمان يلزمك إلزاماً أن تطيعه فيما أمر، وأن تصدقه فيما أخبر، وأن تجتنب عما عنه نهى وزجر، وألا تعبد الله إلا بما شرع هو لا تعبده بما تفتكره من رأسك، وبما تمليه عليك أهواؤك أو استحساناتك، لا.
لا دين إلا ما جاء عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(23/3)
أركان الإيمان
مراتب الدين ثلاثة مراتب: مرتبة الإسلام، ومرتبة الإيمان، ومرتبة الإحسان، وهذه المراتب الثلاث جاءت في حديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (جاء رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد، ولا يرى عليه أثر السفر، فأقبل على النبي صلى الله عليه وسلم وجلس وسأله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدقت، قال عمر: فعجبنا منه يسأله ويصدقه) معناه أنه يعلم، وأنه يعرف أكثر من النبي صلى الله عليه وسلم، ولما ولى الرجل قال صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من الرجل؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم).
علم الرسول صلى الله عليه وسلم مراتب الدين الثلاثة، وعلمه من ضمنها أركان الإيمان، أي: الأسس التي يقوم عليها الإيمان وهي ستة:(23/4)
الركن الأول: الإيمان بالله
تؤمن بأن الله هو خالق هذا الكون، وهو المبدع له، وهو المستحق للعبادة، كما هو الذي خلق فهو الذي يأمر: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] ما دام أنه لا أحد يشاركه في الخلق فلا ينبغي أن يشاركه أحد في العبادة والأمر، هذا الركن الأول.(23/5)
الركن الثاني: الإيمان بملائكة الله
أن تؤمن أن لله ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله، موكلون بأعمال، ومكلفون بتكاليف، منهم من هو موكل بالوحي وهو جبرائيل، ومنهم من هو موكل بالمطر وهو ميكائيل، ومنهم من هو موكل بقبض الأرواح وهو ملك الموت، ومنهم من هو موكل بالنفخ وهو إسرافيل، ومنهم خازن الجنان وهو رضوان، ومنهم خازن النيران وهو مالك، ومنهم موكل بالأعمال منكر ونكير: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] نؤمن بهذا وأنهم {غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] ومقتضى إيماننا بهم يلزمنا بمراقبة الله، إذ أنه {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12] الذي يعرف ويؤمن ويعتقد أن كل كلمة مسجلة عليه هل يخطئ؟ هل يلعب؟ لا.
يعرف أن شيء مسجل عليه، لكن الذي ليس عنده إيمان تجده (يهري بما لا يدري، ويبلبل بالكلام في المعصية بغير مراقبة)؛ لأنه ليس عنده يقين ولا إيمان.(23/6)
الركان الثالث: الإيمان بالكتب المنزلة على رسل الله
أنزل الله على كل رسول يرسله إلى الأمم كتاباً، ختم الكتب كلها بالمهيمن عليها والخاتم لها وهو كتاب الله الذي يقول فيه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ما فرط الله به من شيء، نور وهداية، وروح لهذه الأمة، وكذا تؤمن بالكتب السالفة: الزبور، والتوراة، والإنجيل، لكن تعمل فقط بما في القرآن؛ لأنه نسخ كل الكتب وهيمن على كل الرسالات ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(23/7)
الركن الرابع: الإيمان بالرسل
تؤمن بأن الله عز وجل أرسل رسلاً إلى الأمم السالفة أولهم نوح وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] ولكن لا تعمل بشريعة أحد إلا بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأنبياء الأولين لو كانوا موجودين ما وسعهم إلا إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويبعث عيسى عليه السلام في آخر الزمان ويعمل بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أمَّ صلى الله عليه وسلم الأنبياء في بيت المقدس وصلى بهم إماماً، فإنه إمام المرسلين وخاتم النبيين، صلوات الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.(23/8)
الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر
أن تؤمن بالبعث وباليوم الآخر، وأن الله قد ضرب موعداً يعلمه هو ولا يعلمه أحد غيره، علم الساعة عند الله، وهذا الموعد يبعث الله فيه الأولين والآخرين، ويحضرهم إلى ميقات يوم معلوم، ثم ينزل فيهم لفصل القضاء، ثم تنشأ الدواوين، ثم يضرب الجسر على متن جهنم، ثم تقرب الجنان وتزلف، وتقرب النيران وتعد، ثم يفصل بين الناس وينقسمون يوم القيامة إلى فريقين {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] بحسب الأعمال التي عملوها في الدنيا، من استقام على دين الله هنا نجاه الله هناك وأدخله الجنة، ومن ضل هنا أضله الله هناك: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء:72].(23/9)
الركن السادس: الإيمان بالقدر خيره وشره
بأن تعتقد: أنه لا يتحرك في الكون متحرك، ولا يسكن ساكن، ولا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بقدر من الله عز وجل، يقول الله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] كل شيء بقدر من الله عز وجل، وأن هذا القدر فيه خير وفيه شر، وهو خير وشر بالنسبة عندنا ولكن عند الله كله خير، وهذا القدر يلزمك أن تؤمن به، ما معنى تؤمن؟ ترضى وتسلم وتخضع، إذا علمت أن هذا القدر من الله رضيت؛ لأن الخير فيما يقدره الله، والخير فيما يختاره الله {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] هذا هو الإيمان.(23/10)
أقسام التوحيد
أما التوحيد الذي هو أساس الدين فمعناه: إفراد الله بالعبادة، أي: توحيد الله، والتوحيد مأخوذ من الوحدة، توحد الله: لا تشرك معه، إفراده: تفرده بالعبادة، التوحيد: هو إفراد الله بالعبادة، وهو ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.(23/11)
توحيد الربوبية
وتوحيد الربوبية هو: أن توحد الله بفعله، وفعل الله: الخلق، الرزق، الإحياء، الإماتة، إنزال الغيث، فتوحده بفعله، فلا تعتقد أن هناك خالقاً غير الله، ولا رازقاً غير الله، ولا محيياً غير الله، ولا مميتاً غير الله، هذه كلها من توحيد الربوبية، وهذا لا يكفي لوحده؛ لأن المشركين أقروا بهذا وما دخلوا في الدين، قال الله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] وكذلك اليهود يؤمنون بالله، والنصارى يؤمنون بالله، وبعض الناس الماديين الآن عندهم إيمان بوجود الله، لكن لا يكفي هذا إلا بالتوحيد الثاني والثالث.
التوحيد الثاني: توحيد الألوهية وهو: توحيد الله بفعلك أنت، وحدت الله بفعلك فاعتقدت أنه هو الخالق لوحده، وهو الرازق لوحده، وهو المحيي لوحده.(23/12)
توحيد الألوهية
القسم الثاني من أقسام التوحيد: أن توحده بفعلك، بصرف جميع أنواع العبادة له وحده، فلا تدعو إلا الله، ولا تستغيث إلا بالله، ولا تخاف إلا من الله، ولا ترجو إلا الله، ولا تستعين إلا بالله، ولا تخشى إلا الله، ولا تخضع إلا لله، ولا تذبح إلا لله، ولا تنذر إلا لله، ولا تتوكل إلا على الله، هذه أفعال العباد ويسمى توحيد الألوهية هو أن توحد الله بأفعالك أنت فلا تصرف منها شيئاً لغير الله تبارك وتعالى، ومن صرف منها شيئاً لغير الله فقد أشرك بالله ونسف التوحيد من أساسه.(23/13)
توحيد الأسماء والصفات
والتوحيد الثالث: توحيد الأسماء والصفات وهو: بأن تصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، تثبت لله جميع الأسماء والصفات التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، وتنفي عن الله كل صفات النقص التي نفاها الله عن نفسه ونفاها عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع الإثبات تثبت من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل، بل تؤمن بأنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وهذا مخرج عظيم من المتاهات التي ضل فيها أهل الكلام وأهل البدعة والخرافة الذين دخلوا ثم ما استطاعوا أن يخرجوا، بل خرجوا إلى النار والعياذ بالله.
فأما أنت قف على دليل وارض بما وسع رسول الله ووسع صحابة رسول الله ووسع سلف هذه الأمة، وأهل السنة والجماعة الذين وصفوا الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأثبتوا له صفات الكمال من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل، هذا هو التوحيد.(23/14)
الشرك بالله وأنواعه
ضد التوحيد الشرك.
والشرك هو: صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله، وهو ثلاث درجات: شرك أكبر، وشرك أصغر، وشرك خفي.(23/15)
الشرك الأكبر المخرج من الملة
أن تصرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله، فتدعو غير الله كمن يدعي الأنبياء، أو يدعي الأولياء، أو يدعي الصالحين، أو يدعي الجن، لا تدعي أحداً إلا الله {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] أو يخضع لغير الله، أو يطلب المدد من غير الله، أو يتوكل على غير الله، أو يستغيث بغير الله، أو يقسم بغير الله، كل هذه أنواع شركية لا يجوز أن تصرف إلا لله وحده، ومن صرف منها شيئاً لغير الله فقد أشرك بالله، والشرك لا يغفره الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72].(23/16)
الشرك الأصغر وهو الرياء
أن يقوم الإنسان بعمل مما لا يُعمل إلا لله يرجو به الناس، فهذا مراءٍ (ومن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) هكذا يقول الله عز وجل.(23/17)
الشرك الخفي
وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عنه قال: (هو قول الرجل: ما لي إلا الله وأنت) أو: أنا متكل على الله وعليك، وبعضهم لا يقول ما لي إلا الله بل يقول: ما لي إلا أنت، أنا متكل عليك، أنا معتمد عليك، لا.
هذا شرك لا يجوز، وكفارة هذا أن تقول أولاً: ما لي إلا الله ثم أنت، أنا متكل على الله ثم عليك، ثم تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم نستغفر الله عز وجل لما لا نعلم، ونعوذ بالله أن نشرك به ونحن نعلم.(23/18)
أركان الإسلام
أما أركان الإسلام وهي المرتبة الأولى من مراتب الدين فهي خمسة: الأول: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بالمعاني والشروط التي ذكرناها: الثاني: إقامة الصلاة، ومعنى إقامة الصلاة؟ أداءها الأداء الشرعي في جماعة المسلمين، في كمال الطهارة والخضوع والخشوع وحضور القلب.
الثالث: إيتاء الزكاة المفروضة في الأموال المعلومة وبالأنصبة المعروفة والمحددة.
الرابع: صوم رمضان بجميع متطلباته وآدابه.
الخامس: حج بيت الله الحرام بعد توفر دواعيه ومتطلباته.
هذه هي أركان الإسلام الخمسة.(23/19)
الصلاة عمود الدين وأهم ركن من أركان الإسلام
أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين على الإطلاق: الصلاة؛ لأنها عمود الدين، والفارق ما بين المسلم والكافر، والحديث في صحيح مسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)، وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود عن بريدة بن الحصيب قال صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) الصلاة لها شروط تسعة لا بد من توفرها قبل أن تأتي المسجد وقبل أن تدخل، وهي مثل شروط القبول في الوظيفة.
فلو يعلن عن وظائف في الديوان وتعلق الشروط، والذي يريد أن يدخل المسابقة ويقدم الطلب يذهب ويقول: ما شروط الوظيفة؟ قالوا: شروط الوظيفة: أن يكون سعودي الجنسية، ألا يقل سنه عن ثمان عشرة سنة، أن يكون حسن السيرة والسلوك، أن يحمل مؤهلاً جامعياً -مثلاً- أو ثانوية عامة مع خبرة كذا وكذا، هذه شروط اسمها شغل الوظيفة، إذا توفرت فيك الشروط قبل طلبك وتدخل الصالة على الامتحان فأنت وحظك، لكن إذا نقص شرط من هذه الشروط فمن عند الباب يقولون لك: ما توفرت فيك الشروط.
وكذلك الصلاة يجب فيها تسعة شروط قبل الدخول إلى المسجد، إذا نقص شرط واحد لا تدخل، وفر التسعة وادخل، وقدم أوراقك ولعل الله أن يقبلك، ما هذه الشروط التسعة؟(23/20)
شروط الصلاة
أولاً: الإسلام: فلا يقبل الله الصلاة من كافر، لو أتى شخص يصلي وهو غير مسلم، ما شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فلا تقبل صلاته.
ثانياً: العقل، فلا تقبل صلاة المجنون؛ لأن العقل مناط التكليف.
ثالثاً: التمييز.
رابعاً: رفع الحدث، والحدث حدثان: حدث أكبر، وحدث أصغر: فالحدث الأكبر سببه الجنابة أو الحيض أو النفاس، والجنابة تقع إما بإخراج المني أو بالتقاء الختانين، أو بجهد المرأة، وهذه يرفعها الغسل.
والحدث الثاني: حدث أصغر وهو: نقض الوضوء بأحد نواقض الوضوء التي سوف تأتي إن شاء الله ورفعه بالوضوء، فلا بد أن ترفع الحدث، لو أتيت تصلي والحدث عليك فلا تقبل صلاتك.
خامساً: إزالة النجاسة.
أن تزيل النجاسة من ثوبك ومن بدنك ومن البقعة التي تصلي عليها.
سادساً: ستر العورة: أن تستر عورتك، وحدود عورة الرجل من السرة إلى الركبة، والمرأة كلها عورة إلا وجهها في الصلاة وكفيها ما لم يرها أجنبي.
سابعاً: دخول الوقت.
لا يصح أن تصلي قبل دخول الوقت، كأن تكون مستعجلاً وتريد أن تسافر، فتصلي قبل دخول الوقت بساعة أو ساعتين فهذا لا ينفع، لا بد أن تصلي بعد دخول الوقت.
الثامن: استقبال القبلة، فلو صلى الإنسان إلى غير قبلة لا تقبل صلاته، ما لم يكن جاهلاً فإنه يجتهد ويتحرى وحيث ما يولي -إن شاء الله، بعد الاجتهاد- فثم وجه الله عز وجل.
التاسع: النية.
والنية عمل قلبي لا يُتلفظ به كما يصنع بعض الناس، فالنية محلها القلب، تقف بين يدي الله وتنوي بقلبك والله يعلم ما في قلبك، لكن التلفظ بها كما نسمع بعض الناس يقول: نويت أن أصلي المغرب ثلاث ركعات مباركات اللهم تقبلها مني، هذه بدعة منكرة ليس عليها دليل من الله ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل ما ليس عليه دليل فهو رد على صاحبه.
هذه شروط الصلاة.(23/21)
أركان الصلاة
إذا توفرت فيك الشروط التسعة ودخلت المسجد وتريد أن تقدم الصلاة، فلا بد أن تعلم أن الصلاة تبنى على أربعة عشر ركناً، ولا بد من توفرها حتى تكون الصلاة صحيحة، وإذا نقص ركن واحد عمداً أو سهواً بطلت الصلاة.
الركن الأول: القيام: والله عز وجل جعله مع القدرة، بحيث إذا كنت غير قادر أن تصلي قائماً فصل جالساً، أو على جنب، فإن كنت غير قادر أن تصلي على جنب فصل مستلقياً، فإن كنت غير قادر أن تصلي على جنبك أو مستلقياً فصل بطرفك أو إيماء بطرفك، فإن كنت لا تستطيع أن تومئ بعينك ولا بطرفك أومئ بقلبك، ما دام قلبك موجوداً فلابد أن تصلي.
الركن الثاني: تكبيرة الإحرام: وهي التي في أول الصلاة، لو أتى شخص في الصلاة ووقف وقرأ الفاتحة، صلاته باطلة، فلا بد أن يستفتح بتكبيرة الإحرام.
الركن الثالث: قراءة الفاتحة -أم الكتاب- لحديث عبادة بن الصامت في الصحيحين: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).
الركن الرابع: الركوع، الذي يُسمى ركوع الهُوي، هذا ركن، لو أتى شخص وقرأ الفاتحة وركع بسرعة وسجد دون أن يركع فصلاته باطلة، لا بد من الركوع.
الركن الخامس: الرفع من الركوع: لا يكفي أن تركع ثم تختصرها هناك وتسجد، لا بد أن ترفع حتى تعتدل قائماً.
الركن السادس: الاعتدال، ليس فقط أن ترفع، بل ترفع وتعتدل؛ لأن بعض الناس قد يرفع ثم ينزل مباشرة، يجب أن ترفع ثم تعتدل قائماً.
الركن السابع: السجود على الأعضاء السبعة وهي: الجبهة والأنف وهما عضوان؛ في الوجه، واليدين والركبتين وبطون أصابع القدمين، هذه سبعة أعظم (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم) من رفع منها عضواً بطلت صلاته، لو سجد الشخص على جبهته ورفع أنفه -مثل بعض الناس ينطح الأرض بجبهته ويرفع أنفه- فصلاته باطلة، ولو سجد على أنفه ورفع جبهته فصلاته باطلة، ولو رفع أرجله من وراء فصلاته باطلة، لا بد أن تسجد على سبعة أعظم؛ لأنها ركن من أركان الصلاة.
الركن الثامن: الرفع من السجود.
الركن التاسع: الجلسة بين السجدتين، ترفع من السجود ثم تجلس بين السجدتين.
الركن العاشر: الطمأنينة في جميع الأركان.
يعني: تطمئن وتسكن ولا تسرع، مثلما يصنع بعض الناس في صلاتهم؛ لأن العجلة والارتباك هذه لا تجعل لك صلاة، وتطمئن في كل ركن بحيث يأخذ كل ركن حقه من الطمأنينة في جميع الأركان.
الركن الحادي عشر: التشهد الأخير الذي في آخر الصلاة.
الركن الثاني عشر: الجلوس للتشهد، فلو تشهدت وأنت واقف فليس لك صلاة وصلاتك باطلة.
الركن الثالث عشر: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، تتشهد ثم تقول: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد الصلاة الإبراهيمية.
الركن الرابع عشر: التسليمتان.
وهي آخر شيء، بحيث لو صليت وقبل أن تكمل قمت وما قلت: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، فالصلاة باطلة، فلا بد أن تختتم بالتسليم كما ابتدأت بالتكبير.
والركن إذا عدم بطلت الصلاة، عمداً كان أو سهواً.(23/22)
واجبات الصلاة
واجبات للصلاة هي أقل درجة من الأركان، ولا يعني هذا أنها ليست مهمة بل هي مهمة ولكنها في الحكم أقل من الركن، إذ أن من تركها عامداً بطلت صلاته، ومن تركها ساهياً جبرها بسجود السهو، وهي ثمانية: الأول: جميع التكبيرات غير تكبيرة الإحرام.
يعني: تكبيرة الركوع، تكبيرة السجود، تكبيرة الرفع من السجود، هذه كلها تكبيرات يسمونها تكبيرات الانتقال، هذه واجبات بحيث إذا لم يأت بها الشخص عمداً بطلت صلاته، أما إذا سها فيسجد للسهو.
الثاني: قول: سمع الله لمن حمده للإمام والمنفرد، الإمام يقول: سمع الله لمن حمده، والذي يصلي منفرداً يقول: سمع الله لمن حمده.
الثالث: قول: ربنا ولك الحمد، للإمام والمأموم والمنفرد، فالإمام يقول: سمع الله لمن حمده، ثم يقول هو في نفسه: ربنا ولك الحمد، والمأمومون يقولون بعده: ربنا ولك الحمد.
الرابع: قول: سبحان ربي العظيم في الركوع.
الخامس: قول: سبحان ربي الأعلى في السجود.
السادس: قول: رب اغفر لي وارحمني.
في الجلوس بين السجدتين.
السابع: التشهد الأول الذي بعد الركعتين الأولين في الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
الثامن: الجلوس للتشهد.
هذه هي واجبات الصلاة، وهي ثمانية واجبات والحمد لله معروفة، وأعتقد أن كلاً منكم إن شاء الله يمارسها، وسبب إيرادها هنا من أجل أنك إذا أردت أن تعلم شخصاً فلتعطه هذا الشريط؛ لأنك أقمت عليه الحجة بأن أعطيته الدين كله في شيء من الشمول والكمال والاختصار.
قلنا: إن من واجبات الصلاة: التشهد الأول، ومن أركان الصلاة: التشهد الثاني، ما هو التشهد؟ التشهد أو التحيات هو أن تقول: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فهذه اسمها التحيات أو التشهد.
تبقى الصلوات: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وهذه اسمها التحيات، وهي معروفة عند الجميع والحمد لله.(23/23)
سنن الصلاة
ذكرنا للصلاة أركاناً وواجبات وتوجد سنن مطلوبة ومستحبة ويطلب من المسلم أن يحافظ عليها؛ لأن الذي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه السنن كثيرة: منها: دعاء الاستفتاح: بعد أن تكبر تكبيرة الإحرام تقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، ما حكم هذا؟ سنة، إذا أتى به الإنسان أثيب عليه، وإذا لم يأت به فصلاته صحيحة، ولا يجبر بسجود السهو، ولكن ليس معنى أنه سنة أنك لا تأتي به، ولكن هذا في معرض بيان الحكم الشرعي نحوه، أما الإتيان به فهو مطلوب، لأن النبي صلوات الله وسلامه عليه ما أمر به ولا سنه إلا لأهميته.
ومنها: جعل كف يدك اليمنى على اليسرى فوق صدرك.
هكذا لا على نحرك، ولا تحت سرتك، ولا على قلبك كما يفعل بعض الناس، ولا تفلتها وإنما على الصدر، هذا هو الثابت الصحيح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: رفع اليدين مضمومة الأصابع حذو المنكبين عند التكبير.
ومنها: جعل رأسك حيال ظهرك في الركوع، لا تنكسه ولا تشخصه، وإنما يكون بمحاذاة الظهر؛ لأن الرأس ممتد كامتداد الظهر.
ومنها: مجافاة العضدين عن الجنبين، والفخذين عن البطن أثناء السجود، لا يربض ويضم نفسه، ولا يمتد ويمطط نفسه حتى كأنه يريد أن يسقط، وإنما يجافي باعتدال وبدون غلو أو تقصير؛ لأن الدين وسط، يجافي بين عضديه عن جنبيه وفخذيه عن بطنه.
ومنها: جلوسه على رجله اليسرى ونصب اليمنى.
يفترش اليسرى في الجلوس وينصب اليمنى في التشهد الأول وفي الجلوس بين السجدتين، والتورك في التشهد الأخير من الصلاة الثلاثية أو الرباعية، ينصب اليمنى ويدخل اليسرى من تحتها ثم يميل على وركه الأيسر.
ومنها: التبريك على إبراهيم، (وبارك على إبراهيم) هذه أيضاً من السنن.
ومنها: الجهر بالقراءة في الركعتين الأوليين من صلاة المغرب والعشاء والفجر، والإسرار في القراءة في الركعتين الأخريين من العشاء والركعة الثالثة من المغرب، وجميع ركعات الظهر والعصر.
ومنها: قراءة ما زاد عن الفاتحة من القرآن، هذه من السنن.
يعني: الركعة الأولى تقرأ فيها الفاتحة ومعها سورة من القرآن، الركعة الثانية الفاتحة وسورة من القرآن، وفي الركعتين الأخيرتين يقرأ الفاتحة فقط، قراءة ما زاد عن الفاتحة يسمى سنة من سنن الصلاة.(23/24)
مبطلات الصلاة
هناك أشياء تبطل الصلاة، من وقع في شيء منها بطلت صلاته، ما هي هذه الأشياء؟ كثيرة: أولاً: الكلام عمداً: ولو بأقل عبارة، ولو بكلمة مكونة من حرفين، وإذا كنت تصلي -مثلاً- وشخص يدق الباب ويقول: فلان موجود؟ قلت أنت: لا.
الله يخلف عليك في صلاتك، هذا إذا كنت متعمداً، أما إذا نسيت فالنسيان معفوٌ عنه: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهت عليه، ما لم تعمل أو تحدث به نفسها) فالنسيان معفو عنه: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] قال الله: قد فعلت.
أما عمداً ولو بكلمة من حرفين تبطل الصلاة.
لكن لو قلت: نعم، مثلاً إمام يصلي فأخطأ وأنت وراءه ثم عرف وقلت: نعم.
لكي ترد عليه، وأنت ناسٍ لا شيء عليك وتستغفر الله، رغم أن الكلام حلال لكنه في الصلاة حرام.
ثانياً: الضحك كثيره وقليله، حتى التبسم في أصح قولي العلماء.
وهناك خلاف بين أهل العلم: هل التبسم يفسد الصلاة أو القهقهة، ولكن الصحيح أنه مطلق الضحك؛ لأن هذا يعتبر ضحكاً، والتبسم يدخل فيه فلو أن شخصاً يضحك أمامك أو يتكلم أو ينكت عليك وأنت تصلي وابتسمت فيجب عليك أن تعيد الصلاة.
ثالثاً: الأكل والشرب ولو شيئاً يسيراً.
رابعاً: انكشاف العورة: إذا سقط ثوبك وانكشفت عورتك بطلت صلاتك.
خامساً: الانحراف عن جهة القبلة: ليس الالتفات؛ لأن الالتفات اليسير يسمى اختلاساً، وهو سرقة من الشيطان، لكن إذا حولت نفسك وانحرفت عن القبلة بطلت الصلاة.
سادساً: العبث الكثير في الصلاة: كأن يحك ظهره، وينظف أنفه، ويصلح غترته، وبعض الناس إذا صليت بجانبه يصيبك من الألم ما لا يعلمه إلا الله، لا تخشع بجانبه؛ لأنه في حركة دائبة وقلة أدب مع الله عز وجل -والعياذ بالله-، وهذا يفسد الصلاة.
سابعاً: وهو المفسد الأخير والعام: انتقاض الطهارة، بأي شيء من نواقض الوضوء.(23/25)
الطهارة
ما هي الطهارة؟ الطهارة هي مفتاح الصلاة، الطهارة هي أساس العبادة، والوضوء هو الذي يرفع به الحدث الأصغر.(23/26)
شروط الوضوء
الوضوء له عشرة شروط: الأول: الإسلام، إذ أن من يتوضأ وهو غير مسلم فليس له وضوء.
الثاني: العقل.
الثالث: التمييز.
الرابع: النية.
الخامس: استصحاب حكم النية معه في أثناء العبادة بألا ينوي قطعها حتى تتم الطهارة.
السادس: انقطاع الموجب للوضوء وهو الحدث، مثلاً قام شخص وتوضأ ولم يكمل البول ومازال يقطر وذهب يتوضأ فلا يصح، لا بد أن ينقطع هذا الموجب، بالاستجمار، أو الاستنجاء، ولابد أن يكون الماء طاهراً، وألا يكون مغصوباً ومسروقاً، ويجب إزالة ما يمنع وصوله إلى البشرة، فلو توضأت وقد أصابت يدك الرنج فوضوءك هذا لا يصح، وكذلك المرأة إذا توضأت وعلى أظافرها الطلاء الأحمر الذي يسمونه (مناكير) وهو مأخوذ من المنكر، تبدو وكأنها قطة كانت تنهش لحماً، وتضع في فمها حمرة، ما هذا؟ تشويه، هذه المناكير طبقة عازلة لا ينبغي للمرأة أن تضعها، وإذا وضعتها لزمها أن تزيلها قبل أن تتوضأ، وإذا توضأت ولم تزله فوضوءها غير صحيح؛ لأنها أبقت شيئاً من جسدها من غير غسل.
أما الحناء فهو غير عازل، فالحناء لا يشكل طبقة عازلة، وإنما هو لون يدخل في طبيعة الجسد ولا يشكل طبقة، بحيث لو أتيت تزيله لا يزول، لكن هذا المنكر والمناكير يمكن أن تزال من فوق الأظافر.
سابعاً: دخول الوقت: على من حدثه دائم لفرضه، يعني: شخص عنده سلس في البول ولا يستطيع أن يمسك الطهارة ويحتفظ بها، ودائماً ينقط ذكره، هذا يشترط فيه: أنه لا يتوضأ للصلاة إلا بعد دخول وقتها، فإذا دخل وقتها توضأ؛ لأن فيه حدث دائم باستمرار، فلو ذهب يصلي ونزل منه فصلاته صحيحة؛ لأنه معذور في هذا الأمر.
هذه هي شروط الوضوء.(23/27)
أركان الوضوء
أما فروض الوضوء وأركانه وأساساته، فهي ستة: الأول: غسل الوجه، ويدخل فيه المضمضة والاستنشاق؛ لأنها من الوجه.
الثاني: غسل اليدين إلى المرفقين.
الثالث: مسح جميع الرأس مرة واحدة مقبلاً ومدبراً، ومنه الأذنان؛ لأنها ضمن الرأس.
الرابع: غسل الرجلين إلى الكعبين.
الخامس: الترتيب.
فلو بدأ بالرجلين لا يصح، ولو بدأ بيديه ثم غسل وجهه -أيضاً- لابد أن يبدأ بالوجه ثم اليدين إلى المرفقين، ثم مسح جميع الرأس ثم الرجلين.
السادس: الموالاة.
أن تغسل العضو تلو العضو قبل أن يجف الأول، لكن لو أن شخصاً غسل وجهه وذهب يشرب فنجان شاي وجاء ثم غسل يديه ثم ذهب يأخذ عليها كسرة خبز، وجاء بعد ذلك ومسح رأسه نقول: وضوءه باطل، لماذا؟ لأنه لم يوالِ بينهما، لا بد من الموالاة.
هذه فروض الوضوء، وليس منها الاستنجاء، بعض الناس إذا أراد أن يتوضأ، فلابد أن يستنجي، والاستنجاء إنما هو لغسل الخارج من السبيلين، فإذا أردت أن تصلي وليس لك حاجة إلى الخلاء فتتوضأ مباشرة، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] قال: حسناً انتقض وضوئي بالريح فأنا يجب أن أستنجي.
الريح لا يغسل؛ لأنه هواء، فإذا غسلت الموطن فاغسل السروال واغسل الثوب الذي وراءه؛ لأنه قد بخ فيه، واغسل البطانية، بل رش السقف كله.(23/28)
نواقض الوضوء
ينتقض الوضوء ويبطل بسبعة نواقض: الأول: الخارج من السبيلين.
الثاني: الخارج الفاحش -يعني: الكثير- النجس من الجسد، مثل الدم ومثل القيح والصديد.
الثالث: زوال العقل بنوم أو بجنون، أو نوع من زوال العقل، ما دام زال العقل ينتقض الوضوء، لماذا؟ لأنك لا تدري انتقض وضوءك أم لا، وفي الحديث: (العين وكاء السه) يعني: وكاء الدبر، إذا نامت العين انفتح الوكاء، فما تعلم إذا نمت هل خرج شيء أو لم يخرج، فإذا نمت فلابد أن تتوضأ.
الرابع: مس الفرج باليد قبلاً كان أو دبراً للإنسان أو لغيره من غير حائل، أما بالحائل إذا مس الإنسان دبره أو قبله بالحائل من فوق الثوب فلا شيء عليه، أما إذا كان بغير حائل فيفسد الوضوء.
الخامس: تغسيل الميت.
إذا غسلت ميتاً انتقض وضوءك.
السادس: أكل لحم الجزور.
إذا أكلت لحم الجزور -يعني: الإبل- انتقض وضوءك، والحكمة هنا محض التعبد لا كما نسمع من بعض العوام قصة مكذوبة على رسول الله لا أساس لها ولا تليق بالنبوة ولا تليق بالإسلام والدين، وهي أن شخصاً كان جالساً وأنه انتقض وضوءه بخروج ريح منه وكانوا يأكلون فقال: قوموا كلكم وتوضئوا إلا من أكل من لحم الجزور، هل يعقل أن يشرع الله ديناً إلى يوم القيامة من أجل نجاسة خرجت من شخص؟! لكن الحكمة هنا تعبدية، لماذا؟ لا نعلم {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
السابع: الردة عن الإسلام -أعاذنا الله وإياكم من ذلك- إذا ارتد الإنسان عن دين الله انتقض وضوءه، وإذا رجع يلزمه أن يغتسل وأن يتوضأ.
وكذلك الولد الصغير إذا وضأته أمه ومست عورته بيدها انتقض وضوءها، أما إذا مسحته بمنديل، أو بالحفاظة، أو بشيء لم تمس يدها العورة فإن وضوءها لا ينتقض.
هذه هي مجمل الأحكام المتعلقة بالصلاة والوضوء والطهارة.(23/29)
أهمية التحلي بالآداب الإسلامية والأخلاق الحسنة
هناك أيضاً -أيها الإخوة- أشياء مكملات للعبادات وهي: الأخلاق والآداب التي يطلب من المسلم أن يتحلى بها.
فالمسلم مأمور بأن يكون على خلق، والرسول صلى الله عليه وسلم كان ذا خلق عظيم حتى استحق الشهادة الإلهية بأن يقول الله له: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وكان من ضمن مهمات بعثته صلى الله عليه وسلم تتميم مكارم الأخلاق، والحديث في صحيح البخاري، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ومكارم الأخلاق هي المعنى الحقيقي للبر، والحديث في صحيح البخاري -أيضاً- يقول عليه الصلاة والسلام: (البر حسن الخلق) البر الحقيقي هو: حسن الخلق.
وأيضاً حسن الخلق ينزل الإنسان منازل رفيعة في الآخرة، يقول عليه الصلاة والسلام -والحديث في صحيح البخاري -: (إن أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً) فكلما كنت ذا خلق حسن كنت ذا رفعة في الدنيا وذا رفعة في الآخرة.
ما هي الأخلاق؟ هي هيئات راسخة في النفس، وملكات ثابتة تكتسب بالتربية، إما التربية الحسنة فتكون أخلاقاً حسنة، أو التربية السيئة فتكون -والعياذ بالله- أخلاقاً سيئة.
وما تعريفها؟ يقول الإمام الشافعي رحمه الله:
أحب مكارم الأخلاق جهدي وأكره أن أعيب وأن أعابا
وأصفح عن سباب الناس حلماً وشر الناس من يهوى السبابا
ومن هاب الرجال تهيبوه ومن حقر الرجال فلن يهابا(23/30)
تعريف حسن الخلق
ذكر العلماء تعريفات حسن الخلق، ولكن يوجد تعريف شامل وكامل يقول فيه: حسن الخلق هو: بسط الوجه لا تستطيع أن تسع الناس بمالك لكن تستطيع أن تسعهم بوجهك، كل من لقيته نقول له: أهلاً وسهلاً، حياك الله -يا أخي- الله يبارك فيك، بعض الناس ترحيبه في البيت يعشيك ويغديك، لا تريد إلا كلامه، تعجز أن ترد عليه وهو يقول: الله يحييك، (يا مرحباً ألف) آنستنا يا أخي، هذه أسعد اللحظات وأبرك الأوقات التي مررت فيها، الله يبارك فيك، والله يا أخي فيقول ذاك: ما ضايقتك؟ فيقول: لا.
ما ضايقتني يا أخي! بل آنستني، فتكون كأنك غديته خروفاً.
بعض الناس يقول لك: أهلاً وسهلاً، تفضل، ادخل، وأدخلك وقدم لك خروفاً، لكن يقول: تفضل كُل، كأنه يريد أن يضاربك، تقول الله أكبر عليك أنت وعشاءك وغداءك، فبسط الوجه هذا مطلب يدل على حسن الخلق ولا يكلفك مالاً، ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: (لا يحقرن أحدكم من المعروف شيئاً ولو أن يلقى أخاه بوجه طلق) لا تحقر شيئاً، ويقول: (تبسمك في وجه أخيك صدقة) إذا قلت: السلام عليكم، الله يمسيك بالخير، كأنك تتصدق بمال، رغم أنك لم تعمل شيئاً.
هو بسط الوجه، وبذل الندى -يعني: المعروف- وكف الأذى.
والأذى باللسان أو باليد أو بالعين أو بأي أذى، لا تؤذ مسلماً؛ لأن من آذى مسلماً فقد آذى الله، ومن آذى الله تبارك وتعالى فقد تولى الله حربه، يقول الله: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) أعلن الله عليه الحرب، لا تؤذي أولياء الله، لا تؤذهم في أعراضهم، ولا تؤذهم في أموالهم، ولا تؤذهم في زوجاتهم وأولادهم، ولا تؤذهم في ممتلكاتهم، ولا تؤذهم أبداً، لا تؤذي أحداً من عباد الله فإن الله هو الذي سيحاربك ومن حاربه الله قصمه وأذله: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21] الله لا يغلبه أحد، ومن حاربه الله فهو مغلوب -والعياذ بالله-.
وقيل في تعريف الخلق: أن يكون صاحب الخلق الجميل كثير الحياء كان صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها، كان وجهه أحمر من الحياء صلوات الله وسلامه عليه (والحياء شعبة من شعب الإيمان) (والحياء والإيمان قرينان) والذي ليس عنده حياء ويتكلم بالكلام البذيء، ويذهب في الأماكن القذرة، هذا ليس عنده إيمان -والعياذ بالله- إذا نزع الحياء نزع الإيمان (الحياء شعبة من الإيمان).
أن يكون صاحب الخلق الجميل كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، قليل الفضول، براً بوالديه، وصولاً لرحمه، وقوراً في كلامه وفي هيئته، حليماً لا يغضب، وفياً لا يخون، عفيفاً لا يطمع، لا لعاناً ولا سباباً، ولا نماماً ولا مغتاباً، لا عجولاً ولا بخيلاً.
من تتوفر فيه هذه يا إخواني؟ -نسأل الله وإياكم من فضله- كان صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسن الأخلاق إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت)(23/31)
آداب إسلامية
أما الآداب الإسلامية التي شرعها لنا الدين فهي كثيرة، منها: أولاً: السلام.
فهو أدب إسلامي رفيع يقول عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على عمل إذا عملتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) اللهم صلِّ وسلم على رسول الله.
والأكل باليمين والشرب باليمين، ومراعاة آداب الإسلام عند دخول الخلاء وعند الخروج منه، وعند الدخول في البيت وعند الخروج منه، وعند السفر مع الناس أو الوالدين وعند السفر مع الكبار والصغار، وغير ذلك من آداب الإسلام، هذه أخلاق وآداب.(23/32)
السبع الموبقات
إن مما ينبغي للمسلم اجتناب المعاصي والذنوب، فمنها موبقات، ومنها كبائر، ومنعها صغائر، فأما الموبقات ففي الحديث: (اجتنبوا السبع الموبقات) أي: المهلكات وهي: أولاً: الشرك بالله: ثانياً: السحر: ومنه الصرف والعطف، وهو ناقض من نواقض الإسلام ومن عمله كفر.
الصرف: أن تصرف رجلاً عن امرأة أو عن رجل.
والعطف: أن تعطف رجلاً على رجل، أو امرأة على رجل، أو رجلاً على امرأة، وهو ما يصنعه السحرة، تذهب امرأة عند ساحر تقول: أريد أن تفرق بين فلان وفلانة، فيعمل لها سحراً، هذا إذا عملته وذهبت فهي كافرة -والعياذ بالله- وهي من الموبقات؛ لأن الله يقول عن هاروت وماروت: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102] الذي يريد أن يحفظه الله من شر السحر عليه بالأذكار في الصباح والمساء، فيقرأ آية الكرسي، والمعوذتين، والإخلاص، وسورة الفاتحة، فإذا قرأها فإنه لا يضره سحر بإذن الله، وإذا استطاع أن يأكل في كل صباح سبع تمرات من عجوة المدينة أو من أي عجوة فإنه لا يسحر ولا يضره سحر، وقد قرأت في بعض كتب أهل العلم: أن ساحراً أرسل جنياً من أجل أن يؤذي شخصاً بفعل سحر، فكلما جاء الجني رجع وقال: عليه حرس ولا أستطيع أن أؤذيه فقال الساحر: أنت لا تصلح، فأرسل أربعة من مردة الجن من الكبار، قال: اذهبوا، فجاء المردة وأرادوا الدخول عنوة وهو متسلح بالذكر فأحرقهم الله، لا يقدرون عليك أبداً، لكن متى يقدرون عليك؟ إذا تركت سلاحك، إذا لم تذكر الله في الصباح ولا ذكرت الله في المساء.
الثالث: قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.
لأن الدم ثقيل (ولا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) والله يقول: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32] {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93]-والعياذ بالله-.
الرابع: أكل الربا: وهذه معضلة وموبقة ومهلكة يقع فيها كثير من الناس ولا يدرون، نعوذ بالله وإياكم من ذلك.
الخامس: أكل مال اليتيم: وأكل مال الغير كله حرام، لكن مال اليتيم أشد تحريماً، لماذا؟ لأن النفس تطمع في مال اليتيم، فلا أحد يستطيع أن يأكل مال الرجل الفحل، كل يدافع عن حقه، لكن إذا كان هناك يتيم أو امرأة ضعيفة قام بعض الناس بأخذ مالها؛ لأنها يتيمة، فمن أكله فقد قال الله عنه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10].
السادس: التولي يوم الزحف.
يعني: الهروب من صف القتال، قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16].
السابع: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات.
يقذف المؤمنة الغافلة المحصنة ويرميها بالزنا أو بالفاحشة، فهذا من الموبقات -والعياذ بالله-.(23/33)
مسائل تتعلق بالميت
الدرس الأخير: وهو يتعلق بالميت وتجهيزه، والصلاة عليه وتكفينه ودفنه.(23/34)
الموت نهاية كل إنسان
قال الناظم:
الموت باب وكل الناس داخله يا ليت شعري بعد الباب ما الدارُ
قال الناظم الثاني:
الدار جنة عدنٍ إن عملت بما يرضي الإله وإن خالفت فالنارُ
هما محلان ما للمرء غيرهما فاختر لنفسك أي الدار تختارُ
الموت -أيها الإخوة- أول منازل الآخرة، وأول مراحل الانتقال إلى الدار الآخرة، إما إلى الجنة وإما إلى النار، ولا بد أن يكثر الإنسان من ذكره، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) وأيضاً يتذكره الإنسان بزيارة القبور من غير شد الرحال، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إني كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم بالآخرة).
يقول:
ما للمقابر لا تجيب إذا رآهن الكئيب
حفرٌ مسقفة عليهن الجنادل والكثيب
فيهن أطفال وولدان وشبان وشيب
كم من حبيب لم تكن عيني بفرقته تطيب
غادرته في بعضهن مجندلاً وهو الحبيب
تترك حبيبك وراءك في القبر وتمشي وعينك تدمع، وسوف يأتي يوم يتركك أحبابك ويدخلونك ويدسونك في هذا المكان، في بيت الوحشة، بيت الظلمة، بيت الدود، ما معك فراش، ولا معك مخدة، ولا بطانية، ولا أنس، ولا سعة، وإنما ضيق، ومقاسات محددة، يقول مالك التميمي وهو يوصي حينما كان غازياً في جيش إبَّان بن عثمان بن عفان، ونزل ثم ارتحلوا فجاء وركب وأدخل رجله في نعله، وكانت قد دخلت في نعله حية، فلسعته في رأس إصبعه وقضت عليه، فكان يوصي وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، يقول:
خذاني فجراني ببردي إليكما فقد كنت قبل اليوم صعباً قياديا
ولا تنسيا بارك الله فيكما من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا
وأشقر صنديدٍ يجر عنانه لم يترك له الدهر ساقيا
يقول: لا أحد يسقيه، وهو يرثي نفسه، وهذا ميراث عظيم أعده العلماء من عيون الشعر الذي يرثي فيها الإنسان نفسه.
فالموت أمر مهول ومفزع وأمر فضيع جداً، ولذا ينبغي أن تذكره وألا تنساه، تذكره وأنت على الفراش، وتذكره وأنت على المعاش، وتذكره وأنت تسير، حتى تستعد لما بعد الموت؛ لأن نسيان الموت يؤدي إلى نسيان الاستعداد لما بعد الموت، ومن ضمن الاستعداد للموت: أن تعرف كيف تغسل الميت؛ لأن المصيبة الآن إذا مات ميت في بعض القرى لا يعرفون كيف يغسلونه، يذهبون إلى قرية أخرى لكي يغسلوه، بل بعض المدن يقولون: ابحثوا لنا عمن يغسله، والمفروض أن يعرف كل إنسان كيف يغسل الميت، وأن يعلم أهله، حتى يستطيعون تغسيله إذا مات، وإذا مات أحد من أهله يعرف كيف يغسله، وكيف يجهزه، وكيف يكفننه، وكيف يحنطنه، وكيف يصلون عليه، ومعظم الناس غافل عن هذا كله وليس في باله، فإذا أتى الموت بدءوا يتذكرون ويبحثون عن كفن فلا يجدون، ويبحثون عن حنوط فلا يجدون، لماذا؟ لأنهم في غفلة، كل شيء مستعد له إلا الكفن، استعد -يا أخي- بكفنك في بيتك، اجعله ضمن ملابسك، دولاب الملابس اجعل في أسفله كفن الموت، اللباس الذي تخرج به من هذه الحياة، اجعل معك حنوطاً، وعلم أهلك كيف يغسلونك إذا مت حتى تكون مستعداً لذلك.(23/35)
آداب يجب مراعاتها عند موت الإنسان
أما الآداب التي تراعى إذا تيقن موت الإنسان، يعني: خرجت روحه، وأغمضت عيناه، وشدا لحييه؛ لأن الروح إذا خرجت تبعها البصر، ويهمل اللحى، لا توجد حياة ترفع لحيه وتضمه، وإذا كان ينزل إذا رفعته فلا مانع من أن تربطه ومن علامات الموت: انخفاس الصدغين، وميل الأنف؛ لأن الأنف فيها حياة، فإذا خرجت الروح أصبحت الأنف عوجاء، ومن العلامات: انفلات المفاصل، وبرودة الأطراف، والتفاف الساق {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30] الله أكبر! يا ويل من يقدم على الله ووجهه أسود!! {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:30] ما عذرك إذا أقبلت على الله وكان عملك سيئاً، هل ستقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] وهل تكون لك رجعة؟ من الآن اعمل الصالحات، ولا تترك العمل حتى تطلبه وتتمناه، إنما الذي يطلب العمل بعد الموت مثل طالب يهمل طوال السنة فإذا دخل قاعة الامتحان وأعطوه الأسئلة قال لرئيس اللجنة أو مدير اللجنة: أطلبكم ساعة لأطالع الأسئلة وأعود، فهل يطيعونه ويعطونه فرصة ليأتي بالأسئلة؟ لا.
يقولون: ما معك إلا الذي معك، وكذلك هذا الذي يقول: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] قال الله: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].(23/36)
كيفية غسل الميت
عند تغسيل الميت تخلع جميع ثيابه ويبقى عليه السروال القصير الذي يغطي العورة، ثم يرفع قليلاً من عند ظهره بحيث يجلس قليلاً وتعصر بطنه عصراً رفيقاً ليس بقوة، ليخرج منه ما كان قابلاً للخروج من الأذى؛ لأنه ليس عنده قدرة على التحكم في إمساك الأذى أو إخراجه، وإنما يعصر لكي يخرج ما بقي في بطنه، ثم يلف الغاسل على يده خرقة، ويغسل قبله ودبره من تحت السترة من غير أن يمسها، بطريقة مباشرة وإنما من تحت الخرقة، ومن غير أن يرى بعينه، يدخل يده من تحت السترة ويغسله، ثم بعد ذلك يوضئه وضوءه للصلاة، ويزيل الخرقة التي غسل بها دبره ويرميها، ويلبس خرقة ثانية، ثم يوضئه وضوءه للصلاة: يغسل يديه، ويمضمض فمه وأنفه لكن لا يدخل الماء إلى داخله؛ لأنه يمضمضه من خارج فمه وأنفه، ويغسل وجهه، ويغسل يديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه ومنه الأذنين، ويغسل قدميه، ثم يغسل بعد الوضوء رأسه ولحيته بماءٍ وسدر، السدر موجود في الأسواق ومعه كافور، والكافور يصلب الجسد، والسدر يرغي وينظف، وإذا لم يكن هناك سدر يُغسل بالصابون، -أي نوع من الصابون- ثم بعد أن يغسل الرأس تبدأ تغسل شقه الأيمن مما يظهر لك وهو مستلق على ظهره، ثم تقلبه هكذا وتغسل شقه كاملاً، من أعلى ومن أسفل، ثم شقه الأيسر، ثم تعيد الغسل مرة ثانية وثالثة.
وفي كل مرة يمر يده على بطنه فإن خرج منه شيءٌ غسله ثم يسد المحل بعد الثالثة بقطنة، فإن لم يستمسك فبأي شيء يمسكه؛ لأن بعضهم يكون عنده شيء يخرج باستمرار فيسده بأي شيء يمسك خروج هذا الشيء، بلزقة أو بأي شيء يمنعه، فإن لم تنظفه الثلاث الغسلات فزد إلى خمس -وتر- فإن لم تكف الخمس زد إلى سبع، ثم ينشف بمنشفة ويجعل الطيب في مغابنه ومواضع سجوده، الطيب المعروف وليس الكلونيا؛ لأن طيب الكلونيا فيها كلام للعلماء أنها نجسة، فتضع له طيب الورد، أو طيب الزعفران، أو طيب العود، أو العنبر، أو أي طيب متوفر عندك ليس فيه كحول، وإذا كان شاربه طويل فيقصر، أو أظافره طويلة تقلم، ويوضع ما أخذ منه معه في كفنه، ولا يسرح شعره، ولا يمشط، والمرأة يظفر شعرها ثلاثة قرون بدون تمشيط، قرن في الجنب الأيمن، وقرن في الجنب الأيسر، وقرن في المؤخرة، ثم يسدل عليها من ورائها -توضع الثلاث من وراء ظهرها- أما الرجل فيغسل رأسه ولا يظفر ولا يمشط، هذا هو الغسل، وهو مفهوم بإذن الله وليس فيه أي إشكال.(23/37)
كيفية تكفين الميت
يكفن الميت إذا كان رجلاً في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة ولا إزار، أطول من الرجل من عند رأسه بزيادة ذراعين، ومن عند رجله بزيادة ذراع، توضع اللفافة الأولى ثم توضع مثلها عليها، ثم توضع الثالثة، ويترك من عند رأسه بقدر ذراعين ومن عند رجله بقدر ذراع، ثم يرفع طرف اللفافة الأولى ويوضع على جنبه، ثم يرفع الطرف الثاني ويوضع على جنبه، ويصنع بالثانية كذلك، ثم اللفافة الثالثة كذلك من الطرفين، بعد ذلك يربط من عند رأسه ومن عند أرجله، ومن عند ركبتيه، ومن عند فخذيه، ومن وسطه، خمسة رباطات، ثلاثة بالوسط، وواحد عند الرأس وواحد عند القدم.
أما المرأة فتكفن بخمسة أثواب: اثنان منها لفايف مثل لفايف الرجل الثلاث، وقميص، وهو عبارة عن قطعة من القماش الطويل تعطف وتقص من الوسط، ويدخل رأسها المكان المقصوص فيكون القميص من أمامها وآخر القميص من وراء جسمها، والرابع إزار تؤزر به، والخامس: الخمار وهو مثل الغترة، قطعة مربعة نثلثها ونضعها على رأسها ثم نربطها من تحت لحيها.
قميص وإزار وخمار ولفافتان، كم صارت؟ خمسة.
أما الطفل إذا كان صبياً فإنه يكفن في ثلاثة أثواب، وإذا كانت بنتاً فتكفن في قميص ولفافتين فقط ليس عليها إزار ولا خمار، يعني: ثلاثة أثواب: قميص ولفافتين هذا هو التكفين.(23/38)
أولى الناس بغسل الميت
أولى الناس بالغسل الأب، ثم الجد، ثم الأقرب فالأقرب من العصبات، والأولى بغسل المرأة الوصية التي أوصتها، ثم أمها، ثم جدتها، ثم الأقرب فالأقرب من نسائها، وللزوج أن يغسل زوجته، وللزوجة أن تغسل زوجها.
وإذا كان الميت ذكراً في مجموع نساء وليس بينهن إلا زوجته غسلته زوجته، وإن لم يكن فيهن زوجته، كأن يموت رجل وليس عنده زوجة ولكن عنده أمه وأخواته وعماته وليس هناك رجل يغسله، لا يغسل، وإنما ييمم بدون غسل، ولا تغسله أمه ولا ابنته ولا أخته.(23/39)
كيفية الصلاة على الميت ودفنه
صفة الصلاة على الميت: أن يكبر الإنسان التكبيرة الأولى، ثم يقرأ الفاتحة، وإن قرأ معها سورة قصيرة أو آية أو آيتين فلا بأس لورود حديث في ذلك، ثم يكبر التكبيرة الثانية ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إلخ.
الصلاة الإبراهيمية، ثم يكبر التكبيرة الثالثة ويدعو بالدعاء المأثور للميت، ويقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، إنك تعلم منقلبنا ومثوانا، إنك على كل شيء قدير، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته فتوفه على الإيمان، اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالثلج والماء والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر، ومن عذاب النار، وافسح له قبره، ونور له فيه.
هذا الدعاء المأثور الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يكبر التكبيرة الرابعة ولا يقول بعدها شيئاً وإنما يسلم عن يمينه تسليمة واحدة، ويرفع يديه مع كل تكبيرة، وإذا كان الميت امرأة فإنه يقول: اللهم اغفر لها، وإذا كان الميت صغيراً فيقال: اللهم اجعله فرطاً وذخراً لوالديه وشفيعاً مجاباً، اللهم ثقل موازينهما، وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم.
السائل: أين يقف الإمام في الصلاة؟ الشيخ: يقف الإمام عند صدر الرجل وبطن المرأة.
السائل: كيف يُدخل الميت القبر؟ الشيخ: هناك كلام لأهل العلم حول إدخال الميت في القبر، قال بعضهم: يدخل من جهة القبلة ويكون الذي في القبر يستلمه ويستقبله ويوضعه، وقيل: يدخل من عند رجليه -من جهة القبر- وهو الصحيح الذي عليه الدليل، يبدأ برأسه من عند باب القبر ويدخل فيه حتى يوضع في مكانه، ثم إذا وضع في القبر يوضع وراء ظهره شيء يمنعه من الانقلاب على الظهر؛ لكي يبقى مستقبلاً القبلة، وتبسط يديه بجانب جسده، ثم تحل الأربطة التي عند رأسه والتي على جسده؛ لأنه بعد أيام ينتفخ وتحول الأربطة دون الانتفاخ، ولا يكشف عن وجهه؛ لأنه لا دليل عليه.
وعند إنزال الميت وإهالة التراب عليه يقال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] ثم يهيلون عليه التراب.
أسأل سبحانه وتعالى أن يختم بالصالحات أعمالنا، وأن يثبتنا وإياكم على الإيمان، وأن يخرجنا من هذه الدنيا وهو راض عنا، وأن يحشرنا في زمرة النبيين والمرسلين غير خزايا ولا مفتونين.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(23/40)
الأمانة بين الحفظ والضياع
لما خلق الله الخلق كلفهم بحمل أمانة الدين وألزمهم بها، ثم جعل العقاب والثواب مبنياً على الالتزام بهذه الأمانة أو تضييعها.
وهذه الأمانة تنقسم باعتبار الحقوق إلى ثلاثة أقسام: قسم يتعلق بحق الله، وقسم يتعلق بحق النفس، وقسم يتعلق بحقوق العباد.(24/1)
الأمانة في الكتاب والسنة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الأحبة في الله: الأمانة جوهر الدين، وحقيقة الإسلام، وعنوان المؤمن، وصفة الموحد، وضد الخيانة.
وتعريفها عند أهل العلم: حفظ ما يعهد به إليك، وتستأمن عليه، ويطلب منك حفظه ورعايته وحمايته هذه هي الأمانة.
والأصل فيها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أما من الكتاب فقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27] وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72].
ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، قوله في توجيه نبوي كريم: (أدِ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) بل جعلها النبي صلى الله عليه وسلم هي الإيمان، ونفى الإيمان عمن لا أمانة لديه فقال صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له).
فهذه الأمانة وهذا الخلق العظيم اتصف به وبأعلى قدر وبأعظم نسبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم له من الكماليات البشرية ما ليس عند غيره؛ كل صفة من صفات الكمال فعند الرسول صلى الله عليه وسلم أعلى نسبة منها، ولكن في الأمانة كان صلى الله عليه وسلم مبرزاً، حتى كان يلقب عند أهل مكة قبل البعثة والرسالة بالأمين، وكان الناس يستودعونه أماناتهم وأموالهم، حتى إنه صلى الله عليه وسلم من حرصه وحفظه للأمانة لما أمره الله تعالى بالهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة النبوية المباركة، كانت عنده أمانات لبعض أهل مكة، وخشي صلى الله عليه وسلم أن يسددها للناس بنفسه فتنكشف مسألة خروجه، فيحصل على أذى؛ لأن كفار قريشٍ دبروا مؤامرة خبيثة للقضاء على النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت المؤامرة في السر بعد مؤتمر عقدوه وحضره الشيطان، وأشار عليهم بأن يختاروا من كل فخذ من قبيلة قريش شاباً، ثم يُجمعوا بضرب النبي صلى الله عليه وسلم بالسيوف ضربة واحدة فيتفرق دمه بين القبائل، فلا تستطيع بنو هاشم أن تثأر له، فتقبل الدية.
ولما عزموا على تدبير وتنفيذ هذه المؤامرة كشفها الله، وأوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بتفاصيلها، وأمره بالهجرة، فهاجر صلى الله عليه وسلم، لكنه كلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه بالتأخر في مكة من أجل رد الأمانات إلى أهلها، وبين له الأمانات، الناس عندما علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج، كل واحد فيهم طلب حقه وأمانته، فـ علي موجود، قال: تعالوا وخذوا حقوقكم، وهذا من باب حرصه صلى الله عليه وسلم على أداء الأمانة.
وكذلك أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم من بعده، وكذلك التابعون وسلف هذه الأمة وخيارهم ممن سار على نهجهم إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يتميز الإنسان المؤمن عن غيره من الناس بحرصه على أداء الأمانة، فحفظها -أيها الإخوة- دليل الإيمان وعنوان السعادة، وضياعها دليل النفاق وعنوان الخسارة في الدنيا والآخرة.
نعم.
لا خيار لك في أن تكون أميناً أو ألا تكون أميناً، فمقتضى أن تكون مؤمناً أن تكون أميناً؛ لأن الإيمان والأمانة متلازمان، فلا يمكن أن يكون إيمان بدون أمانة، لماذا؟(24/2)
أهمية الأمانة وعظمتها
لأنه خلق المؤمن؛ حتى قال صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له).
للأمانة تعريف واصطلاح عند العلماء، تعريف عام، ويقصد بها: جميع ما استودعك الله عز وجل عليه، وائتمنك عليه وطلب منك حفظه من أمور دينك ودنياك، ومما يتعلق بما بينك وبين الله، وبينك وبين نفسك، وبينك وبين الناس، سواء كان الناس أقارب أو أباعد، كل هذا أمانة، وأنت مطالب بحفظها.
ولها تعريف خاص وهي: حفظ الودائع -مدلول خاص- أي شخص يضع لديك ودائع فلا بد أن تستأمن عليها ولا تخون، ومن هنا -أيها الإخوة- ندرك مدى عظمتها؛ إنها الدين كله.
فالأمانة هي الإسلام كله، ولهذا لما عرضها الله عز وجل على السماوات والأرض والجبال، أشفقن من حملها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً.
ظلوماً لنفسه إذا لم يحملها، جهولاً بعظمتها وأهميتها، ولذا تجد هذه الحقيقة في القرآن ماثلة في كثير من الناس؛ كثير من البشر يعيش عيشة البهائم، لا يتصور إلا أنه يأكل ويشرب وينام وينكح ويسهر ويسمع ويذهب ويأتي ولا همَّ له غير هذا، وما عرف أنه خلق في الدنيا للابتلاء والامتحان والقيام بهذه الأمانة أو غيرها، والله تعالى يقول: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [الكهف:7] فلماذا زينة لها؟ من أجل أن يأكلوا ويشربوا؟ لا.
{لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف:7] ويقول عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] ويقول عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ} [ص:27] ويقول جل ثناؤه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] وكثير من الناس مفاهيمه معكوسة ومقلوبة، لا همَّ له في ليله ونهاره إلا كيف يأكل؟ وكم يأكل؟ وماذا يأكل؟ وأين يذهب؟ وأين ينام؟ وماذا يصنع؟ وماذا يشاهد؟ وماذا يقرأ؟ فقط هذا مفهومه، لكن هل فكر أنه مسئول ومؤتمن على كل شيء في هذه الحياة؟ وسوف نتعرض بشيء من التفصيل لمدلولات الأمانة.(24/3)
أمانة العمر
الوقت والعمر جعله الله وعاءً لك لتملأه بالإيمان والعمل الصالح، أم بالنفاق والعمل السيئ؟ هذا أمانة؛ لأنه ساعات محدودة، وأنفاس معدودة، يوم يذهب ولا يعود.
أنت -أيها الإنسان- مجموعة أيام وشهور وسنين، كل يوم يمر لا يرجع عليك بنفسه، بل يرجع في يوم آخر، اليوم مثلاً (14/ 6) لن يعود هذا اليوم إلا يوم (14/ 7) بعد شهر، و (14/ 6) يعود ولكن عام (1419م) بعد سنة، لكن هذا اليوم انتهى وذهب وودعته بما عملت فيه، إن خيراً وجدته وإن شراً وجدته: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30].
مضى يومك الماضي شهيداً معدلا وأعقبه يوم عليك شهيد
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة فبادر بإحسان وأنت عنيد
ولا تبق فعل الصالحات إلى غدٍ فرب غدٍ يأتي وأنت فقيد
الوقت -أيها الإخوة- أمانة، ما من لحظة تمر عليك إلا وهي جزء منك، وهي شاهدة لك أو عليك، فلا تضع أنفاسك -يا أخي- في غير طاعة الله سبحانه وتعالى، فإنك مؤتمن وستُسأل، قال صلى الله عليه وسلم كما في السنن: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة) فتثبت أقدام الخلائق يوم القيامة، وتُسمّر في عرصات القيامة، ولا تزول ولا يتحرك أحد، أنت الآن تذهب من هنا أو من هنا، ولكن أين تذهب يوم القيامة؟ أين المفر؟ لا يوجد مفر، الناس كلهم وقوف وأقدامهم مثبتة في العرصات، حتى يجاب على هذه الأسئلة الأربعة، إما إجابة صحيحة فيتحرك إلى الجنة، وإما إجابة خاطئة فيتحرك إلى النار.(24/4)
أمانة المال وحفظها
(لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن علمه ماذا عمل به) فقل لي بربك يا من تخون الأمانة وتسرق وتغش وتكذب كيف تواجه ربك؟! وبم تجيب ربك إذا سألك من أين هذا المال؟ وأيضاً: فيم أنفقه؟ المشكلة في المال مشكلة مزدوجة؛ لأنه يوجد سؤال في الاكتساب وسؤال في الإنفاق؛ مسئول عن كل ريال يدخل جيبك، ومسئول عن كل ريال يخرج من جيبك، وإذا بها مشكلة.
الذي يشتري (دش) (بعشرة آلاف) أو (بخمسة عشر ألفاً) ويضعه فوق البيت، ويمد ذراعيه إلى السماء يستمطر ما في القنوات الفضائية من الشر، ثم يدش به على أهله، فالذي سماه (دش) الحقيقة صدق؛ لأنه دش، أنت الآن عندما تتكلم على واحد وتهلكه بالكلام، تقول: والله أعطيته (دش) أي: أهلكته بالكلام، كذلك أنت ركبَّت على بيتك (دش) فماذا يمطر على أهلك؟ وماذا ينزل عليك وعلى أولادك وزوجتك؟ هل ينزل الخير؟ لا والله.
بل يظل الرجل جالساً عند زوجته وبيده (الريموت كنترول) وينتقل من قناة إلى قناة، كلما أغلق شراً دخل في آخر، وكلما انتهى من فيلم دخل في فيلم، وكلما انتهت مسرحية دخل في مسرحية، وكلما انتهت أغنية بحث عن أغنية، ما هذا؟ الله خلقك لهذا؟ عندك إجابة على هذا؟! الآن أنت خجلان أمام قريبك أو أحد جيرانك، لا تريد أحداً يعلم أن عندك (دشاً) وبعضهم يغشيه داخل البيت ويضعه في السطح ويضع من هنا جداراً ومن هناك جداراً، ويقول: ليس عندي شيئاً، لكنه لا يعمل إلا في السماء، إذا وضعته في الغرفة لا يصلح، وهذا من العوائق التي لا يعصى الله به إلا مجاهرة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الصحيحين: (كل أمتي معافى -أي: تحت العافية- إلا المجاهرون) من المجاهر؟ الذي يفضح نفسه بهذه الفضيحة، وهذه موجودة فوق البيت؛ فضيحة ظاهرة.
أخي في الله: يا من وقعت في هذه المصيبة، أحضر من الآن جواباً وهيئ للسؤال رداً، واعلم بأن الله تعالى سائلك، يقول الله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24] ويقول عز وجل: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93].
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث كما في الصحيحين: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، الرجل راعٍ في أهل بيته) زوجتك وأولادك أنت الراعي والمسئول عنهم يوم القيامة، فإذا فسد الولد في المستقبل وأصبح خبيثاً شريراً كان عليك إثمه إلى يوم القيامة؛ لأنك أنت الذي أفسدته بيدك، وجلبت له هذه الوسيلة التي تفسده، وإذا فسدت المرأة كذلك، إذا فسدت البنت كذلك كلٌ مسئول عن رعيته.
الآن الراعي الذي يرعى الغنم لا يضيع الغنم بل يحفظها، ما رأيك براعٍ يدخل الذئب إلى غنمه؟ هذا راع أم مضيع للغنم؟ هذا مضيع للغنم، فكذلك أنت ما أتيت بذئبٍ واحد، بل وضعت على رأسك مائة ذئب، كل ذئب ينهش من زوجتك وأولادك وابنتك وعرضك، حتى تيبس عيونهم، وبعضهم لا ينام إلا وقد يبست عينه ولا يستطيع أن يغمضها، فإذا غمضت عينه اشتغل (الدش) من داخل عينه؛ تراه نائماً و (الدش) شغال؛ لأن الصور انطبعت في ذهنه وعينه.
فحياته كلها (دش)! وفي النوم واليقظة (دش)! ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به).(24/5)
الأمانة التي بين العبد وربه
عمرك أمانة، وهذا العمر هو الفترة الواقعة بين سن التكليف إلى ساعة النزع والموت ومفارقة الحياة، كلها أمانة عندك، وتقوم خلالها ويطلب منك فيها أن تؤدي الأمانة في ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول: فيما بينك وبين الله، فالله سبحانه وتعالى ائتمنك، وجعل عندك أمانة وطلب منك أن تحفظها، وقال: {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27] فيلزمك بناءً على أن الله عهد إليك بهذه الأمانة أن تؤديها وإلا أصبحت خائناً.
ما هي الأمانة التي بينك وبين الله؟ كثيرة ولكن سنخصص الضخمة الكبيرة المشهورة:(24/6)
أمانة العقيدة والتوحيد
الأمانة الأولى: أمانة العقيدة؛ لأن الله سبحانه وتعالى حينما خلق الناس فطرهم على العبادة، وجعلهم حنفاء، أي: مستقيمين، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي في صحيح البخاري: (إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) وفي الحديث الآخر في الصحيحين يقول: (كل مولود يولد على الفطرة -أي: الإسلام والتوحيد والعقيدة- فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) والله يقول في القرآن في هذا المعنى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30] الفطرة هي هذا الدين، فالله سبحانه وتعالى أقام الفطرة عليك، ثم أقام الحجة عليك بعد الفطرة بالعقل.
العقل: هو آلة يميز الإنسان به بين الخير والشر، والحق والباطل، والهدى والضلال، والنور والظلام، ولهذا هو مناط التكليف؛ إذا رفع العقل رفع التكليف: (رفع القلم عن ثلاثة: الصغير حتى يبلغ، والنائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق).
ثم أقام الحجة بعد الفطرة والعقل بالرسالات فبعث الرسل وأنزل عليهم الكتب لإقامة الحجة؛ لأن الحجة لا تقوم فقط بالفطرة أو بالعقل؛ لأن الفطرة أرضية، والعقل موجه، لكن ماذا يصنع الإنسان؟ كيف يعبد الله؟ هل يعبد الله بعقله؟ هل يعرف ما يحبه وما يبغضه الله بعقله؟ لا.
لا بد من الرسل، ولهذا يقول الله عز وجل: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء:165] فلقيام الحجة على الناس أرسل الله الرسل، ولهذا يقول سبحانه وتعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] أي: لا تقوم الحجة على الخلق إلا ببعثة الأنبياء وببلاغ الدين، ولذا يسأل الله سبحانه وتعالى، وتسأل الملائكة الناس يوم القيامة إذا دخلوا النار: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} [الملك:8 - 9] {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى} [الزمر:71] فقيام الحجة لا يكون إلا ببعثة الرسل.
بعث الله إليك الرسل، وبلغك الدين، وعرفت أنه مطلوب منك أن تكون موحداً، تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذه الكلمة اسمها: كلمة الإخلاص، وهي الركن الأول من أركان الدين، وهي أساس الإسلام، ومفتاح الدخول في الدين، والتي يودع الإنسان الدنيا بها إذا مات، ومفتاح الجنة، وأول واجب، هذه الكلمة هي: لا إله إلا الله، هي ميثاق وعهد بينك وبين الله، ولهذا أي شخص يدخل في الإسلام ماذا يطلب منه قبل كل شيء؟ يطلب منه أن يقول: لا إله إلا الله، ولو صلَّى قبل أن يقول: لا إله إلا الله فما حكم صلاته؟ غير صحيحة، ولو حج قبل أن يقول: لا إله إلا الله، فحجه مردود باطل، ولو أخرج الزكاة لا تقبل، ولو ذهب يجاهد في سبيل الله وقتل قبل أن يقول: لا إله إلا الله لا ينفع مهما عملت، أول شيء وقع العقد بينك وبين الله، وما هو هذا العقد: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
هذا هو الميثاق، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} [الرعد:19 - 20] هذا عهد الله {وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد:20] هذا العهد يوم أن دخلت في الدين قلت: لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله؛ فلا أدع ولا أخاف، ولا أذبح إلا لله، ولا أتوكل، ولا أخشى، ولا أنذر، ولا أستعين، ولا أصلي، ولا أزكي، ولا أي شيء من أنواع العبادة إلا لله، لماذا؟ لأني قلت: لا إله إلا الله.
وهذه الكلمة ليست سهلة؛ هذه الكلمة كان الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يعرفون مدلولها، ولهذا لا يقولونها إلا صادقين.
حتى أبو طالب عند الموت، كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يقول هذه الكلمة؛ لتكون حجة للرسول في أن يشفع له عند الله، لما قدمه من حماية للدين؛ هذا الرجل أبو طالب قدم حماية عظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كان يقول عليه الصلاة والسلام: (ما زلت في عز ومنعة حتى مات أبو طالب).
لما مات أبو طالب في (السنة العاشرة) للبعثة سمَّي هذا العام: عام الحزن؛ لأنه مات فيه أبو طالب وماتت فيه خديجة، وانكشف ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، واستطاع الكفار النيل من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن هناك أبو طالب، فلما جاءته وفاته أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكافئه على خدمته للدين، لكنه لا يستطيع أن يعمل شيئاً؛ لأنه مشرك -أي: ما وقع العقد والعهد مع الله- قال: (يا عم قل: لا إله إلا الله) الآن لا صلاة ولا صيام ولا أي شيء ستموت الآن: (قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)، فنظر إلى الجلساء وقرناء السوء؛ أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية وهم جلوس عنده، قالوا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ يعرفون أن معنى الكلمة هذه -لا إله إلا الله- رفض لملة عبد المطلب؛ ملة الشرك والآلهة المعبودة من غير الله، فالرجل قال: بل على ملة عبد المطلب ومات عليها! فقال صلى الله عليه وسلم: (والله لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك) ولما أراد أن يستغفر له منعه الله أن يستغفر له وقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].
فنهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لعمه؛ لأنه مات مشركاً، إذ لا تنفعه شفاعة الشافعين، وقد نفعته شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أن خفف عليه في العذاب؛ ووضع في ضحضاح من نار، والضحضاح: هو الماء الذي يغطي الكعبين، إذا دخلت في زرع أو طريق أو شيء وهو يغطي إلى كعب رجلك هذا يسمى ضحضاحاً أي: راكداً، وأبو طالب يعيش في ضحضاح من نار، تخيلوا شخصاً يعيش وكعبيه في النار! كيف يكون وضعه وهو أقل الناس عذاباً في النار؟ ويرى هو في نفسه أنه لا أحد أشد عذاباً في النار منه، وهو أخف أهل النار والعياذ بالله! فعقيدة التوحيد -يا أخي في الله- أمانة استأمنك الله عليها في ألا توحد إلا الله توحيداً بأقسامه الثلاثة: التوحيد الأول: توحيد الربوبية: وهو توحيد الله بأفعاله، وسميت الربوبية؛ لأنها أعمال الرب سبحانه وتعالى لا يشاركه فيها أحد، وهي: الخلق والرزق، والإحياء والإماتة، والإعطاء والمنع، والنفع والضر؛ هذه كلها لله، فلا بد أن توحده، وهذا لا يكفي، إذ لا بد من توحيد الألوهية؛ لأن التوحيد هذا وحَّده به المشركون، ويوحِّده به الآن كثير من الناس، ويظن بعض الناس أن هذا هو التوحيد، فبعض المشركين والقبوريين الآن الذين يدعون الأولياء ويذهبون إلى القبور وينذرون ويذبحون إذا قلت لهم: يا جماعة! هذا شرك لا يجوز، قالوا: لا.
نحن موحدون، نحن نعتقد أن الله هو المعطي، المحيي، المانع، الضار، قلنا: هذا توحيد الربوبية وقد أقر به حتى الكفار، قال الله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] فهم يعترفون أن الله هو الخالق لهم، لكن توحيد الألوهية هو الذي سقطوا فيه وقامت من أجله الخصومات بين الأمم والرسل، وشرعت من أجله ألوية الجهاد، والذي ميز الله به بين الحق والباطل.
التوحيد الثاني توحيد الألوهية: وهو توحيد الله بفعل العبد؛ أنت وحدت الله بفعل الرب وقلت: إنه الخالق، وهو الرازق والمحيي، هذا ليس لك فيه فضل أنت؛ لأنه فعل الله، اعترفت أم لم تعترف، ولكن يلزمك أن تعترف به، لكن المهم فعلك أنت، ما هو فعلك؟ العبادة، وحِّد الله بعبادتك أنت، فلا تدع، ولا تذبح، ولا تنذر، ولا تستعن، ولا تخش إلا الله، هذا معنى توحيد الألوهية: وهي صرف جميع أنواع العبادة لله وحده.
التوحيد الثالث توحيد الأسماء والصفات: وهو أن توحد الله بإثبات جميع الأسماء والصفات التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تأويل ولا تعطيل، وإنما نؤمن بأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فنثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه، يقول الله عز وجل: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] هذا إثبات للصفة، وننفي التأويل والتمثيل يقول تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فهو سميع لكن سمعاً يليق بجلاله، وهذه هي عقيدة الأمة الصافية وعقيدة السلف، أما الذين دخلوا في علم الكلام والتأويل والنفي والإثبات ضاعوا -والعياذ بالله- لكنك عندما تأخذها كما جاءت، وكما أقرَّها النبي صلى الله عليه وسلم وتلقاها سلف هذه الأمة تجدها أسهل من الماء، لماذا؟ لأنها عقيدة صافية؛ هذا التوحيد هو أمانة بينك وبين الله، فلا بد أن تكون موحداً، وأن تبرأ إلى الله مما يناقض التوحيد وهو الشرك.
والشرك أقسام: أكبر وأصغر وخفي؛ شرك الدعوة والطاعة والإرادة والمحبة، الشرك: صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله؛ مثل تصديق الكهنة، والذهاب إلى السحرة، والاعتقاد في(24/7)
أمانة الصلاة
الأمانة الثانية التي بينك وبين الله الصلاة: أمانة استأمنك الله عليها وأمرك أن تقوم بها وقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] ولا أحد يدري أنك صليت أو لم تصلِّ، بإمكانك أن تجلس في الشارع وتذهب وتقول: صليت، بإمكانك أن تخرج من البيت ولا تذهب إلى المسجد وترجع وتقول: صليت، فهذه أمانة؛ إن حفظتها حفظك الله، وإن ضيعتها ضيعك الله، وضيعت نفسك أنت.
ويسبقها -أيضاً- الاستعداد لها بالوضوء والطهارة، فهما أمانة، والغسل من الجنابة أمانة، من يعرف أنك جنب أو غير جنب؟ لا أحد في الدنيا يعرف أنك على جنابة إلا الله! ولذا فهي أمانة، والوضوء الآن، من يدري أنك متوضئ ودخلت تصلي وأنت على وضوء أو على غير وضوء؟ لا أحد يعلم إلا أنت، إذ بإمكانك أن تقول: أنا متوضئ والناس لا يدرون، من يستطيع أن يقول لك: لا.
أنت غير متوضئ؟ سوف تقول له: ما أدراك؟ أنا أدرى بنفسي؛ أمانة بينك وبين الله! ولهذا فهي خيانة عظيمة أن تأتي تصلي وأنت غير متوضئ، كما نسمع من بعض الطلاب في المدارس أنهم يصلون الظهر وهم على غير وضوء، لماذا؟ من أجل المدير والمدرسين، هؤلاء خانوا الله والرسول وخانوا أماناتهم، فصلاتهم هذه ليست لله، بل هي شرك؛ لأنهم صلوا لغير الله، صلوا للمدرس أو للمدير والعياذ بالله! الصلاة هي حبل بينك وبين الله، ولهذا سميت صلاة، أي: صلة، وعلى قدر تمسكك بهذا الحبل يحسب دينك وأمانتك، وإذا أردت أن تعرف منزلتك عند الله، فاسأل نفسك عن منزلة الصلاة في قلبك، إن كانت الصلاة لها موضع وحب وإشراقة وفرحة في قلبك، بحيث إذا جاءت الصلاة قمت فرحاً مثلما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، ويقول في ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل قلبه معلق بالمساجد) قلبه في المسجد متعلق، جسمه في (الدكان) وحين سمع الأذان مباشرة جاء يصلي، ويقول في حديث في صحيح مسلم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) رواه مسلم.
تنتظر الصلاة بعد الصلاة؛ تصلي المغرب وأنت تنتظر العشاء، وتصلي العشاء وأنت تنتظر الفجر، وتصلي الفجر وأنت تنتظر الظهر، وتصلي الظهر وأنت تنتظر العصر، رباط مع الله! هذا هو المؤمن، وهذا هو صاحب الأمانة، لكن ذلك المضيع المفلس الخاسر الذي لا خير فيه، فالصلاة آخر شيء في اهتماماته، إن أتت صلَّى، وإن ذهبت ترك.
هذا مضيع للأمانة التي بينه وبين الله، ولهذا من حفظ الصلاة حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، وآخر ما يفقد العبد من دينه الصلاة! آخر باب يخرج منه الإنسان الصلاة! وآخر موقع يخسره في الدين الصلاة! ولهذا جاء من حديث جابر في صحيح مسلم: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)، وفي سنن أبي داود ومسند أحمد حديث بريدة بن الحصيب: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) هذه هي الصلاة، ولن نزيد على هذا حتى لا يفوتنا الوقت.(24/8)
أمانة الزكاة
الأمانة الثالثة التي بينك وبين الله: الزكاة: الزكاة أمانة، ولا أحد يعلم أن لديك مال أم لا، بإمكانك أن تقول: ما عندي شيء عندنا زكاة أخرجناها أو ما عندنا أصلاً نصاب، ولكن الله استودعك واستأمنك على هذا المال، وجعل يدك هي العليا، وأعطاك (100%) وطلب منك (2.
5 %) سبحان الله! هذا فضل أم ليس بفضل؟!! لو أن شخصاً دعاك وقال: تعال.
أنا أعطيك مليون ريال، لكن أريد في كل سنة أن تخرج لي من هذا المليون خمسة وعشرين ألفاً، ماذا تقول له؟ تقول: جزاك الله خيراً، ولو تريد أن أخرج لك نصفه فسوف أخرجه، وهو صاحب الفضل، فسبحان الله! الله يعطيك هذا المليون ويطلب منك (2.
5 %) ولا تخرجها؟! وقد يقول شخص من الناس: هذا المال مالي.
كلا.
ليس مالك، من أين أتيت به حين جئت من بطن أمك؟ هل كان معك مال؟ كلا.
خُلِقت ضعيفاً والله أعطاك المال، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8] فما الذي غرك؟ {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94] المال مال الله، ليس لديك أنت شيء.
يوجد أناس مثلك وعشرة أمثالك، بل آلاف من الناس أقوى منك جسماً وليس عندهم مال، وأكبر منك عقلاً وليس عندهم مال، وأكثر منك تفكيراً وليس عندهم مال، والله أعطاك المال، لماذا؟ ابتلاء، وليس محبة؛ بعض الناس يعطيه الله المال ابتلاء، الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، ولهذا اعتبرها سليمان عليه السلام بلاء عندما قال: {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40].
فالمال لا يأتي بقوة الذكاء والجسم، فأنت الآن ترى -مثلاً- صاحب العمارة عند موقف (الإسمنت) يشتري شاحنة (إسمنت) ويأتي بها وفيها أربعة أو ثلاثة عمال ينزلونها، ينزلون الكيس مثلاً (بنصف ريال) كأنه آلة أو (ماكينة) ينزل (الإسمنت) في نصف ساعة ويمشي، فلو أعطيت صاحب العمارة هذا (مائة ألف) وقلت له: أنزل (الإسمنت) هذه الشاحنة، ينزلها؟! أعطه مليوناً، ينزلها؟! ما يستطيع ينزلها؛ لأن ظهره سينكسر، ماذا يفعل بالمليون وقد انكسر ظهره؟! قد يتشجع ويقول: والله مليون آخذه، ويستعد ويأتي ويعصب رأسه، وينزل كيساً وكيسين وثلاثة وأربعة عشرة انكسر ظهره، ويقول: والله لا أقدر لو يعطوني الدنيا كلها.
وذاك نزلها (بنصف ريال).
نعم.
فهل المال يأتي بالقوة؟ لو كان يأتي بالقوة لكان الحمال هو صاحب المال، هل المال بالذكاء؟ أبداً.
تذكر كتب العلم: أن رجلاً حكيماً ذكياً عالماً لكنه مبتلى بالفقر، كان يعيش وما عنده حذاء، واستطاع خلال فترة أن يعمل أعمالاً بسيطة حتى جمع له درهمين، وهبط إلى السوق لشراء نعل، وبينما هو يمشي إذا برجل يلحقه ومعه أربعون حماراً، وتراه يحدها ويردها ويسوقها فسأله: إلى أين يا أخي؟! قال: أبيع الحمير هذه في السوق، الحمير كانت هي وسائل النقل الرئيسية، مثل السيارات الآن، قال: وهذه كلها لك؟ -فالذي عنده حمار في تلك الأيام مثل الذي عنده سيارة هذه الأيام- قال: نعم.
قال: طيب.
اركب على واحد منها، قال: عندي مشكلة، قال: ما هي؟ قال: إذا ركبت عليها صارت تسعة وثلاثين؛ لأنه إذا ركب يعدها وينسى الذي تحته، فيعد الذي أمامه، فتنقص وتصير تسعة وثلاثين فإذا نزل من عليها عدها وإذا هي أربعين، قال: فأنا أمشي وتصير زيادة وإذا ركبت تنقص، فتعجب هذا وقال: سبحان الله! أنا بعقلي وعلمي وحكمتي، لا أملك نعلاً في رجلي، وهذا مغفل لا يعرف كيف يعد حميره وعنده أربعين حماراً، فهل الرزق يأتي بالذكاء؟ لا.
فالله أعطاك المال، فالمال مال الله، لا تقل مالي، ولهذا يقول الله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] المال لله أصلاً؛ أعطاك (مائة ريال) وأوجب عليك (2.
5 %) وجعل هذا أمانة بينك وبينه؛ شيء سري لا يعلم به أحد، ولا يعلم أحد أنك أخرجت الزكاة أم منعتها إلا الله، فلا تبخل بها، ولا تخن أمانتك، فإن عدم إخراج الزكاة مصيبة من المصائب، وهو سمة من سمات النفاق {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة:75 - 77].(24/9)
أمانة الصيام
الأمانة الرابعة: الصيام أمانة بينك وبين الله، إذ بإمكانك أن تظهر للناس أنك صائم وأنت مفطر، فمن يدري أنك صائم، صائم من أجل أنك تسحرت معهم وتفطر معهم، ولكن في الظهر تدخل الغرفة ومعك (بسكويتاً) أو علبة عصير، ولا أحد يدري إلا الله، طيب.
هذه خيانة، ولهذا أحد الصغار دخل غرفة لا يوجد فيها أحد، وأخذ (غطاء الزير) ووضعه على رأسه وأخذ يشرب، قالوا: ما بك؟ قال: كي لا يراني ربي؛ لأنه عرف ألا أحد يراه إلا الله في تلك اللحظة، لكن الله عز وجل لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7].
فالصيام أمانة، ولهذا جاء في الحديث: (كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) قال أهل العلم: كيف أن الصوم لله؟! طيب الزكاة والحج أليس لله؟ قالوا: كل العمل لله، لكن الصيام لله؛ لأنه لا يمكن أن يشعر أحد أو يعلم بأنك صائم إلا الله، فهو عمل خاص بينك وبين الله.(24/10)
أمانة الحج
الأمانة الخامسة: الحج: فهو أمانة بينك وبين الله.
بر الوالدين أمانة، وصلة الأرحام أمانة، والإحسان إلى الجيران أمانة، والدعوة إلى الله أمانة، وتعليم العلم للناس أمانة، ومن يعلم العلم إذا لم يعلمه العلماء؟! من يدعو إلى الله إذا لم يدع المسلمون؟! هل اليهود يدعون إلى الدين؟ لا توجد رسل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل ورث هذه الدعوة إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] وقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] فالدعوة إلى الله أمانة، وستسأل عن هذا الدين: حفظت أم ضيعت؟ دعوت أم لم تدع؟ كل هذه -أيها الإخوة- هي الأمانات التي بينك وبين الله، فيم يتعلق بالعلاقة التي بينك وبينه، وهذا هو الشق الأول.(24/11)
الأمانة التي بين العبد وبين الناس
الشق الثاني: الأمانة التي بينك وبين الناس هذه مهمة جداً؛ لأن حقوق العباد قائمة على المشاحة، بينما حقوق الله قائمة على المسامحة؛ وإذا قصرت في حق الله في التوحيد ثم تبت إلى الله تاب الله عليك، إذا قصرت في الصلاة ثم تبت إلى الله تاب الله عليك، أما حقوق العباد أمر لازم وإن تبت فلا بد أن ترجعها، إذا أخذت من أحد شيئاً ثم تبت إلى الله، هل تقول: اللهم اغفر لي وانتهى الأمر؟ لا.
الله يغفر لك، لكن بعد أن ترد حق الناس إليهم؛ لأن حق الناس قائم على المطالبة والمشاحة، بينما حق الله قائم على المسامحة، والله غفور رحيم، ولهذا يقول بعض أهل العلم: إن الأمانة التي بينك وبين الناس أعظم من الأمانة التي بينك وبين الله؛ لأنه يلزمك رد الأمانة التي بينك وبين الناس، أما فيما بينك وبين الله فيلزمك فقط التوبة إلى الله منها.
والله عز وجل يغفر لك إذا علم منك اليقين والصدق بأنك جاد في التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وهذه التي بينك وبين الناس تنقسم إلى فروع:(24/12)
أمانة بر الوالدين
وهذه من أعظم الأمانات، فإن الله سبحانه وتعالى كلف المسلم ببر والديه، وجعل بر الوالدين من أعظم القربات، وجعل عقوقهما من أعظم الكبائر، والحديث في الصحيحين عن أبي بكر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على أكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، ثم قال: ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت).
فبر الوالدين قربة منجية من عذاب الله، وعقوق الوالدين كبيرة عدلت بالشرك، وقرن الله عز وجل برهما بعبادته في ثلاثة مواضع من القرآن: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] {أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14] {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36].
فبر الوالدين أمانة، ثم هو مكيال إذا وفيته وفىَّ الله لك في أولادك، وإذا أنقصته أنقص الله عليك من أولادك فهو دَين، البر دَين؛ كما تريد أن يكون أبناؤك كن لأبويك، بل الأبناء يزيدون؛ إن كنت باراً فأولادك أبر، وإن كنت عاقاً جاء أبناؤك أعق، قال صلى الله عليه وسلم: (بروا آباءكم تبركم أبناؤكم) ونعرف من القصص في حياة الناس الشيء الكثير.
رجل كان يضرب أباه، ويسحبه من رأس القصر إلى بابه، ثم يرميه في الحوش، وبعد ذلك مات هذا الشيخ، وهذا الرجل ما بقى شاباً فقد كبر ودارت به عجلة الزمان، حتى أصبح شيخاً مسناً، وجاء ابنه من صلبه يكيل له بمكياله، فكان يضربه ثم يسحبه من رأس القصر إلى الباب، ثم يرميه في الحوش، ثم يسحبه إلى الباب الخارجي ويرميه في الشارع، ولما كان عند الباب الداخلي صاح الأب وقال: يا ولدي! اتركني هنا؛ والله إني ما كنت أضرب أبي إلا إلى هنا، قال: صدقت.
ولكن أنا أزيدك قليلاً.
فأنت إذا أردت أن يكون أولادك بارين بك عليك أن تكون باراً بأبيك، ومن منا -أيها الإخوة- يود أن يكون أولاده عاقين له؛ عقوق الولد من أعظم المصائب، وترى بعض الآباء الآن ليله ويل! ونهاره ليل! وتراه مكلوماً مهموماً، فيه مصيبة ولا عليه شيء إلا ولده، الذي سود الدنيا عليه، ولده! لو كان يعلم أن هذا الولد سوف يأتيه ما تزوج بأمه، فأصبح مصيبة على أبيه بالعقوق؛ لأنه يأتي لينام في الليل فلا يجده، ويبحث عنه في الفراش وليس موجوداً، يتصل إلى أقربائه فلا يلقاه، ويجلس يتقلب على الفراش لا تغمض له عين إلى أن يأتي ولده، ومتى يأتي؟ الساعة الواحدة أو الثانية! يا ولد: أين كنت؟ قال: كنت مع زملائي.
من هم زملاؤك؟ قال: زملاء.
فلا إله إلا الله! هذا من أعظم العقوق، لا تخرج من بيت أبيك من بعد العشاء ما في زملاء؛ هذا الزمان لا زملاء فيه إلا في المسجد فقط، أما أن تخرج تلف وتدور وتذهب مع الشياطين والمنحرفين وتجعل أباك وأمك في عذاب وأنت في عذاب ومشكلة لماذا؟ هل هذا من البر؟! لا والله.
بل إنه من أعظم العقوق.
فيا أيها الشاب! احفظ هذه الأمانة وكن باراً بوالديك؛ لأنك إذا كنت باراً بوالديك رضي الله عنك في والديك، ووفقك وحفظك وسترك؛ لأن والدك إذا جاء الصباح، قال: الله يوفقك ويحفظك ويرشدك وييسر أمرك ما أحسن هذا! لكن إذا كنت أنت عاقاً، قال أبوك: الله يجعلها في وجهك، الله لا يوفقك، اذهب.
الله لا يردك.
أحد الناس أراد أن ينام فجاءه ولده نصف الليل، قال: أريد أن أتمشى قليلاً، قال: يا ولدي! نم لا وقت للتمشي الآن، قال: لا.
إني أحس بأرق، قال: قلت لك: لا تذهب، فغضب الولد وقال: إما أن توافق على الطلب وإلا فسأغضب! وهذا عقوق، لا.
اطلب وإذا قال أبوك: لا، انتهى الأمر.
فذهب هذا الولد إلى أمه غاضباً وقال: أريد أن أخرج وأبي لم يوافق.
قامت الأم تشفع، وجاءت إلى الأب، وقالت: الولد طيب ويريد أن يتمشى قليلاً؛ لأنه تعب من الدروس، ارتكه يتمشى، قال: اتركيه يذهب الله لا يرده، فقط.
ومن فمه إلى السماء، وركب السيارة وخرج، وفي إحدى المنعطفات تصدمه سيارة وتقطعه قطعة قطعة، ويجلس الشيخ المسكين ينتظر ساعة ساعتين ثلاث أذن الفجر وما جاء الولد، والشيخ ما عرف طعم النوم، ويعرف في قلبه أن الكلمة التي قالها صعدت إلى السماء مباشرة، يقول: خرجت أصلي الفجر ورجعت وطلع النهار وما جاء، قال: فذهبت إلى الشرطة أسأل: ولدي خرج من الليل وما رجع، قالوا: ما اسمه؟ قال: فلان بن فلان، اتصلوا بالشرطة وبالمرور، قالوا: في حوادث الليلة، ولكن المصابين في المستشفى، فليذهب وينظر، فذهب إلى المستشفى وفتحوا الثلاجة وإذا أقرب شخص وآخر شخص طرحوه هو ولده! مضرج بالدماء منتهٍ، نعم.
هذه أسباب العقوق.
فلا تعق والديك ولا تلجئ والديك إلى أن يدعوا عليك، الوالد لا يريد أن يدعو أصلاً لا أحد يريد أن يدعو على ولده، ولكن بعض الأولاد يضطر أباه أن يدعو عليه، لماذا تضطر أباك أن يدعو عليك؟ المفروض أن تقنع أباك أن يدعو لك، ومتى يدعو لك أبوك؟ عندما تكون طيباً، يقول: فلان! فتقول: حاضر لبيك، وبعد ذلك: سأذهب وهكذا، هذا هو الولد الصالح، وهذا هو الموفق الذي يوفقه الله في دراسته، وحياته، ورزقه، وزوجته إذا تزوج، وأولاده، وعافيته، وقبره، وحشره، ويدخله الله الجنة وينجيه من النار بأسباب بر الوالدين.
هذه أمانة بر الوالدين.
الأولاد هؤلاء الذين هم عندك أمانة ائتمنك الله عليهم وجعل رعايتهم في عنقك ومسئوليتك، فعليك أن تربيهم على الدين، وتمنعهم من الشر، ولا تستقدم لهم شيئاً من وسائل الشر، وتعلمهم القرآن والصلاة، وتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، وتحول بينهم وبين قرناء السوء، وتأخذهم معك إلى المسجد، خصوصاً بعد السبع؛ لأن بعض الناس لا يأمر ولده بعد السبع، يقول: هذا صغير، صحيح هو صغير ولكنك مأمور بأن تجعله يصلي، لماذا؟ لأن الصلاة عملٌ شاق؛ إذا ما دربته عليها من الصغر وصار بالغاً فإنه لا يصلي وقتها، لكنه إذا صلى وهو ابن سبع وثمان وتسع وعشر وإحدى عشر واثنا عشر يبلغ خمسة عشر وهو يصلي؛ متدرب عليها، لا يجد صعوبة؛ لأنها صارت شيئاً من عمله، لكنك إذا تركته إلى أن صار عمره خمسة عشر، وبعد ذلك قلت له: صلِّ، كيف يصلي؟ لا يطيعك؛ لأنه ما تدرب عليها يقول:
إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت ولا تلين إذا صارت من الخشب
الغصن أخضر ولين؛ تعدله على مرادك، لكنه إذا صار خشبة معوجة؛ يظل معوجاً إلى أن ينكسر، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع) هل معنى هذا أن الصلاة واجبة عليهم؟ لا.
الصلاة لا تجب إلا بعد البلوغ، لكن الأمر بالتدريب عليها من السابعة، حتى إذا جاء في البلوغ وإذا هو جاهز، فلا بد أن تهتم بهذا؛ لأنها جزء من أمانتك التي بينك وبين الله.(24/13)
أمانة الزوجة
ومن الأمانات التي بينك وبين الناس: الزوجة: وقد جاء النص عليها في الحديث، قال عليه الصلاة والسلام: (أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله) فهي أمانة، هي بنت الناس، أبوها قبل أن يزوجك لا يرضى أن أحداً يمد عيناً عليها أو يضع عليها إصبعاً؛ بعض الآباء يغار على ابنته من الشمس والريح، لكنه بأمر الشرع يسلمك ابنته، نعم.
ويأتي بها إلى بيتك، ويذهب ويتركها لك تتمتع فيها بكل شيء، وبعد ذلك أعطاك الشرع قيادة وقوامة عليها، بحيث تأتي وتأخذها من بيت أبيها، وتقول: هذه زوجتي وهؤلاء أولادي، ما لك عليهم أمر، نعم.
أي: ولو أنت أبوها، ما دمت زوَّجتها فمالك عليها سلطة.
لكن جعلها الله أمانة في عنقك، ليس معنى هذا أن أباها أعطاها لك أن تأتي وتهينها؛ لأنه لا يكرم المرأة إلا كريم، ولا يهينها إلا لئيم؛ لأن من الناس من هو نعجة أو دجاجة أمام الناس، لكنه أمام المرأة أسد، تنظره يضرب ويفعل، لكنه إذا خرج إلى الخارج لا يضرب حتى قطة، وإذا دخل البيت كان أسداً:
أسد علي وفي الحروب نعامة فتخاء تهرب من صفير الصافر
لا يا أخي الكريم! إن خير وأبر الناس من هو عند زوجته أفضل الناس، قال صلى الله عليه وسلم: (خياركم خياركم لأهله) ويقول: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) وكان خير الناس صلى الله عليه وسلم؛ كان يسابق عائشة، وكان يعجن لها، ويقوم بشئون أهل بيته؛ يطبخ ويكنس ويفعل، فمن منا يصنع هذا الآن؟! لا إله إلا الله! فهذه أمانة؛ تبتسم لها، وتسلم عليها إذا دخلت، وتطعمها مما طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، لا تذهب تأكل في المطعم وتأتي لها بخبز، بعض الناس يذهب المطعم يأكل (كبسة) أو سمكاً أو (حنيذاً) بمائة أو بمائة وخمسين، وإذا دخل أخذ (سندوتشاً) أو خبزاً وأعطى زوجته، هذا حرام، يجب أن تأكل مثل أكلك، وإذا أكلت أكلاً مفضلاً عليها فأنت خائن للأمانة.
ثم يجب عليك أن تراعي حقوقها الكاملة؛ لأن الله تعالى قد جعل لها عليك حقاً، ومن حقهن الأول المعاشرة بالمعروف، قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] وقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] أليس لك حق عليها؟ تقول: نعم.
لي حق عليها لأني رجل، أيضاً لها حق عليك مثل حقك: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] وبعد ذلك قال الله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] ما هي هذه الدرجة؟ قالوا: القوامة، أي: الإدارة، مثل موظف ومدير، الموظف عليه واجبات، والمدير له واجبات، لكن للمدير عليه درجة؛ لأنه المسئول، كذلك الأسرة.
فالأسرة إدارة؛ الزوجة فيها موظف والزوج هو المدير له درجة، لكن ليس المعنى الأفضلية، فيمكن أن هذه المرأة أفضل عند الله من الزوج، فكم من النساء فاضلات فيهن خير تعدل زوجها بمليون مرة؛ قوامة صوامة عابدة لله، وهو فاسق قليل دين -والعياذ بالله- ويقول: أنا رجل.
القوامة لا تعني الأفضلية، وإنما تعني المسئولية أمام الله سبحانه وتعالى، فهي أمانة عندك؛ في رقبتك وعنقك يوم تلقى الله؛ أن تحسن إليها، وتعاشرها بالمعروف، وألا تضربها، ولا تهينها، ولا تشتمها، ولا تضيع حقوقها، ولا تعتدي عليها، ولا تكره أقاربها، ولا تسبهم، ولا تلومهم أمامها، فهي لا ترضى أن تلوم جماعتها أو قبيلتها أو إخوانها؛ أو أعمامها أو أخوالها تنتقصهم وتتكلم عليهم، لا.
فهذا جرح لها وتنقص، كما أنك لا تريد أحداً أن ينال من أقاربك ولا جماعتك، كذلك هي زوجتك إنسانةٌ مثلك هذه حقوقها.
ومن حقوقها عليك: أن تحفظها من وسائل الفساد، وتأمرها بالحجاب، وتعلمها أمور الدين، وتدعوها إلى الله كل هذه من الأمانة التي بينك وبين هذه الزوجة.(24/14)
أمانة الجار وحقوقه
ومن الأمانات التي بينك وبين الناس: أمانة الجار: فالجار أمانة، تغض بصرك عن عرضه، وتحفظ ماله وتأمنه، قال صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! قالوا: من يا رسول الله! خاب وخسر؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه) الذي لا يأمنه جاره بوائقه هذا ما آمن بالله، ولهذا إذا أردت أن تعرف هل أنت مؤمن أم لا؟ فاسأل الجيران، إن قالوا: والله فلان أمين هذا نستأمنه حتى على محارمنا.
ولهذا المؤمن أمنه الناس على دمائهم وأموالهم: (والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) فالجار أمانة، وعليك أن تحفظه في غيبته وحضوره، وفي عرضه وماله وجميع شئونه؛ لأنك ألصق الناس به.
بعض الناس لا يرى أخاه ولا قريبه إلا في الشهر مرة، لكنَّ الجار تراه كل مرة، فعليك أن تكون جاراً صالحاً.(24/15)
أمانة طاعة ولي الأمر
ومن الأمانات التي بينك وبين الناس: أمانة طاعة ولي الأمر: من ولاه الله أمرك، الولاية هذه من الله، فإذا ولى الله عز وجل عليك في أمر من الأمور عبداً لزمك أن تكون أميناً على ما ولاك الله عز وجل عليه؛ لأن الخيانة لولي الأمر خيانة لله ورسوله، بأن تؤدي ما طلب منك.
أولاً: الطاعة إلا في معصية.
ثانياً: الدعاء: وقد قال الإمام أبو الحسن بن علي البربهاري وهو من أئمة السنة، مات سنة (329هـ) في أول القرن الرابع، يقول: إذا رأيت الرجل يدعو للسلطان فاعلم أنه صاحب سنة، وإذا رأيته يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى.
لأن الذين يدعون على السلاطين هم الخوارج والمعتزلة، يرون أن من دينهم الدعوة على السلطان والخروج عليه، لكن هذا ليس من معتقد أهل السنة والجماعة؛ معتقد أهل السنة والجماعة أنهم يدعون للسلطان بالهداية والصلاح، ويطيعونه في غير معصية الله، ولا يرون الخروج عليه؛ لما يترتب على ذلك من الفتن.
فمن الأمانة أن تقوم بهذا ليس لعاطفة حب أو كره، ولا لمصلحة نفعية أو مادية، ولكن دين تدين الله به وعقيدة، ولهذا مسألة طاعة أولياء الأمور من مسائل العقيدة التي تقررها كتب العلم، والتي يهتم بها علماء أهل السنة فهم يقررون هذا في كتبهم ويؤكدون عليه، خصوصاً عند بروز الفتن وظهور القلاقل لما يجر الجهل به إلى الفساد الكبير الذي لا منتهى له، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم يقول: ومن تأمل تاريخ المسلمين وجد أن كل مصيبة حلَّت بالأمة إنما تنتج عن الجهل بهذا الأصل وهو: طاعة ولاة الأمر في المعروف أما في المعصية فلا: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وهذا من الأمانة التي ائتمنك الله عز وجل عليها.(24/16)
أمانة الإخلاص للناس وحبهم
ومن الأمانات التي بينك وبين الناس: الإخلاص لهم، أن تحب لهم ما تحب لنفسك؛ عدم الإيذاء لهم، وحفظ أموالهم وأعراضهم، وحقن دمائهم وعدم التعرض لهم بسوء، هذا هو المفهوم الثاني للأمانة التي بينك وبين الناس.(24/17)
الأمانة التي بين العبد ونفسه
المفهوم الثالث: الأمانة التي بينك وبين نفسك: يوجد أشياء متعلقة بك، والله جعلها عندك أمانة وهي: الحواس، والجوارح، هذه ركبها الله في جسمك وجعلها لديك أمانة، وأعطاك الحرية في استخدامها، إن تستخدمها في طيب فأنت حفظت الأمانة، وإن تستخدمها في سيئ فقد ضيعت الأمانة.(24/18)
أمانة الجوارح
أول أمانة العين هذه جعلها الله عندك أمانة، وأمرك أن تنظر بها فيما يحب ويرضى: {قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس:101] وأمرك أن تغضها عما لا يحب سبحانه وتعالى ويأبى؛ أن تغض عن محارمه، وأعطاك الحرية في أن تستخدمها فيما تريد، من منا يستطيع أن يتحكم في عين إنسان آخر؟ أبداً.
عينك في رأسك تتحكم بها أنت، ولا تستطيع أي قوة في الأرض أن تلزمك أن تنظر إلى شيء وتترك شيئاً، حتى لو أردت أن تنظر في بيت وقال لك صاحبه: لماذا تنظر في بيتي؟ تقول له: لا أنظر في بيتك أنا أنظر في البيت الذي وراءه، لكن الله يعلم أين تنظر: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] فعينك هذه أمانة، وستسأل عنها بين يدي الله يوم القيامة: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36] من السائل؟ إنه الله، والجواب إن كان سيئاً فالنار، وإن كان صحيحاً فالجنة.
بقية الجوارح، وسميت جوارحاً؛ لأنها تجرح في دين العبد.
الأذن أمانة ائتمنك الله عز جل عليها، وأمرك بحفظها عن سماع الباطل، وألا تسمع بها إلا ما يحب؛ لأنها قناة تصب في القلب، وإذا سمعت الخير تأثر القلب بالخير، وإذا سمعت الشر تأثر القلب بالشر.
اللسان أمانة: أنت مسئول عنه بين يدي الله يوم القيامة، وحفظ اللسان علامة الإيمان، يقول عليه الصلاة والسلام: (من يضمن لي ما بين لحييه وفخذيه أضمن له الجنة) وقال: (أكثر ما يدخل الناس النار الفم والفرج) أي: اللسان وما فيه من المصائب، والفرج وما فيه من المصائب.
فاللسان أمانة وفيه الكلمة، والكلمة لها مسئولية أمام الله، يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في الصحيحين: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) وقال: (وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) وربَّ كلمةٍ قالت لصاحبها: دعني، فالكلمة مسئولية أمام الناس، ومن لا يقم للكلمة وزناً تجده يهذي بما لا يدري، ويخوض فيما لا يعنيه، وهذا مما يؤدي به إلى العطب والوقوع فيما لا يرضيه، فزن كلامك ولا تتكلم إلا بخير، ولا تقل إلا خيراً أو اسكت.(24/19)
أمانة اليد والرجل
كذلك اليد أمانة: كان بالإمكان أن يشل الله يدك، لكن الله عز وجل متعك بهذه اليد لتنفعك، فلا تمدها إلا إلى الخير أو الحق، لا تمدها في باطل: بسرقة مال، أو بغمز غير محرم، أو بعدوان، أو بكتابة باطل.
والرجل هذه أمانة: لا تحملك إلى باطل، ولا تمش بها إلى منكر.(24/20)
أمانة الفرج والبطن
الفرج أمانة: لا تطأ به في منكر.
الأمانة الثامنة: أمانة البطن، لا تأكل فيه منكراً أو حراماً، كل هذه الجوارح أمانة عندك واصنع ما شئت، فالآن لا أحد يسألك، لكن يوم القيامة تسأل، والذي يشهد عليك هي نفس الجوارح، يقول الله عز وجل: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:19 - 21] الذي أنطق لحمة اللسان ينطق غيرها، وينطق كل شيء؛ لأن الله قادر على كل شيء سبحانه وتعالى.
فهذه أيها الإخوة أمانات مستودعة عندك فاتق الله فيها، وهذا هو المفهوم العام -أيها الإخوة- وإن كانت الكلمة -الأمانة- تحتاج إلى الحديث بشكل أوسع؛ لأنها تشمل الدين كله، لكن نكتفي بهذا في الثلاثة الفروع: الأول: بينك وبين الله من توحيده وعبادته، الثاني: بينك وبين الناس من القيام بحقوقهم والإحسان إليهم، سواءً كانوا أقارب أو أباعد، الثالث: بينك وبين نفسك في الحواس والجوارح التي منحت لك من أجل أن تستخدمها في الخير ولا تستخدمها في الشر.
فاسأل نفسك: هل حفظت هذه الأمانة أم ضيعتها؟ وعلى ضوء حفظك للأمانة أو ضياعك لها يتقرر مصيرك في الدار الآخرة، إما الحفظ فالنجاح والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، وإما الضياع فالدمار والخسار والنار والعار في الدنيا والآخرة.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يعيننا وإياكم على حفظ الأمانة، وأن يجعلنا وإياكم ممن يؤديها حق أدائها، كما نسأله سبحانه وتعالى أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنه سميع الدعاء.
اللهم احفظ لنا ديننا وأمننا ونعمتنا واستقرارنا، اللهم من أرادنا في ديارنا أو غيرنا من ديار المسلمين بسوء أو شر أو كيد فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، وأنزل عليه بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم وفق ولاة أمورنا وعلمائنا ودعاتنا ومشايخنا وشبابنا وشاباتنا وجميع المسلمين إلى العمل بهذا الدين والدعوة إليه والحرص عليه والمناصرة له، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(24/21)
الأسئلة(24/22)
حكم استخدام الأمانة بدون إذن صاحبها
السؤال
رجل وضع عندي أمانة من المال فاحتجتها وأخذتها، وبعد مدة طلب مني أمانته فاستلفت الأمانة وأعطيته، هل عليَّ إثم؟
الجواب
نعم.
الذي يعطيك أمانة ينبغي لك ألا تتصرف فيها إلا بإذنه، أعطاك مبلغاً من المال وقال: أمانة.
فاحتجتَ إلى هذا المبلغ، فقبل أن تتصرف فيه تسأله وتقول: يا فلان! فلوسك عندي وأنا محتاج منها شيئاً، تسمح لي؟ فإن أذن لك تصرفت، وإن لم يأذن لك فلا يجوز لك أن تتصرف في ماله إلا بإذنه، وعليك إثم، وبالتالي يلزمك التوبة إلى الله عز وجل، وأيضاً إشعار الرجل هذا واستئذانه حتى يعفو عنك.(24/23)
الجمع بين الآية: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) والحديث: (لن يدخل الجنة أحد بعمله)
السؤال
كيف نجمع بين قول الله عز وجل: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] وقوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل الجنة أحد بعمله)؟
الجواب
لا تعارض بين الآية والحديث، فإن الجنة ليست ثمناً للعمل الذي نعمله، فالعمل الذي نعمله لا يستحق أن يعطى الإنسان عليه الجنة، لكن العمل سبب، وهذا ما يعنيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد الجنة بعمله) أي: لن يدخل أحد الجنة مقابل عمله، صليت؟ نعم.
صليت بجسم خلقه الله، وتصدقت بمال أعطاكه الله، وجاهدت بجسم خلقه الله، فكل شيء من الله، فلن يدخل أحد الجنة نظير العمل، أي: مقابل العمل، ليست الجنة سلعة ومقابلها العمل، لكن معنى الآية: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] أي: بسبب ما كنتم تعملون، فالعمل سبب لدخول الجنة وليس ثمناً لها، وهذا معنى الحديث.(24/24)
تحريم العيش مع تارك الصلاة ومرتكب المحارم
السؤال
هل يجوز العيش مع رجل لا يحافظ على أداء الصلاة، ودائماً على المفاسد مثل (الدش)؟
الجواب
إذا كان الرجل لا يصلي وتاركاً للصلاة بالكلية، فلا يجوز العيش معه ولا معاشرته، حتى الزوجة لا يجوز لها أن تبقى في بيته ولا يجوز لها أن تمكنه من نفسها؛ لأنه كافر، وإذا مكنته من نفسها فإنما يأتيها زناً، والأولاد الذين يأتون منه أولاد سفاح؛ لأن العقد باطل، فإنه استحلها وهو في الإسلام، فلما ترك الصلاة كان كافراً، فلا يجوز أن تبقى، ولا يجوز لوليها أن يبقيها في بيته.
وكذلك إذا كان زميلك لا يصلي فلا يجوز أن تجالسه أو تؤاكله أو تشاربه أو تسلم عليه أو تزوره إذا مرض، ولا تتبع جنازته، ولا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين إذا كان تاركاً للصلاة.
أما إذا كان يصلي ولكنه متهاون؛ مرة في المسجد ومرة في البيت ولا يترك الصلاة، فهذا عاصٍ، ولا شك أنه وقع في إثم وتَرك واجباً، وينبغي مناصحته، ولكنه لا يكفر ولا يخرج من الدين.(24/25)
الأمانات التي على النساء
السؤال
ما هي الأمانات التي على النساء؟
الجواب
جميع الأمانات التي على الرجال هي على النساء كذلك، فالنساء مثل الرجال، ولكن عليهن أمانات مختصة بهن: أولاً: عرض الزوج وماله وأولاده وبيته كلها أمانة، فلا يدخل أحد إلا بإذنه.
ثانياً: الحجاب أمانة: فالحجاب الذي تتحجبين به أمانة؛ لأنه لا بد منه؛ لأنك إن لم تتحجبي خنتي الأمانة التي بينك وبين الله.(24/26)
حكم المتخلف عن الصلوات
السؤال
ما نصيحتكم لمن يتخلف عن الصلوات خصوصاً الفجر، مع وجود من يوقظه لكنه لا يستيقظ؟
الجواب
الذي لا يستيقظ لصلاة الفجر فيه علامة من علامات النفاق، فإذا أردت أن تعرف نفسك هل أنت مؤمن أم منافق، فلا تسأل أحداً واسأل نفسك عن صلاة الفجر، فإن كنت من أهلها وبانتظام فاعلم أنك مؤمن، وإن كنت بعيداً متهاوناً فيها ومضيعاً لها فلتعلم أنك منافق، والدليل في الصحيحين، قال صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً) فالذي لا يصلي الفجر في الجماعة على خطر عظيم؛ لأنه متصف بصفة النفاق والعياذ بالله.(24/27)
موقف من يأمره أبوه بترك مخالطة الصالحين
السؤال
أنا ملتزم والحمد لله، ولكني لا أسمع كلام والدي، خصوصاً إذا كان الكلام يتعلق بإخواني الطيبين ولقاءاتهم، فأرجو منكم النصيحة لي ولأمثالي من الشباب؟
الجواب
يا أخي الكريم! ما دمت لا تسمع كلام والدك فأنت غير ملتزم بل عاق، كيف لا تسمع كلام أبيك؟!! أما فيما يتعلق بكلام أبيك بإخوانك الطيبين ولقاءاتهم فأطع أباك، فإذا كان يقول لك: لا تذهب مع هؤلاء ولو كانوا طيبين، قل له: طيب.
ولا تذهب، وعاود اللقاءات مع الطيبين بسماع الشريط، وبقراءة الكتاب، حتى تطع والديك، وتجمع بين الخير وتحصيله وطاعة أبيك، لكن تذهب وتجتمع مع إخوانك في الله وتعق والدك، مثل من ينفق ريالاً ويخسر (مائة) تصدقت بريال وخسرت (مائة ريال)، فالله لا يسألك يوم القيامة: لماذا لم تجلس مع إخوانك في الله؟ ولكن يسألك: لماذا لم تطع أباك؟ طاعة الوالد مقدمة على الذهاب والجلوس مع الإخوان في الله.(24/28)
حكم من دخل وقت الصلاة وهو في علاج مرضي
السؤال
رجل مصاب بفشل كلوي ويغسل في وحدة الغسيل ثلاث ساعات، وأحياناً يبدأ الغسل الساعة السادسة قبل المغرب وينتهي بعد العشاء، فكيف يصلي المغرب إذا كانت الصلاة في وقت الغسيل؟
الجواب
أولاً: نسأل الله سبحانه وتعالى له ولأمثاله ولجميع المرضى الشفاء والأجر والثواب في الآخرة على هذا.
ثانياً: يجب أن نذكر هذه النعمة التي نحن فيها الآن؛ الذي عنده كليتين معافى وفي نعمة لا يعرفها ولا يقدرها إلا الذي فشلت كلاه، أحد إخواننا نعرفه مصاب بفشل كلوي، يقول: ما عرفنا نعمة الكلى إلا لما ضيعناها، ثم أجريت له عملية زرع كلية، وعادت إليه الحياة الأولى ومارس خروجه للخلاء وخرج منه البول -أكرمكم الله- قال: ما شعرت بأني في نعمة إلا لما خرج هذا البول، فالذي عنده فشل كلوي لا يبول؛ لأنه ما عنده كلية تخرج البول، فيخرج هذا عن طريق الآلة.
أنت الآن في ظهرك كليتين، كل كلية قدر قبضة اليد، في كل كلية (ثلاثة ملايين) وحدة تنقية، هذه الآلة الآن التي مثل (الدولاب) فيها (50 ألف) وحدة تنقي من الدم (10%) من السموم فقط، لكن الكلية التي في ظهرك تنقي (100%)، ولا تدري أنت بهذه النعمة فاحمد الله على هذه النعمة! واستخدمها في طاعة الله سبحانه وتعالى.
ثالثاً: أما السائل الكريم: فإذا حان وقت الصلاة وخشي أن يستمر الوقت حتى يخرج وقتها، جاز له أن يصلي وهو مستلق على قفاه على السرير؛ يصلي إيماءً ويدخل إلى الغرفة وهو متوضئ، ثم إذا جلس وأدخلوا فيه الإبرة وبدأوا يسحبون الدم وذهب إلى الكلية الصناعية وعاد إليه وقد أصبح منقى! وكل يومين يفعل هذا ولا يموت، فلا إله إلا الله! نكتفي بهذا -أيها الإخوة- ونسأل الله لنا ولكم التوفيق.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(24/29)
الخسران المبين
إن خسران الدنيا هين لأنه ينتهي، ولكن المصيبة والخسارة الحقيقية هي: مصيبة الإنسان في دينه، فهي تعود عليه بخسارة في الدنيا؛ لأنه يعيش فيها عيش الهمل، فضلاً عما ينتظره في الآخرة من العذاب المقيم في جهنم، فقد ذكر الله الخاسرين وما لهم في الآخرة في آيات كثيرة من كتابه، وحذرنا أن نكون منهم، وبين طريق السعادة لنسلكه.(25/1)
الخسارة الحقيقية في الدنيا والآخرة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: اللهم لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا من قديم أو حديثٍ، أو شاهدٍ أو غائبٍ، أو حي أو ميت، لك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، لك الحمد في كل حال، ولك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
بعد أن زالت الغمة، وماتت الفتنة، وهدأت العاصفة التي اقتلعت جذور العدوان، وألقته إلى غير رجعة في مزبلة التاريخ، وخسر البعث الكافر، وخسر صدام الطاغية، والغربان الناعقة، والشعارات الفارغة، والطبول المجوفة، وأم المهازل، والشجعان وأصحاب المنازلات بعد هذا الخسران، ماذا عساه أن يكون؟! إن خسران الدنيا هين؛ لأنه ينتهي وله أمد، ولكن هناك خسران عظيم مبين واضح يشمل هؤلاء الخاسرين؛ لأنهم بغوا، وعلى الباغي تدور الدوائر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس:23] ويشملهم لأنهم معتدون، والله عز وجل يصب كيده على المعتدي، ويشملهم لأنهم خونة، والله لا يهدي كيد الخائنين، ولكن يشمل معهم كل من لم يسر على منهجه، وكل من لم يسر على كتابه، ويتبع هدي رسوله، هذا خاسر ولو ظن أنه رابح؛ لأن مقاييس الربح والخسارة ليست مقاييس الدنيا، ما الدنيا بالنسبة للآخرة إلا كقطرة من بحر {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55] يوم القيامة طوله خمسين ألف سنة من أيام الآخرة، واليوم من أيام الآخرة كألف سنة مما نعد، اضرب (1000× 50.000) هذا يوم القيامة وبعده ماذا؟ {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ:23] {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [هود:107].(25/2)
مقاييس الربح والخسران
مقاييس الربح والخسران ليست في الدنيا فقط، فكم من رابح في الدنيا وهو خاسر يوم القيامة {أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15] وكم من خاسر في نظر الناس في الدنيا ولكنه يربح عند الله الربح العظيم يوم يدخل الجنة، يقول الله عز وجل: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] والناس بحكم ضعف إيمانهم، وتعلق قلوبهم بالمادة والدنيا والحياة، ونسيان معظمهم لأمر الآخرة يقيسون الربح والخسارة على هذه الدنيا، فإذا اشترى رجلٌ سيارة وانقلبت قال: خسارة، وإذا تزوج زوجة وطلقها قال: يا خسارة، وإذا فصل من وظيفته قال: خسارة، وإذا انهدم بيته قال: خسارة، لكن إذا هدمت عقيدته، أو ضيع صلاته، أو خان أمانته، أو نظر بعينه إلى الحرام، أو سمع بأذنه الحرام، هل يعتبر نفسه خاسراً؟! لا.
لماذا؟ لأن مصيبة الناس في دنياهم أعظم من مصيبتهم في دينهم؛ لعظم وشأن وقيمة وأهمية الدنيا، أما الدين فهو بسيط في قلوب أكثر الناس إلا من رحم الله.
أبني إن من الرجال بهيمة
يعني: بقرة، في صورة الرجل السميع المبصر، عيون ورأس آدمي لكن عقليته ونفسيته وأفكاره أفكار البهائم.
أبني إن من الرجال بهيمة في صورة الرجل السميع المبصر
فطن لكل مصيبة في ماله وإذا أصيب بدينه لم يشعر
ولذا الناس لما هدأت الأمور أمنوا، فلما أمنوا عادوا إلى ما كانوا عليه من المعاصي والذنوب رغم أنهم في مصيبة من قبل ومن بعد، فالذي لا يصلي في المسجد هذا في مصيبة وينتظره عذاب الله الأكيد، ومن يسمع الحرام ويتكلم بالحرام وينظر بعينه إلى الحرام ويأكل الربا والحرام ويقع في الزنا واللواط ويمد يده إلى الحرام ويسير بقدمه إلى الحرام هؤلاء كلهم أصحاب مصائب لكن لا يشعرون بها، يشعرون بمصيبة البطون إذا جاعت كما تشعر البهائم بمصيبتها إذا جاعت، ويشعرون بمصيبة البيوت والأمن إذا اختل، لكن لا يشعرون بمصيبة الدين إذا اختل.(25/3)
الخسارة الحقيقية هي المصيبة في الدين
إن المصيبة الحقيقية هي مصيبة الإنسان في دينه، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا) لأن كل مصيبة دون مصيبة الدين فهي هينة، لها نهاية ومخرج، لكن مصيبة الدين لا مخرج منها؛ لأن نهايتها النار -والعياذ بالله- فالخسارة الحقيقية هي التي ينبغي أن نراجع أنفسنا معها وأن نعرف فيها ربحنا.
صحيح ربحنا الحق؛ لأننا على الحق؛ ولأننا أصحاب قضية عادلة، نناصر المعتدى عليه، ونناصر المظلوم، ونقف مع المغلوب، لكن يجب علينا أيضاً مع هذا أن نراجع أنفسنا، كيف نحن مع الله؟ هل نحن رابحون معه أم خاسرون؟(25/4)
مآل الخاسرين في الآخرة
من هو الرابح مع الله، ومن هو الخاسر؟ اسمعوا ماذا يقول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15] هذا هو الخاسر، ليس الخاسر الذي ضاعت عمارته أو انقلبت سيارته، بل الخاسر الذي إذا مات خسر نفسه وأهله ودخل النار {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر:15 - 16] هذه الخسارة يوم يكون الظلال ناراً، ومن تحتك نار، وأنت بين ناري السماء والأرض {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41] هذه الخسارة الحقيقية.
أما الدنيا فأعظم ما في الدنيا أنك تموت، وإذا مت تخلصت نفسك من هذه المصائب كلها، لكن النار ليس فيها موت، فالموت أعظم أمنية عند أهل النار، ينادون وهم في شعابها بكياً من ترادف عذابها، ينادون: يا مالك! قد نضجت منا الجلود، يا مالك! قد تقطعت منا الكبود، يا مالك! قد أثقلنا الحديد، يا مالك! أخرجنا منها فإنا لا نعود، فلا يجيبهم، بعد ذلك يدعون مالكاً في الهلاك يقولون: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] يعني: أمتنا {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:77 - 78] فالله يقول: إن الخاسرين الحقيقيين هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين، ما هو الخسران؟ قال: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر:16] أي: اتقوا عذابي، هذا كلام الله، أخوفكم يا عبادي! من عذابي فاتقوا عذابي، اتقوا عذابي بماذا؟ بفعل طاعة الله وترك معصيته، هذه هي التقوى، اجعل بينك وبين عذاب الله عز وجل وقاية، يعني: حاجزاً ساتراً، وما هذا الواقي لك؟ فعل طاعة الله وترك معصية الله، إذا فعلت الأمر، وتركت النهي، وخضعت للشريعة، وأسلمت نفسك لله، وجعلت بينك وبين عذاب الله وقاية، فلست من أهل هذا الوعيد، ليس لك ظلل، بل أنت في غرف من فوقها غرف مبينة تجري من تحتك الأنهار في جنات النعيم، لماذا؟ لأنك رابح ربحت الدنيا وربحت الآخرة، حتى ولو أنك في الدنيا كنت تمشي حافي القدم، عاري البدن، خاوي البطن، تنام على الرصيف وليس عندك رصيد ولا راتب ولا بيت ولا زوجة، ولكن معك الإيمان والدين والعقيدة والصلة بالله والخوف من الله، أنت رابح.
لكن إذا كان العبد يفقد ويفتقد هذه الأشياء والله لو ملك الدنيا بأسرها، هل سيملك أحد مثل ملك فرعون؟ كان فرعون ملك مصر، وكان يدعي أنه الرب، وكان يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] وكان يقول لبني إسرائيل: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف:51 - 52] يعني: موسى {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] أين فرعون الآن؟ في خسران، يقول الله فيه: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ * وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:46 - 48] الكبير والصغير في جهنم.
فمهما كان ملك الإنسان وليس معه إيمان ولا عقيدة فهو خاسر، ومهما كان مال الإنسان وليس معه إيمان، ولا عقيدة، ولا دين فهو خاسر، هل سيجمع أحد أموالاً مثل قارون؟ قارون الذي كانت له مخازن الذهب الأحمر والفضة البيضاء ومفاتيحها لا تحملها العصبة من الرجال، ويقول الله فيه: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} [القصص:78] أين هو الآن؟ أين أمواله؟ هل حجزته أمواله من عذاب الله؟ إنه الآن يتجلجل في بطن الأرض إلى يوم القيامة، قال الله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص:81] ابتلعته الأرض، أوحى الله إلى الأرض أن تفتح فتحة بمقدار قصوره وأمواله ومخازنه وأولاده وحشمه وخدمه وما عنده، فانفتحت ثم انطبقت فهو الآن في بطنها إلى يوم القيامة: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:81 - 83] اللهم اجعلنا من هؤلاء المتقين الذين اتقوك يا رب! وجعلوا مخافتك بين أعينهم فلم يقدموا على معصيتك ولم يتأخروا عن طاعتك، هؤلاء لهم العلو ولهم السيادة، والفوز والنجاح يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، هنالك يعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52] هؤلاء خاسرون لماذا؟ لأنهم ضيعوا دين الله، {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15].(25/5)
خسارة من لم يصدق عمله دعواه(25/6)
أسباب الخسارة في الآخرة
هل هناك خاسرون آخرون؟(25/7)
التكذيب بلقاء الله
يقول الله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:31] كيف كذبوا بلقاء الله؟ قد يقول شخص: أنا مصدق بلقاء الله، نقول: فتش عن عملك فالصادق يظهر تصديقه على عمله، والكذاب يظهر تكذيبه في عمله، أما الكلام فلا ينفع، لا ينفع أنك صادق بدون دليل أو برهان، هل ينفع الكلام عند الناس بدون دليل؟ هل ينفع أنك تذهب الآن في أي مكتب عقار وتقول: عندي عمارة وأريد أن أبيعها، فيقول لك صاحب العقار: أين؟ فتقول: في حي من أحياء جدة، على شارعين وأربعة أدوار، وفيها ثمان شقق ومحلات تجارية ودخلها مائتا ألف، فقال: أين هي؟ وكم سعرها فتقول: فقط خمسمائة ألف، فإذا جاء إليها صاحب العقار وطلب منه ما يثبت له أن هذه العمارة هي له قال: لا يوجد، فلا يقبل صاحب العقار كلامه لأنه ليس عنده حجة، فيتهمه صاحب العقار بالجنون ثم يشتمه لأنه أتعبه!! ما رأيكم في هذا، عمارة على شارعين، أرضيتها (20 × 20) لا يمكن أن تحصل عليها إلا بصك شرعي إنه إيمان وعمل صالح ولقاء الله، ثم تقول: إنك مصدق به وليس عندك دليل عليه، هات الدليل؟ والله ليس عندي دليل فقط بقلبي، العمارة هذه لي بقلبي، والإيمان بقلبي لا ينفع، لا بد من عمل.
بين الله تبارك وتعالى في القرآن أن الكاذبين يحلفون يوم القيامة مثل ما كانوا يحلفون في الدنيا، كانوا في الدنيا يحلفون بالكذب ويدعون الدعاوى ويريدون أن يدخلوا الجنة بالكذب وباليمين، قال الله عز وجل: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:18 - 19] لأنهم يريدون الجنة بالكذب وبالأيمان الكاذبة.
فهذا الذي يكذب بلقاء الله تظهر آثار التكذيب في تصرفاته، والذي لا يصلي جماعة في المسجد هذا لا يعد صادقاً في إيمانه، هذا منافق؛ لأنه لو كان يعرف حقيقة قيمة الصلاة، وأهمية الصلاة في المسجد، وأن الذي لا يأتي إلى الفجر والعشاء منافق، لأتى المسجد، ولو يعلم أن في المسجد أموالاً تقسم على كل صلاة عشرة ريالات يعني خمس صلوات يومياً بخمسين ريالاً، لكن الفجر عليها عشرين من أجل أنها في وقت نوم، هل سيدع أحد الصلاة في المسجد؟ والله لن تتسع لهم مساجد جدة، ويأتي الرجال والشيوخ والبنات والنساء والأولاد وتمتلئ الشوارع، ويصفون من نصف الليل في الصف الأول، من أجل أن يستلم ويمشي، لماذا؟ من أجل عشرة ريال، لكن لما يقال له: إن صلاتك في المسجد تفضل صلاتك في بيتك بسبع وعشرين درجة، يقول: أريد درجة واحدة، وليس له درجة، الحديث في الصحيحين: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبعٍ وعشرين درجة) لكن مع العذر، يعني: أنت معذور نمت أو مرضت أو غلبت أو نسيت وما تعمدت، وفاتتك الجماعة، وتقطع قلبك عليها، وتندمت كأنك خسرت شيئاً كبيراً، ورجعت إلى بيتك تصلي فلك درجة، أما أن تسمع المؤذن وتقول: لا.
سأصلي هنا، فمالك إلا الوعيد من لعنة وغضب، لماذا؟ لأن العلماء يقولون: لا مفاضلة بين ما هو واجب -وهي صلاة الجماعة- وبين ما هو محرم -وهو ترك الصلاة في المسجد- ليس هناك مفاضلة بين الواجب والمحرم، المفاضلة في الحكم الواحد، فهي واجبة، أما محرم تفاضل بينه وبين واجب!! لا.
ولهذا عَدَّ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه الاختيارات الفقهية حضور الجماعة شرطاً في صحة الصلاة، ولا تقبل الصلاة إلا بالجماعة إلا بعذر، لحديث: (من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر لم تقبل منه الصلاة التي صلاها) ولحديث في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنقلب معي رجالٌ معهم حزمٌ من حطب، فأحرق على قومٍ بيوتهم لا يشهدون الصلاة، لولا ما فيها من النساء والذراري) لماذا يحرق عليهم؟ أعلى ترك سنة أم على ترك واجب وارتكاب محرم فهذا الذي لا يصلي في الجماعة، ولا في المسجد ليس مصدقاً بكلام الله، بل عنده تشكيك، ووالله لو كان مصدقاً وجازماً بلقاء الله لما ترك صلاة الجماعة الآن الذين عندهم تصديق في قلوبهم لا يمكن أن يصلوا إلا في بيوت الله قلبه مربوط بالمسجد، في مكتبه وقلبه في المسجد، في فراشه يتقلب طوال الليل وعينه في الساعة متى يأتي الأذان؟ بل قبل الأذان وهو في بيعه وشرائه وسوقه وعينه على وقت الصلاة متى يأتي لماذا؟ لأنه مصدق بلقاء الله، أما ذاك لا، بل حتى لو ذكرته فإنه لا يريد، لماذا؟ ليس عنده يقين، لم يحصل عنده الإيمان والتصديق الكامل بلقاء الله عز وجل.(25/8)
الجمع بين الأعمال الصالحة والمعاصي
إن الذي يسمع الأغاني ويعرف أنها حرام، ولكن يعلل ويتعذر ويقول: قلوبنا نظيفة، وهذه بسيطة، وليت ما عندنا إلا هي، هذا مسكين مضلل، هذا معاند لله ومشاق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقول له: (من سمع الأغاني صب الله في أذنيه الآنك -الرصاص المذاب- يوم القيامة) ونقول له: (صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة) ونقول: إن الغناء ينبت النفاق في القلب، والآيات والأحاديث كلها تدل على تحريم هذا الشر المستطير الذي ينخر القلوب، ويسوس الإيمان، وينزع الدين من القلوب، ويهيج الجريمة، ويحرض على الفساد، وينسي عبادة الله، ويذكي الشيطان في النفس، وتقول لي: إن قلبك نظيف، وإن هذا الأمر هين، لا! وعليك أن تنزه نفسك عن هذا، نزه هذا السمع فلا تسمع به إلا كلام الله، {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع إصبعيه في صماخي الأذن ومعه ابن عمر الغلام الصغير ومروا على راعٍ ومعه بوق، لو سمعته فإنك ستهرب منه، لكن يسد أذنيه ويقول للغلام: أتسمع؟ حتى إذا قال الولد: لا أسمع؛ أبعد يديه صلوات الله وسلامه عليه، كيف بمن يسمع الموسيقى الآن، والآلات الحديثة التي تنخر القلب نخراً، وتهز الإنسان وتسلب عقله وتجعله يرقص بدون قصد شيء مرعب، ما يبقى أبداً للإيمان في القلب شيء.
يقول ابن القيم:
حب الكتاب وحب ألحان الغنا في قلب عبدٍ ليس يجتمعان
لا يجتمع الضدان ولا يلتقي النقيضان، ما تجمع النار والبارود، ولا تجمع الطيب والعذرة، والقلب إناء تضع فيه قليلاً من كلام الله وقليلاً من كلام الشياطين فيصعد كلام الله، أو كما يقول بعض الجهلة: (ساعة لربك وساعة لقلبك)، ليس في هذا شرك، الساعات كلها لله، الله يقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163] لا يوجد ساعة لقلبي وساعة لربي، ساعة أصلي وساعة أرقص وأغني، لا.
ساعتي لله، ليلي ونهاري، وسري وجهاري وحياتي وموتي، في بيتي ومكتبي، وسوقي ومع أهلي، كل حياتي مع الله في كل حين، مع الله في كل وقت وآن، لماذا؟ لأنك عبد لله تبارك وتعالى، هذا معنى الإسلام؛ ولأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] يعني: بالكلية، لا يوجد دخول جزئي، أدخل قليلاً وأخرج قليلاً، مثل القطة كل حين وهي في طريق، لا.
دين دين، الزم نفسك، وليس معنى هذا أنك لا تعصي الله، لا.
قد تعصيه، لكن تعصي ويندم قلبك، وترجع وتتوب إلى الله، فيغفر الله ذنبك، ويقبل الله توبتك، ويبيض وجهك، وتشعر بلذة؛ لأن الله عز وجل غفور رحيم للمذنبين أمثالي وأمثالكم، فنحن نذنب ونلم، ولكن لا نصر ولا نداوم وإنما عرض، لهذا سماه الله: لمم، قال الله عز وجل: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32] يعني: الذي يتعرض للذنب فقط، ليس دائماً في الشارع وينظر إلى النساء ينظر إليها من رأسها إلى قدميها، هذا ليس لمماً، لكن من يغض بصره ثم في لحظة من اللحظات نظر دون قصد وإذا به تقع عينه على امرأة فغض بصره، هذه معصية لكنه ما تعمدها ثم استغفر الله، فهذه ربي يغفرها له، أما أن يظل ينظر إليها ويقول: هذه بسيطة، هذه أحرقت قلبه ولا حول ولا قوة إلا بالله.(25/9)
صور من التكذيب بلقاء الله
يقول عز وجل: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} [الأنعام:31] وظهر طبعاً هذا التكذيب في عباداتهم الميتة أو المنعدمة والمفقودة، وفي سلوكهم المنحرف، وأخلاقهم السيئة، وعقائدهم الفاسدة، وحياتهم كلها التي يحكمها الشيطان.
كثير من البشر الآن محكومين بمنهج الشيطان؛ لأنه إما ولي لله أو ولي للشيطان، وقد جاء هذا في القرآن الكريم، يقول عز وجل: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [النساء:119 - 120] لا يوجد في الدنيا إلا منهج الله أو منهج الشيطان حزب الله أو حزب الشيطان أولياء الله أو أولياء الشيطان، أين أنت؟ ومع أي حزب؟ المعركة قائمة بين جند الله وجند الشيطان، بين حزب الله وحزب الشيطان، بين أولياء الله وأولياء الشيطان، والحبل ممدود وكل واحد يمسك من طرف، أين أنت ومع من تسحب؟ اسأل نفسك هي مع من؟ إن كانت مع النساء والنظر إليهن وإلى الأفلام والمسلسلات والخلاعات؛ فأنت تسحب مع الشيطان، تجر نفسك بعينك إلى النار، إن كانت أذنك تسمع الأغاني؛ فأنت تسحب نفسك بأذنك إلى النار، ولهذا يوم القيامة يقولون لآذانهم ولأبصارهم ولجلودهم: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [فصلت:21]؟! أي: لماذا فضحتمونا في هذا اليوم الذي نريد فيه النجاح؟ {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] الذي أنطق هذه اللحمة -اللسان- ينطق الجلد لماذا تستغرب أن الله أنطق هذه؟! وقل للسانك: لماذا تكلمت؟ كيف تكلم لسانك، من الذي أنطق لسانك؟ {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10] الذي أنطق هذه اللحمة يجعل تلك اللحمة تنطق يوم القيامة، بل أنطق الله الآن الحديد، ترفع السماعة فتتلكم بها، حديد يتكلم معك! أسلاك من أرض وفي أرض، مسجل يسمع الصوت فيسجله وبعد عشر سنوات تفتحه وإذا به هو، كيف؟ سألت مهندساً قلت: كيف تسجلون هذا الصوت؟ قال: هذه ذبذبات تلتقطها هذه الأجهزة، ثم ترصدها في ذلك الشريط، ثم بعد ذلك تعاد مرة ثانية، قلت: ما هي الذبذبات علمني؟ قال: لا أعلم، الله عز وجل أنطق هذه الآلات.
آية {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53] فالذين يصدقون بلقاء الله عز وجل يحكمهم منهج الله.(25/10)
التفريط في الدين
إن الله تبارك وتعالى أكرمك بأن جعلك وليه، وتولى تبارك وتعالى تسديدك وتوفيقك وتوجيهك في كل جزئية من جزئيات حياتك، حتى علمك في الشريعة أن تأكل بيمينك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم للغلام: (يا غلام - عمرو بن سلمة - سَمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) ثلاث كلمات فيها آداب الطعام كله، أولاً: سم الله؛ لأن معنى اسم الله أولاً: حجز للشيطان أن يأكل معك، ثانياً: ذكر الله، تذكر الله باسمه، وأن هذه النعمة من الله.
ثانياً: كل بيمينك تخصيص؛ لأن الأجهزة يمين وشمال وكل واحد له وظيفة، يمينك غير شمالك، شمالك لها وظيفة في التنظيف والاستنجاء وإزالة القذر منك، يمينك لها وظيفة في مدها إلى الرجال، وأكل الطعام، والتصدق بها في كل عمل طيب، اليمين هذه تستخدم في أكل الطعام، لكن غير هذا النهج كان يمينك مع شمالك، وشمالك مع يمينك، مرة تأكل بالشمال ومرة باليمين، ومرة تضع يمينك في عورتك، ومرة تضعها في فمك، من يعلمك أن هذه حلال وأن هذه حرام؟ كثير من الكفار الآن يغسل عورته بيمينه، وإذا جاء يأكل يأكل بيمينه وقد غسلها، صحيح ليس فيها قذارات، لكن تستقذر معنوياً أن تضع شيئاً في عورتك وبعدها في فمك، ولو عقمته وغسلته لكنه مستقذر، فالإسلام جاء لينظم حياتك في كل جزئية من جزئياتك حتى في هذه الحالة.
ثالثاً: وكل مما يليك، أدب إسلامي، لا تكن شرهاً فتقتحم على الآخرين طعامهم، تنظر في اللحمة التي عند ذاك، وتنظر في الشيء الذي من هناك، وتمد يدك إليها، هذه قسمة من ربي، اجلس عند أي صحن، واجلس على أي لحمة؛ لأن بعضهم منذ أن يدخل على السفرة ينظر أين اللحم الجيد، ويقعد بعضهم هنا، يقال له: تعال هنا، قال: أريد هنا، هذا (جيولوجي) يعرف مكان اللحم الجيد والأرز الجيد، لا يصلح يا أخي! اجلس في أي مكان، وبعد ذلك هب أنك أكلت لحمة جيدة، وذاك هناك ما رأى إلا شحمة أو عظمة أو رأساً أو كرشة وشبعت ماذا سوف يطلع لك أنت بعد ذلك، هل اللحمة تكون في ظهرك سنام؟ أو هل ستصبح سميناً؟ والله الذي يأكل لحمة والذي يأكل الفول كلهم سواء، وبعد ذلك الذي يخرج منك مثل الذي يخرج من ذاك، ما تكون أنت ذهب أصلي وذاك ليس بأصلي.
اعلم أن هذه الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، فالإسلام يقول: وكل مما يليك، كل مما قسم الله لك، وارض بما قسم الله لك، إن كان طيباً فحظك، وإن كان قليلاً فحظك، وهذا أدب من آداب الإسلام.
أي تكريم أيها الإخوة أعظم من هذا التكريم، أن يتولى الله تبارك وتعالى بنفسه عز وجل توجيهك في مثل هذه الأمور، حتى كيف تدخل الخلاء وكيف تقضي حاجتك؟ جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أنك تدخل بالشمال، وتستعيذ بالله من الشيطان، ومن الرجس النجس ومن الخبث والخبائث، وتسمي الله ثم تدخل، وحين تنتهي تخرج وقد أخرج الله منك الأذى، فلو بقي الأذى فيك، فمن يخارجك منه؟ احمد الله أن الله أذهب عنك أذاك وأبقى لك ما ينفعك، وخلصك من هذه القذارات التي تحملها -أيها الإنسان- وتستغفر الله لأنك جلست فترة من الوقت لم تذكر الله داخل الحمام، فتخرج وتقول: غفرانك، ورد في الحديث أنه إذا خرج يقدم رجله اليمنى ويقول: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني، غفرانك) غفرانك يا رب من اللحظات التي قضيتها في الحمام ولم أذكرك فيها؛ لأنه ممنوع أن تذكر الله في الحمام.
ما ظنكم فيمن حياته كلها مثل الحمام، لا يذكر الله من الصباح إلى الليل، إذا كنت تستغفر من جلوسك في الحمام دقيقتين أو ثلاثاً؛ لأنك لم تذكر الله، فكيف بمن يقضي يومه وليله وشهره وسنته لا يذكر الله، ولا يعرف الله عز وجل، هذا مسكين، عبد وولي الشيطان، اتخذه ولياً من دون الله؛ فالشيطان إذا وجد ولياً من أوليائه يشغله، يعدهم المواعيد ويمنيهم الأماني ولكن: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [النساء:120] يركب على ظهورهم، ويتنقل على رقابهم، ويقضي حاجته عليهم، ويؤزهم {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [مريم:83] ترجه رجاً {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:84] هي أيام وليالي ثم يجدون جزاء أعمالهم عند الله تبارك وتعالى.
يقول الله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} [الأنعام:31] من المكذب بلقاء الله؟ الذي لا يعمل الواجبات ولا ينتهي عن المحرمات، ويرتكب المحرمات ويترك المأمورات هذا مكذب بلقاء الله، ولو قال إنه مصدق فلا نصدقه؛ لأن الله عز وجل قد كذبه، الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:8 - 9] وقال: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً * إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان:8 - 14] {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ} [الأنعام:31] الساعة المقصودة هنا ساعة الموت، يعني: لكل واحد منا ساعة معلومة عند الله مجهولة عندنا، إلزامية إجبارية، وإذا جاءتهم الساعة أتتكم بغتة، لا بموعد.
فكل البشر لا يعرف أحد منهم متى يموت، يقول الله عز وجل: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34] بالعلم بالمال بالجاه أريد أن أعرف أريد أن أطمئن! أنا الآن قلق لا أدري متى أموت، وأريد أن أدري متى أموت؛ من أجل أن أنام وأرتاح وقبلها بأسبوع أو بأسبوعين أتجهز وأصلي، لكن لا يدري أحد، حتى الأنبياء! حتى الأولياء والصالحون! ليس هناك شخص يَسلم، من أجل أن تبقى دائماً مستعداً محزماً فراشك على ظهرك من حين يدعوك الداعي وإذا بك إلى الجنة، أما أن تنام وما تدري متى يدعوك الداعي تقول: آه اصبروا، دعوني أصلي وأصوم، لعلي أعمل، قالوا: لا.
فات الأوان ما صليت ستين سنة وأنت قاعد وتريد أن تصلي الآن، ماذا غرك من قبل؟ وما الذي ضيعك عن دينك من قبل؟ قال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] لماذا؟ قال: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100] قال الله: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
{حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} [الأنعام:31] الله أكبر! ماذا يحصل للإنسان من اليقين عند الموت؟ تنكشف الحجب، وتزول الحواجز، ويرى الأمر رأي العين كما أراكم الآن وتروني، يقول عليه الصلاة والسلام: (والذي نفس محمد ٍ بيده إن أحدكم ليرى منزله من الجنة أو النار وهو في بيت أهله) لا يزال على السرير فينظر الجنة أو هناك أمامه، فيحصل عنده يقين لو قسم على الدنيا لكفى، لكن لا ينفع.(25/11)
التفريط في جنب الله
=6000819>حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} [الأنعام:31] وقد كذبوا بلقاء الله، وضيعوا فرائض الله، وانتهكوا محارم الله {قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام:31] تتقطع قلوبهم حسرات وتذوب أفئدتهم في أجوافهم ندماً على ضياع فرصة العمر، فرصة وحيدة ليس هناك غيرها، كل خسارة غير خسارة الإيمان والدين هينة، أما هذه الفرصة التي لا تعوض والخسارة التي ليس فيها ربح أبداً {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام:31].
والتفريط هو: تضييع الشيء لغير حساب، يعني: معك مسبحة ثم انقطعت وتطايرت حباتها وضاعت، ماذا تقول؟ تقول: انفرطت علي، تقطع واحدة وتذهب منك عشر، هذا المفرط فرط في دينه، فضاع عليه إيمانه وعقيدته، وإخلاصه، وعبادته، فهو مفرط في كل شيء، تحاول أن تجمع له من هنا وهنا فلا تجد شيئاً، لماذا؟ لأنه منفرط عليه أمره {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] قال عز وجل إنهم يقولون: {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام:31].
ثم ليتهم جاءوا وليس عليهم شيء، بل أتوا بالمعاصي فوق ظهورهم، قال عز وجل: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام:31] طول حياته بارك للمعاصي مثل (صبيح) المعاصي؛ تعرفون (الصبيح) عند أهل البادية الصبيح يعني: الثور، يقولون في المثل: (ما غبر صبيح فعلى قرنه)، يأتي الثور ويركز قرنه في الطين وبعد ذلك يرفعه إلى أعلى يظن أنه يرش التراب وهو يرش قرنه على رقبته، ثم يردها بعد ذلك ويخرج وهو ممتلئ غباراً، من أين؟ من قرنه، كذلك صبيح المعاصي الذي غبر على نفسه، ويحمل على ظهرك، تنظر إلى الحرام معصية سجلت عليك، سمعت أغاني، تكلمت بالزور، كل شيء عليك، بالعكس غضيت بصرك، صنت سمعك، تكلمت بالخير، أديت الفريضة لك، إما لك وإما عليك قال عز وجل يوم القيامة: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:31] ساءت حياتهم، ومصيرهم، وأوزارهم، وأحمالهم، بماذا أتيت؟ ماذا غنمت من هذه الحياة؟ قال: عندي عشرة ملايين، قالوا: أين هي؟ قال: وراء {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ:40] قالوا: ابحث عنها، الذي وراء لا نريده، عندك شيء هنا؟ عندي عمارات، قالوا: أين هي؟ قال: وراء، قالوا: ابعث لها وراء، ماذا عندك الآن؟ عندي منصب، جاه، أولاد، قالوا: هذه كلها هناك نفعتك، يوم كنت حياً نفعك المال ونفعك الأولاد ونفعك المنصب، لكن يوم مت ما أحد دخل معك في القبر، ولا وضعوا معك رصيداً، أو كرسيك أو الدجلة أو الثوب في القبر، من وضعوا معك في القبر؟ وضعوا معك أوزارك وعملك وما اقترفت من المعاصي، فتحملها فوق ظهرك {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:31].
هل عندك صلاة؟ أو صيام أو حج أو عمرة أو تلاوة أو أمر بالمعروف أو نهي عن منكر أو حب في الله أو بغض لله أو طلب علم؟ هذا ما ينفعك يوم القيامة، هل عندك ترك للحرام؟ هذا ينفعك، لكن ما عندك من هذا شيء، ما عندك إلا الذنوب قال عز وجل: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُون} [الأنعام:31] نعوذ بالله وإياكم من هذا النداء، (ألا) هنا أداة استهلال وتنبيه أنه ساء حملهم وساءت معاصيهم عند الله يوم خرجوا من الدنيا متوجين بغضب الله ولعنته والعياذ بالله.(25/12)
الاستمرار في العيش على الباطل
ومظاهر الخسارة وصور الخسران كثيرة، فإن المبطلين يوم القيامة يخسرون، قال عز وجل: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} [الجاثية:27] والدنيا ليس فيها إلا رجلان: رجل محق، ورجل مبطل، فالمحق من عاش على الحق ممثلاً في كتاب الله وسنة رسوله، والمبطل من عاش على الباطل ممثلاً في مناهج الشياطين والفسقة والمنافقين، فيوم القيامة ينجح أهل الحق ويزحزحون عن النيران ويدخلون الجنة، ويخسر المبطلون: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ * وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ * وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الجاثية:27 - 33] نعوذ بالله وإياكم من الخسارة، فالخسران للمبطل، وأنت أعرف بنفسك؛ لأنه واضح.
أيها الإخوة: لا يقول شخص: والله ما أعلم أنا محق أو مبطل، لا.
الباطل واضح والحق واضح، والذي على الحق يعرف، والذي على الباطل يعرف، ممثل فيك كل تصرف من تصرفاتك، من نظرك، وسمعك، ولسانك، ويدك، ورجلك، وفرجك، وبيتك، وتعاملك مع زوجتك، وتربيتك لأولادك، ومشاهداتك، وأفلامك، وشريطك، وكتابك، وزملائك، وأسلوب حياتك تعرف أنك على باطل أو على حق، فالذي على حق يكون مصبوغاً بصبغة الإيمان، والذي على باطل يكون على باطل، والذي عمله مخلوط، فهذا لا يصلح، أنت الآن عندما تقدم لك زوجتك طعاماً مخلوطاً من رز، وإدام.
ومحلبية وتفاح وبرتقال وخضرة، ثم ذهبت إلى المطبخ وخلطتها كلها (عباس على دباس) وأعطتك إياها في السفرة هل تستطيع أن تأكل؟ تقول: (الله أكبر عليك) لماذا جعلتِها هكذا؟ لماذا لم تجعلي كل شيء لوحده؟ قالت: لأنه يختلط في البطن وأنا أخلطه أمامك، تقول: لا.
أريد، أخلطه أنا بنفسي في بطني بعدما أمضغه في فمي، وكذلك: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102].
لماذا تقعد تحت عسى؟! يمكن أن يأخذك الله ثم لا تصبر على جمرة في النار؛ لأن بعض الناس يقول: أنا والحمد لله أحتفظ بالإيمان، وبالعقيدة وبالتوحيد وأقيم أركان الإسلام، وإذا كنت مقصراً فالمعاصي هذه لا تضر، وهي تحت رحمة الله في الدار الآخرة إن شاء عذب بها وإن شاء غفرها، وهذا صحيح، ولكن لماذا تجعل نفسك تحت المشيئة؟ لماذا تقعد تحت الخطر؟ لم لا تمشي في الأمان؟ الأمان أنك تمشي صح (100%)، وإذا زلّت بك القدم تتوب إلى الله عز وجل، أما أن تقعد في المعاصي تحت خطر المشيئة هذا خطر، افرض أنك أتيت يوم القيامة والله لم يغفر لك، أخذك بالحساب وحاسبك على النظرة: (من ملأ عينيه من الحرام ملأهما الله من نار جهنم) (من استمع إلى مغنّ أو مغنية صب الله في أذنيه الرصاص المذاب) إذا عامل بالربا: (الربا بضعٌ وسبعون باباً أدناه ذنباً كأن ينكح الرجل أمه) (درهم تأخذه من الربا أعظم من ست وثلاثين زنية في الإسلام) (شاهد الزور لا تزول قدمه من مجلس الحكم حتى تجب له النار) اليمين الغموس تحلف بالله كاذباً لازم غمسة في جهنم، اسمها غموس؛ لأنها تغمسك في النار، الغيبة في مجالسنا، وهي تحويل حسناتك إلى الآخرين، وتحويل سيئاتهم على ظهرك، أنت تصلي لهم وهم يعصون لك، الآن الذين تغتابهم هم يعصون الله لكن في ظهرك؛ لأنك تغتابهم وتأخذ سيئاتهم، وأنت تصلي وتصوم لكن لهم؛ لأنك تغتابهم وتحول حسناتك لهم، فلماذا تعطي الناس حسناتك وتأخذ سيئاتهم؟ اجعل سيئاتهم لهم وحسناتك لك، واشتغل بعيوب نفسك، عيوبك أكثر من عيوب الناس، وإذا بدأت تطلع على عيوب الناس، فاعلم أن عيوبك أكثر وأنت أعمى لا تراها:
لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايباً فصنها وقل: يا عين للناس أعين
لا تتصور أن الناس ما ينظرون الذي عندك؛ لأن اشتغالك بعيب غيرك ينسيك عيب نفسك، أما اشتغالك بعيب نفسك يجعلك تصلحها باستمرار، ولكن إذا نسيت نفسك، وبدأت تشتغل بالآخرين ضيعت نفسك في الدنيا والآخرة -والعياذ بالله- فالمبطل مبطل والمحق محق {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} [الجاثية:27].(25/13)
عدم الإكثار من الأعمال الصالحة
هناك صور للخسارة وهي: خسارة نقص الأعمال؛ لأن الأعمال يوم القيامة هي الموازين، فالله عز وجل ينصب موازين تزن وترجح بالخردلة، يقول الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40] {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] وبعد ذلك يصير ترجيح في الأعمال {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون:102] وخفت سيئاته، وثقلت موازين أعماله، قال عز وجل: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون:102 - 103] جاء بكفة ميزانه في السيئات كثيرة جداً حتى طاشت الكفة الأخرى كفة الحسنات ورجحت كفة السيئات قال: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:103 - 108] تنتهي المراجعات عند هذه الكلمة، فلا ينبس أحدهم ببنت شفة، وما هو إلا الشهيق والزفير، لماذا؟ قال عز وجل: {اخْسَئوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] نعوذ بالله من عذاب الله عز وجل.(25/14)
تضييع العلم وعدم العمل به والدعوة إليه
من صور الخسران يوم القيامة ما ذكره الله في سورة العصر؛ وسورة العصر هذه من أعظم السور في القرآن الكريم، يقول فيها الإمام الشافعي: لو لم ينزل الله على الخلق حجة إلا هذه السورة لكفتهم.
وهي قوله عز وجل: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] يقسم الله بالعصر وهو الدهر والزمن، ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وليس للعبد أن يقسم إلا بالله وحده، أما الله فيقسم بما شاء، يقسم بالليل فقال: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] ويقسم بالنهار قال: {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:2] ويقسم بالشمس قال: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] ويقسم بالقمر قال: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:2] ويقسم بالعصر، ويقسم بالقيامة، ويقسم بكل شيء؛ لأنه خلقه فمن حقه أن يقسم بما شاء، أما أنت فليس من حقك أن تقسم إلا بالله (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله) فالله يقسم بالعصر قسماً، والمقسم عليه الإنسان أنت وأنا وكل من على وجه البسيطة، والألف واللام هنا للجنس، أن جنس الإنسان لفي خسر، أنا في خسر، وأنت في خسر، وكل من على وجه الأرض في خسر، إلا من توفرت فيه أربع صفات: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] فهؤلاء ليسوا بخاسرين، وقد استخرج منها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أربع قواعد مفيدة درسناها في الابتدائي بعنوان: اعلم رحمك الله أنه يجب على كل مسلمٍ ومسلمة تعلم أربع مسائل: العلم.
العمل به.
الدعوة إليه.
الصبر على الأذى فيه.
أخذ هذه الأربع من الآية نفسها، العلم من الإيمان، والعمل من العمل الصالح، والدعوة من تواصوا بالحق، والصبر من و (تواصوا بالصبر)، هذا الذي آمن وأيقن ثم ترجم هذا الإيمان في عمل وصدق لا إيمان وعمل باطل، إيمان والدخان في الجيب، واللحية محلوقة، والأغاني عند رأسه، ويقول: مؤمن، مؤمن بالباطل! ما آمنت بالحق، مؤمن ولا يصلي في المسجد، وزوجته متبرجة، وينظر إلى الحرام، ويأكل الحرام: (إلا الذين آمنوا) ثم ماذا؟ (وعملوا الصالحات) هناك تلازم -أيها الإخوة- بين الإيمان والعمل، ليس هناك انفصال، والذي يدعي أنه مؤمن بغير عمل كذاب، لا بد من أن تصدق إيمانك؛ لأن الإيمان كلام، والكلام سهل، ولهذا قال الله عز وجل: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41] لأن الإيمان إذا كان من اللسان لا يتجاوز إلى العمل، ولهذا بعض الشباب الذين يلتزمون وكانوا من قبل مؤمنين لكن منذ أن حصلت القناعة في قلبه قال: التزمت ما معنى التزمت؟ يعني: دخل اليقين في قلبي وأقنعني أنه ما في الدنيا طريق إلا طريق الدين، هذا أنا أمسك فيه التزمت وتمسكت، ولما التزمت كان المغني يغني وحين أسمعه قال: لا أريد، لماذا؟ قال: حرام، رغم أنه شاب وعنده دافع، وشهوة، ومثل ما عند ذاك الذي يغني ويقطع قلبه الأغاني، لكن حب الله أعظم من الأغاني، كان ينظر إلى الحرام وعندما التزم حين يرى امرأة مباشرة يغض بصره، كان يأكل الربا والآن لو يموت جوعاً ما يعمل بالربا، أو يعمل في مكان فيه ربا، أو يأكل ربا، كان يعتدي على لحيته وكان يخجل من أن يطيل لحيته، وإذا به يتركها قال: أقعد بلحيتي بين الناس يقولون لي: خبث، الآن يربي لحيته وإذا أحد قال له شيئاً قال: هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم أفخر بها، إذا فخر الناس باتباع الشياطين، فأنا أفخر باتباع أفضل الخلق أجمعين عليه صلوات الله وسلامه، القضية ما هي قضية شعر -أيها الإخوة- قضية انتماء، وحب، وفخر واعتزاز بهذا النبي الذي أمرنا بهذه السنة، فنحن نبقيها بوجوهنا لا (ديكوراً) ولا شكلاً ولا جمالاً، وإنما اتباعاً لهدي النبي صلوات الله وسلامه عليه، هذا الملتزم الذي التزم بدين الله حصل عنده القناعة، هذا معنى العمل {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر:3] خرجوا من نطاق النفس إلى دائرة المجتمع القريب وهم الأهل، والبعيد وهو المجتمع كله، وبدأ يتواصى بالحق وينصح، يلقى هذا فينصحه ويجلس مع هذا فينصحه، ويجلس مع ذاك فيقول له: لماذا؟ يريد أن ينجح ويخرج من هذه الخسارة.
وتواصوا بعدها بالصبر؛ الصبر على ماذا؟ أول شيء الصبر على المدعو، لا تتصور أن تدعوه وأنه مباشرة سيجيبك، لا.
قد يرفض هنا برئت ذمتك فاصبر، يقول الله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35] الهداية بيد الله، تدعو الإنسان مرة ومرتين وعشراً وعشرين ومائة ولا يهديه الله؛ لأن الهادي هو الله ليست أنت، ولكن إذا أذن الله بالهداية كنت أنت السبب فيه، أما أنك تريد أن تدعو وهو يستجيب على الفور فهذا لا يكون.
إن الله عز وجل له حكمته وهو أعلم بمن يهدي، يقول الله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] ويقول: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل:37] الهداية ليست بيدك، عليك الدلالة والإرشاد، ولهذا تحتاج إلى صبر، ومن الناس من ليس عنده صبر، عنده زميل في المكتب وما عنده صبر عليه، ولهذا دعاه أول يوم وثاني يوم وثالث يوم وبعد ذلك ما صبر عليه، بعد ذلك ضاقت نفسه منه وقطعه وهجره وحوله إلى عدو له، هذه ليست دعوة، يا أخي! متى تحوله إلى عدو؟ إذا هو عاداك، أما إذا نصحته وقال: طيب جزاك الله خيراً، برئت ذمتك، واصبر مدة وذكره وأعطه موضوعاً آخر، لكن متى تهجره؟ إذا قلت له: يا أخي! هذا أمر، قال: اسكت لا أمر ولا نهي ولا تكلمني في هذا الموضوع، وأمر الدين هذا لا تناقش فيه، هذا عدو لله مباشرة تقطع علاقتك معه؛ لأن الله عز وجل يقول عن إبراهيم: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] أما ما دام يستجيب منك ويأخذ كلامك ويقول: جزاك الله خيراً، ووفقنا الله وإياك، وهدانا الله كما هداكم، استمر واصبر، وما هو شرط في هذه السنة الهداية، بعض الناس ما اهتدى إلا بعد سنوات طويلة، وبعد ذلك أنت تضرب، وهذا الضرب في هذا المكان له أثر، ولكن متى يكون المؤثر به؟ بعد ذلك بعلم الله تبارك وتعالى، فلا بد من الصبر ولذا الداعية الذي لا يصبر لا ينجح، شج وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وضرب وأدميت عقبيه الشريفة، وكسرت رباعيته، وذهب إلى أهل الطائف فطردوه، ورجع وفي الطريق قال له ملك الجبال: (إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين) لو كان مستعجلاً لقال: نعم.
دمرهم، لكن قال: (إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده) نظرة بعيدة، أمل عريض في دين الله، يقول: إذا هؤلاء قد قسيت رءوسهم فإن أملي في الله أن يبقوا أحياء؛ حتى يخرج من أصلابهم من يعبد الله، وهذا الآن حاصل، كثير من كبار السن الذين تربوا قديماً في أيام الجفوة يخرج الآن من أصلابهم شباب الصحوة، من البيوت الجاهلية الآن هناك شباب مسلمون طيبون، والآن كانت المعارك في الماضي تدور بين الأولاد والآباء الأب يريد الدين والابن لا يريد الدين، الآن المعارك بين الآباء والأولاد، الولد يريد الدين والوالد لا يريده، بعض الآباء لا يريد الدين بالمرة، وبعضهم يريد بعض الدين، يقول: لا.
مرة هب لنا على كيفنا، يعني: فصل لنا دين على قدرنا، نصلي لكن نغني، حجاب على البعيدين لكن أما الأقارب أخوك وولد عمك لا تغير علينا يا ولدي، سفرة هنا وسفرة هنا وكلما دخلت أقعد هنا وأقعد هنا، يعني: تغيير هذا! دين الله تغيير، شريعة الله تضييق عليك، الله أكبر! كيف تضيق نفسك من أمر الله، والله إذا ضاقت نفسك من أمر الله ما آمنت، يقول الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] هل حكمت شريعة الله في الحجاب؟ صعب عليك أنك تضع صحن أرز للنساء وصحن أرز للرجال، صعب هذا على أمر الله!! لكن يريدون ديناً مفصلاً مهذباً على هواهم، هذا ما يصلح لا بد من أخذ الدين جملة واحدة، ولا بد من الصبر، وهذه الأربع يسميها بعض العلماء: إطارات عربة النجاة، النجاة لا تكون إلا على عربة لها أربع إطارات: الإطار الأول: (إلا الذين آمنوا).
الإطار الثاني: (وعملوا الصالحات).
الإطار الثالث: (وتواصوا بالحق).
الإطار الرابع: (وتواصوا بالصبر).
الذي يمشي هكذا هو الرابح، لكن إذا أنقص إطاراً لا يستقيم، عنده إيمان لكن ما عنده عمل صالح، عنده إيمان وعمل صالح لكن ما يدعو إلى الله، ولا يحب في الله، ولا يصبر على طاعة الله، يمشي بنصف عربة النجاة لكن يمشي على فلان ما ينفع لا بد أن تمشي بعربتك الإيمانية على أربعة إطارات من الإيمان، والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، والصبر على الأذى في الله؛ لأن لقمان يقول لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] تغيير عادات ومألوفات الناس لا يقابل باستحسانٍ منك، شيء ألفه الناس ما يقابلونه باستحسان، لا بد يغيرون عليك ويرفضونه ويعيبون كلامك، ويقفون في وجهك، منهم زوجتك وحليلتك لما تأتي وتقول لها: تحجبي وهي طول حياتها ما عرفت الحجاب ما تقول: شكراً، بل تقول: لماذا هذا؟ يعني: ما تثق فيَّ، القضية ما هي قضية ثقة، لو أني ما أثق فيك ما كنت زوجة لي، أثق فيك لكن هذا أمر ربي، الآن شخص نقول له: صلِّ، قال: ماذا يعني: ما تثقون أني مؤمن، أنا مؤمن ولو ما صليت.
جاء رمضان ودخل رمضان وجاء شخص في الظهر(25/15)
الإشراك بالله وابتغاء منهج غير الإسلام
وهناك مظهر من مظاهر الخسارة وهو: أن يبتغي الإنسان منهجاً أو ديناً في هذه الدنيا غير الإسلام قال عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
ومن مظاهر الخسران العظيم وأختم به المجلس هو: الشرك بالله؛ خسارة ليس بعدها ربح، كل خسارة في المعاصي تتعوض بالتوبة أو بالمغفرة أو بالتهذيب أو بالتنقية في النار، أما الشرك فلا يغفره الله إلا إذا تاب الإنسان منه قبل الموت؛ وإذا مات مشركاً فإن الله قد حكم على أهله بالخسارة، قال عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] سبحان الله! أوحي إلى الرسول وإلى الذين من قبله من الرسل شريعة عامة من أول الرسل إلى آخرهم محمد، أوحي إليهم فبلغوا ونبهوا وأكد عليهم وكرر عليهم أن الشرك عظيم، وأنه إذا أشرك الرجل ولو كان نبياً {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].(25/16)
حقيقة الخسارة ومفهومها
فهذه مظاهر الخسارة التي تحصل للإنسان إذا ابتعد عن دين الله عز وجل، أما ما هي الخسارة؟ فسوف أتحدث عنها إن شاء الله باختصار.
بغير الدين تكون خسارة الدنيا؛ قلق واضطراب وحيرة وضيق وهم وأمراض خذ ما شئت في الدنيا، وعند الموت يخرج خاسراً لا يستطيع أن يقول: لا إله إلا الله، نعم إذا خرج من الدنيا ما يقدر يقول: لا إله إلا الله.
هذا خسران؛ لأن علامات حسن الخاتمة أن يقول الشخص: لا إله إلا الله، وعلامات سوء الخاتمة ألا يقول: لا إله إلا الله، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه في الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) وهذه لا أحد يستطيع أن يقولها إلا الذين عاشوا عليها، من صبغ حياته بلا إله إلا الله، وعجن نفسه حتى صارت لا إله إلا الله تسير في عروقه وتتردد مع أنفاسه، وعينه محكومة بلا إله إلا الله، وأذنه ويده محكومة بلا إله إلا الله، ولا إله إلا الله تهيمن عليه، عند الموت يقول: لا إله إلا الله، ما يحتاج من يذكره، لماذا؟ أصبحت لا إله إلا الله متكاملة فيه، لكن من عاش على غير لا إله إلا الله فإنه لا يستطيع أن يقولها عند الموت، وإذا خرج بغير لا إله إلا الله هذه علامة سوء الخاتمة والعياذ بالله.
كثير من الناس يموتون ويلهمون لا إله إلا الله، وقد أخبرني رجل من إخواننا في الله عن رجلٍ صالح مات وهو مؤذن كان يشتغل مؤذناً وحصلت له وعكة، وأصيب بغيبوبة وفقد شعوره أسبوعاً كاملاً، لا يعرف ليلاً ولا نهاراً ولا صلاة ولا شيئاً، يقول ولده: وكنت عند رأسه أشرف على تمريضه، وبعد منتصف الليل وأنا نائم عنده وهو في الغيبوبة، ولا يأكل ولا يشرب حتى أذاه لا يعرف ما يخرج منه، يقول: وإذا به يوقظني وجلس واستقبل القبلة وقال: أشهد أن لا إله إلا الله ثم وضع جنبه على الأرض ومات، ختم له بخير، من الذي علمه؟ من الذي ثبته؟ من الذي لقنه؟ هذا عمله ثبته هنا ليخرج متوجاً بلا إله إلا الله، يخرج يحمل بطاقة ورخصة مرور إلى الجنة اسمها لا إله إلا الله، جواز سفر يقدمه لرضوان ويدخل الجنة، هذا الجواز الذي ينفع.
وناس ما قالوا لا إله إلا الله، شخص يخبرني عن رجل كان يبيع ويشتري في العقارات، ولكن بغير الطريق الشرعي، وإلا فالبيع والشراء في العقار ليس فيه شيء إذا راعى الإنسان أوامر الشرع وخاف الله، صدق وبين ولا دلس على أحد ولا كذب، أما إذا خان فقد غدر والله لا يهدي كيد الخائنين، كان هذا الرجل -والعياذ بالله- سيئ في معاملاته، ولم يكن يراعي أمر الله، كان يضيع صلاته ودينه من أجل العقار، ولما جاءه الموت قالوا له: قل لا إله إلا الله! قال: على شارعين، ما يعرف لا إله إلا الله، يعرف أرضية على شارعين، قالوا: قل لا إله إلا الله قال: رخصة بلدية، ومات على شارعين جهة على جهنم وجهة على لظى، لماذا؟ لأنه عاش عليها، ومن عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.
رجل كان يعمل في حراج السيارات، وطوال الليل وهو يصيح على الميكرفون، ولما جاءه الموت قالوا: قل لا إله إلا الله قال: (خربان تربان)، قل لا إله إلا الله قال: (سكر في موية كومة حديد)، ومات.
وشخص كان يغني ومات وهو في السيارة، وعصر (الدركسون) بطنه ومات وكان يغني مع المغنية، وأتوا عليه ميتاً ومنتكساً وفي آخر لفظ من حياته والمسجل شغال على الأغنية وهو يردد بعدها ويقول: (هل رأى الحب سكارى مثلنا)، يغنى مع (أم كل شوم) (هل رأى الحب سكارى مثلنا)، لا والله ما رأى أفشل منك، نعم الآن كمل السكرة هناك لا حول ولا قوة إلا بالله.
من الآيات التي تلوتها في المحاضرة في سورة المجادلة قوله عز وجل: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:18 - 19].
ومن سورة الفرقان يقول عز وجل: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان:12] الله أكبر! تشهق وفي الحديث: (والذي نفس محمدٍ بيده! إن النار لتشهق على صاحبها كما تشهق البغلة على الشعير) تغيظاً وزفيراً عليه {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً * إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ} [الفرقان:11 - 13] نار وضيق، نعوذ بالله من النار والضيق، ومقرنين يقرنون في الأصفاد كما تقرن البقرة في الأضماد في يديها مع رجليها ورقبتها {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان:13 - 14].
خسارة عند الخروج من الدنيا حين يخرج ولا يقول: لا إله إلا الله، والله عيب أن تعيش -يا أخي- ستين أو سبعين سنة وتخرج من الدنيا وليس معك من الدنيا حتى لا إله إلا الله، أين تضعها؟ تسجلها في ورقة من أجل أن يلقنونك إياها عند الموت؟ تضعها في مسجل؟ ليس لك إلا أن تثبت عليها من الآن، تثبت عليها يثبتك الله عليها؛ لأن الله يقول: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27] يعني الآن {وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] يعني في القبر، حينما تسأل في قبرك من ربك؟ ومن دينك؟ وما نبيك؟ فتقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد.
تثبيت، من يثبت الله؟ الذين آمنوا {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:27] يضله الله عن لا إله إلا الله ما يقولها؛ حتى أن شخصاً مدخناً قالوا له: قل لا إله إلا الله، قال: أعطوني دخاناً! يريد أن يكيف حتى في القبر، لا يوجد دخان لا يوجد إلا عذاب الآن، قل لا إله إلا الله، قال: والله ما أقولها أنا بريء منها، ثقلت على لسانه وما استطاع أن يقول لا إله إلا الله، مصيبة وخسارة {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] وفي القبر يضله الله فلا يقول ربي الله، يقول: هاه لا أعلم.
وفي القبر ربح لأهل الإيمان، يكون قبرك روضة من رياض الجنة، يُفتح لك باب من عند رأسك إلى الجنة وأرجلك إلى الجنة، وعن يمينك ويسارك إلى الجنة، ويأتيك من روحها وطيبها ونعيمها، ويأتيك عملك على أحسن هيئة ويقول: أبشر بالذي يسرك، قال: من أنت فوجهك الذي يأتي بالخير، قال: أنا عملك الصالح حفظتني فحفظك الله، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.
وبعد ذلك يوم القيامة تبعث من قبرك لا خوف عليك؛ لأنك ناجح ورابح، يقول الله عز وجل: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
ويظلك الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وتشرب من حوض النبي شربة لا تظمأ بعدها أبداً، ينقطع الظمأ عند تلك الشربة وتأخذ كتابك بيمينك، ثم توزن فيرجح ميزانك ثم يقال لك: ادخل الجنة {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:70 - 71] هذا فوز عظيم في كل مراحل الحياة في الدنيا، والموت، والقبر، وعرصات القيامة، والجنة دار السعداء -نسأل الله من فضله- التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، أما بغير الإيمان وبغير الدين خسارة في الدنيا ولو معك مال فهي خسارة، وخسارة في الدنيا ولو معك منصب وعندك دنيا وكل شيء لكن لا يوجد الدين خسارة، تخسر الأمن، والراحة القلبية، وتعيش في قلق وفي حيرة واضطراب، ثم عند الموت تخرج وقد خسرت لا إله إلا الله، وفي القبر خسر البعيد من ربه وما دينه ومن نبيه، ويوم القيامة يخسر خسارة ما بعدها خسارة، يطرد عن الحوض طرداً، يأتي يريد أن يشرب فتذوده الملائكة بسياط من نار، اذهب لا تشرب من هنا، من زمهرير، من الغسلين، اشرب من الحميم والغساق، لماذا؟ لأنك كنت تشرب من المعاصي في الدنيا، ما كنت تشرب من السنة والقرآن والدين، كان مشربك معكراً خطأ من أوله إلى آخره، هناك {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:36 - 37].
ويوزن فيخف ميزانه؛ لأنه تافه رخيص لا وزن له لا قيمة له، ماذا عند العاصي إلا المعاصي، لكن الطائع عنده وزن وعنده إيمان.
وأيضاً يأخذ كتابه بشماله؛ لأنه كان يمشي خطأ، كان يمشي على الشمال، ما كان يمشي مع الله، ما كان يمشي بالاتجاه الصحيح، كان اتجاهه دائماً خطأ في خطأ، ولهذا يأخذ كتابه بشماله ويقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:25 - 27] ثم بعد ذلك لا يظله الله في ظل عرشه، ويسحب على وجهه في النار -أعوذ بالله من النار- يسحب على وجهه يقول الله: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48].
هذا -أيها الإخوة- هو الخسران المبين، فلنراجع حساباتنا مع الله، ولنصحح أوضاعنا، ومن كان مذنباً فليستغفر.(25/17)
فضائل شهر رمضان
قد أظلنا -أيها الإخوة- شهر الرحمة والغفران، جاءنا شهر رمضان، اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان، بعد يوم أو يومين يدخل علينا رمضان، شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، شهر تفتح فيه أبواب الجنان فلا يغلق منها باب والحديث في الصحيحين، وتغلق فيه أبواب النيران فلا يفتح منها باب، وتغل فيه مردة الشياطين، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.
يغفر الله فيه للأولين والآخرين من أهل هذه القبلة، التائبين المنيبين المذنبين الراجعين إلى الله عز وجل، شهر عظيم يقول فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) هذا في البخاري ومسلم.
وفي الصحيحين أيضاً: (من قام رمضان -يعني: التراويح والقيام- إيماناً -يعني: تصديقاً- واحتساباً -طلباً للمثوبة عند الله عز وجل- غفر الله له ما تقدم من ذنبه) تخرج من آخر رمضان مغسولاً كيوم ولدتك أمك ما بقي عليك ذنب واحد.
في الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: (رغم أنف من أدرك رمضان ولم يغفر له) إذا لم يغفر لك في رمضان متى إذن يغفر لك؟!! الحسنة بعشر أمثالها إلى مائة إلى ألف حسنة، متى إذن يغفر لك؟ تغل فيه الشياطين ولا يوجد فيه شيطان، لا يوجد إلا شياطين الإنس، ولهذا الذي لا يهتدي في رمضان ليس معه قرين من الجن يضله هو نفسه شيطان؛ لأنه إضلال في غير رمضان عن طريق الوسواس، ولكن في رمضان الوسواس حقك مربوط هناك، ولكنك شيطان البعيد حتى في رمضان، ولذا ترون المؤمنين الذين حبست شياطينهم طيبين، فإذا جاء ليلة العيد فك الله الشياطين فجاء اليوم الثاني فلم يصل في المسجد، ركبه إبليس ورده ينام مع زوجته، فلا يصلي في المسجد، لماذا؟ ركب عليه كما كان يركبه في شعبان، لكن لما انحبس في رمضان جاء يصلي وجاء يقرأ القرآن، بدأ يذكر الله، وبدأ عنده خير، هذا خير لعل الله أن ينفعه به ويتوب عليه إذا واظب والتزم وواصل واستمر في عبادة الله عز وجل بعد رمضان كما كان في رمضان.(25/18)
استغلال الفرص في الرجوع إلى الله
أيها الإخوة! من رحمة الله أن أتاح الله لنا مثل هذه الفرص وأعطانا مثل هذه المناسبات من أجل أن نقبل عليه، ومن أجل أن نزداد ولهذا ينادي: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولكن وللأسف الشديد فقد فهم الناس من رمضان غير ما يريده الشرع منهم، فهموا أن رمضان شهر الأكل فقط، ولهذا من الآن يعددون الأكلات وكل امرأة تقدم لزوجها قائمة بيان (كرتون محلبية) و (كرتون موز)، و (كرتون لوز)، من كل شيء (كرتون)، وكم تأكلون؟ كم نأكل وجبات في رمضان؟ نأكل فيه وجبتين، فطور وسحور، وفي غير رمضان فطور وغداء وعشاء، إذن مصروفنا الذي في رمضان أقل من مصروفنا في غير رمضان، لكن بالعكس بدل ما تأكل وجبة فيها شكل أو شكلين لابد أن تكون عشرين شكلاً، يخرج من الصباح إلى الظهر يقضي الحاجات، وهي من الظهر إلى المغرب تطبخ، ولهذا بعض النساء ما تقرأ من القرآن آية واحدة لماذا؟ مشغولة بالطبخ، شهر تلاوة وعبادة وتراويح وقرآن وذكر، لا.
حولناه شهر أكل و (دحس)، (يدحس) الشخص بطنه من المغرب إلى العشاء، ثم يقوم محملاً لا يستطيع أن يقوم، وبعد ذلك يريد أن يصلي التراويح، لا يستطيع لصلاة العشاء ويبدأ بالتراويح وإذا به يذم نفسه متى يصل ثم يبحث له عن إمام يصليها في أربع دقائق، وإذا لقي شخصاً يصلي صلاة جيدة قال والله: (أفتان أنت يا معاذ) هذا طول علينا، هذا نفر الناس من الصلاة، وإذا نظر شخص الله أكبر الله أكبر قال: (الله يذكره بالخير ذاك المطوع خفيف الدم، صلاته جيدة مثل الحلاوة) يعني: مثل (قدر الضغط) يطبخها ويرجع إليها بعد خمس دقائق، لا حول ولا قوة إلا بالله، لماذا؟ لأنه ما عرف من رمضان إلا الأكل، هو مستعجل من أجل أن يرجع (يدحس) الباقي ويملأ بطنه من المغرب إلى الفجر، ثم ينام من الفجر إلى العصر وقام من أجل أن يملأ، شغلته أكل فقط، أو يذهب إلى السوق المركزي ويأتي أو يذهب الأسواق ويأتي بفواكه ويحمل السيارات.
سبحان الله!! الله شرع الصوم لنجوع أو لنأكل؟ شرعه لنجوع ولنحس بألم الجوع، ونعرف أن هناك من الفقراء من يعيشون جائعين صائمين طوال الزمان، فالله أمرنا أن نجوع شهراً من أجل أن تحرقنا بطوننا فنشعر بألم الجوع لمن يجوع طوال العام ونعطيه، ولهذا نقول: رمضان كريم، ما معنى كريم؟ يعني: أن نصير نحن كرماء، ليس كريم من أجل أن نأكل، تجده يجمع الأكل ماذا فيك؟ قال: يا هذا رمضان كريم دعنا نكون كرماء، وليس معنى هذا أنك ما تعطي أهلك، أعطهم ليس هناك بأس لكن بمقدار، ويأكلون أما أن تقضي على عشرة أشكال أو خمسة عشر شكلاً أو عشرين شكلاً ثم تأكل من كل شكل قليلاً والباقي يسكب في الزبالة هذا حرام يا عباد الله.
كثير الآن يفتح الحبة البرتقال ويأكل جزءاً منها، ويفتح الموزة ويأكل رأسها، ويأكل تفاحة يأخذ منها حبة أو جزءاً منها، و (المحلبية) يأخذ له ملعقتين أو ثلاثاً والباقي يرميه، والعيش يكسره ويأخذ كسرة منه والباقي يرميه، والأرز يأكلون من طرفه والباقي يرمى به، كل شيء يرمونه لماذا؟! هذا هو الإسراف، إن الله غيور على النعمة -أيها الإخوان- إذا لم نرعها ونحاول أن نقلل ونقتصد في الطبخ والزايد نرسله لمن يجوع الآن من إخواننا المجاهدين في الأفغان وهذه رسالة من الشيخ المشرف على جمع التبرعات الشيخ/ محمود محمد باحاذق في جدة يطلب أن يحث الناس على هذا الإنفاق -أيها الإخوان- هناك من الأسر الفقيرة من إخوانكم الأفغان من يموتون جوعاً، بعض المجاهدين يبيع سلاحه من أجل أن يشتري لأولاده عيشاً، العيش الذي يأكلونه ليس مثل عيشكم، أنت لما تأتي إلى الفرن وتجد القرص موجوداً تقول: لا أريد هذا، لماذا؟ قال: أريد حاراً، هو حار وما تأكله إلا وقد برد، لكن من زيادة البطر، هذا لا أريده؛ لأنك أخرجته من قبل دقيقتين أريد واحداً حاراً، وبعد ذلك يبرد وآكله، حسناً هذا بارد كله من الآن قال: لا.
هل تدرون ما هو طعام الإخوان هناك؟ أكياس من العيش الناشف له عدة شهور تأتي عندهم فيطحنونه على الماء ثم يأكلونه.
تموت الأسد في الغابات جوعاً ولحم الضأن تأكله الكلاب
نرمي لحم الضأن للكلاب عندنا والأسود يموتون جوعاً، فإنا الله وإنا إليه راجعون!(25/19)
تعليم الناس وتذكيرهم بفضائل هذا الشهر وما يجب عليهم فيه
فنريد -أيها الإخوة- أن نفهم زوجاتنا وأولادنا في بداية شهر رمضان لما تقدم لك كشف الحساب فإن قلت: نأتي بشربة فقل: آتي علبة أعطنا مكرونة أعطيكم علبة، أما أن أعطيكم كرتون شربة، شخص طلبت منه امرأته كرتون قطر الموز؛ قطر الموز العلبة الواحدة تكفي شهرين، لأنها قطرة ريحة على المحلبية، لكن تريد كرتون الدنيا كلها تكرتنت لا حول ولا قوة إلا بالله، وجاءك (الكرتون) هذا الزوج، وذهب يملأ كراتين وامتلأت الدنيا وضاع ديننا وضيعننا أموالنا في شهوات بطوننا، وما عرفنا إلا أن شهر الصوم شهر الأكل فقط، لا قل لها هذه ثلاثة آلاف ريال أو ألفين مصروف البيت لكن نريد أن نبقي شيئاً لله عز وجل، فنريد أن نفطر إخواننا المجاهدين الأفغان، وهناك مشروع عند الإخوان هنا إنه إفطار الأسرة في الأفغان ثلاثين يوماً بثلاثمائة ريالٍ، كل يوم بعشرة ريالات، نصف دجاجة بخمسة ريالات، وكيلو أرز بريال ونصف، وكيلو دقيق بريال ونصف المهم عشرة ريالات، اعملي وجبة كاملة فطور وسحور لأسرة مكونة من خمسة أو ستة أفراد في أفغانستان بثلاثمائة ريال كل يوم عشرة ريالات، هل تريد أن تفطر أسرة وتنال أجرها، ومن فطر صائماً كان له مثل أجره دون أن ينقص من أجره شيئاً، أي نعم، قل: أريد أن أفطر عشر أسر أو خمس أسر هذه ثلاثة آلاف ريال ألف وخمسمائة نأكلها، وألف وخمسمائة نفطر بها إخواننا المجاهدين ونأكلها بين يدي الله يوم القيامة، هذا أعظم عمل، هذه واحدة.
أيضاً فهم الناس من شهر رمضان أنه شهر السهر وشهر اللعب، فبمجرد دخول الشهر يبدءون في تنظيم (البشكات)، وتسجيل وإقامة الحلقات، حلقات (البلوت) والسهر على الأرصفة، والمقاهي، والكرنيش، من أجل أن يسهر يقول: نريد أن نسهر في رمضان، فيسهر على غير طاعة الله وعلى غير ذكر الله عز وجل، بينما كان المفروض عليه أن يسهر في قيام وذكر، وعبادة، وبقية النهار يشتغل في أمور حياته، لا تقل الليل سهر والنهار نوم فمتى نحس بالصوم؟ وهذه مصيبة لا حول ولا قوة إلا بالله.(25/20)
دعوة الغارقين في الدنيا للرجوع إلى الله
أيضاً هناك مسئولية على إخواننا الدعاة الطيبين الملتزمين أمثالكم تجاه إخواننا الذين يجلسون في الأرصفة، والكرنيش، والمقاهي أن نحمل لهم الدعوة يعني: لما تنظر إلى مجموعة من الشباب أربعة أو خمسة وهم جالسون يدخنون أو (يعزفون على العود) أو معهم طبل، أو جهاز، أو يسمعون أغانٍ، أو يلعبون ورقة وأنت معرض، مر على أي مكتبة إسلامية واشتر لك أربعة أو خمسة أشرطة على عددهم وبعد ذلك وزعها عليهم، وإذا كان لا يوجد معك نقود قف عليهم وقل: السلام عليكم، طبعاً يقولوا: وعليكم السلام، بعد ذلك ربما يقولوا: ماذا تريد؟ ويظنون أنك تتغير عليهم أو تأتي تشتكيهم أو تريد أن تأخذهم إلى (الهيئة) أو غير ذلك، أي نعم أنت من حين تقف قل: السلام عليكم، واضحك لهم، مثل الطبيب الذي يضحك للمريض، هم سوف يقولون: وعليك السلام، ماذا تريد؟ قل: لا شيء أنا زميلكم وأخوكم في الإسلام مررت وأريد أن أجلس معكم أتسمحون لي أن أجلس معكم، سوف يقولوا: تفضل، لماذا؟ لأنك أتيتهم بأدب من حين ما تجلس معهم قل لهم: كيف حال الإخوان طيبون ماذا تعملون والله نلعب، جيد! أنا أريد أن ألعب معكم ما رأيكم؟ أنا أريد ألعب ماذا تلعبون؟ بلوت؟ أوه! أنا حريف في البلوت، ها ألعب معكم؟ قالوا: إيه تلعب معنا، ينبسطون لك، قل: حسناً قبل اللعبة عندي كلام ممكن كلمتين فقط، يقولون: تفضل تعطيهم وتقول: يا إخواني! ما هذه الحياة؟ ولماذا نعيش؟ على ظهرها؟ ولماذا خلقنا الله؟ وكيف مصيرنا يوم نموت ونلقى الله؟ هذا الكلام لما تدخله في قلوبهم ما سمعوه وما سمعوا شريطاً وما حضروا محاضرة، مساكين مضللين، يدخل الكلام في قلوبهم يقومون معك إن شاء الله، بعد ذلك بعد ما تنتهي قل: أريد أن ألعب لكن لا أستطيع يا إخوان، تسمحوا لي أن أنصرف، فيقولوا: تفضل، أنت أقمت عليهم الحجة، يأتي آخر بعدك ويقعد معهم ويعطيهم كلمتين، ويأتي الثالث يقولون: طيب الناس كلهم كذا ونحن نلعب والناس على الدين، والإيمان، والعمل الصالح، لماذا لا نكون مثلهم، والله هذا كلامهم صحيح، يبدءون يشترون شريطاً يسمعون كلاماً طيباً ويحضرون المحاضرات ويذهبون إلى المسجد.
هذه -أيها الإخوان- مسئوليتنا تجاه هؤلاء، وليس بالضرورة أن يهتدي كلهم على يديك لو الجلسة فيها خمسة أشخاص وواحد استمع منك طيب، وإذا لم يستمع إليك أحد فقد برئت ذمتك وأعذرت إلى الله عز وجل.(25/21)
التوسع في تهذيب الأخلاق في رمضان
شيء أختم به المجلس وهي قضية التوسع في الأخلاق في رمضان، رمضان شهر تهذيب الأخلاق، والانتصار على النفس، والتمرد على الشهوات والمباحات، والحلال فضلاً عن الحرام، ولذا جاء في الحديث وهو في الصحيحين قال: (فإن سابه أحد فليقل: إني صائم) أخلاقك هادئة، وأعصابك باردة، ولا أحد يستثيرك أبداً، وإذا أغضبك شخص واستثارك لا تغضب عليه ولا تنفر منه؛ لأنك صائم، وإنما تقول: جزاك الله خيراً، سامحك الله -يا أخي- أنا صائم ولا أستطيع أن أقول شيئاً، لماذا؟ لأنك متمرد على الشهوات، فكيف تقع في هذا، لكن الواقع الآن والذي يحصل أن الناس كلهم غاضبون في رمضان، لا تقرب منه سيذبحك، يا ويلك إن دخلت على مدير إدارة أو موظف تراجع بعد الظهر، حتى الفراش يقول: لا تدخل عليه الآن؛ لأنه صائم ورمضان كريم، فيضع عمامته على فمه، وإذا أتيت تنظر إليه وتسلم عليه ما يرد السلام، لماذا؟ قال: رمضان كريم، اذهب عنا، رمضان كريم يعني تضارب الناس، من أجل أن بطنك خاوية، يعني: الذي يتحكم في أخلاقك ومشاعرك بطنك، إذا كانت بطنك ممتلئة أنت مبسوط، وإذا بطنك ليس فيها شيء فأعوذ بالله.
رمضان كريم يعني أخلاقك كريمة، مراجع غضبان من مراجعته، ودخل عليك وأنت جالس في المكتب وقال: أنت مقصر وأنا كل يوم آتي ما ألقاك والله أشتكيك، وأنت صائم ماذا تقول له؟ تقول له: جزاك الله خيراً، صدقت أنا مقصر، وأنا فعلاً عندي ظروف، وأنا صائم الآن لا أستطيع أن أرد عليك، أين معاملتك يا أخي؟ معاملتي عندك يا شيخ! أنت الذي أخرتها، أنجزها الآن أين هي؟ وأذهب لمتابعتها حتى أنجزها له، لماذا؟ لأني صائم ما أنتقم منه، لكن عندما أكون شكلاً آخر أين معاملتك؟ عندي.
طيب تعال غداً وذهب يبحث لها ومزقها، وذهب لصاحب الوارد قال المعاملة رقم كذا أتتني كذا استلمتها أنا، قال: نعم استلمتها توقيعك عليها، قال: لا ليس توقيعي هذا، هذا مقلد عليه، ما رأيتها وهو قد مزقها، فإذا جاء المراجع من غده قال له: المعاملة عندك.
قال: ليست عندي.
قال: موقع عليها، قال: ذهبت أمس أبحث عنها أو انظر توقيعي فإذا هو ليس بتوقيعي، شخص ضيعها وزور التوقيع، لماذا؟ وهو يقول: إنه صائم هذا الكذاب، يمزق معاملات المسلمين ويعمل غشاً على الناس ويكذب على الله، لماذا؟ لأنه ما عرف الصيام حقيقة.
فنريد -أيها الإخوة- أن نفهم من الصيام أنه تهذيب للأخلاق ورفعة للنفس وإعطاء وبذل، وفي الحديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فلهو أجود بالخير من الريح المرسلة).
هذه -أيها الإخوة- بعض المعاني عن رمضان الكريم.(25/22)
نصيحة للمدخنين في استغلال شهر رمضان بترك التدخين
نصيحة لإخواننا الصالحين الذين نحبهم في الله، والذين هم مبتلون بالدخان أو الشيشة إلا أن معهم الآن فرصة للتوبة إلى الله منها في رمضان، فكما استطاع أن يمسك عنها من السحور إلى الإفطار كم ساعة؟ أربعة عشر ساعة، ونفسه ماشية مثل الحمار لا تقول كلمة، لماذا؟ لأنه قهرها، هل يستطيع في الظهر أن يأخذ له سيجارة؟ لا يستطيع ولو نفسه توسوس لا يستطيع يوسوس لماذا؟ لأنه منتصر عليها، لكن إذا أفطر أتت إليه وقالت: هيا أفطرت، لا قل: الذي حرمها وأنا صائم يحرمها وأنا مفطر، إلى متى، والله ما أشربها، واليوم الثالث أو الرابع يأتيك صداع وزكام خذ لك حبة نعناع في جيبك، ومسواك وادع الله، وسلمت من عذاب الله ووفرت صحتك ووفرت مالك وأرضيت ربك، وكنت قدوة صالحة لأولادك، وكنت قدوة صالحة لمجتمعك، وصرت رجلاً ربانياً طيباً، أما دخان تدخن على من؟ تحرق ريالك وتغضب ربك، وتخرب جوفك، وتقوي مصانع الأعداء؛ لأن أكثر مصانعهم دخان؛ لأنهم خبثاء ما عندهم إلا خبث -والعياذ بالله- وتكون قدوة سيئة لأولادك ودينك كل هذا خسارة عليك سواء شيشة أو دخاناً؛ لأن بعضهم يقول: أبشرك تركت الدخان لكن وقعت في الشيشة، هذه ألعن من تلك -والعياذ بالله- وكلها خبيثة والله حرم الخبائث وقال: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157].
- وفي الختام -أيها الإخوة- هذا كتاب جاءنا من فضيلة الشيخ شيخنا وحبيبنا الشيخ/ سعيد بن عبد الله الدعجاني حفظه الله، ومتعنا بحياته، وبارك في عمره، وهو مشرف الآن على مشاريع خيرية في هذا البلد، ومن ضمنها المشروع الخيري لإعانة الشباب المتزوجين، وهذا المشروع -أيها الإخوة- سبق أن تكلمت معكم فيه وقلت: إنه من أهم المشاريع الخيرية التي ينبغي أن نساهم فيها، وأن يكون لنا دور في دعمه، وأن يكون لنا ولو لبنة واحدة في بناء أسرة مسلمة؛ لأن الشاب الذي يريد أن يعف نفسه ويكمل دينه وليس له مال، ثم يأتي الصندوق فيمده بقرض، أو يعطيه إعانة ولك منها عشرة ريالات، أو خمسة، أو خمسون، هذه لبنة في بناء أسرة إسلامية قامت على دين الله لك ثوابها إلى يوم القيامة، فنرجو منكم المساهمة وهناك صناديق ستكون عند الأبواب للمجاهدين الأفغان ولهذا المشروع.
وأسأل الله أن يتقبل منا ومنكم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(25/23)
قوارب النجاة
إن كثيراً من الناس اليوم يبحثون عن قوارب النجاة في هذه الحياة الدنيا التي هي دار فناء، فمنهم من يريد أن يؤمن مستقبله، ومنهم من يريد أن يؤمن عيشة أولاده إلى غير ذلك، ولكن القليل منهم من يبحث عن قوارب النجاة التي توصله إلى الآخرة القارب الذي ينجي العبد من ساحل جهنم ويدخله إلى جنة الله سبحانه، وإن من أعظم القوارب المنجية تلاوة القرآن الكريم وتدبره، وإقامة الصلاة كما شرعها الله سبحانه، وذكره سبحانه في كل وقت.(26/1)
سبيل النجاة في الدنيا والآخرة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أولاً: أشكر رئيس نادي الوديعة وهيئة الإدارة على إتاحة هذه الفرصة المباركة؛ لنلتقي في هذه الليلة المباركة في سمر إيماني رمضاني نصل فيه عبادة الصيام بعبادة التراويح والقيام، بعبادة السمر الإيماني في روضة من رياض الجنة تحفنا فيها الملائكة، وتغشانا الرحمة، وتنزل علينا السكينة، ويذكرنا الله عز وجل فيمن عنده؛ لأن التكامل في حياة المسلم مطلوب، وهو يعيش في هذا الشهر العظيم حياة روحية عظيمة يقضي يومه في الصيام، ثم يقضي جزءاً من ليله في التراويح والصلاة والقيام، وهو أيضاً مطالبٌ بأن يقضي سمراً مفيداً نافعاً له في دينه ودنياه، فجزى الله الإخوة القائمين على أمر النادي خيراً.
وفي الحقيقة هذا هو الوضع الطبيعي للأندية، وهذه هي الوظيفة الرئيسية لرعاية الشباب؛ لأن النادي مركز تربوي يهتم برعاية الشباب اهتماماً متكاملاً في جميع مناحي الحياة، لا يغلب جانباً على جانب، يهتم بأرواح الشباب وبعقائدهم وبدينهم وبإيمانهم وبثقافتهم، كما يهتم بأجسادهم وأجسامهم، والناس يفهمون رسالة الأندية فهماً خاطئاً، ولذا يقصرونها في الجانب المادي، وأن النادي فقط مركز لتربية الأجساد، ولا يظنون أن من واجبه أيضاً حماية الأرواح؛ لأن الجسم لا قيمة له إلا في ظل صلاح الروح.
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتطلب الربح مما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ
الروح راكب، والجسد مركوب، والإكرام دائماً للراكب، فإذا أكرمت المركوبة وأهين الراكب كان هذا قلباً للحقائق، فلو كنت ضيفاً وجئت إلى مضيفك كان الناس في الماضي على الحمير والجمال والبغال، فمن إكرام الضيف: إكرام دابته، لكن إكرام الضيف بما يليق به، وإكرام الدابة بما يليق بها، لكن ما ظنكم لو أن ضيفاً أتى على دابته إلى مضيفه فأدخل الدابة في المجلس، وأخذ بيدك وأدخلك في الصالة وربطك برجلك ووضع لك علفاً، وأخذ الحمار وأدخله المجلس وأعطاه الرز واللحم، هل هذا عرف حقيقة الأمر؟ ولو ادعى وقال: يا أخي! أنا أكرمك، تقول: صحيح أنت تكرمني لكن لا تعطيه كرامتي، أكرمه بما يليق به، وأكرمني بما يليق بي.
وكذلك هذا البدن مركوب، والراكب الروح، فإذا أكرمنا ونعمنا وريضنا وعالجنا وحفظنا الجسد، ثم أهملنا الروح، بل ليتنا أهملناها فقط، وإنما سممناها، وقتلناها ونحرناها وعذبناها، عاش الإنسان في قلب للموازين، يعيش في عذاب بروحه مهما تنعم جسده، وهاهي البشرية تعيش هذا العذاب، يقول الله عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] وإن سكن العمارات، وامتطى أحدث الموديلات، وتزوج أجمل الزوجات، وامتلك ملايين الريالات؛ لأنه إنما يرفه بهذه الإمكانيات عن كائنه الجسدي، أما كائنه الروحي وهو أهم شيء في عنصريه فلن يجد سعادة إلا في ظل الدين والإيمان الذي إذا فقده فقد السعادة.
وها هي البشرية اليوم تفقد سعادتها وهي تعيش في أوج قمتها المادية، حطمت المادة وسخرتها وفجرتها، واستخدمتها أعظم استخدام، وحققت من الإعجاز والإنجاز العلمي ما يبهر العقول، ولكن على حساب الروح، المادة في تطور والروح في تأخر، فماذا حققت؟ حققت الشقاء والعذاب، وها هم في أوروبا وأمريكا والدول المتطورة يعيشون حياة القلق، حتى يقول علماؤهم ومفكريهم بأنهم لا ينامون إلا بفعل الحبوب المخدرة، لا يوجد نوم، قلق مستمر وعذاب، وهذا وعد الله عز وجل حين يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].
فبناء الشباب في الجزئيتين المتكاملتين: بناء روحه عن طريق الثقافة الإسلامية، والمحاضرات الإيمانية، وإقامة الشعائر الدينية، هذا مطلوب في النادي كمركز تربوي، إلى جانب حماية جسده عن طريق الألعاب الرياضية التي لا تتعارض مع مبدئها الأصلي الذي هو عقيدته ودينه وإسلامه، هذا هو واجب الأندية، والحمد لله أننا نلمس هذا الاتجاه بشكل واضح في جميع الأندية الموجودة في المملكة مما يدل على اهتمام القائمين على أمرها، فبارك الله فيهم وفي جهودهم، ونسأل الله عز وجل أن يحقق الخير لأبناء المسلمين على أيديهم إنه على كل شيء قدير.
أما محاضرة هذه الليلة؛ فهي بعنوان: "قوارب النجاة" هذه الحياة -أيها الإخوة- بحر هائج ومحيط متلاطم ينزله الإنسان؛ فإما أن يسبح فيه وينجو، وإما أن يهلك فيه ويغرق، ولا خيار للإنسان حينما جاء إليها، يقول أحدهم:
جئت لا أدري من أين ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري ولماذا لست أدري؟ لست أدري
جاء إلى هذه الحياة وهو لا يدري لماذا جاء إليها، ولا إلى أين سيذهب بعد أن يؤدي دوره على مسرحها؛ فتولد عن هذا الجهل العذاب والشقاء والضلال والحيرة والقلق والاضطراب، مثل من يعيش في صحراء لا يدري إلى أين يتجه، هذه الحياة -أيها الإخوة- جئنا إليها، ونحن على يقين أننا سننتقل منها، ونحن مسافرون منذ أن وطئت أقدامنا على ظهر هذه الحياة، وما من يوم يمر ولا ساعة ولا شهر ولا سنة تدور إلا ونحن نقطع مرحلة من مراحل أعمارنا على هذه الحياة، ونقترب من المصير المحتوم الذي سنفاجأ به في نهاية المطاف وهو الموت، وهناك ننزل من مسرح الدنيا ونعامل في الآخرة على ضوء سلوكنا في هذه الدار، إما إلى الجنة وإما إلى النار.
الموت باب وكل الناس داخله يا ليت شعري بعد الباب ما الدار
وقال الآخر:
الدار جنة عدن إن عملت بما يرضي الإله وإن خالفت فالنار
هما محلان ما للمرء غيرهما فاختر لنفسك أي الدار تختار
ليس هناك في الآخرة من دار إلا الجنة أو النار، وأنت في هذه الدنيا تسير، وسيرك فيها يجب أن يكون فيه نوع من التوقي والحماية؛ لأنك معرض فيها لمعاطب ومشاكل، والله أوجدك على ظهرها وجعل لك هذه المعاطب، وأمرك بالتوقي وبالتقوى حتى تصل سالماً إلى جدار الموت، أما إذا لم تتوق ووقعت في حفرها وأشواكها وحبائلها وزجاجاتها ومعاطبها؛ فإنك سوف تعطب، وسوف تنالك هذه الجروح، ولكن لن تشعر بها إلا إذا وقفت عند الموت تريد النزول وإذا بك معطل من كل جانب، عينك وأذنك ويدك ورجلك معطلة ومسمومة بالحرام، وإذا بك مدمر في كل جزئياتك، وهناك تطلب الرجعة من أجل التصحيح، فلا يستجاب إلى طلبك، كما قال عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99] يطلب الرجعة ليصحح الوضع مع الله وليتق الله، لكنه فوت الفرصة فلا مجال له، قال عز وجل: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101].
هذه الحياة يشبهها العلماء بالبحر المتلاطم، وليس من وسيلة للنجاة فيها إلا عن طريق قوارب النجاة، والقوارب موجودة ومتوفرة، وبإمكان كل من أراد أن ينجو من محيط هذه الحياة وبلياتها ومصائبها أن ينجو، وإذا تعلق وركب في القوارب نجا، وإذا أهمل الأسباب وعطل الوسائل وعاش معتمداً على الأماني هلك، والطالب في الجامعة أو المرحلة الثانوية أو المتوسطة أو الابتدائية يهتم بالدراسة من أول العام، ويحصل ويجتهد، ويحل الواجبات، ويحضر المحاضرات، ويلخص الدروس، ويراجعها أولاً بأول، ويستعد للمذاكرة، حتى إذا جاءت ساعة الصفر ودخل صالة الامتحان كان معبأً بالمعلومات التي اكتسبها خلال عامه الدراسي، فيجيب على الأسئلة، ويقدم الورقة مملوءة بالإجابة الصحيحة، ويتوقع النجاح والتقدم في درجات العلم، هذا هو المنطق؛ لأنه أخذ بالأسباب، وركب في قوارب النجاة من الامتحان.
لكن ما ظنكم في طالب بليد مهمل لم يحضر درساً، ولم يتابع محاضرة، ولم يحل واجباً، وإنما اكتفى بالأماني واللعب والفوضى والبلادة وعدم المتابعة، وفي آخر العام حينما علق الجدول قيل له: هذا الجدول علق، انتبه، قرب الامتحان، قال: دعونا من التعقيدات ودعونا نعيش فقط، إذا جاء الامتحان يفرجها الله، وأخذ الجدول ومزقه، وفي أول يوم من أيام الامتحان أخذ قلمه وذهب إلى الامتحان وعقله فارغ من المعلومات ودخل إلى الصالة، وحينما قعد على الطاولة وسلم ورقة الأسئلة وقرأها، وإذا به لا يعرف جواباً ولا حرفاً واحداً، فما كان منه إلا أن رفع إصبعه ودعا رئيس اللجنة، وقال: من فضلك أريد أن تعطيني ساعة أخرج إلى الخارج أنظر في الإجابة وآتيك، ما رأيكم هل يطيعونه في الدنيا؟ ما سمعنا بهذا، ما رأيكم لو أطاعوه؟ لو أن رئيس اللجنة أخذته الرحمة، وقال: ما دام أنك تعبان ولا تعرف فلا مانع، هذه الورقة ولك ساعة واحدة، خذ الدفتر وأجب على الأسئلة وتعال بها، هل تبقى هناك قيمة للامتحانات؟ السنة الثانية الطلاب جميعهم لن يذاكرو، ويقولوا: سنفعل مثل زميلنا هذا، ونأتي في آخر السنة ونطلب من الأستاذ ونخرج فنجيب على الأسئلة لماذا نتعب طوال العام؟ وبالتالي تتحطم العلوم والمعارف، ولا يبقى علم أبداً في الأرض، لماذا؟ لأن الناس سيكونوا جهلة، يحملون شهادات فارغة من المضمون؛ لأنهم ما ذاكروا ولا درسوا، وإنما يجلسون يلعبون إلى آخر السنة، ومن ثم ينقلون الأسئلة من كتاب الإجابة ويحضرونه وهم لا يفهمون ما فيه، هذا لا يصير أبداً في عرف الناس، فكيف يمكن أن يصير عند الله عز وجل؟ كيف تتصور أن تعيش عبداً لشهواتك، وملبياً لرغباتك، ومعانداً لمولاك، وقاطعاً لبيوت ربك، هاجراً لكتاب ربك، ثم تتمنى الأماني وتقول: الآخرة إن شاء الله يحلها حلال، مثلك كمثل هذا الطالب البليد الذي لن يجاب إلى ما يطلب، كما قال الله عز وجل عنهم أنهم يقولون إذا دخلوا ال(26/2)
حال فريق اليمين والشمال يوم القيامة
لا تظنن أنك مضيع، والله ما من كلمة ولا خطوة ولا عمل تعمله إلا وهو مسجل عند الله عز وجل، يقول الله عز وجل: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6] أنت نسيت كل شيء في حياتك، هل تذكر شيئاً مما تم خلال ذلك اليوم من أعمالك؟ هل تذكر المعاملات التي مرت عليك؟ هل تذكر ماذا تسحرت أو أفطرت، ومن قابلت أو زرت وزارك؟ لا، بل تنسى، هل تذكر قبل شهر أو قبل سنة أو قبل سنواتك كلها؟ لا.
لكن الله لم ينس شيئاً: {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6] نسيت لكن الله لا ينسى: {فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:52] كل شيء مسجل ستجده بين يديك في يوم القيامة؛ فإما أن ترفع رأسك: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً} [آل عمران:30] وتأخذ كتابك بيمينك وتقول: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] مثل الطالب المجد الذي يأخذ شهادته ويرفعها وهو في الطريق، بعض الطلاب وهو يمشي في الطريق لا يعرف أحداً لكن يري الناس وهم لا يعرفوه، يقول: أنا ناجح، ونحن ما علينا منك ولو أنك ناجح، أنا أذكر مرة إنى كنت سائراً في الشارع وإذا بأولاد خرجوا من المدرسة يبشروني وأنا لا أعرفهم وهم لا يعرفوني، لكن من شدة فرحتهم بالنجاح كل واحد يقول: أنا ناجح، قلت: مبروك.
فيقول الإنسان يوم القيامة: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:20] هذه شهادتي: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] فعملت صالحاً: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:21 - 24] ليس كلوا واشربوا بما فكرتم، أو جمعتم، أو أخذتم من مناصب، أو وفرتم من جاه، لا.
هذه لا تنفع عند الله يوم القيامة ولا تسقي صاحبها ماء، جاهك ومنصبك ونسبك ومالك وأولادك ومنزلتك وسمعتك، دعاية الناس لك، وثناء الناس عليك، ومحبتهم لك لا ينفع عند الله شيء إلا العمل الصالح.
والعمل السيئ يضر، فيقولون: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} بالأرصدة التي عملتموها في أيامكم الخالية.
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة:25] أخذ الشهادة باليسار، فلا يري الناس، مثل الطالب الذي يأخذ شهادته، وإذا بها مملوءة بالدوائر الحمراء، راسب! ما رأيكم يذهب يريها أهله؟ لا.
يأخذها ويضعها في جيبه، وإذا ذهب إلى البيت، قالوا: بشرنا، عساك ناجح، قال: لم تظهر النتيجة، وهو يعرف أنها ظهرت، لكن يريد يمهد للفشل، وذهب اليوم الثاني ورجع إليهم، هاه؟ قال: ظهرت، قالوا: بشر، قال: يقولون إنهم سمعوا اسمي، قالوا: إن شاء الله خير غداً تتأكد، وذهب غداً وأهله ليسوا فرحين عرفوا أن فيها شيئاً، من يوم أتى بالخبر من أول يوم لا يوجد خبر صحيح، جاء في اليوم الثالث، هاه؟ قال: الحمد لله أبشركم كلها تمام ما عدا مادتين فقط، الحمد لله، يحمد الله على الفشل الغبي، ولكن والده نظر وإذا بها ثمان! ما المقصود بالمادتين؟ قال: المادتان صعبة أما البقية فهي يسيرة، هذا البليد في الدنيا يخجل من الناس ومن أبيه وأمه؛ لأنه سقط، وسقطة الدنيا يسيرة، مثل الذي يسقط من على الطاولة إلى الأرض، هناك دور ثانٍ، وإذا لم يكن هناك دور ثانٍ فهناك سنة ثانية، وإذا لم يكن هناك سنة ثانية فالدراسة ليست ضرورية، أذهب وأتوظف ولو حتى في حجر وطين.
لكن سقطة الآخرة سقطة من الدرجات العلى إلى دركات النار، سقطة ما بعدها سقطة، ليس هناك درجة ثانية ولا دور ثانٍ ولا غرفة ثانية، وإنما نار وعذاب أبدي نعوذ بالله من النار.
فهذا الذي يأخذ شهادته بشماله وكتابه الذي عبأه ولطخه بالجرائم والمنكرات والمعاصي والسيئات، فإذا رآه، قال: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة:25] يتمنى أنه ما رأى هذه الشهادة: {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:26] يقول: ليتني لم أعلم عن هذا الحساب، ولا نوقشت إياه، ولا اطلعت عليه: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:27] يتمنى أنه قضي عليه ولم يبعث: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:28] يتذكر ما الذي كان يشغله في الدنيا عن الدين وإذا به المال، أو السلطة والوظيفة والمنصب: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:29] يقول: ذهب مني المال ولم يغن عني، وهلك عني السلطان ولم ينفعني، فيقول الله للزبانية: خذوا هذا الدجال الكذاب الذي كان يلعب على الحبلين، يلعب في الدنيا ويريد الآخرة بدون عمل: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] والغل هو: وضع القيد في الرقبة واليدين والرجلين، يقول الله: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن:41] أي: تربط ناصيته في قدمه، ثم يوضع في قيد واحد برقبته: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة:31] أي: أوصلوه في النار: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32] السلك هو: إدخالها من فمه وإخراجها من دبره، من أجل أن يشتوي في النار، وكأن قائلاً يقول: يا رب! ما فعل هذا؟ فقال عز وجل: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة:33] ما عنده تصديق بلقاء الله، الذي لا يعمل صالحاً ما آمن بالله، والذي يعمل المعاصي والمنكرات ما آمن بالله، لماذا؟ لأنه لو آمن وصدق لعمل وانتهى.
الآن الموظف عندما يؤمن بصرامة المدير ومراقبته على الدوام وأنه دقيق، من السابعة والنصف ليس هناك أحد يوقع إلا من عنده، تجد كل الموظفين يأتون الساعة السابعة والنصف، لكن إذا عرفوا أن المدير يأتي الساعة التاسعة، يأتون هم الساعة التاسعة إلا خمس، ويوقعون الساعة السابعة والنصف؛ لأن المدير يأتي الساعة التاسعة، لكن لو أن المدير يأتي الساعة السابعة ونصف، ويقول: يا فلان ادخل أحضر الكشف، ويقول: التوقيع من على طاولتي، لا أحد يوقع من عند السكرتير، وكل موظف يأتي ينظر إليه كم الساعة يا فلان؟ ثمانية، ضع ثمانية، ثم يفرغ جدول الموظفين هؤلاء في ورقة صغيرة، ويقول: على شئون الموظفين اعتماد الحسم على التالية أسماؤهم: فلان الفلاني يوم كامل ويعطيه، ما رأيك في شعور الموظفين، من غد هل يأتون من الساعة السابعة والنصف؟ وربما من السابعة تجده على الطاولة، لماذا؟ آمن بالعقوبة، وعرف أن هناك حسم وأنه يوجد مدير حازم، لكن إذا كانت الأمور تمشي بتساهل تجد نصف الدوائر الآن يأتون الساعة التاسعة والتاسعة والنصف والعاشرة، ما أتى الفراش ليفتح فضلاً عن الموظف أو المدير، لماذا؟ أمنوا العقوبة فأساءوا العمل.
وكذلك الذي يأمن العقوبة في الآخرة يسيئ العمل، لا يعمل صالحاً ولا ينتهي عن محرم؛ لأنه ما آمن حقيقة فيقول الله: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:33 - 37].
- قوارب النجاة في الحياة الدنيا: فإذا أردت النجاة فعليك بقوارب النجاة، هذه القوارب الثلاثة أخذتها من آية من كتاب الله في سورة العنكبوت الآية رقم (45) يقول الله عز وجل موجهاً الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وما وجه له من الأوامر فهو موجه بالتالي لأتباعه، يقول الله له: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت:45] هذا القارب الأول {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] هذه هي قوارب النجاة الثلاثة، تلاوة الكتاب الكريم، وإقامة الصلاة، وذكر الله عز وجل.(26/3)
من قوارب النجاة تلاوة القرآن الكريم وتدبره
أما تلاوة القرآن فللآتي:(26/4)
سبب كون القرآن من قوارب النجاة
لأن الكتاب هو الذي ربط الأرض بالسماء، فبعد نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم أصلح الله الأرض، قال الله عز جل: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56] بم أصلحت الأرض؟ أصلحت بالرسالة، وبتعاليم السماء، والتوجيهات الربانية، كانت الأرض عبارة عن غابة، شريعة الغاب هي التي تحكمها، القوي يأكل الضعيف، سلب وقتل ونهب، وزنا وخمور وفجور، وجور وميسر وقمار كل ما شئت من المعاصي موجود في الأرض، لماذا؟ لأنه لا توجد شريعة تحكم، ولا توجيهات توجه من الله.
حتى بعث الرسول صلى الله عليه وسلم ونزل عليه الكتاب الكريم، فأصلح الله الأرض بتعليمات السماء، وضبط مسارات الناس، وجعل لكل واحد مساراً، عينك لها مسار تنظر بها في مساراتها، لا تنظر بها إلى شيء آخر، عينك هذه أمانة في رأسك، يقول الله عز وجل: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10] مادامت العين لله وليست لك، ولا ركبتها أنت في رأسك، ولا اشتريتها من السوق، بل هي من الله، فالله هو مالكها وآمرها، أمرك الله بأمر ونهاك عن نهي ما هو؟ أمرك أن تنظر بعينك هذه في ملكوت السماوات والأرض، قال عز وجل: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس:101] {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6]، وأمرك بأن تنظر بها في مصالحك، وأن تنظر بها في كتاب ربك وفي سنة نبيك وفي هديك وتعاليم إسلامك، ونهاك أن تنظر بهذه العين إلى ما حرم عليك، لا تنظر بها إلى محارمه؛ لأن الله يغار على محارمه، ومحارمه أن تأتي ما حرم، لا يجوز لك أن تطلق عينك في امرأة لا تحل لك، لماذا؟ لأنك تعذب قلبك.
والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغير موقوفاً على الخطر
يسر ناظره ما ضر خاطره لا مرحباً بسرور عاد بالخطر
فأنت إذا فتحت عينك على النساء رأيت أشكالاً وألواناً وموديلات جديدة، ومن ثم لا تقدر عليها ولا تصبر عنها، وبالتالي تنعكس على قلبك الهموم والمشاكل وتعيش معذباً، وأكثر الذين يفتحون عيونهم في الحرام الآن يعيشون في عذاب، يخرج من بيته وليس في قلبه هوىً واحداً، لكن يذهب إلى السوق أو المعرض ويرى واحدة فترميه بعينها ويرميها بعينه، فيرجع إلى البيت وهو مريض، لا يتعشى ولا ينام ولا يفعل شيئاً، ما بالك؟ قال: آه، الله المستعان! ماذا حصل؟ ما الذي احترق في الدنيا؟ احترق قلبه، ما الذي أحرق قلبه؟ النظرة المحرمة:
كم نظرة فعلت في قلب ناظرها فعل السهام بلا قوس ولا وتر
وأنت إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
ويقول الآخر:
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل
فالله من أجل أن يحميك أنت ويحمي حرمات الناس حرم عليك النظر، وقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وقد يأتي شخص ويقول: لماذا؟ قال الله: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] والذي يعيش في تعليمات هذه الآية ويغض بصره ولا ينظر إلى الحرام يعيش في سعادة وفي راحة عظيمة ليس بعدها راحة.
ولكن قد يقول قائل من الشباب: ماذا أعمل أنا؟ كيف أعمل بغرائزي؟ وماذا أفعل بإمكاناتي؟ أنا شاب وأحب الجمال، وأريد النساء وأريد أن ألتفت؟ نقول له: تلفت، لكن متى؟ أخِر النظر إلى أن تتزوج، فإذا تزوجت ودخلت عليك زوجتك في غرفتك وأقفلت الباب، ابلعها بعيونك، لماذا؟ لأنك تنظر إلى شيء بيدك، وفي إمكانك أن تصل إليه، ولكن عندما تلتفت إلى شيء بيد الناس، مثل واحد يموت جوعاً والناس معهم طعام في قدورهم، وهو جالس يشم، ما رأيكم هل الشم يغذيه ويشبعه؟ بل يقطع قلبه، ماذا نقول له؟ نقول له: قل: باعدوا قدوركم هذه منا، دعونا على خبزتنا وكسرتنا؛ فإن هذه الروائح قطعت قلبي، وما شبعت من الرائحة.
ونحن نقول للناس: ذلك أزكى لكم، أن تغضوا أبصاركم عن الحرام؛ فإن من ملأ عينيه من الحرام ملأهما الله من جمر جهنم غضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وصونوا أسماعكم، ذلك أزكى لكم.
فالله عز وجل حينما أنزل القرآن ربط الأرض بتعليمات السماء، وأصبح الناس وهم في الأرض يعيشون، لكنهم يعيشون وهم معلقون بالله، عيونهم في الأرض لكنها عيون ربانية لا تنظر إلى حرام، أسماعهم في الأرض لكنها أسماع ربانية لا تستمع الحرام: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ} [الأحقاف:26] {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].
فبتلاوة الكتاب، وبالارتباط بالله عن طريق القرآن تنجو، لماذا؟ لأنك تصبح عبداً ربانياً لست عبداً شهوانياً شيطانياً تحكمك شهواتك، وتسيطر عليك غرائزك، وتسيرك نفسك، ويمشيك شيطانك، الآن الذي ينفلت شيء واقع ما للواحد خيار فيه، إما أن تلتزم بدين الله فتكن مع الله، أو تنفلت عن الدين فتكن مع الشيطان، كبديل لا بد منه، لا يوجد شخص يقول: لا والله أنا لا أريد أن ألتزم بدين الله، وأيضاً أنا أريد أن أبقى حراً من الشيطان، لا.
ما من أمر لله إلا ويقابله أمر للشيطان، فلمن تكون؟ خير لك أن تكون لربك أم لعدوك؟ لخالقك أم لمخرجك من الجنة؛ الذي أقسم عليك أن يردك إلى النار، وقال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]؟(26/5)
التمسك بالقرآن الكريم نجاة يوم القيامة
القرآن إذا تمسكت به وبتعليماته نجوت، يقول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52] سمى الله القرآن روحاً ينفخ الله به الحياة في قلوب الناس: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ} [الشورى:52] أي: القرآن {وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى:52 - 53] ويقول في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس:57] أي: القرآن {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57] في قلبك شيء من الأمراض علاجها في القرآن الكريم، الأمراض المعنوية، مرض الزنا والغناء والنوم خصوصاً نوم الصبح الذي يتغنى به الناس، لا يوجد في الشرع نوم الصبح، يوجد استيقاظ (بارك الله لأمتي في بكورها) لكن اليوم الناس يتغنون بنومة الصبح! حتى يقول بعضهم:
نومة الصبح تسوى ملك كسرى وعداً يوه
على وزن قصيدة:
بالله عليك يا موزع شي معاكم بريد يوه
كنت أسمع هذه القصيدة وأغني بها في السابق، والآن أفكر أقول: ما معنى كلمة يوه؟ لكن نسمع الأغاني ونردد كلماتها كالببغاء، ما موقعها من الإعراب (يوه)؟! فقال الثاني على وزنها:
نومة الصبح تسوى ملك كسرى وعداً يوه
لا والله ما عند المؤمن نومة الصبح، نومة الصبح هذه هي نومة الشيطان، يبول فيها الشيطان في أذن النائمين عن صلاة الفجر، ويقول لهم: نم عليك ليل طويل.
إذا كان عندك في قلبك مرض من هذه الأمراض، مرض نومة الصبح والنظر إلى الحرام، واستماع الحرام، وحب الزنا، والربا، والرشوة، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين فإن الشفاء في كتاب الله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ} [يونس:57 - 58] أي: القرآن {وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] إذا فرح الناس بالمال فافرح أنت بالقرآن، وإذا فرح الناس بالوظائف والمناصب فافرح أنت بكتاب الله، إذا فرح الناس بالزوجات والأولاد فافرح أنت بالقرآن، وإذا فرحوا بالعمارات والسيارات فافرح أنت بالقرآن؛ لأن الله يقول: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
اتل القرآن {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت:45] يقول الله عز وجل في القرآن الكريم: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] ويقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82].
فأول وأهم قارب تسعد به في الدنيا والآخرة هو هذا القرآن، يقول الله عز وجل فيه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:32].
فإذا أردت أن تنجو عليك بكتاب الله، ووالله الذي لا إله إلا هو ما يعاني الناس اليوم من جفاف في الأرواح ومن فقر في القلوب والإيمان ما هو إلا نتيجة لبعدهم عن القرآن، وانظروا اليوم حينما يدخل رمضان ويتوجه الناس إلى المصاحف ويشترونها من المكتبات ويأتون المساجد ويقرءون كيف تتحول أخلاقهم، وتهدأ نفوسهم، وتنمو أرواحهم بأسباب قراءة القرآن، هل تتصورون شخصاً شريراً والقرآن في جيبه؟! هل تتصورون شخصاً عاصياً وهو يقرأ القرآن؟! لا.
لكن إذا ترك الشخص القرآن تسلط عليه الشيطان.
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول(26/6)
كيفية توثيق الصلة بالقرآن كقارب نجاة
إذا كنا نقرأ القرآن ونهجره ولا نعمل به فهذه مصيبة، فأول قارب ينبغي لك يا من تريد النجاة هو أن تُحكِم وتوثق صلتك بكتاب الله عز وجل عن طريق خمسة أشياء.
أولاً: تلاوة القرآن: لأن الله يقول: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4] والترتيل: هو قراءة القرآن بمعرفة الوقوف ومخارج الحروف، لا تقرؤه كما تقرأ جريدة أو تقرأ مجلة أو كتاباً، لا.
هذا كلام الله يختلف عن كلام البشر، يقول الله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] تقرؤه كما أنزل، وتتلقاه كما ورد عن طريق عالم، وإذا لم تستطع فعن طريق المصحف المعلم، هناك أشرطة المصحف المعلم تضع الشريط والمصحف أمامك ويقرأ الشريط وتردد بعده، وتعرف بعد فترة -إن شاء الله- كيف تقرأ القرآن تلاوة.
وليكن لك ورد يومي ليس أقل من جزء في كل يوم، إذ لا ينبغي لمسلم أن يمر عليه شهر دون أن يختم كتاب الله مرة واحدة، ومن لم يختم القرآن في الشهر مرة فهو هاجر لكلام الله والهاجر لكتاب الله سيكون عرضة للشكوى التي ستقدم فيه يوم القيامة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرها الله في سورة الفرقان، قال الله عز وجل: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30] يجب أن يكون لك ورد يومي لا يقل عن جزء، وأحسن وقت للتلاوة بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة العشاء، وبعد صلاة المغرب، وقبيل الصلوات الخمس، عندك فرص بفضل الله متاحة لك، إذا كنت في الدوام بمجرد أن يؤذن المؤذن أوقف كل عمل، حتى القلم الذي بيدك والمعاملة التي أمامك إذا سمعت الله أكبر، الله أكبر من كل شيء، إذا كنت في اجتماع قل: انتهى الاجتماع، بعض المدراء لا يعقدون الاجتماع إلا وقت الصلاة، فلا يوفق هذا الاجتماع؛ لأنه اجتماع عصي الله فيه بتضييع فريضة الله، لا.
إذا دعاك الله لا تؤخر أمره؛ لأنه إذا دعاك المدير أو الأمير أو الوزير وأنت عندك اجتماع ما رأيك؟ تقول: أكمل الاجتماع وآتيك، أم تقول: عن إذنكم! عندي مكالمة من المسئول الأعلى؟ لا تستطيع أن تتأخر، دعاك الله، أمر الله عندك أهون من أمر غيره، ما عرفت الله ولا قدرته عز وجل، دعاك الله: الله أكبر، أغلق الكتب وضع القلم، وقم وتوضأ واذهب إلى المسجد وفي الصف الأول واقرأ، ستقرأ بين الأذان والإقامة ربع جزء، وفي العصر مثلها، وفي المغرب مثلها، وفي العشاء مثلها، يمكن يمضي عليك اليوم وأنت قد قرأت جزءاً، هذا أول شيء، واجعل هذا وردك.
يقول بعض الإخوة: أحسن طريقة أن تجعل لك في اليوم الجزء الذي يوافق اليوم من الشهر، بالطبع رمضان يختلف، رمضان يجب أن تختم فيه أقل شيء في كل ثلاثة أيام مرة، يكون وردك في كل يوم عشرة أجزاء؛ لأن هذا شهر القرآن، كيف تفعل وأنت في شهر القرآن؟
اتل الكتاب وسبح فيه مجتهداً فإنه شهر تسبيح وقرآن
ليس هناك شغل في رمضان إلا كتاب الله والصيام والقراءة؛ لأنه في يوم القيامة يشفع لك الصيام والقرآن، لكن في غير رمضان تبدأ من أول يوم في الجزء الأول، اليوم الثاني في الجزء الثاني، وفي اليوم الثالث وهكذا، تقرأ في ثلاثين يوماً ثلاثين جزءاً، لماذا؟ لأنه يسهل عليك الحساب، وتعرف أنك اليوم في أربعة عشر يوماً فتقول: إذاً أنا اليوم في الجزء الرابع عشر، المصحف الذي بجيبي أقرأ فيه، فإن لم يكن بجيبي أقرأ في المسجد في الجزء الرابع عشر، ليس في المسجد فقط في السيارة أو المكتب، أو أي مكان أقرأ وردي، هذا أول شيء تلاوة القرآن، إذا أردت أن تنجو، قد يقول شخص من الناس: أنا لا أستطيع، نقول: على راحتك لا تستطيع، لكن ستعض على أصابع الندم، وتقول: يا ليتني أطعت الله وأطعت الرسول، يا ليتني أخذت هذا القرآن، يا ليتني عملت به، لكن (يا ليتني) لا تنفعك يوم القيامة أبداً.
ثانياً: تدبر كتاب الله.
والتدبر بأن تتدبر من القرآن في كل يوم صفحة واحدة، أي: تقرأ الصفحة وتنظر تفسيرها من تفسير ابن كثير أو من كتاب أيسر التفاسير للجزائري، وأما أن تقرأ القرآن ولا تفهمه فما أنزل الله القرآن من أجل ألا يفهمه الناس، هل توقع على معاملة بدون أن تفهمها؟ وإذا وقعت عليها بماذا يصفك الناس؟ بأنك مجنون، إذ كيف تقرأ كلام الله ولا تفهمه؛ لأنك مخاطب به، وفيه أوامر ونواهي وأخبار وأحداث وقصص، كتاب فصلت آياته ثم أحكمت، لا بد أن تعرف كتاب ربك تدبراً.
ثالثاً: العمل.
قرأت وتدبرت ومن ثَم تعمل، مررت على آية: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] تقول: فتغض بصرك، مررت على: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ} [الإسراء:36] لا تسمع الحرام، مررت على: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء:33] {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152] انتهينا، أقيموا الصلاة تمتثل آتوا الزكاة.
لا بد، لماذا؟ تعمل بتعليمات ربانية وأنت عبد مؤمن، تصدق كتاب ربك وتعمل بكتابه، أجل تلوت وتدبرت وعملت.
الرابع: تدعو إلى كتاب ربك.
لا تجلس في مجلس إلا وأنت تبشر بهذا القرآن، تقول لزميلك: يا أخي! لماذا لا ترتل القرآن؟ لماذا أنت معزول عن الله؟ كيف تعيش بدون كتاب الله؟ كم وردك من القرآن؟ تدعو إليه حتى تكون من أهله.
الخامس: الاستشفاء بالقرآن الكريم؛ لأنه شفاء لما في الصدور، يقول الله عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] سواءٌ من الأمراض الحسية أو المعنوية، فهو مجرب، الفاتحة شفاء، وآية الكرسي شفاء، المعوذتان شفاء، لكن لا يترتب الشفاء إلا بأمرين: أولاً: صلاح ويقين المستشفي أي: القارئ.
ثانياً: صلاح الموضع والمحل الذي يقرأ عليه الإنسان.
أما إذا انتفى صلاح الفاعل أو المفعول به لا تحصل العافية.
هذا التفصيل الموجز والمختصر حول المركب والقارب الأول من قوارب النجاة وهو قارب: تلاوة كتاب الله عز وجل.(26/7)
من قوارب النجاة إقامة الصلاة
القارب الثاني: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] أقم الصلاة، والتبرير بعدها يفسر أهميتها؛ لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصلاة صلة بين العبد وبين الله، الصلاة رابطة وحبل ممدود من السماء إلى الأرض، والذي معه رابطة بالله ومستمسك بحبل الله لا يمكن أن يفعل فحشاء أو منكراً؛ لأنه يشعر بأنه مع الله، كيف يعمل الفحشاء في الصباح وهو يعرف أنه سيأتي بعد قليل يقف بين يدي الله في الظهر؟ كيف يفعل الفحشاء بعد الظهر وهو يعلم أنه سيقف بين يدي الله في العصر؟ لا يمكن أبداً؛ لأنه يستحيي.
ولذا يلحظ المتدبر والمتأمل لحكمة تشريع الصلاة أنها العبادة الوحيدة التي تلازم الإنسان على مدار حياته في كل أحواله، الصوم شهر في السنة، أحد عشر شهراً لا يوجد فيها صوم إلا نافلة، الزكاة مرة في العام، وإذا كان هناك مال ودار عليه الحول وبلغ النصاب، الحج مرة في العمر، وجميع الفرائض محددة بأزمان وهيئات إلا الصلاة فليست مرة في العمر، ولا العام، ولا الشهر، ولا اليوم، بل كل يوم خمس مرات، أول ما تفتح عينك قبل أن تأكل وتشرب تصلي، هل يمكن لشخص أن يعمل أو يأكل قبل الفجر؟ لا.
تفتح عينك على الصلاة، ومن ثم تمشي بيومك إلى أن ينتصف النهار تأتي صلاة الظهر، فإذا أوشك النهار على الانصراف صليت العصر، فإذا انصرم النهار ودخل الليل صليت المغرب، فإذا أردت أن تودع الليل والنهار بالنوم تصلي العشاء، فتنام بعد صلاة، وتستيقظ على صلاة، وتنتصف في نهارك في صلاة، وتصلي العصر والمغرب: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78] أي: في زوالها {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78] لأنها حبل.
يقول أحد العلماء: (الترمومتر) الإيماني الذي تقيس به إيمانك موجود معك وهو الصلاة، لا يمكن أن يكون (ترمومتر) الإيمان صيام رمضان؛ لأنك قد تصوم رمضان وترتفع عندك نسبة الإيمان فترفع درجته بـ (الترمومتر) الإيماني إلى أعلى درجاته، لكن الصوم ينتهي ويأتي شوال وذو القعدة وذو الحجة ينزل، فنأتي لنقيسك فليس هناك مقياس مثل المقياس في رمضان، وفي الحج يمكن أن تصفو روحك، وتتوب إلى الله، ومن ثم تنزل لا نستطيع نقيسك، وكذلك الزكاة، قالوا: المقياس الثابت هو الصلاة.
إذا أردت أن تعرف نسبة الإيمان ودرجته عندك فقسه على المقياس الثابت الملازم لك طوال الليل والنهار وهو الصلاة.(26/8)
قدر الصلاة ومكانتها في الإسلام
الصلاة هي الفرق ما بين المسلم والكافر، يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في صحيح مسلم: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) ويقول كما في سنن أبي داود وهو صحيح: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) وأجمعت الأمة على أنه ليس عمل تركه في الإسلام كفر إلا الصلاة؛ لأنه يقطع صلته بالله، ويهدم إسلامه؛ ولأنها عمود الإسلام، وفي سنن الترمذي وسنن أبي داود حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه -وهو حديث صحيح- حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: عن عمل يدخله الجنة ويباعده عن النار؟ قال له: (ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة) ولا يمكن أن يقوم إسلام لعبد وهو لا يصلي، إذ أنها آخر موقع يخسرها الإنسان في دينه، أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، فمن ترك الصلاة فلا دين له ولا أمانة، يقول عمر: [أما إنه لا حظ في الإسلام لمن أضاع الصلاة] وكان صلى الله عليه وسلم يوصي في آخر حياته ويقول للأمة: (الله الله بالصلاة، الله الله بالصلاة، الله الله بالصلاة وما ملكت إيمانكم) والله يقول: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59].
والذي يترك الصلاة يكفر بالله، وإذا كفر بالله انتفت عنه حقوق المسلمين وانتهى، هو مسلم بالصلاة؛ فإذا تركها تنتفي عنه كل حقوق المسلم، لا يؤاكل ولا يشارب، ولا يجالس ولا يسلم عليه، ولا يشمت إذا عطس، ولا تجاب دعوته إذا دعا، وإذا مات لا تشهد جنازته ولا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، حرام عليك إذا كان عندك ولد أو أخ وتعرف أنه لا يصلي حرام عليك إذا مات أن تأتي للناس وتقول: تعالوا خذوه وصلوا عليه وأدخلوه مع المسلمين، وإذا غدرتهم وخنتهم فإنك خائن لأمانة الله؛ لأنك قبرت كافراً بين مسلمين، وجعلت المسلمين يصلون على كافر، وغسلته وهو كافر، وإنما قال العلماء: يسحب برجله، وتحفر له حفرة، ويكب على وجهه، ولا يوجه، ولا يوضع على القبلة؛ لأنه ليس من أهل القبلة.
ومن ثم تحرم عليه زوجته، إذا كان متزوجاً فبمجرد ترك الصلاة ينفسخ العقد، ولا يحتاج الأمر إلى طلاق؛ لأن الطلاق للمسلم، أما الكافر فإن عقدة يصبح فاسداً وباطلاً، ولا يجوز للمرأة المسلمة أن تمكن نفسها من كافر لا يصلي، وإذا جلست في بيته وهو لا يصلي وتعرف أنه لا يصلي، ويمر عليه الوقت ولا يصلي؛ فإنه إذا مكنته من نفسها فإنما يزني بها زنا، وأولادها منه أولاد حرام وسفاح -والعياذ بالله- وإذا علم أبوها أو أخوها أن زوجها لا يصلي وأنها معه؛ فإنما يرضون بأن تأتي ابنتهم الفاحشة والزنا وهم ينظرون؛ لأنهم إنما زوجوها بالإسلام، فلو أن عندك بنتاً أو أختاً وجاءك يهودي أتزوجه؟ هل هناك مسلم يزوج يهودياً؟ لو أعطاك عشرة ملايين ريال وهو يهودي اسمه شارون أو شامير أتعطيه ابنتك؟ والله لا تعطيه حمارك، إذاً ما الفرق بين اليهودي والذي لا يصلي؟ لا شيء، عندما زوجته زوجته باسم الإسلام؛ لأنه مسلم، وأعطيته ابنتك بكلمة الإسلام، وبخطبة الإسلام، وبآيات الإسلام؛ فإذا ترك عمود الإسلام حرمت عليه الزوجة، وإذا رضيت أن تقعد معه وأنت تعرف أنه لا يصلي فإنا لله وإنا إليه راجعون.(26/9)
أهمية إقامة الصلاة جماعة
قال عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} [هود:114] والتعبير بـ (أقم) فيه دلالة، ما قال الله: وصل؛ لأن إقامتها غير صلاتها وأدائها، أقم: أي أدها كما شرع الله، أولاً: في بيوت الله مع جماعة المسلمين؛ لأنه لا تقبل الصلاة كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد قرأت هذا الكلام أخيراً في كتابه العظيم الاختيارات الفقهية، يقول: إن الجماعة في المسجد شرط في صحة الصلاة إلا من عذر.
أي شخص صحيح البدن ويصلي في البيت وليس مريضاً ولا خائفاً، يقول: أنا أصلي هنا وهي مقبولة، صلاته غير صحيحة، من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذرٌ لم تقبل منه صلاة صلاها.
ولهذا نقول للناس الذين هم صحيحوا البدن ولا يصلون في المسجد: لا تتعبوا أنفسكم، لماذا تخدعونها؟ بالله هل سمعتم بدوام في البيوت؟ ما رأيكم في موظف يقول: أنا لا أريد أن أداوم في الإدارة، وسوف آخذ طاولتي والمعاملة ترسلوها إلي، وأنا سأجلس أداوم في البيت من أجل تكون زوجتي عندي والفراش والشاي، وإذا نمت نمت، ما رأيكم.
هل يعطونه راتباً؟ يقولون: لا.
دوام الحكومة في دوائر الحكومة، فإذا أردت أن تداوم في بيتك خذ الراتب من عند زوجتك.
وكذلك هذا الذي يصلي نقول له: صلاة الله في بيوته، والذي يريد أن يصلي في بيته يأخذ الراتب من زوجته، ليس له أجر على صلاته هذه إلا من عذر، وما العذر؟ خوف أو مرض، إذا خرجت خفت أن تقتل، أو مرض إذا دخل عليك الدب الأسود من غرفتك ما قمت تصلي.
أما وأنت معافى وآمن، فلا تصح فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص للأعمى الذي كانت تحيط به ظروف قاسية جداً، جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إني رجل أعمى، ضرير البصر) وتصور لو أنك أعمى وطلب منك الآن أن تخرج من هذه الصالة، تغمض عينيك دقيقة فقط ولا تزيد، كيف تتحول الحياة في نظرك؟ من يسوق سيارتك؟ وإذا رجعت إلى بيتك كيف ترى بيتك؟ وكيف تعرف جمال زوجتك؟ وكيف تعرف جمال غرفة نومك وجمال أولادك؟ كيف تعرف السماوات؟ كيف تعرف موديلات السيارات؟ كيف تعرف أشكال العمارات؟ كيف تعرف اتساع الشوارع؟ من الذي يعطيك تعبيراً وتفسيراً لكل هذه الدنيا وجمالها، ولهذا من صبر على فقد عينيه كان له عند الله الجنة.
فهذا الرجل ضرير البصر أعمى، يقول: إنني أعمى، بعيد الدار، يقولون: كان بينه وبين المسجد أكثر من أربعة كيلو مترات، والمدينة كثيرة الهوام، ليست الشوارع مزفلتة ولا مضاءة، لكن حفر وأشواك ووديان وهوام، وحيَّات وعقارب وسباع، ومن ثم قال: (وليس معي قائد يقودني).
يقول: ما معي واحد على مدة أربع وعشرين ساعة باستمرار، قد أجد شخصاً مرة ولا أجد الثانية، ومن يدلني على المسجد؟ وكيف أتخبط يا رسول الله! وأنا أعمى وبعيد الدار؟ وكيف أفعل؟ قال: (أتسمع النداء؟ قال: نعم.
قال: فأجب.
لا أجد لك رخصة).
إذاً: فما رأيك أنت يا من ترى ألك رخصة؟ احكم على نفسك بنفسك! ما رأيك أنت يا من أنت قريب من المسجد ألك رخصة؟ ما رأيك يا من تربطك بالمسجد شوارع مزفلتة ومضاءة؟ بل بعضهم لديه سيارة عند بابه، يشغلها إذا كان بعيداً ويمشي إلى المسجد ويصلي، يقوم من غرفة نومه لا يخرج إلى الخلاء كما كان الناس في الماضي، كانوا يخرجون من بيوتهم إلى الخارج يأخذون من القربة ماء، فتلفحهم الرياح الباردة في الظلام الدامس، ويتوضئون في الخلاء، ومن ثم تتشقق أقدامهم ووجوههم من البرد والماء البارد، اليوم لا.
تخرج من غرفة نومك إلى الحمام الخاص بغرفتك، حتى ما تخرج إلى غرفة أخرى، كل موديلات البيوت الآن غرفة نوم وحمام داخلي، ومن ثم تدخل وتفتح الصنبور فينزل عليك الماء حاراً، تريد أن تعدله تفتح الصنبور الثاني فيصبح من أحسن ما يمكن.
وقد أخبرتكم أن شخصاً من تهامة جاء مرة عندي، ففتحت له الصنبور يريد أن يتوضأ، فنزل عليه الماء وإذا به حار، قال: أوه! قلت: ماذا بك؟! قال: ماء حار نزل من الجدر علي، لم ير (طباخة) ولا (دافوراً)، قلت: ماء حار من عندنا، قال: الحمد لله.
هذه نعمة -يا إخوان- تفتح وتتوضأ بالماء الحار، وأنت واقف والمنشفة أمامك تمسح، وتدخل غرفة نومك تلبس ملابسك الداخلية، ثم تلبس ملابس الصلاة، ثم تخرج تذكر الله في شوارع مضاءة ومزفلتة: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:36 - 37].
هل لك عذر بعد هذا؟ ليس لك عذر والله، فأقم الصلاة في المسجد، وبكامل الطهارة في البدن والثوب والمكان، ومن ثم بكامل حضور القلب والخشوع.(26/10)
أهمية الخشوع في الصلاة
لا تأت تصلي وأنت تخطط لمزرعتك وعمارتك ودروسك، ولتجارتك ومشاغلك، بعض الناس يدخل في الصلاة ويقول: الله أكبر، ثم يسلم ولم يعرف ما قرأ الإمام، هذا ما صلى حقيقة؛ لأنه يكتب للعبد من صلاته ما حضر فيها قلبه، حضرت ربعها لك ربعها، حضرت نصفها لك نصفها، لم تحضر ما لك شيء، فلا بد أن تحضر قلبك -يا أخي- لا توسوس وتستسلم للشيطان، ومن ثم إذا انتهت الصلاة -ومدتها عشر دقائق- اقعد ووسوس إلى الفجر.
يأتي بعض الناس صلاة العشاء، كم صلاة العشاء؟ أطول صلاة للعشاء عشر دقائق، فمن بداية دخوله للصلاة وهو يوسوس، وبعد أن ينتهي من الصلاة ينتهي الوسواس، إذا أحضروا له سفرة الطعام الأرز، واللحم، والشربة، والإدام، والحلوى، والفواكه؛ لا يوسوس في شيء إلا في الصحن هذا، من أين يأكل؟ ومن أين يأتي؟ وبقي هذه، وبقي قسمنا هناك، لكن في الصلاة تأتيه الأفكار، وإن كان عنده عمارة جاءه الشيطان قال: ما رأيك في العمارة؟ المخطط ليس سليماً، و (البرندة) الفلانية ما تستفيد منها، والدرج ليس موقعه جيداً، وذلك الجانب تشكيلته ليست جيدة، فيعطيه أفكاراً؛ فإذا انتهى من الصلاة شطب على المخطط ونسيها، فلا صلى ولا خطط.
من أين تأتي الأفكار للناس؟ من الشيطان في الصلاة، فلابد من حضور قلبك؛ لأنك إذا لم يحضر قلبك فلا صلاة لك، يقول العلماء: إن الصلاة جسد والخشوع روح، ولا قيمة للجسد إلا بوجود الروح، إذا مات الميت الآن ما الذي يخرج منه؟ الروح، إذا خرجت الروح هل بقي شيء من الجسد؟ الجهاز الهضمي والسمعي والبصري والتنفسي والعظمي والدموي كل شيء موجود، لكن ذهبت الروح، فماذا يسمونه؟ يقولون: الجنازة، أو المرحوم، أو الهالك، لكن إذا ردت الروح إليه تصبح له قيمة، ولو ذهبت عينه أو يده، أو تقطع قطعة قطعة وبقيت روحه له قيمة، وكذلك الصلاة لا قيمة لها إلا بالخشوع وبروحها، فإذا حضر القلب في الصلاة لها قيمة، فلا بد من حضور قلبك في الصلاة.
ومن ثم حتى تكون مقيماً للصلاة لا بد أن يكون لها أثر في حياتك؛ لأنه إذا كان هناك انفصال بين سلوكك وصلاتك فكأنك ما صليت؛ لأن الله يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فكونك تصلي وتخرج من باب المسجد تنظر إلى النساء فما صليت حقيقة، بعضهم يخطط للمعاصي في الصلاة، أين أسهر الآن؟ وأين أذهب أتلفت؟ ومن أكلم في الليل؟ ومن أطلع له؟ ومن أكتب له؟ ومن أمشي معه؟ وهو يصلي، يخطط لمحاربة الله في الصلاة، ما رأيكم في صلاته هذه؟! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم! {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر} [العنكبوت:45] فوالله -يا أخي- ما دمت متمسكاً بالصلاة؛ فإن الله عز وجل يريد بك خيراً؛ لأنك مع الله، كلما دعوت الله عز وجل أجابك، بينك وبين الله اتصال.
يقول العلماء: إن الصلاة صلة بين العبد وبين الله، بإمكانك أن تتصل إلى الله في كل حين، لكن إذا قطعت الحرارة وقطعت الصلاة واتصلت على الله لا يجيب؛ لماذا؟ لأنه ليس بينك وبين الله رابطة، الحرارة مقطوعة، ما سددت فواتير الهاتف، ما ذهبت إلى المسجد تصلي، مقطوع عن الله، وقولوا لي بربكم: أي قيمة لإنسان يعيش في هذه الحياة وهو مقطوع عن الله؟!! أي وزن له وأي معنىً له؟!! والله لا معنى للإنسان بغير دين ولا صلاة، مثله كمثل الحيوان، بل أشد وأنكى عند الله، يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12].
هذا القارب الثاني وفيه صعوبة، لا تتصورون أن المسألة فيها يسر، فيها صعوبة كونك تلزم نفسك بالصلوات الخمس في أول الأمر تجد صعوبة، شأنك في هذا شأن أي شخص يمارس أي عمل جديد، الطفل الصغير إذا وقف ويراد منه أن يمشي يجد أن المشي من أصعب المشقات عليه، تراه واقفاً وأبوه يجلس بعيداً عنه ويقول: تعال تعال! فأحياناً يقع وأحياناً يسير، ومن ثم في اليوم الثاني يمشي مرة خطوة، ومرة خطوتين، وبعد أسبوع يمشي، وبعد أسبوع لا يدع مكاناً في البيت، يذهب يكسر، حتى أمه تقول: يا الله يمشي، فإذا مشى قالت: الله أكبر عليك، وبعدها تربط رجله في الباب، أليس كذلك؟ فكل عمل يمارسه الناس في أول الأمر يصير فيه صعوبة، لكن بعد الاستمرار فيه يصير سهلاً.
أنت الآن عندما تأتي في عملك وتسلم عملاً جديداً عليك، وترى التعليمات والنظم واللوائح والتعاميم، تقول: والله هذا لا أقدر عليه، أظن أني سأفشل فيه، لكن ما إن يمر فيه شهر أو شهران أو ثلاثة، وتراجع معاملاتك، وتمر عليك حالات جديدة وتعالج، وتستشير هذا، وتأخذ رأي هذا، وتأتي بمعلومات من هذا، بعد سنة وإذا بك عندك خبرة كاملة، ولذا يعتد ويعتبر بالخبرة الآن في حياة الناس، إذا كنت تريد أن توظف مهندساً جديداً عندك، شخص تخرج منذ فترة قليلة وشخص تخرج قبل خمس سنوات، وأتاك أحدهما تقول له: كم مدة خبرتك؟ يقول: خمس سنوات، تعطيه أفضلية في التعيين، لماذا؟ لأن خبرته زودته بإمكانيات لتسيير عمله، لكن الجديد هذا يجلس سنتين يجرب ويتعلم.
فكذلك أنت إذا جئت ودخلت من باب الإيمان، لتركب إلى ساحل النجاة وقارب نجاة الصلاة، سوف تجد صعوبة في أن تستيقظ لصلاة الفجر كل يوم؛ لأنك متعود طيلة حياتك أنك تنام هذه النومة، لكن اجبر نفسك، تجد صعوبة أنك كل يوم خمس مرات آت ذاهب إلى المسجد، لكن بعد أيام يصبح خلقك الصلاة في المسجد، شخص من الناس كان جارنا يسكن في بيته ومن ثم لم يأت ليصلي، فجاء إليّ جيرانه، وقالوا: يا إمام! الرجل هذا لا يصلى معنا، قلت: هيا نزوره، فزرناه، وقدم لنا شاياً، وقلنا: جزاك الله خيراً، أنت ضيف جديد على الحي والمسجد قريب منك، ونريد منك إن شاء الله أن تصلي معنا؛ لأنك مسلم، ونحن إخوة نحبك في الله ونريد لك الخير مثلما نحب لأنفسنا، قال: جزاكم الله خيراً، وإن شاء الله أصلي، فودعناه وشكرناه وخرجنا، جاء وصلى فريضة واحدة، وبعدما صلى فرحنا، وانقطع أسبوعاً أو أسبوعين ولم نعد نراه، جاء جماعته، قالوا لي: يا إمام! الرجل صلى معنا مرة ومن ثم لم نعد نراه، قلت: نذهب إليه، ذهبنا لزيارته، قلنا: جزاك الله خيراً زرناك قبل هذه المرة، وقلنا لك عن الصلاة، وأتيت صليت، قال: نعم الحمد لله صليت، قلنا: كم صليت؟ قال: مرة، قلنا: لا.
ليست مرة، قال: كيف؟ قلنا: كل يوم خمس مرات، قال: الله! كل يوم خمس مرات! قال: خمس مرات ذاهب وخمس مرات راجع؟!! قلنا: خمس مرات ذاهب وخمس مرات راجع، قال: والله هذه صعبة! يقول: قلت: وما ظنك؟ قال: أنتم قلتم لي صل، يعني: صلاة واحدة فقط، يظن أنها صلاة واحدة، ويريد أن يدخل الجنة بصلاة واحدة، وهو يدرس (12) أو (16) سنة، حتى وجد له وظيفة بألفي ريال، وهو يريد أن يدخل الجنة بركعتين صلاها في المسجد، وقال: صليت، سبحان الله ما أجهل الناس! قلنا: لا يا أخي! لا بد أن تصلي كل يوم خمس مرات، في الفجر الساعة كذا وفي الظهر وهكذا، قال: حاضر، وفي اليوم الثاني أخبرني الجيران أنه ذهب وأحضر سيارة وخرج من البيت، قال: والله ما تخارجني هذه الشغلة! فلا بد أنك تصبر في بداية الأمر، وفي فترة التدريب، ومن ثم بعد أسبوعين شهرين ثلاثة شهر تصبح خلقك ومزيتك الصلاة.(26/11)
من قوارب النجاة ملازمة ذكر الله سبحانه وتعالى
القارب الثالث من قوارب النجاة: ذكر الله عز وجل.
وذكر الله من أعظم ما ينجو به العبد من عذاب الله في الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (ألا أدلكم على أفضل الأعمال عند مليككم، وأزكاها لكم عند ربكم، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله عز وجل).
وقال عليه الصلاة والسلام فيما يحكيه عن ربه عز وجل: (أنا مع عبدي ما ذكرني أو تحركت بي شفتاه، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة، وكنت إليه بكل خير أسرع) حول (الموجة) على الله وسترى أن ربي يقبلك ولا يردك، لكن إذا أعرضت عنه وزغت عن طريقه لا يرجعك؛ لأنه غني عنك، قال الله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] وقال: {انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة:127] والعياذ بالله.
فانتبه لئلا تزيغ، ولا تنصرف عن الله، ولا تولي وجهك عن ربك وإنما ولِّ وجهك إلى الله، ومن ثَم أبشر ستتوجه لك كل خيرات الدنيا والآخرة إذا وجهت وجهك إلى الله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50].
ذكر الله من أعظم القربات، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله كمثل الحي والميت) ويقول الله عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] ويقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] وأثنى الله على عباده المؤمنين والمؤمنات فقال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35].
وذكر الله مطلوب من العبد في كل أحواله، حتى قال الله في آخر سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] من هم؟ قال: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191] وهذه هي الحالات الثلاث التي لا يكون العبد إلا فيها، إما قائماً أو قاعداً أو نائماً؛ فهو يذكر الله قائماً وقاعداً ونائماً، قال: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] فذكر الله عز وجل مطلوب منك أيها المسلم.(26/12)
أقسام ذكر الله
الذكر له خمسة أقسام أذكرها لكم بسرعة: القسم الأول: ذكر الله عند ورود أمره.
إذا ورد عليك أمر الله بالصلاة أو بالصوم أو بالحج، فإنك تذكر الله بتلبية الأمر؛ لأن الله يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] لو أنك نائم في الفراش وسمعت المؤذن ورددت معه، ثم استعذت بالله من الشيطان وقمت تصلي، هذا هو الذكر، أنت ذاكر ذكراً عملياً، لكن لو أن شخصاً ردد مع المؤذن ووضع البطانية تحت رأسه وجلس يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، ولم يقم يصلي، ما رأيكم في ذكر هذا؟ هذا ذكر كذاب، إنما الذكر ما أقامه إلى الصلاة.
القسم الثاني: ذكر الله عند ورود نهيه.
أنت تمشي في الشارع ومرت عليك امرأة متبرجة وجميلة، ودعاك الشيطان والهوى إلى النظر، ولكنك ذكرت أن الله ينظر إليك ويراك، فصرفت بصرك، ما الذي جعلك تصرف بصرك؟ ذكر الله، ليس ذكر الله الكلامي، ذكر الله العملي، ذكرت أن الله يراك، فغضضت بصرك، أنت ذاكر لله أعظم ذكر.
القسم الثالث: ذكر الأحوال والمناسبات.
ذكر الصباح والمساء، والأكل والشرب، والنكاح، ودخول المنزل والخروج منه، ولباس الثوب؛ لأن ما من حركةٍ من حركات المسلم ولا سكنة من سكناته إلا وعليها أمر وشرع وهدي من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، كل شيء، إذا أتيت لتنام فهناك ذكر، تقول: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، ففرق بينك وبين من يأتي ينام، فيضع يده على الراديو ويبحث إلى أن يجد إذاعة فيها أغنية ومن ثم ينام -والعياذ بالله- فتأتي الملائكة ترى هذا الجيفة الذي لا يستحق أنه يحرس فتتركه، فيأتي الشيطان ويسيطر عليه -والعياذ بالله- أما إذا قلت: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين، هرب الشيطان وتولى الملك حراستك، حتى يوقظك لصلاة الفجر، فتنام على ذكر الله.
إذا انقلبت من النوم كلما انقلبت من جنب إلى جنب قل: لا إله إلا الله، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله.
في الحديث والحديث صحيح (من تعارَّ من الليل -أي: من انقلب أو انتبه في الليل- فقال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ثم صلى ودعا الله إلا استجيب له).
ومن ثم إذا استيقظت أول ما تفتح عينك وأنت جالس تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور، اللهم ابعثني إلى كل خير، أصبحت على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد، وملة أبينا إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين.
ثم تستعيذ من الشيطان، وتقوم تتوضأ.
قبل أن تدخل الحمام هناك تقدم رجلك الشمال وتقول: باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم.
ومن ثم إذا قضيت حاجتك وخرجت، عندما تخرج تقدم رجلك اليمنى وتقول: باسم الله، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني، غفرانك، ثم تتوضأ فتقول: باسم الله، انتهيت من الوضوء تستقبل القبلة، وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين.
ومن ثم إذا لبست ثيابك ففيه ذكر، وإذا نظرت إلى المرآة أمامك فيه ذكر.
إذا خرجت من بيتك إلى الخارج تقول: باسم الله، توكلت على الله، آمنت بالله، اعتصمت بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله! اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أظلم أو أظلم، أو أزل أو أُزل، أو أجهل أو يجهل علي، اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي قلبي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، اللهم أعظم لي نوراً.
ما رأيك في هذا الكلام؟ هل ربك يتركك وأنت على هذا الذكر.
تدخل المسجد تقدم رجلك اليمنى، وتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، باسم الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك واغفر لي ذنوبي، ومن ثم تصلي، وتنتهي من الصلاة وتخرج، ومن ثم تلبس ثوبك، وتأكل الطعام، وتأتي زوجتك، تسمع الرياح تهب، ينزل المطر، تأكل من الثمار، كل حياتك فيها ذكر، من أين تتعلمها هذه؟ من كتب العلم، وهناك كتاب أدلكم عليه اسمه: " الوابل الصيب من الكلم الطيب " الذي ليس موجوداً عنده فليشتره ولو من هذه الليلة، ثمنه عشرة ريالات قيمة كيلو عنب، كيلو عنب تأكله، ولكن هذا الكتاب يظل معك إلى أن تموت، وإذا مت تورثه لأهلك، وهذا الذكر الثالث اسمه ذكر الأحوال والمناسبات.
القسم الرابع: الذكر العددي، الذي طلب الشرع من المكلف فعله بعدد معين، مثل حديث رواه البخاري عن ابن عمر قال: قال عليه الصلاة والسلام: (من قال في يوم مائة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير؛ كتب الله له مائة حسنة، ومحا عنه مائة سيئة، وكانت حرزاً له من الشيطان يومه ذلك، وكان كمن أعتق عشر رقاب، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل قال مثلما قال أو زاد) في صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (من قال في يوم مائة مرة: سبحان الله وبحمده غفر الله له ذنوبه ولو كانت عدد رمل عالج، أو زبد البحر) وفي صحيح مسلم: (من قال عقب كل صلاة: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين، غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر) وبعدها يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
هذا هو النوع الرابع، اسمه: الأذكار العددية التي حددها الشرع بعدد معين؛ لأن العدد مقصود ومراد لذاته، فينبغي أن تعده كما تعد الذهب.
القسم الخامس والأخير هو: الذكر المطلق في كل أحوالك.
في طريقك وفي سيارتك وعلى فراشك تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ لأنهن الباقيات الصالحات، يقول فيهن النبي صلى الله عليه وسلم والحديث صحيح: (لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، خير وأحب إليّ مما طلعت على الشمس) هذا قارب وستر ونجاة كبيرة من النار ومن عذاب الله عز وجل ألا وهو ذكر الله عز جل.
فيا من تريد النجاة تمسك واركب في هذه القوارب، اركب معنا ولا تكن مع الكافرين، ولا تكن كما قال ابن نوح: {سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:43] لأنه لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، حتى لا يحول الموت بينك وبين قوارب النجاة فتكون من المغرقين الهالكين، هناك تندم وتقول: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27 - 29].
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن ينجينا وإياكم من عذابه، وأن يعيننا وإياكم جمعياً على سلوك هذا الطريق، وركوب هذه القوارب، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(26/13)
الأسئلة(26/14)
ضرورة التوازن بين الاهتمام بالجانب الروحي والجانب الجسدي
السؤال
ذكرتم يا فضيلة الشيخ! أن الإنسان لا بد أن يوازن بين الجانب الروحي والجانب الجسدي، ولكن الشباب الملتزمون يهتمون بالجانب الروحي ويهملون الجانب البدني، ظناً منهم أن ذلك لا يليق بالمسلم، فهل هذا صحيح؟
الجواب
لا.
ليس صحيحاً، لكن الاهتمام بالجانب الجسدي ليس كما نتصوره نحن فقط هو الاهتمام بالرياضة، الاهتمام بالجسد يشمل الرياضة، وحفظ الصحة، والغذاء الصحي المناسب، ويشمل الكساء والفراش والبيت، كل هذه اسمها حقوق الجسد، ليس حقوق الجسد فقط محصورة في مزاولة التمارين أو الجري أو لعب الكرة أو غيرها، هذا جانب، فكون الشاب لا يمارس الرياضة المتعارف عليها، لا يعني أنه لا يهتم بجسده، لا.
ولكن إذا تصور هو أن ممارسة الرياضة تتنافى مع التزامه فهو مخطئ، أبداً، ليس في ممارسة الرياضة البريئة التي تمارس وفق الشرع، ولا تصد عن ذكر الله، ولا عن الصلاة، ولا تكشف فيها عورة، ولا يلتقي فيها بإخوان سوء يعملون منكراً أو يعينون على منكر ليس فيها شيء، بل ربما تكون وسيلة دعوة إن شاء الله، أعرف أنه يوجد من الشباب من التزم واحتك بزملاء آخرين عن طريق الرياضة وأثر فيهم وقادهم إلى ساحل النجاة والدعوة إلى الله عز وجل.(26/15)
النفخ في الصور
إن يوم القيامة يوم عظيم؛ ولأجل ذلك سمي بأسماء كثيرة، وهو يبدأ بالنفخ في الصور، حيث يمثل النفخ في الصور الفترة الانتقالية الفاصلة بين عالم الدنيا وعالم الآخرة، وهذا الحدث له ما بعده وله أهميته هذا هو موضوع حديث الشيخ في هذا الدرس، فقد تحدث عن النفخ في الصور، مبيناً صفته وصفة النافخ فيه، والفرق بين نفخة الصعق ونفخة البعث، ثم ذكر أن هناك أقواماً استثناهم الله تعالى من نفخة الصعق فهم لا يصعقون.(27/1)
فضل مجالس العلم والإيمان
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
وبعد: يحتاج المسلم وهو يسير في هذه الحياة ويقطع مراحلها ويشهد تقلباتها يحتاج إلى غذاء وزاد، وما هذه الجلسات الإيمانية والدروس العلمية التي يحرص عليها المؤمن إلا زاداً يزيد المسلم والمؤمن قوة، ويمده بتأييد وعون حتى يستطيع مواصلة السير في ثبات وقوة وأمان واستقرار؛ لأن العوائق والموانع كثيرة، والمثبطات والمؤثرات كثيرة جداً، وما لم يتولاك الله برعايته ويحميك بعنايته بعد أن تقبل عليه، وتبحث عن أسباب النجاة بين يديه، وتعود وتعاود، وتكرر الجلوس في بيوته، وإلا فإن الإنسان عرضة للانزلاق وللخطر والهلاك في هذا الزمان الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بغربة الدين في آخر الزمان، ولكن بالمداومة على مجالس الذكر وبسماع العلم ينشط القلب ويستمر في السير؛ ولذا فإن من أهم ومن ضروريات حياة المؤمن أن يحرص على هذه المجالس، وهي لا تشكل مشكلة من فضل الله، وما هي إلا وقت بسيط ويسير بين المغرب والعشاء مرة أو مرتين أو ثلاثاً في الأسبوع، لو قست ساعات الجلوس فيها على ساعات الأسبوع كاملة لكانت النسبة ضئيلة، ولكن فيها بركة وخير تستطيع بها -إن شاء الله- أن تثبت على الطريق وأن تسير على خطا قوية ثابتة تعرف كيف تعبد الله وتسير إلى إليه وتتجنب المخاطر والمعاطب والمعوقات حتى تصل إلى الله بسلام.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يثبتنا وإياكم على السير في هذا الطريق، وأن يحمينا وإياكم من المعوقات حتى نلقاه وهو راض عنا إنه على كل شيء قدير.(27/2)
عظمة يوم القيامة
موضوع اليوم سيكون عن (النفخ في الصور) بعد أن تكلمنا في الأسبوع الماضي عن (أسماء يوم القيامة) وذكرنا أن لها أسماءً كثيرة استطعنا أن نتحدث عن اثنين -أو ثلاثة- وعشرين اسماً من أسمائها، وقلنا: إن تعدد الأسماء للشيء يدل على عظمته، فعظمة الساعة وشدة هولها جعلت لها مسميات كثيرة، هذه المسميات بمدلولاتها تبين جزءاً من عظمة هذه الأهوال التي تكون يوم القيامة: الحاقة الصاخة الطامة الواقعة كل هذه أسماء كثيرة جداً تقرع القلوب، وتهز النفوس، وتبين عظمة الأحداث التي سوف تكون في ذلك اليوم.(27/3)
بداية يوم القيامة
يبدأ أول حدث من أحداث يوم القيامة وهي الفترة الانتقالية الفاصلة بين عالم الدنيا وعالم الآخرة بالنفخ في الصور، ولذا فهذا الحدث له ما بعده، وله أهميته، فالكون العجيب الذي نعيش فيه يعج بالحياة والأحياء الذين نشاهدهم والذين لا نشاهدهم، فإن ما غيب الله عز وجل عن أبصارنا أعظم مما أبدى لنا، ولهذا يقول الله عز وجل: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة:38 - 43] فما أبصرنا وما كشف الله لنا في عالم المشاهدة ليس إلا شيئاً يسيراً مما أخفاه الله من العوالم الأخرى التي لا نراها؛ ولذا فقد وصف الله عز وجل أهل الإيمان بأن من أبرز صفاتهم ومن أهم علاماتهم الإيمان بالغيب فقال: {ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1 - 3] هذه أول صفاتهم، فما غيب الله عن أبصارنا أكثر مما أظهر لنا والعالم المشاهد ليس إلا نماذج بسيطة من العالم المغيب عن الأبصار.
وهذه العوالم ما كان منها في عالم الغيب أو عالم الشهادة فإنها في حركة دائبة لا تتوقف ولا تهدأ، وستبقى على هذا الحال في حركتها إلى أن يأتي اليوم الذي يأذن الله تبارك وتعالى بفناء العالم وهلاك من على وجه الأرض حين يقول: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] ويقول عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] وهذا الحدث سيكون عندما يأمر الله عز وجل بالنفخ في الصور فتنتهي الحياة في الأرض وفي السماء وتنتهي جميع عوالم الأرض والسماء المشاهدة وغير المشاهدة، يقول عز وجل: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} [الزمر:68 - 70].(27/4)
أقسام الناس يوم القيامة
ينقسم الناس بعد الحساب وبعدما يؤتي بالكتب وبالموازين ويفصل بين العباد إلى فريقين: فريق يساق إلى النار، وفريق يساق إلى الجنة، يقول عز وجل: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} [الزمر:71] أي: مجموعات، كل مجموعة مع من يشاكلها، وهذا فيه زيادة للعذاب، أي: يجمع الزناة سواء، فما يأتي زان أو اثنان، بل كل الزناة على وجه الأرض منذ خلقهم الله إلى يوم القيامة يأتون كلهم في شعب واحد وتسوقهم الزبانية إلى النار قال العلماء: إن في سوق كل أهل معصية سواء فيه تيئيس من الرحمة؛ لأن الزاني إذا رأى نفسه لوحده قال: يمكن أن أدخل في رحمة الله، لكن عندما يراهم ملء الوديان والشعاب يقول -وهؤلاء كلهم مثله-: إذاً ليس هناك أمل في النجاة، فالزناة سواء، واللوطة سواء، واللصوص سواء، والقتلة سواء، والملاحدة سواء {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} [الزمر:71] وهذا معنى قول الله عز وجل: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} [النبأ:18] أي: مجموعات، يفوج الناس ويجمعون ويقسمون ويفصلون بحيث يكون كل فوج وكل مجموعة مع ما يشاكلها من العمل.
{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71] * {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:72] نعوذ بالله جميعاً من هذا المصير! وأما أهل الإيمان -جعلنا الله منهم- فيقول الله تعالى فيهم: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً} [الزمر:73] أي: مجموعات، لتبدو رحمة الله عليهم؛ الشهداء مع الشهداء، والنبيون مع النبيين، والصالحون مع الصالحين، الأولياء مع الأولياء، وأهل الصيام مع أهل الصيام، وأهل الزكاة المتخصصون الذين يبذلون أموالهم في سبيل الله سواء مع بعضهم؛ ليعرف الواحد أنه ليس لوحده في هذا المجال وليس لوحده في هذا الطريق، بل معه المجموعة الكبيرة من عباد الله، فيأنس ويفرح إن كان من هؤلاء الناجين -نسأل الله وإياكم من فضله-.
{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الزمر:73] الأمن والطمأنينة والسلام عليكم؛ لأنكم سلمتم من عذاب الله، فقد سالمتم الله في الدنيا، وما تعرضتم لمساخط الله، ولا اجترأتم على حرمات الله عشتم في الدنيا في سلام ومتم في سلام وبعثتم في سلام، فالسلام والأمن عليكم، {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73]؛ لأنكم كنتم طيبين في الدنيا، طابت أعمالكم، وأخلاقكم، وسلوككم، وعقائدكم، وعبادتكم، وحياتكم، وبيوتكم، وأسماعكم، وأبصاركم، وفروجكم كنتم طيبين لا تقعون إلا في الطيب (طِبْتُمْ) أي: في الدنيا، نسأل الله من فضله {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الزمر:74] يقول أهل الجنة هذه الكلمة بعد أن يبشروا بالجنة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر:74]؛ لأن المؤمن معه وعد من الله إلى الآن ولا يدري ماذا عليه، لا يدري هل يحقق الله له وعده بدخوله الجنة إذا سلم من الآفات، أم يردَّ عمله عليه بسبب منه وإن الله لا يظلم أحداً! الله لا يظلمك ذرة لكن قد يكون المانع منك أنت، فقد تعمل عملاً وتفسده، وقد تعمل عملاً تظن أنه صالحاً وهو غير صالح، ليس لوجه الله، ولكن اعمل واجتهد واجتنب أمرين: الشرك، وهو الرياء، فهو الذي يحبط العمل، والمخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، واجعل عملك خالصاً وصواباً، وثق بأن الله لن يضيع عملك؛ لأن الله تعالى يقول: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195].
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74] * {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75]، نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا وإياكم وآباءنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وزوجاتنا وذرياتنا وجميع إخواننا المسلمين من هذه الزمر الناجية التي تساق إلى الجنان سوق التكريم والتشريف مع عباد الله الصالحين، إنه على ذلك قدير.(27/5)
نفخة الصعق
هذه هي النفخة الأولى، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر:68] تسمى النفخة المدمرة؛ نفخة مدمرة مهلكة لا يبقى معها حياة، صعق، والصعق هو: الموت والفناء والدمار والهلاك، يصعق الناس فيموتون في لحظة واحدة مع هذه النفخة، نفخة مدمرة يسمعها المرء فلا يستطيع أن يوصي بكلمة واحدة بل يموت لتوه، ولا يقدر أن يعود إلى أهله أو بلاده أو خلانه يقول عز وجل: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس:49 - 50]؛ لا يستطيع أن يوصي بعد النفخة، ولا يستطيع أن يعود.
وفي الحديث الذي يرويه الإمام مسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً) والليت: هو الرقبة؛ صفحة العنق.
وأصغى، أي: أمال، فأنت عندما تريد أن تسمع كلاماً كثيراً تميل رأسك وتركز من أجل سماع الصوت، فما يسمع هذه النفخة أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً: (وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله) أي: ينظف الحوض الذي تشرب فيه الإبل، فقال: (فيصعق ويصعق الناس من بعده) وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سرعة هلاك العباد فقال: (ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه) أي: شخص يشتري ثوباً فينشر الثوب لكي يراه وهو بينهما فلا يبيعانه ولا يطويانه من سرعة الأمر (ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه) أي: أخذ اللبن من الناقة فلا يذهب به إلى بيته ليطعمه (ولتقومن الساعة وهو يلوط حوض إبله فلا يسقيها، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فمه فلا يطعمها) والحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه.(27/6)
تعريف الصور وصفة النافخ فيه
حسناً ما هو هذا الصور الذي ينفخ فيه؟ الصور في لغة العرب: القرن، وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عنه ففسره بما يعرف العرب من كلامهم، وفي سنن الترمذي وأبي داود وابن ماجة ومسند أحمد ومستدرك الحاكم، وقال الحاكم: هذا الحديث صحيح الإسناد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأعرابي سأله: (ما الصور؟ قال: الصور قرن ينفخ فيه، وهو حاوٍ لجميع أرواح العباد) هذا الصور ما من روح تخرج من جسد إلا وتذهب إلى هذا الصور، لها محل تستقر فيه إلى أن يأتي ذلك اليوم الذي ينفخ فيه النفخة الثانية، أما النفخة الأولى فهي نفخة الصعق، والناس لا يخرجون مع النفخة الأولى، إنما يخرجون مع النفخة الثانية، قال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68].
والنافخ في الصور المشهور عند أهل العلم أنه ملك من الملائكة العظام وهو إسرافيل عليه السلام، وقد وقع التصريح باسمه في أحاديث، منها: حديث أبي هريرة في حديث الصور الطويل الذي صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة.
وإسرافيل ملك عظيم، والملائكة كلهم ضخام غلاظ، يعني: لهم خلقة تختلف عن خلقة البشر، وما البشر بالنسبة لهم إلا كالذر بل أصغر من الذر؛ إذا كان الواحد من حملة العرش يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم والحديث ذكره الإمام السيوطي في صحيح الجامع، يقول: (أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) وفي بعض روايات الحديث: (خفق الطير) أي: سرعة الطير، هذه رقبته التي هي عندنا تساوي (5سم) أو أربع أصابع رقبتي ورقبتك! أما الملك فطول رقبته مسيرة سبعمائة عام، وفي الأحاديث الصحيحة حينما وصف النبي صلى الله عليه وسلم جبريل شديد القوى؛ أخبر أن له ستمائة جناح، وأنه فرد اثنين منهما حين جاء بالوحي فسدَّ ما بين الخافقين، أي: ما بين المشرق والمغرب انحجب باثنين من الأجنحة، وبقي خمسمائة وثمانية وتسعون جناحاً، وأن جبريل حينما أرسله الله لتعذيب وتدمير قرى قوم لوط غرس جناحه فدخل في الأرض إلى أن استقر في الأرض السابعة، ثم حملها بقراهم ومدنهم وبكل ما معهم حتى الكلاب والقطط، إلى أن بلغ بهم عنان السماء على جناحه ثم قلبها عليهم! قال الله تعالى: {مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} [التحريم:6] وورد في بعض الآثار صفة إسرافيل هذا: (أن رجليه تحت تخوم الأرض السابعة، وركبتيه في السماء السابعة، والعرش على كاهله، ورقبته ملوية تحت العرش، وقد قدم رجلاً وأخر أخرى، وعين في الرحمن وعين في الصور ينتظر الأمر من الله عز وجل بالنفخ في الصور) حتى ورد في بعض الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه ليلة الإسراء والمعراج قال: (إني ظننت من تأهبه أني ما أبلغ الأرض حتى تقوم الساعة) وذلك لاستعداده، وقال في حديث آخر: (كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم الصور).
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن إسرافيل مستعد دائماً للنفخ فيه منذ أن خلقه الله عز وجل، ففي مستدرك الحاكم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن طرف صاحب الصور منذ خلق مستعد ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه، كأن عينيه كوكبان دريان) العين مثل الكوكب الدري، وهو النجم الكبير! إذاً كيف الرأس؟ وكيف الجسم؟! مهما تتصور فلن تقدر على تصوره، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إنه منذ خلقه الله ووكل بالنفخ في الصور وعينه في الله عز وجل؛ يخشى أن تغيب عينه طرفة واحدة فيؤمر بالنفخ) ولذا فهو مستعد دائماً، والحديث صحيح صححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وهذا الكلام يقوله النبي صلى الله عليه وسلم قبل (1400) سنة، وأما في زماننا هذا وبعد هذه السنين الطويلة الذي اقتربت فيه الساعة وحدثت فيه أشراطها وعلاماتها فقد أصبح إسرافيل أكثر استعداداً وتهيؤاً للنفخ في الصور، فقد روى ابن المبارك، والترمذي، وأبو نعيم في الحلية، وابن حبان في صحيحه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم -أي: كيف أستريح وأستقر- وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته، وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر أن ينفخ فيه فينفخ! فقال الصحابة لما سمعوا الخبر: كيف نقول يا رسول الله؟) أي: إذا نفخ في الصور ونحن موجودون معك كيف نقول؟ لأنهم تصوروا أنه من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه يمكن أن ينفخ تلك الليلة أو غداً أو بعده -يعني: قريباً- قالوا: (كيف نقول يا رسول الله! قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، توكلنا على الله، حسبنا الله ونعم الوكيل، توكلنا على الله).(27/7)
يوم الجمعة هو يوم النفخ في الصور
أما متى ينفخ؟ وما هو اليوم الذي ينفخ فيه؟ فإنه ورد في الأحاديث الصحيحة أنه ينفخ في الصور في يوم محدد من أيام الأسبوع وهو يوم الجمعة، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة) وفي حديث آخر أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الساعة تقوم في يوم الجمعة وأنه يبعث الناس فيها، فعن أوس بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة عليَّ) صلوات الله وسلامه عليه.
ولما كانت القيامة لا تقوم إلا يوم الجمعة فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن جميع المخلوقات في كل يوم جمعة تكون خائفة مشفقة وجلة مصيخة مذعنة إلا الجن والإنس، وهما المعنيان بالقيامة، ولكن بالرغم من هذا فهم غافلون؛ لا يتنبهون ولا يتورعون، بل يجعلون يوم الجمعة يوم الفسحة والتمشية والنزول إلى البحر وضياع صلاة الجمعة، وللأكل والشرب واللعب والسهر، يسهرون طوال الليل إلى الفجر، وبعد ذلك ينامون من بعد الفجر إلى العصر، ولا يعرفون لله أمراً ولا نهياً في هذه النزهات إلا من رحم الله.
نحن لا نقول: لا يتنزه الناس، لكن لتكن النزهة في يوم الخميس، أما يوم الجمعة فيوم عبادة، وما أعطتك الدولة يوم الجمعة عطلة أسبوعية إلا لتتفرغ لعبادة الله، ولكي تبكر في يوم الجمعة من الصباح، فتغتسل وتتطهر وتتنظف وتتطيب وتلبس ملابسك وتأتي إلى الجمعة في الصفوف الأولى، وتقرأ سورة الكهف، ثم تصلي ما شاء الله لك من النوافل، ثم تقرأ العديد من الأجزاء، ثم إذا دخل الخطيب تنصت للخطبة، ثم تخرج من الصلاة وقد امتلأ قلبك إيماناً وعلماً وهداية ونوراً، فتسير في الأرض على ذكر الله، قال الله تعالى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} [الجمعة:10] فقد أمر الله بذكره بعد الصلاة مع السير في الأرض، أما الذهاب وقضاء ليلة الجمعة ويومها في الغفلة فيمكن أن تقوم الساعة وأنت على معصية الله والعياذ بالله! ورد الحديث في سنن أبي داود، ومسند الإمام أحمد، وموطأ الإمام مالك، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه هبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي موصخة -أي: منتظرة وخائفة ووجلة- يوم الجمعة من حين تطلع الشمس، حتى تغرب إشفاقاً من الساعة إلا الجن والإنس).(27/8)
الفرق بين نفخة الصعق ونفخة البعث
الذي عليه العلماء في أصح قوليهم: أن النفخ مرتان: الأولى يحصل بها الصعق، والثانية يحصل بها البعث، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} [الزمر:68] وهذه النفخة الثانية {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] وقد سمى الله في القرآن الكريم النفخة الأولى بالراجفة، وسمى الثانية بالرادفة قال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} [النازعات:6] أي: الأولى {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} [النازعات:7] أي: الثانية التي يبعث الناس من قبورهم على أساسها.
وفي موضع آخر سمى الأولى الصيحة، وصرح بالثانية بأنها النفخ فقال عز وجل: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ} [يس:49 - 51] أي: القبور {إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس:51] أي: يخرجون.
وجاءت الأحاديث النبوية الصحيحة مصرحة بالنفختين، ففي صحيح البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين النفختين أربعون، قالوا: يا أبا هريرة! أربعون يوماً؟ قالوا: أبيت.
قال: أربعون شهراً؟ قال: أبيت.
قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت) أي: لا أستطيع أن أقول لكم: هل هي أربعون يوماً أو شهراً أو ساعة، وقوله: أبيت، أي: لا أدري كم العدد أربعون.
والحديث صحيح.
وفي صحيح مسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثم ينفخ في الصور فلا يسمع أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً، فتنفخ منه أجساد العباد -ينزل مطر بعد النفخة- ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون).
وأخرج البيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: [ثم يقوم ملك بين السماء والأرض فينفخ في الصور -والصور قرن- فلا يبقى خلق في السماوات ولا في الأرض إلا مات إلا ما شاء ربك، ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون] وروى أوس بن أوس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه الصعقة، وفيه النفخة) فدل الحديث على أن النفخة شيء والصعقة شيء آخر، فالصعقة هي الأولى والنفخة هي الثانية، وقد رجح هذا الأمر معظم العلماء الذين استدلوا على ذلك بالآيات والأحاديث التي سقناها.
وذهب بعضهم إلى أنها ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث.
ولكن الصحيح الذي تسنده الأدلة أنها نفختان؛ للأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك.(27/9)
أقوام استثناهم الله من الصعق
هناك أقوام لا يصعقون عندما ينفخ في الصور النفخة الأولى، يقول الله عز وجل: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] ولكن من هم هؤلاء المستثنون الذين لا يصعقون حينما يصعق الناس كلهم؟ من هم الذين شاء الله ألا يصعقوا؟ اختلف العلماء فيهم ومن هم هؤلاء الذين قال الله فيهم: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] فذهب كثير منهم وهو رأي الإمام أحمد بن حنبل وابن تيمية رحمهما الله إلى أن المراد بهم: الذين في الجنة من الحور العين والولدان، فإن هؤلاء لا يصعقون من ذلك، يقول ابن تيمية: وأما الاستثناء فهو يتناول ما في الجنة من الحور العين، فإن الجنة ليس فيها موت، فالذين في الجنة من الحور العين والولدان المخلدين ليس فيها موت حتى يموتوا، ولذا يصعق كل من على وجه الأرض، أما الذين في الجنة فإنهم لا يموتون.
وقد ذهب بعض العلماء إلى مذاهب شتى في غيرهم، ولكن يقول بعض أهل العلم: الأولى بالمسلم التوقف في تعيين من استثناهم الله؛ لأنه لم يصح في ذلك نص يدل على تقسيمهم، وإنما هي فقط اجتهادات من أهل العلم.
وقال بعضهم: إنهم إسرافيل وميكائيل وجبرائيل وعزرائيل ملك الموت، ثم يأمر الله عز وجل ملك الموت فيقبض روح إسرافيل ويقبض روح جبرائيل ويقبض روح ميكائيل، ثم يقول الله له: من بقي؟ فيقول: ما بقي إلا أنت الحي القيوم وبقي عبدك.
أي: بقي هو الذي يقبض أرواح الناس، فيقول الله له: لتذق ما أذقت الناس، لتمت.
فيموت فلا يبقى أحد! فيقول الله تعالى: لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ فلا يرد عليه أحد، فيقول الله ويرد على نفسه: لله الواحد القهار.
وبعدها يحيي الله عز وجل إسرافيل، ثم يأمره بالنفخ فيحيا من على وجه الأرض.
وهذه الأقوال وردت في كتب أهل العلم، ولكن الصحيح الذي يطمئن إليه القلب: أن يسلم المسلم ويتوقف في التعيين؛ لعدم وجود الدليل المصرح الذي ينص على المراد بهؤلاء الذين استثناهم الله.
هذه الأشياء هي كل ما يتعلق بالنفخ -نفخة الصور- وما بعده من الأهوال سيكون موضع -إن شاء الله- موضوع المحاضرات أو الدروس القادمة، ونكتفي بهذا.
ونسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يؤمننا وإياكم يوم الفزع الأكبر، وأن يجعلنا وإياكم ممن يظلهم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(27/10)
الأسئلة(27/11)
حكم الجلوس لعزاء أهل الميت
السؤال
ما حكم الشرع في نصب الخيام والتجمعات للعزاء عند أهل الميت؛ مع العلم أن أهل الميت لم يكلفوا بشيء من نصب الخيام ولا الطعام الذي يقدم للناس فيها؟
الجواب
هذه من الأمور التي حدثت في هذا الزمان وعمت وانتشرت وطمت، وقد صدرت الفتاوى من العلماء: بأن هذا الأمر غير جائز، وأنه منكر ومحرم، ولا ينبغي قبوله ولا السير مع الناس فيه، للأحاديث: روى الإمام أحمد في المسند حديثاً عن جرير بن عبد الله البجلي قال: [كنا نعد الجلوس للعزاء وصنع الطعام في بيت الميت جزءاً من النياحة] والنياحة هي: إظهار أي مظهر للتبرم والاعتراض على قضاء الله وقدره في الموت؛ إما بشق الجيوب، أو بلطم الخدود، أو بنتف الشعور، أو برفع الأصوات، أو بالتجمع وتعطيل الأعمال والجلوس؛ الجماعة كلهم يقعدون من أولهم إلى آخرهم، كل شخص يستأذن من عمله ويعطل دكانه ومزرعته ويجلس لماذا لم تداوم؟ قال: العزاء عند بيتي، كيف أدعهم وأذهب؟ فالجلوس هنا جزء من النياحة؛ لأن الناس في تجمهرهم وتجمعهم كأنهم يعترضون على قضاء الله وقدره، وهذا لا ينبغي، فكيف يعزى إذاً؟ قالوا: كان السلف يعزي بعضهم بعضاً في المقبرة وفي الطريق وفي المسجد وفي السوق، وحتى صاحب العزاء كان لا يجلس، بل كان يرجع من المقبرة ويذهب إلى مزرعته، ولا يقول: سوف أذهب فإن الناس سوف يأتوني، وإذا جاء أحد وسأل في البيت عن صاحب العزاء قيل له: هو في المزرعة، ثم يذهب ويعزيه في المزرعة.
ولكن ما يحدث الآن من نصب الخيام، وفرش الفُرُش، وإيقاد الأنوار، وتجمعات الناس وبعد ذلك توضع قائمة للأكل: الغداء خروفان، والعشاء خروفان، والفطور خروفان هذا لم يعد عزاءً! أصبح حفلاً! وليمة! لو بعث الميت من قبره وجاء ودخل البيت ورآهم في هذه الحفلة، سيتصور أن أحداً تزوج في بيته أو أن عنده شيئاً من الأفراح، فإذا قالوا له: لا والله.
ما عندنا زواجاً؛ ولكن تجمعنا لنأكل الخرفان لأنك مت، نذبح خروفين غداء وخروفين عشاء على رأسك، فماذا سيقول هذا المسكين؟ سيقول: حسبي الله ونعم الوكيل، كنت أتصور أنكم إذا مت لن تأكلوا الطعام وإذا بكم فرحتم بموتي وذبحتم الأغنام فرحاً وعيداً بموتي.
فلا ينبغي هذا -يا أخي المسلم! - وإذا حصل هذا وجلسوا عندك فقل لهم: يا جماعة، لا يجوز لكم الجلوس، أنا أشكر لكم حرصكم ومواساتكم ورغبتكم في أن تقوموا باستقبال الضيوف أو المعزين، لكن سألت العلماء فقالوا: لا يجوز، فالآن أطلب من كلٍّ منكم أن يذهب إلى عمله.
سوف يشكرونك ويقولون: بارك الله فيك، وجزاك الله خيراً، وكل شخص يريد الخروج، الكل يريد أن يذهب إلى عمله، لكن بعضهم يجلس خوفاً من العار، حتى أن شخصاً في قرية من القرى أخبرني أنه جاءه ضيوف في بيته وكان في العزاء فأرسلوا إليه الأولاد في العزاء قالوا: الضيوف في البيت.
فأراد أن يأتي ليرحب بهم، فأتى إلى راعي العزاء وقال: جاءني ضيوف وأرسل إليَّ الأولاد، يقولون: الضيوف على الباب، هل أذهب أم لا؟ قال: والله لو تذهب خطوة واحدة فلن آتي إلى بيتك مدى الحياة والرجل مسكين، يقول: فخفت أن أقطعه وأعمل لي مشكلة فرجعت إلى أولادي وقلت لهم: قولوا لهم: الرجل في العزاء لن يأتي، وأنا والله كنت من الضيوف، ولم يأت الرجل، ثم ذهبنا.
وقد حصل هذا عند كثير من الناس، أخ من الإخوة لما توفي عمه وجاء إليه الناس والجيران وعزوه، قال لهم: جزاكم الله خيراً، وبارك الله فيكم، والله يحفظكم ولا يريكم مكروهاً، لكن اعلموا أنه لا يجوز الجلوس، لا أنا سأجلس ولا أنتم ستجلسون، تفضلوا في أمان الله.
فقالوا: الله يبارك فيك ويريحك، والله إننا نحمل همها؛ لأنه دائماً قيام وقعود، أي: كلما دخل شخص قالوا: أهلا بمن جاء، ثم يقومون ويقعدون، وهكذا، وبعضهم لا يأتيه المغرب إلا وقد تعبت عظامه من النهوض والقعود، مع أنها ليست في ديننا مما يثاب عليه الإنسان؛ وإنما هي عادة سنها الشيطان ولا داعي لها.
فعليك إذا حصل عندك عزاء في بيتك أن تعتذر للناس، وإذا حصل عند جار لك أن تأتي إليه وتقول له: العزاء الذي عندك علي، وأنا أواسيك، وأسأل الله أن يغفر لميتك، وأنا لن أذهب لأداوم أو أذهب إلى عملي أو إلى مزرعتي من أجل أن أتركك، ولكنا سألنا العلماء عن الجلوس فقالوا: لا يجوز، فأرجو أن تعذرني وتعذر بقية الإخوان.
فإن عذرك فالحمد لله، وإن أبى وقال: لا.
لا أعذرك.
فرب العالمين يرضى عليك، وعليك أن ترضي الله (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).
أما الطعام الذي يصنع فإن السنة أن يصنع الجيران طعاماً لأهل الميت؛ فإذا حصلت وفاة في بيت فعلى الجار أن يقول: يا إخوة: الغداء عندي اليوم، والله لا تصنعون في بيتكم شيئاً ولا تشبون ناراً، ثم يأتيهم في الظهر ويأتي لهم بنصف ذبيحة أو ذبيحة كاملة ويضعها في صحنين ويدخلها على أهل البيت: صحن للرجال وصحن للنساء، ولا يذوقه في البيت رجل من الضيوف، أو من القرية، إنما هو لأهل الميت، أما الطعام الذي يحصل الآن فإنه للجماعة، يأكلونه كلهم، وكل من أتى من هنا قالوا: هناك غداء فاذهب، هذا ليس لك! هذا هو دارك، هذه بدعة، وبعد ذلك أهل البيت ما يأتيهم شيئاً، وإن أتاهم شيئاً أتتهم العظام والصحون وغسلوا ونظفوا السفر.
يقول لي أحد الإخوة -وقد توفي أخوه في قرية من القرى- يقول: والله لقد أتعبونا تعباً لا يعلم به إلا الله، يقول: نحن في عزاء وقلوبنا مكسورة وخواطرنا مسكورة -فقد مات أخوه في حادث مروري- يقول: والله ما عند الواحد منا فرصة أن يشرب كوباً من القهوة؛ فالصحون طالعة ونازلة! فقط، أكثر من (25) خروفاً ذبحت في أيام العزاء! يقول: يأكلون ويقولون: نحن قلوبنا مقطعة لا نريد أن نأكل، وهم فقط يأكلون حتى الصباح.
الذي يكثر من اللحم يقسو قلبه، يقول الغزالي: لا يكن قلبك أو بطنك مقبرة للحيوانات.
تقبر فيه التيوس والخرفان والدجاج حتى يقسو قلبك؛ لأن الذي يأكل اللحوم من الوحوش هي من السباع المفترسة والطير أكلها الحبوب، والأنعام أكلها الحشائش والخضراوات، لكن الذي يأكل اللحوم هو الأسد والذئب؛ ولذا فالذي يكثر من اللحم يصير قلبه قاسياً جداً، فيقسو قلب الإنسان فلا يذكر الله ولا يذكر الموت وإنما يفرح؛ فكلما مات شخص قال: الحمد لله (نجلس فيها أسبوعاً نأكل).
كذلك نصب الخيام لا مبرر له أصلاً، لماذا الناس ينصبون الخيام؟ ينصبونها لكي يتجمعوا، لكن لو أن كلاً في بيته، فالحمد لله كل منا الآن بيته واسع لا يحتاج إلى الخيام، وإذا جاء معزٍ لن يجلس أصلاً، سيأتي ويقول: السلام عليكم، أحسن الله عزاءكم، بلغنا وفاة فلان، ويعطيهم ويسلم ويمشي، ولكن لو جلسوا وهم ستون أو سبعون أو ثمانون رجلاً أو! أين يجلسون؟ لا بد أن يستأجروا لهم خيمة بثلاثة -أو أربعة- آلاف ويجلسون فيها، والثلاثة آلاف هذه لو أرسلت للمجاهدين الأفغان على نية الميت لكانت خيراً والله له ولهم، وثواباً يلحقهم إلى يوم القيامة.
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين: إنها إذا حولت إلى ذكر فإن هذا بدعة؛ لأنه إقرار للمنكر، إذا أردت أن تذكر فاذهب في غير هذا المكان، أما أن تقول: أنا أستغل التجمع هذا وأدخل عليهم وأقول لهم: يا إخوان! هذا الأمر لا يرضي الله.
وامش، أما أن تجلس وتذكر فإنك بهذا تعطي شهادة بأن هذا الأمر مشروع، وتعطيهم مبرراً لهذا الموضوع، فعليك أن تخرج ولا تجلس في هذه الأماكن، وتحذر من هذا، تأتي إلى المجلس وتقول لهم: يا إخوان! هذا الأمر لا يجوز الجلوس فيه.
وتمشي، فإن أطاعوك فالحمد لله، وإن لم يطيعوك فقد اكتسبت أجراً إن شاء الله.(27/12)
حكم الاستنجاء من الريح
السؤال
بعض الناس ربما يفهم من كلامك في بعض الندوات عن الاستنجاء أن الريح لا ينقض الوضوء، وقد فهم بعض الناس هذا وصححت لهم فهمهم، وأخشى ألا يكون هذا الفهم عند الكثير من الناس، فأرجو التوضيح.
الجواب
نحن وضحنا وقلنا: إن الريح الذي يخرج من الإنسان ينقض الوضوء لكنه لا يوجب غسل القبل والدبر، أي: إذا خرج منك ريح وأردت أن تتوضأ من جديد فعليك أن: تغسل يديك ثم تتمضمض وتستنشق، ثم تغسل وجهك ويديك إلى المرفقين، ثم تمسح برأسك وتغسل رجليك، ولا تغسل موضع خروج الريح؛ لأن الريح ليس له أثر مادي حتى تغسله، لكن بعض الناس يتصور أن الاستنجاء جزء من الوضوء، وهذا خطأ، فإن الاستنجاء شيء والوضوء شيء آخر؛ الاستنجاء هو: إزالة الخارج من السبيلين بالماء، والاستجمار هو: إزالة الخارج من السبيلين بالحجارة، والوضوء هو: رفع الحدث عن طريق غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس وغسل والرجلين، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ولم يقل: اغسلوا تلك الأماكن، لكن بعض كبار السن وبعض الناس أصبحت عنده عادة ولو لم يخرج منه شيء، فإذا أراد أن يتوضأ ذهب واستنجى، لماذا تستنجي؟ قال: أريد أن أتوضأ، يا أخي! لا تستنج إلا عندما يخرج منك شيء، أما إذا لم يخرج منك شيء فاذهب واغسل أعضاء الوضوء فقط، وبعضهم يقول: أنا أجدد، لن أتوضأ لكن سأجدد! يسمي الوضوء مع غسل القبل والدبر وضوءاً، ويسمي الوضوء بدون غسلها تجديداً، فليس هناك تجديد، هذا هو الوضوء الشرعي، فيفهم هذا الكلام إن شاء الله.(27/13)
حكم صرف الزكاة لصالح الدعوة
السؤال
ما رأيكم في من عنده زكاة واشترى بمثل هذه الزكاة -أو المبلغ الذي يريد إخراجه- أشرطة دينية ووزعها على مجموعة من الأفراد للدعوة إلى الله، فهل يعتبر هذا إخراجاً للزكاة؟
الجواب
لا يعتبر إخراجاً للزكاة؛ لا يجوز أن يدعو إلى الله بمال الفقراء؟ لمن هذه الزكاة؟ يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24] لمن؟ {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:25] فأخرج الزكاة وأعط الفقير يأكلها، وأخرج للدعوة من جيبك، أما أن تدعو إلى الله من حق الفقير وحقك وراء ظهرك فما أخرجت الزكاة! وكثير من الناس يريد أن يحتال على الله في هذه المواضيع! الزكاة هذه ليس لك فيها فضل أبداً ولا لك فيها تصرف؛ هي مال الله الذي آتاه لك، وهو الذي أخذه تبارك وتعالى وأمرك بصرفه في وجهته الشرعية، وليس لك أن تتدخل فيها بحيث تصرفها وفق رغباتك وتحابي بها وتجامل، أخرج مال المسكين للمسكين والفقير, وبعد ذلك إذا أردت أن تدعو فعندك -يا أخي- (97.
5%) من كل مائة، وأخرج (2.
5) للفقير، لكن تأخذ حق الفقير وتضعها للأشرطة و (97) تجعلها وراء ظهرك فهذا لا يصح، ومن يعمل هذا فعليه أن يخرج الزكاة من ماله.(27/14)
العدد الذي تصح به الجمعة
السؤال
نحن سكان قرية صغيرة جداً، وفي يوم الجمعة لا يحضر سوى عدد قليل لا يتجاوز أربعة عشر رجلاً، فهل تصح صلاتنا بهذا العدد أم لا بد من وجود أربعين شخصاً؟
الجواب
لا يشترط حضور أربعين شخصاً؛ لأن من اشترط من الفقهاء وهم الحنابلة وبعض الأئمة كانت أدلتهم أدلة ظنية اجتهادية فقط، إنما الصحيح من مذاهب العلماء: أن الجمعة تنعقد بما تنعقد به صلاة الجماعة، فلا يشترط لها أربعة عشر ولا أربعون وإنما يشترط لها ما يشترط للجماعة، فإذا حضر اثنان أو ثلاثة وخطب أحدهم واستمع الاثنان فقد حصلت الجمعة بإذن الله عز وجل.(27/15)
كيفية اختيار الأخ الصالح
السؤال
كيف أحصل على أخ في الله وصديق صالح؟
الجواب
الأخ في الله ضروري جداً من ضروريات الحياة الإيمانية، ولهذا فالنبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر من مكة إلى المدينة ما هاجر لوحده، بل هاجر ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه؛ للاحتياج؛ لأن الطريق يحتاج إلى رفيق، ولهذا كان يثبته ويعينه، وكان يمشي مرة أمامه ومرة خلفه، ومرة عن يمينه ومرة عن شماله، فيقول عليه الصلاة والسلام: (ما لك يا أبا بكر؟ قال: أذكر الطلب -أي: من ورائه- فآتي وراءك، وأذكر الرصد -أي: من قدامه- فآتي أمامك) اللهم صلِّ وسلم على رسول الله.
قال: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! لا تحزن إن الله معنا) فالرحلة طويلة جداً، والمشقات والمعاطف فيها كثيرة، ولا بد من رفيق صالح تختاره.
أما كيف؟ فتختاره -أولاً- من المسجد، من أهل الصلاة والإيمان.
ثانياً: تعرفه من سلوكه؛ من تصرفاته، وكلامه، ونظراته، وماذا يسمع، وماذا يقرأ، ومن الملابسات التي تحصل معك أنت وهو، فإن رأيته صالحاً في كل تصرفاته فعليك أن تمسك به وتسير معه في الطريق، أما إذا رأيته يأمرك بمنكر ويحبب لك السوء ويبغض إليك الطاعة ويزين لك المعصية؛ فاعلم أنه رفيق سوء! فاحذر منه وفر منه كما تفر من الأسد.(27/16)
الثبات على الدين
السؤال
أسأل الله أن يجعل لك حظاً أوفر ولي ولجميع المسلمين في الدار الآخرة أنا شاب هداني الله ثم ذهبت إلى الجهاد، ومكثت مدة طويلة وعدت إلى السعودية ورجعت إلى الدنيا وارتكبت معاصي كثيرة والله المستعان! فأرجو الدعاء لي في هذا، وأرجو إرشادي وتوجيهي لعل الله يرحمني.
الجواب
هذه هي المصيبة -أيها الإخوة- والنكسة! هذه مصيبة؛ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور) والنكسة هذه صعبة جداً جداً، وقد ينتكس الإنسان نكسة تدخله النار -والعياذ بالله- {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3] وأنت -يا أخي الشاب- يا من هداك الله ثم رفعك إلى أعلى درجات الدين؛ إلى ذروة الجهاد في سبيل الله، ثم ذهبت هناك ليس لأن تتنزه تركت المعاش والفراش والأهل والنوم والأمن وذهبت لتضحي بروحك وتقدم قلبك وقالبك في سبيل الله، هذه نعمة وفضل كبير لا يناله إلا أصحاب النفوس الكبيرة والحظ الأوفر عند الله عز وجل، ثم لما عدت لماذا انتكست؟! لماذا ترجع إلى المعاصي؟! لا إله إلا الله! ما ذقت طعم الإيمان؟! ما عرفت حلاوة الدين؟! أين إيمانك وأنت تقف في الخنادق -هناك- تسمع أزيز الطائرات وانفجار القذائف والقنابل من جانبك وعن يمينك وأنت تتمنى أن واحدة تأتي إليك لتقطعك قطعة قطعة لكي تمسي تلك الليلة في الجنة؟! أحد الإخوة لما رجع من هناك قلت له: كيف وضعكم؟ نحن هنا عندما نسمع الجهاد نشعر بالخوف؟ قال: والله ما هناك خوف، يقول: لما ذهبت هناك والله إنها لتنفجر على بُعد أمتار منا، وإني عندما أراها تنفجر أتمنى أن تأتي فيَّ لكي أمسي في الجنة، يقول: ولا تأتيني، ما هناك خوف، هناك أمن كامل، يقول: كنا نخرج من المعسكر إلى الجبهات كأننا والله نخرج في نزهة، إذا خرجت أنا الآن من هنا إلى القرعة أو إلى السودة وأنا في نزهة أشعر بخوف أن يأتني حادث مروري فأموت، لكن هناك يقول: الطائرات تضرب والقذائف تنفجر ونحن في خنادق الموت ولكن لا يوجد خوف، بل نفرح بالموت! فما دام أن الله ثبتك -يا أخي- وجعلك من عباد الله المجاهدين فلم ترضى بالدنية؟ لماذا ترجع وتتمرغ في القاذورات؟ لماذا ترجع توسخ نفسك بالمعاصي؟ إن المعاصي حجاب بينك وبين الله، ويُخشى عليك -يا أخي- أن يختم على قلبك، فنسأل الله الذي لا إله إلا هو الذي هداك وقواك وأذهبك إلى الجهاد الأفغاني ثم رجعت إلى هنا أن يعيدك إلى ما كنت عليه من الثبات والإيمان والهداية، وأن يثبتك على هذا حتى تلقاه وجميع شباب المسلمين.
أما الوصية التي نرشدك إليها: فعليك أولاً أن تكثر من تلاوة كتاب الله؛ لأنه أعظم مثبت، فلا يوجد مثل القرآن، والله ما من شخص ينتكس إلا بسبب ترك القرآن، فأكثر من تلاوة القرآن بالليل والنهار، واجعل المصحف في جيبك، واتل التلاوة الشرعية التي فيها تدبر، لا تترك فرصة من الفرص إلا وأنت تفتح المصحف؛ لأن الله تعالى يقول: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:32] فالقرآن مثبت.
ثانياً: أكثر من الطاعات الأعمال الصالحة؛ فالأعمال الصالحة كثيرة جداً جداً، منها: قيام الليل، وصيام الإثنين والخميس من كل أسبوع، والحضور إلى مجالس الذكر اجعل أوقاتك كلها مجالس ذكر، لا تترك ندوة ولا تسمع بها في الخميس أو في أبها أو في أي مكان إلا وتشغل سيارتك وتذهب إليها؛ لأنك لا يمكن أن تخرج من مجلس من مجالس العلم إلا بخير، لكن لما تبعدْ تضعفْ وتهزلْ.
ثالثاً: احذر من المعاصي والذنوب، ومن سماع الأغاني؛ لأنها تبدأ الخطوات خطوة خطوة، الشيطان لا يأمرك رأساً أن تعصي الله وتترك الدين، بل يأتيك خطوة خطوة؛ يزين لك، ويخطط للمؤامرة ويقول: اسمع طرف الأغنية، هذه موسيقى اسمعها، فإذا سمعتها قليلاً قليلاً إلى أن تنتكس تماماً ولا حولا ولا قوة إلا بالله! واحذر من سماع أصوات النساء خصوصاً في المكالمات الهاتفية، فإن التليفون الآن يفتن ويسبب إزعاجاً كبيراً للمؤمن، فاقطع الخط بمجرد أن تسمع صوت امرأة، ولا تتكلم معها أبداً إلا إذا كانت ذات محرم لك، حتى ولو كان هدفها طيباً.
وبعض الشباب يقول: إنها تسألني عن أمر ديني.
نقول لك: لا تتكلم ولو كان عن أمرٍ ديني، دع دينها لها ودينك لك، نريد الربح فنعود بربحين ونصبح في مواضيع أخرى! حولها على المشايخ والعلماء كبار السن؛ لأن هناك من العلماء والمشايخ من بلغوا درجة من السن والثبات والقوة في الإيمان بحيث أصبحت هذه الأمور عندهم شيئاً طبيعياً -لم يعد يحصل لهم فتنة؛ لأن الله عز وجل قد جعل لهم نوراً في قلوبهم، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث في صحيح مسلم: (تعرض الذنوب -أي: المعاصي- على القلوب كالحصير عوداً عوداً) وفي رواية: (عَوداً عَوداً) أي: مرة بعد مرة، لكن رواية: (عُوداً عُوداً) أقوى؛ لأنه يوضحها: كالحصير؛ حصير الفراش الذي فيه عيدان (تعرض الذنوب على القلوب كالحصير عوداً عوداً) هذا الحديث -يا إخواني- من أعظم الأحاديث في صحيح مسلم (فأي قلب أشربها -أي: قبلها؛ قبل الذنب ورضي به- نكتت فيه نكتة سوداء) أول ذنب نكتة سوداء، وثاني ذنب نكتة ثانية، وثالث ذنب نكتة ثالثة وهكذا (وأي قلب أنكرها) بمجرد ما عرض عليه ذلك الذنب بنتاً رأيتها فغضضت بصرك وأغنية سمعتها فأغلقتها ودخاناً تركت مكانه أي منكر يعرض عليك تتركه (وأي قلب أنكرها صقل قلبه -أي: جلي- حتى يكون أبيض مثل الصفا) قال: (حتى تصير القلوب على قلبين: قلب أسود مرباد -من كثرة النقاط السود، مرباد: يعني متراكم- كالكوز مجخياً -أي منكوساً- لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) لا يعرف معروفاً؛ تقول له: هذا معروف.
يقول: المعروف الأغاني والنوم والتمشية لماذا؟ لأنه منكوس، والله لو قرأت عليه القرآن كله وأعطيته الأحاديث كلها حتى ولو بعث النبي ليكلمه لم يعد ينفع فيه وعظ؛ لأنه ليس عنده مجال للاستيعاب فهو منكوس، وبعد ذلك قلبه مغطى بطبقات كبيرة من الظلام والران من كثرة المعاصي؛ حتى لم يعد للقرآن أثر يصل إلى قلبه؛ لأنه محجوب، يقول الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المطففين:14] أي: غطى على قلوبهم {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].
قال عليه الصلاة والسلام: (حتى تصير القلوب على قلبين: قلب أسود مرباد كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) المعروف عنده: ما عرفه الهوى، والمنكر عنده: ما أنكره هواه لا ما عرفه الشرع وأنكره الشرع (وقلب أبيض كالصفاء -نسأل الله جميعاً من فضله، القلب الثاني: أبيض كالصفاء- لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض) أي فتنة تأتي ترجع، مهما قيل ومهما عمل فيه لا يمكن أبداً.
شخص من السلف سلطت عليه امرأة وتعرضت له، فلما تعرضت له ذكَّرها بالله فرجعت صالحة، وكثير من الناس تسلط عليهم فتن ومصائب من أجل إغوائهم ولكن عندهم (صدامات) قوية وموانع بحيث من حين تأتي المعصية تهرب مباشرة ولا تقرب منه.
فنقول لك: عليك بطاعة الله، وانتبه من معصية الله، احذر منها ولو كانت صغيرة، فإن الصغيرة تجر إلى الكبيرة ثم تسقط والعياذ بالله، ودليل هذا قول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66] فعلوا ما وعظوا به: ما وعظك الله به هو فعل طاعته وترك معصيته.
رابعاً: عليك برفقاء الخير، رفقاء الإيمان، رفقاء الدرب إلى الله، ابحث لك عن رفقة صالحة: اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة تجلس معهم وتذهب معهم وتسمر معهم يعينوك على دين الله! واحذر ثم احذر من رفقاء السوء، فإنه لا ينفعك رفيق الخير إذا كان معك رفيق سوء، فلو معك مائة رفيق خير ورفيق سيء والله ما يقومون بهدايتك وأن هذا يستطيع أن يضلك؛ لأن رفقاء الخير يبنون ورفيق السوء يهدم، والهدم أسرع من البنيان، وقد قيل:
أرى ألف بانٍ لا يقوم لهادم فكيف ببان خلفه ألف هادم؟!
البنيان صعب والهدم سهل، أما ترى الباني وهو يبني الجدار من الصباح إلى المغرب، لكن إذا أتى شخص يريد أن يهدمه ماذا يصنع به؟ يضربه ضربة واحدة فقط ويسقط كله، البناء يوم والهدم لحظة، فأنت إذا جلست مع طيبين ثم جلست مع واحد فاسد أضلك، فلا بد من الحماية للصلاح؛ فاحذر من قرناء السوء!(27/17)
الحذر من المعاصي في الخلوة
السؤال
شاب يشعر بأنه منافق ومراءٍ بالرغم من أنه يحفظ ربع القرآن، ويحافظ على الصلوات الخمس في المسجد، ويحضر دروس العلم، وينصح الناس، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يستمع إلى الأغاني ولا إلى الأفلام، ولكنه إذا خلا لوحده ارتكب بعض المعاصي وخاصة الاستمناء باليد، وكلما حاول أن يترك هذه المعصية عاد إليها، فما نصيحتكم؟
الجواب
أولاً: كونك تشعر -أيها الإنسان- بأنك مراءٍ أو منافق، فقد قال العلماء: إن الذي يشعر بأنه ليس مخلصاً أو أن عنده نفاقاً فإن ذلك برهان إنه ظاهرة صحية تدل على صلاح في القلب؛ لأنه ما أمن النفاق إلا منافق، ولا خافه إلا مؤمن، ويقول ابن أبي مليكة: [أدركت ثلاثين صحابياً كلهم يخشون على أنفسهم من النفاق] وكان عمر بن الخطاب يأتي إلى حذيفة بن اليمان ويقول له: [أسألك بالله هل عدني رسول الله من المنافقين؟] عمر وهو فاروق الإسلام ومشهود له بالجنة ويخاف من النفاق! لكن الذي نخاف عليك منه هو المعصية؛ لأنك الآن عندك خير؛ تحفظ شيئاً من القرآن، وتحافظ على الصلوات الخمس، وأيضاً تحضر دروس العلم، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولا تسمع الأغاني لكنك إذا خلوت بنفسك بارزت الله بهذه المعصية، وهذه ليست سهلة؛ لأن الله عز وجل يغضب عليك إذا مارستها، قال الله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} [النساء:108] {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ} [التوبة:13] وجاء في حديث ثوبان وهو في السنن: (يأتي يوم القيامة أقوام بحسنات كأمثال الجبال فيقول الله لها: كوني تراباً.
فتصير تراباً وهباءً، فيقال: لم؟ قال: كانوا إذا خلوا بأنفسهم بارزوا الله بالعظائم).
والاستنماء باليد الذي يسمونه بـ (العادة السرية) أو (نكاح اليد) من الكبائر! ولا ينبغي لك -أيها المسلم- أن تقع فيها بأي حال من الأحوال، ولا يفهم من كلامي -أيها الإخوة- أن الشخص لا يعصي ويصبح ملكاً من الملائكة؛ فإن العبد خطَّاء، ولا بد من الذنب، ولكن الذي نخشاه على الإنسان الاستمرار في الذنب، إنما كونك تخطئ وتتوب هذا جيد؛ لأنك إذا تبت تاب الله عليك وأرجعك إلى مكانك الأول، بل ربما يزيدك منزلة أكبر، لكن لا تتعمد الذنب، وإذا وقعت فيه فسارع بالتوبة منه ولا تصر عليه، وإذا تبت فحقق شروط التوبة، ومن ضمن شروطها: العزم على عدم العودة.
هذا ونكتفي بما حصل، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق في الدنيا والآخرة، والله أعلم.(27/18)
فرصة الرجوع إلى الله
إن من نعم الله العظيمة علينا أن جعل لنا مواسم نعرض فيها أنفسنا على الكتاب والسنة، ونراجع أنفسنا فيما بيننا وبين خالقنا جل وعلا.
ومن هذه المواسم التي وهبها الله لهذه الأمة شهر رمضان بما يحمله من رحمات، وما يحويه من أحكام تجعل المسلم راغباً في الرجوع إلى ربه، والأوبة إلى خالقه وباريه.
وهذا الموسم على ما فيه من المزية والفضل إلا أنه لا يخلو من الأخطاء التي يرتكبها البعض من إسراف في المآكل والمشارب، والسهر في غير ما طاعة، والتكاسل عن السعي في طلب الرزق بحجة الصيام والقيام، وغيرها من الأخطاء التي جرى التنبيه إليها في هذه المادة.(28/1)
فضل شهر رمضان وأهميته
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تبق فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروما.
اللهم خذ بنواصينا إلى الخير، وأعنا على طاعتك وعلى شكرك وذكرك وحسن عبادتك، واصرفنا يا مولانا عن السيئات والمعاصي والذنوب، فإنه من تقِ الذنوب والمعاصي والسيئات فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم.(28/2)
استقبال رمضان
أيها الإخوة في الله: يستقبل المسلمون ضيفاً كريماً، وغائباً عزيزاً، طالما انتظروه بقلوبٍ مفعمةٍ بالشوق حينما يستقبلونه، وبالحزن والأسى والندم حينما يودعونه، ضيفٌ إذا جاء أقبل معه الخير، وجاءت معه البركات من كل جانب، شهرٌ عظيم يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاكم شهر رمضان، شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار) ينادي منادٍ في أول ليلة من لياليه: (يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر) تفتح فيه أبواب الجنة فلا يغلق منها باب، مفتوحة على مصاريعها، إنها فرصة عظيمة لمن يريد أن يعود إلى الله، وتغلق فيه أبواب النيران فلا يفتح منها باب، وتغل فيه مردة الشياطين فلا يخلصون إلى شيء مما كانوا يخلصون إليه في غير رمضان.
يضاعف الله فيه الحسنات، من عمل فيه حسنة كان كمن عمل ألف حسنة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، يغفر الله عز وجل في كل ليلة لعددٍ عظيم من الخلق، كلهم قد استوجبوا النار، وهو موسم لا ينبغي للمتاجر مع الله أن يدعه.(28/3)
رمضان موسم التجارة مع الله
الناس الآن في حياتهم التجارية لديهم مواسم، فكل إنسان عنده تجارة لا بد أن يكون عنده جزء من العام، يضاعف فيه جهوده، أعطيكم مثالاً الآن: تجار الملابس والأزياء يعدون للصيف ملابسه ويعدون للشتاء ملابسه، فإذا جاء وقت الشتاء فماذا يجهزون؟ الأصواف (والأكوات والفنايل والشراريب والغتر) التي تصلح للشتاء، ويعرضونها ويكثرون منها في هذا الفصل، فإذا جاء الصيف فإنهم يأخذون كل هذه الملابس ويردونها إلى المخازن ويأتون بشيء يصلح للصيف، وهكذا كل تاجر يعرض ما يناسب في الوقت المناسب، وأيضاً يعطي رعاية لهذه البضاعة التي يقدمها ويقبل عليها الناس في هذا الموسم.
والناس كذلك في تجارتهم مع الله التجارة الرابحة التي يقول الله عز وجل فيها: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29] والتي يقول فيها عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10] هذه التجارة الرابحة مع الله عز وجل على مدار العام، عبر فرائض محددة، وواجبات معينة، ومنكرات ممنوعة، وكبائر محذورة، ولكن هناك فرص ومواسم يتيحها الله لأهل هذه التجارة ليضاعف لهم الحسنات.
ومن أعظم المواسم التي مَنَّ الله بها على هذه الأمة: شهر رمضان المبارك، وهو فرصة لمن أراد أن يتوب، وإن الله عز وجل يقبل توبة التائبين في كل وقتٍ، ولكن في رمضان يزيد فتح عطائه على الناس: فيا من جفت روحه! ويا من قسا قلبه! ويا من قاده شيطانه واستفزه إلى المعاصي والذنوب! هاهي فرصتك لتتوب عبر هذا المشوار العظيم مع الله عز وجل في شهر رمضان.(28/4)
رمضان دورة تدريبية للمؤمنين
وهو أيضاً دورة تدريبية إلزامية للمؤمنين على العمل الصالح، يلزم الله عباده المؤمنين بأن يدخلوا ضمن هذه الدورة التدريبية التي مدتها شهر، يتدربون فيها على الصيام، ويتدربون فيها على القيام، ويتدربون فيها على الإنفاق، ويتدربون فيها على الصبر والتحمل وكظم الغيظ، ويتدربون فيها على حفظ أسماعهم؛ لأنهم صائمون، فكيف يصوم ويسمع الأغاني؟! ويتدربون فيها على حفظ أبصارهم، كيف يصومون ويطلقون أبصارهم في الحرام؟! ويتدربون فيها على حفظ ألسنتهم، إذ كيف يسوغ لهم أن يصوموا عن الحلال ويفطرون بألسنتهم على الغيبة والنميمة، والكذب واللعن، والسب والشتم وشهادة الزور؟ وهذه أصلها حرام قبل الصوم وفي رمضان صارت أشد حرمة! وبهذه الدورة التدريبية يطبع المسلم نفسه على أخلاق أهل الإيمان فلا ينتهي رمضان إلا وهو متدرب، ويبدأ بعد رمضان حياة الإيمان متكاملة، هذا هو الذي قبل الله صيامه أن يكون حاله بعد رمضان أعظم منه قبل رمضان، دورة تدريبية إلزامية.(28/5)
فرض الصوم والحكمة من ذلك(28/6)
صيام رمضان ركن من أركان الإسلام
هذه الفريضة العظيمة ركن من أركان الإسلام، ومبنى من مبانيه، يقول الله فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ} [البقرة:183] ومعنى كتب: فرض وأوجب عليكم {الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] * {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] وهذه الفريضة قد فرضها الله عز وجل على سائر الأمم من قبلنا، فما من أمة بعث إليها نبي وأنزل إليها كتاب إلا وقد فرض عليها الصوم، ولكن يختلف في الهيئة والكيفية، والعدد والمدة والكمية عنه في هذه الأمة؛ لأن الله يقول: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48] ولكن المدة تختلف عن مدتنا، فكان من ضمن صومهم الكلام، يمسكون عن الطعام والشراب والنكاح وأيضاً عن الكلام، فمن تكلم كلمة بطل صومه، ولهذا قالت مريم لما قابلها قومها: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:26] * {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} [مريم:27] * {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:28] فما تكلمت بل أشارت؛ لأنها لو تكلمت لأفطرت ونقضت صومها: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} [مريم:29] * {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} [مريم:30] * {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم:31] فالصوم فريضة عظيمة.(28/7)
الحكمة من فرض الصوم
ثم بين الله عز وجل العلة التشريعية من فرضية هذا الصيام فقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] أي: هذه الفريضة الغرض من فرضها أن تتقوا الله، والعلماء يقولون: إن جميع الشرائع الغرض منها أن يتقي العبد ربه، لكن على وجه الخصوص الصيام؛ لأنه عبادة قلبية لا تظهر لأحدٍ على وجه الأرض، ولا يمكن أن يكتشف ما في قلبك أحد أو يعرف أنت صائم أم مفطر إلا الله، إذ بإمكانك أن تتظاهر للناس، فتتسحر مع أهلك السحور، وتخرج مع الناس صائماً في رمضان، ولكن تستطيع أن تختفي عن أعين الناس وتتناول شيئاً من المفطرات ولكن الله يراك، ولذا الذي لا يتناول شيئاً من المفطرات لا مع الناس ولا مع نفسه يبرهن على أنه يتقي الله، ويدلل على أنه يشعر برقابة الله، ولذا جاء في الحديث القدسي: (يقول الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) فالصوم خالص لله ليس لك؛ لأنك تعبد الله فيه كأنك تراه، فأين تذهب؟ أتدخل في الغرفة لتأكل؟ لكن ربي يراك، ولذا إذا لم تأكل وأنت لوحدك ولا أحد يراك دللت على أنك تراقب الله، وأنك تؤمن بأن الله يراك، وهذه مرتبة المحسنين، وهي: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم والحديث في الصحيحين: (بني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلا).
والله فرض هذا الصيام لحكمٍ جليلة أعظمها وأهمها كما قلت: أن يتقي العبد ربه وأن يشعر بمخافة الله.(28/8)
الحكم الأخرى من فرضية الصيام
ومن ضمن الحكم التي شرعها الله عز وجل في حكمة الصيام التي يذكرها العلماء في كتبهم: أن يشعر الإنسان بـ (لذعة) الجوع أثناء رمضان، فيحس ويدرك أن هناك فقراء من المسلمين يشعرون بهذه الـ (لذعة) وهذه الحرارة من الجوع على سائر أيام العام، هناك فقراء في العالم الإسلامي رمضان عندهم ليس شهراً واحداً، بل هو عندهم سنة كاملة، لا يعرفون كيف يأكلون، وقد رأيتم فيما عرض عليكم في الذين اجتاحتهم المجاعة في أفريقيا من المسلمين المساكين لما قدمت لهم الأطعمة ما استطاعوا أن يأكلوها، أحدهم ليس متعوداً أن يأكل هذا الطعام، وهناك أناس يعيشون طوال العام على الفقر، ويعانون من آلام الجوع طول الزمان، فالله عز وجل أذاقك هذه الحرارة وهذه الـ (لذعة) من أجل أن تواسي إخوانك المسلمين بجزء من مالك، وتتعرف على الفقراء، وتعطيهم حتى يعطيك الله عز وجل يوم القيامة.
من ضمن الحكم: أن يستعلي الإنسان على شهواته وعاداته، فيبرهن بقوة إيمانه أنه أكبر من الشهوات وأكبر من العادات، أنا متعود أن أتغدى كل يوم لكن الله أمرني بالصيام، إذاً لا أفطر، أنا كنت أغضب لأتفه الأسباب وكنت عصبي المزاج وحاد التصرف؛ لكن إذا كنت صائماً فلو ضربني الناس فسأقول: اللهم إني صائم، ولهذا جاء في الحديث: (فإن سابه أحد فليقل: إني صائم) يقول: أنا فوق، أنا لست في درجتك يا من تسبني! يا من تستثيرني! يا من تريد أن تسحب لساني فأقع معك في معصية تفسد عليَّ صومي، أو تنقص عليَّ أجري أنا صائم، ولذا فسب، واعمل ما شئت، قل ما تشاء، أنا لا أنزل إلى مستواك أنا صائم.
هذا انتصار على النفس، هيمنة وسيطرة وقوة على النفس البشرية.
ومن ضمن الحكم أيضاً: حفظ الصحة للعبد، وفي الحديث وهو في السنن: (صوموا تصحوا) والعلماء الآن يقولون: إن في الغرب - أمريكا وأوروبا - العلاج الآن بدأ بأسلوب جديد من الأساليب الحديثة هو أسلوب العلاج بالصوم؛ لأن المعدة والجهاز الهضمي على مدار العام يحصل لديه تعب من كثرة ما يتناول الإنسان فيه من الأكل، ويحتاج إلى إجازة، كما أن الموظف عندنا الآن يحتاج إلى إجازة سنوية، فكل سنة يأخذ له شهراً يرتاح فيه من أتعاب العمل ومشاكل العمل، ويأخذ أهله وزوجته وأولاده ويذهب إلى مكة، أو يذهب إلى أهله في القرية من أجل أن يجدد نشاطه ويعود إلى العمل بنفسية منفتحة، وبقلب مشرق، وبأداء متميز لماذا؟ لأن الإنسان يتعب من الدوام المتكرر كل يوم، فيعطونه في أنظمة العمل وفي أنظمة الموظفين شهراً إجازة، ولله المثل الأعلى.
هذه المعدة عبر توالي الشهور والأيام عليها وهي تشتغل في الصباح وفي الظهر وفي المساء، فلا بد لها من إجازة، فأعطى الله للمسلمين شهراً من أجل أن يعطوا راحة لهذه المعدة من كثرة الطعام.(28/9)
فهم الناس لرمضان على غير مراده
المصيبة أن الناس فهموا رمضان على غير مراده، فهموه بغير الطريقة التي أرادها الله منهم، ففهموه أنه شهر أكل، وشهر مطاعم ومشارب، وشهر تفنن في تنويع الأكلات، ولذا ترون التجار يستغلون هذه الموسم فيجلبون البضائع والأنواع التي تطلب منهم في رمضان ويعرضونها.
انظر الآن أمام الدكاكين؛ كل تاجر يعرض المكرونة والشعيرية والعصيرات والكريمات وهذه الأصناف التي تشترى منهم في رمضان، ويأتي الرجل في أول رمضان، بدلاً من أن يشعر بأن من واجباته أن يخفض المصروفات، فإذا كان يستغرق في كل شهر ذبيحة واحدة، فبحكم دخول رمضان ينبغي أن تخفف الذبيحة إلى ذبيحة إلا ثلث، لأن الوجبات كانت في الماضي ثلاث وجبات، وفي رمضان تصبح وجبتين (عشاء وسحور) فالفطور لا يحسب؛ لأنه تمرة وفنجان قهوة لكن الآن بدلاً من أن كانت الذبيحة واحدة في الشهر صارت في رمضان ثلاث ذبائح، يعني: ليتنا جعلنا رمضان مثل شعبان وشوال، لكنا زدنا على رمضان أضعاف ما يحتاجه رمضان، وبعد ذلك ليست ذبيحة واحدة وإنما ذبائح من الغنم، ومن الدجاج، ومن الأسماك، ومن الطيور، وبعد ذلك من جميع ما لذ وطاب مما منح الله العباد من الأرزاق.(28/10)
مخالفة الناس لآداب رمضان(28/11)
الإسراف في المآكل في رمضان
يحصل الآن مبالغة، وعند الناس عرف وعادة فيقال: سنة ما تخدم شهر ليست سنة، أنا أوفر حق سنة من أجل آكله في رمضان كله، فهو: يريد أن يحارب الجوع بأي وسيلة، فلا تراه في نهار رمضان أو قبل رمضان إلا مستعداً بالكراتين، وقد قلت للإخوة اليوم في الثانوية التجارية: إن واحداً من الأقارب اطلعت على بيان قدمته له زوجته بمطالب رمضان وإذا فيه (كرتون مكرونة) -وكان هو وزوجته وطفلان معهم- (كرتون شعيرية)، (كرتون نشا)، (كرتون قطر الموز)، وأنا كل شيء فهمته إلا (كرتون قطر الموز)، قطر الموز العلبة منه تكفي سنة؛ لأنك تضع على المحلبية قطرتين أو ثلاث من أجل تغيير النكهة، لكن أن تشتري (كرتوناً) لماذا؟ فلما قرأ علي قلت: يا أخي! لماذا هذه (الكراتين) من الذي سيأكل عندكم؟ قال: رمضان كريم! قلت: رمضان كريم من أجل تأكل ما في السوق؟ رمضان كريم من أجل أن تكون أنت كريماً، من أجل توفر جهداً مما عندك وجزءاً من مصروفاتك في شعبان وتصرفها على الفقراء والمساكين، تتعرف على الجيران، تأتي وأنت في الحي فتفيق في لحظة من اللحظات وتبحث عن البيوت التي بجوارك فتجد هذا موجوداً وهذا غير موجود، وهذا راتبه قليل، ثم تتعرف عن طريق السؤال وعن طريق التقصي على بيتٍ من بيوت جيرانك وتعرف أنه محتاج، فتأخذ الثلث الزائد أو أكثر منه من المصاريف وتذهب إلى السوق، وتشتري لهم نصف ذبيحة، وتضع معها من العلب التي تعتادها الناس في رمضان: الشربة، و (المكرونة)، والعدس وغيرها، ثم تحملها وتذهب بها إلى الفقير فهذا معنى (رمضان كريم) يعني: أن تكون أنت كريماً، أما كريم على بطنك فقط فهذا ليس بكرم، الكرم أن تخرج هذه الأشياء لمن يستحقها من عباد الله المؤمنين، فتجده يكدس ويملأ الدنيا فإذا بدأ رمضان، ففي الصباح بعد أن يخرج من دوامه يذهب إلى السوق، ويمضي ساعة أو ساعات وهو متنقل في البقالات وفي الأسواق المركزية، ولا يأخذ بيده، ولا يأخذ (بقرطاس)، بل يأخذ (عربية) ويطوف على كل ما في الدكان، ثم يملأها، شيء يأكله وشيء لا يأكله، بعض الناس يضع أشياء تفسد وتنتهي مدتها وهي في البيت، فلا يأكلها، لكن يريد أن يدفع عربية أمام الناس ليقولوا إنه كريم، وإنه إنسان يشتري لأولاده من كل ما لذ وطاب، ولكن لو طلبت من هذا الكريم عشرة ريالات للمجاهدين الأفغان أو لفقيرٍ مسكين لصعبت عليه العشرة الريالات، وكأنها مليون ريال، يقول:
وعند مراد الله تفنى كميتٍ وعند مراد النفس تشدي وتلجم
إذا كانت النفقة لله فبخلاء، وإذا كانت للنفس والشهوات والشيطان فما أكرم منا، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وبعد ذلك يذهب بها إلى البيت وفي الليل يذهب إلى السوق، يمر على الحنيذ ويشتري، ويمر على المقلي من (السنبوسة) و (الطرمبة) و (القطائف) و (الحلبة) والخضار فيأكل، وأنا رأيت شخصاً ذهب وحمل من الجرجير والفجل والبصل والخس، قلت: ما عندك؟ ظننت أن عنده حظيرة بهائم؛ لأن هذا سوف يكفي لأربع أو خمس أبقار، قلت: ما عندك؟ قال: هذا يا شيخ للأولاد، هذه خضرة وفيها حديد وبدأ يعدد لي فوائدها، قلنا: زادك الله خيراً، نسأل الله أن يعيننا وإياك على هذه الأمور.
الشاهد في الموضوع أن الواحد إذا أتى في المغرب أو قبل المغرب بساعة ويعود إلى البيت، وإذا عاد إلى البيت وجد ما لا يمكن أن يتصوره العقل، المرأة المسكينة تعلن حالة الاستنفار لكامل إمكانياتها وقواها البدنية من بعد صلاة الظهر، وتبدأ في إيقاد النيران، وقد كان بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الهلال ثم الهلال ثم الهلال ولا يوقد في أبياته النار (لا توجد نار) قال عروة بن الزبير لـ عائشة رضي الله عنها: [يا أماه! فما طعامكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء] وعبرت بالأسود أي: رديء التمر.
الأسودان التمر والماء، ثلاثة شهور لا توقد النار، ونحن توقد في بيوتنا النيران من كل جانب خصوصاً في شهر رمضان، فتجد الموقد فيه ست عيون كلها شغالة، وتحت فرن وفوق فرن، تحت شغال على (الكيك) والثاني شغال على (الرواني)، وفوق (السنبوسة) تقلب، وتدعو المرأة زوجها تقول: تعال قلِّب (السنبوسة)، وانتبه للسمك لا يحترق، وأنا سأذهب أنظر العيش لا يحترق، المهم غلبة وشغلة طويلة عريضة، والأولاد يشتغلون، وكل هذا من أجل ماذا؟ من أجل بطنك، هذا وقد كان آباؤك وأجدادك يفطرون على قهوة وعلى كسرة شعير، وهذا مر بنا، فكنا نعرف رمضان وليس رمضان إلا كسرة من الشعير وفنجان قهوة، ووالله إنها ألذ وأبرك من عشرين نوعاً من طعامنا هذا، ويقوم الناس للصلاة وبطونهم خفيفة، وأيضاً أمراضهم منعدمة، وحالتهم طيبة، وقلوبهم فيها خير، لكن الآن تجد المرأة واقفة على قدم وساق تدور وتصول وتجول، تملأ مائة صحن وهي تقرب من كل شكل، وبعد ذلك تدخل بها في الغرفة وتسردها، سفرة طويلة عريضة، فهذا هو العشاء.
أما الفطور فحدث ولا حرج عن الفطور؛ الفطور هذا لو أكله جمل لفسدت معدته: فيقدمون صحن تمر، وخمسين أو ستين حبة (سنبوسة)، ومائة أو مائتين حبة (لقمة القاضي)، وصحنين قطائف، وأربع أو خمس (جيكات): عصير برتقال، وعصير توت، وعصير تفاح، وعصير عنب، هذا الفطور فقط، فمن يأكل هذا؟ فتنتهي الصلاة في المسجد وهو لا يزال يأكل، رغم أن الطب الآن يتوافق مع ما جاءت به السنة من الأمر بأن يفطر الرجل المسلم على تمرات، فإن لم يجد فماء، فإن لم يجد فلبن، قال العلماء والأطباء: إن المعدة خلال إمساك الإنسان من أول النهار إلى آخره تضمر وتحتاج إذا أردت أن تشغلها إلى عملية إدفاء، عملية تحريك لها، وهذا يتم عن طريق التمرات؛ لأن التمرة فيها سعرات حرارية، فإذا أخذ الإنسان تمرة أو تمرتين أو ثلاث تمرات أو سبع، هذه التمرات تذوب في المعدة وتشغلها، وتبدأ تهضم على مهلها حتى تكون قادرة على هضم الطعام، لكن إذا أتيت وأعطيتها كثيراً من (السنبوسة)؛ و (السنبوسة) هذه من أعقد الأطعمة؛ لأنها تحتوي على الخبز وعلى الزيت المقلي، وعلى اللحم وعلى البيض وعلى الخضار، كل هذه من أعقد الأطعمة وتحتاج المعدة وقتاً لكي تهضمها، فيأكل الإنسان هذه الأكلة ثم يذهب إلى الصلاة متأخراً، بعضهم يأتي وقد فاتته صلاة المغرب، ولا يدرك تكبيرة الإحرام؛ لأنه يأكل فيريد يسابق على هذه الأشياء.
وبعضهم يأخذ (السنبوسة) لقمة واحدة ليس مستعداً يمضغها، لماذا؟ لأنه يريد يأكل كثيراً بسرعة من أجل أن يلحق الصلاة، وإن بلع الطعام قبل المضغ ففيه إتعاب للمعدة؛ لأن ما لم تمضغه بلسانك تضطر معدتك إلى هضمه بشكل أصعب، وبالتالي تتعب معدتك وتمرض في أول فرصة وفي أول مناسبة، ثم يصلي الإنسان ويعود بعد الصلاة ويجد السفرة الممدودة أمامه ذات الطول وذات العرض التي فيها كل ما لذ وطاب، ولا يعلم بأي شيء يبدأ، فيأكل من هذا ومن هذا، ولا بد من أن يعمم على جميع الأطعمة، ويا ويله إن كان أكل من نوع واحد؛ لأن أم العيال سوف تغضب منه، وتقول: أنا عملته لمن؟ وأنا تعبت من أجل مَنْ؟ والله ستأكل لقمة والله لتذوقنه، فيجيب يا بنت الحلال امتلأ بطني، قالت: لا.
ما عملنا إلا لك، فيأكل ويرضيها ويملأ بطنه إلى أن يبلغ الحلقوم، وبعدها لا يستطيع أن يقوم من مقامه، حتى الماء يطلب إحضاره إليه، يقول: هات الماء أغسل يدي هنا، وبعد ذلك هاتوا المخدة؛ لأنها (بنشرت الكفرات) ونام، بعضهم ينام قبل العشاء، ثم يؤذن للعشاء وتقام الصلاة في المساجد وهو لا زال في البيت يغالط نفسه، وبعضهم يأتي وقد صلوا الفريضة ويصلي ركعتين أو أربع ركعات أو ست ركعات من التراويح ثم يخرج، ويقول: قد سمعنا يقولون إنها سنة، يعني: السنة ليست جيده في نظره؛ لأنه متعب حقيقة، هذا مسألة العشاء.
وبعد العشاء بعد التراويح خذ ما تشاء من الأطعمة الأخرى والمكسرات والمشروبات وإلى وقت السحور، ثم السحور يتسحر الإنسان والسحور فيه بركة ولا نقول فيه شيئاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر به مهما كان، فتسحروا كما قال عليه الصلاة والسلام (تسحروا فإن في السحور بركة) هذه مسألة الطعام الذي من أجله ومن أجل الحد منه فرض الصيام، فكثرنا منه، أجل نحن قابلنا رمضان مقابلة غير صحيحة.(28/12)
الخصومات والمشاحنات في رمضان
أما مسألة الغضب في رمضان، فهذه شائعة عند الناس، ترى الرجل في نهار رمضان خاصة في نصف النهار وقد قطب جبينه وربط غترته على أنفه وعلى وجهه، فلا تقل له: السلام عليكم فيضاربك، وإذا كان مديراً أو موظفاً فلا تراجعه، فلو كانت سهلة عقدها عليك، لماذا؟ قال: رمضان كريم، أنا زعلان لأن بطني فارغة، يعني: لو كنت شَبِعاً فسوف أصلح معاملتك لكن (رمضان كريم)، فـ (رمضان كريم) من أجل تصير أنت كريماً أيضاً في خلقك، وفي معاملاتك وفي طبعك، حتى لو كنتُ مخطئاً ودخلت عليك وأغضبتك فلا تغضب عليَّ لماذا؟ لأنك صائم تقول لي: اللهم إني صائم، لكن بالعكس الآن تجد المضاربات في الأسواق، والمضاربات في المكاتب والدوائر، والزعل كله من أجل رمضان، لماذا؟ لأن الذي يتحكم فيه بطنه لا يتحكم فيه عقله، فلما جاع بطنه ذهبت أخلاقه، لا حول ولا قوة إلا بالله! خصوصاً إذا كان ممن يتناولون الدخان، الدخان إذا تناوله الإنسان ثم انقطع عنه في نهار رمضان قامت قيامته، وأظلمت الدنيا في وجهه، فلا حول ولا قوة إلا بالله! هذه أيها الإخوة: مسألة الطعام ومسألة الغضب.(28/13)
السهر وصرف الأوقات في غير الطاعة
يبقى شيء ثالث تعوّده الناس في رمضان وهذا خطأ وهو: ليالي رمضان المباركة، ليالي القيام وليالي التراويح، وليالي العلم، وليالي الزيارة وصلة الرحم، وليالي العبادة وقراءة القرآن؛ هذه تحولت في زمان المسلمين إلا من رحم الله إلى ليالي ميتة، ليالي خبيثة، تملأ بالسهر القاتل، وباللهو الباطل على الورق، وعلى (الشيش)، وعلى الدخان، وعلى (الكيرم)، وعلى (الضومنة)، وعلى الأفلام -والعياذ بالله- وعلى المسلسلات، وعلى اللعن والشتم والسب والقصص الفارغة، حتى إن بعضهم ليستعد لرمضان من قبل دخوله بتشكيل (البشكات)، يقول: والله نريد نعمل لنا (بشكة)، لماذا؟ قال: (رمضان كريم) نريد نسمر لنحيي ليالي رمضان، وهو في الحقيقة لا يحييها وإنما يميتها.(28/14)
برنامج مقترح لاستغلال رمضان استغلالاً صحيحاً
إن إحياء ليالي رمضان لا يكون إلا بطاعة الله عز وجل، وحتى يكون المسلم على بصيرة من أمره فإنا نضع له برنامجاً إن شاء الله إذا سار عليه في رمضان فإنه يكون من الصائمين الصادقين المخلصين.(28/15)
برنامج الأكل المناسب للصائم
أولاً: لا تستعد لرمضان بشيء من المأكولات أكثر مما كان في شعبان، اجعل الأمر طبيعياً، ولا تصغ للنساء إذا طلبن منك وقل: حاضر أبشروا! لكن اتركه يدخل من أذن ويخرج من الأخرى، وأحضر ما يكفيك أنت وأهلك، وترى السوق مليان ولا تجد أزمة في الأسواق، هات لهم الذي يكفيهم ذاك اليوم، ونوعين أو ثلاثة أو أربعة ولا تكثف، فالغداء الذي كنت تتغداه أنت وأولادك من أرز ولحم اجعلوه عشاء وانتهى الموضوع، أما عشاء (كبسة) ورز وإدامات، ومن كل شكل ولون، وحلويات وأطعمة، هذه كلها لا تستطيع لها، فهي ترهقك وبالتالي أكثر الناس الآن في رمضان عند أبوابهم تجد الزبائل مليئة بالفضلات، نعم يا إخواني! والله لا يجدونها في بعض الدول وإنهم يموتون جوعاً ولا يرونها، ونحن نرميها في الزبائل، ولا نخاف الله عز وجل.
وأكثر الناس في رمضان وقد أخبرني أحد الأطباء يقول: إن المستشفيات تجند نفسها في بداية رمضان بمجموعة كبيرة من الأطباء خصوصاً أطباء الباطنية، لما يحدث عند الناس من مرض في بطونهم في أول رمضان، ولذا إذا أتيت المستشفى في رمضان بعد العشاء فستشاهد طوابير، وعلى من؟ لا تجد عند طبيب الأذن ولا واحد، ولا طبيب العين ولا واحد، ولا طبيب العظام، وإنما عند الباطنية، وعند هذا طابور وكل واحد يدخل يقول: يا دكتور بطني، بطنك من يدك، الله أكبر عليك، أوقف يدك يصلح بطنك، وبعضهم معه حبوب فجيبه ممتلئ، أكثر الناس معه حبوب ما هذه؟ قال: هذه حبوب الهضم حبوب الحموضة، يخرب من هنا ويصلح من هنا، خفف الأكل وكل بمقدار معين، وليس هناك داع للحبوب، أما أن تبني وتهدم فلا يا أخي! وفي هذه الليالي المباركة البرنامج الإيماني الذي نقترحه:(28/16)
الاستعداد النفسي لاستقبال رمضان
أولاً: أن يستعد الإنسان قلبياً ويفرح نفسياً برمضان، ويسأل الله أن يبلغه رمضان، كان الصحابة يقولون: [اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان] والناظم يقول:
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجبٍ حتى عصى ربه في شهر شعبان
ها قد أظلك شهر الصوم بعدهما فلا تصيره أيضاً شهر عصيان
اتل الكتاب وسبح فيه مجتهداً فإنه شهر تسبيح وقرآن
كم كنت تعرف ممن صام في سلفٍ من بين أهل وجيران وإخواني
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم حياً فما أقرب القاصي من الداني
ومعجبٌ بثياب العيد يقطعها فأصبحت في غدٍ أثواب أكفان
حتى متى يعمر الإنسان مسكنه مصير مسكنه قبر لإنسان
وناظم آخر يقول:
أيا شهر الصيام فدتك نفسي تعجل بالمجيء والانتقال
فلا أدري إذا ما عدت يوماً على كل البرية كيف حالي
أتلقاني مع الأحياء حياً أو أنك تلقني في اللحد بالي
لا تعلم -يا أخي- يعود عليك رمضان أم لا، فرصة لك -يا أخي- مجيء رمضان، فجدد وضعك مع الله، واستقبله بنفسٍ مشرقة وقلبٍ حي، على أنه فرصة للعمل الصالح تنجح فيها -بإذن الله- ولذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر وقال: (آمين آمين آمين، فقالوا له: يا رسول الله إنك تقول: آمين، وما سمعنا أحداً يكلمك؟ قال: أتاني جبريل فقال لي: رغم أنف -أي: خاب وخسر- من أدرك رمضان ولم يغفر له قل: آمين، فقلت: آمين).
إذا لم يغفر لك في رمضان، وما تبت في رمضان، ولا اهتديت في رمضان؛ فمتى تتوب؟ أئذا دخلت النار تتوب وتقول: ردوني أعمل صالحاً، مثلما يقول أهل النار: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] ليس لك فرصة هناك، الآن فرصتك، الآن مد الله في أجلك، وأعطاك فرصة عظيمة عليك أن تستغلها.
ثم قال لي: (رغم أنف من أدرك أحد أبويه أو كلاهما فلم يدخلاه الجنة -يعني: بالبر- قل: آمين، فقلت: آمين) الذي أمه وأبوه موجودان ولا دخل الجنة عن طريقهم فهذا خاسر، فرصة، وإذا مات أبوك وأمك فمن أين تأتي بهما؟ هل هناك آباء وأمهات يُشتَروْن في الأسواق من أجل تدخل بهم الجنة؟ والله لا يوجد، ليس معك إلا أمك وأباك، فإن هم أحياء فاستغلهم، فإنهم ضيوف عندك وسوف يموتون، عليك أن تبحث عن طاعة الله عن طريق طاعتهم، عليك أن تسلك إلى الله طريقاً عن طريقهم فإنهم باب الجنة: (الجنة تحت أقدام الأمهات) {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14] {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] والذي لا يتعرف على والديه ولا يتعرف على طاعتهم في الدنيا هذا جدير ألا يتعرف على طاعة الله؛ لأن أعرف الناس وأوثق الناس بك فضلاً بعد الله هم أبواك.
والثالث قال: (ورغم أنف من ذكرت عنده ولم يصلَّ عليك قل: أبعده الله، قلت: آمين) لماذا؟ لأنه ما الذي ينقص عليه لما يقول: اللهم صلَّ على محمد {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56] فإذا كنتم في الأرض محرومين لا تريدون أن تصلوا عليه، فالله في السماء وملائكته في السماء يصلون على النبي، ثم قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وفي الحديث الصحيح: (من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا) فأنت لست بخاسر، صلِّ واحدة وربي يعطيك عشرة منه.(28/17)
البرنامج العملي للعبادات في رمضان
فتبدأ نهار رمضان بالإشراقة النفسية والرغبة في التوبة، وبعد ذلك تخرج إلى المسجد مبكراً بمجرد تناولك طعام السحور لكي تقرأ ما يسر الله من التلاوة قبل الصلاة.
وبعد الصلاة إن كنت موظفاً أو طالباً فليس هناك مانع من أن تعود إلى البيت لتنام حتى توفر لك جزءاً من الوقت أكثر؛ لأنك ربما ما نمت في الليل، فتنام من بعد صلاة الفجر، أما إذا كنت غير موظف وليس عندك دوام ولا شيء؛ فإن الأولى لك أن تجلس في المسجد تذكر الله وتقرأ القرآن ثم تصلي ركعتي الإشراق، ثم تذهب إلى البيت وتنام، خصوصاً إذا كنت تاجراً أو صاحب عمل، أما الطالب والمدرس والموظف فإذا أراد أن يجلس فهذا خير، وإن تعذر عليه لضيق الوقت ولرغبته في استغلال أكبر قدر من النوم، فلا مانع من أن يعود إلى بيته وينام إلى الساعة العاشرة إلا ربع؛ لأن الدوام سيكون الساعة العاشرة بمعنى قبل الدوام بربع ساعة يجب أن تقوم وتتوضأ وتتهيأ، إن أمكنك أن تصلي ركعتي الضحى فهذا طيب، وإلا فتذهب إلى مدرستك أو إلى عملك أو إلى وظيفتك وتستمر إلى أذان الظهر.
وبعد ذلك أثناء العمل تمسك لسانك، ليعرف الناس أنك صائم، لا تتكلم غيبة ولا نميمة، وكلما جرك زملاؤك إلى شيء مما كنت عليه في الماضي قل: اللهم إني صائم، تخلق بأخلاق الصُّوَام، إلى أن يأتي الظهر فإذا أذن فبمجرد سماع الأذان اترك عملك واذهب إلى المسجد وخذ المصحف، وطبعاً يجب أن يكون لك مصحف من أول رمضان تقرأ فيه القرآن، ويجب أن تختم القرآن أقل شيء في كل ثلاثة أيام مرة، يعني: تقرأ في كل يوم أقل شيء عشرة أجزاء، كان السلف يختمون القرآن ستين مرة، يعني: يختمون ختمة في الليل وختمة في النهار، وكانوا يعطلون كل جلساتهم وعلومهم وكل أشغالهم ويتفرغون للقرآن؛ لأنه شهر القرآن: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] لكن بحكم عدم تفرغنا نحن فلا مانع أن نختم في كل رمضان عشر مرات، يعني في كل ثلاثة أيام مرة، وهناك تقسيم آخر لأحد الإخوان يقول: تقرأ بعد كل فرض جزأين أو قبله كما تريد، تقرأ جزأين بعد الفجر أو قبله، بعد الظهر أو قبله، بعد العصر أو قبله، بعد المغرب أو قبله، بعد العشاء أو قبله لابد أن تقرأ جزأين في خمس صلوات في رمضان تختم عشر مرات كتاب الله عز وجل، وهذا فضل عظيم، ثم بعد ذلك تصلي مع الجماعة في المسجد وتعود من الصلاة إلى مواصلة عملك إلى أن ينتهي النهار والدوام، ثم تعود إلى المسجد وتصلي في المسجد مع الجماعة وتجلس تقرأ القرآن في المسجد إلى المغرب، فلا داعي أن تذهب إلى البيت أو السوق؛ السوق هذا لا تنزل فيه إلا لغرض ضروري جداً تأخذ غرضك وتمشي، اجلس في المسجد اقرأ إلى أن تغرب الشمس ثم اذهب إلى بيتك ونبه على زوجتك على ألا تقدم أي نوع من الطعام إلا التمر فقط، فكل تمرات وتراً ثلاث أو خمس أو سبع تمرات، ثم اشرب عليها فنجان قهوة أو فنجان ماء، واذهب إلى المسجد مبكراً وصل المغرب، وبعد صلاة المغرب عد إلى بيتك وتناول طعام العشاء الخفيف الذي لا ترهق فيه بطنك ولا معدتك، وإنما تلبي فيه احتياجك بقدر الضرورة؛ لأن الأطباء يقولون: إن الحاجة في الطعام للثلث فقط، وإذا ترست الثلثين فالبقية كله يحول إلا أجزاء المعدة وإلى الهضم من أجل يخرج فضلات، فما دام أنه يخرج فضلات فاجعله في الثلاجة يا أخي، لماذا تحمل نفسك وتقعد تكظمه وتهضمه وبعد ذلك يذهب في الخلاء، وما استفدت منه شيئاً؛ لأنه لا يستفيد جسمك أبداً إلا من ثلث بطنك، وإلا لو تتصورون إن الإنسان يستفيد من كل الطعام الذي يأكله كان الشخص منا ليس مثلنا الآن كان مثل (القصبة)، كم أكل من يوم خلق وهو يأكل (تيوس وخرفان وغزلان ودجاج وسمك) أين هي؟ ليس هناك شيء، إنما الثلث فقط يذهب غذاء لجسمك والباقي يحول إلى فضلات، فكل بالثلث فقط، وما علامة الثلث؟ لأن بعضهم لا يأكل إلا بالثلث قلت: ما العلامة؟ قال: إذا (ترغت) من هنا، إذا امتلأ (التانكي) قال: غلق الثلث، يعني: عبا الثلاثة الأثلاث حتى الهواء فلا يوجد، فالهواء يخرج من رقبته، لا.
علامة الثلث أن تشعر بأنك لا تزال جائعاً، هذا معناه أن الثلث عندك اكتفى، إذا شعرت أنك لا زلت محتاجاً إلى الطعام فمعنى هذا أنه امتلأ الثلث عندك، أما إذا شبعت فقد امتلأت الثلاثة الأثلاث كلها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجال: (نحن قومٌ لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع) يعني: يقوم قبل أن يشبع، فقم قبل أن تشبع من الطعام، وبعد ذلك تقوم إلى المسجد، وابحث عن إمام يؤدي الصلاة بتؤدة وخشوع، وبطول قراءة وقنوت، تبحث عن إمام تطمئن إلى قراءته، وإلى إنسان يطول القراءة ويعطي القراءة حقها من التجويد والترتيل والإطالة والركوع والسجود، حتى تعرف أنك في رمضان، أنت في رمضان ما أنت في لعب، فتصلي معه، وتأتي قبل الأذان في الصف الأول، وتأخذ مصحفك وتقرأ إلى أن يصلي العشاء والتراويح.(28/18)
البرنامج الليلي بعد التراويح
وبعد التراويح يجب أن تنظم وقتك مع بعض إخوانك في الله، فتشكل لك مجموعة من أربعة أو خمسة أو ستة نفر أو ثمانية بقدر الحاجة وبقدر الموجودين وبعد ذلك تقول: نحن نريد أن نحيي ليالي رمضان، كيف برنامج هذه الليلة؟ بعد الوصول إلى صاحب البيت الذي فيه الجلسة أو السمرة يقدم القهوة والشاي ولا بأس بنوع من المشروبات الخفيفة، وبعد ذلك يدار المصحف ويخرج كل شخص منكم مصحفه وتبدءون من سورة: ق، من المفصل، سورة ق تقرأ كلها تلك الليلة، وبعد قراءتها يطلب من الشيخ الفاضل ابن كثير رحمه الله -وهو جالس في المكتبات بستين ريال أو بخمسين ريال- نقول له: يا ابن كثير! نريد أن تعلمنا تفسير هذه الآيات، فيأخذ واحد منه التفسير ويقرأ علينا تفسير ابن كثير لهذه السورة، تستغرق هذه الحصة نصف ساعة أو ساعة إلا ربع، بعدها هات الماء يا ولد، أو هات حليب، أو شاهي، أو مشروب من أجل ينوعون.
وبعدها درس في الفقه، يؤتى بكتاب الفقه وليكن الروض المربع أو زاد المستقنع أو المغني إذا كانوا من الطلبة الكبار الذين فيهم تبحر في العلم، وتبحث مسائل، ولنبدأ من باب الطهارة، من تقسم المياه، من باب الآنية، كيف نتوضأ؟ كيف نغتسل من الجنابة؟ أحكام الغسل، هذه مجهولة عند كثيرٍ من الناس، حتى عند بعض طلبة العلم لا يعرف كيف يغتسل من الجنابة وكيف يبدأ وكيف ينتهي، نتعلم درساً من الفقه لمدة نصف ساعة أو ساعة إلا ربع، فإذا انتهينا منه نأخذ درساً في التوحيد، نأخذ كتاب فتح المجيد الذي هو حق الله على العبيد، أو نأخذ كتاب الإيمان للشيخ/ عبد المجيد الزنداني، أو نأخذ من كتب التوحيد التي هي مجموعة كتب الشيخ الدكتور/ عمر سليمان الأشقر، الإيمان بالله والملائكة والبعث والآخرة والكتب والرسل، موجودة هذه الكتب كلها وأظنها بخمسين ريالاً أو ستين ريالاً، أكثر من ثمانية كتب نقرأ في هذه.
بعد ذلك فرغنا منها نقول: هاتوا درساً من السيرة العطرة، فنأخذ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، نبدأ بمولده صلى الله عليه وسلم، والليلة الثانية نأخذ كيف بعث، بعد ذلك نأخذ الغزوات؛ لأن السيرة لذيذة وشيقة، وتأخذ فيها أحسن كتاب أدلكم عليه هو سيرة ابن هشام، سيرة ابن هشام رحمه الله أربعة أجزاء في مجلدين تقرءونها، بإذن الله تجدون فيها من العذوبة كأنك في أعظم روضة في ليلتك، انتهيت من درس التوحيد والفقه والحديث والتفسير في نحو الساعة الثانية عشرة، فلا تطل السهر إلى الساعة أربعة أو ثلاثة، لماذا؟ لأن لأهلك عليك حقاً إن كنت متزوجاً، أو لنفسك عليك حقاً إن كنت عزباً لترتاح، أو لدروسك وواجباتك عليك حقاً إن كنت طالباً، فلا بد أن تعطي الحقوق كاملة، أما أن تسمر حتى ييبس رأسك، ثم تملأ بطنك وتنام، ولا تصلي الفجر في المسجد فهذه مصيبة، بل تذهب إلى البيت لتنام مبكراً حتى الساعة ثلاثة أو ثلاثة ونصف ثم تستيقظ، وبعد الاستيقاظ تتوضأ وتصلي ركعتين، بعض الناس يقول: ما هاتان الركعتان، نقول: هذه ركعتان في جوف الليل خيرٌ من الدنيا وما عليها، ليس لها علاقة بالإمساك ولكنها من قيام الليل، وما دام قمت والله عز وجل أقامك إلى السحور فعليك أن تحمد الله على هذه النعمة وتذهب تتوضأ وما هناك كلفة عليك يا أخي.
احمد الله، كان الأولون إذا أرادوا أن يتوضئوا ينزلون من البيت ولا توجد لهم حمامات ويذهب إلى الحوش ويلقى الجوحل (والجوحل إناء فخاري) أو قربة قد صار الماء فيها ثلجاً وتوضأ، وبعد ذلك خرج لأنه لا يوجد حمام في البيت وتوضأ، ورجع والهواء يلفحه ويقطعه، وأرجله حافية وما عنده (فازلين) وليس له حذاء ولا ثياب ويذهب يصلي، لكن أنت الآن في نعمة ليس بعدها نعمة، تستيقظ من نومك وتقوم من غرفتك وتخرج فتجد الحمام، وتجد المغسلة، وتفتح الصنبور فينزل عليك الماء الحار المحمى من الليل من أين ينزل الماء؟ من الجن، كما قد قلت لكم مرة: شخص من أهل تهامة طلع إلى (السراة)، ويوم أن وصل عند صاحب (السراة) فأدخله الحمام ليتوضأ، فيفك الصنبور وإذا به ينزل الماء من الجدر ساخناً، فصرخ، قال: ماذا بك؟ قال: ماء حار من الجدر، فما صدق، لأنه لم يشاهد (طباخة) ولم يشاهد (دافوراً) ولم يشاهد شيئاً، أين (الطباخة) و (الدافور) لا توجد؟ لكنها معلقة في الحمام وتنزل لك ماءً حاراً، تتوضأ وتنشط، ثم تدخل في غرفتك بدون هواء وبدون مشكلة وتفرش سجادتك وتصلي ركعتين لربك، فربما لا يثقل ميزانك عند الله يوم القيامة إلا هاتان الركعتان، ما فيها والله تعب عليك، وبعد ذلك تأتي إلى سحورك وتتناول ما تيسر منه، ثم بعد السحور تذهب إلى المسجد كما قلنا.
هذا هو البرنامج الإيماني الذي نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يقوله ويعمله، أنا لا أدري أطبقه أم لا، لكن ربما تستفيدون مني أكثر من أن أستفيد من نفسي، ولكن أعوذ بالله أن أكون ممن يقولون ما لا يفعلون؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3].
هذا ملخص عن شهر رمضان الذي نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يبلغنا إياه، وأن يتقبله منا، وأن يعيننا وإياكم على صيامه وعلى قيامه إنه ولي ذلك والقادر عليه.(28/19)
أحكام تتعلق بالصيام
ولا بد من إلمامة بسيطة من بعض الأحكام المتعلقة بالصيام حتى يكون الصائم على فقه من دينه.(28/20)
حكم الأكل والشرب نسياناً أو خطأً للصائم
أولاً: إذا تناول الصائم شيئاً من المفطرات مأكولاً أو مشروباً ناسياً أو جاهلاً فلا شيء عليه وعليه أن يتم صومه؛ لأنه بحكم العادة ربما في الدوام أو في البيت وهو صائم يجد شيئاً ويأكله ناسياً أنه صائم فلا شيء عليك حتى إذا أكلت وشبعت، فإنما أطعمك الله وسقاك.
وهذه -أيها الإخوة- يقول العلماء: فيها إشارة إلى عدالة الله، وفيها إجابة على القدريين والجبريين الذين يقولون: أنا مجبور على العصيان، ما أنت مجبور، إذا نزع الله منك الاختيار نزع عنك التكليف، ولذا إذا أكلت ناسياً فما عليك شيء إنما أطعمك الله وسقاك، إذا حصل لك احتلام في المنام في نهار رمضان، فتقوم تغتسل وتكمل صيامك ولا شيء عليك، لماذا؟ لأنك احتلمت بغير اختيار، لكن لو أن الإنسان تسبب في الإمناء؛ فإنه أفسد صومه، ولزمه القضاء، ولحقه الإثم والعقوبة؛ لأن من أفطر يوماً من رمضان لم يقضه ولو صام الدهر كله، لا يقضي إثمه إلا التوبة، فإنها تجب ما قبلها، فإذا نسي الصائم فأكل أو شرب لم يفسد صومه؛ لأنه ناسٍ، ولو أكل أو شرب وهو يعتقد أن الليل باقٍ فتبين أنه طلع النهار فهذا حكمه حكم الناسي، لماذا؟ لأن الأصل بقاء الليل، فلا ينقض الأصل بما يحدث عليه، لكن إذا أكل أو شرب ظاناً أن النهار قد انتهى وبعد قليل ظهرت الشمس بعد أن ذهبت الغيوم، ففي هذا اختلف أهل العلم: يقول جماهير العلماء -والحنابلة يتزعمون هذا- يقولون: عليه صوم، يقضي هذا اليوم، لماذا؟ لأن الأصل بقاء الصوم، فلا ينقض بما يحدث عليه، وبعض أهل العلم وهم أهل الحديث يقولون: ليس عليه قضاء، لماذا؟ لأنه جاهل والله يقول: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] وأنا أخطأت في تقدير الصوم، فلا شيء عليَّ، ولكن الراجح هو قول الأئمة والجمهور، لماذا؟ لأن المسلم مأمور بالاحتياط في دينه، فلا ينبغي له بمجرد ما يأتي غيم يقوم يأكل ويترتب على هذا إفساد صومه.
كذلك لو تمضمض الإنسان فدخل الماء إلى حلقه من غير قصدٍ لم يفسد صومه، ولكن ينبغي له أن يحتاط للحديث الذي في السنن: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)، فإذا كنت صائماً فعليك أن تتمضمض وتستنشق لكن بدون مبالغة، لكن إذا تمضمضت بغير قصدٍ للمبالغة وسقطت قطرة عن غير قصدٍ وإنما سهواً فلا شيء عليك؛ لأن هذا من المعفو عنه إن شاء الله.(28/21)
مفسدات الصوم
أما المفسدات للصوم فهي كثيرة، وأعظمها الجماع في نهار رمضان، والدليل فيه: حديث سليك الغطفاني الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هلكت، قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم في رمضان) فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على كلمة هلكت، فإنها هلكة حقيقة ولا ينبغي للمسلم أن يمارسها، ولكن هذا الرجل كان مبتلى (عنده شبق جنسي) وما كان يصبر عن امرأته إذا رآها، فوقع عليها، وجاء يستفتي النبي صلى الله عليه وسلم.
(قال له: أعتق رقبة، قال: لا أجدها يا رسول الله! قال: صم شهرين متتابعين، قال: وهل أتيت إلا من الصوم -يقول: ما ذبحني إلا الصوم تريدني أصوم شهرين، ما قدرت أصوم شهر واحد- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أطعم ستين مسكيناً قال: ليس في المدينة أفقر مني ولا عندي شيء، فبينما الرسول جالس والصحابي جالس إذ جاء رجل بعرق -مكتل- فيه تمر، قال: خذ هذا المكتل وقسمه على ستين مسكيناً، قال: والله ما بين لابتيها أفقر مني يا رسول الله! قال: خذه وأطعمه أهلك، فخرج الرجل يضحك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك) صلوات الله وسلامه عليه، ما أعظمه من مربٍ! وما أعظمه من إنسان! {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] هذا جاء بهذه المشكلة وخرج ومعه مكتل تمر فربح الخطين، لكن لا يعملها شخص منكم ويقول: لا.
أنا سوف أربح الخطين، وإنما ينبغي لك أن تدع الجماع ودواعيه، وكل ما يوصل إليه؛ لأن ما كان حراماً فما يوصل إليه حرام، لا تقرب من المرأة ولا تقبلها، ولا تضاجعها، وإنما تنام في فراش وهي في فراش إذا كنت تخاف على نفسك، أما إذا كان الرجل كبيراً وشيخاً هرماً ولا يحصل منه شيء من الانتشار أو من الرغبة، فإنه لو قبل زوجته فلا حرج فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل عائشة وهو صائم كما جاء في الحديث الصحيح قالت: (كان يقبلني وهو صائم، لكنها قالت: وكان أملككم لإربه) ما كان شهوانياً صلوات الله وسلامه عليه.
إنزال المني يفسد الصيام بشرط: أن يكون عمداً باستمناءٍ، أو مباشرة، أو تقبيلٍ، أو نظرٍ، أو ينظر في النساء حتى يمني فهذا أفسد صومه.
الأكل والشرب سواءً كان نافعاً أو ضاراً، ويدخل فيه اللبان، ويدخل فيه الدخان، ويدخل فيه معجون الأسنان؛ لأنه في حكم الأكل والشرب.
حقن الإبر الغذائية لا الدوائية، الإبر تنقسم إلى قسمين: إبر غذاء، وإبر دواء، فالإبر الغذائية التي يستعاض بها عن الغذاء وهي الجلوكوز أو غيره هذه تفطر؛ لأنها في حكم الغذاء، أما الإبر الدوائية التي تعطى كدواء ولا لها علاقة بالغذاء فهذه لا تفطر ولو أخذها الإنسان وهو صائم فلا شيء عليه إن شاء الله، ولكن الأولى له خروجاً من الخلاف والأحوط أن يتناولها في الليل؛ لأنه لا يوجد أحد يأخذ إبرتين في النهار والليل، إنما بإمكانه أن يأخذ يومياً إبرة يأخذها في الليل، لكن لو كانت الجرعة عنده إبرة صباحاً وإبرة مساءً، يأخذ إبرة في الصباح إذا كانت علاجية ولا شيء عليه ويأخذ إبرة في الليل إن شاء الله وهو مفطر.
كذلك من المفطرات: حقن الدم، مثل أن يحصل للصائم نزيف فيحقن له دم، يحصل له حادث ويأتون يعطونه قربة دم أو نصف قربة لأن هذا غذاء، بل هو لب الغذاء؛ لأن الغذاء كله يتحول إلى الدم فيفطر الصائم بذلك.
خروج دم الحيض والنفاس أيضاً تفطر به المرأة، أما دم الاستحاضة، أو دم العرق، أو دم العلة، أو دم النزيف، فهذا لا تترك بسببه الصلاة ولا الصيام، -مثلاً- امرأة حامل في الشهر الخامس وخرج منها قطرات دم نزيف، وهذا ربما يخرج من الحامل فلا هو حيض ولا هو نفاس، عليها أنها تصوم وتصلي وتعتبره في حكم البول تغسله من الثوب وتتوضأ منه ولا شيء عليها، هذا دم الاستحاضة والنزيف والعلة والعرق، أما دم النفاس الذي يخرج عقب النفاس أو دم العادة الشهرية الذي يخرج في زمنها، وهذا معروف عند النساء فإنها تدع الصوم وتدع الصلاة ولكنها تقضي الصوم بعد رمضان ولا تقضي الصلاة.
خروج الدم من الإنسان إما بالحجامة، أو بالسحب (سحب الدم) للإسعاف، أما سحب الدم اليسير للتحليل قال العلماء: لا يؤثر؛ لأنه بسيط، والرعاف بسيط لا يؤثر، ونزع الضرس وخروج دم بعده لا يؤثر، وخروج الجرح البسيط الذي يخرج من دمك وسيل الدم منه بسيط لا يؤثر، لكن ما يحصل بسحب الدم فإنه يؤثر على الإنسان، وبالتالي حكمه حكم المريض يلزمه أن يفطر ويلزمه شيء من المشروبات ليعوض هذا الدم الذي سحب منه.
أما موضوع الحجامة فهو موضوع مختلف فيه بين أهل العلم: طائفة من أهل العلم يرون أنها لا تفطر لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه احتجم وهو صائم) وحديث آخر يعارضه ومن أراد أن يرجع إليهما فليرجع إلى سبل السلام للشيخ/ الصنعاني، أنه صلى الله عليه وسلم مر على رجلٍ يحتجم فقال: (أفطر الحاجم والمحجوم).
ولكن يرجح أئمتنا ومشائخنا منهم الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين أنها تفطر، فإذا احتجم الإنسان فإنه يخرج منه دم كثير، وهذا الدم يتعبه وبالتالي ينبغي له أن يأكل شيئاً.
مما يفطر وينقض الصوم القيء، إذا تعمد الإنسان في إخراجه، أما إذا غلبه وذرعه من غير قصدٍ ولا عمدٍ منه فلا شيء عليه.
هذا ما يتعلق بالمفطرات.(28/22)
من فضائل الصوم
من فضائل الصوم: أنه سبب لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات لما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) هذه كرامة عظيمة لا يتركها إلا خاسر (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) وهذا بإمكانك إن شاء الله، ومعنى إيماناً: أي: رضاً وتصديقاً بفرضية صومه، ومعنى احتساباً: أي: احتساب الأجر والمثوبة عند الله، لا كارهاً للفرضية، فإن من الناس من يصومه كارهاً، إذا دخل رمضان فأثقل شيء عليه رمضان، فلا يحب أن يدخل رمضان، لماذا؟ لأنه يمنعه من الكبسة ومن الغداء، وتشوفه يعد لياليه وأيامه كأنه أثقل ضيف، هذا لا يغفر له ذنبه؛ لأنه ما صام رمضان إيماناً واحتساباً وإنما صامه كارهاً والعياذ بالله.
ومن فضائل رمضان: أن الثواب الذي رتبه الله عليه لا يتقيد بعددٍ ولا بحدٍ معين، بل يعطى للصائم أجراً بغير حساب، كما قال عز وجل: (كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) كم يجزي به ربي؟ لا نعلم، والله كريم، ولا راد لفضله تبارك وتعالى.
ومن فضائل الصيام: أنه يشفع لصاحبه يوم القيامة لما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله وعليه وسلم والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده قال: (إن الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: ربي! منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: ربي منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان فيه حتى يدخلاه الجنة) الصوم والقرآن شافعان، يشفعان لك يوم القيامة.(28/23)
أعذار الفطر وأحكامها
أما بعض الأحكام المتعلقة بالناس في رمضان، يعني الناس ليسوا كلهم على وتيرة في فرضيته وإنما يتفاوتون بتفاوت أحوالهم ومناسباتهم.
فالصوم واجب وفرض على كل مسلم بالغٍ عاقلٍ قادرٍ مقيم، وبهذه الخمس التعريفات يخرج من المحترزات أصناف منها: المحترز الأول: أن الكافر لا يصوم، ولو صام لم يقبل منه، وإذا أسلم لا يقضي الذي فاته؛ لأن التوبة والإسلام يجب ما قبله، إذ يشترط فيمن يصوم أن يكون مسلماً؛ لأن الإسلام هو أساس كل عمل.
الصغير الذي لم يبلغ سن الرشد، وسن الرشد يعرف بواحدة من ثلاثة أشياء: إما بالإنبات، أو بالاحتلام، أو ببلوغ الخامسة عشرة، ومن بلغ خمس عشرة سنة أو أنبت أو احتلم فقد بلغ، ووجب عليه الصوم، وإذا لم يصم فمعناه أنه ترك ركناً من أركان الإسلام، لكن الصغير يعود عليه، ويدرب من الصغر، من السبع سنوات يدرب يوم في رمضان هذا يصوم يومين أو ثلاثة أو أربعة فيأتي رمضان القادم فيصوم أسبوعاً وعمره إذا كان ثمان سنوات يصوم عشرة أيام وهكذا كما قالت عائشة رضي الله عنها: [كنا نلهي الصبيان باللعب حتى يفطروا في المغرب] فكونك تدربه فعل حسن لأن بعض الناس يقول: لا أريد أذبح الولد، فالولد يريد يصوم لكن يصيح أبوه، يقول له: أفطر يا بني -سبحان الله- تذبحه يوم يصوم لرب العالمين، لا إذا صام في صحته وفي عافيته إن شاء الله فهو تدريب على الخير فقوِ فيه هذه الروح ولا تحبطها فيه ولا تخذله.
المجنون لا يجب عليه الصوم ولا الإطعام؛ لأنه غير مكلف، وإذا فاق وعاد إليه رشده وعقله فإنه يصوم من وقته ولا يقضي ما فاته لارتفاع التكليف عنه، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: الصغير حتى يبلغ، والنائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق).
العاجز عن الصوم بسبب كبرٍ، أو بمرضٍ لا يرجى برؤه، وقرر الأطباء المسلمون أن الصيام مضرٌ به، فإن هذا يسقط عنه الصوم ولكنه يطعم عن كل يومٍ مسكيناً، فإن كان عاجزاً لا يستطيع حتى الإطعام سقط عنه الإطعام والصيام، وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى.
المريض الذي يمرض مرضاً طارئاً وقتياً، فهذا يفطر ولكنه يقضيه بعد أن يمن الله عليه بالشفاء للآية الكريمة: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] يعني: فعدة ما أفطرت من أيام أخر بعد رمضان.
الحامل التي في بطنها جنين، أو المرضع التي ترضع جنينها ويترتب على صيامها ضرر عليها أو على جنينها، فإنها تفطر، وتصوم بعد أن تضع أو بعد أن تفطم هذا الولد، وفرق أهل العلم فقالوا: إن كانت تخاف على جنينها أو على ولدها فإنها تفطر وتطعم إذا قضت، أما إذا خافت على نفسها فإنها تصوم ولا تطعم، ولكن المحققين من أهل العلم يقولون: لا دليل على التعزيز بالإطعام، وإنما إذا أفطرت فإن عليها القضاء ولا كفارة مع ذلك، وإنما هي من اجتهادات أهل الفقه رحمهم الله تعالى.
الحائض والنفساء لا تصومان ولكن تقضيان الصوم ولا تقضيان الصلاة بعد رمضان.
الذي يضطر اضطراراً بالغاً للإفطار مثل: إنقاذ غريق، إنسان مسلم سوف يموت في البحر، وهذا يريد ينقذه، ولكنه لا يستطيع أن ينقذه إلا إذا كان متزوداً بشيء من الإمكانيات فهذا يجوز له أن يفطر من أجل إنقاذ هذا الإنسان، وقد نص على هذا أهل العلم، وقاسوا عليه من يكون مستعداً لإخراج الدم لإنقاذ حياة مريض، مريض وقع له حادث مروري وقالوا: إذا لم يوجد دم الآن سوف يموت هذا الإنسان، فيعطيهم ويفطر، فهذا مضطر لأن يفطر، لأنه أنقذ إنساناً من الموت بإذن الله عز وجل.
أما المسافر فإنه مخير بين الصوم وبين الإفطار بحسب ما يتيسر له، فإن كان الإفطار أيسر له فعليه أن يأتي بهذه الرخصة؛ لأن الله يحب أن تؤتى رخصه، وإذا كان الصيام في حقه أفضل فيتبع ما شاء، لأن بعض الناس تجده يسافر للعمرة وفي الطريق يجوع ويعطش، وأولاده يجوعون ويعطشون ولكنه يرفض أن يفطر، وهذا إذا كان عليه مشقة فإنما يرد رخصة الله، ويريد غير ما أراد الله؛ لأن الله يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] فكأنك أنت بالصيام تريد لنفسك العسر والله يريد بك اليسر، فما دام الله سمح لك فلماذا تشق على نفسك يا أخي؟! أفطِر، ويضرب أهل العلم مثالاً: لو أن عندك عاملاً في مزرعتك ودخلت عليه وهو صائم ويشتغل في المزرعة، فلما رأيت عرقه يتصبب وجهده واضحاً أشفقت عليه فقلت له: يا فلان! قف من الشغل واذهب فما بقي من النهار فهو إجازة، إذا وضع المسحاة وشكر لك وقال: الله يجزيك خيراً، يكون أحب إلى نفسك من أن يستمر ويقول: والله لا أتوقف إلا وقت الغروب، ما رأيك أنت تقول: الله لا يعينك، ما دام رحمناك وأبيت فالزم مكانك، ولله المثل الأعلى، الله يرحمك ويقول: إذا كنت في سفر وعليك مشقة ولحقك ضرر، وأردت لنفسك يسراً بما يسر الله عليك من الإفطار فلا تختر لنفسك عسراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في يومٍ من الأيام وهو في سفرٍ؛ ومن الصحابة من كان صائماً، قال: (ما صنع العصاة؟) سماهم العصاة وقال للذين أفطروا: (ذهب المفطرون اليوم بالأجر) ولكن بحكم أن وسائل السفر اليوم عندنا بفضل الله تغيرت عن وسائل الماضي وأصبح الإنسان يسافر بالطائرة أو بالسيارة فهو مخير بين الإفطار والصيام بحسب ما يتيسر له من دون أن يلحق بنفسه مشقة.
أحد الناس قال لي: أنا سوف أذهب آخذ عمرة، والعمرة سنة، فكيف أذهب آتي بعمرة وأضيع فريضة؟! قلت له: لا تأخذ عمرة، لو أردت أن تسافر إلى جدة تشتري قطعة غيار لسيارتك هل يجوز أن تفطر؟ قال: نعم.
قلت: كيف تذهب تأخذ قطعة غيار لسيارتك وتضيع فريضة، الفريضة أهم أو قطعة سيارتك؟! فسكت الرجل، فالقضية ليس أنك ذاهب تأخذ عمرة أو غيرها، بل ما دمت في سفر والسفر حدده العلماء فقالوا: إما أن يكون سفراً واجباً، أو سفر طاعة، أو سفر مباح، أما سفر المعاصي فللعلماء فيه كلام، كمن يسافر ليفطر، مثل الأعرابي الذي دخل عليه رمضان قالوا: جاء رمضان، قال: والله لأبددن شمله بالأسفار، قال: أريكم فيه كل يوم أنا في أرض، من أجل يفطر كل يوم، هذا لا يفطر، لماذا؟ لأنه متى يقضي والعياذ بالله؟ أو سفر معصية، كمن يسافر من هنا فيخرج إلى خارج المملكة ليشرب الخمور أو ليزني، فهذا لا يفطر؛ لأنه سوف يذهب يستعين بهذا الإفطار على معصية الله -والعياذ بالله- فشرط أن يكون السفر سفر طاعة أو سفراً مباحاً كعلاج أو دراسة أو بيع أو شراء، أو زيارة، أو سياحة أو تمشية، فإنه يجوز لك أن تفطر فيه إذا لحقت بك المشقة.(28/24)
فوائد تتعلق بالصوم
هذه بعض الفوائد المتعلقة بالصيام وهي مهمة جداً: يجوز للصائم أن يصبح جنباً من احتلامٍ أو من إتيانٍ لأهله ثم يقوم يتسحر ويعقد نية الصيام ثم يغتسل ويذهب يصلي في المسجد، إذ أن الطهارة لا تشترط للإمساك، فقد كان صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً فيتسحر ويغتسل ويذهب يصلي.
أيضاً إذا طهرت المرأة في رمضان قبل الفجر فعليها أن تصوم وإن لم تغتسل، يعني: لو طهرت وانقطع دمها مع الإمساك وما وسعها الوقت لتغتسل فتعقد نية الصيام وتصوم، ولا تغتسل إلا بعد ذلك على مهلها إن شاء الله بحيث تدرك وقت صلاة الفجر.
يجوز للصائم أن يدهن نفسه ورأسه بالدواء مثل الفكس، فيجوز أن تضعه في رأسك وظهرك، لكن لا تدخله داخل الأنف، ويجوز قلع الضرس، ومداواة الجرح، والتكحل في العين، والتقطير في العين والأنف والأذن، ولا يفطر بذلك حتى ولو أحس بطعمه في حلقه؛ لأنها ليست منافذ للطعام.
يجوز أيضاً للصائم أن يتسوك في نهار رمضان من أول النهار وآخره لحديث: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يستاك في نهار رمضان يقول: لا أحصي مرات ما رأيته صلوات الله وسلامه عليه).
أيضاً إذا كان الإنسان في منطقة حارة وشعر بالحرج والحر فإنه يجوز له التبرد بالماء، كأن يدخل في الحمام ويفتح الدش عليه ليبرد، أو يأخذ ماء ويصبه على الفراش وينام عليه، لا شيء في هذا، وهذا لا يؤثر على صومه.
يجوز للصائم إذا كان مريضاً بالربو أن يبخ في فمه هذا البخاخ، ولا علاقة له؛ لأنه ليس طعاماً ولا شراباً، أو في حكمهما، وإنما هو هواء مثل الأكسجين، بل هو أكسجين مضغوط، فإذا تناوله بفمه إذا كان عنده ربو فلا شيء عليه ولا يؤثر بإذن الله.
يسن للصائم أن يؤخر السحور إلى قبل الفجر، وأن يعجل الفطور بعد غروب الشمس، ويفطر على رطبٍ فإن لم يجد فعلى ماء.
أيضاً يجب على الصائم أن يكمل صيامه بابتعاده عن المحرمات؛ خصوصاً الغيبة والنميمة، واستماع الأغاني، والنظر المحرم والسب والشتم، ويجب عليه أن يحافظ على الواجبات مثل الصلوات الخمس ويؤديها جماعة في المسجد، ومثل الإكثار من قراءة القرآن والتلاوة وفعل الخير، وزيارة الرحم والصدقات في هذا الشهر المبارك.
هذا ونسأل الله عز وجل التوفيق والهداية، والقبول لنا ولكم ولسائر المسلمين.(28/25)
الأسئلة(28/26)
حكم ركوب المرأة مع السائق الأجنبي
السؤال
هنا رسالة مهمة من أحد الإخوة يقول: منظرٌ يحرق قلبي وأنا أشاهده كل يوم، خصوصاً عند أبواب مدارس البنات، وأنا آتي آخذ أهلي فأشاهد الفتيات يركبن في سيارات مع السائقين وليس معهن محرم، فما هذا وكيف فقدت الغيرة من قلوب المسلمين؟ وكيف دفنت المروءة والشهامة إلى هذا الحد فإنا لله وإنا إليه راجعون؟!
الجواب
هذه أيها الإخوة (مشكلة السائق) حقيقة أنها معضلة خطيرة ومشكلة اجتماعية هامة جداً، وقد كان يمكن للناس أن يستوردوا عمالاً في كثيرٍ من أعمالهم للحاجة، إنما لا يسوغ لهم أن يستوردوا سائقاً لعوائلهم؛ لأن العائلة من ألصق الأشياء بك أنت، يعني: إذا كنت لا تسوق بأهلك فماذا بقي بعد هذا، هذه اختصاصاتك أنت، أنت الذي تسوق بزوجتك وأمك وبأهلك، أما أن تأتي بشخص يسوق السيارة لزوجتك وابنتك فماذا بقي معك؟ ولا يجوز كما قال العلماء أن تستورد سائقاً بأي حالٍ من الأحوال للسياقة بأهلك، بل عليك أن تسوق أنت أو يسوق ولدك، أو اجعلها لا تدرس إلى يوم القيامة، أما أن تأتي لها بسائق فلا.
قال العلماء: ويجوز استيراد سائق عند الضرورة لرجلٍ كبير السن ولا يعرف يسوق، شيبة، أو أعمى ولا يستطيع يسوق وما عنده أولاد، وله مصالح ويريد يأتي بحاجاته وعنده سيارة فهذا قال العلماء: يجوز للضرورة، لكن بشروط: أولاً: أن يكون هذا السائق مسلماً فلا تأتِ بكافر.
ثانياً: أن يكون هذا السائق رجلاً مسناً كبيراً قد انعطف ظهره، وسقطت أسنانه، وليس فيه عرق يلف، من أجل يسوق السيارة إن كنت تريده يسوق السيارة، وبعد ذلك هذا المسن هذا الذي ظهره قد انحنى يأتي بزوجته معه، لا تأتي به لحاله ولو كان مسناً، والمسن فيه خطر أيضاً، هات شايب وعجوز معه، وبعد ذلك تستأجر لهم بيتاً بعيداً عن أهلك، ولا يدخل بيتك في أي حالٍ من الأحوال ولا تركب معه زوجتك أو ابنتك أو أمك أو أختك إلا وأنت موجود، أما أن ينفرد بهم فهذا حرام.
وما نراه -كما ذكر الأخ- والله إنه يدمي القلب أن ترى الرجل شاباً في عمر الخمسة والعشرين والثلاثين وكافر فلبيني أو كوري، وبعد ذلك يركب مع البنت يذهب بها المدرسة، وقد ورد في الحديث: (ما خلى رجلٌ بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) وإعطاء الثقة المطلقة في النساء تجر إلى كوارث، لا ننزع الثقة من النساء، نحن نثق فيهن، لكن إلى جانب الثقة نتقيد بأوامر الشرع، فإذا رفضنا الشرع وجعلنا الرجال مع النساء من باب الثقة حصلت الكوارث والمصائب، فإنا لله وإنا إليه راجعون!(28/27)
حكم الجوائز التي يضعها التجار للتنافس
السؤال
ما حكم جوائز (المراعي) فالناس يتسابقون عليها من أجل الجائزة؟
الجواب
يريد يشتري سيارة بخمسة ريال، سيارة قيمتها ثلاثين ألف يقول: يريدها بخمسة ريال: وقد رأيت شخصاً في سوق المركزي جاءه شاب واشترى عشر علب بخمسين ريال وفتحها وهي على (الماسة)، كلما فتحها وإذا بها عشر (هللات) عشر (هللات) فإذا كملت فإنه يلعنهم ويأخذها ويضرب بها التراب، ونتسابق عليها كلنا وإنه يلحقني منها اثنتان مجاناً، هذا -أيها الإخوة- أسلوب شيطاني من وسائل اليهود من أجل ابتزاز أموال الناس، بعض الناس لا يريد لبن لكن يقول: يا شيخ! لبن تأتي معه سيارة، ولذا ينفقون، وكم يضعون؟ يصنعون عشرة مليون علبة ويضعون فيها سيارة، وبعد ذلك على فرض إنك اشتريت أول علبة وطلعت لك سيارة، سيارة بأي حق تأخذها، من أين أخذتها من ظهور هؤلاء الذين يلاعنون والذين هم قاعدون يشترون سنين ولا طلعت لهم سيارة، أجل دخلت عليك السيارة من غير طريق شرعي وحرام، وفي هذا فتوى صريحة للشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وهي صادرة منه وهو الرئيس العام لـ إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
يقول: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله والصلاة على رسول الله.
أما بعد: لوحظ قيام بعض المؤسسات والمحلات التجارية بنشر إعلانات في الصحف وغيرها عن تقديم جوائز لمن يشتري من بضائعها المعروضة مما يغري بعض الناس ويدفعهم إلى الشراء من هذا المحل دون غيره، أو يشتري سلعاً ليس له فيها حاجة طمعاً في الحصول على إحدى هذه الجوائز، وحيث أن هذا نوعٌ من القمار المحرم شرعاً -اسمعوا هذا كلام الرئيس العام الذي أطبقت الأمة على قبول كلامه رحمه الله وأطال وأمد بركة علمه- يقول: إن هذا نوعٌ من القمار المحرم شرعاً والمؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل لما فيه من الإغراء، والتسبب في ترويج سلعته وإكساد سلع الآخرين المماثلة ممن لم يقامر مثل مقامرته، لذلك أحببت تنبيه القراء على أن هذا العمل محرم شرعاً، والجائزة التي تحصل من طريقته محرمة شرعاً -ساعة أو قلماً أو سيارة أو غير ذلك لا تأخذه أبداً- لكونها من الميسر المحرم شرعاً وهو القمار، فالواجب على أصحاب التجارة الحذر من هذه المقامرات وليسعهم ما يسع الناس، وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29] * {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} [النساء:30] وهذه المقامرة ليست من التجارة التي تباح بالتراضي بل هي من الميسر الذي حرمه الله لما فيه من أكل المال بالباطل، ولما فيه من إيقاع الشحناء والعداوة بين الناس كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] * {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91].
والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين لما فيه رضاه وصلاح عباده، وأن يعيذنا جميعاً من كل عمل يخالف شرعه إنه جواد كريم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لـ إدارة البحوث العلمية والدعوة والإرشاد.
فرحم الله امرأً انتهى إلى ما سمع، والذي يلزمك هو أن تقاطعها كنوع من ردة الفعل، لماذا؟ لأننا في مجتمع مسلم متماسك، فإذا أرادت شركة أو محل تجاري أن يبتز أموالنا أو أن يضرب الآخرين، الغرض من هذا ضرب المحلات الأخرى.
مثلاً: هناك في السوق ألبان (الصافي) -مثلاً- فالناس كلهم يتوجهون إلى ألبان (المراعي) ويتركون (الصافي) وبالتالي تضطر (الصافي) تعمل نفس العملية وتبدأ المنافسة في الاستهلاك وهذا لا يجوز، ولكن من باب ردة الفعل وباعتبارنا شعباً مسلماً وفي بلد مسلم إذا رأينا مثل هذا فلنقاطعها ولنأخذ من الذين لا يروجون لسلعهم بهذه الطرق المحرمة حتى يتأدبوا؛ لأنه عندما يرى أنه رصد جوائز وأعلن إعلانات ولا أحد اشترى منه، نسبة المبيعات عنده كانت -مثلاً- في اليوم في الماضي مائة ألف علبة لكن لما عمل الدعاية نزلت النسبة إلى ثلاثين ألف علبة قال: إذاً المسألة لا تمشي على هؤلاء، هؤلاء عقلاء وأهل إيمان وتوحيد، ويرجع إلى وضعه الأول، ويحاول أن يكسب السوق إما بإرخاص الثمن مثل (الصافي)، فالحليب (الصافي) كان بخمسة ريال والآن بأربعة ريال، أو بتحسين الجودة فيصنع لبناً ممتازاً.(28/28)
حكم الفيديو والألعاب في البيت
السؤال
يقول الأخ الكريم: ما رأيكم برجل يشتري الفيديو لعياله وهو من أهل الصلوات الخمس ويقول: لأني أريد أن أسليهم؟
الجواب
نقول: من يشتري الفيديو والألعاب هذه لأولاده فقد خان أمانته، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27] ويقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] وهؤلاء الأولاد أمانة في عنقك إلى يوم القيامة، فأحسن إليهم، ولا تسليهم بمعصية الله وإنما ربهم على الإيمان وأدبهم بأدب القرآن، وقدهم إلى ساحل النجاة إلى الجنة، أما أن تسليهم الآن من أجل أن يعذبوا في النار فيوم القيامة سوف يلعنونك لعنة طويلة، ويقولون كما قال الله عز وجل: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] فلا -يا أخي- لا داعي أنك تسليهم بمعصية الله تبارك وتعالى.(28/29)
حكم بيع الشيشة والدخان
السؤال
هل يجوز لرجلٍ لا يفارق الجماعة في المسجد حتى في صلاة الفجر ويأمر أولاده بالصلاة إلا أنه لديه قهوة (للشيش) يشرب فيها الناس ويتاجر بها هو، هل يجوز له ذلك؟
الجواب
لا يجوز له ذلك، (الشيش) هذه -يا إخواني- أوكار من أوكار الفساد، وهي بمنزلة مساجد الشيطان، وهي خطر على المسلمين، وولاة الأمر إن شاء الله لديهم نية وقد أخبرني مسئول في جدة أن هناك أوامر صدرت بعدم تجديد الرخص لأهل المقاهي وإعطائهم فرص لتصفيتها، وتغييرها إلى محلات ثانية؛ لأنهم وجدوا من خلال الأحداث التي تحدث كالمخدرات والخمور والزنا واللواط أن كل الأسباب تتجمع من أين؟ من القهوة، وإذا أردت أن تعرف فمر في قهوة من المقاهي وستشاهد الوجوه الجالسة في المقاهي كلهم -والعياذ بالله- من المنحرفين إلا من رحم الله، وبعد ذلك ماذا تشاهد؟ أجواء الدخان وأجواء مآذن الشيطان هذه (الشيش) هذه التي يقول فيها الشيخ حافظ:
كذاك معشوقة الشيطان قد نصبت بها فخاخ لأرباب الجهالات
ثم يقول:
من أي وجه أتاها الحسن لقد أخطأ الطريق إليها في المرادات
من حسن لمعتها من طول قامتها من ذلك الحبل مطوياً بليات
يقول: ما هذا من أين جاءها الجمال؟ وبعد ذلك: بداخلها ماء يقاس على بول الكلاب، فالماء الداخل في العلبة تلك مثل بول الكلب، ويأتي يضع (المخمج الأسود) فوق ويضعون فوقها النار ثم تشب وذاك جالس (يقرقر) تحتها، وإذا أكمل مسحها وقال: هات، ويأخذ الثاني، وهكذا.
وقرأت أنا بحثاً علمياً أجرته جامعة الملك عبد العزيز في جدة كلية الطب مدعوماً بالأرقام، فوجدوا أن هناك الآن إيدز جديد يهدد الناس اسمه الفيروس الكبدي، وأن سبعة وخمسين في المائة من الشعب يحمل هذا الفيروس، وأكثر هؤلاء من أصحاب (الشيشة)، فأصحاب (الشيشة) عندهم فيروس كبدي.
فاترك -يا أخي- (الشيشة)، واترك أنت يا صاحب القهوة القهوة، اتركها ولا تؤجرها، وإذا كان عندك أحد فأخرجه، أما أن تصلي الفجر وأنت من أهل الإيمان وترضى بالمنكر فلا يجوز ذلك.
الآن بعض الشباب ينام في بيت أهله، فإذا جاءت الساعة الحادية عشرة أو الثانية عشرة استغل غفلة أبيه ووجود النوم وقام وفتح الباب وخرج، أين يذهب؟ يذهب المسجد، لا.
بل يذهب إلى القهوة، ومن يجد في القهوة؟ ربما يريد يشرب كأس شاهي فقط، لكن مع كأس الشاهي يأتي زميل له يقول: لماذا لا تدخن؟ فيقول: يا شيخ! لا أدخن، قال: يا شيخ! تمرن ماذا في الدخان، والله تأخذ واحدة تشاهد مصر من هنا، هذا يا شيخ! ليس فيه شيء جرب حبة، فتبدأ القضية بالتقليد فقط، جرب حبة ومن الحبة انزلق، أو جرب حبة مخدرات، المخدرات الآن يدخل الشخص القهوة وليس عنده شيء، ماذا فيك؟ قال: زعلان، طيب جرب هذه الحبة، هذه الحبة تفعل في الإنسان فعل النار؛ لأنها تسممه وتقضي على دمه، وبعد ذلك يصبح مدمناً، ولا يهمه عواقب مدمن المخدرات.
أقيمت ندوة في الثانوية التجارية، اشتركت فيها أنا ودكتور من الشئون الصحية ودكتور في علم الاجتماع، وتناول كلٌ منا جانباً من الجوانب، أنا تناولت الجوانب الشرعية، وآخر تناول الجوانب الطبية، وآخر تناول الجوانب الاجتماعية، وهذا الشريط موجود الآن في المكتبة، ويباع بعنوان: أضرار المخدرات والتدخين، وأنا أنصح كل شاب أن يسمع هذا الشريط؛ لأنه تكلم فيه هذا الطبيب الذي عنده درجة الدكتوراه في الطب وفي كلامه يقول: والله إن الدخان لا يقل خطورة بل هو أعظم من المخدرات في فتكه بالجسد، وفي فتكه بالمعدة، وفي السبب الذي يسببه على الإنسان من الأمراض الخطيرة ولذا يقول: ليس حراماً وإنما هو أعظم من حرام، وهو طبيب وليس عالماً، وأما دكتور عام الاجتماع فتكلم بكلام تشيب منه الرءوس.
فالقهوة هذه وكر من أوكار الفساد، يتجمع فيها الشباب ويلعبون الورق ويلعبون (الكيرم)، وبعد ذلك يأتي الشيطان فيقوم شخص يقول: أين أنتم ذاهبون؟ قالوا: نذهب نتمشى، وذهبوا يتمشون يتتبعون أعراض المسلمين، ويدقون على الناس بيوتهم، وبعضهم يذهب يسرق في الليل إذا لم يكن عنده فلوس ليشتري مخدرات، وبعضهم إذا ما وجد امرأة يزني بها يلوط برفيقه، والجرائم كثيرة جداً في أسباب المقاهي هذه.
فنقول للمسلم هذا: اتق الله، وعليك أن تتوب إلى الله عز وجل من فتح هذا المقهى وأن تتركها خوفاً من الله.(28/30)
حكم الوساوس في القلب
السؤال
يقول: الشيطان يوسوس لي وساوس خطيرة تؤدي إلى الشبه، فهل أنا محاسب بتلك الوساوس ولو لم أكن راضياً؟
الجواب
لا.
لست محاسباً، وقال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إنا نجد في نفوسنا شيئاً لا نستطيع أن نعلمك به فقال: الحمد لله الذي رد كيد عدو الله إلى الوسوسة، ثم قال: ذلك صريح الإيمان، ذلك صريح الإيمان، ذلك صريح الإيمان) وأخبر صلى الله عليه وسلم وأمر من يجد في نفسه مثل هذه الأسئلة أن يقول: (أستغفر الله لا إله إلا الله) ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فإنه إن شاء الله لا يضره.(28/31)
حكم اللقطة التي لا يعرف صاحبها للمسافر
السؤال
شخص وجد مالاً من الريالات وهو في سفر وليس قريباً من أحدٍ، وهو بحاجة إلى هذا المال؛ لأنه في سفر فهل يأخذه؟
الجواب
لا يجوز له ولو كان محتاجاً إليه، بل عليه إذا أخذه أن يعرفه عاماً كاملاً، فإن لم يستطع أن يعرفه فلينفقه في وجوه البر على نية صاحبه، أما أن يأخذه ويستحله قبل التعريف فلا.(28/32)
أقسام القلوب
السؤال
يقول: إني أحبك في الله، وأرجو منك أن تبين لنا أقسام القلوب ونريد الأمثلة عليها؟
الجواب
أقسام القلوب والأمثلة عليها تحتاج إلى وقت طويل، ولكني أحيلك إلى شريطٍ في السوق اسمه: أمراض القلوب، وهي محاضرة ألقيت في الأطاولة في زهران، وقد عددنا فيه أنواع القلوب وسبب أمراض القلوب، وعلاج أمراض القلوب، وعلامات أمراض القلوب، وهو شريط مفيد بإذن الله عز وجل.(28/33)
نصاب الزكاة
السؤال
كم نصاب الزكاة في النقود بالريال؟
الجواب
في كل مائة اثنين ونصف وفي الألف خمسة وعشرين، وفي العشرة آلاف مائتين وخمسين، في الأربعين ألف؛ ألف ريال، وهكذا.(28/34)
كلمة (واضي) هل هي من أسماء الشيطان؟
السؤال
يقول لي أحد الأصدقاء: أنَّ (واضي) اسم من أسماء الشيطان، فيكره أن يقول للإنسان: أنت واضي ولكن يقول: أنت متوضئ؟!
الجواب
نعم.
قال بعض أهل العلم: أن هذا اسم من أسماء الشياطين، وأسماء الشياطين كثيرة، منها، و (لهان)، و (الولهان) شيطان الوضوء، ومنها (خنزب) وهو شيطان الصلاة، فإذا أتيت تصلي قام يوسوس عليك من أجل أن يأخذ قلبك ويذهب بك في متاهات، وأيضاً اسمه (مبسوط) لا بسطه الله، فإذا أحد قال لك: مبسوط قل له: لا ما أنا مبسوط، يعني: ما أنت شيطان، ومنها (واضي) وكثير من الأسماء، لكن إذا قالها الواحد وهو لا يعني بها الشيطان فما فيها شيء.(28/35)
حكم الإقامة بعد الأذان مباشرة
السؤال
هل تقام الصلاة إذا توفرت الجماعة بعد الأذان مباشرةً لمصلحة العمل؟
الجواب
نعم.
إذا كان الناس في الإدارة وجاءوا كلهم مع الأذان وكلهم موجودون فأذنوا وأقاموا الصلاة لا شيء في ذلك إن شاء الله.(28/36)
حكم ترك المؤذن أو الإمام المسجد لحضور محاضرة
السؤال
ماذا تقول في بعض الأئمة والمؤذنين الذين يحرصون على حضور هذه الندوة ولكنهم يتركون مساجدهم؟
الجواب
نقول لهم: إن طلب العلم فريضة، ولكن قيامهم بالواجب أفرض إلا أن يوكلوا، فإذا كنت أوكلت أذانك إلى من تبرأ به الذمة وأوكلت إمامتك إلى من تبرأ به الذمة فلا حرج أن تأتي إلى طلب العلم، أما إذا كنت تعرف أنه لا أحد يؤذن في المسجد ولا أحد يصلي بهم فأنت مؤتمن على تلك الوظيفة فلا تتركها، فقيامك بالواجب أفضل وأولى، وبإمكانك أن تشتري الشريط بخمسة ريال وتسمعه أنت وأهلك.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(28/37)
حال الناس في القبور
القبر محطة مهمة في طريق الإنسان إلى ربه، يدرك الكافر فيه بعضاً مما سيحل به، وينعم المؤمن بما سينال من أجر على جده وتعبه.
وقد بدأ الشيخ حفظه الله هذا الدرس بمقدمة عن الذكر وفضله، ثم انتقل إلى موضوع الدرس بذكر أدلة إثبات عذاب القبر ونعيمه، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنها الحديث المفصل لأحوال المؤمن والكافر من بداية نزع الروح إلى عودتها من السماء.(29/1)
الذكر حياة القلوب
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
وبعد: أيها الأحبة في الله: فإن حاجة القلوب إلى سماع العلم والذكر أعظم من حاجة الأرض إلى نزول الغيث والمطر، فكما أن المطر والغيث هو حياة الأرض فكذلك العلم والدين والإيمان هو حياة القلوب، وحينما يحبس المطر عن الأرض ينعدم خيرها، ويسوء منظرها، وتستحيل الحياة فيها، قال الله: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] وكذلك القلوب إذا انحبس عنها الذكر والعلم، والإيمان والقرآن انعدمت فيها الحياة وتحجرت، وانقطع عنها الخير وكثر فيها الشر، فإذا جاء القرآن وجاء الإيمان اهتزت وربت وآتت أكلها بإذن ربها، وظهر الخير في سلوك الإنسان وفي تعامله وعقيدته بناءً على سماع العلم والقرآن، ولذا كانت وظيفة الرسل والأنبياء التذكير بهذا الكلام، وقد حدد الله للنبي صلى الله عليه وسلم مسئوليته بقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] إنما: أداة حصر، حصر للمسئولية التي بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم لها، وهي تذكير الأمة: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] ويقول له: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ} [الذاريات:55] لا تنفع الناس كلهم، بل تنفع شريحة واحدة من المجتمع وفئة واحدة من الناس -أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم- وهم أهل الإيمان: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] والله يحدد صفات أهل الإيمان في أول سورة الأنفال فيقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} [الأنفال:2 - 4] هذه شهادة من الله: {أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:4].(29/2)
من علامة الإيمان: حب مجالس الذكر
إذا عرفت -يا أخي- أنك تحب الذكر وتسعى إلى مواطن الذكر وتشتاق إليه، وتتطلع إلى مواعظ الذكر فاعلم أن هذه علامة الإيمان -فاسأل الله أن يزيدك إيماناً- وإن تكن الأخرى وهو الفتور وعدم الرغبة في مجالس العلم، وإذا قيل لك: هناك درس تقول: قد سمعنا كثيراً فماذا عندهم من جديد؟ ماذا تريد من جديد؟ هل العلماء والدعاة يغنون حتى يأتوا لك بجديد؟ لا.
العلماء والدعاة أصحاب رسالة يبلغون دين الله، وهل هناك أفضل من كلام الله؟ هل هناك جديد أعظم مما يخبر الله به ويخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فإذا وجدت في نفسك عزوفاً وعدم رغبة وكسلاً وفتوراً عن هذه المجالس فاعلم أن هذه نقطة الخطورة، وبداية الانحدار، وعلامة الهلاك -والعياذ بالله- لماذا؟ لأن القلب تؤثر فيه عوامل التعرية، وعوامل الهدم والنحت من جراء الحياة، ويحتاج القلب إلى صيانة وحماية، ثوبك إذا لم تغسله اتسخ، وسيارتك إذا لم تجر لها صيانة دورية خربت، قلبك لا يريد له صيانة بل يريد له تعهداً لكن كيف تتعهده؟ في مواطن الذكر، وفي مجالس الإيمان، ولذا يخبر الله عز وجل أنه لا يوجد أظلم ممن يذكر ثم يترك الذكر، فهو ظالم في أعلى مستويات الظلم، يقول عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة:22] قال المفسرون: أي: لا أظلم منه، ويخبر الله عز وجل عن حالة المؤمن إذا سمع الذكر، قال عز وجل: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] أي: خافت، ويخبر عن حالة البعيد -أعاذنا الله وإياكم منه- صاحب القلب المنكوس أنه يشمئز قلبه، قال عز وجل: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45] أي شيء دون الله، يعبد مباراة أو سهرة أو أكلة أو رحلة أو جلسة، أي شيء يستبشر به، لكنه ينقبض من جلسة علم، لا يريدها.
لماذا؟ لأن قلبه منكوس قال تعالى: {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [الأنعام:113].(29/3)
حاجتنا إلى العلم
إخوتي في الله: نحن في زمن أحوج ما نكون فيه إلى سماع العلم، لقد كانت المؤثرات في حياة الأولين قليلة ومحدودة ولم يكن هناك انفتاح مثلما هو حاصل الآن، كان التأثير محصوراً في قنوات محددة: في الأم، والأب، والشارع المحيط بالإنسان، لكن اليوم لم يعد هناك حواجز على الأمم والشعوب، أصبح العالم كله مفتوحاً، تأثير من كل اتجاه ومن كل جانب؛ مما يحتم عليك أن تحمي قلبك مما قد يتسلل إليه من أفكار، أو يغزوه من نزغات، فتحميه بالحماية العظيمة عن طريق سماع العلم المقتبس من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نور، ولأنه حياة، ولأنه روح، يقول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى:52 - 53] وإن مما غزا القلوب وغطاها وغلفها نسيان القبور.(29/4)
القبر إحدى المحطات التي يمر بها الإنسان
القبر هو المحطة الثالثة من محطات رحلة الحياة؛ لأن الإنسان في رحلة وسفر منذ أن يوضع نطفة في الرحم إلى أن تستقر قدمه، إما في الجنة وإما في النار، فهو في رحلة، وهذه الرحلة تتم عبر أربع محطات: المحطة الأولى: عالم البطن والأرحام، ومدة الرحلة تسعة أشهر في الغالب.
المحطة الثانية: عالم الحياة ومدة الرحلة من الستين إلى السبعين وقليل من يجاوز المائة أو يصل إليها.
ثم يرتحل الناس عنها، وهذه المحطات الارتحال عنها إجباري وليس بالاختيار.
فيوم خلقت هل أخذ رأيك؟ لا.
ويوم ولدت هل أخذ رأيك؟ لا.
ويوم تموت هل يؤخذ رأيك؟ لا.
ولو أخذ رأي الشخص فإنه لا يريد أن يموت.
من الذي يريد أن يتنقل من القصر إلى القبر؟ فكل شخص يريد أسرته وزوجته ويريد أولاده وبيته خاصة، ولا يأتي الموت إلا إذا زانه فإذا زانك من كل شيء جاء الموت يخربها من كل شيء:
لهوت وغرتك الأماني وعندما أتمت لك الأفراح فوجئت بالقبر
...
ما للمقابر لا تجيب إذا رآهن الكئيب حفر مسقفة عليهن الجنادل والكثيب فيهن أطفال وولدان وشبان وشيب كم من حبيب لم تكن عيني لفرقته تطيب
غادرته في بعضهن مجندلاً وهو الحبيب
تغادر أحب الناس إليك وتهيل عليه التراب ثم تنسى، وتدور الأيام دورتها ويأتي الدور عليك وتدخل في الحفرة ويهيل الناس عليك التراب ثم يخرجون وينسونك تخرج إلى الدنيا وأنت تبكي والناس حولك يضحكون فلا يولد مولود من بطن أمه إلا وهو يصيح، لماذا؟ هنا سرٌ فأنت كنت في الضيق فلماذا تصيح إذا خرجت إلى السعة؟ قال العلماء: لأن الشيطان ينزغه في ضلعه الأيسر فيصيح الولد؛ ويقول: (واء) كل طفل يصيح إلا الميت الذي يكون ميتاً في بطن أمه فإنه لا يصيح، ولهذا يعتبر الفقهاء بالنسبة للميراث أنه إذا استهل صارخاً أي: إذا خرج مستهلاً للحياة صارخاً حكم بحياته وحكم بميراثه، وإذا لم يستهل صارخاً فلا يحكم بميراثه وتأتي الرحلة الثانية ويخرج الإنسان وتنتقل المسألة، فالذين يضحكون يوم خرجت هم الآن يبكون، وأنت حين خرجت وأنت تبكي ماذا خرجت تفعل؟ هنا يتحدد مصيرك بحسب عملك، إن كان عملك حسناً تخرج وأنت تضحك، جئت تبكي وهم يضحكون والآن اقلب المسألة، دعهم يبكون وأنت تضحك، ولكن جئت تبكي وهم يضحكون وبعد ذلك هم يبكون وأنت تبكي هذه مصيبة.
ولدتك أمك يا ابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا(29/5)
نسيان القبر علامة موت القلب
ويعيش الإنسان فترة العمر ثم يموت، وهذا الانتقال -كما قلت- إجباري وينتقل إلى أين؟ إلى القبر، ومما أصيبت به الأمة وهذا من علامات الخزي، وعلامات موت القلب: نسيان الآخرة، ونسيان أول محطة من محطاتها وهي القبر، وهذا مشاهد الآن على مستوى الأفراد والبشر وعلى مستوى الأحياء والمجتمعات، في الوسائل والصحف والمدارس، كم نسبة ذكر الموت؟ اسأل نفسك في بيتك كم تذكر الموت؟ وأنا كم أذكر الموت؟ في البيوت نذكر كل شيء إلا الموت: الأخبار نذكرها، الأكل نذكره، النزهة نذكرها، المذاكرة للأولاد نذكرها، ماذا نتغدى؟ ماذا نتعشى؟ أين نسمر؟ وأين نذهب؟ ولكن هل نجلس جلسة ونقول: تعالوا نرى ماذا بعد الموت؟ هذا غير موجود إلا قليلاً.
والآن أمامنا المخططات في مدينة جدة وأنا أقول لأحد الإخوة هذا اليوم: أين يدفنون الناس في جدة؟ جدة مدينة الملايين، والمخططات فيها تتوسع ذات اليمين وذات الشمال، والشرق والغرب، والجنوب والشمال، وكل المخططات لا توجد فيها مقبرة ولا مقابر، كأن الناس لا يموتون، كأنهم خلقوا ليبنوا الدنيا وينسوا الآخرة، وإذا وجد مخطط وفيه مقبرة لا أحد يشتري بجانب المقبرة، يقول: نريد مكاناً حياً فالمقبرة وحشة، قف بسيارتك وانزل وسلم على المقبرة وقل: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين) هذه السنة الآن ضاعت وماتت؛ نظراً لأن الناس كانوا يمشون على أقدامهم، فإذا مروا تجدهم بطبيعة الحال ينظرون إلى المقبرة ويسلمون على أهلها، لكنهم الآن يمشون في السيارات، والسيارات تمشي مسرعة، السائق مشغول بالسيارات أمامه وخلفه ويدقق النظر في الإشارة ولا ينظر إلى أمامه ولا ورائه وضاعت سنة زيارة القبور، وإذا نظرت إلى القبور تجد فيها هدوءاً وسكوناً، فغالباً يكون ضجيج السيارات في الخارج لكن تعال إلى المقبرة تجد الهدوء والسكينة، يقول علي رضي الله عنه وهو يخاطب أهل القبور: [يا أهل القبور! أما النساء فقد تزوجت، وأما الديار فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت] إذا مات الإنسان وترك مالاً وأولاداً وزوجة وبيوتاً، فالبيوت تسكن، والزوجة تتزوج، والأولاد يتقسمون المال وهو في الحفرة، ثم قال لهم: [هذه أخبارنا فما أخباركم؟] هذه نشرة الأخبار عندنا بعدما ذهبتم عنا أيها الأموات! هذه أخبارنا: وهي أن بيوتكم سكنت، وزوجاتكم نكحت، وأموالكم قسمت، هذه أخبارنا فما أخباركم؟ ماذا عندكم أنتم؟ ثم قال: [أما والله لو تركوا لقالوا: ((وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)) [البقرة: 197]] ونحن نعرف هذا حقيقة حين نخرج إلى المقابر مع الأموات، فيخرج مع الميت ثلاثة: ماله الممثل في النعش أو الشيء الذي يؤخذ معه من ماله، وأولاده، وعمله، فيرجع المال ويرجع الولد ويبقى معه العمل، ونحن الآن نحب المال والولد ونكره العمل، نكره صديق الشدة ونحب صديق العافية، فصديق العافية الولد والمال، لكن إذا جاءت الشدة تبرأ منك الولد وتبرأ منك المال.
من الذي معك؟ العمل.
يقول العمل: أنا معك، سأكون معك كما كنت معي، إن كنت محسناً كنت لك محسناً، وإن كنت مسيئاً فأنا لك مسيء.(29/6)
تذكر القبر يعين على الطاعة
يا أيها الإخوة: إن من المعقول جداً بل من المفروض أن ننتبه لحياتنا بعد هذه الحياة، وأن نعرف ما هي أحوالنا في القبور؛ لأن هذا مما يساعدنا كثيراً على العبودية وعلى القيام بالطاعة وترك المعاصي كلما تذكرنا القبر والموت.
وأنت أيها الإنسان إذا صححت عملك، وضبطت موازينك تجد أنه عندما يبدأ الانحراف تذكر الموت لماذا؟ لأن هذا الانحراف لا يأتي إلا من الغفلة، لكن حين تذكر الموت والقبر، والجنة والنار تتحقق المفاهيم وتنضبط المسارات، وفي نفس الوقت تضع ضوابط على تصرفاتك فتسير في الطاعات وتترك المعاصي.
أخي في الله: أنسيت القبر؟ أنسيت أن القبر يناديك ويقول: يا ابن آدم! ألم تعلم أني بيت الدود؟! ألم تعلم أني بيت الوحشة؟! ألم تعلم أني بيت الوحدة؟! ماذا أعددت لي؟! تصور -يا أخي- أنك الآن في القبر وقد طرحت في حفرة مظلمة، في حفرة قصيرة الطول ضيقة العرض؛ فاشتدت بها وحشتك، واستبانت بها غربتك، ضمتك ضمةً كسرت عظامك، وقطعت أوصالك، وقد كنت غافلاً عن هذا المصير، بما كنت تجمع في هذه الدنيا من الحطام، غافلاً عن هذا المكان، فتأمل -رحمك الله- وادفع عن نفسك جوانب الغفلة، واطلب من الله عز وجل أن يؤانس وحشتك في هذا المكان، لعل الله أن يرحمك ويغفر ذنبك ويقبل توبتك.(29/7)
الجزاء في القبر من جنس العمل
أيها الأحبة: القبر هو أول منازل الآخرة، فبعد الموت وانقطاع الحياة ينتقل الإنسان إلى الآخرة عبر هذا المسار -مسار القبر- ليبدأ الجزاء على الأعمال، فمن كان محسناً كافأه الله على إحسانه بتحويل قبره إلى روضة من رياض الجنة، ومن كان مسيئاً -عياذاً بك اللهم من هذه الإساءة- عاقبه الله في قبره بتحويله إلى حفرة من حفر النار، ثم يستمر العذاب أو يستمر النعيم فترة البرزخ وهي فترة طويلة غيبية، لا يعرف الإنسان مدتها، ولا طولها، ولا عرضها، إلى أن تقوم الساعة ويبعث الناس من قبورهم، ثم يفصل بينهم في أرض المحشر وينقسمون إلى فريقين: فريقٌ في الجنة وفريق في السعير.(29/8)
الإيمان بعذاب القبر جزء من عقيدة المسلم
إن قضية الإيمان بعذاب القبر أو نعيمه جزءٌ من عقيدة المسلم، أي: ليس أمراً بسيطاً، بل هو شيء من العقيدة، ولهذا يبوب العلماء في مسائل الاعتقاد؛ أن الاعتقاد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: عقيدة التوحيد.
القسم الثاني: عقيدة النبوة.
القسم الثالث: عقيدة المعاد واليوم الآخر.
والإيمان باليوم الآخر يشمل: الإيمان بالموت، وعذاب القبر ونعيمه، والبعث بعد الموت، والحوض، والصراط، والميزان، والكتب، ثم بعد ذلك الجنة أو النار.(29/9)
الأدلة من القرآن على وجوب الإيمان بعذاب القبر
أيها الإخوة: هذه كلها قضايا عقدية من شئون المعاد والبعث بعد الموت، وقد جاءت الأدلة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الموجبة للإيمان بقضية عذاب القبر، منها: قول الله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] نزلت هذه الآية كما يذكر ذلك المفسرون في عذاب القبر، ففي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقعد المؤمن في قبره) -أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من هؤلاء-: (إذا أقعد) تبدأ حياته الجديدة، حياة القبر وهي عالم آخر غير عالم الدنيا، له نظامه، مثل عالم البطن الذي له نظامه، أليس الطفل في بطن أمه حي، وترصد حركته؟ لكنها حياة غير حياتنا، عنده أنف لكنه لا يتنفس منه؟ لا يوجد أكسجين في البطن، عنده فم لكنه لا يأكل به؟ فلا يوجد طعام في البطن، عنده عينان لكنه لا يرى بها؛ لأنه لا يرى في الظلمات؟ عنده أذن لكنه لا يسمع بها الكلام الذي في الخارج؟ عنده أقدام لكنه لا يمشي عليها؟ فإذا خرج إلى الدنيا تغير النظام كاملاً، فأصبح يتنفس من أنفه، ويأكل من فمه، ويرى بعيونه، وأصبح له أذن يسمع بها، ويد يبطش بها، ورجل يمشي عليها، فقد خرج إلى عالم جديد غير عالم البطن، ونسبة عالم البطن إلى عالم الحياة كنسبة عالم الحياة إلى عالم القبر، ولو جئنا عند طفل في بطن أمه مهيأ للخروج وقلنا له: يا طفل! سوف تخرج بعد دقائق إلى دنيا فيها جبال وسيارات وسماوات وأرض وأشجار وأنهار وبحار وعمارات وغيرها، فإذا فكر الولد الجنين في بطن أمه بعقلية البطن ونظر يميناً وشمالاً ماذا سوف يقول لهذه الأخبار؟ يقول: هؤلاء مجانين، هؤلاء رجعيون، عقولهم متخلفة، ويؤمنون بالخرافات، أين السماوات؟ وأين الأرض؟ وأين الجبال؟ والسيارات؟ وأين العمارات؟ لا يوجد إلا بطن أمي؛ لأنه لم ينظر إلا بطن أمه، أمامه العمود الفقري وعلى يمينه الطحال ومن هنا الكبد ومن هنا الجهاز الهضمي للأم، فإذا سجلت كلامه الذي قاله وهو صغير ثم خرج إلى الدنيا وعاش، وقلنا له: نحن وأنت صغير كلمناك في بطن أمك وقلنا لك: إنه يوجد دنيا وأنك ستخرج فيها فكذبت، ما رأيك في معلوماتك التي قلتها صحيحة أم خاطئة؟ حتماً سيقول: لا والله خاطئة، فلماذا تُكذِّب؟ قال: والله أنا قست على بطن أمي وتلفت في بطن أمي وما رأيت إلا هذا، فأحسبه كذلك، والآخرة عندما تقيسها على الدنيا تحسب أنه لا يوجد غيرها، لكن عندما تموت وتنظر الآخرة حقه: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:112 - 113] ثم يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] ربنا ردنا مرة ثانية لكي نعمل، لكن لا ينفع، نفس الكلام، نفس الميزان، عالم القبر عالم.
عندما تغطى القبور ويدفن الأموات وتبدأ الحياة الثانية، قد يأتي شخص ويقول: كيف يبدأ حياة ثانية؟ من أين يأكل؟ نقول له: يعيش بدون أكل، لكن الجسم يفتت، وتأكله الأرض والطين والدود ويذهب.
كيف يتعذب وهو تراب؟! يذكر ابن القيم في كتابه (الروح) على هذا مثالاً عظيماً يقول: ينام رجلان في غرفة واحدة، هذا على سرير وهذا على سرير، ويرى أحدهما رؤيا حسنة يرى أنه تزوج، وأنه في ليلة العمر ليلة الدخلة، وأنه دخل على الزوجة الجميلة التي يحبها وتحبه، وعاش سعيداً، طوال الليل، والشخص الذي بجواره الذي في السرير الثاني يرى رؤيا سيئة أنه تسلط عليه شخص ومعه سكين وطعنه في بطنه وفي ظهره، يطعنه طوال الليل، فهذا طوال الليل في عذاب، وهذا طوال الليل في نعيم، وجاء شخص وأقامهم وجاء عند صاحب الرؤيا الحسنة قال: قم وتلفت ولم يجد شيئاً لا امرأة ولا غيرها، فقال: لماذا توقظني؟ كنت في حلم جميل: كان عندي زوجة وانبسطت معها، وهذا الذي كان نائماً ويرى أنه يطعن حين أقمته قال: الحمد لله الحمد لله، لا إله إلا الله، جزاك الله خيراً، أيقظتني الحمد لله ليس هناك شيء وينظر وإذا به لا يجد شيئاً، إذاً هذا تنعم طوال الليل، وهذا تعذب طوال الليل، والأجساد سليمة، هذا الجسد نائم على الفراش وليس معه امرأة ولا به شيء، وهذا الجسد الثاني لم يطعن ولا حصل له شيء، لكن من الذي تنعم وتعذب؟ الروح، تنعمت الروح في الحلم الجميل فتنعم الجسد رغم عدم وجود امرأة، ليس معه إلا الفراش، لكنه طوال الليلة معه امرأة زوجة، وهذا الذي يطعن تعذب بالطعن وهل يوجد طعون في جسده؟ لا.
لكن العذاب في الروح، هذا ما سيحصل في القبر، فإذا كان المؤمن من أهل الإيمان فإنه يتنعم، لكن ليس ساعات في ليلة بل عمر طويل لا يعلمه إلا الله، يتنعم ويعيش في روضة من رياض الجنة، وذاك -أعوذ بالله وإياكم من ذلك، أسأل الله السلامة والعافية- يتعذب نار وحيّات وعقارب، ضمة القبر ومنكر ونكير، والجسد صار تراباً، ولكن الروح تتعذب، وذلك الجسد صار تراباً لكن الروح تتنعم، هذا هو ما سيحصل للناس في قبورهم، قال عليه الصلاة والسلام والحديث في الصحيحين قال: (إذا أقعد المؤمن في قبره أتي -أي: يؤتى من قبل الملائكة- ثم يشهد أن لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله فذلك القول الثابت) هذا القول الثابت، قال عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27] أين؟ {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27] أي: الآن تعيش على لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الآخرة أي: في القبر، من عاش على لا إله إلا الله وحكم نفسه بلا إله إلا الله وعاش عليها في كل شئون حياته يثبته الله، ومن عاش على غير لا إله إلا الله يضله الله كما قال عز وجل: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] هذا في الصحيحين.
الدليل الثاني من أدلة أهل السنة والجماعة على إثبات عذاب القبر ونعيمه: قول الله عز وجل عن آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] فدلت الآية على أن عذابهم يوم القيامة في النار ولكنهم الآن في البرزخ يعرضون على النار، قال عز وجل: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر:46] أي: فترة البرزخ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} [غافر:46] أي: يوم تنتهي فترة البرزخ في القبور: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] هذا دليل صريح في إثبات عذاب القبر.
قال قتادة -والنقل عن الطبري في تفسيره - يقول قتادة: [يقال لهم: يا آل فرعون هذه منازلكم غدواً وعشياً] على سبيل التوبيخ، وعلى سبيل النقيصة والصغار -والعياذ بالله- وأعوذ بك اللهم أن يكون مصيرنا إلى النار، يعرضون عليها غدواً وعشياً، فرعون الذي كان يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] وكان يقول لأهل مصر: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] وكان يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] كانت جداول نهر النيل تتخلل قصوره، وتسري في بساتينه ثم يقول: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} [الزخرف:52] يقول: أنا أفضل: {مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف:52] أي: موسى: {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] لا يستطيع أن يتكلم، لكن أين هو اليوم؟ في سافلة آل فرعون في النار {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46].
الدليل الثالث من أدلة أهل السنة والجماعة: قول الله عز وجل: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} [الطور:47] قال ابن جرير: اختلف في العذاب الذي توعد الله به الظلمة قبل يوم القيامة، فقال معظم أهل التفسير: هو عذاب القبر؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} [الطور:47] أي: قبل العذاب الأخير الذي في الآخرة، أين يكون هذا؟ قال أهل التفسير: هو في القبر.(29/10)
الأدلة من السنة على ثبوت عذاب القبر ونعيمه
الأدلة من السنة قد جاءت كثيرة جداً، أكتفي بثلاثة أدلة: الدليل الأول: حديث في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها: (أن يهودية دخلت على عائشة فذكرت عذاب القبر - عائشة ذكرت عذاب القبر- فقالت اليهودية، أعاذك الله من عذاب القبر، ثم خرجت فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم عما قالت اليهودية: كيف أعاذك الله من عذاب القبر؟ فقال: نعم عذاب القبر حق) رواه البخاري، هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
الدليل الثاني: حديث في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) رواه البخاري ومسلم، فهذا حديث في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تشهد أحدكم) أي: إذا انتهى من التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يكون في آخر الصلاة في التشهد الأخير قبل السلام حتى عده بعض أهل العلم ركناً من أركان الصلاة، أركان الصلاة أربعة عشر، وبعض أهل العلم يرى أنها خمسة عشر، والركن الخامس عشر: الاستعاذة من أربع في آخر التشهد قبل السلام (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) والدلالة من النبي صلى الله عليه وسلم، والأمر للأمة بالاستعاذة من عذاب القبر بمعنى: أنه حق وأنه كائن، إذ كيف يأمر أمته أن تستعيذ من شيء ليس صحيحاً، والحديث في الصحيحين!(29/11)
وقفات مع حديث البراء في عذاب القبر ونعيمه
الدليل الثالث: حديث البراء بن عازب وهو -أيضاً- حديث صحيح رواه أبو داود، ورواه الإمام أحمد، وصححه الحاكم وهو صحيح، هذا الحديث فيه تفصيل وفيه تصوير كامل لأحداث القبر وكيف يكون حال الناس في القبور.
قال البراء بن عازب رضي الله عنه: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجلٍ من الأنصار) وهذه سنة نبوية أن تخرج مع الميت وتتبع جنازته؛ لأن حقوق المسلم على المسلم ست ومنها: إذا مات أن تتبع جنازته، وفي اتباع الجنازة والصلاة على الميت ثواب عظيم، وفي دفنه ثواب عظيم، يقول عليه الصلاة والسلام: (من تبع الجنازة حتى يصلى عليها كان له من الأجر قيراط، ومن تبعها حتى تدفن كان له من الأجر قيراطان، قيل: وما القيراط يا رسول الله؟ قال: القيراط مثل جبل أحد).
جبل أحد يكون حسنات إذا تبعت جنازة حتى يصلى عليها، لكن أكثر الناس الآن لا يتبع جنازة يرى جنازة فيقول: أنا مشغول، لا يريد قيراطاً، مشغول! لا إله إلا الله! ألا تعلم أن في خروجك إلى الجنازة موعظة لك؟ فكثير من الناس لم يهتد إلا عندما جاء إلى المقبرة ورأى القبر ورأى الميت وهو يدفن ويدخل في ذلك المكان، وتصور أنه في يوم من الأيام سوف يكون في هذا المكان فذهب يصحح وضعه قبل أن يكون هذا وضعه، وهذا هدي السلف رحمهم الله، استجابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم فإن الرسول كان يأمر بزيارة القبور يقول: (ألا إني كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة) وكان يزور المقابر صلى الله عليه وسلم، والأحاديث في هذا كثيرة جداً لكن هذه السنة قد ماتت -لا حول ولا قوة إلا بالله-.(29/12)
الوقفة الأولى: تجهيز القبر واللحد
يقول البراء بن عازب: (خرجنا في جنازة رجلٍ من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد) أي: لم يلحد بعد؛ لأن اللحد شق داخل الشق ولا أدري هل يصلح عندكم في جدة لحود أم لا فالذي أعلمه أنه يحفر حفرة بمقاس الإنسان (متر ونصف) في (نصف متر) أو أكثر ثم ينزلون متراً واحداً ثم يأتون به من جهة القبلة ويدخلونه في مكان ضيق، ثم يدفنونه في ذلك المكان، أي: يضعه أحد الناس ما كأني أنا ولا أنتم سنوضع في هذا المكان، تصور -يا أخي- وضعك إذا وضعت في ذلك المكان، أنت الآن إذا أتيت تنام في غرفة النوم سرير النوم عندك (2م×2،40م) وهناك أسرة (3×3م) ورأيت بعيني (4×5م) هناك غرفة نوم (10×10م) فقلت للزوج صاحب العمارة: ماذا تريد من هذه؟ السرير عشرون متراً من ثمانين متراً ما هذا هل تريد أن تفعل مطاردة أنت والمرأة أم مسابقة في الغرفة؟ قال: أريد أن أوسع خاطري، قلت: والله لا تتوسع -يا أخي- إلا بذكر الله، والله لو أنك تعيش على حصير وقلبك ممتلئ بالإيمان فإنك في راحة، ووالله لو أنك تنام في ملعب كرة وتنبطح من طرفه إلى طرفه وقلبك ليس فيه إيمان ولا دين فإنك في عذاب، لماذا؟ لأن السعادة والروحانية والإيمان لا ينبع من الأشياء الخارجية وإنما ينبع من القلب الذي ينبع منه السعادة، فإذا كان القلب فيه سعادة فكل شيء جيد، وإذا كان فيه عذاب فكل شيء قبيح.
انظروا إلى الغرب، لما أقفرت قلوبهم وأرواحهم عن الدين كيف حياتهم تعيسة، رغم أنهم في الجانب المادي في أعلى درجات المادة، لكن هل حققت لهم المادة سعادة؟ لا.
أسوأ عيش هو عيشهم؛ لأنه عيش الكلاب، فلا ينامون إلا بالحبوب المخدرة، وأمراض نفسية، وجنون مسرحي وتمثيلي وكروي -والعياذ بالله- وتفكك اجتماعي، وانتحار، فكل شخص يستعمل له حبوباً ويرمي نفسه من جبل، لماذا؟ لكي يتخلص من الحياة، فإنها تضغط على نفوسهم حتى تفجرها من الداخل لماذا؟ لأنه لا يوجد دين، فأنت الآن إذا أتيت تنام على غرفتك (2×20 =40م) ما شاء الله تتقلب من الطرف إلى الطرف، لماذا تتوسع؟ حسناً في تلك الحفرة كيف تتوسع؟ كيف تنقلب؟ كيف تكف رجلك في ذلك المكان؟ لا إله إلا الله! قال: (ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة وجلسنا حوله، وكأن على رءوسنا الطير) وهكذا شأن المؤمنين إذا جلسوا في المقابر يعتبرون وينظرون ويتفكرون وينزجرون ويتوبون ويبكون، لكن في بعض المقابر -وقد رأيت هذا- على المقبرة يبيعون ويشترون، يبيعون الأراضي في المقبرة، بل جئت في يوم من الأيام وأنا مار في أبها على المقبرة وإذا بشخص من الحفارة جالس بعيداً عن القبر يدخن، يدخن داخل المقبرة!! فأخذته قلت: تعال -يا أخي- بالله هل تسكن في هذا المكان؟ قال: نعم.
قلت: كيف تدخن؟ قال: أنا كنت أحفر وتعبت، يقول: لا أقدر أن أواصل الحفر إلا إذا دخنت، قلت: إذا سكنت هناك وجاءك منكر ونكير يسألانك ماذا تقول لهما؟ تقول: أريد (دخاناً) لا أجيب الآن، ائتوا لي بدخان، سيعطونك دخان لكنه دخان في جهنم {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ} [الدخان:10] أين عقلك -يا أخي-؟ يقال: إن رجلاً من الذين يشربون الشيشة ويسمونها المعسل، رجل صالح ولكنه مبتلى بهذه الشيشة، فرأى في المنام أنه مات وأن الله أدخله الجنة وأعطاه في الجنة كل شيء، لكنه لم يجد شيشة ولا معسلاً، فقال: أريد شيشة يا ربي! قال: لا توجد شيشة، ولا تصلح الشيشة إلا بنار، وليس في الجنة نار، قال: لابد من شيشة، فلا أنبسط إلا بالشيشة، قال: افتح الغرفة هذه ففتح النافذة وأدخل يده يريد أن يأخذ رأساً ويريد حجراً لكي يضعها وينبسط فاحترقت يده في المنام، وحين استيقظ في الصباح إذا بيده محروقة سوداء كأنها فحمة.
هذه القصة في صحتها نظر لكنها تقال، ولا نجزم بصحتها والعهدة على الناقل، المهم عندما تجلس على القبر فلا تفكر إلا فيه، فهي لحظة اعتبار يمكن أن يتحدد مصيرك في هذه الجلسة.(29/13)
الوقفة الثانية: إخراج روح المؤمن
يقول البراء: (فجلسنا وكأن على رءوسنا الطير، وفي يده عودٌ ينكت به في الأرض -في يد الرسول صلى الله عليه وسلم عود- فجعل ينظر إلى السماء وينظر إلى الأرض، وجعل يرفع بصره ويخفضه ثلاثاً، كأنه رأى شيئاً، ثم قال: استعيذوا بالله من عذاب القبر) اللهم إنا نعوذ بك من عذاب القبر، ثم قال: (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا -أي: انتهت أيامه وساعاته ودقائقه- وإقبالٍ إلى الآخرة -أي: أزفت الرحلة- نزل إليه من السماء ملائكة بيض الوجوه -هذا من هو؟ المؤمن- كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يأتي ملك حتى يجلس عند رأسه ويقول: يا أيتها النفس الطيبة المطمئنة كانت في الجسد الطيب اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان) اللهم إنا نسألك من فضلك، انظروا هذا النداء: يا أيتها النفس الطيبة؛ طيبة طابت بذكر الله، لا تكون طيباً إلا بالدين وبالإيمان، وبالصلاة وبالقرآن، وبالعمل الصالح، لكن بغير هذا هل تكون طيباً؟ لا.
والناس كلهم يحكمون الآن أي شخص ليس عنده دين يقولون: إنه خبيث.
تشكو لي امرأة وتقول لي: إن زوجها متدين فيه خير، ولكنها قالت: جاءتها الشغالة وقالت لها: زوجها ليس طيباً، تقول: أنا أعرف زوجي من ظاهره ومن صلاته لكنها تعطيني معلومات عكس ذلك، قلت: لماذا؟ قالت: هو يمسكها، كأنه مر من عندها وأمسكها، فأتت بالزوج، وقالت: كيف أنت متدين وظاهرك جيد وتصلي وهذه تقول فأراد أن ينكر فقالت: ما الذي يجعلها تقول: إنك لست طيباً، هذه شغالة، ليس لها مصلحة تريد راتبها فقط، فهل من المعقول أنها تأتي لتقول: إنك لست طيباً؟ فأسألك بالله لا تكذب، تقول له زوجته: لا تكذب ولا تغالطني ولو كذبت عليَّ لن تكذب على الله، أخشى أنك تحلف فتحيط بك، لكن تب إلى الله، قال: صَدَقَتْ أنا لست طيباً وأتوب إلى الله وأستغفره، تقول: وتاب، وتاب الله عليه إن شاء الله، هذا أدنى مستوى من المعاملة، أن الشغالة تقول لك: أنت خبيث، لماذا؟ لأنك لست طيباً، مددت يدك إلى الحرام، وما عندك خوف من الله، جاء في الحديث: (من مد يده إلى امرأة لا تحل جاء يوم القيامة ويده مغلولة إلى عنقه) ستسأل عن هذه اليد لماذا مددتها إلى الحرام؟ -لا إله إلا الله- فهنا تقول الملائكة ويقول ملك الموت يخاطب الروح: (يا أيتها الروح الطيبة) أتريد -يا أخي- أن يقال لك هذا الكلام؟ أم تريد أن يقال لك: يا أيتها الروح الخبيثة؟ لا أحد يريد، من الآن اضبط نفسك وكن طيباً، أما أن تصير خبيثاً وتريد أن يقولوا لك: يا أيتها الروح الطيبة، فلا، الخبيث خبيث، فالناس يقولون له: خبيث، وزوجته تقول له: خبيث، وهو نفسه يعرف أنه خبيث، وحين الموت يقول له ملك الموت: خبيث أين يدخل هذا؟ في دار الخبث والخبائث في النار، والطيب طيب، والله طيب، والجنة طيبة للطيبين -اسأل الله أن يجعلني وإياكم من الطيبين- والملائكة تقول لأهل الإيمان: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر:73] أنتم طيبين: {فَادْخُلُوهَا} [الزمر:73] الله أكبر!(29/14)
الوقفة الثالثة: صعود روح المؤمن إلى السماء
قال: (فتخرج روحه) وخروج الروح كما بينا لكم، فيه ألم لكنه ضعيف، تخرج روحه (تسيل كما تسيل القطرة من فم السقاء -أي: من فم القربة- حتى إذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض) هذا أول شيء، قبل صلاة الناس، يصلي عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملكٍ في السماء، فيأخذها -أي: يأخذ الروح- فإذا أخذها أصبحت الروح في يد من؟ في يد ملك الموت، وملائكة الرحمة ينتظرون خروجها؛ فليس لهم سلطة وهذه اختصاصات، هؤلاء لهم وظيفة، وهؤلاء لهم وظيفة، فإذا خرجت الروح يأخذونها مباشرة منه قال: (فلا يدعها في يده طرفة عين) مباشرة يأخذونها فيضعونها في ذلك الكفن الذي من الجنة، وفي ذلك الحنوط الذي من الجنة، فذلك قوله عز وجل: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61] الروح عندما تخرج يخرج منها ريح كأطيب ريحٍ وجد على وجه الأرض؛ لأن ريح الخبيث والطيب الآن غير ظاهرة، الناس الآن مستورون، مثل قدور الضغط، ولكن إذا كشفنا الغطاء ظهر كل واحد بما فيه، فالذي في قلبه إيمان وقرآن وذكر ودعوة وعمل صالح وحب في الله وبغض في الله أي خير، هذا تكون ريحه جيدة.
والذي في قلبه -والعياذ بالله- أغانٍ وأفلام ومسلسلات ونساء وخمر ونوم عن الصلوات ومعاصٍ وفواحش ماذا نجد إذا كشفنا قدره والعياذ بالله؟ خبث وخزي ويظهر منه ريح كأنتن ريح جيفة وجدت على ظهر الأرض، أما ذاك فكأطيب ريح وجد على ظهر الأرض، قال: (فيصعدون بها -هذه الريح يصعدون بها- فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قال الملائكة: ما هذه الروح؟ وما هذه الريح الطيبة؟ فيقولون: روح فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا) تشريفات تصعد من سماء إلى سماء، واسمك يمر فلان بن فلان، جاء من الأرض جاء العبد الصالح، جاء العبد المؤمن المصلي المتزكي الذاكر التالي صاحب الخشية، هذا هو الفخر، لكن ذاك سترون كيف يقال له -والعياذ بالله- قال: (حتى ينتهون بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون لها -وكل سماء لها أبواب ومغاليق وملائكة- فيفتح لهم) لماذا يفتح؟ قالوا: لأنه معروف عند أهل السماء، فأعمالك الآن تسجل وترفع إلى السماء: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10].
فأهل السماء يعرفونه، كل يوم وأنت تمشي للصلاة، فلك حسابات مع أهل السماء، الآن إذا لك حسابات في أي مصرف أو بنك وتأتي ولك حساب جارٍ عندهم، ولك معاملات وتطلب أو تعطي، فأنت معروف عندهم، لكنك عندما تأتي وأنت مجهول وليس لك رصيد عندهم وتطلب منهم يقولون: من أين نعطيك؟ لا نعرفك، كذلك المؤمن له حسابات في السماء، فإذا فتح له قيل: فلان بن فلان، فيقال: ادخل! هذا معروف، هذا يصلي كل يوم، كل يوم يصعد له صلاة فجر وصلاة ظهر وصلاة عصر وصلاة مغرب، ويصعد له قرآن ويصعد له ذكر، هذا حساباته جارية ومتواصلة مع الله عز وجل، فيفتح له السماء الأولى: (ثم يتبعه من كل سماء مقربوها إلى السماء الثانية، حتى ينتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين) عليين: درجة من الجنة قال الله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:19 - 21]-نسأل الله من فضله-.
فيكتب كتابه في عليين، أي: كما قال العلماء: يحجز مكانه، ويحجز كرسيه، قد عرف وسجل أنه من أهل الجنة، وهذا مكانه في عليين، ثم يعاد من أجل إتمام بقية مؤهلات الجنة.(29/15)
الوقفة الرابعة: إعادة روح المؤمن إلى الأرض
يقول: (وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فيرد إلى الأرض وتعاد روحه إلى جسده، ويأتيه ملكان شديدا الانتهار، فينتهرانه ويجلسانه ويقولان له: من ربك؟) وهذا الانتهار لكل واحد؛ لأنه إلى تلك اللحظة لا يعلمون أنه مؤمن، الملائكة الذين يسألون لا يعلمون، فهو آت من الدنيا وهم لا يعلمون الغيب والسؤال واحد: (من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ -لكن المثبت إذا سئل- قال: ربي الله؛ -لأنه لا يعرف رباً إلا الله- فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام -ما له دين إلا الإسلام، ليس دين الهوى والشهوات- فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله، فيقولان له: وكيف علمت وما أدراك؟ قال: قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقت، فذلك حيث يقول الله عز وجل: ((يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)) [إبراهيم:27]) تلك اللحظات لحظات حرجة، إذا لم يكن هناك تثبيت من الله، تضيع العقول وتذهب الألباب وتتبعثر المعلومات، لماذا؟ لأنك أمام ملائكة، وفي قبر وفي عالم آخر ولا تدري ماذا تقول، لكن الله يلهمك حجتك ويثبتك -اللهم ثبتنا بالقول الثابت-.
(فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي فافرشوا له من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره) انظروا إلى القبور الآن، القبر بجانب القبر، بعضها لا يبعد نصف متر، لكن أحدهم في حفرة من حفر النار، والثاني في روضة من رياض الجنة على مد بصره، كم مد بصرك؟ بصرك يمكن أن تنظر مسافة 40كم مد بصرك هذا مكانك روضة من رياض الجنة: (ثم -وهو في تلك اللحظات- يأتيه رجلٌ حسن الوجه، جميل المنظر، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول له: أبشر بالذي يسرك، أبشر برضوان من الله وجناتٍ فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: وأنت من أنت بشرك الله بالخير؟ فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير) يقول: تبشرني بشرك الله بالخير لكن من أنت وأنا في وضع عظيم؟ (قال: أنا عملك الصالح) الله أكبر! أنا صلاتك، وزكاتك، وحجك، وبرك، وإحسانك (فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله، بطيئاً عن معصية الله فجزاك الله خيراً) يشهد له العمل ويقول: والله ما عرفتك إلا سريعاً في طاعة الله، بطيئاً عن معصية الله فجزاك الله خيراً (ثم يفتح له بابٌ إلى الجنة، وباب إلى النار ويقال له: هذا منزلك لو أنك عصيت الله، أبدلك الله به هذا المنزل -حين أطعت الله- فإذا رأى ما في الجنة قال: رب أقم الساعة) يريد أن تقوم الساعة لكي يدخل الجنة (رب عجل قيام الساعة لكي أرجع إلى أهلي ومالي فيقال له: اسكن ونم نومة العروس) ونومة العريس أحسن نومة.(29/16)
الوقفة الخامسة: مع إخراج روح الكافر من جسده
قال: (وأما العبد الكافر أو الفاجر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة نزل عليه من السماء ملائكة غلاظٌ شداد، سود الوجوه، معهم مسوح من النار وكفن من النار، فيجلسون مد البصر، ثم يأتي ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: يا أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب) لا إله إلا الله! كم بينك يا أخي وبيني وبين أن يدعونا الداعي إما هذا أو هذا، ما أقرب -أيها الإخوان- هذا، يمكن أن أحدنا يدعى هذه الليلة، قال: (فتتفرق روحه في جسده) لا تسيل مثل القطرة.
قال: (فتتفرق في جسده فينزعها كما ينزع السفود -وهو الحديد ذو الشاحب من الصوف المبلول- فتتقطع معها العروق والعصب، فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض وكل ملك في السماء، فتغلق أبواب السماء) إذا صعد بالروح منع من الدخول، لماذا؟ ليس معروفاً، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] الله أكبر! علقهم الله على المستحيل، إذا دخل البعير في خرق الإبرة دخلوا الجنة، هل يعقل هذا؟ لا.
{وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف:40 - 41]-نعوذ بالله من عذاب الله-.(29/17)
الوقفة السادسة: مع صعود روح الكافر في السماء
قال: (فتغلق أبواب السماء ليس من أهل باب -من السماء- إلا وهم يدعون الله ألا تعرج الروح من عندهم) يقولون: لا نريده، لماذا؟ لأن له ريح منتنة -والعياذ بالله- قال: (فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في ذلك المسوخ، فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على ظهر الأرض) الجيفة هي: الدواب التي تموت حتم أنفها ثم ترمى في الصحراء وتمر عليها أيام ثم تتعفن فتخرج منها ريح، الذي يمر من مسافة بعيدة يعرف أن هناك شيئاً ميتاً، جيفة لا يتحملها أحد أي: يكاد يموت، فهذا ريحته ريحة الجيفة، من أين جاءت الجيفة فيه؟ لأنه خبيث، لا يعرف الله، ولا يحب بيوت الله، ولا يحب الصلاة، ولا يحب الطاعة -والعياذ بالله-.
قال: (فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: روح فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهى بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له باب، ثم يقول عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين -قال عز وجل: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المطففين:7 - 10]- ثم يقال: أعيدوا روحه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتطرح روحه طرحاً) يرجم بها من السماء، وذلك قوله عز وجل: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] (فتعاد روحه إلى جسده، وإنه ليسمع خفق نعالهم وصفق أيديهم) وما زالوا عند المقبرة يصفقون، وقد صعدت الروح ونزلت فيأتيانه -الملكان- فينتهرانه ويقولان له: من ربك؟ وهنا لا يعرف؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} [يس:65] يمكن في الدنيا يعرف بالكذب، لكن هناك لا يوجد كذب، (فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون فقلت، فيقال: لا دريت ولا تليت -يعني: جعلك ما تدري- ثم ينادي منادٍ من السماء: أن كذب عبدي، فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه القبر، وتضمه الأرض حتى تختلف الأضلاع -أضلاع اليمين في الشمال، وأضلاع الشمال في اليمين- ثم يأتيه رجلٌ قبيح الوجه قبيح المنظر منتن الريح فيقول له: أبشر بالذي يسوءك -أصبح هو في سوء ويقول: أبشر بالذي يسوءك.
قال:- هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت بشرك الله بالشر؟) هل تبشرني على ما أنا فيه؟ من أنت؟ قال: (أنا عملك الخبيث، فوالله ما علمت إلا أنك كنت بطيئاً في طاعة الله، سريعاً في معصية الله، فجزاك الله شراً) من الذي يقوله؟ عملك، لماذا تعمل شيئاً يضرك؟ غريب والله -يا إخواني- هذا يدل على نقص العقول، أنت تعمل عملاً تعرف أنك غداً سوف تؤاخذ عليه، لماذا تعمله؟ هذه عينك الآن تحت حكمك، لماذا تنظر بها إلى الحرام وأنت تعلم أنك غداً سوف تسأل عن نظرك؟ وهذه أذنك تحت حكمك لماذا تسمع بها الأغاني وأنت تعرف أنك غداً سوف تسمع -بعد هذا السمع- رصاصاً مذاباً في جهنم؟ أين عقلك؟ أنت مؤمن بهذا أم لا؟ لكن -أيها الإخوة- القضية كلها ضعف الإيمان.(29/18)
الوقفة السابعة: حال الكافر في قبره
قال: (ثم بعد هذا يفتح له باب إلى النار، ويقيض له الفتان أعمى أصم أبكم) هذه صفات الفتان، أعمى من أجل لا ينظر إليه فيرحمه، وأصم من أجل لا يسمعه، وأبكم لا يتكلم لا يعرف إلا الضرب، (وفي يده مرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لكان تراباً، فيضربه ضربةً حتى يصير بها تراباً، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه ضربةً ثم يعيده الله كما كان، ثم يصيح صيحة يسمعها كل شيءٍ إلا الثقلين ولو سمعوها لصعقوا) يقول عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لولا ألا تدافنوا لسألت الله أن يسمعكم صيحة واحدة فقط) لكن لو سمعتموه فلا أحد يدفن الثاني كلكم تموتون سواء وتصعقون، ولهذا القبور الآن ترونها ساكنة لكن بداخلها حسرات وعذاب أو نعيم -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل النعيم-.
(ثم يفتح له باب إلى النار) فينظر النار والعقارب والحيات والأهوال فيقول: (رب لا تقم الساعة) يقول: هذه أحسن من تلك، رغم أنه في نار، لكنه يرى النار الكبرى فيقول: رب لا تقم الساعة.(29/19)
الوقفة الثامنة: فوائد معرفة الحديث
أخي في الله: هذا الحديث يعلمك الكثير.
أولاً: أن الإيمان بعذاب القبر ونعيمه جزءٌ من عقيدتك، فإن المخبر بذلك الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه.
ثانياً: يرشدنا إلى أن من كان مع الله في الدنيا كان الله معه في القبر.
ثالثاً: يفهمنا أن المنافق أو الكافر أو الفاجر ينساه الله من رحمته؛ لأنه نسي أمر الله وطاعته.
رابعاً: يعرفنا أن أهل السماء يعرفون أهل الإيمان.
خامساً: يعرفنا -أيضاً- أن أبواب السماء ترحب بنا يوم نموت، وتغلق أمام الكافرين والمنافقين، ويعلمنا -أيضاً- أن المؤمن في قبره في روضة من رياض الجنة، وأن العاصي في حفرة من حفر النار، ويخبرنا الحديث أن العبد يكال له بما كال به لنفسه، الوفاء والنقص مكيال، فإن أردت الوفاء فأوف، وإن أردت النقص فأنقص، والله يجازيك بما عملت لنفسك، يقول الله عز وجل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:89 - 90].
أخي المسلم: كيف تؤمن بعذاب القبر ونعيمه ثم لا تعمل، أين توحيدك لربك؟ أين متابعتك لسنة نبيك؟ أين صلاتك؟ أين خشوعك في صلاتك؟ أين صلاتك في الفجر؟ أين برك لوالديك؟ أين صلتك لرحمك؟ أين توبتك وندمك؟ هل حفظت ذلك؟ أسأل الله عز وجل أن يتوب عليَّ وعليك، ونعوذ بك اللهم من عذاب القبر، اللهم قنا عذاب القبر، واجعل قبورنا روضة من رياض الجنة.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(29/20)
الأسئلة(29/21)
طلب إلقاء درس شهري في مدينة جدة
السؤال
نحن أهل جدة نحبك في الله ونشهد الله على ذلك، ونقول لك: ليتك تخصص لنا درساً شهرياً طالما أنك قريبٌ في مكة، وليكن في هذا المسجد؛ نظراً لسعة المسجد ووجود المواقف المتسعة؟
الجواب
أولاً: أحبكم الله يا أهل جدة، وأنا أحبكم كذلك، وأسأل الله عز وجل أن يظلنا وإياكم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ببركة الحب فيه.
أما تخصيص درس شهري، فهذا منذ سنتين -والحمد لله- درس شهري في مدينة جدة، الأخ كأنه لا يعلم بالموضوع، والدرس كل أربعة أسابيع في يوم السبت من آخر كل شهر، وكان الدرس ينتقل من مسجد إلى مسجد، لكن اليوم تم الاتفاق مع مدير مركز الدعوة والإرشاد على تثبيته في مسجد، وتم اختيار هذا المسجد سبحان الله! بالمناسبة أن يكون ثابتاً فيه لعدة اعتبارات: أولاً: سعة المسجد.
ثانياً: جودة التهوية، وأيضاً جودة التكبير للأصوات.
ثالثاً: عدم وجود أعمدة كثيرة أي: بإمكان أي مستمع في المسجد أن يرى المحاضر.
رابعاً: مواقف السيارات -والحمد لله- جميع طلبة العلم يأتون إلى المساجد والمحاضرات بالسيارات، حتى لو كان المسجد قريباً منه سيأتي بالسيارة، إلا أن هذا لن يكون من الشهر القادم، نظراً لسبق الارتباط، فستكون محاضرة الشهر القادم في مدينة الحرس الوطني بعدها إن شاء الله في شهر ذي الحجة سيكون الدرس ثابتاً في هذا المسجد إن شاء الله، ونسأل الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم بما نقول وما تسمعون.(29/22)
حكم المقابر التي جرفتها الأمطار
السؤال
توجد مقابر وهذه المقابر جرفتها السيول، فماذا يجب علينا أن نفعل؟
الجواب
المقابر يجب حمايتها عن طريق تسويرها، وهذه مسئولية البلديات وأمانة العاصمة، فإذا وجد شيء في مدينة جدة تعرفونه، فعلى الحي الذي بجوار هذه المقبرة أن يعدوا استدعاء ويتقدمون إلى الأمانة من أجل القيام بتسويرها وحمايتها، وهذا شيء معروف في كل البلديات -والحمد لله- وإذا كان خارج المدينة، فنفس الناس الذين هم قريب منها، يتبرعون أو يتصلون بالمحسنين ويجمعون تبرعات ويقيمون حولها سوراً إما بالإسمنت إن تمكنوا، وإما فلا أقل من شبك حتى يحموها من المواشي أو الدواب أو من الاعتداء عليها، وربما بعد أيام يعتدى عليها وتحول إلى أرض، ويحفر فيها بيارات ويسكن فيها، وهي مقابر لمسلمين وهذا لا يجوز.(29/23)
حكم خروج المرأة المتطيبة
السؤال
يقول: لو تطيبت المرأة في بيتها، وبعد ذلك اضطرت إلى الخروج، فماذا تصنع؟
الجواب
إذا أرادت أن تخرج وقد تطيبت في بيتها فإن عليها أن تغير الملابس التي تطيبت فيها؛ لأن الطيب تضعه المرأة دائماً في ملابسها، وإذا كانت وضعت الطيب في شيءٍ من جلدها في وجهها أو في غيره فتغسله حتى لا تتعرض للوعيد الشديد الذي ورد في إثم وعقوبة من تتطيب ثم تخرج ويشم الرجال ريحها، حتى عدها النبي صلى الله عليه وسلم زانية قال: (أيما امرأة استعطرت ثم خرجت ليشم الرجال ريحها، فهي زانية زانية زانية) -والعياذ بالله- فلا ينبغي، لماذا؟ لأن الريح يفتن، إذا مرت المرأة وشم الرجال ريحها وهي محجبة سرت الفتنة إلى قلوبهم برائحتها ولو كانت قبيحة، وإن كانت متغطية وشموا الريح قالوا: ما جاء الريح إلا ووراءه شيء، إذاً فلا يجوز لها أن تتطيب.
يقول الأخ: هل عليها أن تغتسل أم تتوضأ؟ لا.
الجنابة هنا والزنا ليس حسياً حتى يلزمها، إنما عليها أن تتوب إلى الله وألا ترجع إلى هذا.(29/24)
الكرامات في القبور
السؤال
يقول: نسمع كثيراً عن أناسٍ فتحت قبورهم بعد دفنهم بثلاث سنوات فوجدوا أنهم على حالهم، فهل هذا يمكن؟
الجواب
نعم.
يمكن، الأنبياء لا تأكل الأرض لحومهم، قال عليه الصلاة والسلام: (إنا معشر الأنبياء حرم الله على الأرض أكل لحومنا) أي: لو جئنا إلى قبور الأنبياء تجد الجثة كما هي يوم وضعت، وكذلك قد ينال هذه الكرامة غيرهم من الأولياء والصالحين والشهداء، وقد سمعنا الكرامات التي حصلت للمجاهدين الأفغان أيام الجهاد الأفغاني كثيرة، وجد بعض الشهداء بعد شهر أو شهرين وجدوا رائحته مثل المسك، بينما الكافر من اليوم الثاني بعد دفنه إذا بطنه مثل الكيس انتفخ وأصبح ريحته -والعياذ بالله- متعفنة.(29/25)
نصيحة لمن ابتلي بالعادة السرية
السؤال
يقول: أنا شاب مبتلى بالعادة السرية ولا أستطيع الزواج فماذا أفعل؟
الجواب
استعف -يا أخي- فإذا لم تستطع الزواج فعليك بالعفة؛ لأن الله يقول: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] ما أمرك الله أنك إذا لم تستطع النكاح أنك تنكح يدك، لا؛ والعادة السرية وهذا من تلطيف اسمها، أما اسمها في الشرع فهو نكاح اليد، وهي محرمة ولا تجوز، وأدلة تحريمها كثيرة جداً منها في القرآن الكريم يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج:29 - 30] أي: الأمة التي يملكها الإنسان {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المعارج:30 - 31] وتدخل العادة السرية في وراء ذلك {فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} [المعارج:31] أي: المعتدون المتجاوزون لحدود الله.
وفي الصحيحين يقول عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة -أي: النفقة والزواج- فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم) ما قال: فعليه بيده، ولو أنه يجوز لبينه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولو أنه جائز وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم لكان هذا من كتمان الرسالة، ومن عدم إكمال الدين، لكن الرسول ما أمر إلا بالصوم، بالإضافة إلى الآثار التي وردت: (أن ناكح يده ملعون) (أن ناكح يده يبعث يوم القيامة ويده حبلى له)، وأنه ما من حيوانٍ منوي يخرج عن طريق الاستمناء باليد إلا تحمل به اليد لكن آثار الحمل لا تظهر إلا يوم القيامة.
فهذه مصيبة عليك -يا أخي المسلم-.
فنقول لك: عليك أن تتوب وأن تلتجئ إلى الله عز وجل وهناك وسائل تعينك على العفة: أولاً: الإكثار من قراءة القرآن وذكر الله؛ لأن الاستمناء يأتي عن طريق وسوسة الشيطان، فإذا أكثرت من الذكر لله وقراءة القرآن خنس الشيطان.
ثانياً: عليك أن تمارس عملاً مهنياً حتى تستنفذ الطاقة؛ لأن عندك طاقة فاستعملها في عمل بدني، إما في عمل مع أبيك، أو في تجارتك، أو في مزرعتك، أو في رياضة، حتى لو فعلت لك في البيت عقلة أو أتيت بأثقال حتى تفنى، فإذا تعبت فاذهب ونم فلن تفكر في شيء وسوف تنام سريعاً.
ثالثاً: لا تكثر من الأطعمة المهيجة للجنس ما دمت عزباً، كل قوتاً خفيفاً لكي تعيش، إلى أن تتزوج، فإذا تزوجت فكل؛ لأن معك امرأة، لكن تكثر من الطيبات، وليس معك امرأة أين تذهب؟ تعود إلى يدك، هذا ليس جيداً، دع الطعام ولا تأكل إلا الأشياء الخفيفة، لكن تأكل من العسل والبر والسمن والشحم واللحم والمغذيات هذه لا تصلح لك، اتركها حتى تتزوج إن شاء الله.
رابعاً: لا تنظر إلى الأفلام والمسلسلات، ولا تنظر إلى النساء في الشوارع، ولا تقرأ قصص الغرام والجنس؛ لأن هذه تُذكي فيك الغريزة وتهيج فيك الجنس.
خامساً: إذا أويت إلى فراشك فلا تأتي إلا وأنت تريد أن تنام، من أجل أن تضع رأسك وإذا بك نمت، لكن تأتي وليس فيك نوم وتقعد تتقلب فيأتيك التفكير في هذا الأمر، كيف تصنع؟ اقعد اقرأ في القرآن، اقرأ في السنة، اقرأ في التاريخ، احفظ أبياتاً من الشعر، فإذا تعبت من القراءة قم وصلِّ ركعتين، وإذا جاء الشيطان دفعته بركعتين، والله لن يأتيك أبداً، أحد الإخوة قلت له هذا الأمر يقول: والله فعلتها وما أتاني أبداً؛ لأنه وسواس، كلما جاء الشيطان فعلها يقول: حتى مات مرة واحدة.
سادساً: اسأل الله العفة -نسأل الله العفة- جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عنده شهوة وجنس يريد النساء فقال: (يا رسول الله! آمنت بك وصدقت ولكن ائذن لي في الزنا) يريد رخصة تصريح في الزنا، فالصحابة استغربوا هذا السؤال الذي لا يعقل، كيف يأذن له في الحرام؟! وكل واحد منهم يضع يده على السيف ينتظرون الإشارة لقطع رأسه، فالنبي صلى الله عليه وسلم هدأ روع الرجل وقال له: (تعال أدن مني، ولما دنى قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا.
-الرجل لا يحبه لأمه- قال: أتحبه لبنتك؟ قال لا.
قال: أتحبه لأختك؟ قال: لا.
قال أتحبه لزوجك؟ قال: لا.
قال: والناس كذلك لا يحبونه لأمهاتهم ولا لأزواجهم، ثم وضع يده على صدره وقال: اللهم طهر قلبه، وحصن فرجه، واغفر ذنبه) هذه ثلاث دعوات والحديث في الصحيح قال: (اللهم طهر قلبه، وحصن فرجه، واغفر ذنبه، ثم قام الرجل يقول: فوالله إنني قمت وليس في الدنيا أكره عندي من الزنا) وهذا مجرب.
عليك دائماً أن تقول في الدعاء: اللهم طهر قلبي، وحصن فرجي، واغفر ذنبي، حتى يحصن الله فرجك -إن شاء الله- من كل شيء، ويطهر الله قلبك من النظر، انتبهوا لا أحد يتساهل ويقول: النظر بسيط، أول شيء تنزلق فيه إلى الزنا العين، ولهذا لما تغضها تستريح، قال الله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] وحين تزل بك القدم في النظر لن تبقى على العين فقط، ستستمر سنة وسنتين وأنت تنظر وبعد ذلك؟ ينقلك الشيطان إلى الثانية وهي: الكلام، والتليفون، وبعد ذلك تقعد على المكالمات فترة، ثم ينقلك الشيطان يقول: إلى متى هذه المكالمات فإنها لا تنفع؟ ثم موعد ولقاء وزنا ثم جهنم، لكن لو أنك أقفلتها من أول باب من عند العين ارتحت، ولهذا ليس في الدنيا أسعد قلب ولا أريح بال من المؤمن الملتزم الذي يغض بصره ولا يرى شيئاً، كلما رأى امرأة، غض بصره وذهب البيت ونظر إلى امرأته ملكة جمال، وإن كان ليس عنده امرأة صبر حتى تأتيه امرأة، لكن الذي لا يغض بصره في النساء يرى أصناف النساء وبعد ذلك لا يقدر أن يصبر عليهن كلهن، فيتقطع قلبه ويقول:
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل؟
وإنك إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
ثم إذا عندك زوجة وذهبت البيت ونظرت إليها وقد نظرت إلى أحسن منها، فتنظر فيها أنها قبيحة، فمن حين تدخل تعمل مشكلة معها ولا تسلم، لماذا؟ لأنك رأيت امرأة في الخارج جميلة، وتقول: ما هذه المرأة القبيحة؟ فيأتي إليها الشيطان ويقول: هذا الذي لا يسلم لماذا لا تأخذي رجلاً أحسن؟ وتذهب تبحث عن رجل يسلم، وتصير الحياة تعيسة بسبب إطلاق النظر، لكن لا تنظر إلا إلى امرأتك، فإذا لم تر إلا هي ترى كأنها ملكة جمال الدنيا؛ لأنك لا ترى إلا زوجتك، ولهذا قال الله: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30].(29/26)
الشفاعة وشروطها
السؤال
أحب الصالحين ولست منهم وأرجو أن أنال بهم شفاعة
هل هذا القول سليم؟ أم أنه يمس في العقيدة؟
الجواب
الأخ طالب علم، جزاه الله خيراً ويقصد بهذا شفاعة الصالحين، هل تصح أم لا؟ أقول: قد تحدث العلماء عن الشفاعة وهي جزء من قضايا العقيدة، وقسمها العلماء إلى ثمانية أقسام.
وهذه الشفاعة لا تتم إلا بشرطين: أولاً: الإذن من الشافع وهو الله.
ثانياً: الرضا عن المشفوع وهو الذي يشفع له، قال الله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] هذا هو الشرط.
والثانية قال الله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] فإذا أذن الله ورضي عن المشفوع له نفعت الشفاعة، أما إذا لم يوجد أذن ولا رضا فقد قال الله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] فهذا البيت صحيح وينسب إلى الشافعي، يقول: (أحب الصالحين ولست منهم) يقول هذا على باب التواضع، وإلا فـ الشافعي من أعظم الصالحين، الشافعي -رحمه الله- له سيرة عطرة وتراجم لو المقام يسمح لأتيت لكم بشيء كثير منه، شيء يعطر القلوب، شيء عجيب لدرجة أنه أوتي قدرة وحافظة وكان إذا أراد أن يقرأ كلاماً يضع المسطرة على السطر الثاني حتى لا تسبق عينه السطر الثاني فيحفظه قبل الأول، حفظ الموطأ وهو أعقد كتاب من كتب الحديث، إذا قرأته تريد لك تراجم فيه، حفظه من قراءة واحدة، ولما جلس على الإمام مالك قال: حفظته من قراءة واحدة، قال له: إنك امرؤ نور الله قلبك لكن لا تطفئها بظلمة المعاصي.
ولما خرج إلى السوق فرأى عقب امرأة، عندما هبت الريح فكشفت عن رجلها، ورجع يقرأ وإذا به لم يستطيع أن يحفظ، كما كان من قبل، فذهب إلى وكيع بن الجراح يشكي إليه، وقال له: إني لا أحفظ مثلما كنت، قال له: أين ذهبت اليوم؟ قال: إلى السوق، قال: ماذا رأيت؟ قال: رأيت عقب امرأة، قال: هذه هي، ارجع وتب إلى الله، ويقول في أبيات:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نورٌ ونور الله لا يؤتى لعاصي
بعض الناس يقول: أريد أن أقرأ القرآن وأحفظ العلم، وهو طيلة ليله على الأفلام والمسلسلات، من أين يأتيك العلم والقرآن؟ والله لا ينظر لك ولا يمر من عندك، العلم يريد له قلباً منوراً قلباً مفتوحاً لله، أما قلب يعشق الشر ويحب المجون ويريد أن يحفظ القرآن، فلا يمكن أبداً، فيقول الشافعي:
أحب الصالحين ولست منهم وأرجو
هنا أرجو محمولة على أن المرجو هو الله (وأرجو أن أنال بهم) أي: بحبهم وبحب الصالحين وبمجالستي إياهم.
(وأرجو أن أنال بهم شفاعة) عند الله عز وجل.
ثم يقول: (وأكره من بضاعته المعاصي) يقول: الذي عنده بضاعة (معاصي) أكرهه.
(وإن كنا سواءً في البضاعة) يقول: ولو أن بضاعتي مثله، لكنه ليس عنده شيء، فإذا كان عقب امرأة رآه عمل له مشكلة فكيف عنده معاصي؟ فقال له الثاني:
تحب الصالحين وأنت منهم وحب القوم يلحق بالجماعة
وتكره من بضاعته المعاصي يقيناً لست من أهل البضاعة
يقول: ما أنت من أهل بضاعة المعاصي -أثابك الله- وأنا رقعتها ولا أدري هل البيت كذا أم لا.
أكتفي -أيها الإخوة- بما قلت، وأرجو الله عز وجل أن ينفعني وإياكم بما قلته، ونعدكم إن شاء الله بمحاضرة يوم خمسة وعشرين، وسيعلن عنها، ولكن أعلن عنها من الآن حتى يكون الإنسان على علم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(29/27)
أهوال القبر
تحدث الشيخ في بداية الدرس عن محبة الرسول عليه الصلاة والسلام، وما يناقض هذه المحبة من الابتداع، مثل بدعة المولد النبوي التي لم يقم عليها دليل من كتاب أو سنة ولا من فعل الصحابة أو التابعين ومن تبعهم بإحسان، ثم ساق أدلة تحريم هذه البدعة.
ثم تحدث عن القبر وأهواله وفظاعته، وإكثار النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته من تذكر الموت والقبر الذي هو أول منازل الآخرة.
وفي القبر فتنة سؤال منكر ونكير التي لا يتجاوزها إلا من ثبته الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة.(30/1)
محبة الرسول عليه الصلاة والسلام
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة في الله! أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يبقي فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، نجد ثوابه إن شاء الله يوم الوقوف بين يدي الله عز وجل.
قبل أن أبدأ في موضوع الدرس أحب أن أشير بالمناسبة إلى شيء اعتاد الناس أن يفعلوه في مثل هذه الأيام على اعتبار أنه دين وليس بدين.
كلكم يعلم أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم دين يدين المسلم به لله عز وجل، وأنه قربة من أعظم القرب، وأن بغضه أو كراهيته أو بغض شيء مما جاء به صلوات الله وسلامه عليه، كفر بدين الله مخرج لصاحبه من الملة، فقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته نواقض الإسلام، أن من ضمن النواقض: بغض الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بغض شيء مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، حتى ولو عمل بهذا الأمر ولكنه من قرارة نفسه يبغضه أو يكرهه، فإنه يكفر ولو عمل به؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36].
محبة النبي صلى الله عليه وسلم قربة وطاعة ومن أعظم الطاعات، بأبي وأمي هو صلى الله عليه وسلم معلم البشرية، ومنقذ الإنسانية، والذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وهدى الله به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، فصلوات الله وسلامه عليه، صلاة دائمة متتابعة ما تتابع الليل والنهار.(30/2)
البدعة تنافي محبة رسول الله عليه الصلاة والسلام
اعتاد الناس أن يقيموا احتفالات يسمونها حفل المولد، وحفل المولد جاء من عادة نصرانية الغرض منها التذكير بحالة المحتفل به؛ لأن الإنسان ينسى في زحمة الأعمال، وكثافة الأشغال من لا يذكره باستمرار، حتى إنك الآن ربما تنسى أباك الذي مات منذ سنوات ولا تذكره إلا إذا ذكرك شيء به، فلا تتذكره باستمرار، بخلاف إذا مات في الأسبوع الأول أو الشهر الأول تتذكره في كل حين، وترى آثاره في كل وقت، لكن بعد مضي سنة أو سنتين أو ثلاث ينسى الإنسان.
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه يتقلب
فهم شرعوا لأنفسهم حفلاً يقيمونه، يحتفلون فيه في كل عام بمولد هذا الإنسان الذي يريدون أن يذكروه، ثم صيروا ذلك شعيرة من شعائرهم، يحتفلون فيها حتى بمولد نبيهم عيسى عليه وعلى نبينا وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة والسلام.
وجاء المقلدون والرعاع من هذه الأمة يريدون أن يحتفلوا بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وما علموا أن ذكراه صلى الله عليه وسلم حية في كل وقت وحين، فنحن لا ننساه، ننسى أنفسنا وآباءنا وأمهاتنا وأزواجنا وأولادنا، بل ننسى ذواتنا ولا ننساه صلوات الله وسلامه عليه، كيف ننساه ونحن نسمع ذكره يعلو على كل مأذنة في كل يوم خمس مرات؟ فما من أذان يرفع إلا وفيه أشهد أن محمداً رسول الله، كيف تنساه الأمة وهي مطلوب منها وهي تصلي في كل يوم خمس صلوات، ولا تقبل صلاتها إلا بالصلاة عليه في تشهدها الأوسط والأخير، فأنت تقول: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، اللهم صلِّ على محمد.
هل يمكن أن تنسى هذا الإنسان الذي تذكره في كل وقت وحين؟ تذكره وأنت تدخل البيت، فتتذكر أن هناك هدياً وسنة لا بد أن تقولها، ثم وأنت تأكل الطعام، ولما تشبع من الطعام، ثم وأنت تنام، وعندما تستيقظ، وتذكره وأنت ترى القمر، وتسمع هبوب الرياح، وترى المطر ينزل، وتذكره وأنت تأكل من باكورة الثمار، تذكره في كل شيء؛ لأن معالمه وبصماته صلوات الله وسلامه عليه مرسومة في كل هديك، وسلوكك وتصرفاتك، فهل نحتاج بعد هذا إلى أن نحتفل بذكراه مرة في العام ثم ننساه؟!!(30/3)
محبة أهل البدع للرسول محبة زائفة
إن من يحتفلون بمولده صلوات الله وسلامه عليه هم أهل البدعة والخرافة والتضليل، يحتفلون ويقيمون السرادقات، ويضيئون الأنوار، ويأكلون الحلوى، وينشدون الأشعار والمديح والتغني فيه، ثم يخرجون وينسونه إلى أن يأتي مثل هذا اليوم من السنة المقبلة، لا يحيون سنته، ولا يرومون طريقته، ولا يتبعون هديه، وإذا جاء الاحتفال احتفلوا به، وإذا أنكر عليهم وقيل لهم: هذه بدعة، قالوا: نحن نحب الرسول صلى الله عليه وسلم وأنتم تكرهونه ولا تحبونه ولذا لا تحتفلون بمولده، أما نحن فنحبه.
نقول لهم: خسئتم والله، بل أنتم أعداؤه، أنتم لا تحبونه؛ لأن من كان يحبه فليسر في هديه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران:31] فماذا؟ {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ} [آل عمران:31] نحن نحبه أشد حباً: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] ومن محبة الله محبة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: -الأولى- أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) ويقول عليه الصلاة والسلام يوماً لصحابته: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وماله والناس أجمعين) فيقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يعرف وزن الكلمة وقيمتها، ليس إنساناً مغالطاً، أو يقول الكلام على عواهنه، قال: (والله يا رسول الله! إنك أحب إليَّ من أهلي ومالي ومن الناس أجمعين إلا من نفسي) لا يعرف الكذب، ولا التملق، قال: (لا يا عمر -حتى الآن ما آمنت- حتى أكون أحب إليك من نفسك) فلما وازن وقارن بين ما يمكن أن يربحه إذا أحبه أكثر من نفسه وهي الجنة، وبين ما يمكن أن يخسره إذا لم يحبه أكثر من نفسه فقال: (والله لأنت أحب إلي يا رسول الله! من نفسي وأهلي ومالي والناس أجمعين، فقال عليه الصلاة والسلام: الآن يا عمر، الآن يا عمر) اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
فهؤلاء المبتدعة يبتدعون في الدين ما لم يأذن به الله، ويوردون ديناً على الناس وليس بدين، وقد ذكر علماء الإسلام أن عملهم هذا محرم، ولا يجوز إقراره، ويجب إنكاره، ولا يجوز السكوت عليه، بل ينبغي من درس التوحيد، وعرف هدي السلف، ثم ذهب إلى أي بلاد من هذه البلاد، وعلم بأنه يقام مثل هذا الاحتفال في هذه البلاد بأن ينصحهم ويعظهم؛ لأننا نعرف ونسمع أن هناك من خفافيش الظلام من لا يستطيعون أن يظهروا في الضوء، فهم يعيشون في الظلام ببدعتهم.
سألني شخص هذا اليوم، قال لي: متى يوافق اليوم الثاني عشر بالضبط؟ قلت: لماذا؟ قال: أريد أن أصوم هذا اليوم، قلت: ولم؟ قال: لأنه مولد النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: هل أمرك أن تصومه؟ قال: لا.
قلت: هل صامه خلفاؤه الراشدون؟ قال: لا.
قلت: هل صامه سلف هذه الأمة؟ قال: لا.
قلت: من أمرك؟ قال: الناس عندنا يصومون هذا اليوم في باكستان، قلت: سبحان الله! تأخذ دينك من الناس، هذا دين لا يؤخذ إلا عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا تصم هذا اليوم، وإن صمته على أنه قربة فأنت آثم ولست بمأجور؛ لأنك تبتدع بدعة أعظم في الدين من ثواب هذا اليوم الذي تريد أن تتقرب به وليس بقربة.(30/4)
أدلة تحريم بدعة المولد
يقول علماء الإسلام: إن هذا العمل محرم لأدلة شرعية كثيرة، منها ثمانية أدلة:(30/5)
المولد لم يفعله النبي لنفسه ولا صحابته من بعده
الدليل الأول: أنه صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولو كان هدى لكان أول من يفعله هو، فيحتفل بمولده هو صلى الله عليه وسلم، فإنه يعرف فضائل الأعمال، ولو كان خيراً لسبق إليه، وأيضاً لم يحتفل بذلك خلفاؤه الراشدون وأصحابه البررة، فهم كانوا أحب الناس إليه، وهو أحب الناس إليهم، وحينما افتقدوه في أول يوم، يقول أحد الصحابة: [والله ما عدنا من المقبرة إلى البيوت إلا وقد تغير كل شيء في حياتنا، حتى الشمس والليل والنهار] أنكروا كل شيء بعد النبي صلى الله عليه وسلم لكنهم ما ابتدعوا في الدين، وجاءوا يوم ميلاده وقالوا: نحيي ذكراه، فهو حي في كل وقت وحين، وأيضاً لم يفعله سلف هذه الأمة في القرون المفضلة، التي قال فيها عليه الصلاة والسلام: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) هذه الثلاثة القرون هي النماذج الحية للإسلام وللتطبيق السلفي لدين الله، فلما لم يفعله الرسول، ولم يفعله خلفاؤه، ولا الصحابة، ولا التابعون، ولا السلف الصالح، دل هذا على أنه ليس بدين، وأن من أتى به فهو مردود على وجهه، لا نقبله منه.(30/6)
المولد فيه دعوى أن الدين لم يكتمل
الدليل الثاني: أن الله عز وجل أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع آية، يقول الله فيها: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فلا يجوز أن نكذب الله وأن نقول: الدين ما كمل إلى الآن، نحن نريد أن نضيف فيه إضافات؛ لأننا نحب الرسول صلى الله عليه وسلم، فنحتفل بهذا اليوم، ونتهم الرب عز وجل وتعالى في ذلك أنه ما أكمل لنا الدين ونحن نكمله، هذا لا يجوز، وفيه ردٌ لهذه الآية، ومن رد حرفاً أو آية من كلام الله فقد كفر، وقوله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] وقد علم في الدين أنه لم يأمر به صلى الله عليه وسلم ولم يفعله.(30/7)
مخالفة المولد للسنة
الدليل الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والترمذي قال: (عليكم بسنتي -أي: هديي وطريقتي- وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ) والنواجذ هي: الأسنان الواقعة في طرف الأضراس مما يلي الجسم، والنواجذ لا تستعملها أنت إلا في الأشياء الصعبة، إذا كان معك عظم تريد أن تكسره فتضعه بين هذه النواجذ، فالنبي صلى الله عليه وسلم، يقول: (عضوا عليها -أي: هذه السنة- بالنواجذ) كناية عن التمسك بالسنة بأقصى قوة، وبأعظم إمكانية وهي النواجذ، وفي هذا استعارة لطيفة من بلاغته صلوات الله وسلامه عليه، ثم قال: (فإنه من يعش منكم فسيرى بعدي اختلافاً كثيراً) يخاطب الصحابة أن من يعيش بعده منهم فسيرى اختلافاً، فكيف بمن بعدهم؟ كيف وأنتم في كل يوم تضيعون سنناً وتحدثون بدعاً؟! وهذه من البدع التي أحدثها أعداء الله، اقتبسوها من النصارى وسموها ديناً، ووصفوا من لا يفعلها، والذي يذب عن هديه، ودينه، يسمونه (وهابي) يقولون: أنت لا تحب الرسول صلى الله عليه وسلم، سبحان الله! كيف انقلبت المفاهيم وانعكست الموازين، وأصبح أتباعه هم أعداؤه، وأصبح المبتدعة هم أحبابه، يقولون: نحن أحبابه، وقد خسئوا فهو منهم براء، صلوات الله وسلامه عليه.
(إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، ثم قال: وإياكم -تحذير- ومحدثات الأمور) أي: في الدين، ليس المحدثات في الأمور العادية وعادات الناس، يجب أن يفهم الناس ما معنى المحدثة، المحدثة في الأمر أي: في أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، أما في عادات البشر فليس عليه حرج، كونك تركب سيارة، أو تأخذ ثلاجة، أو تلبس ثياباً، أو تفرش بيتك، هذه كلها لم تكن موجودة وهي مما أباحه الله عز وجل.
إنما الشيء المرسوم، والمحدد بإطار معين، والمحاط بسور الاتباع هو دين الله، وما أمر به الله أو أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم (إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) وقد سمعت شخصاً من المبتدعة المفتونين يتكلم ويكتب ويقول: إن البدعة منها ما هي بدعة حسنة، ومنها ما هي بدعة محرمة وغير ذلك، فقسم البدعة إلى خمسة أقسام على أقسام الحكم التكليفي.
الحكم التكليفي كما تعرفون في الأصول أقسامه خمسة، فقال: بدعة محرمة، وبدعة مكروهه، وبدعة واجبة، وبدعة مستحبة، وبدعة مباحة.
الله أكبر! ما هذا الفقه؟! والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) كل ضلالة في جهنم.
فهذا الحديث يبين لنا أنه لا ينبغي لأحد أن يستن إلا بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وبهدي خلفائه الراشدين، وألا يعمل أمراً أو يضيف ديناً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد خلفائه الراشدين، فالدين ما شرع الله وما سن رسوله صلى الله عليه وسلم.(30/8)
المولد بدعة محدثة في الدين
الدليل الرابع: روى البخاري ومسلم في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد) أي: باطل مردود، مضروب به في وجهه، لا نقبل الدين بالآراء، نحن لسنا عبيداً إلا لله، ونحن أتباع لهذا الرسول صلى الله عليه وسلم، لسنا إمعات، لا لعالم ولا لولي ولا لصالح، إن جاءنا العالم يقول قولاً: قلنا هات الدليل، وإذا كان معك دليل سمعنا وأطعنا، وإن لم يوجد معك دليل فلا سمع ولا طاعة، لا نقبل ديناً بالآراء والاستحسانات، فمن أحدث في دين الله ما ليس منه فهو رد، مردود باطل مضروب به في وجهه، لو جاء رجل الآن عندكم، قال: أنتم تصلون المغرب الآن ثلاث ركعات، وتصلون العشاء أربع ركعات، يأتي المغرب وأنتم ما زلتم نشيطين في أول الليل ويأتي العشاء والواحد مرهق ومسترخ يريد أن ينام، لماذا لا نجعل المغرب أربعاً والعشاء نجعلها ثلاثاً، من أجل أن العقل يحكم بهذا، وبعد ذلك في الصباح لماذا لا نجعل صلاة الفجر -ونحن نشيطون وقائمون من النوم وليس فينا تعب- نجعل صلاة الفجر أربعاً، والظهر التي هي في وسط الدوام والشخص يريد أن يجلس نجعلها اثنتين، ما رأيكم بهذا الرأي؟ نقول له: لا.
الدين ما شرع الله لا ما شرعت أنت، رأيك اجعله لك؛ لأن الله أعلم وأحكم تبارك وتعالى، (فمن أحدث في ديننا) وهذا إحداث في الدين.
قد يقول قائل: إن هذه الاحتفالات من الأمور العادية، نقول لا.
ليست من الأمور العادية؛ إنها من الأمور الشرعية الدينية؛ لأن كل ما كان له علاقة بالكتاب، أو بالسنة، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو دين، فكونه يحتفل به على أنه قربة، وأن هذا يقرب إلى الله؛ لأن هذا رسول الله، والاحتفال به شيء عظيم، فقد جعله من الدين، وليس عليه دليل، فهو مردود.(30/9)
الإجماع منعقد على أن العبادات توقيفية
الدليل الخامس: أن أهل العلم أجمعهم -بدون خلاف- قالوا: إن العبادات الأصل فيها التوقيف، يعني: ليس للإنسان رأي في أن يأتي بشيء من عند نفسه، لا بد أن تقف فيها على دليل، ولا مجال للاستحسان والرأي، فإن الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، ولا مجال لإدخال العقل في قضية العبادات، فإنها كلها توقيفية ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].(30/10)
متابعة النبي صلى الله عليه وسلم علامة محبة الله
الدليل السادس: أن دعوى محبة النبي صلى الله عليه وسلم لتبرير هذا العمل دعوى باطلة ومردودة؛ لأن محبته صلى الله عليه وسلم تظهر جلية في متابعته لا في الابتداع عليه، ومخالفة أمره، محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بالسير على منهجه، وقد امتحن الله الأمة بهذه الآية كما يقول ابن عباس، قال: [امتحن الله العباد بهذه الآية، قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] فعلق محبته للعباد على اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم].(30/11)
إقامة المولد تشبه باليهود والنصارى
الدليل السابع: أن في ذلك تشبهاً باليهود والنصارى، فهم يحتفلون بعيد الميلاد في كل حياتهم، حتى مواليدهم الصغار، إذا ولد له ولد مثلاً في يوم (8/ ربيع الأول) بعد سنة كاملة يقيم حفلاً، وبعض الإمعات والجهلة من المسلمين الذي يظنون أنهم متطورون -وهم في الحقيقة متثورون- إذا جاء له ولد وبعد سنة قال: اليوم عندنا وليمة، ماذا عندك؟ قال: نطفئ الشمعة الأولى من عمر فلان المديد.
اليهود والنصارى يعتقدون أنك إذا ما احتفلت بعيد ميلاد ولدك هذا فإنه قد يموت، فأنت كل سنة يمر عليك تقيم له حفلاً، وتدعو الناس، وتطفئ شمعة وتشعل شمعة جديدة، وإطفاء الشمعات وإشعالها هذا ليس منك، والأعمار بيد الله، والله تبارك وتعالى هو الذي يقضي بالليل والنهار على عباده، ولا راد لأمره تبارك وتعالى، ولا معقب لحكمه، وهذه بدعة نصرانية مردودة.
فلا ينبغي للمسلم أن يكون ذيلاً لهم، وإذا علم أن هذه الوليمة أو هذا العشاء بمناسبة مرور ثلاث أو خمس أو ست سنوات على زواج فلان، أو على ميلاد فلان، يرفضه ويقول: لا أحضر إلى بدعة ليس عليها دليل من النبي صلى الله عليه وسلم.
والتشبه باليهود والنصارى محرم بدليل الحديث الذي رواه الإمام الترمذي في السنن وهو صحيح، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى، فإنه ليس منا من تشبه بغيرنا) وفي حديث آخر، قال عليه الصلاة والسلام: (من تشبه بقوم فهو منهم) والتشبه أن تعمل أعمالهم.
لا يا أخي كن إنساناً استقلالياً، لا تكن تبعياً، كن إنساناً بارزاً لك قدوة وأسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].(30/12)
منكرات الموالد والشرك الحاصل فيها
الدليل الثامن: يقع في تلك الاحتفالات من المنكرات والعظائم ما لا يعلمه إلا الله، وأعظم ما يقع فيها الشرك بالله، فإنهم في تلك الاحتفالات يتصورون أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر، وبينما هم في المديح، والأدعية، والثناء، وهز الرءوس والتطريب يقولون: اسكتوا! وتقدم الحلاوة والذبائح والأكلات والبسطات، وبعد ذلك يقولون: جاء الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقومون قياماً، ويرخون رءوسهم، وينعقون ويبدءون في تقديم الدعاء، يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: يا مفرج الكروب، يا قاضي الحاجات، يا شافي الأمراض.
الله أكبر! لا إله إلا الله! يشرك برب الأرض والسماوات، وهذا هو الذي نزل من أجله الكتاب، وشرع من أجله الجهاد، وبعثت من أجله الرسل؛ أن يدعى الله وحده، والله يقول: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18].
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول للصحابي الذي قال له: (ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله نداً؟! قل ما شاء الله وحده) (ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي ولكن يقول: فتاي وفتاتي) والله يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] هذا الرسول {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ * وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:65 - 67] سبحانه وتعالى عما يشركون علواً كبيراً، فيدعون الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهؤلاء نقول لهم بمنطق العقل: إذا كان في أكثر بقاع العالم هذه الاحتفالات، وكلهم يزعم أن الرسول جاء، فكيف انقسم عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ودخل كل حفل من احتفالاتهم؟!! كيف قام ووصل إلى كل هؤلاء، وخرج من عند هؤلاء في خلال ساعة، أو في يوم، أو في ليلة واحدة؟!! أهذا كلام يعقل؟ سبحان الله! رسول الله صلى الله عليه وسلم ميت صلوات الله وسلامه عليه، كما قال الله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] وقال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:34 - 35] هو ميت ولكنه حي، كأكمل حياة الشهداء، حياة برزخية، ليست حياة مثل حياتنا، حياة بزرخية كأكمل حياة الشهداء صلوات الله وسلامه عليه، وهو لا يخرج من قبره ولا يعلم ما يحدث في أمته من بعده، ولهذا يوم القيامة يوم تذاد مجموعة من الأمة عن الحوض فيقول: (أمتي أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، لا زالوا يرجعون عن دينهم القهقرى، فأقول: بعداً بعداً، وسحقاً سحقاً) وأقول كما يقول العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:117] إلى آخر الآيات.
فهذه المنكرات يحصل فيها الشرك بالله، بالإضافة إلى الإسراف، والتبذير في إقامة الولائم، ونصب السرادقات، وإضاءة الأضواء، وإهلاك الأموال في هذا الأمر الذي لم يأذن به الله، ولم يشرعه رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يسعنا -أيها الإخوة- إلا ما وسع السلف [ومن كان مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تأمن فتنته].
ونقول للناس الذين يبتدعون هذا: لو كان خيراً لسبقنا إليه صحابة رسول الله وسلف هذه الأمة، وما لم يسبقونا إليه فليس بدين، وما لم يكن في عهدهم دين فلن يكون في عهدنا دين، فقد ضيع هؤلاء أكثر دين الله، ثم يحدثون فيه ما ليس من دين الله، فنريد -أيها الإخوة- أن نعرف هذا الأمر على حقيقته، وأن نعرف أدلة رده حتى إذا ما ناقشنا مبتدع، أو جاء ليضللنا ضال؛ لأن كثيراً من المسلمين -فقهنا الله وإياهم بالدين- بحبهم للنبي صلى الله عليه وسلم وبفطرتهم السليمة، إذا جاءهم مبتدع وسوغ لهم هذا الأمر، ربما ينطلي عليهم، وربما بدافع الحب للنبي صلى الله عليه وسلم يصنعون هذا الأمر وهم لا يشعرون، فنريد أن يعي إخواننا، وهم بدورهم ينقلون هذا إلى كل من يسمعون أنه يحدث مثل هذه البدعة، ويقولون له: هذا ليس بدين، بل هي بدعة، والبدعة طريق الشرك.
فأَقَلّ بدعة كما يقول شيخ الإسلام ابن القيم: أعظم عند الله من أعظم كبيرة من كبائر الذنوب، يعني: البدعة الصغيرة أعظم من كبيرة الخمر والزنا، لماذا؟ قالوا: لأن صاحب الخمر والزنا يرجو أن يتوب، لكن صاحب البدعة يحسب أنه على هدى، ولا يفكر أن يتوب أبداً؛ لأنه يدعو إلى بدعته، والعياذ بالله! هذا -أيها الإخوة- ما أردت أن أذكره لكم كبداية في هذه الجلسة.(30/13)
القبر وأهواله
أما موضوعنا الذي سوف نواصل البحث فيه، فهو عن القبر وفظاعته وأهواله، نسأل الله عز وجل أن يخفف عنا وعنكم في تلك اللحظات الحرجة.(30/14)
الإكثار من تذكر الموت والقبر
الحديث عن القبر ينبغي أن يكون نصب أعيننا في كل وقت وحين، فإننا ما دمنا نذكره، فسوف نستعد له، وإذا نسيناه غفلنا عنه، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر ويأمر أصحابه بالإكثار من ذكر الموت والقبر، وكان يقول: (إني كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزورها فإنها تذكر بالآخرة) والناس اليوم قليل من يزور القبور؛ لأن الناس لا يمشون على أقدامهم، كنت قبل أن أشتري سيارة أمشي على قدمي، وما أمر بمقبرة إلا أسلم عليها؛ لأني أرى القبور، وهي ليست مرتفعة، وليس عليها سور، ولا مناظر جميلة من أجل أن تلهي الناس، فكلما رأيت قبراً أسلم، وبعدما اشتريت سيارة، فانشغلت بالسيارة فلا تنظر عيني إلا في الخط، ولا أستطيع أن أنظر، والمفروض أن أنتظر لحظة وأسلم، وليس بالضروري أن يستمر نظري إلى المقبرة مسّلِماً، وإنما إذا مررت بالمقبرة أسلم وأركز على الخط، لكن العبرة في هذا أقل من العبرة لو سرت بقدمي ووقفت على طرف المقبرة ونظرت إليها، وشاهدت ظاهر القبور وما يحصل فيها من الهدوء والوحشة والانفراد، يحدث بهذا تأثر كبير، إذا مارسه الإنسان.
يحدث هانئ مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: [كان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على قبر يبكي، حتى تبتل لحيته] ودائماً تسمعون في أكثر الأحاديث بكى حتى ابتلت لحيته، لكن لو بكى أحدنا وليس معه لحية، فماذا نقول: حتى ابتلت جلدته، حتى يبتل ذقنه، ماذا نقول؟ ليس هناك شيء يبتل.
إذاً اللحية معلم من معالم الرجولة، وسنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، لا بد من إبقائها في الوجه عملاً وتطبيقاً لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قيل له: (يا أمير المؤمنين! نراك تذكر الجنة والنار فلا تبكي، ثم تذكر القبر فتبكي، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر، وإن لم ينج منه فما بعده أشد) قال: (وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه) رواه الترمذي، وابن ماجة، والإمام ابن الأثير في جامع الأصول، وقال الشيخ الألباني في تعليقه عليه: سنده حسن، وأخرجه وحسنه في صحيح الجامع للسيوطي.
حقيقةً القبر -أيها الإخوة- من أفظع ما يمكن على الناس؛ لأنك لو نمت في غرفة، هذه الغرفة مساحتها (2م×2م) أو (2م×1م)، وبعدها تعرف أنه لا يوجد معك أحد باستمرار، وليس عندك طعام ولا شراب، وسقفها قريب منك، إذا كنت في غرفة، أو سجن، أو زنزانة، أو غرفة كبيرة لا بد أن يكون سقفها بينك وبينه (2م) أو (3م)، لكن إذا كانت الغرفة التي تنام فيها (1.
5م×1.
5م)، وارتفاع السقف شبر واحد، والحجارة فوق ظهرك، هذا شيء فضيع (ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه)، وليته رقود ولا شيء بعده، ولكن هناك أشياء:
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شيء(30/15)
القبر أول منازل الآخرة
فالقبر أول منزل من منازل وأول درجة من درجات الآخرة، وهو إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار.
فلذا كان عثمان رضي الله عنه إذا ذكر القبر بكى وارتعد، وإذا ذكر الجنة والنار لم يبك؛ لأنه يرجو ويخاف، يرجو في رحمة الله أن يكون القبر روضة من رياض الجنة، ويخاف من عذاب الله أن يكون القبر حفرة من حفر النار، فيخاف من القبر؛ لأنه يعلم أن ما بعده أيسر أو أشد منه، ولما كان ما بعد القبر أيسر منه لمن نجا، فإن العبد إذا رأى في قبره ما أعد الله له من نعيم قال: كما في حديث البراء بن عازب: (رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، فيقال له لم؟ قال: لعلي أرجع إلى أهلي ومالي) أين أهله وماله؟ ليس ذلك في الدنيا، وإنما يرجع إلى أهله وماله في الجنة؛ لأنه يرى قصوره ويرى الحور وما أعد الله له من النعيم، فهو في القبر في روضة من رياض الجنة، لكنه يريد ما هو أعظم، يريد الجنة.
وأما الكافر -والعياذ بالله- والمنافق والفاجر، فإنه وهو في حفرة من حفر النار يرى الحيات والعقارب، والسلاسل والأغلال والأنكال وأودية العذاب، والنار يحطم بعضها بعضاً، عند ذلك يقول: رب لا تقم الساعة، رغم أنه في عذاب لكن ما بعده أفظع، فهو لا يتمنى أن تقوم الساعة عليه؛ لعلمه بأن ما بعده أعظم مما هو فيه، والعياذ بالله! أما ظلمة القبر، فالقبر له ظلمة وله نور أيضاً، فهو ظلمة على أهل المعاصي، ونور على أهل الطاعات، نور الله قلوبنا وقلوبكم وقبورنا وقبوركم، وقبور آبائنا وأمهاتنا وجميع إخواننا المسلمين، وفي الحديث الذي رواه الإمام البخاري، ومسلم، وأصحاب السنن: والبيهقي، وأحمد في المسند - قال: (ماتت امرأة كانت تقمّ المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) تقم المسجد: أي تزيل القذر، والقذر غير النجاسة، إذ لا يتوقع أن يكون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم نجاسة، لكن القذر: ما يتقذر منه، كالشعرة، والعود، والورقة، والكناس، أي شيء من هذا الذي تجده في المسجد، من أعظم القربات أن تحمل هذه الشيء.
ولقد قال لي أحد المشايخ يقول: رأيت شاباً في مقتبل العمر وهو جالس في المسجد يذكر الله ويقرأ، فرفع رأسه فرأى أمامه أعواداً، يقول: فجمع الأعواد من أمامه وفتح جيبه وجعلها في جيبه.
يقول: سبحان الله! كيف ترق نفس المؤمن وتصبح شفافة إلى أبعد درجة، لدرجة أنه يجعل المسجد أعظم حرمة من ثوبه وجيبه، يجمع أذى المسجد ليضعه في جيبه، الإنسان لا يضع في جيبه إلا الشيء الغالي أليس كذلك؟ تضع النقود، والشيكات والأوراق الغالية والنفيسة، لكن تضع القمامة في جيبك؟! لو كنت في بيتك ووجدت أي قمامة لا يمكن أن تضعها في الجيب، تأخذها وترميها أو تتركها؛ لكن في بيت ربك، لا.
جيبك أولى بالقمامة من بيت ربك.
فهذا العمل بسيط في ظاهره كونه يأخذ الحبة ويضعها في جيبه، لكنه عند الله عظيم، لا إله إلا الله! بدليل حديث البخاري ومسلم: أن هذه المرأة التي كانت تقم المسجد أي: تكنسه وتنظفه، ففقدها النبي صلى الله عليه وسلم، فقدها وفقد آثار عملها، رأى بعض الأشياء في المسجد، ففقدها من فقدانه لأثر فعلها، وهو تنظيفها للمسجد فسأل عنها، فأخبروه: أنها ماتت بالليل وأنهم دفنوها، ولم يخبروه صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كرهوا إيقاظه وإزعاجه، لعلمهم بما كان يبذل صلى الله عليه وسلم من جهد جهيد في سبيل خدمة الدعوة الإسلامية، فكانت حياته كلها لله.
فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أفلا آذنتموني؟ أفلا آذنتموني؟ ثم طلب من أصحابه أن يدلوه على قبرها، ثم جاء إلى قبرها، فصلى عليه صلوات الله وسلامه عليه -صلى عليها صلاة الجنازة- ثم قال: إن هذه القبور مليئة بالظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل منورها لهم بصلاتي عليهم) رواه البخاري ومسلم.
فالظلمة موجودة في القبر؛ وسبب الظلمة ما يكتسبه الإنسان من دخان المعاصي في الدنيا، فمن يعيش في بيته على دخان المعاصي يعيش في دخانها هناك، وفي ظلمتها في القبر، وعلى الصراط، وفي دار الظلمات، يوم أن ينادي أهل الإيمان ويقول: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} [الحديد:13] من أراد النور فعليه بالتعبئة من الآن من محطات النور وأماكن الطاعات، فالطاعة نور والمعصية ظلام -أعاذنا الله وإياكم من ذلك- هذه ظلمته!(30/16)
ضمة القبر وضغطته
ضمة القبر ثبتت بالأحاديث الصحيحة، وثبتت مع من كان من أكابر الصحابة، والذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، واهتز له عرش الرحمان، ونزل سبعون ألف ملك يشيعون روحه، وأيضاً مات شهيداً في سبيل الله، والشهداء في المراتب التي تلي مراتب الأنبياء، وبالرغم من هذا ضغطه القبر.
والعلماء يحققون في هذا، يقول الإمام الذهبي: وليست ضغطة القبر التي تعرض لها سعد بن معاذ رضي الله عنه من عذاب القبر في شيء؛ لأنه مشهود له بالجنة، ومن أهل الجنة، فلا يتصور أن يضغطه القبر عذاباً، ولكن قالوا: إن ضغطة القبر وألم الضغطة الذي تعرض لها سعد، وسوف يتعرض لها كل إنسان، هي من نوع الألم الذي يجده الإنسان عند الموت مثل الحشرجة، والألم الذي يجده الإنسان عند المرض والجوع ووخز الإبرة، هذه كلها آلام تأتي للجسد.(30/17)
قصة إسلام سعد وجوانب من سيرته
إذا وضع المؤمن في القبر، وفي الظلمة يحصل له ضمة، لكنها ليست عذاباً، إذ أن سعداً ليس من أهل العذاب، فهو مشهود له بالجنة، ومن السابقين إلى الإسلام، ومن كبار الصحابة، وأسلم مع السابقين، وكان إسلامه فتحاً ونصراً للإسلام والمسلمين؛ لأنه أسلم على يد مصعب بن عمير، وكان مصعب بن عمير أول سفير يرسله الرسول صلى الله عليه وسلم للدعوة إلى الله، فأرسله إلى المدينة، وجلس يعلم بعض رجالها، فلما سمع سعد بن معاذ به أرسل إليه أسيد بن حضير، قال: أسكته، فإن سكت وإلا فأت برأسه -ليس عندهم لعب- فذهب إليه، فقال له: اسكت، قال: اسمع ما نقول: فإن أعجبك وإلا كففنا عنك، قال: لقد أنصفت، فقرأ عليه من القرآن، فلما انتهى، قال: ماذا يقول من يريد أن يدخل في دينكم؟ قال: يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم قال: إني ذاهب إلى زعيم القوم، فاصدق الله فيه فإنه إن يُسلِم تُسلم المدينة كلها، يقول: أي ادعو الله أن يهديه، أدعوه بإخلاص وبيقين وبصدق.
فذهب إلى سعد بن معاذ وقال له اذهب أسكته أنت، فغضب سعد، وكأنه استشف أن مصعباً رفض أنه يسكت، فأخذ حربته وسيفه وقدم على مصعب يريد قتله، فقال له: تسفه الأحلام وتغوي الأبناء، اسكت، قال له: يا هذا اسمع ما نقول، فإن أعجبك ما نقول وإلا كفننا عنك -وكانوا عقلاء، عندهم إنصاف- قال له: لقد أنصفت، فجلس عنده، وسمع منه ما سمع من القرآن الكريم، فقال: ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ قال: يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم رجع، ثم جاء إلى قومه قال: ما أنا فيكم؟ قالوا: أنت سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، قال: فكلامكم وطعامكم وشرابكم عليّ حرام إن لم تأمنوا بمثل ما آمنت به، فما أمسى بيت من بيوت عبد الأشهل إلا وقد دخله الإسلام في تلك الليلة.
هذا إنسان عظيم من كبار الصحابة، كان في الجاهلية صديقاً لـ أمية بن خلف، وكان أمية بن خلف زعيم الكفار وصنديداً من صناديدهم، إذا ذهب إلى الشام يمر على المدينة فيجلس عند سعد؛ لأنه زعيم الأوس، وكان إذا اعتمر سعد بن معاذ أو ذهب إلى مكة لزيارة الحرم والطواف بالبيت على طريقة الجاهليين يجلس عند أمية، فبعد أن أسلم سعد ذهب إلى مكة ليعتمر، ونزل عند أمية صديقه، فلما نزل عنده قال: ما جاء بك؟ قال: جئت معتمراً، قال: اجلس حتى يضحي النهار ويخف الناس -يقول: ما أريد أن تطوف وأنا معك ويعرفون أنك قد آويت الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتأتي هكذا آمناً، اترك الناس يذهبون وبعد ذلك نطوف أي: نطوف خفية- قال: لا.
بل أطوف، وذهب يطوف، وبينما هو يطوف رآه أبو جهل -عليه من الله ما يستحق- فجاء إليه وأمسكه -ولكن سعداً بطل- قال له: أتطوف آمناً وقد آويت من آويت -تطوف ببيتنا وبيت الله وفي مكاننا وأنت آمن- قال: اسكت، والله لئن منعتني لأقطعن عليك التجارة من الشام فلا يمر لكم جمل من عندي -قول وفعل فقال أمية بن خلف لرفيقه سعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنه سيد الوادي.
ولما جاءت غزوة بدر وخرج كفار قريش لمحاربة الله ورسوله، خرجوا بحدهم وحديدهم وقضهم وقضيضهم، وقالوا: بعد أن سمعوا أن القافلة قد نجت، قالوا: والله ما نرجع حتى ننحر الجزور، ونشرب الخمر ونستأصل شأفة محمد، وتعلم العرب عنا، وترقص القيان بين أيدينا على بدر؛ لأنهم علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد خيم على بدر فقام أمية وجاء إلى أبي جهل -لأنهم رفقاء- قال له: أريد منك أن تسمح لي قال: يا أمية! ماذا يقول الناس وأنت من رجال القوم وصناديدهم، ولكن اخرج معنا يوماً أو يومين، ثم ارجع، فخرج معهم، ولكنه لم يرجع؛ فقد قتله صحابة صلى الله عليه وسلم يوم بدر.(30/18)
شجاعة سعد
هذا سعد بن معاذ رجل عظيم، فقبل معركة بدر صف رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش، وكان عليه الصلاة والسلام قد بايع الصحابة من الأنصار أنهم يمنعونه مما يمنعون منه نساءهم وأموالهم وأنفسهم، وما بايعهم على أن يغزو بهم الناس، وقد قالوا هم: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، فخشي في ذلك اليوم ألا يلتزموا بشيء؛ لأنه ليس في رقابهم بيعة على المقاتلة.
فقال: (أيها الناس أشيروا عليّ، فقام المهاجرون وقالوا: نحن معك يا رسول الله! قال: أيها الناس أشيروا عليّ ثلاث مرات، فقام سعد البطل وكان رجلاً طويل القامة أبيض الوجه جميل المحيا، قال: كأنك تعنينا يا رسول الله! قال: نعم.
قال: والله ما نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إن هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا فإنا معكما مقاتلون، ولقد علمت العرب أننا لصدق في الحرب، صبر عند اللقاء، وليرينك الله منا ما تقر به عينك).
أشهد بالله أنه بطل، ثم قال: (والله لئن خضت بنا البحر لخضناه معك، ما تخلف منا رجل) وفعلاً كانوا صدق في الحرب لا يعرفون الرجوع إلى الوراء.
هذا سعد بن معاذ رضي الله عنه لما كان في يوم الخندق، وكانت عليه درعه، والدرع من حديد، الدروع كانت تصنع من الحديد وهي حلق، وأول من صنعها داود، والله قال له: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:11] سابغات: أي دروع كاسية، تسبغ الإنسان وتغطيه {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] أي: ضيق في الحلق؛ لأنه كلما كانت الحلق أضيق كان الدرع أقوى، لكن عندما تكون الحلق متباعدة يمكن أن يدخل من هذه الحلقة أي شيء، وهذه من حكمة الصنعة التي علم الله نبيه داود عليه السلام: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11].
فكان عليه درع، وخرج منه يمينه؛ لأنه كان طويلاً، فوقع فيه سهم فقطع أكحله -الأكحل العرق- فدعا الله تبارك وتعالى، فقال: [اللهم إن كنت قد أبقيت من قتال أعدائك قريش شيئاً فلا تمتني حتى أقاتلهم، ثم قال: ولا تمتني حتى تحكمني في قريظة] ويهود قريظة في غزوة الأحزاب نقضوا العهد، وخالفوا الأوامر، فلما انتهت المعركة وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينهي المعركة، جاء جبريل، قال: إن الملائكة ما وضعوا السلاح، أنتم انتهيتم من الكفار والأحزاب، لكن بقي المنافقون واليهود الذين تخلفوا ونقضوا العهد.
فلبس عليه الصلاة والسلام سلاحه وقال عليه الصلاة والسلام للصحابة: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) فمشى الصحابة كلهم، منهم من صلى في بني قريظة تبعاً للأمر، ومنهم من أدركته الصلاة قبل بني قريظة فصلى في وقته، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم كلهم على فقههم واجتهادهم، وبعد ذلك قبض على الرجال من اليهود من بني قريظة، وبعد ذلك قال: (اختاروا حكماً) قالوا: نحكم سعداً، وكان سعد حليفهم في الجاهلية، فظنوا أن حكم سعد سيكون خفيفاً؛ لأنه حليف، والحلف في العرب معروف أنه رابطة قوية، لكن جاءت رابطة الدين فنقضت كل رابطة، ولم تبق إلا رابطة الدين فقط.
فقال سعد لما جاءوا به وكان يعالج في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في خيمة قد نصبت له في المسجد، وكان يعالجه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أشرف جرحه على الاندمال، فجاءوا به على حمار حتى أدخلوه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بني قريظة، قال: (هذه قريظة تريد أن تحكمك فاحكم فيها بحكمك) -احكم فنحن نازلون على حكمك وهم راضون بحكمك- قالوا له: يا سعد أنت حليفنا ورفيقنا ونحن قبلنا حكمك، قال: قبلتم حكمي، قالوا: نعم.
قال: [لقد آن لـ سعد ألا تأخذه في الله لومة لائم]، اللهم صلِّ وسلم على رسول الله.
انظروا الطراز العظيم، لا تأخذه في الله لومة لائم (إني أحكم بقتل رجالهم، وسبي أموالهم وذراريهم -الله أكبر! - قال صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سموات) ثم حفر الحفر وجاء بالجلادين، وأتوا بهم واحداً واحداً، حتى خرج حيي بن أخطب، خرج وكان زعيمهم وعليه ثوب جميل، وبردة حرير، فخرق الثوب كله قالوا له: لماذا؟ قال: لا أريد أن يلبسوه بعد قتلي لا يريد أن يلبس المسلمون ثوبه بعد قتله، وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك فجر الله أكحل سعد، بعد ما أكمل الحكم ومات شهيداً رضي الله عنه وأرضاه.(30/19)
ضمة القبر لسعد
هذا الصحابي الجليل، ضمه القبر، يقول: لا ينجو من ضمة القبر أحد، صالحاً كان أو طالحاً، فلقد جاء الحديث: أن القبر ضم سعد بن معاذ رضي الله عنه، وهو الذي اهتز لموته واهتز عرش الرحمن، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لما دخل عليه الصلاة والسلام المسجد يريد أن يصلي عليه أخذ حذاءه وجعلها في يده وجعل يتوكأ في الأرض، كأنه يتوقى مع أنه، لا يوجد أحد أمامه، قالوا: ما بك يا رسول الله! قال: إني أرفع رجلي عن أجنحة الملائكة، الآن سبعون ألف ملك نزلوا من السماء يشيعون جنازته، عظيم هذا الرجل، وبالرغم من هذا ضمه القبر، رضي الله عنه وأرضاه.
روى النسائي في سننه بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا الذي تحرك له عرش الرحمن، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضم ضمة ثم فرج عنه).
وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للقبر ضغطة لو كان أحد ناجياً منها لنجا منها سعد).
وعند الطبراني في الكبير والأوسط عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو نجا أحد من القبر لنجا سعد بن معاذ، ولقد ضمه ضمة ثم فرج عنه) هذا الحديث رواه أيضاً السيوطي في جامعه وقال: إسناده صحيح.
ومما يدل على أن ضمة القبر لازمة لكل إنسان، حتى الصبيان الصغار لا ينجون منها، ما رواه الطبراني عن أبي أيوب الأنصاري بإسناد صحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أفلت من ضمة القبر أحد لنجا منها هذا الصبي) صبي دُفن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد قلت لكم: إن هذا الأمر لا يعتبر من عذاب القبر، وإنما هو شيء من الآلام التي تحدث للإنسان بحكم طبيعته، وبحكم تكوينه البشري.
وقد أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم جبة -والحديث في البخاري ومسلم، والجبة هذه من سندس- أعجب بها الناس، يعني: شيء ما تعوده أبداً، فقال: (تعجبون من هذا، والذي نفسي بيده لمناديل سعد في الجنة أعظم منها) يعني: ومناديله وكسوته في الجنة أعظم من هذا الذي تعجبون منه، والحديث صحيح رواه البخاري ومسلم.(30/20)
فتنة القبر
أما كيف تكون فتنة القبر؟ وما هي الكيفية التي تأتي بها هذه الفتنة؟(30/21)
حال المؤمن عند فتنة القبر
ذكرت الأحاديث الصحيحة كيفيتها: وهو أن الميت إذا وضع في قبره جاءته الملائكة على صورة منكرة، في سنن الترمذي قال: (إذا قبر الميت جاءه ملكان أسودان أزرقان) يقول المحققون: كيف يكون أسود وأزرق؟ هذه من الأشياء المتضادة، الأسود لا يكون أزرق، والأزرق لا يكون أسود، قالوا: أسودان في خلقتهما ووجوههما، وأزرقان في عيونهما، زرقة العين في بياض الوجه جمال، لكن زرقة العين مع سواد الوجه فيها تخويف، ولذا (أزرقان أسودان، يقال لأحدهما منكر والآخر نكير، فيقولان للإنسان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيقول إذا كان مؤمناً: هو عبد الله ورسوله) أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، اللهم ثبتنا يا رب بالقول الثابت في الدنيا والآخرة.
وإن كان منافقاً لا يعرف الرسول؛ لأن المنافق يعرف الرسول معرفة سطحية، والذي يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة سطحية لا تبقى، والذي يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة عملية باتباع هديه، والعض على سنته، والتمسك بطريقته، هذا هو الذي يلهمه الله حجته، أما الذي يعرف الرسول وهو ضد سننه، لا يقيم لله أمراً، ولا لرسول الله سنة ولا وزناً، هذا لا يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال: (وإن كان منافقاً أو فاجراً قال: سمعت الناس يقولون قولاً فقلته، لا أدري) هذا رواه الترمذي في كتاب الجنائز وقال: حديث حسن، وقد رمز له الشيخ محمد الألباني في كتابه وتصحيحه للجامع، قال: بأنه حسن.
وأيضاً جاء في الحديث الذي يرويه البراء بن عازب رضي الله عنه؛ والبراء صحابي جليل، من كبار الفقهاء والمحدثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى أكثر من ثلاثمائة وستة أحاديث، وكان قد شهد الغزوات كلها إلا بدراً فإنه اسْتُصْغِر، أي: ما أذن له؛ لأنه كان صغيراً، ففي معركة بدر خرج حتى الصبيان، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم يراهم، رأى أنهم أولاد أعمارهم أربع عشرة أو ثلاث عشرة سنة فردهم، فكان البراء وابن عمر وسمرة بن جندب ممن كانوا عند الرسول يرى رءوسهم، كان الواحد يقف على أطراف أصابعه ويتطاول؛ من أجل أن يأذن له الرسول في الخروج لا ليذهب إلى الملاهي والألعاب، بل يتطاول من أجل أن يذهب لكي تضرب رقبته بالسيف، أو يموت، لأنه يريد الجنة، فاستصغره النبي صلى الله عليه وسلم ورده يوم بدر، رضي الله عنه وأرضاه.
هذا البراء بن عازب له حديث عظيم، حديث رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه، وهو صحيح قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار)، والحديث طويل جداً نأخذ منه الشاهد وهو: (فيأتيه ملكان شديدا الانتهار) والانتهار: هو شدة القول، وهو دائماً شأن كل محقق، فأي شخص يحقق في قضية مع أي متهم لا يقدم له السؤال بالصيغة الطيبة، فيقول له: يا (أفندي)! يا (طويل العمر)! يا (سعادة الأستاذ)! نريد أن تقدم رأيك في هذا الموضوع، هل يقول له ذلك؟ لا.
بل ينتهره، لماذا؟ لأنه متهم بقضية حتى تثبت براءته أو إدانته، ولذلك المحققون في القبر ينتهرون المحَقَّق معه: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ انتهار شديد، وليس انتهار ضابط، ولا عسكري، ولا مفتش مثلك، بل انتهار مَلَكٍ شديد قوي أسود أزرق، صوته قوي، وأنت عارٍ، ضعيف، فقير، ليس معك مال، ولا سلطان، ما معك أحد في تلك الحفرة، وفي قبر ضيق، وظلمة، وهذا أمامك.
لا إله إلا الله ما أعظم القبر أيها الإخوة!! قال: (فيجلسانه ويقولان له: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟) وهي آخر فتنة، تعرض على المؤمن، وآخر شيء يوجه للمؤمن هذه الفتنة، فتنة المؤمن عند حشرجة الموت وعند ضغطة القبر؛ لأن الملائكة لا يعلمون الغيب حتى يعاملونه معاملة حسنة، فهم يسألونك كأي شخص من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فإذا قلت: ربي الله، ديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، كشفت عن هويتك، بينت أسلوبك، أخرجت شهادتك، بعد ذلك لا فتنة عليك إلى يوم القيامة، فقط يقولون لك: (على هذا عشت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله، وينادي منادٍ من السماء: صدق عبدي، فافرشوا له من الجنة، وافتحوا له إلى الجنة).
فذلك حين يقول الله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] قال: (فإن كان مؤمناً قال: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي).(30/22)
حال الكافر عند فتنة القبر
قال: (وأما العبد الفاجر، الكافر، والمنافق) العاصي الهارب عن الله، الذي لا يعرف الله ولا رسول الله، ولا الإسلام، إنما يعرف الهوى، والغناء، والزنا، واللعب، واللهو، والأفلام، والمسرحيات، ومتابعة الفتيات، والمكالمات، والمعاكسات، يعيش عبداً لشيطانه وشهواته، هذا ماذا يقول؟ يقول: (هاه)، (يقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري).
لقد كان نائماً، واستيقظ الآن، ما استيقظ إلا في القبر، (فتقول له الملائكة: لا دريت ولا تليت)، أي: تدعو عليه: جعلك الله لا تدري! قال: (فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي) فإنه يدري، بلغته الحجة، لكنه كذاب مماطل دجال، عبد للشيطان (كذب عبدي، فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً من النار، فيأتيه من حرها وسمومها حتى تقوم الساعة) نعوذ بالله وإياكم من ذلك! وعن أنس رضي الله عنه، والحديث أيضاً في صحيح البخاري وصحيح مسلم ورواه أبو داود في السنن والنسائي يقول عليه الصلاة والسلام: (إن العبد إذا وضع في قبره تولى عنه أصحابه -أي: آخر من يدفنه- وإنه ليسمع قرع نعالهم) أي: أرجلهم وهم راجعون يسمعها الميت، وسوف أسمعها وتسمعها أنت ويسمعها كل واحد منكم في القبر، هذا الحديث صحيح.
وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم (إن الميت إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه سمع قرع نعالهم إذا انصرفوا، وأتاه ملكان فيقعدانه ويقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل -محمد- فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، وأما الكافر والمنافق -وفي رواية: وأما المنافق والكافر- فيقول: لا أدري لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس فيه، فيقال: لا دريت ولا تليت) يروي هذا الحديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
وأنس هذا صحابي جليل رضي الله عنه، وهو خادم الرسول، وقريب الرسول لأمه، وتلميذ النبي صلى الله عليه وسلم، تتلمذ على يديه عشر سنوات، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنه، أمه أم سليم بنت ملحان رضي الله عنها وأرضاها، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! إني أعطيك هذا خادماً لك، ولكن ادع له، فدعا له وقال: اللهم أطل عمره، وأكثر ماله وولده) فأطال الله عمره حتى بلغ عمره مائة وثلاث سنوات، وأكثر الله أولاده حتى خرج من صلبه مائة وستة ولد، جيش من صلبه بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وكثر الله ماله، حتى كانت بساتين الكرم -العنب- والنخيل تثمر في السنة مرتين، وجميع ثمار الأرض كلها تثمر مرة واحدة في السنة، إلا نخيل وعنب أنس، وفي يوم من الأيام رضي الله عنه جاءه عامله في بستانه فقال له: إن بستانك قد أقحل وليس فيه ماء، فنظر إلى السماء وكان في يوم صيف قائظ، والشمس في وسط النهار، فدعا الله عز وجل أن يمطره، يقول: فثار السحاب في وسط السماء، ثم جاءت على مزرعته، فأمطرتها حتى ملأتها، يقول: ثم لما جاء وأخبروه، قال: انظروا هل تجاوزتها، قالوا: والله ما تجاوزت حدودها، وسقيت المزرعة كاملة ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل العظيم، ويقول: [منذ موت النبي صلى الله عليه وسلم ما نمت ليلة إلا رأيته فيها] عظيم هذا الرجل، نحن ما نرى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا نعتبره حرماناً، لماذا؟ لأن الشيطان لا يتمثل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن رآه في المنام فقد رآه حقاً، لقد كان يحب الرسول ويعيش مع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: [ما نمت ليلة إلا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بالمنام] رضي الله عنه وأرضاه، هو راوي هذا الحديث، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم في أول أمره أن القبور فيها فتنة، وأن الأمة تفتن في قبورها، ثم أوحى الله له بهذا العلم.(30/23)
فتنة الأمة في قبورها
حدث عروة بن الزبير، وعروة هذا أيضاً من خيار التابعين، ليس صحابياً؛ لأنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن من كرامته أن تعلم عليه بعض الصحابة، وكان أحد فقهاء المدينة السبعة، وكان عالماً عظيماً من علماء المسلمين، وأيضاً كان يتتلمذ على خالته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، فإن أباه الزبير بن العوام حواري الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها ذات النطاقين، فهو كريم المحفد من الأم والأب، جده أبو بكر لأمه، وأبوه الزبير بن العوام رضي الله عنه، فهذا رجل عظيم في ثقافته وفي فكره، وقد روى كثيراً من الأحاديث، وكان من أشهر عباد الله عز وجل، كان يقول: [ما تركت ربع القرآن ليلة -كل ليلة يقرأ سبعة أجزاء ونصف- إلا ليلة قطعت رجلي فلم أستطع] كيف قطعت رجله؟ قطعت رجله بعد أن دبت فيها الآكلة، وهو داء يأكل العظام، فنصح بقطعها من أسفلها فأبى، قال: ما أريد أن تقبر رجلي لوحدها، فلما وصلت إلى ركبته قالوا له: إن لم تقطعها فسوف تتجاوز إلى أكثر من ذلك، فأشار إليه الخليفة أن يقطعها، فوافق على قطعها، وكيف قطعها؟ قالوا له: نريد أن نسقيك مسكراً -وهو المخدر- قال: لا.
إني أحتسب على الله ألمها كما أحتسب فقدها، يقول: أحتسب فقدها، ولكن تفقد مني بألم أحتسبه عند الله، فجيء إليه بالسكين وقطع اللحم، ثم جيء إليه بالمنشار فنشر العظم، ثم انتهوا منها وجاءوا بالسمن المحمي ووضعت رجله فيه حتى لا ينزف دمه فيموت، ثم قال: وقد رفع رأسه إلى السماء: [اللهم إنك ابتليت فعافيت، وأخذت وأبقيت، جعلت لي أربعة أطراف وأخذت منها واحداً وبقي ثلاثة] رضي الله عنهم وأرضاهم.
هذا التابعي الجليل العظيم لما نظر إلى رجله في الطست بعدما وضعوها رفع نظره إلى السماء وقال: [اللهم إنك تعلم أنها ما حملتني إلى معصية قط] يقول: والله ما حملتني إلا إلى طاعة الله عز وجل، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، إنه رجل عظيم ولكن ابتلاه الله سبحانه وتعالى بها ولكنه يحتسبها عند الله، وستكون سابقة له عند الله عز وجل، أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا عروة بن الزبير يحدث حديثاً، والحديث صحيح عن خالته عائشة رضي الله عنها، قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة من اليهود، وهي تقول: هل شعرتم أنكم تفتنون في قبوركم؟ فارتاع الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تقول ذلك، وقال: إنما تفتن يهود -يقول: الفتنة ما هي للمسلمين، تفتن يهود فقط- قالت: عائشة فلبثنا ليالي بعدها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور، قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يستعيذ بالله كثيراً من عذاب القبر) هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، لقد كان لا يعلم قبل ذلك أنه تفتن الأمة في قبورها، ولكن أوحي إليه بعد ذلك أنه تفتن الأمة في قبورها، فكان يستعيذ بالله من عذاب القبر أعاذنا الله وإياكم من عذاب القبر! والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(30/24)
الأسئلة(30/25)
حكم الشيشة
السؤال
تكلمت في بعض المحاضرات عن التدخين ولكنك لم تتطرق إلى الشيشة وهي أخبث من السيجارة، وبعض المشيشين يقولون: إن الشيشة ليست في حكم السيجارة؛ لأنها أخف منها، فما الحكم فيها؟
الجواب
بل الشيشة أفظع -والعياذ بالله- وأنجس، ولكن الشيشة هذه هل تدرون من أين تصنع؟ هذه الشيشة طبعاً كما يقول الشيخ حافظ الحكمي وهو يصفها، يقول:
كذاك معشوقة الشيطان قد نصبت بها فخاخ لأرباب الجهالات
وبعد ذلك يقول إنهم يتغنون فيها يقولون: إنها جميلة:
من أي وجه أتاها الحسن لقد أخطأ الطريق إليها في المرادات
من حسن لمتها في طول قامتها من ذلك الحبل مطوياً بليات
يقول: مثل البغي الزانية التي تقبل من ألف فم، أعوذ بالله من هذه المهزلة، هذا (الجراك) الذي يوضع فيها أصله فضلات الفواكه، الموز والتفاح والبرتقال الذي يرمى عندنا في الزبالة يجمع هناك في بعض البلاد، وبعد ذلك يوضع في مصاهر، ويضاف إليه عروق التبغ وبعض أشجار الدخان تضاف إليه، ثم يصهر إلى درجة حرارية قوية جداً حتى يسود، ثم يجمع في أواني وعلب، ويكتب عليها (باز بيد)، و (بال بيد)، ويأتي إلى بلدنا يشترونها بأربعين ريالاً وبثلاثين ريالاً، علبة الطحينية بخمسة ريالات وعلبة هذا الأسود الخبيث بثلاثين، هذه مصيبة ولا حول ولا قوة إلا بالله! فهذه الشيشة خبيثة، والمسلم منزه عن الخبث والخبائث، والله يقول: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157].(30/26)
حكم كشف المرأة لوجهها
السؤال
هناك كثير من الناس الفضلاء والذين نعدهم من الصالحين ونحسبهم والله حسيبهم، يسمحون لزوجاتهم بكشف الوجه إذا ركبوا في السيارة، وتبقى امرأته معه حاسرة الوجه، بل ربما حاسرة الرأس، مما يولد في القلب شيئاً من الاستحقار لهذا الشخص، كيف يرضى بذلك وهو يعرف أن الأدلة على تحريم ذلك كالشمس في رابعة النهار؟
الجواب
نعم.
بعض الإخوة يتساهل في هذا الأمر، ويكشف وجه زوجته في سيارته، ومعروف أن وجه الزوجة هو مجمع الفتنة، وهو عنصر وجماع كل شيء؛ لأنه من المعروف أن المرأة تغطي وجهها منذ زمن بعيد، فالحجاب حجاب الوجه؛ لأن الوجه مجمع الزينة: فيه العين، والأنف والشفتان، والأسنان، والخدان، وكل شيء في الوجه، ولذا إذا أردت أن تتزوج بامرأة، ماذا ترى فيها؟ تنظر إلى وجهها، فإذا أعجبك وجهها زال كل شيء، فالإنسان زينته في وجهه، فالله أمر بتغطية الوجه؛ لأنه قال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} فلا يضرب الخمار على الجيب إلا مروراً بالوجه، والله عز وجل يقول: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] نهى الله المرأة أن تضرب برجلها حتى لا تفتن، فكيف يسمح لها بأن تكشف وجهها، والأدلة الصريحة الصحيحة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ترد قول من يقول بكشف الوجه، ولا دليل معهم إلا دليل ضعيف لا يحتج به وإما منسوخ، ومن أراد المزيد في المسألة والتحقيق فليقرأ كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، عند الكلام على قول الله عز وجل: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] تكلم هناك على كلمة (ما ظهر منها) وما المقصود بها، وبين أن الزينة التي عفي عنها هي الزينة المكتسبة؛ لأن الله قال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] والضمير عائد على أقرب مذكور كما هو معروف في اللغة، وأقرب مذكور هنا الزينة، والزينة قسمان: زينة مكتسبة، وزينة خلقية، زينة يضيفها الإنسان، وزينة خلقها الله فيه، نرجع إلى كلمة الزينة في القرآن كله، نجد أن القرآن استعمل كلمة الزينة في الزينة المكتسبة، قال الله في قارون: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص:79] أي في هيلمانه ورجاله، وما أضيف حوله، والزينة في القرآن كلها مقصود بها الزينة الخلقية، فالله عفا عن المرأة {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31] لا تبدي زينتها {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] أي: إذا لبست عباءتها، وخرجت منتقلة من بيتها إلى بيت جارتها، أو عملها، أو مدرستها، أو أي شيء، ورغم هذا ففيه فتنة.
أما ترون المرأة إذا مرت وهي متغطية من رأسها إلى قدمها، لكن الشيطان يفتن بها، ولكن هذا أمر خارج عن إرادتها، فماذا تفعل؟ هل تدفن نفسها في الرمل، أم تتخذ نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء، قال الله: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] هذا هو المعفو عنه.(30/27)
حكم (الشرعة) للعروس
السؤال
يوجد عندنا جيران عندهم زواج بعد أيام، ويسألون عن حكم الشرعة؟
الجواب
( الشرعة) شرعها الشيطان، واستجاب لها أتباعه، وهي لباس فضفاض كبير أبيض، وفوقه مثل سنم البعير، وتأتي واحدة تقعد تزينها من الصباح، يسمونها (المصففة) أو (الممكيجة)، تقعد (تصفصفها) من الصباح ولا تصلي ظهراً ولا عصراً ولا مغرباً ولا عشاء، فتخرج كأن حملاً فوق رأسها، وتأتي تركب بالسيارة، ويرخون المقعدة حتى لا تدق رأسها بالسقف، ثم يضيئون السيارة من هنا ومن هنا، وإشارات وأضواء، ويجمع العريس أصحابه، ويطوف بالناس يُريهم امرأته! فهذا تافه سافل لا قيمة له، إنما الزواج ستر وليس فضيحة.
إذا تزوجت يا أخي اجعل زوجتك تلبس ثيابها الشرعية، وتخرج من بيت أهلها إلى بيتك معززة مكرمة بظلمة الليل ولا يرافقها أحد إلى بيتك وأدخلها في سترك، أما أن تفعل بها مظاهرة، وتعلن الاستنفار للناس من أجل أن يخرجوا وينظروا إلى امرأتك، هذا عيب والله! وأنا والله إذا رأيت من هذا المنظر أتقزز، ولا أعتبر من يفعله من الرجال، فلو كان فيه ذرة من الرجولة ما عمل مثل هذا العمل المنكر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(30/28)
كيفية معرفة التقوى
السؤال
يقول الله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] فكيف يعرف الإنسان أنه من المتقين حتى يسير في طريقهم؟
الجواب
تعرف أنك من المتقين بثلاثة أمور: الأمر الأول: فعل أوامر الله.
والأمر الثاني: ترك ما نهى الله.
والأمر الثالث: تصديق أخبار الله.
فتصير بهذا من المتقين.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(30/29)
عقيدة أهل السنة والجماعة
تحدث الشيخ في هذا الدرس عن أسئلة مهمة، وقد أفرد هذا الدرس للإجابة عن بعضها، فكان السؤال الأول عن عقيدة أهل السنة والجماعة فأجاب مبيناً مجمل عقيدتهم، وأن منها: وحدة الأمة، ووجوب الاعتصام بالوحيين على فهم السلف، وذكر أركان الإيمان، وعقيدتهم تجاه الصحابة، وولاة الأمر ثم أجاب عن أسئلة حول: الضوابط والآداب لخروج المرأة المسلمة من بيتها، والتعاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعقوبة تارك الصلاة وغيرها.(31/1)
مجمل عقيدة أهل السنة والجماعة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الأحبة في الله: أولاً: أعتذر للإخوة الطلبة الذين يستعدون لأداء امتحانات الفصل الدراسي الأول من هذا العام، لوقوع المحاضرة في هذا الوقت المحرج، الذي هم فيه أحوج إلى الساعة أو الدقيقة لصرفها في الاستعداد للامتحان، ولكني أرجو الله الذي لا إله إلا هو أن يجعل في هذه الساعة التي يقضونها في طلب العلم عوناً لهم، وفتحاً في قلوبهم، وتهيئة لفهمهم على تلك العلوم التي ينتظرونها إن شاء الله؛ لأن التقوى من أعظم وسائل التوفيق في هذه الحياة، يقول الله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال:29].
فأسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يفتح على إخواننا الطلاب مغاليق العلوم، وأن يوفقهم ويعينهم على أداء امتحاناتهم، وأن يكلل مساعيهم بالنجاح، إنه على كل شيء قدير.
الأمر الثاني: في نهاية كل درس من الدروس الماضية كانت ترد مجموعة من الأسئلة، ولا نتمكن من الإجابة عليها لضيق الوقت، ووعدت الإخوة بأن نجيب عليها في إحدى الحلقات، وكان من المناسب أن تكون الإجابات في هذه الليلة إن شاء الله، خصوصاً الأسئلة ذات الصيغة العامة التي تنفع العموم، وليست مختصة بقضية شخصية، ومن أهمها وهي التي دفعتني إلى تخصيص حلقة للإجابة على هذه الأسئلة، سؤال مهم جاءني من بعض طلبة العلم الذين يجلسون في مجالس العلم ويتابعون المحاضرات والدروس، وأقرأ عليكم
السؤال
السؤال يقول: نحن طلبة علم نحرص على حضور المحاضرات وسماع الخطب ومتابعة الدروس، ونسمع عن الفرقة الناجية وعن أهل السنة والجماعة، وعن معتقد أهل السنة والجماعة، وعن أصول أهل السنة والجماعة، ولكنا نسمع هذا ولا نعرف شيئاً عنه، وإذا رجعنا إلى الكتب لم نجد فرصاً أو كتباً تعالج هذا الموضوع بشيء من الاختصار دون الإطالة، ونسمع عن الجماعات الإسلامية التي تعمل في الساحة، وأن كل جماعة تدّعي أنها هي الفرقة الناجية، وأنهم هم أهل السنة والجماعة، فهل من بيانٍ يكشف هذا اللبس، وهل من توضيحٍ لهذا الموضوع؟
الجواب
هذا السؤال -أيها الإخوة- مهم؛ لأن عدم الإدراك والإلمام به؛ قد يؤدي إلى وقوع الشاب وهو متدين وملتزم في الفرق الضالة وهو لا يدري، بينما هو يحب أن يسير في رضا الله، وأن يحقق طاعة الله، لكن إذا لم يعرف هذه الأصول والمعتقدات، معتقد أهل السنة والجماعة، معتقد الفرقة الناجية، ربما يقع بجهله وبعدم علمه وباندفاعه إلى الوقوع في الفرق الضالة وهو لا يدري، فقد يكون خارجياً أو قدرياً أو مرجئاً أو رافضياً وهو لا يدري.
إذاً من هم أهل السنة والجماعة؟ ومن هم أهل الفرقة الناجية؟ وما أصولهم؟ وما معتقدهم؟ هناك شيءٌ مهم جداً ينبغي أن يعرفه الشاب حتى يسير على نور وهدىً وبصيرة، ولقد رجعت في بحث هذا الموضوع إلى كلام العلماء، واستطعت أن أخرج بزبدة الموضوع بشكل مختصر من غير إطالة، بما يكفي ويستوعبه طالب العلم؛ لأن طالب العلم المبتدئ لا يريد أن يُكثر عليه في المسائل، وإنما يكفيه من المسائل رءوس الأقلام التي تحفظ له عقيدته وتنور بصيرته ويستقيم بها على مذهب أهل الحق، مذهب أهل السنة والجماعة، مذهب الفرقة الناجية والطائفة المنصورة.(31/2)
الالتزام بالوحدة العامة وفق الوحيين
أولاً: أمة الإسلام أمة واحدة، وربها واحد، ودينها واحد، ونبيها واحد، وكتابها واحد، يقول الله عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92] والمسمّي لهذه الأمّة بأمة الإسلام هو الله عز وجل: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] فلا مسمَّى لهذه الأمّة غير هذا الاسم، ولا داعي للعاملين في ساحات الإسلام من أن يرفعوا لوحات أو شعارات بغير مسمّى الإسلام؛ لأن الانتماء إلى أي مسمّى والالتفاف حول أي شعار يلزم منه الولاء له وترك الولاء لغيره، وبالتالي تتشتت الأمّة وتتفرق، وإذا تفرقت فشلت؛ لأن الله قد أمرنا بالاعتصام وبأن نكون مجتمعين، يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَق تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:102 - 103] ويقول أيضاً: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159].
فلا سبيل -أيها الإخوة- إلى نصرة الإسلام عن طريق التشتت والتشرذم والتفرق، لا بد من الاجتماع على الحق، وما دامت هذه الجماعات تدّعي أنها كلها على مذهب أهل السنّة والجماعة فلمَ الفرقة ولمَ الخلاف؟ ولمَ التنازع؟ ولمَ الشتائم والسباب؟ ولمَ التفسيق والتبديع؟ ولمَ التجهيل؟ إن هذا كله من كيد الشيطان، ما دامت أمتنا واحدة، وربنا واحد، وكتابنا واحد، ومنهجنا واحد، وطريقنا واحد، فيجب أن نسير في هذا الخط، أما إن اختلفت الأساليب فقط، يعني: أنا أدعو إلى الله على منهج أهل السنّة والجماعة بأسلوب أرى أنه هو الذي ينفع الناس، ويأتي رجل آخر فيدعو إلى الله على مذهب أهل السنّة والجماعة لكن يرى أن أسلوبه هو أفضل من أسلوبي، ليعمل هو بأسلوبه وأعمل أنا بأسلوبي وذاك يعمل بأسلوبه، وفي النهاية نلتقي كلنا عند نقطة واحدة وهي: نصرة هذا الدين، فلا بأس في ذلك، أما أن أختلف معه في الرأي وفي الأسلوب، فيأخذ من الاختلاف في الأسلوب ذريعة إلى الاختلاف في المنهج والطريق، فهذا شر لا ينبغي أن يقع.
أهل السنّة والجماعة هم الفرقة الناجية التي قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمّة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) هذا هو المنهج، فإذن جميع الفرق التي تنتمي إلى الإسلام، وتقول: إنها تعمل للإسلام، إن لم تكن على مثلما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فإنها في النار.
حسناً! كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف كان أصحابه؟ هاهو المنهج أمامنا: كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد شرع الله عز وجل للأمة وأمرها بالاعتصام، وشرَّع لها من العبادات ما يدعوها إلى الاعتصام، وما يؤهلها إلى الاجتماع، فما الصلوات الخمس، والجمعة، والحج، والعيدين؛ إلا طريقٌ من الطرق التي يهيئها الله عز وجل للاجتماع حتى لا تتفرق هذه الأمّة.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بخبر الافتراق وتحقق، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، قال: (وستفترق هذه الأمّة) وتحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فافترقت الأمّة في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، بينما في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ما كانت هناك فرق أبداً، وفي عهد أبي بكر الصديق وعمر وعثمان ما كانت هناك فرق، وإنما كان كلهم معتصمين بالكتاب والسنّة، أما في عهد علي فقد بدأت الفتن تخرج أعناقها، وبدأت الصراعات تحصد، وخرجت فرقة اسمها الرافضة، وجاءت أخرى كردة فعل للرافضة اسمها الخوارج، فـ الرافضة تُؤَلِّهُ علياً، والخوارج تكفر علياً، فكانت ردة فعل! ثم جاءت الفرق من بعدهم، فجاءت القدرية، والمعتزلة، والأشعرية، كل هذه الفرق ضلت عن منهج الحق وعن منهج الكتاب والسنّة، وتحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وازداد هذا التفرق، فكلما بعدت الأمّة عن القرون المفضلة -قرن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والقرن الثاني، والثالث- كلما ازدادت الأمة تفرقاً، وتوسعت زاوية الانفراج والبعد عن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن هدي أصحابه رضوان الله عليهم؛ وكثرت النحل وتعددت الملل، وكثرت المذاهب الباطلة.
ولكن بقيت الفرقة الناجية والطائفة المنصورة المتمسكة بالإسلام الصحيح تدعو إلى الله، ولا تزال ولن تزال بحمد الله مستمرة صادقة حتى يأتي وعد الله عز وجل.
هذه الفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة، وهم الذين على الكتاب والسنّة، على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتتميز هذه الفرقة بميزة غير موجودة في جميع الفرق، وهو الذي جعلنا نجزم بأنها هي الفرقة الناجية، هذه الميزة هي: الاعتصام بالكتاب والسنّة وبالاجتماع وعدم التفرق، هذه ميزتهم: أنهم يقفون عند النص، فإذا سمعوا: قال الله! صدروا عنه، فإذا لم يجدوا في كتاب الله رجعوا إلى السنّة: قال رسول الله، فأخذوا بها، فإذا لم يجدوا من السنّة نظروا فيما قال السلف، ثم ما أجمعت عليه الأمّة وأخذوا به.
هؤلاء الذين يأخذون أحكام الله من هذه المصادر ويقفون عندها، هم أهل السنة والجماعة، بخلاف الفرق والملل والنحل الأخرى الذين يقدمون الآراء على كتاب الله، فإن وافق القرآن معتقدهم أخذوا به، وإن عارضه أَوَّلُوْه، وإن وافقت السنّة معتقدهم أخذوا بها، وإن خالفته أبطلوها، وقالوا: هذه أحاديث غير صحيحة، وهي صحيحة لكنها تخالف ما يعتقدون.
إذن الذي يرجعون إليه ليس الكتاب ولا السنّة، وإنما ملتهم نحلتهم فرقتهم مذهبهم إذاً ليسوا هم الفرقة الناجية، فالفرقة الناجية هي من تقف عند كلام الله وعند سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند التطبيق المثالي الصحيح للكتاب والسنّة، وهم: الصحابة والتابعون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(31/3)
اعتقاد أهل السنة في أركان الإيمان الستة
وهذه الفرقة فرقة أهل السنة والجماعة لها ثوابت ومعتقدات وأصول يسيرون عليها، ويدعون إليها في العقيدة والعبادة والسلوك، وكلها مدعَّمة ومُدللٌ عليها من كتاب الله، ومن سنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته رضوان الله عليهم، وهذه الأصول يمكن جمعها فيما يلي، وسوف أذكرها لكم باختصار إن شاء الله:(31/4)
الإيمان بالله وترسيخ توحيد الربوبية
أولاً: الإيمان بالله.
هذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة، ويقتضي الإقرار بأنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
توحيد الربوبية: هو توحيد الله بفعله، وفعله مثل: الخلق والرزق، والإحياء والإماتة، والضر والنفع، والخفض والرفع، والبسط والمنع، كل هذه من أفعال الله، فهو الذي يحيي ويميت، ويخلق ويرزق، ويرفع ويخفض، ويعز ويذل، هذه كلها من أفعال الله، ينبغي لك أيها الموحد! أن توحد الله بها فلا تشرك معه أحداً، فلا تعتقد أن أحداً يرزق غير الله أو مع الله، أو أن أحداً يخلق غير الله أو مع الله، أو أن أحداً يضر أو ينفع غير الله، أو أن أحداً يحيي أو يميت غير الله، بل له الأمر وله الخلق، وهذا كله اسمه: توحيد الربوبية، وهذا التوحيد لا يكفي وحده، فقد أقر به الكفار، ومع هذا قوتلوا ولم يدخلوا في الإسلام، يقول الله عز وجل عنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] يقول الله عن الكفار المشركين: لو سألتهم: من خلق السماوات والأرض؟ لقالوا: الله، ولكن هل نفعهم هذا؟ لا.
لا ينفع وحده.
حتى يُعتبر الإنسان موحداً، لا بد أن يقر بالأنواع الثلاثة.(31/5)
الإيمان بالله وترسيخ توحيد الألوهية
الثاني: توحيد الألوهية وهو: توحيد الله بفعلك أنت، فكما وحَدَّته بفعله توحده بفعلك، ما هو فعلك؟ العبادة، فلا تجعل مع الله في عبادتك شريكاً، فتصرف جميع أنواع العبادة منك إلى الله، وإذا صرفت منها شيئاً لغير الله فهذا هو الشرك، مثل الدعاء، والدعاء نوع من العبادة، بل هو العبادة، يقول الله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60] أي: عن دعائي، فسمّى الله الدعاء عبادة، وقال عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] فالدعاء يجب أن يصرف منك -أيها العبد- لله: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] فلا يُصرف لنبي، ولا لولي، ولا لإنس، ولا لجن، ولا لأحد؛ لأن الدعاء إذا صرفته لغير الله أشركت، حتى النبي صلى الله عليه وسلم لا تدعُه، بعض الناس يقول: مدداً يا نبي! وهذا هو الشرك الأكبر، لا تقل ذلك.
بل قل: مدد يا ألله؛ لأنك تدعو النبي والنبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن ينفعك أو يعطيك أو يمنعك، بل لا يعلم شيئاً بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه، إلا أن الملائكة تبلغه السلام فقط.
أما ما تحدثه الأمّة من بعده فهو لا يعلم عنه شيئاً، ولهذا جاء في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم يشفع في أقوام من أمّته يذادون عن الحوض، فتقول الملائكة: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة:117] سحقاً سحقاً وبعداً بعداً لمن غير وبدل) فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن ينفعك الآن إذا قلت: مدداً يا نبي! وكذلك لا يجوز دعاء الأولياء أصحاب الأضرحة والقبور، كما يُصنع في بعض البلدان، يأتي الرجل أو المرأة إلى صاحب القبر يدعوه من دون الله، يدعونه دعاءً لا يُصرف إلا لله، يقول الرجل منهم: (يا سيد العارفين! العارف لا يُعرّف، والشكوى على أهل البصيرة عيب، أنت تعرف ما في قلبي، وتعرف غرضي؛ أعطني غرضي).
من الذي يعرف ما في قلبك إلا الله، هذا هو الشرك الأكبر، فلا تصرف الدعاء إلا لله، والذبح إلا لله قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162] والنسك يعني: الذبح {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163] فلا تذبح لغير الله: لا لقبر، ولا لولي، ولا لجن، ولا لأي غرض، فإنك إن ذبحت لغير الله أشركت، ولا يدخل في هذا ذبيحتك في بيتك لضيوفك، حتى لا يأتي بعض الناس فيقول: أنا لن أذبح للضيف؛ لأن الذبح لغير الله شرك، لا.
اذبح للضيف فإنه لله، لماذا؟ لأنك تقول: باسم الله والله أكبر.
أما الذبح لغير الله؛ فهو أن تذبح عند القبر ولا تسمي الله، أو تسمي باسم القبر أو باسم الولي، أما إذا ذبحت لله وذكرت اسم الله وكان الغرض من هذه الذبيحة إكرام ضيفك، أو الذبح لأهلك حتى تأكل في بيتك، فهذه لله إن شاء الله.
كذلك النذر، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرغبة، والرهبة، والاستعانة، والاستغاثة، والاستعاذة، كل هذه من أنواع العبادة فلا تصرف منها شيئاً إلا لله، وإذا صرفت -أيها العبد- منها شيئاً لغير الله؛ فهذا هو الشرك الأكبر المخرج للإنسان من الملة.
هذا هو التوحيد الثاني واسمه توحيد الألوهية، وهو: توحيد الله بأفعال العبد.(31/6)
الإيمان بالله وترسيخ الاعتقاد في الأسماء والصفات
الثالث: توحيد الأسماء والصفات، وهذا هو التوحيد الذي ضلت فيه أكثر الأمّة، من أهل الكلام من الأشاعرة والمعتزلة والجهمية والقرامطة فقد ضلوا في هذا الباب؛ لأنهم دخلوا بعقولهم الصغيرة، وبأفئدتهم وألبابهم المحدودة في هذا المجال المقفل الذي لا يدخله إلا من عنده دليل من كتاب وسنّة، فعطلوا صفات الله، بل بعض غلاة الجهمية سلبوا عن الله النقيضين، حتى قالوا: (إن الله لا موجود ولا معدوم) وقالوا: إن أثبتنا لله الوجود شبهناه بالموجودات، وإن قلنا: إنه معدوم شبهناه بالمعدومات، فوصفوه بالممتنعات، لأن الذي ليس معدوماً ولا موجوداً هو الممتنع، فهربوا من شيء ليقعوا في شر منه.
أهل السنة والجماعة يثبتون لله عز وجل جميع الأسماء والصفات التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تشبيه ولا تعطيل، بل يؤمنون بأن الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] هذا معتقد أهل السنة والجماعة.
بينما أثبت الأشاعرة لله سبع صفات فقط: العلم، والسمع، والقدرة، والإرادة، والحياة، والكلام، سبع صفات فقط، والباقي نفوها عن الله، لماذا؟ قالوا: إذا أثبتناها شبهنا.
حسناً! كيف يكون محذوراً في الباقي، ولا يكون محذوراً في السبع التي أثبتموها، فإما أن تنفوا أو أن تثبتوا كل شيء.
وجاءت المعتزلة لتنفي عن الله الصفات كلها وأثبتوا الأسماء، فقط، يقولون: إن الله عليم لكن بلا علم، يقولون: هذه الأسماء مثل اسم سعيد، لا يعني أنك سعيد؟ أو اسم محمود، لا يعني أنك محمود؟ أو اسم علي، لا يعني أنك علي، فهذه الأسماء فقط لا تدل على معاني، فيقولون: إن الله عليم بلا علم، وسميع بلا سمع، وحكيم بلا حكمة.
لا إله إلا الله!! كيف هذا؟ قالوا: إذا أثبتنا الصفة لزم من إثبات الصفة التشبيه بالمخلوق، فنحن ننفي الصفة عن الله حتى لا نشبه الله بالمخلوقين.
ومن قال لكم: إن صفة الله مثل صفة المخلوقين؟! يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة التدمرية: كما أن لله ذاتاً تختلف عن ذوات المخلوقين، فإن لله صفات تختلف عن صفات المخلوقين، ولذا السؤال عن الصفة بدعة وضلالة:
لا تقل كيف استوى كيف النزول أنت لا تعرف من أنت ولا كيف تبول
جاء رجل إلى الإمام مالك فقال له: كيف الاستواء؟ قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
وسأل آخر ربيعة فقال: كيف الاستواء؟ قال ربيعة: كيف الله؟ قال: ما أدري، قال ربيعة: وأنا لا أدري كيف صفته.
فلا نعرف ذاته ولا نعرف صفته، ولكن نؤمن بها على حقيقتها دون توقف، بل نؤمن بجميع الصفات ونثبتها لله كما أثبتها لنفسه، وكما أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة وفيه مخرج مما ضلت فيه الأمم والفرق الضالة الذين نفوا عن الله الصفات.
وهناك فرق ضالة نفت عن الله الاسم والصفة وهم الجهمية، قالوا: إن الله عز وجل لا اسم له ولا صفة، وغلاة الجهمية نفوا عن الله كما ذكرت لكم النقيضين وقالوا: (إن الله لا موجود ولا معدوم) فشبهوه بالممتنعات: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4] وتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
هذا هو الإيمان بالله وتوحيده، هذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة.(31/7)
الإيمان بالملائكة
ومن أصول أهل السنة والجماعة: الإيمان بالملائكة، والتصديق بوجودهم، وأن الله عز وجل خلقهم لعبادته، وأنهم موكلون ببعض الوظائف.
فنؤمن بهم على الإجمال والتفصيل، فعلى الإجمال: نؤمن بأنهم من جنود الله: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفتح:4] {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] أما على التفصيل فنعرف بعضهم وبعض وظائفهم، فنعرف جبرائيل وأنه أمين الوحي، ونعرف ميكائيل وأنه ملك الغيث الموكل بإنزال الغيث، ونعرف إسرافيل وأنه نافخ الصور، ونعرف مالكاً وأنه خازن النيران، ونعرف رضوان وأنه خازن الجنان، ونعرف رقيباً وعتيداً الموكلان بكتابة الحسنات والسيئات، وغير ذلك ممن وردت بهم الأدلة، هذا على التفصيل.
وأيضاً يقتضي الإيمان بالملائكة وبوظائفهم: أن نلتزم بما يقتضيه هذا الإيمان، فإذا آمنتُ أن هناك رقيباً يسجل حسناتي، وعتيداً يسجل سيئاتي، فإنني أصنع الحسنة وأبتعد عن السيئة، فأحذر من أن يُسجل علي شيء، وأرغب في أن يسجل لي شيء، لكن الذي يقول: أنا مؤمن برقيب وعتيد، ولا يعمل سوى السيئات؛ فهذا كاذب، فلو أنه صدر أمر، مثلاً: أن الناس يذكرون الله، ولذا تقرر أن يعلق مع كل شخص مسجل في رقبته، وفي نهاية كل يوم يُفتح هذا المسجل، وتحسب ألفاظه، فمن ذكر الله عز وجل: سبح الله أو حمد الله أو هلل أو أثنى على الله، فإن له في كل تسبيحة ريالاً، وبكل تحميدة ريالاً، وبكل تهليلة ريالاً، بينما الذي يلعن أو يسب أو يشتم، أو يغتاب أو ينم، أو يكذب؛ على كل كذبة ضربة، ما رأيكم من منا لن يذكر الله عز وجل؟! والله لن نشتغل إلا بذكر الله! وإذا أتاك شخص يكلمك فستقول له: لا يا شيخ! سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، لماذا؟ قال: سأكسب ريالاً على كل ذكر، ويجيء آخر النهار ويفتح المسجل ويجد عشرة آلاف تسبيحة ويأخذ عليها شيكاً بعشرة آلاف ريال، بينما آخر لم يجد سوى ألف تسبيحة أي بألف ريال، ما رأيكم في شعور هذا الذي حصل على ألف ألا يحزن ويندم؟ سيبيت الليل كله يقول: يأخذ عشرة آلاف وأنا ألف فقط! والله ما أقول كلمة في الغد إلا سبحان الله، لماذا؟ لأنه آمن بقيمة الريال الشرائية.
حسناً! ما الذي يمنع الناس الآن من التسبيح والتهليل؟ وما الذي يدفعهم إلى اللعن والسب والشتيمة والغناء واللهو إلا عدم إيمانهم بأن هناك من يسجل الحسنات والسيئات، وما آمنوا أن الله: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} [ق:18] أي: أي كلمة تخرج من فيه: {إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]! فهذا معنى الإيمان بالملائكة، أنك تؤمن بالملك وبوظيفته، وينقدح في ذهنك شيء من إيمانك به، وهكذا تؤمن بمنكر ونكير، وأنهما ملكا سؤال، وتؤمن بمالك خازن النيران، ولا تود أن تمر من عنده، وتؤمن برضوان وتتمنى أن الله عز وجل يدخلك الدار التي هو مسئول عنها، هذا هو معنى الإيمان بالملائكة.
ومن أعظم ما يقوي الإيمان في قلب الإنسان بإذن الله: الحديث عن الملائكة: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره السيوطي في صحيح الجامع وصححه الألباني يقول: (أُذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة خمسمائة عام) أي: رقبته فقط، فأنت لا تتجاوز رقبتك بضع أصابع، بينما هذا الملك طول عنقه مسيرة خمسمائة عام، لا يعصي الله طرفة عين، وأنت رقبتك أربع أصابع وتعصي الله، ماذا أنت بالنسبة له وهو من حملة العرش؟ وحملة العرش ثمانية، قيل ثمانية من الملائكة، وقيل ثمانية صفوف {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17].(31/8)
الإيمان بالكتب المنزلة والرسل
ومن أصول أهل السنة والجماعة: الإيمان بالكتب المنزلة التي أنزلها الله على أنبيائه ورسله.
فالتوراة أنزلها الله على موسى، والإنجيل أنزله على عيسى، والزبور أنزله على داود، والقرآن الكريم أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن القرآن الكريم هو المهيمن، وهو الناسخ لجميع الرسالات، وهو الكتاب الذي ليس بعده كتاب؛ لأنه آخر الكتب، ونبينا آخر الأنبياء، وأمتنا آخر الأمم.
ويعتقد أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق حروفه ومعانيه، لم يُخلق منه شيء، خلافاً للجهمية والمعتزلة والأباضية الذين يقولون: أن القرآن كله مخلوق حروفه ومعانيه.
وخلافاً للأشاعرة الذين يقولون: إن كلام الله هو المعاني فهو منزل، أما الحروف فهي مخلوقة، وكلا القولين باطل، والقول الصحيح المدعَّم بالدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو: أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:1] {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} [الزمر:23] أدلة كثيرة بالنسبة لتنزيل القرآن، لكن سبحان الله! كيف ضلت تلك العقول، وذهبت إلى ما يضلها في دنياها وآخرتها من غير حاجة؟ لكن الشيطان سول لهم وأملى لهم.
أيضاً من أصول أهل السنة والجماعة: الإيمان بالرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وأن أولهم نوح وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه خاتم الأنبياء، وأنه لا نبي بعده، ونؤمن بالرسل كلهم ولا نتبع شريعتهم، وإنما نتبع شريعة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع، لو أن أحداً أتانا وقال: أنا أؤمن بكل الأنبياء إلا نبياً واحداً لا أؤمن به، قلنا: كفرت بكل الأنبياء، لا بد أن تؤمن بكل الأنبياء الذين جاء ذكرهم في الكتاب والسنّة، وأنهم رسل، فنعتقد عقيدة من قلوبنا أنهم أنبياء الله ورسله، ولكن لا يلزمنا اتباع شريعتهم، وإنما نتبع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.(31/9)
الإيمان بالبعث وما يترتب عليه
أيضاً من أصول أهل السنة والجماعة: الإيمان بالبعث بعد الموت، وبكل ما يكون بعده مما أخبر الله به، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم.
أولاً: عذاب القبر ونعيمه، فإن هذا غيب، ومن معتقد أهل السنة والجماعة الإيمان به، والإيمان به يقتضي الاستعداد له، فإذا عرفت أنك مسئول في القبر وأنك معذب أو منعم؛ فإنك مباشرة تقف عند الأوامر وتنتهي عند النواهي، فتفعل ما أمرك الله به، وتنتهي عما نهاك الله عنه.
وأيضاً البعث: وهو إعادة الناس إلى الحياة كما كانوا أحياء، وأن الله يردهم مثلما كانوا، وأن الناس يفنون، وتتفرق أجسامهم، وتتقطع أوصالهم، ولا يبقى منهم إلا عَجبُ الذنب؛ وهي: حبة صغيرة في آخر العمود الفقري، وهذه أصل الإنسان، تبقى في التراب إلى أن يُنزل الله عز وجل ماء من بحر يقال له الحيوان من السماء، فتنبت منه هذه الحبَة كما تنبت الحِبة في حميل السيل، حتى يعود الناس كلهم كما كانوا أول مرة يوم أن خلقهم الله عز وجل، وهذا بعد النفخة الأولى، أما في النفخة الأولى فيصعقون، ثم ينزل هذا الماء وينبتون، ثم يُنفخ النفخة الثانية فتطير الأرواح من الصور إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَق وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر:68 - 69].
ثم بعد البعث الحشر، إلى المكان الذي هيأه الله عز وجل وأعده ليكون موعد الفصل والحساب للناس، ثم الحساب، وهو: محاسبة الناس على الأعمال، ووزن الأعمال ونشر الدواوين والدواوين هي: الكتب التي قد كتبت علينا، ما من إنسان إلا وله كتاب وديوان مسجل فيه كل عمله، فإذا مات قيل له: اقرأ كتابك: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:13 - 14] وقال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَق إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29].
ثم الصراط: وهو جسر على متن جهنم لا يمكن الوصول إلى الجنة إلا عن طريقه، والناس يجتازونه على ضوء أعمالهم وتمسكهم بكتاب الله وسنة رسوله في هذه الدار.
والإيمان بالجنة وما أعد الله فيها من النعيم، وبالنار وما أعد الله فيها من العذاب الأليم، والاستعداد لهذا كله بالإيمان والعمل الصالح.
هذا معتقد أهل السنّة والجماعة في البعث بعد الموت.(31/10)
الإيمان بالقدر خيره وشره
ومن الأصول عند أهل السنة والجماعة: الإيمان بالقدر خيره وشره من الله عز وجل.
ومعنى الإيمان بالقدر: أن الله عز وجل قد علم كل شيء؛ ما كان وما سيكون، وقدره الله عز وجل وكتبه، وأن للعباد إرادة وقدرة واختياراً لما يقع منهم من طاعة أو من معصية، ولكن ذلك تابعٌ لإرادة الله ومشيئته، وهذا خلافاً للجبرية، الذين يقولون: إن العبد مجبر على أفعاله، وكثير من الناس الآن جبري، إذا قلت له: يا أخي! أترك المعاصي قال: الله جبرني، هذا جبري؛ لأنه يدعي أن الله جبره على المعصية، وطائفة الجبرية فرقة من الفرق الضالة فيكون جبرياً وهو لا يدري، ولو درى أنه جبري لتوقف، فـ الجبرية يقولون: إن العبد مجبر على فعله.
وخلافاً أيضاً للقدرية الذين يقولون: إن العبد يخلق فعله، وإن إرادة العبد غالبة على إرادة الله.
وهذا باطل، إذ لا يمكن أن يكون في الكون شيء خارج عن إرادة الله عز وجل، ولكن للعبد إرادة ولله إرادة، والله عز وجل يقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] فأثبت الله للعبد مشيئته رداً على الجبرية، وأثبت الله مشيئته التي تتبعها مشيئة العبد رداً على القدرية، وهذا من أعظم ما أجيب به في هذا الموضوع، وهو الذي يتمشى مع عقل الإنسان، إذ كيف يسلبك الله الإرادة ويجعلك مجبوراً على عمل ثم يحاسبك عليه؟ هل هذا معقول؟! الله منزه عن هذا، بدليل: ألست -أيها المسلم- مأموراً بالصلاة في المسجد؟ وإذا سمعت حي على الصلاة حي على الفلاح ولم تأت وأنت قادر على الصلاة فأنت آثم معرض نفسك للعذاب، لكن إذا مرضت فمن الذي أمرضك؟ الله، ومن الذي أمرك بالصلاة في المسجد؟ الله، فسلبك الله القدرة على القيام بالصلاة وعندها هل يطلب منك أن تصلي في المسجد؟ لا.
بل صلِّ في بيتك، وهل يحاسبك الله إذا صليت في بيتك؟ لا.
لحديث: (صلِّ قائماً فإن لم تستطع فصل جالساً) مع أن القيام في الصلاة ركن، القيام مع القدرة ركن من أركان الصلاة، فلو أن شخصاً صلى جالساً وهو قادر على القيام لبطلت صلاته.
وكم أركان الصلاة؟ أربعة عشر، القيام مع القدرة أول ركن، وتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة هذه أركان الصلاة، لكن لو أن شخصاً لا يستطيع أن يقوم ليصلي، سلبه الله العافية، فكيف يصلي؟ يصلي جالساً، لماذا؟ لأن الله سلبه العافية فرفع عنه التكليف، وهذا يتماشى مع كل أحكام الشرع.
فالله لا يمكن أن يأمرك بشيء وقد سلبك القدرة على فعله ثم يحاسبك عليه؛ لأن الله منزه عن الظلم، يقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40].(31/11)
وسطية أهل السنة بين الفرق(31/12)
وسطيتهم في الإيمان
ومن معتقد وأصول أهل السنة والجماعة: أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، قول بالألسن، وعمل بالأركان والجوارح، واعتقاد بالقلوب، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وليس الإيمان قول وعمل دون اعتقاد، فهذا إيمان المنافقين، فالمنافقون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: آمنا {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] وكانوا يصلون، يقول الله عز وجل: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] وكانوا أيضاً يتصدقون، يقول الله عز وجل: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54] فأثبت الله لهم صلاة وصدقة، لكن افتقدوا الشرط الثالث وهو الاعتقاد، فما كانت عقائدهم سليمة، ولو كانوا يعملون عملاً صالحاً، ويقولون قولاً صالحاً لكن عقائدهم من الداخل كانت فاسدة، فهم يؤمنون بألسنتهم ويكفرون بقلوبهم فلم ينتفعوا، فليس الإيمان قولاً وعملاً دون اعتقاد، وهذا إيمان المنافقين.
وليس الإيمان مجرد المعرفة بدون قول ولا عمل فهذا إيمان الكافرين، فالكافرون إذا سألتهم من خلق السماوات والأرض يقولون: الله، لكن لا يؤمنون ولا يعملون.
وليس أيضاً مجرد اعتقاد وقول من دون عمل، فهذا عمل المرجئة، والمرجئة فئة من الفئات الضالة يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، ولا ينفع مع الكفر طاعة، وقالوا: إن إيمان جبريل مثل إيمان الشيطان الرجيم، لماذا؟ قالوا: لأن جبريل مؤمن بالله وإبليس مؤمن بالله، يقول: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [ص:79] {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] فما دام مؤمناً مُقراً بقلبه ولسانه فإنه يكفيه الإيمان فقط، ولا يوجد حاجة إلى العمل، وهؤلاء هم المرجئة الذين دمروا الإسلام في فترة من فتراته، حيث أعطوا مؤشراً وتصريحاً للناس في ترك الدين، عندما قالوا لهم: أنتم مسلمون بمجرد أن يقول الواحد منكم: لا إله إلا الله، وإن لم يصلِّ ويصم، ولم يمتنع عن فعل المحرمات، وهذه يسمونها عقيدة الراحة والإباحة، راحة من التكاليف وإباحة للمنهيات، يزني ويسكر ويعمل كل شيء ثم يقول: الحمد لله أنا أشهد أن لا إله إلا الله، والإيمان في القلب، ربنا رب قلوب، وهؤلاء هم المرجئة.
وما أكثر المرجئين في هذا الزمان تراه وهو منغمس إلى أذنيه في المعاصي وتقول له: اتق الله، فيقول لك: يا أخي: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم -وما أكملُ الحديث- وأعمالكم) يقولون: إن الله ينظر إلى القلوب! هذه قاعدة الإرجاء، وهي مخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة، أما مذهب أهل السنّة والجماعة فإن الإيمان قول باللسان، واعتقادٌ بالجنان، وتطبيق وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعات، وينقص بالعصيان، والدليل على زيادته قول الله عز وجل: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2] فالإيمان يزيد بالطاعة، ودليل النقص قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) لأنه ينقص إيمانه، ويرتفع عنه الإيمان والعياذ بالله إذا مارس هذه الجريمة.(31/13)
وسطيتهم في حكم مرتكب الكبيرة
من أصول أهل السنّة والجماعة: أنهم لا يُكَفِرون أحداً من المسلمين، انتبهوا! لا يكفرون، أما التفسيق والتبديع لمن يستحق فهو من معتقدات أهل السنّة والجماعة، فهم لا يطلقون كلمة الكفر على مسلم إلا إذا ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام العشرة، أو ترك شيئاً تركه كفر مثل الصلاة، لأن الصلاة أتت فيها أدلة خاصة بأن تاركها كافر، والدليل في مسلم عن جابر بن عبد الله قال: قال عليه الصلاة والسلام: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) وفي سنن أبي داود ومسند أحمد عن بريدة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر).
أما الكبائر كبائر الذنوب؛ فإن أتى شخص بالأركان ولم يأت بناقض من نواقض الإسلام ولكن وقع في معصية أو كبيرة أو صغيرة فإنهم لا يكفرونه بها وإنما يرون أنه فاسق عاصٍ لله، ناقص الإيمان، وهو تحت مشيئة الله في الدار الآخرة، إن شاء الله عز وجل عذبه، وإن شاء غفر له، وهذا هو المذهب الوسط، وهو الوسط بين الخوارج الذين يكفرون بالكبيرة -إذا وقع أي أحد في كبيرة يرون أنه كافر- وبين المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، أما مذهب أهل الحق فيكفرون من نقض إسلامه، أما بالكبائر والذنوب فلا يكفرونه، والأدلة على ذلك كثيرة لا أستطيع حصرها.
أول دليل في مسلم: (أن رجلاً جيء به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقد شرب الخمر فحدَّه -أي: ضربه وأقام الحد عليه- ثم ذهب فشرب الخمر مرة أخرى فجيء به فحدَّه، فشرب الخمر مرة أخرى فجيء به فحدَّه، فقال أحد الصحابة: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبه: لا تقل هذا! لا تعينوا الشيطان على أخيكم، والله إني لأعلم أنه يحب الله ورسوله) هذا الرسول صلى الله عليه وسلم يشهد لهذا السكير مرتكب الكبيرة، لكن مسكين وقع في هذه المعصية بحكم ضعفه البشري ولكنه يحب الله ورسوله.
فنحن لا نكفر صاحب الذنب ولو كان كبيراً ولكن نسميه عاصياً، ونسميه فاسقاً، وهو تحت مشيئة الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه بقدر معصيته وكبيرته، لكن نهايته إلى الجنة متى ما أقام أركان الإسلام، أما إذا ترك الصلاة، ولو لم يشرب الخمر فهو كافر، ولو لم يسمع الأغاني فهو كافر، لماذا؟ لأن ترك الصلاة كفر يخرج من الملة والعياذ بالله.(31/14)
عقيدة أهل السنة في الأبواب الأخر(31/15)
وجوب طاعة ولي الأمر
ومن عقيدة أهل السنّة والجماعة، ومن معتقدهم وأصولهم: وجوب طاعة ولي الأمر المسلم.
وهذه المسألة تخفى على كثير من طلبة العلم، وينبغي أن نتوسع ونتوقف فيها، لأن القضية ليست قضية مجاملات أو مداهنات، بل هو أصل من أصول أهل السنة والجماعة، يجب أن تفهمه على أنه عقيدة، ليس هوىً ولا خوفاً ولا مجاملة للسلطان، ولا رغبة فيما عند السلطان.
والله! ما نقول هذا إلا براءة لذمتنا، وبياناً لعقيدتنا التي هي عقيدة أهل السنّة والجماعة أنه يجب على كل مسلم طاعة ولي الأمر المسلم ما لم يأمر بمعصية الله، طاعته في المعروف، أما إذا أمر بمعصية الله فلا طاعة له فيما أمر به من معصية، وتجب طاعته في خلاف ذلك، يعني: إذا أمرك بمعصية فلا تطعه في المعصية، لكن لا تعصه في بقية الأوامر؛ لأنه لا يجوز لك أن تخرج عن طاعته، فعقيدة أهل السنّة والجماعة أنه يجب طاعة ولي الأمر المسلم فيما ليس بمعصية، أما المعصية فلا يجوز طاعته فيها ويجب طاعته فيما بقي، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ويقول عليه الصلاة والسلام: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبد) وحديث العرباض بن سارية حديث مشهور، والذي قال فيه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب فقال في نهايتها: وعليكم بالسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبدٌ حبشيٌ كأن رأسه زبيبة) هكذا معتقد أهل السنّة والجماعة.
وهذا ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكره شيخ الإسلام ابن القيم وذكره الإمام أحمد، وذكره الإمام البغوي في كتاب شرح السنّة، وذكره الأئمة كلهم، منهم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله تعالى عليه، ذكره في المسائل التي خالف الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية فيها، وهي مائة مسألة ذكر في المسألة الثالثة: اعتقاد بعض الناس -وهذه مصيبة حتى بعض الشباب قد يقع فيها وهو لا يدري- أن مخالفة ولي الأمر وعدم طاعته فضيلة وقوة في الله وصدع بالحق وعدم الخشية في الله من لومة لائم، وأن السمع والطاعة لولي الأمر ذل وإهانة ومداهنة، فخالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بالصبر على جور الولاة، وأمر بالسمع والطاعة لهم، والنصيحة لهم وغلَّظ في ذلك وأبدأ وأعاد، لما في عدم طاعة ولاة الأمر من المفاسد التي لا يعلمها إلا الله.
ويقول عبد الله بن المبارك: أصل جميع الفرق الضالة وهي اثنتان وسبعون فرقة تجتمع في أربع فرق، القدرية والمرجئة والرافضة والخوارج، فمن قدم أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترضى عن الصحابة كلهم، ولم يتكلم في بقيتهم إلا بخير، ودعا لهم، وكف عما حصل بينهم فقد خرج من التشيع أوله وآخره، ومن قال: الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فقد خرج من الإرجاء أوله وآخره، ومن قال بالصلاة خلف كل إمام بر أو فاجر وجاهد مع كل خليفة، ولم ير الخروج على السلطان، ودعا لهم بالصلاح، فقد خرج من قول الخوارج أوله وآخره، ومن قال: المقادير كلها من الله خيرها وشرها، يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، فقد خرج من قول القدرية أوله وآخره، وهو صاحب سنّة.
هذا هو معتقد أهل السنّة فيما يتعلق بولي الأمر، إذ أن الخروج على ولي الأمر المسلم انتبهوا! ولي الأمر المسلم مقيدة بالإسلام أما ولي الأمر الكافر هذا له تعامل آخر لكن ولي الأمر المسلم الذي يحكم بالشريعة فإنه يجب طاعته حتى ولو حصل منه ظلم، ولو حصل منه مخالفة أو جور، فلا ينبغي الخروج عليه، ولا ينبغي طاعته إذا أمر بمعصية، ولكن يطاع في غيرها ويدعى له، فإن الدعاء له طاعة لله.
يقول: الفضيل بن عياض: لو أني أعلم أن هناك دعوة مستجابة لصرفتها لولي الأمر، وتروى هذه الحكاية عن الإمام أحمد رحمة الله تعالى عليه؛ لأن في الدعوة له مصلحة للإسلام والمسلمين، نسأل الله عز وجل أن يصلح وأن يوفق ولاة أمورنا لما يحبه الله ويرضاه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: لا يكاد يُعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من المفاسد أكثر من الذي خرجت لإزالته.
اقرأ التاريخ؛ فلا يكاد يعرف عن طائفة خرجت على ذي سلطان إلا ووقع بخروجها من المفاسد عليها وعلى الأمّة أعظم مما خرجت من أجله، فهي خرجت لتزيل مفسدة فوقعت في مفسدة أكبر، ولهذا تقدم المصالح وتدرأ المفاسد، هذا معتقد أهل السنّة والجماعة.(31/16)
الكف عما شجر بين الصحابة
ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبهم لهم، والترضي عنهم، والكف عن الخوض فيما دار بينهم، خلافاً للرافضة والخوارج.
فيرون أن الخليفة بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ثم إنهم يحبون أهل بيت رسول الله -هذه عقيدة أهل السنة والجماعة - فنحن لا نكره أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل نحبهم ونتولاهم، وآباؤنا وأمهاتنا وأنفسنا فداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته.
ومن أهل بيته أزواجه خلافاً للرافضة، فـ الرافضة يقولون: إن أزواجه لسن من أهل بيته، سبحان الله! أزواجه هن أهل بيته، ومَن أهل بيته إن لم تكن أزواجه من أهل بيته؟! فأول أهلك زوجتك، وأهل بيت رسول الله زوجاته رضي الله عنهم وأرضاهم، وأهل بيته قرابته وهم الصالحون منهم، أما غير الصالحين فليسوا من أهل بيته كعمه أبي لهب، ما رأيكم في أبي لهب؛ هل هو من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟ هو عم رسول الله، والرسول صلى الله عليه وسلم اسمه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وأبو لهب هو: أبو لهب بن عبد المطلب، هو: عبد شمس ويُدعى أبا لهب؛ لأنه من أهل اللهب والعياذ بالله في النار، فـ أبو لهب عم الرسول ولكنه ليس من أهل بيته، بل أهل بيته من سار على نهجه واتبع سنته وكان له قرابة، فنتولاه ونحبه بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول عليه الصلاة والسلام: (يا معشر قريش! لا أغني عنكم من الله، يا عباس! يا عم رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئاً) ويقول: (يا فاطمة! يا آل محمد! لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم، اعملوا لا أغني عنكم من الله شيئاً) وهؤلاء القرابة لهم علينا حق الإكرام، وحق المحبة، وحق الاحترام، من غير غلو فيهم، فلا نتقرب إليهم بشيء من العبادة، ولا نعتقد أنهم يتصرفون في الخلق، أو أنهم ينفعون أو يضرون، يقول الله لنبيه: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} [الجن:21] {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [يونس:49] فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فكيف بغيره، وهذا خلاف لمعتقد الرافضة الذين يعتقدون أن الأئمة ينفعون ويضرون، وأن بهم قامت السماوات والأرض، وأن الرعد والبرق صوت علي، وأن كل شيء بيده، وهذا كله من الشركيات والضلالات التي ما أنزل الله بها من سلطان.(31/17)
التصديق بكرامات الأولياء
ومن معتقد أهل السنة والجماعة: التصديق بكرامات الأولياء.
ما هي الكرامة؟ الكرامة: هي أمر خارق للعادة يجريه الله عز وجل على أيدي بعض عباده الصالحين، أما المعجزة: فهي أمر خارق للعادة يقصد به التحدي، يجريه الله على أيدي أنبيائه، والكرامات مثل كرامة عمر وهو في المدينة يخطب الجمعة فرأى الجيش يأتي من وراء سارية فقال: [يا سارية! الجبل] هذه كرامة من كرامات عمر رضي الله عنه.
والكرامة تختلف عن الشعوذة والكهانة، فإن الكرامة تجري على أيدي الصالحين وسبيلها الطاعة، أما الشعوذة والكهانة فتجري على أيدي السحرة وسبيلها الكفر والمعصية والعياذ بالله، حتى لا يختلط على الناس معنى الكرامة ومعنى السحر، فإن من الناس من يعمل على يديه أشياء يتضح بها أنه يسحر الناس.
وقد أخبرني أحد الإخوة عن بلدهم يقول: كنت أزور شيخ طريقة، ظناً مني أنه رجلٌ صالح يقربني إلى الله، يقول: فجلسنا عنده من المغرب إلى العشاء، وكان يأمرنا بالأذكار والتسبيح وذكر الله، يقول: ولما حان وقت الصلاة، قال لنا: قوموا صلوا، فقلت أنا -وأنا جديد على الجلسة، يقول ما أعرف آداب المريد ولا آداب التابع للشيخ- وأنت يا شيخ! لماذا لا تصلي؟ قال: أنا أصلي في الحرم، وهو في بلد بعيد بينه وبين المسجد الحرام ألفا كيلو تقريباً، يقول: فقمنا وذهبنا نصلي، يقول: لم يدخل في عقلي أنه يصلي في الحرم، كيف يصلي بالحرم وهو في الغرفة؟ يقول: فلما أقيمت الصلاة وأنا في المسجد خرجت من الصف وذهبت إلى بيت الشيخ، أريد أن أرى كيف يصلي في الحرم، يقول: فجئت وهو مقفلٌ على نفسه الباب، والباب خشب لكن فيه شقوق في الطول، فنظرت وإذا بالرجل راقد لا يصلي.
فهو أصلاً يعرف أنه ليس له صلاة، هو ضال، ولكن يضحك على هؤلاء بأنه يصلي في الحرم، هذا من الضلال، فإذا رجعوا إليه قالوا: أين صليت؟ قال: صليت في الحرم، هذه كرامة لي، وهذه ليست بكرامة وإنما ضلالة والعياذ بالله.(31/18)
الاعتماد في التشريع على الكتاب والسنة وفق فهم السلف
ومن أصول أهل السنة والجماعة: أنهم يستدلون بالكتاب والسنّة، واتباع ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يستدلون بالآراء ولا بكلام العلماء، إلا إذا كان كلام العلماء مقتبساً ومستنداً إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولذا سُمُّوا أهل السنة والجماعة؛ لأنهم مجتمعون على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا يعتقدون العصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل عقيدتهم: أن العصمة لرسول الله، وأن كل من بعده قد يخطئ، حتى الصحابة قد يخطئون؛ لأنهم بشر غير معصومين.
وأيضاً: لا نتعصب إلا للحق، ونعتقد أن المجتهد يصيب ويخطئ، وأنه إذا أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر الاجتهاد وليس عليه ذنب الخطأ، وأن الاجتهاد لا يزال مسموحاً به ومفتوحاً لمن توفرت فيه شروط الاجتهاد إلى يوم القيامة.
ويعتقد أهل السنّة والجماعة أن الاختلاف وارد، لأن الناس ليسوا متساوين جميعاً في الفهم، فالله خلق الناس مختلفين: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119] ولكن هذا الخلاف لا يفسد للود قضية، ولا يُوجِد بين المؤمنين عداوة، بل يحب بعضهم بعضاً، ويوالي بعضهم بعضاً، ويصلي بعضهم خلف بعض، ويلتمس مصيبهم لمخطئهم العذر، مع اختلافهم في المسائل الفرعية التي هي محل نظر واجتهاد، فإذا أخطأ واحد منهم يأتون إليه وينصحونه ويصححون خطأه، ولا يلتقطون هذا الخطأ عليه ويفسقونه ويبدعونه به، ويخرجونه من الملة، ويحذرون الناس منه، لا.
بل يصححون خطأه ويعتذرون له، ويدعون له.
يقول الشافعي رحمة الله عليه: كلامنا صواب يحتمل الخطأ، وكلام غيرنا خطأ يحتمل الصواب.
انظروا كيف أدبهم رحمة الله عليهم، يقول: كلامي صواب، ما أعتقد إلا الصواب، لكنه يحتمل الخطأ، وكلام خصمي خطأ ولو أعرف أنه صواب لاتبعته لكن يحتمل أن يكون صواباً، لكن أين الكلام الصواب الذي لا يحتمل الخطأ؟ إنه كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أما ما دمنا بشراً فإن كلامنا مهما كان صواباً فإن احتمال وقوع الخطأ فيه وارد، وهذا مذهبهم رحمة الله تعالى عليهم.(31/19)
تعظيم شعائر الله
وأخيراً من أصول أهل السنة والجماعة: أنهم يحافظون على إقامة شعائر الإسلام، خصوصاً الصلاة في جماعة المسلمين، وينصحون لكل مسلم وخصوصاً ولاة الأمر لأن (الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم) والحديث في مسلم.
ويتعاونون على البر والتقوى ويصبرون عند البلاء، ويشكرون عند الرخاء، ويرضون بمر القضاء، ويتحلون بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، مثل: بر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والظلم؛ لأن (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا).
هذا معتقد أهل السنّة والجماعة.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا وإياكم من هذه الفرقة الناجية، وأن يثبتنا جميعاً عليها إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد.(31/20)
خروج المرأة أحكام وضوابط وآداب
السؤال
ما هي ضوابط وآداب خروج المرأة المسلمة من بيتها؟
الجواب
الأصل في المرأة المسلمة أن تستقر في بيتها، وتمضي معظم عمرها في بيتها؛ لأن بيتها عرشها، ومكان عزها وسترها، ولا يستطيع الشيطان أن يتسلط عليها ما دامت في بيتها، لكن إذا خرجت جاء في الحديث: (إذا خرجت المرأة من بيتها استشرفها الشيطان) يعني: استفزها، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان) والله أمر المرأة بأن تستقر، قال عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] فعلى المرأة المؤمنة أن تربي نفسها على هذا الطبع، وأن تَلزم البيت باستمرار، وتستطيع المرأة أن تعرف هل هي مؤمنة أم غير مؤمنة عن طريق عرضها على حب البيت وعدم حبه، فإن كانت تألف البيت وتحبه ولا تحب الخروج منه إلا مغصوبة وكارهة فهي مؤمنة، أما التي تضيق في البيت، ولا ترتاح إلا إذا أخذت عباءتها وخرجت، فهذه ليست بمؤمنة، هذه تعرِّض نفسها للفتنة، وعليها أن تتوب إلى الله عز وجل، هذا الأصل.
لكن هل يجوز الخروج؟ نعم يجوز الخروج في حالات، منها: الخروج للصلاة، وخصوصاً إذا كان هناك مصلحة علمية كحضور درس -مثل هذا الدرس- أو حضور صلاة تراويح في رمضان، إذا كانت المرأة في بيتها لم تصلِّ التراويح كما ينبغي، يشغلها أطفالها في البيت، لكن في المسجد تصلي صلاة كاملة، أو حضور صلاة الجمعة مع أنها لا تجب عليها، لكن لو حضرتها أجزأتها من أجل أن تسمع الخطبة، أو حضور صلاة العيدين، تقول أم عطية: [كنا نُخرج الحُيَّض وذوات الخدور يشهدن الخير ودعوة المسلمين] فيجوز في هذه الأمور، أيضاً أن تخرج إلى العمل إذا كان عملها مباحاً -مثل: التعليم، ففيه مصلحة لبنات المسلمين- وهي ملتزمة ومتدينة، فيحصل على يديها خير من تعليم بنات المسلمين، أو الخروج لزيارة رحم أو قريب، أو عيادة مريض، أو زيارة جار، وفي أضيق الظروف هذا يجوز كله، لكن بآداب شرعية أذكرها لكم وهي خمسة آداب: الأدب الأول: ما يتعلق باللباس، أن يكون لباسها ساتراً لها من أخمص قدميها إلى مشاش رأسها، لا يبدو منها شعرة ولا ظفر ولا إصبع، ولا يد، ولا رجل، ولا شعر، ولا شيء حتى الأيدي مُلبسة حتى الأقدام عليها جوارب أسود، ويكون هذا الستار نفسه غير ملفت للنظر؛ لأن بعض العباءات الآن مزينة بحيث تحتاج المرأة إذا لبستها أن تلبس عليها عباءة ثانية؛ لأنها مطرزة، أو موشاة بالقصب (الذهب)، أو بالفضة، والقصد من العباءة الستر، فإذا كانت العباءة فاضحة؛ فإنها تستتر عليها بعباءة ثانية لكي تستر نفسها.
هذا أول شرط من شروط اللباس.
الشرط الثاني: أن يكون هذا اللباس هادئاً غير ملون، وغير ملفت للنظر، ليس مزركشاً، حتى ولو كان تحت العباءة، فتلبس لوناً واحداً رمادياً أو بنياً أو أي لون هادئ ليس مزركشاً ولا ملفتاً للنظر؛ لأن هذه الألوان تثير الغرائز، أنت إذا رأيت لوناً مزركشاً ملفتاً للنظر يستثيرك، أما إذا كان لوناً عادياً هادئاً فإنه لا يكون هناك إثارة، هذا المطلوب في ثوب المرأة الذي تخرج به إلى تلك التجمعات، وعليها أن تدع الثوب المزركش والجميل للزوج في البيت، وهو المطلوب من المرأة؛ لأن بعض النساء تلبس في البيت أسوأ الثياب، تطبخ وتكنس وتغسل تعمل كل ذلك في ثوب واحد، فإذا دخل زوجها يراها في ثوبها فكأنها قردة والعياذ بالله، فإذا أرادت أن تخرج تلبس الثياب الجميلة للشارع وللزيارات، والثياب السيئة للبيت، فإذا دخل وراءها كأنها شيطانة، فيكرهها ويخرج إلى الخارج يبحث عن المتزينة، لكن لو أنه كلما دخل وإذا بها في لون جديد، وكل يوم وهي في ثوب، فسيرى أنها أجمل امرأة في الدنيا، وإذا خرجت تلبس الثوب السيئ الذي لا يلفت أنظار الناس إليها، هذا الشرط الثاني من آداب اللباس.
الشرط الثالث: أن يكون سميكاً أي: يكون هذا الثوب متيناً سميكاً، ليس بشفاف ولا يصف؛ لأن بعض الثياب ترى الجلد وراءه، فهي كاسية عارية، فلا يجوز أن يكون الثوب إلا سميكاً لا يشف ولا يصف.
الشرط الرابع: أن يكون واسعاً فضفاضاً مثل الخيمة، عباءة كاملة، ويدخل في هذا التحريم (الكاب) الذي تلبسه النساء الآن، هذا (الكاب) ليس عباءةً ولا ستاراً، ولا يكفي للحجاب، بل لا بد من العباءة، لأن (الكاب) يُظهر رقبة المرأة ورأسها ويظهر أثداءها ويظهر أكتافها، ويظهر أردافها، وبالتالي كأنها لابسة ثوباً معتاداً لا حجاباً، لكن إذا لبست عباءة فإن العباءة تنزل من الرأس على الجسم بشكل هرمي فتخفي جميع تقاسيم المرأة ومحاسنها.
وفي هذا فتوى من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أنَّ لبس (الكاب) غير جائز للمرأة المسلمة إذا أرادت أن تخرج به وينبغي أن تلبس العباءة الساترة.
أيضاً من شروط اللباس: ألا يكون فيه تشبه بالكافرات، مثل لبس القصير، فإن هذا مما اختص به نساء أهل الكفر، فلا ينبغي للمرأة أن تتشبه بهم؛ لأن (من تشبه بقوم فهو منهم).
ولا أن يكون فيه تشبه بالرجال، مثل لبس البنطال، الآن نعرف أن بعض النساء بدأت تلبس بنطالاً، كأنها رجل، وهذا من التشبه بالرجال، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال، ولعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء) هذا الأدب الأول في اللباس.
الأدب الثاني ويتعلق بالعطر: إذ يحرم على المرأة أن تتعطر ثم تخرج، والعطر إما أن يكون في ثيابها من السابق أو أخذته في نفس الوقت إذا خرجت؛ لأن بعض النساء لا تتعطر في ذاك الوقت ولكن تخرج وثيابها معطرة، فإذا قيل: في ثوبك عطر، قالت: لا.
هو فيه منذ زمن، ولو كان فيه منذ زمن، دعي الثياب التي فيها العطر، وخذي الثياب غير المعطرة، لما روى الإمام أحمد في المسند أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن تفلات) وتفلة يعني: غير متعطرة، رائحتها رائحة عادية، ليس فيها أي شيء مُلفت للنظر؛ لأن العطر يثير غريزة الرجل، فإذا مرت من عنده وفيها رائحة فإنها تفتنه، وروى الإمام أحمد ومسلم -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد الصلاة معنا) فمنعها الرسول صلى الله عليه وسلم من دخول المسجد إذا كانت رائحتها بخور.
وفي مسند أحمد وفي السنن الأربعة إلا ابن ماجة -وهو صحيح- قال: (أيما امرأة استعطرت في بيتها ثم خرجت فمرت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية) وهذا وعيد شديد، حتى ولو خرجت إلى بيت الله تبارك وتعالى.
الأدب الثالث فيما يتعلق بالخروج: وفيه أن تتصف المرأة بصفة الحياء، فالحياء قرين الإيمان، فإذا نزع الحياء نزع الإيمان، وأكثر ما ينبغي أن تكون عليه المرأة حياءً إذا خرجت من بيتها، ويكون هذا بأمرين: فالحياء يظهر في صورتين: الصورة الأولى: أن لا تمشي في وسط الطريق، إذا خرجت فعليها أن تمشي في الطرف، لا تمشي في الطريق كأنها عسكري أو رجل، وإنما تمشي في طرف الطريق، حتى إذا تعرضت للفتنة تتعرض من جانب واحد فقط، والجانب الآخر هو الجدار، لكن عندما تمشي في الوسط، فإن الذين على جنبات الطريق ينظرون إليها ويفتنونها وتفتنهم، وهذا فيه حديث صحيح، يقول عليه الصلاة والسلام: (يا معشر النساء! استأخرن والزمن حافة الطريق) فلا ينبغي أن تمشي المرأة إلا في حافة الطريق، هذا الأدب الأول في الحياء.
يثني الله على المرأة التي دعت موسى عليه السلام: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25].
الصورة الثانية: أن تغض طرفها وأن ترخي رأسها وأن لا تلتفت يميناً ولا شمالاً؛ لأنها إذا تلفتت فإن في هذا إشارة مرور من الشيطان أنها ما التفتت إلا تريد شيئاً، وإلا لماذا التفتت! فليس هناك إلا الأمام فقط وعلى الأرض، لا ترفع رأسها ولا تلتفت، وتغض بصرها لأن الشرع نهى المرأة عن النظر إلى الرجال كما نهى الرجال عن النظر إلى النساء، والآية في سورة النور، قال الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] وقال بعدها: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] فكما أن الرجل مأمور بغض بصره؛ فالمرأة مأمورة بغض بصرها، فلا تقول أنه لا يراها أحد، فهي لا تُرى ولكنها تَرى، والفتنة تقع منكِ وعليكِ -أيضاً- وهناك حديث صحيح رواه الإمام أحمد في المسند ورواه الترمذي وصححه ابن حبان من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كنت عند ميمونة -أمهات المؤمنين- فدخل ابن أم مكتوم الأعمى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: احتجبا عنه، قلنا: أوليس أعمى يا رسول الله؟! قال: أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه) فإذا كان الرجل لا يراك لأنه أعمى، فإنك ترينه، فغضي بصرك أيتها المرأة المؤمنة؛ نظراً لأن في غض البصر مصلحة وتنفيذ لآداب الله تبارك وتعالى، وهذا الأدب الثالث وهو الحياء.
الأدب الرابع: أن تدخل المسجد من باب النساء المخصص لهن، وأن تدخل السوق المخصص للنساء، وأن تشتري السلعة في وقت لا يكون فيه رجال ولا زحام رجال، وألا تتكلم هي إذا دخلت السوق فتشتري وتبيع مع الرجل؛ لأن في بيعها وشرائها فتنة لها وللرجل الذي يبيع ويشتري معها، هذه كلها آداب المرأة.
الأدب الخامس: أن يكون معها محرم إذا خرجت، فلا تخرج لوحدها، فإنها إذا خرجت لوحدها كانت عرضة لسطو المعتدين عليها من الرجال، إما بالكلام أو بالغمز أو بالملاصقة، أو بأي تصرف يكون، لكن إذا رأى الرجل الشرير أن امرأة معها رجل بجانبها فإنه يصرف النظر عنها، ولا يمد يده أو عينه أو يحاول أن يؤذيها بأي أذى، فإذا خرجت إلى المسجد فأنت معها، أو إلى السوق وأنت معها وليس شرطاً أن يكون زوجها، المهم أن يك(31/21)
التعاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
نرجو توجيه كلمة للذين يجادلون رجال الهيئة ولا يتعاونون معهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الجواب
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مسئولية رجال الهيئة فقط، إنه مسئولية كل مسلم، واسمعوا ماذا يقول الله في سورة آل عمران: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] فالذي لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر كأنه يقول: أنا لست من هذه الأمّة، كأنه ليس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقول: {كُنْتُمْ} [آل عمران:110] أي: أنتم كلكم، وليس رجال الهيئة بمفردهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] قدَّم الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان، مع أنه لا يصح الأمر ولا النهي إلا بالإيمان؛ لبيان عظم شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فهي مسئوليتك ومسئوليتي، فإذا وجدتُ رجلاً من رجال الهيئة الذين جعلتهم الدولة مسئولين فوق مسئوليتهم؛ لأنهم مكلفين من قبل الدولة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومسئولين -أيضاً- أمام الله، فإذا وجدتُ رجلاً من رجال الهيئة في السوق أو في أي مكان يأمر وينهى فموقفي أن أساعده، وأقول: نعم.
صدقت! وأتعاون معه ويقوم السوق كله مناصراً لهذا الرجل؛ لأننا أمة الأمر والنهي، أمة الدعوة، أمة النهي عن المنكر، لكن إذا قام رجل الهيئة يتكلم: يا امرأة غضي بصرك، صاح عليه ذاك: ماذا عملت؟ ما لك ولها؟ أعوذ بالله! إذاً أنت تأمر بالمنكر، والله قد ذكر في سورة التوبة أن الذين يأمرون بالمنكر هم المنافقون، يقول الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71]-اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين- حسناً! والذي لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر بل بالعكس قال الله فيه: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67].
فإذا رأيت رجلاً صالحاً من أهل الحسبة ممن كلف بهذا العمل، وهو يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر يجب أن تشد أزره وأن تساعده وتتعاون معه، وتقمع المنكر؛ لأنك إذا قمت بهذا برهنت على أنك مؤمن، أما إذا قمت ضده وساعدت صاحب المنكر عليه فأنت بهذا تُعَدُّ آمراً بالمنكر، وهذه صفة والعياذ بالله من صفات المنافقين.(31/22)
عقوبة تارك الصلاة
السؤال
ما عقوبة تارك الصلاة والمتهاون فيها بعد النصح والإرشاد؟
الجواب
الناس ثلاثة: تارك بالكلية، فهذا كافر بالإجماع.
والثاني: متهاون يصلي ويترك، أي: في غير جماعة كسلاً فيصلي في البيت، وهذا منافق.
والثالث: مصلٍّ مواظب في جماعة المسلمين وهذا مؤمن.
ذاك تارك الصلاة الأول حكمه وعقوبته: أنه كافر وعليه أن يتوب إلى الله؛ لأنه يلزم من كونه كافراً أن تطبق عليه الأحكام الشرعية السبعة وهي: الأول: أنه لا يُزوَّج مسلمةً لأنه كافر.
الثاني: وإذا كان متزوجاً فإن امرأته تحرم عليه، ولا ينبغي لوليها أن يرضى لها أن تبقى في بيت هذا الرجل، وإذا بقيت هي في بيته فإنما يزني بها، وأولادها منه أولاد سفاح وزنا، لأنها حرمت عليه بمجرد كفره وتركه للصلاة، والله يقول: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10].
الثالث: ثم لا يجوز له دخول مكة لأن مكة بلد محرم مطهر مقدس، أرضه طاهرة لا يجوز أن تطأها إلا قدم مسلم طاهر، أما الكافر فهو نجس، يقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] وإذا دخل مكة وهو لا يصلي نجسها، ووالله إنه أنجس من الكلب، يدخل الكلب ولا يدخل هذا.
الرابع: أنه لا يجوز له أن يذبح ذبيحة، ولا أن تؤكل ذبيحته؛ لأنه إذا ذبح فإن ذبيحته تأكلها الكلاب ولا يأكلها مسلم.
الخامس: أنه لا يرث ولا يورث، لا يَرث إذا مات وليه، ولا يُورث إذا مات، بل ماله لبيت مال المسلمين.
السادس: لا يؤاكل ولا يشارب ولا يُجالس ولا يُسلم عليه، ولا يزار إذا مرض، ولا تتبع جنازته، ولا يُغسل ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
السابع: أنه لا يترحم عليه بعد موته، فلا يقال: رحمة الله تعالى عليه؛ لأن الله نهى عن الترحم على الكفار وقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].(31/23)
حكم النظر إلى النساء
السؤال
يقول: مشكلتي أنني أنظر إلى النساء منذ زمن بعيد، وكلما أردت التوبة رجعت إليها؟
الجواب
مشكلتك خطيرة، وأنت عبد شهوة، وينبغي لك أن تحارب نفسك، وهذا الموضوع يخصك، فليس هناك أزرار نستطيع أن نركبها في عينك بحيث إذا رأيت امرأة تغلقها، إنما الأزرار في قلبك، أزرار الشعور بأن الله أمرك وقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] واعلم بأن النظر مضرة عليك، وما دمت عاقلاً فلا تتبع نظرك في منظر يضرك، غض بصرك! فإنه أتقى لربك وأهنأ لقلبك، وأكثر راحة لبالك، وأسلم لدينك، أما إطلاق النظر فليس منه مصلحة بأي حال من الأحوال، لأن الله يقول: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] ووالله ليس هناك أهنأ في الدنيا ممن يغض بصره، ولا أتعس وأشقى ممن يطلق بصره؛ لأن الذي يطلق بصره يرى أشكالاً غريبة وعجيبة وبالتالي:
وإنك إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظرُ
رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ
وطريق السلامة أن تغض بصرك، قد يقول شخص: كيف أغض بصري؟ بالمجاهدة، جاهد! فعينك برأسك ومن الذي سوف يفتح عينك بالقوة، من الذي يفتح عينك ويقول لك انظر؟ الشيطان! الشيطان يأتي إليك ويقول: التفت! هذا منظر جميل؛ لأن بعض الناس يغض عن المناظر العادية، ثم إذا رأى شيئاً باهراً قال: لا يفوتني هذا، لا.
غضك للبصر واجب عن كل منظر، فإذا أتاك هذا الشعور قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.(31/24)
حكم الشدة والعنف عند المصافحة
السؤال
نرجو منك توضيح حكم الشرع في: شخص يصافحني ويشد على يدي ويهز يدي حتى يكاد يخلعها من كتفي أو يكسرها؟
الجواب
لا حول ولا قوة إلا بالله! هذا الذي يشد على يدك ويهزها ينبغي أن لا تعطيه يدك، وإنما تعطيه رجلك لكي يقبضها؛ لأن الإنسان يحتاج إلى تدليك الرجل، وقل له: أما أن أعطيك يدي لكي تحييني فتهز يدي حتى تخلعها من كتفي فلا.
بعضهم إذا كان قوياً يمسكها، فيجمع الأربع الأصابع ثم يضغطها بشدة، فإن قيل له: ما هذا؟ قال: أحبه في الله، هذا ليس حباً في الله، وإنما سوء أدب.
وأيضاً ليس من الأدب أن تعطيه يدك كأنه سارق، بل أعطه بتوسط واعتدال، وشد عليه بلطف وحنان، أما شد العداوة فهذا مخالف لتعاليم الشرع.
السائل: يقول: شخص آخر إذا مددت له يدي صافحني، ولكن يسحب يده مني بسرعة؟ الشيخ: هذا أيضاً من سوء الخلق، وقد لاحظته في بعض الناس، ما إن يعطيك يده إلا ويسحبها، وأنا أحد الناس حياني وعانقني ومد يده، وإذا به بسرعة يسحب يده من يدي، فقلت: ما بك تسحب يدك من يدي، ماذا بك؟ قال: لا شيء، قلت: فلماذا تسحبها بقوة؟ قال: عادة، قلت: بئس العادة! اجعل يدك في يدي حتى أنتهي، ثم مع السلامة، فتسأل عن الحال ثم تفك وأفك، لكن منذ أن تسلم علي تسحب يدك كأني ممسوس، أو كأن يدي ثعبان التف على يدك، أو أن في يدي ناراً أحرقتك، أو نجاسة أصابتك، فإذا كنت لا تريد أن تحييني فلا تحيني أصلاً، فهذا من سوء الأدب من المسلم مع أخيه المسلم.(31/25)
حكم صلاة الرجل منفرداً خلف الصف
السؤال
أفيدونا أثابكم الله: ما حكم من صلى منفرداً خلف الصف؟
الجواب
هذه المسألة موضوع خلاف بين العلماء، دخل رجل المسجد والصف الأول مكتمل ولم يجد أحداً يصلي معه خلف الصف، وانتظر فما رأى أحداً، فماذا يصنع؟ هذه قضية خلافية: مجموعة من أهل العلم يقولون: ينتظر حتى يأتي شخص آخر، فإذا لم يأت أحد فيبقى واقفاً حتى تنتهي الصلاة، فإذا انتهت الصلاة يقيم الصلاة ويصلي وحده، لماذا؟ قالوا: لحديث: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) وإذا صليت وحدك وكبرت وحدك فالصلاة باطلة؛ لأنك منفرد، وهذا قول طائفة من أهل العلم، ويرى بهذا الرأي شيخنا سماحة الوالد عبد العزيز بن باز.
وقال بعضهم: يسحب شخصاً، وردوا عليه فقالوا: لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتموا الصفوف) وهذا نقص من الصف، وإذا سحبته من الصف الأول نقص أجره لأنه رجع إلى الصف الثاني، ثم لماذا زعزعة الصف؟ فإنك بمجرد أن تسحبه فإن الصف يضطرب لأن الكل يتحرك ليسد الخلل، إذاً لا يصح هذا.
وقال آخرون: يبحث له عن فرجة، بحيث يقارب الصفوف قليلاً ثم يدخل، أو يدخل مع الإمام إن وجد، أو ينتظر إن أمكن، فإن لم يجد فيصلي لوحده خلف الصف، قالوا: لأن حديث المنفرد هذا إنما هو إن صلى وهو يجد فرجة في الصف الذي أمامه، انطلاقاً من الحديث الآخر: (أتموا الصفوف الأول فالأول) وبهذا القول يفتي الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين وشيخه الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمة الله تعالى عليهم، وهو الذي يميل إليه القلب لأن الشرع قد حض على الجماعة، والأدلة قد رغبت في الجماعة، وما دام هذا الشخص دخل المسجد ولم يجد ما يفعل فلا تفوته الجماعة، يصلي وأمره إلى الله عز وجل والله أعلم.(31/26)
حكم مسح اليد بعد الأكل بالخبز
السؤال
هناك شاب وجدته في مطعم يأكل ولما انتهى من الأكل مسح يده بقرص العيش؟
الجواب
أعوذ بالله! هذا مما لا يليق بالمسلم، وليس من شكر نعمة الله عز وجل؛ لأن هذا العيش وضع للأكل وليس للتمسح، لكن من سوء الأدب مع الله ومن بطر النعمة أصبح الشخص يمسح يده في قرص العيش، فلا ينبغي أن يمسح به، وعليه أن يتوب إلى الله.
والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(31/27)
أسباب تزكية النفس
النفس جزء من الأجزاء الرئيسية التي يتكون منها الإنسان، وهذه الأجزاء الخمسة هي: الجسد، والروح، والنفس، والعقل، والقلب، وقد اهتم الناس بالجزء غير المهم وهو الجسم، أما الأجزاء الرئيسية الأخرى فقد أهملوها، والنفس هي من الأجزاء التي يجب الاعتناء بها وتزكيتها، لأنه ورد في القرآن ذكر النفس وثواب من زكاها، وقد تكلم الشيخ عن الأسباب التي تعين على تزكية النفس.(32/1)
مكانة الجسد في الإسلام
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الأحبة في الله: النفس جزء من الأجزاء الرئيسية في هذا الإنسان، والإنسان يتكون من خمسة أجزاء رئيسية، ومن المؤسف جداً أن الناس لا يفهمون إلا جزءاً واحداً، وهو الجزء الغير مهم، أما الأجزاء الرئيسية المهمة التي لها أثر في تسيير حياة الإنسان، إما إلى النار وإما إلى الجنة، وإما إلى الهلاك وإما إلى النجاة، وإما إلى السعادة وإما إلى الشقاء، فهي مهملة في حياة الإنسان، ولا يعرف الإنسان إلا الشيء الذي لا يقوم به مدح ولا ذم، ولا يتعلق به نجاة ولا يتعلق به هلاك.
هذه الأجزاء الرئيسية الخمسة أول جزء منها: الجسد: وهذا هو المعروف عند الناس، ولذا يحرص الناس على الجسد حرصاً شديداً، إذا مرض عالجوه، وإذا جاع أطعموه، وإذا عطش سقوه، وإذا برد أدفئوه، وإذا شرب بالحرارة بردوه، وإذا تعب أراحوه، المهم لا يعرفون إلا هذا.
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
الجسد ما ورد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مدح لصاحبه، بل ورد العكس، ورد في مسلم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم) هذه ليست محل نظر الرب، كون صورتك حسنة، وجسمك متين، أو قوي، أو كبير، أو أبيض، أو جميل، هذه لا تنفع عند الله (ولكن إلى قلوبكم وإلى أعمالكم).
بل عاب الله عز وجل على المنافقين ضخامة أجسادهم قال: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].
وألغى الإسلام قضية الافتخار والاعتداد بالأجسام والألوان، والأعراق والأنساب، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] والتقوى عمل قلبي، وعمل نفسي، وليست عملاً جسدياً.
ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء على مجتمع لا يقيم اعتباره إلا لهذه الأشياء، أعلن الوحدة للجنس البشري، وحطم هذه المعايير، وأقام المعيار الصحيح وهو التقوى، حتى انتشر هذا المفهوم في المجتمع الذي لم يكن يقبله ولا يمكن أن يقبله، لكن قوة التأثير -تأثير العقيدة- في تحويل النفوس البشرية أزاحته حتى جعلت عمر بن الخطاب وهو القرشي المخزومي يقول: [أبو بكر سيدنا أعتق بلالاً سيدنا] سيد من بلال وهو عبد حبشي؟! يباع بيع الرقيق، اشتراه أبو بكر وأعتقه، صار سيداً لـ عمر، بِمَ ساده؟! بالجسد! باللون الأسود! بالشعر المحبب! لا.
لكن بالإيمان العميق، بالنفس المشرقة، بالقلب المنير، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إيه يا بلال! والذي نفسي بيده، إني لأسمع قرع نعليك في الجنة- بلال عبد حبشي، لكن رسول الله يسمع قرع نعاله في الجنة، وهو في الدنيا حي- فماذا تصنع يا بلال؟ قال: لا شيء يا رسول الله غير أني كلما أحدثت توضأت، وكلما توضأت صليت لله ركعتين).
عبد في الأرض، لكن له ذكر في السماء له عمل دائماً على طهارة، دائماً في نظافة وفي تزكية، وكلما تطهر، صلى ركعتين، يصل الأمر بالسماء في كل لحظة وفي كل حين.
وابن مسعود الهذلي راع من رعاة مكة، وليس له قيمة عند الناس، أمسك بأذنه أبو جهل لما سمع أنه أسلم، وكاد أن يقطعها من رأسه، وقال: صبأت يا رويعي الغنم، يقول: [فما رددت عليه، لا أقدر أن أقول شيئاً، ولو قال شيئاً لقتله، يقول: ثم أخذني وسحبني إلى الجدار، وأخرج مسماراً من جيبه، ودق أذني في الجدار، وعلقني بمسمعي في الجدار.
يقول: وسال الدم، ومر الصبيان يضحكون عليَّ ولا أحد يستطيع أن يفكني، حتى مر أبو بكر رضي الله عنه ففكني ونزع المسمار والدم يسيل من أذني].
وتمر الأيام، وفي المدينة يصعد ابن مسعود إلى شجرة من أجل أن يأخذ سواكاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتهب الريح فتكشف عن ساقيه وكانتا دقيقتين، وكان جسمه قصيراً من أصغر الصحابة، فضحك بعض الصحابة وتبسم النبي صلى الله عليه وسلم من دقة ساقيه، وقال: (أتعجبون من دقة ساقي ابن مسعود؟ والذي نفس محمد بيده لهما في الميزان عند الله أثقل من جبل أحد) هاتان ساقان دقيقتان، لكنهما تحملان قلباً قوياً.
وبعض الناس ساقه مثل ساق الحمار لكنها لا تنفعه، وبعض الناس ساقه مثل ساق البغل لكنها لا توقظه للصلاة، يصول ويجول في الملعب وإذا جاء وقت الصلاة نام فلا يقوم، هاتان الساقان إلى النار، هذا جسم -والعياذ بالله- إلى جهنم، هذا نجم لكن حقه الرجم، هذا بطل لكنها بطل إلى النار.
إن البطولة والنجومية والرفعة في أن تملأ هذا القلب بمفاهيم الكتاب والسنة، وتملأ هذا القلب بالإيمان، ثم تترجم هذه المفاهيم في سلوك وعمل واستقامة وعبادة ودعوة، وفي خير للناس وللأمة وللمجتمع.
وتدور الأيام دورتها، وتأتي معركة بدر، ويخرج ابن مسعود مقاتلاً في جيش الإسلام، وما مر آخر اليوم إلا وأبو جهل يتشحط في دمه، قد ضربه معاذ ومعوذ ابني عفراء، بضربتين مختلفتين، لكنه لم يمت، ما زال يلفظ أنفاسه، وإذا به يئن من الموت الذي في بطنه، فقد قطعوا بطنه بالسيوف، فقام ابن مسعود على صدره، وأخرج سيفه وأمسك بلحيته، فقال له أبو جهل: لقد ارتقيت مرتقىً صعباً يا رويعي الغنم، يقول: صعدت على مكان لا أحد يصعد عليه -على صدره- قال: فإذا قطعت رأسي فأطل عنقي، أي: لا تقطعني من أعلى الرقبة، اقطعني من أسفل الرقبة، حتى يكون الرأس كبيراً بالرقبة يريد أن يكون رأسه كبيراً حتى وهو ميت، انظروا الكبرياء والأنفة -والعياذ بالله- الغطرسة حتى في الموت، فقام وجز رأسه ثم سحب رأسه يريد أن يذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره بموت عدو الله -فرعون هذه الأمة- فما استطاع أن يحمله؛ لأن ابن مسعود رجل صغير، والرأس هذا رأس ثور -رأس كبير- لا يحمله إلا اثنان من الرجال، فقام وأخرج السيف وخرم في مسمع أبي جهل وربطه بحبل، وأخذ يدهد رأسه وراءه، حتى رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في السقيفة في العريش، ولما رأى الرأس قال: (ما هذا يا ابن مسعود؟! قال: هذا رأس عدو الله أبو جهل، قال: يا ابن مسعود! الأذن بالأذن، والرأس زيادة).
أي: مسمع في مكة بمسمع هنا، والرأس مكسب؟ خرم أذنك وأنت خرمت أذنه والله أعطاك رأسه فوق هذا، هذا ابن مسعود دقيق الساقين، والجسد لا يعمل على خدمته إلا بمقدار ضرورته، لا نقول: لا تخدم الجسم، لا.
اخدم الجسم، أنت مأمور بهذا، أنك إذا مرضت تتعالج، وإذا جعت تأكل، هذا من الدين، لكن ركز على الأجزاء المهمة فيك.(32/2)
أهمية الروح في الحياة
الجزء الثاني: الروح، والمقام ليس مقام تفصيل في هذه الأشياء؛ لأن الموضوع آخر، والروح هذه سر من أسرار الله لا يعلمه البشر: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85] ولا تعرف البشرية من أمر الروح شيئاً، إلا أنها تصعد، قال عليه الصلاة والسلام: (أول ما يتبع الروح البصر).
ولهذا ترى الميت إذا خرجت روحه يشخص بصره، فمن السنة أن تغمض بصره، هذه أوصاف ثبتت بالسنة، لكن كنه الروح وحقيقة الروح، إذا نمت أين تذهب روحك؟ الروح في جسدك ملازمة لك مثل الكهرباء في هذا الجهاز الذي تشغله، إذا لم توجد كهرباء لا يشتغل الجهاز.
جسدك إذا لم تكن فيه روح لا يشتغل، الجهاز البصري موجود، لكن إذا خرجت الروح هل تشتغل العين، العين هي التي ترى، لكن المشغل للعين: والروح إذا مات الإنسان عينه موجودة لكنه لا يرى، وأذانه موجودة لكنه لا يسمع، وأنفه موجود -جهاز الشم- لكنه لا يشم، وقلبه موجود -جهاز ضخ الدم- لكنه لا يعمل.
ولهذا الآن في عمليات زرع الأعضاء، إذا مات الإنسان أخذوا قلبه ووضعوه في وحدة ثانية، ويشتغل قلبه، لماذا يشتغل هنا ولا يشتغل هناك؟ لأن المشغل هناك موجود وهو الروح، إذاً الحياة أين هي؟ في القلب، أو في الرئة، أو في الكبد، أو في الكلى، أو في الجسد كله؟ الحياة بالروح، ما هي الروح؟ سلوا البشر الآن في جامعات الطب، وفي أشهر مستشفيات الدنيا، وتحت المجاهر، تعرفون الروح؟ قالوا: لا.
ولو أن الروح شيء يمكن الوصول إليه لكان الناس قد وصلوا إليه؛ لأنهم قد وصلوا إلى ما لا يمكن أن يوصل إليه، اكتشفوا الفيروسات والجراثيم عبر (مكرسكوب إلكتروني) وفيه راديو بالموجات، يكبر، أنا رأيت بعيني في أحد المستشفيات عبر مكبر يكبر ثلاثة مليون مرة، أي: الملي يجعله ثلاثة كيلو، ووضع أمامي الأخ شريحة عليها عينة بسيطة، وإذا بعالم من الجراثيم لا يعلمه إلا الله، فلو أن الروح يمكن أن ترى أو أن تكشف، لكان الإنسان قد اكتشفها، ولكن قال الله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85].
وقد قرأت في بعض المجلات أن عالماً من علماء الغرب، أجرى تجربة على حياة إنسان يلفظ أنفاسه، ووضعه في صندوق زجاجي وأجرى له وسائل الحياة وجعل يرصد حركته بحيث يعرف أين تذهب الروح، والأجهزة تعمل، وتخرج الروح ولا يدري أين ذهبت، أنت الآن إذا أتيت تنام، تموت وتخرج روحك، لكنها موتة صغرى، يقول الله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] أي: التي لم تمت يتوفاها وسمّاها الله وفاة، يتوفاها في منامها: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى} [الزمر:42].
أي: التي في النوم {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر:42] ولهذا ورد في الحديث: (أنك إذا وضعت جنبك، تقول: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي - إن كانت آخر نومة- فارحمها، وإن أرسلتها، فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين) وفي حديث آخر: (باسمك اللهم أموت وأحيا)، (الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور).
فالنوم موت، لكنه موت أصغر، فما معنى موت أصغر؟ قالوا: تخرج الروح، لكنها لا تذهب بعيداً، بل تخرج خروجاً جزئياً قريباً من الجسد، ويبقى الجسد موجوداً، فأنت تضع أمام عين النائم ألواناً فلا يراها، وتضع عند أنف النائم عطراً فلا يشمه، تحدث أصواتاً بسيطة عند أذن النائم فلا يسمع، تتكلم عنده وهو نائم فلا يسمع، لماذا؟ لأن الروح ليست موجودة؟ أينها؟ هي قريبة، فإذا كنتم تريدونها تأتي تقولون: فلان فلان انهض، فيستيقظ، ضع له رائحة يشم، ضع له منظراً يرى، وأين كان؟ كان موجوداً قريباً، وأنا أشبهها -وقد قلت هذا في مناسبة- مثل الإجازة القصيرة؛ الروح انفصالها عن الجسد في حالة النوم مثل الموظف الذي يعطى إجازة عن عمله لكنهم يأخذون رقم التليفون، إذا أرادوه قالوا: اتصلوا به.
أما انفصال الروح عن الجسد بالموت مثل الفصل، فصل الروح عن الجسد لا تعود إلا يوم القيامة، هذا الجزء الثاني.(32/3)
النفس وأهميتها
الجزء الثالث من الأجزاء الرئيسية: النفس: وهي موضوع المحاضرة: أسباب تزكية النفس.
وأذكر الرابع: العقل، والخامس: القلب، ولسنا بصدد الحديث عنهما، ولكن الحديث سيكون فقط عن النفس.(32/4)
ذكر النفس في القرآن الكريم
النفس جاء ذكرها في القرآن الكريم، وهي من أهم أجزاء الجسد، وعلى ضوء صلاحها وتزكيتها، يكون مصير الإنسان، أو هلاك الإنسان إذا كانت غير صالحة، أقسم الله بها في كتابه، قال عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7 - 10].
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} يقسم الله بالنفس وما سواها، أي: والذي سواها وهو الله.
فألهمها: أي: فطرها، كل نفس ملهمة هذين الأمرين: {فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} كل نفس قادرة على أن تسلك سبيل الفجور، وقادرة على أن تسلك سبيل التقوى، لكن من الذي يحدد الاتجاه إلى الطريق السليم أو الطريق الخطأ، أنت: قد أفلح قد فاز قد نجا من زكاها من صعد بها من طهرها من نقاها من اعتنى بها قد أفلح من زكاها.
وقد خاب: خسر أو هلك -والعياذ بالله- من دساها، دنسها قذرها وسخها مرغها كل العبارات السيئة يمكن أن تضيفها في هذا الجانب.
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} ومن الذي يزكي نفسك ويدسيها؟ أنت، ولا تتصور أن أحداً غيرك يمكن أن يقوم بهذه المسئولية، ولهذا جعل الله الجزاء يوم القيامة على هذا، تستحق الجنة، إذا زكيت نفسك، ومتوعد الوعيد في النار إذا دس العبد نفسه، وأقسم الله عز وجل بها في قوله عز وجل: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:1 - 2].
قوله: (ولا) لا عمل لها، أي: أقسم بيوم القيامة، وأقسم بالنفس اللوامة، ويخبر الله عز وجل في كتابه الكريم أن دورك في عملية هذه النفس هو المجاهدة والنهي لها والرفض لكل حركاتها، وقصرها على الطاعة، هذا دورك أنت، يقول الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] اللهم إنا نسألك من فضلك يا أرحم الراحمين، كم هو عظيم أن يكون مأواك ومأواي الجنة، اللهم إنا نسألك من فضلك يا أرحم الراحمين.
إذا قلت مأواك (الفلة) مأواك المزرعة العمارة، لكن مأواك الجنة، عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فيها القصور العالية، فيها الأنهار الجارية، فيها الثمار اليانعة، فيها الزوجات الجميلات، فيها ولدان مخلدون، وبعد ذلك أبد الآبدين، ليس ستين أو سبعين سنة ثم تخرج.
إذا نزلت من العمارة وسكنت فيها ستين سنة، أنزلوك على رأسك، لكن في الجنة: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة:37] {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [النساء:57]، في نعيم لا يتصوره العقل، يقول الله عز وجل: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] كل ما خطر، اذهب بخيالك كل مذهب، وتصور كل نعيم ثم قف بخيالك، عاجزاً أن تتصور ما في الجنة من النعيم، وأعلى نعيم في الجنة وأعظم نعيم في الجنة النظر إلى وجه الله الكريم، في الدار الآخرة، هل هناك أعظم من هذا النعيم؟ نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهله، اللهم متع أبصارنا بالنظر إلى وجهك الكريم في الدار الآخرة يا رب العالمين.(32/5)
تفسير كلمة الهوى
هل هناك أعظم من سماع خطاب رب العالمين في الجنة؟ يقول عليه الصلاة والسلام: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) يكلمك رب العالمين، من أنت؟ أي رفعة وأي عزة؟ وأي مكان أعظم لك من أن تكون طرفاً في مناقشة وفي محادثةٍ الله الطرف الثاني فيها؟ وأي فخر وأي عزة -أيها الإخوة- لماذا نضيع هذا؟ ومتى تناله؟ بهذا الشرط: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] فقط خاف مقام الله، خاف وقوفه بين يدي الله، فاتق الله وضع بينك وبين عذاب الله وقاية، وبعد ذلك انه النفس عن الهوى، ما هو الهوى؟ المزاج.
الذي يقول أكثر الناس الآن: على مزاجي، أو على هواي، لا.
لست على كيفك ولا على مزاجك، ولا على هواك، أنت على مراد خالقك ومولاك، أنت على مراد ربك، أنت عبد مقهور لمعبود قوي قهار، أمرك ونهاك، لم يدع في حياتك جزئية من جزئياتك إلا وعليها أمر ونهي، كل حركة من حركاتك عليها أمر ونهي، منذ أن تفتح بصرك، من يوم أن تستيقظ إلى أن تغمض بصرك وأنت نائم، ما تنفك عن أمر لله أو نهي لله.
حتى المباحات ليس لها علاقة في الدين، افعلها أو لا تفعلها، لكنك إذا فعلتها بنية حسنة تتحول إلى دين، يقول عليه الصلاة والسلام: (وفي بضع أحدكم صدقة) ويقول: (تبسمك في وجه أخيك صدقة) ويقول: (إماطة الأذى عن الطريق صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة) كل هذا تعظيم من الله سبحانه وتعالى لشأن هذا الإنسان.
وقد كنت مرة من المرات، أجلس مع رجل في بلد إسلامي في مؤتمر للإعجاز العلمي، ومعنا رجل كافر من أشهر أهل الأرض في علم الجولوجيا وهو من إحدى البلدان الغربية، وألقى محاضرة على الناس، ودلل بالدليل العلمي عن طريق الشرائح والأبحاث والصور التي التقطت عن طريق الأقمار الصناعية، والتي تغوص حتى في باطن الأرض، دلل على أن كل جبل في الدنيا له وتد في الأرض، وقرأ قوله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} [النبأ:7] الجبال أوتاد لتثبيت الأرض: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل:15].
أي: لئلا تميد بكم، لولا الجبال كانت الأرض تميد، لكن الله أرساها: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات:32].
ثبت الأرض بالجبال، وكل جبل جزئين منه فوق وثلاثة أجزاء تحت، إذا وضعت وتداً للخيمة أي جزء أكثر في الأرض فوق أو تحت؟ الذي تحت، لو جعلت -مثلاً- الجزء الأعلى سقطت الخيمة، لكن تثبت الخيمة بوضع ثلثي الوتد أسفل، وهذا الذي يحصل الآن في الجبال.
وعندما انتهى من المحاضرة سألت الذي بجانبي، وكانت المحاضرة مترجمة وعندي جهاز يترجم، قلت: هذا آمن بلسانه، كلامه كله يدل على الإيمان حتى القرآن قرأه، هذا مسلم؟ قال: لا.
لم يسلم إلى الآن، فقلت في نفسي: سبحان الله! سبحان الله! يقول الله: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأعراف:146].
ثم سبحان الله في ثالث ليلة وكنا في المطعم، جلست أنا وأحد الإخوة نتعشى فعرف ذاك، قال: لنذهب نتعشى معه -وكان وحده- قلت: لا والله لا أذهب معك، كيف آكل مع كافر؟ قال: لنذهب يا أخي! ندعوه إلى الإسلام، قلت: ليس عندي مانع، فقمنا وأتينا إليه وجلسنا فعرفه بي وقال: فلان من السعودية ويدعوك إلى الإسلام، وقد أعجب بمحاضرتك، وسمع استشهاداتك العلمية، فقال لي -انظروا شبهته، شبهة بسيطة جداً هي التي أوقفته عن الإسلام- يقول: أنا أعرف أن الإسلام هو الحق، وأن هذا القرآن من عند الله، وأن الرسول نبي من عند الله، إذ لا يمكن أن يعرف هذا الكلام إلا رسول موحى إليه، ولكني أكره في الإسلام شيئاً واحداً، وهو: أن الإسلام يتدخل في جزئياتي الشخصية، يجعلني آكل نوعاً معيناً من الطعام، وأترك أنواعاً، ويجعلني آتي نوعاً من النساء وأترك أنواعاً، وأنا إنسان أحب أن أكون حراً آكل ما أشاء وأرفض ما أشاء، وأنكح من أشاء، قلت: هذه فقط، قال: فقط، قلت: قل له: نحن المسلمون نعتبر هذا وساماً نعلقه على رءوسنا، أن الله يكرمنا لدرجة أنه يحدد لنا أمورنا بحيث لا نأكل إلا بأمره، بدلاً من أن آكل بشمالي آكل بيميني، ومن الذي أمرني أن آكل بيمني؟ ربي، هذا شرف أم ليس بشرف؟ شرف أن الله يأمرك كيف تأكل، بل يعلمك كيف تدخل الحمام وكيف تخرج من الحمام، أي عزة للإنسان نالها في ظل الإسلام.
ثم قلت له: هذه الشهوات التي تتمتع بها، وهذه الأمور أليس فيها طيب وغير طيب؟ بالعقل وبصرف النظر عن الدين.
قال: نعم.
قلت: أي شيء حرمه عليك الشرع والدين وهو طيب؟ وأي شيء أباحه لك الشرع وهو غير طيب؟ قال: لا يوجد.
لأنه يعلم أن الزنا حرام وخبيث يجر إلى الإيدز وإلى الفساد.
وآخر ما قرأت في مجلة أن في بلد إسلامي -قريب- فيه فنادق تمارس فيها الجرائم، وبعد ذلك صدر أمر بالقبض على البغايا، وحللوا فوجدوا إحدى وثلاثين منهن يحملن فيروس الإيدز، الذي يأتي عن طريق الزنا، والعلاقات المحرمة والعياذ بالله.
فالله عز وجل لم يحرم الزنا وفيه خير: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] فاعترف الرجل لي أن كل ما أحله الله طيب، وكل ما حرمه الله خبيث، لكن: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:41].(32/6)
نهي النفس عن الهوى
النفس هذه مهمتك أن تنهاها عن الهوى والمزاجية، وأن تخضع الهوى للشرع، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) هذا معيار، هل هواك الآن ومزاجك تبعاً لما جاء به الرسول أم ما جاء به الرسول تبعاً لهواك؟ بعض الناس الآن ما جاء به الرسول من الدين تبعاً لهواه، إن أراد شيئاً أخذه وإن لم يرده تركه، ولهذا يصلي الظهر في الدوام، ولا يصلي الفجر في المسجد، ولا يصلي العصر في المسجد، لماذا؟ لأن صلاة الظهر توافق الهوى؛ لأنه يريد أن يتخلص من المكتب ويذهب يتطهر ويجلس ويتأنى ويصليها من وقت الدوام، ولهذا لا أحد يترك صلاة الظهر في المسجد.
لكن اختبره بصلاة العصر، إذا خرج الساعة الثانية والنصف من الدوام، ووصل البيت الساعة الثالثة إلا ربع أو الثالثة تماماً، وتغدى وملأ بطنه، ثم أذن العصر، فهنا يكون الإيمان الصادق، هل ما جاء به الرسول هو الذي يحكمك، أم الهوى؟ وإن كنت قد نمت وتركت الصلاة فالذي يحكمك هواك، وهو ليس تبعاً لما جاء به الرسول، ولكن ما جاء به الرسول تبعاً لهواك، أخذت منه صلاة الظهر وضيعت العصر، وبعد ذلك يقوم الساعة الرابعة والنصف أو الخامسة ويقعد يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان، قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً، ثم ذهب يصلي المغرب، والعشاء ربما، لكن إذا بحثت عنه في الفجر لا تجده، ما هذا الانتقاء؟ كأنه ينتقي ويختار، وكأنه يخطئ الواحد القهار، فيأخذ الذي يناسبه، ويترك الذي لا يناسبه، هذا ليس بدين، ولهذا يقول الله: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] أي: معلوماً مفروضاً محدداً.
ليس لك حق أنك تأخذ الذي تريد وتترك الذي لا تريد، أنت عبد، والله يقول: انهض الساعة الرابعة والنصف للصلاة فتجعلها الساعة السابعة من أجل الدوام، وتقوم تصلي وتذهب للدوام، وإذا لم يكن هناك دوام فإنه لا يصلي إلا الساعة العاشرة؛ لأن الخميس والجمعة ليلة سهرة، وصلاة الفجر الله يرحمها، ما هذا -أيها الإخوة-؟! (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه -مزاجه، فكره- تبعاً لما جئت به) ويقول عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] اتخذ إلهه هواه ليس مولاه، ولا خالقه ولا سيده، فماذا حصل لما اتخذ إلهه هواه: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] أضله الله على علم؛ لأنه اتخذ إلهه هواه، ولو أنه اتخذ إلهه مولاه لهداه الله، لكن لما اتخذ إلهه هواه أضله الله: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} [الجاثية:23] ختم على سمعه فلا يسمع كلام الله، وإن سمع لا يدخل، تصبح أذنه فيها وقر، يسمع كلام الله فلا يبالي كأنه يكلم غيره، وقلبه مقفل لا تدخل فيه موعظة: {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23].
غشاوة أي: حواجز لا يرى بسببها طريق الخير، ولا يرى طريق النور، ويراها بصورة غير صحيحة، قال عز وجل: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23] من أين يأتي هذا كله؟ نتيجة اتخاذك للهوى إلهاً من دون الله عز وجل.(32/7)
دور الإنسان أمام نفسه
أقول: ما هو دورك أمام هذه النفس؟ دورك أمامها الحرب، إن أردت النجاة، فأعلن الحرب على النفس، وقل لها: يا نفس! لا بد من أن نعرف كيف نتعامل معك؟ وأن نخضعك غصباً لأمر الله، النفس من طبيعتها أنها تحب الدعة وتكره القيود، وتحب الشهوات وتكره الطاعات، وتحب النوم وتكره الصلاة، وتحب الأغاني وتكره القرآن، وتحب الدخان وتكره الطيبات، لماذا؟ لأنها نفس أمارة بالسوء، تحب هذا كله، لكن أنت ما دورك مع النفس؟ أن تأخذها بصوت التربية والتهذيب، ولا تكن عبد نفسك.
يقول ابن القيم رحمه الله: الناس رجلان، رجل امتطى نفسه فجعلها فرساً له يسير بها في طاعة الله، ورجل ركبت عليه نفسه فجعلته حماراً لها تسيره في معصية الله.
ولهذا بعض الناس حمار نفسه، تقول له: أين أنت؟ قال: والله نفسي قالت: أسهر الليلة في الفندق، والليلة الثانية يقول: نفسي الليلة أسهر على فلم نفسي تقول لي أن أنام، عجيب هذا! نج نفسك إذا مت، دعها تنفعك ذاك اليوم: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ} [النازعات:40].
وأنت جالس على نفسي نفسي، لا.
خالف النفس، لابد من مخالفة النفس ومحاربة النفس ومعاداة النفس حتى تستقيم على أمر الله.(32/8)
أنواع النفوس
النفوس كما ذكرها ابن القيم، ثلاثة أنواع: نفسٌ أمارة بالسوء، ونفسٌ لوامة، ونفسٌ مطمئنة، وقد جاء ذكرها في القرآن الكريم، متى تكون أمارة؟ ومتى تكون لوامة؟ ومتى تكون مطمئنة؟ قال ابن القيم رحمه الله: النفس الأمارة بالسوء هي: نفس الإنسان بالبداية؛ لأنها تريد أن تهلكك، فهي تأمر بالسوء، وليست آمرة، لا.
أمّارة، وعلماء اللغة يقولون: هذه العبارة تعني: المبالغة، عندما تقول: فلان يأكل، لكن إذا قلت: فلان أكّال، أي: لا يترك شيئاً، فلان لاعب لكن فلان لعّاب، صيغة مبالغة.
هذه النفس ليست آمرة، بل أمَّارة، أي: شأنها باستمرار، أن تأمر بالسوء، والسوء أي: السيئات، والمعاصي، والشرور، والآثام.
وأعطيك مثالاً الآن، في رمضان إذا وقفت بعد الإمام في صلاة التراويح، كم يصلي أكثر الأئمة؟ عشر ركعات أو ثمان ركعات، وفي الحرم يصلون عشرين ركعة، والصلاة لا تستغرق أكثر من ساعة، كيف تدخل نفسك عليك في هذه الصلاة؟ وتضخمها وتطولها وتهولها، وإذا أكملت التسليمة الأولى، أتت النفس وقالت: يالله، بقي تسع ركعات من يقوم لها ويقعد؟ وكل قليل تراه ينظر في الساعة، ويقدم رجلاً ويؤخر أخرى، وإذا ركع رجم بنفسه من أعلى، وإذا قام الإمام من التسليمة الثانية جلس إلى أن يقرأ الإمام الفاتحة، وبعضهم يجلس إلى أن يركع الإمام ثم يقوم.
من أجل ساعة لله كيف تفعل النفس؟ وعندما تكمل صلاة التراويح، ويخرج إلى السوق، والزوجة الله يكرمك تقول: ما عندي حذاء خذ لي حذاء، وأين تذهب بها؟ في سوق الأحذية الأوروبية، وتدخل من معرض إلى معرض ومن دكان إلى دكان، وبعد ذلك تخرج وتقول: لم أجد المطلوب، وتصل البيت تنظر الساعة من الساعة الحادية عشرة إلى الساعة الثانية، ثلاث ساعات من أجل حذاء وما تعبت، وساعة من أجل الكبير المتعال وخرجت وأنت متعب.
يقول بعضهم: يا شيخ! الإمام هذا فتان، والله ما أكمل الصلاة إلا وقد كسر ظهورنا، الله يكسر ظهره، الله ينصرنا عليه، والله لا أصلي معه، لماذا؟ قال: يا شيخ! هذه ليست تراويح، هذا تهجد، يتهجد بنا من أول رمضان، لا إله إلا الله! انظر نفسك أمام مشاهدة كرة القدم، إذا انتهى الوقت النظامي للمباراة، وهو تسعون دقيقة، والمباراة على كأس والفريقان متعادلان، يتمنى كل مشاهد ألا يدخل جول في تلك اللحظات، لماذا؟ قال: من أجل التمديد لوقت إضافي، لكي نرى كذلك نصف ساعة كرة، وهم وقوف في المدرجات، يصلون لكن للكرة، لماذا النفس تجعلك هنا ولا تجعلك هناك؟ إنها أمارة بالسوء، خذ صحيفة وخذ مصحفاً، الصحيفة تقرؤها حرفاً حرفاً، من أولها إلى آخرها، والمصحف من أول ما تراه، بعضهم يقول: شكراً ما نريد، الحسنات كثيرة لا نريد قرآناً.
لكن ما هو دورك أنت مع نفسك؟ دورك أن تتدخل، تأتي النفس تقول لها: الصلاة فتقول: إنها متعبة، تقول: لا.
صلي، والله لن تخرجي إلا بعد آخر ركعة، يقول لي أحد الإخوة من إخواننا الشباب جزاه الله خيراً، يقول: سمعت درساً لك، وآليت على نفسي أني لا بد أن أربيها، وقلت: أول تربية لها في رمضان، يقول: لأول مرة في حياتي أصلي عشرين ركعة في الحرم، يقول: كنت أصلي تسليمة أو تسليمتين وبعد ذلك أخرج، وإذا تقويت ثلاثاً أو أربعاً، لكن أكمل عشرين ركعة، هذا مستحيل في حياتي، يقول: وفي أول ليلة من رمضان، قلت: والله لو تكسرت تكسيراً سوف أصلي عشرين ركعة، يقول: وصليت وجاء آخر رمضان والله ما وسوست لي ولا قالت لي كلمة؛ لأنها عرفت أن معها رجلاً، لكن لو أنه جلس يماليها ويشاورها، قالت: نم.
الآن شارب الدخان، هل يستطيع أن يشرب الدخان في نهار رمضان؟ لا يفكر أبداً؛ لأنها عرفت أنه مصمم لا يقرب الدخان، لكن إذا أفطر وأذن للمغرب وأتى بتمر، تأتي النفس وتقول: واحدة فقط، وقام يدخن، ويشرب، لماذا ما أتته في العصر أو الظهر؟ لأنها علمت أنه لا يطيعها، وهذه النفس كما يقول البوصيري:
النفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فاصرف هواها وحاذر أن توليه إن الهوى ما تولى يَصم أو يُصم(32/9)
أمثلة من حياة السلف على مجاهدة النفس
أحد السلف، وهو صلة ابن أشيم العدوي، الشهيد ابن الشهيد، كان في الجهاد، ومات شهيداً، وكان يقوم في الليل، ويجاهد في النهار، كانوا فرساناً في النهار رهباناً في الليل، يقال عنه: أنه كان إذا قام من الليل ثم فتر، أخذ السوط وقام يضرب رجليه، ويقول: والله إنك لأحق بالضرب من دابتي، تتعبين من الصلاة، فتقوم رجله تصلي، إما صلاة وإما ضرب.
هؤلاء الرجال يا إخواني! وهؤلاء الأبطال، هم الذين عرفوا كيف يربون أنفسهم، يقول ثابت البناني: [جاهدت نفسي على قيام الليل عشرين سنة، وتلذذت بها عشرين سنة أخرى].
ويقول سعيد بن المسيب: [والله ما نظرت إلى ظهر مصلي أربعين سنة] في الصف الأول، لا يُعرف وجهه، ولا سمع الأذان من خارج المسجد أربعين سنة، ما يؤذن المؤذن إلا وهو في الروضة إلا ليلة واحدة سمع الأذان من خارج المسجد وهي ليلة زفاف ابنته على أبي وداعة، وأبو وداعة تلميذ من تلاميذه، ماتت زوجته، ولما توفيت جلس في عزائها ثلاثة أيام فافتقده الشيخ سعيد بن المسيب إمام التابعين، فقال: [أين أنت؟ قال: توفيت زوجتي وجلست في عزائي والتجهيز لها، قال له: أتريد زوجة؟ قال: من أين؟ -فقير ما عنده شيء- قال: أزوجك ابنتي، ترضى؟ قال: نعم.
أرضى] ومن الذي لا يرضى أن يتزوج بنت سعيد بن المسيب وقد خطبها أمير المؤمنين الخليفة الأموي لولده، وجاء بعشرات الجمال محملة بالذهب والفضة والملابس، ولما وصلت إلى المدينة، ردها وقال: ابنتي مخطوبة، لا نريد أن نزوجها، ثم زوجها لـ أبي وداعة، وعقد له ذاك اليوم بعد العصر، وراح أبو وداعة إلى البيت، ولما جاء بعد المغرب، تذكر سعيد بن المسيب أن أبا وداعة، سينام هذه الليلة وليس عنده زوجته، وهذه زوجته عنده ولا يجوز أن يبقيها في بيته، فقال للبنت: انهضي، قالت: أين؟ قال: زوجتك بأحد التلاميذ، ولا بد أن تنامي هذه الليلة في بيته، قالت: حسناً.
ما قال له: نريد قصر أفراح، ونريد شرعة باثني عشر ألفاً، ثم في النهاية يطلقها بعد شهر؛ لأنه زواج قام على غير طاعة الله، وما قال: نريد قصراً فخماً، وستين خروفاً، وأربعين أو خمسين سيارة، وسيارة مزينة يلبسونها بعشرة آلاف، زينة السيارة! أين هذه العقول الضالة؟ انظروا هذا الرجل العظيم قال لابنته: انهضي، وذهبت معه في يده حتى وصل إلى باب أبي وداعة وطرق الباب وهو يؤذن للعشاء، قال: [من بالباب؟ قال: سعيد، قال: من سعيد؟ -يقول أبو وداعة: تصورت كل سعيد في الدنيا إلا ابن المسيب؛ لأن هذا الوقت ما هو في البيت في المسجد- قال: سعيد بن المسيب، قال: ففتحت الباب، يقول: فلما فتحت الباب، أخذ البنت ودفعها من ظهرها، وقال: هذه زوجتك، ذكرنا أنك تنام هذه الليلة عزباً فكرهنا، خذ بارك الله لك] فدخلت بنت سعيد بن المسيب، وجلس معها أياماً، ولما أراد أن يذهب إلى بيت الشيخ سعيد من أجل أن يطلب العلم، قالت: إلى أين؟ قال: إلى الشيخ سعيد؟ قالت: ولم؟ قال: أطلب العلم، قالت: اجلس فعندي علم سعيد.
تقول: الذي عند سعيد هو في رأسي، كان يربيها على الدين، ما رباها على الفساد، ولا أحضر لها دشاً من أجل أن يمطرها بما في الأرض من فساد، كما يفعل بعض الآباء اليوم فيذهب يشتري دشاً بخمسة عشرة أو بعشرين ألفاً ويضعه فوق بيته من أجل أن يغرق زوجته ويغرق ابنته ويربيهم إلى آخر الليل وهم يطاردون الإذاعات والقنوات، من قناة إلى قناة، كلما أغلقت قناة حولوا قناة أخرى، حتى أن بعضهم إذا جاء ينام، لا يستطيع أن ينام، لا يستطيع أن يغمض عينه، قد يبست عينه، ثم يغمضها حتى تغمض وصلاة الفجر الله المستعان لا حول ولا قوة إلا بالله! فلا بد -يا إخوة- من مجاهدة النفس.
الأنفس كما قلت ثلاثة: أولاًَ: أمّارة بالسوء: وهي نفس الإنسان في بداية الطريق، وبعد ذلك إذا رأت أنه رباها، اعتدلت وصارت تأمر بالخير، لكنها أحياناً تسقط وتأمر بالشر، لكن تلومك على فعل الشر، ثم بعد ذلك إذا ربيتها أكثر ترفعت، وصارت نفساً مطمئنة، وإذا أصبحت مطمئنة لم يكن لها مكان في الدنيا إلا الجنة، يقول الله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].(32/10)
أسباب تزكية النفوس
وموضوع الدرس هو (أسباب تزكية النفس) كيف تزكي هذه النفس؟ خذوا الأسباب:(32/11)
تلاوة كتاب الله
السبب الأول: تلاوة كتاب الله الكريم: أعظم علاج لهذه النفوس، وأعظم دواء لهذه القلوب، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:57 - 58].
هذا هو العلاج الرباني والدواء الإلهي لأمراض النفوس، كتاب الله، ويوم أعرضت الأمة عن كتاب الله مرضت وتدهورت، بل ماتت إلا من رحم الله، تصور أنك إذا قرأت القرآن شافى الله قلبك ونفسك، أجل علينا أيها الإخوة بالعودة الصادقة إلى كتاب الله.
أولاً: قراءة القرآن بالتجويد والترتيل؛ لأن الله أنزل القرآن هكذا، لا يقرأ كما تقرأ الصحيفة لا.
لا بد أن تقرأ القرآن بالترتيل، يقول الله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4] لا بد من الترتيل، ويقول ابن الجزري في منظومته:
والأخذ بالتجويد حتم لازم من لم يجود القرآن آثم
لأنه به الإله أنزلا وهكذا منه إلينا وصلا
وهو أيضاً حلية التلاوة وزينة الأداء والقراءة
الآن إذا قرأ رجل بتجويد، وقرأ آخر بدون تجويد، ما رأيكم بالقراءتين؟ ومعنى تجويد أي: تحسين وضبط.
عندما تقول للعامل وهو يبني لك جداراً، تقول: جوِّد البناء، جوِّد المكان، أي: أتقن، كذلك القرآن هو أولى بالإتقان، وأولى بالتجويد، فأولاً: يجب أن تعود إلى القرآن عن طريق شيخ، والحمد لله لقد قامت الحجة على العباد، ما من مسجد إلا وفيه عالم يدرس القرآن للأطفال والكبار، قالوا: الكبار مشغولون، نقول: القرآن ما أنزل لمخاطبة الصغار -يا إخواني- القرآن هذا للأمة كلها كبيرها وصغيرها، يجب أن يجلس الكبير والصغير والشيخ والطفل كلهم عند ركب العلماء لتعلم القرآن، وهل لك عمل غير كلام الله؟ أي: ما تتجرد أن تكون مشغولاً بالقرآن، مشغول بالجلوس في الدكاكين وفي مكاتب العقار، وفي الشوارع، وعلى رءوس الطرقات، مشغول بمتابعة الأخبار والمباريات، هل هذا شغل؟ أشغل نفسك بكلام الله، إنها والله مصيبة على الأمة، أن تعزف عن القرآن.
فمرضت النفوس بأسباب عدم التداوي بالقرآن الكريم، ولذا نقول لكل مسلم من الآن: برمج أيامك ووقتك، بين المغرب والعشاء، لا تشتغل بعمل، ولا تذهب إلى وليمة ولا تذهب إلى سوق ولا إلى مكان إلا في المسجد، ابدأ بالحفظ؛ لأن الله عز وجل أثنى على الذين يحفظون القرآن، قال الله عز وجل: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] اللهم اجعلنا وإياكم منهم.
وأشراف الأمة هم حفظة القرآن الكريم، ومن حفظ القرآن فقد استدرج النبوة غير أنه لا يوحى إليه، والله أثنى على القراء في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29] كل تجارة معرضة للربح والخسارة إلا التجارة مع الله لن تبور، ما هي التجارة؟ قال عز وجل: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:30] قراءةً وحفظاً وعملاً وتطبيقاً ودعوةً.
يقول لي أحد المسئولين في أحد السجون: كان عندهم سجين محكوم عليه بعشرات السنين في قضية مخدرات، يقول: وفشلت كل وسائل التوجيه والضرب والتعزير له عن السلوك السيئ في السجن فهو شرير، ويضاف -أيضاً- فله سنوات على ما هو فيه ولا يبالي، يقول: ويأتي أحد الدعاة، ويتكلم مع السجناء، ويدل الناس على القرآن الكريم، ثم يأتي هذا المسجون بنفسه ويسأل قال: أنا أسمع أن هناك مكرمة للذي يحفظ القرآن أنه يسقط عليه من سنوات السجن، هل هذا ينطبق عليَّ؟ قال: لا أدري نسأل لك، وسأل آمن السجن، قال: نعم.
ينطبق عليه.
قال: إذاً أنا بدأت أحفظ، يقول: ويحفظ القرآن كاملاً عن ظهر قلب، وهو صاحب مخدرات، يقول: وتستقيم أخلاقه وتتغير حياته، ولم يعد ذلك الشرير، ولا ذلك السيئ، وإنما ذلك الرجل الهادئ، لا نراه إلا والمصحف في يده، لا نراه إلا قواماً في الليل، ويتغير كل الذين كانوا معه في غرفته إلى طيبين، فقد أثر فيهم، ويقول: أيام وليال وتأتي المكرمة ويخرج من السجن، وكان قد دخل في السجن في قضية أخرى، وكلما أخرجوه عاد، يقول: في آخر مرة عندما خرج وهو حافظ القرآن، خرج داعية إلى الله، واستقامت أموره، وصلحت أحواله، وهو الآن من أحسن الناس ديناً في المنطقة الغربية، بسبب القرآن.
أول شيء وأول سبب وأعظم سبب لتزكية النفس القرآن، وستبقى النفس هينة وستبقى النفس مريضة كلما ابتعدت عن القرآن الكريم، ولذا نقول قولاً -أيها الإخوة-: اعمروا حياتكم بكتاب الله، ولا يمر عليكم يوم إلا بتلاوة من القرآن، واقرأوا في مجالسكم ومع أولادكم شيئاً من القرآن، واسمعوا إذاعة القرآن، واسمعوا أشرطة القرآن، واجعلوا أنفسكم دائماً مع القرآن، هذا السبب الأول.(32/12)
دراسة سنة النبي صلى الله عليه وسلم
السبب الثاني: من أسباب تزكية النفس، دراسة سنة النبي صلى الله عليه وسلم: فإنها المكملة للقرآن والموضحة له، وهي أحد الوحيين، وهي التي فصلت لنا كتاب الله، وما جاء صلى الله عليه وسلم بشيء منها من عنده، وإنما هو من عند الله: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4].
وما ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه، فاجعل لك موعد مع السنة، اختر كتاباً من كتب السنة، وليكن بلوغ المرام، أو رياض الصالحين، واقرأ يومياً حديثاً واحداً، ثم أتبعه على زوجتك، وعلى أولادك، ثم بالتليفون كلم به زميلك، ثم احفظ في كل يوم حديثاً، كم يكون لديك بعد سنة؟ تكون عالماً من العلماء، إذا عندك ثلاثمائة وستون حديثاً، خلال سنة واحدة، هذا علاج للنفس، لكن القرآن مرفوض والسنة مرفوضة، والنفوس مريضة ومتى تتعالج، أردنا أن نعالجها فوضعنا (الستلايتات) فماتت، كان فيها بصيص، فجاء هذا وقضى على البقية الباقية، إن علاج النفوس في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(32/13)
كثرة ذكر الله عز وجل
الدواء الثالث من الأدوية، التي تعالج النفس وتزكيها: كثرة ذكر الله: وهذا كالإجماع عليه بين الأمة، يقول ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى في الجزء العاشر في السلوك، وقد سئل عن أفضل عمل قال: أما أفضل عمل فهو كالإجماع بين الأمة أنه ذكر الله، ويستشهدون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في السنن: (ألا أدلكم على أفضل الأعمال عند ربكم، وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم، قلنا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله عز وجل).
ويروي الترمذي عن عبد الله بن بشر وذكره صاحب جامع العلوم والحكم وأضافه إلى الأربعين النووية، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال: (يا رسول الله! كثرت عليّ شرائع الدين، فأخبرني بعمل أتشبث به وأوجز -يقول: لا تكثر عليّ، ولكني سأمسك العمل هذا، فقال له صلى الله عليه وسلم في جواب يدل على نبوته، بل من دلائل نبوته أنه أوتي جوامع الكلم- قال له: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) لأن اللسان الرطب من ذكر الله لا يمكن أن يعمل المعاصي، هل الزاني يزني ويذكر الله؟! هل شارب الخمر إذا شرب الخمر يذكر الله؟! الذي يشرب الدخان ويقول: بسم الله الرحمن الرحيم! الذين ينظر إلى الأفلام هل يمكن أن يذكر الله؟ لا.
من الذي يعمل هذه الجرائم والمعاصي؟ الغافل عن الله، لكن من يذكر الله، ورطب لسانه بذكر الله، وعينه تدمع من خشية الله، وقلبه منور بخوف الله، هذا ينجح بإذن الله، ويفوز في الدنيا والآخرة.
فكيف أذكر الله؟ يقول الله تبارك وتعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] والله يمتدح الذاكرين فيقول: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35] ويقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] ما هو الذكر؟ قال العلماء: الذكر خمسة أنواع: النوع الأول: ذكر الله عز وجل عند ورود أمره، إذا ورد عليك أمر الله وقمت بتنفيذ أمره فأنت ذاكر حقيقي، لأن الله يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] لكن عندما تنام وهو يؤذن وتقول: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر وأنت نائم، فأنت ذاكر صوري، لا.
إذا سمعت أمر الله فانهض، هذا الذكر الحقيقي، ذكر الله عند ورود أمره.
النوع الثاني: ذكر الله عند ورود نهيه، إذا كنت في الشارع ورأيت امرأة متبرجة فاتنة، وذكرت الله وخوفك من الله، وذكرت أن الله مطلع عليك، وغضيت بصرك، هذا الذكر الحقيقي، أنت ذاكر لله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136].
هذا أهم شيء، أن تذكر الله عند الأمر فتقوم به، وأن تذكر الله عند النهي فتتركه.
النوع الثالث: ذكر الله في الأحوال والمناسبات: فإنه ما من حالة إلا ولها ذكر من حين أن تستيقظ حتى تنام، إذا استيقظت تفتح عينك وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور.
وعندما تدخل الحمام، قبل أن تدخل، تقدم اليسار وتقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم، فإذا أكملت الوضوء وقضاء الحاجة وخرجت، تقدم اليمنى وتقول: غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني.
وكذلك عند دخول المسجد والخروج منه، وأذكار النوم وأذكار اليقظة، وأذكار الأكل، وأذكار النكاح، وأذكار لبس الثوب، وأذكار نزول المطر، وكل شيء له ذكر.
وحالة الذكر يجب عليك أن تعرفها، وتحفظها وتقولها وهذا معنى حديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم: (كان يذكر الله في سائر أحواله) أي: في كل أحواله، وفي ملابساته، التي كانت تلابسه خلال حياته.
النوع الرابع: الذكر العددي الذي شرعه الشارع وحدد فيه عدداً معيناً، مثل قوله صلى الله عليه وسلم والحديث في البخاري: (من قال في يوم مائة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كتب الله له مائة حسنة وحط عنه مائة خطيئة، وكانت حرزاً له من الشيطان، وكان كمن أعتق عشر رقاب، ولم يأت أحد بأحسن أو أفضل مما جاء به إلا رجل قال مثلما قال أو زاد).
لا بد أن تأتي بالمائة بالضبط؛ لأن العدد هنا مقصود، ما دام حدد العدد في الشرع، فإن العدد مراد، وإذا زدت فلا بأس، لماذا؟ لأنه في الحديث قال: (أو زاد) لكن إذا لم تأت زيادة فحدد مثل حديث مسلم: (ومن قال عقب الصلاة: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين، ثم قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفر الله له ذنوبه ولو كانت كزبد البحر).
انظروا الجزاء -يا إخواني- والعمل بسيط، العمل لا يتجاوز دقيقتين، لكن الجزاء أن يغفر الله ذنبك ولو كان كزبد البحر، لكن الشيطان يحرص على ألا تقولها، فيذكرك بشيء حيث تخرج قبل أن تقولها، أو تقولها بغير عدد، ما إن ينصرف الإنسان من الصلاة حتى يبدأ يقول: كذا، وهذا ليس تسبيحاً، هذه بسبسة، التسبيح: سبحان الله والحمد لله والله أكبر، سبحان الله والحمد لله والله أكبر، سبحان الله والحمد لله والله أكبر، وإذا قاطعك أحد وشغلك لا تنشغل به، تعد هذا كالذهب، والله أعظم من الذهب، والله لسبحان الله هذه أعظم من الدنيا وما عليها، إذا كانت تملأ ما بين السماء والأرض كيف تضيعها؟ لكن بعضهم يسبح ولا يعد، ولا يعلم أنهن مستنطقات، فعليك أن تعد وتحصر حتى تأتي بتسعة وتسعين، ثم تقول: لا إله إلا الله، وترجو الله أن يقبل منك، الآن إذا استلمت الراتب، تعده أولا تعده؟ تعده وقلبك مفتح وعيونك مركزة، وتفركها، لئلا يكون هناك نقص وإذا أتى شخص وحياك، أو سلم عليك وأنت تعد تقول: السلام عليكم، واحد اثنين ثلاثة أربعة خمسة عشر ستة عشر ثمانية عشر، لماذا؟ لأن هذه فلوس، لا يمكن أن تعدها وأنت لاهٍ عنها، لأنها حلت في قلبك.
تذكر كتب العلم: أن سليمان بن داود كان على البساط، والله قد سخر له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب، غدوها شهر ورواحها شهر، أي: مسافة شهر تأخذها في غدوة، ومسافة شهر تأخذها في روحة، فكان في رحلة ومعه أهله وحاشيته، فمر على قرية وحجب البساط الشمس عن الأرض، فنظر فلاح في مزرعته، يرى الشمس فلا يراها، وإذا بالريح تحمل البساط وعليه أسرة سليمان، فقال: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً كبيراً، فسمعه سليمان من فوق فأمر الريح أن تنزل وأتى إليه، وقال: ماذا قلت يا أخي؟ قال: ما قلت شيئاً، خاف، قال: بل قلت كلمة، قال: لقد قلت: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، قال: والذي نفسي بيده، إن الكلمة التي قلتها أعظم مما أوتي آل داود.
سبحان الله: تنزيه لله، تعظيم لله، وما تأتي سبحان الله إلا بعد شيء يوصف به الله، وهو لا يليق به، فيقول: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} [الإسراء:93] أجل ذكر الله العددي مطلوب بعدده.
الخامس: ذكر الله في كل وقت وهو الذكر المطلق: أن تقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، وما شاء الله، لا إله إلا الله، سبحان الله، فإذا قلت ذلك لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله، يقول الله في الحديث القدسي: (أنا مع عبدي ما ذكرني أو تحركت بي شفتاه) كلما ذكرت الله، الله معك.
(أنا مع عبدي ما ذكرني، أو تحركت بي شفتاه، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منهم، وإن تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة، وكنت إليه بكل خير أسرع).
هذا معنى ذكر الله الذي هو شفاء للقلوب والنفوس، وانظروا واستقرءوا دائماً الذي نفسه مريضة لا يحب ذكر الله، بعضهم يمر عليه شهر أو شهران، ما قال: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، والذي نفسه حية، وقلبه حي وصحيح، لا يفتر عن ذكر الله، وقد جاء في الحديث: (مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله، كمثل الحي والميت)، الحي يذكر الله، والميت لا يذكر الله، فهذا هو سبب رئيسي مثل السببين الأولين.
الأول: تلاوة القرآن وتعلمه وحفظه، وتطبيقه، والاستشفاء به.
الثاني: تعلم السنة، والانصياع لها والتمسك بها.
الثالث: ذكر الله عز وجل.(32/14)
المحافظة على الطاعات والابتعاد عن المعاصي وقرناء السوء
الرابع: من وسائل وأسباب تزكية النفس، المحافظة على الطاعات كلها، وفي مقدمتها الصلوات الخمس.
الخامس: البعد عن المعاصي والذنوب، صغيرها ودقيقها، وجليلها؛ لأن هذه حماية للنفس من المرض.
السادس: الابتعاد عن قرناء السوء؛ لأن قرناء السوء، يدنسون النفس.
السابع: الحرص على الرفقة الصالحة والزملاء الصالحين، الذين يعينونك على طاعة الله، ويذكرونك إذا غفلت، هؤلاء من أسباب علاج نفسك وتزكيتها.
أعتذر أنني أوجزت في النهاية؛ لأن الوقت ضاق عليّ، ولعل فيما حصل كفاية وأسأل الله تبارك وتعالى أن يزكي نفوسنا، وأن يؤتيها تقواها.
اللهم آتي نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، وقبل الإجابة على الأسئلة وردني تصحيح من بعض الإخوة، يقول فيه: أنت قلت: إنه لم يرد في القرآن ثناء على الجسد، والله يقول: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] وهذا الأخ الكريم معه حق ولكن ما فاتتني هذه، وقد اطلعت في التفسير على أن الثناء على الجسم في هذه الآية لطالوت كان تبعاً لنعمة العلم والنبوة والرسالة، فالجسم هنا مثنى عليه بالتبعية لا بالأصالة، وهذا ليس فيه شيء حتى في السنة، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير) لكن الذي لم يرد عليه ثناء في القرآن ولا في السنة هو: الجسد المجرد من الدين ومن العلم، أما هنا الجسد جاء الثناء عليه بعد الثناء عليه بالعلم، فإذا آتاه الله العلم والنبوة وأعطاه جسداً قوياً يستعمله في طاعة الله، ويستعمله بالجهاد في سبيل الله، فهذا نعم الجسد، الذي يصرف في طاعة الله عز وجل.(32/15)
الأسئلة
.(32/16)
حكم الخطرات غير الشرعية التي تخطر في النفس
السؤال
النفس لها خطرات وأماني غير شرعية، فهل هي محاسبة على هذه الخطرات أم لا؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
جزاك الله خيراً، وأيضاً أنا أحبكم في الله، وأسأل الله أن يجمعني وإياكم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله؛ لأن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، ومن ضمن من يظلهم الله في ظل عرشه: المتحابون في الله، نسأل الله أن يظلنا في ظل عرشه، ببركة الحب فيه.
أما الخطرات التي تأتي في النفس الإنسانية، ولا تترجم إلى عمل، فإن الله عز وجل لا يؤاخذ عليها، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا عن أمتي الخطأ والنسيان وما حدثت به نفسها مالم تعمل أو تتكلم) ولما نزل قول الله عز وجل: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} [البقرة:284] شق ذلك على الصحابة، فنزل الفرج بعدها بقوله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286].
فإذا خطرت في نفسك خواطر أو نزعات، ولم تترجم إلى عمل فإن الله لا يؤاخذك عليها، لكن ابن القيم رحمه الله يقول: إن في هذه الخطرات خطورة على الإنسان لا تسجل، لكنها قد تجره إلى أن يعمل بعد هذه الخطرات، فإن الأعمال لا يمكن أن تأتي إلا بعد الخطرات، هي تبدأ خطرة ثم نظرة وهكذا، فهي أول خطوة في طريق الانحدار وهي التفكير، ولذا لا ينبغي أن يجول فكرك إلا في الخير، ولا ينبغي أن تفكر إلا في طاعة الله، أما إذا بدأت تحوم حول الحمى بالتفكير، تفكر في الأغاني، تفكر في النساء، تفكر في شيء من الحرام، فهذه الخطوة الأولى الله لا يؤاخذك عليها الآن، لكنك إذا عملتها آخذك، فالأحسن قطعها، لا تفكر ولا تعبث، وأسأل الله أن يعيننا وإياكم.(32/17)
حكم كتابة قوله تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة) في الصحف عند التعزية
السؤال
إذا مات إنسان كتب في الصحف قول الله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30] هل هذا صحيح أم لا؟
الجواب
لا شك أنه غير صحيح، ما يدريهم أن هذه النفس مطمئنة، وهذا نوع من التألي على الله، ومن التزكية للنفس بغير حق، وإنما نرجو للمحسن الثواب، ونخاف على المسيء العقاب، ونسأل الله عز وجل الرحمة والمغفرة لكل مسلم.
أما أن نخاطبه ونقول: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر:27] هذا قطع، ولا يقطع لأحد من أهل القبلة بجنة أو نار، لا يجوز لنا أبداً هذا، إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، لما وقع السهم في صدر أحد الصحابة وهو مجاهد، وسقط قال أحدهم (هنيئاً له الجنة، أي: هذا شهيد، قال: كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي غلها من المغانم ولم تصبها المقاسم لتشتعل على ظهره في النار).
هذا الأمر ليس بالسهل -أيها الإخوة- فلا يجوز أن نتألى على الله، ولا أن نقطع بجنة أو نار لأحد من أهل القبلة، وإنما نرجو الله ونسأل الله عز وجل، حتى كلمة المغفور له، يقول العلماء: إن كانت على سبيل الدعاء، فلا بأس، أي: الذي أسأل الله أن يغفر له، فلا بأس، وإن كانت على سبيل القطع، أي: أنه عمل صالحاً، وعمل خيراً، فهو مغفور له، فهذا تألي ولا يجوز؛ لأن علمنا محدود بما يجري على الناس بعد الموت، ولا نعلم شيئاً إلا إذا قابلنا الله عز وجل ونحمد الله عندها، سيقول الإنسان: الحمد لله الذي هدانا لهذا، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم فمن يحمد الله عند اللقاء.(32/18)
الرد على من يستدل بحديث: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم) على جواز حلق اللحية
السؤال
بعض الناس يستدل على حلق اللحية بالحديث: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم الحديث) يقول: نرجو التوضيح؟
الجواب
الحديث دليل على أن اللحية مطلوبة؛ لأن الحديث قال: (ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) واللحية عمل من أعمال الدين؛ لأن عليها أمر من الرسول صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (قصوا الشوارب وأعفوا اللحى) (أكرموا اللحى) (أرخوا اللحى) (أسدلوا اللحى).
كل هذه أوامر، وأوامر الرسول يجب أن تترجم إلى عمل، فلحيتك عمل، والله ينظر إلى لحيتك، ويقيمك على ضوء وجود لحيتك، إذا كانت معك لحية أنت مؤمن إن شاء الله مع بقية أوامر الدين، وإذا لم تكن معك لحية فلديك مخالفة، وليست اللحية هي كل الدين، لكنها جزء من الدين، وليست من القشور إذ لا قشور في الدين، بعض الناس يقول: هذه من القشور لا.
كل ما جاء من الله ورسوله فهو لباب، هل يأمر الرسول بقشور؟ لا.
عليك أن تعظم أمر الله، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.(32/19)
حكم التأخر عن صلاة الفجر
السؤال
ما حكم من لم يقم لصلاة الفجر، ولكن قام بعد ما يقارب عشر دقائق؟
الجواب
إن كان مرة في عمره، أو بسبب مرض أو بسبب نوم غلبه، أو بغفلة وليس هذا دأبه، فيقوم ويتوضأ ويستغفر الله، ويشعر بالانكسار والمراجعة للنفس، وبالحساب وبالندم وبالألم ويفكر ماذا فعل في الليل؟ وماذا فعل في الأمس؟ لأنه لا يمكن أن يضيع صلاة الفجر إلا بسبب ذنب؛ لأن الذنب يعاقب عليه الإنسان بالحرمان من الطاعة أو بالوقوع في معصية ثانية، وبعد ذلك يقوم ويتوضأ ويصلي ركعتي الفجر قبل الصلاة ثم يصلي، أما إذا كان هذا دأبه دائماً، لا يصلي إلا بعد أن يصلي الناس، فهذا -والعياذ بالله- فيه خطورة عليه أن يكون منافقاً؛ لأن الحديث في الصحيحين يقول عليه الصلاة والسلام: (أثقل الصلوات على المنافقين صلاتي العشاء والفجر).
ولذا إذا أردت أن تعرف هل أنت مؤمن أو منافق؟ فاسأل نفسك عن صلاة العشاء والفجر، فإن كنت من أهلها بانتظام، فاعلم أنك مؤمن، وعليك أن تكمل الباقي، وإن كنت لا تصلي الفجر ولا العشاء في المسجد، فاعلم أنك منافق أصلي، وعليك أن تتوب إلى الله وأن تراجع نفسك، وإلا فالمصير سيئ والعاقبة وخيمة والعياذ بالله.(32/20)
حكم من يترك الرواتب والنوافل
السؤال
ما رأيك فيمن لا يحافظ على السنن سواء الرواتب أو غيرها، وما نصيحتك له؟ وقبل ذلك ما رأيك بمن يترك صلاة الفجر أو صلاة الجماعة، على إطلاقها؟
الجواب
أولاً: قضية: ما رأيك هذه لا ينبغي أن يسأل ويقال: ما رأيك؟ لأننا ليس لنا رأي، ولا لأحد من أهل الأرض رأي في دين الله، وإنما السائل يجب أن يقول: ما حكم الشرع؟ ما حكم الله في المسألة هذه؟ لأن الدين ليس آراء، الدين دليل وحُكْم حَكَم الله به، ما حكم الشرع فيمن يترك السنن والنوافل والرواتب؟ يقول العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد سئل عن رجل لا يصلي النوافل ولا الرواتب، قال: ذاك فاسق ترد شهادته، لماذا؟ قالوا: لأن ترك النوافل والرواتب سيؤدي إلى ترك الفرائض، وانظر إلى من لا يصلي النافلة، بعد سنوات أو شهور تجده لا يصلي الفريضة؛ لأن خط الدفاع الأول في مواجهة الشيطان النوافل، فإذا هزمك الشيطان، بقي معك خط الدفاع الثاني وهو الرواتب، فإذا هزمك الشيطان في المرة الثالثة، بقي معك الخط الدفاعي العظيم وهو الفرائض، لكن إذا كنت تواجه الشيطان بخط واحد فقط، وهو الفريضة فإذا هزمك أين تذهب؟ تخرج إلى الكفر، وهو ترك الصلاة -والعياذ بالله- لابد أن تحافظ على النوافل والرواتب، ثم هل تضمن -يا أخي- أن فريضتك كلها كاملة، حتى لا تصلي الراتبة؟ أما تعلم أنه يوم القيامة.
إذا حُوسِبت على صلاتك يكون فيها نقص، ونحن إذا صلينا العشاء من الذي يصلي من حين أن يكبر حتى يسلم لا يوسوس لحظة واحدة؟ لا يوجد أحد، الشيطان موجود، لا بد أن يجعلك توسوس، بعض الناس يجعلهم يوسوسون الصلاة (100%)، من حين أن يكبر حتى يسلم، والله ما معه منها شيء، وبعضهم (90%)، وبعضهم (80%)، وبعضهم (50%)، وبعضهم (40%)، وهكذا بحسب قوة المجاهدة والمضادة للشيطان، فإذا ضيعت من الصلاة هذه (10%) وضيعت من المغرب مثلها، يؤتى يوم القيامة، فيبقى الذي لله، وهو الذي حضر فيها قلبك، والذي فيها خلل يقول الله: (انظروا هل لعبدي من نوافل؟ فإن كان هناك نوافل، قال الله: أكملوا بها فريضته) رحمة منه تبارك وتعالى، وإن كان لا توجد معك نوافل، من أين تكمل ذلك اليوم؟ تقول: دعوني أصلي، ما معك إلا هي، فعليك أن تحافظ على الراتبة والنافلة ولا تتركها، وإن هذا من الفقه الأعوج، أن بعض طلبة العلم تجده لا يصلي الراتبة ولا النافلة، لماذا؟ قال: هذه يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، الله أكبر يا هذا الفقيه! بينما تجد العامي من المسلمين لا يتركها أبداً، ذاك الفقيه، الفقه ليس ترديد أحكام، ومعرفة حروف وعبارات، الفقه عمل، بعض العوام لا يمكن أن يترك السنة أبداً، وبعض طلبة العلم يترك السنة بحجة أنها لا يعاقب تاركها.
واعلم أنك إذا أصررت على ترك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أمرك باتباع سنته والمحافظة عليها، فإنك على خطر.
أما الذي لا يصلي صلاة الفجر، فقد قلنا: أنه -والعياذ بالله- في خطر النفاق.(32/21)
كيفية التخلص من الهموم والغموم
السؤال
كيف يمكن القضاء على الهموم والغموم التي تأتينا، وأنا أحاول دفعها بأي شكل ولكنني لا أستطيع دفعها؟
الجواب
الغموم والهموم هي داء العصر في هذا الزمن، والدواء والشفاء لما في الصدور هو القرآن، من جعل الهموم هماً واحداً وقاه الله شر كل هم، ومن تشعبت به الهموم لم يبال الله به في أي واد هلك، إن كان همّ الرزق فالرزق على الله، يقول الله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:3].
إن كان همّ المرض، فالذي كتب المرض هو الذي يرفعه.
إن كان همّ الدراسة فالذي ينجح ويسقط هو الله عز وجل، اجعل همّك همّاً واحداً وهو كيف ترضي الله عنك؟ فإذا جعلت همّك هذا، قضى الله كل همّك، أما إذا اهتميت بالذي في الأرض وتركت الهم الذي يأتيك من الله، ضعت وتضاعفت همومك وكثرت، وأنا أدل الإخوة على شريط محاضره قلتها في الرياض بعنوان: القلق -أي: الهم داء العصر- أسبابه وعلاجه، ذكرنا عشرة أسباب وعشرة أدوية لهذا، اسمع الشريط يا صاحب الهمّ، وأسأل الله أن يزيل همي وهمك، وأن يجعل همنا وهمك مرضاته تبارك وتعالى، والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(32/22)
الحقائق الثلاث
بدأ الشيخ بالحديث عن حتمية نفاذ سنن الله في الكون، مبيناً في إطار ذلك أن الخلق والموت والبعث من سنن الله الكونية، وفصل في كل منها على حدة، مبيناً أساليب القرآن في تقرير حقيقة البعث.
ثم تطرق الشيخ إلى مشكلة الزواج عند الشباب، وأورد حلولاً لهذه المشكلة.(33/1)
سنن الله الكونية حتمية النفاذ
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الأحبة في الله! هناك حقائق ثلاث مترابطة، يلزم من وقوع أولاها وقوع الثانية، ومن وقوع الثانية وقوع الثالثة لا تنفك عن بعضها، وهي سنن كونية ربانية يجريها الله عز وجل على أهل هذه الحياة، ولا يستطيع أي إنسان مهما كان أن يخرج على هذه الحقائق الثلاث، ومن يعرفها ويعتقدها ويعمل بمقتضياتها هو من عرف حقيقة الحياة، ومن يجهلها ولا يتأملها ولا يعمل بمقتضاها فهذا ما عرف حقيقة الحياة، ولا حقيقة نفسه، ولا سر وجوده، فهو يعيش عيشة البهائم، ويموت كما تموت الأنعام، ولكن يبعث يوم القيامة ويسأل ويحاسب، فيخف في الموازين، ويتمنى أن لو صار تراباً، ويتحسر ويتألم على أنه ضيع هذه الحياة من غير أن يعرف تلك الحقائق الثلاث، وهي عنوان المحاضرة: "الحقائق الثلاث".
وقد جاءت هذه الحقائق الثلاث كلها في آية واحدة في كتاب الله عز وجل، هذه الحقائق هي: أولاً: حقيقة الخلق: خلق الله لك أيها الإنسان.
ثانياً: حقيقة الموت.
ثالثاً: حقيقة البعث.
هذه السنن تجري على الناس من غير اختيار، هل هناك أحد أُخذ رأيه حينما خلق فقيل له: أتريد أن تخلق أم لا؟ لا.
تخلق من غير أن يؤخذ برأيك، وهل من أحد يؤخذ برأيه عند الموت: أتريد أن تموت أم لا؟ لا.
وهل من أحد سيؤخذ رأيه عند البعث: أتريد أن تبعث أم لا؟ لا.
فهي سنن كونية جارية.
كنت أتحدث قبل فترة مع تاجر، فدعوته إلى الله، فكأنه استيقظ من النوم، وكنت قد دعوته إلى الله عن طريق الحديث عن البعث والآخرة والجنة والنار، فقال لي عبارة ساذجة، لكن لها معنى في قلبه، قال لي: حسناً! والذي لا يريد أن يبعث؟ أي: إذا جاءه الموت والشخص لا يريد أن يبعث؟ قلت: من لا يريد أن يبعث كمن لا يريد أن يموت، ما رأيك أنت تريد أن تموت؟ قال: لا.
لكني سوف أموت رغماً عني، قلت: وتبعث رغماً عنك، مثلما أنك خلقت رغماً عنك، وتموت رغماً عنك، فإنك تبعث رغماً عنك.
ولو أن شخصاً استطاع أن يخرج عن هذه السنن، وأراد الله له الخلق، فقال: أنا لا أريد أن أخلق، أو أراد الله له خلقاً فخلقه، ولما أراد الله له أن يموت قال: أنا لا أريد أن أموت، كيف أموت وأنا ملك، وكل شيء عندي؟ هل صنع أحد هذا من نبي أو قوي، أو تاجر وثري؟ لا.
كل الناس يموتون، لا يوجد شخص يستطيع أن يشذ عن هذه القاعدة.
ومادام أن قاعدة الخلق جرت على الناس كلهم، وقاعدة الموت جرت على الموتى كلهم، إذن تبقى الثالثة، وهي قاعدة البعث، ستجري على الناس كلهم، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتسألن عما كنتم تعملون).(33/2)
بداية خلق الإنسان من طين
هذه الحقائق الثلاث -كما قلت لكم- جاءت في آية من كتاب الله عز وجل، وهي قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12] هذه الحقيقة الأولى.
لست أنت من خلق نفسه، يقول الله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36] فما خلقت من غير شيء، وما أنت الخالق، وما من أحد خلقك إلا الله.
يقول الله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:58 - 59] الأم نفسها تحمل الجنين في أحشائها ولا تعرف عنه شيئاً، يقول الله عز وجل: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم:32] فالذي خلقك هو الله {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12] هذا الأصل، أصل الإنسان طيني السلالة، التكوين، التركيبة الأولى للإنسان طين، لكن عبر مراحل انتقل من الطين وصار نطفة.
هل تصدق أن هناك من يقول: كيف كنت طيناً؟ أيعقل أني كنت طيناً؟ نقول: نعم كنت طيناً، كيف؟ نقول: انظر حين تمني وتضع المني في سروالك أو ثوبك، هل تصدق أنك كنت هذا؟ نعم.
يا صاحب العضلات! يا صاحب العقل! كنت يوماً من الأيام هذه النطفة.
ولهذا لما مر المهلب بن أبي صفرة على الحسن البصري، وكان يمشي متبختراً متكبراً، وهو قائد من قواد الجيوش، فقال له الحسن: [إن هذه مشية يبغضها الله، قال: أما تدري من أنا؟ -تقول لي هذا الكلام وما تدري من أنا؟ - قال: بلى أعرفك، أنت الطين، أنت الماء المهين، أنت من خرجت من موضع البول مرتين، الأولى من ذكر أبيك، والثانية من رحم أمك، أولك نطفة مذرة، ونهايتك جيفة قذرة، وفي بطنك وثناياك تحمل العذرة!].
من أنت أيها الإنسان؟!(33/3)
أطوار خلق الإنسان في الرحم
بعض الناس متكبر متغطرس يقول: أنا أتيت من السماء في صندوق، بل أنت في مرحلة من مراحل خلقك كنت طيناً، ثم مرحلة ثانية كنت نطفة، الرجل يضع في الدفقة الواحدة أربعمائة مليون حيوان منوي -واحد منها هو أنت- تموت جميعها ولا يبقى إلا واحد، البقاء للأقوى الذي يصل إلى البويضة في أعلى قناة فالوب، والبقية تموت في الطريق {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12].
ثم المرحلة الثانية والطور الثاني من أطوار الخلق؛ لأن الله يقول: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح:14] أي: طوراً من بعد طور، ومراحل وتركيبات، قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:13] جعل الله هذا الإنسان نطفة في قرار مكين، أين القرار المكين؟ قناة فالوب في أعلى رحم المرأة، قال عز وجل: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:20 - 23] ولهذا بعض النساء حينما تمرض يؤدي مرضها إلى الإجهاض، ما هو الإجهاض؟ إن البويضة والنطفة إذا حصل بينهما امتزاج تخلق حينها المولود، وإذا كان الرحم والقناة فيهما مرض فلا يسمح ببقاء هذا المولود فتحمل شهراً أو شهرين ثم تسقط، فهذا مرض يعالج الآن، لكن غالبية النساء يحملن ويبقى الولد أو البنت في هذا المكان؛ لأنه قرار مكين، المرأة تتعرض لصدمات، ولآلام، ولشبع، وتنام على بطنها، وجنبها، وظهرها، والولد في مكانه في قرارٍ مكين، قال عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:12 - 13].
ثم المرحلة الثالثة من مراحل الخلق، وهي: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} [المؤمنون:14] أربعون يوماً نطفة كما هي، ثم بعد أربعين يوماً يحول الله النطفة إلى علقة.
والعلقة أنا رأيتها بعيني في المجهر عبارة عن قطعة من اللحم طويلة مثل الإصبع، أشبه بدودة صغيرة تعيش في المياه يسمونها علقة، يعرفها أهل البادية، فهي تأتي في الماء وتنفرد وتمشي وتعلق في ألسنة البهائم، تأتي البهيمة أو البقرة أو الجمل -مثلاً- فيشرب، فيمتصها مع الماء فتعلق في فمه وبالتالي لا يستطيع أن يأكل حتى يخرجها، وإلا ماتت البهيمة.
فأصلي وأصلك مثل هذه التي سماها الله علقة: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} [المؤمنون:14] بعد ذلك {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} [المؤمنون:14].
ثم جاءت المرحلة الرابعة: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً} [المؤمنون:14] بعد أن تكون فترة أربعين يوماً علقة، تتحول بعد أربعين يوماً أخرى إلى مضغة، ما هي المضغة؟ قطعة لحم، كانت علقة دماً، ثم صارت دماً متماسكاً يعني: فيها نوع من التماسك، كأنها لقمة شخص مضغها على أضراسه وأخرجها، ولو دققت النظر في المضغة البشرية للإنسان لوجدت، هذه الآثار، ويقولون: إنها تأسيسات للعمود الفقري للإنسان، وتنظره متعرجاً، وآثار التضاريس طالعة ونازلة مثل آثار الأضراس إذا مضغت قطعة لحم ثم أخرجتها، فالإنسان في يوم من الأيام كان مضغة على هذا النحو.
قال عز وجل: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً} [المؤمنون:14] فالمضغة هذه تصبح هيكلاً عظمياً كاملاً، وبعد ذلك: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً} [المؤمنون:14] هذه العظام تكون هيكلاً عظمياً كاملاً يشمل الجمجمة والعمود الفقري والأضلاع والذراعين والكتفين والساقين والفخذين والأقدام، وقد رأيت الأضلاع في مرحلة من مراحل الخلق كمثل الدبابيس منحنية ومتشابكة مع العمود الفقري من الوراء، ومتقابلة عند الصدر هيكل كامل! هذه المضغة تحولت إلى عظام، وهذه العظام يكسوها الله عز وجل لحماً وعضلات مترابطة لكي تتماسك هذه الخلقة في أصل تكوين الإنسان، قال عز وجل: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً} [المؤمنون:14].(33/4)
اختلاف الصور رغم اتحاد الأطوار
ثم قال: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون:14] هل هناك نسبة بينك وبين النطفة؟ لا.
خلقاً آخر يختلف كل الاختلاف عن أصلك الطيني، ولكن ليس فيك طين، هل أنت طوبة نبني بك؟ لا.
أصلك نطفة لكنك لست نطفة الآن، أصلك علقة لكنك لست علقة، بل خلق آخر: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] لا إله إلا الله ما أعظم الله في هذه الصنعة!! فهو أحسن الخالقين! وبعد ذلك خلق خلقاً آخر في كل واحد.
الآن المطبعة تطبع كتاباً واحداً ملايين النسخ، والمصنع يصنع قطعة غيار وينتج منها مائة أو ألفاً أو عشرة آلاف، السيارة ينتجون من نوع واحد عشرات الآلاف.
لكن ليس هناك إنسان مثل الإنسان الثاني أبداً، لو أتيت الآن بمن على وجه الأرض، وتعدادهم الآن خمسة مليارات إنسان، وأدخلتهم في فناء وأخرجتهم واحداً تلو الآخر فلن تجد اثنين متطابقين مائة في المائة، لابد من وجود اختلاف بينهم، ولن تجد شبيهاً لإصبعي الإبهام، هذه المنطقة الصغيرة (2سم×1سم) لا يوجد في الأرض الآن اثنين سواء، ولا يوجد في الأرض ممن ماتوا سواء، ولا يوجد ممن سيأتون إلى يوم القيامة اثنين سواء، ما هذا الخلق العجيب؟! لا إله إلا الله! كنت أتصور أن (الكوريين) سواء؛ لأنهم على صورة رجل واحد، أشاهدهم دائماً سواء في شكلهم وطولهم، وجوههم مستديرة، وعيونهم دائرية، وأنوفهم صغيرة، فقلت: إنهم كلهم سواء، ولهذا أقول: كيف يتعارفون؟ كيف يعرف الشخص أخاه وأباه وجده؟ وقدر لي أن عملت في شركة (كهرباء) الجنوب وأن أكون متعاملاً مع الكوريين، وحين اقتربت منهم وإذا بكل واحد منهم له خلقة ثانية، ليس هناك اثنان متشابهان أبداً بأي حال من الأحوال، الأفارقة ليس فيهم اثنان متشابهان، والأوروبيون كذلك، والعرب والهنود والباكستانيون والفلبينيون والأندنوسيون، جميع فئات الأرض لا تجد فيهم اثنين متشابهين، بل حتى التوأم لابد من وجود اختلاف بينهم، أنا مرة قدر الله لي أن أرى توأمين فيهما وجه شبه كبير، وكانا يعملان في إدارة حكومية في أبها، فهما في الطول والوجه سواء، لكن حين تكلما إذا بهذا صوته منخفض وهذا صوته غليظ، لابد من وجود فارق، من الذي يستطيع أن يوجد هذه الفوارق كلها؟ إنها قدرة الله {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14].
هذه هي الحقيقة الأولى: حقيقة الخلق، وليس فيها مراء، هل من أحد عنده مراء أو جدال في هذه الحقيقة أيها الإخوة؟ لا.
والذي عنده مراء ينظر حين يتزوج كيف يأتيه الولد، ثم يراقب مراحل النمو، يكون جنيناً أولاً، ثم يبلغ يومين وثلاثة وأربعة ثم سنة وإذا به يمشي ثم يذهب إلى المدرسة في السادسة، ثم صار بعدها في المتوسطة والثانوية، وإذا به يصبح رجلاً، ولم يعلم وهو يعيش هذه المراحل من النمو من الذي ينميه ويراعيه ويربيه.
إنه الله {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] هذه هي الحقيقة الأولى.(33/5)
المصير المنتظر بعد الخلق هو الموت
جاءت بعدها الحقيقة الثانية، قال عز وجل: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون:15] بعد حقيقة الخلق جاءت مباشرة حقيقة الموت، وهذه لا مراء فيها ولا جدالاً، ولا يوجد أحد يماري فيها؛ لأن الذي يماري نقول له: إذاً اصبر قليلاً، فأنت الآن لا تصدق بالموت، ولكن اصبر وستموت كما مات أبوك، وجدك، والبشر من قبلك، مذ آدم عليه السلام، يقول الشاعر:
سر إن استطعت في السماء رويداً لا اختيالاً على رفات العباد
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد؟
يقول: إذا أردت أن تمشي متبختراً فطر أو امش لا مختالاً على رفات العباد، وعظام الناس، يقول: فما أظن أصل هذا الطين الموجود الآن إلا من رفات الذين قد ماتوا، كم عاش على وجه الأرض من البشر؟ ملايين بل مليارات من البشر عاشوا وماتوا كلهم وأكلهم الطين، خلقوا من الطين، وعادوا إلى أصلهم الطين، وهم الآن ينتظرون الحقيقة الثالثة.
الحقيقة الأولى نحن الآن نعيشها وهي الخلق.
والحقيقة الثانية وهي: الموت، نحن الآن قد حجزنا لها، وأكدنا الحجز؛ لأن الناس ثلاثة أصناف: - صنف سافروا.
- وصنف حجزوا.
- وصنف في الانتظار.
فالذين سافروا هم الذين ماتوا، والذين حجزوا هم الأحياء، وكل شخص رحلته معلومة، والذين في الانتظار هم الذين لم يأتوا بعد، فإذا وصلوا حجز لهم.
فمنذ أن كان الإنسان في بطن أمه حجز له متى يسافر إلى الآخرة.
فهنا الحقيقة الثانية وهي حقيقة الموت، قال عز وجل: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون:15] والضمير هنا عائد على الخلق، أي: بعد ذلك الخلق لميتون.
سبحان الله! لماذا يخلقك الله هذا الخلق العجيب ثم تموت؟ لابد من وجود حكمة، هل يعقل أن الله يخلقك هذا الخلق، وتتعب أمك في حملك ووضعك وتربيتك، ثم أنت تتعب في معاناة الحياة ومصارعة الدنيا لكسب العيش، ومقابلة المشاكل، والصبر على الأمراض والمصائب من أجل أن تموت؟! لا.
لاشك أن هناك حكمة، لا بد أن الله خلقك لشيء، ما هو هذا الشيء؟ هو الذي أخبر الله به في كتابه، وهو العبادة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
ثم جاءت بعد ذلك في هذه الآية نفسها الحقيقة الثالثة، وهي الأخيرة من حقائق هذه الحياة، والتي بعدها ينقسم الناس إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، قال عز وجل: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:16] الخلق تم، ثم حصل الموت، ثم جاء البعث، وبعد البعث يأتي الحساب، حساب ونقاش ومؤاخذات وسؤال، ومن ينجح فاز، ومن يسقط خسر، والمنهج واضح، وهو الكتاب والسنة، والمصدق له الجنة، والمكذب والمتساهل والكافر والفاجر -والعياذ بالله- له النار قال تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
هذه هي حقائق الحياة الثلاث، وسوف نتكلم عن كل واحدة بالتفصيل.(33/6)
الحقيقة الأولى: حقيقة الخلق وما فيها من إعجاز
يتم الخلق -أيها الإخوة- بقدرة الله عز وجل، وبعناية ودقة وإحكام متناهٍ.(33/7)
اعتدال خلقة الإنسان وتسويتها
الحيوان المنوي الذي هو أصل الإنسان يتكون من ثلاثة أجزاء: رأس، وجسم، وذنب.
الرأس والذنب للتوجيه، والجسم يحتفظ بكامل خصائص الإنسان، يعني: أنت -أيها الإنسان- موجود في الحيوان المنوي بكامل خصائصك، طولك وعرضك ولونك وذكاؤك، وبعد ذلك أعضاؤك، وبعد ذلك صورتك العامة، خلايا العين في مكان خلايا العين، خلايا القدمين في مكان خلايا القدمين، فلو جاءت خلية العين مكان خلية الأذن، وجاءت خلية الرجل مكان خلية العين، لخُلِقَ لنا ولد مشوه عينه في رجله، له رجل وعين تحت وله عين ورجل فوق، ما رأيكم، كيف تكون الحياة؟ بعد ذلك يكون له أذنان سواء، هل رأيتم في الدنيا شخصاً له أذن كبيرة وأذن صغيرة؟ بل أذنان متساويتان وعينان ويدان ورجلان، بعد ذلك تتأمل في مفاصل العظام، مفصل العظم الناتئ يدخل في العظم الذي يتجوفه، لو زاد هذا قليلاً لما صلح، ولو نقص لما صلح، من ركبه هذا التركيب؟ كم هي من عظام؟ وكم هي من عروق؟ ثلاثمائة وستون عرقاً، ثلاثمائة وستون عضلة، ثلاثمائة وستون مفصلاً، ثلاثمائة وستون عظمة، كل هذه مركبة فيك من أولك إلى آخرك.
يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8] خلقك فسواك فعدلك، ليس هناك أجمل من خلقة الإنسان، جميع الحيوانات تمشي وظهورها أفقية، إلا أنت فمستو على رجلين، وجرب أن تمشي يوماً من الأيام على أربع، كيف تمشي؟ لكن الله سواك فعدلك، وبعد ذلك في أي صورة -في أي شكل جمالي- ما شاء ركبك، ثم قال: {كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} [الانفطار:9] فخالقك هذا الخلق العجيب، وبهذا الإبداع والتركيب هو الله تبارك وتعالى، يقول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1 - 4] الذي خلقك هو الله تبارك وتعالى، ويقول عز وجل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:1 - 2] ويقول عز وجل: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:1 - 2] من نطفة أمشاج يعني: أخلاط، تختلط النطفة مع بويضة المرأة، نبتليه: نختبره {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:2 - 3].
ثم يتم هذا الخلق عبر المراحل التي ذكرناها، يقول نوح لقومه: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح:13 - 14] من هي المرأة التي تستطيع أن تحملك لو أن الله خلقك بصورتك هذه في بطن أمك؟ لكن الله خلقك في بطن الأم نطفة، وبعد ذلك تتدرج في النمو وهي تعاني أياماً إلى أن تكتمل، وإذا جاء الشهر التاسع، والذي يسمونه شهر الكرب، يقولون: فلانة أكربت يعني: بلغ بها الضيق والكرب مبلغه؛ لأنك اكتملت وأصبحت جاهزاً للخروج فتصبر عليك شهراً واحداً فقط، ثم تخرج ويقولون: فرّج الله كربها؛ لأن الله خلصها منك، لكن لو أن الله خلقك هكذا كاملاً في بطن أمك، ترفس وتركل في بطنها من يوم أن خلقت، كيف تكون حال أمك؟ لا تستطيع أن تتحملك يوماً واحداً.
أنت الآن إذا أكلت وشبعت، وأتيت لتنام لا يأتيك النوم فبطنك تؤلمك! لماذا؟ لأنك أكلت كيلو أو نصف كيلو لحم، وتبحث عن مهضمات أو عن شيء يخرج منك هذا الطعام، فكيف لو أنك مكتمل في بطن أمك.
لكن الله خلقك أطواراً، تتدرج من نطفة إلى علقة إلى مضغة، إلى أن صرت إنساناً وأخرجك الله إلى هذه الحياة.(33/8)
الإعجاز في تركيب الرأس جملة
هذا الخلق يتم بدقة وإعجاز لا يعلمه إلا الله، وسوف أذكر لكم شيئاً من الإعجاز في خلق الإنسان: الرأس: هذا الرأس يحمي الجواهر التي تتحكم في حياة الإنسان: العينين، الأذنين، الأنف، اللسان، الفم، الأضراس، هذه كلها في الرأس، ولو فقد الإنسان يده أو رجله يمكن أن يعيش، لكن لو قطعت رأسه مات؟ ولهذا الذي يحكم عليه بالإعدام ماذا يقطعون منه؟ رأسه، لكن لو قطعوا يده أو رجله فيمكن أن يعيش، لكن لو قطعوا رأسه لا يعيش.
إن الرأس فيه أسرار من الخلق لا يعلمها إلا الله، فيها ثمانية أنهار، عينان تفرزان ماءً مالحاً، وأذنان تفرزان مادة صمغية، وأنف فيه فتحتان تفرزان مادة مخاطية لزجة، والفم يفرز مواد لعابية حلوة، ثمانية أصناف تصب من هذه الرأس، فإذن من الذي جعل العين تفرز ماءً مالحاً؟ لو كان هذا الذي في العين ليس مالحاً لفسدت العين من أول يوم؛ لأن العين شحمة، والشحم يتعفن، إذا لم تضع عليه ملحاً، فجعل الله في عينك مادة ملحية من أجل أن تبقى عينك سليمة، وتعمل على مدار اليوم.
وجعل الله في أذنيك مادة صمغية، فحين تغسل أو تحك أذنك بقطعة من القطن حاول أن تضعها في فمك أو على لسانك، فتجد لها طعماً مراً أمر من العلقم، لماذا؟ من أجل الحشرات، فحين تنام وأذنك مفتوحة لا يدخل في أذنك شيء، فحين يشم الرائحة يمتنع عن الدخول، والله سبحانه وتعالى جعل هذه المادة في أذن الإنسان من أجل أن تحميه وهو نائم.
وجعل الله عز وجل في أنفك مادة مخاطية من أجل أن تمسك الأتربة والغبار الذي تستنشقه أثناء تعاملك مع الحياة، هذا الجو الذي نحن الآن نعيش فيه جو ملطخ، مملوء بالأتربة، وبالميكروبات وبالجراثيم، ولو أننا نستنشق كل شيء كما هو لكانت رئة كل منا ممتلئة أتربة وغباراً، لكن جعل الله في هذا الأنف شعيرات، ومادة مخاطية تمسك الأتربة، ولهذا حين تشتغل بعمل مهني في تراب، ثم تأتي تتوضأ وتستنثر، تجد أن التراب يخرج مع الاستنثار، ولولا هذه الشعيرات لدخل هذا التراب في رأسك، وبعد يوم ويومين وثلاثة أيام يصير في رأسك طين فلا تقدر أن تعيش.
بعد ذلك يكيف الجو هنا، فدرجة حرارة الجو غير درجة حرارة الجسم، فحرارة الجسم في الغالب سبع وثلاثون درجة، لكن في المناطق الباردة تجدها درجتين مئويتين أو خمساً أو عشراً فتجد الإنسان إذا برد يحصل عنده ظاهرة، وهي أن أنفه تصير حمراء، إذا برد الشخص احمّرت أنفه، لماذا تحمرُّ أنفه؟ قال العلماء: لأن أنفه تحتوي على خلايا دموية تستنشق الهواء البارد وتقوم بتدفئته وتكييفه من أجل أن يدخل الجسم وهو على درجة حرارة الجسم، وهي سبعة وثلاثون درجة، فهذا المكيف يكيف الجو، لكن بعض الناس إذا خرج من جو رطب إلى جو بارد مباشرة، فيدخل الهواء البارد الذي حرارته عشر درجات إلى الجسم الذي حرارته سبع وثلاثون درجة دون أن يكون لدى الأنف فرصة للتكييف، فيدخل الهواء البارد بسرعة، فماذا يحصل للإنسان؟ زكام، نزلة برد؛ لأنه دخل هواء أقل حرارة من حرارة الجسم.
أهل المناطق الباردة إذا بردوا ترى الواحد منهم وجهه عادياً، وأنفه أحمر كالجمرة لماذا؟ لأن الدم يتدفق في الشعيرات الدموية والدماء تتدفق فيها أكثر فتحمر لكثرة حمرة الدماء في الأنف من أجل أن تقوم بتكييف الهواء الداخل حتى يتناسب مع درجة حرارة الجسم الداخلية، هذا خلق عجيب! {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14].
الفم يفرز مادة لعابية، هذا اللعاب حين تتذوقه تحس أن طعمه مستساغ، لو خرج هذا اللعاب من عينك لفسدت، ولو خرجت المادة الصمغية من فمك لما استطعت أن تأكل، فكلما أردت أن تأكل وإذا بهذا الصديد في فمك أو المادة الصمغية المرة تأكلها مع طعامك إذن تفسد حياتك، من علم الأذن أن تفرز هذه المادة؟ ومن علم العين أن تفرز تلك المادة؟ ومن علم الغدد اللعابية أن تفرز هذه المادة؟ إنه الله {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].(33/9)
الإعجاز في خلق الفم ووظائفه
هذا الفم عبارة عن مصنع صغير لتجهيز الطعام، عندما تأكل الطعام عن طريق هذا الفم، وهذا الفم يقوم مباشرة بعملية التقطيع والطحن والتمزيق والتقليب، جعل الله فيه أداة اسمها: اللسان، هذه الأداة تقوم بخلط الطعام، وجعل الله فيه مجموعة من الأضراس تتقاسم الأدوار، فهنا اثنان للتقطيع، فإذا أردت أن تقطع شيئاً تضعه عند القواطع، واثنان للتمزيق وهي الأنياب، والبقية للطحن من أجل أن تطحن بها، فإذا كنت تريد أن تقطع تمرة فتضعها في موضع معين وإذا أردت أن تقطع قطعة خبز فتضعها بكيفية أخرى، ولكن تريد أن تطحن فتحول على الأسنان الداخلية من أجل أن تطحن، كما أن الله جعل لك خلايا يسمونها غدداً لعابية تقوم بإفراز اللعاب، فاللسان يعمل، والأسنان تعمل، وتلك الغدد تقطر اللعاب كي تهضم الطعام، فإذا أصبح الطعام جاهزاً قذف به عبر البلعوم، وهناك قناة تليها اسمها المريء، فالمريء للطعام والبلعوم ينظم دخول الطعام والهواء.
وهناك قصبة هوائية غضروفية تنتهي بالحنجرة، وهي مفتوحة دائماً لدخول الهواء.
أما البلعوم والمريء فقد جعلها الله من أجل أن تسمح بدخول الطعام وعدم خروجه، ولذا حين تأخذ الطعام وتبتلع اللقمة فالمريء فيه عضلات لا تسمح بعودة شيء إلى الأعلى، لكن يسمح بمرور الشيء، وبمجرد دخولها فإن العضلات تعصرها حتى تنزل، ولولا هذه العضلات لكنت تحتاج كلما ابتلعت لقمة أن تأتي بعصا وتدفعها في فمك حتى تنزل، ولكن اللقمة تنزل بسهولة، وإذا أردت أن ترجع اللقمة لا ترجع، فبعض الرياضيين ينتكس على رأسه وبطنه ممتلئ فهل يخرج من فمه شيء؟ لا.
لماذا؟ لأن العضلة لا تسمح بذلك، متى تسمح؟ في حالة واحدة يسمونها الاستفراغ، إذا كان في الإنسان مرض، أو إذا ملأ إنسان معدته فوق طاقتها، فيقوم المخ بإرسال إشارة إلى تلك العضلة لإخراج الزائد.
كما أن الأسنان مركبة ومرتبة ترتيباً خاصاً، فتجد الثنايا في الأعلى وتقابلها ثنايا مثلها في الأسفل، وناباً تحته ناب، وضرساً تحته ضرس حتى تتم الاستفادة منها، إذ لو ركب الله ناباً في الأعلى وركب ضرساً في الأسفل يقابله لما أدت عملها بشكل صحيح، كذلك لو ركب الله ثنية يقابلها ضرس.
بعد ذلك أسنان الفك العلوي تنمو إلى أسفل، وأسنان الفك السفلي تنمو إلى أعلى، ثم تلتقي في مستوى معين وتتوقف عنده، من الذي أوقف نمو أسنانك عند هذا الحد؟ لماذا لم يستمر نمو الأسنان إلى أن وصل سنك إلى رأسك؟ ونزل السن الآخر إلى أن وصل إلى بطنك؟ فكيف تعمل بها؟ لا إله إلا الله! الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى!(33/10)
الإعجاز في خلق الشعر ووظيفته
نأتي إلى الشعر الموجود في الجسم، فقد ركب الله عز وجل شعراً في الحواجب، هذا الشعر له مهمة في الرؤية لماذا؟ لأنه يجمع الأشعة الشمسية ويكيفها بحيث لا تصل العين إلا بقدر مناسب، وبعد ذلك جعل الله هنا جفوناً، هذه الجفون وسائل حماية، ولهذا ترى شعر الجفن ينمو بشكل مستقيم، وتكون مثل الرماح المركوزة للدفاع عن العين؛ لأنها جوهرة، وبعد ذلك شعر الجفون ينمو إلى حد معين، وشعر الحواجب ينمو إلى حد معين، ما رأينا شعر جفن نما إلى أن صار شبراً، ما ظنكم لو نما شعر الجفون وصار طويلاً جداً؟ الناس يتغنون الآن بالجفون الطويلة، والرمش الطويل، لكن الطويل المعقول، أما إذا صار رمشك أو جفنك شبراً، هل يتغنى بك أحد حينذاك؟ لو زاد طول شعر الحاجب عن الحد المعقول لغطى على العين ولما تيسر لك النظر، بينما شعر الرأس ينمو وتقصه وشعر اللحية ينمو إلى مستوى معين وتبقيه أو تحلقه إن كنت من الذين يحلقون لحاهم، لكن شعر العين لا.
ينمو إلى مستو معين ويقف، من الذي أوقف نمو هذا الشعر ولم يوقف نمو الشعر ذاك؟ إنه الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.(33/11)
الإعجاز في خلق المعدة ووظيفتها
ينزل الطعام إلى المعدة، والمعدة جهاز يستقبل الطعام ويقوم بإفراز مواد قلوية وحمضيات أشبه بالأسيد، ولهذا الذي يمرض ثم يتقيأ يصعد مع القيء سائل أصفر مر وحامض جداً، هذه هي الأحماض والعصارات القلوية الموجودة داخل المعدة، مهمة هذه الأحماض أنها تهضم الطعام، كيف تهضمه وهو ممضوغ داخل الفم؟ لكن إذا وصل إلى البطن فإنه يحتاج إلى هضم، أي: تتحلل أجزاؤه بعضها عن بعض، من يقوم بهذا الدور؟ المعدة، تهضم الطعام وهي لا تهضم نفسها، تهضم اللحم وهي لحم ولكنه لا ينهضم، فالمعدة عبارة عن لحمة تفرز مادة عصارية تهضم اللحوم لكنها لا تهضم نفسها، وبعد ذلك ينتقل هذا الطعام بعد الهضم إلى مراحل أخرى، وهي الأمعاء الدقيقة والغليظة، ثم يبدأ الناتج بالتوزع والمرور على أجهزة أخرى عن طريق الدم، ومن ثم تخرج المواد الزائدة عن طريق الجهاز البولي على شكل بول، والجهاز الإخراجي على شكل فضلات، وأنت لا تعلم كل ذلك، أنت تدخل الطعام وهناك معامل ربانية، وأجهزة صنعها الله لك لا تعلم عنها، ولكن الله يجريها لك.(33/12)
الإعجاز في خلق الكلية ووظيفتها
هناك جهاز واحد فقط أتكلم عنه باختصار؛ لأن أمراضه شائعة في هذا الزمان، وهو الفشل الكلوي.
الكلية ركبها الله في ظهر كل إنسان، والكلية الواحدة أصغر من قبضة الكف، وتحتوي كل كلية على ثلاثة ملايين وحدة تنقية، أي: مركب لك أنت الآن ستة ملايين وحدة تنقية، وتستطيع أن تعيش بكلية واحدة، ولكن الله عز وجل ركب لك اثنتين من أجل إذا مرضت واحدة عملت بالثانية، أو إذا مرض أخوك أو أبوك أو زوجتك وتريد أن تسعفه تعطيه إحدى كليتيك، وتموت أنت ولديك كلية واحدة، هذه الكلية مهمتها استقبال الدم وتنقيته وتخليصه من السموم والشوائب والأملاح والأخلاط التي ترادفه ثم تحول هذه السموم والأخلاط إلى البول، والبقية من الدم يرجع إلى الجسم وقد تصفي مائة في المائة.
وقد يحصل للإنسان مرض يسمونه مرض الفشل: وهو أن الكلية لا تستطيع أن تؤدي دورها كاملاً في تنقية الدم، فكان الناس في الماضي يعانون حتى الموت، لكن مع تقدم الطب استطاعوا أن يقوموا بإيجاد أجهزة يسمونها الكلية الصناعية، هذه الأجهزة تقوم بوظيفة الكلية، لكن ليس بكل وظائفها وإنما تقوم فقط بعشرة في المائة من وظيفة الكلى، وهي تخليص الدم من السموم، أما جميع الأشياء فلا، والكلية الصناعية كبيرة جداً، وفيها أجهزة معقدة وأشياء تبهر العقل، ومع هذا تحتوي كل كلية صناعية على خمسين ألف وحدة تنقية، بينما كليتك الصغيرة تحتوي على ثلاثة ملايين وحدة تنقية، والجهاز الكبير هذا يحتوي على خمسين ألفاً فقط، تصور إذا أردنا أجهزة على عدد وحدات كلية إنسان، كم نحتاج إلى أجهزة؟ نحتاج إلى عشرين كلية صناعية من أجل أن توفر مليون وحدة تنقية، أي: ستون كلية صناعية تقوم بدور واحدة فقط من كليتيك، أي: مائة وعشرون كلية صناعية تقوم مقام كليتين معلقتين في ظهرك وزن الواحدة منها ثلاثمائة جرام، أو مائتان وخمسون جراماً، هذه الكلى التي معك لا تعلم بنعمة الله عليك فيها، فأنت تأكل الطعام وتخرج منك هذه الفضلات، ولو حبس الله فيك البلاء لمت.
أحد الإخوة أصيب بفشلٍ كلوي، فأصبح يغسل الدم مرتين كل أسبوع، يأتي يوم الأحد والأربعاء من كل أسبوع، ويجلس ساعتين تحت الكلية الصناعية، يسحبون دمه كله ويذهب في الكلية الصناعية ويرجع من هناك ويخرج وهو متعب يحتاج إلى ساعات من الراحة بعد هذه العملية الشاقة، وبعد ذلك تبرع له أحد أقاربه بكلية بشرية، وعملت له عملية، ونجحت العملية والحمد لله، يقول هذا الأخ: بعد انتهاء العملية كانت أول مرة أذهب فيها إلى دورة المياه منذ أكثر من خمس سنوات، فالبول من أين يأتي؟ عن طريق الكلية، فالذي عنده غسيل صناعي لا يبول أبداً، يقول: لما دخلت دورة المياه وخرج مني هذا البول حمدت الله حمداً لا أشعر بأن في الدنيا أعظم مني حمداً لله عز وجل، لماذا؟ يقول: لأنه خرج مني هذا الشيء بسهولة، كان يخرج مني بعد تعب عن طريق الكلية الصناعية، وأنت -يا أخي- الآن تعيش هذه النعمة ولا تقدر نعمة الله عليك.
كان أحد العلماء عند أحد الخلفاء، وكان يوماً شديد الحر، فعطش الملك فقال لخادمه: عليَّ بالماء، فجاءوا له بالماء، فلما أراد أن يشرب، قال له العالم الذي بجانبه: يا أمير المؤمنين! لو حبست عنك هذه الشربة إلا بنصف ملكك أكنت تفتديها؟ قال: نعم.
لأنه سوف يموت عطشاً، ماذا يعمل بملكه وليس معه ماء، قال: تفضل اشرب فشربها، فلما شرب وارتوى أراد أن يقوم، قال: إلى أين؟ قال: إلى الحمام، يريد أن يخرج هذه الشربة، قال: لو حبست فيك تلك الشربة إلا بالنصف الثاني من الملك أكنت تفتديها؟ قال: نعم.
أفتديها، قال: والله لا أحزن على ملكٍ لا يساوي شربة ماء ولا دفقة بول.
فخلقك عجيب -أيها الإنسان- وهو آية من آيات الله تبارك وتعالى الذي خلقك على هذه الهيئة، يقول الله عز وجل: {فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:5 - 6] المني {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق:7 - 8] ويقول عز وجل: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس:17 - 19] ويقول: {كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج:39] يتنزه الله عز وجل أن يذكر ذلك، كأنه يقول لنا: إنه يعلم من أي شيء خلقنا؟ من أي شيء؟ مما يعلمون {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [المعارج:40 - 41] يقول الله: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس:17 - 23] ويقول عز وجل: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات:20] لماذا تتعالون على الله وتتكبرون؟ لماذا التغطرس؟ أبالمال؟ المال مال الله.
أبالخلق؟ الخلق من الله.
أبالعز والجاه؟ الجاه من الله، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، إذاً لا مبرر لأن تتكبر -أيها الإنسان- لا مبرر لأن تتعالى -أيها الإنسان- إنما تتعالى بشيءٍ يحصل منك، وليس يحصل منك شيء قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] يقول عز وجل: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} [الزمر:6] ظلمة الرحم، وظلمة البطن، وظلمة المشيمة: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر:6] نطفة، ثم علقة، ثم مضغة: {خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر:6] وهذه العملية تتم أمامنا في كل يوم، ونشهد كل يوم مولوداً يولد، ويبشر بقدومه إلى هذه الحياة، مَنْ خَلَقَه؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو.
هذه الحقيقة الأولى: حقيقة الخلق والإيجاد.(33/13)
الحقيقة الثانية: حقيقة الموت
تأتي الحقيقة الثانية، الحقيقة المرة التي لا يودها أحد ألا وهي: الموت.
الموت مفرق الجماعات، مبدد الشعوب والأمم، قاهر الظلمة، لا يستأذن على أحد، ولا يخاف من أحد، يقول الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَاز} [آل عمران:185] هذا هو الفوز، وليس الفوز أن تبني عمارة، أو تنكح زوجة، أو تحتل وظيفة، أو يكون لك أي شيء في هذه الدنيا، فإن هذا فوز مؤقت محدد يزول بانتهاء الحياة، لكن الفوز يوم أن تزحزح عن النار وتدخل الجنة {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] ويقول عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] ويقول عز وجل: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] ويقول عز وجل: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] تحيد أي: تفر.
هل هناك شخص يريد الموت؟ كل شخص يرى أن الموت آتٍ فهو يهرب منه لا يريده، لكن الله عز وجل يقول: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8] كل شيء إذا فررت منه تبتعد عنه إلا الموت، إذا فررت منه اقتربت إليه، أي شيء تفر منه من ثعبان أو أسد فإن المسافة تزداد بينك وبينه، إلا الموت إذا فررت منه تقرب المسافة بينكما، إذاً لا تفر منه، واقترب منه، فإذا اقتربت فإنك تصل وأنت سالم، لكن إذا فررت كأنك تستعجل الموت أيها الإنسان، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُم} [الجمعة:8] وهل سمعنا أن أحداً استطاع أن يمتنع من الموت؟ قال عز وجل: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عليهمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154].
والموت سنة كونية لا تأتي بالحوادث ولا بالحروب ولا بأي شيء، وإنما وفق تقدير الله، تجد حادثاً مرورياً يموت فيه عشرة أشخاص إلا طفلاً رضيعاً، أصحاب العضلات ماتوا والطفل الرضيع وجدوه في مهده معافى.
في الزلزال الذي حصل في مصر وجدوا شخصاً بعد ثمانين ساعة تحت الأنقاض، وأتوا عليه وهو سالم، لا هواء ولا ماء ولا غذاء والله كتب له النجاة، لماذا؟ لم يأذن الله بموته، ليس الذي يميت هو الزلزال أو البحر، أو الطائرات هذه أسباب لكن الذي يحيي ويميت هو الله، فإذا أراد الله أن تحيا حييت ولو كنت في البحر، أو الحريق أو الطائرة أو السيارة، وإذا أراد الله أن تموت فإنك تموت ولو كنت على فراشك.
امرأة كان لها ولد يدرس في أمريكا، وجاء يقضي إجازته عندها، وبعد ذلك انتهت الإجازة وأراد أن يرجع إلى دراسته التي يريد أن يكملها في أمريكا، وأمه تريد أن يطيل الإجازة ولا تريده أن يسافر، فأخبرها بأنه حجز على الرحلة الفلانية، وطلب منها أن توقظه قبل الرحلة بحوالي ساعتين أو ثلاث من أجل أن يدرك الطائرة، فتركته ينام ولم توقظه من أجل أن يستيقظ وقد فاتت الرحلة، فيذهب ليحجز من جديد فيطيل المكث معها، الأم تطمع في ولدها، وهو مسكين يريد أن يسافر، فلما نام وانتهت الرحلة وهو نائم قامت تسمع الأخبار وإذا بها تسمع خبر أن الرحلة التي كان مقرراً أن يركب فيها هذا الولد قد أقلعت من المطار، وعند نهاية المدرج حصل في الطائرة خلل فاحترقت، وهلك جميع الركاب الموجودين في الطائرة، والطائرة لا زالت في بداية الإقلاع، وأذاعوا البيان والتعازي -وكان ذلك في بلد عربي قبل سنوات- فالأم فرحت أن ولدها لم يسافر، وأنها كانت السبب في أنه موجود، فجاءت تبشره أن الله نجاه، فلما جاءته وجدته ميتاً في فراشه، فكان متوقعاً أن يموت في الطائرة فمات في فراشه.
آخر كان يعمل في عمارة في الدور السابع، وأثناء عمله فقد توازنه وسقط من أعلى، وأخذ يسقط على الألواح الخشبية الواحد إثر الآخر حتى سقط على كومة رمل أسفل العمارة، وإذا به واقف ولم يصبه شيء، فنظر فيمن حوله وضحك من الفرحة، والناس الذي رأوه يسقط من السماء يضحكون ويتعجبون من سلامته، وزملاؤه الذين معه في عجب، ففرح الرجل ومن فرحته قال لمن حوله: والله لأسقينكم شراباً، أي: بمناسبة السلامة، من أين يسقيهم شراباً؟ الشراب في بقالة مقابلة للعمارة، فقطع الشارع يريد أن يأتي بالشراب وكان ذلك مع مجيء سيارة مسرعة قطعته قطعة قطعة.
الله عز وجل قد قدر عليه أن يموت في تلك اللحظة وهو في الدور السابع على الألواح، ولو نزل بواسطة الدرج فسوف يتأخر، فالله أنزله بقوة، أنزله بسقطة من أجل أن يموت في تلك اللحظة، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8].
فحقيقة الموت مرة نعيشها ونستقبلها، ولكن ليس الموت هو المهم، يقول خبيب بن عدي:
وما بي حذار الموت إني لميتٌ ولكن حذاري جحم نار تلفع
والآخر يقول:
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شيء
والآخر يقول:
لهوت وغرتك الأماني وعندما أتمت لك الأفراح فوجئت بالقبر
الإنسان يتعب طيلة حياته ويجمع ويبني، فإذا تزينت له من كل جانب، فكثرت الأموال، وزادت العمارات، وكثر الأولاد، وأصبح منعماً، جاءه الموت فأفسد عليه تلك الحال.
زرت رجلاً من الأثرياء جاءته تعويضات بالملايين عن أراضٍ له ومزارع وبيوت اخترقها مشروع حكومي، ولما صار عنده الملايين زرته، وإذا بالرجل مسكين في السبعين من عمره، وإذا به يكاد يتقطع قلبه من الحسرات والندامات، قلت: ما بك؟ قال: مصيبة يا ولدي، قلت: ما الأمر؟ قال: الملايين ما أتتني إلا وأنا كهل، يقول: ملايين وأنا كهل! ماذا أفعل بها؟ قلت: مم تشكو؟ قال: أشكو من السكري ولا أذوق شيئاً لا اللحم ولا الشحم ولا الرز لا آكل إلا خبزة يابسة مع فنجان حليب بدون سكر، والملايين موجودة في البنك، يقول: والمرأة لا أقدر على ضربها؛ لأنه كهل، يقول: والنوم لا يأتيني، يقول: أتمنى أن الملايين أتتني وأنا شاب، كنت استفدت منها، إذاً، قلت له: أتريد أن تستفيد منها؟ قال: نعم.
قلت: أرسلها إلى الآخرة حتى تستفيد منها، قال: هل تريدني أن أضيع مالي، قلت: أنت مضيع مالك لا محالة ولكن قدمه لك فلا تضيعه، ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت، يقول: إنك تريدني أن أضيع مالي، قلت: الذي يضيع ماله هو الذي يتركه، أما الذي يقدمه إلى الله عز وجل فإنه لم يضيّع نفسه ولا ماله، بل هو والله العاقل.(33/14)
الحقيقة الثالثة: حقيقة البعث وأساليب القرآن في إثباتها
فالموت -أيها الإخوة- يأتي على الناس وينقلهم من هذه الدنيا إلى الحقيقة الثالثة وهي: حقيقة الآخرة، حقيقة البعث، وهذه الحقيقة هي التي نحتاج أن نتوسع فيها إن شاء الله.
قضية البعث من أبرز قضايا العقائد، وهي ركن من أركان الإيمان في حديث جبريل لما سأل عن الإيمان قال: (وأن تؤمن بالبعث بعد الموت) وكادت تكون القضية الكبرى بعد قضية التوحيد في كتاب الله، خصوصاً في القرآن الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة لتثبيت العقيدة، فكانت قضية التوحيد ومحاربة الشرك، والتركيز على البعث هما أهم قضيتين تناولهما القرآن: القضية الأولى: لإفراد العبودية لله.
والقضية الثانية: للإيمان بالبعث.
لأنه إذا آمن الإنسان بالبعث انضبط سلوكه، واستقام في منهجه؛ لأنه يعرف أنه سيبعث، فجاء التركيز عليها بشكل قوي، وعالجها القرآن بوسائل وأساليب كثيرة.
ومن هذه الأساليب:(33/15)
أسلوب القسم
أقسم الله في القرآن الكريم أن البعث كائن، والله لا يقسم بذاته عز وجل ولا يأمر نبيه أن يقسم بذاته إلا على أمرٍ هام، يقول عز وجل: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] الذين أنكروا البعث يصعب عليهم تصديق أن الله يرد هذا الطين آدمياً بعدما يصير طيناً، قال الله لهم: {وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] إذا كان صعباً عليكم لأنكم بشر ضعفاء، فليس بصعب على الله، ولما سألوا قالوا: كيف يخلقنا ربنا ويعيدنا كلنا وقد مات الأولون؟ قال الله عز وجل: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28] قال: خلقكم ومن قبلكم ومن بعدكم إلى يوم القيامة وبعثكم مثل خلق وبعث نفس واحدة، وقال عز وجل: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] ويقول: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات:27] أنت -يا إنسان- خلقك أشد أم خلق السماء؟ فكيف تستغرب أن الله يخلقك مرة ثانية وقد خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن؟ {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:38 - 39] ويقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:16 - 17] فيقسم الله، ويأمر رسوله أن يقسم ويقول: قل يا محمد، قل يا أيها النبي: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7] بعد أن قال: زعم، والزعم هو الكذب {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7] قال الله: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] ويقول له: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس:53] يقول: الكفار يسألونك: أحق البعث؟ قال الله: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:53] {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس:53] هناك: وذلك على الله يسير، وهنا: وما أنتم بمعجزين.
وقال عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3] الذين كفروا قالوا: ليس هناك ساعة، قال الله: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3] ويقول عز وجل: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23] أمر البعث حقٌ مثلما أنك تنطق، ألست الآن تنطق؟ والله إن أمر البعث حق مثلما أنك تنطق، وبعد ذلك من الذي قال هذا؟ الله، يقول: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23] وبعد ذلك هذا الأسلوب الأول، أسلوب التأكيد عن طريق القسم.(33/16)
أسلوب المعالجة العقلية
وعالج القرآن قضية البعث علاجاً عقلياً، عن طريق رد الإنسان إلى أصله، وتذكير الإنسان بأصل خلقته، فالقادر على البدء قادر على الإعادة، من صنع سيارة من أولها ثم تفككت بعد ذلك ألا يستطيع أن يركبها مرة ثانية؟ من صنعها من لا شيء قادر على إصلاحها وهي شيء، هذا بالنسبة للإنسان فكيف لا يكون الله قادراً على إعادة الإنسان وهو خلقه من غير شيء؟!! وإن الله ليس عنده شيء أصعب ولا شيء أسهل، كل شيء عنده سهل، قال عز وجل: {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39] {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] ليس هناك صعب ولا سهل عند الله.
يقول الله عز وجل: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] انظر كيف يكون الرد، قال الله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79] {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} [يس:78] هذا العاص بن وائل أخذ عظماً من المقبرة وأتى به وفته في يد الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: أتزعم يا محمد أن ربك يعيدنا بعد أن نكون عظاماً رميماً؟ ثم نثر الطين بيد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: (نعم.
ويدخلك الله النار!) وفعلاً مات العاص بن وائل -أبو عمرو بن العاص - مشركاً ولم يسلم، ويدخله الله النار، ونزل القرآن مباشرة: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77] خصيم أي: مجادل، يجادل النبي صلى الله عليه وسلم {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} [يس:78] أي: بالعظم الذي قد رم {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] أي: نسي العظم الذي يحمل العظم، هو الآن جاء بعظم مفتت على عظم مركب، مَنْ خلق الأول حتى تنكر العظم الثاني؟ {وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] قال الله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79] الذي خلقها أول مرة، أليس قادراً على إعادتها ثانية؟ بلى إنه قادر تبارك وتعالى، فهذا رد عقلي.
والرد الثاني: يقول الله عز وجل: {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} [مريم:66] قال الله: {أَوَلا يَذْكُرُ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} [مريم:67] الإنسان يقول: أئذا ما مت لسوف أخرج حيا مرة ثانية؟ قال الله: {أَوَلا يَذْكُرُ} [مريم:67] أي: لا تذكر أنك كنت ميتاً فخلقناك ولم تك شيئاً، فالذي خلقك ولم تكن شيئاً فإنه قادر على أن يعيدك بعد أن تكون شيئاً، هذه ردود عقلية منطقية من أجل إيقاف الناس على حقيقتهم، ويقول عز وجل: {فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5] إذا كان عندك شك في البعث فانظر من أين خلقت، ويقول عز وجل في سورة الحج {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} [الحج:5] إن كان عندكم شك من البعث {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} [الحج:5] هذا المثال {ً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:5 - 7] هذه خمس نتائج تقريرية للآية، إن كنتم في ريب من البعث فهذا الخلق يتم أمامكم، فالذي خلق وأمات يبعث، وهو الله تبارك وتعالى.(33/17)
أسلوب نقل صور الآخرة ومشاهدها
ثم جاء الأسلوب الأخير في القرآن الكريم لتقرير قضية البعث، ينقل صور ومشاهد مما سيحدث يوم القيامة بين المصدقين والمكذبين بالبعث، أناس آمنوا -نسأل الله أن يجعلنا منهم- بالبعث وعبروا عن إيمانهم بالعمل؛ لأن الذي يؤمن بالبعث لابد أن يعمل الصالحات ويترك السيئات، أما الذي لا يعمل الصالحات ويقع في المعاصي والسيئات -والعياذ بالله- هذا إيمانه بالبعث قليل أو معدوم.
علامة الإيمان بالبعث انضباطك، الآن الناس لماذا ينضبطون عند إشارات المرور؟ آمنوا بجندي المرور، علموا أن هناك جندياً أو سيارة تختفي في بعض الزوايا تضبط المخالفين، ولهذا يأتي الشخص فيقف عند الإشارة الحمراء ولو كان مستعجلاً، ولو كان معه مريض، آمنوا بالجزاء وأن هناك قسيمة بثلاثمائة ريال على قطع الإشارة، كل واحد يقف، لكن لو أن هناك إشارات لكن الدولة ألغت جهاز المرور، ,أعطت للناس حرية السير كيفما شاءوا فهل يقف أحد عند الإشارة؟ والله ما ترى شخصاً يقف عند الإشارة، لماذا؟ لا يوجد أحد عنده يقين أنه سوف يجازى! وكذلك الذي يعرف أنه سيجازى يوم القيامة ينضبط سلوكه، لا يزني؛ لأنه يعرف أن الزنا حرام، لا يلوط؛ لأنه يعرف أن اللواط محرم، لا يأكل حراماً، لا يغني، لا ينظر إلى حرام، لا يتكلم في حرام، لا يسمع حراماً، لماذا؟ انضبط سلوكه، لكن لو لم يكن مؤمناً فإنه يخبط خبط عشواء ذات اليمين وذات الشمال؛ لأنه ما آمن بالله، فالله عز وجل نقل لنا في القرآن الكريم صوراً من أحداث يوم القيامة، تبين حالة أهل الإيمان بالبعث، وحالة أهل الكفر الذين كذبوا بالبعث، في مشاهد كثيرة أذكر لكم بعضها: ومنها قوله عز وجل في سورة الصافات، بين رجل مكذب ورجل مصدق، قال عز وجل: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:50] وهم في الجنة، أهل الجنة على الأرائك والسرر يتحادثون، ويتنادمون، ويتكلم بعضهم مع بعض، غاية النعيم أنهم يتحادثون في الجنة {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} [الصافات:51] واحد من أهل الجنة {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51] يقول: كان لي رفيق وصديق {يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:52 - 53] هذا الكافر يقول: أأنت مصدق أنا إذا متنا يبعثنا الله ونحاسب وندان بأعمالنا؟ يقول المؤمن: كان لي صديق بهذا الوضع، إذاً فأين هو الصديق هذا؟ وإذا بربك الرحمن يقول في القرآن: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:54] يعني: هل تريدون أن تنظروا حال هذا الرفيق؟ فهو موجود، لم يفلت من قبضة الله، وهو موجود في الدار الثانية، في النار {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:54 - 55] نظر إليه من الجنة، وإذا به يراه في سواء النار أي: وسطها، مثل الفحمة السوداء يتعذب في النار، فلما نظر إليه قال له: {قَالَ تَاللَّهِ} [الصافات:56] حلف بالله {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي} [الصافات:57 - 58] أي: بثباتي على الإيمان والدين {لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] ثم قال لإخوانه: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [الصافات:58 - 61].
{قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57 - 57] ثم التفت إلى من حوله من إخوانه في الجنة وقال مغتبطاً ممتناً بنعمة الله بأن أدخله الله الجنة ونجاه من النار {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} [الصافات:58] يعني: انتهى الموت الذي كنا نخاف منه، من أن ينغص علينا نعيمنا في الدنيا، ويهددنا في أولادنا وأزواجنا، الآن توجد زوجات خالدات، وقصور عاليات، وأنهار جاريات، ونعيم -نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا من أهله وإخواننا في الله في جميع بلاد المسلمين وآبائنا وأمهاتنا- يقول: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [الصافات:57 - 61].
يذكر ابن كثير قصة في سبب نزول هذه الآية: أن رجلين من بني إسرائيل، رجلٌ مؤمن بالبعث وآخر كافر بالبعث، وكانا شريكين في تجارة، وكان صاحب الإيمان يعمل للتجارة، ولكنه يعمل لتجارة الآخرة أكثر، أما الكافر فكان يشتغل ليلاً ونهاراً على تجارة الدنيا، فكأنه ضجر من رفيقه المؤمن وطلب منه أن يفترقا، فاجتمعا وجمعا المال، فوجداه ثمانية آلاف دينار، فقسماه وأخذ كل واحد أربعة آلاف دينار، وقام التاجر الكافر واشترى بألف دينار أرضاً واسعة، واشترى فيها عبيداً بألف دينار أخرى، وبنى فيها قصراً بألف دينار، وتزوج زوجة كلفته في جهازها وتجهيزها ألف دينار، وعاش في هذه المزرعة الكبيرة، يخدمه العبيد، ومعه الزوجة الجميلة في القصر العالي.
أما ذلك المؤمن فأخذ الأربعة الآلاف دينار، وكلما سمع بأن صاحبه عمل شيئاً للدنيا، عمل شيئاً للآخرة، فحين اشترى أرضاً، قال: اللهم إن رفيقي فلاناً اشترى أرضاً سيموت ويتركها، اللهم إني أشتري عندك أرضاً في الجنة بألف دينار، ووزعها على الفقراء، وبعد ذلك علم أنه اشترى عبيداً قال: اللهم إني أشتري عبيداً عندك في الجنة بألف دينار، وعلم أنه بنى قصراً قال: اللهم إن رفيقي بنى قصراً في الدنيا سيموت ويتركه، اللهم إني أشتري عندك قصراً في الجنة بألف دينار، ووزعها على الفقراء، علم أنه تزوج قال: اللهم إن رفيقي تزوج امرأة سيموت ويتركها أو تموت هي وتتركه، اللهم إني أخطب عندك حوراء عيناء في الجنة بألف دينار ودفعها، ولم يبق معه شيء من المال، فقد قدمه كله في سبيل الله، فأراد الله عز وجل أن يمتحنه، ويجري عليه اختباراً، فضاقت عليه سبل المعيشة، حتى أصبح يسأل الناس، وصدته الحياة ولم يجد من يعطيه لقمة عيش، فتذكر صاحبه وشريكه الأول فذهب إليه يدق عليه الباب، ويطلب منه أن يعطيه شيئاً، ولما قرب من القصر طرده العبيد؛ لأن عليه أسمالاً بالية وثياباً مقطعة رثَّة، قال له العبيد: اخرج ولا تأتنا ولا تقترب، حتى لا يأتي سيدنا فيراك ويعاقبنا؛ لأنك تشوه منظر القصر، فقال: قولوا لسيدكم: فلانٌ يريدك، قالوا: نقول له أنت تريده؟ ومن أنت؟ قال: قولوا له هذا الكلام فقط، فصعد شخص إليه وقال له: بالباب شخص فقير مقطع الثياب يقول: إنه يريدك واسمه فلان بن فلان، فتذكر فنزل إليه ولما رآه صافحه وسلم عليه، وقبل أن يتكلم معه قال له: قبل كل شيء أين أموالك؟ قال: أقرضتها، قال: من أقرضتها، ومن الذي يقرض ماله؟ قال: أقرضتها المليء الوفي، وأشار إلى الله، المليء الذي لا يأخذ حقك، والوفي الذي سوف يعطيك ويوفي لك، فنزع يده منه وضربه في صدره، وقال: اذهب إليه، فرجع الرجل بحسرة وندامة ما بعدها حسرة، وعاش بقية عمره إلى أن مات، ولما مات ودخل الجنة أعطاه الله القصر والأرض والعبيد والزوجة، وذاك مات وترك كل شيء ودخل النار.
ولما دخل المؤمن الجنة أخبر الله بما سيكون يوم القيامة فقال: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51] هذا الرفيق يقول: {يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:52 - 55] هذا يحصل بين من كذب بالبعث وبين من آمن به.
مشهد ثانٍ من مشاهد القيامة ذكره الله في سورة الأعراف وهي قوله عز وجل: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:50] أصحاب النار وهم في النار يعانون من لهيبها وحرها، وسمومها وسلاسلها، وأغلالها وأنكالها، وحياتها وعقاربها، وظلماتها -والعياذ بالله- نعوذ بالله من لظى جهنم، وهم في هذا العذاب الأليم يسمعون أهل الجنة وهم يتنادمون ويتحدثون فينادونهم كما قال الله: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50] من هم؟ {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأعراف:51] هؤلاء الذين غرتهم الحياة الدنيا، واتخذوا آيات الله ودينهم هزواً ولعباً، وكانوا يجحدون بآيات الله، وبلقاء الله عز وجل، كانت نتيجتهم النار، وأولئك المؤمنون كانت نتيجتهم الجنة.
فيا أخي في الله! يجب أن تعمق هذه القضية والعقيدة في قلبك، وأن تشعر بأنك مؤاخذ ومسئول عن كل عمل تعمله، والله تبارك وتعالى يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] والله ما من حركة تتحركها، ولا لفظةٍ تتلفظها، ولا خطوة تخطوها، إلا مسجلة عليك، وسوف يخرج الله لك كتاباً تقرأه يقول الله عز وجل: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29].
اسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يرزقنا وإياكم الإيمان، وأن يوفقنا جميعاً للعمل الصالح، وأن يثبتنا على ذلك حتى نلقى الله، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
كما نسأله تعالى أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته،(33/18)
الأسئلة(33/19)
حلول عملية لمشكلة الزواج عند الشباب
السؤال
نرجو من الشيخ أن يذكر لنا حلولاً لمشكلة العنوسة وكثرة العزاب؟
الجواب
أولاً: من الحلول العملية لمشاكل الأمة ومعضلاتها ما حصل في مدينة جدة، كانت أزمة ولكنها كبرت حتى صارت مشكلة، ثم نمت حتى أصبحت معضلة تهدد بانهيار مجتمعنا، ألا وهي: عضل النساء، وعدم تزويجهن، بيوت مملوءة ومكدسة بالنساء، وبيوت مملوءة ومكدسة بالرجال، وعراقيل وعقبات توضع في سبيل هذا اللقاء الشرعي وهو الزواج، مما اضطر الناس يوم أقفلت الأبواب الشرعية، أن يفتح لهم الشيطان أبواباً غير شرعية، لا سيما مع وفرة الإمكانيات التي توصل إليها، كان الناس في الماضي لا يستطيع أحد أن يصل إلى أحد، كل بنت في بيت أبيها ودونها جبال، الآن لا، أصبح الواحد يستطيع أن يقتحم البيت وأنت نائم لا تعلم عن شيء يقتحم البيت عن طريق رقم يرمي به الشاب عند الباب، وحصل ما حصل من الفساد.
ولكن قيض الله لكم في هذه المدينة وغيرها من المدن بعض الرجال الصالحين الذي نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحداً، يتمتعون بشجاعة وجرأة في الحق، وأيضاً عندهم عقل استعملوه في تقديم حلول عملية، ليست الحلول كلاماً، مهما قلنا للناس ومهما حدثنا سيبقى الكلام توجيهياً فقط، لكن عملياً في حياة الناس لا بد من أن يقوم واحد بالمبادرات، ولديكم مبادرتان: المبادرة الأولى: مبادرة اللجنة الخيرية لمساعدة المتزوجين هذه تمثل جسراً بين الأغنياء القادرين، وبين الفقراء غير القادرين، تجمع التبرعات من المحسنين، وتتعرف على الشباب الذين لا يستطيعون أن يتزوجوا، ثم تهيئ لهم معونة مالية وأثاثاً، وتستأجر لهم شقة، وجائزة على أول مولود، وجائزة على ثاني مولود، من أجل تشجيعهم على النسل، هذا خير كبير، بعض الأثرياء عنده مال يريد أن يتصدق، لكن لا يعرف من يعطي، فلا يتصدق، لكن حين يجد من فيه خير ويقول له: هاتها وأنا أضعها في محلها، ويكون ثقة مثل هؤلاء المشايخ والعلماء، فهذه الجمعية المباركة تقوم بنشاط كبير، وقد حصل منها خير كبير، وتزوج منها آلاف البنات وآلاف الفتيان، وأنشئت منها آلاف الأسر، وحصل منها النسل الكثير، وما حصل إلا خير إن شاء الله، فنريد منكم إن شاء الله استمرار الدعم لهذه الجمعية.
هذه الجمعية الخيرية ليس عملها عملاً منقطعاً، بحيث تهب لها مرة واحدة ثم تكف يدك، بل لابد أن تستمر في الخير ليكون لك مساهمة في بناء أسرة ولو بلبنة واحدة، ولو بعشرة ريالات من راتبك الشهري، في السنة مائة وعشرون تضعها في الصندوق من أجل المساهمة في القضاء على هذه المعضلة، وتزويج النساء والرجال، هذا شيء عظيم تحتسبه عند الله.
ولذا يقف على الأبواب إخوانكم الذين يجمعون التبرعات لهذا المشروع، وأنا أحثكم وأسأل الله أن يعينكم عليه، وأيضاً يوجد صندوق عند النساء.
المشروع الثاني: وهو عملي لا يقل عن الأول بل يمكن أن يكون أهم منه؛ لأنها الخطوة التي تسبق الزواج وهو قضية الدلالة والوساطة بين من يريد أن يتزوج ومن يريد أن يزوج، كثير من الناس عنده بنات يريد أن يزوجهن، لكن لم يأته أحد، فماذا يصنع؟ لا يستطيع أن يذهب إلى الحراج ويقول: والله عندي أربع بنات أو ثلاث أو اثنتان، فإن جاء أحد كان بها، وإلا قعدن في البيت، بعضهن بلغت من العمر أربعين سنة، وهي تريد الزواج ولكن لم يتزوجها أحد، لا يستطيع هو أن يخبر الناس، رغم أنه لو دعا أحداً من أهل الدين فليس عليه حرج، لكن بعض الناس رأسه جاهلي، يقول: أأذهب أعرض بابنتي؟ لا.
لا تحرج عليها، لكن اختر لبنتك كما فعل من هو أكرم منك القرشي الهاشمي عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان يدفن ابنته حية من العار، لكن لما هداه الله إلى الإيمان ما دفنها وهي حية في البيت، وإنما بحث لها عن زوج، عرضها على عثمان وأبي بكر فأعرضا عنها، لأنهما سمعا النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها، وخطبها النبي صلى الله عليه وسلم ففرح عمر بذلك، وأصبحت أماً للمؤمنين وهي حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها وأرضاها.
ليس عيباً إذا رأيت شاباً ملتزماً متديناً يصلي في المسجد، وتعرفت على أخلاقه عن طريق سؤالك عنه، لا يكفي فقط أن تأخذ من الصلاة دليلاً، الصلاة أكبر دليل لكن ابحث عن الأمور الأخرى عن تعامله وخلقه وحياته، فإذا تأكدت فادعه وقل: يا فلان، أنا عندي بنت أحبها مثل عيني، قطعة من كبدي، ومن حبي لها اخترتك لها، فما أريد أنك يوم من الأيام تقول: والله أنت الذي عرضتها علي ثم تنتقصني، تعال انظر إليها، فإن ناسبتك وأعجبتك قرنت بينكما وعقدت لك، فإن لم تناسبك فالسر عليه الله، لا تذهب وتقول: فلان دعاني ورأيت بنته، وهي ليست جميلة، تكشف عرضي، لم ينظر إليها أحد إلا أنت، أنا أغار عليها من الشمس تنظر إليها، ولكن بأمر الشرع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر أن تراها، فتأتي به إلى ابنتك ويراها وتراه، فإذا ناسبها وناسبته تعقد لهما على مائة ريال أو عشرة ريالات أو ألف ريال، هذا هو الزواج الشرعي، أما أن تنام كل ليلة عند زوجتك، وبيتك ممتلئ بالبنات أو الشباب ولا تزوجهم فهذه مصيبة، كثير من الناس يريد أن يزوج، ولكن لا يعرف ولا يستطيع.
وقد قام أحد الإخوة في الله وهو الشيخ: عبد العزيز الغامدي حفظه الله، بهذا الجهد مشكوراً، وهذا الجهد متعب ومضنٍ جداً؛ لأنه تعامل مع شيء حساس في حياة الناس وهو العرض، صعب أنك تدخل في هذه الأشياء، لكن يحتاج إلى نوع من الصبر، ويحتاج أيضاً إلى نوع من السيطرة على النفس، وعلى الاستمرارية وعدم الضجر، فقام بهذا العمل جزاه الله خيراً ورتب إدارة وشكل جمعية، تقوم هذه الجمعية بتعريف الشباب، فالذي يريد أن يتزوج يذهب إليه ويقول: يا شيخ! أنا أريد أن أتزوج، وهذه مواصفاتي: أنا شاب جامعي، راتبي كذا وكذا، أسكن في كذا وكذا، الجنسية كذا، وهذا وضعي، وهذه مواصفاتي، وأنا أريد بنتاً مواصفاتها كذا، ويأتي الرجل من أهل الخير الذي عنده بنات، يقول: يا شيخ! أنا رجل عندي بنات وأريد تزويجهن، الكبيرة عمرها كذا، والثانية عمرها كذا، والثالثة عمرها كذا، وأنا أريد أن أزوج من صفته كذا ووضعه كذا، فيقوم الشيخ يقابل بين الشروط، فإذا رأى أن هذا يصلح لهذا دعاه وقال: تعال يا أخي! اذهب إلى فلان، وقل: دلني عليك فلان، ومن فضل الله يذهب ويتزوج وتقوم الأسر، وحصل خير كثير، والآن عنده كما يقول لي: أكثر من خمسين ألف من الشباب يريدون أن يتزوجوا، وعنده مثلها بنات، وهو الآن من فضل الله كل يوم وهو يزوج، لكن هذا الجهد يحتاج أيضاً إلى دعم منكم؛ لأنه يحتاج إلى إدارة، ومبنى مستأجر، وعاملين، ومكالمات هاتفية.
ثم إن هذا الخير لم يكن محصوراً على مدينة جدة، بل تجاوزها إلى معظم مدن المملكة، بل نقرأ الآن في جريدة المسلمون أن هذا الخير وصل إلى البلدان الإسلامية الأخرى، نسمع عن فتاة من الجزائر، أو المغرب، أو سوريا، أو مصر تبحث عن زوج، وشاب من الكويت يريد زوجة، فحصل خير كبير، وتعارف الناس وحصل منهم خير كثير، بدلاً من بقاء البنت معزولة والرجل معزولاً، أو يلتقون عن طريق الشر، فهيأ لهم هذا الشيخ اللقاء الشرعي فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً.
ونرجو من كل من يقدر على مساعدته أن يدعمه بالتبرع الذي يستطيع به مواجهة تكاليف هذا العمل الخيري الإيجابي، الذي نسأل الله أن يجعله في موازين حسناته.(33/20)
الوسواس وحديث النفس
السؤال
تحدث لي بعض الأفكار التي لا أستطيع ذكرها وهي تقلقني كثيراً فكيف التخلص منها؟ وهل أنا محاسب على هذه الأفكار؟
الجواب
هذه الأفكار والوساوس التي لا تزال في الذهن دون أن تخرج إلى الواقع لا تحاسب عليها، وهي من كيد الشيطان، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها؟ فقال: (الحمد لله الذي رد كيد عدو الله إلى الوسوسة) وقالوا: (يا رسول الله! إنا نجد في قلوبنا شيئاً لا نقدر أن نسألك عنه -أي: كأنه عن الله - فقال: ذاك صريح الإيمان) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا عن أمتي الخطأ والنسيان، وما حدثت به نفسها ما لم تعمل أو تتكلم) فشيء يدور في ذهنك لم يخرج إلى الواقع ليس عليك مؤاخذة، وهذا من الشيطان.
أما كيف تصنع؟ فتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، قال عليه الصلاة والسلام: (يأتي الشيطان إلى أحدكم فيقول: من خلقك؟ فتقول: الله، فيقول الشيطان: ومن خلق الله؟) هذا من الشيطان؛ لأن الشيطان يريد أن يكون الله مخلوقاً، وإذا قلنا هناك من خلق الله، فسيأتي ويقول: من خلق الذي خلق الله؟ وستستمر السلسلة إلى ما لا نهاية، إذاً فلابد من خالق لا يُخلق، من هو؟ الذي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فالله عز وجل له صفة أنه خالق وليس بمخلوق، لكن حين نقول: أنت مخلوق، من خلقك؟ الله عز وجل، من خلق الله؟ كأننا نريد أن يكون الله مثل الإنسان، الآن هل الباب مثل النجار؟ من صنع الباب؟ النجار، أليست صفة الباب غير صفة النجار؟ إذا تزوج الرجل نقول: يا باب تزوج! ما رأيكم؟! وإذا تحرك الباب نقول: قم يا نجار تحرك، لا.
صفة الباب غير صفة النجار، وصفة الخالق غير صفة المخلوق.
من صفات الله أنه الخالق قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24] ومن صفتك أنك مخلوق، فكيف تريد صفتك مثل صفة الله عز وجل؟! فإذا جاءك الشيطان بهذا قال: (فإذا جاء أحدَكم الشيطانُ فليقل: أعوذ بالله، آمنت بالله).(33/21)
نصيحة لأصحاب الدشوش
السؤال
يوجد حي يسمى حي (الدشوش) فهل من نصيحة لهم أيها الشيخ!؟
الجواب
والله ليس بفخر أن يسمى هذا الحي (حي الدشوش) هي في الحقيقة مسبة أن يتصف الإنسان بأنه ركب فوق بيته دشاً، هذا الدش يصب عليه حمم العذاب، ويجمع عليه -والعياذ بالله- الشر من كل حدب وصوب في العالم، المؤمن يحتاج إلى رحمة الله، المؤمن يحتاج أن يتنزل عليه رضوان الله، ليس بحاجة إلى شرور، كفى ما نحن فيه من الشرور -يا إخوان- شرور تغزونا من كل جانب ومن كل اتجاه، لم يبق إلا أن نركب شيئاً يزيد من الشر الموجود حتى في بلاد الكفار من أجل أن نصبه على نسائنا وأزواجنا وأولادنا وبناتنا، ونخرب بها بيوتنا، ونقضي على ما بقي عندنا من دين، ونخرب ما نحن فيه من أمن وطمأنينة.
أما تعلمون أن هذا الفساد إذا حصل فهو سبب لزوال النعم التي نحن فيها؟ يقول الله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41] هذه مصيبة، أنك ترضى بهذا المنكر -يا أخي- فكون حي كامل يسمى (حي الدشوش) فيعني ذلك: أنهم تعارفوا على تركيب هذا.
فأنا أقول لهم: اتقوا الله في أنفسكم، اتقوا الله في أولادكم وأزواجكم وأمتكم، سوف تموتون، فبم تعتذرون إذا وقفتم بين يدي الله؟ ماذا تقولون وقد قال الله لكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6]؟ ماذا تقولون وقد قال الله عز وجل لكم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عليها لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه:132]؟ بأي وجه تقابل ربك وقد خنت الرسالة والأمانة وضيعت المسئولية؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث في الصحيحين: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، الرجل راعٍ في أهل بيته ومسئول عن رعيته).
ومن الرعاية لهذه الأسرة: أن ترعى دينها، أما أن تضيع دينها بتركيب هذه الأجهزة التي تجمع الموجات المنتشرة في الفضاء من كل أجهزة الفساد في العالم ثم تصب هذا الشر على بيتك وتراه امرأتك، وبنتك، وولدك، ثم تفرط في هذا كله من أجل متعتك، تتمتع بذلك وأنت مؤمن بلقاء الله؟! تفرح وتمرح وأنت مؤمن بأنك ستموت؟! ألا تذكر القبر وما فيه؟ ألا تذكر الجنة وما أعد الله لأهلها المؤمنين؟ ألا تذكر النار وما أعد الله لأهلها الذين ينحرفون عن منهج الله؟ أنا أقول لهم محبة لهم ونصحاً: توبوا إلى الله، وأخرجوا إلى هذه (الدشوش) وحطموها إلى غير رجعة، وضع في بيتك الخير، الشريط الإسلامي، والكتاب الإسلامي، وجه بنتك، وولدك، وزوجك إلى الخير، اربط صلتك بالله تسعد في الدنيا، ويرضى الله عنك في الدنيا، ويبارك الله في عمرك وزوجتك وأولادك، وتعيش محبوباً عند الله، وعند خلق الله، ثم إذا مت لقيت الله ووجهك أبيض، وصحائفك بيضاء، وقبرك روضة من رياض الجنة، ثم إذا بعثت تبعث وأنت مكرم معزز، تمر على الصراط كالبرق الخاطف، وتأخذ كتابك بيمينك، وتوزن فترجح موازينك، وتشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم شربة لا تظمأ بعدها أبداً، هذا إذا كنت -أيها المسلم- تريد النجاة.
أما الذي لا يريد، بل يريد أن يستمر على الدشوش تمطره بوابل من الشرور والمعاصي والمنكرات والأفلام النجسة الرجسة، والبوليسية، والإذاعات التنصيرية، ليسمعها ويتثقف عليها، أي ثقافة هذه أيها الإخوة؟ ثقافة الجنس، هل هي ثقافة؟! أن يشاهد الإنسان رجلاً عارياً ينزو على امرأة عارية؟ أن تراه ابنته، أهذه ثقافة -يا إخواني-؟ هذه الحيوانات تعرفها بدون دشوش، الحمار ليس محتاجاً إلى دش حتى يرى هذه الأشياء، فكيف نحتاج نحن البشر إلى مثل هذه الأشياء؟ والله إنها مصيبة، ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون.(33/22)
ظاهرة الجنس الثالث
السؤال
انتشرت ظاهرة الجنس الثالث وخاصة في بعض المدن، والكثير منهم يجتمع في بعض الأماكن ليرقصوا رقصة (الراب) فما توجيهكم لهؤلاء؟
الجواب
أين هم الآن حتى نوجههم؟ أنا أتمنى أن أذهب إليهم في مطعم حتى نوجههم ونقول لهم: اتقوا الله، ولا يوجد جنس ثالث أصلاً، الله خلق جنسين، خلق رجالاً ونساء، ولكن هذا الذي يريد أن يصير نصف رجل ونصف امرأة، هذا يريد أن يخلق جنساً لم يخلقه الله أصلاً، ولهذا يعطل سنة الله في الخلق، وهو اعتداء على الله تبارك وتعالى، وتنازل عن رجولته، كأنه يقول: أنا لا أريد أن أكون رجلاً فهو أمر يصعب علي، ولا يستطيع أن يكون امرأة كاملة، فقال: آخذ من المرأة نصفها ومن الرجل نصفه، يأخذ من الرجل الشكل العام، ويأخذ من المرأة التخنث والتأنث، وبعضهم يلبس خواتم الذهب، ويقتني سلسلة، ما بقي إلا أن يضع حمالات للصدر وكعباً عالياً، والبعض يضع الشعر المستعار (الباروكة) ويضع حمرة على شفتيه، وبودرة على خديه، ويجلس أمام المرآة ساعة، هذا ما بقي إلا أن يعلن في الجريدة: (أنا راغبة في الزواج) ويريد له بعلاً والعياذ بالله.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(33/23)
الصبر والإيمان بالقدر
إن الإيمان بالقدر من أركان الإيمان التي لا يقوم إلا بها، ومتى ما تحقق هذا الإيمان؛ فإنه يؤدي إلى تمثل صفة الصبر في واقع حياة المؤمن، والتي تعتبر من أعز الصفات التي يؤتاها المؤمن، والتي يعد أجرها في الآخرة من أعظم الأجر، فالصابرون يؤتون أجرهم يوم القيامة بغير حساب.(34/1)
الصبر خلق الأنبياء
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن الصبر يعتبر من أشرف مقامات السائرين إلى الله عز وجل، ومن أعظم منازلهم، وقد أخبر تبارك وتعالى أن كل عامل يوفى حقه يوم القيامة وفق عمله إلا الصابرين، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] وهل هناك أعظم من أن تعطى أجرك بغير قيد ولا شرط، يعني: أن تعطى حتى تكتفي، وتسعد.
لكن بالحساب والعدل يمكن ألا تكتفي، أو يمكن ألا تبلغ الدرجة التي تضمن لك الفوز العظيم، ولكن بالصبر تعطى أجراً بغير حساب.
وبعض الناس لا يفهم من الصبر إلا المفهوم الجزئي المتعلق بأنه الصبر على البلاء، بمعنى: أنه لو مرض شخصٌ أو حلت به مصيبة وصبر عليها فهو الصابر، هذا جزء من الصبر، ولكنه جزءٌ بسيط من المفاهيم الكبيرة للصبر؛ لأن الصبر يتعلق بثلاثة أمور تقسم وفقها، وكل قسم له ثلاثة أقسام، بمعنى: أن المجموع يصبح تسعة أنواع: فمن حيث تعلق الصبر بذات الصبر ينقسم إلى الأقسام الثلاثة التي ذكرتها في الندوة الماضية، وهي: التصبر، والصبر، والاصطبار.
ومن حيث تعلق الصبر بالموضوع الممارس عليه، فالصبر ينقسم إلى ثلاثة أقسام وهو: الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة، وهذا هو المفهوم الذي يظن الناس أن الصبر يقتصر عليه، فهذه ستة أنواع للصبر.
والتعلق الثالث يتعلق بما يريده الإنسان المؤمن بالصبر، أي: ما هي نيتك من الصبر؟ قالوا: وهو أيضاً ثلاثة أقسام: صبرٌ لله، وصبر بالله، وصبر عن الله؛ وهو أسوأ أنواع الصبر -أعاذنا الله وإياكم من ذلك- فالصبر الذي لله يقول فيه ابن القيم رحمه الله: هو صبرك عن معصية الله.
فأنت تصبر لله.
والصبر الذي هو بالله: صبرك للطاعة، فأنت تعبده بقوة منه وباستعانة وتأييدٍ وتوفيق منه تبارك وتعالى.
والصبر الذي هو أسوأ أنواعه: وهو الصبر عن الله، وهو صبر الكافر والفاجر؛ لأنه يريد أن يصبر عن ربه؛ فيورد على نفسه من الأشياء التي تصرفه عن أن يذكر الله أو أن يستجيب لأمر الله بالملهيات والمشاغل، ولهذا فهو يحاول أن يصبر، لكن عمَّن يصبر؟ عن ربه وخالقه.
والصبر مدحه الله وأثنى عليه في القرآن العظيم، وبين تبارك وتعالى قيمته وأثنى عليه في أكثر من تسعين موضعاً، فمرةً أمر به تعالى، فقال: ((وَاصْبِرْ)) [النحل:127]، ومرةً أثنى على أهله، ومرةً أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر أهل الصبر، فقال جل وعلا: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155]، ومرةً جعله شرطاً في حصول النصر والتأييد والعناية والرعاية من الله، ومرةً أخبر أنه مع أهله فقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]، وأثنى به على صفوته من خلقه وهم الأنبياء والرسل.(34/2)
صبر أيوب عليه السلام على أقدار الله
قال الله عن نبيه أيوب عليه السلام: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]، وقد تحققت في أيوب عليه السلام جميع أنواع الصبر؛ فكان صابراً لله على طاعته، وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة، فقد ابتلاه الله في ماله وولده، وجسده بالمرض فصبر.
وتذكر كتب التاريخ أنه عانى من المرض الشديد والبلاء العظيم في جسده ولم يشك ويتضجر ويتسخط، بل صابر على كل الأحوال، حتى إنه ما سأل الله أن يشفيه، وإنما كان يعلم أن قضاء الله خيرٌ له في كل الأحوال؛ فكان صابراً.
ومرت به السنون والأيام حتى انتشر الدود في جسده، وأكل اللحم والعصب، ولم يبق إلا الهيكل العظمي، ولكن الله حمى له قلبه ولسانه، فكان قلبه شاكراً، ولسانه ذاكراً.
ومرت السنون بعد ذلك فدخل الدود في اللسان الذاكر والقلب الشاكر، ورأى أيوب عليه السلام أنه سوف يتعطل عن الذكر والشكر بهذا الأمر؛ فابتهل إلى الله وقال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] يقول المفسرون: إن الضر الذي مسه ويشكو منه ليس ضر المرض، ولكن ضر التعطيل عن الذكر والشكر، فيقول: أما المرض فصابر عليه، ولكني لا أصبر عن ذكرك وشكرك، فاستجاب الله له، وقد قالت له زوجته رحمة بنت يوسف عليه السلام: أنت نبي مستجاب الدعوة، فسل ربك أن يرحمك ويشفيك، فقال لها: كم بلغت مدة مرضي؟ قالت: (18) سنة، قال: وكم بلغت مدة عافيتي قبل ذلك؟ قالت: ثمانون عاماً، قال: فإني أستحي أن أسأل ربي حتى تبلغ مدة مرضي مدة عافيتي.
يقول: إذا أنهيت ثمانين سنة فأخبريني لكي أدعو الله أن يعافيني، يعني: سواء بسواء.
أما نحن فيعافينا الله سنين طوالاً، فإذا أصاب الإنسان مرض ضجر، وقال: ما بالي أنا من بين الناس، كل الناس في عافية إلا أنا؟!! وليته يصبر ويسلك السبل الشرعية في التداوي؛ لأن التداوي لا ينافي التوكل، بل هو مأمور به، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عباد الله! تداووا ولا تداووا بحرام، فإن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها)، ولكنه يتداوى بالحرام، فيذهب إلى الكهنة والمشعوذين ويشكو ربه إليهم، ويبيع دينه -والعياذ بالله- ويخرج من الإسلام؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد، ومن أتاه ولم يصدقه لم تقبل له صلاة أربعين نهاراً).
من الناس من يأتيه المس من الجن، وعلاج المس من الجن معروف وواضح في الدين والقرآن، فالرقية الشرعية للمس ليس هناك أنجع منها، لكن هناك علاج شيطاني عن طريق الكهنة والمشعوذين، بأن يذهب هذا المريض الذي عنده المس أو الصرع إلى هذا الكاهن، فيقوم هذا الكاهن بدعوة ذلك الجني الذي قد مس هذا الإنسي فيقول له: لا تقربه؛ لأن الرجل أتانا وهو من الجماعة -فمنذ أن أتى هذا الكاهن أصبح كافراً، يعني: خرج من الإسلام- فلو لم ننفعه لما اعتقد بنا، فلا تقربه.
وحتى يضمن الكاهن تصديق هذا المسكين يأتي إليه فيكتب له عبارات مبهمة على أوراق ويقول له: انقعها واشرب ماءها، ويعطيه حرزاً طالباً منه أن يدفنه في غرفة مظلمة ليس فيها نور ولا صوت، وأحياناً يقول له: خذ تيساً أسود أو أبيض ليس عليه علامة وادخل به على هذا المريض، واذبحه ولا تسم.
فيخرج بهذا الفعل من الدين والعياذ بالله.
ولو كان صاحب عقيدة ودين وجاءه هذا المرض ولجأ إلى الله، فالله يختبره، فأحياناً يذهب إلى العالم أو إلى القارئ فيقرأ عليه القرآن مرة ومرتين وثلاث فلا ينتفع؛ لأن ابن القيم رحمه الله ذكر في كتابه زاد المعاد في علاج صرعى الجن قال: إن العلاج لا يقع إلا إذا توفر أمران: الأمر الأول: يأتي من القارئ، وهو مقدار يقينه وصدقه وصلته بالله.
والأمر الثاني: يأتي من المريض المقروء عليه على مقدار يقينه وصدقه وصلاحه، فإن كان القارئ مخلصاً والمقروء عليه موقناً بالله؛ فإن العلاج ينجح بإذن الله، أما إن تخلف أحدهما بأن كان القارئ فاسقاً، أو جباناً، أو لم يكن عنده قوة عقيدة، أو تخلف المقروء عليه؛ بأن كان قليل دين -والعياذ بالله- ولولا أنه مرض لما عرف القرآن، فلا بد من توفر الشرطين.
فصبر أيوب عليه السلام مضرب المثل، فقد تحقق له جميع أنواع الصبر، فقال عز وجل: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44].
وقال لخاتم أنبيائه ورسله محمد صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35] وقال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127].(34/3)
صبر يوسف عليه السلام عن معصية الله
قال يوسف الصديق لما دخل عليه إخوته وقالوا: {أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي} [يوسف:90] فقال بنيامين {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف:90] سبحان الله! ما أعظم صبر يوسف، قصته مشرقة في جميع البيوت الربانية التي يتلا فيها القرآن، فقد مكث في السجن بضع سنين، وبعد ذلك أرسلوا له: أن احضر إلى ربك فيقول للرسول: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف:50] يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله أخي يوسف لو كنت أنا لخرجت) أي: بمجرد أن يقولوا: اخرج من السجن فلن أطلب براءة، فالمهم الخروج من السجن.
لكن يوسف يقول: لا أخرج من السجن حتى تثبت البراءة.
وتثبت البراءة له عن طريق إحضار امرأة العزيز والنساء حين يقال لهن: {مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:51] {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف:51 - 52] هذه براءة تثبتها له صاحبة الشأن التي تسببت في اتهامه وسجنه.
ويخطئ كثير من الناس في مقام الأنبياء المعصومين فيفسرون قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف:24] تفسيراً خاطئاً لا يليق بمقام الأنبياء، فيقولون: إنها همت به، يعني: بالفاحشة وهو هم بها، أي: أرادها، وهذا خطأ، لماذا؟ لأنه لو هم بها فما الذي يمنعه؟ الاستثناء الذي بعدها في قوله تعالى: {لوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] له تفسير في القرآن الكريم، وهو: أن معنى الهم في اللغة أي: العزم على مباشرة الشيء، هممت أن آكل، يعني: أردت أن آكل، هممت أن أقوم، يعني: أريد أن أقوم، هممت أن أنام، هممت بالسفر، وقد ذكر الله كلمة الهم في القرآن في أكثر من موضع: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران:122]، ما معنى همت أن تفشلا؟ هل معناه همّت أنها تزني؟ لا.
كلمة الهم تفسر من الحال الملابس لها، فالذي يقول: هممت أن أقوم يعني: همّ بالقيام، هممت أن أنام يعني: همّ بالنوم، والذي يقول: هممت أن آكل، يعني: همّ أن يأكل.
فالهم يعني: العزم وإرادة الشيء، وتفسر بالمعنى الملابس لها، فالذي كان يلابس امرأة العزيز رغبتها في يوسف، فهمت به، يعني: لتباشر الزنا معه، والذي كان يلابس يوسف الرفض لأمرها، فهمّ بها، ما معنى: هم بها؟ قال المفسرون: همَّ ليضربها، همت به ليزني بها فهم بها ليضربها، واستبقا الباب، قال الله عز وجل: {لوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] ذكر المفسرون في هذا كلاماً، لكن أصح الأقوال في هذا الموضوع: أن الله قذف في قلبه برهاناً وبصيرة في أن ضربك يا يوسف لهذه المرأة سيزيد من إدانتك، ويثبت عليك الحجة، يعني: لو جاء زوجها ووجد يوسف يضربها فستقول: هو يراودني عن نفسي وأنا أرفض فيضربني.
فالله قذف في قلب يوسف ألا يضربها حتى لا يدين نفسه؛ لأن ضربه لها -رغم أنه يضربها حتى لا يزني بها- سيمكنها من قلب المسألة، وفعلاً قلبت المسألة، فلما استبقا الباب كان هو فاراً منها وهي في أثره، وأرادت أن تمسك بأي جزء منه، فقطعت ثوبه من الخلف: {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25] أي: وجدا زوجها عند الباب، فعلى الفور قلبت المسألة رأساً على عقب: {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25] قال يوسف: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف:26] يقول: هي التي تراودني، فكيف به لو دخل عليه الملك وهو يضربها لكانت الحجة قائمة عليه، وهذا معنى ما سبق، وإلا فهو عليه الصلاة والسلام نبي، وبعض الناس من غير الأنبياء يتنزهون عن الزنا فكيف بنبي يقع في الزنا، أو يهم به؟! معاذ الله! والذي يرى هذا القول إنما ينال من جانب النبوة.
فيقول يوسف: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف:90] يقول المفسرون: إن صبر يوسف كان من أعظم المقامات في الصبر: الصبر الأول: أنه صبر في الجب.
والصبر الثاني: أنه صبر في السجن.
والصبر الثالث: أنه صبر على ممارسة الضغط عليه من قبل امرأة العزيز قبل ذلك، فإنه كان في بيت الملك وكان شاباً، جميلاً، وسيماً، غريباً، والغريب لو فعل شيئاً فلن يدري به أحد على الأغلب؛ لأن سمعته في بلده، كما أنه كان آمناً في بيت الملك؛ فلا يستطيع أحد أن يخبر به، وكانت امرأة العزيز من أجمل نساء العالمين، وهو مطلوب لها؛ لأن بعض الناس يتعفف حين لا يطلب منه، ولو طلب منه لما تعفف، وكانت الأبواب مغلقة عليه، قال الله: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} [يوسف:23] وهذه تسمى صيغة مبالغة، يعني: ما أغلقت، بل غلَّقت، يعني: ما ردت الباب، بل أغلقته بإحكام، وهو ليس باباً واحداً بل أبواب، باب أول وثانٍ وثالث من أجل أن يأمن، وبالرغم من هذا كله صبر يوسف وقال: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] ولم يزنِ.
قال: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] وهذا يدل على أن الصبر من أجلِّ مقامات الإيمان والدين، وأخص الناس بالصبر هم أخص الناس بالله عز وجل، وأولاهم بالله أشدهم على الصبر تحققاً وقياماً به، والخاصة أحوج إليه من العامة.(34/4)
المفهوم الصحيح لمعنى الصبر
بعض الناس كما قلت لكم: يفهم أن الصبر لا يكون إلا على مرض أو مصيبة، وهو فهم خاطئ، فالصبر أولاً هو صبرك على طاعة الله، فإنك وأنت تمارس الطاعة تحتاج إلى قدر كبير من الصبر، فحينما تدعى لصلاة الفجر وأنت نائم، هناك دوافع كثيرة تمنعك من الصلاة، لكنك ترفضها كلها وتصبر، أليس هناك معاناة في تلك الساعة؟ بلى.
هناك معاناة، فيكون النوم كثيراً، والجو بارداً، والفراش دافئاً، والمسجد بعيداً والطريق مظلماً، ولكن كل هذه لا تمنعك من أن تقوم إلى طاعة الله، وهذه تحتاج إلى صبر.
صبرك على طاعة الله في ممارسة الصلاة في المسجد؛ لأن بعض الناس لا يصلي إلا المغرب، أو يوم الجمعة في المسجد.
وباقي الصلوات أين يصليها؟ يصليها في البيت، وهذا أمر لا ينبغي، فإن الله تعالى يقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] أي: مع المسلمين، ويقول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:36 - 37].
وأذكر مرةً أن رجلاً سكن في شارعنا هذا ولم يأتِ ليصلي في المسجد منذ أن سكن، فأخبرني جاره وقال لي: إنه يوجد لنا جار لا يصلي.
قلت: إذن نزوره، فذهبنا إليه في بيته بعد صلاة العشاء، وطلبنا منه أن يصلي بنوع من اللطف في بداية الأمر، ولو رفض لأخذنا على يده.
فقال: حسناً: جزاكم الله خيراً وسأصلي إن شاء الله.
وجاء وصلى مرة -أظنها صلاة مغرب أو عشاء- ثم انقطع، فجاءني جاره وقال: إن الرجل صلى مرة ولم نره بعدها.
قلت: إن شاء الله ما دام أنه صلى مرة فأبشر بخير، وسأذهب إليه.
وذهبت إليه مرة ثانية، وقلت: السلام عليكم، يا أخي زرناك ونريدك أن تصلي وأنت مسلم ومؤمن.
قال: صليت يا شيخ! قلت: متى؟ قال: صليت ذاك اليوم الذي أتيتموني فيه.
قلت: وبعدها؟ قال: يكفي، وماذا تريدون بعدها؟ قلت: ليست الصلاة مرة، فالصلاة هي أن تصلي كل يوم خمس مرات.
قال: كل يوم خمس مرات ذهاباً، وخمس مرات إياباً! يعني: في الأسبوع كم مرة؟!! خمس مرات في سبعة أيام أي: خمساً وثلاثين مرة، يعني: في الشهر كم مرة؟ مائة وخمسين مرة ذهاباً، ومائة وخمسين مرة إياباً، يا شيخ! كيف تفعلون ذلك؟ قلت: سبحان الله! ألا تعرف أنت، أأنت مسلم؟ قال: أنا مسلم والحمد لله، لكن أنا أصلي هنا في البيت.
قلت: صلاتك لا تكتمل هنا، زوجتك لها أن تصلي في البيت، أما أنت فلا بد أن تصلي في بيت الله.
قال: حسناً إن شاء الله، وفي اليوم الثاني جاءني الجار الأول وقال: أبشر يا شيخ الرجل انتقل من المكان، فقد رأى أنه يصعب عليه أن يصلي كل يوم خمس مرات، فذهب إلى مكان حيث لا يقول له أحد: صل.
فصبر الإنسان على الصلاة باستمرار علامة على إيمانه، فأنت الآن تذهب وتصلي المغرب، وبعض التجار لا يريد أن يغلق متجره، وأصعب شيء عليه أن يسمع: الله أكبر! فهذا مسكين؛ لأنك حين تغلق متجرك فإنك تقفل التجارة مع الدنيا وتفتح التجارة مع الله، وربنا لم يكلفنا كثيراً، بل كلفنا بخمس صلوات، كل صلاة تستغرق عشر دقائق في خمس مرات، فتقتطع خمسين دقيقة من أربع وعشرين ساعة لله عز وجل، والله يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فلو نظرنا كم طلب الله منا وكم أعطانا، لكان ما طلب تبارك وتعالى قليلاً بالنسبة لما أعطى، فحين تصلي المغرب ثم تذهب إلى البيت، قد تجد في البيت شاغلاً، إما مباراة كما يتلهى الناس في هذه الأيام، ولا يأتون ليصلوا، لماذا؟ لأنه لا يريد أن تفوته الكرة؛ لأنه وازن بين الكرة وبين الله فوجد أن الكرة في قلبه أحب من الله، حقيقةً! لو قلت له: الله أحب إليك أم الكرة؟ سيقول: الله.
الله أكبر! كيف؟! لكن؛ دعتك الكرة ودعاك الله، فلمن استجبت؟ إن كنت قمت إلى الله فأنت تحب الله، وإن كنت قعدت وأنت تعلم أن الله يدعوك في المسجد ولم تخرج لتصلي حتى لا تفوتك المباراة، أو الشوط، أو الهدف، الله يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]، لكن هؤلاء يحبونهم أعظم من حب الله، والله قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165].
بل إن واحداً من الناس يقول: إنه جلس يصلي في البيت وما ذهب إلى المسجد؛ لأنه خاف أن تفوته المبارة، وبينما هو يصلي والمباراة في التلفاز كان يتلفت فلا يريد أن يفوته شيء، وأخيراً دخل هدف للفريق الذي كان يشجعه، فصاح الجمهور معبراً أنه دخل (جول).
انظروا إلى هذا النصر، إن لم تدخل الكرة فهزيمة، وإن دخلت فهو النصر، فهل هذا هو النصر؟! هذا نصر الأطفال، هل نصر الأمة في هذه المفاهيم الصبيانية؟ إن دخلت الكرة إلى المرمى فما شاء الله! وإن لم تدخل فيحزن لذلك حزناً شديداً، وبعضهم لا يتعشى تلك الليلة ولا يرقد، لماذا؟ لأن الكرة لم تدخل المرمى، ويقول: ليتها دخلت، الله المستعان! إنا لله وإنا إليه راجعون! فأخص أنواع الصبر -أيها الإخوة- صبرك على طاعة الله، تخرج الزكاة وأنت تصبر؛ لأنك تحب المال، وترى الناس أهل الأموال يضعون أموالهم في البنوك ويتقاضون عليها فوائد وأرباحاً، وأنت لا يمكنك أن تأخذ ريالاً حراماً فتصبر، وتحج وتصبر، وتبر والدتك وتصبر، فهذا صبر على طاعة الله.
الصبر الثاني: وهو مهم جداً، ألا وهو صبرك عن معصية الله، فحين ترى الناس يغنون وفي قلبك شوق إلى الغناء، فلا يمنعك إلا أنك تخاف الله، فتحتاج إلى قناطير وأطنان من الصبر حتى تحجزك عن معصية الله، وحين تسير في الشارع فترى المرأة المتبرجة، والشباب يتابعونها وأنت عندك مثل ما عند الشباب الذين يتابعونها، لكنك عندك نور من الله، وخوف ومراقبة لله تعالى؛ فتغض بصرك خوفاً من الله، فهل تستطيع أن تمارس هذا بغير الصبر؟ فهذا هو معنى الصبر، صبرت عن النظر إلى الحرام، وعن أن تسمع الأغاني الحرام، وعن أن تغتاب.
وإن أحداً استثارك وسبك وشتمك وفي إمكانك أن تكيل له الصاع صاعين، وأن ترد عليه بأكثر مما قال، لكنك قلت: خوفي من الله يمنعني من هذا، لا تثريب عليكم اليوم.
فهذا هو الصبر.
يقول الشافعي وقد عوتب في رجل، دخل عليه وسبه في مجلس العلم وأقذع في سبه، فما رد عليه بكلمة واحدة رحمه الله -فهو يمثل العلم- ولما خرج الذي سبه، قيل له: يا إمام! ألا دافعت عن نفسك؟ كيف لا ترد على الأقل دفاعاً عن نفسك؟ فرد عليهم بأبيات من الشعر قائلاً:
قالوا سكت وقد عوتبت قلت لهم إن الجواب لباب الشر مفتاح
والصمت عن جاهل أو أحمق شرفٌ وفيه أيضاً لصون العرض إصلاح
أما ترى الأسد تخشى وهي صامتة والكلب يُخسأ لعمري وهو نباح
يقول أما الكلام فأنا أقدر عليه، ولكن لا أريد أن أنزل إلى مستوى خصمي، ولهذا يقول رب العالمين إن أهل الإيمان يقولون: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] ويقول: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72] يعني: لا يحضرون مجالس الفجور ولا الزور: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] فمن يحملهم على هذه الأخلاق؟ إنه الصبر، فالصبر عندهم قيم ومبادئ ومفاهيم وعقائد.
بعض الناس حين يستثار يقول: يا شيخ! ما استطعت أن أصبر، إذن فمتى تكون صابراً؟ أفي الحالات الطبيعية؟ أصلاً لا يبرز دورك في الصبر وضبط النفس إلا عند الاستثارة، أما في الحالة الطبيعية فكلنا صابرون، وحين يكون مزاجنا هادئاً فكلنا حلماء، وعلماء، وكرماء.
لكن متى يبرز الحليم؟ عندما يستثار المرء، فيحجم عن الرد فهذا هو الصابر، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى)، لما مرَّ على امرأة تبكي على ولد لها مات، قال لها: (اصبري واحتسبيه عند الله، قالت: إليك عني -ما عرفت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم- إنه ولدي وليس ولدك -وهي تبكي بحرارة- فتركها وذهب، فجاء الناس إليها وقالوا: هذا رسول الله -كيف تكلمينه هكذا- فلحقته وقالت: يا رسول الله! ما عرفت أنك أنت، فقال لها: إنما الصبر عند الصدمة الأولى).
فالصبر مع أول الصدمة، أما بعدها فستصبرين رغماً عنك.
لكن متى يكون الصبر؟ عندما يصاب الإنسان في أول الأمر، فهنا الصبر عظيم ومفاهيمه كثيرة.(34/5)
الإيمان بالقضاء والقدر
ننتقل الآن إلى مجمل ما سبق أن ذكرناه في الإيمان بالقضاء والقدر على سبيل الاختصار، وهو أن من أركان الإيمان الهامة ومن أسسه ومبانيه: أن المؤمن يؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى، وهو تقدير الله للكائنات حسب ما سبق به علمه تبارك وتعالى.(34/6)
مراتب الإيمان بالقدر
مراتب الإيمان بالقدر أربع مرات: المرتبة الأولى: العلم.
فنؤمن بأن الله تعالى بكل شيءٍ عليم، علم ما كان وما سيكون، وكيف يكون بعلمه الأزلي الأبدي، فلا يتجدد له علم بعد جهل، ولا يلحقه نسيان بعد علم.
المرتبة الثانية: الكتابة.
فنؤمن أنَّ الله كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70].
ونؤمن أيضاً بالمرتبة الثالثة من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر وهي: المشيئة، فنؤمن أن الله تعالى قد شاء كل ما في السماوات وما في الأرض، إذ لا يكون شيءٌ إلا بمشيئته، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وتنقسم المشيئة إلى قسمين: مشيئة كونية قدرية، ومشيئة دينية شرعية، فالكونية القدرية تشمل كل شيء، والدينية الشرعية تشمل استجابة المكلفين بما أمر الله به، وأحبه.
المرتبة الرابعة وهي: مرتبة الخلق.
فنؤمن أن الله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر:62 - 63].(34/7)
الأدلة على أن للعبد قصد وإرادة
هنا بيت القصيد، وأرجو التركيز عليه، مع كل ما سبق نؤمن بأن الله تعالى جعل للعبد اختياراً وقدرةً يفعل ما يختاره، والأدلة على أن فعل العبد باختياره وقدرته كثيرة منها: الدليل الأول: قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] أي: كيفما أردتم، ولكن في موطن الحرث: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] يعني: يجوز للرجل أن يباشر زوجته كيفما يريد، ولكن في موطن الحرث، في القبل، أما إن باشر في الدبر فقد وقع في لعنة الله، وقوله عز وجل: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46] فأثبت للعبد إتياناً بمشيئةٍ وإعداداً بإرادة.
الدليل الثاني: من الأمور التي نستدل بها على أن للعبد إرادة ومشيئة أنه موجهٌ إليه أمرٌ ونهي من الله عز وجل، ولو لم يكن له اختيار وقدرة لكان توجيه ذلك من التكليف بما لا يطاق، وهو أمر تأباه حكمة الله عز وجل، ورحمته، وخبره الصادق إذ قال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فما دام أن العبد مأمور ومنهي، فهذا يقتضي أن يكون عنده قدرة على أن يأتي بالمأمور به وأن يترك المنهي عنه، ولو لم يكن له قدرة على أن يأتي بالمأمور به ويترك المنهي عنه لكان الأمر والنهي في حقه تكليفاً، والله قد قدّر التكاليف.
الدليل الثالث: مدح الله المحسن على إحسانه، وذم المسيء على إساءته، وأثابه بما يستحق، ولولا أن الفعل يقع بإرادة العبد واختياره لكان مدح المحسن عبثاً، فكيف تمدحه على شيء لم يعمله باختيار وإرادة؛ ولكانت عقوبة المسيء ظلم، والله منزه عن العبث والظلم.
الآن لو جاءت الشرطة والمرور وأقفلت الشارع في مكان معين -فالشارع فيه اتجاه للذهاب واتجاه للإياب- فإن جاءت الشرطة، وقالوا: يمنع السير إلا في اتجاه واحد، والاتجاه الآخر مغلق، فسيضطر السائقون إلى السير في اتجاه واحد؛ لأن الأمر بيد المرور، لكن إذا جاءت الشرطة ومنعوا السيارات من العبور وقالوا: إن هذا يخالف قوانين السير، ومن يفعل ذلك يعاقب، فسيقول السائقون: إن المرور هو الذي أجبرنا على ذلك، فكيف نعاقب! ولو صدر هذا الأمر من مدير المرور فماذا يسميه الناس؟ يقولون: إن مدير المرور مجنون، ثم يأتي كبار المسئولين يقولون لمدير المرور: كيف تكلف الناس بأمر وتجبرهم عليه ثم تجازيهم؟ فهذا لا يليق بالإنسان، فكيف يليق بالله أن يخلق الإنسان مجبولاً على المعاصي ويجازيه ويدخله النار؟! فمدح الله للمحسنين وذمه للمسيئين يدل على أن الفعل يقع باختيارهم وإرادتهم.
الدليل الرابع: أن الله تعالى أرسل الرسل: {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] فلم تعد هناك حجة على الله، ولولا أن فعل العبد يقع بإرادته واختياره لما بطلت الحجة في إرسال الرسل؛ لأنك لو أرسلت رسولاً والإنسان ليس له اختيار، فبماذا ينفع الرسول وهذا العبد ليس له اختيار؟ فلا تقوم الحجة ولا تبطل المعذرة إلا بالاختيار من جانب العبد.
الدليل الخامس: إننا نحن المكلفون العقلاء نشعر أننا قادرون على أن نفعل الشيء أو أن نتركه بغير إكراه من أحد.
فالآن حين أذن المؤذن وكنتم في بيوتكم فخرجتم تصلون، فهل أخرجكم أحد رغماً عنكم لتصلوا؟ لا.
وإنما خرجتم باختياركم.
وهل كل من في المنطقة يصلون في المسجد؟ لا، فلو فتشنا البيوت لوجدنا مثل هذا العدد مرتين، فهل جلس أولئك باختيارهم وصليتم أنتم باختياركم؟ هل أجلسهم أحد في البيوت بالقوة كي لا يصلوا؟ وهل ساقكم أحد بالعصا إلى المسجد لتصلوا؟ لا.
ففعلكم للصلاة باختياركم، وفعلهم لترك الصلاة باختيارهم.
كما أن الإنسان يقوم ويقعد، وينام ويرقد، ويدخل ويخرج، ويسافر ويقيم بمحض إرادته، ولا يشعر بأن أحداً أكرهه، بل يفرق تفريقاً واقعياً بين أن يفعل الشيء باختياره وبين أن يكره على فعله.
كذلك الدين فرق بين أن يفعل الإنسان شيئاً باختياره أو بين أن يفعل شيئاً مكرهاً عليه، فإذا أكره على شيء من أعمال السوء حتى ولو كان كفراً لم يكفر، ولهذا يقول الله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] وقد نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر رضي الله عنه عندما أمسكه كفار قريش، وقالوا: (لا نتركك حتى تسب محمداً صلى الله عليه وسلم -وهو يعرف أن سب الرسول كفر- فسب الرسول صلى الله عليه وسلم فتركوه، فجاء إلى الرسول وهو خائف -الإيمان في قلبه ولكنهم أرغموه على شيء لا يعتقده- فقال: يا رسول الله! والله ما تركوني حتى نلت منك، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان، قال: فإن عادوا فعد) قال: إذا أمسكوك ثانية وقالوا: عد لما فعلت، فعد.
فالمهم ما سكن في القلب.
فانظروا إلى سماحة الدين، إذا عملت الكفر وأنت مكره عليه فليس عليك شيء، لماذا؟ لأنه ما كان لك اختيار في هذا، لكن إذا كنت تملك الاختيار وتعمل الكفر، فإنك قد عملته دون إكراه واضطرار، فتجازى على ذلك.(34/8)
دحض شبهة الاحتجاج بالقدر على المعصية
نرى أنه لا حجة للعاصي حين يعصي بقدرة الله عز وجل، كما يفعل بعض الزناة أو العصاة، فيقول: أنا أعصي لأن الله قدر عليَّ.
فالعاصي يقدم على المعصية باختياره من غير أن يعلم أن الله قدرها عليه، فلا يعلم أحد قدر الله إلا بعد وقوعه، فكيف يصح الاحتجاج بحجة لا يعلمها المحتج.
فالذي يعصي ويزني هل عرف واطلع على الغيب، ونظر في اللوح المحفوظ، وعرف أن الله قدر عليه هذه المعصية فعملها؟ لا.
وقد رد الله عز وجل على من قال هذا الكلام وسماه مشركاً في سورة الأنعام، يقول الله عز وجل: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الأنعام:148] سماهم الله مشركين، ولهذا أنا أحذر كل مسلم أن يخطر في باله أو يدور على لسانه مثل هذه الكلمة، فيعمل شيئاً من المعاصي ويقول: قدر الله عليَّ، مثل شارب الخمر الذي جيء به إلى عمر فقال له: [لماذا تشرب الخمر؟ قال: قدر الله عليَّ، قال: اجلدوه ثمانين سوطاً، فلما جلدوه قال: وأنا قدر الله عليَّ أن أجلدك ثمانين سوطاً].
يقول أحدهم: إنه كان في الشام، فوقع في الزنا، فلقيه زميله، فقال له: لماذا تزني؟ قال: مقدر علي أن أزني، فهل ترد قضاء الله وقدره، فإذا بصاحبه يصفعه، فقال له متسائلاً: لم صفعتني؟ قال: قدر الله عليَّ أن أصفعك.
قال: وإذا بالرجل انتبه، قال: كيف ترضى بقضاء الله وقدره في الزنا ولا ترضى بقضاء الله وقدره في الصفعة؟ فأنت زنيت باختيارك وأنا صفعتك باختياري.
فالعاصي يقول كما يحكي الله عنه: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148] أي: هذا كلام الكفار السابقين، يقولون: لو شاء الله ما فعلنا، وما زنينا، وما أشركنا، فسماهم الله مشركين، ثم قال الله عز وجل: {كَذَلِكَ} [الأنعام:148] يعني: هذه المقالة وهذا الزعم: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام:148] أي: أجدادهم القدريون المحتجون بالقدر: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} [الأنعام:148] يعني: عذابنا في النار {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] أي: هل اطلعتم على اللوح المحفوظ ورأيتم القضاء والقدر، وما كتب لكم فعملتموه بناءً على رؤيتكم: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:148 - 149] أي: الحجة البالغة الدامغة لله على خلقه حيث أعطاهم القدرة على الاختيار، وأمرهم بالطاعة ونهاهم عن المعصية، وأنزل عليهم الكتب، وأرسل إليهم الرسل، وفطرهم على الدين، وأبان لهم الطريق مثل الشمس في رابعة النهار: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ} [الأنعام:149] أي: لو شاء لسلبكم الإرادة والاختيار، ولجعلكم مسيرين في أداء العبادة، ولكن الله كرمكم وشرفكم فأعطاكم القدرة ولم يسلبكم الإرادة، فاستعملتم هذه القدرة وهذا التكريم في معصية الله عز وجل: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] * {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:150] ثم قال الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه، قل يا محمد: تعالوا أبين لكم وظيفتكم وعملكم ورسالتكم، أما غير ذلك فليس أمره إليكم، بل أمره إلى الله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151]، ثم ذكر هذه الوصايا العشر.
فهنا لا حجة للعاصي، فكيف يصح الاحتجاج بحجةٍ لا يعلمها؟ ونقول للعاصي المحتج بالقدر: لماذا لم تقدم على الطاعة مقدراً أن الله كتبها لك؟ لأن المعصية والطاعة في الجهل بتقديرها سواء.
فأنت لا تدري أكتب الله عليك خيراً أم شراً، فلماذا افترضت أن الله كتب عليك الشر؟ لماذا لم تقدر أن الله كتب عليك الخير، وصرت مصلياً وطائعاً وباراً ومجاهداً؟ لماذا احتملت الاحتمال الأسوأ وقلت: إن الله قد قدر ذلك عليَّ؟ ما فعلت ذلك إلا لانهزامك أمام شهواتك، ولأنك عبدٌ لشهواتك ونزواتك.
ولهذا لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن كل واحد قد كتب مقعده من الجنة أو النار، قالوا: (أفلا نتكل؟ -قالوا: إذاً نتكل ما دام أنها محددة مسبقاً- قال: لا.
اعملوا -هذه وظيفتكم- فكل ميسر لما خلق له).
ونقول للعاصي المحتج بالقدر: لو كنت تريد السفر إلى مكة، وقال لك أحدهم: هناك طريقان: طريق سهل موصل، وطريق صعب ينطوي على مخاطر؛ فإنك دون شك ستسلك الطريق السهل، ولن تسلك الآخر، وتقول: إنه مقدر عليَّ.
وكذلك لو عرض عليك وظيفتان: إحداها ذات مرتب كبير، فإنك سوف تعمل فيها، ولن تختار ذات المرتب القليل.
فكيف تختار لنفسك في عمل الآخرة ما هو أدنى وتترك ما هو أفضل؟! ونقول: إذا أصبت بمرض جسمي؛ فإنك بعقلك تطرق أبواب الأطباء، وتصبر على ما ينالك من آلام الجراحة والعمليات والدواء، فلماذا لا تفعل ذلك في مرض قلبك بالمعاصي؟ هذه أدلة على أن العبد يملك اختياراً وإرادة، وعلى أساسها كلفه الله، وعلى أساس التكليف توعده الله بالنار إن عصى، ووعده بالجنة إن أطاع.
نقف عند هذا القدر، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يزيدنا وإياكم إيماناً ويقيناً.
وطلب بعض الإخوة أن يغير موعد هذا الدرس إلى وسط الأسبوع، وقالوا: إن معظم الطلاب في الجامعات يذهبون إلى أهاليهم في جيزان، والباحة، ونجران، وظهران الجنوب؛ يومي الخميس والجمعة ويجدون صعوبة في الاستمرار طوال الأسبوع، ولكن حين يكون الدرس خلال الأسبوع فهو أفضل.
ولذا إن شاء الله سيكون الدرس في الأسبوع القادم بعد أذان المغرب من يوم الإثنين، بدلاً من يوم الخميس.
نسأل الله التوفيق لنا ولكم، والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(34/9)
توجيهات للمرأة المسلمة
هذه رسالة جمع فيها الشيخ حفظه الله ما من شأنه الذب عن حياض الدين، وما شرعه للمرأة من أحكام تنظم حياتها، وتتوافق مع طبيعتها، وتسعد بها في مجتمعها، فرد شبهات الأعداء، ووجهها ولفت نظرها إلى دورها ومكانتها في المجتمع، كما كان سلفها من الصالحات، وختم حديثه بتوجيهات قيمة تحيا بها على درب الإسلام؛ لتصل إلى جنات عدن عند رب كريم.(35/1)
رد دعوى تحرير المرأة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وحيا الله هذه الجموع المباركة، وهذه الوجوه الطيبة التي أقبلت على الله، أقبلت تريد طاعة الله حين أقبل الناس على الدنيا، وأقبلت على ذكر الله حين أدبر الناس عن هذا المنهل العذب، وأقبلوا على الغفلة واللعب، وأسأل الله الذي لا إله إلا هو كما جمعنا في هذا المكان الطاهر أن يجمعنا في دار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وبعد: أيها الإخوة في الله: المصلحون في هذه الأمة والعلماء والدعاة يهتمون كثيراً بأمر المرأة، ويأتي هذا الاهتمام رداً على الحملات الشيطانية المكثفة التي يقوم بها دعاة الفساد والشر والضلال لطعن الأمة عن طريق المرأة، ولابد في مواجهة هذه الحملات من حملاتٍ وحملاتٍ؛ يبين فيها أهل العلم ما يريده أهل الفساد من شعاراتهم الزائفة، ودعواتهم المضللة التي يخدعون بها المرأة ينادون بتحريرها! والتحرير لا يكون إلا لمن هو مستعبد، لإنسان يعيش في ظل العبودية والقهر فينادى له بالتحرير.
وحينما يقولون: تحرير المرأة، مِمَّ يحررونها؟ إنهم يحررونها من عبادة ربها وخالقها لتتمرد على الله يحررونها من أعظم منزلة أنزلها الله إياها وهي منزلة العبودية؛ لأن أشرف المنازل وأعلى الدرجات هي أن تكون عبداً لله، وأن تكون المسلمة أمةً لله، لا للهوى، ولا للنزوات، ولا للشهوات، ولا للدنيا، ولا للأزياء والموديلات (تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش) المرأة في ظل الإيمان بالله تعبد الله، فينادون بشعار تحريرها مم؟! إنهم إنما يريدون بذلك تحريرها من أمرين: من عرشها ومكان عزتها وهو البيت؛ لتخرج حتى تصل إليها أعينهم الآثمة، وتمتد إليها أيديهم الملوثة، ويمسحوا بها قذاراتهم ونجاساتهم، فيقولون: نحررها من البيت.
والله قد أمرها في القرآن أن تستقر في البيت، فقال: {وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] هذا كلام الله، فيريدون من المرأة ألا تبقى في البيت.
ويحررونها من شيء آخر -حتى ولو خرجت- وهو: الحجاب؛ لأنها إذا جلست في البيت لم يروها، وإذا اضطرت إلى الخروج محجبةً لم يروها، فهم يريدونها أن تخرج، ويريدون مع خروجها أن تكشف حجابها.
من أجل ماذا؟ من أجل إرضاء وإرواء نزواتهم وشهواتهم.
قالوا: تحرير المرأة.
والإنسان ينخدع بهذا الشعار، ما قالوا: نحررها من عبادة الله لا، بل قالوا: نحررها من التقاليد! يسمون الإيمان والدين والقرآن تقاليد بالية عفا عليها الزمن، ويريدون أن يطوروها ويحمروها؛ من أجل أن تكون دابة يمتطوها، وتكون لعبة في أيديهم يشبعون بها رغباتهم ويمسحون بها وساخاتهم، من أجل ذلك يقوم العلماء دائماً بالتركيز على هذا الجانب، ويختارون مواضيع محاضراتهم وتأليف كتبهم للرد على كيد الضالين.
ومن هذا المنطلق -أيها الإخوة- جاء اختياري لموضوع هذه المحاضرة وهو: (توجيهات للمرأة المسلمة).
وهذه التوجيهات وإن كنا نخاطب بها المرأة إلا أن المخاطب بها الزوج؛ لأنها لا تستطيع هي بنفسها أن تنفذ هذه التوجيهات إلا بمعونة الزوج، لأنهما شريكان في المسئولية أمام الله عز وجل، والله عز وجل قد بين أن المرأة مخلوقة من نفس الرجل، يقول عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] فالمرأة مخلوقة من نفس الرجل؛ ولذا لا يمكن أن تستقل هي بتوجيهات الله وأوامره والسير على صراطه إلا بمعونة من الرجل.(35/2)
أهمية المرأة في المجتمع
أيها الإخوة في الله: لقد أخذت الأرض زخرفها وازينت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها، وانصرف معظم الناس عن دينهم إليها، وانقاد السواد الأعظم لغرورها، وافتتنوا بحضارتها الجوفاء في الشرق والغرب، وخُدع بعض المسلمين بلمعان وبريق هذه الحضارة الزائفة، وقام أعداء الله بشن حملاتهم وحروبهم ضد الإسلام، فحملوا على الدين بخيلهم ورجلهم، وطعنوا فيه بسهامهم وسمومهم، وتعرفوا على مواطن القوة ومراكزها فاجتهدوا في إضعافها وتوهينها، وعلموا بعد ممارسة وخبرة أن المرأة من أعظم أسباب القوة في المجتمع المسلم، وأنها سلاحٌ ذو حدين، وأن لديها القابلية لأن تكون أعظم وسيلة للبناء أو أخطر وسيلة للهدم والتدمير؛ لأنها تملك مواهب ضخمة، فهي جديرة بأن تبني أو أن تهدم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الصحيح في مسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الدنيا حلوة خَضِرَة) حلوة المذاق وخَضِرَة اللون، ودائماً الأخضر الذي له طعم كل إنسان يحبه (حلوة) في طعمها (خضرة) في لونها (وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون) أنتم تحت النظر الإلهي، لا يغيب عن الله من أمركم شيئاً (ألا فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) رواه مسلم.
وفي البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: (ما تركت بعدي فتنةً أضر على الرجال من النساء) وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول أحد السلف: [والله لو أمنتموني على ملء الأرض ذهباً لوجدتموني أميناً، ووالله لا آمن نفسي على أمة سوداء أعلمها القرآن] لِمَ؟ لأن قضية المرأة تصادف غريزة في النفس، الله عز وجل ركب في الإنسان ميلاً إلى المرأة من أجل بقاء الجنس البشري، إذ لو أن الرجل لا يميل إلى المرأة وهي لا تميل إلى الرجل لبقي الرجل في جانب وبقيت المرأة في جانب، وانقرض الجنس البشري، وخلت الحياة من الناس، وتعطلت الوظيفة التي من أجلها خلق الله الأرض وهي: العبادة، فجعل الله مَيلاً عند الرجل، ومَيلاً عند المرأة، ونظَّم هذا الميل ليلتقيا في نقطة شريفة اسمها "الزواج" نقطة مسئولية، لكن عمل أعداء الإسلام على أن يلتقي الرجل بالمرأة في غير النقاط الشريفة في نقاط الضلال، فتدمرت الأخلاق والعياذ بالله! لقد كان للمرأة في بناء الأمة المسلمة دورٌ رائع؛ لما انتفعت الأمة بالحد النافع من سلاح المرأة في القرون المفضلة، حيث كانت نسيبة بنت كعب مجاهدة، وكانت عائشة رضي الله عنها معلمة، روت آلاف الأحاديث، وكانت أي: المرأة مربية، وقانتة، وعابدة، وصائمة، وقائمة؛ ومربية وداعية تصنع الرجال وتخرج الأبطال.
ثم لم يلبث الحال أن تدهورت شيئاً فشيئاً، وجُرحت الأمة من الحد المهلك -من سلاح المرأة- حين سارت في الطريق الذي رسمه أعداء الإسلام لها، لتعطيل المرأة عن وظيفتها الأساسية، والزج بها إلى مواطن الفتنة، وتدمير الأخلاق تحت الشعارات البراقة: كالتحرير، والتجديد، والتقدم، والمساواة حتى قال أحد أقطاب الكفار والمستعمرين: "كأس خمرٍ وغانية -يعني: زانية- تفعلان في تحطيم الأمة المسلمة أكثر مما يفعله ألف مدفع".
المدفع إذا حمل وقابلته القلوب القوية والإيمان القوي يُدمَّر؛ لأن الله مع المؤمنين، لكن إذا جاءت تلك القوى وقد دمرت القلوب من الداخل، ونسفت العقائد، ودهورت الأخلاق.
هنا يسهل القضاء على الأمة المسلمة! لقد عز على أعداء الإسلام أن تجود المرأة المسلمة على أمتها -كما جادت من قبل- بالأبطال والعلماء والمجاهدين، فاجتهدوا ليجعلوها عقيماً لا تلد مثلَ عمر، ولا خالد، ولا صلاح الدين، ولا عائشة ولا سمية، اجتهدوا حتى لا تلد إلا الحيات والعقارب والحشرات من المغنيين والمغنيات، والتافهين والتافهات، المنسلخين عن القيم والمبادئ والمنسلخات، أصبحت لا تلد إلا كذاباً، ولعاناً، وسباباً، وشتاماً؛ لأنها كذابة، وسبابة، ولعانة، وشتامة أصبحت لا تلد إلا تاركاً للصلاة؛ لأنها لا تصلي، ولا تلد إلا قاطعاً للرحم؛ لأنها لا تصل رحمها أصبحت لا تلد إلا هاجراً للقرآن؛ لأنها لا تعرف القرآن أصبحت لا تلد إلا سارقاً؛ لأنها سارقة، ولا تلد إلا زانياً؛ لأنها عاهرة منحرفة والعياذ بالله ففاقد الشيء لا يعطيه! وأخرجوها من عرشها الذي تربعت عليه ردحاً من الزمن داخل مصنع رهبان الليل وفرسان النهار، لقد كانت تهز المهد بيمينها، ولكنها تزلزل عروش الكفر بيقينها؛ لأنها أم المجاهدين، وبنت المجاهدين، وأخت المجاهدين، وزوجة المجاهدين، بصماتها واضحة في حركات المجاهدين.
الخنساء يخرج أربعة من أبنائها ويموتون في سبيل الله، ثم لما يعودون في آخر النهار يأتيها الخبر بأنهم قد استشهدوا كلهم في سبيل الله فتقول: [الحمد لله الذي شرفني بقتلهم في سبيل الله].(35/3)
المرأة وخطاب الشريعة
لقد رغبتُ -أيها الإخوة- في إعطاء المرأة المسلمة جرعة من الحماس والوقاية ضد تلك الأفكار؛ لتعرف دورها الريادي الذي يجب أن تقوم به في المجتمع، نتوجه بهذه المجموعة القيمة من التوجيهات التي تخص المرأة علَّها أن تجد إلى قلبها طريقاً، ونحن نخاطب -أيها الإخوة- ونتوقع أن النساء أحد صنفين: الصنف الأول: صنفٌ مؤمن مصدق بالله راضٍ بشريعة الله، فواجبهن الانقياد والخضوع والاستسلام لأمر الله، شعارهن قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36] لا يسع المؤمن ولا المؤمنة إلا أن يقولوا: آمنا بالله طاعةً لله، إذعاناً له واستسلاماً هذا هو موقف المؤمن والمؤمنة.
أما الصنف الثاني: صنف من النساء مكذب منحرف، تربى على الكفر، وتغذى بغذائه، فهؤلاء نتوجه لهن بالدعوة إلى العودة إلى الله، والتصديق بدينه، والرضوخ لشريعته قبل أن يحال بينهن وبين ذلك بالموت، وقبل أن يواجهن المصير المحتوم، والعذاب الأليم، واللعنة والدمار في دار الخزي والبوار ندعوهن بدعاية الإسلام إلى إعلان العبودية لله وحده؛ لأن ذلك في مصلحتهن في الدنيا والآخرة.
وقبل كل شيء نؤكد -أيها الإخوة- أن الشريعة وأن دين الله منزه عن الظلم؛ لأن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44] ولئن ساء وضع المرأة في فترات الزمن فإن السبب ليس التزامها بالإسلام، بل السبب الحقيقي هو: انحرافها وانحراف الناس عن الإسلام، انحراف الأجيال عن منهج الإسلام في التعامل مع المرأة.
فنحن نعلم ما حاق بالمرأة من ظلم وإهانة؛ فهناك من يكلفها ما لا تطيق، وهناك من لا يرحم ضعفها، وهناك من يقسو عليها، ويهدر كرامتها، ويضيع حقوقها، ولكن ما علاقة الإسلام بأخطاء الآخرين؟ نحن لا نريد أن نعالج الخطأ بارتكاب خطأ أفدح منه، ونحن لا ننكر أن الهوة سحيقة والبون شاسع بين ما نحن عليه وبين ما يجب أن نكون عليه، ولكننا نقول لكل مسلمٍِ ولكل مسلمة ترجو الله واليوم الآخر: إنها مسئولة غداً بين يدي الله.
إن ما يسمى بالاستسلام للأمر الواقع سوف يظل في ميزان الإسلام مرفوضاً ومردوداً ومنقوضاً، فالحق واحد لا يتعدد، والباطل مهما تقادم سيظل باطلاً، ولن ينتفع الناس إلا بالحق {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].
هذا موقف الدفاع لرد تلك الحملات التي يستدلون فيها بالشبهات -مثلاً- يقولون: الإسلام ظلم المرأة! لم؟ قالوا: أعطاها نصف ما أعطى الرجل.
قاتلكن الله وقاتلكم الله يا من تصفون الله بأنه ظالم حينما أعطاها النصف.
أعطاها الله النصف وأعطى الرجل ضعف ما أعطى المرأة، لكنه كلف الرجل بكل شيء ولم يكلف المرأة بأي شيء، فهل أنصفها الإسلام أو لا؟! هذا هو الإنصاف، المهر والنفقة على الرجل، وله ضعف نصيبها من الإرث، مثلاً لو مات رجلٌ وترك ذرية ومواريثاً، ثم قُسمت المواريث فأخذ الذكر ثلاثة آلاف، والبنت ألفاً ونصفاً، ثم جاء الرجل ليتزوج فإنه سينفق من الثلاثة آلاف للمهر، والبيت، والنفقة، والبنت تأتي عندما تتزوج لا تدفع من الألف والخمسمائة ريالاً واحداً، إذن من الرابح في المسألة، الرجل أم المرأة؟! لاشك أن الرابح: المرأة.
راعى الإسلام ضعفها.
أما لو نظرنا إلى الميراث بمنطق الحسابات، فما دام أن الرجل عليه كل شيء فيكون الميراث للرجل؛ لأن عليه كل شيء، هذا بمنطق الحساب، لكن بمنطق الشرع والدين لا، الرجل عليه كل شيء لأنه يتحمل، والمرأة ليس عليها شيء لأنها ضعيفة، ومع ذلك فلها نصف ما للرجل، فهل هذا ظلم للمرأة أم أعظم عدل ورحمة؟! قاتل الله من يدعي أن الله ظلم المرأة.(35/4)
المرأة في الإسلام
لا بد في البداية من إعطاء لمحة قصيرة عن المرأة عند الآخرين أولاً، ثم نعرف كيف أكرمها الإسلام.(35/5)
المرأة ومنزلتها عند غير المسلمين
لقد كانت المرأة عند الإغريق محتقرةً ومهانةً حتى إنهم كانوا يسمونها رجساً، وكانت عندهم تباع وتشترى، مسلوبة الحقوق، محرومة الميراث.
أما عند الرومان فكان شعارهم أن المرأة ليس لها روح، ولهذا اختلفوا هل هي من الإنس أم من الجن؟! ولذا كانت تعذب بسكب الزيت المغلي عليها، وكانوا يربطونها ويجرونها خلف حميرهم وبغالهم ويسحبونها حتى تموت.
وقبل الإسلام -أي: عند العرب- لم يكن للمرأة قيمة عند الجاهليين، فلم تكن ترث، ولكن تُوْرَث، توضع مع المتاع (مع الثلاجة والغسالة)، وكأنها قطعة أثاث في البيت، لم تكن ترث شيئاً في الجاهلية بل تُورث ولا ترث.
وكان العرب يخصون الرجال بطعام غير طعام النساء، قال الله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام:139] يأكل الرجل ولا تأكل المرأة، بل كانوا يدفنونها وهي حية، هل هناك أعظم من هذا الظلم؟! {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:58 - 59] وهذه نزعة لا تزال فينا إلى اليوم، نزعة البشرى بالولد أو البنت، إذا بشروه قالوا: جاء لك ولد.
قال: الحمد لله.
وفرح، وإذا جاءت له بنت سكت، ويقولون: جاءت له راعية غنم! فيحزن ويقول: لو يرزقني الله برجل! من الذي يخلق الرجل ومن الذي يخلق البنت؟ من الذي يهبهم؟ {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} [الشورى:49 - 50] لا تدري ما الخير فيه يا أخي! لعل الخير في هذه البنت، ولعل البركة والدين في هذه البنت، كم من بنت أدخلت على أهلها النور والإيمان والدين! وكم من ولد أدخل على أهله الشر والظلم والفساد ودمر حياة أهله كلها وهو ولد! لا تفرح إلا بما آتاك الله، فإن جاء ولد فاسأل الله أن يكون صالحاً، وإن جاءت بنت فافرح ولا تحزن، ولا تفعل كفعل الجاهليين: {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:59].(35/6)
المرأة عند أهل الإسلام
استمر الناس على هذا الوضع حتى إذا شرقت شمس الإسلام نعمت المرأة -كغيرها من مخلوقات الله في الأرض- تحت ظله بكامل حقوقها، لم تنعم البشرية ولا الإنسانية فحسب ولكن العالم كله نعِم بظل الدين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] هذا الدين كان النجاة للعالم كله، حتى سعدت الوحوش في البراري والقفار، وسعدت الأسماك في البحار، وصفت الأجواء، وطابت الثمار؛ لأن الأرض تصفو بطاعة الله وتشقى بمعصية الله، والله يقول: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم:41] بماذا؟ {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] بمعنى: أنها إذا كسبت شراً ظهر الفساد، وإذا كسبت خيراً ظهر الصلاح، فنعِمت المرأة كغيرها تحت مظلة الإسلام، وأعيد لها كامل حقوقها وكرامتها، وقرر الإسلام أنها شقيقة الرجل لها ما له وعليها ما عليه، مع اختصاص الرجل بالقيادة والذود والحماية والإنفاق والولاية، يقول الله عز وجل: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] وهذه الدرجة ليست درجة أفضلية، ولكنها درجة مسئولية، مثلاً: المدرسون في المدرسة الآن كلهم خريجون جامعيون، ولكن إدارة التعليم تختار واحداً منهم مديراً، فهل معنى ذلك: أن المدير أفضل من المدرسين؟ لا.
لعل المدرسين أفضل منه، لكن وقع عليه الاختيار لأنه قديم، وهو مسئول فقط.
لكن ما ظنكم لو قلنا: كلكم يا مدرسون مدراء؟ هل تصلح المدرسة؟ لا تصلح الحياة إلا بمدير، فالحياة الزوجية لابد فيها من مسئول، من الذي يصلح للقيادة الرجل أو المرأة؟ في تصورنا نحن لا يصلح طبعاً إلا الرجل، فالشرع قرر أن الرجل هو الذي يصلح وذلك لميزات عنده، هو الذي يصلح لأن يكون مسئولاً لا لأنه أفضل فقد تكون المرأة أفضل عند الله من ألف رجل! مثلاً: امرأة فرعون، الله عز وجل أخبر أنها قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] فهي أفضل من فرعون الذي ملك مصر وكان عظيمها الذي كان يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] وزوجته آسية بنت مزاحم كانت مؤمنة، ومع هذا كانت أفضل منه، فليست القضية قضية أفضلية، حتى لا يأتي أحد ويقول: لا، أنا رجل، أنا أفضل.
لا، لست أفضل، أنت مسئول فقط، يعني: أن الدرجة التي عندك هي درجة أن الله جعلك مسئولاً عن الريادة والقيادة والقوامة في الأسرة؛ لأن عندك ميزات: قوة، وشجاعة، وقدرة، ومواجهة.
أما المرأة فلا تستطيع، فهي مشغولة بوظائف أخرى لا تقدر لها أنت: المرأة تحمل، هل تقدر أنت أن تحمل؟ أنت إذا تعشيت وامتلأت بطنك قمت تصيح طوال الليل، تقول: أعطوني دواءً مهدئاً للهضم، أو مشروباً غازياً؛ هذا كله لأن في بطنك نصف كيلو من اللحم أو الأرز، كيف لو كان في بطنك طفلاً كبيراً وزنه أربعة كيلو جرام؟! وما يكون بعده؟؟! لكن الله جعل المرأة تستطيع أن تقوم بهذا العمل {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} [الأحقاف:15] فلها وظيفة ولك وظيفة، يريدون أن يغيروا سنة الله في الأرض، يجعلون الرجل يأخذ وظيفة المرأة وهي تأخذ وظيفة الرجل، هذا تغيير: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62] ومن يغير سنة الله هو الذي يتغير ويخسر وتبقى سنة الله جارية لماذا؟ لأن الله هو الخالق لهذه السنة، وهو الموجد لهذه السنن الكونية.(35/7)
حق المرأة في الاستشارة
ليست مسئوليتك مسئولية قهر، ولا استعباد، ولا استبداد، ولا تسلط كما يتصور بعض الناس، يقول: أنا الرجل.
نعم، أنت رجل، لكن مسئوليتك مسئولية إشراف ورعاية وحماية، فإذا اتخذت قراراً فشاور، ليس عاراً عليك إذا أردت أن تتخذ قراراً فقل: حسناً، نرى، نتشاور.
من الذي تتشاور معه؟ مع زوجتك، النبي صلى الله عليه وسلم شاور زوجته رضي الله عنها أم سلمة في قضية ليست سهلة، قضية إذا عصت الأمة الرسول صلى الله عليه وسلم عذبها الله! في صلح الحديبية لما كاتب الرسول صلى الله عليه وسلم كفار قريش على أن يرجع وأن إلى آخر صلح الحديبية، أمر الصحابة فقال: احلقوا رءوسكم.
فالصحابة ترددوا فما حلقوا، فخشي عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم عذابٌ من الله؛ لأنه يأمرهم ولا يطيعونه، كيف لا يطاع الرسول؟ وإذا لم يُطَعِ الرسول فماذا يحصل؟ سيحصل تدمير.
فدخل على أم سلمة وهو متغير، قالت: (ما بك يا رسول الله؟ قال: آمُر فلا أطاع.
قالت: ابدأ يا رسول الله أنت احلق.
فبدأ يحلق فقام الناس كلهم يحلقون) انظروا الرأي السديد عند هذه المرأة العظيمة، ما قالت: ادع عليهم، أو دمرهم لا.
فأنت إذا أردت أن تعمل شيئاً شاور زوجتك، لو أردت أن تستأجر شقة فشاور زوجتك، أنت وهي سوف تسكنون، أنت سوف تقعد فيها ساعات وتخرج وهي تقعد فيها طوال الليل والنهار، قل لها: تعالي نرى الشقة هل هي مناسبة أو لا.
بعض الناس يقول: والله ما آخذ رأيها، أنا الرجل! (ما دخلها) لماذا آخذ رأي امرأة؟! وإذا جاءت وقالت: ليست الشقة جيدة.
قال: جيدة أو غير جيدة، اقعدي على رأسك.
ويتصور أن هذا هو الدين، وأن هذه هي الرجولة، هذا قهر، واستبداد، وتسلط، ينبغي عليك أن تكون مرناً، وأن تكون رجلاً ذو عشرة حسنة؛ لأن الله أمر بهذا في القرآن الكريم فقال عز وجل: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228].(35/8)
إكرام الله للمرأة في الخطاب الشرعي
يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] حتى ولو كانت امرأة فهي أكرم إذا كانت عند الله أتقى، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1] ويقول عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:7] ويقول عز وجل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] ويقول عز وجل: {الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71] ويقول عز وجل: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الحديد:12].
هل هناك أعظم من هذا التكريم للمرأة في ظل القرآن الكريم! يخاطبها الله ويقول عز وجل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] إلى آخر الآيات، يذكر الرجال ويذكر النساء، لماذا؟ لأنهم سواء، لا يوجد تفضيل هنا، لماذا؟ لأن الله خلق المرأة لوظيفة وخلق الرجل لوظيفة، إلا أن الإسلام يتعامل مع الأمور بمنطق الواقعية لا بمنطق العاطفة والسطحية.(35/9)
إسقاط التكاليف عن المرأة مراعاة لطبيعتها الخَلْقِيَّة
أعلن الإسلام موقفه الصريح من إنسانية المرأة وكرامتها، وأيضاً نظر إلى طبيعتها وما تصلح له من أعمال، فأبعدها عن كل ما يتعارض مع طبيعتها فخصها ببعض الأحكام، وأسقط عنها بعض الواجبات: أسقط عنها الجمعة، لماذا؟ لأنه يترتب على خروجها للجمعة مفسدة، الناس كلهم مأمورون للخروج للجمعة، فإذا خرجت المرأة للجمعة -أيضاً- احتك الرجال بالنساء، فأسقط الله عنها الجمعة فلا تجب عليها ولها أن تصلي في بيتها.
وأسقط عنها الإحرام، فالرجل إذا أحرم يكشف رأسه وجسمه ولا يلبس إلا رداءً وإزاراً، أما المرأة فلا تفعل مثله؛ وإنما تغطي كل شيء في جسمها إلا وجهها وكفيها، فإذا رأت الرجال تغطي حتى هذا الشيء، تقول عائشة: [كنا إذا قابلنا الركبان أسدلنا، وإذا جاوزونا كشفنا].
وأسقط عنها الجهاد، عليها جهاد لا دم فيه وهو الحج، المرأة ليست بمسئولة عن الجهاد؛ لأنه لا ينسجم مع تكوينها ولا يتلاءم مع ضعفها وطبيعتها.
كما عفاها الإسلام من الصلاة والصوم في فترة الحيض، وهذه رحمة من الله بالمرأة، بعض الناس يقول: إن الإسلام عفاها من هذا الشيء من أجل النجاسة التي تخرج منها وهي: الدم.
وليس هذا هو السبب، فإن المرأة أثناء الطهر يخرج منها شيء نجس وهو البول والغائط ومع هذا تتطهر وتصلي وهكذا الرجل، فالدم نجاسته ليست أشد من نجاسة البول والغائط، لكن الله عفاها من الصلاة والصوم أثناء فترة الحيض؛ لأن فترة الحيض تؤثر عليها صحياً، ونزيف الدم الذي يخرج منها يؤثر عليها، وقد أقر الأطباء في دراسات علمية حديثة: أن المرأة تتغير طبيعتها وتكوينها الصحي أثناء الحيض، فترتفع درجة حرارتها، وتصاب بمغص، وتعتريها آلام، وتشعر بتعب، فالله من رحمته بها أسقط عنها الصلاة والصيام.
وبعد ذلك الصلاة لا تقضيها في وقت آخر، ولكنها تقضي الصوم؛ لأن لديها أحد عشر شهراً تستطيع أن تقضي فيه، ولكن لا تقضي الصلاة، وهذه رحمة من الله بالمرأة.
لا إله إلا الله! ما أعظم رحمة الله بالعباد {وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44].
عفاها الإسلام من الصلاة والصوم لماذا؟ مراعاةً لوضعها الصحي ولعدم ملاءمته لها، وما يجب أن تكون عليه من الراحة النفسية.(35/10)
تقسيم الواجبات والأعمال بين الرجل والمرأة
قرر الإسلام تقسيم الواجبات والأعمال بين الرجل والمرأة، فالحياة ذات تكاليف، والدنيا ذات أعباء ومشاق؛ فلابد من توزيع الاختصاصات، وهذا تقتضيه هندسة البناء الاجتماعي، الآن كل إدارة فيها وظائف متعددة واختصاصات، لو أتينا بالموظفين وقلنا: كل موظف يشتغل على الكيفية التي يريدها ماذا يحصل؟ تصير فوضى، لكن كل واحد له عمل، ووظيفة، كذلك الشركية الزوجية هذه لابد فيها من توزيع الاختصاصات بحيث يقوم الرجل بنوعٍ من العمل لا تقوم به المرأة ولا تقدر عليه، وتقوم المرأة بنوعٍ من العمل لا يقوم به الرجل ولا يقدر عليه، ومن الذي قسم هذا؟ إنه الله، وقسم الله هذه الواجبات بين الرجل والمرأة على ما يتلاءم مع الوظيفة التي خلقه من أجلها، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] الله يقول: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران:36].
ومن ضمن الأشياء التي جعل الله فيها فارقاً بين الرجل والمرأة: أنك تجد الطفل الصغير أو الطفلة الصغيرة عند الولادة أن لديهما شعراً في أجزاء من الجسم سواء بسواء، شعر في الرأس عند الولد والبنت سواء، وشعر في الحواجب والجفون، فإذا ما اكتملت أنوثة الأنثى ورجولة الرجل كان لهما شعر في الإبط والعانة سواء بسواء، ثم يتميز الرجل بأربعة أشياء عن المرأة: يظهر للرجل شعر في وجهه -أي: لحية- ويظهر للمرأة أثداء في صدرها، ويغلظ صوت الرجل ويرق صوت المرأة، وتعظم أكتاف الرجل وتعظم أرداف المرأة.
هذه ميزات جعلها الله للمرأة وللرجل لما يتلاءم معها، لماذا؟ لأن المرأة لا تصلح إلا بهذا، ما رأيك لو أن المرأة صوتها ثخين -مثل صوت السيارة الكبيرة- إذا كلمتك؟ تقول: الله أكبر على هذا الصوت! لن تحبها، كذلك لو ذهبت البيت الآن من هذا المجلس المبارك ودخلت على زوجتك وإذا بها لديها لحية، هل تقبل زوجتك بلحية؟ لا تقبلها بلحية ولو كنت تحبها، ولو كان لك منها ذرية، ستقول لها: اذهبي إلى أهلك، لقد صرتِ رجلاً، لماذا أقعد مع رجل؟ لا يمكن أن تستمتع بها إلا إذا كانت بدون لحية.
وكذلك أنت -أيها الرجل- لا يمكن أن تكون ممتعاً لزوجتك إلا بلحية، كما لا تريدها أنت إلا ملساء هي لا تريدك إلا بلحية، فإذا ما وجدتْ لديك لحية تصبح مسكينة؛ لأن ما عندها ورقة طلاق تقدر تطلقك، وقد أجري استفتاء لأربعمائة امرأة كلهن قررن أنهن يفضلن الرجل الملتحي؛ لأن المرأة تشعر أمام الرجل الملتحي بالأنوثة، ترى شيئاً ليس فيها، ترى فيه علامات مميزة عنها، لكن إذا رأته مثلها يحدث العجب، فأحياناً تضطر إلى أنها تصير هي الرجل، حتى في الطريق وهم يمشون تمشي أمامه، وتجعله يأخذ الولد، ويعلق الشنطة في كتفه، إذن ماذا بقي؟ لا حول ولا قوة إلا بالله!! فالإسلام خصص لهما بعض الأعمال والواجبات بمقتضى إمكانيات كل منهما، فالرجل يتميز بالقدرة والقوة الجسمية، والقدرة على الدفاع عن الأسرة، فحددت مسئوليته بالأعمال الخارجية، المرأة لا تقدر أن تدافع أبداً، ضعيفة هكذا، لكن الرجل يقدر، إذا حدث شيء مزعج يخرج ليتثبت من الأمر، وإذا سمع صوتاً في خارج البيت يخرج هو يستكشفه، ولا يقول: اخرجي يا امرأة! وأنا سوف أقعد، انظري ماذا بالخارج! لا، هو الذي يخرج ليكتشف الأمر، المرأة إذا سمعت صوتاً تذهب لتوقظ زوجها وتقول: هناك شيء، هناك حركة، سمعت شيئاً.
مسكينة المرأة! لا تستطيع.
فالله جعل الرجل يقوم بتلك الواجبات الخارجية، والمرأة اختصها الله عز وجل بأشياء أخرى: بالحمل، والإرضاع، والحضانة، والتربية، وتدبير أمور المنزل.
فحددت مسئوليتها بالأعمال الداخلية، وهذا تنظيم تقتضيه طبيعة الحياة وهو أن الرجل عليه المسئولية خارج البيت، والمرأة عليها المسئولية داخل البيت، وقد تكون أعباء الداخل أكثر من أعباء الخارج ولكن يتعاون الرجل والمرأة في الحياة الزوجية بهذا الوضع فتستقيم الحياة.(35/11)
حال المرأة بعد انتكاس الفطرة
الآن دُمرت الحياة، أخرجت المرأة من البيت لتعمل في الخارج فضاعت بيوت المسلمين، يقول أحد الذين هداهم الله: إن بيوتنا غدت شبيهةً بالفنادق، لا نجد فيها الأنس ولا الروحانية ولا المتعة، وأبدت المرأة -وهي تمارس عملها خارج البيت- النشاط والحيوية والعطاء والبذل للعمل، وأبدت للبيت الكلل والملل والنوم، فلا تجد المرأة في بيتها نوعاً من القدرة على الإبداع والإنتاج وإنما تدخل وهي محطمة فترمي نفسها، ومن يقوم بأعباء الأسرة؟ الخادمة! وهل الخادمة تستطيع أن تقوم بهذا الدور؟ هل الخادمة تستطيع أن تقوم بدور عمارة البيت، والأسرة من الداخل، وتربية الأولاد؟ لا تستطيع، لأن هذا هو دور المرأة وليس دورها يتم خارج المنزل.
ولما غير الناس هذه الطبيعة تغيرت حالتهم، ولا ينازع في قضية الاختصاصات إلا جاهل.(35/12)
تعرية دعوى مساواة المرأة بالرجل
والذي يدعو إلى مساواة المرأة بالرجل في العمل والوظيفة والخروج جاهل أو مخطئ، لأن هناك أعمالاً تقتضيها الظروف مثل تدريس النساء؛ لأن تعليم النساء خير، وأحسن من بقائهن جاهلات، لكننا نحارب قضية الدعوة التي نسمعها الآن والتي نراها تبث وتظهر رأسها وهي: أنه يجب علينا أن نستفيد من نصف المجتمع، ومن آلاف الخريجات، وعشرات الآلاف من البنات، لماذا يقعدن في البيوت ونحن بحاجة إليهن في السكرتارية، و (السنترالات)، وكاتبات ومراجعات ومضيفات؟؟ أخرجوا النساء، استفيدوا منهن!! هذه دعوة ماسونية علمانية، هدفها تدمير البنات والنساء؛ من أجل تدمير الإسلام، يريدون تدمير الحياة الاجتماعية النظيفة الطاهرة التي نعيشها: الأسرة طاهرة، والبيت والمكتب والشارع طاهر عندما كانت المرأة طاهرة والرجل طاهراً، لكن إذا أضرمت النار، ووضع عليها البارود، ساءت الحياة وفسدت وأسنت، وحصل ما حصل في المجتمعات الأخرى التي سبقتنا -نسأل الله أن لا يجعلنا نسير فيما سارت فيه- فقد وصلت إلى حدٍ لا تحسد عليه.
والذين يقولون: نريد المساواة بين الرجل والمرأة: في العمل، والوظيفة، والخروج وغيره، نطلب منهم أيضاً المساواة معها في وظائفها، فنريد أن يحيض الرجل شهراً وتحيض هي شهراً آخر هذه المساواة! وأن يحمل بطناً وأن تحمل بطناً آخر، أما الحمل دائماً عليها وفي بطنها وأنت قاعد هناك وتقول: نريد المساواة! هذه ليست مساواة!! ونريد أن ترضع أنت ولداً وهي ترضع ولداً آخر، وهذا أمرٌ بطبيعة الحال غير وارد أصلاً؛ لأنه يتعارض مع فطرة الله التي فطر الناس عليها.(35/13)
إكرام الإسلام للمرأة
لقد ساوى الله عز وجل بين الرجل والمرأة في الجزاء في الآخرة قال عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] وساوى الله عز وجل في التوجيه في سورة الحجرات لما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11] وكرَّم الله المرأة وخصها بنصيب عظيم من العناية من ذلك في جميع مراحل حياتها، فالله أكرمها أُماً في حين أن الجاهليين الآن في الشرق والغرب يرمون بالأمهات في الملاجئ؛ فإذا بلغت الأم خمسين سنة انتهى الانتفاع بها، وردةً مُصت واستنشقت فذبلت، فلما ذبلت ركلت يركلونها ويذهبون بها إلى دور العجزة، ولا يعرفها ولدها ولا بنتها ولا أخوها ولا زوجها ولا تبقى لتموت ببطء حتى تنتهي.
أكرمها أماً: الإسلام كرَّمها أماً، فقال عز وجل: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة:83] وقال عز وجل: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] ويروي البخاري ومسلم في الصحيحين حديث الرجل لما سأل الرسولَ صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟) يعني: من هو أولى الناس لأن أكون له أطوع، وأحسن الناس إليه، وأرفق الناس به؟ من هو؟ من هو؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (أمك) الله أكبر! فهذا الرجل أخذها على أنها في أعلى منزلة، قال: (ثم من؟) يريد أن يضع الثاني (قال: أمك) ضع أمك في المرتبة الثانية أيضاً (قال: ثم من يا رسول الله؟) يريد أن يضع أخرى (قال: أمك) ثلاث مرات: أمك.
في الدرجة الأولى، والثانية، والثالثة (قال الرجل: ثم من؟ قال: ثم أبوك.
ثم أدناك فأدناك) الآن أكثر الناس لا يتقي الله في أمه بل يجعل امرأته في القائمة الأولى، المرأة هي الأولى في القائمة والأم في آخر القائمة، البسمة للمرأة، والثوب الجيد، والتمشية، والسهرة، والراتب في يد المرأة، وأمه إن لم تكن في بيته فيأتيها في الشهر مرة وهو مستعجل، حتى إنه لا يتفرغ لكي يشرب عندها ماءً، يأتي ولا يطفئ حتى السيارة، يقول: مستعجل ذاهب للدوام عندي شغل عندي موعد بينما الجلسات كلها لامرأته، الله أكبر! لا إله إلا الله! وأكرمها الإسلام بنتاً، فقد كانت توأد في الجاهلية، والله عز وجل حرم هذه العادة وأبطلها، وجعل تربية اثنتين من البنات سبباً لدخول الجنة، ففي الحديث الصحيح من رواية مسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (من عال -أي من ربى- جاريتين -يعني: ابنتين- حتى تبلغا؛ جاء يوم القيامة أنا وهو معاً، وضم إصبعيه الاثنتين) من عنده اثنتان من البنات يربيهن على الإسلام ويعلمهن الإيمان إلى أن يزوجهن هذا رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة.
والمرأة أكرمها الإسلام زوجةً، يقول عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) وامتدح الله رسله فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] وجعلها نعمة وآية من آياته قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم:21].
وأكرمها أيضاً مؤمنة، فكان أول قلبٍ مؤمن تألق بنور الإيمان هو قلب خديجة رضي الله عنها، فأول من آمن من النساء خديجة رضي الله عنها، وكانت أول شهيدة في الإسلام امرأة وهي سمية أم عمار بن ياسر وزوجة ياسر رضي الله عنهم.
قتلها أبو جهل، وكانت الأسرة كلها مؤمنة: سمية وولدها عمار وزوجها ياسر.
الأسرة كلها مؤمنة، وهم كانوا عبيداً وموالي، وكان أبو جهل يعذبهم تعذيباً لا يعلمه إلا الله، ويمر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ويقول: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة) ويمر الخبيث عليها فيطعنها بالرمح حتى ماتت ويسيل دمها على الأرض فكانت أول قطرة دم تقع على الأرض في سبيل الله، أي شرف أعظم للمرأة من هذا الشرف أيها الإخوة؟!! وامتدحها الله عز وجل صابرةً، هذه أم سليم بنت ملحان -في قصة طريفة جداً- مرض ولدها ثم مات، ودخل عليها أبو طلحة -زوجها- من المسجد وقد تطيبت وتصنعت وقالت لمن في البيت: لا تخبروه.
وغطت الولد بعدما مات بلحاف، وقامت تتجمل، وتتزين، وتتعطر، ولما دخل أبو طلحة قالت لمن في البيت: لا تعلموه.
فلما سألها عنه قالت: هو أسكن ما يكون.
وصدقت لأنه في سكون تام، لكنه فهم أنه قد شُفي.
قالت: هو أسكن ما يكون.
ثم قدمت له العشاء، ثم أتما ليلتهما على أتم حال، فلما كان آخر الليل -طبعاً قد هدأت الدنيا، لم يعد هناك سخط ولا غضب، وإنما الأنس والوفاق- جاءت تعرض الخبر عرضاً أدبياً جميلاً، قالت له: يا أبا طلحة ألم ترَ آل فلان -ضربت مثلاً- استعاروا عارية ثم تمتعوا بها، ثم طُلبت العارية منهم فشق عليهم ردها -أبوا ردها وقالوا: لا نرد العارية- قال: ما أنصفوا، هذا ظلم، كيف يرفضون رد العارية؟! قالت: فإن ابنك كان عاريةً من الله فقبضه.
الله أكبر ما أعظم صبر هذه المرأة! ما أعظم هذه العقلية! فالرجل قد ضربت له مثالاً، لم يعد بوسعه أن يعمل شيئاً فاسترجع وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وحمد الله وقال: الحمد لله.
وقال: والله لا أدعك تغلبيني على الصبر، أي: لا أجعلك تسبقيني إلى الصبر، سأصبر اقتداءً بك.
فلما أصبحا من الغد ذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد نزل عليه الوحي من السماء وأخبره الله بخبرهما في الليل فقال: (بارك الله لكما في ليلتكما) فحملت تلك الليلة ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وولدت ولداً سماه أبوه عبد الله لم يكن في الأنصار شابٌ أفضل منه، ولم يمت حتى رزق عشرة من الأولاد كلهم حفظوا القرآن؛ ببركة هذا السلوك العظيم من هذه المرأة الطاهرة.
لكن لو أنها من نسائنا ومات ولدها لصعقت وصاحت، وإذا دخل بعلها قالت: ما ذهبت به إلى المستشفى، أنت الذي أمَتَّ ولدي، وأنا أطلب منك أن تأخذه إلى الطبيب كل يوم، أنت راضٍ وقامت تضع المسئولية عليه بدلاً من أن تقول مثل هذا الكلام العظيم الذي قالته هذه المرأة الفاضلة، هذه المرأة الصابرة من أين اكتسبت هذا الصبر؟ ومن أين تحلت بهذه الأخلاق؟ لقد -والله- تحلت به من الإيمان الذي عمر قلبها، ومن النور الذي أنار باطنها، وهذا غيض من فيض، وقليل من كثير من حديث اهتمام الإسلام بالمرأة وإكرامها، يقول الشاعر:
فلو كان النساء كمن ذكرن لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ وما التذكير فخر للهلال(35/14)
هدف الأعداء من الدعوة إلى المساواة بين الرجل والمرأة
ولكن أيها الإخوة! -وما أصعب (لكن) - صعُب على أعداء الإسلام أن تبقى المرأة المسلمة في عرشها وعزتها وعليائها، صعُب عليهم هذا التكريم فعملوا في سبيل إنزالها لتكون منشفةً يتمسحون بها، ولعبة يتلهون بها ويحققون عن طريقها الاستمتاع بمآربهم متسترين بالشعارات الخادعة والهتافات الكاذبة حين نادوا إلى تحريرها، ولكن مم يحررونها؟ من الشرف، والفضيلة، والحياء! وهتفوا بالعطف عليها، ولكنهم قسوا عليها أشد من قسوة الجاهلية الأولى، كلفوها ما لا تطيق، ادَّعوا إكرامها فأوردوها موارد الذل والحقارة، أرادوا تحريرها فاستعبدوها، عطفوا عليها فأهلكوها، وهم حولها وحوش مفترسة، وكلاب شرسة، ولصوص مختلسة، همهم في الحياة إشباع النزوات، وغايتهم إرواء الشهوات، ومقصودهم التمرد على الأخلاق والعادات، ووقعت المسكينة في حبالهم في معظم بلاد المسلمين، وساقوها إلى أسواق الرقيق الأبيض، أسواق التبرج والاختلاط، وما أدراك ما التبرج والاختلاط؟!(35/15)
أحكام التبرج والاختلاط
ما هو التبرج؟ وما هو الاختلاط؟(35/16)
النهي عن التبرج والاختلاط في كتاب الله
التبرج: هو أن تُظهر المرأة للرجال الأجانب ما أوجب الله عز وجل عليها ستره من زينتها الخَلقية أو الخُلقية، الزينة الطبيعية أو المكتسبة بقصد أن تلفت أنظارهم، وتضيف إلى هذا المساحيق والعطور والأصباغ والملابس لإقناع الناس بأنها جميلة.
هذا اسمه تبرج، وهو مظهر من مظاهر الجاهلية، قال الله: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33].
أما الاختلاط: فهو اجتماع الرجل غير المحرم بالمرأة اجتماعاً غير شرعي في خلوة أو في سفر، ويمكنه من النظر إليها أو الحديث والكلام معها، وهو محرَّم بالكتاب والسنة، يقول الله عز وجل في التبرج: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59] ويقول عز وجل: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] ما ظهر منها يعني: شكلها العام بعد الحجاب وليس وجهها، ومن قال بهذا القول فقوله مردود ومنقوض ولا يدعمه دليل من كتاب ولا من سنة، والأدلة التي أوردوها على هذا كلها مردودة: إما منسوخة، أو ضعيفة، أو موضوعة؛ كما قرر ذلك أهل التحقيق من أهل العلم، كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وكثير من علماء الأمة، ولم يقل بأن الوجه أو الكفين ليس بعورة أحد ممن يعتد بعلمه ويؤخذ بقوله، كيف يأمر الله المرأة بألا تضرب برجلها ثم يبيح لها أن تكشف وجهها؟!! إذاً: فما معنى الحجاب الذي يقول الله فيه: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53]؟! إنها دعوة تخدم أغراض الماسونيين، إذا نزع الحجاب فتح الباب وصار الشر وحصل الفساد والعياذ بالله! فالله يقول: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] إلى آخر الآيات.(35/17)
حكم وضع الحجاب عن القواعد من النساء
ويقول عز وجل: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60] القواعد من النساء، هل تدرون من القواعد؟ هي المرأة العجوز التي لصق ساقها بفخذها، ولصق فخذها ببطنها حتى قعدت، لم تعد تستطيع المشي على رجليها، حائرة مسكينة، أصبحت جالسة في مخدعها لم تعد تزحف إلا زحفاً، هذه هي التي أباح الله لها ذلك، وليس عليها جناح أن تضع الحجاب، لكن بشرط: وهي باقية في مخدعها، قال: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60] العجوز منعت من التبرج فكيف إذا تبرجت البنت؟!! وهب أن العجوز هذه تبرجت، هل هناك فتنة؟ نعم، يمكن أن هذا العجوز ما درى الناس أنها قاعدة فقامت واستعملت حُمرة أو حناءً أو تطيبت أو أخذت لها ملابس ودخل رجل مُسن ورأى العجوز، فقد يحصل ما يُعبر عنه المثل: (لكل ساقطة لاقطة!) قال الإسلام: هذه العجوز ليس عليها جناح أن تضع ثيابها لكن بشرط {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60] وقال الله: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ} [النور:60] لماذا؟ {خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور:60] إذا تغطت العجوز ذات السبعين أو الثمانين سنة فهو أفضل لها، فكيف بالبنت التي عمرها عشرون سنة أو خمسة وعشرون أو ثلاثون تتبرج وتخرج في ثياب مزركشة، الآن هناك عباءات فاضحة، العباءة أصلاً وضعت للستر، أليس كذلك؟ فإذا أصبح الساتر فاضحاً؟ كما لو كانت العباءة منقوشة أو مطرزة أو ملمعة، بالإضافة إلى أنها مرفوعة من فوق الرجل، وأيضاً تلبسها على الكتف، وهو ما يسمونه (الكاب) هذا يُجسم صدرها ويكشف أكتافها، ثم تلبس الكعب العالي وتمشي عليه مع صغره كأنه حافر حمار، وكذلك تعلوها زينة وعطور ومشية مميلة و (باروكة) فوق الرأس! هذا كله حرام في دين الله، وتخرج أكثر البنات في هذا الوضع ولا ينكر عليها زوجها ولا أبوها ولا أخوها، وتمارس هذا الأمر وكأنه شيء طبيعي، هذا هو تبرج الجاهلية الأولى بل أشد.
إذا خرجت المرأة فعليها أن تخرج في حذاء مستوٍ، فإن الله خلقها تمشي على رجلها، ولو أرادها أن تمشي بحافر حمار لجعل لها حافر حمار، وعلى المرأة المسلمة إن خرجت أن تمشي بعباءة ساترة من رأسها إلى قدمها فضفاضة واسعة تجر الأرض، وتمشي في ثياب مبتذلة، لا تأخذ ثياب الزينة ولا تتعطر، وكذا تخرج إذا خرجت للضرورة فقط، الخروج بالنسبة للمرأة أمر طارئ عارض؛ لأن الله يقول: {وَقَرْنَ} [الأحزاب:33] ما قال: اجْلِسْنَ، ولا امْكُثْنَ.
والقرار: هو الدوام.
يقال: الجبل قار يعني: لا يتحرك.
ولا يقال: الجبل ثابت أو الجبل جالس، الجالس سوف يقوم، والثابت سوف يتحرك، لكن قار يعني: لا يتحرك ولا يخرج، قال الله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] حتى المرأة العجوز يقول الله عنها: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60].
ثم إذا كانت اللعنة قد وجبت على نساء بني إسرائيل لما خرجن إلى المساجد فكيف لا تجب على من تخرج إلى الأسواق والمجتمعات لنشر الفساد والمنكر وللدعوة إلى الجريمة؟!! روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: [رحم الله نساء الأنصار لما نزل قول الله عز وجل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] شققن مروطهن واختمرن بها] وفي الترمذي قال عليه الصلاة والسلام: (إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان).
من هذه الأدلة -أيها الإخوة- يتضح تحريم التبرج تحريماً قطعياً لتصان المرأة من التهتك والسقوط؛ لأن الرجال فيهم البر والفاجر، والطاهر والعاهر، والحجاب يمنع الفتنة ويدعو إلى الحياء والعفة، ويحفظ المرأة من تعرضها للفسقة والأذى، والاختلاط لإبقاء الثقة بين الزوجين، ولقطع دابر الريبة والجريمة والشكوك، والتهم التي تؤدي إلى هدم البيوت وتفكيك الأسر، والبيت للمرأة المسلمة كالصدَفة بالنسبة للؤلؤة تزداد به حسناً وجمالاً وبهاءً ودلالاً، وحين تتبرج وتخرج يذهب جلالها، ويتضاءل جمالها، وينطفئ نورها.(35/18)
نتيجة التبرج ومسرحية الهلاك
ولعل سائلاً يسأل: ما نتيجة التبرج؟ نتيجته الفساد والإغراق، أن تغرق المجتمعات في الجريمة والعياذ بالله، وللتدليل على ما نقول نورد -أيها الإخوة- مثالين من عالم الواقع في أسباب ما وصلت إليه المرأة -أعني: في بعض المجتمعات- وصلت رسالة تقول صاحبتها: أنا أبلغ من العمر تسعة عشر عاماً -طبعاً في غير هذه البلاد، والحمد لله هذا الكلام ليس في بلادنا- وأدرس في السنة الأولى من الجامعة، وهناك شاب اعتدت أن أراه في ذهابي وعند عودتي من الجامعة، ولأنني حاسرة الرأس عارية الصدر والسيقان والأذرع كان هذا المنظر يشده إلي أكثر، وكان يبادلني التحية والمجاملة، وصادف أن التقينا في مكان عام وطلب مني أن أمشي معه، وطلبني زوجةً له فرضيت، وتقدم لخطبتي، وإثر ذلك حدث بيني وبينه لقاء فقدت فيه بكارتي -يعني: أوقعها في الزنا- بعد أن وعدني بلسانه المعسول أن يتزوج بي، وبعد ذلك اختفى من حياتي وركلني بقدمه، وأرسل إلى أهلي طالباً منهم فسخ الخطبة، وإلى اليوم والحزن لا يفارق قلبي، وأصبحتُ أعيش في سجنٍ مليءٍ بالحسرة واللوعة والأسى والندامة، ولا يمكن أن أنسى ما أصابني من هذا الذئب البشري الضاري الذي أعطيته أغلى ما أملك بل كل شيء وجعلني لا أساوي شيئاً.
ونحن نقول لها: إن هذا ثمرة عدم الشعور بالمراقبة لله عز وجل، فهذه الفتاة لم تصل إلى هذه الحالة المؤسفة إلا بعد أن أباحت لنفسها أن تتبرج وأن تختلط ثم تلتقي بهذا الذئب، ثم تسلمه نفسها من غير خوفٍ ولا مراقبة لله عز وجل.
أما المثال الثاني: شاب جامعي كان يحيا حياةً مليئة بالحب مع حبيبته -كما يقول- ولكن مشكلته بدأت منذ شهور حين تقدم لهذه الحبيبة شاب آخر على جانبٍ من الجمال والثقافة والعلم، فقبلته ووافق أهلها عليه ويقول: ماذا أفعل؟ لقد صدمت، إنني لن أتركها تتزوج بشخص غيري، ولو كلفني ذلك حياتي؛ لأن حياتي لا تساوي شيئاً بعدها.
وهذا بلا شك ثمرة التبرج والاختلاط والعياذ بالله! وإننا نعجب -أيها الإخوة- ممن تقرع سمعه مثل هذه المآسي ثم يستمر في تجاهل أمر الله، وفي حسن الظن بالشيطان فالشيطان له رغبة جامحة في الإغواء والإضلال، ولا يأمر بمعصية واحدة إلا بعد التخطيط لها ورسم خطواتها لأن الله يقول: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:168] فهو يلقي في نفس الفتاة أموراً منها: أن فلاناً الذي يكلمك عبر الهاتف حسن النية، وأن الحديث معه لا مانع منه ما دام الهدف هو الزواج، ثم يخطط للقاء تأكيداً للثقة، وشعارهم: (ماذا فيها إذا التقينا؟ الثقة موجودة)، أنا واثقة من نفسي، وهو يقول: أنا واثق من نفسي، نحن نخاف الله عز وجل، وإذا التقينا ماذا يصير؟ تحترق الدنيا تأكيداً للثقة، وأيضاً منعاً للكلفة وجلباً للألفة، ثم ينتقل الشيطان إلى خطوة هي التبسم معللاً ذلك بعامل الذوق والمجاملة، ليس من المعقول أن تلقى حبيبتك وأنت عبوس.
ثم يستمر الشيطان في خطواته حتى تتلامس الأيدي وتحترق القلوب، فيصرخ الشيطان: المكان غير مناسب، والوقت ضيق، ولا بد من إعداد مكان وتهيئة وقت، وأن أفضل شيء لطرح القضايا هو الانفراد، وتوافق الفتاة، ويقفز الشيطان في المرحلة الأخيرة من أدواره ومسرحيته حين تتم الخلوة فتحصل الفاحشة؛ لأن تكوين الرجل والمرأة لا يسمح بالعواطف فقط ولا بد من وهنا تحصل الكارثة ويوجد العار وتتبدد الكرامة وتبدو الفضيحة ويخرج الرجل من المسرحية منكراً للمرأة سالباً لها شرفها، منكراً أن يكون له أي دورٍ في دمارها، بل يلومها كما يلومها الناس، ويعيرها كما يعيرها الآخرون، ثم يتركها وينفض يده منها لتعاني من آثار الفضيحة والحمل والولادة والإرضاع لطفلٍ حرام، أو الإقدام على قتل هذا الطفل، وهذا جرمٌ أكبر وأكبر!! وتلتصق آثار الفضيحة بالأسرة والأب والأم والإخوة، بل القبيلة بأكملها، ولا تجد بعض الفتيات سبيلاً للخلاص من فضيحتها إلا بالموت لتؤدي آخر دور في مسرحية الهلاك، وتغدو قاتلة لنفسها بالانتحار، وبالتالي إلى النار وبئس القرار، والعياذ بالله! كل هذا سببه الاختلاط والتبرج، وخروج المرأة عن طريق الله، وعدم وقوفها عند حدود الله عز وجل!(35/19)
توجيهات لسعادة الأخت المسلمة
وحتى -أيها الإخوة- لا نقع فيما وقع فيه الغير، ولكي تبقى لهذا المجتمع كرامته وعفته وطهارته نتوجه لأخواتنا في الله بهذه التوجيهات:(35/20)
التبكير بالزواج
أولاً: سارعي -أيتها الأخت- إلى الزواج من أول خاطب، فأنت يا أخي! إذا دخلت سوقاً ومعك بضاعة فعند أن يأتيك أول مشترٍ بع، وإذا رفضت عدت آخر اليوم لكي تبيعها بنصف القيمة، كذلك البنت إذا جاء خاطب ترضى دينه وأمانته فلتقبل؛ لأن الزوج ليس شيكاً في الجيب بحيث إذا أرادته أخذته لا، هذا قسمة من الله ونصيب، ونحن نعرف أن هناك بنات خطبْن ولكنهنَّ رَفضْن وتعللْن بالدراسة والجامعة والتخرج، ثم الآن رُفضْنَ، ولو أعلنوا عنهن في الجرائد ما خُطبن، وتتمنى أنها ما ردت ذاك الرجل.
لتقبل المرأة الزواج من سن الخامسة عشرة، بمجرد بلوغ المرأة سن الحيض أصبحت جاهزة للزواج فلتتوكل على الله، وليس الزواج مانعاً لها من الدراسة فستواصل تعليمها وتدرس حتى ولو واصلت دراستها في الجامعة.
وبمناسبة ذكر الجامعة فإنا لا ننسى أن نشيد وأن نشكر ولاة الأمر جزاهم الله خيراً على إلغاء نظام الساعات من التعليم الجامعي؛ فإن هذا النظام نظامٌ شيطاني أفقد الأسرة السيطرة على الأولاد والبنات، تخرج البنت الساعة السادسة بعد المغرب، ما عندكِ؟ قالت: عندي حصة، عندي ساعة.
وتخرج الساعة الثامنة صباحاً وتقول: عندي ساعة.
وتخرج الساعة الثانية عشرة وتقول: عندي ساعة.
تبقى طوال اليوم كلما أرادت أن تخرج قالت: عندي ساعة وتبرر خروجها بذلك.
الآن لا، لم يعد هناك ساعات إلا من الصباح إلى الظهر، والكل يظل في بيته، فالحمد لله، ونسأل الله عز وجل أن يتبع هذه الخطوة خطوات من الإصلاح فإنا نأمل من المسئولين تدارك الأخطاء وتصحيح الغلط، فإن الخطأ إذا صحح عادت الأمة إلى الصواب، ولكن إذا ترك الخطأ تولد عنه أخطاء؛ تتولد عن الأخطاء كوارث، والكوارث لا تصيب أحداً وتدع آخر بل تصيب الكبير والصغير، وتغرق السفينة كلها؛ لأن المجتمع مثل السفينة إذا تُرك الخارق فيها ليخرق غرق الخارق والساكت الذي رآه يخرق ولم يأخذ على يديه نعم، المجتمع يجب أن يكون متماسكاً، ونحن نأمل من المسئولين تصحيح الأوضاع الأخرى ليبقى لهذا المجتمع تماسكه.(35/21)
الحرص على اختيار الزوج الكفء
ثانياً: نقول لأختنا المسلمة عند الإقدام على الزواج: عليك أن تحسني اختيار الزوج، وهو من توفرت فيه معاني الالتزام بدين الله، والرضوخ والإذعان لشريعة الله، والرضا بالعيش في ظلال هذا الدين، واحذري من الإشاعات التي يروجها الشياطين عن المتدينين منها: عدم توفيره لوسائل اللهو، بعض البنات تقول: لماذا أتزوج إنساناً ليس عنده لا تلفاز ولا فيديو ولا شيء، هذا سوف يعقدني أو الخوف من التعدد، بعض النساء تقول: لا تتزوجي (مطوعاً) من يوم يأخذك سوف يأتي بواحدة غيرك، وأن هذه الحياة تكون معقدة معه، وفيها كلفة.
هذه إشاعات مغرضة الهدف منها: تنفير الفتيات الملتزمات من الشباب الملتزم، وبالتالي التورط مع شريك حياة -زوجٍ- فاسقٍ لا يراقب الله ولا يقيم لدين الله وزناً.
أما دعوى عدم توفيره وسائل اللهو فهذه تعتبر ميزة في الرجل المسلم وليست صفة نقص بل هي صفة كمال فيه؛ لأنه مسئول أمام الله عز وجل عن هذه الزوجة، ومسئوليته تفرض عليه أن يكون جاداً مع نفسه، وألا يترك لنفسه المجال إلا في حدود الحلال والمباح، وهو ما يتوفر في حياة الملتزمين -والحمد لله- من النكتة البريئة، والنزهة الهادئة، وهو ما تشعر به كل مؤمنة تزوجت بمؤمن، بل لقد صرحت بذلك إحدى المؤمنات وقالت: والله لو يعلم النساء الأخريات ما نحن فيه من السعادة لحسدونا عليها، تقوله واحدة لي في الهاتف: والله قد كنت أتصور أن حياة النساء مع الملتزمين عذاب، ولكن والله إنها أكرم وأعظم حياة أن تعيش المرأة مع رجل ملتزم يخاف الله عز وجل.
أما دعوة التعقيد فمردودة من أساسها، فالمتدين ليس معقداً ولكنه إنسانٌ منضبط السلوك محدد الاتجاه، وهذا يسّهل العيش معه لمعرفة اتجاهه، أما ذلك المنفلت فمن الصعب التعامل معه، لأنه غير محكومٍ بمنهج وغير منضبطٍ بأي أمر.
أما التعدد ودعواه أنه يتزوج، وما تخشاه المرأة من حصوله فهذا لا مكان له إذ لا يتم أولاً إلا نادراً، وعندما يتم فبشروطه: من العدل والإنصاف ومراقبة الله، وخير لك -أيتها الأخت في الله- ألف مرة أن تكوني زوجة أو أن يكون لزوجك امرأة أخرى حلالاً خير وخير من أن تكون له رفيقة حراماً، بعض النساء تقول: لا، لا أريد زوجي أن يعدد.
فيقعد معها لكن معه عشرين صديقة ورفيقة وأقربهم الخادمة لأنها قريبة في المنزل، فكيف يذهب يبحث عن صديقة والخادمة في البيت، حتى إن أحدهم عندما يأتي بخادمة يسافر إلى الخارج ويقول: أعطوني صورهن لأرى.
ويختار واحدةً كأنه يريد أن يتزوج بها، وترضى زوجته بأن يعاشر الحرام وما ترضى أن يعدد في الحلال؛ فيكون هو يعيش على الحرام وتكون هي تعيش على الحرام؛ لأنه إذا انتهك حرمات الله لم تبق هي قاصرة عليه؛ لأن من زنا زُني بأهله ولو بحيطان جداره:
عفوا تعفُّ نساؤكم في المحرم وتجنبوا ما لا يليق بمسلم
إن الزنا دين فإن أقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
وكما يقال: (الذي يدور على الناس يدور الناس عليه) والذي يعف نفسه عن الناس فإن الله عز وجل يجعل الناس يعفون عن عرضه، فما دام هو فسد مع الخادمة وفسد مع الأخريات تفسد زوجته مع السائق والآخرين، والعياذ بالله! والجزاء من جنس العمل، وقد قيل: (من دق باب الناس دقوا بابه)، فخيرٌ لكِ أن يكون لزوجك امرأة أخرى حلالاً من أن تكون له رفيقة حراماً تدمر حياتك وحياة زوجك وأبنائك.(35/22)
طاعة الزوج بالمعروف في غير معصية
ثالثاً: لتكن الطاعة لزوجك أساس الحياة؛ لأن طاعة الزوج مفروغ منها في الحلال وفي الطاعة؛ لتدوم المحبة ولتزرع المودة، ولكن الطاعة فقط في المعروف، إذا أمر بمعصية فلا، وهذا يتطلب منك معرفة حقوقه وواجباته التي ينبغي أن تقومي بها؛ لأن العبرة ليست بأن تتزوجي ولكن العبرة بأن تحتفظي بهذا الزوج، الزوج جوهرة، الزوج كنز، إذا رزقك الله هذا الكنز تمسكي به بِمَ؟ بالطاعة، بالحب، بالإخلاص، بالبر له، بالحرص على كل ما من شأنه أن يسعده فلا يتمنى غيرك، ولا يفكر في غيرك أبداً، لكن إذا عاملتيه بسوء سلوك ورأى أنك لا تلبين احتياجه، ولا تحلين مشكلته؛ فتبقى عينه بعيدةً إلى أن يأتي من يحل مشكلته، وإما أن ترضي وإما أن يطلقك، وإذا طُلْقتِ فنحن نعرف وضع المطلقة في مجتمعنا، وإذا كان عندك أولاد وأنتِ مطلقة فالكل يعرف كيف وضع الأولاد وأمُُّهُمْ في مجتمعنا.
فنقول: إذا رزقك الله زوجاً فحاولي أن تحفظيه، وأن تتمسكي به بكل ما أوتيتِ من وسائل الخدمة أو المنافسة في تقديم أفضل عمل له؛ حتى تقصري عينه عليك ولا يفكر في غيرك.(35/23)
المحافظة على الصلاة في أوقاتها
رابعاً: ركزي واهتمي -أيتها الأخت- بالصلاة، واحرصي على أدائها في أول أوقاتها بكامل الطهارة والتستر والخشوع والطمأنينة وحضور القلب، وأكثري من النوافل خصوصاً صلاة الضحى وقيام الليل؛ لأن بعض النساء تجعل الصلاة في آخر برنامجها، تراها طوال اليوم وهي في المطبخ، فإذا جاءت الساعة الثانية والنصف وجاء زوجها قال لها: صليتِ؟ قالت: لا، والله ما صليت.
سبحان الله! الله لا يبارك في غدائك ولا طعامك ولا (طبيخك) وتظل طوال الليل تعمل حتى الساعة الثانية عشرة وإذا سألها زوجها عن الصلاة قالت: والله ما صليت حتى الآن.
لا، مع أول الوقت بمجرد أن تسمعي الأذان أوقفي كل شيء وأقبلي على مصلاك، توضئي الوضوء الكامل واجلسي في مصلاك وصلي صلاةً خاشعة خاضعة، وأكثري من تلاوة كتاب الله.(35/24)
المحافظة على الأذكار
خامساً: احرصي -أختي المسلمة- على ذكر الله في كل حال، خصوصاً أذكار الصباح والمساء، وأذكار الأحوال والمناسبات، وقراءة القرآن وسماعه، وسماع المحاضرات الإسلامية من الإذاعة -من إذاعة القرآن- أو من الأشرطة الإسلامية، وإذا كان لديك أولاد فاحرصي على تربيتهم وتوجيههم توجيهاً شرعياً صحيحاً بغرس الفضائل، وتعليق المعاني الإيمانية فيهم، وتعويدهم على العادات الحسنة، وتجنيبهم العادات السيئة والعبارات التافهة، واحفظيهم من زملاء السوء، ولا تتركيهم في الشوارع، واحميهم من الأفلام والمسلسلات، يقول أحد العلماء: إلى الله نشكو جهوداً نبذلها في تربية أبنائنا تذهب بها المدرسة والشارع والأفلام!(35/25)
الحذر من الغيبة
احذري -أختي المسلمة- من الغيبة فهي داء عضال يفتك بدينك، وهي البضاعة التي روجها الشيطان في مجالس النساء، وهي من كبائر الذنوب يقول الله: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] وفي مسلم: (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: ذكرك أخاك بما يكره.
قالوا: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته).(35/26)
عدم الإسراف في الكماليات
أختي المسلمة: إن أعظم ما يمكن اقتناؤه والاعتزاز به في هذه الحياة هو الإيمان والعمل الصالح، أما المظاهر والأشكال والملابس والحلي والمباهاة والتفاخر أمام الناس فهذه أشياء تافهة تدل على فراغ من يهتم بها، وخلوه من المبادئ والمفاهيم الأساسية لمعنى الحياة، فالحياة ليست أصباغاً ومساحيق ولا ملابس ملونة ولا حلياً مزخرفة، إن الحياة الحقيقية مبادئ وأخلاق ومُثُل، إنها إيمان وعمل وصدق ووفاء وكرم وبذل، فلا تهتمي -أختي المسلمة- بأخبار (الموضات والموديلات)، ولا تُكثري من التردد إلى الأسواق لشراء كل جديد ومعرفة كل طريد، ولا ترهقي زوجك بإحضار ما لا يطيقه، وركزي على الاهتمام بالمضمون والمحتوى لا بالمنظر والشكل، ولا يعني هذا أننا ندعوك إلى التبذل وعدم الاهتمام بالشكل لا، ولكن في حدود ما تسمح به ظروفك وظروف زوجك وما يحيطك بالجمال، أما المبالغة في هذا وإهمال الأمور الأساسية لمعايير الجمال فإن هذا خطأ:
ليس الجمال بأشكالٍ نزينها إن الجمال جمال الدين والأدب
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلب عرياناً ولو كان كاسيا
فخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصيا
بعض النساء يعطين اهتماماً كبيراً يفوق التصور لمواضيع الأكل وتعدد الأنواع والتفنن في الأشكال، حتى ألفت في ذلك المجلدات، أنا وجدت كتاباً مجلداً بمائتي ريال اسمه " فن الطبخ "! مائتا ريال في مجلد! قلت: لا إله إلا الله مائتا ريال أعمر بها مكتبة إسلامية في بيتي من كتب الإسلام! مائتا ريال في فن الطبخ! تباع هذه الكتب بمئات الريالات! وهذا يدل على فراغٍ نعاني منه، وتعاني منه المرأة المسلمة حين تجعل جل اهتمامها في هذه الأمور، حتى يصل الأمر بها إلى شراء تلك الكتب والعكوف عليها في حين لا تجد في بيتها كتاب الله، ولا تجد في بيتها أي كتاب إسلامي يرفع الروح ويبارك النفس ويزكيها.
إن أمتنا الإسلامية ليست بحاجة إلى التفنن في الأكلات بقدر حاجتها إلى معرفة دورها ورسالتها في الحياة، إن موضوع الأكل سهل ومعتاد، ويكفي المرأة أن تعرف ما تيسر من أنواع الطهي مما هو شائع في مجتمعها، ومحاولة التجديد، ومعرفة تنويع الأشكال وأنواع الأطعمة في بيئات أخرى، تجديد فيما لا ينفع، بل ربما يضر، فإن الإنسان له رغبة فيما تعود عليه، وللجسم حاجة فيما ألفه.
وأيضاً فإن التفنن في هذا النوع يدعو إلى الإسراف والإكثار من الطعام؛ وبالتالي إصابة المرأة بالسمنة، وإصابة الأولاد بالتخمة وأمراض كثيرة كالسكر والربو وغيرها، فنحن بحاجة إلى التقليل والاختصار والاكتفاء بما هو ضروري لضمان راحة القلب وسلامة الجسد.(35/27)
الحرص على عدم تضييع الوقت
من سنن الله -أيتها الأخت المسلمة- أن جعل الليل لباساً وسكناً، وجعل النهار معاشاً، وهدوء المرأة ونومها بالليل وقيامها بواجباتها في النهار أمرٌ متفق مع سنة الله، فتعيش المرأة عيشةً هنيئة، وينال منها البيت والأطفال كل عناية؛ لأن لديها من الوقت الطويل في النهار ما يمكنها من القيام بواجباتها المنزلية دون الاحتياج إلى غيرها، وما يحدث الآن من السهر الطويل على الأفلام والمسلسلات، ثم الاستغراق في النوم طوال النهار أمر ليس بالسوي، تبقى نائمةً من بعد الفجر إلى الظهر، وتقوم في الظهر وقد انتفخت، وصار وجهها مثل الكرة غضبانة جداً ولم تعمل شيئاً، وانتهى اليوم وما زال الطعام غير جاهز وما زال الأكل غير مُعَدّ، ثم يأتي زوجها تقول: ما طبخت ما غسلت.
لم تعمل شيئاً، لماذا؟ لأنها في النهار نائمة وفي الليل ساهرة، لو نامت في الليل وقامت في الصباح مبكرة لأصبحت في حياة سعيدة؛ لأن النوم في النهار يورث الكسل والعجز والخمول، ويؤدي إلى الترهل في الجسم، وهو الذي ألجأ إلى استخدام الخادمة من غير ضرورة، وترتب على وجود الخادمة مآسٍ وفجائع وكوارث حطمت كثيراً من الأسر، وخلخلت البناء الاجتماعي، وأدت إلى مشاكل ومعضلات لا تحمد عقباها.
تقضي بعض النساء الكثير من الوقت في مكالمات الهاتف، وقد تكون مكالمات بريئة مع أمها أو أختها أو جارتها أو صديقتها، بدون داعٍ، وقد تستمر هذه المكالمات ساعات طوالاً، وهذا إهدار لقيمة الوقت والمال، ولحق الزوج، وتضييع للعمر فيما لا فائدة منه، والأخطر من هذا: إذا كانت المكالمات في غيبة أو نميمة: (فلانة طويلة، وفلانة قالت كذا، وقالت كذا)، أو أكل لحوم الناس، والأخطر أيضاً: أن تكون المكالمات في حرام!! والعياذ بالله!.(35/28)
الاتزان والاعتدال في الزيارات للغير
بعض النساء تسرف في الزيارات للجيران والأقارب، وتبالغ بشكلٍ غير مقبول، حتى لا تمكث في بيتها ليلةً واحدةً، ولا يوماً واحداً، فتزعج الناس وتثقل عليهم، ويفضي هذا إلى كراهيتها واستثقالها من قبل الجميع، مع ما تولده تلك الزيارات من الغيبة، والمعاصي، وتفويت بعض المصالح وقد قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (زر غباً تزدد حباً) فإذا أردتِ أن تكوني محبوبة عند صديقاتك زوريهن في أوقات متباعدة لا متتالية: في الشهر مرة، أو في الشهرين مرة.
أما كل يوم وأنتِ تزورينهم! هذا يؤدي إلى الملل.(35/29)
التحذير من التعلق بالفسقة من أهل الرياضة والفن
تتعلق بعض النساء بمعرفة أسماء المغنيين والمغنيات، والممثلين والممثلات، واللاعبين، وتهتم بمتابعتهم، ومعرفة أخبارهم، وصورهم، وأصواتهم، وينعكس هذا الاهتمام على أولادها، وبناتها؛ فيصبح هؤلاء قدوة للجيل الصاعد، وهذا يدل على فراغ المرأة، وعدم إدراكها لدورها في الحياة، وعدم معرفتها للحكمة التي خلقها الله من أجلها، فتقضي حياتها في اللهو والعبث، وتعيش معظم أوقاتها مع هؤلاء الفارغين الذين لا خلاق لهم في الدنيا ولا نصيب لهم في الآخرة.(35/30)
تعلم ضروريات الدين
من الضروري للمرأة المسلمة: أن تكون فقيهة في أمر دينها، خصوصاً في الأمور المتعلقة بالعبادة: كالطهارة، والصلاة، والصوم، والزكاة؛ وأحكام الحيض، والنفاس، وأنواع الدماء، ومتى تترك الصلاة؛ لأن بعض النساء لديها شهادة جامعية لكنها لا تعرف أنواع الدماء، تسأل وتقول: الدم الذي يخرج مني هل هو حيض أو استحاضة؟ سبحان الله! إذاً ماذا درستِ؟ درستِ الهندسة، والزاوية المنفرجة والمنعكسة، و (أس تكعيب).
ما درستْ الذي يهمها في أمر دينها، والذي هو أجدر بها وهي أحوج إليه وهو أمر الدين، والطهارة، والعبادة(35/31)
البر بأم الزوج
يحدث أحياناً أن تكون والدة الزوج موجودة وعلى قيد الحياة، وهنا يجب أن يكون دورك -أيتها الأخت المسلمة- بارزاً في حب هذه المرأة وخدمتها؛ لأنها سبب في إيجاد هذا الزوج، فلولا المرأة هذه ما جاء الولد هذا الذي أنتِ زوجته، فهي صاحبة فضل عليك، فلا تثيريها بل تحملي غلظتها، واصفحي عن أخطائها، ولا تشكيها إلى زوجك؛ لأنه لا يقدر على أن يفعل شيئاً تجاه أمه، والشكوى منها تعقد المشكلة، وتثير الفتن، وتؤدي إلى إقلاق الزوج، وإزعاجه، ووضعه في خيارات صعبة: إما التضحية بأمه، أو التضحية بك أنتِ، فحاولي امتصاص المشاكل بالصبر، والقضاء على المشاكل في مهدها، وعدم تصعيدها وترويجها، واعلمي أن أم الزوج ضيفة عليك، وسترحل عنكِ قريباً، وأنه ليس بالإمكان استبدالها بأفضل منها، ليس هناك معرض للأمهات تطلب منه واحدة جيدة! ما معك إلا هذه، وإنك في مستقبل الأيام ستكونين أماً وسيصبح لك ولد وله زوجة، فعاملي أم زوجك اليوم بما تحبين أن تعاملك به زوجة ولدك غداً.(35/32)
الإحسان إلى الزوج قبل غيره
أختي المسلمة: هناك غطاء يجلل حياتك الزوجية ينبغي أن تحرصي عليه وألا تدمريه، هذا الغطاء هو: الحب المودة الرحمة التي يجب أن تزرعيها في قلبك لزوجك، وفي قلب زوجك لكِ؛ لأنها ثمرة الزواج، يقول الله عز وجل: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] والمودة والرحمة والحب: إكسير الحياة الزوجية، وطعمها ولذتها، والحياة الزوجية بغير حبٍ، وبغير مودة ولا رحمة حياةٌ باهتة لا طعم فيها ولا لذة، وبالتالي لا سكن فيها ولا رحمة ولا ارتياح، بل قلق، واضطراب، ومشاكل، وقد تقولين: كيف أستطيع أن أكسب زوجي؟ وكيف أفرض عليه أن يحبني وأن يحترمني؟ هذا دورك وهذا اختصاصك بتقديم أفضل خدمة له، وبالطاعة المطلقة له إلا في معصية الله، وبمراعاة حالته وعدم إرهاقه، وبالقيام بالحقوق الواجبة له، وبالابتسامة في وجهه، وبالصفح والعفو عن زلاته، وعدم محاسبته على كل صغير وكبير من أمره؛ لأن كثرة العتاب والمحاسبة توجب النفرة والكراهية وتحمل على هذا.
واعلمي -أيتها الأخت المسلمة- أن تقييم المرأة يتم عن طريق زوجها وعلاقتها به، وليس عن طريق علاقتها بأهلها أو جيرانها، فإذا كانت صالحة طائعة لزوجها فهي طيبة عند كل الناس، وهي موضع احترام الجميع، أما إذا كانت سيئة مع زوجها فهي سيئة في نظر الناس، وموضع ازدراء عند الآخرين لماذا؟ لأن العلاقة الزوجية هي المحك الصحيح الذي يكشف أخلاقيات المرأة، أما بقية العلاقات فهي مجاملات فقط، وعلاقات منافع ومصالح لا تكشف عن معدن المرأة ولا عن أخلاقياتها.(35/33)
تّذّكُّر لقاء الله والدار الآخرة
أخيراً -أيها الأخت في الله- استشعري دائماً ضعفك وحاجتك إلى الله، وتذكري أن هذه الدنيا زائلة، وأن حياتها إلى موت، وعافيتها إلى سقم، وشبابها إلى هرم، وقصورها إلى قبور، ونورها إلى ظلمات، وتصوري وضعك وأنت على فراش الموت، واحتياجك إلى عملٍ صالح ينفعك بين يدي الله، ويساعدك على النجاة من أهوال يوم القيامة، فتوبي -أختي المسلمة- إلى الله، وابدئي صفحةً جديدةً مع الله، واعلمي أنك ميتةً مهما عشت، وأنك ستجدين عملك الذي قدمتيه بين يديك وأمامك، فإن خيراً فخير وإن شراً فشر: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30].
واعلمي أن كسبك لك وحدك، فإن كسبت خيراً فلك، وإن كسبت شراً فعليك، وهناك لا تنفع المعاذير، ولا تقبل الحجج، ولا تعاد الفرص: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52] إنها فرصة واحدة، إنها حياة واحدة فلا تتركيها تضيع، فتندمي أشد الندم يوم لا ينفع الندم!! مع تمنياتي لك -أيتها الأخت المسلمة- بحياة إيمانية سعيدة.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هذه الرسالة من أخيك في الله/ سعيد بن مسفر بن مفرح مدينة أبها يوم 18/ 6/1412هـ.
ألقيت هذه الرسالة بمدينة الرياض بجامع الراجحي بحي الربوة بـ الرياض.(35/34)
ثمار الهداية
يعرف الشيخ حفظه الله الهداية بمفهومها العام أنها: وضع الشيء في محله، ثم ضرب أمثلة تهدف إلى بيان أن الإنسان مخلوق ولابد من أن يشغل المحل الذي خلق له.
ثم ذكر لكل مصنوع ومخلوق ثماراً إذا شغل محله، ومفاسد إذا لم يشغل محله.
ثم ذكر الشيخ حفظه الله ثمار الهداية انطلاقاً من شغل الإنسان لمحله على أكمل وجه.(36/1)
الهداية مفهومها وأهميتها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:(36/2)
الهداية هي وضع الشيء في محله
أيها الإخوة في الله! الهداية والاستقامة والاستجابة لله عز وجل شجرة وارفة، ونعمة كبيرة يستظل بظلها المؤمن، ويحقق بها سر وجوده وحكمة خلقه والغرض من مجيئه إلى هذه الحياة، ودائماً حينما يوضع الشيء في محله يمكن الاستفادة منه، وإذا وضع في غير محله تعطلت المصلحة وانعدمت الفائدة التي يمكن أن يحققها؛ نظراً لعدم استغلاله الاستغلال السوي الذي يمكنه أن يؤدي دوره، وهذه قاعدة يتفق عليها العقلاء: إنك إذا أردت أن تستفيد من الشيء فيجب أن تضعه في موضعه.
فمثلاً: القلم، الغرض منه معروف عند الناس وهو مصلحة الكتابة، لكنك لا تستطيع أن تستخدم القلم لتجعله نعلاً في رجلك، ولو رأينا إنساناً يربط الأقلام في قدمه ويسير حافياً وحينما يقال له: لم تلبس الأقلام في قدمك؟ إذا قال: من أجل أن تقيني هذه الأقلام الحجارة والبرد! فبم نصف هذا الإنسان إذا سمعناه يقول هذا القول؟ نصفه بالجنون، ونعرف أنه إنسان يوظف الأشياء في غير الوظائف التي من أجلها وجدت.
وإذا رأينا إنساناً يضع نظارته التي صممت ليضعها على عينه لتعطيه القدرة على الإبصار، أو لتعطيه تعتيم الأضواء إذا كان عنده ضعف في النظر، فلو رأينا إنساناً يضع هذه النظارة في ركبته، ما ظنكم بالناس بم يصفونه؟ سيقولون: هذا جنون! هل ركبتك ترى حتى تضع لها نظارات؟! فالمحل الطبيعي للنظارات هو العيون، فإذا وضعت الأشياء في غير موضعها فإنما يقلل من الكيفية الصحيحة لاستخدامها، ويعطلها عن أداء دورها.
والثلاجة التي في بيتك إنما هي مصممة لحفظ الطعام، لكن هل يمكن أن تجري فيها عملية الغسيل، أي: تجمع فيها الأواني من الصحون والقدور وتغلقها، وتقول: اغسلي يا ثلاجة؟! أبداً.
أو هل يمكن أن تقوم هي بدور غسيل الملابس؟! ولا يمكن أن يقوم الغاز بتثليج الطعام؛ لأنه لطهي الطعام وكل جهازٍ أو آلة من أصغر جزئية إلى أكبر جزئية في هذه الدنيا لا يمكن أن يستفاد منها إلا في مجالها الصحيح الذي وجدت من أجله، وإذا عطل مجالها الصحيح ووضعت في مجالٍ آخر فإنما نقضي عليها ولا تتحقق الفائدة من وجودها، هذه قاعدة عامة عند العقلاء.(36/3)
الإنسان وطريق هدايته
أيها الإنسان: يا أيها الجهاز المعقد! اسأل نفسك عن حكمة خلقك! وعن سر وجودك! وعن الغرض الذي من أجله خلقك الله على ظهر هذه الحياة! وعلى ضوء الإجابة تستطيع أن تعرف أين أنت، فإن كنت تسير في تحقيق هذا الغرض، وتخدم هذه الحكمة، وتتجه إلى هذه الأهداف التي من أجلها وجدت؛ حينها يمكن الاستفادة منك لأنك تحقق الغرض.
أما إذا كان البعيد يعيش لغير حكمة خلقه، أو لا يعرف هو بنفسه ما هي حكمة خلقه، وما هو سر وجوده، فإنه بهذا سيظل عاطلاً، وسيظل عبئاً على هذه الحياة ومدمراً لقدراتها -والعياذ بالله- وسبباً في نكبتها، وهو ما تحقق في هذا الزمان على يد البشر حينما طورت المادة، وطوعت واستخدمت أحسن استخدام ولكن على حساب الروح على حساب الإنسان.
طور الإنسان المادة ودمر الإنسانية، وحسَّن في الإبداع المادي لكنه أساء في الجانب الإيماني والروحي، فظهرت هذه الصور المشوهة وهذه النماذج -والعياذ بالله- الملوثة للبشرية، رغم أن المادة حسنة، لكن الذي يستخدم المادة هو سوء سلوكه وسوء تربيته، وعدم استقامته مما جعله يستخدم المادة لتدمير الإنسان.
وهأنتم تسمعون كيف أن العالم اليوم يعيش في صراع وتسابق على التسلح، وفي غزو الفضاء، وحرب النجوم، والهيمنة والسيطرة على الأمم الضعيفة والشعوب المنكوبة، كل هذا لأن الإنسان الذي بيده المادة فاسد، لا يعرف الغرض الذي من أجله وجد، ولذا يفكر أنه وجد للسيطرة، والقوة، والاستعلاء على الناس؛ فهو في سبيل هذه الأغراض يحب أن يخترع ويكتشف الآلات المدمرة في سبيل أن يعلو هو، ولو كان يعرف من أجل أي غرض وجد لما كانت هذه أهدافه.
فهذه قاعدة ننطلق منها إلى أن الإنسان يوم أن يعرف أنه إنما خلق لعبادة الله، فإنه سيستقيم على منهج الله، ويستجيب لداعي الله، ويتمسك بهداية الله، ونتيجة لهذه الاستجابة تتحقق له عدة معطيات، وعدة ثمار وآثار يجنيها في الدنيا، ويجنيها في الآخرة، ولسنا الآن بصدد الحديث عن ثمار ومعطيات الهداية والالتزام بالدين في الآخرة؛ لأن الناس قد جبلوا على حب العاجلة {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان:27] ويقول الله عز وجل: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [القيامة:20] وحينما تحدث الإنسان وتطلب منه الهداية والاستقامة على الدين يقفز ببصره وعقله إلى الآخرة، ويقول: الآخرة بعيدة الآخرة مستأخرة تريد أن أترك ملذاتي وشهواتي وما تحققه لي هذه الدنيا من الملذات في سبيل أن أنجح في الآخرة، دعني أتمتع في الدنيا وعندما أكبر سأتوب، الآن سأقضي حياتي في اللهو واللعب والعبث وبعد ذلك أتوب.
هذه تفكيرات الناس، ولذا يحكمون على كل من اهتدى واستقام أنه حرم نفسه من لذة الدنيا ولذة الحياة على أمل أن ينجو في الآخرة، هذه نظرة الناس السطحية المحدودة الخاطئة، ولكن الحقيقة الناصعة التي نقيم عليها الأدلة ونكشف رءوسنا ونصيح بها من على كل منبر، وفي أي مجتمع من مجتمعات العالم أن الإيمان والهداية والاستقامة على دين الله يحقق للإنسان الثمار الغالية التي يجنيها الإنسان في الدنيا قبل الآخرة، وأن الكفر والضلال والانحراف شجرة السم التي يتجرعها العاصي والفاجر والكافر في الدنيا قبل الآخرة، وأن الهداية تحقق للإنسان الربح والكسب -في الدنيا والآخرة- أما الكفر والمعاصي فإنها تحقق للإنسان الدمار والشقاء في الدنيا والآخرة.
وأن لذاتها وجميع ما يتمتع بها العاصي لا تعدل نعمة واحدة من نعم الإيمان التي يجنيها المؤمن من ثمرة دينه وإيمانه في الدنيا قبل الآخرة.(36/4)
ثمرات الهداية
ونستطيع بإيجازٍ أن نلخص هذه الثمار في عدة نقاط:(36/5)
ذهاب القلق والاضطراب والحيرة
الثمرة الأولى التي يجنيها المهتدي والملتزم والمستجيب لأمر الله هي: أن الله عز وجل ينزع من قلبه القلق والاضطراب والحيرة، ويزرع في قلبه الطمأنينة والهدوء والسكون والارتياح.
وهذه لوحدها كافية لأن تعدل كل لذة في الدنيا، فإن القلق داء العصر، وإن الاضطراب والحيرة مرض هذا الزمان، وسببه البعد عن الله، وأضرب لكم على هذا مثالاً: لو أراد رجلٌ أن يسافر إلى الرياض -تعرفون طريق الرياض عبر وادي الدواسر - ثم ضل في الطريق؛ خرج عن طريق (الإسفلت) لقضاء لازمٍ له، فلم يجد فرصة ولا دلالة للرجوع إلى طريق (الإسفلت) فجلس يبحث عن الطريق، والوقود عنده على وشك النفاد، والزاد الذي معه من طعامٍ وشراب أيضاً على وشك النفاد، ولا يدري أين الطريق، وظل يمشي مرة إلى الشمال ومرة إلى الجنوب ومرة يتجه إلى الشرق ومرة إلى الغرب، ما ظنكم بحالته النفسية؟ هل هو في قلق أو في راحة في تلك اللحظات؟ والطريق ملتبسة عليه، وزاده يكاد ينتهي، ووقوده كلما سار يتناقص، كيف ظنكم بنفسه في تلك اللحظات؟ أليس في حيرة؟ أليس في قلق وهلع وخوف؟ أليس إذا رأى أي بارقة لأمل يفزع إليها ولو جاءه شخص وقال: الطريق من هنا اتجه مباشرة إليها، ولقيه شخص هناك، قال: لا.
لا تمش من هنا، فهذا الطريق يذهب بك في متاهات فارجع من هنا، فيرجع ويضل في حيرة ولا يدري أين يتجه؛ لأنه يحسب أن كل دقيقة تمر عليه تقربه إلى الهلاك، وكل كيلو يقطعه يقربه إلى نفاد الوقود والزاد، ولذا يفكر ثم يفكر، ويخرج من تفكيره هذا إلى أن الهلاك محقق وأنه على يقينٍ من الموت، فهو في قلق! حسناً إذا سار في الطريق ولقيه شخص، وقال: لماذا أنت تتخبط في الطريق؟ قال: يا أخي! أريد الرياض وأنا لا أعرف الطريق، قال: امش ورائي فأنا خبير بالطريق، ثم أخذه حتى أوصله إلى طريق (الإسفلت) فحين يرى (الإسفلت) يحصل في نفسه الفرح والهدوء والطمأنينة، وأول شيء يعمله أن يقف على جانب الطريق ويحمد الله على أن نجاه من المتاهات، وأيضاً يطلب طعاماً، ويطلب وقوداً، ويرتاح أحياناً نصف يوم أو يوم؛ لأنه كان في قلق وحيرة ثم بعد ذلك يواصل الطريق حتى يصل إلى الرياض.
هذا مثل مضروب في حياتنا ولا نستطيع أن ننكره.
فهذه الدنيا، وهذه الحياة صحراء ومتاهة كبيرة يعيشها الإنسان ويعاني منها، وترون العاصي والضال والمنحرف وهو يعيش في متاهات هذه الحياة؛ يعيش وهو لا يدري أين يتجه، ولذا فهو في غاية القلق، خاصة إذا تذكر الآخرة، وما تذكر أن الزاد سينفد والوقود سينتهي؛ لأن كل من على وجه الأرض يؤمنون بأنهم سيموتون، ولذا إذا ذكر لهم الموت وأن الوقود سينتهي فإنهم تقشعر أبدانهم وتضيق أخلاقهم، ويقولون بلسان حالهم ومقالهم: يا شيخ! اتركنا من الموت، يقولون: لا تذكرنا بالموت! أنت الآن تريدنا أن نموت قبل أوان الموت، فاترك ذكر الموت، وبعد ذلك! الآن نلعب ونسمر ونمرح ويغالطون أنفسهم باستمرار لينقلوا أنفسهم من الواقع المرير الذي يعيشون فيه بالمغالطة، فإذا اشترى أحدهم مجلة فإنه أول ما يقرأ: الصفحة الضاحكة! يريد أن يضحك، وإذا اشترى جريدة فإنه أول ما يقرأ: نكتة اليوم، وإذا سمع أن حفلة ستقام وفيها مسرحية وضحك ونكت فإنه يذهب لها، وبعضهم يشتري كتباً معينة.
أنا أذكر شخصاً من الأشخاص يبحث عن كتب ويقول للبائع: أعندك كتب النوادر والضحك؟ لماذا يضحك؟ هل الضحك هوايته؟ لا.
ولكن الضحك والبحث عن وسائله دليل على وجود ضيق في الداخل، وعذاب في الباطن يريد الإنسان أن ينتزعه وأن يخفف من هذا الواقع بهذه النكت وبهذه المغالطات، ولكن متى يسكن الإنسان ومتى ترتاح نفسه؟ إذا وجد من يدله على الطريق ويوصله إلى خط (الإسفلت) الإسلامي، والهداية الإيمانية وهناك يسكن ويرتاح ويطمئن ويقول: الحمد لله الذي نجاني بعد أن كنت من القوم الضالين! ولا يعرف نعمة الإيمان إلا من ذاقها وسار على طريقها.
وطريق الإيمان طريقٌ واضح، قال الله تعالى فيه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] هذه النعمة نعمة الأمن والطمأنينة والهدوء والراحة التي يشعر بها المؤمن لا توجد إلا عند أهل الإيمان، ولا توفرها الإمكانات المادية.
فبالرغم من أن البشرية في الغرب والشرق استطاعت أن تحقق لنفسها الكثير والكثير من الإنجازات والإمكانات المادية، إلا أن ذلك على حساب الروح التي تعيش الآن في شقاء، والإحصائيات الدقيقة تبين أن أكثر الدول تقدماً أكثرها نسبة في الانتحار، وكلما كانت الدولة راقية ومتطورة ومتقدمة تكون نسبة الانتحار فيها أكثر! فما هو الانتحار؟ الانتحار هو التخلص من هذه الحياة عن طريق التردي من جبل، أو الضرب بالمسدس، أو ابتلاع كمية من الحبوب، أو الدخول في البحر والغرق وما تشاهدون في التلفزيون أو في الجرائد أو ما تسمعون من أخبار سباق السيارات الذي يسمونه سباق الرالي، أو سباق أي شيء من السباقات التي فيها موت، أو سباق الدراجات النارية فالذي يراها يعرف أنها عملية انتحار، وأن هذا السائق الذي يسابق متيقن (90%) من بداية السباق أنه ميت! وقد سمعت أن سباقاً أقيم في بلد من بلدان إفريقيا مات فيه خلال يومين أحد عشر متسابقاً؛ لأنه يسرع ويموت، وهذه قضية خطيرة فليس هناك إنسان في الدنيا يتصور أنه يسابق ويموت من أجل الجائزة، وإنما هو إنسان في الأصل يريد أن يتخلص من الحياة، فهو يعرف أنه لا يتخلص منها إلا بموت، أو بمسدس، أو بحبوب، أو بتردي من جبل، ولكن يقول: لا.
أنا أتخلص من الحياة بهذه الوسيلة، وإذا لم أمت فسأربح جائزة أو كأساً، أو أحقق رقماً قياسياً عالمياً بهذا السباق، وإن مت فلن أخسر شيئاً.
فالموت أصلاً هدف من أهدافهم التخلص من الحياة هدف من أهدافهم، ولذا فإنك تنظر إليه وهو يسرع ويجري وينعطف في المنعطفات بطريقة لا تتصور أنت أن هذا عنده مثقال ذرة من رغبة في الحياة وإنما يرغب أن يموت، يريد أن يتخلص من هذه الحياة! هذا كله بسبب البعد عن الله تبارك وتعالى، والعناء والعذاب الذي يعاني منه الكفار في ضل كفرهم وبعدهم عن الإيمان، وعقيدة الإسلام السمحة التي تزرع في القلوب الأمن والطمأنينة، وتنزع منها القلق والاضطراب، وهذه والله -أيها الإخوة- نعمة لا تعدلها نعمة، يقول فيها أحد السلف: مساكين أهل هذه الدنيا، جاءوا إليها وخرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قالوا: وما أطيب ما فيها؟ قال: التلذذ بعبادة الله عز وجل.
ويقول الآخر: والله لو يعلم أهل الجاه والسلطة ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف.
ويقول ابن تيمية: ما يصنع بي أعدائي؟ إن جنتي وبستاني في صدري، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وطردي سياحة.
ويقول ابن القيم رحمه الله: كنا إذا ضاقت بنا المذاهب، يقول هذا وهو مطلق وليس بمسجون؛ لأنه كان يسجن عدة مرات مع شيخه ابن تيمية ثم يطلق، لكن ابن تيمية ظل مسجوناً طوال حياته، حتى مات في سجن القلعة في دمشق.
يقول: كنا إذا ضاقت بنا المذاهب، وأظلمت علينا الدنيا؛ ذهبنا لزيارته في سجنه، فوالله ما إن نراه حتى يذهب الله ما في قلوبنا من الضيق والقلق، ونعيش معه في سعادة لا نجدها في الدنيا كلها.
وهو مسجون! من أوجد له هذه السعادة؟ إنه الإيمان بالله، رغم أن الإنسان الذي لم يسجن هو حقيقةً يمارس جزءاً من السعادة والحرية لكن بجسده.
وكان يقول: المسجون من سجن عن ربه، والمأسور من أسره هواه وشيطانه، فهذا هو المسجون الحقيقي! المسجون الحقيقي من حبس وسجن عن الله فلم يتصل بربه، ولم يتعرف على خالقه، فهو بعيد عن طريق المناجاة والعبادة والتقرب إليه، والمأسور من وقع في أسر نفسه وهواه وشيطانه هذا هو المأسور حقيقة، أما الذي يعيش مع الله فليس بمسجونٍ وإن كان مسجوناً في الظاهر، ولكن روحه طليقةٌ تعيش في ملكوت السماء -الملأ الأعلى- وتعيش في هذه الحياة مع الله في السر والعلن، والليل والنهار، والمحن والمنح وفي كل حالة، ومن كان مع الله فلا يخاف ظلماً ولا هضماً.
هذه هي نعمة الإيمان التي تحقق في الإنسان هذه الكرامة العظيمة التي لا يمكن أن تباع في الصيدليات، أو تشترى من الأسواق المركزية، أو يحصل عليها بقوة العضلات، وبكثرة الريالات، وبعلو المناصب والرتب، وإنما يستطيع أن يحصل عليها كل إنسان؛ لأن مجال إدراكها عن طريق الاكتساب.(36/6)
رفعة المكانة بين الناس
يقول الله عز وحل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وهذه عظمة الإسلام في أن التفاضل فيه ليس بالتوارث، إذ التفاضل بالدين، وبإمكان أي واحد من البشر أن يسابق بهذا الفضل وأن يصل إليه، ولهذا يقال: إن عطاء بن أبي رباح وهو من التابعين رحمه الله ورضي عنه، كان قد بحث عن مهنة يمتهنها فلم يجد، وكان دميم الخلقة، قصير القامة، أسود اللون، فكلما ذهب في عمل من الأعمال طرده الناس، أي: (لا عون ولا لون)، ماذا يشتغل؟ فدخل على أمه يوماً من الأيام وهو في مكة، قال لها: [يا أماه: ما أراني إلا قد شقيت -أي: لم أجد لي وسيلة للسعادة في هذه الدنيا، لم أجد مهنة أمتهنها- قالت له: ألا أدلك على عملٍ إن عملته هابتك الملوك وانقاد لك به الصعلوك، قال: عمل إن عملته يهابني الملوك وينقاد لي به الصعلوك! قالت: نعم، قال: ما هو؟ قالت: عليك بالعلم] فأخذ قلمه ومحبرته واتجه إلى الحرم، ولازم الحرم وطلب العلم على أيدي العلماء، وفتح الله له الآفاق، واستقبله في مجالات العلم، حتى أصبح عطاء الرجل الأول في العالم الإسلامي في العلم، بحيث إذا قيل في المسائل كلها ولم يقل فيها عطاء بقول تتوقف الأمة حتى يعرف ماذا قال فيها عطاء! ويحج الخليفة في سنة من السنين إلى بيت الله الحرام، ويتذاكر الناس في مجلسه في مسألة من مسائل العلم فيسأل هو: ماذا قال فيها عطاء؟ قالوا: لا ندري ماذا قال، قال: لا يقال وعطاء موجود ادعوه لي -أرسلوا إليه لنسأله عن هذه المسألة- فأرسلوا إليه، فلما أرسلوا إليه رد الرسول وقال: [قل لأمير المؤمنين ليس لنا فيما في يديه حاجة حتى نأتيه، وإن كان له حاجة فيما في أيدينا فليأت إلينا] انظروا جواب العزة والإيمان! يقول: ما لنا حاجة في الذي عنده من الدنيا حتى نأتي إليه؛ لكن إذا كان له حاجة فيما عندنا من العلم فليأت إلينا- فلما جاء الرسول وأخبره قال: صدق والله عطاء فليس له بنا حاجة، لكن نحن بحاجة إلى عطاء، يقول: فقام أمير المؤمنين ومعه رجاله وانطلق إلى بيت عطاء ليزوره، فلما جاء إلى البيت كان عطاء يصلي فطرق الباب، فنزل إليه ابن الشيخ عطاء بن أبي رباح، وإذا به خليفة المسلمين برجاله وهيلمانه وحرسه وحشمه، ماذا تريد؟ قال: نريد أباك، فصعد إلى أبيه يريد أن يستأذنه بدخول الملك، وكان يصلي فأطال الركعتين، لما عرف أن هناك أناساً يريدونه، وبقي الخليفة واقفاً عند الباب، ثم لما سلم والولد يصعد وينزل تحرجاً من الموقف، ويريد أن يسمح للخليفة بالدخول لكن ليس عنده إذن من أبيه، وفي نفس الوقت أبوه في الصلاة، فلما انتهى رفع يديه إلى السماء وجلس يدعو دعاءً طويلاً أطول من صلاة الركعتين، ثم لما انتهى قال لولده: إئذن له -اتركه يدخل- فدخل أمير المؤمنين، فلما دخل قام وحياه ورحب به وأجلسه، قال: ما هذا الجفاء يا عطاء؟ قال: أي جفاءٍ يا أمير المؤمنين؟ قال: دعوناك فما جئتنا، وزرناك فما أذنت لنا، قال: [أما إنك دعوتني يا أمير المؤمنين! فكما قلت لك: ليس لي فيما عندك حاجة حتى آتيك، وإذا كان لك حاجة فلتأت وقد جئت، وأما إني لم آذن لك فإني كنت أناجي من هو خيرٌ منك؛ كنت أناجي ربي فما كنت لأقطع مناجاة ربي لمناجاتك فلما فرغت من مناجاة ربي أذنت لك فحياك الله] فجلس ثم سأله المسألة فأعطاه الجواب ثم خرج، وأعطى واحداً من رجاله صرة فيها عشرة آلاف درهم للشيخ، فلما أخذها قال له: [ردها لأمير المؤمنين وقل له: ندلك على سبيل الفلاح وتدلنا على سبيل الهلكة] لا نريد شيئاً وردها له، فلما أخذها الخليفة قال: والله ما رأيت نفسي ذليلاً في حياتي إلا بين يدي هذا العبد.
طبعاً أمير المؤمنين خليفة ابن خليفة ما رأى الذلة في حياته، ولكن يقول: والله ما شعرت بالذلة في حياتي إلا بين يدي هذا العبد الأسود.
ما الذي رفعه هذه الرفعة العظيمة إلا الدين والإيمان.
فأنت -يا أخي المسلم- تجني ثمرة الإيمان في هذه الدنيا عزةً وسعادةً وأمناً وطمأنينةً وراحة وهدوءً لا يمكن أن تجدها في غير الدين، وهذه وحدها كافية.(36/7)
الضبط للسلوك حماية من المشاكل والزلات
الضبط للسلوك يصرف عنه الآفات والمحن، وأيضاً يحميه من الزلات والمشاكل التي ربما تجره إلى الويلات والنكبات في الدنيا والآخرة لو لم يكن مؤمناً، وقد يقول قائل: كيف؟ نقول: عندما يستجيب الإنسان لداعي الله، ويلتزم بدين الله؛ تنضبط تصرفاته.
فأولاً: لا يستطيع أن يقتل حتى ولو استثير لأنه يعرف عاقبة القتل، وحرمة الدم في الدين، فدم المسلم ثقيل: (ولا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراما) وأيضاً أول ما يقضى يوم القيامة في الدماء، والمقتول يبعث يوم القيامة وأوداجه تشخب دماً ورأسه على يده، ويده الأخرى في تلابيب قاتله يسوقه إلى المحشر، يقول: يا رب! سل هذا فيم قتلني والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93] القتل ليس بالأمر السهل، إن قابيل وهابيل لما قتل أحدهما صاحبه قال الله تعالى فيهما: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32] تصور إذا قتل إنسان واحد بغير حق كأنما قتل الناس جميعاً، ما المقصود بالناس جميعاً؟ الناس جميعاً منذ خلق الله آدم إلى يوم القيامة الآن كل مائة سنة يتجدد وجه الأرض كلها مرة واحدة، الآن على وجه الأرض في الإحصائيات التقريبية أربعة آلاف مليون -أربعة مليار- نسمة، والذي ولد اليوم فإنك بعد مائة سنة لا تجده، فكيف الذي ولد بالأمس أو قبل أمس فيتجدد وجه الأرض كل مائة سنة مرة، أي: إن كل مائة سنة يتجدد على وجه الأرض أربعة مليارات نسمة، وإذا قتلتَ واحداً فكأنما قتلت الناس جميعاً {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32].
ولما همّ قابيل بقتل هابيل، قال الله تعالى مخبراً عن رد هابيل لقابيل: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [المائدة:28] ثم قال عز وجل مخبراً عنه: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ} [المائدة:29 - 30] يقول المفسرون: إن هابيل كان أقدر في الانتقام والقتل من قابيل، ولكن منعه منه خوف الله تعالى، يقول: إن كنت بسطت يدك إلي لتقتلني أنا لا أقابل ذلك بقتلك، لماذا؟ ليس ذلة أو ضعفاً، ولكن قال: إني أخاف الله.
ثم قال: إني أريد إن سطوت علي وقتلتني أن تبوء بإثمي وإثمك.
ولذا جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث عن الفتنة في آخر الزمان، فقال رجل: (يا رسول الله! أرأيت إن أدركت ذلك الزمان؟ قال: اعمد إلى سيفك فاضرب به في حجر -اكسره ولا تشترك في القتال- قال: يا رسول الله! وماذا أصنع؟ قال: ادخل بيتك، قال: فإن دخل علي في بيتي؟ قال: الزم ركن دارك وخمر وجهك حتى لا ترى بارقة السيف، وكن كخير ابني آدم) يعني: كن كالرجل الأتقى من ابني آدم.
الدم ثقيل! ولكن أكثر الناس يتساهل بقضية الدماء ويثور ويغضب لأتفه الأسباب؛ لأن الهداية انعدمت، والإيمان مزعزع غير مثبت، ولو كان مؤمناً ومهتدياً لما وقع في جريمة القتل التي هي من أعظم الجرائم التي يخسر الإنسان بها الدنيا والآخرة.
يقول لي أحد المسئولين حكاية أو قصة موجودة الآن: إن شخصين كانا في تهامة يسيران سوياً في الخط، وأحدهما تجاوز الآخر، وبعدما تجاوزه أراد أن يرجع إلى الخط الأيمن، وكأنه رجع قبل أن يتجاوز هذا بمسافة كافية، أي: كأنه ضيق عليه طريقه قليلاً، فجاء الشيطان ونفخ في الذي ضُيِّق عليه، وقال: انظر كيف يتجاوزك ويضيق عليك! يريد أن يقلبك، اعمل به مثل ما عمل بك، فشد على البنزين وجاءه حتى تجاوزه، فلما تجاوزه ضيق عليه أشد منه حتى جعله ينحرف إلى الهاوية، فجاء الشيطان إلى الآخر، وقال: انظر! يريد أن يقتلك، هذا ما يريد له إلا أن تريه شغله، فشد على البنزين ولحقه حتى تجاوزه بمسافة بعيدة، ثم عرض السيارة في الخط ونزل وقال له: انزل، و (المشعاب) في يده والمسدس في اليد الأخرى، وذلك مثله مغفل، ولو كان عاقلاً لما وقف، لماذا؟ ماذا تتصور أن تكون النتيجة من وقوفك أمام رجل مثلك في يده سلاح وفي يدك سلاح، ماذا تعمل؟ أتنزل لتسلم عليه؟ أتنزل لتقول: كيف حالك؟ كلا.
بل تنزل لتفكر كيف تذبحه وهو يفكر كيف يذبحك، من أجل ماذا؟ ما هي المشكلة؟ ماذا حصل؟ من أجل تجاوزك له في الطريق أو تجاوزه لك في الطريق؟ كم نسبة تجاوزك له مرات في الحياة؟ ربما من يوم أن خلقك الله إلى اليوم لم يتجاوزك أو تتجاوزه إلا هذه المرة، وربما بعد أن تتجاوزه ينتهي الأمر! هل كل يوم تلتقون للمطاردة في هذا الطريق؟ لكن الشيطان يعمي القلوب، ويورط الإنسان في الورطات.
فلما رآه يقول: انزل، ولو أنه مر عليه وقال له: السلام عليكم سامحك الله في أمان الله ولن أقف لك لخجل من نفسه وانتهت المسألة، ويكون العرض موفوراً، والدم مصوناً، والدنيا بخير، وليس هناك داعٍ للقتال، لكنه حين قال: انزل، قال: أبشر! فوقف على جانب الطريق وأخرج حديدة، فرأى الآخر الحديدة وقال: لن أصل إليه لأنه سيضربني بها في رأسي وأموت فأخرج المسدس وقتله، وكان سائق (دركتر) يشتغل بجوارهم فسمع إطلاق الرصاص فأخذ رقم السيارة -لأن القاتل هرب- وبلغ الشرطة فقبضت عليه واعترف وهو الآن ينتظر الإعدام؛ ومتى يعدم؟ بعدما يكبر أبناء المقتول، أي: ربما يسجن عشر سنوات ثنتي عشرة سنة ثلاث عشرة سنة وبعد ذلك يقتل، يعني: يموت كل يوم، ويموت كل لحظة، ويموت كلما سمع أقدام العسكري، ويموت كل جمعة، وبعد ذلك إذا جاء قرار الإعدام فإنه يموت من يوم أن يخرجوه، ويقولون له: اغتسل، فيموت في تلك اللحظة، وإذا ركب السيارة يموت، وإذا أنزلوه في المغسلة يموت، وكل خطوة يموت فيها إلى أن يوضع تحت البندقية، والضربة تأتي في ظهره لتفتح في ظهره نافذة تخرج من صدره من أجل ماذا كل هذا؟ وليتها تنتهي المسألة بالموت لكان الأمر هيناً، لكنه إذا نظر إلى الناس في الموقف وهم كلهم يتفرجون عليه، ثم يذهبون بعد لحظات إلى بيوتهم وإلى زوجاتهم وأولادهم، وهو يذهب إلى الموت فإنه سيتندم! لكن لا ينفع الندم! ويتمنى أنه ما عرف هذه القصة، ولا عرف السيارة، ولا مر من تلك الطريق، ولكن لا ينفع الندم في تلك اللحظات، ما الذي ورطه في هذا؟ إنه الضلال وعدم الهداية، ولكن لو كان صاحب هداية وإيمان ودين، وعنده خوف من الله لسمح له بالمجاوزة وقال: ماذا يحصل لو تجاوزتني في أمان الله؟ الحمد لله الذي نجانا منك.
وكثير من الناس يقعون في ورطات أسبابها عدم خوفهم من الله، وعدم مراقبتهم لما بعد هذه الحياة؛ لأن الذي يضبط سلوكك هو خوفك من الله، وإيمانك بالجنة، والنار، وتذكرك للآخرة، وتذكرك لعذاب القبر، ولهذا تقول: لا والله، أصبر على العار، ولا أصبر على النار، ولهذا يقول الناس: النار ولا العار.
لا والله، بل العار والعار والعار ولا النار مرة واحدة، لماذا؟ لأن العار ينتهي، لكن النار لا تنتهي.
لما قالوا للحسن بن علي رضي الله عنه وقد تنازل عن الخلافة لـ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين، قالوا له: يا أمير المؤمنين! يا ابن بنت رسول الله! هذا عار، قال: [العار ولا النار] فهو العاقل حقيقة ليس بجاهلي يقول: يلحقني العار ولا تلحقني النار، إذا استمريت في قتال معاوية وإزهاق أرواح المسلمين بغير حقٍ.
فالإيمان والهداية والدين تضبط سلوكك، وإذا أردت أن تعرف نعمة الله عليك بالهداية فاذهب إلى السجون لترى فيها القتلة، واللصوص والمجرمين، والذين يهربون المخدرات ويتاجرون في المنكرات هؤلاء كلهم الآن يعضون على أصابع الندم ويتمنون أنهم ما وُجدوا لهذه المشكلات، ولكن الشيطان ورطهم إلى أم رءوسهم، وأنت والحمد لله معافى بنعمة الإيمان والهداية التي من أجلها أنت الآن مرتاح وفي نعمة، وهؤلاء الذين في السجون مثلك، لكن لما كانوا غير مهتدين وقادهم الشيطان بأنوفهم إلى أن ورطهم في هذه الورطات شقوا وتعسوا؛ فمن نعمة الله عز وجل أن بصرك وهداك، وأقامك على الصراط المستقيم وأنت سالم؛ لأن من الناس من يتوب لكن بعد دخول السجن، فلم تعد تنفع إلا في الآخرة أما في الدنيا فقد انتهى الأمر.
يقول لي شخص منهم وقد ذهبت لألقي موعظة في السجن العام هنا، وبعدما انتهيت وفتحت له مجالاً في التوبة وفيما عند الله أمسكني وقال: يا شيخ! عندي سؤال؟ قلت: تفضل، قال: أين هذا الكلام قبل أن آتي إلى هذا المكان؟ يقول: هذا الكلام الذي تقوله، أين هو؟ ما سمعناه قبل أن نأتي إلى هنا؟ يقول: كنت أتمنى أن أعرف هذا الكلام قبل أن آتي إلى هنا، أي: أود لو أني اهتديت وآمنت واستقمت، قلت: ما هي قضيتك؟ قال: عليَّ رقبة، قلت: ما هو الحكم؟ قال: أنتظر القتل، يقول: لم يعد ينفع كوني أتوب الآن وأهتدي، لكن ينفع إن شاء الله في الآخرة.
لكنه مسكين! يريد أن يعود إلى زوجته وأولاده! يريد أن يعيش مثلما يعيش الناس لكن توبته لا تفكه من السجن إلا إلى الموت! فأنت احمد الله الذي لا إله إلا هو، فهو الذي عافاك وما ابتلاك، وأقامك حتى عرفت نعمة الله عليك، وما كان ذلك ليحصل لك إلا بطريق الهداية والاستقامة على دين الله تعالى.
وآخر كان نائماً في بيته قد خلع ملابسه واستسلم للنوم، وإذا بطارقٍ يطرق الباب عليه في الساعة الثانية عشرة فيقول له أهله: -أهل الولد يقولون للطارق- من تريد؟ قال: أريد فلاناً، قالوا: نائم -لا تستطع أن نوقظه لأنه نائم- قال: أيقظوه، الأمر ضروري، قالوا: الأمر ضروري! فذهبوا إليه وهو نائم: فلان فلان: يريدك فلان فقفز قفزة الأسد، لماذا؟ لا يمكن أن يتأخر عن صديق(36/8)
البسط في الرزق
ومن ثمار التقوى والهداية أن الله عز وجل يبسط في رزق عبده المؤمن.
فالله عز وجل يوسع للملتزم في رزقه، وبالاستقراء لم نر عبر حياتنا الطويلة رجلاً صالحاً ضيق الله عليه في معيشته، هل سمعتم بهذا؟ أبداً، طبعاً في زماننا هذا والحمد لله زمن الرخاء بسط الله الرزق على الطيب والخبيث؛ لكن في الزمان الأول وفي كل مجتمع وبيئة لا يمكن أن نجد إنساناً ضيق الله عليه في معيشته، بل كلما ضاقت وسع الله عليه.
فـ حاتم الأصم وهو من التابعين: أراد أن يحج فقال لأهله ولأولاده: إنني أريد أن أحج، ولم يكن عنده نفقة ولا مئونة إلا ما كان معه، وأولاده ما كانوا يريدون أن يمنعوا والدهم من الإتيان بهذه الفريضة الكبرى والقربة العظيمة عند الله، فقالوا له: نحن ما عندنا شيء، فقالت البنت الكبيرة من بناته: أنا عندي شيء، فلما ذهب وودعهم مر عليهم اليوم الأول والثاني والثالث وما عندهم شيء، قالوا للبنت: أعطينا الذي عندك، أنت قلت أن عندك شيئاً، قالت: والله ما عندي شيء لكني ما أردت أن أحبس أبي عن الطاعة، ولكن إذا غاب أبونا فما غاب ربنا، تقول: الله عز وجل سوف ينفق علينا ولو كان أبونا ليس موجوداً.
وفي الليل مر الوالي أو الحاكم الذي في البلد ومعه العسس يعس، وأمام البيت أحس بظمأ فطرق الباب عليهم، وقال لهم: أعطوني ماءً، فقامت الابنة -بنت حاتم الأصم - وتحجبت وحملت الماء وجاءت به إلى الوالي وهي لا تعرف أنه الوالي، فشرب، فلما شرب كان الماء بارداً والإناء نظيفاً فارتوى، حتى إذا ما انتهى أخرج ما في يده وجيبه من نقود، وأخرج الذي معه من الرجال كل ما في جيوبهم اقتداء بالأمير ووضعوه في الكأس وأعادوها، ولما رجعت الكأس وإذا بالكأس التي خرجت مليئة ماء قد رجعت مليئة بالنقود، فدخلت البنت إلى أهلها وهم لا يعلمون بالحادث هذا، وجاء اليوم الثاني وقالوا: أنت التي تركتي والدنا يذهب، ما عندنا شيء، قالت: بل عندي شيء، قالوا: أين؟ فقامت وجاءت بالكأس مملوءة بالنقود، قالت: هذا الذي عندي من الله الذي لا إله إلا هو {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] يقول ابن عباس: [أبى الله إلا أن يجعل رزق عبده المؤمن من حيث لا يحتسب] أنت تتوقع وتحتسب الرزق من كل طريق، ولكن بالتقوى يأتيك الرزق من كل طريق {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] وقد يقول قائل: ما هو الرزق المقصود في هذه الآية؟ يقول العلماء: ليس الرزق المقصود هو الرزق الكمي، أي: تأتيك كمية نقود كثيرة.
لا.
الرزق المقصود هو الرزق الكيفي، أي: أن الله تبارك وتعالى يجعل في رزقك بركة، وفي قلبك قناعة، فإذا كان راتبك ألفي ريال بالإيمان، وبالتقوى؛ تعدل هذه الألف ريال عشرة آلاف ريال، وإذا كان راتب العبد عشرة آلاف ريال لكن بالكفر، والنفاق والضلال، والمعاصي؛ تصبح قيمتها الورقية والاستعمالية أقل من ألف ريال، كيف؟! أولاً: يفتح الله عليك بصائر في حياتك، أي: بعض الناس يشتري سيارته وتمر عليه السنة، والسنتان، والثلاث، والأربع، والخمس سنوات ولم يغير فيها مسماراً؛ لأسباب بركة هدايته ودينه، حتى قال لي شخص: والله إن عندي سيارة موديل أربعة وثمانين إلى الآن، يقول: يمر عليها خمس سنوات ومشيت بها تسعين ألف كيلو متر، يقول: والله ما غيرت حتى عجلاتها، قلت: لا إله إلا الله سبحان الله! المعروف أن أقصى مسافة لعجلات السيارات ثلاثون أو أربعون أو خمسون ألف كيلو متر.
وقليل هي التي تصل إلى ستين ألف كيلو متر، قلت: كيف يا أخي؟ قال: الحمد لله، يقول: والله ما غيرت عجلاتها ولا بنشر كفر واحد خلال تسعين ألف كيلو متر! قال: ولا بنشر ولا غيرت، قلت: ماذا تعمل؟ قال: فقط (أدق سلف) وأقول بسم الله الرحمن الرحيم في الصباح! فقط هذا هو السر! فحفظ الله سيارته.
لكن من الناس من يركب السيارة وهو ضال -قليل دين والعياذ بالله- من يوم (يعشق) مباشرة قبل أن يقول: بسم الله، يضع الشريط ويشغل الاستريو، استريو من هنا ومن هنا، ومن أمامه ومن وراءه من أجل أن ترجه السيارة.
أنا أقف أحياناً عند الإشارة فيأتي شخص بجانبي يغني فأقفل الزجاج؛ لأن سيارتي تهتز من رجة سيارته، يرج الإسفلت ويرجني معه، ما يقبل حتى بموسيقى، أي: بسيطة، بل يريد شيئاً يرجه من أجل أن تهز عقله -والعياذ بالله- فهذا لا تستمر معه سيارته مائة كيلو، ولا مائتين، ولا سنة إلا وقد خربت، فيذهب راتبه في تصليح السيارة، وبعضهم تذهب رواتبه في علاج زوجته وأولاده، وفي تغيير متطلباتهم، بأسباب ماذا؟ عدم هدايته، لكن لو كان مهتدياً لرزقه الله عز وجل القناعة في قلبه، والبركة في زوجته.
فبعض النساء تقعد عشر سنوات ما تمرض مباركة، وأولاده ما يمرضون، وسيارته لا تخرب، وفرشه لا تبلى، و (موكيتاته) نظيفة، وكل حياته جيدة، لماذا؟ فيه دين، فيه بركة، فيه إيمان؛ ولذا تتوفر له هذه المبالغ، أما إذا لم يوجد دين ولا إيمان فكل شيء يخرب: ثوبه يلبسه الآن وبعد قليل يوسخه، ماذا بك؟! وبعض الناس يلبس الثوب أسبوعاً كاملاً ويأتي يخلعه كأنه ما لبسه، لماذا؟ لأنه نظيف ظاهراً وباطناً، لكن ذاك القذر قذر ظاهراً وباطناً، ويغسل ثوبه كل يوم ولكنه أيضاً ما تنظف؛ لأنه قذر من الداخل لا حول ولا قوة إلا بالله! فهنا الرزق المقصود في هذا هو الرزق الكيفي لا العددي، فقد ترزق مالاً كثيراً لا بركة فيه فتشقى به، وقد ترزق مالاً كثيراً فيه بركة فيبارك الله عز وجل فيه، وهذه لا تأتي البركة إلا عن طريق الدين.(36/9)
محبة الخلق للعبد الصالح
الثمرة الرابعة من ثمار الإيمان والدين: ثمرة محبة الخلق لك.
وهذه تأخذها انتزاعاً تنتزعها من الناس، من الذي يستطيع في الدنيا أن يفرض على الناس أن يحبوه؟ هل يستطيع أحد؟
الجواب
لا.
لماذا؟ لأن القلوب ليست بيده، القلوب بيد الله: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) فقد تفرض على شخص أن يحبك.
طيب أحبك وهو يكرهك مثل الشيطان الرجيم؛ لأن القلب ما تستطيع أن تدخله من أجل أن تعرف أهو يحبك أو لا؟ لكن بالإيمان وبمحبة الله لك يلقي الله لك المحبة في قلوب الناس أجمعين، كما جاء في الحديث الصحيح، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبونه، ثم يلقى له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً نادى جبريل: يا جبريل! إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه، ثم ينادي جبريل في السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضونه، ثم يلقى له البغض والكراهية في الأرض) فترى كل شيء يبغضه حتى جلده وثوبه الذي على ظهره، ولقمته التي يأكلها، وحتى بيته الذي يسكنه، وزوجته، ودابته، وأولاده، فمن يوم أن أبغضه الله كل شيء يبغضه.
أما ذاك المؤمن إذا أحبه الله فإن كل شيء يحبه، حتى أعداءه وأهل الشر يحبونه، ولعلكم تعرفون قصة يوسف عليه السلام لما دخل معه السجن شابان فرأى كل واحد منهما رؤيا من الذي ذهبوا إليه وقالوا: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] وصفوه: {مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] ما ذهبوا للخمارين ولا للزناة ولا للقتلة ذهبوا لمن؟ للصالح يوسف عليه السلام، محبة وإكراماً له واعترافاً بأنه من الصالحين الذين لا يمكن أن يوجد العلم إلا عندهم.
فإذا اهتديت -يا أخي- فهي نعمة أن تكون محط تقدير وموضع محبة الناس كلهم، أليست هذه نعمة؟ لأنك إذا أحبك الناس أولاً: إذا مت شهدوا لك، فلو مات رجل فاضل من فضلاء المجتمع: عالم أو داعية أو صالح، وسمع الناس في مدينة أبها أو في خميس مشيط أو في المنطقة الجنوبية أو في المملكة كلها أن فلاناً مات وهو رجلٌ صالح، فماذا تتوقعون أن يقول الناس عند موته؟ كلهم يدعون له ويثنون عليه، ويقولون: رحمه الله رحمة واسعة غفر الله له أسكنه الله فسيح جناته كان رجلاً عابداً كان قواماً كان صواماً كان صالحاً كان داعيةً كان عالماً كان معلماً للناس الخير هذه الدعوة تأتيه في قبره، وتجمع الأمة على أن تدعو له، والله عز وجل يمضي شهادة الناس؛ لأن الله تعالى يقول: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] ومر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازةٍ فقال: (وجبت) بعد أن أثنى الناس عليها خيرا، ثم مر عليه بجنازة مرةً أخرى فقال: (وجبت) بعد أن أثني عليها شراً، ثم قال عمر: يا رسول الله! قلت: وجبت في الأولى والثانية، قال: (أثنيتم على الأولى خيراً فوجبت لها الجنة، وأثنيتم على الثانية شراً فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه).
فهل تريد أن يشهد لك الناس بالخير؟ هل تريد أن يدعو لك الناس إذا مت؟ هل تريد أن يحبك الناس إذا ذكرت؟ ذلك هدف من أهداف كل عاقل، وغاية نبيلة يسعى إليها كل إنسان فاضل، لكنك لا يمكنك أن تحصل عليها إلا بالدين، والإيمان، والهداية، وهنا تنتزعها وتجعل الناس كلهم يحبونك؛ لأنه إذا أحبك الله أحبك كل شيء، وإذا أبغضك الله أبغضك كل شيء، وهذه نعمة لا تعدلها نعمة من نعم هذه الدنيا.(36/10)
قوة البدن في العبادة
ومعطىً خامس أختم به هذا المقام وهو: أن الله عز وجل يرزق المؤمن قوة في بدنه، والمراد بالقوة هنا القوة في العبادة، فتراه قوياً في الصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، والعلم وطلبه وكل ما يحبه الله ويرضاه، وتراه جباناً في الشر، ضعيفاً في مواطن الشر، هذا بأسباب ماذا؟ بأسباب الهداية والإيمان.
وكن عن كل فاحشة جباناً وكن في الخير مقداماً نجيبا
وبالضلال وبالكفر تنعكس المسألة، فترى الضال والعاصي -والعياذ بالله- قوياً في كل شيء إلا في الدين، قوياً في الكرة: يلعب من العصر إلى المغرب يصول ويجول ولا يتعب ولا يكل ولا يفتر، لكنه إذا أتت الصلاة بدا كسلاناً لا ترى فيه أي قوة ولا قدرة على الصلاة، وإذا جاء الصوم تنهار قواه ويتعب، ويطلب إجازة، وينام من صلاة الفجر إلى المغرب، هذا كثير من صوام زمانك: يأخذ إجازة وينام من حين أن يتسحر في الساعة الرابعة، يقال له: صل، فيقول: ليس الآن، وينام -قال: لا توقظني حتى أقوم- ولا يستيقظ إلا قبل الفطور، وصلاة الفجر والظهر والعصر لم يؤدها، وقام يغسل وجهه، ثم يتقدم السفرة من أجل أن يلتهم الفطور، وبعد الفطور يلعب: (بلوت) و (ورقة) و (سمرة) إلى السحور، وجاء وتسحر ونام إلى الفطور، هذا صيام أهل هذا الزمان! لماذا؟ لأنه لا يستطيع أن يقاوم، فيقضي الصوم كله في النوم، وطبعاً النائم لا يحس بالجوع ولا بألم الجوع، فإذا استيقظ وبقي على وقت الفطور نصف ساعة أو ساعة فإنه يتوضأ فيها يقوم ليأكل، فتجد العاصي ضعيفاً في الصلاة ولا يستطيع أن يأتي إلى المسجد كل يوم، بل بعضهم يرحمه إذا نظر إليه أحد الناس، واحد من الشباب يقول لي: إنه كان قبل هدايته يقول: كنت والله إذا نظرت إلى فلان من الناس وهو طالع إلى المسجد أرحمه، أقول: هذا المسكين عذب نفسه، يذهب ويأتي إلى المسجد، وفي الظهر طالع ونازل، وفي العصر طالع ونازل، يقول: والله إني أشفقت عليه ورحمته، رحمته من الصلاة والصوم ومن الذهاب إليها، قلت: والآن؟ قال: والآن الحمد لله الذي هداني للإيمان.
وشخص يقول: ذهب إلى الرياض يقول: فمر على شارع اسمه شارع (السبيبري) يمكن طبعاً الآن ليس موجوداً أو تغير، هو آتٍ من شارع (البطحاء) ذاهب (للديرة)، فمر على مسجد بشارع (الفليلي)، وفي هذا المسجد إمام بارك الله فيه ووفقه يطيل الصلاة ويصلي بالناس التراويح صلاةً متأنية يطيل فيها، ولا يصلي معه إلا الذين يحبون الصلاة الجيدة، فمر عليهم هذا الشخص فرآهم يصلون، ثم ذهب إلى (الديرة) واشترى حاجاته وعاد وهو أيضاً يصلي للشيطان إلى أن تعبت رجلاه وهو واقف، ثم رجع وإذا بهم وقوف يصلون، يقول: والله إني رحمتهم، يقول: يا لله! هم من تلك الساعة وقوف يصلون؟ وهو نفسه يقول: والله ما ثنيت رجلي لجلوس وإنما بقيت واقفاً؛ لأنه لا يوجد مكان في السوق، لكن هو يصلي للشيطان في الأسواق، وهم يصلون للرحمن في المسجد فيرحمهم، يقول: فجلست وشربت ماء من ثلاجة المسجد، ويقول: انتظرت حتى سلموا من أجل أن أنظر إلى وجوههم كيف تبدوا وقد تعبوا.
يقول: أتيت وإذا بهم كلهم كهول ليس فيهم شاب، أما الآن فالحمد لله الذي يملأ المساجد هم الشباب بارك الله فيهم وكثر الله من أمثالهم، هذه نعمة من نعم الله تبارك وتعالى، وهي القوة في دين الله عز وجل.
ومرة في هذا المسجد أذكر لكم هذه القصة: سكن رجل في هذا الحي بجوار المدرسة، وبعد ذلك لم يأت ليصلي معنا، فجاءني الجيران، فقالوا: يا شيخ سعيد: عندنا جار لا يصلي معنا في المسجد، فنريدك أن تذهب وتكلمه، قلت: حسناً، فذهبت أنا وهم إليه وزرناه بعد المغرب فرحب بنا وجلسنا عنده، وقلنا: أنت ضيف جديد في الحي وجزاك الله خيراً، ومنذ أن سكنت انتظرناك لتصلي معنا في المسجد؛ لأنك تعرف أن الصلاة فريضة الله على عباده، ولكنك لم تأت فأتينا نرحب بك أولاً، ثانياً: ندعوك إلى الصلاة معنا إن شاء الله، وإن شاء الله تصلي ولا تتأخر حتى لا نضطر أن نرفع بك إلى المسئولين قال: جزاكم الله خيراً! إن شاء الله أصلي، ولما جاء صلى العشاء في تلك الليلة وجزاه الله خيراً فلم يقصر في الإجابة، وبعد فترة لم يصل! لا اليوم الأول ولا الثاني ولا الثالث ولا الرابع المهم مرت عليه فترة طويلة، قال الجيران: صلى ذلك اليوم فقط، ولم يأت بعد ذلك، فذهبنا له، ولما أتينا عنده قلنا له: المسألة أنا أتيناك في ذلك اليوم وقلنا: صل وما صليت معنا، قال: بل صليت، والله إني صليت معكم.
قلنا: كم صليت؟ قال: صليت ذلك اليوم.
وقلنا: لا.
الصلاة كل يوم تأتي تصلي.
قال: ماذا؟! كل يوم؟! قلنا: كل يوم! قال: كل يوم خمس مرات ذاهب وخمس مرات راجع وكل يوم؟ قلنا: كل يوم خمس مرات ذاهب وخمس مرات راجع -لا يتصور هو- قال: والله إن شاء الله، لكن في نفسه يقول: ما يخارجني هذا الكلام، يقول: كيف أطلع وأنزل كل يوم للمسجد خمس مرات، شيء صعب ما تعوده في حياته، المهم جاء اليوم الثاني فأخبرني جيرانه وقالوا: والله إنه لم يمس في هذا البيت، وأتى بسيارة كبيرة وأخذ عفشه وذهب في مكان ليس فيه مسجد لا حول ولا قوة إلا بالله! لماذا يستكثر الصلاة؟ ضعف بدني وإلا فهو ما شاء الله مثل الحصان عضلات، أي: يأخذ عشرة بيده، لكن الصلاة ثقيلة على النفس، والله تعالى يقول: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] بينما تجد كبير السن الضعيف يأتي بعصاه من البيت إلى المسجد، ومن المسجد إلى البيت، ومن البيت إلى المسجد وهكذا، ما الذي قوى هذا؟ إيمانه وخوفه من الله قواه، والله إن بعض الكهول لو أتيت عليه في فراشه وكبلته وقيدته وضربته لا يمكنه أن يجلس إلا في المسجد، وبعض الشباب عضلاته مثل عضلات الحصان ولا يأتي يصلي، هذا ضعيف في دين الله فأضعف الله بدنه، وهذا قوي في دين الله فقوى الله بدنه.
فمن ثمار دينك وثمار هدايتك أن الله يقويك ويحفظ لك جوارحك ويقويك على طاعة الله.
هذه خمس معطيات وخمس ثمرات تجنيها ثمرة الإيمان في الدنيا، أهي خير -يا أخي المسلم- أم الضلال والفساد الذي يزرع في قلب العبد القلق والاضطراب؟ وأيضاً لا يضبط سلوكه؛ فيهلكه في أي مصيبة، ولا يوسع الله عليه في رزقه، ولا يجعل له محبةً في قلوب الناس، ويجعله ضعيفاً في كل شيء إلا في معصية الله فهو قوي، ومن كان في هذه الدنيا قوياً في معصية الله كانت قوة الله عليه عظيمةً يوم لا حول ولا قوة إلا بالله عز وجل في عرصات القيامة.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يرزقنا وإياكم قوة في دينه، وبصيرة في شرعه، وتوفيقاً في هدايته إنه على كل شيء قدير.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(36/11)
الأسئلة
.(36/12)
اللباس أحكامه وشروطه
السؤال
إني أحبك في الله، أرى بعض الشباب الملتزم لا يلبسون العقال، فهل ورد دليل في ذلك؟ وإن لم يوجد فلم لا تلبسه أنت؟
الجواب
أحبك الله الذي أحببتني فيه، وأسأل الله أن يجمعنا وإياكم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ببركة الحب فيه والبغض فيه فإنه كما جاء في الحديث: (عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين أناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء، قيل: من هم يا رسول الله؟! قال: هم الذين يجتمعون على الذكر؛ ينتقون من الذكر أطايبه كما ينتقي آكل التمر من التمر أطايبه).
وفي الحديث الآخر: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه) هؤلاء يظلهم الله في ظل عرشه نسأل الله من فضله.
وإجابة على السؤال أقول: أولاً: لم يرد في دين الله عز وجل بأن يلتزم المسلم لباساً معيناً، أي: لابد أن يلبس المسلم هيكلاً أو أمراً معيناً، لا.
إنما يلبس المسلم ما يريد على ألا يقع في شيء من المحذورات الأربع: أولاً: ألا يلبس حريراً.
ثانياً: ألا يتشبه بالكفار وأعداء الله، بمعنى: اللباس الذي اختص به الكفار نحن نتركه؛ لأن: (من تشبه بقومٍ فهو منهم) لا لأنه في ذاته حرام، ولكنه أصبح شعيرة من شعائرهم ودلالة من دلالاتهم فنحن نبغضه في بغضهم.
ثالثاً: ألا يتشبه بالنساء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم: (لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، ولعن المتشبهات من النساء بالرجال).
رابعاً: ألا يكون فيه خيلاء ولا كبرياء، أي: لا تلبس شيئاً فيه كبر أو غطرسة أو خيلاء.
وما لم تتوفر فيه أحدى هذه الأشياء فالبس ما شئت.
أما موضوع العقال فهو من الأشياء التي تعارف الناس على لبسها، وتعارف أقوامٌ على عدم لبسها، وطلبة العلم غالباً لا يلبسونها؛ لأنه لا ضرورة لها عندهم؛ لأنها جزءٌ من الشكل الجميل الذي يهتم به بعض الناس فيريد أن يكون شكله مرموقاً، وهذه الأشياء بالنسبة لطلبة العلم أشياء ثانوية في حياتهم، فهم يهتمون بشيء أكبر من ذلك وأعظم وهو إن شاء الله صلاح قلوبهم، وأما الشكل الظاهري فأي ثوب وأي غترة وأي عقال المهم أن الإنسان لا يبتذل ولا (يتدروش) ويلبس أشياء لا تليق به كما يصنع بعض الناس؛ إذا رأيته ترى أن شكله غير جيد، لماذا؟ لأنه يتساهل، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) ويقول: (إن الله جميل يحب الجمال) وكان له جبة يلبسها ويقابل بها الوفود، وكان صلى الله عليه وسلم يسرح شعره ويطيب مفرقه، وكان يكتحل ويدهن، ويحب أن يخرج إلى الناس ورائحته طيبة وشكله طيب، فالاهتمام بالشكل مرغوب فيه ومطلوب في الشرع لكن في حدود، ليس إلى الحدود التي تخرج الإنسان عن حد المعقول، ويظل فقط أمام المرآة، فبعضهم يظل أمام المرآة ساعة وهو يضبط مظهره ويتلفت لكن داخله خراب، فالمغالاة والتجاوز في الحدود ينقلب إلى أضدادها.
فهذا يعني: عدم لبس العقال عند الكثير من طلبة العلم.
وبعضهم يقول: إن العقال مأخوذ من العقل، يقول: فإذا نقص العقل زاد العقال، وكلما نقص تشاهده يزيد من حجم العقال من أجل أن يمسك العقل حتى لا يطير.
وهذه طبعاً على سبيل النكتة وليس على سبيل الحقيقة! أما أنا فلا أحب أن ألبس العقال؛ لأن العقال لا يصلح لي؛ لأن رأسي مفلطح من فوق، فإذا لبسته فإنه يسقط وإلا ليس هناك أي سبب آخر.(36/13)
التشبيه في صفات الله
السؤال
قلت: إن (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن) ومثلت بإصبعك وهذا تشبيه؟
الجواب
صدق! وأنا أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ولا أشبه؛ لأن التشبيه ممقوت ومحذور في شرع الله.(36/14)
التوبة وشروطها
السؤال
كيف يبدأ الإنسان بالتوبة؟
الجواب
هذا سؤال هام جداً، يحتاج إلى وقت طويل، لكن يقول العلماء: العتبة نصف الطريق، إذا أراد الإنسان أن يسافر هل يسافر وهو في البيت؟ الجواب: لا.
لكن متى يقطع الطريق؟ إذا خرج من البيت، من أول ما يقطع عتبة البيت اعتبر أن الطريق نصفها ذهب؛ لأنه شرع في الطريق، وكذلك الذي يريد أن يتوب فالعتبة في طريق التوبة نصف الطريق، وهي ثلاثة أشياء: أولاً: الإقلاع من الذنب الذي أنت فيه.
الثاني: الندم على ما فات فيه.
ثالثاً: العزم على ألا تعود في الذنب.
هذه هي التوبة.
والأوقات ثلاثة: الأول: وقتٌ مضى، فاستغفر الله فيه.
الثاني: وقتٌ مستقبل، فاطلب الله أن يعينك فيه على الهداية.
الثالث: وقت حاضر، املأه بالطاعة، وحينها تكون من التائبين إن شاء الله! فتأتي إلى عينك التي تنظر إلى الحرام، وتقول: قفي يا عين! فأنا تائب، وتأتي إلى أذنك التي تسمع الغناء والحرام، تقول: والله لا أسمع، وتأتي إلى يدك التي كانت تمسك الحرام، تقول: تبت، ورجلك التي تسعى إلى الحرام تابت، وبطنك التي تأكل الحرام تابت، وفرجك إذا كان يرتكب الحرام تاب المهم أنك بالتوبة، لا تعمل شيئاً يغضب الله، وبعد ذلك إذا سمعت أمراً لله تذهب إليه إلى الصلاة في المسجد وإلى قراءة القرآن، وحلق العلم، وحفظ كتاب الله، والحب في الله وأصبحت من المهتدين، وعندما تمشي يوماً ويومين وثلاثة تكون قد قطعت نصف الطريق وأنت لا تدري إلا وأنت مع أهل الإيمان في روضة لا يجدها إلا هم في هذه الحياة.(36/15)
حكم من قال بعد قراءة القرآن: صدق الله العظيم
السؤال
ما حكم من قال بعد قراءة القرآن: صدق الله العظيم؟
الجواب
اختلف أهل العلم في هذه الكلمة: فبعضهم يقول: لا شيء فيها، وبعضهم يقول: الأولى تركها، والراجح أن الأولى تركها؛ لأدلة: الدليل الأول: أنها لم تؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أمر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن يقرأ عليه والحديث في الصحيحين فقال له: (اقرأ، قال: أأقرأ وعليك أنزل؟ قال: نعم.
فإني أحب أن أسمع من غيري، قال: فقرأت من سورة النساء حتى بلغت قول الله عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [النساء:41 - 42] قال: فقال لي: حسبك، فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان بالدمع) صلوات الله وسلامه عليه، ولم يأمره بأن يقول: صدق الله العظيم.
وكان يقرأ صلى الله عليه وسلم وينهي قراءته ولم ينقل أنه كان يقول: صدق الله العظيم، ولو قيل لنقل، ولم ينقل عن الصحابة ولا عن سلف هذه الأمة وإنما جاء في القرون المتأخرة.
الدليل الثاني: قال العلماء: إن التصديق إنما يكون لمن يحتمل ويتوقع منه الكذب، فأنت تقول: صدق الله العظيم، لكن الذي لا يتوقع منه إلا الصدق ليس بحاجة إلى تصديقك أليس كذلك؟ فأنت إذا كنت مدرساً وسألت الطالب سؤالاً، ثم أجاب الطالب بعد أن سألته -أي: أعطاك الجواب الصحيح- ما هو موقفك أنت؛ لأنك أعلم من الطالب، ماذا تقول؟ هل تقول: صدقت أم لا؟ لكن إذا جاء الطالب وسألك وقال لك: يا أستاذ: كم أركان الإسلام؟ فقلت أنت: أركان الإسلام خمسة، قال لك الطالب: صدقت، ماذا تقول له؟ تصفعه على وجهه، وتقول: ليس لك دخل صدقت أو ما صدقت، أنت تصدقني أنت، أنا أعرف بالعلم منك.
لا تقبل أنت أن يصدقك أحد وهو دونك؛ يقول:
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
إذا قلت: والله إن هذا السيف أحسن من هذه العصا، ما رأيك تمدحه أم تذمه؟ تذمه؛ لأنك فاضلت بينه وبين العصا التي ما تنفع، فكيف تجعله أحسن من العصا، وبدون شك أنت ذممته، فتصديقك لله وهو لا يتوقع منه إلا الصدق كأنه معرض ذم، ولذا إذا انتهيت لا تقل: صدق الله العظيم.
وقال الشيخ عبد الله بن حميد رحمة الله تعالى عليه وقد سمعته بأذني وقد سأل في مكة عن هذه المسألة، قال: إن قاله إنسان فلا حرج إن شاء الله.
والله أعلم.(36/16)
الرياء حكمه وكيفية العلاج منه
السؤال
يقول الأخ الكريم: إنني أريد أن أعمل أعمال الخير، ولكني أحياناً أحب المدح من الناس، فما هو العلاج بارك الله فيكم؟
الجواب
الذي يعمل العمل من الخير ويحب أن يثني عليه الناس هذا هو المرائي بعينه، وهذا هو الرياء، وعلامة المرائي أمران: أولاً: أنه ينشط في الملأ ويكسل في الخلوة.
ثانياً: أنه يزيد في العمل إن أثني عليه، وينقص إن لم يثن عليه.
ومعنى هذا: أن عمله ليس خالصاً لوجه الله، وهذا هو الرياء.
وطريق العلاج أن تعمل لوجه الله، وأن يستوي في نظرك المادح والذام، فإنه والله إن مدحك الناس كلهم لن ينفعوك، وإن ذمك الناس كلهم لن يضروك؛ لأن الذي ينفع مدحه ويضر ذمه هو الله، فإذا مدحك الله تعالى ولو ذمك الناس كلهم فحسبك الله، وإذا ذمك الله تعالى وقد مدحك الناس كلهم فإن الناس لن ينفعوك وقد ذمك الله تعالى، فعليك أن تخلص لوجه الله، وأن يستوي عندك الذام والمادح في دين الله عز وجل.(36/17)
داعية يذكر قبراً يشتعل ناراً
السؤال
يقول: أحد الدعاة نحسبه والله حسيبه من خيار الدعاة في جدة ألقى محاضرة بعنوان: اليوم الآخر، وأقسم بالله إنه يوجد في البلدة التي يسكن فيها قبر يشتعل ناراً كل صلاة مغرب، يقول: كلما أذن للمغرب يشتعل هذا القبر ناراً.
الجواب
هذا الأخ صادق، فقد ذكر ابن القيم قصصاً كثيرة جداً في هذا الموضوع، من ضمن القصص التي ذكرها: أن رجلاً صالحاً في قرية من قرى العراق في زمنه، كان ماراً في الليل من أمام المقبرة فوجد حماراً ينهق في المقبرة، فدار على القرية وصلى الفجر مع أهلها، وقال لهم: يا جماعة! مقبرتكم الآن أصبحت مزبلة للحمير، وحرمة الأموات كحرمة الأحياء، فاجعلوا عليها سوراً واحموها من الحمير حتى لا تؤذي الأموات في المقبرة، قالوا: لماذا؟ قال: لأني سمعت عندما أذن الفجر حماراً ينهق في المقبرة، قالوا له: إنه ليس حماراً، ولكن هذا شاب مات منذ أيام، وهذا الشاب كانت أمه إذا أيقظته للصلاة، تقول له: قم صل، فكان ينزعج منها ويقول لها: انهقي، ولا يقوم ليصلي، فلما مات كان كلما أذن للفجر سمع له نهيقاً من قبره كنهيق الحمار -والعياذ بالله- ينهق كما ينهق الحمار وهو معذب، فهذه القصص كثيرة جداً، وقد ذكرنا الكثير منها.(36/18)
شرح أثر عن أحد السلف: (كيف وجدت الموت إلخ)
السؤال
يقول الأخ السائل: سئل أحد الصالحين: كيف وجدت الموت؟ قال: كأن السماء قد انطبقت على الأرض، وكأني أتنفس من ثقب إبرة، أذكر لنا هذا الوضع أو الشرح؟
الجواب
لا يحتاج الموضوع إلى شرح، فإنه أحد السلف لا يحضرني الآن اسمه، لما حصلت له الحشرجة وسكرات الموت ثم فرج عنه سأله أحد أولاده، قال: كيف وجدت الموت؟ قال: والله لقد رأيت كأني أتنفس من ثقب إبرة، وكأن السماوات قد أطبقت على الأرض من شدة الضيق والعذاب، وكأني أتنفس ليس من أنفي ولا من حنجرتي وإنما من خرق إبرة، ضاق نفسه! وهذا واقع؛ لأن الحشرجة والسكرات قوية، نسأل الله أن يخفف عنا وعنكم سكرات الموت.(36/19)
علاج الانتكاسة بعد الصلاح
السؤال
يقول: أنا في بداية طريقي اجتهدت في عبادة ربي من قيام الليل، وركعتي الضحى، وصيام يوم الإثنين والخميس، ولكن بعد ذلك أخذت أتركها واحدةً واحدةً؛ وذلك بسبب مصاحبتي للأشرار، أرجو منك أن تنقذني قبل أن أذهب للهاوية؟
الجواب
لا إله إلا الله! هذه المصيبة -يا إخواني- أن ينتكس الإنسان بعد أن يذوق طعم الهداية والطاعة، يقول الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3] وإن من أسوأ الأشياء -يا أخي- أن تذوق طعم الدين ثم تنتكس -والعياذ بالله- ولكن طالما وأنت تسأل هذا السؤال وأنت في هذا المسجد فطريق العلاج -يا أخي- وطريق النجاة والإنقاذ لنفسك: أن تعود إلى طاعة الله عز وجل، وأن تعرف أن هذه الدنيا فانية وأنك سوف تموت، وربما تموت هذه الليلة، أو غداً، أو بعد غدٍ، أو بعد سنة، أو بعد شهر، فعليك أن تسارع بالتوبة قبل أن يأتيك الموت وأنت على غير الهداية، فتندم ندامة لا تسعد بعدها أبداً.(36/20)
حكم التصوير
السؤال
يقول: ما حكم التصوير؟ وهل تصوير نصف الجسم جائز؟ وهل يقصد بالتصوير النحت أو صورة الكاميرا؟
الجواب
يقصد بالتصوير: التصوير اليدوي بالقلم والريشة ولا يقصد به النحت، فالنحت هو التمثيل؛ لأن حديث علي الذي فيه بعث أبي الهياج، قال: [ألا أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه؟ قال: نعم.
قال: بعثني على ألا أدع تمثالاً إلا كسرته، ولا صليباً إلا حطمته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا صورةً إلا طمستها].
فالصورة التي تكتب باليد هذه هي المحرمة، ولا يجوز للمسلم أن يصور ذوات الأرواح، وإذا كان رساماً أو فناناً أو ممن يشتغل في التربية الفنية فعليه أن يرسم ما لا روح له، مثل: الجبال، والأشجار، والأنهار، والسيارات، والطائرات، والدكاكين، والعمارات، والشوارع، والسماوات كل هذه يجوز تصويرها؛ لأنه لا روح لها، وهذا مباح إن شاء الله، أما غيرها فلا.
أما التصوير الفوتغرافي فقد اختلف أهل العلم فيه: فقال بعضهم: إنه لا يدخل ضمن دائرة التحريم.
وقال البعض الآخر: إنه محرم.
ودليل القول الأول: أن الإنسان لا يد له فيه، وإنما هو تثبيت للظل وحبس للصورة في الورق، كالمرآة إذا وقفت أمامها فإنك ترى صورتك، والوقوف أمام المرآة لم يقل أحد من أهل العلم أنه محرم، بل الرسول صلى الله عليه وسلم نظر إلى المرآة وقال: (اللهم كما زينت خلقي فزين خلقي) ولكن هذه المرآة مثل الكاميرا غير أنها تختلف عنها بأنك إذا ذهبت من أمام المرآة تذهب الصورة، أما الكاميرا فتثبت الصورة التي خلقها الله عز وجل، هذا دليل القائلين بالجواز.
ودليل القول الآخر ودليلهم أقوى: إنه لا يمكن أن يحصل التثبيت للصورة إلا بفعل من الإنسان، فالإنسان هو الذي يضبط المسافات وهو الذي صنع العدسات وأدخل الفيلم ثم طبعه، وحمضه، وصور كل شيء، فأما الآلة فليست إلا وسيلة في سبيل هذا التثبيت، ولذا فإنه ينبغي للمسلم ألا يعمل هذا.
وبعضهم اعتدل في ذلك وقال: إن كانت الصورة للضرورة فلا بأس، مثل صورة: (الحفيظة) وصورة التابعية، والجواز، والرخصة للسيارة والتي تدعو إليها الحاجة فهذا لضرورة الأمة، ولا شيء فيه إن شاء الله، وهذا هو الذي يميل إليه الشيخ: محمد بن عثيمين، والشيخ: عبد العزيز بن باز بارك الله فيهما وحفظهما ومتع المسلمين بحياتهما.
وكذلك صور المجرمين فلو لم نعرف صور المجرمين ولم يعلن عنهم من أجل متابعتهم أو القبض عليهم أو التشهير بهم لما عرفنا ذلك، فهذه فيها مصلحة إن شاء الله.(36/21)
الجراد تارة يأتي عذاباً وتارة رحمة
السؤال
يقول: انتشر الجراد وخيم على كثيرٍ من مناطق الجنوب، وخيم ضحى هذا اليوم على عددٍ من المناطق فنخشى، أن يحل بنا قارعة كقارعة اليمن الشقيق في الزلزال، أو السودان في الفيضانات وغيرها من بلاد العالم؟
الجواب
نقول يا أخي الكريم! نحن فعلاً كنا نخشى أن تصيبنا أو أن تصيب أي مسلم في كل بقعة من بقاع الأرض أي مصيبة أو قارعة أو زلزلة؛ لأن الناس عرضة لهذه المصائب، خاصة إذا أعرضوا عن دين الله عز وجل، فكلما أنعم الله على العباد ولم يشكروه فإنما يعرضون أنفسهم لسخط الله وغضبه، ولكن الجراد كما يقول أهل العلم: الجراد مثل المطر، يأتي أحياناً رحمة ويأتي أحياناً نقمة، فإذا جاء الجراد والناس جائعون فهو رحمة من الله بهم، وقد كان الناس في الماضي يعرفون هذا، وأنا أذكر أننا كنا نعتبر مجيء الجراد من أعظم نعم الله علينا -كان غوثاً من الله تعالى- يتابعه الناس ويمسون حيث أمسى ويسيرون كلهم برجالهم وحميرهم ودوابهم وجمالهم، ويعبئون الأكياس والبطانيات وكل شيء، وبعد ذلك يطبخونه في اليوم الثاني أعياد في البيوت، انظروا القدور مليئة بالجراد، ثم بعد ذلك يضعونه في المجالس -يفرغون المجالس كلها للجراد المطبوخ- ثم يقفلون عليها بالأقفال، ثم يأكلون سنة وسنتين وثلاث سنوات جراداً، هذه نعمة من الله عز وجل أحياناً، وأحياناً يأتي عذاباً، أي: عندما تكون الثمار جيدة وكل شيء ناضج ساقه الله فأكل الأخضر واليابس.
وأذكر أنه جاءنا مرة تقريباً قبل خمسة وعشرين سنة جاءنا في وقت الظهر وما أتى المغرب إلا وما تجد في أبها ورقة خضراء! أكل الشجر حتى تركها مثل الحطب، وأكل المزارع والقضبان وأكل الأشجار، حتى الريحان الذي في البيوت والله إنه أكله، ولا ترك على عودٍ ورقة فهو عذاب مرة ورحمة مرة بحسب وضع الناس، مثل المطر: يأتي غيثاً ويأتي تدميراً، فلا يحكم به على كل حال بأنه عذاب.(36/22)
حكم من قتل نفسه متعمداً
السؤال
يقول: يوجد لي صديق عزيز عليَّ وقد قتل نفسه متعمداً نظراً لفشله في الدراسة، ونعلم من الحديث الصحيح: (أن من قتل نفسه فهو خالدٌ مخلدٌ في النار) فهل يجوز لي أن أترحم عليه، وأن أدعو له بالرحمة؟
الجواب
من قتل نفسه -أيها الإخوة- فهو كافر في النار لما روي في صحيح البخاري وصحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام: (من تردى من جبلٍ فهو في نار جهنم يتردى إلى أم رأسه إلى يوم القيامة، ومن احتسى سماً فهو يحتسيه في نار جهنم، ومن طعن نفسه بحديدة فهو يتوجأ بها في النار إلى يوم القيامة).
وفي صحيح البخاري من حديث جندب بن جنادة رضي الله عنه: (أن رجلاً خرج فجرح في المعركة فما صبر، فقطع يده من أكحله حتى سال دمه ومات، فقال الله عز وجل: عبدي ابتليته فما صبر بادرني بروحه فهو للنار) والعياذ بالله.
فهذا الذي قتل نفسه يقول العلماء: إن كان موحداً مصلياً مات على الإسلام وقتل نفسه فإنه سيعذب بمشيئة الله عز وجل، أو يغفر الله له بمشيئته، ولكن نهايته إلى الجنة، فيجوز لك أن تترحم عليه.
أما إذا علمت أنه كان كافراً لا يصلي، وكان -والعياذ بالله- في دينه قدح فإنه لا يترحم عليه؛ لهذا السبب؛ ولأنه في الأصل كافر، هذا هو تحقيق أهل العلم في هذا الموضوع.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يرزقنا وإياكم الإيمان والهداية.
والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(36/23)
غمرات الموت
إن ظلم العبد لنفسه أو لربه أو لغيره لذنب عظيم يحتاج إلى توبة ورجوع إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يقلع عن هذا الظلم إلا الصادقون مع الله سبحانه وتعالى، وإن من أعظم ما يعين المرء على ترك الظلم بكل أنواعه هو تذكر الموت وغمراته وشدة النزع عند توديع الدنيا والإقبال على الآخرة، فمن تذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات فإنه حري به أن يتوب ويرجع إلى الله سبحانه وتعالى، ويحسن عمله فتحسن خاتمته إن شاء الله.(37/1)
أقسام الظلم
هذا اليوم الموافق للرابع والعشرين من شهر رجب، سنة 1406هـ، وهو ضمن سلسلة دروس تأملات قرآنية، وتأملاتنا هذه الليلة ستكون بعنوان: (غمرات الموت) وهذا العنوان مأخوذ من آية قرآنية من سورة الأنعام، التي لا تزال تأملاتنا في آياتها، يقول الله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93] هذه الآية الكريمة توضح مشهداً مفزعاً مرعباً للظالم لنفسه، وللظالم لربه، وللظالم لغيره الذي تجاوز حدود الله، وانتهك محارم الله، وضيع شريعة الله، ثم حانت فرصة القبض عليه في محبس يقال له: الموت، لا يستطيع أحد أن يفلت من قبضة الله عند الموت.
{وَلَوْ تَرَى} [الأنعام:93] لو ترى يا محمد! والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لو ترى يا محمد! ولو ترى يا مسلم! لو ترى الظرف والمناسبة والمشهد المفزع للرجل الظالم وهو في لحظات الموت، الظلم ثلاثة أقسام:(37/2)
ظلم العبد لربه سبحانه وتعالى
الظلم الأول: ظلم العبد لربه: وهو بأن يشرك به، قال عز وجل حكاية عن لقمان وهو يعظ ابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
وهو في تعريفه اللغوي: وضع الشيء في غير موضعه.
فالعبادة الموضع الشرعي لها أن تكون لله؛ لأنه المعبود بحق، وهو الذي يستحق العبادة؛ لأنه هو الخالق، وما دام هو الخالق لوحده فيجب أن يكون هو المعبود لوحده، فإذا قدمت عبادة لغير الله فإن هذا ظلم؛ لأنه وضع للشيء في غير موضعه، ولهذا يقول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
والشرك ثلاثة أقسام باختصار: أولاً: شرك أكبر مخرج من الملة، مخلد لصاحبه في النار، يقول الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] ولو صلى وصام وتصدق وحج وعمل عملاً كالجبال لكنه أشرك، قال الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23]، وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
وتعريف الشرك الأكبر: هو أن تصرف نوعاً من أنواع العبادة مما لا يصرف إلا لله لغير الله، مثل: الدعاء، والدعاء هو العبادة، وفي الحديث الصحيح: (الدعاء مخ العبادة) ولا يدعى إلا الله، لا تدع نبياً، ولا تدع ولياً، ولا تدع صالحاً، ولا تدع ملكاً، ولا تدع جنياً، ولا تدع إنسياً، ولا تدع إلا الله، يقول الله عز وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60] أي: عن دعائي {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
ولهذا يصرف بعض الناس الآن الدعاء لغير الله، وهو لا يدري، فيقول: يا نبي! المدد، يا نبي، يا ولي!، يا جني! وبعض الألفاظ الشائعة على بعض ألسنة الجهلة يقول: خذوه يا عفاريت! يا جن! ويقول: هذه لهجة، لكنها شركية، إذا اعتقدها صاحبها وتوجه بالدعاء إلى غير الله أشرك بالله، ولم ينتفع بعد ذلك بعبادة.
النذر يجب ألا ينذر إلا لله، الذبح لغير الله شرك، والطواف بالقبور، فلا يوجد طواف إلا ببيت الله، فمن طاف بقبر أو ضريح أو بأي شيء فإنه شرك.
فالطواف عبادة، وإذا طيف بهذا القبر عُبد من غير الله، أجل شرك.
كذلك التوكل الرغبة الرهبة الخشية الخشوع الخضوع الاستعانة الاستغاثة، كل أنواع العبادة هذه لا تصرف إلا لله وحده، فمن صرفها لغير الله فقد كفر أو أشرك.
ثانياً: شرك أصغر لا يخرج من الملة، ولكنه من أكبر الكبائر، وإذا استمر عليه الإنسان نقله إلى الأكبر، لا يستمر صغيراً لا يوجد صغير دائم، هل رأيتم إنساناً يعيش صغيراً دائماً؟ لا.
حتى الذنوب التي هي صغار مع الزمن تصبح كباراً، يقول الشاعر:
لا تحقرن من الذنوب صغيرا إن الصغير غداً يصير كبيرا
إن الصغير وإن تقادم عهده عند الإله مسطر تسطيرا
الشرك الأصغر مثل الرياء وهو: أن يعمل الإنسان عملاً لله في أصله، لكن يدخل عليه تحسينات من أجل أناس، يعني: شخص دخل المسجد وهو ما أتى يصلي إلا لله، ما عندنا شك أنه ما أتى يصلي للناس، لكن لما أخذ يصلي جعل ينظر وإذا هناك شخص ينظر إليه وله عنده مصلحة؛ فضبط الصلاة لكي يراه الشخص فيقول: والله فلان ما شاء الله! هذه الصلاة عنده! فأصل العمل لله لكن خالطه بعمل لغير الله فهو شرك لكنه أصغر.
أما إذا قصد الإنسان بالعمل أصلاً غير الله فهو شرك أكبر، مثل: الحلف بغير الله كالذي يحلف بالطلاق، أو يحلف بالنبي، أو يحلف بالأمانة، أو يحلف بأي شيء من غير الله، هذا شرك أصغر، لكن يقول العلماء: إن قصد به تعظيم المحلوف به صار شركاً أكبر، إذا كان يعتقد أنه لو حلف بالله يرى أنها يمين بسيطة، لكن لو حلف بالطلاق يرى أنه أعظم، وهذا عند كثير من الناس -خاصة الجهلة منهم- إذا أراد أن يقسم على قضية: إما على ضيوف، أو يريد أن يؤكد موضوعاً، أو يقول صدقاً، ويعلم أنه لو حلف بالله أن الناس لن يصدقوه فيطلق لكي يثبت للناس أنه صادق، هذا عدل عن الحلف بالله لتعظيم المحلوف الآخر وهو الطلاق، والناس لو حلف لهم بالله جعلوه يحنث، وإذا حلف عليهم بالطلاق يصدق، يعني: لو يأتيه ضيوف ويقول لهم: والله ما تذهبون، قالوا: جزاك الله خيراً، وخرجوا وتركوه، لكن لو قال: عليَّ الطلاق ما تذهبوا، فهل سيذهبون أو يجلسون؟ يقولون: لا تحرموه أولاده، لكن احرموه دينه، عرض عليهم وجه المرأة فأطاعوه، وعرض عليهم الله عز وجل فرفضوه، هذا ينقلب إلى شرك أكبر.
ثالثاً: الشرك الخفي، وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم وبين درجة خفائه وقال: (الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء) وتصوروا نملة سوداء، في ليلة ظلماء، على صخرة صماء، من يراها؟ الشرك أخفى منها وهو قول العبد: ما لي إلا الله وأنت، أنا متكل على الله وعليك، ومثل هذه الألفاظ، ولذلك شرع الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته وعلمهم دعاء يكفرون به مثل هذه الأمور وهو قول العبد: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم) هذا الظلم الأول: الشرك.(37/3)
ظلم العبد لنفسه
الظلم الثاني: ظلم العبد لنفسه.
وهذا يكون باقتحام محارم الله وترك أوامره، يقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1]، لمَّا تنظر إلى الحرام من ظلمت؟ نفسك، لماذا؟ لأنك سببت لنفسك عذاباً بأن تمتلئ أذنك وعينك هذه من جمر جهنم، إذاً أنت ظالم، أنت تتصور بنظرك للنساء والحرام أنك ترتاح، وهذا ظلم لنفسك، إذا استمعت إلى أغنية فقد ظلمت نفسك؛ لأنك سببت لنفسك بسماعك لهذه النعمة عذاباً: (من استمع إلى مغنٍ أو مغنية صب الله في أذنه يوم القيامة الرصاص المذاب) إذا وقع العبد في الزنا فقد ظلم نفسه؛ لأنه جر على نفسه فاحشة وفضيحة تدمره في الدنيا والآخرة: (ما عصي الله بذنب بعد الشرك أعظم من نطفة يضعها في فرج لا يحل له)، (ومن زنا بامرأة في الدنيا كان عليه وعليها في القبر نصف عذاب هذه الأمة)، (ووالذي نفس محمد بيده إن ريح فروج الزناة ليؤذي أهل النار) ويأتي الزاني يوم القيامة ويوقف بين يدي الله فتسقط فروة وجهه بين قدميه خجلاً من الله، فضيحة، لا حول ولا قوة إلا بالله! فعندما يزني العبد ماذا يحصل له؟ ظلم لنفسه.
عندما تأكل حراماً: ربا رشوة مخدرات سرقة خيانة غش، من تظن أنك ظلمت؟ تتصور أنك ظلمت الناس؟ لا.
ظلمت نفسك؛ لأنك تأكل حراماً، لأن كل المسلم على المسلم حرام، ولا يجوز أن تأكل درهماً ولا (ريالاً) ولا (هللة) على مسلم، كيف تأكل حراماً؟! فتظلم أخاك وتظلم نفسك.
من ظلم العبد لنفسه: ترك أوامر الله، عندما يسمع الأذان وينام ولا يقوم ليصلي هذا ظالم لنفسه؛ لأن الله دعاه إلى إنقاذ نفسه فظلمها، الذي يهجر القرآن ولا يقرؤه ظالم لنفسه؛ لأنه فوت على نفسه أرباحاً طائلة من الحسنات لا يعلمها إلا الله.
الذي لا يذكر الله في الصباح ولا في المساء ولا في سائر الأحوال ظالم لنفسه، الذي لا يدعو الله ولا يهتم بأمر المسلمين ولا يهتم بهذا الدين ظالم لنفسه: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1].(37/4)
ظلم العبد لغيره
الظلم الثالث: ظلم العبد لغيره.
وهذا من أشد أنواع الظلم، ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفره الله وهو الشرك، وديوان لا يغادر منه شيء وهو هذا الظلم؛ لأنه حقوق عباد، وحقوق العباد قائمة على المشاحاة، وديوان يغفره الله إذا تاب العبد وهو الذي بينك وبين الله؛ لأن حقوق الله قائمة على المسامحة، وإذا تبت تاب الله عليك.
أما حقوق الناس فلا.
فظلم الغير ظلم، إما بهتك عرض، أو بسرقة مال، أو بإراقة دم، أو بغيبة، أو بعدوان، أو بأي نوع من أنواع الظلم، والظلم قد حرمه الله، والحديث في مسلم، حديث قدسي يقول الله عز وجل: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، (الظلم ظلمات يوم القيامة) خصوصاً من لا يجد عليك ناصراً إلا الله، وهذا دائماً هو الذي يظلم.
أما الكبير فلا أحد يقدر على ظلمه، لكن يقع الظلم غالباً على الطبقات السفلى، العامل يظلمه سيده: يظلمه بعمل شاق، يظلمه بتأخير إيجار، يظلمه بإساءة التعامل، يظلمه باحتقار وامتهان، لا، هذا يصبر على الظلم، لكنه عليك يرفع برقيات في الليل يدعو عليك، والله عز وجل يفتح أبواب السماء لدعوة المظلوم، يقول عليه الصلاة والسلام: (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) تفتح لها أبواب السماء تسري بليل، لا تظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله؛ لأنك إذا ظلمت شخصاً ضعيفاً ثم دعا عليك دعا عليك قوياً، وأنت لا تستطيع أن تمتنع من الله عز وجل.
ظلم الزوجة، بعض الناس يمارس ضغطاً وظلماً على زوجته في التعامل السيئ، تجده طيباً وخلوقاً ومبتسماً ومنشرحاً مع الناس، فإذا دخل البيت غَيَّرَ الموجة: الابتسامة للناس، والنكتة للناس، والمزح للناس، لكن مع الزوجة القهر، والشدة في التعامل، والأوامر، والتسلط، والعنف، لماذا؟ من أخبرك أن هذا دين؟! بعضهم يقول: أريد أن أثبت شخصيتي، يقول: المرأة إذا ضحكت لها وكنت طيباً معها ركبت عليَّ، فأنا أريد أكون أعلى دائماً، من قال لك هذا الكلام؟ هذا الكلام غير صحيح، الصحيح أن تكون طيباً معها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طيباً مع أهله، كان يقول: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) والله سبحانه في القرآن يوصي الأمة ويقول: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يودع الأمة في مرض وفاته: (الله الله في الصلاة -ثم قال:- ألا فاتقوا الدنيا، ثم أمر بالنساء قال: استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان) يعني: أسيرات، المرأة مسكينة أسيرة؛ فيجب أن تحسن معاملتها، وتحسن التعامل معها، وتبتسم في وجهها، وترفق بها، وأيضاً في نفس الوقت تتحملها، حتى لو تكلمت؛ لأنها لا تملك إلا الدفاع عن نفسها بالكلام، ليس بيدها شيء، بيدك أنت أن تطلق، وبيدك أن تضرب، وبيدك أن تهجر، وبيدك أن تتكلم، لكن هي لا تقدر على تطليقك، أو ضربك، أو هجرك؛ لأنها ضعيفة، فإذا أنت أحرقت أعصابها وسخنتها مرة واحدة، ودافعت عن نفسها بكلمة: اسكت، لكن بعض الرجال يريد آخر كلمة له ويريد أن تسكت هي، لماذا؟ أليست إنساناً؟! لا يجوز هذا.
هذا رجل جاء يشتكي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه من سلاطة لسان زوجته، فلما وقف بالباب يطرقه وإذا به يسمع زوجة أمير المؤمنين تتكلم على عمر بن الخطاب؛ الذي تهابه الجن والإنس! الجن لا يمشون في طريقه، والإنس تهتز له كراسي كسرى وقيصر، ولكن زوجته تتكلم عليه، فلما سمع الرجل المرأة تتكلم وعمر ساكت مشى قال: لستُ بأحسن من عمر، ففتح عمر الباب وإذا بالرجل قد ولى، فدعاه، قال: مالك؟ قال: لا شيء يا أمير المؤمنين! قال: عندك شيء ماذا تريد؟ قال: جئت أشكو زوجتي إليك؛ لأنها تتسلط عليَّ بلسانها، فسمعت زوجتك تتسلط عليك بأكثر من تسلط زوجتي عليَّ فسكت وقلت: لي فيك قدوة، فقال له: تعال يا أخي، ثم قال له: ألا يكفي أنها طاهية لطعامي، ومربية ولدي، وغاسلة ثوبي، وقاضية حاجتي؟! من يعمل لك هذه الأربعة: تربي ولدك، وتغسل ثوبك، وتطهو طعامك، وتقضي حاجتك!! تتحملك في كل شيء، ولا تتحملها في كلمة، إذا قالت كلمة فقل: حسناً، واخرج، وارجع ومن يوم ترجع ابتسم وهي تبتسم وانتهت المسألة، لكن بعضهم يجلس شهراً غضبان من أجل كلمة قالتها له، وربما يصل الأمر به إلى الطلاق، وإلى تشتيت شمل الأسرة؛ لسوء تصرفه، ولرعونته في أخلاقه؛ ولأنه ظالم، يريد كل شيء له ولا أن يريد يعطي المرأة شيئاً.
فظلم المرأة حرام، والمرأة التي تظلم من قبل زوجها ثم تدعو عليه فإن الله عز وجل ينتقم منه إما في الدنيا وإما في الآخرة.
فظلم الغير هذا نوع من أنواع الظلم وهو حرام.(37/5)
أدلة إثبات سكرات الموت
هؤلاء الظالمون لهم وضع عند الموت، وفي غمرات الموت، والله عز وجل سمى تلك اللحظات غمرات، والعلماء يقولون: معناها أن الآلام والمصائب والأحزان والشعور بالخوف والرعب والرهبة تغمر الإنسان غمراً فلا يستطيع أن يعرف شيئاً في تلك اللحظات، ولا يتصور العقل البشري مقدار آلام الإنسان في لحظات الموت، حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيد البشر سيد ولد آدم أفضل خلق الله ما سلم من تلك السكرات، كان عند الموت يدخل يده في ركوة عنده فيمسح بها جبينه ويقول: (إن للموت لسكرات، إن للموت لسكرات، إن للموت لسكرات) إذا كان هذا خير خلق الله فكيف بي وبك وكيف بنا أيها الإخوان؟! ويقول العلماء: إن آلام وسكرات وغمرات الموت لا تعلم إلا بطريقين: إما بطريق سمعي يعني: دليل شرعي.
أو بطريق عقلي.(37/6)
الدليل العقلي على سكرات الموت
قالوا: أما العقلي فمتعذر؛ لأنه لا يوجد شخص مات وذاق ألم الموت ثم رجع وأخبر الناس بآلام الموت، لا يوجد كل واحد يأخذها ويذهب ولا يرجع مرة ثانية، ولكن قالوا: عقلي عن طريق القياس، قالوا: كيف؟ قالوا: نقيس، ما معنى الموت أصلاً؟ الموت: هو مفارقة الروح وإيذاء الروح في كامل أجزاء الجسد فيحصل للإنسان ألم، حسناً إذا أخذت سكيناً وقطعت في إصبعك قطعة بالسكين أو أخذت إبرة ووخزت بها جلدك أو أخذت قطعة نار أو عود ثقاب وأشعلت به إصبعك، ماذا يحصل؟ يحصل ألم، لماذا؟ لأن الروح أوذيت في هذا الجزء فيترتب على هذا ألم، فإذا أوذيت الروح ليس في الإصبع بل في كل جزئية، في كل شعرة، في كل بشرة، في كل عظم، في كل قطرة دم، في كل خلية من خلايا جسمك تنزع الروح منها كيف يكون الألم؟ لا يتصوره العقل، الآن لما آخذ عشر إبر وأدقها في ظهر شخص هل ألمها مثل ألم إبرة أم عشرة أمثال؟ عشر إبر، فإذا أخذت مائة إبرة كيف يكون ألمها؟ كألم الإبرة مائة مرة، والموت مثلها؛ لأن الروح تخرج من كل شعرة وبشرة، ومن كل ظفر وعظم، ومن كل مفصل وقطرة دم، ولهذا تنزع الروح، وهذا يجده البر والفاجر الطيب والخبيث المؤمن والكافر الكل يحس بألم سكرة الموت؛ لأنك الآن لو جئت إلى مسلم طيب بر دين تقي، وآخر فاجر خبيث، ودقيت هذا بإبرة وهذا بإبرة ألا يجدون الألم كلهم سواء؟ سيجد هذا الألم الطيب والفاجر سواء، ففي الحياة الآلام تقع على الطيب والفاجر سواء، لكن المؤمن يخفف عنه، فتخرج روحه كما جاء في الحديث بسهولة، الحديث صحيح في مسند أحمد في سنن أبي داود عن البراء بن عازب رضي الله عنه والحديث طويل قال: (إن المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة، نزلت ملائكة من الجنة، ومعها مسوح من الجنة، وحنوط من الجنة، وكفن من الجنة، فيجلسون له على مد البصر، ثم يأتي ملك الموت فيقول: يا أيتها الريح الطيبة! كانت في الجسد الطيب اخرجي إلى روح وريحان، وإلى رب غير غضبان، قال: فتخرج روحه) تخرج بلطف كما تخرج القطرة من فم القربة، الله عز وجل يجمع الروح وتخرج مرة واحدة، هذه سكرة الموت، لها ألم لكنه خفيف.
(فلا يدعونها في يده طرفة عين حتى يأخذوها في ذلك الحنوط والكفن ويصعدون بها إلى السماء، ولها ريح كأطيب ريح وجد على ظهر الأرض) إلى آخر الحديث.
قال: (وأما العبد الفاجر أو الكافر، إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة، جاءت ملائكة من النار معها مسوح من النار، وكفن من النار، فيجلسون له مد البصر، ويأتي ملك الموت ويقول: يا أيتها الروح الخبيثة! كانت في الجسد الخبيث اخرجي إلى عذاب من الله وغضب، قال: فتتفرق -تهرب الروح ما دام أنه دعاها إلى غضب وإلى لعنة أين تذهب؟ - قال: فتتفرق وتتشبث -تقعد في كل أجزاء الجسم- قال: ثم يجذبها -وشبه الجذب- كما يجذب السفود من الصوف المبلول) السفود: الحديدة ذات الشعب المتطرفة، تدخلها في صوف، والصوف مبلول أو القطن المبلول، ثم تطلعها، كيف تعمل فيه؟ تمزعه من كل جهة، كذلك الروح تخرج من جسد الفاسق والكافر على هذا الوضع فلا يدعها في يده طرفة عين حتى يأخذوها ويضعوها في ذلك المسوح من النار، ثم يصعدون بها إلى السماء، ولها ريح كأنتن ريح جيفة وجدت على ظهر الأرض، ثم في السماء الروح الطيبة تفتح لها أبواب السماء، والروح الخبيثة تغلق عليها أبواب السماء، وترمى إلى النار كما جاء في القرآن الكريم يقول الله عز وجل: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] إذا دخل البعير في خرق الإبرة أدخلهم الجنة، علقهم على المستحيل، يعني: أنهم لن يدخلوا الجنة.
هذه أيها الإخوة! هي مختصرة من قضية غمرات الموت من الدليل العقلي.(37/7)
الدليل السمعي على سكرات الموت
أما الدليل السمعي الشرعي فقد جاء، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في ساعة الاحتضار: (إن للموت لسكرات) فدل هذا الكلام على أن هناك آلام لم يسلم منها حتى خير خلق الله وأفضل من عبد الله وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما دام أنه تعرض لها هو صلى الله عليه وسلم فنحن سنكون عرضة لها من باب أولى، نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يخفف عنا وعنكم تلك اللحظات.
وحتى نستعد لها سوف نناقش القضية بنوع من المساءلات والوقفات الجادة مع النفس.
أخي المسلم: -أنا وأنت- ماذا تفعل لو جاءك الموت الآن؟ الآن أنت تقابل الله، والروح في تغرغرها، وقد بلغت الحلقوم، فكيف يكون حالك؟ إنهم الآن يقفون عندك وبجوارك، هذا يبكي وذاك يصيح وذاك يتلوى وذاك يتألم وبعد لحظة خرجت الروح، وبدءوا يغسلونك، وفي الأكفان يضعونك، وفي القبر بعد أن صلوا عليك يتركونك، وبالحصى والطين يغطونك، فهل فكرت واستعددت لهذا العمل؟ هذا الكلام عندما نقوله للناس كأنه على الناس الآخرين!! أما نحن لا لن نموت ولن ندخل القبور! نحن سنرجع بعد إلى (الفيلا) والقصر وإلى العمارة وإلى الزوج، ومتأخر؟ لا، ليس متأخراً، ممكن يكون هذه الليلة، ممكن يكون غداً، ممكن بعد سنة، وهب أنه بعد عشر سنوات، وهب أنه بعد أربعين سنة ألست ستموت؟
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول(37/8)
مراحل أهوال يوم القيامة
يا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، يغلقون عليك القبر بالتراب، ويودعك الأهل والأحباب والأصحاب، وتواجه في القبر لوحدك السؤال والحساب، فأين الدنيا؟ أين المال؟ أين الولد؟ أين المنصب؟ أين الجاه؟ أين الرصيد؟ لا شيء، ليس معك إلا العمل، ويأتيك منكر ونكير ملكا السؤال ليسألانك، ويشددان في السؤال، وإلى هنا لا تزال القضية صعبة؛ لأن الملائكة لا يدرون، هؤلاء الذين في القبر منكر ونكير لا يدرون ماذا عندك؟ وهل أنت مؤمن أم فاجر؟ لا يدرون، ولهذا يوجهوا لك السؤال بقوة وبعنف، من ربك؟ ولهذا جاء في الحديث قال: (ملكان أزرقان ينتهرانه) انتهار! والإنسان ضعيف إذا جئت تنهره تذهب منه حتى المعلومات، وتتبدد منه الأفكار، فينتهران الإنسان، لكن الله يثبت المؤمن -أسأل الله أن يجعلني وإياكم من المؤمنين، وأن يثبتنا وإياكم في الدنيا والآخرة- يقول الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] ولولا تثبيت الله، والله لو أن عندك كل المعلومات فإنها تضيع في تلك اللحظات، لماذا؟ لأنها لحظات حرجة، القبر وشدته، واللحد وظلمته، والملائكة ونهرتها، وأنت ما معك أحد، وعرفت أنه ليس هناك دنيا، وليس معك أحد تضيع المعلومات من رأسك، لكن الله يثبتك، فينتهرانك ويشددان عليك في السؤال، فهل يا ترى تجيب أم تتلعثم ويغلق عليك الجواب؟ وبعده الدود يمزق الأكفان، ويأكل اللحم، وينخر العظام، ولو يفتح على الميت في ثالث يوم، الله أكبر! منظر عجيب، ينتفخ البطن، وتسري الهوام والديدان، وتنبعث الروائح، ويصبح للإنسان منظر لا يتصوره العقل، فأين لذاتك؟ أين فراشك؟ أين شهواتك؟ أين ملابسك التي لصيفك وشتائك؟ أين بخورك وعطرك؟ لا إله إلا الله! هاأنت تخرج من قبرك يوم القيامة عارياً كما ولدتك أمك: (يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة غرلاً غير مختونين، قالت عائشة: يا رسول الله! الرجال والنساء؟ -يعني سواء الرجال والنساء ليس هناك ملابس- واسوأتاه، قال: الناس قد شغلهم أمر غير ذلك) لا أحد يتلفت لأحد، الناس شاخصة أبصارهم إلى السماء.
تخرج عارياً لتعرض على أول محطة من محطات الحساب وهي الميزان، ثم هل يثقل ميزانك، أم يطيش؟ والموازين تثقل بالحسنات وتطيش بالسيئات، طارت صحائف الأعمال، وجئت في الموقف الثاني وهو أخذ الكتب، فآخذ باليمين وآخذ بالشمال: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [الانشقاق:7 - 13] كان مبسوطاً {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق:14] ظن أنه لن يموت ويرجع إلى الله، آخذ باليمين وآخذ بالشمال.
فاسأل نفسك يا أخي: ماذا تتوقع؟ هل تأخذ كتابك بيمينك، أم تأخذه بشمالك؟ هل أنت تمشي في اليمين الآن، أم تمشي في اليسار؟ هل أنت تعكس السير إلى الله، أم تمشي مع الكون كله إلى الله؟ أنت تعرف.
هذه العين لها مسار إلى اليمين وهو النظر في ملكوت الله، والنظر في كتاب الله، والنظر في مصالحك، وفيه مسار واتجاه عكسي وهو النظر فيما حرم الله.
هذه الأذن لها مسار صحيح وهو سماع القرآن والذكر والعمل الصالح، ولها مسار غلط وهو سماع الغناء والغيبة والنميمة، هذا اللسان له مسار صحيح وهو ذكر الله وتلاوة القرآن والدعوة إلى الله، وله مسار غلط وهو الغيبة والنميمة واللعن والزور والفجور.
هذا الفرج له مسار صحيح وهو الحلال، وله مسار غلط وهو الزنا واللواط والحرام وهكذا.
فهل تتوقع أن تأخذ كتابك بيمينك وأنت تمشي في اليسار؟! لا يمكن المغالطة؛ لأن الله لا يُغَالَط.
وتأتي المحطة الثالثة: الصراط، أدق من الشعرة، أحد من السيف، أروغ من الثعلب، والجنة هناك والنار تحته، ولا يوجد طريق إلا من على ظهره، يا ترى هل تتجاوز أم تسقط؟ وعلى أي شيء تتجاوز؟ ما هي وسيلة العبور؟ (كبري) طائرة سيارة قدم؟ لا.
إنها وسيلة واحدة وهي العمل، إذا كان عندك عمل تعبر، وإن لم يوجد تسقط، والناس يتجاوزون الصراط بناءً على أعمالهم ويتفاوتون في السرعة بتفاوت مراتبهم، حتى قال عليه الصلاة والسلام: (منكم من يمر كلمح البصر، ومنكم من يمر كالبرق، ومنكم من يمر كأجاود الخيل، ومنكم من يمر كأجاود الركاب، ومنكم من يمر كأشد الرجل -يعني: مثل الرجل المسرع- ومنكم من يمشي خطوة ويعثر بالثانية، ومنكم من يضع قدمه على الصراط والثانية في النار) ما يمشي خطوة واحدة على الصراط؛ لأنه ما مشى خطوة واحدة في طريق الله، والذي يمشي في طريق الطاعة وفي طريق الله يمشي بسرعة هناك.
رؤي سفيان الثوري رحمة الله عليه من السلف الصالح بعد وفاته، قيل له: ما صنع الله بك؟ قال: وضعت قدمي الأولى على الصراط والثانية في الجنة.
ما أبطأ، لديه عمل صالح، رحمة الله تعالى عليهم.
حتماً وحقاً وصدقاً ستواجه هذه الأهوال، وستقف بين يدي الله، وستسأل عن أعمالك: صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، فهل أحضرت للسؤال جواباً؟ {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:92]، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:24 - 25].(37/9)
كيفية تحقيق العبودية لله
أخي في الله! إن الله لم يخلقنا عبثاً حتى نعيش فترة العمر في عبث، ولم يتركنا الله عز وجل هملاً حتى نعيش عيشة الهمل، لقد حدد الله عز وجل الغاية من خلقنا، فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وبين لنا المنهج وقال: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] يقول ابن عباس: [تكفل الله لمن اتبع القرآن -وهو الهدى- ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة].
لكن قال: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [طه:123 - 124] أي: عن هداي {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:124 - 127] هذا هو المنهج هدى تمشي عليه لا تضل في الدنيا ولا تشقى في الآخرة، تعرض عنه تضل في الدنيا وتعذب وتشقى الشقاء الذي ليس بعده سعادة.
فيا من تريد الحياة الطيبة! وتريد حسن المآل والمقام في الآخرة! يقول الله لك: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ويقول: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النساء:134].
هل قمت بواجب العبودية؟ أنت عبد، والله خلقك للعبادة، هل أصبحت اهتماماتك اهتمامات الدين، أم أن اهتمامات الناس محصورة في الطعام والشراب والسهر والعبث؟ اهتمامات محصورة في الشهوات: شهوات البطون ومتع الفروج، وملذات الأجساد، وتجد أفكار الناس في هذا كله، أين اليوم وأين نسهر؟ والليلة ماذا نرى؟ وماذا نشهد؟ وأين نتمشى؟ وماذا نتغدى؟ وماذا نتعشى؟ وأين نذهب؟ فقط! لكن: ماذا نقرأ من كلام الله؟ كم نصلي؟ كم نذكر الله؟ كم ندعو إلى الله؟ كم نفكر في الجنة؟ كم نفكر في النار؟ كم نستعد للقبر؟ كم نعرف هذه الحياة؟ هذه موجودة عند قليل من الناس، إنما الجل من الناس اهتماماتهم دنيا، هل آمنوا هؤلاء بالقبر وبعذاب القبر وغمرات الموت؟ لا أيها الإخوة! ستذهب الأيام، وتكتب الآثام، ويبكي الإنسان بكاءً لكن لا ينفع البكاء ولا تنفع الملامة، يا أسفاً لك يا أخي إذا جاءك الموت ولم تتب! ويا حسرة لك إذا دعيت إلى التوبة ولم تجب!(37/10)
أهمية التوبة والمحاسبة في تحقيق العبودية
اسمع إلى هذا الموقف وهذه القصة، وتدبر ما فيها من عبرة: كانت امرأة جميلة لها جمال بارع، أمرها قوم وأغروها بمال أن تتعرض لعابد زاهد من عباد الله الصالحين اسمه الربيع بن خثيم، وكان هذا معروفاً بجماله، كان جميلاً كأشد ما يكون من الجمال، حتى أن المرأة إذا نظرت إليه لا تستطيع أن تملك نفسها، وقيل عنه: إنه كان يغطي على جزء من وجهه حتى لا يفتن النساء، ولكن كان مع هذا من أعظم عباد الله خوفاً من الله، فقام مجموعة من الفساق ودعوا امرأة وقالوا لها: إن فعلت وصرفت الربيع فلك ألف درهم.
قالت: ولكم فوق هذا أن يزني وأن يفعل؛ لأنها على جانب كبير من الإغراء والجمال، وطمعت في الألف، وأرادت أن تفتنه وأن ينحرف عن طريق ربه، ولبست أحسن ما قدرت عليه من الثياب، وتطيبت بأطيب ما قدرت عليه من الطيب، وانتظرت الربيع حتى خرج من المسجد بعد صلاة العشاء وهو راجع إلى بيته، واختفت في مكان لا يراها فيه أحد حتى تهيئ المكان الذي يستطيع أن يسقط وأن يضعف؛ لأنه إذا رآه الناس قد يستحي، لكنها تريد أن تخلو به، وإذا خلت به يكون هناك واحد ثالث وهو الشيطان، فتستعين بالشيطان حتى تقهر هذا الرجل الصالح.
ولما رآها الربيع رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه أحس بغدرها، وأدرك خطورة مكرها، فأراد أن يعظها لعلها أن تهتدي، فقال لها: يا أمة الله! كيف بك إذا نزل المرض بجسمك فغير ما أرى من لونك.
يا أمة الله! كيف بك إذا نزل بك الموت فقطع منك حبل الوتين.
يا أمة الله! كيف بك إذا سألك منكر ونكير في قبرك.
ذكرها بالموت وذكرها بالقبر وبالسؤال، فارتعدت، ثم سقطت، ثم بكت، ثم ولت وانصرفت باكية، ومن ذلك اليوم تابت إلى ربها وأنابت، وتعاهدت وعاهدت على الاستقامة والسير في طريق الله حتى ماتت، فكانت تتعبد لله في محرابها، وكلما ذكرت معصيتها غمرها البكاء، ولم تفارق الدنيا حتى عرفت بكثرة العبادة لربها، وبلغت من عبادتها لربها أنها كانت يوم أن ماتت كأنها جذع محترق، من كثرة وقوفها ومن كثرة خشيتها لله عز وجل، احترقت من بكائها وخوفها من الله! أخي المسلم: ألست أنا وأنت أصحاب الخطايا؟ أين دموعنا؟ ألسنا أسير المعاصي والذنوب، أين بكاؤنا؟ هل نسينا الذنوب وصحفنا مملوءة بالخطايا والآثام؟ هل نصبر على الهاوية؟ وما أدراك ما هية؟ إنها نار حامية.
لقد خرجنا من بطون أمهاتنا وحدنا، وسوف نموت وحدنا، وسندخل إلى القبور لوحدنا، وسنقف بين يدي الله لوحدنا، فهل حققنا معنى العبودية في نفوسنا؟ هل أدينا حق الوالدين علينا؟ هل قمنا بحقوق الزوج والأقارب والأبناء علينا؟ هل ربينا أبناءنا على ذكر الله وعلى الصلاة، أم على الغناء والأفلام والمسلسلات؟ إلى متى نصر على ترك الصلاة؟! إلى متى نستمر في هجر القرآن؟! إلى متى نهجر العلم؟! إلى متى لا نذكر الله؟! إن القبر ينتظرنا، والتراب فراشنا، والدود أنيسنا، والفزع الأكبر موعدنا، والوقوف بين يدي الله ينتظرنا، هل ننتظر حتى نموت وقد ضاع ديننا؟ لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من قوله: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب والأبصار! صرف قلبي على طاعتك) قال أنس: قلنا: (يا رسول الله! آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) والحديث صحيح، أخرجه الإمام أحمد وأخرجه مسلم وصححه الترمذي وابن ماجة.
فهل أمنا أيها الإخوة على قلوبنا؟ إذا كان سيد البشر يخاف ويقول: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك) ونحن لا نخاف! لا إله إلا الله! أخي المسلم: إن الموت آت بسكراته، والقبر ينتظرك بظلماته وأهواله، والبعث في انتظارك بأشكاله وأحواله، ويوم القيامة موعدك بشدائده وأهواله {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22].
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
قد كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير
وإذا الجبال تقلعت بأصولها ورأيتها مثل السحاب تسير
وإذا البحار تأججت نيرانها ورأيتها مثل الحميم تفور
وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت فتقول للأملاك أين نسير
فيقال سيروا تشهدون فضائحاً وعجائباً قد أحضرت وأمور
وإذا الجنين بأمه متعلق يخشى الحساب وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المقيم على الذنوب دهور
إذا كان الطفل الصغير ينتابه الذعر ويشيب رأسه {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} [المزمل:17] {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج:2] ما من سكر ولكنها شدة الأهوال {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
هل تصورنا هذا يا أخي؟! مثل لنفسك، تصور الوضع! تخيله وهو حقيقة! ووالله الذي لا إله إلا هو إنها كائنة لا بد منها.(37/11)
أهمية تذكر غمرات الموت في تحقيق العبودية
أخي في الله: من الأمور التي تعينك على تحقيق العبودية لربك أن تتذكر غمرات الموت، قال سليمان بن عبد الملك وقد حج، فلما حج قال: هل بقي أحد من أصحاب رسول الله؟ قالوا: لا.
قال: هل بقي أحد من التابعين الذين رأوا أصحاب رسول الله؟ قالوا: نعم.
قال: عليَّ بواحد منهم، فجاءوا بـ أبي حازم، فلما دخل عليه وجلس بجواره قال له: يا أبا حازم: مالنا نكره الموت ونحب الحياة؟ وهذه صفاتنا كلنا، كل واحد لا يريد ذكر الموت، وإذا ذكر الموت في محاضرة يخرج الناس ويقولوا: والله تعبنا كل الكلام عن الموت، يا أخي! هذا موتنا قبل حياتنا، لا.
مت الآن قبل أن تموت ولا تلقى عملاً، اذكر الموت عند من يخوفك حتى تأمن أحسن من الذي يؤمنك حتى تخاف، نحن الآن نخوف لكي نخاف فإذا جاء الموت أمنا، نقول: الحمد لله أننا ما فوتناها، لكن يقول لك شخص: لا.
الآن الموت اتركنا منه، نحن الآن نأكل ونشرب، فإذا جاء الموت وأنت خائف تقول: رب ارجعون {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} [المؤمنون:99 - 100] إذا جاء الموت قال: دعوني أعمل صالحاً، قال الله: {كَلَّا} [المؤمنون:100] أداة زجر وردع وتوبيخ: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
فيقول سليمان لـ أبي حازم: مالنا نكره الموت؟ أنا أكره الموت، وأنت تكره الموت، وكل واحد لا يريد الموت، فأجاب إجابة نعرفها نحن، قال: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم أخراكم، والإنسان بطبيعة الحال يكره أن ينتقل من العمار إلى الخراب.
الآن أنت ساكن في (فيلا) ثم جاء أمر بإسكانك في كوخ.
أترضى؟ معك غرفة النوم أترضى أن ترقد على حصير؟! لديك الحمام الإفرنجي والوسيع والدش أترضى أن تقعد في حفرة مكانك في الطين؟ بدلاً من الفراش اسكن في كوخ؛ مع البعوض والذباب والوساخات والهواء والروائح والماء ليس ببارد بل حار -يعني: ليس على ما تريد- هل من أحد يريد أن يترك (الفيلا) ويذهب إلى الكوخ؟ لا.
لا أحد يرضى، كل واحد يقول: لا والله أريد هنا، لماذا؟ لأنه عمر (الفيلا) ولا يريد الخراب.
يقول أبو حازم: لأنكم عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة.
كيف عمرنا الدنيا أيها الإخوة؟ ليست عمارة الدنيا بأن تبني ببيتاً، لا، من الشرع أن تبني بيتاً، لكن اعمر البيت بطاعة الله، لا تعص الله في البيت، ومن الشرع أنك تشتري سيارة لكن اعمر السيارة بذكر الله؛ بأن تحملك إلى بيوت الله، وأن تمتطيها إلى حلق العلم ومجالس العلماء، اعمر الدنيا بزوجة صالحة تربيها على دين الله، اعمر الدنيا بأولاد تربيهم على الدين، اعمر الدنيا بفراش وبأكل لكي تستعين به على طاعة الله.
لكن عمارة الدنيا أن نعمرها بمعصية الله: نشتري عمارة ونجعل فيها الأفلام والمسلسلات والأغاني ونركب (الدش) فوق البيت، ونأكل ونشرب ونضيع الصلاة ونضيع أوامر الله، ونشتري سيارة ونذهب بها إلى المعاصي وإلى الرحلات وإلى التبرج والسفور، والزوجة نأمرها بالمعاصي، وأولاد نتركهم على المعاصي، هكذا عمرنا الدنيا وخربنا الآخرة! صلاة لا يوجد زكاة لا يوجد صيام لا يوجد ذكر لا يوجد قرآن لا يوجد دعوة لا يوجد، بعد ذلك: معاص تقع من العين كالنظر إلى الأفلام والحرام والنساء، ومعاصٍ تقع من الأذن بسماع الغناء، ومعاصٍ تقع من اللسان باللعن والشتم والغيبة والنميمة والكذب والفجور والزور، ومعاصٍ من الفرج بالزنا واللواط، ومعاصٍ من البطن بأكل الحرام، هذا عمران الدنيا وخراب الآخرة! هل هناك أحد يريد أن ينتقل من العمار إلى الخراب؟ لا أحد.
قال أبو حازم لـ سليمان بن عبد الملك: لأنكم أعمرتم دنياكم وخربتم أخراكم، فأنتم تكرهون الانتقال من العمران إلى الخراب.
قال: يا أبا حازم! كيف القدوم على الله إذا متنا غداً؟ قال: يا أمير المؤمنين! أما العبد المؤمن فكالغائب يعود إلى أهله، وأما العبد الفاجر فكالعبد الشارد على سيده يقبض عليه مولاه.
الآن شخص غائب عن أهله في غربة، غاب ورجع كيف يكون وضعه في أول ليلة عندما يدخل على أولاده وعلى أمه وأبيه وزوجته وعلى جماعته فرحين مسرورين؟ هو في غاية الفرح والسرور؛ لأنه رجع لأهله، لكن المملوك الذي شرد من سيده وتمرد عليه، ثم قبض عليه أين يرقده تلك الليلة؟ يضع القيد في رجله ويدعه مع الحمار في الإسطبل لماذا؟ لأنه عبد منحوس هرب، لا بد أن نحبسه مع الحمار لكيلا يهرب مرة ثانية.
وكذلك -ولله المثل الأعلى- العبد المحسن يعود إلى مولاه ويرجع إلى أهله في الجنة، والعبد الشارد من الله، الهارب من طاعة الله، المحارب لأوامر الله، المعتدي على حرمات الله، عبد سيئ هارب يقبض عليه سيده أين يرقده؟ في النار.
قال: أما العبد المؤمن فكالغائب يعود إلى أهله، وأما العبد السيئ فكالآبق يقبض عليه مولاه.(37/12)
ضرورة محاسبة النفس على الذنوب والمعاصي
يا أخي! هل تستطيع أن تذكر الموت وأنت تغني وأنت تشاهد الأفلام وأنت تتابع المسلسلات والتمثيليات؟ هل تستطيع المرأة أن تذكر الموت واهتماماتها محصورة في الموضات والتسريحات، والوجبات والأكلات، وطبق اليوم؟ ليس عندها وقت أصلاً.
بعض النساء تمضي عليها ساعة أو ساعتان وهي أمام المرآة، ولهذا يشكو بعض الأزواج يقول: إذا قلت للمرأة: سوف نخرج لا بد أن أبلغها قبل ساعتين، وهي تلف وتدور مكانها، إلى أن تتصبغ وتتلمع وتقف وتقوم وتطلع وتنزل ساعتين من عمرها من أجل أنها سوف تخرج، لماذا هذا التزين؟ المفروض أن هذا التزين للزوج، لكنها إذا رجعت إلى البيت وضعت زينتها وغسلت وجهها، وأصبحت كأنها جنية ودخلت على زوجها، جميع وسائل الزينة للشارع، الصدر والهضاب المحشوة بالقطن في الشارع، والكعب الذي يجعلها مثل الغزال للشارع، والحمرة للشارع، والكحل للشارع، والأظافر المحرمة للشارع، فإذا دخلت البيت وضعت الكعب ورجعت على قامتها تلك، وأبعدت الحمالات رجعت على صدرها ذلك، وأبعدت الكحل ورجعت على وضعها، ما هذا؟! الزينة ما هي إلا للزوج ليست للشارع، جمال الشوارع هذا حرام، زينة المرأة ممنوعة إذا خرجت إلى الشارع، وإذا مشت متطيبة وشم الرجال ريحها فهي زانية، لكن إنا لله وإنا إليه راجعون!! متى تذكر الموت وهذا وضعها؟ ومتى يذكر الموت من اهتماماته ومداركه ومعارفه ومعلوماته كلها معلومات الممثلين؟ يعرف أسماء الممثلين كلهم وكذلك الممثلات، يرى امرأة يقول: هذه فلانة، وهذا فلان، ويعرف أسماء اللاعبين كلهم، ويعرف أسماء المغنين كلهم، ولو سألته عن صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عرفه، ولو سألته عن آية من كلام الله ما عرفها، ولو عرضت عليه حديثاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عرفه، هذا هل يذكر الموت؟!! لو حاسبت نفسك -يا أخي في الله- على الذنوب لكانت بعدد الرمل والتراب، ومع ذلك نحسن الظن بالله ونحن نسيء العمل، إن حسن الظن الشرعي يقتضي حسن العمل، وإن من يسيء العمل إنما يسيء الظن بالرب، ويتهم الله بأنه لا يعرف كيف يجازي خلقه.
اسمع أخي إلى حكاية أبي بكر الكناني يقول: كان هناك رجل يحاسب نفسه، فحسب سنينه فوجدها ستين سنة، وحسب أيامه -ضرب ستين سنة في ثلاثمائة وستين يوماً- فوجدها واحداً وعشرين ألفاً وستمائة يوم، فصرخ وخرَّ مغشياً عليه، ولما أفاق قال: يا ويلاه! أنا آتي ربي بواحد وعشرين ألفاً وخمسمائة ذنب إذا كنت أرتكب في كل يوم ذنباً! فيا أخي: من الذي منا يذنب في اليوم الواحد ذنباً؟ إنه ولي من أولياء الله، ولكنها مئات بل آلاف الذنوب، فكيف إذا أذنبت ذنباً، يعني: في الشهر ثلاثين ذنباً، وفي السنة ثلاثمائة وستين، وفي العشر السنوات ثلاثة آلاف وستمائة، وفي عشرين سنة سبعة آلاف ومائتين وهكذا، إذا كان في كل يوم ذنباً، فكيف إذا كان كل يوم مائة ذنب أو مائتين أو ثلاثمائة بل بعضهم من حين يصبح حتى يمسي ما يطيع الله لحظة، كل حياته ذنب في ذنب: من عينه من أذنه من لسانه من يده من رجله من كل شيء، يشتغل في المعاصي مائة بالمائة، ولا تكتب له حتى حسنة واحدة، أما السيئات فهي ليل نهار، بل بعضهم يعصي الله وهو نائم! شخص من الناس يغني وهو نائم؛ لأنه كان يغني وهو مستيقظ.
فلماذا يا أخي ترضى لنفسك أن تكون عاصياً وأن تأتي يوم القيامة وأنت تحمل على ظهرك هذه الأوزار؟ يقول الله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:31] {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:89 - 90].
أخي في الله! استيقظ من غفلتك، وعد إلى ربك، واذكر الموت؛ وهادم اللذات، ومفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات، اذكر مبكي العيون ومغير الجفون، اذكر قاطع الأماني والأحلام، تفكر يا مغرور في الموت وسكرته وشدته ومرارته، تذكر يوم موتك وانتقالك من سكنك على ظهر الأرض إلى سكنك في بطنها.
كان صلى الله عليه وسلم يقول: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) والحديث صحيح، رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه.
لأن الذي يكثر من ذكر الموت يكرمه الله بثلاثة أشياء: أولاً: تعجيل التوبة.
فأنت ما دمت تكثر من ذكر الموت فلماذا تستمر في المعاصي.
ثانياً: القناعة، ما دمت سوف تموت تقنع بالذي معك، لكن الذي ينسى الموت لا يقنع مثل شارب البحر كلما زاد شربه منه زاد عطشه.
أما الذي يكثر من ذكر الموت يقول: لا، تكفي هذه؛ لأنه يعلم أن الموت قريب.
ثالثاً: النشاط في العبادة، الذي يكثر ذكر الموت يعجل التوبة، ويقنع بالذي عنده، وينشط في العبادة، بدلاً من أن ينشط في الدنيا ينشط في العمل الصالح، يزيد من الذكر من القراءة من الصلاة من قيام الليل من الصيام، لماذا؟ لأنه يكثر ذكر الموت، يقول: سوف أموت، قد لا أستطيع أن أصلي، وقد لا تأتيني فرصة أخرى.
أما الذي ينسى الموت فيعاقب بثلاثة أشياء: أولاً: تأخير التوبة، وهذه مصيبة أن تؤخر التوبة فقد يأتيك الموت وأنت لم تتب.
ثانياً: الطمع والحرص والجشع وانفتاح القلب على الدنيا.
ثالثاً: الكسل في العبادة، فعند الصلاة تجده كسلان، وتجده يدفع إليها دفعاً الذكر لا يريده القرآن لا يريده، وإذا كسلت عن العبادة ضيعت أرباحك في الآخرة ولم يعد معك شيء؛ لأنه ليس في الآخرة إلا العبادة فليس هناك أموال، فأنت الآن تعمل في الدنيا وعندك أموال لكن إذا مت فلن يضعوا في قبرك أي ريال، بل يوضع معك العمل، وليس معك شيء من العمل.(37/13)
السلف وكثرة ذكرهم للموت
فهذه عقوبات من لا يكثر من ذكر الموت.
وقد جاءت امرأة إلى عائشة رضي الله عنها تشكو قسوة قلبها، فقالت لها عائشة: [أكثري من ذكر الموت يرق قلبك] ففعلت المرأة ذلك العمل فرق قلبها، وجاءت تشكر عائشة رضي الله عنها وتخبرها بأن الله عز وجل قد رقق قلبها لذكره.
وعندما تكثر ذكر الموت تهون عليك المصائب؛ لأن الموت أكبر مصيبة، فأي مصيبة تأتي في الدنيا فتذكر أن الموت سوف يأتي قريباً.
يقول عمر بن عبد العزيز: [إذا كنت في سعة من العيش وأردت أن يضيق عليك العيش فاذكر الموت، وإذا كنت في ضيق من العيش وأردت أن يتسع عليك العيش فاذكر الموت] كيف؟ قال العلماء: إذا كنت في سعة وذكرت الموت ضاقت عليك السعة لأنك تعلم أنك سوف تموت وتتركها، وإذا كنت في ضيق دين هم غم، وذكرت الموت تقول: سوف أموت وما هي إلا أيام وليالٍ على الهم هذا.
فالموت ما ذكر في كثير إلا قلله، ولا في واسع إلا ضيقه، وما ذكر في قليل إلا كثره ولا في ضيق إلا وسعه، فذكر الموت فيه الخير وفيه كل شيء.
يقول أبو الدرداء: [ثلاث أحبهن ويكرههن الناس، قالوا: وما هن؟ قال: الفقر، والمرض، والموت.
قالوا: ومن يحبها يرحمك الله؟ قال: أما الفقر فتواضعاً لربي، وأما المرض فتكفيراً لخطيئتي، وأما الموت فللقاء ربي].
وقد كنا مرة في طائرة متجهة من جدة إلى الرياض، وفي أثناء الطيران حصل خلل في الطائرة، حيث توقف أحد المحركات وبقي محرك يعمل، فتصعد الطائرة بالمحرك هذا إلى السماء لكي لا تسقط على الأرض، ثم تنزل أحياناً إلى مائتين أو ثلاثمائة متر سقطة واحدة، فتكاد القلوب أن تنخلع، وأعلن قائد الطائرة للناس: أنه يريد أن يرجع، وبدأ الناس بالبكاء والصراخ، وكان معي في الطائرة اثنان من الإخوة وكنا في ثلاثة مقاعد في الوسط، وكنت أنظر إليهم وإلى الذين في الطائرة؛ فأجد بعضهم قد وضعوا رءوسهم تحت الكراسي، وبعضهم يصيحون، وآخرون يولولون، وهؤلاء الإخوان كل شخص يقول: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها اللهم أحسن خاتمتنا اللهم الطف بنا، والعالم في ذهول ودهشة، وشاء الله أن تسلم الطائرة وننزل.
وأقول للإخوان: كيف؟ قالوا: نحن لو متنا عندنا أمل في الله كبير أن يرحمنا برحمته، وإن كانت أعمالنا قليلة لكن حسن ظننا بربنا في تلك اللحظات يجعلنا نأمل خيراً، ولهذا ذكرنا الله، ولو متنا إن شاء الله فإن الخاتمة ستكون جيدة.
وأنظر إلى هؤلاء وخاصة في أناس ليسوا مسلمين يظهر عليهم أنهم (خواجات) والله يا إخواني إنه بلغ بهم من الرعب شكلاً لا يتصوره العقل، وخصوصاً بعض مضيفات الطائرات.
فذكرك للموت يجعلك دائماً تستعد، فإذا جاء الموت أو رسل الموت أو نذر الموت وإذا بك لا تخاف.
ولما جاءت ساعة الاحتضار لـ عامر بن عبد قيس جعل يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: والله ما أبكي جزعاً ولا حرصاً على الدنيا، ولكني أبكي على ظمأ الهواجر، وعلى قيام ليالي الشتاء.
يقول: حيل بيني وبين ظمأ الهواجر بالصيام، وقيام الليالي في الشتاء بالصلاة، والشتاء يسميه العلماء: غنيمة المؤمن، فإن نهاره قصير وليله طويل، فيستغله أصحاب التوفيق في صيام النهار، أو ما قدروا عليه من الأيام، وفي قيام الليل، فإن الليل طويل فيكفيك منه ساعات في النوم، ثم تستطيع أن تستيقظ آخر الليل فتصلي ما شاء الله لك، ثم تجلس تستغفر في الأسحار حتى يؤذن الفجر ثم تذهب تصلي الفجر في المسجد، فهذا توفيق عظيم، فإذا كنت قد حرمت قيام الليل في أيام الصيف لقصر الليل فلا يفوتك أيضاً قيام الليل في الشتاء، فهو غنيمة المؤمن.
انظر أخي! كيف كانوا يذمون أنفسهم على تقصيرها مع حسن عملهم، أما نحن فقد جمعنا بين الإساءة في العمل والأمن من عذاب الله، يعني: ينبغي أن يحسن الإنسان العمل ويخاف مع هذا، يقول الله عز وجل عن الصحابة وعن السلف الصالحين: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] وقال سبحانه وتعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16].
وهكذا شأن الصالحين أنه يحسن في العمل ويخاف من الله.
أما المخذول -والعياذ بالله- يسيء العمل ولا يخاف من ربه، وإذا قلت له يقول: يا شيخ! الله غفور رحيم، فهو عنده إساءة وأمن، وذاك عنده عمل طيب وخوف من الله، فهذا هو الطيب.
يقول شداد بن أوس رضي الله عنه: [الموت أفظع هول في الدنيا على المؤمن، وهو أشد على المؤمن من نشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض، وغلي في القدور، ولو أن الميت بعث ونشر فأخبر أهل الدنيا بألم الموت ما انتفعوا بعيش وما تلذذوا بنوم].
فكأنك بالعمر يا أخي! وقد انقرض، وهجم عليك الألم والمرض، وفاتك كل مراد وغرض! {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق:22] شخص البصر، وسكن الصوت، ونزل بك ملك الموت: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق:22] بلغت الروح إلى التراقي، ولم تعرف الراقي من الساقي، ولم تدر عند الرحيل متى التلاقي: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق:22].
ذكرنا أيها الإخوة أن من الأمور التي تعينك على عبادتك لربك وانتشالك لنفسك من الغفلة ذكرك لسكرات الموت، ولكن كيف تعرف سكرات الموت؟ هذا موضوع طويل، أخذنا منه بطرف، ولكن التوسع فيه يحتاج إلى درس كامل، وهو إن شاء الله ما سيكون موضوع الدرس في الشهر القادم إن شاء الله وسوف يعلن عنه، هذا الدرس بعنوان: غمرات الموت، لكن القادم سيكون بعنوان: سكرات الموت، وستتوالى الدروس في هذا الأمر حتى نستيقظ، فإن الذي لا ينتبه ولا يتعظ ولا يستيقظ بالموت ولا بالقرآن فمتى يتعظ؟ الواعظان اثنان: القرآن والموت، فمن لم يتعظ بالقرآن ولا بالموت فلو تناطحت الجبال بين عينيه لم يتعظ والعياذ بالله.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يخفف علينا سكرات الموت، وأن يوقظ قلوبنا وإياكم من الغفلة، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، كما نسأله تبارك وتعالى أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنك سميع الدعاء.
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا ونعمتنا واستقرارنا، اللهم من أرادنا في هذه الديار أو غيرنا من ديار المسلمين بسوء أو شر أو كيد أو مكر فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، وأنزل عليه بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحبه وترضاه، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وسوف نجيب على الأسئلة باختصار، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(37/14)
الأسئلة(37/15)
ضوابط الإتيان بالأولاد إلى المسجد
السؤال
بعض الآباء يأتون بأبنائهم إلى المسجد ثم يتركونهم يعبثون في بيوت الله ويزعجون المصلين، فما توجيهكم؟
الجواب
الإتيان بالأبناء إلى المسجد له ضوابط وشروط وهو مطلوب؛ لأن الأمة لا بد أن تعيش بأجيالها، والأجيال هم هؤلاء الصغار، فإذا ربيناهم على الصلاة من الصغر وصلوا إلى سن الكبر وقد تدربوا على الصلاة، ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)، وبعض الآباء يهمل هذا الحديث، فلا يأمر ولده على سبع، ولا يضرب ولده على عشر، فإذا بلغ ولده لا يصلي قال: ولدي لا يصلي، قلنا: أنت الذي أهملته صغيراً فكيف تريد أن يصلي وهو كبير؟! لا.
إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت ولا تلين إذا صارت من الخشب
الطفل الصغير ما دامت تعوده على الصلاة وهو صغير، وتزرع في قلبه حب الصلاة وهو صغير، لا يصل سن البلوغ إلا وهو يصلي، ولا يجد صعوبة؛ لأنه مدرب، أنت قد علمته، لكن تهمله وتضيعه إلى أن صار رجلاً ثم تقول له: صل، فلن يصلي، ويراها من أصعب الصعوبات عليه، فالأمر بالصلاة مطلوب للصغير، لكن إحضاره إلى المسجد له شروط: أولاً: أن يكون قد تجاوز السبع، فلا ينبغي أن تأتي بالذي سنه صغير لا يعرف مسجداً ولا طهارة، بعضهم يأتي بولده وعمره سنتان وثلاث وأربع، لماذا؟ لأنه يحب ولده، ويريد أن يدلله ويأتي به ليتمشى، اذهب به إلى غير هذا المكان اذهب به إلى الحديقة اذهب به إلى الشارع اذهب به إلى الملعب إلى أي مكان، لكن تأتي به إلى المسجد لا يصلح.
بعضهم يأتي بولده ويهمله ويدعه يلعب ويجري ويعبث بالمصاحف ويقطع الصلاة على المصلين، ويحدث فوضى، لا يجوز؛ لأن هذا يؤذي المصلين، وإيذاء المصلين لا يجوز لأنه إيذاء لله عز وجل، فلا ينبغي أن تأتي به وهو دون السبع، بعد ذلك إذا كان فوق السبع تعطيه آداب المسجد تقول له: يا ولدي نحن نذهب إلى الصلاة، والصلاة هذه فريضة الله والشعيرة العظيمة، نقف فيها بين يدي الله، فينبغي أن نكون مؤدبين مع الله، إذا وقفت في الصلاة تجعل عينيك في موضع سجودك، وتضع يدك اليمنى على اليسرى على صدرك، ولا تلتفت كذا ولا كذا، وإذا سمعت قراءة الإمام تنصت، إذا ركعت تركع وتثني ظهرك، وإذا سجدت تخشع، علمه كيف يصلي، إذا قمت امش ولا تنظر ولا تجري ولا تعبث؛ لأن هذا بيت الله، تمشي وعليك السكينة، إذا علمت الولد هذه الآداب يتأدب، وبعد التعليم تأخذه في يدك تصلي جنبه، وإذا معك ولد لا تصل في الروضة حتى لا تؤذي الناس بولدك، اذهب وصل في الطرف، وأنا أفضل أن تصلي في الطرف وولدك إلى جنبك أحسن من أن تصلي في الروضة وولدك في وراء المسجد يعبث ويضيع على الناس صلاتهم، خذ أولادك بجانبك وصل معهم؛ حتى تضبط حركتهم، بهذه الضوابط لا يوجد مانع.
أما أن يأتي المسلم ليصلي ويترك أولاده يعبثون في المسجد، ويسيئون في التعامل مع الناس، ويحدثون الأصوات والفوضى، ويجرون ويهرولون، ويمزقون المصاحف ويعبثون، ويضحكون ويصيحون، فإن هذا أذى، ولا يجوز، وأنا أخشى على من يأتي بأولاده أن تصدر دعوة من المصلين عليه وعلى أولاده، وقد تحيط به.
وأذكر وأنا في أبها أن رجلاً كان يأتي بولده إلى المسجد، وهذا الولد يعبث يعني يعمل حركة والناس قد كلموه وهم ينصحونه وهو يرفض، فكأن واحداً منهم دعا عليه، وخرج من المسجد وولده معه، وانطلق الولد يقطع الشارع وتصدمه السيارة، وكثير من المصلين ما تأسف على موت هذا الولد؛ لأنهم ارتاحوا منه.
فيا أخي! لا تزعج الناس فتجعلهم يدعون على ولدك فتستجاب الدعوة عليه وإذا به قد مات، لا، اترك ولدك في بيتك إلى فوق سبع، ثم أحضره بيدك، وأشغل ولدك بطاعة الله عز وجل.(37/16)
مفهوم ظلم العبد لربه
السؤال
كيف يقع الظلم على الله؟
الجواب
وقوع الظلم هنا ليس معناه: أن الله يتأذى، لا، فالله عز وجل لا تضره معصية العاصين ولا تنفعه طاعة المطيعين، وإنما يقع الظلم أعني بالشرك بالله، فإذا أشرك الإنسان بالله وقع ظلم من العبد بشركه بالله عز وجل، لكن كون الله يتضرر، لا، لأن الله غني عن العالمين، الله يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك) ويقول في الحديث القدسي في صحيح مسلم: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).(37/17)
الأعمال التي تنجي من فتنة القبر
السؤال
هل هناك عمل ينجي من ظلمة القبر؟
الجواب
نعم.
توجد أعمال، لكن ليس هذا المقام مقامها، هناك أعمال تنجي من ضغطة القبر، يعني ما يأتي للإنسان فتنة في القبر، من ضمنها الشهادة، ومن مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة هذا ما يأتيه شيء في القبر، والحديث صحيح في مسند أحمد، والشهيد ليس المراد الشهيد فقط الذي في المعركة، الشهداء كلهم: الشهيد من مات مطعوناً، أو مبطوناً، أو متردياً، أو غريقاً، أو حريقاً، والمرأة التي تموت على ولادة؛ هؤلاء كلهم شهداء، إذا ماتوا، بشرط أن يكونوا مؤمنين متدينين، وفيهم خير.
أما إذا كان -والعياذ بالله- فاجراً أو قليل دين تاركاً للصلاة، ومات متردياً أو غريقاً أو أحرق فهذا عذاب عاجل -والعياذ بالله- ولا ينتفع بهذا، إنما الشهداء من المؤمنين الصالحين.(37/18)
حكم العادة السرية وأضرارها وعلاجها
السؤال
ما حكم العادة السرية مع الدليل، مع بيان أضرارها وعلاجها وتقديم النصيحة فيها؟
الجواب
أما حكها فهو التحريم، وقد صرح بهذا العلماء، واستدلوا بقول الله وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن قول الله عز وجل يقول الله عن المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:6 - 7] فالذي مارس العادة السرية وأخرج المني عن طريق الاستمناء باليد هذا ابتغى طريقة غير الزواج وملك اليمين فهو عَادٍ: يعني متجاوزاً لحرمات الله.
وأما الحديث ففي الصحيحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فيه بالصوم) وما قال: فعليه بيده فإنها له وجاء.
أما أضرارها فقد تكلم عنها العلماء والأطباء، وقالوا: إن أضرارها كثيرة جداً وتنقسم إلى قسمين: أولاً: أضرار دينية.
من الأضرار الدينية أن صاحبها يتعرض للعنة لورود آثار تدل على اللعنة: [لعن الله ناكح يده] ووجدت آثار: [أن ناكح يده يبعث يوم القيامة ويده حبلى] ما يخرج حيوان منوي إلا وتحمل اليد به، لكن آثار الحمل لا تظهر إلا يوم القيامة.
ثانياً: أضرار نفسية.
فإن الذي يستمني بيده كثيراً تصبح نفسه -والعياذ بالله- دنيئة، ويصبح حيواني الطبع ليس له هم إلا ممارسة هذا الأمر الذي لا تمارسه الكلاب والقردة والعياذ بالله.
وأيضاً: أضرار صحية، وأضرار اجتماعية، وأضرار بيئية، وأضرار تناسلية، يحصل عند الإنسان تهتك، يحصل عند الإنسان استهلاك للحيوانات المنوية، حتى قال العلماء: إنه إذا تزوج لا ينجب؛ لأنه قد انتهى، الذي عنده من الحيوانات المنوية ذهبت، وإن بقي عنده مني فإنه يكون ضعيفاً ونسله ضعيف -والعياذ بالله- فما ينبغي للمسلم أن يعملها.
فأما العلاج: فأولاً: مخافة الله، وذكر الله، وأن هذا حرام ولا ينبغي له أن يعلمه.
ثانياً: أن ينشغل بالطاعة والعمل الصالح وقراءة القرآن.
ثالثاً: أن يمارس عملاً مهنياً شاقاً، وإن لم يجد فيمارس عملاً رياضياً حتى يستهلك طاقته في هذا الجهد.
رابعاً: ألا يكثر من الأطعمة التي تبعث فيه القوة، وأن يأكل طعاماً خفيفاً، قوت حتى لا يموت، فقط، حتى يتزوج، فإذا تزوج يأكل كل ما أراد.
خامساً: أن يبعد نفسه عن الأشياء التي تثير فيه غريزة الجنس مثل: سماع الأغاني، والنظر إلى النساء، وقراءة القصص الغرامية، والنظر إلى الأفلام والمسلسلات، وسماع الحكايات من الزملاء عن الجنس؛ لأن هذه كلها تشعل العامل الجنسي.
سادساً: قراءة أخبار السلف وقصص الصالحين الذين كانوا يعفون أنفسهم عن الحرام.
وبعد هذا كله دعاء الله، يدعو الله بالعفة؛ لأن الله يقول: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ومن يستعفف يعفه الله) الذي يستعفف ويخاف من الله فإن الله سوف يعفه من الحرام ومن العادة السرية ومن كل أنواع الحرام.(37/19)
نصيحة لمن تاب وقد عق والديه
السؤال
شاب كان يعق والديه، ثم التزم وتاب إلى الله وأقلع واتبع أصحاب الخير والصلاح، فهل يفعل أولاده به كما كان يفعل من العقوق على قاعدة: كما تدين تدان؟
الجواب
الحمد لله الذي هداه وتاب عليه إن شاء الله، فإن كان أبوه وأمه لا يزالان موجودين فليتدارك حياتهما بالبر، وليحسن إليهما، وليكفر عن عقوقه لهما بالبر الكامل، وإن كانا قد ماتا فعليه ببرهما بعد وفاتهما: أولاً: بكثرة الدعاء، فإن الدعاء يصلهما.
ثانياً: بالصدقة عنهما.
ثالثاً: بصلة رحمهما.
رابعاً: بزيارة ودهما، الود الذي كان لهما ويزور أصدقاءهما.
وهذا إن شاء الله يكفر عنه بإذن الله خطيئته، وسيجعل الله له إن شاء الله أولاداً صالحين؛ لأن التوبة تجب ما قبلها، ومن تاب تاب الله عليه.
أكتفي بهذا أيها الإخوة، وأعتذر عن الإجابة عن بقية الأسئلة لضيق الوقت.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(37/20)
لو أن الله هداني
إن الهداية منحة إلهية، يهبها الله لمن يشاء، فهي ليست أمنية يتمناها العبد، وينتظرها حتى تأتيه، بل هي إقبال على الطاعات، وابتعاد عن المعاصي والمنكرات، والمسارعة بالتوبة والأوبة والخضوع والانقياد، والقبول والاستسلام.(38/1)
المسارعة إلى الله قبل الندم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة في الله! يقول الله عز وجل: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13] ويقول عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99] ويقول عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
اتصل بي شابٌ مؤمنٌ هداه الله ووفقه إلى الصراط المستقيم، وقال لي: إنه دعا أحد إخوانه في الله إلى الإيمان، وإلى الهداية والالتزام، فتعلل بهذه التعللات، واستشهد بهذه الآيات، وقال: إن الله لم يهده.
فيقول لي الأخ: كيف أصنع به؟ وبماذا أجيب عليه؟ الإجابة على مثل هذا الذي يقول: إذا هداني الله اهتديت لو أن الله هداني لكنت مثلك أو أحسن منك؛ لكن لم يهدني الله إلى الآن.
الجواب جاء في القرآن الكريم -وكأنه يعالج مثل هذه المشكلة، ويجيب على هذا التساؤل- في آخر سورة الزمر، يقول عز وجل: {وَاتَّبِعُوا} هذا أمر لكم أيها المكلفون {أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55] وأحسن ما أنزل هو كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم {مِنْ قَبْلِ} أي: فليس هناك مجال للتأخير أبداً، إن من يماطل أو يؤجل التوبة، لحظة واحدة خاسر؛ لأن التأجيل ليس من صالحه، التأجيل يعرضك لقضيتين خطيرتين: إما مفاجأتك بالقضاء والقدر على غير موعد، فتخسر خسارة كبيرة، وتندم ندامة لا تعوض، ولا تقوم لها الدنيا كلها، وإذا سلمت من الموت ولم تتب؛ فإنك تخسر خلال فترة التأجيل وقتاً ذهبياً من عمرك كان بإمكانك أن تستغله، وأن تملأه بالعمل الصالح، فالذي يماطل بالتوبة خاسر على الجانبين، ماذا يكسب عندما يظل بدون توبة؟ يكسب نوماً كثيراً، وأكلاً كثيراً، وشهوات كثيرة، ودنيا؟!! لا.
بل إنه يخسر كل شيء، يقول الله عز وجل: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} يعني: ماذا يضرهم {لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً} [النساء:39] يعني: ماذا ينقصهم ويضرهم لو أنهم ساروا على الخط الصحيح، والتزموا الإيمان بالله وباليوم الآخر، والإنفاق في سبيل الله ما الذي يضرهم؟! لا شيء، بل لهم لا عليهم، فالإنسان لا ينبغي له أن يؤجل التوبة {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} [الزمر:55] يعني: الموت، وسماه الله عذاباً لأنهم في دائرة العذاب الموت للكافر والفاجر والعاصي هو الانتقال من العذاب الأدنى إلى العذاب الأكبر، الذي قال الله فيه: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة:21] فالعذاب الأدنى ما يناله الفاجر والعاصي من شقاء وضلال وقلق في هذه الدار، فإذا مات قال الله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:54] من يستطيع أن ينصرك في تلك اللحظات؟ إذا مت ولقيت الله أيها العبد! ووجهك أسود، وصحفك سوداء، وعملك سيئ فمن ينصرك؟! هل المال ينصر في تلك اللحظات؟! الولد ينصر؟! هل المنصب والجاه، والملك والإدارة، والوزارة والإمارة؛ تنصر؟! لا.
لا ناصر أبداً إلا الله.
والله تعالى لا ينصر الكافر؛ لأنه قال: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] نصرهم في الدنيا والآخرة، أما الفجرة فلا ينصرهم الله، بل يخذلهم ويتخلى عنهم أحوج ما يكونون إليه.(38/2)
الدعوة إلى الإنابة والرجوع إلى الله تعالى
{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر:54] (وأنيبوا) أي: ارجعوا، والإنابة هي: سرعة التوبة، ليس تائباً فقط، بل منيباً مهرولاً إلى الله، مسرعاً لا يلوي على شيء، اتجاهه وعزمه وتصميمه في سيره إلى الله، في كل لحظة يتوب، يقول عليه الصلاة والسلام: (إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة) ويحسب له في المجلس الواحد الاستغفار سبعين مرة وهو الذي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال الله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [الفتح:2] وكان في كل أوقاته يردد: أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، كان رجوعاً أواباً.
{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ} [ق:31 - 32] يعني: الجنة {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق:32] أواب يعني: رجاع، حفيظ: محافظ على طاعة الله، حريص عليها، يضن بها أعظم من ضنه بالدرهم والدينار {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق:33 - 34] نسأل الله من فضله، وهذا هو الشرف والفضل يا أخي! إذا مت ورأيت في بيتك ملائكة الجنة معها كفن من الجنة، وجاءك ملك الموت، وقال لك: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:27 - 28] والله لا تحزن على شيء، تحزن على ماذا؟ على الزوجة؟ تحزن على واحدة والله سيعطيك في الجنة سبعين زوجة، الواحدة منهن خيرٌ من الدنيا وما عليها؟ والله ما عاد تذكر واحدة في هذه الدنيا إلا إن كانت صالحة، ويجعلها ربي معك في الجنة.
أتحزن على عمارة أو بيت والله سيعطيك قصوراً في الجنة من در مجوف، طول القصر ستين ميلاً في السماء؟ أتحزن على مزرعتك والله يعطيك مزرعة في الجنة، الغصن الواحد من شجرة الجنة مائة عام يقطعها بصرك، وأنت جالس تبصرها على مسافة مائة عام؟!(38/3)
تصوير المعرضين عن التوبة وتحسرهم بعد الموت
{لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:32 - 33] منيب: خاشع خاضع لله، يبكي من خشية الله لا يتعاظم على الله لا يتعالى على أوامر الله، إنما يرتعد، يخاف، يوجل، يشفق، كأن النار ما خلقت إلا له، يتصور أن الناس كلهم ناجون وأنه هو الخاسر، ويتصور أن الناس كلهم صالحون وأنه هو الفاسق، ويتصور أن الناس كلهم سيدخلون الجنة وأنه في النار، ولهذا في قلبه مثل النار.
{لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:32 - 33] هذه صفات أهل الإيمان أربع صفات: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:34 - 35].
يقول الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:53 - 55].
مسرع بالسيارة، وفجأة بنشرت العجلة، ليس عندك حساب أو تخطيطات للموت، كل حساباتك للدنيا، كثير من الناس يموت وفي باله كل شيء إلا الموت، في باله الوظيفة، والزوجة، والعَشاء، والأولاد، ولكن أن يأتيه الموت {بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:55] من غير أن تتصوروا أو تعقلوا.
{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} [الزمر:56] أي: لئلا تقول نفسٌ، وهنا نفس نكرة، أن تقول أي نفس عند الموت {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] يتمنى ويتحسر ويتندم على ما فرط في جنب الله، ما الذي فرط فيه في جنب الله؟ إما بارتكاب معصية، أو بترك طاعة.
(يا حسرتى) هل يريد أحدنا يا إخواني! أن يقول هذه الكلمة عند الموت؟ والله ليس هناك عقل عند الإنسان الذي يعيا إلا على المعاصي والذنوب، ونقول له: يا أخي! اتقِ الله لا تزنِ، لا ترابِ، لا تترك فريضة، لا تعق والديك، لا تقطع رحمك، يقول: لا.
يعني: فهل تستمر حتى تموت؟ وبعد ذلك تأتيك التحسرات وتقول: (يا حسرتى) هل تنفعك هذه التحسرات؟ هل تغني عنك وتنفعك هذه الأشياء؟ {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ} [الزمر:57 - 58] إذا رأيت النار ومنزلها {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} [الزمر:58] يطلب فرصة ثانية، يطلب إمهالاً {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} [الزمر:58] يعني: رجعة إلى الدنيا {فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58] أرجع فأعمل عملاً صحيحاً، اعمل الآن إن كنت صادقاً، هب أنك مت، وأنك دخلت القبر، وأنك رأيت مصيرك وقلت: ردني يا رب، فالآن ردك ربي، لا زلت حياً! وبعد ذلك قال: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} [الزمر:57] هذا الشاهد من الآيات، مثل الذي يقول له: يا أخي! اتقِ الله، قال: لو أن الله هداني لكنت مثلك، هذا العذر يقوله الآن ويقوله إذا مات، يقول هذه الكلمة: يا رب! لو أنك هديتني لكنت مع الناس: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57] قال الله عز وجل جواباً على هذا المكابر: {بَلَى} يا كذاب {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} [الزمر:59] أي: قد هديتك، قال المفسرون: معنى: (جاءتك آياتي) أي: هديتك إليها بآياتي.(38/4)
حقيقة الهداية ومعناها
معنى الهداية أي: الدلالة، يعني: لو أن أحداً لقيك في الطريق يقول لك: أين مسجد اليحيى؟ فتقول له: هذا الطريق وتدله عليه، لكنه بدلاً من أن يأتي من هنا، ذهب من الطريق الأخرى، وبعد ذلك ظل يبحث عنه إلى نصف الليل، وبعد ذلك لقيك فيقول: يا أخي! أين مسجد اليحيى؟ تقول: من أين جئت أنت؟ قال: جئت من هنا.
حسناً! ألم أقل لك أن تسير من هنا، هل أنا هديتك؟ بلى! قد هديتك إلى المسجد، قد دللتك على الطريق، لكنك خضت شرقاً، وأنا أقول لك: اتجه غرباً لتصل إلى المسجد، فالله عز وجل يقول: ((بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي)) [الزمر:59] أي: قد هديتك إليَّ ولكن كذبت بها وتنحيت، تسمع آيات الصلاة وترفضها، تسمع آيات الزكاة ولكن المال عندك أحب من الله، كثير من الناس ليست الزكاة في حسبانه وعنده آلاف الريالات، وعشرات الآلاف، ولا يتصور أن الزكاة تجب إلا على الأثرياء، وأصحاب الملايين، ومتى تزكي؟ قال: ليس عندي شيء، كيف ما عندك شيء؟ عندك النصاب، النصاب لا يخلو منه جيبك في سائر العام، من هو الذي يخلو منا جيبه خلال العام كله من (56) ريالاً؟ هذا هو النصاب، إذا بلغ في جيبك (56) ريالاً وحال عليها الحول، يعني: دارت السنة وفي جيبك (56) أو أكثر تجب عليك الزكاة.
أبو بكر يقول: [والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه] أي: لاستبحت دماءهم من أجله، تأتيك آية الصوم والحج والبر، وترك الزنا الربا الحرام التبرج، هذه آيات الله جاءتك الله هداك، قال: اعمل هكذا ولا تعمل هكذا، هذا معناه أنه هداك، هذا معنى الهداية.(38/5)
التصور الخاطئ لمعنى الهداية
بعض الناس يتصور أن معنى: (الله هداني) أي: أن يسلبك الإرادة ويجعلك إنساناً آلياً تعبد الله بدون اختيار! ليس لك جنة إذا سلب الله منك الاختيار، كيف يجعل الله لك جنة وأنت تعبده بدون اختيار؟ وهذا معنى قول الله عز وجل: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13] يعني: لو أردنا لسلبنا الإنسان القدرة على الاختيار، ولجعلناه آلياً في حركته يعبدنا بدون اختيار، ولكن هذه ليست حكمة الله؛ حكمة الله اقتضت أن يعطيه القدرة والاختيار، وجعل له جنة وناراً، والجنة والنار للإنس والجن من بين سائر الخلائق؛ الملائكة السماوات الأرض الشمس القمر الليل النهار النجوم الشجر الدواب الحجر البحار الأنهار، كم خلق الله في الأرض؟ لكن لا يدخل الجنة والنار شيء منها، كلها تؤدي دورها في الحياة لخدمة الإنسان؛ لأن الله عز وجل قال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية:13] فإذا أغلقت الحياة، فالحيوانات تصبح تراباً، والشمس تكور، والنجوم تكدر، والأنهار تفجر، والبحار تسجر، وكلها تتغير ويأتي بك أنت يا (أبا اختيار) أنت الذي لك قدرة على أن تطيع، ولك قدرة على أن تعصي، فيقول: ماذا فعلت؟ أنا أعطيتك القدرة، وكرمتك، وفضلتك، وما جعلتك إنساناً آلياً، بل جعلتك سيد الكائنات، وجعلت لك القدرة على أن تسير في طريق الخير وطريق الشر، فماذا عملت؟ ماذا كنتم تعملون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ هذان سؤالان.
فبعض الناس يتصور يقول: إن معنى الهداية أن الله ينزل ملكاً من الملائكة، ويربط في رقبتك حبلاً ويقول: سقه إلى المسجد كل صلاة، هذا ليس من حكمة الله؛ حكمة الله أنه بين لك الطريق، وأعطاك القدرة، وحين يسلبك القدرة يسلبك التكليف، انظروا حكمة الله، فالمجنون الذي ذهب عقله هل يعاقب؟ لا.
لأنه ليس عنده القدرة على الاختيار، مسكين لا يدري: (رفع القلم عن ثلاثة) والقلم يعني: المؤاخذة والمسئولية، رفعت عن ثلاثة أصناف: (عن الصغير حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ) إذا أفطرت في رمضان ناسياً، كأن جئت إلى البيت وأكلت أرزاً ولحماً، ولما أكملت تذكرت: كيف أكلتُ وأنا صائم؟ يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما أطعمه الله وسقاه) كل واشبع، لكن ليس عليك إثم، لماذا؟ لأنك أكلت وأنت ناس، والله لا يعاقبك وأنت ناس، إذا احتلمت في نهار رمضان وأنت صائم، فتقوم وتغتسل، ولا شيء عليك، لماذا؟ لأن الله سلبك الاختيار في تلك اللحظات، فأرغمك على فعل شيء من غير اختيار.
كيف يرغمك على فعل شيء ثم يؤاخذك؟ هل هذا معقول في حق الله وهو العدل؟ هل هذا معقول في حكم البشر الآن؟ لو جئت من الخميس إلى الجولة، ووجدت رجل المرور يمنع الاتجاه إلى داخل الممساء، سيارات المرور واقفة، والإشارات شغالة، والعساكر يقولون: الاتجاه على المنهل، أنى اتجهت وجدت العسكري واقفاً يقول: لماذا تأتي من هنا؟ تقول للعسكر: ردوني، لا.
أنت غلطان، هات مائة ريال، معقول يفعل المرور هذا، مدير المرور معقول أنه يسد الخط الداخل إلى أبها، وحولوا الناس على طريق الطائف، والذي يأتيكم فخذوا منه جزاء؟ ليس معقولاً، ولو كان مجنوناً، وإذا فعل ذلك مدير المرور، ماذا نقول له؟ هل نطيعه؟ لا.
بل نقول: والله لا نعطيك، لماذا؟ لأننا ما أخطأنا، أنت الذي أجبرتنا أن نمشي من هذا الخط وتريد أن نعطيك نقوداً، والله لا نعطيك نقوداً ولو دخلنا السجن؟ فهل يعقل أن الله عز وجل يجبرك على سلوك طريق معين ثم بعد ذلك يدخلك النار؟ لا.
متى يجوز للمرور أن يعاقبك؟ إذا وضع لك لوحة وفيها علامة إكس، وبالعربي تحتها ممنوع الوقوف، وأتيت ووقفت، يأتي يمسكُ السيارة ولا يفكها إلا بثلاثمائة ريال، ولما تأتي، لماذا قيدت أو أمسكت السيارة يا مرور؟ قال: انظر اللوحة، تقول: والله أنا آسف ضع عني هذه المرة، يقول: لا.
هات ثلاثمائة، فتعطيه، ولا تقدر أن تتكلم عليه بكلمة واحدة؛ لأنك مخطئ، رأيت الإشارة واللوحة وجلست متحدياً للنظم والتعليمات، فتستحق الجزاء.(38/6)
جعل الله المرء مختاراً للخير والشر؛ لقيام الحجة عليه
إن الله تبارك وتعالى -وله المثل الأعلى- أعطاك طريقين: طريقاً باتجاه اليمين وله علامات: صلاة صيام زكاة، هذه لوحات، علامات الطريق، وطريقاً باتجاه الشمال ممنوع الاتجاه إليه خطر خط أحمر: الزنا خطر، الحرام خطر، وأتى أحد الناس وقال: يريد أن يسلك هذا الطريق، امش في الطريق هذه، انظر هذا الاتجاه الصحيح، قال: لا.
أريد أن أغني، لماذا تغني؟ الآخرة مستأخرة، حسناً! غن، لكن بعد ذلك والله ستخرج هذه الأغنية دماً من ضلعك كما جاء في حديث عمرو بن قرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن هذا وأمثاله يقومون يوم القيامة عرايا لا يستترون بهدبة، كلما قاموا صرعوا، ولهم عواء كعواء الكلاب) يعوي مثلما كان يعوي في الدنيا على الجنس، يعوي على الغناء، يعوي في النار ويضرب بالسياط، ويقيد بالسلاسل والأغلال، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فالله عز وجل يجيب على هذا وأمثاله ممن يحتجون بأن الله ما هداهم، قال الله تعالى: بلى! والله هديناك؛ هديناك يوم أن خلقناك بالفطرة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) ما هي الفطرة؟ الفطرة هي الإسلام، ولهذا قال: (فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) ولم يقل: أو يمسلمانه؛ لأنه مسلم في الأصل، لكن أبواه يجعلانه إما يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً، يعني: على دين الأبوين، وهو مسلم، وفي صحيح البخاري يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: (إن الله يقول: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) أي: أخرجتهم عن الحنيفية السمحاء، التي هي الدين الإسلامي، فالله خلقك وأودع فيك سلوكاً إسلامية، وركب طبيعتك على الإسلام، لتقوم عليك الحجة أكثر، أنزل لك كتاباً، وأرسل لك رسولاً، ومكنك من سلوك طريق الخير، وعدم سلوك طريق الشر، فلو أن أحداً من الناس، بمجرد ما يؤذن للصلاة يريد أن يصلي، لكن أصابه الله بمرض في قدميه، لا يستطيع أن يمدها، ما رأيكم في الإسلام، يقول: اذهب صل غصباً عنك، وإذا قعدت في البيت نجازيك بجزاء؟ ما دام أن الله عز وجل عطل فيك القدرة على أن تأتي إلى المسجد فصل في البيت، والمريض يصلي في بيته، فأركان الصلاة أربعة عشر ركناً، منها: القيام، لكن مقيد مع القدرة، لو صلى أحدُ الناس جالساً وهو يستطيع أن يقوم فصلاته باطلة، لكن إذا مرض فالذي أمرضه هو الله، حكم عليه بالمرض، والله أمره بالصلاة قائماً، فكيف يعاقبه إذا لم يصل قائماً وهو الذي أمرضه؟ فيسقط عنه التكليف بالقيام، صل قاعداً، ما استطاع أن يصلي قاعداً، فيصلي على جنب، ما استطاع على جنب فيومئ إيماءً بعينه.
وآخر -مثلاً- بمجرد ما يرى المرأة في الشارع، ويريد أن ينظر بعينه، من قدرة الله أن ركب له بابين (أوتوماتيك) على العين يغطي العين بهما، فتقول: يا رب! والله لم أستطع أن أغطي عيني، بل يجب أن تغض بصرك، لو أن أحداً أراد أن يغض، ولما غض تفتحت عيونه، فالله لا يحاسبه، لماذا؟ لأنه ليس من اختياره، ولكن في قدرته أن يغض بصره.
فالله تعالى يقول: يا من يدعي أن الله ما هداه: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} [الزمر:59] بلى قد هديتك، بلى قد دللتك عليَّ، ولكن بدلاً من أن تأخذ آياتي هذه وتهتدي وتعمل بها كذبت، فتركت القرآن، وتركت السنة، وملت إلى الأغاني والمنكرات والمعاصي والأفلام، وصرت عبداً للشيطان يركب على رقبتك، ويذهب بك في كل حفرة ومتاهة، وإذا قال له أحد شيئاً، قال: إذا هداني الله، كيف إذا هداك؟ قد هداك: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:59].(38/7)
علم الله بمآل المرء إلى شقي أو سعيد هو علم سابق لا سائق
وآخر يقول: ربما أن الله كتبني يوم أمر الملك بكتابة رزقي وأجلي وعملي، وشقي أو سعيد، أنني شقي، قلنا له: لماذا تتوقع أنك شقي؟ لماذا لا تتوقع أنك سعيد؟ لِمَ تحتمل الخيار الأسوأ ما دامت القضية محتملة؟ ومعنى الكتابة هنا أي: سبق العلم لا الإلزام؛ لأن الكتابة كما يقول العلماء سابقة لا سائقة، يعني: أن الله علم أنك سوف تأتي وتفجر، وتكون نهايتك بعد فجورك النار، فكتب أنك شقي، وليس معنى هذا أن الله كتبك أنك شقي أنك لا تستطيع أن تطيع الله، فسبق العلم صفة من صفات الله، إذ أن الإنسان إذا كان لا يعلم الذي في المستقبل والله لا يعلم، ففي هذه الحالة سيستوي الإنسان مع الله؛ وهذا محال، من الذي يعلم ما الذي يصير غداً؟ إنه الله، هذه صفة كمال في الرب؛ أنه يعلم ما سيحدث في المستقبل، فالله يعلم أنه سيأتي أحد من الناس ويعيش، ويكون عمله سيئاً وتكون نهايته أن يكون شقياً، فكتب عليه علماً وأزلاً أنه سيكون شقياً بما علمه الله من عمله، لا بما جبره الله وألزمه أنه لا يكون إلا عاصياً، فهذا يقول: ربما أن الله كتب عليَّ أن أكون شقياً، ولهذا أصبح مع الأشقياء، أتعرفون ما مَثَلُ هذا؟ مثل هذا كمدرس في بداية العام الدراسي، تعرفون أن المدرسين وبعض الموظفين تقدر لهم العلاوة الدورية على ضوء تقييمهم، على ضوء تقرير الكفاءة في آخر السنة، مدير المدرسة يأتي بنقاط التقييم ويقيس المدرس يشرِّحه واحدة واحدة: مظهره، أداؤه، دوامه، إخلاصه، تفانيه، إنتاجه، ويأتي به ويضع له كل شيء، بعض المدراء يضع بالكريك، لكل المدرسين ستة ستة ستة، وهو لا يساوي صفراً، ولكن يقول: يا شيخ! الله الرزاق وهو كريم، ولذلك لا يعرف الطيب من البطال بهذا التقييم، التقييم أمانة في عنقك أيها المدير، فلا تظلم الدولة فتعطي أحدهم تقييماً وهو لا يستحق، ولا تظلم المواطن أو المدرس فتعطيه تقييماً أقل مما يستحق، أعطه ما يستحقه من أجل أن يكون هناك تفاضل بين الناس، عندما يأتي المدرس الممتاز ويأخذ علاوة أكثر بـ (5%)، ويأتي المدرس الجيد جداً ويأخذ علاوة (4%) من راتبه، ويأخذ المدرس الجيد (3%)، والبقية محرومون -أي: المتوسط والضعيف- يأتي هذا الذي أخذ متوسطاً السنة المقبلة فيأخذ ممتازاً ويأخذ علاوة، لكن عندما تضع للضعيف (100%)، والممتاز (100%)، قال ذاك: والله إني أجتهد، وإن فلاناً بليداً وأنه مثلي، إذاً نصير بلداء سواء، ما دام القضية سواء، فيأتي المدير بنقاط التقييم ويضعها، وفي نهاية السنة يعطى للموظف العلاوة الدورية، على ضوء عدد العلامات، فهناك أحد المدرسين من أول السنة لا يحضر في طابور الصباح، ولا يأتي الحصة الأولى إلا وقد ضاعت نصفها، وقبل أن تصفر بربع ساعة يخرج على الباب، ويتلفت على المراقب، وبعد أن تصفر يتهرب، ويجلس في الإدارة، وبعد ذلك صفرت والمدير يقول له: قد بدأت الحصة يا إخوان، قال: حسناً! ويمشي بتباطؤ، يريد أن يصل إلى الفصل بعد ربع ساعة، وإذا دخل، قال: ما عندكم يا أولاد؟ من الذي عنده خبر جديد؟ هل سمعتم أخباراً جديدة؟ قالوا: يا أستاذ! حصة قرآن، قال: صحيح قرآن، لكن أولاً نرى ما هي الأخبار الجديدة، وهو يهمه أن يفوت الحصة بأي وسيلة، وبعد ذلك جاءه أحد المدرسين من زملائه، قال له: يا أخي! أنت مهمل في دوامك، وأدائك، وتدريسك، فلماذا هذا الإهمال؟ قال: ربما المدير يضعني آخر السنة ضعيفاً، ولهذا سوف أكون ضعيفاً من الآن، لماذا أتعب نفسي، وفي الأخير يضعني ضعيفاً في آخر السنة؟ أنا سوف أرقد، أنت فقط تحضر وتتعب وتشتغل وفي الأخير تجد نفسك في آخر السنة ضعيفاً، بالله ما رأيكم في هذا المدرس أهو مجنون أو عاقل؟ مجنون، نقول لك: يا مدرس! أنت واجبك أن تعمل، وواجب المدير أن ينصف، وأن يعطيك بالميزان، مثلما تعمل تأخذ.
أما أن تهمل خوفاً من أن يضعك المدير ضعيفاً فهذا غلط.
ومثال آخر يقرب المعنى أكثر: مدرس دخل على طلابه، من أول العام الدراسي، وبدأ يصنفهم إلى مجموعات وفئات: الجيدين يضعهم في الوراء، والكسالى يقربهم منه من أجل أن يعطيهم مزيداً من الاهتمام، ويركز عليهم، حتى ينتشلهم من وضعهم، إلى وضع أحسن، وبعد ذلك دخل عليه يوماً من الأيام مدير المدرسة، واختبر الطلاب ورأى مستواهم، انبسط، وقال له: يا أخي! الطلابُ عندك كم؟ قال: ثلاثون طالباً، قال: كم تتوقع نسبة النجاح فيها، وكم تتوقع نسبة الرسوب؟ فالمدرس بحكم معرفته -قد درسهم وعرفهم واحداً واحداً، وعرف الطيب والبطال- قال: أتوقع أن ينجح ثمانية وعشرون طالباً، وهناك اثنان ربما رسبوا، وهو يعرفهم المدرس، فواحد من طلاب الفصل، لما سمع الكلمة، ترك المذاكرة والدروس، ولا يحل واجباته، ولما جاء آخر السنة وسقط، قالوا له: مالك سقطت؟ قال: إن المدير قال في أول السنة: إن هناك اثنين سيسقطون، فتوقعت أني واحدٌ منهم، فلم أتعب نفسي بالمذاكرة، وبعد ذلك أسقط في آخر السنة، ما دام أن هناك اثنين سيسقطون ربما أني منهم، حسناً! لماذا ما يمكن أن تكون من الثمانية والعشرين الذين سينجحون؟ لكن انهزام الإنسان أمام شهواته، وحبه للخلود والراحة والأغاني، والأكلات والنومات والتمشيات، هذا يجعله يقول ربما أكون شقياً، لكن لو أنه أخذ بالعزيمة واحتمل أن يكون -إن شاء الله- سعيداً، وبعد ذلك كون الإنسان شقياً أو سعيداً في الأزل، هذا ليس من اختصاصنا، هذه ليست داخلة في دائرة اهتماماتنا، ما هو اختصاصك أنت؟ اختصاصك أن تطيع الله ولا تعصه فقط، وعندك يقين بعد هذا أن الله لا يظلم مثقال ذرة.
أما أن تجلس وتبحث في علم الله، وماذا كتبتني يا رب، شقياً أم سعيداً؟ هذا ليس من شأنك، أنت عبد خلقك الله لعبادته، وبين لك الطريق إليه، وأعطاك القدرة على السير في الطريق، سر في الطريق، فعندك عقيدة ومن ضمن صفات الله العدل {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40] {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] لا يضيع الله عملَ عامل، فقط امش في الخط الصحيح، واعمل عملاً ووفر فيه شروطَ القبول، وهي: الإخلاص لله، والمتابعة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وابتعد عن شيء ثالث مهم يهمله الناس، لا ينفعك العمل في الآخرة إلا بانتفاء الموانع وإبعاد المبطلات؛ لأنك قد تعمل عملاً صالحاً، أردت به وجه الله مخلصاً، وسرت به على هدي رسول الله مقتدياً، ولكن بعدما فعلته أبطلته ونسفته، كيف تنسف العمل؟ بمبطلات كثيرة، منها: الشرك، والرياء، والمنّ والأذى تصل إلى ثلاثين مبطلاً، وسوف يكون هذا الموضوع دروساً بإذن الله بعنوان: مبطلات العمل، ما هو الذي يبطل العمل؟ تعمل عملاً حسناً؛ لكن بعدما تنتهي ترجع وتنسفه، يعني: كرجل يصلي صلاة حسنة، ثم يذهب يخبر بها الناس، أو يرائي بها فإنه ينسفها، وأحدهم يتصدق صدقة ويخفيها، وبعد ذلك يذهب ويمنُّ بها فيبطل صدقته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة:264] تؤذي هذا كلما تصدقت عليه، أو تمن عليه كلما لقيته، فدورك ومسئوليتك أن تعمل عملاً صالحاً، وتترك السيئات والمعاصي، وبعد ذلك يكون عندك يقين وجزم على أن الله لا يظلم أبداً: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20].
هذا الجواب قلته لأخي الكريم! الذي سألني، وأقوله لكم ليكون جواباً حاضراً في أذهانكم على من يقول: لو أن الله هداني.
نقول له: قد هداك الله، لكنك لا تريد أن تهتديَ: {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [لقمان:23] {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النمل:70] {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128].
كنت أود هذه الليلة، أن يكون الكلام على سبب من أسباب عذاب القبر؛ لأنه بقي عندنا سببان، لكن كثرة الأسئلة، وبمراجعتها وجدت أنها مهمة جداً، وأن إهمالها ليس فيه مصلحة؛ فإن الأسئلة تنبع من حاجة، فهذا الذي يسأل سؤالاً، معنى ذلك أن في قلبه حاجة، ويريد أن يجاب على سؤاله، فوجدت أن الضرورة تقتضي أن أجيب على الأسئلة، والموضوع الذي كان ينبغي أن نأخذه في هذه الليلة نؤجله إلى الأيام القادمة بإذن الله عز وجل.(38/8)
الأسئلة(38/9)
حكم مناوبة السماع بين الأشرطة الإسلامية وأشرطة الأغاني
السؤال
ما رأيكم فيمن يجمع في سيارته وفي بيته الأشرطة الإسلامية وأشرطة الأغاني، ويسمع هذه فترة وهذه فترة؟ اذكر طريقة تبعدني عن الأغاني قليلاً قليلاً؟
الجواب
لا يوجد قليلاً قليلاً، ما رأيكم لو كان عندك نار تشتعل وجلست تطفئها قليلاً قليلاً، هل نقول: أطفئ النار قليلاً قليلاً, أو صب الماء صباً؟ أنت الآن تغني، وواقع في طريق النار، أبعدك قليلاً قليلاً، أم أبعد مرة واحدة، ليس هناك قليل قليل، تب إلى الله بسرعة، بدون قليلاً قليلاً، لا يصح أن تسمع أغاني وقرآناً، يقول ابن القيم:
حب الكتاب وحب ألحان الغنا في قلب عبدٍ ليس يجتمعان
وفي حديث ابن مسعود والحديث مرفوع، وقيل موقوف على ابن مسعود، قال: [لا يجتمع حب القرآن وحب الغناء في قلب عبد مؤمن] والذي يجتمع ذلك في قلبه، فيريد أن يغني ويريد أن يستمع أشرطةً إسلامية، في النهاية الغلبة للأغاني؛ لأن القرآن لا يحل في القلب الخرب؛ لأن القرآن نظيف، الآن لو أتيت بنجاسة وطيب، ووضعتهما في قارورة، ما الذي يبقى في القارورة؟ النجاسة، والطيب يتبخر ولا يبقى، الحق لا يتعايش مع الباطل، لا تجتمع في إناء واحد، كما يقول بعض الناس: ساعة لربك وساعة لقلبك، هذا شرك، ليس هناك ساعة لقلبك وساعة لربك، الساعات كلها لله؛ لأن الله تعالى يقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163] فالساعات كلها لله، الصلاة لله، وآكل لله، وأنام لله، وأستيقظ لله، والعمل في المكتب لله، والدراسة لله، والنزول للسوق لله، والنظر لله، والتأمل كل شيء في حياته لله، يقول ابن مسعود: [إني أحتسب على الله نومتي وقومتي] أما التشليح والتجزئة في الدين، ساعة لربك وساعة لقلبك، صل قليلاً وغن قليلاً، واسحبني قليلاً في الغناء، هذا لا يصلح، ولا يجوز لك يا أخي المسلم! يا من تسمع الأغاني: لا تجمع بينها وبين الأشرطة الإسلامية.
ونقول لك: تب إلى الله، واجمع الأشرطة الخبيثة هذه التي في سيارتك وبيتك، واذهب بها إلى الاستريو الإسلامي واجعلهم يغيرونها، واسمع كلام الله، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنك إذا استمريت على هذا فإنه خطر جداً؛ لأن الشيطان يستفزك بالغناء؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء:64] ما هو صوت الشيطان؟ هذه الأغاني بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرب.(38/10)
أهمية عرض الشريط الإسلامي على الناس
السؤال
أرجو من أصحاب التسجيلات وبيع الأشرطة الإسلامية، عرض هذه التسجيلات يوم الجمعة، أو في يوم الثلاثاء، أو بعد الندوات، لتظهر الفائدة على الناس؛ لأن معظم الناس لا يعلم أن هناك أشرطة دينية؟
الجواب
هذه هي الحقيقة، الأخ جزاه الله خيراً يلفت النظر إلى هذا، وهو مهم حقيقةً، أنا ذهبت إلى الرياض، وإلى جدة ومكة، ولاحظت عقب كل محاضرة أو ندوة، أو كل مسجد نخرج منه والسيارات واقفة، وعليها عنوان المحل المرخص له من قبل السلطة؛ لأنه لا يصلح أن كل واحدٍ يبيعُ أشرطة، فلابد من مسئولية تركز على كل واحد يبيع، حتى لا يبيع لنا أشرطة فيها سم وشيوعية وإلحاد، وزندقة.
لا بد من تحديد المسئولية، يوجد أناس يبيعون أشرطة إسلامية تدعو إلى الله، فيأتون بسيارات ومكتوب عليها مثلاً: تسجيلات الهدى، تسجيلات الفرقان، وبعد ذلك يجلس الواحد ويبيع الأشرطة الإسلامية، هذه طيبة جداً، بعد الندوة وأنت خارج تجد شريطاً وتأخذه، ربما يبعد عنك المحل، وقد رأيتها في الرياض، ومكة وجدة لكنها غير موجودة في أبها.(38/11)
كتاب فقه السنة محاسنه والمآخذ عليه
السؤال
ما رأيكم في كتاب فقه السنة لـ سيد سابق؟
الجواب
كتاب فقه السنة لـ سيد سابق كتابٌ جليلٌ، ومن أعظم الكتب التي ألفت في الفقه الإسلامي؛ لاختصاره وشموله واحتوائه على الدليل، فإنه لا يورد مسألة إلا ويحدد الدليل فيها ويخرج الحديث، غير أن هناك مؤاخذات عليه، ومن هو الذي ليس بمؤاخذ، فكلٌ يؤخذ من قوله ويرد، وهناك عدة مؤاخذات عليه في موضوع اللعب، وحلق اللحية، والأغاني، يعني: كانت له آراء قالها في زمن، وطبعت في كتبه، وهذه الآراء رد عليه العلماء فيها، فأنت إذا استطعت أن تشتري هذا الكتاب، فاشتره واستفد منه، لكن احذر من آرائه في هذه الأمور الأربعة: 1 - رأيه في الحجاب.
2 - والغناء.
3 - واللعب.
4 - وحلق اللحية؛ لأن الكتاب ألفه في وسط اجتماعي، يعني: لو أنه أعطاهم الحكم الشرعي في هذه، ربما رفضوا كتابه، فلعله ترخص أو تجوز في بعض الخلافات، لكن لا يوجد تردد، الدين ليس فيه أوصاف، ما فيه إلا قال الله، وقال رسوله، ومن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط.(38/12)
جواز العمرة أكثر من مرة في الشهر
السؤال
هل تكرر العمرة في الشهر أكثر من مرة؟
الجواب
ليس هناك مانع، فقد ثبت عن بعض الصحابة أنهم كانوا يعتمرون في الشهر أكثر من مرة، وقد ذكر هذا ابن القيم في كتابه زاد المعاد، ولكن بشرط أن ينشئ لكل عمرة سفراً مستقلاً.
أما أن يكون في مكة، ثم يأتي بعمرة، وبعد ذلك يخرج من الحرم ويذهب فيحرم من التنعيم ويجيء، هذا كرهه أهل العلم، وقالوا: لا دليل عليه، ولم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة، وإنما أجازه صلى الله عليه وسلم لـ عائشة فقط تطييباً لخاطرها؛ لأنها دخلت وبعد ذلك حاضت، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تدخل عمرتها في الحج، فشعرت هي بنقص؛ لأن صاحباتها أخذن عمرة مستقلة؛ لأنهم كانوا متمتعين، وهي أخذت عمرة قارنة في الحج، فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يأخذها، وأن تحرم من التنعيم، من مسجد عائشة الآن تطييباً لخاطرها، فمن كان له ظرف مثل ظرف عائشة فربما جاز له ذلك.
بعضهم يعتمر في اليوم أربع عمرات، قال: هذه عمرة، يقول: إن ذهابه من بيت الله إلى مكان التنعيم ورجوعه، ليست كأجر مَن لو طاف بالبيت وجلس يتعبد في المسجد، أما إذا جئت إلى أبها، وقد أخذت عمرة قبل خمسة عشر يوماً، وعندك غرض ثانٍ إلى مكة، وذهبت وأتيت بعمرة، فلا شيء في ذلك، لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) ولحديث في السنن: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان عن المرء الفقر والذنوب كما تنفي النار خبث الحديد) والمتابعة تقتضي التكرار.(38/13)
حكم طواف الوداع للعمرة
السؤال
هل للعمرة طوافُ وداعٍ؟
الجواب
اختلف أهل العلم في طواف الوداع بالنسبة للعمرة، فقال مجموعة من العلماء: إن لها طواف وداع؛ لأنه واجب، قلنا الدليل؟ قالوا: الدليل القياس على الحج، قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت) فنحن نقيس العمرة على الحج؛ لأن هناك تشابهاً في أحكامها.
وقال آخرون: لا نوجب على الناس أمراً لم يوجبه الله عليهم؛ لأن الأصل في العبادات التوقيف، وعدم القياس، وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم قال للناس في حجة الوداع: (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت) نعم.
يجب عليهم، لكن لم يقل لهم في العمرة، وهو اعتمر أربع عمرات صلوات الله وسلامه عليه، ولم يقل أحد: إنه اعتمر وأتى بطواف الوداع فيها، فدل ذلك على أنها للاستحباب، فمن طاف وداعاً فهو أفضل، ومن لم يطف فلا شيء عليه، والأول يرجحه الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، والثاني رجحه مجموعة، من أعضاء هيئة كبار العلماء.(38/14)
حكم صلاة الوتر عند أذان الفجر
السؤال
إذا أذن للفجر وأنا أصلي الوتر، فهل يحسب لي وتراً، علماً بأن بعض المؤذنين يؤذنون قبل دخول الوقت؟
الجواب
الحمد لله، الوقت الآن معروف عن طريق التقويم، فإن أذن للفجر وأنت تصلي الوتر، وكان هذا الأذان على التوقيت، فمعنى هذا: فاتك الوقت الشرعي لأداء الوتر، وعليك أن تقضيه قضاء، ما هو القضاء؟ تقضيه شفعاً، فإذا كنت تفعله واحدة فاقضه اثنتين، والقضاء يمتد معك، من بعدما يؤذن إن أردت أن تقضي بعد الأذان أو بعد الصلاة، أو قبيل الظهر، معك طوال اليوم، وإن كنت تصلي ثلاثاً فتقضي شفعاً أربعاً، وإن كنت توتر خمساً فتقضي ستاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوتر من الليل بإحدى عشرة ركعة، فإذا فاته الوتر من الليل، قضاه اثنتي عشرة ركعة.
أما إذا تيقنت أن هذا المؤذن يؤذن قبل الفجر المعلوم في التوقيت، فإنك لا تنتبه له، وعليك أن تصلي وترك، فأنت قد أديته في الوقت الشرعي؛ لأن الفجر يدخل بطلوع الفجر لا بأذان المؤذن، وبعض المؤذنين يؤذنون قبل دخول الوقت، هذا ما علينا منه، ولهذا كان أحد السلف إذا سمع المؤذن يؤذن قبل الوقت ويقول: الصلاة خير من النوم، قال: كذبت، لماذا؟ لأنك توجب على الناس أن الصلاة خير من النوم، وهو ما زال لم يطلع الفجر، لا تقال هذه الكلمة يعني: التثويب إلا بعد طلوع الفجر.(38/15)
جواز الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم أثناء خطبة الجمعة
السؤال
إذا دخل الخطيب يوم الجمعة للخطبة، هل يجوز أن نقول عند سماع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم صل وسلم عليه؟
الجواب
نعم يجوز، إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقل: اللهم صل وسلم عليه، فإنه ليس من الذكر المخالف لمضمون الجمعة والخطبة.(38/16)
جواز السؤال والاستعاذة أثناء الخطبة
السؤال
إذا ذكرت الجنة والنار هل يجوز أن نستعيذ بالله من النار، أو نسأل الله من فضله عند ذكر الجنة؟
الجواب
نعم.(38/17)
جواز التأمين عند دعاء الإمام في الخطبة
السؤال
ما حكم التأمين عند دعاء الإمام حينما نسمع الإمام يدعو؟
الجواب
التأمين مطلوب ومشروع، لكن رفع اليدين هو الذي ليس فيه دليل، إذا كان يوم الجمعة والإمام يقول: اللهم أعز الإسلام والمسلمين فمن حقك أن تقول: آمين، لكن رفع اليدين لم ينقل، ولو فعل لنقل، ولما لم ينقل دل على عدم مشروعيته، إلا في الاستسقاء، إذا قال الإمام: اللهم اسقنا وأغثنا، فيشرع له رفع يديه ويشرع للمؤمنين رفع أيديهم، وقد نقل هذا؛ (أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه، حينما استغاث للناس بالمسجد يوم الجمعة صلوات الله وسلامه عليه).
فيؤمن الإنسان، ولم يرد في الشرع رفع أو خفض، ولكن نقول: أمن بصوت منخفض أو مرتفع، طبعاً بما لا يشوش أو يؤدي إلى الخروج عن العرف.(38/18)
حكم مصافحة أم زوجة الأب
السؤال
هل يجوز أن أصافح والدة زوجة أبي، وخاصةً إذا كانت كبيرةً في السن؟
الجواب
زوجة أبيك يعني: هذه أمك، هناك أناس يأتون بأسئلة، يريدون أن يختبروا ذكاء الواحد، زوجة أبيك هي أمك، أو عمتك إن كان لأبيك اثنتين، حسناً زوجة أبيك يعني: عمتك زوجة ثانية، أمها أنت محرم لها؛ لأنها حرمت على أبيك، وبالتالي حرمت عليك أنت، لا يجوز لك أن تنكحها؛ لأنها محرمة على أبيك ومحرمة عليك، فيجوز لك أن تصافحها.(38/19)
حكم ذهاب المرأة مع أجنبي ومعه زوجته
السؤال
هل يجوز لامرأة أن تذهب مع رجل وزوجته، وهو غير محرم لها في داخل المدينة كالمدرسة، أو المستشفى بعد موافقة زوجها؟
الجواب
لا يوجد في ذلك شيء، إذا لم يترتب على ذلك خلوة أو سفر؛ لأن المحرَّم في الشرع أمرين: إما خلوة ولو متراً واحداً فلا يخلو أحد بامرأة، أو سفر ولو كان يوماً واحداً، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم) هذا حرام، لكن إذا كان في الانتقال مثلاً من البيت إلى المستشفى، امرأة في البيت واتصلت بزوجها وقالت: أنا مريضة، قال: أنا لا أستطيع أن آتي، قالت: فلان سيذهب هو وامرأته، هل تسمح لي؟ قال: ليس عندي مانع؛ لأن المسافة من المستشفى إلى البيت قليلة، ولا يتوقع فتنة، ولا خلوة؛ لأن معها امرأة، فهذه إن شاء الله ما فيها شيء.(38/20)
حكم المذي وما يترتب عليه
السؤال
ما رأيكم؛ أنا رجلٌ مذاءٌ، ويعتريني المذي من وقت لآخر، وقد حصل أن أحسست به وأنا في الصلاة أكثر من مرة، فما حكم المذي الذي يخرج مِنِّي؟ وما حكم الملابس التي يقع عليها المذي؟ وما حكم الصلاة التي اعتراني فيها شيء من هذا المذي، مع العلم أنني لا أحصيها؟ وقد مرت بي حالات أجهل الحكم فيها؟
الجواب
المذي: سائلٌ لزجٌ يخرج من الرجل عند التفكير في النساء، ويخرج من غير تدفقٍ ولا لذةٍ، بينما المني: سائلٌ لزجٌ كثيفٌ يخرج من الرجل عند الجماع متدفقاً بلذة، وحكم المني أنه طاهر إذا وقع في الثوب، ولكن يجب منه الغسل.
أما المذي فهو نجس يجب غسله من الثوب والوضوء منه، ولكنه لا يجب منه الغسل.
وبالنسبة للملابس التي يقع فيها شيءٌ من هذا يجب غسلها.
وبالنسبة للصلوات التي صليت فيها، وأنت تعرف أنه نزل منك شيء فعليك أن تقضيها ما دمت تستطيع أن تحصيها، وهنا يقول: إنه لا يحصيها، لكن حاول أن تحصرها، فإذا لم تستطع أن تحصرها مرة واحدة، فتتوب إلى الله عز وجل، ونسأل الله أن يتوب عليك.(38/21)
كيفية صلاة المريض
السؤال
أنا شابٌ وبصحةٍ جيدةٍ، ولكن أصابني تمزق في العضلات وذلك نتيجة لعبة كرة القدم، ولقد ذهبت إلى العلاج الطبيعي ونصحني دكتور بأن أصلي وأنا جالس، مع العلم بأنني أحس بألم شديد حالة الركوع والسجود، ولكنني لا أصلي -والحمد لله الآن- إلا وأنا قائم، فما حكم الشرع في ذلك؟
الجواب
هذا الرجل ذهب ليلعب كرة القدم، لماذا؟ من أجل أن يتقوى، يريد الربح فرجع خسراناً، يريد أن يصير قوياً، فتمزقت عضلاته، ليتك ما لعبت كرة، وجلست هكذا! أما وقد لعبت وتمزقت عضلاتك، فإنك تصلي بحسب الحالة التي تستطيعها، فإن كنت تستطيع أن تصلي قائماً فصل قائماً، وإن نصحك الطبيب أن تصلي جالساً والطبيب موثوقٌ في دينه، ويعرف قدسية الصلاة وأهميتها، وتعرف أنك أنت لا تستطيع، فصل جالساً، أما إذا كنت تقدر على أن تصلي، وتعرف أن الدكتور هذا لا يعرف الصلاة، بل يريدك أن تتركها بالمرة فلا تطعه؛ لأنه لا يؤخذ بقول الأطباء فيما يتعلق بالدين، إلا إذا كانوا مسلمين ومؤمنين، ويعرفون قدسية الصلاة؛ لأن بعض الأطباء لا يصلي، فيقول لك: لا تصل مثله، ولا يعرف أن حكم ترك الصلاة كفر.(38/22)
ضرورة الالتزام بغض البصر
السؤال
أعاني من مشكلة الاختلاط مع عمي وأولاده؛ لأننا نسكن في بيت واحد، ولا يوجد عندنا سوى هذا البيت، ونحن في قرية صغيرة، مع عدم تطبيق الحجاب؟
الجواب
يقول: أنا مع عمي كأنه هو الذي رباه وأولاده، وعندهم بنات طبعاً، لا يحل له أن ينظر إليهنّ، نقول لك: اتق الله ما استطعت، وأنت بحكم كونك صغيراً، ومع عمك في بيت عمك، والبيت صغير ولا تستطيع أن تلزمهم بالحجاب، ولكن تستطيع أن تلزم نفسك بالحجاب، كيف؟ تغض بصرك، إذا جئت لتأكل لا ترفع نظرك إلى بنت من بنات عمك، بأي حال من الأحوال؛ لأنك إذا رفعت بصرك وقعت في الإثم، وإذا غضضت بصرك باستمرار، فإنك تشعرهم بأنه يجب عليهن أن يتحجبن، وسيأتي يوم من الأيام تفرض عليهم بهذا التصرف أن يتحجبوا إن شاء الله.(38/23)
التوبة من المعاصي مهما عظمت
السؤال
أنا شابٌ وقعت في جريمة الزنا -والعياذ بالله- مرات، أفدني هل لي توبة؟ لأنني أريد أن أرجع إلى الله من هذا المسجد؟
الجواب
نقول: نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يردك إليه -وجميع المسلمين- رداً جميلاً، وبارك الله فيك ما دمت تريد الرجعة إلى الله، ولك توبة يا أخي! وتوبة عظيمة جداً، كيف التوبة؟ توبة يبدل الله فيها سيئاتك حسنات.(38/24)
معنى تبديل السيئات حسنات يوم القيامة
السؤال
كتب لي أحد الإخوة كتاباً يقول فيه: إنني أحبك في الله -جزاه الله خيراً وأحبه الله- قد ورد في سؤال لك حول التوبة من جريمة الزنا، قلت: إن الله تعالى يبدل سيئات الزاني حسنات، بل ملايين الحسنات -أنا قلت يوماً من الأيام: إذا كان لك مليون سيئة فإن الله يمحوها ويجعل بدلها مليون حسنة- الأخ له رأي يقول: أنا لا أعترض على الآية، ولا على كرم الله، ولا على جوده وفضله، ولكنني سمعت قولاً لأهل العلم: أن الحسنات المقصودة التي تبدل للتائب، والتي في سورة الفرقان، المقصود منها: أن الله يغفر ويعفو عن عبده ما فعل في الماضي، وهذا فضلٌ من الله وجود وكرم، أما أن يبدلها ملايين الحسنات، فلا، ليس لأن الله كرمه محدود ولكن لأن صاحب هذه الكبائر لا يستحق ملايين الحسنات، بدل الكبائر التي فعلها، ويكفيه أن الله قد غفر له، وعفا عنه، وقبل توبته، وهذا فضلٌ من الله ونعمة وكرم، ثم إن بعض ضعفاء النفوس -هذا كلام الأخ- قد يستغلون هذا الكلام، فيتمادون في طغيانهم، بحجة أنهم سوف يتوبون، ويبدل الله سيئاتهم حسنات، لا سيما وأن الناس يحبون ندواتك، ويقتنون أشرطتك، ويثقون في أقوالك، وهذا فضلٌ من الله عليك، فأرجو أن تنبه على هذا الموضوع في ندوة أخرى.
الجواب
جزى الله هذا الأخ خيراً، وأقول له: إن هذا القول الذي ذكرته، ليس القول الراجح في أقوال أهل العلم في هذه المسألة، صحيح قاله بعض أهل العلم، ولكن الذي رجحه ابن كثير في تفسيره، عند كلامه على هذه الآية خلاف ما ذكرت، وقال: والصحيح الذي عليه الأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسول الله؛ أن الله يبدل السيئات حسنات بعددها، ما هو الدليل؟ قال الدليل: ما رواه مسلم اسمعوا الحديث، صحيح لم يعد هناك كلام، إذا ورد نهر النقل بطل نهر العقل، اجعل عقلك يجلس، قال: ورد في صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها، رجلٌ يؤتى به يوم القيامة فيقول الله: اعرضوا عليه صغار ذنوبه) آخر من يخرج من النار، وآخر من يدخل الجنة، أحدهم ذنوبه كثيرة، لكن الله أخرجه، قال: (فتعرض عليه ذنوبه، وترفع عنه الكبائر -يرى الصغار فقط- فيقال: هل عملت كذا يوم كذا وكذا؟ فيقول: نعم) لا يستطيع أن ينكر؛ لأنه إذا أنكر ظهر الشهودُ منه، وهو مشفقٌ من كبار الذنوب؛ يقول: الآن سألوني عن الصغار، كيف الكبار؟ سألوني عن النظرة، والضحكة كيف إذا جاءت الكبيرة؟ قال: (وهو مشفقٌ من كبار ذنوبه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئةٍ حسنة) هذا نص في الموضوع، مكان كل سيئة، يعني: من الذنوب التي أحصيناها لك، ليست من الذنوب التي في المستقبل ستعملها، لا.
الذنوب التي عملتها، عملت كذا يوم كذا، قال: نعم، عملت كذا يوم كذا، قال: نعم، فيشفق من الكبار، قال: (فيقال له: فإن لك مكان كل سيئةٍ حسنة، فيقول: يا رب! قد عملت أشياء كبيرة ما رأيتها)؛ يقول: الآن أعطوني الكبار ما دام أن الله يبدلها حسنات، أخرجوا الكبار، سبحان الله! قال: (فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه) كان يتصور وهم يسألونه: عملت كذا يوم كذا يتصور أن هناك عقبة، ويقول: كيف لو أتوا بالكبار؟ ويوم عرف أن بكل سيئة حسنة، قال: هناك أشياء ما رأيتها، أين هي يا رب؟ ائتوا بها كلها من أجل أن آخذ مقابلها حسنات.
هذا جواب عليك يا أخي! في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في الصحيح، ارجع إلى صحيح مسلم، وارجع إلى تفسير ابن كثير، لتجد هذا الحديث صحيحاً عن أبي ذر.
وذكر ابن كثير حديثاً آخر، يرويه الإمام ابن أبي حاتم رحمه الله، ويقول: (جاء رجلٌ كبيرٌ هرمٌ قد سقط حاجباه على عينيه فقال: يا رسول الله! رجلٌ غدر وفجر، ولم أدع حاجة ولا داجة إلا اقترفتها -لو قسمت خطاياه بين أهل الأرض لأوبقتهم، يقول: سني كبير حتى سقطت جفوني على عيوني وأنا في المعاصي- فهل لي من توبة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أأسلمت؟ قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقال له: فإن الله غافرٌ لك، ومبدلٌ سيئاتك حسنات، فقال: يا رسول الله! وغدراتي وفجراتي؟! قال: وغدراتك وفجراتك، فولى الرجل يكبر ويهلل) وهو يقول: لا إله إلا الله، الله أكبر!! فهذا الحديث والذي قبله نصٌ في القضية، أما أن يقال: إنا إذا قلنا للناس: إن الذنوب تبدل حسنات فسيتمادون، فهذا ليس بصحيح، بل إذا قلنا: إن الذنوب تبدل إلى حسنات هو الذي يدفعهم إلى التوبة، أليس كذلك؟ عندما يعرفون فضل الله عز وجل يسارعون إلى الله بالتوبة، فهذا القول.
وعلى كلٍ جزاك الله خيراً، وقولك الذي ذكرته، وقلت: قال به بعض أهل العلم، نقل عن مجاهد وعكرمة، ولكن الذي رجحه أهل العلم والمحققون منهم، ما اتفق مع الدليل، وما اتفق مع نص الآية، فإن نص الآية كما قال الله عز وجل: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] والقرآن نزل بلسان عربي مبين، وقضية الإبدال، هو إخفاء شيء ووضع شيء، فالله تعالى قال: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] فدل بالمنطق والعقل والدليل أنه يبدلها من سيئات إلى حسنات، أما أن يغفرها رب العالمين، فهذا فضل منه، وقد أخبر في آية أنه يغفرها، لكنه كريم يغفرها ويبدلها، ماذا نقص عليك؟ ربك كريم.
سبحان الله العظيم! لا إله إلا الله!(38/25)
ضرورة الصبر وتحمل التبعات في الدعوة إلى الله
السؤال
أعد لنا -حفظك الله- قصتك مع الشيخ المدخن؟
الجواب
كنت في طريقي من العمرة إلى أبها، ووقفت في الطائف أمام صاحب بنشر، من أجل أن أزيد هواء إطار السيارة، يعني: كنت ألاحظ أن في إطارات السيارة نقصاً، فبينما البنشري يعبئ، وأنا ماشٍ على سفر ومعي أهلي، رأيت شيبةً يبلغ ربما سبعين أو ثمانين سنة، قد حلق لحيته وشنبه؛ لأن اللحية تستر الرجال سواء كان مسناً أو شاباً؛ لأنه إذا كان شاباً وحلق لحيته شوهته، لأنه يتشبه بجنس ثانٍ، وإذا كان مسناً وحلق لحيته، أخرجت تجاعيد وجهه، وصار كأنه كاهنة، ولكن لو أبقى لحيته لكان مستوراً بها، فاللحية ستر، فهذا الرجل مجعد الوجه، ومحلوق اللحية، ومدخن، فسرت إليه، وقبل أن أصل إليه قلت: أنا ماش، وهذا المسكين مسلم، لماذا لا أنصحه؟ أليس الله أمرني بأن آمر بالمعروف؟ فتأثماً جئت إليه وبدأته بأحسن أسلوب، قلت له: السلام عليكم وأنا أبش في وجهه، قال: وعليكم السلام، قلت: بارك الله فيك، ووفقك الله، ونور الله بصيرتك، أنت من أهل الخير، انظر نور الإيمان في وجهك -وأنا لا أحبه والله؛ لكن قلت: لعل الله أن يهديه- وأنت أمد الله في عمرك، وأخرك في حياتك، ذهب الشباب وولى، وذهب الطيش والجنون، والآن جاء المشيب، الآن تقطف ثمرات عمرك تتوب إلى الله وتستغفر، وأنا مسافر ورأيتك تدخن، فحزنت عليك، وانظر إلى أهل السوق كلهم يدخنون، ما كلمت أحداً منهم إلا أنت؛ لأن النور في وجهك، وأنت غريب، والمفروض ألا تشرب الدخان.
أنا كنت أتصور بعد هذا الأسلوب الجميل العظيم؛ أنه أقل ما يمكن؛ أنه يقول لي من باب المجاملة ومن باب الحياء: جزاك الله خيراً.
وهذه الكلمة لا تكلفه شيئاً، وأنا سأقول: الله يوفقني وإياك، لكن أتعرفون ماذا قال لي هذا الشيخ العجوز، هداه الله وجميع المسلمين؟ هز رأسه وقال: عجيب أنت يا مطوع! اذهب اذهب أنت عاطل ليس عندك عمل، امش، الحقيقة لما قالها قلت: لم ينفع الهدوء معه، والكلام الحسن، وأن له قلباً خبيثاً، وصار في رأسي مثل الكهرباء، وجعلت أتلفت كيف أتخلص من هذا الموقف، كان باستطاعتي أن أضرب ذاك الشيخ العجوز؛ ولكن قلت له: اسمع، قال: نعم، قلت: بإمكاني أن أنتصر لنفسي من هذا الكلام، لكن أحيلك على من ينتصر لي يوم القيامة، ونسأل الله أن يهديه إن كان حياً، وأن يتوب عليه إن كان ميتاً.(38/26)
الوتر أول الليل لمن لم يقم آخره
السؤال
يفوتني باستمرار أو دائماً الوتر وبعض السنن، مع أنني لم أترك فرضاً، وذلك ليس عمداً، ولكنني أظن أنني سأقوم آخر الليل فأنام، فإذا جئت لأصلي الوتر بعد العشاء قلت: سأقوم في هذه الليلة، ولكني أنام ولا أقوم، فما الحكم؟
الجواب
نقول لك: ما دمت تعرف أنك على هذا الوضع، فعليك أن توتر أول الليل؛ لأن المجازفة في الوتر فيه خطورة عليك؛ لأن الوتر من آكد السنن، فأوتر قبل أن تنام الليل، وانو أن تقوم، فإن أمدك الله وأعانك وأيدك، وقمت آخر الليل، فاكتف بما أوترت أول الليل، وصلِّ ما بدا لك آخره، ولا شيء عليك، ولا داعي لأن تصلي ركعة كما يفعله بعض الناس فإنه لا وتران في ليلة، بل تكتفي بالوتر الأول، والخير لا يمنع من الخير، أما ما ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) فإنه على سبيل الندب والاستحباب، لا على سبيل الإيجاب، كما سمعت الشيخ عبد العزيز بن باز يقول هذا.(38/27)
حكم الحك الكثير في الصلاة
السؤال
رجل مصاب بالقشرة وهو كثير جداً، ويكثر حكه في الصلاة، فما حكم صلاته؟
الجواب
عليه أن يقاوم، ويصبر عن الحك ما استطاع؛ لأن الحك يؤدي إلى إزعاج المصلين، وإلى كثرة العبث، فعليه أن يتقي الله، وأن يسأل الله أن يتوب عليه، وأن يصبر ويتحمل، فإذا أكمل الصلاة فله أن يحك عشر دقائق بعد الصلاة.(38/28)
حكم الركعتين بعد أذان المغرب
السؤال
رجلٌ صلى بعد أذان المغرب ركعتين، وهي ليست سنة، كما يقول ابن تيمية: من صلى بعد أذان المغرب ركعتين وهو يعتقد أنها سنة فهو مخطئ، فصَّل لنا هذا الأمر؟
الجواب
هذا الأمر فيه حديث في السنن أنه: (بين كل أذانين صلاة) لكن قال صلى الله عليه وسلم في الثالثة: (لمن شاء) فإذا أذن وأنت في المسجد، وأردت أن تصلي فصلِّ، وإذا أردت ألا تصلي فلا تصل، ولا عليك إن لم تصل ولا عليك إن صليت؛ لأنه لمن شاء.
أما من صلاها بعد الأذان، وقبل الصلاة، على أنها راتبة، ويعتقد أنها سنة، فلا، لماذا؟ لأنها ليست من سنن الرواتب، الراتبة للمغرب بعد صلاة المغرب.(38/29)
حكم من ترك الصلاة عمداً ثم تاب
السؤال
أنا شاب والحمد لله التزمت، وأبلغ من العمر تسعة عشر عاماً، ولكنني قلق بسبب أمر هام، وهو أنني تذكرت بأنني قد تركت بعض الصلوات، فماذا أفعل؟ وكنت أصلي بعض الأحيان بغير طهور؟
الجواب
نقول: ما دام أنك كنت تترك الصلاة، وتصلي أحياناً بغير طهور، فلا يلزمك إعادة الصلوات الماضية وما دام أنك اهتديت فقد أسلمت، والإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها، ونسأل الله عز وجل أن يتوب عليك في الماضي، وأن يثبتك في المستقبل والحاضر.(38/30)
الشيخ وزيارته للمناطق
السؤال
يقول: ذهبتم في دعوتكم إلى الشرقية والرياض والوسطى والغربية، ونحن في نجران لا نبعد عنكم سوى كيلو مترات، فحبذا لو زرتمونا؟
الجواب
حفظك الله! إنها ثلاثمائة كيلو، نعم، جزاك الله خيراً، وسوف أزور نجران، وقد زرتها قبل الرياض، وقبل المنطقة الشرقية، والغربية، زرتها مرات، ولكن إن شاء الله أزورها مرة أخرى.(38/31)
حكم صلاة المرأة مكشوفة القدمين
السؤال
هل للمرأة أن تصلي أمام النساء، أو أمام زوجها، أو المحارم وقدماها مكشوفتان؟
الجواب
لا.
لا يجوز لها أن تصلي وقدماها مكشوفتان، يجوز لها كشف وجهها فقط وكفيها، أما رجلاها فتغطيهما، والدليل ما رواه أبو داود في سننه عن أم سلمة، قالت: (يا رسول الله! أتصلي المرأة في درع -الذي نسميه الشرشف- وخمار بغير إزار؟ قال: إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها) فدل الحديث -والحديث صحيح في سنن أبي داود - أنه يطلب من المرأة ألا تصلي ورجلاها مكشوفتان، بل يجب أن تلبس لباساً سابغاً يغطي رجليها، ولا يبدو منها إلا وجهها فقط وكفاها، إلا أن يراها أجنبي، فإذا رآها رجل أجنبي فإنها تغطي وجهها وكفيها.(38/32)
حكم تسريح شعر المرأة للخلف
السؤال
ما حكم تسريح شعر النساء للخلف؟
الجواب
ليس فيه شيء، تسرحه من الأمام أو من الخلف، المهم ألا يراها أجنبي.(38/33)
وضع (السحاب) في ملابس المرأة
السؤال
شخص سألني: ما حكم (السحَّاب) الذي في الظهر في ملابس النساء؟
الجواب
تضعه في الظهر، أو الجنب، أو الصدر يجوز كل هذا، بعض الناس يقول: لا تضعه في الظهر؛ لأنه حرام، ما هو الدليل؟ السحَّاب ضعه في أي مكان، ليس هناك شيء.(38/34)
حكم من أخذ شيئاً بغير حق
السؤال
منزلنا مؤجر على مدرسة، وكان المدرس القائم بهذا العمل في هذه المدرسة وحيداً، والمدرسة في قرية من القرى، وكان حينما يخرج الطلاب والمدرس إلى صلاة المغرب؛ ولأن بيتي بجانب المدرسة، فأنزل من بيتنا وأفتحها، وآخذ منها إعاشة الطلاب -التي كانوا يصرفونها للطلاب في الماضي- وآكل منها، وكنت في ذلك الوقت جاهلاً، فما الحكم؟ الواجب: الأخ تسلط على الإعاشة التابعة للطلاب من حليب وغيره فنقول له: استغفر الله يا أخي! وتب إلى الله، ونسأل الله أن يتوب عليك؛ لأنك جاهل وصغير، واليوم الحمد لله أنت عاقل؛ ولأنه قد يكون لك في ذلك الشيء نصيب باعتبارك طالباً، نسأل الله أن يتوب عليك.(38/35)
حكم تقبيل يد أم الزوجة
السؤال
هل يجوز أن أسلم على يد أم زوجتي، أو على رأسها؟
الجواب
أم زوجتك في حكم أمك، وأنت محرم لها، ولكن السلام على يدها غير مستساغ منك؛ لأن فيه منافاة لكرامتك، ولكن من باب التكريم سلم على رأسها، أما يدها فلا، أما أمك فلك أن تسلم على يدها، أو على يد أبيك إذا أردت؛ لأن فضل أمك ليس كفضل عمتك، نعم.
عمتك لها فضل؛ لأنك زوج ابنتها، لكن أمك لها فضل؛ لأنها ولدتك وتعبت من أجلك فلا تساو بين أمك وعمتك.(38/36)
من وكل شخصاً في شراء شيء فباع له من نفسه
السؤال
رجل أعطاني عشرة من الريالات؛ لأشتري له أشرطة دينية، ويوجد عندي ما يريده، ويوجد عندي آلة تسجيل، فسجلت له عندي في البيت، وأخذت النقود وهي عشرة من الريالات، فهل هذه حلال أم لا؟
الجواب
أنت عقليتك تجارية، تريد أن تبيع لهذا الضعيف، أنا أقول: ما دام وصاك أن تشتري فيجب أن تشتري؛ لأن هؤلاء المساكين الفاتحين محلات أشرطة، فتحوا لماذا؟ من أجل نشر الدين الإسلامي، ومن أجل بث التوعية الدينية، وأيضاً لهم أتعاب وإيجارات، فإذا اشتريت شريطاً أو شريطين بعشرة ريالات، فإنك تساهم في دفع هذا الخير وترويجه، نقول لك: اذهب واشتر بالعشرة شريطين غير الذي طلبك وأعطه إياها، واعتبر الشريطين هدية وصدقة -إن شاء الله- تبرأ ذمتك.(38/37)
ضرورة الحرص على الأبناء وأماكن ذهابهم
السؤال
يا شيخ أريد حلاً: والدي يمنعني من حضور مثل هذه الدروس المفيدة، وهذه المحاضرات، ويقول لي: ما يدريك لعل هؤلاء يتكلمون خلسةً من غير علم المسئولين، فأنا أحضر دون علمه، وإذا رجعت إلى البيت فإنني أجده غضبان بسبب هذا الفعل مني، وكأنني ارتكبت جريمةً، أقول لك بوضوح: إنه أمرض قلبي؟
الجواب
لا.
يا أخي! ما أمرض قلبك، بل جزاه الله عنك خيراً، فهو يحبك، ويحرص عليك، وعلى مصلحتك، ولا يريد أن تتعرض لشيء، ولكن أكد له وأقنعه واجزم له أنك تجلس في مجالس مرخص لأصحابها من قبل ولاة الأمر، مثل مجلس الشيخ عائض، وهذا المجلس، والمجالس الأخرى الدورية، هذه المجالس مرخص لأصحابها، ويمارسون هذا العمل بإذن رسمي من قبل الدولة وفقها الله، وبارك فيها وحفظها وهداها إلى الصراط المستقيم، فأقنعه وقل له هذا الكلام، إذا اقتنع فالحمد لله، وإذا رفض فعليك أن تطيع أباك؛ لأن طاعته واجبة، وبإمكانك أن تسمع الشريط الإسلامي الذي تسجل فيه هذه المحاضرات، فتجمع بين سماع العلم وطاعة الوالد.
أما أن ترفض أمر أبيك وتأتي رغم أنفه وهو غير راضٍ، فإنه لا ينبغي، حتى ولو كان هذا من أجل طلب العلم؛ لأن بإمكانك أن تطلب العلم عن طريق الكتابة، والشريط، وتجمع بين الأمرين؛ لأن رضا الوالد مطلوب في الشرع، وقد يحصل لك عدم بركة في علمك إذا كان أبوك غير راضٍ.
ولكننا ندعو هذا الأب الكريم -جزاه الله خيراً- الذي يحرص على ولده، نقول: إن من مقتضيات حرصك على ولدك أن تشجع فيه هذا الجانب الإيماني الذي يدفعه إلى حضور مجالس العلم، وأن تأتي معه، ما دام الله هدى ولدك ووفقه وسدده فافرح يا أخي! كثير من الآباء يحب أن يخسر نصف ملكه من أجل أن يهتدي ولده، لكن الهداية بيد الله عز وجل، فما دام أن الله هدى ولدك، ما رأيك لو أن ولدك ذهب إلى القهوة، أو المخدرات، أو مع المغنين، والفجرة واللوطة، هل ستكون مبسوطاً؟ لا.
فكيف تمنعه من مجالس العلم؟ هل تريد أن ترده إلى الشر، فاتق الله يا مسلم! اسمح لولدك وتعال معه، وليس هناك مانع من أن تتأكد من نوعية المجالس التي يجلسها ولدك، حتى يطمئن قلبك إن شاء الله.(38/38)
حكم العلوم الدنيوية وكيفية استغلالها
السؤال
سمعت من بعض المشايخ أن العلم الغير الشرعي ملعون، وبعضنا في أقسام الفيزياء والكيمياء والرياضيات، فما قولكم جزاكم الله خيراً؟
الجواب
ورد حديث في السنن: (إن الدنيا ملعونة معلونٌ ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً) ومعنى الحديث إن صح: أن الدنيا التي لا تعين على الدين، بل ضد الدين فهي ملعونة، واستثنى منها: ذكر الله وما والاه أي: ما أعان عليه، وعالماً أو متعلماً، فإذا كنت تتعلم الفيزياء والكيمياء والرياضيات، وهدفك من هذه العلوم أن تتخرج، وأن تعلم أبناء المسلمين في المدارس الثانوية، فتعلمهم الرياضيات، ومع الرياضيات تصبغها بالدين، وتخدم بهذه المادة الدين، فأنت إن شاء الله! أجرك كبير جداً، وأنت تطلب العلم -إن شاء الله- ولأن العلم هذا واجب أيضاً، يقول العلماء: إنه فرض كفاية على الأمة، إذا لم تقم به فإنهم يأثمون كلهم، نحن بحاجة إلى الطبيب المسلم، ومدرس الرياضيات، والمهندس المسلم، والضابط المسلم.
والأمة الإسلامية أمة متكاملة، تحتاج إلى كل التخصصات، فإذا كان الواحد يريد بهذا التخصص خدمة الأمة، وسد ثغر من ثغور الأمة فإن له أجراً.
أما الذي يتعلم هذه المواد وهو ناقم على الدين، ولا يريد الدين، ولا الشريعة، ولا رفع رأس الإسلام، وأن يتخرج إلى منصب ليحارب الدين، هذا هو المعلون حقيقةً، أما إذا كانت نيتك حسنة، فأنت تستطيع أن تخدم الدين في أي مجال، ولك أجرك إن شاء الله حسب نيتك.(38/39)
حكم حلق اللحية بدعوى أن الله جميل يحب الجمال
السؤال
بعض الإخوة أدعوهم إلى إعفاء لحاهم، فيقولون: إن الله جميلٌ يحب الجمال؟
الجواب
نعم.
صدقوا والله! إن الله جميلٌ يحب الجمال، وجمالكم يا شباب في لحاكم، والله ليس هناك جمال إلا في لحيتك، أما إذا حلقتها فقد شوهت نفسك، وغيرت خلق الله؛ لأن الله يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] والذي يحلق لحيته فقد جعل نفسه في أسفل سافلين.(38/40)
حكم من مر بآية سجدة وهو في سيارة
السؤال
إذا كنت راكباً في سيارة وقرأت القرآن، ومررت بأية فيها سجدة، فماذا أفعل؟
الجواب
أومئ إيماء، إذا مرت بك سجدة فاسجد إيماءً بحسب استطاعتك إذا لم تستطع أن تصل إلى الأرض؛ لأنك إذا أوقفت السيارة دخلت عليك كلفة، فاسجد إيماءً، ولك -إن شاء الله- أجر.(38/41)
مدح الزوج في وجهه ولعنه إذا غاب
السؤال
ما حكم الزوجة التي تسب زوجها في حال غيابه، وتلعنه وتلعن والديه، وإذا دخل البيت ضحكت في وجهه، وأثنت عليه ومدحته؟
الجواب
هذه والعياذ بالله مجرمة، منافقة، لها وجهان، ومن لقي الله بوجهين كان له وجهان من نار! لا بد من الوضوح، إذا كانت غاضبة عليه، أو كان لها عليه مؤاخذات تقول له: أنت عملت بي كذا واتق الله.
أما أن تمدحه في الوجه، وتسبه وتشتمه وتلعنه في حيال غيابه، فهذه والعياذ بالله! ترتكب جريمة من أعظم الجرائم، وتأكل لحمه في كل حين، وتهديه حسناتها إن كان لها حسنات، أو تأخذ من سيئاته، وكلنا لنا سيئات.(38/42)
عدم جواز منع الزوجة من زيارة أهلها
السؤال
هناك زوج يمنع زوجته من زيارة أهلها، ولكن يقول لها: زوري أهلي، فماذا تقول له؟
الجواب
نقول له: لا يجوز لك أن تمنع زوجتك من زيارة والديها وأهليها إلا إذا خفت وقوع فتنة، إذا كنت تعرف أنها إن ذهبت إلى أهلها تفسد جاز لك منعها، ولكن مع هذا يجب أن تذهب -أيضاً- معها، لتحول بينها وبين الفتنة.
أما أن تمنعها على الإطلاق، وكل يوم تذهب بها إلى أهلك، وتمنعها من أهلها، فهذا لا يجوز، وليس هذا من المعاشرة بالمعروف التي قال الله عنها: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] فكما تحب أنت أن تزور أهلك هي -أيضاً- تحب أن تزور أهلها، ومقتضى الحقوق التساوي في ذلك.(38/43)
حكم تفضيل الآباء لبعض أبنائهم
السؤال
ما حكم الإسلام فيمن يفاضل بين أبنائه -دائماً- خصوصاً مع وجود الأولاد البالغين، والصغار كذلك؟
الجواب
لا يجوز للمسلم أن يفضل بعض أبنائه على بعض، خصوصاً في حضرتهم، ولكن بإمكانه أن يُسِرَّ للطيب منهم المهتدي يأخذه على جنب؛ لأن هذا يخفض من معنوياتهم، ويوجد حقداً على أخيهم هذا؛ إذا جلسوا قال: والله ما فيكم إلا فلان فإنه مبروك، أما أنتم البقية ما فيكم خير، فإنهم سيقولون لوالدهم: ما دام ما فينا خير فأنت ما فيك خير.
بل قل في المجلس: كلهم فيهم بركة، وكلهم فيهم خير، والحمد لله فيهم صلاح، واسأل الله أن يهديهم، وتأخذ الطيب وتقول له: إني راضٍ عنك أنت خصوصاً، أنت ملأت عيني؛ لأنك على الطريق المستقيم، وتمسك المنحرف منهم وتقول: يا ولدي! انظر إلى إخوانك فإنهم أحسن منك، أريدك أن تصير مثلهم، يعني: تتحدث معهم بالحكمة، أما التحطيم أمام الآخرين، فهذا لا يعالج وإنما يوجد مشكلة.(38/44)
الحقوق المشتركة بين الزوجين
السؤال
ذكرتم حقوق المرأة وحقوق الرجل، أليست هناك حقوق مشتركة؟
الجواب
نعم.
هناك حقوق مشتركة، وأنا نسيتها حقيقةً، فالحقوق المشتركة بين الطرفين: أولاً: حل استمتاع كل منهما بالآخر، فإنه يحل للرجل أن يستمتع بالمرأة، ويحل لها أن تستمتع به.
ثانياً: ثبوت التوارث، فإنه بموته وبموتها يثبت التوارث، إذا ماتت قبله أو مات قبلها.
ثالثاً: ثبوت نسب الولد، يثبت نسب الولد له ولها بالزواج.
رابعاً: المعاشرة كما قلنا بالمعروف، فكما هو مطلوبٌ منه أن يعاشرها بالمعروف، فإنه مطلوبٌ منها أيضاً أن تعاشره بالمعروف.(38/45)
الضرب للزوجات متى يلجأ إليه
السؤال
متى يستخدم الزوج الضرب لامرأته؟ وما هو الضرب المشروع؟
الجواب
أولاً: ليس هناك ضرب مشروع، وليس هناك مشروعية في الضرب، إنما الضرب مباح كعلاج عند دواعيه، وهو وسيلة ختامية، قال الله عز وجل: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34] النشوز هو: التعالي والارتفاع، يعني: التكبر على الزوج وعدم الطاعة {فَعِظُوهُنَّ} [النساء:34] فأول شيء التعليم والموعظة، وبعد ذلك: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ} [النساء:34] وبعد ذلك: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] الثالثة: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء:34] والضرب هو الذي ذكره العلماء مثل: اللطمة في غير الوجه، واللكمة في المكان الذي لا تكسر عظماً، المهم أن لا يسيل دماً، ولا يكسر عظماً، ولا يقيم حداً؛ بعضهم إذا ضرب ظل يضرب ويضرب إلى أن يتعب، أنت لا تعزر ولا تقيم حداً شرعياً هنا، إنما تؤدب، عندما تشعر بأنك غضبان، اضرب مرة واحدة فقط، لكن لكم ولطم وضرب ودوس بالأقدام إلى أن يذبحها، هذا لا يجوز أيها الإخوة! والحياة الزوجية إذا لم تمش إلا بالضرب، فإنها حياة فاشلة، يعني: يجب أن يكون لك أساليب أخرى غير الضرب، ولا تلجأ باستمرار إلى الضرب، والرسول صلى الله عليه وسلم عاب الرجل الذي لا يضع سوطه عن رقبته، عندما جاءت فاطمة بنت قيس تستشير النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من الصحابة منهم أبو سفيان فقالت: ما رأيك في الزواج من فلان أو فلان؟ قال: (أما فلان فصعلوك) يعني: ليس معه شيء (وأما فلان فلا يضع سوطه عن عاتقه) يعني: ضراب، العصا معلقة في الدار، كلما فعلت شيئاً يغضبه قام بضربها، هذا لا يصح، ونصحها الرسول صلى الله عليه وسلم، بألا تتزوج بهذا الضراب، فصفة الضرب للمرأة ليست صفة رجولية، فالمرأة لا يهينها إلا لئيم، ولا يكرمها إلا كريم، وهي أمانة في عنقك، وهي أسيرة عندك، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنهن عندكم عوان) يعني: أسيرات، ولها حق عليك، فلا يكن الضرب ديدنك دائماً، لكن قد تضطر يوماً من الأيام إلى استخدام الضرب، وقد تلجئك الظروف.(38/46)
حكم دفع الزكاة للمجاهدين
السؤال
هل يجوز دفع الزكاة إلى المجاهدين الأفغان؟
الجواب
لم يكن جائزاً فحسب، بل هو واجب، فهو المصرف الشرعي الآن، والذي نحث أنفسنا وإخواننا إليه، هو الإنفاق على الإخوان المجاهدين، لا نقتصر على الزكاة فقط، بل نتصدق من أموالنا؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} [الصف:10]؛ تجارة عظيمة رابحة، ماذا تعمل لكم، تنجيكم من الجوع والعطش والأكل؟ لا.
وإنما: {تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10] من عذاب الله، وكأن الناس قالوا: نعم يا رب! نريد هذه التجارة، قال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف:11] فإذا قدرت بالمال والنفس فهو أفضل، وإذا لم تقدر إلا بالنفس، وليس معك مال فخير عظيم، وإذا لم تقدر بالنفس فلا أقل من أن تبذل المال.
وقد أرسل لي أحد القادة المجاهدين يقول: اجمع تبرعات للمسلمين، وقل للمسلمين ليكن الجهاد في حسبان المسلمين، ولد أو طفلة تأخذ كل يوم من جيب أبيها ريالين، من هو الذي يترك ابنته أو ولده بغير نقود، هل هناك أحد يفعل ذلك؟! نقول: اعتبر أن لك طفلاً صغيراً يعيش في المخيمات، وأن لك أخاً مجاهداً يعيش في الثلوج، وفي قمم الجبال يجاهد أعداء الله بصدره، ويلتحف السماء، ويفترش الأرض، وليس عنده طعام إلا الخبز اليابس، وقد لا يجده إلا في بعض الأيام، فلنجمع كل يوم ريالين، حتى تصير في الشهر ستين ريالاً.
{وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41] فالجهاد بالمال واجب، خصوصاً علينا نحن في هذه البلاد المباركة التي فيها خير، وخصوصاً في الآونة الأخيرة؛ لأن الجهاد الآن قام، وقطوف الثمرة الآن، فالذي يتخلى عن الجهاد الآن فإنه يتخلى عنه دائماً، قام الجهاد، واستطاع بإذن الله أن يدحر أقوى قوة كافرة على وجه الأرض؛ وهي قوة روسيا الدب الأحمر التي قامت على القتل واكتساح الشعوب، وتدمير الأمم، لكنها فشلت وانهزمت واندحرت، وخرجت تجر أذيال الهزيمة أمام الرجال الأشاوس الأبطال، الذين لا يملكون إلا الإيمان! قوة ضاربة حقيقةً، دمرت روسيا وخرجت وهي صاغرة، والآن يريدون العودة وسينتصرون بإذن الله، فقد انتصروا على روسيا، وسينتصرون على الخونة الملاحدة الموجودين الآن في الحكم بإذن الله عز وجل، ولكن يحتاجون إليك الآن.
والحمد لله هناك لجنة فرعية في المنطقة لجمع التبرعات وما عليك يا أخي! إلا أن تساهم في جهاد الأفغان بمالك الخالص.
أما الزكاة فهو مصرف شرعي ليس لك فيه فضل {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] إلى أن قال: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60] يعني الجهاد، فأخرج من مالك زكاته، وضعها في المصرف الشرعي للمجاهدين، وإذا كان هناك من المسلمين في بلدك مستحق، فيجوز لك أن تواسيه وتعطيه منها؛ ولكن لا تنس إخوانك المجاهدين.(38/47)