معالم الدعوة إلى الله
في هذه المحاضرة تحدث الشيخ عن معالم الدعوة إلى الله، فبدأ ببيان أن الدعوة هي وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وذكر سبب ذكر هذه المعالم وأهميتها في حياة الداعية، فذكر ما يقارب الأحد عشر معلماً.(1/1)
الدعوة إلى الله وظيفة الأنبياء والرسل عليهم السلام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الأحبة في الله: هذا الدرس ضمن سلسلة دروس تأملات في السيرة النبوية، وعنوانه: (معالم الدعوة إلى الله).
والدعوة إلى الله وظيفة الأنبياء والرسل، ووظيفة من أكرمه الله عز وجل بالسير على هديهم واتباع طريقهم من هذه الأمة إلى يوم القيامة، وليس أجل ولا أعلى ولا أرفع منزلة ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين، وهذا بنص كلام الله عز وجل، يقول ربنا عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33] أي: لا أحسن ولا أفضل؛ لأن عمل الداعية يقوم بدور الوساطة وتقريب العلاقات، وتصليح الصلات بين العباد وبين المعبود، فهو يحبب الناس إلى الله، ويحبب الله إلى الناس، وبالدعوة تصلح البشرية، ويظهر الخير، ويقمع الفساد، وتحصل البركة، ويرضى الرب عن الناس، فينجون من عذاب الله، ويكسبون الفلاح في الدنيا والآخرة، والرسل والأنبياء هم قادة الدعاة إلى الله، وخاتمهم أفضلهم بلا شك هو: محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، سماه الله داعية، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب:45 - 46].
هذه صفات الرسول صلى الله عليه وسلم فهو شاهد على الأمم كلها، وعلى هذه الأمة، ومبشر بالرضوان والفلاح والسعادة لمن أطاعه، ونذير بالعذاب والدمار لمن عصاه، وبعد ذلك: {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب:46] اللهم صل وسلم عليه.
سماه الله سراجاً أي: مضيئاً، والسراج فيه نور وفيه نار، الشمس سراج وهاج، عندما تجلس تحت الشمس يأتيك نور وتأتيك -أيضاً- حرارة، أما القمر إذا جلست تحت ضوئه فيأتيك نور من غير حرارة، لهذا قال الله: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} [الفرقان:61] فالرسول صلى الله عليه وسلم سماه الله "سراجاً" من الشمس وسماه "منيراً" من القمر، اللهم صل وسلم عليه، فجمع بين صفتي الشمس والقمر، أخذ من الشمس السراج، وأخذ من القمر الإنارة من غير الوهج والاحتراق، صلوات الله وسلامه عليه.
وأمره الله بأن يكون داعية قال الله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل:125] وأمره أن يخبر الناس فيقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108] أي: هذا ديني وهذا منهجي: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108] وما هو سبيله صلى الله عليه وسلم؟ الله أكبر! -يا إخواني- كثير من الأمة لا تعلم عن هذا السبيل {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا} [يوسف:108] لوحدي، فإذا مت انتهت الدعوة؟ لا.
مسئولية على أمتي: {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] يلزمك إذا كنت من أتباع محمد أن تكون داعية شئت أم أبيت، وإلا فلا تبعية.(1/2)
معالم الدعوة إلى الله
الدعوة -أيها الإخوة- ليست أمراً هيِّناً ولا سهلاً، حتى يمكن ممارستها من غير ضوابط ومن غير معالم، ومن غير علم ومن غير هدى، بل إنها تعامل مع القلوب، تقريب للعباد إلى الله، إصلاح للنفس البشرية، ولذا لما كانت هذه الدعوة هي وظيفة الأنبياء والرسل وأتباعهم من العلماء والدعاة إلى الله كان لا بد أن يفهم الناس ما هي الدعوة؛ حتى لا تمارس من غير علم، أو من غير خبرة، نحن الآن نمنع شخصاً أن يقود سيارة في الشارع إلا ومعه رخصة، أليس كذلك؟ لو أن شخصاً أخذ سيارة وذهب يقودها بدون ترخيص وأحدث مشاكل، فإننا نمنعه ونجازيه، ونقول له: لماذا تقود بدون رخصة؟ وكذلك إذا كان التعامل مع الحديد فيه خطر على أرواح المسلمين، كذلك التعامل مع الدعوة بغير علم فيها خطر على عبادة الناس، وعلى عقائد الناس، وعلى دين الناس، فلا بد من معرفة المعالم الرئيسية التي ينبغي أن تعرف وتعلم عن هذه الدعوة.
وهذه المعالم نقتبسها ونأخذها من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه النموذج الإنساني الكامل للتطبيق الإسلامي في الدعوة إلى الله، خير خلق الله صلوات الله وسلامه عليه، الداعية العظيم، الذي اكتملت فيه جميع الكمالات البشرية والإنسانية الموزعة على عموم الأمم، والموزعة على جميع الأنبياء، كل نبي فيه كمالات، لكن الله خصها وجمعها كلها ووضعها في محمد صلى الله عليه وسلم، وشهد له بالشهادة الربانية بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] صلوات الله وسلامه عليه.(1/3)
الإخلاص من أهم معالم الدعوة إلى الله
هذه المعالم أبرزها وأولها وأساسها وأعظم شيء فيها: الإخلاص، والتجرد من جميع الأغراض، ومن جميع الأهواء، ومن جميع الأجور المادية أو المعنوية، ومن ثناء الناس، أو محبة الناس، أو تبجيل الناس، وحصر الغرض الوحيد فقط في نيل رحمة الله عز وجل، والنجاة من عذاب الله، وإنقاذ عباد الله من النار، هذا هو الغرض الأول، وقد جاء هذا في كلمة واحدة في القرآن الكريم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] فهنا الإخلاص، فلا أدعو إلى نفسي، ولا أدعو إلى جاه، ولا إلى حزب، ولا إلى جماعة، ولا إلى هيئة، بل أدعو إلى الله، فعملي خالص لله، هذا أول شيء، وهذا يشكل القاعدة الأساسية للداعية، بمعنى: أنه إذا لم تقم دعوته على هذا الأساس فهي دعوة مقتولة من بدايتها ولو ظهرت، ولو أعطت معالم بسيطة، ولكن نهايتها إلى الزوال؛ لأنها مبنية على غير الأساس الذي هو: الإخلاص والتجرد ومعرفة الغرض الرئيسي الذي من أجله تتكلم.
من أجل ماذا تتكلم؟ أمن أجل أن يقال: فلان يتكلم أو أن يقال: فلان داعية؟ أجل أنت داعية إلى نفسك، وقد قيل، ولهذا ورد في الحديث: (إن أول من تسعر بهم النار ثلاثة، شهيد في نظر الناس ومنفق وعالم، فيؤتى بالشهيد، فيقول الله له: ماذا صنعت؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، ونصرت دينك حتى قتلت، فيقول الله عز وجل: كذبت، إنما فعلت ذلك ليقال: رجل جريء وقد قيل) أي: شجاع، قالوها في الدنيا، ووجدت الذي أردت (اذهبوا به إلى النار، فيسحب على وجهه إلى النار، ويؤتى بالآخر فيقال له: ماذا صنعت؟ فيقول: يا رب! ما تركت مجالاً من مجال الخير إلا أنفقت فيه، فيقول الله عز وجل: كذبت، إنما فعلت ذلك ليقال: رجل جواد -أي: كريم، يحب الخير وفعل الخير- وقد قيل، اذهبوا به إلى النار، فيسحب على وجهه إلى النار، ويؤتى بالعالم أو الداعية -وهذه خطيرة نسأل الله السلامة من فضله- فيقال له: ماذا صنعت؟ قال: يا رب! أمرت ونهيت، وقلت، فيقال: كذبت، إنما فعلت ذلك ليقال: رجل عالم، وقد قيل، اذهبوا به إلى النار، فيسحب على وجهه إلى النار).
ولذا لا بد -أيها الإخوة- من مراجعة القلب باستمرار لمعرفة درجة الإخلاص، فإذا نزلت فحاسب نفسك، لا تنزل بحيث لا تقصد بعملك ولا بجهدك ولا بدعوتك ولا بكل كلمة تقولها إلا وجه الله، إذا وجدت في نفسك شيء من الرياء فاسكت ولا تتكلم، لا تكن من الذين قال الله فيهم: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3].(1/4)
عرض الدعوة على الناس
المعلم الثاني من معالم الدعوة إلى الله عز وجل بعد الإخلاص: عرض الدعوة بالذهاب إلى الناس، وعدم الانتظار حتى يأتيك الناس، فإن الأنبياء والدعاة إلى الله، أرسلهم الله عز وجل إلى الناس ولم يرسل الناس إليهم، وظيفة الأنبياء أنهم رسل، أي: مرسلون من عند الله يذهبون إلى الناس، لم يكلف الله الناس بالذهاب إلى الأنبياء، وإنما كلف الله الأنبياء بالرسالات وحملها إلى الناس، وورثة الأنبياء هم العلماء والدعاة، المطلوب منهم أن يحملوا الدعوة، وأن يعرضوها على الناس، ويذهبوا بها إلى الناس، وألا ينتظروا حتى يسألهم الناس، أو يأتي إليهم الناس في بيوتهم أو في أماكنهم، وخاتم الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليه يقول الله فيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] أي: أرسلناك لتذهب أنت رحمة، فهل هو: لفئة معينة، لقبيلة معينة، لجنسية معينة؟ لا.
بل هو للعالمين، وكل ما سوى الله عالم، رحمة للأرض، رحمة للسماء، رحمة للحيتان في البحر، رحمة للدواب في البر، رحمة للطير في السماء، رحمة لكل شيء.
في يوم من الأيام جاءت إليه صلوات الله وسلامه عليه حمامة وجلست فوقه صلى الله عليه وسلم تبكي تهطل عيونها بالدمع، فقال للصحابة وهم لا يدرون: (من فجع هذه بفرخيها؟ قال أحد الصحابة: أنا، قال: ردها، قال: ولمَ؟ قال: إنها جاءت تشكي تقول: إنه سرق عليها فرخها) انظروا رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالطير.
ومر في يوم من الأيام في البادية على قوم قد نصبوا لهم خباءً، وقد اصطادوا لهم غزالاً -ظبياً- وجلسوا يوقدون النار، يريدون أن يذبحوا الظبي ويتعشوا به، فلما رآها هزت رأسها، وكأنها تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: (أتدرون ماذا تقول؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إنها تقول: إنها خرجت من جحرها وتركت أولادها وهم جائعون -وإنها الآن لا يهمها أن تذبحوها هي ميتة ميتة لكن يهمها الذي وراءها من الصغار- قالوا: وما تريد يا رسول الله؟! قال: أطلقوها لتذهب ترضع أولادها وترجع إليكم، قالوا: من يضمن أنها ترجع؟ -الظبية إذا انفكت لا ترجع- قال: أنا أضمن، قالوا: قبلنا ضمانك يا رسول الله! فأطلقوها، وجلس معهم النبي صلى الله عليه وسلم، وذهبت إلى الجبل تعدو إلى أن دخلت الجحر وأرضعت أولادها وجاءت، فلما جاءت ووقفت قالوا: هي لله ورسوله) اللهم صلِّ وسلم على رسول الله، رحمة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
والله يقول للأمم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك:8 - 9] (ألم يأتكم)؟ هذه فيها دليل على أن الدعاة هم الذين يذهبون إلى الناس، ويعرضون دعوتهم على الناس {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:8] أي: قد أتاكم، ويقول عز وجل في آية أخرى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122] كان ميتاً بالكفر والمعاصي، وأحياه الله بالإيمان والدين {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122] جعل الله له نوراً -أي: ديناً يمشي به في الناس، يوزعه على الناس، يهدي به الناس إلى الله جل وعلا، هذا دليل على أن الداعية من مهمات دعوته: أن ينتقل بها، وأن يسلك بها من بيت إلى بيت، ومن قرية إلى قرية، ومن مدينة إلى مدينة، ومن دكان إلى دكان، أينما حل فدعوته معه، يوزع النور، ولا يحتقر شيئاً: (لا تحقرن من المعروف شيئاً) يمكن أن تقول كلمة لا تحسب لها حساباً ولا تحتمل أنها تؤثر لكن يمكن أن يفتح الله بها قلب هذا الفاسق، كلمة بسيطة، تراه على منكر، أو تأتي وقت صلاة وهو ليس في المسجد فتقول له: كذا وكذا، يمكن أن تؤثر هذه الكلمة فيه؛ لأن الله يقول: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24 - 25] والداعية مثله كمثل السحابة، السحابة تحمل المطر، ويرسلها الله عز وجل فيقع منها الغيث، وهذا الغيث يقع على كل مكان، لا يخص أناساً دون أناس، ولا يمنع منه شيء، تجد المطر أحياناً ينزل على البحر، رغم أن البحر لا يستفيد من المطر، ما رأيكم إذا نزل المطر على البحر هل يستفيد البحر من المطر؟ لا.
لكن ينزل بأمر ربه، فينزل في البحر، وأحياناً يقع على الجبال وقممها، رغم أنها لا تستفيد كثيراً ولا يثبت الماء في رءوس الجبال، ويقع في صحاري قاحلة، ورمال وكثبان وليس فيها مراعي ولا أناس ولا أي شيء، ومع هذا ينزل.
وكذلك -أيها الإخوة- الداعية إلى الله مثل السحاب يطوف الأرض كلها، لا يخص مكاناً دون مكان، فلا يقول: أنا لا أتكلم إلا في المسجد! لا.
تكلم في المسجد والمدرسة والشارع والسيارة، وتكلم في المجلس الذي تجلس فيه مع الناس، وتكلم مع أنسابك، وتكلم مع إخوانك، المهم أينما حل نفع، يوزع البضاعة المجانية، ويهدي عباد الله إلى الله، مثله كمثل السحاب، الذي يمشي وينزل الخير على من يريد وعلى من لا يريد، قد تقول: لا فائدة، ولكن ما يدريك يا أخي! ما يدريك، هل الفائدة بيدك؟ الفائدة عند الله، كلمة تقولها يجعل الله فيها فائدة، وأقل شيء أنك بلَّغت وبرَّأت ذمتك: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164].(1/5)
موافقة عمل الداعية لقوله
المعلم الثالث من معالم الدعوة إلى الله: أن الداعية إلى الله عز وجل لا يتكلم بلسانه فقط، وإنما يتكلم من لسانه ومن قلبه، فإن الدعوة إذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان، أما إذا خرجت من القلب وصلت إلى القلب، هذه نظرية رياضية، كلام من اللسان يأتي إلى الأذن ويرجع؛ لأنه من اللسان إلى الأذن، لكن كلام القلوب، يخترق الآذان ويصل إلى القلوب، ولذا إذا أردت أن ينفع الله عز وجل الناس بكلامك فلا بد أن تتكلم من قلبك، بمعنى: أن تكون معتقداً كلامك الذي تقوله، ومطبقاً للشيء الذي تدعو الناس إليه، فلا تدعو الناس إلى ذكر الله وأنت غافل، ولا تدعو الناس إلى الصلاة وأنت تارك للصلاة، لا تدعو الناس إلى ترك الزنا وأنت تزني، لا تدعو الناس إلى ترك الربا وأنت مرابٍ، لا تدعو الناس لغض البصر وأنت تفتح بصرك إلى الحرام، لأن معناه: أنك كذاب، ولهذا يقول الله عز وجل: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] ويقول: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] تدعو الناس وتنسى نفسك؟ ثم قال: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] أين عقولكم؟!! الذي يدعو الناس وينسى نفسه ليس لديه عقل، وليس معنى هذا: أنك تقعد لا تدعو الناس ولا تدعو نفسك، لا.
هذا فيه دعوة إلى دعوة نفسك أولاً، ودعوة غيرك في المرحلة الثانية.
ولذا فالداعية يدعو من قلبه، ومعنى هذا -أيها الإخوة- أن الكلام ليس بمجرد البلاغ، ولكن بحرقة وهمّ ورغبة، وحرص على هداية الناس؛ لأن بعض الدعاة وبعض المتكلمين يقول: إن عليك إلا البلاغ، أنا سوف أقول ولا يهمني، والمستمعون يقولون: ونحن ما علينا إلا السماع، فهذا عليه البلاغ وأولئك عليهم السماع، والعمل أين هو؟ هو لا يعمل، وهم لا يعملون، فالصحيح أن نقول: نحن علينا البلاغ بعد أن نتمسك بالعمل، والناس إذا رأوا الداعية متمسكاً بالكلام الذي يقوله فإنهم يعملون بكلامه، لماذا؟ لأن الأعمال أكثر تأثيراً في القلوب من الأقوال.
انظر أي داعية أو متكلم أو عالم، فإن الناس يراقبون سلوكه، فإن وجدوا تطابقاً بين السلوك وبين الكلام الذي يقوله أكد المعاني التي يقولها، وإذا وجدوا أي تنافر أو اختلاف ذهب كلامه من قلوبهم كما يزل الماء من الحجر أو الصفا، يقولون: هذا كذاب وليس صادقاً، ولذا تنظرون أنهم يراقبون الداعية -مثلاً- عند بذل المال، ويراقبونه إذا مر في السوق فإذا رأوه يغض بصره قالوا: والله هو صادق الآن ما شاء الله، لكن إذا رأوه وهو ينظر قالوا: هذا دجال، لماذا؟ لأنه يتكلم بلسانه ولا يتكلم بقلبه، فلا ينبغي أن يكون هم الداعية فقط هو تسطير الكلام، وشغل الوقت بدون حدث، وإنما يجب أن يكون همه أن يعمل الناس بهذه الدعوة، وأن يتمسك الناس بهذا الدين، حتى يفوزوا في الدنيا وفي الآخرة، وحتى ينجوا من عذاب الله في الدنيا وفي الآخرة، لعلم الداعية بمصيرهم وعاقبة أمرهم إن هم أطاعوا الله أو إن هم عصوه.
القضية ليست سهلة -يا إخوان- القضية قضية جنة ونار، قضية سعادة أبدية أو شقاء أبدي، الذي يطيع الله عز وجل يسلك سبيل النجاة، والذي يعصي الله يسلك سبيل الهلاك، ولذا فالداعية يعرف هذا، عنده في قلبه حرقة من أجل أن يتمسك الناس بالطاعة حتى يفوزوا، ومن أجل أن يترك الناس المعصية، حتى لا يضلوا ولا يهلكوا، ومن هنا -أيها الإخوة- نعلم مدى تأثير الآيات التي توضح حال الرسول صلى الله عليه وسلم عند دعوته لأمته، كان يتحسر صلوات الله وسلامه عليه، حتى قال الله له: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8].
ويقول: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف:6] أي: مهلكها {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6].
ويقول عز وجل: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} [الأنعام:33] ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح: (مثلي ومثلكم كمثل الفراش التي تتساقط في النار فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون).
الشخص إذا أوقد ناراً فمن حين أن يوقد النار تأتي الفراش إلى النار من بعيد من أجل أن ترى؛ لأنها تعيش في الظلام، فإذا وجدت نوراً جاءت إليه ولكنها لا تعلم أن هذا النور ناراً، فتأتي الفراشة وتقع، وتلك تقع، فماذا يصنع الذي حول النار؟ يبعدها، وهي ترفض، هذا الرسول صلى الله عليه وسلم مثله يبعد الناس عن النار والناس يرفضون، ولهذا يتقطع فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم حزناً ورحمة بهذه الأمة التي تقتحم النار وهي لا تدري بالمصير، وهذا شأن الداعية الذي يدعو الأمة، فيدعو بحرارة، ويدعو بحرقة، ولا يدعو بلسان فقط، وإنما يدعو بقلب مؤثر، وبمعاناة وهم، وبحرص شديد على أن يسلك الناس هذا السبيل، وليس له مصلحة أصلاً إلا هداية الناس، وما أعد الله له من أجر إن اهتدوا على يديه؛ لأن من اهتدى على يدي أي داعية يأتي هذا المدعو المهتدي يوم القيامة في صحائفه، لا يعمل عملاً إلا ولذلك الأساسي صورة طبق الأصل من عمله، دون أن ينقص من أجره شيء، كما جاء في الحديث: (من دل على هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة دون أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دل على ضلالة -والعياذ بالله- كان عليه وزرها ووزر من عمل بها دون أن ينقص من أوزارهم شيء إلى يوم القيامة) هذا المعلم الثالث: أن يتكلم الداعية من قلبه ولسانه، لا من لسانه فقط.(1/6)
الحرص على الرفق والابتعاد عن الغلظة
المعْلَم الرابع: أن تكون العبارة التي يتكلم بها شيقة، لينة، هينة، محببة إلى النفس، وأن يبتعد عن العبارة السيئة والقول الجاف، والكلمة الغليظة؛ لأن الداعية يتعامل مع قلوب الناس، والقلوب حساسة تأتي بها كلمة، وتطردها كلمة أخرى، ولهذا يقول الله عز وجل وهو يأمر موسى وهارون بالذهاب إلى فرعون لإبلاغ الدعوة، والله يعلم أن الكلمة اللينة أو القاسية لا تفيد فرعون، فهو كافر كافر، لكنه يبين منهج الدعوة فيقول: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
وهكذا كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، يقول الله عز وجل: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ويقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159] وهذا واضح مكشوف في جميع مسائل الدعوة التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما) ولما بعث رسوليه إلى اليمن قال لهما في الرسالة: (بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا) إذا أردت أن تتكلم فابحث عن أفضل عبارة وأفضل كلمة؛ لأنها مفتاح للقلب، فإذا جئت بمفتاح مناسب لين دخلت القلب، وإذا جئت تدق الإنسان في قلبه بكلمة قاسية أعرض عنك، فلا يسمع منك ولا يذكر كلامك لأنك أوجعت قلبه بكلمة قاسية، والله يقول: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] أنت لا تملك الهداية أصلاً، الهداية بيد الله، أنت تملك الوسيلة فقط والسبب الذي ينقل الناس إلى الدعوة وإلى الهداية، فيجب أن تكون الوسيلة طيبة من أجل أن تتيح الفرصة لهذا الإنسان فتنقله إلى الحياة الجادة، وتنقله من الضلال إلى الهدى، وتنقله من المعصية إلى الطاعة، وتنقله من الكفر إلى الإيمان، وتنقله من الشرك إلى التوحيد، لا بالضرب، ولا بالقوة، بل بالكلمة الطيبة، كالسلام.
يا أخي! ابحث عن أفضل عبارة، الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يكتب للكفار، يقول: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم) ولما جاءه الرجل من صناديد قريش يريد أن يفاوضه قال له: يا محمد! إنك جئت قومك بما لم يأت به أحد قومه، سفهت الأحلام، وسببت الآباء والآلهة، إن كان الذي يأتيك من الجن عالجناك، وإن كنت تريد مالاً جمعنا لك حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك، وإن كنت تريد زوجة زوجناك، ماذا تريد؟ فماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ قال له: (اسمع مني يا أبا الوليد) وكناه، والكنى محببة عند العرب، أنا عندما أناديك باسمك وأقول: يا فلان! تسمع، لكن إذا قلت: يا أبا فلان! تنبسط؛ لأنك تحب أن تدعى بولدك، الرسول صلى الله عليه وسلم كنى هذا الكافر، من أجل أن يمرر الكلام إليه، دعاه بالكنية، قال: (اسمع مني يا أبا الوليد! ثم قرأ عليه فواتح سورة فصلت).
ولما وصل إلى قول الله عز وجل: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] فقام الرجل ووضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أسألك بالله والرحم ثم خرج، ولما رجع تغير وقال: "والله إني لأعلمكم بالشعر وأعلمكم بالنثر، والله ما هو بالشعر ولا بالنثر، والله إن أعلاه لمورق، وإن أسفله لمغدق، وإن عليه لحلاوة، وإن له لطلاوة، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه" أي: كلام الله.
فقالوا كلهم وهم الجالسون في السقيفة ينتظرون خبر المفاوضات، قالوا: صبأت مجرد مرة ذهبت إليه فغسل مخك ودين آبائك وأجدادك، والله لا تخرج حتى تقول فيه قولاً، ماذا يقول الناس عندما يسمعون كلامك هذا؟ معناه: لن يبقى أحد إلا وسيدخل في دين محمد، وبدءوا يضغطون عليه حتى قال: دعوني أفكر، ودخل بيته، وجلس يفكر ويقدر، ويقدم ويؤخر، ثم رجع إليهم وقال: نعم عرفت! قالوا: ما هو؟ قال: هذا سحر.
قال الله عز وجل فيه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:11 - 25].
قال الله له: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] وسقر هي النار، طبقة من طباق جهنم {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} [المدثر:27] للتهويل والتعظيم {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} [المدثر:28] {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَر * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:29 - 30] تسعة عشر من الملائكة، ولما نزلت الآية وبلغها النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة، وبلغها الصحابة للناس، سمع بها أبو جهل وسمع بها الوليد بن المغيرة، وخاف فقال له أبو جهل: كم توعدك محمد؟ قال: تسعة عشر، قال: عليّ ثمانية عشر وأنت عليك واحد فقط، قال: ثمانية عشر أنا أضعهم فوق رأسي أنا أكفيكهم.
ولما أراد أن يسجد النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، منعه أبو جهل، قال: والله لئن سجدت مرة ثانية لأرضخن رأسك بهذا الحجر، ففرحت قريش، قالوا: دعوا أبا جهل يرضخ رأسه وتنتقم بني هاشم من بني مخزوم، وننتهي منه، وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم رغم التهديد؛ لأن الله قال: {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ} [العلق:19] وبعد ذلك جاء وما سجد مكانه، قرب قليلاً عند الكعبة {وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] ولما جاء وسجد، قام كفار قريش وجاءوا إلى أبي جهل وقالوا: الرجل ليس عنده دين يتحداك، جاء يصلي، ويا ليت أنه صلى في مكانه الأول، بل يتحداك ويعاندك، ويصلي بجانب الكعبة، قال: وقد فعل؟ قالوا: نعم.
فأتى وهو يحمل الحجر التي ما تحملها الرجال، وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، ولو رضخه بالحجر لقتله، وقبل أن يقرب منه وكان بينه وبينه مسافة، كع كما يكع الحمار، ووقعت الحجر على رجليه وكادت أن تكسر رجليه، ثم شرد، فضحك الناس، وجاءوا إليه فقالوا: مالك؟ قال: فحل اعترضني -الفحل هو: البعير- فاغراً فاه أنيابه السفلى تحت قدميه والأخرى فوق رأسه، يقول: والله لو تقدمت لابتلعني، يقول: فكعكعت ورجعت وراء، ولما أخبروا النبي قال: (ذاك جبريل، ولو أنه تقدم خطوة واحدة لابتلعه) قال الله عز وجل: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق:17] يقول: فليدع جماعته الذين سوف يسدون على الثمانية عشر: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:18] إذا دعا ناديه وجماعته دعونا الزبانية، ماذا يفعل أبو جهل مع هؤلاء؟ فأنت -يا أخي- عليك أن تكون كلمتك طيبة إلى أبعد درجات الطيب، لتكسب ذلك الرجل، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمته طيبة مع كافر، فكيف لا تكون كلمتنا طيبة مع المسلمين؟! بعض الشباب -هداهم الله- محبون للخير، وعندهم إيمان وغيرة، ولكن ينقصهم العلم والخبرة، فإذا رأى رجلاً صاحب معصية عبس في وجهه، وقال: أبغضه في الله! يا أخي! تبغضه في الله ابتداءً، البغض في الله ويكون آخر شيء، أول شيء أحبه في الله، ابتسم له في الله، قدره في الله، أكرمه في الله، من أجل أن يحبك ويحب الدين الذي تمثله، ويحب الدعوة التي تمثلها، وبعد ذلك تقول: جزاك الله خيراً.
فيقول: والله أخلاقك طيبة.
فتقول: وأنت أطيب.
فيقول: والله أنا أحببت الدين؛ لأني أحببتك أنت.
لكن عندما تبغضه من أول ما تراه ولا تسلم عليه، وبعد ذلك عندما تأتي تدعوه يقول: اذهب حسن أخلاقك أولاً؛ لأن أخلاقك سيئة، بعض الناس يجد اثنين معاً أحدهما حليق والآخر معه لحية، فيسلم على ذاك بوجه، ويسلم على ذلك بوجه آخر، وبطرف إصبعه، فيقول هذا الرجل: لماذا يعاملني هكذا؟ فهذا لا ينبغي يا أخي! لأنك حكمت على الظاهر، يمكن الذي تراه حليقاً باطنه أحسن من ألف رجل معه لحية، الله ينظر إلى الناس نظرة متكاملة، لا ينظر للشكل فقط، والشكل ليس كل شيء أيها الإخوة.
فالشكل شيء في الدين لا نغفله، شكل الإنسان في الدين شيء مطلوب أن يكون ذا لحية ويكون ثوبه قصيراً، ويكون عنده تمسك بالسنة، لكن هذا لا يكفي لوحده، لا بد أن يكون الشكل جيداً والمضمون -أيضاً- جيداً، وكذلك الذي يهمل شكله، نقول له: يا أخي! أصلح شكلك ما دمت طيباً، والدعاة إلى الله في تعاملهم مع الناس يجب أن يكونوا طيبين، وليس هذا من المداهنة كما يظن بعض الشباب أنها مداهنة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية يفرق بين المداهنة والمداراة، يقول: المداهنة هي: ترك شيء من الدين لشيء من الدنيا، تترك شيئاً من دينك من أجل أن تأخذ شيئاً من دنيا الناس، أما المداراة وهي في الشرع مطلوبة: هي ترك شيء من الدين لتحقيق شيء أعظم من الدين، فأنت عندما تترك شيئاً من الدين وهو البغض مع هذا الإنسان العاصي تركت البغض، لكن لتحقق شيئاً أعظم منه وهو أن تهديه إلى الله، وهذا مجرب وواقع، ينبغي أن نتمثله، وأن نسلك سبيل الدعوة إلى الله بالكلمة الطيبة، وبالعبارة الشيقة، يقول الله: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53].
ابحث في قواميسك عن أحسن عبارة، وابتسم لأي شخص تريد أن تدعوه(1/7)
الدعوة إلى الله على بصيرة وعلم
الخامس من المعالم: أن يكون الداعية عالماً بما يدعو الناس به، وهذا معنى قول الله عز وجل: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] وبصيرة أي: على علم، لا أدعو على عمى، ولا على جهالة، ولا على ضلالة، بل لا بد أن أدعو على علم، وليس معنى هذا -أيها الإخوة- ألا يدعو الإنسان إلى الله حتى يصبح عالماً بكل شيء، وإنما المطلوب أن تدعو فيما علمت، أي: شيء علمته من الدين بلغه ولا تتجاوزه إلى غيره، لا تفهم من أنك تدعو بمجرد أنك عرفت شيئاً أن تدعو إلى كل شيء، ادع في الشيء الذي تعرفه، أما ما لا تعرفه فاسكت عنه إلى أن تتعلمه، أو ترجع فيه إلى العلماء والدعاة، أما أن تتخذ من نفسك داعية، عرفت هذه المسألة أو عرفت مائة مسألة، أو عرفت ألف مسألة، فتعطي لنفسك صفات الأهلية وأنك تجيب على كل مسألة، وأنك تتكلم في كل مسألة، وأنك تخوض في كل قضية؛ لأنك تكلمت أو أنك أصبحت بارزاً أو معروفاً، فهذا من الخطأ، وليس من العيب أن تقول لما لا تعرف: لا أدري.
من العيب كل العيب أن تقول على الله بلا علم، فقد قرنه الله عز وجل بالمحرمات: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] فلا بد -أيها الإخوة- من العلم، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: [رأس العلم لا أدري] وأيضاً ينبغي لك أن تبلغ ولو آية: (بلغوا عني ولو آية) بلغوا عني ولو حديثاً.(1/8)
الصبر على الدعوة وتبعاتها
السادس من معالم الدعوة: الصبر.
الصبر على الأذى في سبيل الدعوة وعدم استعجال النتائج، وهذا شيء صعب على النفس، فإن الصبر مأخوذ من الصِبْر وهو: نبات مر المذاق، يقطع اللسان من المراراة، يقول:
الصبر كالصِبر مر في مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل
الصبر مر لكن نهايته عسل، انظروا الصبر عند الطالب على المذاكرة، لكن في نهاية السنة عندما ينجح كيف يكون الفرح؟ هو صبر على الدراسة لكنه نجح آخر السنة، وصبر على السنوات الدراسية وتخرج آخر الأمر من الكلية، والمزارع صبر على الثمرة حتى أكل الثمر، والموظف صبر على العمل حتى استلم الراتب آخر الشهر، كل شخص يصبر على شيء يأخذ في النهاية ثمرة حلوة.
الصبر كالصبر مر في مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل
وهذا الصبر يأتي بالتصبر وبالمجاهدة والمعاناة، وأقسامه ثلاثة: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة، وهو عمل ميداني وليس عمل ذهني، بعض الناس يتصور أن الصبر شيء في الذهن.
الصبر عمل ميداني يبرز في الميدان، إذ بالإمكان أن يكون الإنسان من أعظم الناس صبراً لكن في الذهن، وإذا جاءه ميدان التطبيق فلا يصبر على أذى ذبابة وأذاها، فتراه يريد أن يضارب الذباب؛ لأنه ليس عنده صبر، فلابد من الصبر.
وأنت أيها الداعية! مطلوب أن يكون عندك من الصبر مثل الجبال؛ لأن الله يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35] إن الله لا يعجل لعجل أحد، قد تدعو شخصاً وتدعو أمك وزوجتك عشرات السنين ولا يستجيبون لك، اصبر ولا تستعجل، الهداية ليست بيدك، والله لا يعجل لعجلتك، والأمور بيده ليست بيدك، عليك أن تدعو والنتائج على الله.
فلا بد -أيها الإخوة- من الصبر في ممارسة العمل الدعوي، وعدم استعجال النتائج -وأيضاً- احتساب ما يلاقي الإنسان من الأذى في صحيفته؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول في حكاية لقمان وهو يعظ ابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17].(1/9)
الشعور بتوفيق الله من معالم الدعوة
سابعاً من معالم الدعوة المهمة: الشعور بتوفيق الله، وبنعمة الله عز وجل التي اختارك -أيها الإنسان- إلى أن تمارس هذا العمل الشريف، الذي هو عمل الأنبياء، والذي هو بمنزلة الاصطفاء والاختيار، فتشكر الله أن جعلك داعية ولست مدعواً، وأيضاً يجعلك تزيد في العمل؛ لأنه كان بالإمكان أن تكون داعية للشر كغيرك من الناس، الآن هناك آلاف من البشر دعاة إلى النار، وأنت جعلك الله داعية إلى الجنة، وداعية إلى الخير، وهذا فضل واختيار، والله يقول: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] ويقول: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] فهذا -أيضاً- اصطفاء رباني.(1/10)
التجديد والفقه في الدعوة
ثامناً: التجديد والفقه في عمل الدعوة وزمنه ومكانه وأسلوبه، والتخطيط له، وكيف تمارسه، وعدم الجدال فيه، وأن يبدأ الإنسان دائماً بالترغيب -فمثلاً- شخص لا يصلي، تبدأ بترغيبه في فعل الصلاة، وأثر الصلاة في حياته: أن الصلاة نور، وأن الصلاة بركة، وأن الصلاة هداية، وأنها صلة يبن العبد وبين الله: (بشر المشائين في الظلم بالنور التام يوم القيامة) هذا اسمه ترغيب، فدائماً تبدأ به؛ لأن النفوس جبلت على حب المنافع، فعندما تقول لشخص: سوف أفعل لك وأعطيك، حتى ولدك في البيت، عندما تريده أن يفعل شيئاً تقول: افعل وأعطيك كذا، تراه يقوم بالعمل بنشاط، كذلك أنت عندما تدعو رغب الناس فيما عند الله، وأيضاً رهبه واقمعه من أجل ألا يرجع.
وهكذا -أيها الأحباب- بين الترغيب وبين الترهيب، ولهذا سمي القرآن مثاني، القرآن كله مثاني، لماذا مثاني؟ دائماً يذكر الله الجنة ويذكر النار؛ من أجل الذي لا ينفع فيه الترغيب ينفع فيه الترهيب وهكذا، فينبغي أن يكون هذا أسلوبك، بعد أن تعطي لكل مقام ما يناسبه من المقال، موضع اللين لا تضع فيه إلا اللين، موضع الشدة ضع فيه الشدة، موضع الكلام ضع فيه الكلام، موضع السكوت ضع فيه السكوت، هذا معنى الحكمة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] والحكمة هي: وضع الشيء في موضعه، الحكيم هو الطبيب، وسمي الطبيب حكيماً؛ لأنه يضع الدواء المناسب في المرض المناسب، ويضع دواء العين في العين، لكن الذي ليس بطبيب تجده يضع دواء الأذن في العين ويعميها، وهو دواء لكنه لم يضعه في المكان المناسب، كذلك الداعية قد يأتي بالعنف في مكان اللين، وقد يأتي باللين في مكان يحتاج إلى العنف، وقد يأتي إلى الدعوة الجهرية في المكان الذي تحتاج فيه إلى السرية، وقد يأتي بشيء في غير موضعه، ولذا لا بد من معرفة العمل الدعوي، ومعرفة أسلوبه وطريقته وزمانه ومكانه وما يناسبه، وما يضر فيه، حتى يحقق الله عز وجل على يدك -أيها الداعية- كل خير ومصلحة.(1/11)
المداومة على ذكر الله
تاسعاً من معالم الدعوة: أن تكون أيها الداعية! ذاكراً لله، فأصل المسلم مطلوب منه أن يكون ذاكراً لله، لكنه مطلوب أكثر في حق الداعية؛ لأنه وهو يتعامل مع الناس ومع القلوب يحتاج إلى تأييد من الله، ولهذا قال الله لموسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون: {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42] أي: لا تفترا من ذكر الله؛ لأنكما ذاهبان لمهمة صعبة، ومهمة خطيرة، فرعون مصر الذي يدعي أنه الرب الأعلى، والذي يقوم بالدعوة هو موسى من بني إسرائيل الذين يذبحون ويقتلون، وأيضاً موسى صاحب سابقة عندهم، عنده قضية القبطيين الذين قتل منهم شخصاً، ولهذا قال موسى لما بعثه الله: {قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص:33] يقول: {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} [الشعراء:13] {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} [القصص:34] {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} [الشعراء:14] يقول له: لي سابقة لا أستطيع.
فتصور شخصاً في هذا الوضع يرسل إلى أعلى إنسان في الدنيا، يقول: {َ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] يحتاج إلى تأييد، قال الله لهما: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:43 - 46] وبعد ذلك وصاهم الله فقال: {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42] وهذه الوصية تنطبق على كل داعية، أنت تدعو إلى الله فاذكر الله، استعن بالله؛ لأنك إذا ذكرت الله ذكرك الله: (أنا مع عبدي ما ذكرني أو تحركت بي شفتاه) فإذا ذكرت الله وأنت ذاهب تدعو فقلت: سبحان الله، اللهم افتح صدره يا رب! اللهم اجعله يقبل كلامك، اللهم نور بصيرته، فيكون الله معك، وقلب المدعو ليس بيدك بل بيد الله، فإذا تكلمت دخل كلامك إلى قلبه؛ لأن الله معك.
والذكر هنا يشمل الذكر بأقسامه الخمسة: ذكر الله عند ورود أمره: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14].
وذكر الله عند ورود نهيه، فإذا نهاك الله عن شيء وأردت أن تقع فيه ذكرت الله.
وأيضاً ذكر الله في الأحوال والمناسبات.
وذكر الله الذكر العددي المطلوب بعدد معين.
وذكر الله المطلق: أن تكون دائماً ذاكراً لله، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، لا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي الصحيحين: (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده).
وفي صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) رواه الإمام مسلم.(1/12)
الحذر من الشبهات في طريق الدعوة
عاشراً: الحذر، وهذا شيء مهم في الداعية، الحذر من أن يقول على الناس كلاماً ليس بصحيح، فلا بد من التأكد من الأحاديث وصحتها، ومن القصص وصدقها، حتى لا يعلم الناس ما ليس بدين، وحتى لا يتعبد الناس ربهم بما ليس بدين من الخرافات والأخبار الكاذبة ولو كانت مهيجة! بعض الناس يظن أنها تهيج الناس، ونحن لا نريد أن نحدث الناس إلا بما قال الله وقال رسوله صدقاً؛ لأن هذا يضمن للناس طريق السلامة، أما إذا أخبرناهم بشيء ليس بصحيح، وحملناهم على العمل بما ليس بصحيح، فإنما نضللهم ونخدعهم ونضرهم، ويأتون يوم القيامة يقولون: {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} [الشعراء:99] فسمى الله دعاة الضلال مجرمين -والعياذ بالله- فاحذر يا أخي من أن تدعو الناس إلا إلى الصدق.(1/13)
تذكير المدعو بنعم الله عليه
الحادي عشر من معالم الدعوة التي تفتح بها قلب المدعو: أن تبدأ بتذكيره بنعم الله عليه، وتذكره أنه معافى في بدنه، آمن في سربه، معه قوت يومه، كان بالإمكان أن يكون مريضاً وفقيراً وخائفاً، وليس عنده شيء من النعم، فمن الذي رزقك؟ ومن الذي عافاك؟ ومن الذي خلقك؟ ومن الذي أوجدك؟ فتذكره بنعمه، فيستيقظ وينتبه ويقول: نعم.
الله، الله الذي أعطاني هذا كله، فتقول له: أيليق بك أن تعصيه؟ أيليق بك أن تكفر به؟ أيليق بك أن تحاربه؟ هذا بإذن الله يعينك على أن تفتح قلبه لسماع الحق الذي تحمله، ومع هذا التذكير كلمه بالبشاشة، وبالعبارة الطيبة -كما ذكرنا- وبإشعار المدعو أن الدافع إلى دعوته هو الرغبة في إنقاذه والحرص على مصلحته، وأن ليس لك مصلحة -أيها الداعية- مادية إلا بمقدار ما يحقق الله عز وجل على يديك من صلاح هذا الإنسان بما ينفعه في دنياه وآخرته.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الدعاة إلى الله، المخلصين في دعوتهم، السالكين في دعوتهم مسلك الأنبياء، كما نسأله أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنه سميع الدعاء.
كما نسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ علينا ديننا وأمننا، ونعمتنا واستقرارنا، اللهم من أرادنا في هذه الديار أو غيرها من ديار المسلمين بسوء أو شر أو كيد أو مكر فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، وأنزل عليه بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم وفق ولاة أمورنا وعلمائنا ودعاتنا إلى ما تحبه وترضاه، اللهم وفق شبابنا وبناتنا ونساءنا ورجالنا وجميع المسلمين إلى البصيرة في هذا الدين، وإلى التمسك بطاعتك يا رب العالمين! وإلى البعد عن معصيتك وإلى التوبة من الذنوب والمعاصي، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(1/14)
الأسئلة(1/15)
كيفية نصح المرأة التي تحب سماع الغناء
السؤال
شاب تزوج بفتاة طيبة ولكنها تسمع الغناء، وحاول معها ولكنها لم تستجب؟
الجواب
حكمك عليها بأنها طيبة حكم فيه تحفظ، إذ لو كانت طيبة ما سمعت الغناء؛ لأن الغناء خبيث، ولا يحب الخبيث إلا خبيث، ولا يحب الغناء إلا رجل أو امرأة في قلبه مرض والعياذ بالله؛ لأن الغناء بريد الزنا، ابن القيم يقول:
حب القرآن وحب ألحان الغنا في قلب عبد ليس يجتمعان
وهذه الأخت في الله نطلب منها أن ترجع إلى رشدها، وأن تتوب إلى ربها، وأن تراجع نفسها، وعليك أن تقرأ عليها من الكتب التي تتحدث عن حرمة الأغاني، ومن أعظمها كتاب ابن القيم رحمه الله إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، حيث حرم الأغاني من أكثر من خمسة وعشرين وجهاً، وذكر الأدلة الشرعية على تحريم سماع الغناء من أكثر من خمسة وعشرين وجهاً، فعليك أن تشتري الكتاب هذا وتقرأه عليها، وتدعو الله عز وجل أن يهديها، وتصبر عليها، وهكذا حتى يهديها الله سبحانه وتعالى.(1/16)
الرد على من يقولون: إن الحجاب ليس فيه تغطية الوجه
السؤال
لما تزوجت فرضت على امرأتي الحجاب، ولكن هناك فتيات قلن لها: إن الحجاب ليس فيه تغطية الوجه؟
الجواب
إذا قلنا: إن الحجاب ليس تغطية الوجه، إذاً تغطية ماذا؟ تغطية المسامع، هل هذا يسمى حجاباً؟ الحجاب هو: حجب ما في المرأة من جمال، حتى لا يفتن الناس بهذا الجمال، وأجمل شيء في المرأة هو الوجه، فإذا سمحنا لها بأن تكشف وجهها فماذا تغطي؟ أصلاً هذا الذي تغطيه النساء الآن كانت المرأة تغطيه من قبل الإسلام، والمرأة تغطي رأسها ولا تمشي عارية، الحجاب حجاب الوجه؛ لأنه مجمع الزينة: فيه العينان والأنف، وفيه الشفتان، وفيه الخدان، وفيه الجبين، وهو مجمع الكمال، وعليه تُجرى مقاييس الجمال، إذا أردت أن تحكم بجمال امرأة أو قبحها أين تنظر، في أرجلها؟ لا.
ترى وجهها، فإذا كان الوجه جميلاً فكل شيء جميل، وإذا كان الوجه قبيحاً فكل شيء قبيح.
إذاً هذا الكلام غير مقبول، وما استدل به القائلون بأن الحجاب غير الوجه والكفين، أدلة مردودة، وعمدتهم حديث ضعيف، بل قال بعض أهل العلم: بوضعه، وهو حديث أسماء، فهو ضعيف في سنده وأيضاً مردود في متنه؛ لأن المتن يقول: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم الله دخلت عليه أسماء بنت أبي بكر وعليها ثياب رقاق) من هي أسماء حتى تدخل بالثياب الرقيقة الشفافة؟ ومن هو الذي يدخل عليه وهو خير البشر صلى الله عليه وسلم؟ هذه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وزوجها هو الزبير بن العوام أغير الناس، وأبناؤها عبد الله بن الزبير وعروة، وهي أخت عائشة رضي الله عنها، امرأة من أفضل النساء، تدخل في ثياب رقيقة على الرسول صلى الله عليه وسلم، هل هذا معقول؟! فالمتن مردود، والسند منقطع ومردود ولا يحتج به، هذا عمدتهم، أما الثابت من الكتاب والسنة: هو تغطية الوجه والكفين؛ لأنه مجمع الزينة.(1/17)
حكم الإمام الذي يصلي بالناس وهو مدخن وحالق للحيته
السؤال
هناك إمام يصلي بالناس وهو يشرب الدخان ويحلق لحيته؟
الجواب
المفترض في أي إمام يتصدى للإمامة ويتقدم بالناس أن يكون عدلاً سليماً من المعاصي والذنوب الظاهرة والباطنة، وليس يعني هذا أن يكون معصوماً، فقد يقع منه الخطأ، لكن يسلم من المعاصي التي تظهر منها المداومة مثل: حلق اللحية، أو شرب الدخان، أو الدش، فهذه معاص ظاهرة، أما كون الإمام قد يخطئ فقد يخطئ؛ لأن المعاصي عارضة عند كل إنسان، ليست المعصية دائمة بحيث يمارس ويستمر عليها.
ولذا ننصح هذا الأخ الذي يؤم الناس وهو يشرب الدخان أن يتوب إلى الله، وأن يتمسك بالسنة في لحيته، حتى يمثل الإمامة أحسن تمثيل، فإذا عجز فعليه أن يتخلى، وأن يدع غيره يؤم الناس، أما الصلاة خلفه فالصلاة خلفه صحيحة وعليه إثمه، يقول عليه الصلاة والسلام: (صلوا خلف كل بر وفاجر، فإن أحسن فله ولكم، وإن أساء فعليه ولا عليكم) لكنه يقع تحت طائلة الإثم إذا صلى بالناس وهم له كارهون كراهة دينية، إذ لا يتقدم بالناس إلا من كان أهلاً، إذا رأيتم بأنه لم يستجب بالنصيحة بعد أن تنصحوه، فيمكن أن ترفعوا أمره إلى السلطة من أجل إبعاده والإتيان برجل صالح يؤم الناس حتى يقربهم إلى الله عز وجل.(1/18)
حكم الشرط المخالف لمقتضى عقد الزواج
السؤال
تزوجت امرأة وكان من ضمن الشروط عليّ: ألا أنام معها ولا آتيها، فلما تزوجتها نمت معها وأتيت زوجتي، فهل هذا الفعل عليّ حرام؟
الجواب
هذا الشرط باطل؛ لأنه مضاد لمقتضى العقد، الشروط التي تحل حراماً وتحرم حلالاً أو تضاد مقتضى العقد، باطلة مقتضى عقد الزواج أن تستمتع بزوجتك، وهذا الشرط يمنعك من الاستمتاع بها والنوم معها فهو شرط مرفوض، أجل تزوجتها من أجل ماذا؟ إذا كنت تزوجتها ولا تنام معها، فلماذا تزوجتها؟ لتنظر في وجهها؟ هذا لا يصلح، فهذا الشرط باطل، وفعلك إن شاء الله ليس فيه شيء، وليس من الخدعة إن شاء الله.(1/19)
الأشياء التي يبدأ بها الداعية
السؤال
أنا شاب أريد أن أدعو إلى الله، من أين أبدأ وكيف؟
الجواب
ابدأ من نفسك، هذه أول خطوة، ادع نفسك إلى كل خير، ثم ابدأ بالدائرة المحيطة حولك: أمك وأبوك، وإخوانك وأخواتك، ثم انتقل قليلاً في دائرتك الدراسية إن كنت طالباً، ثم في الحي الذي أنت فيه وهكذا، لكن وفق المعالم التي ذكرناها: بالإخلاص، بالكلمة الطيبة، بالعلم، بالصبر، وهكذا إن شاء الله تنجح.(1/20)
كيفية التمييز بين العمل الخالص والعمل الذي فيه رياء
السؤال
يقول: أنا أعمل الأعمال الطيبة إن شاء الله، ولكن أحس أنها رياء، فكيف أميز بين العمل إذا كان خالصاً أو كان عملاً رياء؟
الجواب
التمييز بالباعث، التمييز يكون بالدافع إلى العمل، اسأل نفسك: لماذا تصلي؟ فإن كنت جئت تصلي خوفاً من الله ورغبة فيما عند الله، فهذا الإخلاص، وإن جئت تصلي من أجل أنك متواعد مع شخص تستأجر الشقة منه، وهو لا يعطيها إلا لشخص يصلي، فجئت تسلم عليه، وتصلي بجانبه، وتقول: السلام عليكم، كيف الحال؟ من أجل أن يؤجر لك الشقة، هذا معناه رياء، صلاتك فيها رياء وليست لوجه الله، أما وأنت تصلي لله ما الذي أخرجك من بيتك؟ ما أخرجك إلا خوف الله عز وجل، هذا هو الإخلاص، ولا نريد أن يعيش الناس -أيها الإخوة- في متاهات، وفي تصورات بعيدة، أنا لست ملخصاً؟ لا.
إن شاء الله أنك مخلص، خصوصاً في هذا الزمن لا أحد يعمل عملاً صالحاً إلا وهو مخلص؛ لأنه لا يوجد أحد يدفعه من البيت إلا إخلاصه.(1/21)
علاج الشدة وسوء الخلق
السؤال
أحس من نفسي غلظة وشدة في بعض الأمور وسوء في الخلق؛ فما هو العلاج؟
الجواب
العلاج أولاً: عليك بالاستغفار؛ لأن هذا السؤال قدمه أبو ذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! إني ذرب اللسان -أي: حاد على أهلي- قال: أين أنت من الاستغفار) فعليك أن تكثر من الاستغفار حتى يذهب الله هذا المرض منك.
ثانياً: تعود باستمرار أن تغير طبعك، ضع برنامجاً عملياً لتغيير طبعك، اجعله مشروع سنة أو سنتين، إلى درجة تصل في النهاية إلى أن تغير وضعك، فحاول باستمرار ألا تحتج، ولا تكن شديداً، وتذكر دائماً أن الشدة ما كانت في شيء إلا شانته، وأن اللين ما كان في شيء إلا زانه، وأن الغلظة لا تأتي بشيء، وأنها تتعارض مع منهج الدعوة إلى الله، وبالتالي إن شاء الله يذهب منك هذا الداء.(1/22)
مراتب الدعوة
السؤال
أيهما أفضل الدعوة الجماعية أو الدعوة الفردية؟
الجواب
هذا الموضوع إن شاء الله سيكون في الدرس القادم، مراتب الدعوة التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم في بدء دعوته، مر بمراتب دعوة كثيرة، كانت أولاً سرية، ثم صارت فردية، ثم صارت بعد ذلك جماعية، هذه كلها سوف نتكلم عنها بالتفصيل في المحاضرة القادمة إن شاء الله في الشهر القادم.(1/23)
كيفية التحصن من الشهوات
السؤال
كيف يكبح المؤمن جماح الشهوة في هذا العصر الممتلئ بالشهوات؟
الجواب
بالاستعاذة واللجوء إلى الله؛ لأن الشهوات نزغ من الشيطان والله يقول: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200].
نزغ شهواني جنسي، مثل امرأة تعرض نفسها عليك، فماذا تصنع؟ تقول: أعوذ بالله؛ لأن هذا يوسف عليه السلام لما راودته امرأة العزيز {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] فماذا قال: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف:23] أي: أعوذ بالله.
وهذه مريم لما جاءها الروح القدس لينفخ في جيب درعها الروح، وليخلق الله عز وجل عيسى عليه السلام بطريقة تختلف عن خلق الناس {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [مريم:18] فعليك إذا جاءتك أي نزعة شيطانية، شهوة جنسية، شهوة عدوان، رغبة في مال حرام، شهوة تسلط، شهوة انتقام؛ أنك تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وتذكر دائماً وقارن بين لذة المعصية وبين عقوبتها، لتجد أن عقوبتها مرة ولذتها ضئيلة قياساً على العقوبة المنتظرة.(1/24)
حقيقة الدعوة
السؤال
هناك بعض الناس إذا دعوته إلى الدين يقول: نحن نعرف الدين، وعندنا أشرطة كافية، وعندما ندعوهم نجدهم غارقين في المعاصي؟
الجواب
قضية الدعوة -أيها الإخوة- ليست تعليماً وإنما هي تذكير، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل له: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21].
فأنت عندما تتحدث مع شخص يعرف الدين، ليس معنى هذا أنك أنت المعلم له، وإنما تذكره بشيء يعلمه، فتقول له: نعم صدقت، أنت تعرف الدين أكثر مني، لكني أذكرك بالله، والله أمرني أن أذكرك وقال: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:9 - 10] وقال: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].(1/25)
حكم من يكون سبباً في غيبة الناس له
السؤال
هناك دعاة وعندهم قصور وأخطاء في العمل، فبسبب ذلك يتكلم الناس فيه، فهل يتحمل إثم الناس بسبب ذلك؟
الجواب
لا شك أن المسلم ينبغي أن يذب عن عرضه، وألا يجعل الناس يأثمون بسببه؛ لأنه إذا قال كلاماً وهو يخالفه ثم تعرض الناس له بالإثم، كان سبباً في تأثيم الناس، إلا أنهم يتحملون مسئولية إثمهم، فهم يأثمون؛ لأنهم اغتابوه وهو يتحمل؛ لأنه السبب في غيبتهم، والجميع آثمون.
والمطلوب من الداعية أن يكون صادقاً وجاداً، وعلى الناس إذا أرادوا ورأوا من الداعية أو العالم قصوراً أو نقصاً ألا يغتابوه، بل يواجهوه بالكلمة الطيبة ويقولوا: يا شيخ! أنت رجل فاضل، وأنت رجل صالح، وأنت داعية إلى الله، سمعناك ورأيناك، ولكن لاحظنا كذا وكذا، وذلك فيما بينهم وبينه، من أجل أن ينتبه ويصحح وضعه، أما أن يأكلوا لحمه في غيبته ويشوهوا سمعته، هذا ليس طيباً؛ لأنه يقع في التالي بالغيبة، وأكل لحمه بغير حق.(1/26)
بيان مسألة عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم من الأخطاء
السؤال
كيف نرد على من قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخطأ، ومثل ذلك قبوله الفداء من أسرى بدر، وصلاته على عبد الله بن أُبي بن سلول عندما مات؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم أولاً: بشر {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110] ولكنه بشر معصوم من الخطأ فيما يبلغ عن دين الله، فإذا وقع في شيء صحح الله خطأه، هو معصوم لا يخطئ في شيء مما يبلغ الناس من الدين، فإذا أخطأ وهذا نادر مثل قضية أسرى بدر، استشار النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة فيهم، واختار رأي أبي بكر، فالله عز وجل أنزل القرآن ليصوب رأي عمر، وكذلك في قضية الصلاة على عبد الله ابن أُبي، صلى عليه الرسول عليه الصلاة والسلام حتى نزل أمر الله عز وجل بعد الصلاة عليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يخطئ، وإنما يبلغ عن الله، وإذا بلغ شيئاً لم يكن فيه عنده وحي من الله فهذا دليل على أنه اجتهاد منه، وحصل فيه شيء غير المراد الرباني صححه الله، هذا بالنسبة للتشريع وما يبلغ عن الله.
أما بالنسبة للأمور العادية، الأمور الحياتية، كونه يمارس أمراً من الأمور التي لا علاقة لها بالدين، هذه قد يقع منه ما يقع من البشر من الخطأ، مثل قدومه المدينة وهم يؤبرون النخل -يلقحون النخل- والرسول صلى الله عليه وسلم خبرته في النخل محدودة، لأنه جاء من مكة، ومكة بلد صحراوي ليس فيها نخيل ولا شجر ولا شيء، جاء المدينة، والمدينة بلدة زراعية ومشهورة بالتمور، فرآهم يؤبرون، فقال صلى الله عليه وسلم ليس تشريعاً وإنما كلام شخصي، قال لهم: لو تركتموه ربما حمل.
فتركوه، فلما جاء آخر السنة لم تحمل شيئاً؛ لأنه ما نقح، أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فماذا قال؟ قال: (عودوا إليه ولقحوه، فأنتم أعلم بأمور دنياكم) فدل الحديث على أن هذا الأمر من أمور الدنيا لا من أمور الدين، أما ما كان من أمور التشريع والدين فإن الله عز وجل قد عصمه أن يبلغ الناس إلا الحق، اللهم صلِّ وسلم عليه.(1/27)
حكم الغش في الامتحانات
السؤال
تنتشر ظاهرة الغش في الامتحان، فهل يجوز هذا؟
الجواب
الغش محرم، والإسلام يربي أبناءه على الصدق، وعلى الجد، والغش مصادم للجد والصدق، فالغشاش كذاب، وأيضاً خائن، ويحمل شهادة زور، أخذها بالنقل والكذب، يأتي يقول: أنا جامعي.
وليس جامعاً، لو أنه جامعي كان قرأ الدروس كلها وحفظها، وإنما أخذها في ورق، ولما جاء الامتحان نقلها ونجح بالكذب، فهذا باطل: (ومن غشنا فليس منا) ولا يجوز للمسلم أن يمارس هذا، ومن وقع في شيء منه في الماضي فيتوب إلى الله، وعليه أن يندم ولا يعود إليه.(1/28)
أهمية الرفق في الدعوة إلى الله
السؤال
كنت أدخن في يوم من الأيام وجاءني أحد الإخوة الملتزمين، وفجأة أخرج الدخان من فمي ووضع بدله السواك بالقوة، فغضبت وقلت له قولاً سيئاً، ولكن بعد ذلك ندمت على ذلك، فماذا أصنع الآن؟
الجواب
هذا من الأخطاء، شخص يشرب الدخان وتأتي تمسكه وتأخذ من فمه الدخان وتضع مكانه السواك، هذا عمل لا أحد يقبله، ولو كنت تعملها أنت، لو عمل شخص معك هذا الشيء فربما تضاربه، وليس هذا بالأسلوب، بالإمكان أن تعرض عليه السواك، وتقول له: يا أخي الكريم! تفضل هذا السواك هدية، ويمكن أن تضع هذا السواك بدل هذا الدخان، أي: من باب العرض، وأما أن تتدخل في شئونه وتفكه من يده وتدسه في فمه، إذاً ماذا بقي؟ ما تركت له الحرية، وبالتالي إذا تكلم عليك الأخ كلاماً سيئاً فجيد أنها كلام سيئ فقط، ولم تصل إلى حد الضرب، فعليك -يا أخي- أن تتوب إلى الله من الدخان، وأن تسمح لأخيك الذي تعامل معك بهذا الأسلوب؛ لأنك تعرف أن قصده طيب، ما قصده إلا الخير لك، وأن تعفو عنه إن شاء الله، وتستغفر الله من الإساءة التي وقعت منك عليه.(1/29)
الجمع بين قول: العلم يؤتى ولا يأتي، وبين ذهاب العلماء والدعاة إلى الناس
السؤال
ما رأيكم في المقولة التي تقول: العلم يؤتى ولا يأتي.
هل تتعارض مع كلامك حول أن العلماء والدعاة يأتون إلى الناس؟
الجواب
لا.
ليس هناك تعارض، العلم شيء والدعوة شيء، فنحن نقول: إن الدعاة يذهبون إلى الناس، لكن طلبة العلم يذهبون إلى العلماء، هناك تبادل مصالح، طالب العلم يأتي إلى العالم، لكن الداعية ماذا يعمل؟ يذهب إلى المدعوين، أي: أن الداعية يذهب إلى القهوة، ويأتي بالناس من القهوة، ويذهب إلى السوق يأتي بهم من السوق، ويذهب إلى الدكاكين يأتي بهم من الدكاكين، يجمع الناس، يقول: هناك محاضرة، هناك ندوة، بكلام طيب، لكن طلبة العلم الذين يريدون العلم، ماذا يريدون؟ يريدون العالم، أم تريدون أن يذهب ويبحث عليهم، فأين يجمعهم هؤلاء كلهم؟ لا يستطيع أن يطوف على الناس كلهم، ففيه اختصاصات، إن طالب العلم يطلب العلم، وصاحب الدعوة يدعو الناس إلى العلم وهكذا.
والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(1/30)
من أسباب الحياة السعيدة
يسعى لتحقيق السعادة كل إنسان، ولكن البعض يظن أن السعادة في المال، أو المنصب، أو الجاه والسلطان، أو الشهوات والملذات، وهؤلاء لم يعرفوا حقيقة السعادة، ولم يعرفوا الطريق المؤدي إليها، بينما الإنسان المتصل بربه عرف طريق السعادة، وسلك ذلك الطريق، فهو ينعم بسعادة عظيمة، ويعيش حياة آمنة مطمئنة، وكأن الدنيا ملك له.(2/1)
السعادة والسعي لتحقيقها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد أيها الأحبة في الله! السعادة مطلب كل إنسان، وما نظن أو نعتقد أن أحداً يبحث عن الشقاء، بل كل ما نراه من التطاحن والتسابق، إنما هو لتحقيق ونيل أكبر قدر من السعادة، ولكن المصيبة أن الكثير ممن يطلبون السعادة أخطئوا الطريق المؤدي إليها، ظنها قوم في المال، فقطعوا مراحل أعمارهم باحثين لاهثين وراءه، فلما حصلوه وجمعوه، كان هذا المال سبباً لشقائهم لا لسعادتهم، يقول الله عز وجل: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55].
وظن آخرون أن السعادة في تبوء المناصب، واحتلال الرتب، فحرصوا عليها وسعوا إلى تحقيقها، فلما نالوها لم يجدوا للسعادة طعماً، بل كانت ربما سبباً لشقائهم وعنائهم، وظنها آخرون في الأولاد وفي الزوجات، فلما جاء الأولاد كان الأولاد أيضاً سبباً لشقائهم وكانت الزوجات سبباً لشقائهم، إذاً أين السعادة -أيها الإخوة-؟ وقبل الإجابة لنسأل: ما هي السعادة؟ وبأبسط تعريف، يلم المجموع الشامل لمفهومها، وإلا فالسعادة معروفة عند كل شخص ولو لم يعبر عنها هي: راحة القلب، واطمئنان النفس، وسلامة الجسد من الآفات.
هذا الذي يكون جسده معافى، ونفسه مطمئنة، وقلبه هادئ فإن هذا يكون سعيداً، لكن لما اهتم الناس بالمال، فإنهم حققوا جزءاً من السعادة، وهي سلامة الجسد، ولكن لم يستطع المال أن يحقق سكينة النفس، ولم يستطع المال أن يحقق راحة القلب، بل كان المال عذاباً للقلب وللنفس.
وأذكر فيما أذكر، أنني زرت أنا وأحد المشايخ في الرياض ثرياً من الأثرياء، نطلب منه أن يتطوع بالتبرع في مشروع خيري، وكانت الزيارة في فصل الشتاء، في الليالي الباردة القارسة، فلما جلسنا معه وافق جزاه الله خيراً على أن يتبرع بالمشروع كاملاً، وودعناه، وقبل أن نخرج قال لنا: يا مشايخ! أنا عندي مشكلة حلوها لي.
قلنا: خيراً.
قال: والله لا أنام إلى أن يؤذن المؤذن لصلاة الفجر وأنا أتقلب على فراشي، لم أعرف طعم النوم.
قلنا: خيراً لماذا هل هناك مرض؟ قال: لا.
لكن أموالي في الشرق، والغرب، والشمال، والجنوب، والسماء، والأرض، والبر، والبحر، وكلما قمت بحل مشكلة جاءت مشكلة ثانية، وطوال الليل وأنا وراء المال.
قلنا: أنت الذي عذبت نفسك، ماذا نفعل لك؟ لكن تريد أن تسلم من هذا المرض؟ قال: نعم.
قلنا: علق مالك بربك، حتى يتعلق قلبك بالله، اكنز هذا المال عند الله.
قال: جزاكم الله خيراً، وخرجنا من عنده، وعند خروجنا مررنا برجل من العمال يعمل حمالاً يحمل الأثقال من السوق، وقد جمع الحبل الذي يربط به الأحمال تحت رأسه، وبسط تحته كرتوناً ونام، ومد أرجله وله شخير نسمعه على بعد أمتار، في غاية النوم، هذا صاحب الملايين لا يأتيه النوم، وهذا صاحب الكرتون نائم أربعة وعشرين قيراطاً.
إذاً المال سعادة أم عذاباً؟ بل هو عذاب، وتعال انظر هذا الفقير في الصباح، إذا قام بماذا يفطر؟ يأخذ له ثلاثة أقراص على صحن يأكلها مثل البعير، وذاك التاجر يفطر حبوباً ويتغدى حبوباً ويتعشى حبوباً.
إذاً ما قيمة المال؟ مجرد أرقام وأرصدة، لكن هل يحقق سعادة؟ لا.
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
فالسعادة هي راحة النفس، وهدوء القلب، وسلامة الجسد، أين توجد هذه كلها؟ هذه -أيها الإخوة- لا توجد في المال، ولا في المناصب، ولا في الرتب، ولا عند الزوجات ولا في الأولاد، وإنما توجد في شيء واحد ألا وهو في الإيمان بالله، والعمل الصالح لوجه الله، يقول الله عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97] هذا شرطه: من عمل صالحاً وهو مؤمن، ماذا يحصل له؟ قال عز وجل: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] ما هي الحياة الطيبة؟ إنها حياة القلب، ولو كان فقيراً والله إنه لفي حياة طيبة.
الصحابة رضي الله عنهم كان معظمهم فقراء، ولكنهم كانوا يحيون ويعيشون أعظم مستوى من السعادة، بل سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه، وأفضل من سار على وجه الأرض سيد ولد آدم، كيف كان يعيش؟ سعادته كأكمل ما تكون على أعلى مستوى، أسعد البشر بربه وبدينه، رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغم أن حياته المادية كانت بسيطة إلى أبعد درجات البساطة، كان ينام على الحصير، ويسكن في غرف صغيرة لا تكفي للصلاة، إذا صلى في الليل وعائشة نائمة تكف أرجلها إذا سجد، وإذا قام بسطت أرجلها، ويربط على بطنه الشريفة الحجر من الجوع، حتى تلتقي المعدة وجدران المعدة حتى أنه لم يعد يشعر بالألم من الجوع، ويمر الشهر والشهران ولا توقد في بيت آل محمد نار، كم توقد اليوم في بيوتنا من النيران -أيها الإخوة-؟!! ليست ناراً واحدة، بل نيران، المطبخ مثل المعمل، هذا يقلي، وهذا يخبز، وكل هذا من أجل أن نأكل، وبعد ذلك هل وجدنا السعادة؟ هل حققت هذه المآكل والمطاعم والمشارب لنا سعادة؟ بل زاد الشقاء، وأكثرنا تجده يتوجع، وأمراض الناس الآن كلها من بطونهم.
الفشل الكلوي ما سببه؟ من اللحم، والقرحة المعدية من الأكل، والسكر من الأكل، والسمنة من الأكل، والذبحة من الأكل، كل هذا من الأكل، إذاً الأكل هل هو سعادة أم عذاب؟ عذاب، إذاً ما هي السعادة؟ قال عز وجل: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] قال العلماء: كان حياً لكن حياة خبيثة، هنا حياة ماذا؟ حياة طيبة، ما هي الحياة الطيبة؟ إنها حياة القلب، وحياة الإيمان، والدين، والصلة بالله، والصلاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والحب في الله، والاستعلاء على الشهوات، والنصر على النفس، ورفض الحرام.
لو مررت على امرأة متبرجة، وغضضت بصرك فهذه هي الحياة، لكن لو أنك نظرت إليها تريد أن تبتلعها، تتلصص على محارم الله، أنت مسكين إذاً فحياتك خبيثة، حياتك قذرة، فالحياة الطيبة أن ترتفع إلى فوق، يقول تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7 - 10] دنسها بالقاذورات، فقط تجده يقمقم -والعياذ بالله- أغاني، مسلسلات، أفلاماً، كرة،، لعباً، سهراً، أرصفة، تفحيطاً، ما هذا؟! ارتفع إلى فوق، ابحث عن الدين القيم، عن المبادئ، عن العقيدة، عن الصلاة، عن القرآن، عن الجنة، هذه هي الحياة: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97].
وبعد ذلك إذا مات قال عز وجل: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] ويقول عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] لا تطمئن القلوب إلا بدين الله، الأموال لا تطمئن القلوب بل تنفخ الجيوب، والأكلات لا تطمئن القلوب بل تطمئن البطون، والزوجات تطمئن الفروج، لكن قلبك هل تريده أن يطمئن؟ ألا بذكر الله، -أي: ألا بدين الله- تطمئن القلوب، قلوب أهل الإيمان {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:29] قال العلماء: ما معنى طوبى هنا؟ قال بعضهم: طوبى هي الجنة، وقال آخرون: الحياة الطيبة، طوبى أي في الدنيا، وحسن مئاب أي: في الآخرة في الجنة -نسأل الله أن يطيب حياتنا وحياتكم في الدنيا والآخرة-.(2/2)
طرق الحصول على السعادة
كيف نحصل على السعادة؟ لا توجد السعادة إلا إذا عرف الإنسان أمرين، وبهما وجد السعادة كاملة بحذافيرها، أما إذا جهل الأمرين أو أحدهما، عاش شقياً، ومات شقياً، وبعث شقياً، وحشر شقياً، ودخل دار الأشقياء دار العذاب والنار والنكال -والعياذ بالله- هل هناك أشقى ممن يدخل النار -يا إخوان-؟ لا إله إلا الله! الآن لو وجدت شخصاً ليس في بيته عنده مكيفاً، يقول: والله يا شيخ أنا عيشتي شقية، لماذا؟ قال: لا يوجد مكيف، ودرجة الحرارة أربعين لا يصبر عليها، شقي.
حسناً الذي ليس عنده برد ولا شيء وإنما في النار، يقول الله عز وجل: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} [النبأ:24 - 25] في النار، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [غافر:10] ينادون يوم القيامة، وهم يقادون إلى النيران، يحصل منهم حسرة ومقتاً واحتقاراً وازدراءً لأنفسهم، فينادون فيقال لهم: إن الله يمقتكم ويبغضكم ويزدريكم ويحتقركم أكثر مما تمقتون أنفسكم، لماذا؟ قال: {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10] ترفضون الدين، ويوم القيامة يقولون: (ربنا) يعرفون الرب لكن بعد ماذا؟ {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11] كنا أمواتاً فأحييتنا، ثم أمتنا ثم أحييتنا، واحدة يا رب، وهي الخروج من النار.
{قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11] هل هناك فكاك من النار؟ لا إله إلا الله! قال الله عز وجل: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12].
ما هذان الأمران الضروريان؟ وأرجو التركيز معي -أيها الإخوة- لأن القضية ليست قضية سماع، إنما قضية مصير، هي قضية سعادة أو شقاء، قضية عذاب أو نعيم، قضية جنة أو نار، هذه من أبرز قضايا الوجود، هي ليست سهلة، ما هي بصفقة ولا أرضية ولا عمارة، ولا امرأة تموت أنت وتتركها، أو تموت هي وتتركك، لا.
هذه طريق شائكة، طريق صعبة، مسألة مهمة، ما هذان الأمران؟ الأمر الأول: أن تعرف من أنت.
الأمر الثاني: أن تعرف لماذا خلقت.(2/3)
معرفة حقيقة الإنسان من أسباب السعادة
المصيبة كل المصيبة أن الناس لا يعرفون أنفسهم، كيف لا يعرف الواحد نفسه؟! يقول الناظم:
دواؤك فيك وما تبصر وداؤك منك وما تشعر
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
أنت لست بالرجل السهل، ويقول ابن القيم:
قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
هيأك الله لأمر عظيم، خلقك بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأرسل إليك رسله، وأنزل عليهم كتبه، وأوعدك جنته إن أطعته، وتوعدك بناره إن عصيته، ثم تأتي فترعى مع الهمل، همك بطنك فقط، ماذا نأكل وماذا نتغدى وماذا نتعشى؟ وأين نذهب وعشاء وغداء، وأكياس تدخل وتخرج، وأكثر الناس اليوم ما شغلته إلا أكياس وزبالة، يدخل كيساً ويخرج الزبالة، لا يوجد بيت من بيوت المسلمين، إلا وحوله أكياس سوداء، وعاش المسلم وضاع بين الكيس والزبالة، شخص تقول له امرأته: هات معك، هات معك -تطلب حاجات- قال لها: أنت لا يوجد عندك إلا هات هات، لم تقولين يوماً من الأيام: خذ، قالت: خذ هذا إلى الزبالة.
إذاً من أنت أيها الإنسان؟ المصيبة كما قلت لكم: إن الناس لم يعرفوا ما حقيقة هذا الإنسان، إلا أبسط أجزائه، الإنسان مكون من خمسة أجزاء، عرف الناس واحداً وجهلوا الأربعة الباقية.(2/4)
العناية بالجسد والسعادة
الجسد هو هذا الذي نعرفه كلنا، عظام مركبة عليها عضلات وأعصاب، وعليها لحم، وأجهزة: جهاز سمعي، وجهاز بصري، وجهاز تنفسي، وجهاز هضمي، وجهاز دموي، وجهاز تناسلي، الأجهزة هذه عرفها الناس، والجسد جزء واحد فقط من الأجزاء، وهو أبسط الأجزاء، ولم يأت في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثناء على الناس على قدر أجسامهم، بل جاء الذم، قال الله في المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4] وجاء الذم في السنة يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن إلى قلوبكم وإلى أعمالكم) أجل جسمك صغير أو كبير، أبيض أو أسود، طويل أو عريض، سمين أو ضعيف، هذا ليس له قيمة؛ لأنك لست الذي ركبت جسمك، ولا أنت الذي لونت جسمك، ولا أنت قمت بتطويله، الذي ركبك هو الله {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران:6] لا كيفما تشاءون أنتم، هذا هو الجسد، هذا جزء واحد.
الناس الآن لا يعرفون من الإنسان سوى جسده، ولهذا فإن التركيز والأهمية في حياتنا على الجسد، إذا مرض الجسد ماذا نعمل؟ نأتي بالعلاج، وإذا انعدم العلاج في الرياض أين نجده؟ قالوا: علاجك في لندن، فإن كان معه أموال فإنه يحجز بسرعة، وإن لم يكن معه أموال فإنه يبيع بيته، وإن لم يكن عنده بيت فإنه يذهب يطرق أبواب المحسنين والدولة، فيقول: أنا مريض، لا بد أن أسافر، إذا مرض الجسد هذا دواؤه، بينما يمرض القلب والمسجد بجانبه فلا يذهب إليه، بل يأتي الطبيب، طبيب القلوب في المساجد، وتراه يتكلم عن أمراض القلوب، ولا يتطرق إلى كيفية معالجة القلوب من منظور شرعي، لأنه لا يعرف العلاج الشرعي؛ بل يعرف فقط الجسد، وإذا جاع الجسد أطعموه، وإذا عطش الجسد أسقوه، وإذا برد الجسد أدفئوه؛ ملابس شتوية، وإذا احتر الجسد بردوه: مكيفات، ومراوح، وملابس صيفية.
إذاً الحياة عند الناس الآن حياة الجسد، وهل أنت إنسان بجسدك فقط؟ لو أن القضية قضية جسد ففي الحيوانات من هو أكبر منك جسداً.
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتطلب الربح مما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان(2/5)
قيمة الإنسان وسعادته بروحه
يقول العلماء: إن الروح هي الطاقة المحركة لهذا الجسد، الجسد مثل (الميكرفون)، ما الذي يشغل (الميكرفون)؟ الكهرباء، إذا نزعنا الكهرباء هل يبقى له قيمة، هل يكبر الصوت.
الثلاجة تقوم بتبريد الطعام، ما الذي يجعلها تبرد؟ الكهرباء، إذا نزعنا الكهرباء لم تعد تبرد الطعام، رغم أن الثلاجة موجودة.
الجسد يتحرك، والعين تبصر، من الذي يحركها؟ الروح، إذا صعدت الروح هل تبصر العين؟ العين موجودة لم يذهب شيء، لكن ذهبت الروح المحركة لها.
الأذن تسمع فإذا خرجت الروح لا تسمع، مع أن الأذن موجودة والجهاز السمعي موجود، تأتي فتصيح في سمعه فلا يسمعك، لماذا؟ الذي يحركها ليس موجوداً.
القلب يضخ الدماء، إذا خرجت الروح يقف القلب، لا يتحرك؛ لأنه لا يوجد محرك، وتسمعون الآن عن عمليات زرع الأعضاء، إذا مات الشخص أخذوا قلبه ووضعوه في شخص آخر، حسناً لماذا تحرك هناك ولم يتحرك هنا؟ لأن المحرك الذي هنا خرج وهي الروح، كليته فشلت هنا أخذوها وتحركت هناك، إذاً الحياة ليست في القلب ولا في الكلى، الحياة في الروح.
حسناً ما هي الروح؟ لا نعلمها، عندما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح قال الله له: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85] وهذه الروح من الأشياء التي استأثر الله بعلمها، ولا نعلم عنها شيئاً إلا بعض صفاتها، بأنها تخرج، وأنها تصعد وأنها إذا مات الإنسان صعدت روحه، ولهذا تجدون الميت إذا مات، فإنه يشخص ببصره، ويسن تغميضه، لماذا؟ لأنه إذا خرجت الروح تبعها البصر، وأن الروح تتوفى عند النوم، وتتوفى عند الموت، قال الله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ} [الزمر:42] أي: يتوفاها {فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر:42] حسناً النوم هو وفاة، قد يقول شخص: كيف؟ نقول: الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا إذا قمنا من النوم أن نقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا) كنا قد متنا في النوم، والروح تخرج من الجسد، وتجلس قريبة منك، ولها صلة بالجسد تحركه لكن من بعيد، بالليزر -كما يقولون- أو (بالريموت كنترول) بعيدة عنك، ولكن تخرج منه حتى يستريح، إذا لم تخرج الروح لا يستريح الإنسان.
ولذلك عندما تأتي نائماً وتتكلم عند أذنه فلا يسمعك، تأتي عند عينه، وتضع أمامها شيئاً فإنه لا يراه، تضع عند أنفه شيئاً لا يشمه، تريده أن يشم ويرى ويسمع، قل له: يا فلان -أيقظه من النوم- فيقول: نعم، فتعطيه الطيب فيشمه، وتريه شيئاً فيراه، وتتكلم معه فيسمعك، لماذا؟ لأن الروح كانت بعيدة، وهي التي تشم، وهي التي تنظر وهي التي تسمع، فكيف تعلقها بالجسد؟ لا نعلم، هل هي موجودة أم غير موجودة؟ قال العلماء: لو تظل الروح في الجسد، لن يستريح الإنسان ولن ينام، ولن يستطيع أن يفعل شيئاً.
لو دخلت إلى بيتك وأنت متعب، ومثقل بهموم العمل، خصوصاً لو كان عملك مهنياً بدنياً، ودخلت إلى البيت وقلت: أبنائي! دعوني أنام، قالت لك امرأتك: هل تريد أن تستريح؟ قلت: نعم.
أريد أن أنام، قالت: خذ راحتك، هذا السرير والمكيف فوقك شغال، لكن لا تنم، وكلما أغمضت عينك فتحت عليك الباب وقالت: استرح استرح، ما رأيك هل تستريح؟ لو تجلس على السرير ستين ساعة فلن تستريح، لكن لو نمت ثلاث أو أربع أو خمس ساعات ثم تقوم بعدها، وإذ بك تقول: لا إله إلا الله! الحمد لله، الحمد لله، استرحت وأصبحت نشيطاً، وقد رجع لك كل نشاطك، وكل قوتك، لماذا؟ لأن الروح خرجت، لو لم تخرج وتدع الجسد يستريح لما استراح أبداً.
هذه الروح لا نعلم عنها شيئاً، ويكفينا من العلم ما علمنا الله، قال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85] وهي كما قلت لكم: بمنزلة الطاقة المحركة للجسد.(2/6)
حقيقة النفس ووقايتها من الأمراض
إن النفس بمنزلة المستشار فهي التي تقدم الاستشارات للقلب، ومقاييس هذه النفس الاستشارية هي الشهوات، والملذات، والمتع، والراحة، والسهرة، والرحلات، هذه الأشياء النفس تحبها، إذا شاورت نفسك: نسهر؟ قالت نعم لا يهم، إذا شاورتها نأكل؟ وقالت: كل يا رجل، ننام؟ نم.
كل شهوة محببة تحبها النفس، بل كل أمر سيئ تحبه النفس وتأمر به، يقول الله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53] بالسوء أي: بالشر، هذه طبيعة النفس، لكن يأتي دورك لهذه الطبيعة النفسية، أن تقوم بتغييرها وبمجاهدتها إذا كانت أمّارة بالسوء، تريد أن تنام تقول لها: لا.
انهضي وصلي، تريد أن تغني، تقول: لا والله لا تسمعين الأغاني، تريد أن تنظر إلى الحرام تقول: لا.
وتغض بصرك، تريد الربا من أجل أن تصبح غنياً، تقول: لا.
هذا حرام لا يمكن، وكلما أمرتك هذه النفس بلذة محرمة أو بشهوة ممنوعة قلت لها: لا.
تفطمها، فإذا رأت أنك سيطرت عليها ترقت، وانتقلت من مرتبة النفس الأمارة بالسوء إلى مرتبة النفس اللوامة: وهي التي تفعل الخير ولكنها تحن إلى الشر، ثم تلوم على فعله.
أنت تفعل الخير بنفسك الطيبة، لكن أحياناً توقعك نفسك هذه في شر، فإذا عملته قالت النفس: لماذا تعمله، ما بك أنت ملتزم، أنت متدين، أنت مؤمن، لماذا تنظر إلى الحرام؟ لماذا تستمع إلى الأغاني؟ هذه نفس لوامة، فإذا لامتك وهي التي ورطتك قلت أنت: أنتِ التي أوقعتيني، والله لا أفعلها، فإذا جاهدتها مرة، ومرتين، وثلاثاً، وأربعاً، وعشراً، ارتقت إلى مرتبة النفس المطمئنة، التي اطمأنت إلى دين الله وسكنت إلى أمره، واستراحت بتنفيذ شرعه، وهنا تعيش أكمل عيشة، ولا يجد لك رب العالمين حينها مجال إلا أن ينقلك إلى الجنة، ويناديك عند الموت ويقول: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30] ولذا يقول العلماء: إن مجال الإصلاح في حياتك هو إصلاح نفسك، قال الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:7 - 9] ويقول عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41].
ودائماً النفس -بحكم طبيعتها الشريرة- ورغبتها في الخمول، وكراهيتها للقيود، تحب الانفلات، وتحب الدعة، وتحب عدم الإلزام بشيء، ولذلك ترى أنك إذا كنت طالباً في ليالي الامتحان، تنظر إلى الكتاب المقرر الذي فيه الاختبار غداً، تراه أكره شيء، كأنه حيات وعقارب أمامك، ولكن أي صحيفة أو مجلة أو كتاب آخر تريد أن تقرأه كله، لماذا؟ لأن النفس مكرهة على ذاك، وغير مطلوب منها هذا، فتميل إلى هذا وتكره ذاك، لكن ماذا تفعل أنت؟ إذا كنت عاقلاً وحازماً ولبيباً وذكياً، تقول: لا يا نفس، ليس عندنا اختبار في الصحيفة ولا في هذا الكتاب هذا، والله لا بد أن تقرأي الكتاب المقرر عليك غصباً عنك، فتستسلم لك، ولهذا فالنفس هذه يقول العلماء عنها: إنها مثل الدابة، إن وجدت خيالاً ماهراً، ركب عليها، وشد زمامها، وتركها تمشي ولم يجعلها تبرك، وإن لقيت خيالاً ضعيفاً، رمته وركبت عليه، ورفسته ومشت عليه، وكذلك أنت إن كنت مسيطراً على نفسك، تقهرها وتزجرها عن المعصية، وتجبرها على الطاعة، استسلمت وأذعنت، وهذا شأن السلف رحمهم الله، كانوا يجاهدون أنفسهم جهاداً عنيفاً، كان بعض السلف إذا فاته ورده من الليل، أخذ السوط وأخذ يضرب أرجله، وقال: والله إنك لأولى بالضرب من دابتي، ماذا يفعل هذا في الليلة الثانية هل ينام؟ يقوم، لماذا؟ لأن أرجله خائفة من العصا.
وآخر خرج يوماً من الأيام من بيته، فرأى بيتاً مرتفعاً فقال: لمن هذا البيت؟ قالوا: لفلان، ويوم أن رجع في الليل يريد أن ينام، قام يراجع ويحاسب نفسه على الأقوال التي قالها، فوجد هذه الكلمة فقال: أنت خرجت بعد الظهر اليوم، ورأيت عمارة وقلت: لمن هذه العمارة، قال: يا نفس ماذا تريدين بهذه الكلمة؟ تريدين عمارة مثلها، لا تريدين أن تشتغلي بطاعة الله، تريدين أن تشتغلي بما عند الناس، يقوم فيلومها، ثم قال: والله لأعاقبنك بصيام سنة، فصام سنة من أجل كلمة، هل ستعود نفسه توسوس له، حسناً هؤلاء عرفوا كيف يعالجون أنفسهم، جاهدوها مجاهدة صحيحة حتى أذعنت واستسلمت وسارت في ركاب الطاعة، واستسلمت لأمر الله تبارك وتعالى.
إذاً دورنا -أيها الإخوة- جهاد هذه النفس وعلاجها، وقصرها على الطاعة، وزجرها عن المعصية.
هذه النفس لها أساليب ووسائل في عملية تحسين الشر والمعاصي، مثلاً: الزنا تأتي النفس فلا تبديه لك بالصورة الطبيعية، ما هو الزنا؟ الزنا عار الزنا شنار الزنا إسقاط للاعتبار الزنا فصل من الوظيفة الزنا جلد في السوق كما يجلد الحمار الزنا -إن كنت محصناً وسبق لك الزواج- رجمٌ بالحجارة حتى تموت الزنا إدخال لك في قائمة السوابق الزنا إفساد لعرض مسلم الزنا إيجاد لولد غير شرعي يعيش بدون أب، ويبقى عالة على المجتمع من أجل شهوة تقضى في دقيقة أو دقيقتين أو خمس دقائق، هذا هو الزنا.
إذا بدا لك الزنا بهذه الصورة هل تقبله؟ لا.
لكن النفس الأمارة بالسوء لا تظهر الزنا بهذه الصورة، كل هذا تخفيه، وتقول: الزنا لذة الزنا متعة الزنا فرصة أنت دائماً مع امرأتك، لا.
بدِّل غيرها كل طعام له لون وكل طعام له طعم، هذه حقيقة النفس، فإذا جاء العقل يقول لها: لا يا نفس! أنت مخطئة، الزنا كذا وكذا، تقول: صدقت، لكن هذا إذا اكتشفت، لكن يا رجل دبر نفسك، اعمله ولن يراك أحد، قال لها العقل: إذا لم يرني الناس الله يراني، قالت النفس: يا ابن الحلال! الله غفور رحيم، من أجل أن توقعك في هذه الجريمة، هذه أساليب النفس؛ لأنها أمارة بالسوء، لكن أنت خالفها وخالف النفس والشيطان واعصهما؛ لأن في معصية الشيطان والنفس، سعادتك في الدنيا والآخرة.
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
هل رأيتم طفلاً صغيراً ينفطم على ثدي أمه هكذا من نفسه؟ لا.
لو تركته يرضع لظل يرضع حتى وهو كبير، لكن افطمه بالقوة، ضع في فمه قليل صبغ أو قطراناً وعندما يأتي ويذوقه فإذا به مر، فيبكي يوماً أو يومين أو ثلاثة وانتهى، هكذا النفس، نفسك تحب الأغاني افطمها تنفطم، نفسك تحب النظر إلى الحرام افطمها تنفطم، لكن تظل ترضعها كل يوم فكيف تنفطم، لا بد -أيها الإخوة- من أخذ المسألة بجدية وبحزم وبقوة حتى تنفطم هذه النفس، على ترك الذنوب والمعاصي والآثام.(2/7)
العقل ميزان المصالح والمفاسد
إن العقل يسميه العلماء: المستشار الثاني للقلب، ومقاييس هذا المستشار غير مقاييس النفس، النفس مقاييسها الشهوات، والعقل مقاييسه المصالح والمفاسد والآثار والنتائج، والمقدمات والضروريات، لكن قد يقول العقل شيئاً للقلب ويرفضه القلب بناءً على سيطرة النفس.
الآن أعطيكم مثالاً: كثير من الأشياء ندرك بعقولنا ضررها، ومع هذا نقع فيها، أنا أسأل الذي يركِّب الصحن المستقبل فوق بيته، أسأله بالله، ألا يدرك أن فيه ضرراً على دينه، وعقيدته، وأخلاقه، وأخلاق زوجته، وأخلاق ولده وأسرته؟ يقول: نعم.
فيه ضرر.
حسناً لماذا تأتي بالضرر إلى بيتك؟ يقول: والله الأولاد أزعجوني، والمرأة رفضت، كل يوم وهي عند الناس، أنا آتي لها بهذا من أجل أن أتخلص منها ومن شرها.
إذاً فإن سيطرة النفس، وشهوة الزوجة، وشهوة الولد، أقوى من رأي العقل، رفض العقل وأتى بالصحن المستقبل وأمطر بيته وزوجته بكل ما يسخط الله ويغضبه، وخان الأمانة التي بينه وبين الله، أولادك أمانة وزوجتك أمانة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27] إنها أمانة قال الله لك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] وأنت لم تقهم النار، بل اشتريت لهم النار، وأمطرت عليهم النار من فوق، العقل يقول: فيه ضرر، لكن النفس تقول: لا يا شيخ! الناس كلهم وضعوه على بيوتهم، انظر إلى الأخبار، ماذا يهمك من الأخبار؟ وزير الخارجية أنت؟ تريد الأخبار تنتقل من إذاعة إلى إذاعة، إن هذا يجعلك تنظر إلى المسلسلات، ويجعل أولادك يتعلمون منه الأخلاق السيئة، ويصبح قدوة أولادك، من يصبح شيخاً لأولادك؟ الممثلون والممثلات، تصبح ثقافة ولدك أو ابنتك: هل تعرف الممثل الفلاني، والمطرب الفلاني، والمغني الفلاني، واللاعب الفلاني؟ ولا يعرفون من الصحابة أحداً، ولا من الصالحين أحداً، ولا يعرفون من العلماء أحداً، إنما همومهم وتعلقاتهم وآمالهم وثقافتهم هذه الأشياء الضحلة، ويترتب على هذا جيل ضائع ضال لا يعرف الله حق المعرفة، كما هو حال أجيال الكفار -والعياذ بالله-.
أيها الإخوة! هذه الشرور هي زبالة أفكار الكفار، والقنوات تجلب عليك كل ما عند الكفار، وتركبه وتضع أموالاً فيه، وعقلك يقول لك: إن هذا ليس طيباً، لكن شهوة النفس تطغى على رغبة العقل.
مثال ثانٍ: التدخين: المدخن الآن يعرف أن الدخان ضار، ويقرأ على العلبة: التدخين يضر بصحتك، فننصحك بالامتناع منه، ومع هذا تجده يدخن.
العقل يقول لك: إنه ضار، والنفس تقول: يا شيخ! دخن وسوف تنجلي همومك، يا رجل! أنت عندك هموم ومشاكل، وإذا دخنت فإنك ترى الدنيا كلها، فرفض أمر العقل، واستجاب لشهوة النفس؛ لضعف عقله ولقوة سيطرة نفسه.
التدخين يضر بإجماع الناس، حتى الشركة تكتب عليه أنه مضر، كل شركة تصنع أي صنعة فإنها ترسل دعاية للصنعة التي تقوم بصناعتها إلا الدخان فإنهم أرسلوا دعاية ضد الصنعة، وكل طعام عليه تاريخ صلاحية ابتداء وانتهاء، إلا الدخان تجده منتهياً من يوم أن قاموا بصنعه، ليس له تاريخ صلاحية، ومع هذا لا أحد يسأل عن هذا، لو اشتريت علبة لبن بأربعة ريالات، ولقيت عليها تاريخ الصلاحية منتهياً، تأخذها أم تذهب فتشتكي وتمسك صاحب اللبن وتصيح عليه: كيف تبيع هذا الشيء وهو منتهي الصلاحية؟ هذه انتهت صلاحيتها في 30/ 12 واليوم نحن في شهر 2 وأنت تبيعها، وتأخذ اسمه وتبلغ البلدية، لكن عندما تشتري الدخان وقد انتهت صلاحيته في بلده، من يوم أن صنعوه، قالوا: هذا يضرك، لكن لا.
سأدخن، لماذا؟ لأن العقل مرفوض الأمر، بينما النفس الأمارة بالسوء هي الآمرة، أمرت بشهوة الدخان، فنفذها الإنسان لضعف عقله، ولمرض قلبه.
ويقول العلماء: إن النفس إذا قويت مرض القلب، إذاً هي عملية موازنة، إذا سلم القلب وتقوى، ضعفت النفس، وإذا قويت النفس وسيطرت، ضعف القلب، ويبقى العقل يأتي بأفكار لكن لا أحد يطيعه، يأتي بآراء لكن لا أحد ينفذ آراءه.
إذاً العقل هذا كيف نجعل آراءه سليمة؟ قالوا: ينور بنور الدين، والقرآن، ويتعلم العقل الأنوار من كتاب الله، ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويهتدي بالتفكير وبالتأمل وبالنظر في الآيات الكونية، وفي الآيات القرآنية، إلى أن يصدِّر آراء صالحة مع إصلاح النفس، فتجتمع آراء النفس مع آراء العقل إلى القلب فيصلح القلب، هذا هو الجزء الرابع.(2/8)
صلاح القلب واستقامته صلاح للبدن
الجزء الخامس والأخير والمهم في الإنسان وهو القلب سماه العلماء بهذا الاسم؛ لأنه ملك الجوارح، وسيد الأعضاء، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم بالمضغة؛ لأنه إذا صلح صلح الجسد كله، والحديث في الصحيحين، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب) وهذا هو ميدان العمل على الإصلاح، لم تهتم الشرائع إلا بإصلاح القلوب؛ لأن القلوب تمرض كما تمرض الأجساد، والقلوب تعمى كما تعمى الأبصار قال الله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخبر الله في القرآن الكريم أن القلوب تمرض، قال عز وجل: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة:10] وقال: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] هذه كلها بيان على أن القلب يمرض، لكن كيف يمرض القلب؟ قالوا: مرض القلب هو عجزه عن القيام بوظيفته الآن العين إذا عميت قالوا: مريضة لماذا؟ لأنها عجزت عن القيام بوظيفتها، وهي الرؤية.
الأذن، ما هي وظيفتها؟ السماع، إذا لم تسمع قالوا: صمّاء مريضة.
اليد ما هي وظيفتها؟ الحمل، إذا عجزت عن الحمل قالوا: يد شلَّاء.
الرِّجل ما هي وظيفتها؟ المشي، إذا انكسرت الرجل وعجزت عن المشي، قالوا: رجله مكسورة مريضة.
والقلب ما هو وظيفته؟ معرفة الله، معرفة دين الله، معرفة رسول الله، إذا لم يعرف الله ولم يعرف دين الله ولا عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلبه مريض؛ لأنه لم يقم بوظيفته.
ما أنواع مرض القلب؟ ثلاثة أمراض: مرض شبهة، ومرض شهوة، ومرض غفلة، هذه هي الأمراض التي تصيب القلب.
1 - مرض شبهة: يورث شكاً في الدين.
2 - ومرض شهوة: يورث تقديم الهوى على أمر رب العالمين.
3 - ومرض غفلة: يورث نسيان الله والدار الآخرة، والجنة والنار، فيتقيد القلب، يصبح محاصراً من كل جهة، مريضاً بالشهوات ومريضاً بالشبهات ومريضاً بالغفلات، فيتعطل عن أداء وظائفه كاملة، ويبقى فاسداً: (وإذا فسدت فسد الجسد كله) إذا فسد القلب فسدت العين، وفسد اللسان، وفسدت الأذن، وفسدت اليد، وفسد الفرج، وفسدت الحياة، كلها، لماذا؟ لأن القلب فاسد.
إن شباب الصحوة الذين ترونهم الآن -أسأل الله أن يكثرهم ويبارك فيهم ويوفقهم- هذا شاب ملتزم ما الذي صلح فيه؟ لقد كان مغنياً أو لاعباً، أو لاهياً، أو عابثاً، أو قليل دين، أو قاطع صلاة، أو عاقاً لوالديه أو -والعياذ بالله- لا يعرف المسجد، ولا يعرف دين الله، لكن فجأة هداه الله، ما الذي صلح فيه أولاً؟ إنه قلبه، عندما صلح قلبه، قال لعينه التي تنظر إلى الحرام: والله لا تنظرين إلى الحرام، قالت: حسناً، وصار أكره شيء عنده الحرام.
إذا رأى امرأة كأنه رأى عفريتاً، لقد كان يتلذذ بسماع الأغاني أما الآن إذا سمع أغنية تراه يصيح: أغلق، كأنها رصاصة دخلت في أذنه كان يكره الأذان، أما الآن فإن أحب شيء عنده إذا سمع: الله أكبر! أحب شيء عنده أن يدخل المسجد ويصلي، أحب شيء عنده يرى العلماء والمشايخ والدعاة، أحب شيء عنده أن يقرأ القرآن، ما سبب صلاح هذه الجوارح؟ إنه صلاح القلب.
إذاً عليك أن تسعى لإصلاح قلبك؛ لأنك لا تنتفع إذا لقيت الله إلا بقلبك السليم، يقول الله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] سليم من ماذا؟ قالوا: سليم من الشك، والشبهة والشهوة والغفلة.
ما هي أمراض الشبهات؟ هي الشكوك التي يزرعها الشيطان في قلب الإنسان في قضايا العقيدة والإيمانيات: شك في الله، وفي رسول الله، وفي دين الله، وفي الجنة، وفي النار، وفي البعث، وفي عذاب القبر، وفي الملائكة، وفي الجن.
من الذي يزرع هذه الشكوك؟ إنه الشيطان ليزعزع عقيدتك، وأنت لم تؤمن بهذه القضايا جزافاً بل آمنت بها بناءً على وعد وخبر صادق من الله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87] ((وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً)) [النساء:122] ً، من أحسن من الله قولاً، يقول الله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام:115] صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام، أنت لم تؤمن بهذه القضايا من فراغ، ولا ورثتها، بل آمنت بها من كتاب عظيم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، جاءك به رسول هو أصدق البشر، والله ما على وجه الأرض من هو على الحق إلا المسلم، ولا يملك أحد وثيقة صحيحة من عند الله ليس فيها زيادة حرف أو نقص حرف إلا المسلم، كتاب الله المحفوظ، المتلو، المسطر في السطور، الذي قال الله فيه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
فنحن نصدق بهذه الأخبار؛ لأن الله أخبرنا بها، يأتي الشيطان يزعزع، لكن إذا وجد منك اليقين انصرف، فمرض الشبهة أخطر مرض على القلب؛ لأنه يورث الشك، وإذا شككت في دين الله كفرت: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] قالوا: الفتنة هي الشك في دين الله.
مرض الشهوة أن تتصارع في نفسك، وتتصادم شهوات النفس مع أوامر الرب، مثل شهوة النوم عند صلاة الفجر، الله أمر أن تقوم لصلاة الفجر في الساعة الرابعة، وأنت في الساعة الرابعة تقول لك النفس: هذه أحسن ساعة للنوم، فصار صراع داخلي بين شهوة محببة وهي النوم، وبين طاعة مفروضة وهي الصلاة، مع من أنت؟ إن كنت قمت فأنت مع الله، وقلبك سليم، وإن نمت عن صلاة الفجر فقلبك مريض؛ لأنك أطعت شهوتك، ورفضت أمر خالقك ومولاك.
شهوة النظر إلى النساء، تمر وترى منظراً، وأنت إنسان، وعندك ميول ورغبات، وزين لك هذا الشيء، يقول الله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران:14] أول شيء: النساء، لكن هذا المنظر يتعارض مع أمر من أوامر ربك، يقول تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] فأنت بين وازع ودافع، وازع ديني ودافع شهواني، الوازع الديني يقول: حرام، والدافع الشهواني يقول: انظر، لا يفوتك المنظر، إن غضيت بصرك إذاً قلبك سليم، وإن فتحت عينك إذاً قلبك مريض، وقس على هذا.
مرض الغفلة: وهو أن تنسى الله، ويشغلك الشيطان، بحيث لا يبقى عندك من الوقت شيء تذكر الله فيه، يقول لك: الآن عمل، وبعده غداء، وبعده نوم، وبعده شراء حاجات البيت، وبعد ذلك سهر، وأفلام، ولعب، وبلوت، وتستمر على هذا، هذا برنامج أكثر الناس من حين يصبح إلى أن يصبح اليوم الثاني لم يذكر الله، ولا يعرف مسجداً لله، ولا يعرف أنه مسئول عن دين الله، ولا يعرف أنه مطلوب منه أن يدعو إلى الله، ولا يعرف أن هناك جنة أعدها الله، ولا يعرف أن هناك ناراً توعده الله بها، إنه غافل، والغافل كما يقول العلماء: يجعل الله بينه وبين الهداية حجاباً، لا يمكن أن يهديه الله وهو غافل، يقول الله عز وجل: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَق} [الأعراف:146] يعني: سأصرف عن هدايتي {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:146] لماذا يا رب؟ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146].
هذا هو السبب، السبب أن الله أعمى بصائرهم، يرون طريق الحق ولا يسلكونه، ويرون طريق الباطل ويسلكونه، لماذا؟ لأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين.
لكن كيف نعالج القلوب من هذه الأمراض الثلاثة؟ قال العلماء: علاج مرض الشبهة باليقين، اليقين الجازم على أخبار الله، والتصديق الكامل بها.
وعلاج مرض الشهوة بالصبر، بالصبر عن الشهوات، صحيح أن الزنا فيه لذة؛ لكن يوردك النار ويحرمك من الجنة، ذلك الرجل الذي قالت له المرأة: اتق الله! ولا تفض الخاتم إلا بحقه.
فماذا أعطاه الله؟ نجاه الله من النار في الدنيا، وسينجيه الله من النار في الآخرة.
شهوة النظر إلى الحرام فيها لذة، لكن يقول: لا.
أريد أن أنظر بهذه العين إلى وجه الله الكريم في الآخرة.
شهوة الأغاني فيها متعة، لكن أريد أن أسمع بهذه الأذن خطاب رب العالمين في الجنة والدار الآخرة.
شهوة المال الحرام فيها متعة، لكن لا.
أريد أن يعوضني الله خيراً منه في الدنيا والآخرة، وهكذا عليك أن تقاوم الشهوات بالصبر، فاصبر، ولهذا جاء الصبر في القرآن في أكثر من تسعين موضعاً، وهو بمنزلة الرأس من الجسد، والذي لا صبر له لا دين له، ولا ينال شخص مطلوبه في الدنيا والآخرة إلا بالصبر.
الآن الطالب الذي لا يصبر على الدراسة والامتحانات، هل ينجح؟ لا.
لكن لو صبر فإنه ينجح، حتى يحصل على وظيفة ويكون له راتب، لكن إذا لم يصبر على الدراسة، كان فاشلاً وضائعاً ومنحرفاً، كذلك الذي يريد أن ينال الجنة، لا بد أن يصبر عن الشهوات.
أما علاج الغفلة فيكون بذكر الله، وبقراءة القرآن، وبمجالسة العلماء، وبالإكثار من التفكير ومعرفة الهدف من خلقك -أيها الإنسان- هذا هو العلاج لهذه الأمراض الثلاثة، وقد جاءت في كتاب الله في قول الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24] أي: عن الشهوات {وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] أي: عن الشبهات، يقول ابن تيمية رحمة الله تعالى عليه: لا تنال الإمامة في الدين إلا بالصبر واليقين، ثم قرأ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [ا(2/9)
الحكمة من خلق الإنسان
إن قضية أن تعرف: لماذا خلقت؛ ولماذا جئت؛ معضلة ضل فيها كثير من الناس، ولا تغتروا بهؤلاء الكفار الذين سَبَحُوا في الفضاء، واخترعوا الذرة، ولهم منجزات وطائرات وعلوم حاسوب، لكنهم مساكين لا يعرفون من الحياة الحقيقية شيئاً، يقول الله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7] يعني: شيئاً بسيطاً {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] هؤلاء مساكين حُرِمُوا نعمة العلم بحقيقة الأمور، تسأل المخترع الكبير منهم فتقول له: لماذا خلقت؟ يفكر، فيقول: خلقت لأجل أن أعيش مع الناس.
- حسناً! لماذا تعيش؟ فيفكر وإذا به يقول: أعيش لكي آكل وأنكح.
- حسناً لماذا تأكل وتشرب وتنكح؟ - قال: لأجل أن أعيش؛ لأنني لو لم آكل لمت.
- حسناً ومن أجل ماذا تعيش؟ - من أجل أن آكل.
- حسناً ولماذا تأكل؟ - قال: من أجل أن أعيش.
وبعد ذلك يعيش ليأكل ويأكل ليعيش، حلقة مفرغة، وبعد ذلك؟ قال: أموت.
- حسناً لو أن الله خلقك من أجل أن تموت، لتركك ميتاً، يجعلك الله عز وجل تسعة أشهر في بطن أمك، وتعاني منك ثم يخرجك، وتعيش أربع عشرة أو خمس عشرة سنة، ثم تعيش في معاناة وفي تعب من أجل أن تموت؟!! لا والله، ما خلقك الله من أجل هذا، هذا عبث، بل خلقك الله لسر، وهنا -أيها الإخوة- يقول العلماء: إنه لا احتمال لخلق الإنسان إلا لغرضين: إما أنه خلق عبثاً، وإما أنه خلق لحكمة، هل هناك احتمال ثالث؟ لا.
إما أن الإنسان خلق عبثاً، أي: ليس له حكمة، أو أنه خلق لحكمة.
أما الاحتمال الأول أنه خلق عبثاً فقد أبطله الله وتنزه عنه، قال عز وجل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] أظننتم أن الله خلقكم عبثاً، وأنكم لا ترجعون إلى الله، ثم قال عز وجل: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116] تعالى الله أن يخلقك عبثاً، كيف يخلقك عبثاً بهذا التنظيم، وبهذه الدقة، وبهذا الإحكام، وبهذا الإعجاز؟ تفكر في نفسك في كل خلية من خلاياك، في كل ذرة من ذرات جسمك، في كل جزئية من جزئياتك، تجد أن هناك حكمة، هذه اليد لم تخلق إلا لحكمة، هناك ستة مفاصل، لماذا كانت ستة مفاصل؟ لأجل أن تستعملها يدك، لو أن الله أعطاك يداً ولا يوجد فيها مفصل، بل كانت قائمة، ماذا تصنع بها، هل تستفيد منها، وهل تستطيع أن تحمل بها شيئاً؟ لا.
لا شيء يمسك، لو أن الله لم يجعل يديك في مكانها وجعلها في أرجلك، ماذا تفعل عندما تريد أن تحك رأسك؟! لكن الله جعل اليدين في أعلى الجسم، تحك بها رأسك ورجلك سوى، من الذي جعل اليد هنا؟ إنه الله الذي ركب عيونك في رأسك.
لو أن الله وضع عيونك في أرجلك، وتريد أن ترى الذي هناك، لا بد أن تنقعر وترفع أرجلك حتى تنظر إليه، من الذي أجرى في عينك الملح؟ الآن عندما تأخذ من عينك دمعاً وتذوقه، تجد طعمه مالحاً؛ لأن عينك هذه شحمة ولو لم يوجد ملح فيها فإنها تعفن.
من الذي جعل في أذنك صمغاً مراً؟ إنه الله، فأنت عندما تنظف أذنك بالعود، خذ منه وتذوقه تجد طعمه أمرَّ من الصبر، لأجل أن الحشرات لا تدخل في أذنيك؛ لأنه إذا لم توجد هذه المادة المرة امتلأ سمعك بالحشرات، وعندما يأتي القمل وأنت نائم فإنه يشم الرائحة ويرجع؛ لأنه توجد هنا مادة صمغية تطرد هذه الحشرات.
حسناً من الذي أجرى في فمك اللعاب، الذي هو أحلى من العسل؟ من الذي حلى هذا، وملح هذا، وأمرَّ هذا؟ يقولون: الطبيعة العمياء الصماء البكماء، هل تستطيع أن تخرج ملحاً وصمغاً ومراً وعذباً؟!! من الذي جعل هذه الورشة في الفم لتقطيع الطعام، وتجهيزه وخلطه، وتقليبه، حتى يجهز الطعام، فإذا تجهز نزل، واستقبله المري، ويستعين بالبلعوم؛ لأن البلعوم يوصل الهواء والمري يوصل الطعام، وبين هذين الاثنتين قطعة لحم اسمها اللهاة، واسمها في العلوم لسان المزمار، هذه اللهاة تصدر أمراً إذا نزل الطعام أن تقفل فتحة الهواء، وإذا نزل الهواء أقفلت فتحة الطعام، ولو نزلت في فتحة الهواء حبة أرز أو قطرة ماء ماذا يحدث لك؟ وتموت، لكن هل تموت من شرقة؟ لا.
الذي حفظك أرسل إشعارات للرئة: إن هناك شيئاً غريباً دخل عليكم فأخرجوه، فيبدأ يسعل حتى يخرجها، لا إله إلا الله! من خلق هذا الخلق {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] هل خلقك عبثاً من أجل أن تموت، وتأكلك الدود في التراب؟ لا والله، يقول الله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} [المؤمنون:115] تعالى الله، ويقول في آية ثانية: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص:27] أي: لعباً وعبثاً {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27] ويقول عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان:38] أي: عبثاً {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:17 - 18].
إذاً الاحتمال الأول: أن الله خلق الإنسان، وخلق الكون عبثاً، هذا باطل؛ لأنك أيها الإنسان لا تفعل شيئاً عبثاً، فلو ذهبنا إلى شخص في مزرعته، وعنده جرافة، وصاحب الجرافة يحفر حفرة، وجاء أولاد فقالوا: يا أبي! ماذا تصنع بهذه الحفرة؟ قال الأب: أريد من صاحب الجرافة أن يحفر حفرة هكذا عبثاً، ماذا يقول له أولاده؟ يقولون: والله إن أبانا مجنون، ليس بعقله، يجعل الجرافة تحفر في المزرعة بدون غرض، هذا عبث، هل يعقل أن الله عز وجل يخلق سماوات وأرضاً وجبالاً وأشجاراً وأنهاراً ومجرات وكواكباً ونجوماً وبحاراً عبثاً؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
أجل كونه خلقنا عبثاً وخلق السماوات باطلاً إذاً لماذا خلقنا الله؟ لحكمة، ما هي الحكمة؟ نعرفها نحن؟ لا.
إذاً من يعرفها؟ الخالق؛ لأننا لم نخلق أنفسنا حتى نعرف الحكمة من ذلك! لو أنك خلقت نفسك فإنك تعرف لماذا خلقت نفسك، لكنك لم تخلق نفسك، الله الذي خلقك، والله الذي أتى بك، وما أخذ رأيك، إذاً من خلقك؟ الله، يا ألله لماذا خلقتنا؟ قال عز وجل في كتابه الكريم، فهو لم يدع الناس هكذا ضالين بدون هداية، وبدون عناية قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فقط، إذاً هذه وظيفتهم، ما هي المهمة وما هو دورك؟ العبادة، الله خلقك من أجل أن تعبده، إذا عبدته فأنت صالح، وإذا لم تعبده فأنت فاسد؛ لأنك لم تؤد دورك، هذا (الميكروفون) ما دوره؟ تكبير الصوت، إذا كبر الصوت صار صالحاً، وإذا لم يكبر الصوت صار فاسداً، فنذهب به إلى المهندس.
الثلاجة دورها تبريد الطعام، إذا وضعنا الطعام فيها ولم تبرده، قلنا: الثلاجة فاسدة، وإذا برَّدت قلنا: الثلاجة صالحة.
هذا المكيف مهمته تبريد الجو، إذا اشتغل وبرد الجو قلنا: ما شاء الله مكيف صالح، وإذا لم يتشغل لم يبرد الجو قلنا: المكيف فاسد.
السيارة مهمتها حمل الركاب، إذا لم تمش نقول: السيارة فاسدة.
فأنت مهمتك العبادة، وإذا لم تعبد الله تصبح فاسداً، ماذا نعمل بك؟ نصلحك، وأين نصلحك؟ عند الذي يصلح (الميكروفون)، من هي؟ شركة (الميكروفونات)، والذي يصلح المسجلات شركة المسجلات، والتي تصلح السيارة شركتها التي صنعتها، وأنت يصلحك الذي صنعك، ما رأيكم إذا خرب (الميكروفون) وذهبنا به إلى صاحب البنشر، وقلنا له: أصلحه، فأخذه وقام بتشحيمه، وتعبيته زيتاً، هل يصلح أم يتعطل؟ يتعطل؛ لأنه ليس الذي صنعه، أنت إذا فسدت ذهبنا بك إلى غير الله، هل يصلحك؟ لا.
لا يصلحك إلا الذي خلقك.
حسناً أين علاجك وصلاحك؟ علاجك في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله عز وجل أنزل عليك كتاباً لتعمل به، أي شركة تصنع ثلاجة أو سيارة أو مسجلة، أو أي شيء يضعون معه كتاب تشغيل، كيف تشغل هذا الجهاز، فإذا قمت بتشغيل الجهاز وفق تعليمات الكتاب بقي الجهاز سليماً، أما إذا قمت بتشغيل الجهاز على غير وفق تعليمات الكتاب صار الجهاز فاسداً.
فصلاح الإنسان -أيها الإخوة- إنما يأتي إذا عمل في حياته بموجب تعليمات خالقه، عينك تستخدمها في النظر فيما أحل الله من مخلوقات الله، وتغض عن محارم الله، إذا استعملتها فيما حرم الله، وعطلتها عن النظر في كتاب الله وفيما أحل الله، فإنها تصبح عيناً فاسدة.
هذه الأذن تستخدمها في سماع القرآن والحق، فإذا أسمعتها الباطل استعملتها على غير تعليمات خالقها.
هذا اللسان وظيفته ذكر الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقول الحق، فإذا لم تستخدمه في هذا، واستخدمته في الأغاني واللعن والسب والشتم والنم والكذب -والعياذ بالله- استعملته على غير تعليمات الخالق، إذاً أنت أفسدت هذا الجهاز، وأفسدت نفسك، فأصلح نفسك والجأ إلى الله في إصلاح نفسك واقتد برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا الله أن نطيعه، قال الله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
أيها الإخوة: إن الهدف من وجودنا هو العبادة، أنت عبد، ولك شرف أن تكون عبداً؛ لأنك عبد لله، لست عبداً لدرهم أو لدينار أو لشهوة أو لنزوة أو لزوجة أو لأحد، بل أنت عبد لرب كل أحد، وهذه أعلى درجات العزة؛ لأن الله يقول: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} [مريم:93 - 94] كل شيء عبد لله، لكن هناك عبودية قهر وإذلال، وهناك عبودية تشريف وتكريم وهي عبودية المسلم.
فيا أيها الإخوة في الله! إذا أردنا السعادة بحذافيرها، فلنعرف من نح(2/10)
الأسئلة(2/11)
السعادة وكيفية تصريف المال
السؤال
أشرتم إلى أن حياة الأغنياء ليست حياة سعيدة، مع أنه يمكن الجمع بين الحياة السعيدة والإيمان، والمال كما هو الحال مع بعض المعاصرين، وكذلك السلف الصالح، من أمثال عثمان بن عفان رضي الله عنه وعبد الله بن المبارك رحمه الله، وغير ذلك، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
وجزاك الله خيراً على هذا الاستدراك، فقد يفهم من كلامي أنني أقول: إن المال لا يجر سعادة، لا.
أنا أقول: إن المال المجرد من الإيمان والعمل الصالح لا يجر إلا العذاب، أما إذا كان الإيمان والمال معاً إيمان وكذلك عمل صالح فـ (نعم المال الصالح في يد العبد الصالح) وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند ورواه أهل السنن.
وقد جاء هذا الحديث في قصة، أن الرسول صلى الله عليه وسلم استعمل عمرو بن العاص على غزوة اسمها أوطاس، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله: من أحب الناس إليك؟ فقال: أبو بكر.
وسار يسأل الصحابة، كان يظن عمرو رضي الله عنه أن الرسول إنما استعمله لأنه أحب الناس إليه، لكن لا شك أنه محبوب ومن الصحابة ورضي الله عنه، لكن ليس كمنزلة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فقال له الرسول: (إنما استعملتك يا عمرو لعل الله أن يفتح عليك من هذا الخير-يعني الدنيا- قال: يا رسول الله! ما على هذا اتبعتك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمرو! نعم المال الصالح في يد العبد الصالح) فإذا رزقك الله الإيمان ورزقك العمل الصالح، ثم منَّ الله عليك بالرزق الحلال، واستعنت به في وجوه الخير، ولم تنس نصيبك من الدنيا، سكنت طيباً وركبت وثيراً، ولبست جديداً، وأكلت طيباً، وتزوجت زوجة جميلة، لكن هذه النعم لم تشغلك عن دين الله، ولم تعطلك عن الدعوة إلى الله، فأنت في سعادة الدنيا والآخرة، لكننا نعني بالدنيا المرفوضة والمال المرفوض، هو الذي جرد من الدين، فجمع من الحرام وصرف في الحرام، وشغل عن الدين وعن الطاعة، هذا مال -والعياذ بالله- زاد إلى النار، وصاحبه ممقوت في الدنيا والآخرة.(2/12)
الشهوات والملذات المحرمة لا تحقق السعادة
السؤال
ما رأيكم فيمن يقولون: إن الغرب يعيشون حياة سعيدة، حيث يتقلبون في الشهوات كيفما أرادوا دون موانع؟
الجواب
هذا القول مردود بشهادة عقلاء الغرب، وبالواقع الملحوظ من حياة الغربيين، فإن عقلاءهم يصيحون ويقولون: نحن في عذاب وجحيم، وواقع الغربيين والشرقيين مريض، وهناك ظواهر تدل على هذا الشقاء، منها ظاهرة الانتحار، هل هناك شخص في الدنيا يقدم على الموت، وينتحر وهو مستريح ومبسوط؟ لا.
ما يقدم على الموت أحد إلا شخص بلغ به الشقاء والعذاب أبلغ شيء، حتى تفجرت نفسه من الداخل، فما وجد مخرجاً من الحياة إلا أن يموت بأي وسيلة.
ويوجد في الغرب الأمراض النفسية التي لا يخلو منها بيت، كذلك تناول المسكرات والمخدرات مثل تناول البيبسي والشاي عندنا، فهو يتناولها حتى يغيب ولو لحظة عن واقعه المرير، كذلك الجنون المسرحي الذي ترونه في ألعاب السرك والمسرحيات والألعاب والسهر الطويل، كذلك الجنون الكروي، والتحلل الاجتماعي، والتفكك الأسري، وعدم وجود النوم، إنهم لا ينامون إلا بالحبوب المخدرة، هذا كله دليل على أنهم في عذاب، إذ لم تحقق لهم الشهوات راحة، أكثروا من الشهوات ووقعوا في الملذات، حتى ملوها ولم يحقق لهم هذا سعادة، ليست السعادة إلا في دين الله وفي طاعة الله، وهذا الذي يقول: إن الغربيين في سعادة؛ لأنهم في توسعة، هذا مسكين لم يعرف ما هي السعادة.(2/13)
الرضا بقضاء الله وقدره من أسباب السعادة
السؤال
شيخنا الفاضل هل توافقني الرأي على أن الرضا بقضاء الله وقدره وسلامة الصدر من الغل والحقد والتناصح فيما بيننا، كل هذه من أسباب الحياة السعيدة؟
الجواب
لا شك؛ وأنا أتيت بكلمة عامة، وقلت: إن السعادة بحذافيرها في الإيمان بالله وفي العمل الصالح، ومن ضمن الإيمان بالله ركن من أركان الإيمان هو القضاء والقدر، فأنا لم أدخل في التفصيلات ولهذا كان عنوان المحاضرة: من أسباب السعادة، وما قلت: كل أسباب السعادة، على أساس أن آتي بالكليات وتدخل أنت في التفاصيل، فلا شك أن الإيمان بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالقدر والبعث والموت، كل هذه تحقق السعادة، العمل الصالح بأنواعه: الصلاة، قراءة القرآن، ذكر الله من أعظم أنواع السعادة، الصدقة إذا أعطيت مسكيناً أو فقيراً مالاً ودعا لك فإنك تشعر بسعادة، إذا أعطيت له ريالاً وقال: الله يفرج همك، الله يبارك في أولادك، الله يختم لك بالجنة، تشعر أنه أعطاك أكثر مما أعطيته، أعطيته ريالاً لكنه أعطاك دعاء، والدعاء عند الله أبقى، فهذا تفصيل ولكني تحدثت إجمالاً.(2/14)
حقيقة الحبوب التي يلجأ إليها الأغنياء
السؤال
ذكرتم أحسن الله إليكم قصة الرجل الفقير وهو يفطر، وكذلك قصة ذلك الرجل الغني وهو يتغدى ويتعشى على حبوب، فما هي هذه الحبوب؟
الجواب
الأدوية؛ حبتان قبل الأكل أو قبل الفطور، وحبتان سكر، أدوية؛ لأنه مسكين مريض لا يأكل إلا حبوباً، بينما ذاك لا يوجد فيه مرض، معافى ونشيط يأكل من النعم.(2/15)
برنامج يومي للحياة السعيدة
السؤال
ما هو البرنامج الصحيح اليومي للحياة السعيدة؟
الجواب
أن تبدأ حياتك -أيها المسلم- بطاعة الله بصلاة الفجر، فإن اليوم إذا بدأ بالطاعة كان يوماً مباركاً، أن تفتتح حياتك بأن تستيقظ من نومك ثم تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم تذكر الله بالأذكار التي وردت، ثم تقوم وتتوضأ وتخرج من بيتك قاصداً بيت ربك، ثم تصلي صلاة الفجر؛ فإن أمكنك أن تجلس إلى الإشراق فهذا أفضل، وإن لم تستطع فلا حرج أن تعود إذا كنت بحاجة إلى الراحة، ثم تذهب بعد ذلك إلى طلب رزقك، إن كنت طالباً فإلى مدرستك، وإن كنت مدرساً فلعملك، وهكذا إلى أن ينتهي وقت الدوام.
ويجب -أيها الإخوة- أن ننبه على أن العمل أمانة وأن الوظيفة هذه أمانة وأنه يلزمك أن تقوم بهذه الأمانة وإلا فأنت خائن لها، وفي القيام بالأمانة -أيها الإخوة- مشقة، ولكن من استلم الأجر حاسبه الله على الأمانة، لا بد أن تحضر في الدوام الساعة السابعة والنصف، ولا تأتِ الساعة التاسعة فتكتب سبعة ونصف فتصبح كذاباً، احضر السابعة والنصف واكتب السابعة والنصف، وهكذا اكتب الساعة التي حضرت فيها؛ بحيث لو تأخرت يخصم من مرتبك مقابل ذلك، ولا تحمل على ظهرك عقاباً وعذاباً في النار، وتواجد في العمل مرة في الدوام، ولا تقم من مكتبك إلا في الساعة الثانية والنصف، وحاول أن تؤدي عملك الوظيفي على أحسن أداء، تخدم به المواطنين وتحقق فيه مصالح الأمة، ثم تعود إلى بيتك، وتتناول طعام الغداء، وتستعد لصلاة العصر، واحذر-أيها الأخ- من الاسترخاء والنوم حتى يؤذن العصر، ثم يستمر في استرخائه إلى المغرب، لا.
استمر قاعداً إلى أن يقول: الله أكبر ثم اذهب لصلاة العصر؛ لأن (من فاتته صلاة العصر حبط عمله) هذا حديث في صحيح مسلم وقال: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ونفسه) (من صلى البردين دخل الجنة) وما هما البردان؟ الفجر والعصر {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] خصها الله لماذا؟ لأنها عظيمة، تستلم الناس الملائكة من المساجد (يتناوبون فيكم ملائكة بالليل والنهار) في الفجر والعصر، فتأخذك من المسجد في العصر وتسلمك للمسجد في الفجر، يسألها الله وهو أعلم: (كيف وجدتم عبادي؟ قالوا: جئناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون) لكن أنت نائم في صلاة الفجر ونائم في صلاة العصر، ولهذا ترون أقل نسبة في حضور المصلين في العصر والفجر؛ لأنهما الصلاتان المحببتان إلى الله عز وجل، صلِّ العصر وبعد صلاة العصر أنت بالخيار بين أن تنام إن كنت بحاجة إلى نوم، أو أن تستريح، أو أن تذهب إلى السوق، أو أن تذهب إلى قضاء غرض، أو تذهب بأهلك إلى المستشفى، أو تزور صديقاً، المهم أنت حر في هذا الوقت إلى قبل المغرب، ثم تأتي بالأذكار أذكار المساء، هذه وقتها قبل غروب الشمس {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39] وهذه من أهم الأشياء بالنسبة للمسلم، فإن أذكار الصباح والمساء حفظ للمسلم، وتعلق بالله، لكن غفلتك عن الذكر دليل انقطاعك عن الله، خذ كتاباً لأذكار الصباح والمساء ثم احفظها، وخذ كتاب حصن المسلم للشيخ سعيد بن علي القحطاني، هذا الكتيب الصغير الذي بريال، اجعله في جيبك وإذا جاءت أذكار المساء اقرأها؛ لأنه جمعها جزاه الله خيراً من أصح المصادر، وبوبها تبويباً عظيماً جداً، واحفظ هذه الأذكار.
ثم اذهب إلى المسجد وصلِّ صلاة المغرب، وبعد صلاة المغرب يبقى معك وقت أيضاً لشراء أو لزيارة أو لغرض، ثم صلِّ العشاء، وبعد صلاة العشاء اتجه إلى بيتك، ولا تذهب إلى مكان غيره، المكان الطبيعي لك إن كنت مسلماً مؤمناً بعد العشاء بيتك، لا تخرج ولا تسهر ولا تسمر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره الحديث بعد صلاة العشاء، وكان يكره النوم قبلها، ولو كان السهر في خير، إذا كان يصد عن صلاة الفجر؛ لأن بعد العشاء يكون لنفسك ولأهلك، تجمع أولادك وزوجتك وتتعشى معهم، ثم تأتي بكتاب رياض الصالحين وتقرأ حديثاً، أو آية من تفسير ابن كثير وتقرأ شرحها، تتحدث معهم ثم تنام مبكراً، وتنام طاهراً وتنام ذاكراً لله، وتنام ناوياً القيام لصلاة الفجر، وإذا أعانك الله وقمت قبل الفجر صليت ركعتين في آخر الليل، فإنها خير لك من الدنيا وما فيها، هذا البرنامج المثالي -نسأل الله أن يقيمنا وإياكم عليه-.(2/16)
الزوجة الصالحة من أسباب السعادة
السؤال
هل طاعة المرأة لزوجها وتربيتها لأبنائها من أسباب السعادة؟
الجواب
لا شك أنه من السعادة أن يرزق الإنسان زوجة صالحة كما جاء في الحديث: (الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة التي إن نظرت إليها سرتك، وإن أمرتها أطاعتك، وإن غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك) فإذا وفقك الله بزوجة صالحة مؤمنة، قامت بتربية أولادك، وتعاونت أنت وإياها على تربية الأولاد، ورزقك الله منها ذرية صالحة، فهذا من سعادة الدنيا والآخرة {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74] وقرة العين هو الولد الصالح.
يستدرك -أخي الكريم- عليَّ في برنامج المسلم الذي ذكرت أنه مثالي، أن يكون فيه جزء لهم الدعوة وهو طلب العلم وهم الدين، وهذا مهم جداً، ويأتي هذا الجزء بعد صلاة العصر، أو بعد صلاة المغرب أو بعد صلاة العشاء إن كان فيه خير ولا يصد عن صلاة الفجر، في قراءة كتاب، أو زيارة أخ، أو دعوة، أو حضور مجلس علم، أو جلوس عند شيخ، هذا مطلوب جداً؛ لأن هذا من واجباتك كمسلم.(2/17)
العمل لإصلاح واقع الأمة من أسباب السعادة
السؤال
فضيلة الشيخ الشاب المؤمن في هذا الزمان عندما يرى حال المسلمين المتردي والمحزن في كل مكان، فإنه يتسلط الحزن والهم على نفسه، فكيف تكون السعادة لهذا الشاب المؤمن، الذي شغله هم أمته وواقعها المؤلم، وجزاك الله خيراً؟
الجواب
أثابك الله خيراً -يا أخي- واقع الأمة كما قال الأخ: مريض، وإلى الله نشكو هذا الحال، والشاب المؤمن إذا أراد أن يشعر بالسعادة مع هذا الواقع المرير، فعليه أن يقوم بحمل نصيبه من إصلاح هذا الواقع عن طريق الدعوة إلى الله، وتعليم الناس الخير، والمحاولة بقدر ما يستطيع في عمل صالح، يرفع عن الأمة همها ومعاناتها، ولو أن كل مسلم قام بهذا الدور، لكان وضعنا أفضل مما نحن عليه، لكن المصيبة في السلبية وفي اليأس والقنوط، وفي احتقار الأعمال التي يظن أنها بسيطة، عندما يقول: والله الدنيا فاسدة، إذاً أنا سوف أقعد، لا.
انهض ولو أن يهدي الله بك في حياتك كلها رجلاً واحداً، ولو أنك إذا أصلحت من هذه الأمة واحداً فقد ساهمت في إنقاذ الأمة من هذا الواقع المرير، وبدلاً من أن يكون هذا الذي أصلحته في الخط المنحرف، أصبح في الخط الصحيح المستقيم ومع الفئة المؤمنة، ففي هذه الأعمال سعادة لك، ودور بارز لك، وكما جاء في الحديث: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) وتبعث يوم القيامة مع الأنبياء، فإن النبي كما جاء في الحديث: (يأتي يوم القيامة وليس معه أحد) وأنت تأتي ومعك واحد أو اثنان أو عشرة أو مائة إن شاء الله.(2/18)
حكم اقتناء الصحن المستقبل
السؤال
هذا سائل يسأل عن (الدش) ويقول: إني أريد أن أدخله في بيتي ولكن لمشاهدة الكرة والأخبار فقط، فما رأيكم؟
الجواب
هذا هدف سيئ أن تدخل الشر إلى بيتك لهذا الغرض، أولاً: اهتمامك في غير محله، أن تهتم فقط بالأخبار والكرة، وهذه لا تعنيك، ثانياً: لا يمكنك التحكم إذا أدخلته في أخذ هذه المواد فقط، بل ستأخذه وتأخذ كل ما فيه، وإذا أمكنك أنت أن تتحكم لم يمكنك أن تحكم غيرك، وأنت إذا وجدت قدراً مملوءاً بالعسل وعليه ملعقة من النجاسة، هل تأكل العسل هذا! فكيف إذا وجدته مملوءاً نجاسة وعليه ملعقة عسل، فهذا مثل، فنقول لك: يا أخي! لا تدخله، وإنما أدخل في بيتك النور والهداية والإيمان والدعوة، وأنقذ أهلك وأنقذ نفسك فإن الدنيا فانية، وسوف تجد نفسك يوماً من الأيام وأنت في حفرة مظلمة، ليس معك هناك إلا العمل، وتسأل هناك ولا تجاب، وتصيح فلا تغاث، وإنما {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52].(2/19)
العبادة الصحيحة سبب لتحصيل السعادة
السؤال
دعوت أحدهم للالتزام وداوم على الصلاة والأعمال الصالحة ولله الحمد، ولكنه بعد أيام يقول لي: لم أجد السعادة المذكورة في الطاعة، فما الرد على ذلك؟
الجواب
الرد عليه أنه لم يمارس السعادة الحقيقية، مارسها صورة، والصورة لا تغني عن الحقيقة شيئاً، مثال ذلك: إذا كان عندك صورة لسيارة -مجرد صورة فقط- فهل تستطيع أن تركب فيها؟ كذلك الصلاة إن كنت أديت الصلاة مجرد صورة: قيام وقعود وركوع وسجود، لم تنفع ولم تدخل السعادة عليك، وإن كنت أديت الصلاة بخشوع، وخضوع وحضور قلب، وبتلذذ وبمناجاة، حينها ستجد السعادة، فالعبادة لها صورة ولها حقيقة، حقيقتها الخشوع وحضور القلب، صورتها القيام والقعود، إذا كان معك خمسمائة ريال وذهبت وصورتها بآلة التصوير، فأخرجت لك خمسمائة مثلها، صورة طبق الأصل، الرقم والفئة والتوقيع، خذ هذه الصورة واذهب بها إلى عند بائع البصل واشتر بها حزمة بصل، تقول للبائع: تفضل هذه خمسمائة، ماذا يصنع عندما يراها؟ فإنه لا يقلبها منك وقد يرميها في وجهك، لكن أخرج خمسمائة حقيقية، واشتر بها بصلاً أو غيره، فإنه سيقوم بإرجاع الباقي منها، فأنت -يا أخي- يا من اهتديت والتزمت، أنت الآن تصلي مدة شهرين أو ثلاثة ولم تجد طعم العبادة ولا لذتها ولم تجد السعادة، نقول لك: إلى الآن لم تؤدِ العبادة على حقيقتها إذا أديتها على حقيقتها فإنك سوف تشعر بالسعادة.(2/20)
إن من علامة سعادة المرء استغلال الوقت
السؤال
عام مضى وعام جديد فهل من كلمة حول هذه المناسبة؟
الجواب
نعم أيها الإخوة! وكنت أود أن يكون موضوع المحاضرة عن هذه المناسبة، لكن هذا الموضوع طرقته هنا في مدينة الرياض وأظن في هذا المسجد بعنوان: ميزانية نهاية العام، ولقد استمعت إلى هذا الشريط قبل فترة، ووجدت أنه لا يمكن أن آتي بمثله، ففيه من المعاني والعبارات ما لا يمكن أن آتي لأن الإنسان لا يمكن أن يبقى على حال واحد حتى في أدائه الدعوي، فإنه في نقص، وأقول: سبحان الله! كيف أتيت بهذا بالكلام ومن أين جئت به؟ لا أعلم، ولذا أقول للإخوة: اشتروا هذا الشريط، وليس دعاية لي؛ لأنه ليس لي من ورائه مال، والله لا آخذ على شريط شيئاً، لكن طمعاً إن شاء الله في الثواب، إذا أردت أن تشتري الشريط فاسمه (ميزانية نهاية العام) يعني: تقوم بمحاسبة وموازنة لنفسك، واعرف مكانك الإيماني، وأين أنت من الله؟ نحن قطعنا عاماً من أعمارنا، وودعناه بما استودعناه من عمل إما خيراً وإما شراً، وأعطانا الله فرصة جديدة ومد الله في أعمارنا، فهل نستغل هذه الفرصة ونصحح الوضع ونتوب إلى الله، ونمضي في الخط الصحيح، أم نستمر في الخطأ؟ لا.
إنّ تكرر الأعوام فيه إشارة وإنذار لنا من أننا في نقص، فأنت مجموعة أعوام، وأنت مجموعة أيام، كل عام يخرج جزء منك، إلى أن تنتهي أعوامك ثم تنتقل، مثل التقويم الذي ترونه معلقاً كم فيه من الورق؟ ثلاثمائة وخمس وستين ورقة، لكن كل يوم والمؤذن يقطع واحدة، إلى آخر يوم من أيام السنة، إذاً أنت مجموعة أيام كل يوم يمضي فهو منزع منك، يوماً يوماً، إلى أن تنتهي أيامك، وماذا يبقى؟ الجسد، فيذهبوا به إلى المقبرة، وبعد ذلك تجمع هذه الأيام التي قضيتها في الدنيا، فانظر ماذا عملت فيها فإن الملائكة تضعها في سجل، وإذا مت ودخلت القبر قالوا: خذ كتابك {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] قال الله: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} [الكهف:49] إن كنت صليت فستلقى صلاتك، وإن كنت قرأت القرآن فستجد قراءتك، وإن كنت دعوت إلى الله وجدت دعوتك إلى الله، وإن فعلت الخير تلقى الخير، تلقى أي شيء تعمله، وإن قلت شراً تلقى الشر: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} [الكهف:49] {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] ماذا كنت تعمل؟ اعمل خيراً تلقى خيراً، اعمل شراً تلقى شراً {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [القصص:84].
إذاً ما دمت تعرف أنه لا ينفعك في الآخرة إلا عملك الصالح فإذاً لماذا تفرط، وتضيع عمرك في عمل غير صالح؟ إنا -أيها الإخوة- هذا العام فرصتنا أن نتوب إلى الله، فنصلح الماضي كله بالاستغفار والتوبة والندم، ونصلح المستقبل بالنية الصالحة والعمل الصالح، ونصلح الحاضر بمحاولة الاجتهاد في الطاعة والعمل الصالح.(2/21)
أحوال الناس في رمضان
تتفاوت أحوال الناس في رمضان كما تتفاوت في سائر مواسم الطاعات، فمن الناس من يستغل رمضان للإكثار من الخيرات، وكبح جماح النفس عن المعاصي والمنكرات، ومنهم من يدخل عليه رمضان ويخرج عنه وهو مازال في حيرته وتخبطه ومقارفته للمنكرات، وبذلك يتجلى في حقه معنى الحديث: (رغم أنفه من أدركه رمضان ولم يغفر له)(3/1)
قصة تائب إلى الله
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ما أحسن الرجوع إلى الله! كلمة عظيمة رددها أخونا فهد بن سعيد ثلاث مرات، وهي كلمة ذات معنى؛ لأنها تخرج بعد معاناة؛ معاناة رجل عاش فترة من الزمن في ظل البعد عن الله، ثم رجع إلى الله فذاق لذة الرجوع إلى الله، وليس من ذاق كمن لم يذق، هذا الرجل يقول: الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني، هو يشعر الآن بنعمة الحياة في ظلال الإيمان، والله يقول: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122] هل يستوي هذا وهذا؟ لا يستوون أبداً، ويقول عز وجل: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:21 - 22].
فالذين قبروا في قبور الشهوات لا يسمعون أبداً، والذين يريد الله حياتهم يقول الله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23]، وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال:21]، ثم قال فيهم: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22].(3/2)
الهداية بعد الضلال حياة
يقول هذا الرجل: الحمد لله الذي أحياه بعد ما أماته، أحياه الله بالهداية وبالتوبة والإيمان والالتزام بعد ما كان ميتاً، بماذا؟ ميتاً بالطرب وبالعود والغناء والبعد عن الله عز وجل.
وهذه يعتبرها الناس هي الحياة، والله إنها ليست حياة إنها ذلة وخسارة وندامة في الدنيا والآخرة، إنما الحياة الحقيقية هي حياة القلب، ليست الحياة -أيها الإخوة- كما هي في مفهومنا تردد الأنفاس وجريان الدم، فهذه حتى الصراصير تعيش هذه الحياة، وحتى الذباب والحشرات تعيش هذه الحياة، إن الحياة حياة القلب وحياة الدين، فمن أحياه الله فقد حيا الحياة الحقيقية، ومن هو ميت فليطلب الحياة، يقول الشاعر:
الناس صنفان موتى في حياتهم وآخرون ببطن الأرض أحياء
فالذين ماتوا وهم على قلوبٍ حية هم أحياء إلى يوم القيامة، وأما الذين ماتوا وقلوبهم ميتة فهم أموات، وأولئك لا يزالون أحياء
وأرواحهم في وحشة من جسومهم وأجسادهم قبل القبور قبور
ولازلت أذكر حين قرأت في جريدة الرياض في تحقيق صحفي أُجري مع الأخ: فهد بن سعيد قبل سنوات، قرأت في الجريدة التحقيق فقال بعد توبته: الحمد لله الذي أحياني حتى هداني، ولو أني مت في حياتي الأولى لكانت موتتي موتة حمار! نعم، لقد صدق، بل ألعن من الحمار، الحمار موتته لا يوجد بعدها شيء، إنما يسحبونه برجله وتأكله الأرض وانتهى، لكن الفاجر الذي يموت وهو على غير دين يتمنى يوم القيامة أنه كان حماراً، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40] فماذا يقدم الذي ليس عنده دين؟ هل يقدم سلسلة أغاني؟ أم يقدم كراتين دخان؟ أم يقدم مكتبة أشرطة غنائية، ومجلات، وجرائد نسائية؟ يقدم له زور وفجور وزنا وخمور وضلال؟! فليس لديه شيء يلقاه إلا ما قدم من العمل {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40].
الذي يموت على الضلال يتمنى أن يصير تراباً يوم أن تتحول الحمير والحيوانات إلى تراب، فيقول: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40] أي: حماراً أو أي حيوان يحول إلى تراب، لكم الفاجر والكافر والضال عن الله يحول إلى النار وبئس القرار.(3/3)
أهمية الثبات على دين الله
إن الثبات -يا إخوان- يحتاج إلى مبادرة من الإنسان نفسه، لا تطلب الثبات من الآخرين وأنت مقصر؛ لأن الثبات خاص بك، وهو داخل في دائرة اختصاصك، واثبت إلى آخر لحظة، حتى لا تموت موتة حمار، انتبه أيها الإنسان! اثبت ثباتاً؛ لأن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه -وهو صحابي جليل- بات ليلة عند باب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم له ماء في إناء صغير يقول: (ففتح النبي صلى الله عليه وسلم الباب فوجدني أستمع إلى ذكره وهو يتقلب في فراشه وهو يقول: لا إله إلا الله، قال: يا ربيعة، ماذا جاء بك؟ قلت: أتسمع إلى الأذكار التي تقولها، قال: سلني يا ربيعة) يقول: اطلب مني شيئاً، وكانت همم الصحابة في السماء يعيشون بعد هذه الدنيا، ولو أن رجلاً منا كان مكان ربيعة لقال للنبي: أعطني أرضية، أو سيارة، أو وظيفة، أو شيئاً من الدنيا (قال: يا رسول الله! دعني أفكر في الطلب، ففكر، ثم جاء فقال له: سلني يا ربيعة قال: أسألك مرافقتك في الجنة) الله أكبر! هذه الرحلة البعيدة، نحن في هذه الدنيا لا نفكر في هذه الأمور، ولكن هذا الصحابي نظرته بعيدة، فقال صلى الله عليه وسلم: (أو غير ذلك يا ربيعة؟ قال: ما هو إلا ذاك، قال: فما حملك على هذا؟ قال: نظرت إلى الدنيا وسرعة زوالها وانقضائها، ونظرت إلى الآخرة وعظمتها وبقائها، فآثرت ما يبقى على ما يفنى، قال: يا ربيعة، أعني على نفسك بكثرة السجود) دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لوحدها لا تكفي، لا بد من شيء من العبد نفسه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (أعني على نفسك بكثرة السجود) قال العلماء: أي الصلاة.
فلماذا نص النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة فقط ولم يقل: أعني على نفسك بكثرة العبادة؟ قال العلماء: لأنها غالب عمل المؤمن، وإلا فإن مع الصلاة زكاة، ومع الزكاة صيام، ومع الصيام حج، ومع الحج بر، وكل الإسلام، لكن عبر النبي صلى الله عليه وسلم بالسجود وهو جزء من الصلاة؛ لأن غالب عمل المؤمن صلاة، فإنه يصلي في كل يوم خمس صلوات، ولا يصوم في السنة إلا مرة، ولا يزكي في العام إلا مرة، ولا يحج إلا في العمر مرة؛ لأن الصلاة هي لب أعمال الإسلام، وهي ركن الدين الأعظم، وهي عمود الإسلام، وهي قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن ندعو لأخينا ونقول: اللهم ثبتنا وإياه وجميع إخواننا المسلمين، وأيضاً ندعوه هو ونقول له: اثبت، ولكن كيف تثبت؟(3/4)
وسائل الثبات على دين الله
أولاً: اتق قرناء السوء؛ الذين عندما تراهم كأنما ترى شيطاناً رجيماً، يريد أن يردك إلى ما كنت عليه سابقاً، فقل: أعوذ بالله منك، واتركه.
ثانياً: ابحث لك عن قرناء صالحين، وعن أناس طيبين من المؤمنين واجلس معهم.
ثالثاً: اجعل لك ورداً من كتاب الله تعالى، ولو تأخرت الشمس عن شروقها لا يمكن أن تتأخر عن هذا الورد، كل يوم اقرأ جزءاً من القرآن قراءة تفهم وتدبر.
رابعاً: اجعل لك ورداً يومياً من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن تقرأ ولو حديثاً واحداً يومياً.
خامساً: حافظ على الطاعات.
سادساً: ابتعد عن المعاصي والمنكرات.
فالله يثبتك، وهذه ستة مثبتات.(3/5)
أدلة مشروعية الصيام
أما موضوع الدرس فهو (الخسران المبين)، ولكن لما كنا في شهر رمضان فإنني آثرت أن يكون الحديث عن أحوال الناس في شهر رمضان؛ لأنه مناسب أن أحدث الناس في شيءٍ هم فيه.
هذه عملية تشخيص وتصوير لأوضاع الناس، بحيث يعرف كل واحد منا أين موقعه ومركزه؟ فإن كان محسناً فليحمد الله ويثبت، وإن كان مسيئاً فليتدارك رمضان فإنه بقي علينا من رمضان الثلث، فقد ذهب رمضان وبعض الناس لا يزال يهنئ برمضان، فقد ذهبت الأيام الأولى بسرعة، وسينتهي بقية الشهر، فمن فاته شيء من عدم الاهتمام والتدارك، فعليه أن يتدارك نفسه في نهاية الشهر أو مع ما بقي من الشهر، ومن كان قد أحسن فليسأل الله القبول، ويسأل الله الاستمرار والثبات إلى نهاية الشهر.
شهر رمضان -أيها الإخوة- عبادة من أزكى العبادات، وقربة من أعظم القربات، وهو ركن من أركان الإسلام، ومبنىً من مبانيه العظام، دل على مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع.
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:183 - 184]، هذه آيات فرضية الصيام، ابتدأها الله عز وجل بالنداء الحبيب الذي يحبه كل مؤمن وهو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:183]، وهذا النداء مشعر بعدة معانٍ، يقول ابن مسعود: [إذا سمعت الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك؛ فإنه إما خير تؤمر به أو شر تنهى عنه].
والنداءات في القرآن الكريم جاءت على أربعة أصناف: النداء الأول: نداء عام لجميع الناس، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان:33] فهذه آيات قوة ووعيد؛ لأن الناس فيهم البر والفاجر، والمؤمن والكافر، فجاء خطاب عام.
النداء الثاني: جاء لفئة معينة من البشر وهم أهل الإيمان -جعلنا الله وإياكم منهم- فأعظم نعمة أنك مؤمن، وإذا كُنت مؤمناً فالله عز وجل وليك؛ لأن الله يقول: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257]، وهل يضيرك شيء والله وليك؟ وهل تجوع والله وليك؟ وهل تعرى والله وليك؟ هل تترك أولادك جائعين وأنت وليهم؟ هل تدعهم عطاشاً وأنت وليهم؟ أبداً، فكيف إذا كان الله ولي الذين آمنوا؟! وبعد ذلك الله مع المؤمنين ويرعاهم وأعد الجنة لهم.
فإن رزقك الله الإيمان فهي أفضل نعمة يمنها الله عليك، ولهذا قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس:58] فلتفرح بنعمة الإيمان، وبعد ذلك يقول: {ولَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:7 - 8] فنعمة الإيمان هي أعظم نعمة يمنها الله عليك أيها الإنسان، فلذا يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحجرات:6] فهو خطاب خاص بأهل الإيمان.
النداء الثالث: نداء خاص بالكفار، وقد جاء مرة واحدة، وهو على سبيل الخبر عما سيكون يوم القيامة، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} [التحريم:7] لأن المعاذير يوم القيامة تظهر بشيء عجيب! إذا وقف الناس في عرصات القيامة ورأوا النار تزفر وتمد أعناقها، لها عينان تنظران، ولها لسان تتكلم به وتأخذ شخصاً بعد شخص {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان:12 - 14] فهنالك تتفتق قرائحهم، وتظهر أشعارهم وبياناتهم في أعذار طويلة؛ لكن الله يقول: {لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} [التحريم:7].
يأتي المرابي فيقول: البيع مثل الربا، البيع والربا سواء بسواء، يقول الله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275].
يأتي الثاني ويقول: يا رب! الزنا مثل الزواج عملية جنسية، لكن ليس عندي حق الزواج، فيقول الله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] فكل إنسان يبحث عن عذر، فقال الله: {لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} [التحريم:7] وقال: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52] فالأعذار تأتي كثيرة لكن ينساها الشخص، ومتى تأتي؟ عند الحاجة.
مثلاً: أنت تمشي بسرعة ولا تعلم أن هناك من يرصد سيرك وسرعتك، وإذا بشخص يوقفك ويقول: لماذا تسرع سرعة جنونية؟ ماذا تقول له؟ سوف تكذب سبعين كذبة، فتقول له: عندي رحلة في المطار، وأنت ليس عندك رحلة، وعندي مريض ينتظرني، لكنه سوف يكذبك ويقول: ليس عندك عذر لابد أن تخرج الجزاء هنا، وتكذب من أجل (ثلاثمائة ريال) لا تريد أن تدفعها، فأهل النار يعتذرون ليس من أجل المال، ولا من أجل السجن، لكن من أجل نار تأكل العظام وتفتتها، نار تشوي الوجوه، ليست نار يوم ولا نار سنة ولا نار مائة سنة {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ:23] {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] عذاب مقيم؛ فراشك ودفاك وطعامك وشرابك وظلالك كله نار، وكل شيء نار -والعياذ بالله-، فتأتي أعذار ليس بعدها أعذار، ويكلم الله أهل النار وهم فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التحريم:7].
فالله عز وجل لا يظلم، فعنده قواعد العدل كاملة، لا يأخذ أحداً بجريرة آخر، يقرر كل شخص على معصيته، هذا كتابك اقرأ كتابك أنت بنفسك، وبعد ذلك شهودك ليس من الجماعة ولا من الأقارب بل من نفسك، فعينك تشهد عليك، ولسانك يشهد عليك، وأذنك تشهد عليك، فإذا رأيت نفسك تشهد على نفسك فتقول لنفسك أيها الإنسان: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21].
النداء الرابع: نداء موجه لفئات خاصة، وهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، قال الله عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المائدة:68]، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171] إلى آخر ما فيه.
فنداء الإيمان الذي يأتيك من رب السماوات والأرض من عالم الخفيات ومن ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، شرف كبير أن الله يناديك وأنت لا تستجيب لربك! يناديك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحجرات:6] يقول الصحابي: أرعها سمعك، انتبه كأنك تقول: لبيك يا رب وسعديك، ماذا تريد مني؟ أنا عبدك، أنا خاضع بين يديك، أنت مولاي وأنا عبدك، ماذا تريد يا رب؟ قال العلماء: (يا أيها الذين آمنوا) تشعر بثلاثة معان: الأول: عظمة المنادين ومحبة الله لهم أنه اختصهم بلفظ الإيمان.
الثاني: عظمة الأمر المأمور به بعد هذا اللفظ، فإنه لم يقل لهم: (يا أيها الذين آمنوا) إلا لشيء مهم يطبقونه؛ لأنهم مؤمنون.
الثالث: أن مقتضى إيمانهم يدفعهم، كأن هناك إلهاماً لمشاعرهم، وتحريكاً لأحاسيسهم؛ وأنا أقول لكم: (يا أيها الذين آمنوا) فمقتضى إيمان المؤمن أنه ينفذ أمر الله تبارك وتعالى، يقول الله وهو يستثير فيهم كوامن الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] ومعنى (كتب) أي: فرض وأوجب وألزمتم به، والكتابة في الشرع تعني أعلى درجات الإلزام، أي: فرض، وجب، ألزم، هذه أوامر، لكن (كتب) هذا شيء لا بد منه.(3/6)
مشروعية الصوم على من قبلنا من الأمم
ثم جاء الأمر من الله عز وجل بنوع من التدليل والتلطيف للمؤمنين أن هذه القضية ليست خاصة بكم؛ حتى لا تقولوا: لماذا يا رب كتبت علينا الصيام؟! فقال الله عز وجل: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 83] فما كتبنا الصيام على أمة محمد فقط، وأنتم يا أمة محمد أحسن الأمم، وأنتم أفضل الأمم؛ لأن نبيكم أفضل الأنبياء، وكتابكم أعظم الكتب، وأنتم آخر الأمم، ودينكم آخر الأديان، يقول عليه الصلاة والسلام: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة) أول نبي يدخل الجنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول أمة تدخل الجنة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول شافع ومشفع يوم القيامة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحب اللواء يوم العرض هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وصاحب الحوض المورود هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فكرامته عند الله وكرامة أمته عند الله جعل لها هذه المنزلة، فدين الله في حقكم ميسر فلا تتخيلوا أن الله كلفكم بشيء لم يكلف به الأولين؛ بل إن تكليف الله لكم بالصيام أخف من تكليف الله عز وجل لغيركم من الأمم، فقد كانت الأمم السابقة يصومون ولكن بطريقة أشد من صيامنا، كان إمساكهم الإمساك عن الطعام والشراب والنكاح والكلام، من أول ما يمسك حتى يفطر فلا يقل كلمة واحدة، وإذا قال كلمة انتقض صومه وعليه أن يقضي يوماً.
ورفع الله عنا هذا التكليف وأباح لنا الكلام؛ لكن أباح لنا الكلام بذكره وشكره، وتلاوة كتابه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكلام الذي يحبه الله فيما يعود علينا بالنفع في الدين والدنيا، ولكن بقي الكلام المحرم محرماً؛ فالغيبة تبقى محرمة، والنميمة تبقى محرمة كما هي في شعبان وهي في رمضان أشد حرمة، ولهذا جاء في الحديث: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) ولكنَّ كثيراً من الناس استخدموا هذه النعمة -وهي الكلام- في المعاصي، فتجد الرجل يجلس من بعد العصر حتى المغرب في متجره وهو يتكلم في الغيبة والنميمة، والمرأة تجلس طوال اليوم في الغيبة والنميمة، فأين استغلال هذه النعمة فيما أباحه الله عز وجل؟ فالله يقول: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] الذين من قبلنا من الأمم السالفة كان الله عز وجل يفرض عليهم في صيامهم أشياء كثيرة من ضمنها الإمساك، اسمعوا ماذا يقول الله عز وجل عن مريم عليها السَّلام؛ ومريم امرأة صالحة كانت تعبد الله عبادة منقطعة النظير، في بيت المقدس؛ لأن أمها لما حملت بها ووضعتها نذرتها لله، فقالت كما قال الله عنها: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:35 - 36] فالله عز وجل استجاب دعوتها فأعاذها وأعاذ ذريتها من الشيطان الرجيم.
فكانت امرأة محروسة بأمر الله، وكانت متعبدة وذاكرة وتالية وقائمة وقانتة لله في عبادة عظيمة ليس لها نظير، وأراد الله أن يجري عليها سنة من سننه وآية من آياته في أن تحمل من غير زوج، وهذا شيء ليس معتاداً لدى البشر، إذ لا يمكن أن يكون ولد إلا بزوج، ولكن الله عز وجل يفعل ما يشاء ويختار، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يخلق ما يشاء من غير أسباب، خلق آدم من غير أم ولا أب، وخلق حواء من أب من غير أم، خلقت من ضلع آدم الأيسر، وخلق سائر البشر من أم وأب، وخلق عيسى من أم بلا أب.
ولهذا قال الله للذين قالوا من النصارى: كيف يكون من غير أب؟ قال الله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] كيف تستبعدون أن يخلق الله بشراً من أم بلا أب ولا تستبعدون أن يخلق الله بشراً من غير أم ولا أب فهذا أكثر في الاستبعاد ولكنه موجود.
فأراد الله أن يجري عليها هذا الشيء فحملت، قال الله عز وجل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً} [مريم:16] أي: ذهبت إلى مكان بعيد باتجاه المشرق.
وقيل في التفسير: إنها كانت حائضاً فأرادت أن تتطهر منه، فذهبت إلى مكان وكانت امرأة عفيفة متسترة، فاتخذت من دونهم حجاباً لكي لا يراها أحد {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} [مريم:17] أرسل الله لها جبريل وتمثل لها بشراً سوياً، فنفخ في جيب درعها (الثوب) فحملت، فلما قرب منها وهي امرأة طاهرة وعفيفة ظنت أنه يريد منها فاحشة أو شيئاً فقالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيّاً} [مريم:18] استعاذت منه، وهكذا شأن المؤمنة والمؤمن.
وهذا يوسف عليه السَّلامُ لما دعته امرأة العزيز قال: {مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف:23] أي: أعوذ والتجئ بالله، وكذلك المؤمن إذا سمع مكالمة من خبيثة، أو رأى نظرة من خبيثة، أو جاءته رسالة من خبيثة، عليه أن يقول: معاذ الله! أعوذ بالله، وكذلك المؤمنة إذا جاءها شر من خبيث، أو سمعت مكالمة، أو رسالة من خبيث، فعليها أن تقول: أعوذ بالله منك.
فقالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [مريم:18] فقيدته بالتقوى؛ لأن التقي لا يفعل هذا الشيء، فهذا فعل الأشقياء والمجرمين والمنحرفين عن منهج الله عز وجل، فإن كنت تقياً فابتعد.
فقال لها مباشرة بعد ذلك: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} [مريم:19] قال: أنا مرسل من الله لأعطيك غلاماً قالت: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم:20] تقول: ليس عندي زوج، ولست بزانية، كيف يكون لي ولد؟ فبين لها الحكمة: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مريم:21] هذا هو السبب الذي أراد الله من خلق عيسى عليه السَّلامُ أن يكون آية على كمال قدرة الله، على خلق الأشياء من غير أسباب {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} [مريم:21 - 22].
قال المفسرون: إن حملها كان في نفس الوقت، حملت ووضعت في نفس اللحظة، هذا الذي يرجحه ابن عباس؛ لأنه ليس حملاً طبيعياً بأن حملته (تسعة أشهر) ولكن حملته فوضعته، كما قال الله عز وجل: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} [مريم: 22] والفاء للتعقيب {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم: 23] المخاض: آلام الولادة، فلما جاءها المخاض وجدت في نفسها من الآلام ما لا تستطيع حمله الجبال؛ لأنها حرة وطاهرة وعفيفة، والحر والطاهر لا يرضى أن يكون له شيء من هذه الأمور، كيف يقابل الناس؟ {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] فتتمنى الموت قبل الوضع (وكنت نسياً منسياً) قبل هذا الوضع، ولكن الله عز وجل لا يتخلى عنها؛ لأنها صالحة والله لا يتخلى عن العبد المؤمن إذا كان صادقاً معه، مهما حاك الناس حوله من الترهات، ومهما ألصق الناس به من الأكاذيب والافتراءات، فإذا كان صادقاً ومخلصاً فإن الله يدافع عن الذين آمنوا، فأجرى الله الدفاع عنها في هذا الموقف الحرج على يد هذا الطفل الصغير، قال تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم:24] لا مجال الآن للحزن؛ فإن الله قد جعل تحتك سرياً، والسري: النهر الصغير الجاري العذب، قال: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم:25].
يقول المفسرون: كانت نخلة يابسة ناشفة لا يوجد فيها ثمر، والله عز وجل أجرى لها الماء من أسفل والثمر من أعلى، فكانت تهز فينزل عليها الرطب الجني.
يقول العلماء والأطباء: إن أفضل طعام تتناوله المرأة في ساعات المخاض هو الرطب، فلا تعطها براً وسمناً ورزاً ولحماً، لكن أعطها رطباً تلد بإذن الله، ولا تعطها إبر طلق، لماذا؟ لأن الرطب فيه سعرات حرارية كثيرة تمد المرأة بطاقة تمكنها من عملية المخاض والولادة في حالة سعيدة ولا تحس بالآلام بإذن الله، ما عليك إلا أن تقرب لها الرطب وتقول لها: كلي، فالحبة أحسن من عشر إبر.
لكن بعض النساء حين تشعر بأي ألم تقول: الدكتور، المستشفى، حتى بعض النساء نست الله، وكانت المرأة في الماضي تقول: يا ألله! يا رب! يا رحمان! يا رحيم! وأما الآن فتقول: يا دكتور! يا دكتورة! فتعرضوا في بطونهم فلا يخرج إلا بعملية جراحية، ويخرجونه من بطنها، لماذا؟ لأنهن تركن الاعتماد على الله عز وجل.
من الذي كان يخلص نساء المسلمين من آدم عليه السَّلام حتى زماننا إلا رب العالمين، بعض النساء تلد وهي ترعى وتأتي والمولود على ظهرها تحمله، والبعض تلد وهي تجمع الحطب، والبعض تلد وهي في الحقل والزرع، فالله عز وجل معهن؛ لأنهن مع الله، ويوم أن تركنا الاعتصام بالله وكلنا الله إلى أنفسنا، فتجدها من أول ما تحمل حتى تضع وهي مريضة، وبعضهن تسقط وهي جالسة، لكن يقولوا: اجلسي، لأنها لو مشت خطوتين أسقطت لعدم وجود الصلة القوية والعلاقة العظيمة بالله عز وجل، فهنا يقول الله عز وجل أن عيسى قال(3/7)
الحكمة من مشروعية الصيام
إذاً: الأمم السابقة كانت تصوم، كما قال الله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فقد ذكر الله عز وجل الحكمة من تشريعه لهذا الصيام فقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] لم يفرض الله عز وجل الصيام لمصلحة له، فالله غنيٌ عنا وعن صيامنا وعبادتنا، ولو صام أهل الأرض كلهم ما زاد في ملك الله شيء، ولو أفطر أهل الأرض كلهم ما نقص من ملك الله شيء؛ لكن الصيام شرع لنا لكي نتقي، وترتفع أرصدة التقوى في قلوبنا، ونشعر بحسن العلاقة مع الله، ولذا ترون الناس في رمضان أحسن حالاً منهم في غير رمضان، فعندما يصوم الناس ترتفع درجات التقوى عندهم؛ فيصلون في المساجد، ويقرءون القرآن، ويتصدقون، ويحبون الله، ويذكرون الله، لماذا؟ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] لأنهم صاموا فاتقوا الله.
ثم قال عز وجل وهو يلطف الأمر حتى لا ينزعج أصحاب البطون فقال: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] أي: ما جعلناها سنة كاملة، ولا عشرة أشهر، ولا ستة أشهر من السنة، أي: ما جعل النصف صيام والنصف إفطار، وإنما هو شهر من اثني عشر شهراً، وكذلك هذا الشهر نصفه إفطار والنصف الآخر صيام، اثنتا عشرة أو ثلاث عشرة ساعة إمساك وبقية الليل من المغرب إلى الفجر أكل، فماذا بقي علينا من التعب؟ هذا في الماضي، أما الآن فلا ندري بالصيام، وما نصوم إلا من العصر إلى المغرب فقط؛ لأننا نتسحر ونصلي الفجر وننام إلى الظهر، ونقوم نصلي الظهر وننام حتى صلاة العصر، ثم نصوم إلى صلاة المغرب، فلا يبقى من صيامنا إلا من صلاة العصر إلى صلاة المغرب فقط، ثم بعد ذلك نفطر؛ لأن الصائم النائم لا يحس بألم، هل تحس بالجوع وأنت نائم؟ هل تحس بالعطش وأنت نائم؟ ولذا حين يستيقظ أحدنا في العصر ويذهب يصلي لا يزال السحور في بطنه ما ذهب منه شيء؛ لأنه لم يتحرك ولم يذهب، ولا يزال الماء في بطنه؛ لأنه لم ينزل منه قطرة عرق، وعندما يفطر يقول: والله إنني شبعان، والله ما كأني صائم؛ لأنك نائم طوال يومك، ما صمت إلا من العصر إلى المغرب، ولو أنك من الصباح في شغل فإنك صائم، لكن الأجر كامل إن شاء الله، ولا يتصور أحد أنه ليس له أجر، فالصيام صيام شرعي وأجره كامل، لكن رحمة من الله أن الله لطف بنا -أيها الإخوة- فنحن في نعمة.
قلت لأحد كبار السن في مكة: كيف كان صيامكم؟ فقال: والله ما كانت تأتي علينا الساعة (العاشرة) في أول النهار إلا وقد ذبل أحدنا كما تذبل الشجرة، وأصبح الشخص منا لا يوجد في فمه قطرة ريق، وإن لسانه كالسفنجة من العطش، فلا يستطيع أحدنا أن يتكلم بكلمة واحدة من شدة الجوع والعطش.
قلت: ماذا تعملون؟ قال: كل في شغله، هذا في مزرعته، وهذا معه إبله وغنمه، وهذا في سوقه.
قلت: لماذا لا تنامون كالناس وتشتغلون في الليل؟ قال: إذا نمنا نامت أرزاقنا، ولا يوجد عمل في الليل، فالليل من المغرب إلى قبل العشاء قليل على سرج بسيطة بزيت بسيط من القاز ندخره كما ندخر الذهب الأصفر، وبعد ذلك نطفئها والكل ينام؛ لعدم وجود النور، وأما الآن قد حولنا الليل نهاراً والنهار ليلاً، حتى العمال الآن في المباني معهم كشافات كأنها شمس، ويعملون من بعد المغرب إلى الفجر ثم يذهبون ينامون إلى المغرب، وقالوا: هم صائمون، فبعضهم يصلي، وبعضهم لا يصلي.
فهي أيام معدودة على الذين كانوا يتعبون فيها، أما نحن -ولله الحمد- اليوم فهي ساعات معدودة في حياتنا.
ثم قال عز وجل بعد ذلك رحمة بالأمة: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:184] مع أنها مبسطة ومكتوبة كما كتبت على الذين من قبلكم إلا أن الرحمة لا زالت تلاحق الإنسان في كل حالاته، فالمريض له عذر خارج عن إرادته، لأنه مرض بقدر الله، فما دام أن مرضه كان بقدر الله فالله رفع التكليف عنه، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184].
قوله تعالى: ((أَوْ عَلَى سَفَرٍ)) [البقرة:184] كان الناس يسافرون في طلب الأرزاق والمعايش، فليسوا كحالنا، فالذي لا يتحرك ولا يسافر يموت جوعاً، فيغربون ويشرِّقون، ويذهبون إلى اليمن والشام والعراق، وغيرها، ويذهبون إلى كل أرض من أجل لقمة العيش، والذي يجلس لا يلقى شيئاً.
يقول الشافعي رحمه الله: سافر تجد عوضاً عمن تصاحبه وانصب فإن لذيذ العيش في النصب >
إني رأيت وقوف الماء يفسده إن سار طاب وإن لم يجر لم يطب >
والشمس لو بقيت في الفلك واقفة لملَّها الناس من عجمٍ ومن عرب >
والتبر كالترب ملقىً في أماكنه والعود في أرضه نوع من الخشب >
لما تغرب هذا عز مطلبه وإن تغرب هذا عز كالذهب >
فالعود الموجود هنا يباع بالأوقية، لكن في بلده مثل الخشب، لكن عندما أتى إلى الرياض أصبحت الأوقية بمائة أو بمائة وخمسين، ولو أنه بقي في بلده لم يشتره أحد، وهكذا السفر كان في حياة الناس ضرورياً من أجل المصالح، فالله رفع عن الناس الحرج في السفر؛ لأن المسافر لا يجد وسيلة للراحة، قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] هذه -أيها الإخوة- مقدمة عن أصل مشروعية الصيام.(3/8)
معاني الصيام
من الناس من ساء فهمه للصيام؛ وهذا نتيجة البعد عن حقائق الدين وأسرار الإسلام، إذ لم يفهم الكثير من الناس من الدين إلا المعاني الظاهرة والصور الباهتة الميتة، كما يفهم من الصلاة أنها قيام وقعود وركوع وسجود، ولكن قلبه في وادٍ والصلاة في وادٍ آخر، فهذا لم يعرف الصلاة حقيقة، فتراه يصلي وهو يحك ظهره، وينقر أنفه، ويحرك ساعته، فإذا سجد رمى بنفسه على الأرض، حتى في التراويح ترى أكثر الناس لا يصدق أنه أكملها، ولكنه يخرج بعد التراويح الساعات وهو في الأسواق يعرض ويدور، ولا يشعر بتعب، لكن نصف ساعة هنا كأنها عشرون ساعة، ويخرج ويصيح على الإمام، ويقول: زودها يقرأ صفحة، يريد أن يكسر أرجلنا، هذا منفر عن الدين! إذاً لماذا تقف في المعرض ثلاث ساعات خلف المرأة وهي التي تقودك بأنفك تريد أحذية، فهذه أحذيه ليست جميلة، فيذهب من معرض إلى معرض، وآخر شيء تقول له: والله ما وجدت شيئاً جيداً الليلة؛ لكي تخرج الليلة المقبلة، ثلاث ساعات وراء أحذية لا تمل، وأما نصف ساعة وراء الإمام في روضة من رياض الجنة، تسمع كلام الله والملائكة معك والله يرضى عنك، ويكتب لك حسنات، وما أن ينتهي منها كأنه طائر في قفص!! لماذا؟ لضعف الإيمان، ولعدم فهم الحقيقة الشرعية للصلاة، فالصلاة هي حركة القلب قبل أن تكون حركة البدن.
والصيام له معانٍ عظيمة في الإسلام، ليس مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، فإن الامتناع عن الطعام والشراب والنكاح صورة من صور العبودية والتذلل والاستسلام، أما المعاني الحقيقية فهي أبعد من ذلك، ومنها ما قد ذكرها الشيخ سلمان العودة حفظه الله ووفقه في وقفاته المباركة ثلاثون وقفة في رمضان التي هي الآن تقرأ في المساجد.(3/9)
للصائم فرحتان
من المعاني يقول النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في الصحيحين: (للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه).
كلنا -أيها الإخوة- نشعر بالأولى، أليس كذلك؟ وأسأل الله كما أشعرنا بالأولى أن يشعرنا بالثانية، فكما فرحنا في الفطر أن نفرح بلقاء الله عز وجل، ولا يوجد شخص في الدنيا عند الإفطار وهو غضبان، فإنهم كلهم مسرورون، حتى الغضبان يضحك في تلك اللحظة، لماذا؟ لأنها ساعة فرحة، وليس من الجوع، فهل ترون أحداً في ساعة الإفطار في الشوارع؟ تكون مقفلة، والدكاكين مقفلة، والسيارات موقفة، وعجلة الحياة كلها موقفة، والناس على السفرة ليس بسبب الجوع، بإمكان الشخص أن يصبر ثلاث ساعات أو أربع ساعات، لكنه يريد أن يلحق تلك اللحظة وهي لحظة الفرحة، ولذا إذا أفطر أهله؛ لأنه تأخر في مكان أو شيء، وجاء بعدهم بنصف ساعة وقدموا له فطوراً فما كأنه أفطر، يقول: فاتتني.
ما هو الذي فاته؟ هل فاته التمر؟ التمر موجود، هل فاتته الشربة؟ الشربة موجودة، إنما فاتته اللحظة، (وفرحة عند فطره) ما هي فرحة الإفطار؟ يقول العلماء: إنها فرحة التوفيق لأداء هذه العبادة، فرحة أن الله عز وجل قبل منك هذه العبادة، فرحة أنك أفطرت بأمر الله، فالله أمرك أنه بمجرد غروب الشمس أن تفطر، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم) وقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187]، أنت تمسك بأمر الله وتفطر بأمر الله، فهي فرحة عند الفطر.
وفي هذا الحديث يقول الشيخ سلمان في كتابه: إن هذا الحديث له بشرى بسعادة الدارين: سعادة الدنيا، وسعادة الآخرة؛ فسعادة الدنيا تحققت بالفرحة عند الإفطار، هل يجدها الذي لم يصم؟ لا يجد هذه الفرحة، فبعض النساء حائض وأفطرت بعذر شرعي، وبعض الناس مريض أفطر بعذر شرعي، فإذا جاء الفطور ودعوه وقالوا له: تعال كُلْ.
فيأتي يأكل، لكن هل هو فرحان؟ يقول: والله فاتني ليتني صمت، والمرأة تقول: الله يعينني على هذه الأيام، الحمد لله على كل حال، وتجدها منكسرة القلب وغضبانة ومهمومة وتقول: لو أني صائمة.
وبعض النساء من مبالغتها تصوم وهي حائض، وتقضي كذلك، لكن تقول: أريد أن أصوم ولو أنها حائض، رغم أنه لا يجوز أن تصوم وهي حائض؛ لأن عليها أن تفطر ولو لم تأكل شيئاً فإنها مفطرة، حتى لو قالت: أنا سأصوم؛ لأن الصيام ليس فقط مجرد الإمساك عن الطعام والشراب، فهي مفطرة بعذر الحيض، وعليها أن تقضي هذه الأيام.
فهذا معنى من معاني الصيام.(3/10)
الصوم عمل قلبي
من المعاني -أيها الإخوة- التي يغفل عنها كثير من الناس وهو أن الصيام فيه ارتباط وثيق بقضية الإيمان بالله عز وجل، فإن الصوم عمل قلبي سري لا يطلع عليه إلا الله، إذ بإمكان الإنسان أن يظهر أنه صائم أمام الناس لكنه يفطر خفية، فلا يعلم أنك صائم أو غير صائم إلا الله عز وجل، فيوم أن تمسك بالصيام في السر والجهر ومع الناس ومع نفسك وفي كل لحظاتك، علام يدل هذا؟ يدل على أنك مؤمن بالله، وتشعر بمراقبة الله، وهذه المرتبة تسمى مرتبة الإحسان، وهي: أنك تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
فهذه نعمة من الله، بأنك تلتزم بالصيام بأمر الله عز وجل فتشعر في قلبك بالمراقبة لله، ويتحقق لك بهذا الإيمان وهو من أعظم ما يملكه الإنسان في هذه الحياة.(3/11)
التطلع والرغبة إلى الدار الآخرة
كذلك التطلع والرغبة فيما عند الله في الدار الآخرة، فإن الإنسان لا يترك شيئاً إلا مقابل شيء آخر، فالإنسان يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل الله، ولذا يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: (يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي)، من أجل الله لكي يعوضك الله في الآخرة هل هناك جوائز للصائمين في الدنيا؟ هل يوجد رواتب للصائمين في الدنيا؟ ولذا جعل الله عز وجل باباً في الجنة اسمه (الريان) والحديث في الصحيحين، قال عليه الصلاة والسلام: (إن في الجنة باباً يقال له: الريان، لا يدخله إلا الصائمون) نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يدخلون هذا الباب واسمه يشعر الإنسان بالنعمة، من الري وهو: الخير الكثير، الذي يشمل المؤمن في الدار الآخرة.
فعندما يصوم الإنسان يتطلع إلى ما عند الله تبارك وتعالى في الدار الآخرة من الثواب والجزاء الجزيل عند الله عز وجل.(3/12)
بالصوم يظهر الانقياد والتسليم لله تعالى
من المعاني: أن الصوم يظهر فيه الانقياد والاستسلام على أعظم صورها؛ إذ أنه لا يوجد تفسير منطقي عقلي لعملية الإمساك عن الطعام والشراب، لماذا نمسك من الساعة كذا إلى الساعة كذا؟ لا نعرف، فالله أمرنا، ونحن عبيده، ومقتضى العبودية أن العبد يسير في أمر سيده ومولاه، إذا كان عندك عبد فتقول له: يا عبد! اذهب وأحضر لي هذه؟ فإذا قال لك: لماذا؟ تضربه على وجهه، وتقول: اذهب، ولا تتدخل.
ترسل العبد وتقول: هذه مائة ريال اذهب وأحضر لنا مقاضي، يقول لك: لماذا المقاضي؟ تقول له: عندنا ضيوف، يقول: من هم الضيوف؟ تقول: آل فلان، يقول: لماذا تعزمهم؟ أوه طولتها، لا تتدخل أنت في هذه الأمور! فالله تبارك وتعالى سيدنا ومولانا وخالقنا وبارينا، ونحن عبيده يأمرنا ولا يحق لنا أن نسأله، ولهذا يقول الله عز وجل: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، أمرنا أمراً (صوموا) ونحن نستسلم الآن، نؤدي عمرة في رمضان ونطوف في البيت فنسأله: لماذا نأخذ عمرة؟! ولماذا نطوف بالبيت؟! لا ندري، الله أمرنا، وقال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، نسعى بين الصفا والمروة، لماذا نسعى؟ لماذا نهرول في منطقة معينة؟ الله أمرنا، فلا نقول: لماذا صلاة العشاء أربع ركعات، وصلاة المغرب ثلاث ركعات، وصلاة الفجر ركعتان؟ لماذا لا يكون الفجر والمغرب أربع ركعات، والعشاء لا يكون ركعتين بسبب أننا متعبين؟ لا {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23] ليس عملنا هذا، الأمر أمر الله والشرع شرع الله، ونحن عبيد الله، ولا يسع المسلم إلا أن يقول: آمنت بالله، رضيت بالله، مهما أمر الله نحن ننفذ أمر الله تعالى.
فالاستسلام والخضوع والانقياد لله عز وجل يظهر بصورة واضحة فيما يتعلق بتنفيذ الإنسان للصيام.(3/13)
الصوم رابط اجتماعي بين الأمة
وفي الصوم معنىً عظيم وهو: الترابط الجماعي بين الأمة؛ لأن المجتمع دائماً إذا تعارف على طاعة وعلى ترك معصية، يسهل على الناس كلهم أن يمارسوا الطاعة أو يتركوا المعصية، فالصائمون في المملكة العربية السعودية لا يجدون أي صعوبة في الصوم في رمضان؛ لأن المجتمع كله صائم، وحتى الكافر صائم؛ لأنه لا يستطيع أن يدخن أو يأكل في المطعم لماذا؟ احتراماً لمشاعر البلد وأهلها.
لكن لو أنك تعيش في بلد من البلدان التي لا تقيم وزناً للصيام مثلاً، وكنت صائماً ذلك اليوم، وإذا بالمطاعم يؤكل فيها في نهار رمضان ويشرب، فإنك سوف تعاني معاناة لا يعلمها إلا الله، ولا يأتي المغرب إلا وقد تقطع قلبك؛ لأن الناس مفطرون وأنت صائم، لكن عندما يكون الناس صائمون وأنت صائم فلا تشعر بشيء، وهكذا يقول العلماء: إن المجتمعات يجب أن تتماسك كلها في تنفيذ أمر الله، ومجتمع لا يوجد فيه زنا لا تجد شخصاً يفكر في الزنا، وكذلك مجتمع لا يوجد فيه خمر ولا ربا؛ لأنه لا أحد يفكر في الربا، وأما إذا أبيح الربا فيصعب على الإنسان أن يترك الربا وهو يرى الناس يرابون، وإذا أبيح الزنا ورأى الناس كلهم يزنون وهو لا يزني يصعب عليه، فممكن أن يقع في الزنا، وإذا رأى الخمور تشرب كما يشرب العصير في بعض البلدان، فيمكن أن يقع في شرب الخمور، ولذا جاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أوامر الإسلام، بل عده بعض العلماء ركن من أركان الدين، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوام الدين، وهو صمام الأمان للأمة، فلا يبقى للأمة كيان إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو إظهار شعائر الله، وقمع المعاصي والمنكرات؛ لأن المعاصي إذا ظهرت وانتشرت واستمرأها الناس وأحبوها ستكون النفوس مريضة، وتحب المعاصي والشرور، ولكن عندما يرى الناس أن المعاصي محظورة وأن الذي يعملها يجلد ظهره، والذي يسرق تقطع يده، فكل شخص يقف عند حده، فالصوم يظهر لنا منه الترابط الذي يجب أن يكون في المجتمع والتعاون والتكاتف على تنفيذ أمر الله عز وجل، وترك معصية الله تبارك وتعالى.(3/14)
رمضان شهر تلاوة القرآن
ومن أسرار الصوم ومعانيه: أنه شهر التلاوة للقرآن الكريم، فهو شهر القرآن؛ لأنه أنزل فيه، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]، فشهر رمضان شهر مذاكرة القرآن ومدارسته، وكثرة تلاوته، فاعرض نفسك على القرآن، (كان صلى الله عليه وسلم يعرض القرآن على جبريل في رمضان في كل عام مرة، إلا في السنة التي مات فيها عرض عليه القرآن مرتين) فالمطبق الأول للقرآن هو النبي صلى الله عليه وسلم، كما قالت: عائشة رضي الله عنها (كان خلقه القرآن)، ولكن الناس الآن يفهمون شيئاً آخر؛ يفهمون أنها التلاوة المجردة من التطبيق، فتجد الشخص يقول: ختمت القرآن مرتين، ختمت القرآن أربع مرات؛ ولكن هل وقفت على حدوده؟ إذا قرأت آية الربا فهل أموالك في البنوك الربوية؟ فإن قال: نعم.
فكيف يكون مالك في البنك الربوي وأنت قرأت قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278] لماذا لم تقف عندها؟ وكذلك هل تصلي مع الجماعة في أوقاتها، أم لا؟ هل عينك تنظر إلى الحرام؟ هل أذنك تسمع الحرام؟ هل لسانك يتكلم في الغيبة والنميمة والحرام؟ فاسأل نفسك فإنك تقرأ القرآن وكله أوامر ونواهٍ، فقف عند أوامر الله وحدوده، واعرض نفسك عليها، فإن كنت مطبقاً فالحمد لله، وإن كنت غير ذلك فتب إلى الله عز وجل.
فهذا معنى شهر التلاوة، أما أن تتلو القرآن وتكرر تلاوته مرة أو مرتين أو أكثر ولم تعمل بأوامره ولم تنته بنواهيه فلا؛ لأن الله عز وجل أنزل القرآن ليعمل به، فاتخذ الناس تلاوته عملاً، ولكن من فضل الله علينا أن الله جعل التلاوة عملاً بعد العمل به.
والقرآن يعذب صاحبه الذي لا يعمل به.
وعالم بعلمه لم يعملن معذبٌ من قبل عباد الوثن >(3/15)
الصوم كفارة للمعاصي
من معاني الصوم: أن الصوم كفارة لجميع الذنوب الماضية، كما جاء في الصحيحين يقول عليه الصلاة والسلام: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) ألست بحاجة إلى أن يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك؟! وكم هي ذنوبنا! فوالله لو كانت للذنوب روائح ما جلس أحد بجوار شخص منا، فإننا مذنبون ذنوباً كثيرة جداً، وليس تواضعاً بل حقيقة، فَكِّر حتى في صلاتك، فبعضهم يصلي صلاة ذنب، أي: طاعاتنا أحياناً تكون معصية؛ لأننا نمارسها بطريقة غافلة لاهية، بعيدة عن الخشوع وعن الخضوع لله عز وجل، فالمعاصي والذنوب لو كان لها روائح لفرَّ الناس منا، ألا نريد أن يغفرها الله لنا أيها الإخوة؟ بلى والله كلنا نريد ذلك، وكيف تغفر؟ بصيام رمضان إيماناً واحتساباً.
قال العلماء: (إيماناً) أي: تصديقاً وجزماً أن هذا فريضة من فرائض الله و (احتساباً): أي: طلباً للأجر والمثوبة من عند الله، فتمارس الصيام وتتشوق إلى ممارسة هذه العبادة، لماذا؟ لأنك تحتسب أجرها عند الله، وتفرح بثوابها يوم لقاء الله؛ لأن الله عز وجل جعل الصوم له وجعل ثوابه عنده، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) والحديث صحيح، فعملك لك؛ فصلاتك وزكاتك يعطيك الله بعملك، وكل شيء، إلا الصوم فلا يعطيك الله بما عملت، وإنما يعطيك جزاءً من عنده من غير حساب؛ لأنه جزء من الصبر، والله يقول: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
فكيف يجزي ربنا عن الصوم؟ يجزي جزاءً عظيماً يضاعفه لمن يشاء.
نسأل الله أن يجزينا وإياكم وإخواننا وآباءنا وأمهاتنا وجميع المسلمين جزاءً تقر به أعيننا، ندخل به الجنة وننجو به من النار.
هذه -أيها الإخوة- بعض معاني الصيام.(3/16)
أصناف الناس في رمضان
فقد نظرت إليهم وتأملت حالهم فوجدتهم لا يعدون خمسة أصناف:(3/17)
الصنف الأول: الرابحون في رمضان
هذا الصنف موفق ورابح وناجٍ، قل ما شئت من العبارات، فهو يفرح برمضان وينتظره انتظار الملهوف، ويعد الأيام والليالي حتى يأتي رمضان فتقر عيناه برمضان، ويتمنى أن تكون السنة كلها رمضان، وإذا خرج رمضان فكأنه في عزاء، وإذا جاء رمضان فكأنه في عيد، ويستقبله أحسن استقبال، وكيف يستقبله؟ لا يستقبله بالطعام، ولا يستقبله بالسهرات، وإنما يستقبله بالتشمير عن ساعد الجد.
فيراجع نفسه ويتوب إلى الله من جميع الذنوب والخطايا، ويكثر من عبادة ربه، ويبحث عن إمام يطول الصلاة ويخشع فيها ويخضع، ثم يصلي معه من أول ركعة إلى آخر ركعة، حاضر القلب، مستقر الذهن، واقف القدم، يمارس العبادة بنشاط وهمة عالية، ولا يأتيها وهو كسلان؛ لأن الكسل من صفات المنافقين، يقول الله عز وجل: {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} [التوبة:54].
فإذا سلّم الإمام من الركعتين فقم بعده بنشاط، ولا تتأخر إلى أن يقرأ الإمام نصف الفاتحة أو الفاتحة كلها وبعضهم يتأخر إلى قرب الركوع وبعد ذلك يقوم، لماذا لا تقوم؟ قم، فالله يعينك ولا تتعب، وماذا تخسر؟ بالله كم خسرت أو كسبت يوم جلست وظهرت لك عضلة في ظهرك أو في رجلك؟ لا، هي كلها من الشيطان ويريد أن يفوت عليك الأجر، فقل: أعوذ بالله وقم، فلا يتلاعب بك الشيطان فتتكاسل عن الصلاة، فإذا سلم الأمام سلمت، وإذا قام إلى الصلاة قمت، ولا تتأخر، فإن القلب دال على الجسد، فإذا كان القلب قوي العزيمة فالجسد لا شك أنه سيكون قوي العزيمة وعالي الهمة، أما إذا كان القلب مريضاً ضعيف الإرادة فالجسم لا شك أنه سيكون مثله، نسأل الله السَّلامة والعافية.
وكذلك عليك -يا أخي- أن تتم الصلاة مع الإمام، أما أن تصلي ركعتين ثم تخرج إلى الدنيا فلا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة، من صلى مع الإمام حتى يسلم آخر تسليمه من الوتر كتبت له كأنه قام الليل كله، فلو خرجت وتركت الإمام فليس معك إلا ما صليته.
هذا هو الصنف الأول الذين يفرحون في رمضان ويشمرون عن ساعد الجد، ويفرحون بتنظيم أوقاتهم في كثرة الصلاة، الصلاة المفروضة، والتراويح مع الإمام، وبعد ذلك كثرة التلاوة، تلاوة منقطعة النظير، إذا سألت عنه في المسجد وإذا هو يقرأ، كان السلف رضوان الله عليهم إذا دخل رمضان يمتنعون عن مدارسة العلم، ويعكفون على قراءة القرآن باستمرار، حتى أثر أن الشافعي كان يختم القرآن في رمضان ستين ختمة، مرة في الليل ومرة في النهار، فمتى كان يأكل؟! ومتى كان يشرب؟! ليس كأمثالنا، نحن الآن حمير مقاضي، يأخذ الشخص منا الكراتين في المساء، وإذا به في الصباح ينزلها (قمامة) ويأكل منها الثمن والثمن كثير، بينما كان الأولون لا يعرفون هذا كله، يقول الإمام الشافعي: من اشتغل عن العلم بشراء بصلة لم يتعلم.
فتجد الأكل والشرب والمقاضي مصيبة الناس في هذا الزمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فهذا يشمر عن ساعد الجد ويبحث عن أول شيء تلاوة القرآن باستمرار، قال لي أحد الشباب: كم؟ قلت: أتصور أن في كل ثلاثة أيام مرة، خصوصاً شبابنا ومدرسينا في هذا الشهر في إجازة وليس عندهم شيء إلا قراءة القرآن.
فعليهم أن يقرءوا القرآن، فينام إلى الساعة العاشرة صباحاً مثلاً، ثم يستيقظ فيصلي الضحى، ثم يقرأ القرآن إلى الظهر، ثم يذهب إلى المسجد فيصلي الظهر ويجلس يقرأ حتى صلاة العصر، ثم يصلي العصر ويقرأ حتى صلاة المغرب، فيصلي المغرب ثم يأكل طعام العشاء ويصلي العشاء، وصلاة التراويح، ثم يقرأ القرآن طوال الليل؛ لأن هذا الشهر شهر القرآن.
يقول الشاعر:
اتل الكتاب وسبح فيه مجتهداً فإنه شهر تسبيح وقرآن
فهذا شهر القرآن نزل فيه القرآن فلابد أن نقرأ فيه القرآن.
وهذا المشمر شمر في اختزان شيء من مصروفاته الشهرية، وصرفها على الفقراء والمساكين والجيران، وتفقد حالهم ومن يهمه أمرهم، وأهدى لهم، واشترى لهم المقاضي، وأملأ ثلاجاتهم بالخيرات، وبعد ذلك أخذ عمرة في رمضان؛ لأن الحديث في البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: (عمرة في رمضان تعدل حجة معي) أي: مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذا أردت أن تحج مع النبي صلى الله عليه وسلم فاعتمر في رمضان، فإنها لا تكلف عليك إلا القليل.
والمشمر في هذا الشهر يشغل ليله بمدارسة العلم، وبزيارة أهل العلم والفضل، وبزيارة الأقارب والأرحام والجيران، فهؤلاء الرابحون في رمضان، ولكنهم قليل، والذي يؤسفنا أنهم قليل.(3/18)
الصنف الثاني: الخاسرون في رمضان
وهم قسم خاسر -والعياذ بالله-، وهم الذين يكرهون رمضان، فإذا جاء رمضان فكأنه ضُرب وجهه بعصا، يقول: أتاك رمضان! فقد ذكر ابن الجوزي قصة لمغفل في كتاب الحمقى والمغفلين، قال: كان له حمار مريض، فلما مرض الحمار وهو يريد أن يشفى بأي وسيلة؛ لأن الحمار كان ثمنه مرتفعاً كالسيارات الآن، فنذر لله أن يصوم سبعة أيام إن شفي الحمار، فشفي الحمار وأصبح يمشي، فوفى بنذره وصام سبعة أيام، فلما انتهت السبعة الأيام مات الحمار، قال: فعلتها بي يا ربي!! والله لأخصمنها من رمضان القادم!! هو أصلاً لم يصم لله وإنما صام للحمار، ويوم أن مات الحمار قال: سوف أخصمها من رمضان القادم.
كيف المسألة؟ حسابات تجارية! فهؤلاء الخاسرون يدخل عليهم رمضان فيضيقون منه ضيقاً لا يعلمه إلا الله، فيعد أيامه ولياليه كأثقل ما تكون، وكل يوم يسأل عن التاريخ ويصيح.
وحكي: أن أعرابياً دخل عليه رمضان، فقيل له: دخل رمضان، فقال: والله لأقطعن شمله بالأسفار.
فسافر لكي يقطع رمضان، وهو لم يعرف أنه سيقضي، قال تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] وإذا عنده إيمان فهو أصلاً ملزم بالقضاء، فالسفر يجب أن يكون سفر طاعة، أما سفر المعصية فليس بسفر.
فهؤلاء الخاسرون الذين يستثقلون رمضان، وتطول عليهم أيامه ولياليه، وينتظرون وصول ليلة العيد على أحرِّ من الجمر؛ لأنهم حجزوا عن الشهوات والملذات والمحرمات، وخاصة الذي يمارس المحرمات فلا يستطيع أن يمارسها في رمضان، فتجده لا ينتظر إلا انتهاء رمضان؛ لكي يرجع إلى المحرمات التي كان عليها.
ولذلك أثقل على نفسه؛ لأنه لم يعتد الصلاة في المسجد، لكنه عندما تسحر وأذن المؤذن ذهب إلى المسجد وهو كسلان، وكذلك صلاة المغرب، فهو يترقب انتهاء رمضان فيعاهد إبليس على أَنْ لا يدخل المسجد؛ لأنه عبد إبليس، فلا يحب الله ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا خاسر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصعد المنبر: (رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه، خاب وخسر، قالوا: من هو يا رسول الله؟! قال: من أدرك رمضان ولم يغفر له) أي: دس أنفه في الرغام، وهو التراب الدقيق الذي يأتي في الطرقات الرملية.
فلا يغفر لمن أدرك رمضان إلا لمن صامه إيماناً واحتساباً وليس تثاقلاً، وإنما إيماناً ويحتسب ثوابه عند الله وليس مهموماً في رمضان.
فهؤلاء هم الخاسرون، نسأل الله أَلا يكثرهم في المسلمين.(3/19)
الصنف الثالث: من ضيعوا رمضان بالإكثار من الشراب والطعام
وهم عباد الشهوات والبطون، الذين يفرحون في رمضان بسبب أنه موسم للأكلات وتعدد الأصناف من الطعام، فهذا يقول: أتاك شهر الخير، فيقول: الحمد لله دخل شهر البركات، شهر السنبوسة والشربة والكنافة والكبسة، ويعدد لك أشهى وألذ المأكولات.
فالله عز وجل شرعه من أجل أن نصوم ونجوع ونعطش، لكي نحس بأن هناك من الناس من هو جائع طوال العام، ومساكين طوال العام، فنأخذ من أقواتنا ونشاركهم، أما أن نثخن بطوننا ونملأها بما لذَّ وطاب من أنواع الطعام فلا.
فهؤلاء هم الشهوانيون المضيعون، الذين لم يفهموا من رمضان إلا أنه شهر أكل وشرب، فمن أول رمضان وهو يُحَمِّل السيارة بالمقاضي، وكذلك في بقية الشهر، فتراه يأخذ من كل أصناف الطعام، وتجده لوحده أو مع امرأته وطفلين أو ثلاثة، لكنه جشع وطمع، فإذا أنزلت على السفرة تجدها عشرين صنفاً أو تزيد، ولو أكل صنفين لأشبعاه؛ لكن جشع وطمع -والعياذ بالله-، فيأكل من كل نوع جزءاً بسيطاً جداً، ثم يأخذ الباقي ويرمي به إلى القمامة؛ لماذا هذا؟ لأنه لا توجد مراعاة لنعم الله عز وجل.
فهؤلاء مضيعون؛ لأنهم لم يعرفوا حكمة الصيام، وأنه من أجل الإكرام والإنفاق والجود على الفقراء والمساكين، يقول أحد الصحابة رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود من الريح المرسلة، وكان أجود ما يكون في رمضان) فهو يجود بما هو موجود تقول عائشة: (يدخل الهلال ثم الهلال ثم الهلال -ثلاثة أهلة- ولا يوقد في بيت آل محمد نار).
تصور -أخي الكريم- أن الغاز ينتهي فكيف سيكون حالك؟ فإذا دخلت على المرأة تقول لك: عجِّل أسرع ليس عندنا غاز، فتقول لها: سآخذ خبزاً من الفرن، فتقول: لا يصلح إلا بإدام ولحم، ولا يمكن أبداً أن نجلس ليلة بدون نار، فهل يستطيع بيت أن يجلس يوماً بدون غاز في عصرنا هذا؟ عزاء ومأتم ومصيبة، أما بيت النبوة فيمر شهران ولا يوقد فيها نار؛ فقال عبد الله بن الزبير: (يا أماه! فما طعامكم؟ قالت: الأسودان، التمر والماء) والله لقد ذهبوا بلذة الحياة رضي الله عنهم وأرضاهم، ونحن نشعر أن عندنا لذة الحياة؛ فليست لذة الحياة بالأكلات والملابس والمباني، بل لذة الحياة في العبادة والقربة والمناجاة لله تبارك وتعالى.
كثير من النساء ضيعت عمرها في الطبخ، بعض النساء من أول رمضان إلى آخره لا تقرأ صفحة أو صفحتين من القرآن الكريم؛ لأنها مشغولة، بل من أذان الظهر وهي تقوم كأنها مكينة تدور في المطبخ، وهي مستنفرة كافة أفراد البيت استنفاراً عاماً؛ لكي تطبخ الفطور، وإذا دخلت المطبخ تجد النيران مشتعلة في كل اتجاه، فالموقد له عشرة عيون، وكل عين عليها قدر ينضج، والرجل يدخل يساعدها وكذلك البنات وهي تشرف عليهن.
وهذا كله من أجل ماذا؟ من أجل بطن تملؤها سبع تمرات، وهي من الظهر إلى المغرب تطبخ، ومن المغرب إلى الساعة الحادية عشرة تأكل، ومن الساعة الحادية عشرة إلى الساعة الرابعة تتمشى في الأسواق، ومن الساعة الخامسة إلى الساعة الثانية عشرة ظهراً وهي نائمة، فمتى تعبد الله؟ ومتى تقرأ القرآن؟ فلا يوجد وقت للقراءة، والتي تأتي منهن أحياناً للصلاة، فبعض النساء تأتي إلى الصلاة في المساجد فهذه موفقة لكن بشرط: أن يكون عملها خالصاً لله ولا تقصد به رياءً؛ لأن بعض النساء تقول: صليت البارحة بعد الشيخ فلان، فأفضل صلاة المرأة في بيتها، لكن نقول: تصلي في المسجد؛ لكي تستطيع أن تنشط للصلاة، لكن التي تستطيع أن تصلي في بيتها وتقرأ القرآن فهذا أفضل لها من المسجد، أما التي تخاف أن تجلس في البيت فيأتيها الكسل، نقول لها: صلي في المسجد، بشروط: أولاً: أن يكون العمل خالصاً لوجه الله.
ثانياً: أن تأتي بثياب لا يوجد فيها زينة.
ثالثاً: أن تكوني متحجبة من رأسك إلى قدمك مثل الغراب الأسود.
رابعاً: أن تأتي وتجلسي في طرف المسجد، فلا تتكلمي ولا تعلم بك حتى النساء، ثم تخرجي بعد ذلك إلى سيارتك فلا يعرفك أحد، لكن بعضهن تأتي بثلاجة القهوة في يدها لكي تنبسط، وبعضهن تأتي بالمكسرات، ويأتي بها السائق الأجنبي وتمارس عبادة عن طريق معصية، فلا ينبغي هذا، ثم تأتي وتسأل عن الفطور وعن أنواع الفطور، وتقول لأختها: أنا عملت أشياء جديدة، ثم تريها طبق الطبخ، وإذا بها تعمل طبق الفطور في المسجد، فأغرت الناس وغررت على المسلمات، فأين الدين؟ فهذا يدخل ضمن المضيعين الذين ضيعوا رمضان في بطونهم، وسينتهي رمضان واسألوا أهل البطون في آخر رمضان ماذا بقي معكم من الأكلات؟ فلن تبقى ولا حبة، فكلها ذهبت إلى المجاري.(3/20)
الصنف الرابع: من يقضي ليله بالسهر على المعاصي
وهذا يختص بكثير من الرجال، وهو الذي يقضي ليله في كثير من اللهو الباطل، إما بالسهر على مشاهدة أفلام الفيديو، قد قال لي أحد الإخوة: إنها تنشط في رمضان؛ لأن الناس لا يحبون التلفاز في رمضان؛ لأنه يصلي التراويح، وفيه أفلام فيها دين، والناس لا يريدونها، فلا يريدون التلفاز لأنه متدين، فينشطون على الأفلام، فتجدهم وقوفاً كالذباب على النجاسة على أفلام الفيديو، يشترون أفلاماً خبيثة ومسلسلات ونساء وأشياء لا ترضي الله تبارك وتعالى، يشترونها ويقضون ليالي رمضان التي هي ليالي القنوت والتهجد والمغفرة والقرب من الله يقضونها، في هذا الأمر والعياذ بالله.
وبعضهم يمكث في المقاهي، يخرج من بعد العشاء فيجلس إلى السحور، فكل وقت ينادي: افعل حجر يا ولد! إذا سألته، قال لك: أُعَمِّر.
تظن أنه يعمر عمارة، فتراه يدمر لا يعمر، فيدمر ماله وصحته، فيعمر الشيشة، يسمونها عمارة وهي دمارة -والعياذ بالله-، وعلى الدخان والأفلام والأغاني مرتفعة في المقهى، وعلى الألعاب: الكيرم، والضومنة، والمينبول، والنرد، والشطرنج، والبلوت، فيضيعون أوقاتهم فيقومون كأنهم قاموا على جيفة حمار، وهذا حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: (ما اجتمع قوم في مجلس لم يذكروا الله فيه إلا قاموا على مثل جيفة حمار) المجالس إذا اجتمعت على جيفة حمار ثم تفرقت، انظر كيف وجوهها ومخالبها، وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم في مجلس لم يذكروا الله فيه إلا كان عليهم حسرة وندامة يوم القيامة).
فهل تعمر ليالي رمضان بمثل هذه التراهات والخزعبلات؟!! فأنت رجل عاقل في الأربعين أو الخمسين، رجل مرموق، رجل بمنصب عالٍ وتضيع وقتك مع زملائك بدلاً من أن تقول: آتوني بكتاب الله، آتوني بـ رياض الصالحين، بـ صحيح البخاري، آتوني بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، هيا نزور أخاً في الله، أو نزور عالماً من العلماء، أو نجلس مع أهلنا وننبسط معهم، وبعض الرجال لا يعرف زوجته في رمضان ولا يعلم عنها شيئاً، من أول ما يتعشى يذهب ويلعب (البلوت) إلى السحور، فاثنان يقومان واثنان يجلسان.
هذا عمل أطفال وليس عمل رجال، ولو رأيت ولدك يلعب بالمكعبات البلاستيكية يعمل له عمارة فلا تستغرب منه؛ لأنه يلعب، ولو رأينا الكبير يبني له عمارة بالبلاستيك ما رأيكم، نضحك عليه أم لا؟ إذا قيل له: ماذا تفعل؟ قال: أعمر لي عمارة بهذا البلاستيك، نقول: والله إنك أخبل! وإذا وجدنا معه لعبة طيارة أو سيارة وهو يلعب بها، فإذا قيل له: ماذا تفعل؟ قال: أتسلى.
فأقول: التسلية بالسيارات والألعاب أسهل من التسلية بالبلوت؛ لأن هذه الأوراق أصلاً اخترعت للأطفال من أجل تسليتهم، أما الرجل فلا يوجد عندهم وقت، ولذا يقولون: إن أعظم قاتل هو قاتل وقته وحياته، فهذا عمرك تضيعه! سبحان الله! الله خلقك للعبادة وأنت تلعب! يقول الله في الحديث القدسي: (ابن آدم! خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت لك برزقك فلا تتعب).
الله خلقك للعبادة، والعبادة: هي كل ما يحبه الله ويرضاه.
ليست الصلاة والصوم فقط، فكل شيء يحبه الله عبادة، حتى جلوسك مع أهلك عبادة؛ لكن تترك أهلك لمصالحك وسهرك على المعاصي، وبعض الموظفين ينام على الطاولة؛ لأنه سهران طوال الليل؛ لكنه لو كان نائماً طوال الليل لأتى الصباح يداوم وهو مرتاح.
فكثير من الناس ينام في النهار؛ لأنه لا ينام في الليل.
فنقول لإخواننا الذين هم من الصنف المضيع: اتقوا الله في أوقاتكم، واقضوا ليالي رمضان فيما يعود عليكم بالنفع؛ إما دنيا أو آخرة.(3/21)
الصنف الخامس: من ضيعوا رمضان بالرياضة
وهم الذين بمجرد دخول رمضان يبحثون عن ساحة فارغة، وهذه الساحة يقيمون فيها أعواداً عليها كشافات، ويشكلون فريقاً ونوادي ولعب كرة طائرة وسلة من المغرب إلى السحور، فممارسة الرياضة لا نقول فيها شيئاً، وهي أفضل من اللعب السابق؛ لأنه لعب يفيد، لكن الذي ننقم عليه أنها تمارس بشكلٍ غير منضبط، بحيث يقضي الشخص وقت الليل كله في اللعب، فلا يصلي التراويح ولا العشاء، ولا يقرأ القرآن، أما إذا اجتمع مجموعة من الشباب في مركز صيفي أو معهد علمي أو نادٍ رياضي وصلوا التراويح مع الجماعة، ثم جاءوا بعد ذلك ولعبوا ساعة أو ساعتين كرة قدم أو طائرة، ثم بعد اللعب اجتمعوا وتناولوا مشروباً، ثم أخذوا كتاباً وتناقشوا فيه، ثم تفرقوا، فهذا لا يوجد فيه شيء؛ لأنه نوع من التسلية التي فيها منفعة، أما أن نقضي أوقاتنا طوال الليل في اللعب، ويذهبون إلى الساحات آخر الليل للتفحيط؛ لأن النوم لا يأتي بعد الفجر مباشرة، فإذا ذهب إلى البيت فلا يأتيه النوم، لكنه يقول: أحسن وقت بدلاً من أن يجلس يذكر الله ويقرأ القرآن في المسجد، ويصلي ركعتين بعد شروق الشمس ويقوم بحجة وعمرة تامة تامة تامة، يذهب يفحط، فهذا نوع من الهوس والجنون، وإذا أردت أن ترى مجنوناً فانظر إلى مفحطٍ؛ لأنه يبحث عن الموت وهو في سلامة، ويمشي بسرعة قصوى والآخر يقابله بمثلها إلى أن يتقابلوا فلا يبقى بين الأول والثاني إلا شبراً، ثم يلف هذا يميناً والآخر شمالاً فتصيح كفرات الأول والثاني، والجمهور يصفق له، يصفقون للخبلان والمجانين! هذه -أيها الإخوة- أصناف الناس فأين نحن منهم؟ نسأل الله أن نكون من الصنف الأول فمن لم يكن في الصنف الأول فليلحق به، وينتقل من الأصناف الضائعة.(3/22)
أهمية استغلال العشر الأواخر من رمضان
العشر الأخيرة من رمضان ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخصها من العبادة والذكر بما لا يخص به غيرها من سائر أيام الشهر، وقد قالت عائشة رضي الله عنها في الصحيح: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان أيقض أهله، وأحيا ليله، وشد مئزره) شد مئزره، أي: انعزل النساء، وأيقض أهله، أي: لا يترك أحداً ينام، وأحيا ليله بالعبادة.
وقد أخذ العلماء من هذا مشروعية التهجد الذي يضاف إلى التراويح في العشر الأواخر من رمضان، فيصلي الناس التراويح أول الليل ثم يذهبون إلى البيت ليتناولوا شيئاً من الطعام أو يجلسوا مع أهلهم، وبعد ذلك يعودون إلى المساجد فيتهجدون ساعة ونصف أو ساعتين، وكلها عشر ليالٍ فلا نضيعها، فعلينا أن نغتنمها فإنها ستنتهي وسوف نندم إن فرطنا فيها.
والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(3/23)
الأسئلة(3/24)
حكم تصوير المحاضرات والندوات بالفيديو
السؤال
ذكرتم في ليلة من الليالي في هذا المسجد أن الشيخ عبد العزيز بن باز أفتاكم بجواز تصوير المحاضرات بالفيديو، ويقول الأخ: إنه سأل الشيخ عبد العزيز بن باز فأخبر أنه لا يذكر أنه قال هذا الكلام فما توجيهكم؟
الجواب
صدق الأخ، أنا قلت هذا الكلام في محاضرة الشيخ أحمد القطان، قلته حينما أتي بالجهاز لتسجيل المحاضرة، وسمعت كأن بعض الإخوة يشعر بحرج من وجود الكاميرا في المسجد وتصوير المحاضرة، فذكرت أنني قابلت سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أنا والشيخ عائض القرني، وكانت مقابلته في فصل الصيف في الطائف، وتناقشنا معه في أمور كثيرة متعلقة بالدعوة، وكان من ضمن هذه المسائل مسألة تصوير المحاضرات ونقلها في أشرطة الفيديو؛ لتكون بديلاً للناس في أجهزة الفيديو في بيوتهم لنقل الخير لهم؛ لأنه يحضر المحاضرة عدد محدود، لكن عندما تصور وتنقل يكون هذا فيه فضل كبير للناس، ومسألة التصوير وما يحصل فيها من إثم لعلها تكون ضرورة كما أبيحت ضرورة الحفيظة، فإن ضرورة الدعوة أعظم من أي ضرورة لنشر الخير، وللقضاء على الشر المتمثل في أشرطة الفيديو، وقد أفتى سماحته في ذلك اليوم بوجود الشيخ عائض القرني، فلما أخبروني الإخوان بأنهم كلموه فلم يتذكر هذا، اتصلت بسماحته وقلت له: يا شيخ عبد العزيز أتذكر أننا جئناك في الطائف أنا والشيخ عائض، وذكرته بالمجلس، فذكر المجلس وذكر كثيراً مما حدث فيه، لكني ذكرته بهذه القضية بالذات فقال: هذه لا أذكرها، حتى قال لي بنفس هذه الكلمات: والله يا محق لا أذكرها.
فضيلة الشيخ عبد العزيز بشر يجري عليه ما يجري على البشر، أما أنا والشيخ عائض فنحن شاهدان، لكنه عندما قال لي هذا الكلام قلت: إذاً سأسحب هذه الفتوى عنك، قال: نعم.
ولهذا من سمعها عني وأنا أنقلها عن الشيخ فهي لاغية عن الشيخ؛ لأن الشيخ لا يذكرها، أما كوني أعتقدها أنا أو غيري من العلماء فنحن نقولها بناءً على ما وصل إليه علمنا، فإن كنا مصيبين فالحمد لله، وإن كنا مخطئين فنستغفر الله عز وجل من كل ذنب وخطيئة.
والحمد لله رب العالمين.(3/25)
النهر الجاري
تحدث الشيخ حفظه الله تعالى في هذه المحاضرة عن أهمية الصلاة ومكانتها في الإسلام وعظيم قدرها، سارداً الأدلة على ذلك، ثم بيّن حكم تاركها سواء كان تكاسلاً أو جحوداً وإنكاراً، وأعقب ذلك بالحديث عن كيفيتها وأحوال الناس فيها من حيث الصحة والمرض وأنها لا تسقط إطلاقاً بخلاف بعض العبادات، وقد تطرق في حديثه إلى كيفية الوضوء، والغسل، والتيمم، وكذلك تحدث عن صلاة الجنازة، وغسل الميت.(4/1)
أهمية الصلاة ومكانتها في الإسلام
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأسعد الله هذه الوجوه الطيبة، وجمعنا الله وإياكم في الدنيا على طاعته وفي الآخرة في دار كرامته ومستقر رحمته.
أيها الإخوة في الله: نظراً لأهمية الصلاة ولمكانتها في الإسلام، حيث أنها أعظم أركان الإسلام وآكدها بعد الشهادتين، بل هي عمود الدين، وقد ورد في حديثين صحيحين -الحديث الأول في صحيح البخاري وصحيح مسلم - قوله عليه الصلاة والسلام: (بني الإسلام على خمس -يعني على خمس أركان وذكر منها- وإقامة الصلاة).
وجاء النص على أنها عمود الدين في حديث صحيح عن معاذ بن جبل رضي الله عنه رواه أهل السنن، قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أخبرني بعملٍ يدخلني الجنة ويباعدني عن النار -فأخبره- ثم قال: ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله) وهي من الدين بمنزلة الرأس من الجسد.
هل يبقى جسد إذا قطع الرأس؟ هل تبقى حياة بعد قطع الرأس؟ لكن لو قطعت اليد تبقى الحياة في الجسد، وكذا لو قطعت الرجل، لكن لو قطع الرأس، لم تبق هناك أي حياة.
ولهذا الآن في الطب الحديث زرع الأعضاء، إذا انقطعت إصبعك ردوها، وإذا انقطعت يدك ردوها، وإذا خربت كليتك زرعوا لك كلية ثانية، وإذا خرب القلب يأتون لك بقلب ثانٍ، لكن إذا قطع رأسك هل يزرعون لك رأساً؟! هنا لا ينفعك شيء.
الصلاة من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا تركت الصلاة ترك الدين وكفر، وليس شيءٌ في الإسلام تركه كفرٌ إلا الصلاة.(4/2)
حكم تارك الصلاة
لقد بين العلماء الحكم الشرعي لتارك الصلاة أنه كافر بالإجماع إذا تركها جحوداً، وكافر في أصح قولي العلماء إذا تركها تهاوناً؛ لأن التفريق بين الترك الجحودي والترك التهاوني لا مجال له، فالحديث في صحيح مسلم: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) ما قال: تركها جحوداً، والحديث الثاني في سنن أبي داود وفي مسند الإمام أحمد وهو صحيح عن بريدة رضي الله عنه وهو ابن الحصيب صحابي جليل روى مائة وخمسين حديثاً وهو من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم إذا غزا يستخلفه على المدينة، هذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر).(4/3)
أدلة كفر تارك الصلاة
كفر تارك الصلاة يأتي من الأدلة الشرعية من كتاب الله ومن سنة رسول الله، وكلام الصحابة ومن كلام التابعين، ومن النظر الشرعي الصحيح، فأما من القرآن فقوله عز وجل: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] فالله علق أخوتهم على إقامة الصلاة، إذ أن الأخوة لا تنتفي عن المسلم بارتكابه لمعصية، ولكن إذا ارتكب كفراً انتهت الأخوة، ولا أخوة بين مسلمٍ وكافر.
أيضاً يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين: الحديث الأول في صحيح مسلم: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) ويقول في السنن وهو صحيح عن بريدة: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر).
أما من كلام الصحابة فيقول عمر رضي الله عنه لما طُعن: [الله الله في الصلاة] ثم قال: [أما إنه لا حظ في الإسلام لمن أضاع الصلاة] هذا كلام عمر رضي الله عنه.
يقول: (لا حظَّ) أي: لا نصيب في الإسلام لمن أضاع الصلاة.
وقال عبد الله بن شقيق: [ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون شيئاً تركه كفرٌ إلا الصلاة].
أما النظر الصحيح فإنه لا يُعقل أبداً أن يُقال لرجلٍ: صلِّ وهو يعرف منزلة الصلاة في الإسلام وتأكيد الله عليها في القرآن وفي السنة، ثم يتركها -لا يمكن أن يكون مؤمناً، كيف يكون مؤمناً وهو يقول: لا أصلي، إنه غير مسلم بتركه للصلاة.
ولذا نلمس أهميتها في القرآن فقد وصف الله أهل الإيمان وجعل الصلاة القاسم المشترك بين جميع الصفات من سورة البقرة إلى الناس، فما ذكر الله أهل الإيمان ووصفهم إلا وأبرز صفاتهم وأهم مميزاتهم الصلاة، ففي أول البقرة يقول عز وجل: {ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [البقرة:1 - 3].
وفي أول الأنفال يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} [الأنفال:2 - 4] وقد صدرت الآية بأداة الحصر (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) أي: لا يُمكن أن يكون مؤمناً إلا من توفرت فيه هذه الصفات المحصورة بأداة (إنما).
ويقول عز وجل في سورة التوبة: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة:71].
ويقول عز وجل في أول سورة المؤمنون: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2] ثم ينتهي بالصفات ويختم ويقول: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9].
ويقول عز وجل في وصف المخبتين: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج:34 - 35].
ويقول عز وجل في سورة المعارج: {إِنَّ الْإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:19 - 23] وفي النهاية قال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:34 - 35].
وقد وصى الله عز وجل بها في سورة إبراهيم، فقال عز وجل: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم:31] فهذه وصية الله للذين آمنوا، ولقمان يوصي ولده ويقول: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17] والله عز وجل يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود:114 - 115].
والأمر بالصلاة في القرآن شيءٌ متتابع ومتواتر، وقد بين الله في كتابه العزيز أنه ما من أمةٍ وما من نبيٍ بعث إلا وقد أُمر أن يبلغ أمته إقامة الصلاة، فإلى جانب الأمر بتوحيد الله فلا بد من إقامة الصلاة، ولا يوجد نبي إلا عنده صلاة لأمته، وإن اختلفت في الأداء، لكنها تتحد في أنها صلاة.
فهي شعيرة من شعائر الله العظيمة، يقول الله عن إبراهيم وقد جاء بهاجر وإسماعيل إلى مكة أنه قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم:37] وقال في دعائه: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم:40] ويثني الله على إسماعيل فيقول: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إسماعيل إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:54 - 55].
ويقول الله مخاطباً للرسول صلى الله عليه وسلم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].
ويقول لموسى حينما حصل له اللقاء مع الله عز وجل في الليل: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14].
وقال عن عيسى لما أتت به أمه تحمله {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} [مريم:27 - 29] يعني: يكلموه؛ لأنها قد نذرت لله صوماً، وصومهم كان الإمساك عن الطعام والشراب والكلام {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} [مريم:30 - 34] هذا القول الفصل الحق الذي فيه يمتري النصارى حين يجعلون عيسى ابن الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا.
إن عيسى يتحدث عن نفسه في أول كلمة وينسف فيها عقيدة ألف مليون نصراني الآن على الأرض كلهم يدعون ويعتقدون أن عيسى ابن الله، وعيسى أعرف منهم بنفسه فيقول: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} [مريم:30].
فالصلاة عظيمة القدر، وكل عبادة تسقط عن الإنسان في بعض الأحوال إلا الصلاة.
فالزكاة تسقط عنك إذا كنت معدماً، وليس عندك مال: أو تسقط عنك إذا عندك مال لم يبلغ النصاب، أو تسقط عنك إذا عندك مال بلغ النصاب لكنه ما حال عليه الحول.(4/4)
الصلاة لا تسقط حتى عن المسافر والمريض
الصوم يسقط عنك إذا كنت مريضاً أو مسافراً، ثم تقضيه، وإذا استمر معك مرضك فإنه يسقط عنك وعليك الإطعام، وإذا كنت مريضاً لا يُرجى برؤك ولا تستطيع الإطعام يسقط عنك! لإطعام والصيام، مع أن الصيام ركن من الأركان.
والحج ركنٌ لكنه يسقط عنك إذا لم يتوفر لك أمن الطريق ولم تجد الزاد أو الراحلة.
فكل شيء يسقط إلا الصلاة، أما الصلاة فلا تسقط عنك، إن كنت معافى فصلِّ قائماً، وإن كنت مريضاً فصلِّ قاعداً، وإن كنت لا تستطيع أن تصلي قاعداً فصلِّ مستلقياً أو على جنبك، وإن كنت لا تستطيع أن تصلي بأي طريقة فصلِّ بطرفك، أي: أومئ إيماء بعينك، فما دام عقلك موجوداً فلا بد أن تصلي، وسوف نعلمكم إن شاء الله كيف يصلي المريض.
وصلِّ وأنت مسافر وأنت مقيم صلِّ وأنت في الحرب وأنت في السلم، لا تسقط عنك الصلاة بحالٍ من الأحوال.
إذا كنت مريضاً ولا تستطيع أن تتوضأ فتيمم وإذا لم تستطع أن تتيمم فصلِّ بغير تيمم، إذا كانت ثيابك طاهرة فالحمد لله، فإذا لم تكن طاهرة فغيرها، وإذا لم يكن عندك من يغير لك ثيابك فصل بثيابك غير الطاهرة، فإن الله عز وجل لا يكلفك إلا ما تستطيع، المهم أنك تصلي.
إذا كان سريرك متوجهاً إلى القبلة فالحمد لله، وإذا لم يكن إلى القبلة فصلِّ إلى أي جهة: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] فالصلاة منزلتها عظيمة.
الصلاة هي العبادة الوحيدة التي فرضت على الرسول صلى الله عليه وسلم في السماء، كل تكاليف الشرع فرضت على الرسول في الأرض، ولما جاءت الصلاة استدعي النبي صلى الله عليه وسلم وأسري به من بيت الله الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عرج به إلى سدرة المنتهى وفرُضت عليه خمسون صلاة وما زال يراجع ربه حتى بقيت خمساً في العدد ولكن الله ذو فضلٍ عظيم قال: (لا يُبدل القول لدي هي خمسون في الأجر وخمس في الأداء) أهذه نعمة أم لا يا إخواني؟ فهل نضيعها بعدما رحمنا الله إلى أن جعلها خمساً؟ ولو جعلها الله خسمين، ماذا يسعنا؟ هل نتمرد؟ والله ما لنا إلا نصلي، ولو خمسين صلاة في أربعة وعشرين ساعة، بمعنى أنك في كل نصف ساعة تصلي صلاة، لكن الله رحمك وخفف عنك وجعل لك الأجر كاملاً والأداء قليلاً، تؤدي خمساً وتأخذ على الخمس خمسين صلاة.(4/5)
الأحكام الشرعية المترتبة على ترك الصلاة
هذه الصلاة -أيها الإخوة- منزلتها عظيمةٌ في دين الله، ولكننا نلمس ونرى من يتهاون بها، ويتركها، وتركها كفرٌ يترتب عليه أحكامٌ شرعيةٌ سبعة:(4/6)
تارك الصلاة لا يتزوج مسلمة
الحكم الشرعي الأول: أن تاركها لا يجوز أن يُزوج من المسلمات، فإذا جاءك من يخطب عندك فاسأل وابحث في المسجد هل هو يصلي؟ إذا قالوا: يصلي فهو مسلم، وإذا سألت وقالوا: لا يصلي فلا تفكر فيه ولا تبالِ به فهو كافر، فكيف تزوج كافراً؟ إذا جاءك يهودي أو نصراني وأعطاك عشرة مليون ريال وقال: أنا ديانتي يهودية لكن أُعطيك عشرة مليون ريال على أن تزوجني ابنتك؟ هل تزوجه؟ والله لو يعطيك ألف ألف مليون وأنت مسلم لا تزوج يهودياً ولا نصرانياً، وتارك الصلاة كافر وألعن من اليهودي والنصراني، فاليهودي والنصراني له أحكام شرعية في دين الله أخف من المرتد والكافر، وسأبينها لكم إن شاء الله.
فنقول: أولاً: لا يصح أن يُزوج، فإن عقد له وهو لا يصلي فالعقد فاسد والنكاح باطل؛ لقول الله عز وجل: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] فلا يجوز ذلك، وإذا علمت أن هذه مؤمنة لا ترجعها لكافر، فلا هي تحل له ولا هو يحل لها، وهذه نزلت في سورة الممتحنة لما جاءت المؤمنات يبايعن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] هذا أول حكم من أحكام تارك الصلاة.(4/7)
تارك الصلاة يفسخ نكاحه من المسلمة
الحكم الثاني: إذا عقد له وهو يصلي -كان يصلي وكان مسلماً- ولكن بعد أن تزوج وأصبحت المرأة في عصمته ترك الصلاة، فما الحكم؟ إذا ترك الصلاة فسخ النكاح دون الحاجة إلى طلاق؛ لأن الطلاق للمسلم أما الكافر فماذا يطلق؟ لا طلاق له وإنما ينفسخ النكاح، ولا تحل له الزوجة، ولا يجوز لها أن تبقى ليطأها، فإذا وطئها فإنما كافرٌ يطأ مؤمنة، ولا يجوز لوليها -أبيها أو أخيها- إذا علم أن زوجها لا يصلي لا يجوز له أن يدعها في بيته، فإذا رضي فإنما يرضى أن يُزنى ببنته أو أخته، ومن يرضى بهذا؟! كافر تدعه يزني بعرضك؟! لا إله إلا الله! لا يجوز {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141] الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، فلا يجوز أن يعلو كافر على مسلمة، هذا الحكم الثاني.(4/8)
تارك الصلاة لا يحل له أن يدخل مكة
الحكم الثالث: لا يحل له أن يدخل مكة المكرمة، فلا يجوز لك يا تارك الصلاة أن تأتي إلى مكة وتدخلها، أما ترون إذا دخلتم مكة رأيتم لوحة مكتوب فيها: (ممنوع الدخول لغير المسلمين) ويوجد طريق اسمها طريق الخواجات وهي طريق الكفار أصلاً؟ فإذا جاء تارك الصلاة يريد أن يدخل مكة ليذهب إلى جدة نقول: قف من فضلك! اذهب مع إخوانك اذهب مع الخواجات مع اليهود والنصارى ولا تدخل مكة.
فهو يحرم عليه دخولها، وإذا دخل فعليه من الله ما يستحق؛ لأن الله قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] حرم الله على الكافر أن يقرب المسجد الحرام وهي حدود الحرم، ليس المسجد الحرام بالذات، وإنما حدود الحرم، وحدود الحرم إذا جئت من جدة: الشميسي، وإذا جئت من الطائف: عرفة، وإذا جئت من المدينة: مسجد عائشة، فهذه حدود الحرم، والحرم شيء والمواقيت شيء آخر، فهو خارج الحرم، لكن حدود الحرم لا يجوز لكافرٍ أن يتجاوزها وأن يدخلها، ولا يجوز لتارك صلاة أن يدخلها.(4/9)
تارك الصلاة لا تؤكل ذبيحته
الحكم الرابع: لا تؤكل ذبيحته، إذا ذبح ذبيحة فهي محرمة رغم أنه يجوز أن تأكل ذبيحة اليهودي والنصراني، فلو جئت عند يهودي أو نصراني ذبح ذبيحة وتارك للصلاة ذبح ذبيحة، فمن تأكل ذبيحته؟ ذبيحة اليهودي والنصراني حلال؛ لأن الله يقول: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة:5] لكن المرتد المشرك الكافر لا يجوز أن تأكل ذبيحته، فهو ألعن عند الله من اليهودي والنصراني، يعني هو أشد من اليهودي والنصراني.
هذا هو الحكم الرابع.
والناس لا يفهمون هذا الكلام، يتصورون أن القضية بسيطة، فتجده يقول: تارك الصلاة الله يهديه، ثم يجلس معه في البيت ويأكل ويشرب معه ويصرف عليه وهو كافر، بل بعض الآباء الآن لا يستطيع أن يقول لولده: صلِّ، لماذا؟ لأن ولده موظف، وهو ينفق عليه، ويخاف أنه إذا قال لولده صلِّ أن يغضب ولا يعطيه مالاً، من رزقك قبل ولدك؟ إن ولدك هذا هو جزء من الرزق من الله فكيف تعتمد عليه من دون الله؟ لا إله إلا الله! ما أقل عقيدة الناس وما أضعفها إلا من هدى الله!(4/10)
تارك الصلاة لا يرث ولا يورث
الحكم الخامس: إن تارك الصلاة إذا مات فإنه لا يرثه أحد، وإذا مات أحد من أقاربه فلا يرث مع الورثة، لو أن رجلاً مات وترك أربعة من الأولاد ثلاثة منهم يصلون والرابع تارك للصلاة كيف تقسم التركة؟ تقسم على الثلاثة المصلين أما ذاك فليس له فيها شيء، والحديث متفقٌ عليه في صحيح البخاري وصحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام: (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم) (لا يتوارث أهل ملتين) هذا كافر وهذا مسلم.
لو أن رجلاً مات وترك ولداً لا يصلي وولد أخٍ يصلي، فمن يرثه؟ يرثه ذو العصبة البعيد وهذا ولده من صلبه لا ميراث له؛ لأنه كافرٌ لا يرث في مال مسلم، هذا الحكم الخامس.
ولكن هل هذا الكلام يُطبق الآن؟ إنهم لا يلتفتون لهذا الكلام، وهذه أحكام شرعية ثابتة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن الناس في غفلة عنها.(4/11)
تارك الصلاة لا يغسّل، ولا يكفّن، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين
الحكم السادس: أنه إذا مات لا يُغسل، ولا يُكفن ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مدافن المسلمين، ولا يُحمل على الرقاب.
فيحرم عليك إذا مات ولدك أو أخوك وأنت تعرف أنه تارك للصلاة أن تغسله أو تكفنه أو تأتيك مجاملة ومداهنة وتقول: إنني لا أريد أن أكشف نفسي وأفضح ولدي ونتركها على الله، لا.
ولا يجوز أن تدعو المسلمين ليصلوا عليه، كيف يصلون على كافر؟! ولا يجوز لك أن تخدع وتغش المسلمين فتقول: اقبروا ولدي مع المسلمين، هل يجوز الآن أن تقبر يهودياً في مقابر المسلمين؟ كيف يجوز أن تقبر ولدك وهو كافر لا يصلي مع المسلمين؟! لا يجوز هذا.
فلا يُحمل على الرقاب، وإنما يُحمل على أي وسيلة بالأيدي، وقال بعض أهل العلم: يُسحب كما تُسحب الدابة أو الحمار ثم يُذهب به إلى الصحراء ثم يُحفر له حفرة في الأرض إلى غير قبلة؛ لأنه ليس من أهل القبلة أصلاً، ثم يكب على وجهه في ملابسه، من غير غسل ولا تكفين ولا صلاة ولا توجيه للقبلة، وإنما يُكب على وجهه؛ لأنه سيرد النار وهو مكبوبٌ على وجهه، {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء:97] {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48].(4/12)
تارك الصلاة لا يجوز الاستغفار له
الحكم السابع: أنه لا يجوز الاستغفار له ولا الدعاء له، لا يجوز لك إذا مات الولد أن تقول: رحمة الله تعالى عليه الله يغفر له الله يسكنه الجنة وأنت تعرف أنه تارك للصلاة؛ لأن الله تعالى يقول في محكم التنزيل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] فإذا كان مشركاً أو كافراً مرتداً عن دين الله بتركه للصلاة لم يجز لك أن تستغفر له، وإذا سمعت أحداً يقول: الله يغفر له، فقل له: لا تستغفر له، فهذه الأحكام الشرعية هي التي يجب أن نراعيها في التعامل مع تارك الصلاة؛ إلا ما دمنا ندعوه، أما إذا كنا في طور الدعوة معه والجذب فإننا نصبر عليه حتى نحدد موقفاً معه، فإما أن يستجيب ويسلم ويصلي وله ما لنا وعليه ما علينا، وإما أن يحدد موقفه ويقول: لا أصلي، فهنالك ينبغي المفاصلة والبراءة منه، والتعامل معه على ضوء هذه الأحكام، لا يُؤاكل، ولا يُشارب لا يُجالس، ولا يُزار إذا مرض، ولا تتبع جنازته إذا مات، ولا يُشمت إذا عطس، كل الأحكام هذه تنتفي عنه؛ لأن هذه هي اسمها حقوق المسلمين، فأما الكافر فلا حق له، له حقوق معروفة نعطيه إياها، لكن المرتد عن دين الله فليس له ما للمسلمين.
هذه أحكام تارك الصلاة، أيها الإخوة: ولكنَّ كثيراً من العوام بل حتى المتعلمين يخفى عليهم الأداء الشرعي للصلاة، إذ أننا نرى تبايناً كبيراً وفروقاً ظاهرةً في أداء بعض المسلمين للصلاة، وأضرب لكم على هذا مثالاً بسيطاً: تقف في المسجد وتشاهد الناس يصلون فتجد فروقاً كثيرة في وضع اليدين، وهذا كمثال، فتجد واحداً يسبلها، وآخر يضعها تحت سرته، وآخر يضعها على بطنه، وآخر يضعها على صدره، وآخر يضعها على نحره، وآخر يضعها على قلبه، وبعضهم عنده علم وبعضهم ليس عنده علم، هذا الذي على قلبه يقول: كي لا يطير قلبي فأنا أقبضه، والثاني الذي يسبلها مرة يقول أنها ما ثبتت، لأن الإمام مالكاً كان يصلي وهو مسبل، نقول له: لا.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي ويده اليمنى على اليسرى على صدره، وأنت مأمور باتباع الرسول ولست مأموراً باتباع الإمام مالك، والإمام مالك رحمه الله نص في كتابه الذي هو عمدة مذهبه موطأ مالك على أن اليدين تُقبض على الصدر، ولا دليل لمن يُسبلها، هذا التباين يجعلك تفكر في أنه لا بد من توضيح الكيفية الصحيحة الشرعية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أداء الصلاة، وقد لمست هذه الحاجة من كثيرٍ من الإخوة القائمين والذين يمارسون بيع الشريط الإسلامي، يتصلون بي كثيراً ويقولون: يوجد كثير يقولون نريد شريطاً كيف يصلي المسلم، يوجد عوام، ويوجد أناس لا يعلمون، يريد أن يسمع الشريط ويعرف كيف يصلي حتى آخر الصلاة، فآثرت أن تكون هذه الليلة رغم أنها ليست في الدروس المنتظمة في العقيدة، لكن لأهمية الصلاة آثرت أن تكون هذه الليلة عن كيفية الصلاة في دين الله عز وجل.(4/13)
كيفية الوضوء
قبل الصلاة هناك مفتاح اسمه الوضوء أو الطهارة، وإذا جئت إلى الصلاة بغير المفتاح -الوضوء- ما فتحت لك الصلاة، فقبلها لا بد أن تتطهر، والوضوء هو طهارة واجبة أوجبها الشرع من الحدث الأصغر، والحدث الأصغر كالبول والغائط والريح والنوم العميق وأكل لحم الإبل وغير ذلك، هذه نواقض الوضوء إذا حصل لك منها ناقض لزمك أن ترفع الناقض وتستوجب الطهارة بالوضوء الشرعي.
وأيضاً هناك الغسل: وهو طهارة واجبة من الحدث الأكبر وهو الجنابة التي تأتي عن طريق الاحتلام أو الجماع أو الاستمناء أو عن طريق الجهد والإيلاج ولو لم يمنِ، فإذا جامع الشخص ولم يمن وجب عليه الغسل بعد الإيلاج، وتأتي عن طريق الحيض وعن طريق النفاس، فهذه اسمها حدث أكبر، فالجنابة والحيض والنفاس ترفع بالغسل.
أما كيفية الوضوء فهو أن ينوي الوضوء بقلبه بدون تلفظ؛ لأن التلفظ بالنية في سائر العبادات غير الحج والذبح (الأضحية) بدعة لم تثبت، فتنوي -يعني تستحضر في قلبك- أنك ذاهب تتوضأ، ولو توضأت بغير نيةٍ قلبية فوضوءك فاسد، فالنية مطلوبة لكن من غير تلفظ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينطق بها في وضوئه ولا في صلاته ولا في شيءٍ من عباداته؛ ولأن الله يعرف ما في قلبك فلا داعي أن تخبر بما فيه، فلا داعي أن تقول: وقفت ونويت أصلي صلاة المغرب ثلاث ركعات فتقبلها مني.
فقد علم ربك أنك ستصلي، فاستحضرها بقلبك بدون إشهاد.
وبعد النية يسمي الله ويقول باسم الله.
ونحن نعني بالوضوء الذي بعد الاستنجاء، ولا ينبغي أن تخلطوا بين الوضوء والاستنجاء، فالاستنجاء شيء ليس له علاقة بالوضوء، فهو منفصل عن الوضوء وعن الصلاة.
والاستنجاء هو غسل محل الخارج من السبيلين بالماء، والاستجمار هو إزالته بالحجارة.
فأنت إذا خرجت الآن بعد صلاة العشاء ودخلت الحمام ألست تستنجي؟ بلى، تستنجي ولو لم ترد صلاةً.
فنحن نتكلم الآن عن الوضوء الذي تريد به أن تستبيح الصلاة وأن تدخل في الصلاة فبعد أن تنوي تسمي الله، ثم تغسل يديك ثلاث مرات، وإذا كان تحت الصنبور فلتغسلها بما يوازي الثلاث مرات.
ثم تتمضمض وتستنشق ثلاث مرات، إن شئت تمضمضت مضمضة منفصلة عن الاستنشاق ثلاثاً واستنشقت ثلاثاً وإن شئت جمعت بين المضمضة والاستنشاق مرةً واحدةً ثم ثانية ثم ثالثة، فالصورتان واردتان.
ثم بعد ذلك تغسل وجهك ثلاث مرات، وحدود الوجه من الأذن إلى الأذن عرضاً، ومن منابت شعر الرأس إلى أسفل اللحية طولاً، تغسله ثلاث مرات.
ثم تغسل يديك إلى المرفقين، وحدود اليد من رأس الأصبع إلى المرفقين، فتغسلها ثلاث مرات، تبدأ باليمنى ثم تغسل اليسرى، ولو بدأت باليسرى فلا يصح، لا بد أن تبدأ بيمينك في غسلها من رأس بنانك إلى آخر المرفق.
ثم بعد ذلك تمسح رأسك مرةً واحدةً، فكل ما سيق يكرر غسله ثلاث مرات إلا مسح الرأس فإنه مرةٌ واحدة، تبل يديك ثم تنثرهما ثم تمرهما من مقدم رأسك إلى مؤخره ثم تعود بهما من مؤخره إلى مقدمه، هذا هو الثابت الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم تنتقل إلى أذنيك فتمسحهما مرةً واحدةً، إن شئت بما بقي من بلل يديك بعد مسح رأسك، وإن شئت بماءٍ جديد تبل يديك ثم تنثرها ثم تدخل إصبعيك السبابتين في صماخ الأذنين وتمسح بإبهامهما ظاهر الأذنين، تديرهما على الظاهر، السبابتين في الصماخين، والإبهام في ظاهر الأذن.
ثم بعد ذلك تنتقل إلى قدميك وتغسلهما ثلاث مرات من رءوس أصابعهما إلى أعلى الكعبين تبدأ باليمنى ثم تنتهي باليسرى.
وتكون بهذا توضأت الوضوء الشرعي الثابت الصحيح في جميع الروايات؛ لأن هذه المعلومات مقتبسة ومنتقاة مما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد ذلك تستقبل القبلة وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الأول ثبت في الصحيحين والثاني ثبت في السنن، وفيه مقال لكنه يُحتج به ويُعمل به، وإذا قلت هذا الدعاء بعد الوضوء حصل لك ثواب، وقد جاء في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل منها أيها شاء) وفي الحديث الصحيح الآخر قال: (إذا توضأ المسلم فتمضمض فغسل يديه خرج مع آخر قطر الماء كل خطيئة مستها يده، فإذا تمضمض خرج مع آخر قطر الماء كل خطيئة قالها بلسانه، فإذا غسل وجهه خرج مع آخر قطر الماء كل خطيئةٍ مستها عينيه أو أذنيه أو يديه أو رجليه حتى يخرج من الوضوء ولا ذنب له) هذا فضلٌ عظيم لا يفوت إلا محروماً -والعياذ بالله-.(4/14)
كيفية الغسل
أما الغسل من الجنابة أو الحيض أو النفاس فكيفيته أن ينوي بقلبه بدون تلفظ، فإن كان مكان الاغتسال ليس فيه كرسي حمام فيسمي وهو موجود فيه، أما إذا كان سيغتسل في الحمام الذي فيه كرسي حمام فيسمي قبل الدخول؛ لأنه لا يجوز أن يذكر الله داخل الحمام الذي فيه التغوط والتبول.
بعد ذلك يتوضأ وضوءه كاملاً، بعد أن يستنجي ويزيل القذر يغسل يديه ويتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه ويغسل يديه ويمسح برأسه ويغسل رجليه.
ثم يحثي الماء -أو باستخدام الصنبور- على رأسه حتى يرويه، ثلاث مرات إن كان يفيضه، أو إرواء عن طريق الصنبور، ثم يغسل سائر بدنه، ويعمم بدنه.
ويكون بهذا قد انتهى من الوضوء ومن الغسل فإن مس أثناء الغسل عورته انتقض وضوءه ولزمه بعد الفراغ من الغسل أن يتوضأ، أما إذا لم يمس شيئاً من ذلك اكتفى بذلك.(4/15)
صفة التيمم وشروطه
إذا عدم الماء أو وجد الماء ولا قدرة على استعماله كالمحروق الذي لا يستطيع أن يغتسل أو يتوضأ فإن الله عز وجل رفع الآصار عن هذه الأمة، وشرع لنا بدلاً يسيراً سهلاً متوفراً وهو التيمم، والأولون ما كان عندهم هذا اليسر، ما كانت تُقبل الصلاة إلا في المكان المخصص للعبادة، وإذا انتقض وضوءُ الإنسان بنجاسةٍ وقعت بالثوب فلا يكفيه الغسل، بل لابد أن يقطع الثوب، وإذا وقعت النجاسة على الجسد فلا يكفي الغسل، بل لابد من سلخ الجلد، وإذا أذنب وأراد أن يتوب لا تقبل التوبة إلا أن يقتل نفسه: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54] لكن في ديننا رفع الله عنا الآصار والأغلال، ويسّر علينا هذا الدين، ومن ضمن هذا اليسر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن نبيٌ قبلي -ومن ضمنها- قال: وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأينما أدركتكم الصلاة فصلوا) وإذا عدم الماء فتيمموا.
ومعنى أدركتك الصلاة أي: وأنت في سفر في صحراء في فلاة أما إذا كنت في البيت فلابد أن تجيب، كيف تصلي في البيت وأنت رجل، لا تصلي في البيت إلا المرأة، أما الرجال فقد قال الله عنهم في القرآن الكريم: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:36] من؟ {رِجَالٌ} [النور:37] بمعنى أن الذي يصلي في البيت انتفت عنه صفة الرجولة، صحيح أنه ذكر، لكن الذكورة شيء والرجولة شيء، فالحمار ذكر، والكلب ذكر، لكن الرجولة مفاهيم إسلامية، أولها إقامة الصلاة في المسجد.
وأما الصلاة في البيت فلا تحل للرجل أبداً إلا من عذرٍ شرعيٍ سنوضحه إن شاء الله.
إذا عدم الماء أو عجز عن استعماله فإنه يتيمم، وكيفية التيمم أن ينويه، ثم يضرب على الأرض أو على الصعيد -التراب الذي له غبار- ضربة واحدة براحتيه ويمسح وجهه وكفيه -والكف ظاهر اليد- ثم تمسح بهما وجهك، فإذا وجد الماء وقد صلى لا يعيد الصلاة التي صلاها، لكن إذا وجد الماء ينبغي أن يتوضأ، أما إذا وجده بعد تيممه وأدائه للصلاة فقد استباحها بما أباحه الله له.(4/16)
الصلاة وكيفيتها
الصلاة وكيفيتها: أولاً: ما هي الصلاة؟ التعريف الشرعي للصلاة: هي عبادة مخصوصة تؤدى في أوقاتٍ مخصوصة، وهي عبارة عن أقوال وأفعال أولها التكبير وآخرها التسليم.
وإذا أراد العبد الصلاة فإنه يجب عليه -أولاً- أن يتوضأ من حدثٍ أصغر أو يغتسل من حدث أكبر أو يتيمم إذا عدمت القدرة على استعمال الماء أو انعدم وجوده.(4/17)
الصلاة في المسجد جماعة
أولاً: أن يصلي في المسجد إذا كان رجلاً، إذ لا تقبل الصلاة في غير المسجد إلا من عذر، وقد كنت أراجع المسألة هذه وأقرأ كلام أهل العلم في حكم صلاة الجماعة، فقرأت كلاماً نفيساً لشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الاختيارات الفقهية أكد فيه على أن حضور الجماعة شرطٌ في صحة الصلاة، وأنه لا تُقبل صلاة إنسان يُصلي في غير المسجد من غير عذرٍ شرعي.
يعني أنت معافى في بدنك وآمن وتسمع الأذان ويُقال لك: قم، تقول: لا.
أنا سوف أصلي هنا، لماذا والحديث الذي في صحيح البخاري وصحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام فيه: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتُقام ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ثم أنقلب إلى رجالٍ لا يشهدون الصلاة في المسجد فأحرق عليهم بيوتهم بالنار لولا ما فيها من الذراري والنساء)، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يحرق على ترك سنة، ولا يحرق إلا على ترك واجب وأمر عظيم، ولكن منعه من التحريق وجود من لا تجب عليه الجماعة في البيوت وهم النساء والذرية وسوف يتضررون بتحريق البيوت؟ وفي صحيح مسلم عن ابن مسعودٍ قال: [من سره أن يلقى الله غداً مسلما فليحافظ على هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى؛ وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيت الرجل منا يهادى بين رجلين حتى يقام في الصف، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق]-والعياذ بالله- والله يقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] وأهل النار المجرمون وهم في النار إذا قيل لهم من قِبَلِ أهل الإيمان: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43] ما قالوا لم نكُ نصلي، فربما كانوا يصلون لكنهم ما كانوا من المصلين، والله يقول: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] والله يقول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:36 - 37].
فلا بد أن تصلي في المسجد إلا من عذر، والعذر الشرعي محدد: - خوف، أي: تخاف إذا خرجت ألا تصل إلى المسجد، كأن تقتل، وهذا غير موجود في مجتمعنا، والحمد لله على نعمة الأمن والأمان والاستقرار، فهذه نعمة يجب أن نشكر الله عليها، ولو خررنا ساجدين لله من الآن إلا أن نموت ما شكرنا هذه النعمة وحدها فقط، فكيف بالنعم الأخرى؟ فهذه النعمة ليس لها مثيل أبداً؛ لأن الله ذكرها فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً} [النحل:112] فأنت آمن، بيتك مفتوح وتنام، فبعض الناس ينام وقد نسي بيته مفتوحاً، أو سيارته مفتوحة، لكنه آمن على ماله، وآمن على عرضه، وآمن على نفسه، وآمن على كل شيء.
وهذه نعمة ليست موجودة في كثير من بلدان العالم المتطورة، فبعضهم هناك لا يأمن على علبة السجارة في جيبه، وإذا خرج من مكان يتعامل فيه بالفلوس مثل البنك يحسبون العلبة مالاً فيلحقونه ويذبحونه ويأخذون العلبة وإذا ليس فيها شيئ.
أو مريض لا تستطيع أن تقوم، أما إذا استطعت أن تقوم وتنادي واحداً من أولادك أو من جيرانك ليعينك على المشي فإن الله يعينك؛ لأن في الصلاة عافية، من الناس من يمرض مرضاً بسيطاً ولكن الله عز وجل يعينه ليأتي يصلي فيعطيه الله العافية بتردده على المسجد، تجده يأتي يصلي الظهر وهو متعب كثيراً لكن يسمع الأذان فيسحب نفسه ويأخذ عصاة ويأتي، ولا يرجع من المسجد إلا وقد شرح الله قلبه وعافى جسده ورد له عافيته، ثم يأتي العصر فتجده يأتي وهو يسحب نفسه، ثم يعود وهو معافى، هذا إذا كان بإمكانه، لكن إذا لم يستطع لأنه مريض فهناك يعفو الله عنه ولا يكلفه الله إلا ما استطاع.
- أو غفل شخص، كأن يكون من عادته دائماً أن يصلي في المسجد ولا يمكن أن يصلي في غير المسجد، لكن في مرةٍ من المرات النادرة جاء من سفر أو سهر أو مرض ونامت عينه وما استيقظ، أو ضبط الساعة ولم تنبه، أو دق عليه أبوه وما انتبه، فهو لم ينتبه إلا وقد فاتته الصلاة فتألم وتندم وتأسف وتقطع قلبه، وقعد يراجع نفسه ثم صلى وهو نادم وتائب ومستغفر، فهذا نقول: نسأل الله أن يغفر له.
لكن شخصاً يسمع الأذان ويقول: لا.
سأصلي هنا، خاصة إذا كان يشاهد مسلسلاً أو مباراة يقال لهم: يا أولاد! قوموا صلوا فيقولوا: لا نريد أن تفوتنا يا شيخ! لا إله إلا الله! تفوت طاعة الله في الجماعة في المسجد وتجلس على هذا الشيء التافه، هذا من قلة عقل الإنسان -والعياذ بالله-.
فيأتي الرجل إلى المسجد ويكون مجيئه مبكراً، يعني مع أول الوقت، فلا يجلس إلى أن تُقام الصلاة ثم يحضر؛ لأنه من أتى الصلاة دباراً -والعياذ بالله- يوشك أن يدبر عنه الخير؛ فلا بد أن تأتي مع أول الأذان.(4/18)
الطهارة
وبعد ذلك تسبغ الوضوء وتخرج إلى المسجد، وتقارب بين الخطا، وتدعو بدعاء الذهاب إلى المسجد، فلا تخطو خطوة إلا ولك عليها حسنة ورفع درجة وتكفير سيئة، فإنه مما يرفع الله به الدرجات: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط).
بعد ذلك تأتي المسجد، وتختار منه أكمل الصفوف وأولها؛ فخير صفوف الرجال أولها: (ولو يعلم الناس ما في الصف الأول والأذان والنداء ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا) فلا تأتِ لتقعد عند العمود، فبعض الناس يأتي يقعد عند الباب من أجل أن يختصر الطريق.
فتجلس لكن ليس في الروضة إلا إن كنت من أهل العلم، من أهل النهى ممن يمكن أن ينوب عن الإمام، فإذا لم يكن فتأتي عن يمين الإمام؛ فإن ميامن الصفوف أفضل من أياسرها، لكن إذا جئت وميامن الصفوف ممتلئة فاجلس في أيسرها مع رغبتك في يمينها؛ فإن الله يعطيك أجر ميامن الصفوف؛ لأنك لم تجد فيها مكاناً، فكملت الصف من الجانب الآخر.(4/19)
استقبال القبلة بجميع البدن
إذا كنت مأموماً في المسجد تستقبل القبلة بجميع بدنك، ثم لا تنحرف يميناً ولا شمالاً ولا تلتفت، ثم تقف وتوجه أصابع قدميك إلى القبلة وتفتحهما بمقدار جذع، فلا تباعدهما كثيراً ولا تقاربها، ولا تجعلها مثل حرف ثمانية ولا حرف سبعة، إنما تجعلها مستقيمة وعلى قدر فتحة جسمك، ثم تقرب وتحاذي وتسد الخلل مما يلي الإمام، إذا كنت من اليمين فتقرب جهة الشمال، وتطلب من الذي بجانبك أن يقرب، وإذا لم يقرب فلا تحاول أن تصلح غلطه بأن تباعد بين رجليك، لا.
فالغلط عليه هو والإثم عليه؛ لأنه لم يسد الخلل، فأنت تسد الخلل مما يلي الروضة، وذاك يسد الخلل مما يلي الروضة حتى تتكامل الصفوف، لكن إذا أخطأ هو فلا تصحح خطأه بخطأٍ أشنع؛ لأن بعض الناس يشير لمن بجواره أن يقترب فإذا لم يرض تجده يباعد بين رجليه حتى يسد الخلل، وذاك كلما قرب منه هذا ابتعد؛ فلأنه يريد أن يسد الخلل تجده يباعد بين قدميه ويفتحهما مسافة كبيرة جداً، تقول له: لماذا؟ قال: أريد أن أسد الخلل؛ لأنه ورد في الحديث أن الشياطين تدخل في الفرج بين الصفوف، لكنه لما سد الخلل فتح (كبرياً) لهم، فبدل ما كانوا يدخلون قليلاً فتح لهم متراً، أو (80 سم)!! وهذا خطأ، والصواب أن تفتح أرجلك على قدر قوامك وبنيتك، فلا تلاصقها ولا تجعل الفتحة بين رجليك كبيرة، فبعض الناس يقول: حاذوا في الأكعب، فيقوم برجله ويعكفها، إلى أن يضرب بكعبه كعب من بجواره، فهذا تكلف وغلو ما أنزل الله به من سلطان، بل قف الوقفة الهادئة التي جاءت في دين الله وقرب رجلك من رجله بشرط أن لا ترفعها؛ لأن بعض الناس عنده حساسية من رجلك، فإذا قربت هرب منك، فأنت ضع رجلك جنب رجله، وحاذِ بين المناكب والأقدام لكن لا ترفع رجلك، ولا تبالغ، حتى يهرب منك وأنت تطارده، بل اقرب منه، فإن استمر بجوارك فالحمد لله، وإن هرب منك فالمسئولية عليه.(4/20)
النية
بعدما تستقبل القبلة وتقف الوقفة الشرعية، تنوي الصلاة بقلبك دون تلفظ، فالنية شرط من شروط الصلاة، فشروط الصلاة تسعة من ضمنها النية.(4/21)
تكبيرة الإحرام
بعد ذلك تكبر تكبيرة الإحرام التي تدخل بها في الصلاة، وهي ركنٌ من أركان الصلاة، فترفع يديك وتقول: الله أكبر فترفع يديك مستقبلاً ببطونهما القبلة ومحاذياً بهما إلى حذو المنكبين أو حذو الأذنين، فهذا كله وارد، وليس هناك داعٍ أن تضع أصابعك عند أذنك، مثلما يفعل بعض الناس، إنما تضع رءوس أصابعك حذو الأذنين أو حذو المنكبين، وتقول: الله أكبر.(4/22)
وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر
ثم تضع كف يدك اليمنى على ظهر كف يدك اليسرى على وسط الصدر، لا على أسفل ولا على أعلاه، وهذه الهيئة ثبتت من رواية وائل بن حجر في صحيح البخاري حيث قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على اليسرى في الصلاة) وزيادة: (على صدره) في صحيح ابن خزيمة على شرط مسلم والبخاري، فهي زيادة صحيحة، فتضع يدك اليمنى على اليسرى على صدرك، لا على قلبك ولا تحت بطنك ولا تسبلها، وهذه هي التي تليق بموقف العبد، ولا تبالغ أو تغلُ كما يصنع بعض الشباب فتضعها على نحرك؛ لأن الزيادة على الشيء غلو، والغلو ممنوع في الدين، فالله يقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171] والحديث الذي في الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام فيه: (إياكم والغلو! فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو) فلا تغلُ، إنما خذ الدين ببساطته، خذه بسهولته وبيسره؛ لأن الله عز وجل يسر لنا هذا الدين، وشرع لنا ديناً سهلاً رفع علينا منه الحرج والمشقة والغلو والتعقيدات.
فخذ الدين ببساطته، ولا تقعد توسوس وتلعب بك الأفكار، حتى إن بعض الناس في الصلاة تجده كأنه يمارس حركه رياضية، ما هذا التشنج؟ ولماذا هذه الحركة الرياضية؟ يا أخي! صلِّ صلاة واضحة هادئة.(4/23)
دعاء الاستفتاح
بعدما تضع كف يدك اليمنى على ظهر كف يدك اليسرى تستفتح بدعاء الاستفتاح، والاستفتاح هو طرق للباب للدخول على الله، فأنت الآن دخلت على الله بتكبيرة الإحرام، لكن الباب لم يفتح بعد، متى يفتح؟ بعد دعاء الاستفتاح، فتقول كما ورد في الحديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من ذنوبي بالماء والثلج والبرد) إن شئت هذا، فهو وارد في الصحيحين، وفي أحاديث أخرى: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) فإن قلتهما جميعاً كما ذكر الإمام النووي فهذا أكمل، وإن اكتفيت ببعضها فحسن، وإن قلت هذا مرة وهذا مرة فهذا أفضل، كما يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز؛ لأنك تأتي بجميع الأدعية الواردة في هذا.(4/24)
التعوذ
ثم بعد هذا تتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهذه الاستعاذة سراً سواء كنت إماماً أو مأموماً، فلا تقلها بصوتٍ ظاهر.(4/25)
البسملة
ثم قل: بسم الله الرحمن الرحيم، وهذا -أيضاً- في سرك؛ لأنه الثابت الذي داوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فقد ثبت أنه أسر بالبسملة، وثبت أنه جهر بها، ولكن كما يقول ابن القيم: كان إسراره أكثر من جهره.
فكان يسر كثيراً، ويجهر قليلاً، والصحيح الثابت من أمره الإسرار، لكن بعض الناس إذا رأى الإمام ابتدأ القراءة بالحمد لله قال: لماذا هذا لم يسم؟ هو سمى لكن سراً، فيتعوذ بالله سراً، ويسمي سراً.(4/26)
قراءة الفاتحة والتأمين
ثم يقرأ الفاتحة، بجميع أحكامها؛ لأنها ركن، والحديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن عبادة بن الصامت قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وإياك أن تلقى الله ووجهك مملوء بالشيب وأنت جاهل بالفاتحة، كما يصنع بعض الشيبان الآن، فتجده لا يفوته من أمور الدنيا شيء، فهو يعرف المحاكمات، والدعاوى وأمور الدنيا، لكن إذا قلت له: اقرأ الفاتحة قال: أنا عامي أنا لا أعرف، لماذا تعرف الدعاوى والأمور كلها والشعر والقصائد ولكن لا تعرف الفاتحة وهي سبع آيات، في أربعة أسطر؟ فهذا أعمى في دين الله ومفتح في غيره، تجده يأتي يقرأ لك الفاتحة مكسرة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] وبعدها يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وبعضهم يقول: ما هو لك يوم الدين، فهو ينفي، وبعضهم يقول: الصراق المستقيم، وهذا يفسد المعنى.
فلابد أن تقرأ على ولدك أو على عالم؛ لتقرأ الفاتحة قراءة شرعية: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:2 - 5] مع تشديد وتحقيق الشدة؛ لأنها مخاطبة لله على الاختصاص {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] ثم تقول: آمين، ويقول من معك في المسجد: آمين، أي: اللهم استجب؛ لأنك تدعو الله أن يهديك الصراط المستقيم، وأن يقيمك عليه وهو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ثم تقول: غير المغضوب عليهم، أي: يا رب، لا أريد طريق المغضوب عليهم وهم اليهود؛ لأن معهم علماً لم يعملوا به فغضب الله عليهم، ولا طريق الضالين؛ لأنهم عبدوا الله على جهلٍ وضلال.
وتقول بعدها: آمين والله عز وجل يعطيك ما سألت إن شاء الله.(4/27)
قراءة ما تيسر من القرآن
ثم تقرأ بعد ذلك ما تيسر معك من القرآن، وتطيل القراءة في صلاة الفجر فتقرأ في الظهر والعصر والعشاء من أواسط المفصل، وفي المغرب من قصار المفصل أحياناً ومن أواسطه ومن طواله، وتقرأ في الفجر من طوال السور كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(4/28)
الركوع
ثم تركع ركوعاً تحني فيه ظهرك بحيث يكون مستقيماً، فلا تنتكس ولا ترفع، وإنما لو وضع على ظهرك القدح المملوء بالماء لاستقر، تعظيماً لله، ويكون التكبير عند ركوعك رافعاً يديك إلى حذو منكبيك.
وترفع اليدين في أربع مواضع: عند تكبيرة الإحرام، وعند تكبيرة الركوع، وعند الرفع من الركوع، وعند القيام للركعة الثالثة في الصلاة الثلاثية والرباعية، أما غيرها فلا.
فإذا ركعت فإنك تركع رافعاً يديك إلى حذو منكبيك وتقول: الله أكبر، ثم تجعل ظهرك بحيال رأسك، وتضع يديك مفرجتي الأصابع على ركبتيك، ثم تمدها بحيث يستوي ظهرك مع يديك في الاستواء، لا نزول وتنكيس بالمرة، كما يفعل بعض الناس.
وبعد ذلك يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثلاث مرات أقل شيء، هذا أدنى الكمال، وله أن يزيد بالزيادة الثابتة في صحيح البخاري وصحيح مسلم، فيقول: (سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي) هذه الزيادة عظيمة، إذا قلت سبحان ربي العظيم ثلاث مرات، سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي، إذا قلتها فحسنة، زيادة ثابتة وصحيحة.(4/29)
الرفع من الركوع
وبعد ذلك ترفع رأسك من الركوع قائلاً: سمع الله لمن حمده، هذا إذا كنت إماماً، أما إذا كنت مأموماً فتقول: ربنا ولك الحمد وترفع يديك، ثم تعيدها إلى ما كانت عليه قبل الركوع، أين كانت قبل الركوع؟ كانت على الصدر، وبعد الركوع تعود إلى الصدر ولا دليل لمن قال أنه يعيدها مسبلة، وقد ذكر هذا الكلام الشيخ الألباني في رسالته في كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رد عليه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بالرد الشرعي الواضح في أن الصحيح الثابت هو أنها توضع كما كانت؛ لأنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وضع اليدين على أربعة أحوال: ثبتت في الركوع على الركبتين، وثبتت في السجود على الأرض، وثبتت في الجلوس على الفخذين، وثبتت في القيام على الصدر، والقيام بعد الركوع هو قيام كما هو قبل الركوع، ولا فرق بينهما، ومن فرق بين القيام قبل الركوع أو بعد الركوع لزمه الدليل، وما دام لا دليل فلا بد أن تبقى المسألة على الأصل في كون اليدين بعد الرفع من الركوع تعود إلى مكانهما قبل الركوع فوق الصدر، ويقول الإنسان بعد ذلك: ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيءٍ بعده، -ثم يقول إن استطاع وكان هناك فرصة- أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبدٌ لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد.(4/30)
السجود
بعد ذلك تسجد مكبراً لله عز وجل من دون رفع اليدين، فأنت تكون يداك على الصدر وتريد أن تسجد فلا ترفع يديك، بل مباشرة تنزل إلى السجود وتقول في سجودك: الله أكبر، وتسجد على الأعضاء السبعة، وهي: الجبهة والأنف، وهي عضو واحد وهو الوجه، فحكمها واحد، والكفان والركبتان وأطرافُ القدمين، هذه سبعةُ أعضاء، للحديث الصحيح: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظُم: الجبهة والأنف، واليدين، والركبتين، وبطون أصابع القدمين).
ثم تجافي بين عضديك وبين جنبك، فلا تلصقهما، وتجافي بين فخذك وبطنك، لكن مجافاة معتدلة بما يسمح به وضعك وتسمح به الصلاة، والناس بجانبك.
أما المجافاة التي نشاهدها أحياناً ففيها غلو وزيادة، فهي تأتي على شكل انبطاح، بعضهم ينبطح ويباعد بين يديه كثيراً، وبعضهم يجافي بين يديه وجنبيه بمبالغة بحيث لا يستطيع الذي بجانبه أن يتحرك من مرفقيه!! فالمجافاة باعتدال بحيث لا تؤذي ولا ترفض، أما المرأة فلا تجافي؛ فالمرأة عورة، وإنما تنكمش، والرجل يجافي من غير غلو ولا مبالغةٍ.
ثم بعد ذلك يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً، وإن أراد الزيادة وقال: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي، كما زادها في الركوع فهذا حسن؛ لثبوت ذلك في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(4/31)
الرفع من السجود
ثم يرفع رأسه من السجدة الأولى قائلاً: الله أكبر، ثم يجلس بين السجدتين على قدمه اليسرى مفترشاً لها ناصباً قدمه اليمنى واضعاً يده على فخذه الأيمن، ويده الثانية على فخذه الأيسر ثم يقبض الخنصر والبنصر ويرفع السبابة ويحركها عند الدعاء وعند التشهد ويجعل طرف الإبهام مقروناً بطرف الوسطى كالحلقة، ويضع يده اليسرى مبسوطة الأصابع على طرف فخذه الأيسر مما يلي الركبة، ثم يقول في جلوسه بين السجدتين: ربِّ اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني واجبرني وعافني.
ثم يسجد السجدة الثانية خاشعاً لله عز وجل كالأولى فيما قال، ويفعل مثلما فعل، ويكبر عند سجوده، ثم يقوم من السجدة الثانية قائلاً: الله أكبر، ولا يرفع يديه إذا وقف، ويصلي الركعة الثانية كما صلى الركعة الأولى فيما يقول وفيما يفعل، إلا أنه لا يستفتح، إذ أن الاستفتاح والاستعاذة التي قد قالها في أول الصلاة تكفيه عن الاستعاذة مرة أخرى.
ثم يجلس بعد انتهاء الركعة الثانية قائلاً: الله أكبر ويجلس كما جلس بين السجدتين ناصباً رجله اليمنى، مفترشاً رجله اليسرى.(4/32)
التشهد الأول والأخير
ثم يقرأ التشهد في هذا الجلوس، واسمه التشهد الأول، إذا كانت الصلاة رباعية أو ثلاثية، واسمه التشهد الأخير، إذا كانت الصلاة ثنائية كالفجر، ويقول: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
فإذا كانت الصلاة رباعية فإنه يقف عند هذه ويقوم للركعة.
فإذا كانت ثلاثيةً فإنه يجلس أو كانت رباعية فإنه يجلس بعد الركعة الرابعة ويقول ما سبق في التشهد الأوسط ويزيد بعده قوله: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، ثم يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال" وهذه جاءت في حديثٍ صحيح، ثم يدعو ربه بما أحب من خيري الدنيا والآخرة.
ثم يسلم عن يمينه قائلاً: السلام عليكم ورحمة الله، ثم عن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، وبهذا تنتهي الصلاة، وإذا كانت الصلاة في التشهد الأخير من صلاةٍ ثلاثية أو رباعية فإنه يجلس فيها متوركاً، يعني: يجلس على إليته اليسرى ويخرج رجله اليسرى من تحت قدمه اليمنى المنصوبة، وهذا ما يسمى بالتورك.
هذه هي كيفية الصلاة الشرعية الصحيحة.(4/33)
مكروهات الصلاة
وهناك أشياء تكره في الصلاة، منها: - الالتفات بالبصر يميناً أو شمالاً: أما رفع البصر إلى السماء فهو حرام، لورود النهي الصريح عنه.
- يكره في الصلاة العبث والحركة لغير حاجة: كمن يعبث بلحيته أو يعبث بأنفه، أو يعبث بثيابه أو بأي شيء من جسمه؛ لأن الصلاة فيها شغل للمسلم والعبث يدل على عدم حضور القلب.
- أيضاً يكره في الصلاة استصحاب ما يشغل الإنسان: كالأشياء الثقيلة أو الملابس الملونة المزركشة التي تلفت نظر الإنسان وتشغله وتلهيه.
- يكره في الصلاة التخصر: وهو وضع اليد على الخاصرة.(4/34)
مبطلات الصلاة
هناك أشياء تبطل الصلاة، فهي ليست مكروهة فقط، بل تبطلها وتفسدها أيضاً، منها: أولاً: الكلام عمداً وإن كان يسيراً: فلو قلت كلمة ولو كانت مكونة من حرفين، مثلاً: لو أن شخصاً سألك وأنت في الصلاة: هل أنت مدعو؟ فقلت: لا.
إن فلتها عامداً بطلت صلاتك، لكن إذا قلتها غير عامد، يعني: نسيت؛ فإن الله عز وجل رفع عنك هذا؛ كما جاء في الحديث: (عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).
فالإنسان إذا أخطأ خطأً فإنه معفوٌ عنه، أما إذا تكلم عامداً بأقل كلمة ولو كلمة واحدة، كأن قال: نعم لا، بطلت الصلاة.
ثانياً: الانحراف عن القبلة: وتبطل الصلاة بالانحراف عن القبلة، فلو انحرف شخص بكامل جسده عن القبلة بطلت الصلاة.
ثالثاً: ما خرج من السبيلين: وتبطل الصلاة بخروج الريح من دبره، وبجميع ما يوجب الوضوء والغسل، أو غير ذلك من نواقض الوضوء.
رابعاً: الحركات الكثيرة: وتبطل الصلاة بالحركات الكثيرة المتوالية من غير ضرورة، كالعبث الكثير غير ضروري.
وتبطل الصلاة بالضحك وإن كان يسيراً، ويوجد خلاف بين أهل العلم في التبسم، فقال بعضهم: حتى التبسم يُلحق بالضحك ويُبطل الصلاة.
فإذا ضحكت قهقهة ولو يسيراً بطلت الصلاة، أما إذا تبسمت تبسماً فيوجد خلاف بين أهل العلم، بعضهم يقول: أنها تبطل وبعضهم يقول: لا يأثم ولا تبطل، والصحيح أنها تلحق بالضحك وأنها تبطل بالتبسم؛ لأن الموقف ليس فيه مجال للتبسم، فهو موقف رهيب جداً، هل تستطيع وأنت جندي أن تؤدي التحية للضابط وأنت تضحك؟ لا يمكن أبداً، لماذا؟ لأنك في وضع استعداد وضع عسكري أمام ضابط من البشر، لا تستطيع أن تتبسم أو تضحك أمامه، ولو تبسمت أو ضحكت أمامه لعاقبك، فوضع الصلاة أعظم من أي وضعٍ في الدنيا، فأنت بين يدي الله، في وضع استعداد كامل ينبغي أن تبكي من خشية الله لا أن تضحك ولا أن تتبسم.
سادساً: الزيادة متعمداً: كذلك تبطل الصلاة إذا زاد فيها المصلي متعمداً شيئاً ليس من جنسها، كأن زاد فيها ركوعاً، أو سجوداً، أو قياماً، أو قعوداً، أو ركعة وهو عامد، فإنها تبطل الصلاة.
سابعاً: مسابقة الإمام: وتبطل الصلاة أيضاً بمسابقة الإمام عمداً، وهذه مشكلة، فأوضاع الصلاة أربعة: مسابقة وموافقة ومتابعة وتخلف.
فالمسابقة منهي عنها، وهي: أن تسبق الإمام في الركوع أو السجود أو الحركة.
والموافقة منهي عنها، وهي: أن تأتي بالحركة معه، يعني يكبر وأنت معه بالضبط، والتخلف منهي عنه، وهو أنه يكبر ويرفع وأنت ما زلت ساجداً ويركع وأنت تخالفه، والمأمور به المتابعة، فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا، وإذا قعد فاقعدوا، عندما تأتي بالحركة على غير هذا الوضع فإن هذا يُعتبر مخالفة، أما إذا سبقت الإمام عمداً فإن الصلاة تبطل.
ثامناً: الأكل والشرب: والأكل والشرب من مبطلات الصلاة، ولو شيئاً يسيراً، فلا ينبغي لك أن تأكل ولا أن تشرب في الصلاة؛ لأنه مفسد للصلاة.
هذه صلاة المعافى المتعافي.(4/35)
كيفية طهارة المريض وصلاته
كيف يصلي المريض: يجب عليه أن يتطهر بالماء، فيتوضأ من الحدث الأصغر، ويغتسل من الحدث الأكبر، فإن كان لا يستطيع الطهارة بالماء لعجزه أو خوفه من استعمال الماء فإنه يتيمم، وإن لم يستطع أن يتطهر بنفسه فإنه يوضئه أو ييممه شخصٌ آخر.
وكيفية التيمم: أن يضرب الأرض بيديه ضربة واحدة ويمسح بهما وجهه ثم يمسح كفيه بعضهما ببعض، هذه هي الكيفية الصحيحة، والآية الكريمة هكذا: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء:43] وهذا الدليل واضح لا إشكال فيه.
بعد ذلك إذا كان في بعض أعضاء الطهارة مرض أو جرح لا يستطيع أن يغسله فإنه يتوضأ لبقية الأعضاء ويتيمم للعضو الذي لم يصله الماء، إذا كان في بعض أعضائه كسرٌ مشدود بخرقة أو جبس فإنه يمسح عليه ويأخذ حكمه حكم الجبيرة، ويجوز التيمم له بالتراب الذي يوضع له في صحنٍِ إذا لم يكن عنده تراب على الأرض.
بعد ذلك إذا تيمم لصلاةٍ وبقي على طهارته إلى الصلاة الأخرى صلى بالتيمم الأول، وهذا موضع خلاف بين أهل العلم؛ لأنه مبني على كون التيمم مبيح أو رافع، فالذين قالوا: إن التيمم مبيح للصلاة وليس رافعاً للحدث قالوا: لكل صلاةٍ تيمم، والذين قالوا: إن التيمم رافع للحدث؛ لأنه يقوم مقام الأصل وهو الوضوء قالوا: إنه يصح له أن يصلي الصلاة الثانية إذا بقي على طهارةٍ بالتيمم الذي صلى به الأولى وهو ما يرجحه الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن صالح بن عثيمين.
ثم بعد ذلك يجب أن يصلي المريض بثيابٍ طاهرة، فإن كانت ثيابه نجسة وجب غسلها، فإن لم يستطع صلى بثيابه التي عليه وصلاته صحيحة.
ويجب عليه أن يصلي على شيءٍ طاهر، فإن لم يجد وكان المكان الذي يصلي عليه وهو السرير نجس وجب عليه غسله أو استبداله، فإن لم يستطع وضع عليه فراشاً، فإن لم يستطع صلى عليه وصلاته صحيحة ولا إعادة عليه؛ لأن الأمر قائم على اليسر.
ولا يجوز له أن يؤخر الصلاة عن وقتها من أجل العجز عن الطهارة، أو العجز عن الوضوء، أو العجز عن التيمم، كما يصنع بعض الناس إذا مرض، وخاصة إذا عملوا له عملية، تجده يجلس أسبوعاً لا يصلي، لماذا؟ قال: ثيابي نجسة بطني مفتوح.
نقول: تخيل أنك متَّ في هذا المرض وأنت تارك للصلاة، لا إله إلا الله! يا أخي! صلِّ على أي هيئة وعلى أي كيفية وبأي وضعٍ تستطيعه، أما أن تترك الصلاة بحجة أنك غير طاهر أو أن ثيابك غير طاهرة أو أن وجهك ليس إلى القبلة أو أنك لا تستطيع، فهذا لا عذر لك.
أما كيف يصلي؟ فيصلي الفريضة قائماً ولو كان منحنياً إذا كان لا يستطيع القيام، أو يعتمد على عصا أو يعتمد على جدار إذا كان مريضاً، وإذا لم يستطع القيام صلى جالساً والأفضل أن يكون متربعاً، وإذا كان لا يستطيع الصلاة جالساً صلى على جنبه متجهاً إلى القبلة، والجنب الأيمن أفضل، وإذا لم يستطع الصلاة على جنبه صلى مستلقياً على ظهره، ورجلاه إلى القبلة، والأفضل أن يرفع رأسه قليلاً ليتجه إلى القبلة، يعني: يرفع له بمخدة فإن لم يستطع أن تكون رجلاه إلى القبلة صلى إلى أي اتجاه ولا إعادة عليه، إذا لم يستطع أن يصلي وهو مستلقٍ صلى بالإيماء برأسه ويشير بعينه فيغمض قليلاً في الركوع ويغمض تغميضاً أكثر في السجود، أما الإشارة بالأصبع كما يصنع بعض الناس فلا دليل عليها ولا أصل لها في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذا لم يستطع أن يشير لا برأسه ولا بعينه ولا بأي إيماء، قال العلماء: فيومئ بقلبه، تومأ بقلبك وتكبر تكبيرة الإحرام بقلبك، وتقرأ الفاتحة بقلبك، وتنوي الركوع والسجود والقيام والقعود بقلبك، ولكل امرئ ما نوى، واتقوا الله ما استطعتم، ويصلي المريض كل صلاةٍ في وقتها ويفعل ما يقدر، فإن شقّ عليه فعل كل صلاةٍ في وقتها فله أن يجمع بين الظهر والعصر، وأن يجمع بين المغرب والعشاء، إما جمع تقديم أو جمع تأخير.
أما الفجر فلا تجمع وإنما تصلى لوقتها، وإذا كان المريض مسافراً يعالج في غير بلده جاز له أن يقصر الصلاة الرباعية فيصلي الظهر ركعتين والعصر ركعتين والعشاء ركعتين حتى يعود إلى بلده وينتفي عنه حكم السفر.
هذا، ونسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لكل خير.(4/36)
كيفية تجهيز الجنازة والصلاة عليها
هنا شيء بسيط أضيفه وهو كيف يصلي المسلم صلاة الجنازة؛ فصلاة الجنازة مهمةٌ جداً؛ لأن كثيراً من الناس لا يعرفها ولا يعلم عنها، ولعل من المفيد أن نذكر كيف تجهز الجنازة على سبيل الاختصار.
- إذا تُيقن موت الإنسان فإنه أولاً: يلقن الشهادة، ثم إذا مات تغمض عيناه، ويُشد لحييه حتى لا يبقى فاغراً، وتغمض عيناه؛ لأنه إذا خرجت الروح تبعها البصر، وعند تغسيله تستر عورته ولا تكشف مهما كان.
ثم يرفع قليلاً من عند ظهره وتعصر بطنه عصراً بسيطاً ليخرج ما هو جاهز للخروج، ثم يلف الذي يغسله على يده خرقة أو يلبس كفاً، ثم يغسل عورته من غير أن ينظر إليها، بل يضع سترة على عورته، ثم يغسل شقه الأيمن كاملاً، ثم شقه الأيسر كاملاً، ثم يغسله مرةً ثانية، ثم ثالثة.
ثم إن خرج شيئاً غسله وسدَّ محل الخروج بقطنٍ، فإن لم يستمسك فبطينٍ حرٍ أو بوسائل الطب الحديثة إذا كان عنده إسهال، كاللصقة أو غير ذلك، فإن لم ينقه غسله بثلاثٍ أو خمسٍ أو سبعٍ ثم نشفه ويغسل كامل جسده، وإن طيبه كله فحسن، ويجمل الأكفان.
وإن كان شاربه أو أظافره طويلةً أخذ منها، وما أخذ من شاربه أو من أظافره يجعل معه في كفنه، ولا يسرح شعره، والمرأة يظفر شعرها ثلاثة قرون ويسدل من ورائها، ولا يؤخذ من عانته شيء، ولا تُحلق؛ لأن هذا يؤدي إلى كشف العورة، ثم يكفن الميت.(4/37)
كيفية تكفين الرجل والمرأة
أما كيفية التكفين: للرجل كيفية وللمرأة كيفية: فالرجل يكفن في ثلاثة أثواب يدرج فيها إدراجاً، يعني تؤخذ ثلاثة أثواب -ثلاث قطع- طويلة، أطول من الإنسان، وتوضع بعضها فوق بعض، ثم يؤتى بالرجل الميت ويوضع في الكفن، ثم يترك من عند رأسه أطول مما عند رجليه، فيترك من عند رأسه ذراعين -مثلاً- وعند رجله ذراع من القماش، ثم يطبق الطبقة الأولى عليه، من الشق الأيمن وترد عليه من الشق الأيسر، وهكذا أصبح ملفوفاً في الأولى، ثم تلف عليه الثانية من الجهة الأولى، ثم تلف من الجهة الثانية، ثم تلف عليه الثالثة من الجهة الثالثة.
هذا اسمه التكفين، ثم يربط من عند رأسه، ويربط من عند يديه، ويربط من وسطه، ويربط من عند ركبتيه، ويربط من بعد قدميه، ثم يرجع ما بقي من عند رأسه على وجهه.
وتكفن المرأة في خمسة أثواب: لفافتين مثل لفافة الرجل، وإزار تؤزر به المرأة، وقميص يفتح من عند وجهها ويسدل على بطنها وظهرها، وخمار، وهو قطعة قماش مثل (الغترة) تضرب على رأسها ثم تربط عند رقبتها.
وأيضاً يكفن الصبي الصغير في ثوبٍ واحد أو في ثلاثة، والصغيرة في قميصٍ ولفافتين.
وأحق الناس بغسل الميت وصيه الذي يوصي به، ثم الأب ثم الجد ثم الأقرب فالأقرب من العصبات، والأولى بغسل المرأة وصيها ثم الأم ثم الجدة ثم الأقرب فالأقرب من النساء، وللزوج أن يغسل زوجته وللزوجة أن تغسل زوجها، ولكن الأولى أن يغسل الرجل الرجال؛ فإن وجد رجلٌ بين نساء ليس فيهن رجل وليس فيهن امرأته لتقوم بغسله فإنهن لا يغسلنه بل ييممنه، وإذا وجدت امرأة مع رجال وليس منهم زوجها، كأن لا يوجد إلا أقارب: أبوها، أو أخوها، أو ولدها، أو أي شخص؛ فإنها لا تغسل وإنما تيمم ولا يتولى غسلها رجل؛ لأن هذا يؤدي إلى كشف عورتها.(4/38)
صفة صلاة الجنازة
بعد ذلك صفة الصلاة على الميت: يكبر التكبيرة الأولى، ويقرأ الفاتحة، ثم يكبر التكبيرة الثانية، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة الإبراهيمية، ثم يكبر التكبيرة الثالثة ويدعو للميت ويقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم إنك تعلم منقلبنا ومثوانا وأنت على كل شيء قدير، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم اغفر له، وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار، وأفسح له في قبره ونور له فيه.
هذه كلها جاءت وثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك يكبر التكبيرة الرابعة ولا يقول بعدها شيئاً، إنما يسلم تسليمة واحدةً عن يمينه وعند التكبير يرفع يديه مع كل تكبيرة، وإذا كانت الميتة امرأة فيقول: اللهم اغفر لها، وإذا كان طفلاً صغيراً، فإنه يدعو ويقول: اللهم اجعله فرطاً وذخراً لوالديه وشفيعاً لهما مجاباً، اللهم ثقل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم.
هذه الكيفية الشرعية لصلاة الجنازة، أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يحسن منقلبنا وإياكم وأن يحيينا وإياكم على الإسلام وأن يميتنا وإياكم على الإيمان إنه على كل شيءٍ قدير وبالإجابة جدير.(4/39)
الأسئلة(4/40)
نموذج لزواج إسلامي
السؤال
عندي زواج في نهاية هذا الأسبوع وأرغب منك أن تحضر ليكون الزواج إن شاء الله طيباً ومباركاً وليس فيه معاصٍ ولا منكرات.
الجواب
أنا أعتذر أن آتيَ نظراً لسفري إلى الرياض ولكني أقول لك: اذهب إلى بعض الإخوة وليس بالضرورة أن يكون شخصاً بعينه وإنما بإمكانك أن تستدعي طالبَ علمٍ، ويكون هناك كتاب من كتب ابن القيم أو كتاب الكبائر أو أي كتاب، وإذا لم تجد فبإمكانك أن تختار شريطاً من الأشرطة المفيدة وتشغل المكرفون وتضع الشريط في الجهاز حتى يسمع الناس ويذكرون الله عز وجل.
وأذكر لكم حدثاً وقع في الأسبوع الماضي في بلاد زهران، في منطقة الأطاولة، بين الأطاولة والمندق أقيم زواجاً هناك لأحد إخواننا في الله، وقد أقامه بطريقة نادرة نسأل الله أن يبارك له في زواجه، فقد دعا مجموعة من طلبة العلم والعلماء والمشايخ، منهم الشيخ عبد الرحمن السديس، والشيخ الدكتور محمد بن سعيد القحطاني، والشيخ عائض بن عبد الله القرني، والشيخ عبد الرحمن العشماوي، والشاعر ناصر الزهراني وأنا كنت ممن حضر، دعاهم لحضور حفل الزواج وضمن هذه الأسماء بالدعوة وقال: أريد أن يكون الزواج ندوة إسلام ودين وعلم، وجاء الناس.
يقولون لي: إنه وجه الدعوة لألف وخمسمائة رجل، لكن الذين حضروا ثلاثة آلاف رجل، بارك الله له في زواجه، وعشاهم كلهم؛ لأنه أقسم عليهم بالله وقال: والله لا أسمح لواحد أن يخرج إلا وقد تعشى، وقلت أنا: ماذا يعشي هؤلاء؟! لكن الله بارك في طعامه، ذبح خمسين خروفاً وحضر الطعام في مائة وخمسين صحناً وأقام الناس كلهم على سفرتين وقاموا والطعام باقٍ والحمد لله؛ لأنه قال: لا أحد يأتي لهذه الندوة ويخرج طاوياً؛ لأن الحفل طال، وقد بدأ بعد صلاة المغرب، فابتدأ بأن قسم البرنامج إلى قسمين: البرنامج الأول: ندوة مشتركة اشترك فيها عائض القرني والدكتور القحطاني وأنا، وكانت الندوة، الأول تكلم الدكتور محمد القحطاني عن المعوقات والعقبات في طريق الزواج لمدة نصف ساعة، ثم تكلمت أنا لمدة ساعة إلا ربع عن الوسائل الشرعية التي يحافظ بها على بناء الزواج، ثم تكلم الشيخ القرني بعدها لمدة نصف ساعة عن الآثار التي تترتب على نجاح الزواج في الدنيا والآخرة.
ثم بعد ذلك أجيب عن الأسئلة، ثم صلينا العشاء، وبعد الصلاة قدم العشاء، وبعد العشاء رجعنا الساعة (11) ليلاً، وقامت أمسية شعرية اشترك فيها ثلاثة شعراء: الأول عبد الرحمن العشماوي وقد ألقى قصيدة رائعة بعنوان: من مشاهد يوم القيامة، وهذه القصيدة نقل الناس فيها كأنهم يعيشون في عرصات يوم القيامة، بالآية والحديث، والقصيدة الثانية ألقاها الشيخ عائض القرني عن الحداثة والحداثيين الذين ينادون بالتحرر ورفض الدين والإيمان، هؤلاء الخبثاء، ثم ألقى الشاعر ناصر الزهراني وهو أخو المتزوج وطالب في جامعة أم القرى وشاعر عظيم ثلاث قصائد من ضمنها في الأخير قصيدة بلسان حداثي، فألصق فيها الحداثيين بالتراب والطين، والشريط موجود في السوق، اسمه (الأفراح الإيمانية).
فنقول لإخواننا الذين عندهم أفراح وزواج: أقيموا زواجكم على مثل هذا، ادعوا طلبة العلم والعلماء واذكروا الله، وابدءوا حياتكم بطاعة الله؛ لأنه إذا أسس الزواج على دين ثبت، وإذا أسس الزواج من أوله على معاصٍ ومنكرات وتبرج ومنصات وتصوير وفيديو وطبول وفساد -والعياذ بالله- فشل الزواج في الدنيا وفشل في الآخرة.
إنه من العيب عليك -يا أخي- أن تدفع خمسة آلاف أو عشرة آلاف لمطبل أو مطبلة وأنت تعرف أن إخوانك المجاهدين في الأفغان يموتون من الجوع، والله! أفضل لك مليون مرة أن ترسل الخمسة آلاف للإخوان المجاهدين ليشتروا بها طعاماً ويجاهدون بها في سبيل الله، ولا تدفعها لمطبل تكون عليك هذه الخمسة الآلاف لعنة في الدنيا والآخرة.
ونقول: أقيموا الزواج على مثل هذا؛ لأن الله يقول: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّم َ} [التوبة:109] هل هذا مثل هذا؟ لا.
نعرف كثيراً من الزيجات فشلت من ليلة الزواج، وفشلت بعد أسبوع، رغم أنهم أقاموا لها بهرجاً عظيماً، بعضهم لا يقيم حتى في بيته زواجاً، يقيمه في قصر الأفراح، وليس هو قصر الأفراح، بل قصر الحزن قصر المعصية قصر الشؤم قصر التصوير قصر الطبل واللعب قصر دخول المنكرات والفضائح -والعياذ بالله- وبعضهم يقيمها في الفنادق الضخمة، يحجز الفندق كله، ويدفع خمسين أو ستين ألف ريال وبعد ذلك لا تكمل البنت أسبوعاً إلا وقد فشلت وطلقها ورماها، لماذا؟ لأنه أسس البنيان على غير رضوان الله عز وجل.
بارك الله لي ولكم ونفعني الله وإياكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(4/41)
علامات محبة الله
تكلم الشيخ في هذه المحاضرة عن حال المؤمن في استجابته لربه، وعودته إلى الله بعد طول عصيان ومقارفة للذنوب، مبيناً أن قرابة الدين مقدمة على قرابة النسب.
وقد أعقب ذلك بتوضيح لأهم أسباب العصمة من المعاصي والتي تقود إلى محبة الله والتي هي غاية كل مؤمن.
مع بيان بعض العلامات التي يجب أن تتوفر في العبد ليكون محباً لله.
وفي الأخير نبه إلى الأسباب الجالبة لمحبة الله للعبد.(5/1)
الاستجابة لداعي الله الخيار الوحيد للنجاة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة في الله! إن الوضع الصحيح للمسلم في هذه الحياة الذي لا خيار له فيه هو أن يسير في الطريق الذي يوصله إلى الرضوان، وإلى الفوز بالجنان، والنجاة من النيران، فلا خيار، بل هو البديل الأفضل، والخيار الأكمل أن تستجيب لداعي الله؛ لأن الذي لا يستجيب لداعي الله ويستجيب لداعي الشيطان فليس بمعجز في الأرض، إن قدرة الله غالبة، والله غالب على أمره، وإنه ليملي للظالم السادر في غيه، الذي يحارب ربه، ويعاند دين الله عز وجل، ولكنه إذا قبضه أخذه أخذ عزيز مقتدر، ثم لم يفلته إلا في النار.
وأنت أيها الإنسان! ضعيف، لا حول لك ولا طول، ولو تصورت أنك قوي، وأنك تملك الإمكانيات، لكنك ضعيف أمام قوة الله، تذكر وضعك وأنت في حشرجة الموت، وفي ساعات الضعف، حينما تلتف الساق بالساق، وحينما ترتخي المفاصل، وتنخسف الأصداغ، وتميل الأنف، وتضعف القوى، وتنهار الإمكانيات، ولا تستطيع حولاً ولا طولاً، ولا يستطيع من حولك من الأولاد أو من الأفراد، أو مما تمتلك من الأموال، أو ما قد سعيت إليه من المنصب أو الجاه أو المنزلة في القبيلة أو العشيرة، لا تستطيع كل هذه الأشياء أن تغني عنك شيئاً، قال تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:83 - 87] أتستطيعون أن تدفعوا؟! أتستطيعون أن تمنعوا؟! أتستطيعون أن تنفعوا في تلك اللحظات؟! لا.
فغاية ما عند الإنسان أنه يمسك الميت ويجلس عند رأسه، أو وراء ظهره، أو عند أرجله، يبكي على قريبه.
أما ذاك فمسلم أمره إلى الله، ومنتقل إلى مولاه، إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً، وهناك {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] ويجزي الله هذا الإنسان في الآخرة على ضوء الحصيلة التي جاء بها من الدنيا؛ لأن هذه الدنيا سوق والناس يردون هذا السوق، ثم يصدرون بأعمالهم، وتكون المحاسبة لهم في الآخرة على ضوء أرباحهم أو خسائرهم في هذه السوق، يقول الله عز وجل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [القصص:84] أي: من دخل سوق الحياة، ورجع إلى الله ببعض الحسنات والعمل الصالح {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [القصص:84] ولا يعطي الله الحسنة فقط، بل يعطيه خيراً منها {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [القصص:84].
فكما تدين تدان، ومثلما تُعامِل تُعامَل، وكما كنت مع الله يكون الله معك، وفي آية أخرى في سورة النمل يقول الله عز وجل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89].
اللهم إني أسألك من فضلك وإخواني المسلمين {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل:89] وأيضاً مع هذا {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [النمل:89 - 90].
يا إخواني! تصورنا تصور سطحي سقيم، ما دخلنا في أعماق تصور صحيح حتى نتذوق ونعرف ما في النار، فالنار شيء بسيط في حياتنا!! ولكننا لا نستطيع تحمل أبسط نتائج النار، فالماء الحار لا نستطيع أن نشربه إلا إذا بردناه، والهواء في اليوم القائظ لا نستطيع أن نجلس فيه إلا وقد عملنا مروحة أو مكيفاً، فكيف بمن طعامه النار، وفراشه النار، وشرابه النار، ودفائه النار، ومسكنه النار، لا إله إلا الله! {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:90].
فما نجزى إلا ما كنا نعمل، قال الله عز وجل: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31] وقال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن:60] فهذه الآية مضمونها ومفهومها: أن الإساءة جزاؤها الإساءة، والله لا يظلم مثقال ذرة يوم القيامة، قال تعالى: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40].
فالخيار الصحيح والوضع الطبيعي لك -أيها المسلم- أن تستجيب لداعي الله، وأن تعرض عن داعي الشيطان؛ لأن الله هو خالقك، وبارئك، والذي أوجدك، وأمدك بالنعم، ويتولاك، وهو الذي سوف يميتك، ويبعثك، ويجازيك ويحاسبك.
أما الشيطان فهو عدوك في الأصل، والمنشأ، وعداوته عداوة عميقة في جذور التاريخ والزمن، منذ أن كان أبوك في الجنة، فهو الذي وسوس له وأخرجه من الجنة، وهو الذي أقسم أن يغويك وأن يقعد لك الصراط المستقيم: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16].
والصراط المستقيم هو: الإسلام، ويقسم بالله عز وجل أن يقعد لأبناء آدم، أين؟ قال: {صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16] أي على الناصية على الطريق المستقيم على الإسلام، فلا يترك أحداً يدخل في دين الله: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف:17] أي: يأتيك أيها الإنسان من كل اتجاه، إذن أين تذهب؟ إذا أتاك العدو من كل باب وليس هناك سبيل لتجنبه، أتقعد مع العدو وهو قادر عليك؟! لا.
بل تدخل من جهة الصديق، فوليك وربك وخالقك وحبيبك ومولاك هو الله تبارك وتعالى.
والشيطان لم يقل: ومن فوقهم، لأنه لا يستطيع.
فإذا جاءك من أمامك -يقول المفسرون: أنه يأتي من أمامك- أي: يكذبك ويزهدك في الآخرة، ويسوف لك ويمنيك ويعدك.
ومن خلفك يرغبك في الدنيا، ويشدك إليها، ويحرصك عليها، ويجعلك تتكالب عليها.
وعن يمينك يكرهك في الحسنات، ويزهدك فيها، فلا تريدها بشيء.
وعن يسارك يرغب لك السيئات، والمعاصي، والذنوب، ويحسنها ويزينها، ويجعلها أحب شيء إلى الإنسان، قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20].(5/2)
فرح الله بتوبة عبده
فيا أخي! فر إلى الله، واهرب وسابق إلى مولاك تبارك وتعالى، يفتح لك ربك بابه؛ لأن الله عز وجل يفرح بتوبة عبده كما جاء في الصحيحين، يقول عليه الصلاة والسلام: لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم كان في فلاة معه راحلته وعليها زاده وماؤه فضاعت الدابة، فاستيقظ وإذ به لا يجد دابة، ولا زاداً، ولا ماءً، وهو في صحراء، فبحث عنها فلم يجدها، فلما يئس منها، استسلم للموت، ونام تحت شجرة؛ لأنه لا يجد إلا الموت.
فردها الله عليه ووقفت عند رأسه، فاستيقظ ورآها فلما رآها رأى الحياة، وكأنه إنسان محكوم عليه بالإعدام والموت، ثم رأى الحياة، فقام من شدة الفرح وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك غلط من شدة الفرح، لأنه موقف يجعل الشخص يغلط رغماً عنه.
أخطأ -يقول عليه الصلاة والسلام- من شدة الفرح فالله أشد فرحاً بتوبتك أيها العبد المسلم! من فرحة هذا الرجل بعودة ناقته، والله عز وجل لا تضره معصيتك، ولا تنفعه طاعتك، كما جاء في الحديث الذي يرويه أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، والذي فيه ثمانية نداءات يا عبادي! منها: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئاً) ولكن إن أحسنتم فلكم، وإن أسأتم فعلى أنفسكم، والله تبارك وتعالى غني عن العالمين.
فيا أخي المسلم! إن ما نلحظه ونشاهده -والحمد لله- من عودة صادقة في صفوف الأمة، شيباً وشباناً، رجالاً ونساءً، وكباراً وصغاراً، هذه العودة تبشر بخير والحمد لله، ونأمل من الله المزيد فليس بغريب أن يعود الناس إلى مولاهم، بل الغريب أن يهرب الناس من الله، خصوصاً في هذا الزمن الذي أقام الله فيه علينا الحجة وأمدنا فيه بالنعم، وصرف عنا جميع النقم، وآتانا من كل ما سألناه، بل آتانا مما لم نسأله، وأقام علينا الحجة، وكان الله لنا في الدنيا كما نريد، فيجب أن نكون له كما يريد، وإلا فإن الله يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53].
فنخشى أن نغير ما بنا من الشكر والطاعة، فيغير الله ما بنا من النعمة والأمن، وكما نحب أن يكون الله لنا، يجب أن نكون كما يحب الله عز وجل.(5/3)
قرابة الملة مقدمة على قرابة النسب
محبة الله عز وجل هدف كل مؤمن، وغاية كل موحد، وإذا أحبك الله، أقبلت إليك طرق الخير من كل جانب، وإذا أبغضك الله، تولت عنك طرق الخير، وأقبلت عليك طرق الشر؛ لأن من أحبه الله أحبه كل شيء، ومن أبغضه الله أبغضه كل شيء، (إذا أحب الله عبداً نادى في السماء: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم يأمر الملائكة كلها في السماء أن تحبه، فتحبه وتستغفر له في السماء) قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر:7 - 9].
هذه الملائكة في السماء تدعو لك وأنت لا تعلم تدعو لك أن يغفر الله لك، وتدعو لك أن يدخلك الله الجنة، وتدعو الله لك أن يدخل الله معك آبائك، وأمهاتك، وزوجاتك، وذرياتك؛ لأنه لا تتم لك فرحة في الدنيا إلا وقد جمع الله لك بين آبائك وأزواجك وذرياتك، فما بالك بالآخرة: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ} [غافر:8] ومن تدخل معهم؟ {وَمَنْ صَلَحَ} [غافر:8] ليس كلهم، وليس حوش بقر، فمن أتى دخل، لا.
هذه جنة لا يدخلها إلا أهلها {وَمَنْ صَلَحَ} [غافر:8] أما من طلح فليس له إلا النار.
لما قال نوح: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:45] وكان عنده وعد من الله، قال الله: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون:27] وفهم نوح أن أهله، أي: أسرته، ومراد الله أهله أي: أهل عقيدته، أهل دينه، فالأهلية هي: أهلية العقيدة، فولدك إذا كان على دينك فهو من أهلك، وإذا لم يكن على دينك فهو ليس من أهلك.
والبعيد إذا كان على دينك فهو من أهلك، وإذا لم يكن على دينك فليس من أهلك؛ لأن الله عز وجل يقول: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] ثم قال: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] لأن صلة العقيدة فوق كل صلة، ورابطة الإيمان والدين فوق كل رابطة، ففهم نوح عليه السلام أنه من أهله فقال: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45] قد قلت: أركب أهلي، وابني لم يرض أن يركب {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ} [هود:42 - 43] رجل مادي، عقلية متحجرة، يقول: سوف أذهب إلى رأس جبل يمنعني من الماء {قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43] لأن الله عز وجل قال: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:12] {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر:11] فالتقى ماء السماء بماء الأرض، حتى التنور الذي هو مكان النار، والذي لا يتوقع أن يكون فيه ماء، يفور بالماء، النار والماء متضادتان، ولن يجتمع النار والماء، لكن الله جعل من موطن النار ماء {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود:40] فارت كل الدنيا حتى موطن النار أصبح يصعد بالماء، قال الله عز وجل: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:46 - 49].
صحيح أن الفجرة والعصاة والمجرمين والمنحرفين يبدوا لهم نوع من الإمهال، ونوع من الإضلال، ونوع من المكر من الله عز وجل، ونوع من إعطائهم فرصة، لكن لمن العاقبة في كل ساعة وفي كل حين؟ {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
فالله تبارك وتعالى يخبر أن الملائكة تقول: {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر:8] ثم تدعو الملائكة لك وأنت في الأرض تقول: يا رب! قهم السيئات، واصرف عنهم الذنوب، واحمهم منها؛ لأن الذنوب مهلكة الذنوب قاطعة عن الله الذنوب مانعة عن الوصول إلى الله، فهي حجاب بين العبد وبين الله، فهذه الذنوب والمعاصي عقبات وموانع وحواجز فلا تستطيع أن تصل إلى الله بوجود الذنوب، فإذا أردت أن تصل فأمط الذنوب والآثام من الطريق، واركب مطية العمل الصالح تصل إلى الله بسلام، لكن حين تكون المطية معطلة، والعمل الصالح قليل، والموانع كثيرة كيف تصل؟! لا تصل.
قال الله: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر:9] ثم قالت الملائكة: {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:9] اللهم قنا السيئات يا رب!.(5/4)
صدق اللجوء إلى الله سبب للعصمة من المعاصي
ودائماً أنا أقول للإخوة الذين يشكون من سيطرة وغلبة المعاصي على قلوبهم أقول لهم: إن خير دواء للتخلص من الذنوب سؤال الله عز وجل، ليس هناك أعظم من التجائك إلى الله؛ لأن الذنوب والمعاصي من وساوس الشيطان، يقول الله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268] أي فحشاء، وأي معصية، وأي منكر في الأرض؛ كلها من الشيطان، فإذا اعتصمت بالله، ولذت بالله، وسألت الله، كفاك الشيطان {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101].
وهنا مثال ذكرته أكثر من مرة وهو: إذا كنت سائراً من أمام بيت بدوي وانطلق عليك كلبه ليعضك وينبح عليك ويريد أن يعتدي عليك، فإنك إن قعدت تنابح الكلب وتراجمه أتعبك، وإن تركته سوف يعضك، لكن إذا أردت أن تسلم منه فادع راعي البيت البدوي وقل له: اكفنا من كلبك، فسيمسكه ويربطه، ولا يأتيك أبداً.
فالشيطان هو كلب هذا الإنسان، ينابحه ويعضه ويفترسه، ويريد أن يهلكه، فإذا أردت أن يمنعك الله منه، فادع الله أن يعصمك، ولهذا يقول الله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36]؛ لأنك إذا نزغك الشيطان فأطعته ركبك، أما إذا نزغك فاستعذت بالله قمعه وطرده وأبلسه، والنزغ هنا كما يسميه العلماء: هو إما إيعاد بشر، أو تكذيب بخير، أو أمر بمعصية؛ لأن القلب السليم هو: القلب الذي سلم من كل شبهة تعارض خبر الله، أو من كل شهوة تعارض أمر الله، أو نهيه، فأنت -أيها المسلم- في هذه الدنيا ثلاثة أشياء: أمام أمر، ونهي، وخبر.
أمر من الله، مثل: التوحيد، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج، البر، هذه كلها أوامر.
أو نهي من الله مثل: لا تزنِ، لا تسرق، لا تقتل، لا تقف ما ليس لك به علم، لا تأكل مال اليتيم، هذه اسمها نواهي.
أو خبر من الله، خبر عن قضايا الإيمان: خبر عن الجنة، والنار، والبعث، وعذاب القبر، والصراط، والجزاء، والحوض، والميزان، والكتب؛ هذه أخبار ترد عليك من الله، فأنت أمام هذه الأوامر لا يسعك أمام الخبر إلا التصديق، ولا يسعك أمام النهي إلا الابتعاد، ولا يسعك أمام الأمر إلا الامتثال، فإذا سلم قلبك من شبهة تشكك في خبر الله، أو من شهوة تعارض لك أمر الله أو نهي الله سلم قلبك.
إن محبة الله تبارك وتعالى غاية كل مؤمن، والله عز وجل يلقي لك المحبة في السماء، ثم يقول جبريل: (يا ملائكة الرحمن! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض) فيحبك كل شيء، وعلى قدر حبك لله يحبك أهل الأرض، وعلى قدر بغضك وبغض الله لك يبغضك أهل الأرض، حتى ثوبك الذي على جسدك يبغضك، كما ورد في بعض الآثار: أن تارك الصلاة إذا خرج من بيته قال له البيت: لا ردك الله من سفرك، ولا خلفك في أثرك، ولا رجعك إلى أهلك سالماً.
وورد أنه إذا رفع اللقمة إلى فمه قالت له اللقمة: لعنك الله يا عدو الله، تعرف فن البلع والهضم ما شاء الله -مثل- (الدركتر) لكن إذا أتيت إلى الصلاة أعجز من جدتك، تقول له اللقمة: لعنك الله، وبعض العصاة يأكلون في كل وقت، أي: كل لقمة فيها لعنة، فلو أكل مائة لقمة ففيها مائة لعنة، ولو أكل مائتي لقمة ففيها مائتي لعنة، فكأنه يزيد من اللقم ويزيد من اللعنات، تقول: لعنك الله يا عدو الله، تأكل من رزق الله ولا تؤدي حق الله، وإذا لبس الثوب على جسده قال الثوب له: لعنك الله، والله لولا أن الله سخرني لك لفررت منك، ثوبه لا يريده، الأرض التي يسير عليها تلعنه، الهواء الذي يتنفسه يلعنه، الوردة التي يقطفها ويحرمها الحياة ليتلذذ برائحتها تلعنه، كل شيء يبغضه؛ لأن الله قد أبغضه.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] وإذا أردت أن تعرف هل الله يحبك؟ فاسأل نفسك أولاً: هل أنت تحب الله؟ لأن الله عز وجل يقول: في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] يبادلونه المحبة، فما أحبهم إلا لأنهم أحبوه، لكن إذا أبغضوه أبغضهم؛ لأنه غني ليس بحاجة إلى أن يحب من يبغضه {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] ولما زاغ أولئك أزاغ الله قلوبهم.
فإذا أردت أن تعرف مقدار منزلة حب الله لك أنت، فاعرف مقدار منزلة حب الله في قلبك، هل أنت تحب الله حقيقة أم لا؟ ولكن هناك علامات للمحبة، وهناك أسباب لها، فأولاً نذكر لكم علامات المحبة، من هو المحب لله حقيقة؟ ثم بعد ذلك نذكر الأسباب الجالبة لمحبة الله، ولقد ذكرها كلها الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين، وهو كتاب عظيم من كتبه، أنصح كل شاب أن يقرأ كتب ابن القيم على الإجمال، أي كتاب تجده لـ ابن القيم فاشتره ولا تبالي.(5/5)
علامة المحبة الأولى: إظهار الذلة للمؤمنين
فأما علامات حب الله عز وجل للعبد فهي خمسة: قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ما صفاتهم يا رب؟! قال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] متواضعين، مخبتين، والإخبات قال الله: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج:34 - 35].
الإخبات: صفة من صفات أهل الإيمان، وقد ذكرها ابن القيم في مدارج السالكين على أنها منزلة من منازل السير إلى الله في الدار الآخرة، والإخبات مأخوذ من الخبت، والخبت: هي الأرض المنبسطة التي خيرها كثير وليس منها شر، والخبت هي المنطقة الموجودة في تهامة، أخذ الإخبات من الخبت؛ لأن الخبت أرض سهلة منبسطة، وبعد ذلك منخفضة متواضعة، وخيرها إذا جاءها مطر، يأتي الواحد منا فيزرع فيغرس المسافة الطويلة ومعه الحبوب في كفه والعصا في يده، فيغرس العصا في الأرض ويضع الحبة فقط -حبة مكان العصا- وبعد ذلك يخطو خطوتين ويضع غرسة وحبة، وبعد أيام إذا بالحبة هذه قد كبرت، لا يسقيها ولا يحميها، ولا يحرسها، ولا يتخولها، ولا يتعهدها، ولا شيء، إنما يضع حبة، فتنبت منها الخيرات.
فالمؤمن أولاً سهل، وبعد ذلك منبسط فليس بمعقد، وبعد ذلك متواضع ليس بمتكبر ولا متعالٍ، وبعد ذلك خيره كثير، ضع له شيئاً فترى شيئاً عظيماً، وبعد ذلك لا يتعبك في شيء، لكن المنافق والعياذ بالله عكس هذه كلها، صلب مستعلٍ متكبر، خيره قليل وشره كثير والعياذ بالله وبعد ذلك معقد، وملتوٍ، ومنافق، حين تبحث عنه لا تراه؛ لأن النفاق أُخذ من النفق، والنفق هو المكان المتلوي الذي لا ترى له اتجاهاً معيناً.
فالمؤمن متواضع ذليل، قال الله عز وجل: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] أي: لا يتكبر على إخوانه المؤمنين، ويتواضع لهم، ويرحم صغيرهم، ويوقر كبيرهم، ويزور مريضهم، ويسلم على مارهم، ويتبع جنازة أخيه المسلم، يشمت أخاه المسلم، إذا دعي إلى وليمة ولم يكن له عذر جاء وأجاب، وإذا كان له عذر اعتذر من أول الأمر، وقال: لا آتي، لا كما يصنع أكثر الناس اليوم، يدعى فيقول: حسناً وهو ينوي ألا يأتي، حتى قال لي شخص من الناس: والله إني وزعت مائتي (كرت) ولم يأت إلا عشرين رجلاً، وذبحت ثمانية خراف، واعتبرت أن لكل خمسة وعشرين رجلاً خروفاً، وقلت: لكل مائة أربعة، فذبحت ثمانية خراف وجاءني عشرون رجلاً، وجلس كل واحد على خروف، يرون اللحم ولا يريدونه، لكن لو أن الذين أعطيتهم الكروت كلهم اعتذروا لي عن الحضور وقالوا: والله مشغول، أو أنا معزوم، أو عندي موعد أو ارتباط، لذبحت بدل الثمانية أو العشرة اثنين.
المؤمن ذليل {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] ويضاد هذه الصفة العزة على أهل الإيمان، من الناس من هو متكبر متعالٍ: إما بماله، أو بسلطته، أو بوظيفته، أو بنسبه، أو بأولاده، أو بما يملك، يتعالى ويتكبر ويتعاظم، فهذا ليس من صفات أهل الإيمان.
فإذا أردت أن تعرف أن الله يحبك، فمن علامة محبة الله لك أن تكون ذليلاً على المؤمنين، وإذا كنت عزيزاً مستكبراً متعالياً متعاظماً، تنظر إلى الناس بنظرة الاحتقار، والازدراء، والتعالي، وترى أنهم تحتك وأنك أحسن منهم، وأنهم فقراء وأنت غني، وأن نسبهم وضيع وأنت رفيع، وأنهم سوُد وأنت أبيض، وأنهم ضعاف وأنت قوي، أي: تعتز وتفتخر بنعم الله التي ساقها الله لك، فاعلم أن الله يبغضك؛ لأنك تفتخر بشيء ليس منك، فالعافية والرزق والأولاد والجاه والغنى وكل شيء من الله، لماذا تتفاخر وتتمدح بحق غيرك؟!! يقول الله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53].
فاشكر الله -يا أخي- وتواضع؛ لأن المؤمن متواضع (من تواضع لله رفعه، ومن تعالى على الله وضعه)، اشكر الله وكن ذليلاً على إخوانك المؤمنين، وابتسم في وجوههم، وزرهم إذا مرضوا، وحاول أن تحسن إليهم بكل وسيلة ليسعك من الناس الابتسامة، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنكم لن تسعوا الناس بأرزاقكم) أي: لا تستطيع أن تستحوذ على الناس كلهم بالمال، ولو كان ما كان، فلا تستطيع.
من يرزق العباد إلا رب العباد (ولكن تسعوهم بأخلاقكم)، وقال عليه الصلاة والسلام: (تبسمك في وجه أخيك صدقة) وقال: (لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) فأنت في الطريق تسلم فتقول: السلام عليكم، الله يصبحك بالخير، كيف حالك يا أخي؟! ولكن من الناس اليوم من إذا رأى أخاه المؤمن من هناك غير الطريق، حتى في العيد لا يتزاورون، العيد الذي سماه الله عيداً؛ لأنه يعود على الناس ليتعاودوا ولينسوا الماضي، فتقول لجارك: أنت جاري وأنا جارك، صار بيني وبينك مخاصمة، أو صار بيني وبينك سوء تفاهم من أجل الأولاد، ومن أجل -مثلاً- الحدود، ومن أجل الماء، ومن أجل أي غرض من أغراض الدنيا، انتهت المشكلة لا ينبغي ولا يجوز شرعاً أن ألقاك بعد ثلاث ليالٍ، ولا أقول: السلام عليكم، وأنت مفروض عليك وواجب بمجرد أن أقول: السلام عليكم، أن تقول: وعليك السلام، الله يمسيك بالخير؛ لأن بعض الناس إذا سمع هذا الحديث وقال: والله لا يجوز أن أهجر أخي المسلم، لابد أن ألقاه وأسلم عليه، فيلقاه، فيقول: السلام عليكم، فإذا بالآخر يتهجم ويأبى أن يرد السلام، فيأتي الشيطان فيقول: أرأيت! تلقي عليه السلام ولا يرد عليك السلام، إذن اقطعها معه.
لا يجوز يا أخي! المفروض أن تغتنم هذه المبادرة الطيبة من أخيك المسلم الذي غلب نفسه وغلب الشيطان وجاء إليك وقال: السلام عليكم، فمقابل أن قال: السلام عليكم، قل: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ورد عليه، وأمسك رأسه وقبله، وقل: جزاك الله عني كل خير، لقد أعنتني على نفسي لو أنك ما سلمت علي كان الشيطان يريد أن يكبرها في نفسي، الله يسامحك باطناًَ وظاهراً، والدنيا كلها فانية.
قيل لي: إن في قرية من القرى أرحام بينهم صهر ونسب لا يدخلون بيوت بعضهم، وجاء العيد وبعضهم ما دخل على الثاني، لماذا؟ كبرت نفوسهم، ما تواضعوا، وما ذلوا؛ لأنهم لا يحبون الله، والله لو كانوا يحبون الله ويحبون رضا الله عز وجل؛ لنسوا أنفسهم ولأنكروا ذواتهم ولتواضعوا وطلبوا التسامح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) تريد أن تكون من خيرهم أو من شرهم؟ صحيح إذا أردت أن تكون من خيرهم فإن لها ضريبة، وضريبتها أن تنكر نفسك، وتغلب هواك، وألا تستسلم لشيطانك، وتخضع نفسك: السلام عليكم ولو بالغصب أو بالقوة، لكن الله عز وجل يجعلك خيرهما (وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) أما إذا التقيا وأعرض هذا وأعرض هذا وتباغضوا في غير ذات الله عز وجل، فإن الله عز وجل لا يرفع لهما إلى السماء عملاً، كما جاء في الحديث: (تعرض الأعمال على الله كل يوم إثنين ويوم خميس، إلا عمل رجلين متشاحين في الله، يقول الله: دعوهما حتى يصطلحا) رد عليهم أعمالهم مرفوضة حتى يتصالحوا، فإذا تصالحوا فلهم العمل، أما إذا لم يتصالحوا فليس لهم عمل، إذن ما قيمتك في الحياة؟ وما تعمل هنا؟ هل خلقك الله من أجل أن تضارب الناس، وتعمل مع هذا مشكلة ومع هذا مشكلة؟ لا يا أخي!
لما عفوت ولم أحقد على أحد أرحت نفسي من هم العداوات
إني أحيي عدوي عند رؤيته لأدفع الشر عني بالتحيات
وأملأ الوجه بشراً حين مقدمه كأنما قد حشا قلبي مودات
كم من ابتسامة لقي الرجل بها أخاه المسلم دفعت هذه الابتسامة وهذا السلام شروراً عظيمة جداً كان يمكن أن تتولد ويصير فيها قتل، كثير من الناس الآن في السجون بسبب القتل؛ لأنهم طوروا القضايا وكانت (حبة) وجعلوها (قبة)، كانت كلمة فضخمها المنافقون وأعداء الله عز وجل الذي يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، يأتون إلى هذا فيقولون: ماذا قال فيك فلان أمس؟ ماذا فعلت به؟ والله قال فيك وفيك، وبعد ذلك يذهب هذا إلى ذاك، وحرش بين الناس، وهذا هو النمام الذي قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: (لا يدخل الجنة نمام) والنمام هو: الذي ينقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد، لكن الذي ينقل الكلام بين الناس على جهة الإصلاح ليس بنمام ولو حلف بالله.
لو سمعت مثلاً أن زيداً وعمرواً من الناس في القرية حصل بينهما اليوم سوء تفاهم، من أجل حدود، أو حطب، أو ماء، أو أولاد، أو أي غرض، لما سمعت قلت: والله لا يمكن أن أترك هؤلاء متباغضين، ذهبت إلى واحد منهم الذي بدأ بالشر، فتقول: يا أخي! ما الذي حصل بينكم؟ قال: والله حصل، وحصل وعمل، تقول يا أخي! أنا جئتك من عنده الآن، وهو متأسف جداً، ويريد أن يقابلك الآن، ولو الخطأ منك لكن يقول: لا.
لا يمكن أبداً أن يغضب عليّ، ولو أقسمت له بالله لو قال: بالله، أو والله، فإن قسمك هذا يعتبر طاعة لله، ولا تأثم به، بل تكسب به أجراً من الله عز وجل؛ لأنه إصلاح، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليس الكذاب الذي يصلح بين رجلين فيقول خيراً أو ينمي خيراً) ليس بكذاب هذا، ولا فاجر بل هو مصلح لله عز وجل، ثم تذهب إلى آخر فتقول: ماذا حصل؟ وتعطيه هذا الكلام، تجدهم في الصباح يلتقون، فيحاول كل منهما أن يبدأ بالسلام.
لكن أن تشحن هذا مثل الكهرباء، وتشحن هذا، وتأتي في اليوم التالي وإذا بهما يقتتلان، وتصير فتنة، لماذا؟ لأن النمام يفسد في ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة، فأول صفة من علامات محبة الله لك أن تكون ذليلاً وأنت أعرف بنفسك، إن كنت ذليلاً على المؤمنين ومتواضعاً للمؤمنين، تحب المؤمنين.
الر(5/6)
علامة المحبة الثانية: إظهار العزة على الكافرين
قال تعالى: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] تنظر إلى اليهود والنصارى والمنحرفين نظرة الإذلال والإهانة؛ لأنك تنظر لهم من علياء الإيمان، ومن عزة العقيدة، ومن قوة الدين، فترى أنهم أعداء لله، يكذبون على الله، وينكرون الله، ويكفرون بالله، فكيف تعزهم؟! كيف؟! {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] لأنهم يقيسون الناس بمقياس العقيدة، هل هو مؤمن؟ يعزونه ويذلون له، وأما الكفار فيذلونه ويستعلون عليه، وهذه صفة أهل الإيمان.
لكن الآية انعكست اليوم، لما عشنا في زمن ضعف الدين، أصبحت القضية بالعكس، إذا جاء كافر أو خبير أو أجنبي، ترى الناس كلهم: هذا بريطاني، وهذا أمريكي، وهذا من الدول المتطورة، وهذا من الدول المتقدمة.
وإذا أتى مسلم من تهامة أو صحراء أو بادية، والله إن قدم هذا المسلم أفضل من مليون وجه من وجوه الكفار، والله إن قدمه الحرشاء المقطعة من الجبال أفضل من وجوه هؤلاء الكفرة الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لماذا؟ لأن هذا يؤمن بالله.
لو أتيت إلى هذا الإنسان التهامي الضعيف فتقول له: من ربك؟ قال: ربي الله، قال: لا إله إلا الله! لكن تعال عند هذا الملعون وهذا الكافر تقول: من ربك؟ ما دينك؟ ديانته كافر ملعون نجس كالخنزير والكلب، وأنت تعزه، وتخاف منه، وتكرمه، لا إله إلا الله! هذا إذا أكرمته فإن الله لا يحبك، وإذا أعززته فإن الله لا يحبك، لكن إذا أهنته وأذللته ونظرت إليه بنظرة الاحتقار والازدراء؛ يحبك الله {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54].(5/7)
علامة المحبة الثالثة: الجهاد في سبيل الله
قال تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المائدة:54]، والجهاد في سبيل الله هو: أعلى مراتب الدين، كما جاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ولما قال: (وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله) والجهاد كما يقرر العلماء ينقسم إلى أربعة أقسام: أولاً: جهاد النفس.
ثانياً: جهاد الأهل.
ثالثا: جهاد العشيرة والمجتمع.
رابعاً: جهاد الكفار.(5/8)
جهاد النفس
جهاد النفس هذا دائم؛ لأنه مستمر، فأنت مع نفسك في جهاد، يقول الله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] فلو أنك ماليتها قالت: والله لا تذهب، أنت عندك خير وأنت في خير، والحمد لله، والشيطان يزكي هذا الموضوع ولا يريدك تأتيه، لكن لو أتيت تمالي نفسك، تقول لك: هناك سمرة عند آل فلان، وهناك لعب وهناك قالت: لا تفوتك الفرصة، وجاء الشيطان وقال: ماذا عليك يا رجل؟! لكن لا تمالي النفس ولا تستشر الشيطان، وإنما إذا جاءك أي إيحاء أو وسواس يدلك على أمر خير فاعلم أنه من الله، وإذا جاءك أي إيحاء أو أي شعور على أمر شر فاعلم أنه من الشيطان.
أضرب لك مثالاً: وأنت جالس في بيتك، والمصحف أمامك، وبعد ذلك نظرت إلى المصحف وإذا لم يكن عندك شغل فرصة أن تقرأ؛ لأن في كل حرف عشر حسنات، سطر واحد فيه عشرة حروف بكم؟ بمائة حسنة، سطر واحد فيه عشرون حرفاً بكم؟ بمائتي حسنة، وأنت تحب التجارة مع الله، فمددت يدك، فلما مددت يديك وأخذته، هذا الدافع من الله، فحين تفتح وتقرأ عشرة أسطر، أو صفحة أو صفحتين، يأتيك نوع من الضيق؛ ويأتيك دافع بأن قف، أو نم، أو تكلم، أو اضحك، أو اتصل فتلك من إبليس، لا يريدك أن تقرأ.
فعندها استعذ بالله واقرأ، وكلما شعرت بأنك تريد أن تتوقف استعذ بالله، واقرأ إلى أن يأتيك أمر لا بد لك منه، مثل ماذا؟ إما أن تقوم إلى فريضة، أو إلى نوم، أو إلى طعام، أو تذهب إلى مصلحة دينية أو دنيوية، أما أن تترك المصحف وتقعد كذا، لا قراءة ولا عمل فهذه من الشيطان، فهنا جهاد النفس، تجاهد نفسك بالليل والنهار في كل وقت، تجاهدها بصلاة المغرب والعشاء والفجر مع الجماعة، وتجاهدها إذا رأيت امرأة، فتغض بصرك، وإذا سمعت نغمة أو أغنية فتصون سمعك، وتجاهدها عندما يعرض لك ريال بالحرام فلا تأكله مهما كانت حاجتك؛ لأنك تصبر على الفقر، ولا تصبر على النار، فأنت في حاجة إلى جهاد مع النفس.(5/9)
جهاد الأهل
أما جهاد الأهل، والزوجة، والأبناء، والوالد، والأم فهذا كله جهاد، لكن يلزمك أن تجاهد كل شخص بأسلوب، جهادك لزوجتك ليس مثل جهادك مع أبيك، لماذا؟ لأن زوجتك فأمرك عليها، أما أبوك فأمره عليك.
فالذي فوق تسترضيه وتستعطفه، والذي تحت تجبره، إن صلح بالطيب وإلا بالغصب، لماذا؟ لأن الله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] وقال بالنسبة للوالدين: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15] إذ هما كافرين {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فإذا كان الله يأمر بمصاحبة الوالدين الكافرين بالمعروف، فإن مصاحبة الوالدين المسلمين بالمعروف أولى؛ لأن من الشباب الطيب من يعامل والديه معاملة سيئة، بل قد شكا إليّ أكثر من رجل من أولاده، يقول: أولادنا طيبون صالحون لكن عصاة عندنا والله لا يعطيني إصبعه، وإني أبحث عنه أربعاً وعشرين ساعة، أريده أن يأتي لي بماء فلا أراه، أريده أن يأتي لي بالغاز فلا أراه، أريده أن يقضي لي حاجتي في البيت فلا أراه، أريده أن يدرس إخوانه فلا يدرسهم، وإنما لا أراه إلا يأكل ثم يخرج.
فهذا فاشل ولو كان داعية، ولو كان فيه خير لكان خيره لأهله، إذا كان فاشلاً في استصلاح أبيه وأمه وإخوانه فسيكون في استصلاح غيره أفشل، وإذا أردت أن تكسب أباك، أو أمك بالدعوة أن تكسب أهلك كلهم فأولاً: يجب أن تعطيهم، حتى تأخذ منهم، أما أن تدخل البيت قائلاً: حرام، حلال، ممنوع، لا ينفع، ثم تخرج، وتصدر أوامر ثم تخرج، فهنا لا أحد سيطيعك، لكن اجلس في البيت أولاً، ولازم أباك، وكن معه، وكل عمل يريد أن يقوم به تقول: لا والله لا تسير إلا وأنا قبلك، فحين يريد أن ينزل إلى السوق ليشتري لوازم البيت تقول: لا.
أنا أذهب عنك، يريد أن يأتي بغاز تقول: والله لا تحملها، أنا أحملها، يريد أن يأتي بماء، تقول: والله أنا أذهب، يذهب إلى أي عمل ليعمله هو، قل: لا.
لا تعمل شيئاً، أنا خادمك، أنا قدمك تسير عليها يا أبت، إذا لم أنفعك اليوم فمتى سيكون؟ فلو أنك عملت هذا الكلام قبل أن تأمره أو تنهاه، وقبل أن تقول له شيئاً، خلال شهر أو شهرين أو ثلاثة أو أربعة أشهر، أصبحت سمعه وعينه، وقلبه، تقول: يا أبت! نذهب كذا، يقول: هيا يا ولدي! الله يبارك فيك، تقول: يا أبي! هناك ندوة في مكان كذا، فيقول لك: هيا نذهب يا ولدي، لماذا؟ لأنه يعتبر الدين الذي هداك وأصلحك له، كسب ويريد أن يكون متدين هو أيضاً، لكن عندما يراك شارداً منه ولو كنت تذهب في مجال الدين، ومع أهل الخير، ولكن لا يراك؛ يكره الدين، يقول: والله ما أفسد عليّ ولدي إلا الدين، والله ما أفسد عليّ ولدي إلا هؤلاء، يذهب معهم الليل والنهار ولا أراه، فيضطر إلى أنه يتخذ موقفاً من أهل الخير بناءً على سلوكك أنت، ففشلك في استصلاح والدك أثر حتى على دينك، وجعله يستقطب عداوته للدين، ويؤثر الأب على الإخوان، وتفشل في إصلاحهم ويؤثر الأب على الأم فتقف ضدك.
يقول لي أحد الشباب: وقد نصحته يوماً من الأيام في هذا الموضوع، فذهب إلى البيت وأمه طبعاً مسكينة عندها أولاد وعندها بنات ولكن أولادها صغار، وبناتها صغار وهي تعاني من الحمل والوضع، فقلت له: ماذا تفعل في البيت؟ قال: لا شيء، قلت: لا تتركها تغسل صحناً واحداً، منذ أن تنهوا طعامكم، لا تقم لتغسل يديك وتقعد على سريرك، بل ارفع الأواني واجمع الصحون مع بعضها وارفع السفرة، وقل: والله لا تغسلين، أنت طبختي كثر الله خيرك، لكن الغسيل ليس فيه مشكلة فأنا سأغسل الصحون والأواني، والله إن هذا العمل دين تتقرب به إلى الله.
فمارس هذا الأمر معها هي تحلف وهو يحلف، المهم انبسطت منه، وحين يقول لها أي شيء، تقول: حسناً يا ولدي الله يوفقك، لماذا؟! لأنه خدمها، أعطاها شيئاً فأخذ منها أشياء، أما كونك تريد أن تأخذ ولا تعطي، فهذه سلبية لا يمكن أن يوافقك الناس عليها.
الجهاد جهاد الأهل، بالنسبة للأم والأب، وبالنسبة للأخوة اللطف، والصبر، والحكمة، والإحسان؛ لأن أخاك مثلك إذا أتيت تأمره يقف ضدك، ولو أن أخاك اهتدى قبلك، ثم مارس عليك أسلوب القوة والقصر، وأنت قبل أن يهديك الله لرفضت، لكن الله هداك فاشعر بنعمة الله عليك لاستصلاح إخوانك، وأما زوجتك وأولادك فينبغي لك أن تمارس معهم الحكمة والوعظ والإرشاد واللطف، لكن إذا رفضوا فعليك بالقوة؛ لأن لك سلطة عليهم.(5/10)
جهاد العشيرة والمجتمع
جهاد الدعوة للعشيرة وللقبيلة أو للمنطقة التي تعيش فيها، وهذه أسلوبها قد بينه الله عز وجل بقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] والحكمة: هي وضع الشيء في موضعه {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] لأن عليك أن تبشر بدين الله، والمبشر بدين الله يحبب الناس لدين الله ولا يكرهم فيه، يحببه إليهم بالعبارة بالبسمة بالأسلوب بالكلمة، والله عز وجل يقول لموسى وهارون: {فَقُولا لَهُ} [طه:44] أي: لفرعون، والله يعلم أن فرعون كافر، وأنه لم يهتد، لكنه يسن للناس سنة الدعوة فيقول: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
والله يقول عن محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] فلا بد من الأسلوب الطيب والدعوة والصبر والحكمة، والدعاء لهم ادعهم في النهار، وادع الله لهم في الليل، حتى يستجيب الله عز وجل الدعوة.
أما من الناس من يدعو، فإذا رفض الناس، قال: هؤلاء ليس فيهم خير، ولم يعد، وانفصل عنهم، لا يا أخي! ليس عليك هدايتهم، فالهداية بيد الله.
أنت عليك البلاغ، والهداية على الله، أنت تريد أن يكون الله على كيفك بمجرد أن تدعو يستجيب الناس لك، لا.
يجب أن تكون أنت على مراد الله تبارك وتعالى، عليك أن توصل ما عليك والله هو الذي يعلم النتائج، إن رأى أن هذا أهلاً للهداية هداه، وإن علم أنه ليس أهلاً للهداية لم يهده، والله يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] فالهداية بيد الله عز وجل.(5/11)
جهاد الكفار
يبقى المرتبة الرابعة والأخيرة: وهي أغلى وأعلى منزلة من مراتب الدين، وهي منزلة جهاد الكفار بالسنان والحرب والقتال، وهذه أعلى مرتبة، من استطاع عليها وذهب ليقاتل في سبيل الله فإنه شهيد، والشهادة: هي أقرب طريق إلى الجنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن في الجنة مائة درجة تحت درجات الأنبياء لا يبلغها إلا الشهداء) والله يقول: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر:69].
هذه المرتبة أو العلامة الثالثة من علامات محبتك لله، أن تكون مجاهداً في سبيل الله مجاهداً لنفسك مجاهداً لأهلك مجاهداً لجماعتك بالحكمة والموعظة الحسنة، في سبيل الله، تستغل كل فرصة، وتدخل على الله من كل باب، وتغتنم كل مناسبة، من أجل نصرة دين الله، ومن أجل دعوة الناس إلى الله، فأنت ممن يحب الله تبارك وتعالى.(5/12)
علامة المحبة الرابعة: عدم الخوف من غير الله
ألا تخاف في الله لومة لائم، وأن تجعل الهدف الأول والأخير هو رضا الله، فإذا رضي الله عنك فلو لامك أهل الأرض كلهم ما عليك، لماذا؟ لأن الحياة بيد الله، والموت بيده، والرزق بيده، والرفع بيده، والخفض بيده.
والله لو أن الناس كلهم رضوا عنك، والله قد سخط عليك لا ينفعونك مقدار حبة خردل.
ولو أن الناس كلهم قد سخطوا عليك، والله راضٍ عنك فلن يضروك بشيء، ولهذا جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! أعطني، فإن مدحي جميل، وذمي قبيح، يقول: أعطني وزود فإن مدحي جميل إذا مدحتك رفعتك، وذمي قبيح، إذا ذممتك وضعتك، قال: (كذبت! ذاك هو الله) الذي مدحه جميل وذمه قبيح، إذا مدحك ربي فأنعم بها، وإذا ذمك ربي فوالله لست جميلاً ولو أثنى عليك الناس كلهم؛ لأن الناس لا يمنعونك من الله، ولكن الله يمنعك من الناس كلهم.
إذا كان الله معك فمعك كل خير، وإذا فاتك الله فاتك كل خير، هذه الرابعة {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].(5/13)
علامة المحبة الخامسة: حسن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم
والخامسة: متابعة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله امتحن الناس بهذه الآية فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31] فهذه علامة محبة الله وهي: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا امتحان، يقول ابن عباس: [امتحن الله العباد بهذه الآية] اختبرهم بها فقال: قل إن كنتم تدعون وتزعمون أنكم تحبون الله، ماذا؟ ((فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)) [آل عمران:31]، فانظر أين أنت من الرسول صلى الله عليه وسلم، وأين أنت من هديه، وطبعاً الرسول صلى الله عليه وسلم سنته واضحة بين أيدينا الآن، والله ما من خير إلا دل الأمة عليه، ولا من شر إلا حذر الأمة منه، وما من أمر إلا وهو معلوم عندنا، كيف كان صلوات الله وسلامه عليه، ينام ويستيقظ ويسير في الشارع، ويأكل، ويدخل الخلاء ويخرج منه، ويلبس، ويتكلم كل هديه موجود في السنة، وأعظم كتاب أدلكم عليه للتزود منه هو: (زاد المعاد في هدي خير العباد) صلوات الله وسلامه عليه لـ ابن القيم، أي: هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء، هديه في العقيدة، والعبادة، والسلوك، والمعاملات، والآداب، هديه في كل شيء موجود في هذا الكتاب.
فإذا اتبعت الرسول صلى الله عليه وسلم وسرت على هديه ورفعت رأسك بسنته فأنت ممن يحب الله عز وجل والله يحبك، وإن كنت ترفع رأسك بشيء غير سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فاعلم أنك لا تحب الله، ولا الله يحبك أيها الإنسان! هذه الخمس علامات وأعيدها: أولاً: أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون في الله لومة لائم، يتابعون الرسول صلى الله عليه وسلم، من توفرت فيه هذه الخمس الصفات، فليعم أن الله يحبه؛ لأن الله قال: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ما صفاتهم يا ربي؟! قال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] وقال في الآية الأخرى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31].
فمن توفرت فيه هذه الخمس الصفات فقد أحبه الله عز وجل وليس بينه وبين الجنة إلا أن يموت ويدخله الله دار الأحباب؛ لأن من أحبه الله لم يعذبه.
بالله عليك! هل تستطيع أن تعذب حبيبك، فلذة كبدك ولدك؟ من الآباء من يدعو على ولده، ومن الأمهات من تدعو على ولدها وهذا مخالف للشرع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدعوا على آبائكم، ولا أبنائكم ولا أموالكم فقد توافقون ساعة إجابة) تجد الأب يدعو على ولده، افرض أنك قلت الكلمة واستجاب الله لك.
يمكن أن توافق الدعوة وقت إجابة، ثم أصابه ربي نتيجة الدعوة فمن الذي سوف يصاب مع ولدك؟ أنت، فكأنك دعوت على نفسك، فبدل أن تدعو عليه، قل: اللهم أصلحه، اللهم اهده، الكلمة الطيبة صدقة، وبدل أن تقول: اللهم دمره، قل: اللهم أصلحه، اللهم سدده، اللهم وفقه؛ لأن الولد إذا سمعك تدعو عليه، عرف أنك عدو، فقال: الله أكبر على والدي، كلما فعلت شيئاً دعا عليّ، فيبادلك الشعور بالكراهية، لكن حين يسمعك ولدك وأنت تقول: اللهم اهده، اللهم وفقه، عرف أنك تحبه؛ لأنك تدعو له، ولا تدعو عليه، ولهذا لا تدعوا على أبنائكم، فأنت مهما دعوت على ولدك لا تحب أن يناله مكروه.
ولهذا في غزوة بني ثقيف، لما فصل الرجال عن النساء من السبي والأسرى، وهاج الناس، فامرأة من الناس أضاعت رضيعاً لها، ولما جاء السبي قامت تبحث بين الأطفال وبين الأولاد، فلما أن وجدته ورأته أخذته وغارت عليه في غاية العطف والحنان، ثم ألصقته بثديها، وحنت عليه وجلست تبكي عليه؛ لأنها بعد المعركة وبعد الحرب ما وجدته إلا بعد تعب، فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيتم هذه؟ قالوا: نعم.
يا رسول الله! قال: هل ترونها تلقي ولدها في النار؟ قالوا: لا.
يا رسول الله! قال: والله إن الله أرحم بعباده من هذه بولدها) الله رحيم بالعباد تبارك وتعالى، ولا يعذب من يحب، ولكن الذي يبغضه الله يعذبه.
الذي يبغضه الله؛ -لأنه أبغض الله- يعذبه الله عز وجل، فتعرض يا أخي لمحبة الله عز وجل.(5/14)
الأسباب الجالبة لمحبة الله للعبد
أما كيف يحبك الله؟ وما هي الأسباب الموجبة والجالبة لمحبة الله؟ فهي عشرة أسباب ذكرها - ابن القيم - رحمه الله في إعلام الموقعين:(5/15)
كثرة قراءة القرآن
إن من يكثر من قراءة القرآن يحبه الله، لماذا؟ لأن القرآن هو خطاب الله، كما جاء في الحديث: (من أراد أن يناجي ربه، فليقم إلى الصلاة، أو ليقرأ القرآن)، فالقرآن هو خطاب الله الموجه لك، فكأنك بقراءة القرآن تخاطب ربك، ودائماً المحب يحب أن يكثر الكلام مع من يحب.
أنت لا تريد أن تقصر العبارات إلا مع الذي تبغضه، أليس كذلك؟ إذا كان هناك شخص تبغضه -مثل إبليس- وجاء يريد أن يتكلم معك هل ستقعد تتكلم معه أم ستقصرها؟! لأنك تبغضه ولا تريد كلامه، لكن إذا كنت تحبه، بل الذي تحبه كلما أراد أن ينهي كلامه تقول: يا شيخ! دعنا نتكلم قليلاً طول قليلاً لو سمحت، لماذا؟ لأنك تحبه، وتحب كلامه، وتحب الأنس به، ولذا موسى عليه السلام كان يحب الله، فلما ناجاه وخاطبه عند الطور، قال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17] كان في إمكان موسى أن يقول عصاي، أي: الجواب على قدر السؤال، ما هذه يا موسى؟! عصاي، لكن ماذا قال: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] أطال الجواب، لماذا؟ قال العلماء: إنه من محبته لله، يريد أن يكثر الكلام مع الله عز وجل.
فالذي يكثر الكلام مع الله عن طريق القرآن، ويحب تلاوة القرآن باستمرار مع التدبر والتمعن هذا دليل على محبة الله، ومن أعظم موجبات محبة الله، ولذلك يا مسلم! اتق الله في نفسك، وأحيِ قلبك، وحبب نفسك إلى الله بكثرة تلاوة القرآن، واجعل في جيبك مصحفاً، واجعل عند رأسك عند السرير مصحفاً، واجعل في السيارة مصحفاً، واجعل في المكتب مصحفاً، وكلما وجدت فرصة واحدة مد يدك إلى المصحف واقرأ، وستجد في أول الأمر عندما تريد التلاوة نوعاً من الانقباض من الشيطان، لكن قل: أعوذ بالله منك يا عدو الله، ألعنك بلعنة الله ورسوله؛ لأنه لا يريدك أن تقرأ، فأنت تحرقه بالقرآن أنت تؤذيه، ولكن إذا أتيت تقرأ واستعذت بالله منه، ولعنته بلعنة الله عز وجل هرب منك، فإذا انشرح صدرك بالقرآن فاقرأ باستمرار، وهذه والله -أيها الإخوة- من أعظم علامات وأسباب محبة الله، يقول الله عز وجل في سورة يونس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:57 - 58].
فإذا أردت أن يحبك الله فإن من أعظم الأسباب محبة الله أن تقرأ كلام الله، وهل في القراءة اليوم صعوبة علينا يا إخوان؟! يا إخوان! كان الأولون يجدون صعوبة في قراءة القرآن، لكنهم كانوا يقرءون، ربما تتذكرون كبار السن الذين كانوا في الماضي يعيشون في القرى فيجلس كل منهم في نافذة بيته قبل وجود الكهرباء، وإذا أشرقت الشمس فتح كلٌ مصحفه وقعدوا يقرءون، تسمع لهم في القراءة دوي كدوي النحل بتلاوة كلام الله عز وجل، رغم أن قراءتهم لم تكن مجودة ولكن عندهم إيمان وعندهم خوف من الله، مصحف أحدهم في خرقته، وإذا لم يجد كهرباء، يرقب كهرباء رب العالمين، فإذا أشرقت الشمس فتح المصحف وقعد يقرأ، حال الناس هكذا، لكن اليوم لا، المرأة تقرأ -كافحنا الأمية- والبنت تقرأ، والولد يقرأ، والأب يقرأ، كلٌ يقرأ لكنهم لا يقرءون القرآن، يقرءون الجرائد، والمجلات، والمقررات والمنهاج الدراسية، والمصحف لا أحد يمسّه لا أحد يقرأ إلا القليل يا إخواني! فإذا أردت أن تنال محبة الله؛ فاقرأ القرآن وطبعاً نحن نعني بالقراءة: قراءة التدبر والتأمل وفهم المراد من الله عز وجل، المراد بالقراءة: القراءة الشرعية التي تتدبر فيها كلام الله، وتعرف مراد الله؛ وماذا يريد الله عز وجل من كلامه.
أما أن تقرأ ولا تفهم فمثلك كمثل الببغاء الذي يقرأ ولا يفهم، لا تنفعك هذه القراءة، بل رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه، كيف؟ قالوا: يدعو على نفسه {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] وهو كذاب فيلعن نفسه.
أو {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:8] وهو ظالم فيلعن نفسه، فلا -يا أخي- اقرأ وتدبر واعمل بالقرآن.
هذا أول سبب من أسباب محبة الله.(5/16)
التقرب إلى الله بكثرة النوافل
جاء حديث في صحيح البخاري يقول الله عز وجل: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بعمل أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه) فلا يمكن أن يحبك الله إلا إذا تقربت إليه بكثرة النوافل، لا كما يصنع كثير من الشباب اليوم يصلون الفريضة ويتركون السنة، النافلة، لماذا؟ قال: هذه سنة، ما معنى سنة؟ أيعني بدعة؟ أيعني مكروهة؟ أتضيعها لأنها سنة؟ إن مضيع السنة ضاع، من رغب عن السنة رغب عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي فليس مني).
كثير من كبار السن يصلون الفريضة والسنة وهم لا يقرءون، لكن الشباب الذين يقرءون الحاصلون على شهادات جامعية يصلون الفرض ثم يخرجون، صلِّ السنة يا أخي! قال: يا رجل! هذه تعب، إنما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها.
لا، بل يعاقب، ثم يعاقب، ثم يعاقب، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من أصر على ترك الراتبة والنوافل فهو فاسق ترد شهادته.
فإذا جاء يشهد وهو لا يصلي السنة يقال له: ارجع أنت لست عدلاً؛ لأن من ترك السنة ترك الفريضة، فإن أول خطوة في طريق الانهزام أن تصلي الفريضة فقط، وبعد ذلك إذا ضعفت ماذا تفعل؟ هل معك غير الفريضة؟ سوف تضيع الفريضة، ولذا هذا شيء مجرب، من ترك سنة ترك الفريضة ولو بعد حين، أما المسلم! فلا.
يصلي الفريضة، ويصلي الراتبة، ويصلي النوافل، ويتحبب إلى الله بكثرة النوافل، وكلما لقي فرصة من الخير زاد فيها، إما في نافلة صلاة، أو صيام، أو زكاة، أو حج، أو عمرة، أو بأي نافلة من النوافل التي لم يفرضها الله عليه، لماذا؟ لأنه يطلب محبة الله: (وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه) هذه الثانية.(5/17)
المداومة على ذكر الله
الثالثة من علامات أو أسباب محبة الله، وأريدكم أن تحفظوها -يا إخواني- لأننا نريد مناهج عملية لا نريد ندوات، ولهذا أنا أحرص باستمرار في الكلمات أن آتي بواحد، اثنين، ثلاثة، أربعة؛ من أجل أن يخرج الواحد بشيء يفيده.
الأول شيء: قراءة القرآن.
الثاني: كثرة النوافل.
الثالث: دوام ذكر الله؛ لأنك إذا ذكرت الله ذكرك الله، وإذا ذكرك الله أحبك، يقول الناظم:
وداوم ذكره في الأرض دوماً لتذكر في السماء إذا ذكرتا
وفي الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الله يقول: (أنا مع عبدي ما ذكرني أو تحركت بي شفتاه، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة، وكنت إليه بكل خير أسرع).
فأكثر من ذكر الله، واجعل لسانك حياً، لما جاء عبد الله بن بشر رضي الله عنه -والحديث في سنن الترمذي - وقال: (يا رسول الله! كثرت عليّ شرائع الإسلام فأخبرني بعمل أتشبث به، واخفف عليّ -يقول: لا تكثر، شيبة ومعلوماته محدودة، ويريد الجنة، وكثرت عليه الأوامر- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله).
وهذا من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أنه إذا كان دائماً مع الله هل سيترك الفريضة؟ هل سيعصي الله؟ هل يزني وهو يذكر الله؟ هل يأكل حراماً وهو يذكر الله؟ كلا فقد أعطاه القيد، أعطاه السور العام للإسلام وهو: كثرة الذكر، فإن ذكر الله كان معه، فأكثر من ذكر الله تبارك وتعالى، ولا تفتر من ذكر الله، وطبعاً الذكر كما سبق أن قلت للإخوة ليس مجرد الذكر اللساني فقط، وإنما ذكر أوامر الله بالإتيان بها، إذا أذن وأنت في البيت وقمت إلى الصلاة كنت ذاكر لله، لكن إذا أذن وأنت في البيت وجلست سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله ولكن لم تأت لتصلِ فأنت كذاب، أتسبح الله وأنت قاعد في البيت؟ فاذكر الله وتعال للصلاة؛ لأن الله يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] فلا ينفعك أن تذكر الله بلسانك وأنت تعصي الله بجوارحك، هذا ذكر الله عند ورود أمره، وذكر الله عند نهيه، إذا رأيت وأنت ماشٍ في الشارع امرأة متبرجة وغضضت بصرك؛ فأنت ذاكر لله، لكن لو تلفت فيها وقلت: سبحان الله والحمد الله، فأنت: كذاب، تذكر الله بلسانك وعينك في الحرام.
فعليك أن تذكر الله عز وجل في كل الأحوال والمناسبات، في دخولك المسجد -بعض الناس يدخل المسجد فيقدم رجله اليسرى، ويدخل الحمام فيقدم رجله اليمنى، فيجعل المسجد حماماً والحمام مسجداً، فهذا خطأ، فهناك آداب في الشرع يا أخي! إذا أتيت المسجد قف أولاً، واعرف أن المطلوب منك أن تقدم رجلك اليمنى، وإذا أردت أن تقدم رجلك اليسرى، والعكس في الحمام، إذا أردت أن تدخل أن تقدم رجلك اليسرى، وإذا خرجت أن تقدم رجلك اليمنى.
بعد ذلك هناك ذكر حين تدخل المسجد: باسم الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك، واغفر لي ذنوبي، وإذا خرجت تقول: باسم الله، اللهم افتح لي أبواب فضلك -هنا رحمة وخارج فضل- واغفر لي ذنوبي، أما في الحمام فعندما تدخل تقول: باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الشيطان الرجيم، والخبث والخبائث.
وإذا خرجت تقول: غفرانك، الحمد لله الذي أخرج مني الأذى وعافاني.
هذه أذكار لا بد أن تتعلمها واحدة واحدة.
أما إذا جئت تنام، ماذا تقول وأنت على جنبك؟ إذا أتيت تستيقظ ماذا تقول؟ إذا لبست ثوبك ماذا تقول؟ إذا سمعت الرعد ماذا تقول؟ إذا سمعت نزول مطر ماذا تقول؟ إذا هبت الرياح ماذا تقول؟ إذا صاح الديك ماذا تقول؟ إذا نهق الحمار ماذا تقول؟ كل شيء فيه ذكر، إذا عرفت هذا كله تصير ذاكراً لله {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] هذا ذكر الأحوال والمناسبات.
الرابع: ذكر العدد، وهو الذي طلب الشرع منك أن تذكره بعدد معين، مثل: (من قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة في يوم؛ غفر الله له ذنوبه ولو كانت كعدد رمل عالج، أو كعدد ماء القطر، أو عدد ماء البحر) إذا قلت مائة مرة كل يوم: سبحان الله وبحمده، هذا في صحيح مسلم، والحديث الآخر يقول عليه الصلاة والسلام: (من قال عقب كل صلاة: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين، ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفر الله له ذنوبه ولو كانت كزبد البحر) بعد كل صلاة: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، الحمد لله ثلاثاً وثلاثين، الله أكبر ثلاثاً وثلاثين، هذه عدها واحد من الإخوان فوجدها تأخذ دقيقة وأربعين ثانية؛ لأنه كان هناك ساعة أمامه.
طبعاً يقولها بإخلاص، إذا قالها بغير إخلاص لا تنفعه، سبحان الله والحمد لله والله أكبر، سبحان الله والحمد لله والله أكبر، يقولها في دقيقة وأربعين ثانية، ويغفر الله له ذنوبه إن شاء الله، ولكن بشرط يقولها الآن بعد العشاء ويقولها في الفجر لا يستعجل الفجر ويذهب من أجل أن ينام، ويقولها في الظهر لا يستعجل لكي يذهب السوق أو يذهب إلى العمل، ويقولها في العصر، كل صلاة (من قال عقب كل صلاة) وإذا داومت عليها عقب كل صلاة أحيا الله قلبك، وحببك إليه، فكثرة ذكر الله -أيها الإخوة- مطلوبة جداً.
ودوام ذكر الله في كل الأحوال، هذه ثلاثة أسباب من أسباب حصول محبة الله عز وجل، يبقى سبعة لا يتسع المقام لذكرها على التفصيل ولكني أذكرها بالإجمال وهي:(5/18)
تقديم محبة الله على محبة النفس
كل ما يحبه الله تقدمه على محبة نفسك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: والحديث في الصحيحين (ثلاث من كن في قلبه وجد بهن حلاوة الإيمان -الأولى: - أن يكن الله رسوله أحب إليه مما سواهما) أي: أن تكون أوامر الله وأوامر رسول الله مقدمة ومحببة إلى نفس الإنسان مما سواهما من محبة غيرهما، فهذه علامة وسبب من أسباب محبة الله.(5/19)
التفكر في حقائق الأسماء والصفات
أن لله أسماء وله صفات تبارك وتعالى، له الأسماء الحسنى وله الصفات العليا، والتأمل فيها يوحي بمعانٍ في قلبك، فأنت لما تسمع أن من أسماء الله عز وجل العزيز، يندرج من هذا المفهوم أن تكتسب العزة منه؛ لأنك عبده، وعبد العزيز عزيز، ما تذل نفسك، إلا لأوليائه.
إذا عرفت أن الله عز وجل رحيم، انعكس من هذه الصفة رحمة في قلبك على عباد الله عز وجل.
المهم أنك تتأمل في كل صفة وتكتسب منها ما تستطيعه، وأيضاً تقذف في قلبك هذه الصفة، إذا عرفت أن الله قوي، تيقنت في قلبك أن الله قوي، إذا عرفت أن الله ذو انتقام لم تعصه، إذا عرفت أن الله يغضب على من عصاه لم تتعرض لمساخطه، فهذا التأمل يجعلك محبباً إلى الله عز وجل.(5/20)
التفكر في نعم الله
التفكر في مظاهر البر والإحسان والنعم التي تحيط بك -أيها الإنسان- {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53].
ولو تأملت -يا أخي- جزئية من جزئيات جسمك لوجدت أن فضل الله عز وجل عليك عظيم {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء:113].
أنت تدخل الآن في فراشك وتنام، وفيك أجهزة من رأسك إلى قدمك، لو تعطل عليك جزء واحد أو جهاز أو عرق أو عظم أو مفصل لتغيرت حياتك كلها، بعض الناس يصيبه وجع في سن من أسنانه، أو ضرس فيتورم ضرسه ولا يستطيع أن يأكل، أو يشرب، أو ينام، وإذا سألوه قال: كل شيء إلا الضرس، لماذا؟ لأن ضرسه يؤلمه، فإذا سلم ضرسه وجاءه مغص في بطنه وقعد يتلوى ويوعك قال: كل شيء إلا هذه البطن، فإذا سلم بطنه وجاءه صارف في عينه، قال: كل شيء إلا العين، فالعين جوهرة، وددت لو أن كل شيء فيّ سقيم إلا عيني، فإذا سلمت عينه وجاءه صالب في ركبته قال: إذا أصيبت الركب فلا أستطيع أن أمشي أو أقوم، المهم لا يهون عليك من جسمك شيء، حسناً الآن وأنت نائم على فراشك جهازك السمعي يعمل، وجهازك البصري يعمل، وجهازك التنفسي يعمل، وأسنانك سليمة، وعروقك جارية، ومجاريها كلها سليمة، وقلبك، ورئتك، وكلاك، ومعدتك، وأمعائك، والبنكرياس، والكبد محلها تعمل، كم جهاز وآلة وعضو؟! كلها تعمل، والله هو الذي يسيرها لك، فهذه نعمة أم لا؟! ثم تنظر بعد هذا وأنت تتقلب على فراشك في العافية، وتنظر إلى زوجتك معافاة وأولادك معافون، آمن في سربك، معك قوت يومك وليلتك وشهرك وسنتك، بل بعضهم معهم قوت سنين، فهل هذه نعمة أو ليست نعمة؟! فمن الذي أنعم بها عليك؟ الله عز وجل، فلو تفكرت فيها وقلت: اللهم لك الحمد يا رب، تدخل بابك بعد صلاة العشاء، وتجد أن أولادك كلهم في البيت وتغلق عليك الباب، لا تخاف من أحد يطرقك، أو يغضبك أو يقتلك، أو يسرقك، وبعد ذلك تدخل البيت وتجد أنه لا ينقصك فيه أي شيء، كان الناس في الماضي يدخل الشخص بيته والأسى واللوعة والحسرة تعتصر قلبه، لأنه لا يجد عشاء لأولاده، فجيبه فاضٍ، والسوق فاضٍ، وليس هناك شيء.
فيما مضى كان الشخص يهرب من الضيف فإذا جاء الضيف الكل يغلق بابه، ليس بخلاً ولكن لا يوجد شيء يضيفونه به، لكن اليوم يدخل الشخص يجد أن بيته فيه كل شيء، الثلاجة مليئة باللحوم، والأسماك، والدجاج، والطيور، والمعلبات، والخيرات، والبركات، والجيب ممتلئ، ولو نقص عليه شيء ما يتحرك من بابه، ويركب سيارته، ويذهب إلى أقرب دكان أو أقرب بقالة حتى إن البقالات لم تعد دكاكين بل صارت مراكز، يقول: مركز تسويق، سوق مركزي، يدخل الشخص وقد جلبت له كل نعم الأرض، اللحوم في زاوية، والفواكه والخضروات في زاوية، والمعلبات في زاوية، واللعب في زاوية، أي: يدخل ويخرج والدنيا كلها في هذا الدكان، من ساق لك هذه النعم؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو، فاعرف نعمة الله واشكر الله واعترف بنعمه عز وجل وقم بعبادته، عندها يحبك الله تبارك وتعالى ويزيدك قال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] فالتفكر في مظاهر البر والإحسان والنعم يحببك إلى الله.(5/21)
انكسار القلب
انكسار القلب وهذه من أعجبها كما يقول ابن القيم رحمه الله: انكسار القلب وتذلُلِه خصوصاً بعد العمل، حين تعمل عملاً صالحاً ثم تستغفر الله بعده، ولذا شرع الله بعد أن تصلي الصلاة، بعدما تسلم: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، ماذا تقول؟ أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، تستغفر الله؟! أين كنت؟ كنت تعمل جريمة من أجل أن تستغفر؟ لا.
تستغفر؛ لأنك تقول يا رب ما عملت عملاً، وما صليت صلاة كما ينبغي سهوت في صلاتي، وغفلت في صلاتي، لم أعبدك حق عبادتك، فأنا استغفرك يا رب! ولهذا يقول الله عز وجل: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] طوال ليله قائم وقاعد وراكع وساجد وفي آخر الليل يقول: يا رب! اغفر لي ذنبي {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة:198] إذا أفضت من عرفات فاذكر الله عز وجل، وتستغفر الله تبارك وتعالى بعد كل عمل تقدمه، لماذا؟ لأنك تشعر نفسك بالانكسار وعدم العجب؛ لأنك إذا مارست العبادة وأنت معجب بها ومتكبر أنك أحسن من غيرك، ردها الله عليك، ما هي عبادتك؟ يقول: لا يزال العمل -العمل الصالح- يعظم عند العبد حتى يصغر عند الله، ولا يزال العمل يصغر عند العبد حتى يعظم عند الله، ولا تزال المعصية تعظم عند العبد -يعصي الله معصية بسيطة، لكن يراها كبيرة- حتى تصغر عند الله، ولا يزال العبد يعمل المعصية الكبيرة ويستصغرها حتى تعظم عند الله، وهي مسألة متلازمة، فإذا عظمت المعصية عندك، تكون صغيرة عند ربي، وإذا صغرت المعصية عندك -تعصي الله وتقول: بسيطة- تكون عند الله عظيمة قال الله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15].
وكذلك العمل الصالح، إذا رأيت أنه جميل عندك فاعرف أنه عند الله قبيح، وإذا رأيت أنه قبيح عندك، وأنه لا يجملك، ولا يبيض وجهك، فاعرف أنه عند الله جميل، فالانكسار والتذلل خصوصاً بعد أداء العمل الصالح هذا من أعظم ما يجعل الله يحبك.(5/22)
الخلوة بالله
أن تخلو بربك ولو لحظة، لا تكن دائماً عابداً مع الناس؛ لأن الصلاة والحج والصوم مع الناس، لكن هناك ساعات ولحظات يجب أن تخلو بالله، وأعظم وقت تخلو به مع الله آخر الليل، إذا أمكنك، وإذا لم يمكنك، فقبل النوم، تدخل غرفتك لا يراك فيها زوجة، ولا ولد، ولا شيء، وتنادي الله عز وجل وتدعو الله، وتصلي ركعتين وتستغفر الله، وتتوب إلى الله، وتطلب من الله أن يسترك، وأن يمن عليك بنعمه، وأن يوفقك، وأن يحميك، وأن يسددك، هذه خلوة بالله تبارك وتعالى، هذه خلوة تجعل الله عز وجل يعلم أن هذا العمل خالص ليس فيه رياء ولا شبهة ولا شيء إن شاء الله.(5/23)
مجالسة أولياء الله
فإنك إذا جلست مع من يحبهم الله أحبك، الآن إذا كان معك زميل تحبه ويحبك، وذهب يجلس مع من تحب، ماذا يحصل لك؟ تحبه أكثر، لكن ما رأيك إذا جلس مع من تكره، لقلت: لو أنه صديق صادق ويحبني لما ذهب وقعد مع الذي أكرهه، هو يعرف أني أكره أولئك ويسمر معهم ويجلس معهم، هذا صديق كذاب، وتبدأ بينك وبينه العداوة وتكرهه، وإذا لامك تقول: يا أخي! أراك كل ساعة مع فلان، ألا تعلم أن بيني وبينه عداوة، وأنهم يكرهونني وأني أكرههم، لماذا تحبهم وأنت صديقي؟! مقتضى الصداقة أن تحب من أحب، وأن تبغض من أبغض.
وكذلك -يا مؤمن- يجب أن تحب من يحبه الله وأن تبغض من يبغضه الله، ولذا أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، فتحبب إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتحبب إلى الله بحب أهل الخير.
فعليك -يا أخي المسلم- يا من تريد أن تنال محبة الله، وأن تجلب محبة الله إليك، أن تجالس من يحبه الله تبارك وتعالى، وأن تختار أفضل الكلام؛ لأن الله قال: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:18].
أنت الآن مثل الذي يجني الثمر من شجرة، فالذي يجني برقوقاً لا يأخذ إلا الناضج الطيب، أو يجني برتقالاً، أو تفاحاً، أو فرسكاً، أو تيناً، لا يمد يده إلا على الشيء الطيب يأخذه، والتي ليست ناضجة يتركها في مكانها، فكذلك أنت في المجالس إذا سمعت كلاماً تأخذ أحسنه، وتختار وتنتقي، لكن بعض الناس لا ينتقي من المجالس إلا أردى الكلام، إذا سمر في مجلس وسمع أخباراً وقصصاً؛ يأخذ أخس قصة، أو أخس كلام ويذهب ليذيعها وينشرها، فهذا -والعياذ بالله- مثل الذباب لا يقع إلا على النجاسات.
أما المؤمن فهو مثل النحلة لا تقع إلا على الطيبات، المؤمن كالنحلة إن أكلت أكلت طيباً، وإن بذلت بذلت طيباً، وإن جلست على شيء لم تخدشه ولم تكسره، فهذه النحلة كمثل المؤمن.
والمنافق كالذباب إن جاء على شيء لا يقعد على شيء طيب، ولو أنه في الصحراء لا تقر إلا ومعه ذباب، من أين جاء؟ وما يدريه أنه سوف يذهب إلى الصحراء يتخلى؟ فيأتيه، وإن جلس جلس على أنفه، وبعد ذلك يؤذيه يبعده فيعود، ثم يبعده، وبعد ذلك إذا نقل، نقل العدوى ونقل المرض، فمثل المؤمن كالنحلة، ومثل المنافق الفاسق كالذباب، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.(5/24)
اجتناب المعاصي
الحرص والابتعاد عن كل سبب مانع يحجبك عن الله حتى لا يكرهك الله وهي الذنوب والمعاصي، فالذنوب حجاب بين العبد وبين مولاه.
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب يطيع
مقتضى المحبة: الطاعة وعدم المعصية، لكن إذا كان لك صديق، وتقول له: إني أحبك، ولكن لا تطيعه في أي أمر هل يصدقك في محبتك؟ أبداً، لا يصدقك، يقول: الله أكبر عليك وعلى هذه المحبة التي معك، كلما قلت لك: تعال هنا، قلت: من هنا، أين المحبة؟ المحبة أنك تطيعني -يا أخي- أنت في بيتك لو حلفت لزوجتك أنك تحبها، وأنها مثل عينك وفي الصباح قالت: هذا (الزنبيل) فأحضر لنا لحمة، وفاكهة، وأرزاً أعطتك قائمة بالطلبات، فلما رأيت القائمة هذه قلت: والله المحبة في القلوب، أما هذه الطلبات والله إني لأكرهها، أنا أحبك لكن بلا مقاضي، ماذا تقول لك المرأة؟ تقول: (الله يقلعك ويقلع محبتك) والله لو كنت تحبني؛ لكنت أتيت بالمقاضي والطلبات، لكن دليل أنك لا تحبني أنك لا تريد أن تحضر لنا ما طلبنا، وهكذا، فأنت يا من تزعم محبة الله لا بد أن تقدم برهاناً ودليلاً على محبة الله، وهي فعل أوامره، وترك نواهيه.
أسال الله تبارك وتعالى أن يرزقنا وإياكم حبه، وحب من يحبه، وحب كل عمل يقربنا إلى حبه، وأن يجعل حبه أحب إلى قلوبنا من الماء البارد على الظمأ، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/25)
السيرة النبوية
بدأ الشيخ محاضرته بالكلام عن فضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الخلق، واختصاصه بالشفاعة العظمى يوم القيامة في المحشر.
ثم بين الشيخ أن سيرة رسول الله منهج لحياة المسلم، وأن دراستها تفيد في كل مناحي الحياة، كما أنها سبيل إلى التعرف على كل التفاصيل التي مرت في حياته صلى الله عليه وسلم، ومنها التعرف على معجزاته والتي ذكر منها الشيخ تكثير الطعام بين يديه، ونبع الماء من بين أصابعه، واطلاعه على أحداث ومواقف لم يحضرها.(6/1)
بيان فضله صلى الله عليه وسلم على سائر الخلق
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا الدرس يلقى في مسجد (الشربتلي) في مدينة جدة بعد مغرب يوم السبت الموافق (23 من شهر جمادي الأولى عام 1417 للهجرة) على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وهو الدرس الأول من سلسة تأملات في السيرة النبوية.
سيرة من؟! إنها سيرة خير البشر، وأفضلهم، وأكرم الخلق، فسير العظماء والأبطال والعباقرة جديرةٌ بالدراسة؛ لاستخلاص العبر، ولأخذ المواقف، لكن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من كل سيرة.
إنه ليس رجلاً عبقرياً عظيماً فحسب، وليس بطلاً فقط، يكفيه أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه ليس رسولاً فقط، بل هو من أولي العزم، بل هو أفضل الرسل على الإطلاق، وخير وأكرم من خلق الله.
نادى ربنا تبارك وتعالى كل الأنبياء بأسمائهم {يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات:104 - 105] {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46] {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ} [آل عمران:55] {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ} [القصص:31] وهذا شيءٌ طبيعي أن ينادي الله عز وجل عبيده بأسمائهم، فهم وإن كانوا رسلاً وأنبياء إلا أنهم عبيد، والسيد إذا دعا العبد دعاه باسمه، ولكن محمد صلى الله عليه وسلم ما ناداه ربه باسمه في القرآن، فليس في القرآن يا محمد! بل فيه نداءان اثنان {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:67] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [التوبة:73].
علام يدل هذا التخصيص؟ يدل على عظم المنزلة، وسمو المكانة، وأنه خير من خلق الله، فهو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، وخير من سار على الأرض في هذه الدنيا، وصاحب اللواء يوم العرض، وأول من يطرق باب الجنة، وأول من يؤذن له بالشفاعة يوم القيامة.(6/2)
اجتماع الخلق في أرض المحشر
في الصحيحين: يجتمع الناس في عرصات القيامة في يوم شديد الكرب، شديد الهول، السماء فيه تنفطر، والنجوم تنكدر، والجبال تسير، والقبور تبعثر، والبحار تسجر، وأهوال يشيب لها رأس الوليد الصغير الذي ليس له ذنب، فهو يوم يجعل الولدان شيباً، قال تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير
وإذا الجبال تقلعت بأصولها ورأيتها مثل السحاب تسير
وإذا البحار تأججت نيرانها ورأيتها مثل الحميم تفور
وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت فتقول للأملاك أين نسير؟!
فيقال سيروا تشهدون فضائحاً وعجائباً قد أحضرت وأمور
وإذا الجنين بأمه متعلق يخشى الحساب وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المقيم على الذنوب دهور
في ذلك اليوم العظيم يطول على الناس الموقف، وعدة ذلك اليوم خمسون ألف سنة، واليوم منها بألف سنة مما نعد، قال عز وجل: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] فاليوم من أيام الآخرة يعدل ألف سنة، واضرب ألف سنة في خمسين ألف سنة، فهذا يوم القيامة والناس وقوف، والشمس تدنو من الرءوس ولا توجد مظلة إلا مظلة الرحمن، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها، وليس هناك ماء إلا حوض الحبيب صلى الله عليه وسلم، نرجو الله أن يسقينا من حوضه، ويحشرنا في زمرته، ويجعلنا من أتباع سنته، ومن الناصرين لدينه وهداه.
والموقف طويل، والانتظار صعب على النفوس، فأنت لا تستطيع أن تنتظر ولا تحب الانتظار، ولو سافرت في رحلة فستظل ترقب الساعة متى يحين موعد الإقلاع، فلا تريد أن تبقى ولو لعشر دقائق.
وإذا أتيت إلى المطار، وأعلن أن الرحلة تأخرت ساعة فكيف يكون وضعك؟! ستقول في نفسك: أأجلس، أم أرجع، وتضيق عليك نفسك وأنت جالس تحت المكيف، وعلى الكرسي، وإذا قيل: تأخرت الطائرة ثلاث ساعات أو أربع انزعجت.
وإذا أتيت إدارة حكومية ووجدت أمامك عشرة أشخاص أو خمسة عشر، أو عشرين؛ جلست تترقب وصول شخص ما ليساعدك ويخلصك من هذه الزحمة، فلا تريد أن تنتظر.
فكيف تنتظر يوم القيامة على تلك الحال؟(6/3)
موقف أولي العزم في المحشر
يضج الناس في المحشر، ويذهبون إلى الأنبياء والرسل باعتبار أن لهم مكانة ومنزلة؛ من أجل الشفاعة عند الله ليقضي بين العباد ولو إلى النار، فيأتون إلى نوح أول الأنبياء والرسل، فيقول: نفسي نفسي، إن لي دعوة قد دعوتها على قومي ليس لي غيرها، ويقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله.
ومن غضب الله أن دمر الكون كله؛ لأن الساعة تقوم حينما لا يقال في الأرض: الله الله، فيغضب الله ويدمر الكون، فلا يوجد من يجرؤ على الشفاعة في ذلك اليوم.
فالآن المدير عنده السكرتير، ومدير المكتب، والمساعدون، فإذا كان غاضباً وجاء من يقول: من فضلكم! لدي معاملة وأريدكم أن تشفعوا لي عند المدير، فيقال له: المدير ليس في مزاج حسن اليوم، فاذهب وعد في وقت يكون فيه مزاجه حسناً، فيختارون الأوقات المناسبة لذلك.
في ذلك اليوم الأنبياء يقولون: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، نفسي نفسي.
فالنبي يقول: نفسي نفسي، فكيف بنا أنا وأنت -يا أخي- يوم القيامة، لا إله إلا الله! نستغفر الله من الذنوب! فإذا كان الأنبياء المعصومين الذين لا يعصون الله لا يجرءون على سؤال الله شيئاً، فكيف بالمقصرين والمذنبين أمثالنا.
فيقال: اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم، فيقولون له: ألا تشفع إلى ربنا في فصل القضاء؟ فيقول: نفسي نفسي، ويذكر أنه قد كذب ثلاث مرات، ويقول: إني أستحي أن أسأل الله وقد كذبت كذبات ثلاث.
وما هي كذبات إبراهيم عليه السلام؟ إنها كذبات من أجل الدعوة، وهي صدق فيه تورية، فالمرة الأولى: حين خرج قومه لعبادة الأوثان وتقديم القربان قال: إني سقيم، وصدق! يقول: إن في قلبي مرضاً من عبادتكم لهذه الأصنام، لا أقدر أن أخرج معكم فأنا سقيم، قلبي مريض مما فيه من عبادتكم لغير الله، لكنه من محاسبته لنفسه اعتبرها كذبة.
- والثانية: لما قام على الأصنام وحطمها وعلق الفأس على كبيرها، قال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:58] فلما جاءوا: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:59 - 60] فتىً! فأين فتيان الإسلام؟ في المقاهي والمدرجات والأرصفة، وأمام المسلسلات والدخان والجرائد والمجلات إلا من عصم الله، فكان إبراهيم فتىً من فتيان الله، من فتيان الدين: {فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ} فلما جيء به قالوا: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60 - 62] فقال لهم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء:63] ويشير إلى الصنم بإصبعه، وهو يعني أن إصبعه هذه كبيرة الأصابع هي التي حطمتها؛ لأنه لولا وجود هذه الإصبع لما قدر الإنسان على عمل شيء، فالإصبع السبابة تعد كبيرة الأصابع، وإذا فقدت هذه الإصبع لا يستفاد من بقية الأصابع بأي حال، قال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء:63] يعني: إصبعه، فهم ظنوا أنه يعني الصنم، قال: {فَاسْأَلُوهُمْ} [الأنبياء:63] وهو أراد أن يقررهم على نقص عقولهم وقلة أفهامهم، إذ كيف يعبدون من لا يمنع نفسه؟ قال: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:63] قالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:65] أي: أنت تعلم أنهم لا يتكلمون، قال: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:67] لأنكم تعبدون شيئاً لا يمنع نفسه، ولا ينفع، ولا يضر.
- والثالثة: لما دخل مصر وكان حاكمها طاغية مفتوناً بالنساء؛ فلا يرى امرأة جميلة إلا أخذها، وكانت امرأة إبراهيم عليه السلام جميلة، فلما أخبروه بها وقالوا: هناك امرأة دخلت ليس لها وصف، فقال: أحضروها، ولما جيء بها ومعها زوجها، فلو قال: زوجتي، فماذا سيصنع به؟ سيذبحه؛ لأنه لا يمكن أن يسمح له بزوجته، قال: ما تكون لك؟ قال: أختي.
وصدق! فهي أخته في العقيدة والإسلام؛ لأنه ليس في الأرض مسلم إلا إبراهيم وزوجه، فقال: اجلس هنا، وأخذها الملك وذهب بها إلى حيث لا يراها زوجها، فلما أرادها دعت الله عز وجل فجمده في مكانه، حاول وحاول ولكن بدون فائدة، فقال: اسألي الله أن يطلقني ولن ألمسك، قالت: اللهم أطلقه، فأطلقه الله، ولما ولت جاءه الشيطان فلحقها فدعت الله عليه ففعل ذلك ثلاث مرات يراودها وهي تدعو الله، حتى ظن أنها ليست من الإنس، فأمر بإخراجها، وفي هذه الأثناء كشف الله لإبراهيم الحجب حتى يرى كل شيء، فلا يبقى في نفسه شك، فلما خرجت أخدمها الملك هاجر وهي أم إسماعيل، ولما دخلت على إبراهيم قال: ما صنعتِ، قالت: أخزى الله الكافر فكف يده وأخدمنا هاجر.
هذه كذبات إبراهيم -في نظره- ومع هذا يقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، اذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى فيقول: نفسي نفسي، إني قد قتلت نفساً، فجريمتي لا تؤهلني لأشفع للناس عند الله، وهو من أولي العزم ومن أفضل الرسل، وقد اصطفاه الله، يقول الله تعالى له: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] ويقول فيه: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41] وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة، فأقوم وإذا موسى قائم عند العرش فلا أدري أبعث قبلي أم جوزي بصعقة الطور) فهو من أولي العزم، ومع هذا يقول: أنا لا أستطيع أن أقول شيئاً، اذهبوا إلى عيسى.
فيأتون عيسى فلا يذكر ذنباً وإنما يقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى محمد، لا أسألك اليوم إلا نفسي.(6/4)
الإذن لمحمد صلى الله عليه وسلم بالشفاعة الكبرى لأهل المحشر
يأتي أهل المحشر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها، أنا لها) اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم شفَّع نبيك فينا، وهذا هو المشروع عند أهل السنة والجماعة: أن تدعو الله أن يشفع نبيه فيك؛ لأن الشفاعة له: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255].
والشفاعة حق لكنها لا تكون إلا بشرطين: - الشرط الأول: الإذن من الشافع.
- والثاني: الرضى عن المشفوع له، فإذا لم يتوفر الشرطان فليس هناك شفاعة.
قال: (فآتي فأسجد تحت العرش، ويفتح الله عليَّ من المحامد والثناء بما لم يفتح عليَّ من قبل، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يارب! أمتي أمتي) اللهم اجعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
أمة الإجابة.
فالأمة تنقسم إلى قسمين: أمة الدعوة، وأمة الإجابة، فأمة الدعوة تشمل كل من على وجه الأرض منذ مبعثه صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة؛ لأنه دعاهم كافة، أما أمة الاستجابة فهم الذين استجابوا لله وللرسول -اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين- لأن الله تعالى يقول: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس:25] فالدعوة عامة ولكن الهداية خاصة {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25].
هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد الله له وقال جل ذكره: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فمن الذي يقول هذا؟ إنه الله، وقال له بعد أن سرد الأنبياء في سورة الأنعام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] ووزع الله جميع الكمالات البشرية في البشر كلهم وأعطى الأنبياء أعظم قدر من ذلك، ثم جمع جميع كمالات البشر في محمد صلى الله عليه وسلم، فما من صفة وكمال إلا وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى قدر منها، فإن قلت: الصدق، فهو أصدق البشر، وإن قلت: الشجاعة، فهو أشجع البشر، وإن قلت: الكرم، فهو أكرم البشر، وإن قلت: القوة، فهو أقوى البشر، وإن قلت: الحلم، فهو أحلم البشر فأي صفة تأتي بها تجده يملك الحظ الأوفر منها.(6/5)
أهداف دراسة السيرة النبوية
عنوان هذا الدرس: (لماذا ندرس سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟) والكتاب الذي اخترته ليكون مرجعاً كتاب عظيم اسمه: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ومؤلفه أستاذ مشارك في جامعة الملك محمد بن سعود في كلية التربية وهو الدكتور/ مهدي رزق الله أحمد.
وهو كتابٌ عظيم يتميز أولاً: بترتيبه وحسن تنظيمه.
وثانياً: بتوثيقه لمصادره، واقتصاره على الصحيح مما ثبت عن طريق أهل الحديث، يعني أنه أخذ السيرة من كتب أهل الحديث، واهتم ووثق، وبالإضافة إلى ذلك يتميز هذا الكتاب بميزة استخلاص العبر، وأخذ الحكم من مواقف سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا فهو من أعظم الكتب، وأوصي إخواني طلبة العلم أن يقتنوه، ويراجعوا هذه الدروس، ويقرءوها على أهليهم في بيوتهم، ويقرءوها مع زملائهم، فإنها من أعظم ما يربى عليه الإنسان، فإذا أتيت بيتك في الليل وبعد أن تتناول طعام العشاء تجمع زوجتك وأولادك، وتقول: تعالوا نتدارس درساً من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم، وتأتي بهذا الكتاب وتدرس موقفاً واحداً وتستخلص منه العبر، وفي الليلة الثانية مثل ذلك، فتنشئ أولادك وبيتك على هدي وسيرة أكرم خلق الله رسول الله صلى الله عليه وسلم.(6/6)
السيرة طريق إلى التطبيق العملي لأحكام الإسلام
أولاً: من أهداف دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن الدارس لهذه السيرة يقف على التطبيق العملي لأحكام الإسلام التي تضمنتها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن القرآن نزل من عند الله، والسنة قالها رسول الله بوحي من الله، وكلها شملت أحكاماً وأوامر ونواهي وأخباراً، فأين طبقت؟ ومن طبقها على أعلى مستوى وأعظم قدر وأحسن تطبيق؟ إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا درست السيرة؛ وقفت بنفسك على التطبيق العملي، فالقرآن متمثل بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاء في الحديث لما سئلت عائشة رضي الله عنها فقيل لها: (كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان خلقه القرآن) فإن أردت أن ترى خلق النبي صلى الله عليه وسلم فاقرأ القرآن، كل ما في القرآن من هدىً وفضائل ونور متمثل في شخص النبي صلى الله عليه وسلم.
إذن يلزمك أن تقرأ سيرته، لماذا؟ لترى التطبيق العملي لأحكام القرآن، فمثلاً: حين تسمع أن الله أمر بالصدق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] فأنت تريد نموذجاً من البشر قد تمثل فيه خلق الصدق، فتقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتخرج بنتيجة مفادها أنه منذ خلق حتى مات ما كذب كذبة واحدة، حتى إنه لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالكتب إلى ملوك العرب والعجم، كان من ضمن الكتب كتاب إلى هرقل، فلما قرأه قال: هل هنا أحد من العرب؟ فبحثوا فوجدوا أبا سفيان ومعه نفر من العرب كانوا في تجارة، فأتي بهم، فوقف أبو سفيان وكان كافراً آنذاك، ووقف أصحابه من خلفه، فقال هرقل: إني سائله، فإن صدق فاسكتوا، وإن كذب فأشيروا إليَّ بأنه كذاب، ثم بدأ يسأل أبا سفيان ومن ضمن الأسئلة قوله: هل جربتم على هذا الرسول كذباً؟ قال: لا.
ولو علم أبو سفيان على رسول الله كذبة واحدة لكان قال: نعم.
لكنه يعرف أنه لو قال: نعم؛ للزمه أن يحكيها، فما كذب النبي صلى الله عليه وسلم في حياته قط.
وبعد أن أخبره -والحديث طويل في صحيح البخاري - قال له هرقل: وسألتك: هل جربتم عليه كذباً، فقلت: لا.
قلت: فما كان ليدع الكذب على الناس ثم يكذب على الله.
فمن يستحي أن يكذب على الناس فمن باب أولى أنه لن يكذب على الله.
قال هرقل: فما كان -انظر إلى حكمة الرجل- ليدع الكذب على الناس ثم يكذب على الله، فعرفت أنه نبي.(6/7)
السيرة سبيل إلى التأسي برسول الله
ومن أهداف السيرة ودراستها: أننا مأمورون بالاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الرجل المثالي الذي ينبغي أن يحتذى به، فكل واحد منا في حياته له مثل وقدوة يود أن يكون مثله، فمن قدوتك أيها المسلم؟! إن قدوتك هو رسول الله، ولهذا يقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] فهذه ثلاثة شروط لمن كان يريد أن يكون له أسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيلزمه أن يكون مؤمناً بالله واليوم الآخر، وأن يذكر الله كثيراً، هذا هو الذي له في رسول الله أسوة حسنة، أما الذي لا يرجو الله، ولا يؤمن بلقائه، ولا يذكره فلن يكون محمد قدوته، فتكون له قدوات أخرى، فيكون قدوته اللاعب الفلاني، أو المغني الفلاني، أو الممثل الفلاني، أما أنت أيها المؤمن! يا من ترجو لقاء الله! يا من تؤمن بالله! يا من تذكر الله! من قدوتك؟ من الرجل الكامل الذي تتخذه قدوة يقودك إلى النجاة في الدنيا والآخرة؟ إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وما دمنا مأمورين بالاقتداء به؛ فإن الأمر يقتضي معرفة أحواله وشمائله وأخلاقه في جميع الأمور والأحوال والمناسبات؛ لأن من عرف شمائله وأخلاقه أحبه، ومن أحبه اقتدى به، وعلى ذلك سينال الأجر العظيم من الله في الدنيا والآخرة، حيث سيحشر معه، يقول أنس بن مالك في الحديث الصحيح: (جاء رجل أعرابي فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم حتى انتهى من كلامه، ثم قال له: أين السائل؟ قال: هأنذا يا رسول الله -فربطه الرسول صلى الله عليه وسلم بالعمل- قال: ما أعددت لها؟ -القضية ليست قضية أسئلة- قال: لا شيء غير أني أحب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت) يقول أنس: فما فرحنا يومئذٍ بأعظم من هذا، فإنا والله نحب الله ورسوله.
ونحن أيها الإخوة! نحب الله ورسوله، نسأل الله أن يوفقنا لأن نترجم هذه المحبة إلى عمل؛ لأن المحبة إما صادقة، وإما كاذبة، فالمحبة الصادقة هي التي يتبعها فعل، والكاذبة هي التي لا تتجاوز اللسان، يقول:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب يطيع
فإذا أحببت الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنك تنساق إلى طاعته واتباعه من غير مشقة؛ لأنك تحبه، وهذا واقع في حياة الناس الآن، فإذا قلت لزوجتك: إني أحبك، وقالت لك في الصباح: اقض لنا الحاجة الفلانية.
فسترد عليها قائلاً: أرجوكِ! إن المحبة في القلب، وليست في قضاء الحوائج.
فماذا ستقول المرأة؟ هل تصدقك في أنك تحبها؟ أتحبها ولا تقضي لها حوائجها؟ أتحبها ولا تهدي إليها هدية؟ أتحبها ولا تكسوها؟ لأنه من المعلوم أن الذي يحبك يعطيك، ويطيعك، ويحفظك، ولا يحب أن يسيء إليك.
فكيف تدعي محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأنت ضد سنته؟ ومخالف لهديه؟ فأنت في وادٍ، وشريعته في وادٍ وتقول: والله إني لأحبه، فهذه محبة الكذابين، فإذا أردت أن تكون محباً فاتبع، يقول الله عز وجل في سورة آل عمران: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] يقول ابن عباس: [امتحن الله الخلق بهذه الآية] فهي اختبار، (قل) هنا للشرط، إن كنتم تحبون الله بصدق؛ فاتبعوا رسول الله، لماذا؟ لأن الله ما أرسله إلا ليطاع، يقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64] فكيف يرسل الله لك رسولاً ولا تطيعه؟ لو أرسل لك مدير قسم الشرطة باستدعائك إلى القسم، فماذا تفعل؟ بالطبع ستقطع أعمالك وتذهب مباشرةً، فهل تشرع في الاستجابة احتراماً للعسكري أم للذي أرسله؟ للذي أرسله بطبيعة الحال.
لكن لو امتنعت ولم تذهب مع العسكري، فسيأتي من يأخذك قهراً مكبل اليدين؛ لأنك رفضت طاعة العسكري الذي يمثل من أرسله وهناك قد تكون قضيتك الأولى بسيطة، لكن يفتح لك تحقيقاً جديداً في موضوع التمرد والعصيان، فكيف يرسل لك رجل الدولة، والذي يحمل شعار الدولة ويعطيك الأمر وتقول: لن تأتي؟! إذاً فأنت عاصٍ، وعلى هذا قد تضاعف لك العقوبة، وتفتح لك قضية، ويمكن أن يحكم عليك بالسجن؛ لأنك عصيت رجلاً من رجال الدولة، وهذا حق، فلا ينبغي أن تعصي، لماذا؟ لأن طاعة العسكري من طاعة ولي الأمر، وطاعة ولي الأمر من طاعة الله بالمعروف، وأنت مأمور بطاعة ولي الأمر وإلا فإنك تستحق العقوبة.
وكذلك حين يرسل الله إليك رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنت ترفض إجابة دعوته؛ فإن الله سيرسل إليك برسول آخر اسمه ملك الموت يأخذك قهراً، وإذا أخذك قلت: رب ارجعونِ لعلي أعمل صالحاً وأطيع الرسول قال لك: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:100 - 101].
إذن فيقتضي الاقتداء برسول الله أن ندرس شمائله، وأحواله، وأخلاقه صلى الله عليه وسلم.(6/8)
السيرة سبب لثبات الدعاة إلى الله
ومن أهداف السيرة ودراستها: أنها حافلة بمواقف إيمانية، وأحداث عقدية وقفها النبي صلى الله عليه وسلم، ووقفها معه أصحابه لإعلاء كلمة الله، وفي هذه المواقف تقوية لعزائم المؤمنين، وتثبيت لهم للدفاع عن هذا الدين، وقذف الطمأنينة في قلوبهم، وأن لهم سلف وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي السيرة أيضاً كثير من العظات والعبر والحكم التي يعتبر بها المسلم، ويستفيد منها المؤمن؛ لأنها التطبيق العملي الصحيح لدين الله ولشريعته عز وجل.
وفي سيرته صلى الله عليه وسلم دروس عملية لكثير من الناس وهي تتعلق بالابتلاء؛ لأن البلاء سنة كونية أرادها الله عز وجل لتمحيص الناس، حتى يتبين الصادق من المدعي الكاذب، يقول الله تعالى: {ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] فابتلى الله الناس بعدة ابتلاءات ومنها: الابتلاء بالأوامر التي فرضها الله علينا، فالتوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج، هل كلها تنفع رب العالمين، ومردودها يعود على الله؟ كلا.
فقد قال تعالى في الحديث القدسي: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً) فالطاعات والتكاليف الشرعية فرضها الله على الناس للاختبار والابتلاء، ولتكون سبباً في دخول الجنة، وحتى يتميز الصادقون عن اللاهين.
كذلك المحرمات التي حرمها الله، فقد حرم الله الزنا، والربا، والخمور، والكذب، فكل هذه من المحرمات، لماذا؟ لتصلح الحياة وليتميز الناس، ليعرف الصادق من الكاذب.
إذا ابتلاك الله بمرض في ولدك أو جسمك أو زوجتك، فهذا نوع من البلاء، ليعلم الله هل أنت صابر أم عبد للعافية فقط، فبعض الناس عبد للعافية، وإذا جاءه المرض أشرك بالله، يقول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} يعني: بلاء {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] فهو موحد حال العافية، فإذا مرض أو مرضت المرأة، أو الولد؛ ذهب للمشركين، وللكهنة، وللمشعوذين، وإذا قيل له: هذا شرك، يقول: ماذا أعمل؟ فقد ذهبنا للمستشفيات فلم نجد علاجاً، وذهبنا إلى من يقرءون القرآن فما نفعوا، فماذا أعمل؟ أأقعد مريضاً؟ لا.
ومعنى كلامه: إما أن يعافيني ربي، وإما أن أشرك به، والعياذ بالله! فأين العبودية؟ إن العبودية في أن تصبر؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] فإذا جاءك المرض؛ فاسلك الطرق الشرعية للعلاج، فإما أن يكون العلاج عضوياً في المستشفيات أو نفسياً أو معنوياً عند القراء الذين يقرءون القرآن والسنة فقط.
أما أن تذهب إلى كاهن، أو ساحر، أو مشعوذ، أو كذاب، أو عراف؛ فتصدقه فيما قال فعند ذلك تكون قد كفرت، والحديث في صحيح مسلم: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد، ومن أتاه ولم يصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) بمعنى أنه لو مات في فترة الأربعين يوماً، يموت على غير الإسلام -والعياذ بالله- فهذا المرض بلاء.
كذلك الفقر: فالذي قسم الأرزاق بين العباد هو الله، يقول الله عز وجل: {نَحْنُ قَسَمْنَا} [الزخرف:32] (نحن) هنا، من؟ أي: الله، مرسوم رباني، و (قسمنا) بصيغة الماضي، يعني: المسألة مقسومة ومنتهية: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32] فالله جعل هذا غنياً وهذا فقيراً، فابتلى الله الغني بالمال، والفقير بالفقر، فماذا يحصل عندك إذا كان الله ابتلاك بالفقر؟ عليك أن تصبر، أما أن تتضجر وتتسخط وتقول: ما بالي أنا من دون الناس؟ الناس كلهم أغنياء إلا أنا، إذن فخذ رزقك بالقوة إن استطعت إلى ذلك سبيلاً، فهذا لا يصح، وما معك إلا الفقر، والفقر مقسوم لك، رضيت أو لم ترض، لكن الرضا يعوضك في آخرتك، وإلا فقد كتب رزقك، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها) فالرزق أمر مفروغ منه، وما على الناس إلا السعي فقط، يقول عليه الصلاة والسلام: (فاتقوا الله وأجملوا في الطلب؛ فإن رزق الله لا يرده كراهية كاره، ولا يجلبه حرص حريص) فإذا ابتلاك الله بالفقر فارض بما قسمه الله لك مع أخذك بالأسباب، ولا تستسلم، وتقول: أنا فقير وسأنام، لا.
بل اعمل واطلب الرزق من الله عز وجل، واسترزق الله، ولكن بعد ذلك ارض بما قسم الله.
وأفضل وسيلة لطلب الرزق أيها الإخوة! هي التقوى والاستغفار، يقول عليه الصلاة والسلام: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق فرجاً، ومن كل همٍ مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب) فعليك إذا ما أتاك رزق في ذلك اليوم أن تقول: أستغفر الله! أستغفر الله! أستغفر الله! استغفر طوال يومك، وإذا ما أتيت إلى السوق تريد أن تعمل والعمال كثر، والطلب قليل، فاقعد واستغفر الله، فما تبرح حتى يرسل الله إليك من يكون سبباً في رزقك ذلك اليوم، لماذا؟ لأنك استغفرت ربك، فهنيئاً لك الرزق، وقد تستغفر ولا يأتيك رزق؛ لأن بعض الناس يدعو ويستغفر ويريد أن يختبر الله، فإن رزقه وإلا أمسك عن الدعاء والاستغفار، فأنت بهذا ما استغفرت من أجل الله، بل استغفرت من أجل المال، والله علم أن نيتك ليست خالصة له فما آتاك الرزق، لكن لو أنك استغفرت وعلم الله صدقك لرزقك؛ لأن الله يعلم ما في قلبك، ويعلم الموحد من المشرك، والصادق من الكاذب، والمخلص من المرائي، فهو يعلم السر وأخفى، أي: يعلم السر الذي في نفسك ولا يعرفه إلا أنت، ويعلم ما هو أخفى من السر والذي ستعرفه فيما بعد، فالله يعلمه وأنت ما علمت به بعد، فلا إله إلا الله! فيكون البلاء بالمرض، وبالفقر، وبالغنى، وبالزوجة والأولاد: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:165] فهذا كله بلاء.
فعلى المسلم إذا درس السيرة أن يأخذ العبرة، ويتأسى، ويعرف أنه لا بد له من البلاء، ولا بد للبلاء من صبر.(6/9)
السيرة تعين على فهم الأحكام المجملة
أيضاً: في دراسة السيرة ما يعين المسلم على فهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم محكمة ومتشابهة، ومن الصعب على طالب العلم أو الرجل العامي أن يعرفها، ولكن بدراسة السيرة يعرف الأحداث؛ لأن أسباب نزول الآية مشروح في السنة وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.(6/10)
السيرة تتناول ما يحتاجه طالب العلم
كذلك دراسة السيرة تكسب طالب العلم الكثير من المعارف المختلفة، من عقيدة وشريعة، وأخلاق وسلوك، وتعامل وعبادة، وحديث وتربية، واجتماع وتفسير، فكل الكنوز تجدها في السيرة، فكيف برز السلف أيها الإخوة؟ وما هي أسباب نبوغ الرعيل الأول؟ إنهم كانوا متمسكين بالسنة، عاكفين على اقتفاء سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.(6/11)
من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم
أيضاً هناك هدف من دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو: الوقوف على المعجزات التي أجراها الله عز وجل على يدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛ لتكون شواهد على أنه رسول من عند الله، وهذه لا تعرف إلا في ضوء وقائع السيرة، فإن السيرة حدَّثت كثيراً عن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم.(6/12)
معجزة الأنبياء وخرافة الأولياء
المعجزة في تعريف العلماء هي: (أمر خارقٌ للعادة مقرون بالتحدي، يظهره الله على يد نبي من أنبيائه) وتختلف المعجزة عن الكرامة، في أن الكرامة أمر خارقُ للعادة، ولكنها غير مقرونة بالتحدي، يظهرها الله عز وجل على يد عبد من عباده.
ولا يشترط في الكرامة أن يكون صاحبها تظهر عليه أمارات الصلاح، فقد تظهر الكرامة على يد رجل غير صالح، ولهذا أصلح الناس بعد رسول الله هم الصحابة وليس لهم كثير من الكرامات، لماذا؟ لأن عندهم من الحقائق -كما يقول ابن تيمية - ما أغنتهم عن الكرامات، وظهرت كثير من الكرامات على أيدي بعض المتصوفة، وأكثرها من مكر الشيطان وتلبيس إبليس، وليست كرامات في أكثرها، وبعضها كرامة؛ لأن الكرامة في معتقد أهل السنة والجماعة شيء مسلم به ولكن في حدود ووفق ضوابط، أما عند المتصوفة فالأمر واسع، وقد ذكر هذا الشعراني صاحب الطبقات الكبرى للصوفية، يذكر عن شخص من أئمتهم أنه كان يأتي حمارة فيطؤها وهو ولي من أولياء الصوفية، فلما قيل له في ذلك، قال: إنها كرامة من كراماته أن الحمارة ما رفسته.
ورجل آخر من الصوفية يذكر عنه في الطبقات الكبرى أنه كان يخطب يوم الجمعة عارياً -تصوروا أن يصعد المنبر وهو عارٍ كما خلقه الله- فقيل له: ما هذا؟ قال: كرامة، قالوا: تستر، قال: إني أستغنى بستر الله عن ستر الناس، فضح نفسه واستغنى بستر الله، أهذه كرامة؟ هذه فضيحة -والعياذ بالله- إلى غير ذلك من الخزعبلات التي لا يقبلها العقل، ويستحي الإنسان أن يحدث بها، ويسمونها كرامات، وليست بكرامات وإنما هي خزعبلات وأكاذيب وخرافات.(6/13)
معجزات الأنبياء وما يستفاد منها
إن المعجزات التي يؤيد الله بها أنبياءه ورسله يستفاد منها أمران: أولاً: الإيمان بالله.
ثانياً: الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن ثبوت المعجزة يدل على أنها واقعة من الذي أرسل الرسول، فتقتضي المعجزة الإيمان بمن أوجدها وهو الله تعالى، وتقتضي صدق من جاء بها وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذا أرسل الله الرسل بالبينات، يعني: الشواهد والدلالات، يقول الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد:25].
وأيد الله كل نبي بالبينات بما يناسب حال الناس في وقته، ففي عهد موسى كان السحر على أشده، فأيده الله بالعصا تلقف ما يأفك السحرة، وفي عهد عيسى كان الطب متقدماً، ولكنهم عجزوا عن علاج البرص والعمى والكمه - والكمه: هو أن يولد الإنسان أعمى- وهذه الأمراض عجز الطب الحديث عن علاجها، فالله عز وجل أعطاه آية وهي أن يبرئ الأكمه والأبرص والأعمى، كما أنه يحيي الموتى، حتى لا يقول أحد: إنه قادر على فعل ذلك، لذا جاءت المعجزة مقرونة بالتحدي.
وأما صالح عليه السلام فأرسله الله إلى ثمود وكانوا أهل إبل، وسكنوا مدائن صالح، فكانت آيته ناقة طلبوها هم، وقالوا: نريد أن تخرج لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء، يعني: في الشهر العاشر؛ لأن الناقة تحمل من عشرة إلى أحد عشر شهراً، فاختاروها فانفلقت الصخرة وخرجت لهم الناقة، وقال لهم: هذه ناقة الله، لها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم؛ فالماء لها يوم ولكم يوم، ولا تمسوها بسوء فعقروها فسلط الله عليهم بأن صاح فيهم جبريل صيحة قطعت قلوبهم في أجوافهم وأصبحوا جاثمين والعياذ بالله! أما رسولنا صلى الله عليه وسلم فقد أيده الله عز وجل بمعجزاتٍ كثيرة، ألفت فيها مؤلفات منها كتاب: دلائل النبوة للبيهقي، ودلائل النبوة لأبي نعيم، كتاب البداية والنهاية لـ ابن كثير وتحدث عنها كثيراً في الجزء الثاني، وعدها بعض أهل العلم أكثر من ألف معجزة، أي: ألف دليل على أنه رسول من عند الله، ويعدّ أعظمها وأعلاها وأشدها القرآن الكريم، يقول الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت:51] أي: أما كفاهم دليلاً على أنك رسول وجود هذا القرآن معك؟ فهو معجزة باقية؛ لأن رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم باقية.
فلو أتيت أحد اليهود قائلاً له: من نبيك؟ يقول: موسى؛ تقول: وما دليل نبوته؟ يقول: العصا! إذن أين العصا؟ العصا ذهبت وكانت خبراً وانتهى.
تأتي إلى النصراني وتقول: من نبيك؟ يقول: عيسى.
تقول: وما دليل نبوته؟ يقول: يحيي الموتى.
تقول: ولكن متى كان ذلك؟ يقول: في تلك الأيام الماضية.
لكن تأتي إلى المسلم فتقول له: من نبيك؟ يقول: محمد صلى الله عليه وسلم.
تقول: وما دليل نبوته؟ يقول: القرآن خذ، لماذا؟ لأنه رسول خاتم، ورسالته دائمة، فاقتضى الأمر أن تكون معجزته موجودة في كل وقت، دائمة خالدة باقية إلى يوم القيامة.
فأي منصف يريد الحق حين يقرأ القرآن يشهد أن لا إله إلا الله مباشرةً؛ لأنه ليس بمعقول أن يكون هذا القرآن من عند النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الرجل الذي لم يقرأ ولم يكتب حرفاً واحداً، ولو وضعت (أب ت) أمام النبي صلى الله عليه وسلم وقلت: ما هذه؟ فإنه لا يعرف ألفاً ولا باءً، ولكنه معلم الإنسانية، ومعلم البشرية كلها، يقول الله عز وجل فيه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} [العنكبوت:48] يعني لا تقرأ: {وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت:48] يعني: لا تكتب، لماذا؟ قال: {إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] لو أنك كاتب وقارئ لحصل عندهم ريب وشك وقالوا: هذا كاتب، وهذا من بنات أفكاره، ومن تأليفه، قال الله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:49] هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أميته دليل إعجاز، ودليل على نبوته وشاهد على أنه رسول من عند الله عز وجل.
وللرسول صلى الله عليه وسلم معجزات كثيرة، سنعرفها إن شاء الله من خلال السيرة.(6/14)
قصة طعام جابر يوم حفر الخندق
معجزته يوم كانوا يحفرون الخندق، والخندق هو أخدود حفر حول المدينة كلها، وتصوروا هذا الجهد! وصاحب الرأي فيه هو: سلمان الفارسي؛ لأن سلمان عنده خطط حربية تعلمها من بلاد فارس، فلما استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قال سلمان: نعمل خندقاً حتى لا تستطيع خيل الكفار أن تدخل على الناس، وإذا دخل منهم رجلان نقدر على مواجهتهم، لكن إذا دخلوا على الخيول فكيف يمكن مواجهتهم؟ فالفارس يمكنه أن يقطع رأسك وهو على رأس الحصان؛ لأن في يده سيف وأنت في يدك سيف، لكن هو على ظهر الحصان وأنت على الأرض، ولهذا الراجل ليس مثل الفارس، والفارس عنده ميزة للتفوق، فإن عنده قوته وقوة حصانه، فالحصان له قوة، قال صلى الله عليه وسلم: (الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة) فعملوا الخندق من أجل الحيلولة دون دخول الخيل إلى المدينة.
وما هي وسائل الحفر؟ الأيدي، لا (دركترات) ولا حفارات ولا أي شيء، إنما بأيديهم وكانوا قلة، وجائعين وضعفاء، وما عندهم شيء، وظروفهم لا يعلمها إلا الله! وكلما وصلوا إلى حجر كبير يريدون إزالته لا يستطيعون، فيقولون للرسول صلى الله عليه وسلم فيأتي فيقول: باسم الله فيضربه فيكسره، وهذه من معجراته صلى الله عليه وسلم.
وكانوا على حالهم في الحفر حتى جاء الظهر، ولاحظ جابر رضي الله عنه على وجه النبي صلى الله عليه وسلم أمارات الجوع، فذهب إلى البيت وسأل زوجته فقال: هل عندكِ طعام؟ قالت: عندي مد من طعام وعندنا شاة صغيرة، فطلب منها أن تعجن عجينها وذبح هو الشاة، وقال: اطبخيها وسآتي بالنبي صلى الله عليه وسلم وبعض النفر، يعني: واحد أو اثنان.
قال جابر: فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فساررته في أذنه وقلت: يا رسول الله! إن عندنا مداً من طعام، وعندنا شاة صغيرة ذبحناها وطبخناها، وأريدك أن تأتي أنت ونفر من أصحابك، قال: لا بأس، ثم أمر المنادي في أهل الخندق وكانوا ألفاً وخمسمائة رجل، قال: الغداء عند جابر.
لا إله إلا الله! كيف يغدي ألفاً وخمسمائة، هذا المجلس كم فيه -ربما خمسمائة- من يعشيكم؟ لا إله إلا الله!! لكن هؤلاء الصحابة منذ زمن ما ذاقوا اللحم، وما ذاقوا العيش، جائعين، لو قدم لأحدهم ذبيحة لأكلها كلها، وهذه شاة صغيرة من تكفي؟ يقول جابر: فعدت للبيت مباشرةً وقال: جاء رسول الله وأهل الخندق، ولكن انظروا إلى الزوجة المثالية المؤمنة الدينة العظيمة، قالت: هل أخبرته بما عندنا من طعام؟ قال: نعم.
قالت: لا عليك فهو يعلم ما يصنع، ولو أنها واحدة من نسائنا لصاحت وولولت وقالت: فضحك الله كما فضحتنا! والله لا أقعد في البيت، وتخرج.
والرسول قال لـ جابر: لا تنزلوا القدر حتى آتي، ثم جاء صلى الله عليه وسلم ومعه أهل الخندق كلهم، ودخل البيت وقال لـ جابر: أدخلهم عشرة عشرة؛ لأن البيت لا يتسع لأكثر من عشرة، وجلس صلى الله عليه وسلم وقدم القدر وقرب الخبز، فكان يلت الخبز في اللحم ويعطي عشرة فإذا اكتفوا خرجوا ودخل غيرهم، يعني مائة وخمسين مرة، حتى انتهوا كلهم، قال جابر: والله لقد انتهوا وقدرنا ما نقص منها شيء.
وهذا في صحيح البخاري وصحيح مسلم، وليس من الإسرائيليات ولا حديثاً ضعيفاً، فهذه المعجزة تأتي على يد من أيها الإخوة؟! والذي شهدها ألف وخمسمائة.
ليس واحداً ولا اثنين، فشهود الحادثة بالتواتر كما يقول ابن حجر: تكثير الطعام متواتر، فهو دليل على أنه رسول من عند الله تعالى.
وأما بعض الصوفية وأئمتهم فيكذبون على الناس، ومنهم شخص يخبرني عنه أحد العلماء، كان يرسل في الصباح إلى الصحراء بعض تلاميذه ويقول لهم: دسوا في الرمل برتقالاً وتفاحاً وماءً ثم يأتي في العصر ويأخذ المريدين والتلاميذ ويخرجهم إلى المكان المحدد وقد بينه بعلامة ويقول: ماذا تريدون؟ قالوا: ماذا تريد أنت؟ قال: أتريدون تفاحاً؟ قالوا: نعم، قال: احفر هنا يا ولد، فيحفر فيخرج التفاح، قالوا: الله! هذه كرامة من كرامات الولي، وكان أحد تلاميذه ذكياً فراقبهم ذات يوم وحين ذهبوا كعادتهم، ذهب وأخذ البرتقال والتفاح، وجاء الشيخ بعد العصر، وقال: هل تريدون تفاحاً؟ قالوا: نعم يا شيخ، قال: احفروا هنا، وإذا به لا يوجد شيء، قالوا: ماذا هناك يا شيخ؟ قال: فيكم رجل عاصٍ.
قال هذا الولد: والله إنك أكبر عاصٍ، ودجال تضحك علينا وأنت تدسها كل يوم، وقام يتكلم مبيناً لبقية التلاميذ أنه كان يرسل بعض طلابه في الصباح ليدفنوها في الرمل؛ حتى يكذب عليهم.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمعجزته صدق.(6/15)
نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم
نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ومن معجزاته وهي في الصحيحين أيضاًَ: معجزة نبع الماء من بين أصابعه، والحادثة أيضاً مشهورة ذكرها البخاري ومسلم وعلق عليها ابن حجر وذكرها الأئمة وقالوا: إنها كالمتواتر، وقد حصلت مرات، لكن أشهرها في غزوة الحديبية (عندما منعوا من دخول مكة ونفد الماء، وجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما بقي ماء إلا في ركوة صغيرة -الركوة إناء من الجلد- فقال: هاتوها، فجاء وغمس يده فيها فنبع الماء من بين أصابعه وجاء الناس يستقون، فاستقوا وشربوا وملئوا القرب كلها، قال: كم كنتم؟ قالوا: كنا ألفاً وخمسمائة، ولو كانوا مائة ألف لكفاهم) هذه من معجراته صلى الله عليه وسلم.(6/16)
انقياد الشجرة له صلى الله عليه وسلم
انقياد الشجر له: هذه في الصحيحين عندما خرج صلى الله عليه وسلم إلى الخلاء، وكان إذا خرج إلى الخلاء يذهب بعيداً يستتر؛ لأنه حيي صلى الله عليه وسلم، كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، فإذا خرج إلى البر لا يخرج قريباً حتى لا يراه الناس، بل يذهب مسافة طويلة، ولا يوجد حمامات في البيوت، فذهب إلى مكان بعيد يريد أن يستتر فما وجد شجرة، فرأى شجرة في طرف الوادي فدعاها، فجاءت تشق الوادي حتى وقفت عنده، ثم نظر فإذا شجرة في الطرف الثاني فأشار لها فجاءت تشق الأرض حتى وقفت عنده، قال: (التئما عليَّ بأمر الله، فالتأمتا ثم استتر بهما حتى قضى حاجته، فلما انتهى قال لهذه: هكذا -يقول راوي الحديث: والله ما تخطئه- فرجعت تشق الأرض إلى مكانها الأول، ثم رجعت الثانية إلى مكانها) هذا في الصحيحين، اللهم صلِّ وسلم عليه، هذه من معجزاته صلى الله عليه وسلم.(6/17)
إطلاعه صلى الله عليه وسلم على اجتماع عمير بن وهب مع صفوان بعد بدر
ومن معجزاته أيضاً: ما وقع بعد غزوة بدر، لما انتصر المسلمون في غزوة بدر ورجع الكفار مهزومين وكان لهم أسرى في المدينة، فجلس اثنان من الكفار في حجر إسماعيل بجوار الكعبة، وكان الأول هو صفوان بن أمية وقد قتل أبوه أمية بن خلف في غزوة بدر، ومعه عمير بن وهب الجمحي وقد أسر ولده، فتذاكرا ما أصابهم في بدر من هزيمة، فقال عمير: والله لولا دينٌ عليَّ وعيال عندي لذهبت إلى محمد في المدينة وقتلته، وهذا عمير اسمه شيطان الجاهلية، ومعروف بشراسته، وبطل مغوار، فاستغلها صفوان؛ لأن أباه قد قتل في بدر، فقال لـ عمير: دينك عليَّ -أتحمل دينك- وعيالك مع عيالي أواسيهم ما وسعني ذلك، قال عمير: إذن اكتم عليَّ، حتى لا يدري أحد، ثم ودعه وخرج إلى البيت وأخذ السيف وشحذه ثم سمه، وكان العرب إذا شحذوا السيف بالسم أوقدوا عليه في النار إلى أن يكون مثل الجمرة، ثم يطفئونه في الماء الذي فيه سم، فيشرب الحديد السم فيصبح السيف مسموماً، وأقل ضربة في أي جزء من الجسم يدخل السم منها ويتسمم الجسم ويموت، فَسَمَّ السيف ثم لفه في خرقة وجعله بين جلده وثوبه.
ثم سرى من ليلته حتى وصل إلى المدينة، ولا يعلم بخبره أحد في الأرض إلا صفوان؛ لأنها مؤامرة يريدون تطبيقها واغتيال النبي صلى الله عليه وسلم فما أخبروا أحداً، ودخل المدينة بعد العصر وربط ناقته بجوار المسجد ثم دخل، فلما رآه عمر وكان جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمر ينظر بنور الله، والحديث في الصحيحين يقول: (إن يكن في أمتي محدثون فإن منهم عمر) (محدَّث) أي: ملهم، فلما رآه قال للصحابة: هذا عدو الله عمير، والله ما أراه جاء إلا لشر، ثم قام إليه وأمسكه من تلابيب رقبته.
فجاء به وهو يمسك بتلابيبه حتى أوقفه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (هذا عمير يا رسول الله! قال: أطلقه، فأطلقه، قال: ماذا تريد يا عمير؟ قال: جئت أفتدي أسيري عندكم، يعني ولدي أسير، قال: اصدقني يا عمير، قال: ما هو إلا ذاك، قال: ولِمَ السيف؟ -والسيف مخفي لكن الله أطلع الرسول عليه- قال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنا يوم بدر شيئاً -يقول: ما نفعتنا يوم بدر، فليس فيها بركة- قال: اصدقني يا عمير، قال: ما هو إلا ذاك، قال: لا يا عمير! بل جلست أنت وصفوان في حجر إسماعيل وتذاكرتما ما كان منكما في بدر فقلت أنت: والله لولا دينٌ عليَّ وعيالٌ عندي لذهبت إلى محمد فقتلته، فقال صفوان: دينك عليَّ وعيالك مع عيالي أواسيهم ما وسعني ذلك، فقلت أنت: اكتم عليَّ وذهبت وأخذت سيفك وشحذته وسممته وجعلته بين جلدك وثوبك وجئت لتقتلني، والله حائلٌ بيني وبينك، فقال عمير: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، والله ما أخبرك بهذا إلا الله) يقول: ليس في الدنيا أحد يعلم بهذا الأمر، لكن هناك (فاكس) رباني جاء من السماء يفضح الفضيحة ويكشف المؤامرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أطلقوا أخاكم وأطلقوا له أسيره كرامة له، وعلموه أمور دينه).
فرجع مسلماً، وكان صفوان جالساً في مكة، ويقول لمن عنده: يوشك أن يأتيكم خبر يسركم، ويوم جاء الخبر وإذا بـ عمير جاء بنفسه، ما هو الخبر؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال: بئس ما فعلت، قال: هذا رسول الله، وأصبح عمير من حواري الإسلام بعد أن كان شيطان الجاهلية، ونصر الله دينه في كل موقف كان قد خذله فيه هو وابنه رضي الله عنهما.
فهذه طرف من معجزاته صلى الله عليه وسلم وإلا فالمعجزات كثيرة وسوف نتحدث عنها في السيرة بشكل أكبر بإذن الله عز وجل.
فهذه -أيها الإخوة- أهداف دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن لا ندرس السيرة للحكايات، فليست قصصاً نضيع بها الأوقات، ونقطع بها الزمن، بل هي عبر، وآيات، وحكم، ومواعظ، وأحداث، نتعلمها من خير البشر، وأكرم الخلق، وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.
وسوف نواصل هذه الدروس إن شاء الله في كل شهرٍ مرة، وسنبدأ إن شاء الله في بدء الوحي وما يعقب ذلك من الأحداث.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يوفقنا وإياكم إلى ما يحبه ويرضاه، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم احفظ لنا ديننا وأمننا ونعمتنا واستقرارنا، اللهم وفق ولاة أمورنا وعلماءنا ودعاتنا وطلبة العلم فينا وشبابنا وفتياتنا وجميع المسلمين إلى خدمة هذا الدين، والدعوة إلى هذا الدين إنك ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(6/18)
الأسئلة(6/19)
حكم الأخذ من مال الشركة دون علم الشركاء
السؤال
أنا وأخي مشتركان في محل تجاري، ومنذ عدة شهور لم يعطني أخي شيئاً، وأصبحت آخذ بدون أن أخبره، فأجيبوني بالصواب؟
الجواب
لا يجوز لك أن تأخذ من المال دون أن تخبره؛ لأنه شريك، والشريك له حقٌ في ماله، فعليك أن تطالبه بإجراء حساب حتى تعرف ما لك وما عليك، أو تخبره أنك ستأخذ من المال وتسجله بحيث تقول: أنا آخذ كل شهر ألفاً أو ألفين أو ثلاثة أحتاجها في مصاريف، وفي نهاية المدة عند الموعد الذي حددتموه لإجراء الحساب -أو معرفة الأرباح- تبين أن عندك عشرون ألفاً أو ثلاثون فيحسبها مما أخذته، أما أن تأخذ وهو لا يدري فهذه خيانة، وإذا أخذ هو دون أن تدري فهذه خيانة، وإذا دخلت الخيانة في الشركة فسدت وخسرت وغضب الله على الخائنين، قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52].(6/20)
الإيمان الصحيح يقتضي الإيمان بكل الأنبياء
السؤال
أرجو منكم توضيح أنه يجب الإيمان بما جاء به موسى وعيسى وجميع الرسل حتى لا يلتبس الأمر على الحضور؟
الجواب
لا أظن حصول اللبس؛ لأني ما أشرت إلى هذا، المعروف أيها الإخوة! أن من أركان الإيمان: الإيمان بالرسل من أولهم إلى آخرهم، فالذي يكفر برسول واحد؛ يكفر بكل الأنبياء والرسل، فنحن نؤمن ونعتقد في قرارة أنفسنا، وجزء من مقتضيات ديننا أن الله أرسل رسلاً إلى الناس، ذكر الله بعضهم وسماهم، وبعضهم لم يذكرهم ولم يخبرنا عنهم ولكننا نؤمن بهم على العموم، ونؤمن على التفصيل بمن أخبر الله عز وجل ومنهم عيسى، وموسى، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط كل هؤلاء الأنبياء نؤمن بهم لكن لا نتبع شريعتهم؛ لأن شريعتهم نسخت بشريعة الإسلام، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى عمر بن الخطاب وفي يده نسخة من التوراة غضب وقال: (أفي شك أنت يا بن الخطاب، والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) فموسى الذي أنزلت عليه التوراة لو كان موجوداً لما عمل بالتوراة.
فبماذا يعمل؟ يعمل بالإسلام وبالقرآن.(6/21)
أولو العزم من الرسل
السؤال
لماذا سمي الرسول صلى الله عليه وسلم من أولي العزم، ومن هم أولو العزم؟
الجواب
أولو العزم خمسة وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وسموا بأولي العزم؛ لأنهم كلفوا بشرائع ضخمة، ومن أعظمها شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، كما أن لهم عزيمة كبيرة في القيام بهذا الأمر.(6/22)
عمر الرسول صلى الله عليه وسلم ووزيريه
السؤال
قرأت في البداية أن عمر أبي بكر (63) سنة، وعمر الرسول صلى الله عليه وسلم (63) سنة، وفيما أعلم أن أبا بكر أسن من الرسول صلى الله عليه وسلم فأرجو التوضيح؟
الجواب
صحيح أن أبا بكر مات وعمره (63) سنة، وعمر مات وعمره (63) سنة، ورسول الله مات وعمره (63) سنة، ورسول الله أكبر من أبي بكر، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات قبل أبي بكر بسنتين، وأبو بكر ولد بعد النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين وقليل، فليس هناك خلاف.
فهل قصدك أنهما ولدا في يوم واحد ومات الرسول قبله؟ لا.
فالرسول ولد قبل أبي بكر بسنتين، ومات قبله بسنتين، فيكون سنهما (63) سنة عند الموت.(6/23)
المنهج النبوي في العمل بكتاب الله
السؤال
نرجو توضيح منهج الرسول في العمل بكتاب الله؟
الجواب
سبحان الله العظيم!! الرسول صلى الله عليه وسلم هو المطبِق الأول، والتطبيق العملي في حياته هو القرآن والسنة، أما منهج السلف هذا هو السؤال الذي تقوله، فلا تقل: منهج الرسول، فمنهج الرسول هو الإسلام، هو الدين، لكن ما هو منهج السلف في دراسة كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: كيف استدلوا على مسائل العقيدة؟ وكيف استدلوا على مسائل العبادة؟ هذا سؤال يحتاج إلى محاضرة مستقلة، أي أن السلف رحمهم الله تميزوا أنهم أهل السنة والجماعة؛ لأن لهم طريقة في الأخذ من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم اختلفت عن طريق أهل الأهواء والبدع، فهؤلاء ضلوا؛ لأنهم ما اتبعوا طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أما أهل السنة والجماعة فتمسكوا بالكتاب والسنة، فالكتاب هو القرآن، والسنة هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فسموا أهل السنة والجماعة لأنهم اجتمعوا عليها، أما أهل الأهواء والبدع فقد أخذوا مناهج أخرى، واتبعوا طرقاً وأساليب فسموا أهل الأهواء، وهم أربع فرق: الخوارج والروافض والمرجئة والقدرية، وجميع الفرق الاثنتين والسبعين فرقة تتفرع من هذه الأربع، يقول ابن المبارك: [جميع أصول الأهواء والفرق أربع، فمن برئ منها كلها برئ من الأهواء كلها].(6/24)
صفات الرسول صلى الله عليه وسلم
السؤال
ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم متصف بجميع الصفات العظيمة، ولم تقيدها بالصفات البشرية، فهل تدخل فيها صفات الله تعالى؟
الجواب
لا.
فصفات الله غير صفات البشر؛ لأن ذات الله عز وجل غير ذات البشر، فالبشر بشر والرب رب، وصفات الله عز وجل صفات تليق بجلاله، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو بشر، ولكن كمالاته البشرية أعظم ما يمكن أن يمنح للبشر، ولكنه ليس رباً حتى يمكن أن تكون صفاته مثل صفات الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!(6/25)
صفة الصلاة الإبراهيمية
السؤال
نذكر في التحيات في التشهد الأخير: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، لماذا خص إبراهيم دون سائر الأنبياء؟
الجواب
هذا مما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في الصحيحين أنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: (قد علمتنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد) فعلمنا الرسول هكذا فلا يسعنا إلا اتباع تعليماته صلوات الله وسلامه عليه.(6/26)
ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم في القرآن
السؤال
كم ذكر اسم محمد في القرآن الكريم؟
الجواب
اسأل الحفظة، أو ارجع إلى المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، شخص من حفظة القرآن يقول: أربع مرات، وأنا أعرف أن الأولى هي قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] والثانية قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] والثالثة قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] والرابعة قوله تعالى: {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} [محمد:2] الله أكبر! هذا هو الفخر -يا إخواني- الفخر بكتاب الله وحفظه، لكن لو أننا في مسرح آخر وقلنا: لمن هذه الأغنية؟ لكنت ترى الأصابع كلها ترتفع ويقول أصحابها: أغنية فلان، ولحنها فلان، وقال كلماتها فلان، فلا إله إلا الله!(6/27)
الفرق بين البلاء والمصيبة
السؤال
ما الفرق بين البلاء والمصيبة؟
الجواب
مشتقات من مشتقات اللغة، فلان في مصيبة أو محنة أو فتنة، أو بلية وكلها شيء واحد نسأل الله العافية!(6/28)
حقيقة الكرامة
السؤال
كيف تكون الكرامة؟
الجواب
قلنا: الكرامة أمر خارقٌ للعادة غير مقرون بالتحدي، ليس فيه تحدٍ يجريه الله على يد بعض عباده، وقد جرت لـ عمر رضي الله عنه كرامة وكان يخطب في المسجد، فقطع الخطبة وقال: [يا سارية الجبل، يا سارية الجبل] فسمعوا صوت عمر وهم في بلاد الفرس يقاتلون: جاءهم العدو من وراء الجبل، وسارية كان قائد جيش المسلمين في المعركة، وكشف الله لـ عمر المعركة وهو في المدينة، فقال: [يا سارية الجبل! العدو جاءكم من الجبل] فالتفتوا وإذا بالعدو وراءهم، فرجعوا عليه، وسمعوا صوت عمر وهم في بلاد الفرس، هذه من كرامات عمر رضي الله عنه.(6/29)
وصف كتاب: هذا الحبيب يا محب!!
السؤال
ما رأيكم في كتاب: هذا الحبيب يا محب تأليف الشيخ أبي بكر الجزائري؟
الجواب
من أحسن ما كتب في السيرة كتاب الشيخ أبي بكر الجزائري هذا الحبيب يا محب، وكتابه: أيسر التفاسير في فهم كتاب الله عز وجل، من أعظم ما ألف؛ لأنه ألفه بطريقة بديعة وسهلة، والشيخ حفظه الله وبارك في حياته ومتعه بها، ذو قلم سيال، وأسلوب جذاب، إذا بدأت بالقراءة له فإنك لا تتوقف.
فهذا كتاب عظيم وننصح الإخوة بقراءته، وإنما أنا اخترت كتاب السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية؛ لأنه موثق، وليس فيه حدث إلا وجاء به موثقاً من مصادره الأصيلة، على منهج أهل الحديث، فوقع اختياري عليه حتى تكون ثقافتنا في السيرة ثقافة موثقة، أي لا نريد كلاماً فيه شيء غير موثق.(6/30)
معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت المقدس
السؤال
لم تحدثنا عن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت المقدس؟
الجواب
أنا ما قلت: إني سأحدثكم عن كل المعجزات؛ لأن المعجزات بلغت الألف وأنا أعطيتكم ثلاثاً أو أربعاً، أما هذه فهي معجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي: أنه لما أسري به إلى بيت المقدس ورجع في ليلته كذبه المشركون، وأرادوا أن يزعزعوا إيمان المؤمنين، وقالوا: إنا كنا نصدقكم، لكن الآن تقولون: ذهب إلى بيت المقدس ورجع في ليلة ونحن نقطعها في شهرين ذهاباً وإياباً، وليته قال: بيت المقدس وسكت، بل يقول: صعد إلى السماء.
فجاءوا إلى أبي بكر الصديق وقالوا: استمع إلى ما يقول صاحبك، فلما أخبروه قال: [إن كان قال ما قال فقد صدق] فسمي الصديق رضي الله عنه.
ومن ضمن أسئلتهم لرسول الله أنهم قالوا: صف لنا بيت المقدس؟ والنبي صلى الله عليه وسلم دخل بيت المقدس في الليل وصلى بالأنبياء وخرج، والذي يدخل المسجد قاصداً أمراً معيناً لا يقعد يتفكر في هذا المسجد.
أنتم الآن حين دخلتم هذا المسجد، كم عدد عمدان المسجد هذا؟ لا تعلمون.
وربما أنكم حضرتم عشرين مرة؛ لأنكم ما جئتم لتعدوا ولستم مهندسين.
كم عدد النوافذ و (الثريات)؟ لا تعلمون.
فهم أرادوا وصفه والرسول صلى الله عليه وسلم دخل لأداء رسالة وهي الصلاة بالأنبياء وخرج.
فلما أرادوا أن يمتحنوه كشف الله له بيت المقدس، وهو في مكة وبيت المقدس في القدس، فجعل يصفه عموداً عموداً ونافذة نافذة وباباً باباً كأنما يراه، ولكن هل آمنوا؟ قال الله عز وجل: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأعراف:146] هم لا ينقصهم الدليل، الدليل موجود لكنه العناد والرفض.(6/31)
من يحق لهم الاستفادة من الضمان الاجتماعي
السؤال
والدتي ترغب في أن تسجل اسمها في الضمان الاجتماعي وهي ليست من أهل الحاجة، ولديها أموال وأراضي، فبم تنصحونها؟
الجواب
لا يجوز لها، ويحرم عليها ذلك، فالضمان الاجتماعي مبلغ مخصص من بيت المال للمنقطعين والفقراء، للذين لا دخل لهم، ولا أراضي، فإذا جاء شخص عنده أموال أو أراضي أو راتب، فكذب وقدم معلومات خاطئة وأخذ هذا المال فقد أخذه حراماً وحال بين المستحق وبينه.
فحين يأتي مستحق، يقال له: المخصصات انتهت، لماذا؟ لأن المخصص أخذه شخص غير مستحق، وبالتالي لا يجوز ذلك.
فإذا رفضت أمك إلا أن تقدم، فاذهب إلى الضمان وقل: إن أمي عندها رصيد وعندها أراضي فلا تعطوها شيئاً، ولكن دون أن يخبروها؛ لأنها ستغضب منك.(6/32)
حكم توريث من مات عنها زوجها ولم يدخل بها
السؤال
امرأة عقد عليها زوجها وتوفي قبل أن يدخل بها، فهل ترث؟
الجواب
نعم ترث.
فإذا عقد وجب لها الإرث، فترث نصيبها من الإرث بحسب دورها في الورثة، فإن كان عنده أولاد فلها الثمن وإن كان ليس عنده أولاد فلها ربع المال ولو لم يدخل بها، ويجب أن تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام.(6/33)
كيفية الإقلاع عن ممارسة العادة السرية
السؤال
الحمد لله سمعت بعض الأشرطة الدينية فتركت الغناء والمسلسلات، ولكني سقطت في العادة السرية، فبماذا تنصحني؟!
الجواب
الحل عندك، وهو أن تنقذ يدك من هذه الفضيحة التي تمارسها معها، وأن تستحي من ربك، وأن تعلم أن الله مطلع عليك وأنت تمارس هذه العادة، فإنها عادة سيئة، وليست عادة سرية، بل عادة خبيثة شيطانية اسمها نكاح اليد، وقد جاء في بعض الآثار أن: [ناكح يده ملعون] لأن يده تحمل منه يوم القيامة، فيأتي يوم القيامة ويده حبلى بكل الحيوانات المنوية التي خرجت منه ليده، فهذه فضيحة يا أخي! وعليك أن تتقي الله فقد أمرك بالعفة إذ قال: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم) فما قال عليك بيدك، فاليد ليست حلاً، بل اليد تزيد المشكلة؛ لأنها لا تقضي على شهوة الجنس، فهي تستفرغ هذا المني، لكن يحصل عندك جراء ذلك شبق جنسي، مثل الشارب من البحر؛ فإذا عطش المرء وشرب من البحر هل يزول عطشه أم يزيد؟ بل يزيد عطشه، كذلك الذي يستمني عن طريق يده، فهذا لا يحل مشكلته وإنما يزيدها، حتى يستنفذ كل ما عنده من حيوانات منوية، وإذا كبر وتزوج لا ينجب، ويحصل له أمراض، وتسوء نفسه، ويسقط من عين الله.
فاتق الله، وعليك أن تجعل بينك وبين هذه العادة جداراً بالخوف من الله تعالى! وأيضاً ابذل جهداً بدنياً، ومارس حركة رياضية، واعمل أي شيء حتى تستفرغ الطاقة في هذا الجهد، وقلل من الطعام، فلا تأكل كثيراً، فإذا تزوجت فكل ما تشتهي، لكن أن تأكل وليس معك زوجة، فأين تسير؟ فهذه الأطعمة هي التي تفجر مكامن الشهوة، وأكثر من قراءة القرآن، ودراسة السنة، والصلاة والدعاء، ولا تأت الفراش إلا وأنت تعبان، لكن إذا أتيت الفراش وما قد جاءك النوم يأتيك التفكير والشيطان يزين لك، فإذا لم تستطع النوم فقم وصل ركعتين، وكلما أتاك إبليس رده بركعتين فلن يأتيك أبداً.(6/34)
كيفية إتمام المصلي لما فاته من الركعات
السؤال
إذا صليت الفجر مع الإمام ثم فاتتني ركعة ثم أتممت معه ركعة، فهل آتي بتشهد آخر؟
الجواب
إذن فماذا تعمل؟ يقول: أدرك ركعة مع الإمام وتشهد مع الإمام وبقي عليه ركعة، ولما انصرف الإمام قام يقضي الركعة الثانية، يقول: هل آتي بتشهد؟ إذن فكيف تأتي بركعة، وكيف تنصرف من الصلاة؟! لابد أن تتشهد وتسلم وهذا شيء من البديهيات، ومعروف عند كل الناس.(6/35)
حكم زواج المسيار
السؤال
هل زواج المسيار زواج شرعي؟ وكيف يتم وأين؟
الجواب
هذه الأسماء لا اعتبار لها، وإنما الاعتبار بالشروط الشرعية والتي إذا توفرت في الزواج فهو شرعي.
- أولاً: أركان النكاح أربعة: - أولاً: الزوجين الخاليين من الموانع: زوج خالٍ من الموانع يعني: ما عنده أربع نساء، يأتي يتزوج نقول له: حرام ما يجوز.
وزوجه خالية من الموانع، أي: ليست متزوجة.
وزوجين ليس بينهما صلة؛ فليست أخته أو أمه أو خالته أو عمته، وهذا أول شيء.
- ثانياً: الولي، إذ لا نكاح إلا بولي، والذي يكون بغير ولي هو الزنا، فما هو الفرق بين الزواج وبين الزنا من حيث العملية الجنسية؟ لا شيء، ولكن الزواج يكون بولي، والزنا يكون بغيبة الولي، والمرأة تزوج نفسها.
فهذا هو الفرق، فلا نكاح إلا بولي.
- ثالثاً: الشاهدان، فلابد من الشهود، فإذا حصل نكاح من غير شهود بطل ركن من أركان النكاح.
- رابعاً: الصيغة، وهي الإيجاب والقبول، فالإيجاب من الولي والقبول من المتزوج، يقول الولي: زوجتك ابنتي فلانة بنت فلان، وذاك يقول: قبلت النكاح من ابنتك فلانة بنت فلان، وتم النكاح وصار شرعياً.
ثانياً: يبقى بعد ذلك السنن، وهي: أن يعلن النكاح ويولم له، فإذا وجدت هذه الأربع فهو زواج شرعي.
ثالثاً: يبقى أمر آخر وهو: إذا كانت الزوجة ليست من بلدك أي: ليست من جنسيتك التي تنتمي إليها، فيلزمك أن تستأذن، وهذا الإذن مأمور به في الشرع، لماذا؟ لأن مصادر التشريع عندنا أربعة: الكتاب والسنة، والإجماع والقياس، والاستصحاب والمصالح المرسلة، وشرع من قبلنا شرع لنا على خلاف بين أهل العلم.
والمصالح المرسلة هي التي أرسل الشرع أمرها وجعلها في يد ولي الأمر بحيث يسمح بها أو لا يسمح بها، فإذا حددها أصبحت شرعاً، مثل إشارة المرور، فليس في دين الله إذا رأى إشارة حمراء يقف، لكن ولي الأمر رأى أن من تنظيم ومصلحة المسلمين أنه توزع فرص السير على الناس، بحيث إن الذي يأتي من هنا يمشي دقيقة، والذي يأتي من هناك يمشي، ويقف هذا دقيقة، يعني نوع من العدل.
فلولا ذلك لحصلت الكثير من الحوادث والخصومات، فجاء ولي الأمر وحدد ذلك، فصارت فرص السير منظمة ودقيقة، فإذا قطعت الإشارة فمعناه أنك خالفت الأمر، ووقعت في معصية، فليست مخالفة مرورية، بل.
مخالفة شرعية؛ لأنه يترتب على قطع الإشارة إزهاق روح، وإفساد مال.
كذلك إذا سن ولي الأمر نظاماً وقال: إذا أردت أن تتزوج بامرأة غير سعودية فاطلب إذناً، لماذا؟ للمصلحة، ما هي المصلحة؟ المصلحة واضحة إذ أنه قبل هذا المنع أصبح السعوديون يقبلون على الزواج، فما رأيكم من سيتزوج بالبنات السعوديات؟ وماذا يحصل من الفساد الذي لا يعلمه إلا الله، فإذا أعرض الشباب عن الزواج من بنات البلد، وبقي البنات بدون زواج؛ فسيفتح باب الحرام.
لذلك جاء ولي الأمر وقال: أهل البلد يتزوجون من البلد نفسه، فهذه مصلحة، فإن قال أحد: هذا حرام، وهذا تحريم لما أحل الله.
نقول: هذا من فقهك الأعوج، فأنت لا تنظر إلا بعين عوراء، فالعين الواضحة تنظر لمصلحة الأمة، ومصلحة الأمة في أن نقصر شبابنا على الزواج من بناتنا، وهناك حالات استثنائية تسمح بها السلطات، فحين تتقدم وتقول: أنا رجل ما وجدت لي زوجة، وما عندي مال، وأنا رجل كبير في السن، فلم أجد من تقبل بي، فهناك إذا اقتنعوا بظروفك فإنهم يعطونك الإذن بالزواج من الخارج، فهذا مطلوب أيضاً.
بقية الأسئلة -أيها الإخوة- جديرة بالإجابة لكن الوقت ضيق والشيخ خالد يخبرني أن في هذا المسجد درس بعد العشاء من كل يوم إثنين لفضيلة الشيخ سعيد الدعجاني حفظه الله وبارك فيه، فأنا أحيل هذه الأسئلة إليه، وأطلب من أصحابها ومنكم جميعاً أن تحضروا عند فضيلته، وهي ساعة بعد العشاء تسمعون فيها ذكر الله عز وجل، وتلين قلوبكم، وتتفقهون في أمور دينكم.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضاه والله أعلم.(6/36)
حقائق وأرقام عن أحوال المسلمين في البوسنة
وقبل أن أختم، هنا رسالة من اللجنة العليا لجمع التبرعات لمسلمي البوسنة والهرسك، والصومال يطلبون فيها التبرع لإخواننا المسلمين ممن ترعاهم هذه اللجنة المباركة، يقول فيها: إليكم هذه الأرقام: - لقد خلفت الحرب الطاحنة التي دارت رحاها في جمهورية البوسنة والهرسك الكثير من المآسي: -مائة شخص يموتون يومياً بسبب الجوع؛ اسمعوا! نحن الآن نموت بسبب التخمة، فكل واحد يأكل فوق طاقته، وما زاد يرميه في القمامة وإخواننا يموتون من الجوع.
- مليوني لاجئ داخل البوسنة وخارجها.
- أربعة عشر ألفاً وثلاثمائة وخمسة وسبعين شخصاً في المستشفيات بسبب الإصابات.
- مائتين وخمسة وسبعين ألف قتيل.
- خمسين ألف طفل وشاب معوق.
- ألف مسجد دمرت.
- خمسة وثلاثين ألف طفل يتيم خطفوا، وقد بيعوا في الدول الأخرى.
- 90% من أطفال البوسنة يعيشون تحت الأرض في خنادق حتى الآن.
حين خرجوا بعد الحرب مات بعضهم، فقد خرجوا مثل الجراد الأصفر، وما عادوا يعرفون الحياة.
- 50% من الأطفال شاهدوا مقتل أقاربهم، وآبائهم، وأمهاتهم أمام أعينهم، مآسٍ لا يعملها إلا الله.
هذه اللجنة العليا لجمع التبرعات قامت بدعم من الحكومة -أيدها الله- والمحسنين في هذا البلد وقامت بدور عظيم في دعم هؤلاء، وتخفيف آلامهم، ومواساتهم بما تقدمه لهم من مساعدات إنسانية، نرجو من إخواننا أن يتبرعوا، والصناديق موجودة على الأبواب لهذه اللجنة، قال تعالى: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ} [البقرة:272] وقال تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215] والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(6/37)
ضرورة الإيمان
الإيمان ضروري لكل فرد كي يسعد ولا يشقى، وضروري لكل مجتمع كي يتماسك ولا يتحلل، فبالإيمان تغمر الفرد السعادة، وتكتنفه الطمأنينة، ويشعر بالرضا والارتياح.
أما المجتمع بغير إيمان فمجتمع غابة، وإن لمعت فيه بوارق الحضارة، وبهذا يتبين أنه ينبغي لكل إنسان أن يعرف الوسائل الموصلة إلى الإيمان الصحيح، والأمور التي تحبط هذا الإيمان.(7/1)
حاجة الإنسان للإيمان
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: كلمة هزت مشاعري، وكادت أن تخنقني العبرة، قالها أخي المقدم ولست لها بأهل، وهي: أن يكون لي أيادٍ بيضاء على هذه المدرسة، فحقيقة الفضل لله وحده قبل كل شيء، ثم لمن قام على هذه المدرسة وتأسست على يديه من الإخوة والزملاء، ثم لمن واصل الطريق وأكمل البناء إلى هذه الساعة المباركة وإلى ما بعد ذلك -إن شاء الله- حتى تحقق هذه المدرسة رسالتها، وتؤتي أكلها في إخراج جيل مسلم قرآني يعرف كيف ولماذا يعيش؟ وما هي رسالته في هذه الحياة؟ وزاد من ألمي أن نظرت إلى هذه الوجوه بعد طول غياب، وطول شوق، فإن النظر إلى وجوه أهل العلم والقرآن ومجالستهم ومحبتهم تعتبر قربة إلى الله عز وجل.
وأنا أهنئكم وأسأل الله تبارك وتعالى أن يجزي القائمين على أمركم من مدرسين وإدارة كل خير، فهم هنا لا يؤدون وظيفة رسمية يتقاضون عليها أجراً، وإنما يمارسون رسالة أنيطت في أعناقهم، وهي من أساسيات وظائفهم في هذه الحياة أن يكونوا دعاة إلى الله عز وجل، وأنتم في هذه المؤسسة القرآنية لستم طلاباً كبقية الطلاب في بقية المدارس الذين يطلبون العلم لنيل الشهادة، وللحصول على الراتب والمرتبة، وبالتالي الوصول إلى ما يتمناه الإنسان من أمانٍ مادية بحتة تتمثل في: منصب وجاه ومركب ومنزل، وزوجة حسناء، وتنتهي طموحاته عند هذا الحد المهين الذي هو طموحات كل كافر على وجه الأرض، وليس للكافر بعد هذا أي هدف.
لا.
هذه ليست أمانيكم ولا أهدافكم، بل أنتم طلاب علم وخدمة لكتاب الله وحفظة لقرآنه، التحقتم بهذه المؤسسة القرآنية واخترتموها اختياراً من بين سائر المدارس؛ لتعيشوا في ظل القرآن ولتتربوا على منهجه، ولتتخلقوا بخلقه؛ وليرى الناس في المجتمع نموذجاً من البشر ما رأوه في غير هذه المؤسسة؛ لأنها تستظل بظل القرآن، هذه هي أهدافكم! وإذا صحت منكم النيات، وصلحت منكم المقاصد، وكان هذا الغرض؛ بارك الله في العمل مهما كان قليلاً، وبارك الله في الجهد مهما كان ضئيلاً، وأوتي الإنسان خير الدنيا ونعيم الآخرة، وإني لأرجو الله تبارك وتعالى أن تكون هذه الأهداف الكريمة، وهذه المقاصد النبيلة متوفرة في نفوسكم، وفي نفوس المدرسين والقائمين على أمر هذه المدرسة من الإداريين، هذا ما أتوقعه إن شاء الله.
أما موضوع الكلمة والتي لم أوافق عليها ابتداءً خصوصاً في مدرستكم؛ لأن من يأتي ليلقي كلمة أو موعظة في مدرستكم كمن يجلب التمر -كما يقولون- إلى نجران، فماذا أقول لكم، أو أوجد من فكر أو عظة لمن انتظر منكم الموعظة، وممن أهرب إلا لمن إليه المهرب، ولكن وبإلحاح من الإخوة قبلت لا على أني سأفيد ولكن لعلَّ الله أن يجعلني مستفيداً، ولأحظى بالنظر إلى وجوهكم، فوالله إن اجتماعي بكم والنظر إلى هذه الوجوه المباركة في هذه الساعة لهي من أغلى الأماني، ومن أحلى الساعات في حياتي، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل التفرق من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يبقي فينا جميعاً شقيا ًولا محروماً.(7/2)
الإيمان هو التفسير الحقيقي للحياة
الإيمان هو الذي يقدم التفسير الحقيقي لهذه الحياة؛ لأن هذه الحياة لغز حارت في فهمه العقول في القديم والحديث، وترددت في عقول الناس عدة أسئلة عن هذه الحياة، ما هذه الحياة؟ ومن أين جئت؟ وإلى أين سأذهب بعدها؟ حتى قال شاعر والكفر والضلال تساؤلات تدل على منتهى التيه الذي يعيش فيه، وعلى منتهى الضياع الذي يعاني منه، والفراغ الذي يقتل روحه:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت وسأبقى سائراً شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟ كيف سرت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري ولماذا لست أدري؟ لست أدري
وهذا منتهى الضياع؛ لأنك لا تدري من أين أتيت؟ ولماذا أتيت؟ وما هو الهدف والغرض من خلقك؟ وماذا سيكون بعد هذه الحياة؟ لا تدري إلا إذا تعلمت من الله؛ لأن مجرد العقل والذكاء فقط ليس كافياً لتلقي العلوم، فلو أتينا بشابٍ من أغوار تهامة، أو من الصحراء تتوفر لديه عوامل الذكاء، وأساسيات النبوغ، وطلبنا منه دون أن نعلمه أبجديات اللغة العربية، وقلنا: اقرأ لنا هذه الرسالة بذكائك، هل يستطيع الشاب الذي لم يتعلم الحروف الهجائية أن يقرأ الرسالة بالذكاء فقط، أم لا بد من المعلم؟ لا بد من المعلم.
ولو عرضنا عليه مسألة رياضية مكونة من مجهولين، وطلبنا منه فك الأقواس وإيجاد المجاهيل؛ بناءً على المعاليم الموجودة، لكان ذلك أشد صعوبة عليه؛ لأنه لم يدرس الرياضيات.
ولو طلبنا من الإنسان الذي لا يتقن اللغة الإنجليزية أن يقرأ رسالة باللغة الإنجليزية وهو لا يعرف الحروف الإنجليزية فإنه لن يتمكن بذكائه من قراءة هذه الرسالة.
إذاً: فالعقل وحده ليس كافياً في الحصول على المعارف والعلوم، بل لا بد من المعلم، والذي يعلمنا لا بد أن تكون لديه الخبرة والمعرفة والقدرة والهضم الكامل لمادته حتى يكون تعليمه مفيداً، وإذا كان فاقداً للمعلومات كان تعليمه خاطئاً، فإذا ذهبت بمسألة رياضية عند مدرس العلوم لم يعرفها، وإذا أتينا بحقيقة هندسية عند مدرس اللغة العربية لم يعرفها، فلا بد من الاختصاص، وهذا وارد في حياة الناس وفق سنّة التطور التي هي نظام يشهده ويلمسه كل إنسان فيما ينبغي له أن يتطور، ولا تنطبق هذه القاعدة على ما ينبغي له أن يثبت من أمور هذه الحياة.
إذاً: فنحن لا نعرف من أين جئنا وإلى أين، ولماذا جئنا إلا إذا تعلمنا من الله عز وجل، ويوم ألا نتعلم من الله فسوف نجيب على هذه التساؤلات بإجابات خاطئة، ويترتب على أخطائنا أخطاء في السلوك، والعقائد، والعبادات، والمعاملات؛ لأن العلم الذي يحمله الإنسان للإجابة على التساؤلات خاطيء.
ولذا يوم أن تعلمت البشرية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي علمه الله بوظيفة، ومن أين أتى الإنسان، وإلى أين سينتهي بعد هذه الحياة، أخذت البشرية الإجابات الصحيحة على هذه التساؤلات فسعدت، وهيمن العدل والأمن والطمأنينة والاستقرار والسكينة على قلوب أهل الأرض.
ويوم أن تخلت البشرية عن الإجابات الربانية، والنظم المحمدية التي جاءت بها رسالة الإسلام، وبدأت تجيب على الأسئلة بإجابات من عندياتها ضلت وتاهت وانحرفت، وما يُلاحظ اليوم من عدم وجود الطمأنينة والقلق الذي يسيطر على العالم، والاضطراب والشذوذ الأخلاقي والجنسي، والتطاحن والتسابق من أجل التدمير، كلها نتائج حية لعدم معرفة الإنسان لماذا جاء؟ ومن أين جاء؟ وإلى أين سيذهب بعد هذه الحياة!(7/3)
الإيمان أول واجب على الإنسان تعلمه
من أول المهمات على الإنسان أن يتعلم الإيمان؛ لأن الإيمان ليس أمراً جانبياً على هامش الوجود، بل هو أمرٌ رئيسيٌ في صلب حياة الإنسان؛ لأنه يفسر لك قضية مصيرك ووجودك، إنها قضية جنة أبدية أو نار أبدية، وإن قضية المصير لا يُجازف فيها؛ لأن المجازفة فيها مجازفة خاسرة، يمكن لك أن تجازف في كل قضية؛ لأن لكل قضية ومجازفة حلاً ومخرجاً إلا قضية المصير، فإذا مات الإنسان وقابل ربه وانكشفت أوراقه وأظهرت حساباته ووجد أنه خاسر فكيف يصححها؟ هل هناك إمكانية للتصحيح، أم أنه خطأ لا يصحح؟ لذا كان للعاقل أن يهتم بقضية مصيره حتى لا يخطئ خطأً يخسر فيه نفسه، ويخسر فيه دنياه وأخراه، وقد فكر الكثيرون من العقلاء في القديم والحديث وأجابوا بعقولهم على إثبات العقيدة في الله عز وجل، بطرقهم الخاصة بعيداً عن الرسالات والأديان التي نزلت على الأنبياء.
فمنهم من اعتمد على داعي الفطرة: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم:10] {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] إن داعي الفطرة يصرخ بملء صوته: إن لهذا الكون خالقاً، وإن هذا الكون لم يُخلق عبثاً، ولكن هذا الداعي يُغمر ويُسكت بما يغطى عليه من الشبهات، أو يطغى عليه من دواعي الشهوات، وبعض الناس يتمرد على شهواته ويستعلي على شبهاته فيصل إلى الحقيقة عن طريق داعي الفطرة.
وبعضهم اعتمد على مبدأ يسميه العقلاء: مبدأ السببية، وهو أن لكل حدثٍ محدث، إذ لا يوجد في الكون شيء بغير محدث، فلو قلت لكم الآن: إن هذا الجهاز وهو لاقط يقوم بالتقاط الصوت وتحويله عبر السلك إلى المكبر، والمكبر يضخم هذا الصوت، ويقوم بتحويله عبر الأسلاك إلى السماعات، فلو قلت لكم: إن هذا المكبر وهذا الجهاز وهذه السماعات وجدت من غير صانع، وكان هذا المكبر وهذا الجهاز في القرون الساحقة القديمة قطعة من الحديد، والسماعة هذه -أيضاً- كانت قطعة من الحديد، ولكن مع الزمن وتوالي الدهور والعصور، وتعاقب السنين والأحقاب هبت الرياح من هنا ومن وهنا، وجاءت الرياح تحمل الحجارة من هنا، واستطاعت عوامل التعرية أن توجد هذا الجهاز هكذا، هل يمكن أن يكون هذا الكلام معقولاً؟!! إنه غير معقول بل مستحيل! ستقولون لي: حسناً! وهذه السماعة من الذي علقها هناك؟ قلت: كذلك السماعة، جاءت الرياح والأعاصير يوماً من الأيام فأخذت بها وعلقت واحدة في هذه الزاوية والأخرى في الزاوية الأخرى، صدفة! ستقولون: عجيب! حسناً: هذه السماعة نحن نرى فيها أشياء، فهناك جسم داخل هذه السماعة فمن الذي ركب هذا الجسم؟ فقلت: هذا ليس صعباً -أيضاً- فهذا أخذته الرياح صدفة ووضعته في السماعة، وأصبح يكبر الصوت، ما رأيكم هل هذا الكلام معقول أم أنكم سوف تقولون عني: أحمق فلا يمكن أبداً أن الرياح وعوامل الزمان والتعرية والسنين هي التي أوجدت هذا الجهاز، أو أوجدت هذا اللاقط أو هذه السماعة.
سبحان الله! لا يمكن أن تكون هذه إلا بمهندس أو بمخترع، أو بإنسان يفهم كيف يربط الأسلاك والسماعات في الجهاز، وكم قدرة هذا الجهاز من الوات، وكم قدرته من الفولت، (210) أو (110)، بحيث يتبع تعليمات هذا الجهاز حتى يعمل، فإذا اختل شيء في تشغيل هذا الجهاز لم يعمل وبطل مفعوله.(7/4)
التفكر في النفس من الإيمان
لنتفكر فيك أيها الإنسان! نأتي إليك فقط ولا نذهب بعيداً؛ لأن التفكير في الكون يجب أن يسبقه التفكير في النفس؛ فألصق الأشياء بنفسك، فإذا كنت لا تعرف نفسك فلا يمكن أن تعرف ربك، والله يقول: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] فلو فكرت في جزئياتك أنت، وحكمة الله في خلقك، لوجدت أنك خُلقت لحكمة، وأن كل عضو فيك، بل كل خلية وشعرة وعظم، ومفصل، ونقطة، وعرق خلق فيك لحكمة، ولا يمكن أبداً أن يوجد فيك شيء إلا لحكمة.
آخر ما قرأت في جريدة الشرق الأوسط بحث علمي حديث، هذا البحث يقول: إن الأطباء اكتشفوا أن في رجل الإنسان عروقاً وأوردةً وشرايين ليس لها أي غرض، يعني: موجودة دون أن يكون لها أي دور في عملية إمداد الجسم عبر الشعيرات الدموية بما يحتاجه من الدماء، وإنما تكون هذه الأوردة وهذه الشرايين مملوءة بالدماء وتصل إلى نقطة معينة مسدودة ولا تذهب هنا ولا هنا، وبعد ذلك وجدوا أثناء البحوث العلمية أن هذه العروق والأوردة هي بمثابة قطع غيار يمكن استعمالها في إيجاد حلول لأمراض القلب، فإذا وجدنا إنساناً عنده امتداد في الشريان أو انقطاع أو انسداد في الأوردة، وهذه لا يمكن أن يركب لها قطع بلاستيكية، وحاولوا أن يركبوا قطعاً بلاستيكية فلم تنجح، ثم ذبحوا خنزيراً في لندن وأخذوا قلبه ووريداً من أوردته ووضعوها في جسم الإنسان فتعفن؛ لأن الخنزير خبيث -وهم مثله خنازير، فمن خنزير إلى خنزير- لكن بالرغم من هذا لم تصلح خنازيرهم، فوجدوا أن هذا الشريان الموجود والذي ليس له دور أبداًَ لا يمكن أن يبقى فقطعوه واستفادوا منه، ووضعوه في القلب وصلح القلب.
من كان يعرف أن هذا الشريان له غرض؟ لم يكن يعرف أحد، لكن البحوث العلمية والكشوفات الآنية كل يوم تثبت أن لهذا الإنسان حكمة، وأن في كل جزئية منه حكمة تبدأ من رأسه إلى أخمص قدمه، ويخفى على الناس كثيرٌ من حكم الله تبارك وتعالى في الخلق، ولكن الإنسان مأمور باستمرار أن يفكر في نفسه، ولو فكر في رأسه فقط وما أوجد الله فيه من الحكم، أو في رقبته فقط وما أوجد الله فيها من الحكم لوجد الكثير.
هذه الرقبة هي جزء يربط بين الجذع والرأس، أو (زنبرك) تتحرك ذات اليمين وذات الشمال بغير تعب، ولو جعل الله الرقبة متصلة بالرأس والجذع عبر قطعة من الخشب لوجد الإنسان صعوبة بالغة في التحرك والتفاهم مع الناس، فلو أراد أن ينظر إلى الشمال لزم أن يحرك جسمه كله، فلو أن رقابكم لا تمكنكم من الحركة ذات اليمين وذات الشمال لصعب عليكم الأمر، إذ كل واحد يفترض به وهو جالس أن تكون عينه أمامه، ولا يستطيع أن يراني أنا إلا الذي أمامي فقط، لكن الله أعطى الرقبة قدرة على الحركة ذات اليمين وذات الشمال لتسهيل التخاطب والالتفات بغير صعوبة، وهذه حكمة من الله.
وترون يوم أن يصاب الإنسان بشد عضلي في عضلة الرقبة، كأن تنام على وسادة مرتفعة -مثلاً- فأنت معتاد على أن تنام على وسادة مستوية، لكن يحدث في ليلة من الليالي أنك لم تجد وسادتك، أو كنت ضيفاً وأعطاك المضيف وسادة كبيرة أو أنها أصغر من وسادتك، فنزلت العضلة أو طلعت، فيحصل عندك شد عضلي، أو تخرج من الهواء الرطب المشبع بالرطوبة إلى هواء لافح فيحصل عندك شد عضلي، هذا الشد العضلي -يسمونه العند- لا يمكنه من الحركة، فتراه لا يرى إلا أمامه، ويقول: رقبتي، حسناً! تعال قال: والله لا أريد أن أرقد أو أقعد سبحان الله! من أجل رقبته، عضلة بسيطة، كيف تسلبه راحته! يدك هذه بمثابة الجنديين اللذين يدافعان عنك، وتصوروا إنساناً بغير يدين كيف يدافع عن نفسه؟ فإذا جاءته بعوضة أو ذباب وجلس على عينيه أو حيوان يريد أن يفترسه، أو ثعبان يريد أن يلدغه، كيف يصنع؟ ليس معك إلا أن تعض، ولا يمكنك أن تعض كل شيء، وربما تعض الشيء هذا فيدخل في فمك فتموت، فالله جعل لك جنديين معلقين، ثم جعلهم الله في أعلى جسمك من أجل أن تستطيع الدفاع بهما عن كل جسمٍ، إذ لو كانت اليدان في الركبتين فإنه يلزمك أن تدني رأسك من أجل أن تأكل -مثلاً- لكن الله جعلها في أعلى الجسد من أجل أن تنال بها رأسك، وركبتك، وقدمك وبسهولة.
ثم حتى تكون الفائدة كاملة من اليدين فصَّل الله اليدين، إذ لو كانت اليدان على شكل عصا مثل (الصميل) فكيف ستستعملها؟ ما تنفع إلا للمضاربة، فتضرب بها هذا، وتضرب بها هذا، لكن الله ما خلقك للمضاربة، ومن أجل أن يعطيك صميلاً هنا وصميلاً هنا، لا.
فالله خلقك للعبادة، ففصل يديك لتعينك عليها فوضع لك عدة مفاصل، أول مفصل في الإصبع، ويليه مفصل ثانٍ وثالث ورابع وخامس وسادس، هذا التفصيل له غرض من أجل أن تستطيع الانتفاع به، إذ لو كانت حتى أصابعك هذه من دون مفاصل فإنك لن تستطيع أن تحمل مسماراً واحداً، فلو فُقد هذا التفصيل في يديك، فكان هناك مفصلان فقط في الذراع، بينما الأصابع لا يمكن أن تُعطف لما استطاع إنسان في الدنيا أن يشد مسماراً على مسمارٍ، وإذا ما استطعنا أن نشد المسامير، فهل من الممكن أن تقوم حضارة أو صناعة، هل من الممكن أن يكون هناك سيارات وطائرات، وما حدث من التطور الصناعي؟ لا.
لا يمكن؛ لأنك بماذا ستشد المسمار: بسنك، أم بالعصا؟ لا يمكن أبداً.
لكن الله تبارك وتعالى أعطاك هذا الجسم وفصله تفصيلاً، وجعل لك هذه القدرة من أجل أن تعمر الكون وتعمر الدنيا والآخرة.
فهذا فقط مما يظهر لك حكمة الله عز وجل في خلقك أيها الإنسان! ومبدأ السببية اتفق عليه جميع العقلاء؛ لأن لكل سبب مسبب، ولكل حدثٍ مُحدِث، حتى الطفل الصغير لو جئت به وعمره سنة واحدة، لا يعقل ولا يفهم شيئاً ثم تعال من وراء ظهره وهو جالس ودقه في ظهره، ماذا يفعل؟ يلتفت ليرى من الذي دقه؛ لأن عنده في فطرته أن لكل دقة داق، وقد جربت هذا والله مع طفلة صغيرة عندي، كانت جالسة فأتيت ودققتها في ظهرها فالتفتت، سبحان الله! إذاً هي عندها يقين، وعندها في فطرتها أن لهذا الحدث مُحدِث.
أيضاً حتى في طباع الحيوانات، الآن لو كنت في الصحراء وهناك غزال، أو ضبع، أو نمر، وسمع طلقة رصاص في مكان معين، فإنه يلتفت من أين جاءت هذه الطلقة؛ لأنه يهمه أمر الطلقة، ويعرف أن هذه الطلقة لا يقصد بها غيره، فمن أساسيات وجوده أن يكون حذراً على حياته، فهذه طلقة خارجة عن العادة، وشيء ليس بمألوف عنده، فمبدأ السببية وارد.
ومن الناس من اعتمد هذا المبدأ حتى وصل إلى العقيدة في الله عز وجل.
ومنهم من جعل المسألة حسابية ورياضية يعني: تجارية (1+1=2) كيف؟ قالوا: إن الأضمن لحياتنا وآخرتنا الإيمان بالله؛ لأننا بالإيمان لا نخسر شيئاً، بل نكسب كل شيء، وبالكفر لا نكسب شيئاً بل نخسر كل شيء، إذاً الأضمن لنا والأحوط هو: الإيمان، حتى قال شاعرهم وفيلسوفهم وهو أبو العلاء المعري وهو فيلسوف ملحد:
زعم المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأجساد قلت: إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسرٍ أو صح قولي فالخسار عليكما
ونحن في دين الله لا نقبل هذا المبدأ حقيقة؛ لأننا لا نبني ديننا على الاحتمالات، فإن كان فأنا رابح وإن لم يكن فلم أخسر شيئاً، لا.
وإنما نأخذ أدلتنا باليقينيات، ونتقبلها بالجزم الذي يبلغ جذور وأعماق النفس، بحيث لا يخالط الإنسان منها أدنى شك؛ لأن الشك في دين الله يورث الكفر والعياذ بالله، لكني أورد لكم هذه القضية على أساس أنها قضية عقلية، وصل إليها العقلاء وقالوا: الأحوط لنا أن نؤمن بالله، حتى قال أحد الفلاسفة الغربيين الذين يعيشون في السويد وهو: باسكال، يقول: إما أن تؤمن بالله وإما ألا تؤمن، فماذا تختار؟ يقول: قبل الاختيار توازن بين ما يمكن أن تربحه بالإيمان وما يمكن أن تخسره بالكفر، ثم يقول: إنك بالإيمان تربح كل شيء، ولا تخسر شيئاً مهماً، وإنك بالكفر تخسر كل شيء ولا تربح شيئاً مهماً.
فالإيمان حقيقة مربح؛ لأنه يدعوك إلى الفضيلة؛ والصدق والوفاء والبر والعفاف والطهر والكرم والمروءة والشجاعة والنجدة وإلى كل الأخلاقيات التي تستقيم بها حياة الناس، فبالإيمان تربح كل هذه الأشياء، وتربح -أيضاً- الجنة في الآخرة، ويدعوك الإيمان -أيضاً- إلى أن تترك الزنا، والغناء واللواط، والخمور والفجور، والزور وأكل الحرام والربا، كل هذه الأمور تدعو إليها العقول بدون أديان.
إذاً: أنت بالدين والإيمان ربحت كل شيء ولم تخسر شيئاً مهماً، خسرت الزنا؛ وهل الزنا مكسب؟ لا.
خسرت الخمور، وهل الخمور مكسب؟ لا.
خسرت الفجور، وهل الفجور مكسب؟ لا.
فأنت لم تخسر شيئاً بترك هذه المحرمات، بل ربحت كل شيء، أما بالكفر والضلال -والعياذ بالله- فإنك تخسر كل شيء، ولا تربح إلا اللعنة والعياذ بالله.
ولذلك فإن الخيار الأفضل، والبديل الأمثل هو الإيمان، ولا شيء غير الإيمان! ونحن إذا آمنا لا نربح فقط الآخرة كما يتصور بعض الناس، حينما يقول: اهتدِ والتزم وآمن وتمسك لتكون في الآخرة من الفائزين، لا.
بل نربح الآخرة ونربح قبلها الدنيا؛ فربحنا في الدنيا بأن نعمرها بطاعة الله، وربحنا في الآخرة بأن نكون في جوار الله عز وجل، فنجد ثمرة سعينا في هذه الحياة، فنحن بالإيمان نكسب الدارين، وبالكفر والعياذ بالله نخسر الدارين، ولا نخاطر بدنيانا لنربح آخرتنا بل نربح دنيانا وآخرتنا.(7/5)
البدائل التي أوجدها الشرع للاستغناء عن الحرام
والدين إذا حرّم شيئاً ألى له بالبديل الأفضل.
فقد حرم الزنا وأباح الزواج، والزنا عمل مشين لا يليق بأصحاب النفوس الكبيرة حتى ولو كانوا كفاراً.
هذه هند بنت عتبة لما جاءت بعد أن أسلمت وكان لها ماضٍ في قتل حمزة؛ لأنها هي التي أعطت المال الكثير ل وحشي ووعدته بالحرية وقالت له: اذبح حمزة، فخرج يترصد حمزة حتى قتله، ثم بعد أن أسلمت وجاءت تبايع النبي صلى الله عليه وسلم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تبايعين على ألا تشركي ولا تزني ولا، فلما بلغ ولا يزنين قالت: أوتزني الحرة يا رسول الله؟!) كيف أبايعك على ألا أزني، وهل معقول أن أحداً يزني، فالعقول تنفر من هذا الخلق المشين قبل الدين، فكيف به بعد الدين؟ يقول الله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من زنى بامرأة في الدنيا كان عليه وعليها في القبر نصف عذاب هذه الأمة) ويقول عليه الصلاة والسلام: (ما عصي الله بذنبٍ بعد الشرك أعظم من نطفة يضعها الرجل في فرجٍ لا يحل له) ويُخبر عليه الصلاة والسلام أن فروج الزناة تشتعل ناراً يوم القيامة، فالزنا حرمه الشرع، ولكن أباح البديل، والنظير الطاهر المثالي وهو: الزواج وهو من جنس العملية الجنسية.
لكن الزنا عملية فوضوية بهيمية، ليس لها قيود ولا ضوابط، وليس لها نتائج ولا مسئوليات، وإنما يمارسها الإنسان في اعتباطٍ، ويترتب عليها فساد الأسر والمجتمعات، وتحلل الروابط، وعدم وجود العلاقات الإنسانية، فحرم الله الزنا وأباح الزواج، وهو العلاقة الجنسية النظيفة الطاهرة بين رجلٍ وامرأة بكلمة الله عز وجل، تتحدد بها العلاقة والمسئولية، ويتحمل كل من الطرفين آثار العلاقة من بنين وبنات، وتربية ومجهودات، فحرم الزنا وأباح الزواج.
وحرم الخمر وأباح العسل، وحرم الميتة وأباح المذكاة -وكل خبيثٍ في شرع الله حرام- حرم الله الربا وأحل البيع، والبيع: معاوضة مال بمال بمصالح متبادلة، لكن الربا معاوضة مال بمال أكثر بغير مصلحة متبادلة وإنما القصد منها الإضرار بالفقير، واستغلال حاجته، وتدميره، وزيادة بلاء على بلائه، فهذا حرام، وأما البيع فلا: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275].
فالإسلام لا يحرم شيئاً إلا ويحل البديل الأفضل؛ لأنه دين يتسم بالواقعية، ليس ديناً خيالياً يعيش في المثاليات ويترك الناس بغير حلول، بل يعيش الواقعية وبمنتهى الوضوح والبساطة، ولا يحرم شيئاً إلا ويُوجد البديل الأفضل منه.
فالأغاني التي تمارس الآن من قبل الأمة بشكلٍ يدعو إلى العجب والاستغراب، حتى غدت هذه الأمة أمة الغناء لا أمة القرآن؛ لأنها تعيش مع الغناء بالليل والنهار، تعيش مع الأغاني باستمرار، ينام الإنسان على الأغنية، وبعضهم لا ينام إلا وقد وضع السماعة الصغيرة في أذنه؛ لئلا يترك المجال للخير أن يدخل، يريد أن يسد أذنه ويخصصها لهذا الشر؛ لأنك إذا كنت تسمع كلمة شر من بعيد فإنه بالإمكان أن تسمع كلمة خير من بعيد فتزاحم كلمة الشر، لكن من يخصص أذنه بالذات ويدخل السماعة في أذنيه، ولا يسمع إلا الأغاني فقد خصصها للشيطان والعياذ بالله، وبعضهم يضع سماعات كبار وكأنه من رجال الفضاء، فاخترع مُخترعاً كبيراً، وهو أنه خصص أذنيه لسماع كلام الشياطين والعياذ بالله.
هذه الأغاني تفتك بالقلب، وتُذهب الدين، وتحرق الإيمان؛ لأن كلماتها وألحانها، وأهدافها ساقطة، تحرض على الجنس وتذكي الشهوة المحرمة في الإنسان، لذا حرمها الدين.
ولكنه عندما حرمها جاء بالبديل؟ يقول علماء النفس والتربية، ويسميهم أحد المشايخ بعلماء (العفس) ما هم بعلماء نفس؛ لأن العالم النفسي الذي يتعلم أسرار النفس من الله؛ لأن الله يقول على لسان عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] فالذي يتعلم علم النفس بهدي الكتاب والسنّة يصل إلى علوم النفس الحقيقية، أما الذي يتعلم علوم النفس من غير منطلقات الشريعة فإنه يصبح علم (عفس)، إذ يرشد النفس على غير خلق الله، ولا مراد الله عز وجل.
يقولون هؤلاء العلماء: إن في الإنسان غرائز، وهذه الغرائز ضرورية لحياة الإنسان، فغريزة الجنس غرضها بقاء الجنس البشري، إذ لو عدمت الغريزة الجنسية عند الرجل والمرأة لما حصل اتصال، وبالتالي ينقرض الجنس البشري ويتلاشى الناس، وهذا مصادم لغرض الله وكونه، فالله أراد أن يكون هذا الإنسان في الكون للتكليف والابتلاء والاختبار، فحرّم الله الزنا وأوجد الزواج.
- غريزة حب الاستطلاع: كل واحد منا إذا رأى أو سمع شيئاً فإنه يريد أن يراه، حتى الطفل الصغير تشتري له لعبة صغيرة فيلعب بها يوماً أو يومين ثم يقوم بفكها يريد أن يرى ما بداخلها، هذه اسمها غريزة حب الاستطلاع.
فهذه الغريزة في النفس لم يلغها الإسلام، ولكنه هذبها وجعل لها مساراً صحيحاً؛ فجعل الاستطلاع في الخير: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101] {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ} أي: يستطلعون ويتأملون (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] فقصر الله حب الاستطلاع فيما يعود على الإنسان بالنفع في الدنيا والآخرة، وحذر من حب الاستطلاع فيما يعود على الإنسان بالضرر في الدنيا أو الآخرة، ولذا حرم الشرع من أن تستطلع على عورات المسلمين: (من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه في رحله) (يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه! لا تتبعوا عورات المسلمين؛ فإن من تتبع عورة مسلمٍ تتبع الله عورته في الدنيا والآخرة).
فحب الاستطلاع له مجال في الدين، لكن في المجال الآخر المعاكس ممنوع.
- أيضاً الأكل والشرب: أليس شيئاً فطرياً وغريزياً عند الإنسان؟ إذ لو لم يأكل الإنسان لمات، فجعل الله الجوع في البطن وحب الطعام شيئاً غريزياً لتبقى حياً، وجعل الله غريزة حب الطعام لبقاء الجنس، ولكن جعل للطعام مساراً، وقسم الطعام إلى قسمين: طيبات وخبائث، فأباح لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث، فالذي يقتصر على الطيبات يسعد، والذي يأكل من الخبائث يشقى، فهذا المسلم مقتصر على الطيبات؛ لأن الله أحلها له، ومعرض عن الخبائث؛ لأن الله حرمها عليه، وغير المسلم يجمع بين النقيضين ويجمع بين الخليطين، فتفسد عليه دنياه وأخراه.
غريزة الوجدان: الوجدان شعور داخلي في النفس ينتاب كل إنسان، يترتب عليه أن يصدر الإنسان أنغاماً وأهازيج وكلمات يرددها من أجل أن يربي داعي هذه الغريزة، فتجد الواحد وهو جالس (يونون)، ماذا بك؟ قال: والله سرحت، أين سرحت؟ ما الذي جعله يسرح ويعمل هذه الدندنة، هذه غريزة في النفس في كل شخص، ولهذا تجدون شعوب الأرض كلها تغني، فهناك غناء صيني، وكوري، وغربي، وشرقي وغيرها حتى الذين في مجاهيل إفريقيا، هناك أناس عراة في إفريقيا لا يعرفون الملابس لكنهم يغنون؛ لأن غريزة الوجدان موجودة عندهم، فلما جاء الإسلام وجد أن هذه الغريزة خطيرة على الدين؛ لأن لها وقود في النفس ومادة، فما ألغاها؛ لأن الدين واقعي، فكيف يلغي شيئاً أصيلاً في النفس البشرية، لا يمكن! ولكن جعل لها مساراً سوياً، وجعل لها طريقاً وهو: التغني بكتاب الله عز وجل، ولهذا جاء في الحديث، يقول عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) والحديث في صحيح البخاري، وصحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (ما أذن الله لشيء كما أذن لنبي حسن الصوت أن يتغنى بالقرآن) وكان صلوات الله وسلامه عليه أجمل الناس وأشجاهم صوتاً لكتاب الله، وكان يمر بالليل فيسمع أبا موسى الأشعري يقرأ القرآن ويترنم به فيجلس ويسمع، فجاء في يوم وقال له: (يا أبا موسى! لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود، فقال له رضي الله عنه: أكنت تسمع يا رسول الله؟ قال: نعم.
قال: والله لو كنت أعلم لحبرته لك تحبيراً) يقول: قراءتي كانت عادية، ولكن لو كنت أعلم أنك تسمع لرأيت أن أضع لك شيئاً من التحسين والتجويد والترتيل، وهذا الآن واقعٌ في حياتنا، أنت الآن إذا صليت خلف إمام حسن الصوت جيد القراءة يرتل كلام الله ترتيلاً عظيماً تنشرح نفسيتك للصلاة؛ لأن عندك فطرة لسماع الكلام الطيب، والله كتب الإحسان على كل شيء، وأمر بتحسين التلاوة فقال: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4] فهذا الإسلام لم يحرم شيئاً إلا أحل وعوض بالبديل الأفضل منه.(7/6)
مدى ضرورة الإيمان للناس
إن الإيمان ضروري لكل فرد كي يسعد ولا يشقى، وهو ضروريٌ لكل مجتمع كي يتماسك ولا يتحلل، وانظروا لو جئنا برجل مؤمن وآخر كافر أو فاسق أو عاصٍ أو منحرف، وأخذنا شريحة من قلب المؤمن وشريحة من قلب الكافر، وأخضعنا الشريحتين للتحليل، لوجدنا أن هذا الفرد المؤمن تغمره السعادة، وتسيطر عليه الطمأنينة، ويشعر بالرضا والارتياح وليس لديه أي قلق أو اضطراب، ولا يعاني من أي أمراض نفسية، ولا يقابل أي سلبية من سلبيات الحياة إلا بالرضا والتسليم، النعمة في حقه شكر، والبلية عنده صبر، فالمنّة عنده محن؛ والمحن عنده منح، إذا أنعم الله عليه فكر في نفسه: لماذا هذه النعمة.
لعلها استدراج؟ وإذا ابتلاه الله فكر في نفسه: لماذا بلاني الله؟! لعله عقاب!! فيحاول أن يصحح الوضع مع الله في كل حال، فهذا المؤمن.
أما الكافر تأتي إليه فتجده مغموراً بالشقاء، فالطمأنينة مفقودة في قلبه، والقلق والاضطراب والحيرة والشرود والتيه والضلال مسيطر عليه، والأمراض النفسية تعترضه من كل جانب، إذا أُنعم عليه فجر، وإذا ابتلي ضجر وسخط وعبس وجهه، وقال: لماذا يفعل ربي هكذا؟! لماذا الناس كلهم أصحاء إلا أنا مريض؟! ولماذا الناس كلهم متحررون إلا أنا مسجون، ولماذا الناس كلهم يأكلون ويشربون إلا أنا فقير، ليس عندي شيء، فالكفر هو الذي أملى عليه هذه المفاهيم، أما ذاك فما الذي زرع في قلبه كل تلك الأخلاقيات والسلوكيات والمفاهيم العظيمة؟ إنه الإيمان! فبغير الإيمان يشقى الإنسان ويضل، هذا على مستوى الفرد، أما على مستوى المجتمعات فبالإمكان -أيضاً- أن نجري دراسة وأن نعمل فحوصاً على مجتمع مسلم متماسك، ومجتمع كافر منحل، لنجد كيف الحياة هنا وكيف الحياة هناك: إن المجتمع المسلم مجتمع كامل متكامل، متعاطف متماسك، يشعر فيه كل فرد بشعور الآخر: (المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) (المسلمون كالبنيان -أو كالبنان- يشد بعضه بعضاً) لكن في غير المجتمع المسلم مجتمع غاب، وسباع، الغلبة فيه للقوي، والفتك فيه والعزة للمسيطر، أما الضعيف فيموت جوعاً ولا يشعر به أحد، بل ولا يساعده أحد، بل إنه في أمريكا أو في الدول التي يسمونها المتحضرة، وهي في الحقيقة الدول الخاسرة، فـ أمريكا في قمة التطور المادي لكنها في الأخلاقيات في أسفل السافلين وفي الحضيض، هم حقيقة طوروا المادة لكنهم دمروا الإنسانية، هناك الأمريكي لا يثق في أخيه الأمريكي، ولا يسمح لأمه ولا لابنته ولا لولده أن يأكل معه من صحن واحد، ولكنه يسمح لكلبه أن يأكل معه، يجلس في المطعم وهناك كراسٍ للكلاب في المطعم، يقول لي أحدهم: والله استغربت من هذه الكراسي المصممة على قدر الكلب، كرسي الإنسان معروف، لكن كرسي الكلب صغير على قدر مقعدة الكلب، فهو مصمم تصميماً للكلب، ويدخل الكلب ويُجلسه، ويضع السفرة بينه وبينه، ولحمة طيبة وملعقة ويستأنس به، وإذا انتهى يمسح فمه ويقبله، ولا يفعل ذلك مع ابنته أو ابنه.
هذه مجتمعات الكفر والضلال، تمارس فيها الجريمة بشكل علني، حتى في الشذوذ الجنسي.
في بريطانيا مجلس العموم البريطاني يقرر بالإجماع إباحة زواج الرجل بالرجل، وهذا شيء لا يعاقب عليه القانون فهو شيء مباح، ويكتبون له ورقة وصكاً شرعياً بذلك، يأخذه ويمارس معه الفاحشة رسمياً، أهذا دين؟! أهذا خلق؟! هل رأينا هذا في عرف الحيوانات؟! هل رأينا حماراً يركب حماراً؟! أو كلباً يركب كلباً؟! أو قرداً يركب قرداً؟! يقول الله في شأن قوم لوط: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:165] ويقول تبارك وتعالى: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:80] لم يخترعها قبلهم أحدٌ أبداً.
ويقول الوليد بن عبد الملك: والله لولا أن الله حدثنا في القرآن عن قوم لوط، ما صدقت أن رجلاً يركب رجلاً، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله من عَمِل عَمَل قوم لوط، لعن الله من عَمِل عَمَل قوم لوط، لعن الله من عَمِل عَمَل قوم لوط) وقال: (اقتلوا الفاعل والمفعول به فاقتلوهما) حدهم في الشرع القتل، وورد في بعض الآثار أن الذكر إذا ركب الذكر اضطربت السماوات والأرض، فتمسك الملائكة بأطراف السماوات من غضب الرب تبارك وتعالى وتقرأ (قل هو الله أحد) حتى يسكن غضب الله عز وجل، إنه شيء لا يمكن أن يتصوره العقل، ولهذا عاقب الله من عمل هذا العمل بأن أرسل جبريل فغرس جناحه إلى تخوم الأرض ثم حملهم إلى السماء ثم قلبها عليهم، قال الله: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:82 - 83].
فالمجتمع بغير دين مجتمع غابة، وإن لمعت فيه بوارق الحضارة، فالحضارة يا أخي! ليست بالمباني ولا بناطحات السحاب، ولا بالشوارع الفسيحة، ولا بهدير الآلات أو أزيز المصانع، ولكن الحضارة مفاهيم، ما رأيكم لو وجدنا كلباً نظيفاً يلبس بدلة ويعيش في عمارة، وآخر متسخاً يعيش في برميل قمامة، هل الكلب النظيف الذي يلبس البدلة ويجلس في عمارة؛ مفضل على الكلب الذي يعيش في برميل القمامة؟ لا والله.
بل كلها كلاب.
لو أنك أتيت بشخص من تهامة أو البادية، ليس عنده شيء من الحضارة، ثيابه مقطعة، فإنك تجد لديه مفاهيم ليست موجودة في أكبر إنسان في الدنيا! تجد عنده نجدة ونخوة ومروءة، لو أتيته في بيته وما عنده إلا شاة لذبحها لك، ولا يذوقها بل يتركها لك، ولو استنجدت به وأنت في أشد الظروف لافتداك ولو بنفسه، بينما في أمريكا لو طلبت من مخترع عظيم قرشاً واحداً لا يعطيك.
إذاً: ما هي المفاهيم التي عنده؟ هل الإنسانية أنك تبني عمارة وتسكنها، أم أن الإنسانية أن تعيش بإنسانيتك؟!! ولهذا يقول أبو الحسن الندوي في كتابه حضارة الغرب: زرت أمريكا فوجدت فيها كل شيء إلا الإنسان، يقول: خرجت في النهار والليل أبحث عن الإنسان، فلم أجد شيئاً، يقول: رأيت السيارات، والطائرات، والناطحات، والشوارع، وأردت الإنسان فلم أجده، رأيت مسخاً يمشي على قدمين، إنه مسخ وليس بإنسان، إنه يعيش في أخلاق الكلاب، والقردة، والحمير، والخنازير، والله لا أجرؤ على أن أسميه إنساناً، فالإنسان بإنسانيته وبمفاهيمه، فإذا تجرد عن مفاهيم الإنسانية فليس بإنسان، بل يبقى في شكل الإنسان لكنه ممسوخ مسخاً مشوهاً للإنسانية.
فالمجتمع بلا دين وإن لمعت فيه بوارق الحضارة فهو مجتمع غاب؛ لأنه دمر الإنسان، وإن استطاع أن يسبح في الفضاء وأن يغوص في أعماق البحار، فإنه عجز أن يخطو خطوة واحدة في سبيل الخير والنفع العام.
وما أخبار قذف ملايين الأطنان من القمح في البحار عنكم ببعيدة، تعرفون أن أمريكا تقذف ملايين الأطنان من البر في البحار، بينما الناس في أمريكا نفسها وروسيا وإفريقيا يموتون جوعاً والحبوب تقذف، فلماذا يقذفون الحبوب؟ قالوا: حتى نحافظ على مستوى قيمة السلعة، إذ لو وردنا كل الحبوب فإن سعرها سوف ينزل وبالتالي نخسر، إذاً: نغرقه في البحر ولا نعطيه للفقراء والمساكين.
وما حرب النجوم عنكم ببعيد، تُرصد المليارات بل وآلاف المليارات رغم حاجة الشعوب في الأرض إليها، ترصد كلها للتنافس والتسابق من أجل التدمير، ولذا يوم أن استطاعت أمريكا أن تصل إلى كوكب من الكواكب عبر بحوثها العلمية، وبرامجها في حرب النجوم، بدأت الآن تطلب وتدغدغ أحلام الشرقيين في روسيا لتنزع بعض الأسلحة، وقد سمعتم بالمؤتمر الأخير الذي حصل بينهم، وأنهم نزعوا صواريخ متوسطة المدى، وهذه الصواريخ مع أمريكا منها (220) صاروخاً، وعند روسيا منها (440) صاروخاً، كلفة الصاروخ الواحد مليار يعني: ألف مليون دولار! ثم إن القوة التدميرية للصاروخ كبيرة جداً لدرجة، فهو يستطيع أن يدمر مدينة مثل نيويورك قوام أهلها عشرة ملايين.
فـ أمريكا قالت: ننزع السلاح، لماذا؟ لأنها استطاعت أن تصل إلى حرب تمارسها عن طريق النجوم، بحيث تفرض هيمنتها على الأرض كلها شرقيها وغربيها، عن طريق المال والإمكانيات، وهذا كله لأن الإنسان نفسه والمجتمع ليس مجتمعاً إسلامياً، ولا يعيش في ظلال الدين، وإلا لكان غير ذلك.(7/7)
وسائل الإيمان وأسبابه
أيها الإخوة في الله: قد يسأل سائل ويقول: عرفنا ضرورة الإيمان للفرد، وعرفنا ضرورة الإيمان للجماعة والمجتمع، وأدركنا حاجة الإنسانية إلى الإيمان، فما هي أسباب ووسائل الحصول على الإيمان؟ كيف أقوي إيماني؟ وأشرح صدري؟ وأزيد من يقيني؟ للإيمان أسباب ووسائل، وأرجو من الإخوة أن يكتبوا هذه الأشياء؛ لأنها عملية، لا نريد أن تقال وتذهب أدراج الرياح، بل نريد أن تقال وتكتب وتراجع وتطبق ويناقش الإنسان نفسه على ضوئها، منها على سبيل المثال لا الحصر:(7/8)
أولاً: قراءة القرآن الكريم
والقراءة التي نعنيها: قراءة التدبر والعمل، لا قراءة الهذرمة بدون عمل، القراءة المعنية قراءة التدبر ومعرفة الأمر ثم الانسياق وراء الأمر والابتعاد عن المنهي، هذا معنى قراءة القرآن إذا أردت أن يفيدك الله عز وجل، أما أن تقرأ ولا تعمل فأنت مثل من يشتري دواء فيردد اسم الدواء ثم يضعه، إذا اشتريت علبة دواء من السوق أليس في كل علبة ورقة تدلك على طريقة استعمال العلاج، فلو أنك أخذت الورقة هذه وجلست تقرأ مكوناته: يتكون البندول من كذا وكذا، دواعي الاستعمال: في الصداع وكذا وكذا، والجرعة: حبة في الصباح وحبة في المساء، فلو أنك قرأت هذه الورقة في اليوم عشرين مرة، لكن ما استعملت العلاج، فهل يذهب منك هذا الصداع؟ الغرض من قراءة هذه الورقة أو هذه الوصفة هو أن تستعمل الحبوب، لكن لو أنك قرأتها عدة مرات ثم ذهبت إلى الصيدلية وقلت: يا دكتور! أنت وصفت لي دواء وما نفعني، فقال: استعملته؟ قلت: نعم، والله إني أقرأ الورقة من الصباح إلى المساء، قال: استعملت الحبوب؟ قلت: لا.
ما استعملت الحبوب.
فسيقول لك الدكتور؟ هذه الورقة ما أعطيتك إياها لأجل قراءتها ولكن من أجل أن تفهم كيف تستخدم العلاج، وأكثر الناس اليوم يقرءون القرآن ويحفظونه ولا يعملون به، ويريدون أن يستشفوا من المرض الذي بهم.
فالله عز وجل ما أنزل القرآن من أجل أن يقرأ ويحفظ ولا يعمل به، يقول تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] فالله أنزل القرآن ليعمل به، فاتخذ الناس تلاوته عملاً، يقول بعضهم: أنا أقرأ القرآن، حسناً تقرأ ولا تعمل! إذاً القرآن يلعنك: (رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه) كأن تقرأ القرآن وأنت تكذب، وتقرأ: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] فتخرج الآية واللعنة من فمك إلى من هي موجهة إليه، وهم الكاذبون، فمن هو أقرب كذاب من المتكلم؟ فتخرج اللعنة من فمه إلى جبهته والعياذ بالله.
{أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] وهو ظالم لنفسه بالمعاصي، ولغيره بأخذ حقوقهم، ولربه بالشرك بالله، فتخرج اللعنة من فمه إلى جبهته والعياذ بالله.
فمعنى قراءة القرآن يعني: التدبر والعمل، فمن الناس من يقرأ القرآن ويصلي وهو غير متوضأ، إذا جاءت الصلاة قال: هيا بنا نصلي ثم يقف في المسجد وهو يعرف أن سرواله نجس، وأنه غير متوضئ ويكبر: الله أكبر، ويركع، هذا مستهتر بدين الله، وربما يصل به الأمر إلى الكفر بدين الله، فمن الناس من يسمع قول الله فيما أمر ونهى ولا يطبق، هذا ما قرأ القرآن حقيقة بل كان القرآن حجة عليه لا حجة له.(7/9)
ثانياً: قراءة سنّة النبي صلى الله عليه وسلم
ومعنى قراءة السنة: أن تأخذ حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفهمه وتطبقه، وأول حديث عندكم في الأربعين النووية معروف يبدأ به العلماء كلهم، وهو حديث عمر رضي الله عنه: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) وهذا أخذناه في صف خامس، هذا الحديث ذكره العلماء في بداية كتبهم لأجل أن الشخص عندما يقرأه يصحح النية، فعندما تكون في تحفيظ القرآن الكريم وتسمع: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) هذا يدعوك إلى أن تصحح نيتك في وجودك في هذه المدرسة، وتعرف أنك هنا يجب أن تتعلم كلام الله، وأن تحفظ كتاب الله من أجل العمل به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى فيه، هذا معنى: إنما الأعمال بالنيات، أما لغير ذلك فلا يجعل الله في علمك بركة ولا قراءتك، ويمكن أن تظهر فيما بعد بأنك من أفسد خلق الله، وإذا رآك الناس لعنوا المدرسة التي أخرجتك لمجتمعك، وأنت قد حفظت القرآن، لكن نيتك فاسدة فكان عملك كله فاسد، فلابد من تصحيح النية! وهذا الحديث سببه: أن أناساً هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، فهناك من هاجر لنصرة الدين ومنهم من هاجر لغير ذلك، فأحد الناس هاجر لأجل امرأة كان يحبها، وآخر هاجر لأجل تجارة، فكلهم في الهجرة سواء، لكن اختلفوا في النيات فاختلفوا في الثمرة.
من هاجر لله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن هاجر لامرأة يتزوجها أو دنيا يصيبها، فهجرته إلى امرأة يتزوجها أو دنيا يصيبها، لكن ليس له عند الله نصيب، فأنتم معنيون بهذا الحديث.
ومعنى قراءة السنة: أن تقرأ الحديث وتتفكر فيه، فمثلاً: قراءة الحديث عن النعمان بن بشير قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه) إن الحلال واضح والحرام واضح، الحلال: كالصلاة والزكاة، والحرام: كالزنا والخمور والفجور، وفي الوسط أشياء مشتبهة لا يعلمها كثير من الناس أهي من حلال أم حرام، لا يعرفها إلا أهل الإيمان والعلم والنور الرباني، فالذي يتركها ويقول: لا أقع فيها لأنها مشتبه، فهذا قد استبرأ لدينه وعرضه، والذي يقع فيها يقع في الحرام، لماذا؟ لأنه مثل الراعي الذي يرعى حول الزرع، وهذا الزرع محمي، أي: عليه جدار وهذا الزرع شعير أو بر أو ذرة، فجاء صاحب الزرع وقال: يا فلان أبعد غنمك من عند زرعي، فقال: لن تقارب زرعك فأنا أراقبها جيداً أنا أرعاها، هي ترعى من قرب الجدار، ومن هنا ومن هنا، فقال صاحب الزرع: حسناً، لكن انتبه! فغفل الراعي وقامت واحدة من الغنم فدخلت في الزرع وأكلت، وجاءت الثانية ودخلت، وإذا بالزرع قد انتهى كله، فيقول عليه الصلاة والسلام: (كالراعي يرعى حول الحمى -يعني: حول الزرع المحمي- يوشك أن يرتع فيه -يعني: يمكن أن تدخل واحدة- ألا وإن لكل ملكٍ حمى، إلا وإن حمى الله محارمه) فحمى الله الحرام والشبهات هذه التي يرتع فيها أكثر الناس، والواضح هو الحلال.
فإذا قرأت هذا الحديث فيلزمك رأساً أن تمتنع عن كل شبهة فضلاً عن المحرمات، لا تقع في شيء مشتبه فيه فالذي لا تدري أهو حلال أم حرام فاتركه احتياطاً لدينك، هذا معنى قراءتك للسنّة، وأصح كتاب يمكن دلالتكم عليه باعتباركم مبتدئين هو كتاب: رياض الصالحين، لا بد أن يكون في بيتك وعند رأسك، هذا الكتاب ألفه الإمام النووي رحمه الله، واختاره من الكتب الصحيحة، وكل ما فيه صحيح، لم يذكر فيه حديثاً ضعيفاً أو موضوعاً، وإنما كل ما فيه صحيح، إلا سبعة عشر حديثاً قال أهل العلم: إنها حسنة، أما ما فيه فهو يدور بين الصحة والحسن.
اقرأ كتاب رياض الصالحين وابدأ من أول الكتاب، واجعل لك في كل يوم حديثاً، فاقرأ لك حديثاً واحفظه ثم طبقه ثم علم الناس إياه، ما تنتهي من رياض الصالحين إلا وأنت عالم بإذن الله، لأن بعض العلماء لا يعرف رياض الصالحين ويريد أن يكون عالماً، وبعض المدرسين لا يعرف رياض الصالحين ويريد أن يكون مدرساً، وبعض طلبة العلم لا يعرف رياض الصالحين ويريد أن يكون طالب علم، ورياض الصالحين من مسماه، من عاش فيه عاش في الرياض، فهذا هو السبب الثاني وهو قراءة السنّة.(7/10)
ثالثاً: المحافظة على الفرائض
وهذا دواء عظيم لزيادة الإيمان، والمحافظة على الفرائض في مظانها، يعني: في أماكنها، فالذي يصلي في البيت لا يزيد إيمانه بل يضعف ويضعف حتى يذهب.
لابد من أداء الفريضة في المسجد؛ لأن الله تبارك وتعالى أمر بها فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] ليس في البيوت مع النساء بل مع الراكعين أي: مع المؤمنين المصلين الراكعين في المسجد، فالمحافظة على الفريضة تكون في المسجد، أما الفرائض الأخرى: كفريضة الزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، والإنفاق، والدعوة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كل هذه فرائض، ليست فقط الصلاة، ولكن الصلاة من أهم الفرائض وآكدها بعد الشهادتين، فالمحافظة عليها سببٌ من أسباب تقوية الإيمان.(7/11)
رابعاً: الإكثار من النوافل
فلا نعمل كما يعمل الفسقة ممن يصلون الفرض ويدعون السنة، وأنا أسميهم فسقة بما سماهم به شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد سُئل عن رجلٍ يصلي الفريضة ولا يأتي بالسنة؟ فقال: ذاك رجل فاسق ترد شهادته، أي: لو جاء يشهد عليك فأردت أن تطعن وتقدح فيه بأنه تذكر أنه لا يصلي السنة، وبذا ترد شهادته؛ لأن من ترك السنة ترك الفريضة، وهذا بدون شك، لأن خط الدفاع الأول أمام الشيطان هي السنة، فما دام معك خط الدفاع الأول فإن خط الدفاع الثاني عندك أقوى، لكن إذا جابهت الشيطان بالفريضة وهزمك وتركت الفريضة وبالتالي يكفر الإنسان، فالإكثار من نوافل الصلاة، والصدقة، والصوم، والحج والعمرة، والصدقات خير وبركة، ولا نعني بالنوافل السنن الراتبة، ولكن نعني بالنوافل ما خرج عن السنن الرواتب والمؤكدة؛ لأن السنن الراتبة مطلوبة ومؤكد عليها، وسنة الفجر والوتر سنة مؤكدة، لكن نعني بالنوافل ما زاد عن هذا، مثل ركعتي الضحى، أو أربع أو ست، أو ركعتين في جوف الليل، وركعتين إذا دخلت المسجد، هذا اسمها نوافل ينبغي الإكثار منها وعليك أن تستزيد منها دائماً، وأن تستفيد من كل إمكانية في زيادة رصيدك مع الله، ولو بكلمة واحدة.(7/12)
خامساً: الرفقة الصالحة
خامساً: الزميل الصالح أو الرفيق الصالح والمؤمن، والجلوس في حِلق الذكر؛ لأن الرفيق الصالح يذكرك إذا غفلت، ويدعوك إذا ضعفت، ويأمرك إذا خالفت، فهو خيرٌ كله، فهو بمثابة من يحاول باستمرار أن يرفعك، فهو باستمرار يسحبك إلى أعلى، فلا تجلس مع شخص قليل الدين أو فاسق؛ لأنه باستمرار يسحبك إلى أسفل، ولهذا يقول علي رضي الله عنه:
فلا تصحب أخ الفسق وإياك وإياه
فكم من فاسقٍ أردى مطيعاً حين آخاه
يقاس المرء بالمرءِ إذا ما المرء ماشاه
وللناس على الناس مقاييس وأشباه
وللقلب على القلب دليل حين يلقاه
ويقول:
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
لأن الإنسان يقارن بما قُرن به، فإن مشيت مع الطيبين فأنت طيب، وإن مشيت مع الفسقة والعصاة جروك ولو كنت طيباً إلى ما هم عليه، إذ لو كنت طيباً ما سرت معهم، فأنت بخبثك أقررتهم وسرت معهم، فإذا أردت أن يبقى إيمانك قوياً وصلتك بالله قوية باستمرار؛ فاحذر من جليس السوء، وتمسك بصاحب الخير، وبحلق الذكر؛ لأن حِلق الذكر كما جاء في الحديث، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يذكرون الله، إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده) فهذه آثار الجلوس في مجالس الذكر.(7/13)
سادساً: عدم مجالسة العصاة والبعد عن المعاصي
سادساً: الحذر من مجالسة العصاة والاقتراب منهم أو إقرارهم، وهذه واضحة؛ لأنها عكسية للخمسة.
سابعاً: كذلك البعد كل البعد عن المعاصي كبيرها وصغيرها، دقيقها وجليلها؛ لأن المعاصي تسقط العبد من عين الله عز وجل، ولأن المعاصي تحرق الإيمان.
لا تحقرن من الذنوب صغيرا إن الصغير غداً يعود كبيرا
كل شيء يكبر، لا تقل: صغيرة، فاليوم صغيرة وغداً كبيرة.
إن الصغير وإن تقادم عهده عند الإله مسطر تسطيرا
فعليك أن تحرص كل الحرص على عدم الوقوع في المعاصي، فلا تسمع جزءاً من أغنية، ولو حتى الموسيقى التي قبل الأخبار؛ لأنك إذا سمعتها سمعت الذي قبلها والذي بعدها، وبالتالي تصير عاشقاً للأغاني، ولا تتكلم بالغيبة ولو كان هدف الغيبة نبيلاً؛ لأنك إذا تكلمت بالغيبة بهدف نبيل جرتك بالهدف النبيل إلى الغيبة بغير هدف.
ولا تأكل ريالاً حراماً، ولا تكذب كذبةً بيضاء -كما يقولون- فليس في الكذب أبيض وأسود، كله أسود، ليس في الكذب حلال إلا ما رخص فيه الشرع، وهو ثلاث: أ- كذب الحرب، خدعة.
ب- وكذب الرجل على زوجته.
ج- وكذب الإصلاح.
وغيره فهو كذب، فلا تحقرن شيئاً من الذنوب، وعليك أن تبتعد عنها صغيرها وكبيرها؛ لأن الإيمان هو بمنزلة الشجرة في قلبك، وغذاء الشجرة الطاعات، وما ظنكم لو أن إنساناً عنده شجرة وصب عليها بنزيناً، هل تعيش أم تموت؟ الذي يغذي شجرته بالبنزين والقاز والزيت وماء النار، تحترق أم لا؟ فإذا كان عندك إيمان وغذيته بالأغاني -وهذا بمثابة البنزين بالنسبة للإيمان- فإنه يحرق إيمانك، أو غذيته بالنظر إلى التلفزيون وإلى المسرحيات والمسلسلات، أو بعدم قيامك لصلاة الفجر فإنه يحرق دينك، أو غذيته بمتابعة المباريات والرياضيين، أو لترى من الذي فاز ومن الذي خسر، وهم كلهم خاسرون ليس لديهم نصر، إنما النصر لأهل الإيمان، فأنت بهذا تحرق إيمانك.
لكن غذيِّ إيمانك بالقراءة: بقراءة القرآن والسنة، وبالطاعة، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبقيام الليل، والصيام، بالحب في الله والبغض فيه، أو بقراءة كتاب من كتب الإسلام تزيدك إيماناً، هذه وسائل تقوية الإيمان.(7/14)
أسباب حبوط الإيمان
أما أسباب إحباط الإيمان؛ كشخص مؤمن وفجأة انحرف! لماذا؟ لا يمكن أن يحصل هذا إلا بأربعة أسباب:(7/15)
الردة
1 - الردة -أعاذنا الله وإياكم من ذلك-: وهي الكفر بعد الإسلام، وسبب الردة أمران: - الأمر الأول: سوء بداية الهداية، أي أن: هدايته في الأصل كانت بدايتها سيئة، وما كانت لوجه الله عز وجل، وعلى البدايات تنبني النهايات، فمن كانت بدايته قوية، وهدايته صحيحة، كانت نهايته قوية وهدايته لازمة، أما من كانت بدايته ضعيفة، أو نفعية، أو لخوف أو لرجاء، كمن يهتدي ويصلي من أجل أن يُكتب من المصلين في المدرسة، أو كمن يصلي من أجل أن يتزوج بامرأة، يريد أن يعرف أباها أنه يصلي، فيقوم ويصلي في الصف الأول، ليراه أبو المرأة ويسلم عليه -انظر إلى هنا، السلام عليكم، ألا تعلم أني أصلي كل يوم، وأحياناً ينتظره حتى يخرج من باب المسجد فيسلم عليه- حتى إذا تزوج ترك ذلك، فهذا صارت هدايته ليست لوجه الله:
صلى وصام لأمرٍ كان يطلبه فلما انتهى الأمر لا صلى ولا صاما
فسوء البداية يجعل الإنسان يرجع إلى الكفر والعياذ بالله، ويحبط إيمانه، ولذا لا بد من التأصيل والتأكيد بأن تكون بدايتك حسنة، وهدايتك لوجه الله، والتزامك طلباً لما عند الله، وخوفاً مما عند الله عز وجل.
- الأمر الثاني: اتباع الهوى، الذي نسميه الآن: الكيف، فالشخص يقول: أنا على كيفي، أنا على مزاجي، كيفك ومزاجك هو الهوى، فأنت لست على كيفك ولا مزاجك، أنت على مراد ربك (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] ما اتخذ إلهه مولاه، ولكن إلهه هواه، يأمره بالنوم عن الصلاة فيرقد، ويأمره بتضييع الصلاة فيمشي، ويأمره أن يغني فيغني، ويأمره أن يذهب مع الصعاليك يتصعلك؛ فيتصعلك، هذا عبد هواه لا مولاه، فاتباع الهوى يحبط الإيمان، ولذا إذا جاءك الهوى والمراد الشيطاني والكيف والمزاج فارفضه، وقسه على الدين وأمر الله وأمر رسوله، ثم اتبع الدين واترك الهوى.(7/16)
معاداة المؤمنين وموالاة الفاسقين والملحدين
2 - معاداة المؤمنين وموالاة الفسقة والملحدين؛ لأن من عادى أولياء الله حاربه الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي -والحديث في صحيح البخاري -: (يقول الله عز وجل: من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) ومن حاربه الله قصمه وأهلكه، فإيذاء المؤمن ولو بأي نوعٍ من الإيذاء، حتى ولو كان في الحمام يتوضأ وتدق عليه بصورة مزعجة فإن هذا يعد من الإيذاء.
شخص يريد أن يتوضأ، فهل دخل الحمام ليجلس؟ أم أن هناك وسادة وفراشاً يقعد عليها؟! لا.
إن الإنسان لا يدخل دورة المياه إلا من أجل أن يقضي حاجته، فإذا انتهت حاجته خرج، لكن بعض الناس قليل أدب، يأتي إلى الحمام وفيه شخص فيقوم ويدق عليه الباب، ويتنحنح ذاك، فيقول له: عجل! اسرع! وهذا إيذاء، ولا يجوز إيذاء المسلم.
ومن إيذاء المسلم أن تدعوه باسم لا يحبه كأن تعيّره، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات:11] لا تقل: أنت يا أعور، يا أسود، يا ضعيف، يا متين، يا طويل، يا قصير، أنت يا لا.
لا.
فالله قد سمى الناس بأسمائهم، فعليك أن تدعو الشخص باسمه، فلا يجوز إيذاء المسلم بأي شيء من هذا الإيذاء، فإيذاء المؤمنين ومحبة الملحدين والعصاة والفسقة يسبب إحباط الإيمان وخسارته.
وبعض الناس يقوم بتصرفات فيها كبرياء وعجب وخيلاء وبطر، فإذا رأيت هذه النوعيات تحتقرها وتزدريها كما تحتقر البعوضة والذباب، فإذا رأيت هذه النوعيات فلا تحبها، ولا تتخذها مثلاً في الحياة، بل انظر إليهم من علو؛ لأن بعض الناس ينظر إليهم أنهم فوق وهو تحت، وهذا يحتقر ما عظم الله.
فبعض الشباب الذين في تحفيظ القرآن الكريم إذا رأى طلاباً في الثانوية المطورة، ثانوية الفتح وغيرها، وهو في ثانوية القرآن، فإنه يرى نفسه بسيطاً ومُحتقراً، لماذا تحتقر نفسك والله قد أعطاك القرآن؟! يقول عليه الصلاة والسلام: (من أوتي القرآن ثم رأى أن غيره أفضل منه فقد حقر ما عظَّم الله وازدرى ما كرَّم الله) كيف يعطيك ربي كتابه ويجعل القرآن في صدرك، أما تعلم أن من استقر القرآن بين جنبيه فقد استكمل النبوة غير أنه لا يوحى إليه، فهو في منزلة نبي من بني إسرائيل.(7/17)
الاستهزاء بشيء من دين الله
2 - الاستهزاء أو السخرية بشيء من دين الله، وهذه مصيبة يترتب عليها أن يكفر الإنسان بعد الإيمان؛ لأن الاستهزاء بشيء فيه دين الله هو استهزاءٌ بالله عز وجل، والله تبارك وتعالى يقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] هذه الآية واضحة الدلالة على أن من استهزأ بشيء من دين الله فقد كفر بعد إيمانه، كمن يستهزئ بالأئمة، أو بالمؤذنين، أو بالسنّة، أو بالقرآن، أو يورد نكتاً على القرآن، أو بعض الآيات بالتحريف فيها أو بالزيادة أو النقصان، هذا كله استهزاء؛ لأن لدين الله حصانة، لا ينبغي أن تنال أو تمس، فإذا استهزأ الإنسان أو ضحك بشيء من دين الله حبط عمله.(7/18)
اعتقاد أن هدي البشر أفضل من هدي الله
4 - اعتقاد أن هدي شخص أو منهجه أو نظامه أفضل من هدي الله أو منهجه، كأن يعتقد الإنسان أن الأنظمة التي يحكم بها الآن في الشرق والغرب كالنظام الرأسمالي، أو الشيوعي، أو أي منهج آخر يضعه البشر أنه أفضل في تنظيم الحياة من القرآن الكريم أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا اعتقد الشخص هذا أو خالطه أدنى شك فقد كفر بالله عز وجل!(7/19)
الاغترار بأسباب لا توجب النجاة بذاتها
5 - الاغترار بأسبابٍ لا توجب النجاة بذاتها إلا بمسبباتها، فيغتر الإنسان ويعتمد باستمرار على مثل هذه الأشياء، مثل: المغفرة، فكثير من الناس يغتر ويعتمد على مغفرة الله عز وجل، ومغفرة الله لا تنال إلا بأسبابها؛ لأن الله يقول: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:167] فكونك تعتمد على مغفرة الله ورحمته دون أن تتعرض لهذه الرحمة وهذه المغفرة بفعل الأمر وترك النهي فأنت تطلب الرحمة والمغفرة بطريق غير صحيح.
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
إن الذي يرجو شيئاً لا بد أن يتعرض لأسبابه، ومن يرجو رحمة الله لابد أن يتعرض لأسبابها.
- وكذلك من يعتمد ويغتر على الشفاعة -شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته يوم القيامة- فإن الشفاعة لا تُمنح إلا لمن يستحقها، قال عز وجل: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] فيشترط لحصول الشفاعة شرطان: - الإذن من الشافع.
- الرضا عن المشفوع له.
فإذا رضي الله عن المشفوع له وأذن للشافع أن يشفع وجبت الشفاعة، ولكن كيف يتحقق الإذن ويتحقق الرضا مع المخالفة والمعصية؟! هذا غير وارد.
- وكذلك من يغتر ويعتمد على كلمة (لا إله إلا الله) عندما يسمع من الأحاديث: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة) فكلمة (لا إله إلا الله) من قالها خالصة من قلبه دخل الجنة بشرط العمل بلا إله إلا الله؛ لأن للجنة قفلاً، ومفتاحه: لا إله إلا الله، ولكل مفتاحٍ أسنان، وأسنان لا إله إلا الله شرائع الدين، فإن جئت بمفتاح له أسنان فَتح لك، وإن جئت بمفتاحٍ ليس له أسنان لم يَفتح لك.
هذه المفسدات الخمس أعيدها وهي: 1 - الردة، وهي نتيجة لسوء البداية أو اتباع الهوى.
2 - معاداة أولياء الله وموالاة أعداء الله.
3 - الاستهزاء بشيء من دين الله.
4 - اعتقاد أن هدياً أو منهجاً أو شريعة أو نظام البشر أفضل من هدي الله ومنهجه وشريعته.
5 - الاغترار بأسبابٍ لا توجب النجاة بذاتها وإنما بمسبباتها، من التعرض لرحمة الله وهي: المغفرة، والرحمة، والشفاعة، وقول: لا إله إلا الله.
فهذه الأشياء من وقع فيها حبط إيمانه، لذا فإن عليك يا أخي عدة أمور: أن تسعى بجدك واجتهادك إلى تقوية إيمانك وزيادته عن طريق الأشياء التي ذكرناها، وأن تحرص على حماية إيمانك وحفظه عن طريق عدم الوقوع في شيء من هذه المحبطات الخمس التي تفسد إيمانك.(7/20)
حقيقة الإيمان
ما الإيمان الذي نعنيه؟ هل هو: الصلاة والزكاة وفعل الأوامر وترك النواهي؟ هل هو عمل قلبي فقط؟ وما أدرى الناس بقلبي حتى أكون مؤمناً أو غير مؤمن؟ فالإيمان الذي نعنيه ليس مجرد أداء الإنسان للشعائر، فكم من مؤدٍ للشعائر وهو بعيدٌ عن الله، وقد ذكر الله في القرآن: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54].
وهذا سؤال يقول: ما هي حقيقة الإيمان؟(7/21)
الإيمان: تطابق المعرفة مع العمل
حقيقة الإيمان الذي نعنيه ليست مجرد أداء الشعائر؛ فإن كثيراً من الناس يصلون ويؤدون الشعائر وقلوبهم خراب من الهدى والإيمان، والدليل نص القرآن، فالله يخبر بأن المنافقين كفروا بالله وبرسوله ومع ذلك لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، ولا ينفقون إلا وهم كارهون، فهم يخرجون الزكاة ويصلون لكن مع هذا هم كفار، فليس مجرد أداء الشعائر الإسلامية الظاهرة هي دليل على وجود الإيمان، وليس مجرد التحلي أو التظاهر بمظاهر أهل الإيمان دليل قطعي على وجود الإيمان، كأن يرخي الإنسان لحيته، أو يقصر ثوبه، أو يكبر عمامته، هذه الأشياء من الدين، وهي من الإيمان لكنها ليست وحدها دليلاً كافياً على وجود الإيمان، إذ لا بد أن تقترن بأشياء تدلل وتبرهن على صدقها، وإلا فإن لحية أبي جهل كانت لحيته طويلة، ولكنها في رأس كافر.
فلا بد أن يكون مع هذا الظاهر ومع هذا الشكل مضامين أخرى، ومفاهيم تدلل على أن الظاهر منطبق ومتوافق ومتطابق مع الباطن، أما إذا رأينا سلوكاً غير سوي، ورأينا مظهراً سوياً يبدأ التشكيك في صحة السلوك والمظهر، فليس هذا ولا ذاك.
أيضاً: الإيمان ليس مجرد معرفة ذهنية بحقائق الإيمان، كأن تقرأ القرآن وكتب السنة كلها، وكتب العقيدة وتفهم كل شيء، فكم من إنسان يفهم ويتيقن ولا يعمل، والله يقول عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] فهم يعلمون، والله يقول: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] فليس الإيمان مجرد المعارف الذهنية والثقافات الإسلامية، كأن نجد إنساناً يتكلم باسم الإسلام ويتكلم ويدافع باسم الدين وعنده قضايا وحقائق قوية في عقله، فلا نعتبر هذه فقط هي الإيمان الذي نقصده، أو هو حقيقة الإيمان، لا.
ليس كذلك، ولكن الإيمان عملٌ قلبي يبلغ أغوار وأعماق النفس، ويحيط بجوانب النفس البشرية كلها؛ من إدراك وإرادات ووجدان، إدراك ذهني -أي: عقلي- تتكشف فيه حقائق الوجود عن طريق الإيمان بما أوحى الله به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من قضايا الغيب، فيؤمن الإنسان بالجنة والنار وكأنه يراها، وأيضاً- بالملائكة وكأنه يراهم، وبالبعث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره من الله، وبالكتب السماوية وبالرسل كلهم، ويؤمن قبل ذلك كله بالله عز وجل، هذا معنى الإدراك العقلي الذهني الذي تتكشف فيه الحقائق وتصل إلى حد الجزم الموقن به الذي لا يزلزله أدنى شك، يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] هؤلاء هم المؤمنون، و (إنما) هنا أداة حصر، وحديث حارثة بن وهب لما سأله النبي عليه الصلاة والسلام: (كيف أصبحت؟ قال: أصبحت مؤمناً، قال: ما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا وشهواتها، فأضمأت نهاري بالصيام، وأسهرت ليلي بالقيام، وأصبحت وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتعاوون فيها، فقال عليه الصلاة والسلام: عرفت فالزم، إنك مؤمن نور الله قلبك بالإيمان) هذا معنى الإيمان الذي نعنيه، فالإدراك هو: تصديق يبلغ حد الجزم بالحقائق الغيبية الأثرية، بحيث لا تكون في شك أين الجنة وأين النار!(7/22)
الإذعان الكامل ثمرة الإدراك
الإذعان يأتي كثمرة للإدراك، فإذا آمنت أن الذي يتأخر عن المدرسة أكثر من الساعة السابعة والنصف أنه يترتب على تأخره عقوبة، بحيث إن الوكيل أو المراقب واقف بالعصا عند الباب، وأن الذي سيتأخر سوف يضرب، إذا آمنت بهذا فإنك لن تتأخر، وكذلك يتبع الإيمان الإذعان في أنك تدخل مبكراً، فإدراكك للغيبيات يستلزم منك إذعانٌ وانقياد إرادي يتمثل في خضوعك ورضاك لكل أوامر الله، وبعدك وانتهائك عن كل ما نهى الله، فمن رأيناه يبتعد عن أوامر الله ولا يأتيها، ويقع في محارم الله ولا ينتهي عنها، شككنا في إيمانه.
أما إذا رأينا إنساناً مذعناً منقاداً مستسلماً لأوامر الله، أينما أمره الله وجدته، وحيثما نهاه الله لا تجده، فإن هذا نحكم بإيمانه -وأيضاً- قبل ذلك لا بد أن يتبع هذا الإدراك العقلي والإذعان السلوكي والعبادي حرارة في القلب، وحرقة في الصدر تبعث على أن يعيش الإنسان لهذا الإيمان، وعلى هم هذا الدين ونصرته، فتفكيره كله في ليله ونهاره، وسره وجهاره، ويقظته ونومه هموم الإسلام؛ لأن وجدانه معلق بالإسلام، فهو عنده إدراكات ذهنية، وإذعانات، وانقيادات سلوكية، وأيضاً عنده حرقة ووجدان يتحرك لدين الله، فيعمل بمقتضيات هذا الدين في الجهاد في سبيل الله، والدعوة إلى دينه، والالتزام بمبادئ هذه العقيدة، والدفاع عنها، والدعوة إليها، ومعاداة من يعاديها، وموالاة من يواليها، هذه كلها تأتي نتيجة الحرقة؛ لأن الإيمان عنده حرٌ متحرك.
أما أن يكون شخصاً بارداً لا يهمه أمر المسلمين، ولا يهتم بالدعوة ولا بالدين، فهذا إيمانه إيمان مثلّج لا ينفعه ولا يسقيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله! هذه هي مقومات الإيمان الصادق، والعقيدة الحقة التي تشرق شموسها على جوانب النفس البشرية، فكلما كان العقل مقتنعاً والإرادات متحركة، والجوارح مندفعة إلى العمل لدين الله، والقلب يحترق ويتألم على دين الله؛ كلما كان الإنسان ذا إيمان حي.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقني وإياكم إيماناً صادقاً وعملاً صالحاً، إنه على كل شيء قدير.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(7/23)
الأسئلة
.(7/24)
باب التوبة مفتوح إلى قيام الساعة
السؤال
إذا آمن شخص ثم كفر ثم آمن هل يقبل إيمانه؟
الجواب
نعم.
يقبل إيمانه، فإذا آمن ثم ارتد ثم رجع إلى الإيمان قُبِلَ إيمانه إن شاء الله، لأن التوبة مقبولة وبابها مفتوح، وهو أوسع مما بين المشرق والمغرب، ومفتوح حتى تشرق الشمس من مغربها، وإن الله ليبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، فعلى العاقل باستمرار إذا أخطأ أو زلت به القدم، أو ضعف بحكم بشريته؛ ألا يستمر على الخطأ، بل عليه أن يرجع؛ ويصحح المسار، ويرجع إلى الله تبارك وتعالى، أسأل الله لنا ولكم التوفيق، والله أعلم.(7/25)
بعض الكتب المرشحة للاقتناء والقراءة
السؤال
ما هي الكتب التي تنصحنا بشرائها؟
الجواب
هذا سؤال عظيم جداً، جزى الله هذا السائل كل خير، فإن هذا السؤال مهم، والكتب تختلف طبعاً باختلاف مدارك القارئ، فلكل مستوى تعليمي ما يلائمه من الكتب، فلا تعني الإجابة هنا أن كل ما أقوله ينبغي على الإنسان أن يقرأه، وإنما بحسب مداركه ومستواه التعليمي، فطالب المتوسط له كتب، وطالب الابتدائي له كتب، ولكن أجيب على العموم لما يصلح أن يكون إن شاء الله كتاباً شافياً ومفيداً لكل المستويات بإذن الله عز وجل، وأؤكد على كتب الثقافة الإسلامية، فكتب الثقافة الإسلامية تصلح لشباب الثانوية والمتوسطة مثل كتاب: هل نحن مسلمون، ومعركة التقاليد، وجاهلية القرن العشرين، والإنسان بين المادية والإسلام لـ محمد قطب كلها، والأركان الأربعة لـ أبي الحسن الندوي، ومبادئ الإسلام للمودودي، وهي لا تكلف كثيراً، يمكن أن تبلغ مائتي ريال، أي: قيمة نصف (تيس)، لأن (التيس) بأربعمائة، فيمكنك أن توفر في يوم من الأيام قيمة نصف (تيس) وتشتري به مكتبة إسلامية تنفعك وتنفع أبناءك في حياتك وبعد مماتك إن شاء الله، هذا بالنسبة للكتب العصرية.
وبالنسبة لكتب السلف كتاب زاد المعاد، والجواب الكافي، وإغاثة اللهفان، والفوائد وكلها لـ ابن القيم، ورياض الصالحين في الحديث للنووي، والإيمان للزنداني وهو موجود في الأسواق يباع بعشرة ريالات وتعريف عام بالعقيدة للطنطاوي، وتعريف عام بدين الإسلام وهذا كتاب أنصح كل أستاذ وطالب علم باقتنائه، وهو جزآن في العقيدة والعبادة، لكن جزء العبادة قد ضاع وبقي جزء العقيدة والحمد لله.
فقد قال في العقيدة كلاماً ما سبقه إليه أحد، بحيث لو قرأه أكبر كافر في الأرض لأسلم.
وكتاب منهاج المسلم، والرسائل الجزائرية للجزائري وهي سبع وعشرون رسالة، وكتاب للمبتدئين في المتوسط اسمه (هذا الدين) وهو كتاب عظيم وهذا الكتاب لـ سيد قطب رحمه الله يعرّفك على الدين، ويقدمه لك بأسلوب العصر، وقد لا تفهمه من أول مرة لبعد المستوى في الثقافة، لكن بالاستمرار وبالمذاكرة تفهمه إن شاء الله، وغيره كثير ولكن أكتفي بهذا إن شاء الله.(7/26)
مقياس النجاح في الدنيا للصالح والفاسق
السؤال
أنصح أخي وأقول له: اتق الله يا أخي؛ يعلمك ويفتح عليك، ويوفقك في دراستك، فيجيب: إن ابن جيراننا لا يستغني عن النظر إلى الفيديو، وهو بعيد عن الدين؛ لكنه موفق في دراسته، فما ردكم على ذلك؟
الجواب
التوفيق في الدراسة إذا كان للمؤمن فهو كرامة من الله له، وحسنة عاجلة يعجلها الله له، وثواب مقدم، أما إذا كان التوفيق في الدراسة للفاجر والفاسق فهو استدراج من الله له، كأن يوفق في دراسته، أو وظيفته أو ماله، ليس معنى أن الغربيين والكفار وفقوا في البحوث والاكتشافات العلمية أن الله راضٍ عنهم لا.
فالله يقول: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16] فهذا ابن الجيران الذي يسمر إلى آخر الليل على الفيديو والمسلسلات والقاذورات لا يتقي الله، ولكنه يذاكر دروسه ومجتهد، وطبيعي إذا ذاكر الإنسان دروسه واجتهد وجد فإنه سوف يحصل على نصيب اجتهاده ولو كان كافراً أو فاسقاً، أما أنت يا مؤمن إذا تركت المعاصي واجتهدت في دين الله ووجدت ثواب اجتهادك في دين الله عز وجل فإنه توفيق من الله في الدنيا ورضى منه في الآخرة، أما ذاك فيجد توفيقاً من الله في الدنيا فقط، لأنه اجتهد ولكن ليس له في الآخرة نصيب: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16] فلا يعني أن ذاك لما كان على الفيديو والمنكرات سامراً أنه موفق، وأن الفيديو هو الذي وفقه، لا.
بل الذي يوفق هو الله، فهو موفق في دراسته لأنه يذاكر ويجتهد، فيمكن أنه يسمر في الليالي ولكن يذاكر، أو عنده نسبة ذكاء تمكنه من استدراك ما فاته، ولكن لو ترك الفيديو لكان أكثر توفيقاً.(7/27)
حكم حلق اللحية
السؤال
هل إعفاء اللحية واجب أم يحل للإنسان أن يحلقها؟
الجواب
إعفاء اللحية واجب يلزم بمخالفته لحوق الإثم، وتحقق المعصية، والأحكام الشرعية في الشرع خمسة: 1 - واجب.
2 - مستحب.
3 - محرم.
4 - مكروه.
5 - مباح.
فالواجب تعريفه في الشرع: هو ما طلب الشارع من المكلف فعله طلباً جازماً، ولم يقم على الطلب قرينة تصرفه عن الوجوب، فنأتي إلى اللحية نقيسها على هذا المقياس، نجد أن الشارع طلب من المكلف فعل هذه اللحية طلباً جازماً ولم يقم على الطلب الجازم قرينة تصرفه عن الوجوب، فقد قال عليه الصلاة والسلام: -والأحاديث في الصحيحين - (اعفوا اللحى وجزوا الشوارب) (أكرموا اللحى) (أرخوا اللحى) (أسدلوا اللحى) وقامت القوائم من السنة الفعلية والقولية على أنها واجبة: - أولاً: بفعله صلوات الله وسلامه عليه، فقد كانت لحيته كثة تملأ ما بين منكبيه، حتى إن أحد الصحابة سئل: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الظهر؟ قال: [نعم، فسأله الثاني وقال: ما أدراك والصلاة سرية؟ فقال: كنت أعرف ذلك من اضطراب لحيته] كان إذا قرأ تحركت لحيته، فيعرف الناس أنه يقرأ، صلوات الله وسلامه عليه، بمعنى: أنها كانت مملوءة، تملأ ما بين منكبيه، فلو قست لحانا كلنا الذين في هذا المجلس ما بلغت لحية النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ابن عمر إذا اعتمر أو أحل من الحج قبض لحيته وقص ما زاد على ذلك، والقبضة هذه طويلة، فالذي معه لحية بمقدار قبضة فإنها كبيرة، فبعضهم يقول: أنا سأقصر، اتركها حتى تطول فإذا طالت فخذ، إن كنت أخذت بقول ابن عمر، وإن كان بعض أهل العلم يقولون: إن فعل الصحابي لا يُعمل به إذا عارض قول النبي صلى الله عليه وسلم، ففعل الصحابي يُلجأ إليه عند فقدان النص عن الرسول، لكن ما دام أن الرسول قد أمر بالإعفاء ولم ينقل عنه أنه أخذ منها فإن الواجب تركها وعدم أخذ شيءٍ منها، حتى ولو فعله ابن عمر، فإننا مأمورون باتباع شرع الله وشرع رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: غضبه صلوات الله وسلامه عليه حينما رأى الحليقان اللذين جاءا من اليمن وكانا فارسيين، وكانا قد أطالا شواربهما -مثلما يفعل شبابنا- وحلقا لحاهما فلما رآهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم -وهما كافرين- قام بدعوتهما للإسلام، وقال: (من أمركما بهذا؟ -أي: لماذا تغيران خلق الله في وجوهكما؟ - قالا: ربنا.
-يعني: كسرى- قال: أما أنا فقد أمرني ربي بإعفاء لحيتي وقص شاربي).
فلمّا فعل بنفسه وأمر أصحابه وأنكر على الحليقين، دلت كل هذه القرائن على أن الأمر بإعفاء اللحية للوجوب، وأن حالقها مستخفٌ بأمر الله عز وجل يلحقه بذلك إثم عند الله تبارك وتعالى.
فليس هناك مكياج ولا ديكور كما يفعل بعض الناس، تراه يأخذ من لحيته ويجعله مثل الخيط على وجهه، وبعضهم يجعله مثل ترقيمة الشاي، ويجعل لها حبلاً في وجهه، وكل يوم تراه بشكل، أهي قضية تصوير ومكياج كل يوم تترسم! هذه قضية انتماء ليست قضية شعر، ما دام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بأن ترخي لحيتك فترخي، ويكفيك أنك من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، أما كل يوم ولك شكل فإن هذا لا يصلح.(7/28)
المحبة في الله من أسباب محبة الله للعبد
السؤال
بعض الشباب يحب أن ينقل للشيخ أنه يحبه في الله!
الجواب
أحبه الله الذي أحبني فيه، وهذه والله أعظم بشرى للإنسان أن يكون محبوباً في الله؛ لأن من أَحب العبد في الله وأُحب في الله نال بهذه المحبة محبة الله، وعند مسلم: (أن رجلاً زار أخاً له في قرية فأرسل الله على مدرجته ملكاً فقال له وهو في هيئة رجل: إلى أين؟ قال: إلى أخٍ لي في هذه القرية، قال: هل لك من نعمة تربها عليه؟ قال: لا.
غير أني أحببته في الله، قال: فإني رسول الله إليك أخبرك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه).
لأن المهم أن تُحَبَ ليس المهم أن تُحِبَ، فقد تُحِبُ ولا تُحَبُ، وهذه مصيبة أن تُحِب شخصاً وهو يكرهك، لكن العظيم أن تُحِب وأن تُحَب، فنسأل الله الذي لا إله إلا هو بأسمائه الحسنى وصفاته العلى في هذه الساعة المباركة أن يرزقنا حبه وحب من يحبه، وحب كل عملٍ يقربنا إلى حبه، إنه على كل شيء قدير.
والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/29)
من أهوال يوم القيامة
الإيمان بالقيامة هو إيمان باليوم الآخر، بما يتضمنه من بعث، وحشر، ونشر، وحساب، وجزاء، وإن ذلك اليوم فيه من الأهوال مالا تدركه العقول، ولا تستوعبه الأفهام.
وقد جاء ذكر هذه الأهوال في القرآن والسنة تارة بالتفصيل وتارة بالإجمال، وهذه المادة تتناول بعض هذه المشاهد لذلك اليوم العصيب.(8/1)
الإيمان وأهميته
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:(8/2)
عظم قدر نعمة الإيمان على البشر
أيها الإخوة في الله! من أعظم ما يَمن الله به على الإنسان: نعمة الإيمان، والطاعة والهداية، والتوجه الصحيح إلى الله، وقد منّ الله بهذه النعمة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين، فأما على النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ فيقول الله له: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح:1 - 2] أي: نعمة الدين.
ويقول في سياق مَنّ هذه النعمة على الناس وتذكيرهم بها: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164] ويقول في سورة الحجرات: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} [الحجرات:7] هذا الخطاب موجه للصحابة ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن غاب عنا بشخصه فإنه لن يغيب عنا بهديه ومنهجه وسنته، وما من شيء إلا وقد بينه لهذه الأمة، إما خيراً فدلها عليه أو شراً فحذرها منه، وقال: (تركتكم على المحجة البيضاء -ما تركنا في متاهات، ولا أمام معميات، وإنما وضع أقدامنا على الصراط، ودلنا على المحجة البيضاء- ليلها كنهارها -ليس فيها غبش ولا سواد- لا يزيغ عنها إلا هالك) كشخص لا يريد أن يمشي فهذا لابد أن يزيغ، أما شخص يريد الطريق الصحيح، فهي واضحة مثل وضوح الشمس في رابعة النهار، على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، يقول الله في معرض التذكير بالنعم: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات:7] ثم ذكرهم الله بنعمة وجود النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:7 - 8] هذه النعمة وهذا الفضل والفضل الحقيقي والنعمة الحقيقية أن يحبب الله إليك الإيمان، وأن يزينه في قلبك، فينشرح صدرك له، وتحبه فتموت في سبيله، لا تستطيع أن تعيش إلا بالإيمان، فلو فارقك الإيمان لحظة واحدة لمتَّ، كالسمكة؛ لو فارقت الماء لحظة لماتت، لا يمكن أن تعيش إلا في بحبوحة الإيمان؛ لأن الله حببه إليك، وأيضاً زينه في قلبك، فزين لك الإيمان فلا تر حلية أعظم من حُلي الإيمان، وزين لك لباس الإيمان فلا تر لباساً أعظم من لباس الإيمان، وزين لك كنز الإيمان فلا تر كنزاً أثمن منه، حين يكنز الناس المال والذهب، وحينما يتزين الناس بالحلي والملابس وتتزين أنت بالإيمان:
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلب عرياناً ولو كان كاسيا
فخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصياً
وحق كل نعمة أن تُشكر، يقول الناظم:
وحق كل نعمة أن تشكرا حتى يزيد ربنا ويكثرا(8/3)
المحافظة على النعمة تكون بشكرها
إذا زدت من الشكر زادك الله من النعم، لكن إذا أعطاك ربي وبعثرتها وما قدرتها، وأهنتها؛ سلبها منك {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] إن شكرت نعمة الإيمان والهداية والدين وتمسكت بها زادك الله من نعمة الإيمان والدين.
انظروا! لا ينصرف ذهن أي إنسان إذا ذُكرت النعمة إلى أنها نعمة المال أو العافية، لا.
هذه نِعَم، لكنها نِعَم مشتركة بين المسلم والكافر، بل إنها نِعَم تزيد عند الكفار أكثر من المؤمنين، جاء في الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب؛ فمن أعطاه الدين فقد أحبه).
ولذا صرف الله النعم الدنيوية عن أنبيائه صيانة لهم، وبسطها على أعدائه مكراً بهم، هل معنى هذا أنه لما أعطى الله قارون نعمة المال أن الله يحبه، ولما أعطى الله الوليد نعمة الولد هل الله يحبه؟! ولما أعطى الله فرعون نعمة الملك هل الله يحبه؟! لا.
لكن يمكر بهم، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55].(8/4)
وجوب الحفاظ على نعمة الإيمان
هذه النعمة أيها الإخوة! نعمة الإيمان والهداية، إذا رزقك الله إياها فتشبث بها وتمسك بها حتى تموت، فإذا دخلت الجنة تقول: الحمد لله الذي هدانا لهذا، إذا دخلت الجنة تحمد الله الذي هداك لنعمة الإيمان والتي كان من آثارها وثمارها عليك أن أدخلك الله الجنة بسببها، لكن من يبدل هذه النعم ولا يعرف قدرها فهو المغبون الخاسر.
نعمة الإيمان موجودة معنا يوم أن اختارنا الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، واختارنا الله عز وجل من أهل لغة الضاد -العربية- نقرأ القرآن بدون كلفة ولا مشقة، بينما هناك من المسلمين من يبذلون السنين الطوال وهم يقرءون القرآن ولا يعرفون منه حرفاً واحداً، ويتمنون أنهم يعرفون حرفاً وما يستطيعون، ويعيش بعضهم طوال حياته لا يعرف شيئاً من القرآن ولا من الدين إلا ألفاظاً يقولها ولا يدري ما معناها، إن الله أعطاك اللسان العربي، واختار لك الأرض العربية، واختار لك أرضاً هي مهد القداسات وأرض الحرمين الشريفين، واختار لك أن تكون مؤمناً، ما ظنك لو كنت يهودياً؟! أما كان يمكن! ما ظنك لو أنك نصراني؟! أو مجوسي؟! تعبد الثور والبقرة! يجلس المجوسي أمام البقرة وإذا بالت عليه اعتبرها نعمة عليه، هل هناك أضل من هذه العقول؟! ويقول أحد المشايخ: دخلت وأنا في (دلهي) في معبد من معابدهم، أريد أن أعرف ماذا يفعلون -معبد الهندوس- يقول: وإذا بهم عباقرة في الفكر، وبروفسورات في الطب والهندسة والذرة، لكن في عبادتهم ما هو في منأى عن فكرهم! يقول: وجدت رجلاً قد شاب رأسه، قلت من هذا؟ قالوا: هذا عميد أو مسئول جامعات كبيرة في الهند يقول: وإذا به جالس -الله يكرمكم- عند مؤخرة الثور، يقول: جالس ويده ممدودة إلى الثور يطلب منه الرحمة والشفقة والحنان.
لا إله إلا الله! ما أضل هذه العقول! فكان يمكن أن تكون يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو ملحداً أو شيوعياً أو كافراً؛ لكن الله جعلك مؤمناً، ألا تحمد ربك على هذه النعمة -يا أخي- ثم أيضاً كونك مؤمناً وفي أرض إيمانية أيضاً زادك هداية واستقامة، الآن كثير من الشباب في المقاهي على الدخان والمنكرات واللعن والسب والشتيمة، وأنت الله اصطفاك واختارك واجتباك وجعلك من أهل ذكره وشكره وبيوته ومجالس العلم هذه نعمة لا تقدر بثمن، لا تظن أنك على هون، وأنك مسكين.
لا والله، والله هذا هو الملك، وهذا هو العز:
هذا هو الملك لا تزويق أبنية ولا الشفوف التي تكسى بها الجدر(8/5)
عقوبة التفريط في كنز الإيمان
الملك الحقيقي أن تكون عبداً لله، والذلة والخسران والخذلان أن تكون عبداً للشيطان وللشهوات، أعظم عقوبة يُعاقب الله بها المخذول أن يصرفه عن الدين، وأن يتركه عبداً لشيطانه والعياذ بالله.
ومن لم يعرف قدر هذه النعمة وبدلها، أي: جاءته نعمة الدين وذاقه وإذا به يتركه، فقد توعده الله بالعذاب الشديد، يقول الله عز وجل: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:211] كيف تبدل نعمة الله عز وجل؟! كيف تنصرف وتنحرف؟! كيف تحور؟! كيف ترجع بعد أن ذقت هذا وسرت في الطريق الصحيح؟! هذه مصيبة.
ولهذا يقول عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3].
فمن أعظم العقوبات لمن سار في الطريق ثم رجع عنها أن يطبع الله على قلبه، فإذا طُبع -أي: ختم وقفل- فلا يفقه حتى لو أتيت تذكره بعد ذلك، تقول: اتق الله -يا أخي- أنت وأنت لا يفقه ولا يفهم شيئاً، منكوس مقفول مطمور مقبور في جسده، مقبور في الأرض، كأنك تكلم ميتاً: {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3] لمَ طبع على قلوبهم؟ لأنهم رجعوا بعد أن ساروا، وآمنوا بعد أن كفروا.
فيا إخواني في الله! علينا أن نحمد الله، وأن ننظر إلى من لا يشاركنا في طريق الإيمان نظرة الحنان والعطف والشفقة عليهم، فنرحمهم ونمد حبال النجاة لهم لعل الله أن ينقذهم بسببنا، أما أن نراهم وهم يتردون ويهلكون ثم ننظر إليهم بعين الإكبار، وننظر إلى أنفسنا بعين الاحتقار فقد حقرنا نعمة الله، ولهذا جاء في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (من أوتي القرآن -أي: الدين- ثم رأى أن غيره أفضل منه؛ فقد عظم ما حقر الله، وازدرى نعمة الله) من أوتي القرآن وأوتي الإيمان والدين، ثم رأى أن غيره أفضل منه؛ فقد حقر شيئاً عظمه الله وازدرى نعمة الله تبارك وتعالى.(8/6)
يوم القيامة وأهواله
أيها الإخوة! درس هذه الليلة هو بعنوان: (من أهوال يوم القيامة) ومن رحمة الله بنا أن نقلنا إلى أن نعيش أحداثاً، تحدث في يوم القيامة ووصفها لنا حتى لكأننا نشاهدها مشاهدة العين، وهذه رحمة أيضاً، أن يخبرك الله أنه ستكون يوم القيامة أشياء، وأحداث جسام منها: أن تتفطر السماوات، وتنشق الأرضون، وتتكور النجوم وتتكدر، وتسير الجبال، وتسجر البحار، بعد ذلك تذهل المرضعات عما أرضعت، وتحشر الوحوش، هذه أحداث أخبرنا الله بها، وأمرنا أن نستعد لهذا اليوم المهول الذي تتقطع فيه القلوب من الخوف والهلع والحزن، لماذا؟! للأحداث الكونية الضخمة العظيمة التي تكون فيه، هذا من رحمة الله تبارك وتعالى بنا لكي نستعد، حتى لا يأتي شخص ويقول: ما كنت أعلم أنه سيحدث هذا الأمر، ولو كنت أعلم أن هذا حادث لاستعديت، لا.
بل تعلم فإن الله قد أخبرك بكل هذه الأحداث حتى تكون في أهبة الاستعداد؛ ولتكون من الناجين الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
ويوم القيامة -كما سبق أن قلنا- يوم عظيم هوله، شديد أمره، لا يلاقي العباد أبداً مثله، يدل على عظمته وأهواله أمور:(8/7)
وصف الله له بالعظمة
الأول: أن الله وصف هذا اليوم أنه عظيم، والله عز وجل عظيم، ولا يعظم العظيم شيئاً إلا لكونه عظيماً، يقول الله عز وجل {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] عن أي شيء يتحادثون؟! {عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ:2] نبأ ماذا؟! نبأ البعث {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ:3] بين مكذب ومصدق، الكافر يكذب والمؤمن يصدق، قال الله: {كَلَّا} [النبأ:4] أداة زجر وردع وتوبيخ {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:4 - 5] تأكيد على أن الله عز وجل سيبعثهم وسيعلمون عاقبة كفرهم وتكذيبهم، ثم يَعْرِض الله بهم جولة في الأفاق والكون ليستدلوا بها على عظمة الله وقدرته على البعث فيقول: {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً * وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً * وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} [النبأ:6 - 16] لماذا هذا كله؟! {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} [النبأ:17] أجل إن الله يخلقكم، ويجعل لكم الأرض مهاداً، والجبال أوتاداً، والسماء عماداً، وأمطار تأتي من السماء، وينبت لكم ثماراً من أجل أن تعيشوا وتموتوا وتنتهي المسألة؟! لا.
هذا من أجل شيء وهو: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} [النبأ:17] وكأن شخصاً يقول: يا رب متى؟ قال: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} [النبأ:18] جماعات زرافات، كل مجموعة مع من يشاكلها: {وَفُتِحَتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً * وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً * إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} [النبأ:19 - 21].
والله عز وجل يذكر هذا اليوم بأنه عظيم بقوله: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين:4 - 5] وهذا الخطاب موجه للمطففين، والتطفيف: خُلُق سيئ ولا ينحصر في البيع والشراء بل في كل شيء، فالمطفف: هو الذي إذا اكتال لنفسه يستوفي، وإذا كال للناس ينقص، هناك وادٍ في النار اسمه ويل: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] من هم؟ {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:2 - 3] لماذا؟! مكذبين قال الله: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين:4 - 5].
والتطفيف: قد تكون وأنت في الصلاة مطففاً، أي: تنقص في صلاتك فلا تتم ركوعها ولا سجودها، وقد يكون في عملك في الوظيفة، إذا جاء الراتب تستوفيه، لكن إذا جاء العمل لا تؤديه، هذا تطفيف، لو نقصوا عليك من راتبك مائة ريال أو خمسين أقمت الدنيا وأقعدتها، لكن كل يوم ما تأتي إلا الساعة الثامنة والنصف، والدوام في الساعة السبعة والنصف، طيب من سمح لك من سبعة ونصف إلى ثمانية ونصف؟! قد تقول الرئيس، الرئيس لا يملك، قد تقول المدير، المدير لا يملك، لا يملك السماح لك أبداً، إلا ولي الأمر؛ لأن الصلاحيات بيده، والصلاحيات التي حددها لك هي سبعة ونصف، فيجب أن تكون سبعة ونصف على مكتبك إلى اثنين ونصف ليس خوفاً من المدير ولا الرئيس، ولكن خوفاً من الله، إذا جلست وأديت عملك على هذا الوجه هل يمكن أن يبقى عندك معاملة؟! أو يتعطل مراجع؟! أو تدحرج المعاملات دحرجة وتمررها بدون فحص وتحقيق؟! لا.
لماذا؟! لأن عندك وقتاً طويلاً، سبع ساعات تفرح بالموظف أو بالسكرتير أو بالوارد إذا أتى بالمعاملات تقول الله يجزيك خيراً وهات نقطع الوقت ونتسلى، لكن الذي ينام إلى الساعة تسعة ويدخل الساعة عشرة، ويدخل من يوم يدخل (للحمام) ثم يقول: هات الفطور يا ولد، ودخل الغرفة وساعة فطور، رغم أن هذا ممنوع، لكن أين المدير؟ أين الرئيس؟ قالوا: يفطرون انتظر قليلاً، اقعد قليلاً، مطعم، سفرة كاملة، وبعد الفطور شاهي، وبعد الشاهي كلام، وسحب نفسه وجلس على الماسة قليلاً وجاءت المكالمات والجرائد ويقول: ما هي الأخبار؟! وبعدها أذن للظهر، قام وترك مكتبه وذهب وصلى أو لم يصل، ورجع وقال: غلقوا الدوام يا جماعة! ماذا تريدون أفعل بعد الظهر أنا بشر ولست آلة؟ ما رأيكم إذا جاءته المعاملات؟! يحزن أم يفرح؟! يحزن، لماذا؟! لأنه ليس معه وقت، وبالتالي إما أن يمررها بدون شرح ولا قراءة ولا اطلاع أو يهملها تحت الدرج في المكتب ويجعلها إن كان جاء مراجع طلع معاملته، وإن لم يأت جلست شهوراً، بعض المعاملات تجلس في مكتب الموظف شهور ولا تتحرك إلى أن يأتي شخص يبعثرها ويعقب عليها ومعه رقم، وإن لم يوجد لديه رقم فلا يمكن أن يتصور أن معاملته تنتهي، فالمطفف هو الذي يستوفي راتبه وينقص عمله: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين:4 - 5].
من المطففين من يطفف في بر والديه، يستوفي من والده كل شيء، ولا يُعطي والده شيئاً، والده سبب كل نعمة عليه نعمة الخلق والإيجاد هي من الله وسببها الوالد، نعمة التربية والإمداد والتدريس والكساء والغذاء والسكن، كم نعم من الله عليك بسبب والديك؟! أمك إذا مرضت في جوف الليل تبكي، وأبوك يحملك ويذهب بك إلى المستشفى ولو مشى على وجهه، أبوك إذا ما عنده ما يدفع به لو يبيع ثوبه أو كوته من على كتفه من أجل أن يشتري علاجك، ثم إذا كبرت وأصبحت رجلاً تتنكر؟!! أنت مطفف، لماذا؟ لأنك أخذت ولم تعط، استوفيت ولم تف فأصبحت من المطففين: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين:4 - 5].
وتارةً يصفه الله عز وجل بالثقيل فيقول: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان:27] يوم عظيم ثقيل، وتارةً يصفه الله عز وجل بالعسير، وأنه غير يَسير فيقول: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:9 - 10] لكنه بهذا المنطوق، والمفهوم منه أنه على المؤمنين يسير، اللهم يسره علينا يا رب العالمين.
ورد أن يوم القيامة قدره خمسون ألف سنة، وأن المؤمن لا يشعر به إلا كما بين صلاة العصر إلى المغرب، وهذا أضيق وقت، من العصر إلى المغرب لا تفعل شيئاً، قد تشرب (فنجان) شاهي، أو تقعد مع أولادك وإذا بك والمغرب يؤذن، هذا المؤمن يخفف الله عليه وقت يوم القيامة حتى كأنه منذ تدلي الشمس للغروب إلى أن تغيب الشمس، وإذا به نجح، وأخذ كتابه بيمينه وقيل: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70] بينما ذاك طويل، ثقيل، عظيم، عسير، غير يسير، خمسين ألف سنة، وهو شاخص ببصره إلى السماء: {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} [إبراهيم:43] لا يقدر على أن يغمض عينه غمضة واحدة، وبعد ذلك قلبه ليس في صدره، بل في نحره: {كَاظِمِينَ} [غافر:18] مكظومة أنفاسهم من عظمة الأهوال التي ينتظرونها والمفاجآت التي يتوقعونها، الآن الذي يخرجونه للسيف كي يقتل قصاصاً هل يبقى قلبه في مكانه؟! ما رأيكم في فترة الانتظار مذ يجلسونه إلى أن يضرب بالسيف؟ بعدما يقرءون الإعلان، ما أطول هذه الفترات -يا إخواني- وهي خمس دقائق، لماذا؟! لأنه ينتظر السيف يضرب رقبته، أو ينتظر البندقة وهي تخرق ظهره وتخرج كبده أمامه، فهو في تلك اللحظات جالس هل يفكر في شيء غير هذا؟! لو مرت أمامه امرأة عارية هل ينظر إليها؟! لو سمع أغنية هل يتغنى بها؟! وهي ضربة سيف أو بندقية؛ لكن يوم القيامة ليست ضربة سيف، ضربة السيف أمنية ضربة البندقية أمنية، في يوم القيامة ليس هناك موت، فيه عذاب، يقول الله عز وجل: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:17] هذا الأمر الأول: أن الله عظمه.(8/8)
إخبار الله عن شدة الخوف والفزع فيه
الثاني من الأمور التي تدل على هول يوم القيامة: أن الله عز وجل أخبر بأن الرعب والفزع والهلع والخوف يصيب العباد في ذلك اليوم، فالمرضع تذهل عن وليدها، وهذا تعبير به إذ لا يمكن في الدنيا أن تترك ولدها أبداً فلو حصل وأنت جالس في البيت لا سمح الله وسقط سقف البيت، كل شخص من الجالسين في المجلس وهم يسمعون الانهيار يهربون، لكن المرضع لا تشرد إلا وولدها في يدها، نعم.
لا يمكن أن تشرد لوحدها وتترك ولدها، ولو شردت ثم ذكرت ولدها رجعت تأخذ ولدها ولو ماتت.
لكن في يوم القيامة لعظمه: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج:2] ووضع الحمل لا يأتي إلا من شدة الخوف، المرأة إذا بلغها أمر خطير جداً وكبير تُسقط، هذه تُسقط لكن لا تضع الحمل الكامل، أما هذه الحامل التي لا ينتظرها شيء لكن ما آن الأوان لأن تضع الحمل، أمر خارج عن إرادتها من أهوال يوم القيامة.
وأيضاً يَحصل للناس نوع من الهلع؛ لدرجة أنهم يصبحون كالمجانين، قال الله عز وجل: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] ولشدة الهول تشخص أبصار الناس خصوصاً الظلمة منهم؛ لشدة الرعب، ولا يلتفتون يميناً ولا شمالاً، ولا يخفضون أبصارهم، يقول الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ} [إبراهيم:42 - 43].
وترتفع قلوبهم -والعياذ بالله- إلى حناجرهم، فلا تخرج ولا ترجع، يقول الله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:18 - 19] ويقول: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37] {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} [النازعات:8 - 9] وحسبك أن تعلم أن من لم يبلغ الحُلم ولم يدر ما الأمر ولم يبلغه النهي ولا يعرف الدين؛ صغير، لكن لما يخرج وهو يبعث يرى الأهوال هذه فيشيب رأسه، يقول الله تبارك وتعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} [المزمل:17] يشيب الصغير، فكيف بي وبك! إنا لله وإنا إليه راجعون!(8/9)
انقطاع الأنساب والأسباب فيه
الثالث من الأمور التي تدل على عظمة يوم القيامة: انقطاع جميع العلاقات والوشائج بين البشر، فعلاقة النسب والزمالة والأموال لا تنفع، كل شيء وكل علاقة لا تنفع في يوم القيامة، يقول الله: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] يقول عز وجل: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] فكل إنسان لا يهتم في ذلك اليوم إلا بنفسه حتى الأنبياء، يأتي الناس إليهم فيقولون: نفسي نفسي لا أسألك اليوم إلا نفسي، اشفعوا.
أنتم أنبياء لكم منزلة، ومكانة، فيقولون: إن ربنا قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، لا أستطيع.
اذهبوا إلى غيري! نوح يحيل على إبراهيم، وإبراهيم يحيل على موسى، وموسى يحيل على عيسى وكل واحد يذكر له خطيئة، نوح يقول: إني قد دعوت على قومي، وإبراهيم يقول: قد كذبت، وما كذبة إبراهيم؟! قال: إن هذه أختي، وقال: إني سقيم، وهي كذبات كلها في صالح الإسلام، وقال: بل فعله كبيرهم يعني الصنم الكبير، وموسى يقول: إني قد قتلت نفساً، وعيسى يحيل الأمر على محمد ولا يذكر ذنباً، ولما يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الشفاعة الكبرى صلوات الله وسلامه عليه يقول: (أنا لها أنا لها؛ فيسجد تحت العرش ويثني على الله بمحامد لم يثنها عليه من قبل ولا يعلمها في الدنيا ثم يقول الله له: ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع) اللهم شفع فينا نبيك محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
بل إن الإنسان ليس فقط هو الذي تنقطع علاقته بالنسب، وإنما يفر من أحب الناس إليه، يقول الله: {فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:33 - 36] وصاحبته: أي: زوجته، وبنيه أي: أولاده {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37] عندك من المشاكل والأهوال ما يكفيك، وأنت لست فارغاً لتستوعب ولو ربع مشكلة مع شخص من الناس، غارق إلى مسامعك في المشاكل، يأتي الأب إلى ولده فيقول: بحق أبوتي أعطني حسنة أو نصف حسنة أتبلغ بها وأرجح بها ميزاني، فيقول له: وأنا يا أبي بحق بنوتي لك ربيتني ورعيتني أريد منك نصف حسنة أو ربع حسنة، فيعود يفر منه يقول: أردت منك وإذا بك تريد مني وإذا بكل واحد يفر من الثاني: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].(8/10)
محاولة الافتداء منه بملء الأرض ذهباً
الرابع من الأمور التي تدل على عظمة هذا اليوم: أن الكفار يوم القيامة يستعدون، ويبذلون القدرة على أن يتخلصوا من كل ما معهم، ولو كان ملء الأرض ذهباً وفضة في سبيل الخلاص من عذاب يوم القيامة، يقول الله: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ} [يونس:54] ويقول عز وجل: {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} [الرعد:18] لو أن له ملء الأرض ذهباً أحمر يود أن يقول: خذوه على أن أسلم من العذاب؛ لكن ما ينفع بل إنه مستعد أن يدفع ويبذل كل شيء، ولكن الله لا يقبل منه، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران:91].
وفي صحيح البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (يجاء بالكافر من أهل النار؛ من أقل أهل النار عذاباً يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟! قال نعم، قال: قد سألتك أهون من ذلك، تعبدني لا تشرك بي شيئاً، وتطيعني ولا تعصيني) هذا أهون، أم أن تفتدي بمثل الأرض كلها ذهباً؟! والله أهون -يا إخواني- لنا أن نعبد الله، ونسير في طاعة الله، أما أن نفرط ثم نأتي يوم القيامة ومعنا ملء الأرض ذهباً، والله ما ينفع، يقول الله: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران:91] ما عنده شيء.
ويصل الحال بالظلمة والكفار والفجرة والفساق إلى أن يتمنى الإنسان لو يفتدي بأعز الناس عنده، ولو كانت أمه أو أبوه أو إخوانه أو أخواته أو زوجته أو أولاده مستعد أن يقدمهم ويخرج، يقول الله: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ} [المعارج:11 - 14] كلهم ليس عنده رحمة ذلك اليوم، لو أنه قيل له: ما رأيك نهلك من في الأرض وننجيك أنت؟! يقول: نعم نجني يا رب، لماذا؟! لأنه لا يقدر ولا يستطيع أن يتحمل العذاب؛ لأنه عذاب الآخرة والنار، ليس مثل عذاب الدنيا، قد تتحمل عن أبيك السيف، لماذا؟! لأنك تقول سوف أموت بواحدة، ممكن أن تتحمل عن ولدك الموت فتموت، لكن لا يمكن أن تتحمل عن أبيك أن تضرب بالسيف وتعود للحياة وتضرب بالسيف وتعود للحياة، وتقطع مرة وتعود الحياة تقول: والله ما أقدر على هذا، كذلك أهل النار لا يموتون، فالموت أمنية من أمانيهم، ولذا يود الإنسان وهو في النار -مما يعاني من العذاب الشديد والأكيد- أن يفتدي بكل ما يملك في هذه الدنيا حتى قال الله: {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ} [المعارج:14] قال الله: {كَلَّا} [المعارج:15] كلام فارغ لا ينفع {إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:15 - 16] تنزع شوي الشخص من بطنه {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج:16 - 18] نعوذ بالله وإياكم من ذلك.(8/11)
طول هذا اليوم وشدته
من الأمور التي تدل على هول يوم القيامة وشدته: طوله.
يوم القيامة يوم عظيم هائل طويل جداً، لا يعلم طوله إلا الله عز وجل، والله عز وجل أخبرنا بأن طوله خمسين ألف سنة، قال العلماء: خمسين ألف سنة في العدد، لكن اليوم الواحد من أيام الآخرة ليس مثل يومنا أربعة وعشرين ساعة قال الله: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} [الحج:47] خمسين ألف سنة واليوم الواحد منها كألف سنة من أيامنا، هيا اضرب خمسين ألف سنة في ثلاثمائة وستين يوماً، ثم اضرب الناتج في ألف سنة؛ لأن أيام الدنيا أربع وعشرين ساعة محكومة بالشمس والقمر ودورة الشمس؛ لكن لا يوجد في يوم القيامة شمس، فالشمس قد كورت وانتهت، فلا توجد شمس ولا يوجد ليل ولا نهار، ولا أيام إلا اليوم الآخر، قال الله فيه: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} [الحج:47] فهل هناك أطول من هذا اليوم، خمسون ألف سنة والناس وقوف في العذاب، أنت إذا أتيت المطار وبقي على الطائرة مثلاً ساعة ودخلت؛ تشعر بالقلق والحرج، فإذا قرب الوعد ولم يبق إلا نصف ساعة قلت: قرب الموعد، لكن وأنت تنتظر، جاءك بلاغ من السعودية: السعودية تأسف وتعلن عن تأخير رحلتها المتجهة إلى كذا وكذا وسوف يكون موعد الإقلاع الجديد بعد ثلاث ساعات، ما رأيك في ثلاث ساعات؛ طويلة أم ليست طويلة؟! الله!! تقول: الله المستعان.
إنا لله وإنا إليه راجعون! ثلاث ساعات أظل قاعداً، أين أذهب في ثلاث ساعات؛ لا يوجد مكان أنام فيه؛ ولا أجلس على الكرسي أريح أرجلي، بعضهم يرجع من المطار من أجل ثلاث ساعات.
هل يوجد كرسي في الآخرة تقعد عليه؟! أو مظلة تتظلل بها؟!! أو طعام تأكل منه؟! أو كساء يسترك؟! أو نوم تستريح به؟! لا يوجد إلا وقوف والعرق يسيل حتى يلجم الناس به في ذلك اليوم؛ فهذا اليوم لطوله ولعظمته هو مما يدل على هول هذا اليوم العظيم، يقول الله تبارك وتعالى في هذا اليوم: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً} [المعارج:4 - 6] لماذا؟! يرونه بعيداً؛ لأن نظرتهم قياسية على أيامهم: {وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج:7] لأن نظرة الله قياسية على أيامه فيكون قريباً فالدنيا كلها لا تساوي عند الله إلا مثل قطرة من بحر: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم؛ ثم ينزعها فينظر بم ترجع) ولطول هذا اليوم يظن الناس في يوم القيامة أنهم ما لبثوا في الدنيا إلا ساعة، ولهذا يقول الله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} [يونس:45] وبعد ذلك يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة، وتقول لهم الملائكة: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون:112 - 113] والعمر كم هو في الدنيا؟! عمر الدنيا منذ خلقها الله إلى أن يفنيها آلاف السنين، وعمر الدنيا منذ خلقها الله إلى يوم يفنيها بالنسبة ليوم الآخرة يوم أو بعض يوم، أي: ليس يوماً كاملاً.
لا إله إلا الله! يقول تبارك وتعالى محذراً الناس أنه سيحشرهم: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات:46] ويقول: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} [طه:104] وأمثلهم طريقة أي: أحسنهم رأياً وتسديداً وخبراً يقول: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} [طه:104] ويقول: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55] ويقول عز وجل: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:112 - 118] هذه -أيها الإخوة- الأمور الخمسة نستدل بها على عظمة هذا اليوم.(8/12)
أهوال يوم القيامة
أما الأهوال التي تكون فيه فهي كثيرة منها: الدمار الكوني الشامل الرهيب الذي يُصيب الأرض وجبالها، والسماء وطباقها ونجومها وشمسها وقمرها، إذ تتبدل كل معالم الكون، فلا يبقى شيءٍ على أصله، تدمير كامل، وهذا التدمير يشعر الإنسان بالخوف، إذا هبت الرياح العاتية، أو نزلت الأمطار الغزيرة، كيف يكون وضع الناس؟! يخافون إذا اشتعلت الحرائق، أو وقع حادث مروري، أو تهدمت عمارة، أو حدث خسف أو انزلاق في الأرض كيف يصير؟ لكن كيف شعورك يا مسلم إذا تَدمركل شيء في الكون؟! فالله عز وجل يحدث للأرض زلزلة، ودكاً ونسفاً للجبال، وتسجيراً للبحار، وتشقيقاً وتفتيتاً للسماوات، والشمس تكور، والقمر يخسف، والنجوم تكدر ويذهب ضوءها وينفرط نظامها؛ لأنه حدث تدمير كامل لهذا الكون، وسوف نذكر بعض هذه الأهوال منها: الأول: أن الله عز وجل في ذلك اليوم يقبض الأرض، ويطوي السماء، يقول الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] ويقول: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104].(8/13)
دك الجبال ونسفها
من الأهوال: دك الجبال ونسفها: إذ يخبرنا الله عز وجل أن أرضنا هذه الثابتة وما عليها من الجبال الشم الراسية، أنها يوم القيامة تُحمل، ثم تُدك دكةً واحدة، قال الله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة:13 - 16] وعند ذلك تتحول القوة والصلابة والمتانة إلى رمل ناعم مطحون، لماذا؟! لأن الله حملها ودكها، فتطحن الجبال طحناً حتى تصير مثل الرمل، يقول عز وجل: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتْ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} [المزمل:14] مثل كثبان الرمل المهيلة المتفتتة الناعمة بعد قوتها وصلابتها يفتتها الله تبارك وتعالى، أي تصبح مثل هذا الوضع، وفي موضع آخر يقول تبارك وتعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:9] والعهن: هو الصوف المنفوش أي: بعد قوتها تصير مثل العهن الذي إذا لمسته فملمسه ناعم، لماذا؟ لعظمة ما حصل لها من الدك والتدمير، ثم إن الله عز وجل يزيل هذه الجبال عن مواضعها، لا يبقى جبلاً أبداً، ويسوي الأرض حتى لا يكون فيها موضع مرتفع، تصير الأرض كلها مستوية ما فيها جبل ولا سهل ولا قصر ولا منخفضوإنما كلها سواء، يقول الله عز وجل: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:3] ويقول: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} [النبأ:20] ويقول: {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} [المرسلات:10] ويقول: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف:47] أي ظاهرة لا ارتفاع فيها ولا انخفاض، ويقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه:105 - 107] كلها مستوية.(8/14)
تفجير البحار وتسجيرها
من الأهوال العظيمة: تفجير البحار، هذه البحار التي أمامنا الآن يحولها الله عز وجل يوم القيامة إلى مادة مشتعلة (كالبنزين) كيف؟! كيف طلع لنا البترول الآن؟! البترول أو المادة المشتعلة التي عليها الآن حياة البشر بإذن الله، هذه -كما يقولون- كانت مواداً عضوية في وسط البحار وكان فيها أشجار وحيوانات ومواد حية، وبعد ذلك مع التغيرات الكونية في الأرض انطمرت تحت الأرض ثم ضغطت عليها ثم تحولت في باطن الأرض بقوة وحرارة الأرض وما فيها من صهر للمواد العضوية، ثم ظهر البترول الذي تحرقه.
فهذه البحار يوم القيامة يحولها الله عز وجل إلى نار حمراء، البحار كلها تكون ناراً حمراء، لا إله إلا الله! البحر الأحمر هذا الذي ترونه الآن في الخريطة، لما تنظر إلى خريطة المملكة العربية السعودية تجد أن البحر الأحمر يمتد من الشمال بفرعيه خليج العقبة وخليج السويس، ثم يمشي هكذا خط صغير إلى أسفل البحر عند مضيق باب المندب ثم ينحني إلى البحر العربي ثم يلف إلى الخليج العربي هذه كلها بسيطة، لكن لو أتيت تقطع البحر الأحمر من طرفه إلى طرفه تحتاج إلى ثلاثة أو أربعة أيام بالباخرة، وهو في الخريطة لا يزيد على اثنين (سانتي)، حسناً انظر للذي يسافر إلى أمريكا وهو يخرج من أوروبا كم يقطع إلى أمريكا، يمشي ست ساعات لا يرى إلا المحيط الأطلسي، ست ساعات على طائرات (البويونج) الكبيرة الضخمة التي سرعتها (1200كم) في الساعة، يعني سبعة أو ثمانية آلاف كيلو تمشيها على البحر، هذه البحار كلها ستكون يوم القيامة نار حمراء، حسناً إذا صارت هذه ناراً كيف أنت وأنا ذاك اليوم؟! لا إله إلا الله! هذه البحار التي تغطي الجزء الأعظم من أرضنا؛ لأنها ثلاثة أخماس الأرض.
الأرض خمسة أخماس، ثلاثة منها ماء، واثنين يابس، ويعيش في باطنها الكميات الهائلة التي لا يتصورها العقل من الكائنات، وتمشي فوقها السفن، وتعبرها البواخر، وتعيش في بطنها الغواصات، هذا علمناه في هذا العصر، علمنا في هذا العصر هول الانفجار الذي يحصل عند خلخلة النظام والتوازن الكهربائي في ذرة واحدة من ذرات اليورانيوم.
اليورانيوم هو: مادة من المواد الصلبة المعدنية في داخلها إلكترونات كثيرة تصل إلى خمسين أو ستين إلكتروناً وتدور هذه الإلكترونات دوراناً عكس عقارب الساعة حول النواة، وبعد ذلك فيها معادلة كهربائية هذه سالبة وهذه موجبة، استطاعوا أن يخلخلوا هذه المعادلة فحصل انفجار في الذرة، هذا الانفجار يحصل به الآن تدمير يسمونه تفجير الذرة، أي: الموت والهلاك، إذا كان تفجير الذرة يسبب للبشر الهلاك كيف بتفجير البحر؟! ذرات الماء كل الماء الذي في البحار هذا تتفجر ويخلخل فيها النظام الكهربائي، وتتحول إلى طاقة تدمير لا يعلمها إلا الله، يقول الله عز وجل: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار:3] كأن البحر قنبلة فجرت، وفي آية ثانية يقول: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6] أي: أشعلت، هذه آية من آيات الله.
لا إله إلا الله!!(8/15)
مور الأرض واضطرابها
أيضاً من أحداث وأهوال يوم القيامة: مور الأرض: تمور أي: تضطرب، تكون مثل الشيء الذي يطلع وينزل، وانفطارها: أن تنفطر وتتشقق، سماؤنا الجميلة التي ننظر إليها فتنشرح صدورنا لرؤيتها تمور موراً، وأيضاً تضطرب اضطراباً يقول الله: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} [الطور:9] ويقول: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1] ويقول: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار:1] تنفطر وتنشق وبعد ذلك تصبح ضعيفةً واهية كالقصر العظيم، أو كالبنيان المتين الراسخ عندما تصيبه الزلازل من كل جانب فتراه بعد القوة يصبح هزيلاً واهياً ضعيفاً متشققاً ينتظر دقةً ليسقط، أما لون السماء الجميل هذا فإنه يتغير ويصير أحمر، لماذا؟! لأن الأرض كلها حمراء، الأرض كلها نار لا تظل زرقاء، فالانعكاس الذي كان في الأرض على شأن السماء، الأرض بحار وجبال زرقاء وسوداء تنعكس على السماء، الآن لا، يقول الله عز وجل: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:37] قال العلماء: إن لونها يصير مثل لون الورد، أحمر لانعكاس أضواء البحار المسجرة والملتهبة عليها، نعوذ بالله وإياكم من سخط الله عز وجل.(8/16)
تكوير الشمس وتدميرها
أيضاً من الأهوال في ذلك اليوم: تكوير الشمس والخسف الذي يحصل للقمر والتناثر الذي يحصل للنجوم؛ لأن هذه الشمس التي نراها كل يوم في كل صباح تغمر أرضنا بالضياء والحياة، وتمدنا بالقدر الوافي من الطاقة، وما يدب على هذه الأرض، لا يستطيع أن يعيش إلا بوجود هذه الشمس، وفي يوم القيامة تنتهي هذه الشمس ولا يبقى لها مجال ولا وجود، لماذا؟ لأنها انتهت: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:1 - 3] إلى آخر الآيات.
أما النار يوم القيامة فإنها تُسعر أي: تشعل، النار هي الآن مشتعلة ولها نفس في الصيف ونفس في الشتاء، فنفسها في الشتاء أعظم ما نجد من البرد، وهو من زمهرير جهنم، ونفسها في الصيف الذي يصيب العالم كله، أعظم ما نجد من الحر وهو من صيف جهنم ومن حرارتها -والعياذ بالله- لكن يوم القيامة حين يقرب دخول الكفار والفجرة إليها تُسعر يعني: تذكى، قال الله: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} [التكوير:12].
أما الجنة فإنها الآن مزينة، وقد أفلح من دخلها، قال الله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2] إلى آخر الآيات.
أيضاً يوم القيامة تزلف وتزين {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير:13] أي: قربت وأدنيت من أهلها، نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا وإياكم من أهلها ووالدينا وإخواننا وأخواتنا وجميع إخواننا المسلمين، وفي ذلك اليوم يعلم كل واحد ما حضر وما قدم من العمل، يقول الله عز وجل: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:14] {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:5] {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40] ومما قيل في هذا المعنى، قول أحد الشعراء:
مثل وقوفك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور
وإذا البحار تفجرت من خوفها ورأيتها مثل الجحيم تفور
وإذا الجبال تقلّعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير
وإذا العشار تعطلت وتخربت خلت الديار فما بها معمور
وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت فتقول للأملاك أين نسير؟
وإذا تقاة المسلمين تزوجوا من حور عين زانهن شعور
وإذا الموءودة سئلت عن شأنها وبأي ذنب قتلها ميسور
وإذا الجليل طوى السما بيمينه طي السجل كتابه المنشور
وإذا الصحائف نُشرت فتطايرت وتهتكت للمذنبين ستور
وإذا السماء تكشطت عن أهلها ورأيت أفلاك السماء تدور
وإذا الجحيم تسعرت نيرانها فلها على أهل الذنوب زفير
وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور
وإذا الجنين بأمه متعلقٌ يخشى القصاص وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المقيم على الذنوب دهور
نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يحيي قلوبنا، وأن يرزقنا الإيمان والعمل الصالح، وأن يثبتنا عليه حتى نلقاه، إنه ولي ذلك والقادر عليه والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(8/17)
الأسئلة(8/18)
ما يجب على التائب بعد التوبة
السؤال
عمري خمسة وعشرون عاماً وقد كنت خلال الفترة الماضية لا أصلي ولا أصوم ولا أعرف الله؛ ثم تبت بعد ذلك توبةً نصوحاً فبم تنصحني، وأرجو منك أن تدعو لي في هذا المسجد؟
الجواب
ندعو لك يا أخي وندعو لجميع شباب المسلمين وعصاة المسلمين أن يهديهم الله إلى دينه القويم، وأن يردهم إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبصرهم بهذا الدين، وأن يثبتهم عليه حتى يلقوه.
أما وصيتنا إليك ونصيحتنا لك أن تحمد الله على نعمة التوبة، وأن تشعر بنعمة الله وفضله عليك حينما اجتباك وتاب عليك، ثم تستمر في الطريق؛ عن طريق القراءة لكتاب الله، لا ندل شبابنا إلا على كتاب الله: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101] عليكم بالاعتصام بالقرآن الكريم، تلاوةً وتدبراً وتحاكماً وتطبيقاً وعملاً واستشفاء، اجعل القرآن كل شيء في حياتك، لابد من قراءة القرآن، فكل شر يصيب الإنسان سببه ترك القرآن، ما علمنا أبداً أحداً تعرض لشر أو تعرض لنكبة أو لرجعة في دينه وهو يمسك ويحفظ القرآن ويداوم عليه، ثم السنة المطهرة، وطلب العلم، فاحفظ من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في كل يوم حديثاً، ثم اعرف معناه من كتب السنن والشروح حتى تعرف كيف تعبد الله، ثم حافظ على الطاعات، فكل أمر أمرك الله به سارع إليه، وابتعد عن المعاصي والذنوب، وكل نهي نهاك الله عنه ابتعد عنه، ثم ابحث عن الرفيق الصالح الذي يعينك فإن الدرب طويل، وفيه مشقة ولابد من رفيق يعينك على طاعة الله، ثم ابتعد واحذر من رفيق السوء المخذل الذي يقودك إلى النار ويصرفك عن طاعة الله، هذه وصيتنا لك؛ ثم اثبت -يا أخي- واطلب من الله عز وجل أن يثبتك واصبر؛ لأن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران:200] كأنك في معركة فاصبر وصابر ورابط، واتق الله لعلك تفلح.(8/19)
التحذير من رفقاء السوء
السؤال
نأمل تقديم نصيحة شاملة للشباب، مع التحذير فيها من أصحاب السوء والطريق التي تبعدهم عن الله؟
الجواب
إن الكلام الذي قلته لأخي عام لكل شاب، ننصحه بأن يستقيم على الطريق وأن يحذر من رفقاء السوء.(8/20)
حكم الجهر بالبسملة وحكم إسرارها
السؤال
نرجو جواباً مفصلاً في حكم الجهر بالبسملة في الصلاة؟ وهل جهر النبي في صلاته؟ وما حكم صلاة من جهر بها؟ وحكم صلاة من أسر بها؟ وما الأفضل في الحالتين، ولماذا؟
الجواب
ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة أنه جهر بالبسملة وأسر بها، ولكن ثبت أن جهره كان أقل من إسراره، كان يُسر بالبسملة كثيراً ويجهر بالبسملة قليلاً، ويحقق ابن القيم رحمه الله المسألة تحقيقا عظيماً في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد , ويقول: إن السنة التي ثبتت بالاستمرارية؛ الإسرار، أما السنة التي ثبتت بالانقطاع وعدم الاستمرار فهي الجهر؛ ولذا لا يُنكر على من جهر ولا ينكر على من أسر، أما الصلاة فهي صحيحة في الحالتين سواء جهر الإنسان أو لم يجهر، ولكن الإسرار أفضل، والإمام الشافعي يرجح الجهر، والإمام أحمد بن حنبل يرجح الإسرار، ولما زار الشافعي الإمام أحمد وصلى خلفه أسر احتراماً لرأي أحمد لعلمه أن معه دليلاً يسند إسراره، فالمسألة فيها سعة والحمد لله، لكن لابد من البسملة، وليس معنى الإسرار: أنك لا تبسمل؟! لا.
لابد أن تبسمل في سرك أو جهرك.(8/21)
صفة الطفل الذي لم يظهر على عورات النساء
السؤال
الخمار -الحمد لله- منتشر في هذه المنطقة، فنرجو تحديد السن الذي يجب به تغطية المرأة فيه عن الأطفال؟
الجواب
الطفل الذي ينبغي على المرأة أن تتحجب منه هو الطفل الذي ذكره الله في سورة النور: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31] قال العلماء: الطفل الصغير الذي يعرف تحديد جمال المرأة من عدمه، فهذا قد اطلع على العورات، لما تأتي على طفل صغير عمره سنة أو سنتين تقول له: فلانة جميلة أو ليست جميلة؟! لا يعرف، لكن لو أتيت على طفل عمره عشر سنوات تقول له: فلانة جميلة أم ليست جميلة؟! يقول: لا.
جميلة، فهذا حدد العورات، حدد وعرف، الجميلة من القبيحة، لماذا؟! أصبح ذكياً، هذا يمنع ولا ينبغي له أن يكشف على النساء؛ لأنه أجنبي.(8/22)
وجوب تعليم الأم ونصيحتها
السؤال
أمي لا تعرف طريقة الصلاة فهي تتكلم وتزيد وتنقص منها، ولقد نصحتها ولكن دون جدوى؟!
الجواب
مسئولية أمك عليك، نريدك داعية في أمك فقط، وإذا نجحت في أمك فكثر الله خيرك، ومن تتصور يكفك أمك؟! من ترقب من الجماعة يأتي ويدخل عليها يعلمها درساً، وأنت تقول بدون جدوى؟! لا وألف لا.
لابد من جدوى لكن بلطف، الآن وغداً وبعده وكل يوم وكل وقت تقول لها وتقرأ عليها وتعلمها يا والدة لا تتكلمي ولا تنظري واقرئي الفاتحة، بعض النساء لا يعرفن الفاتحة، لماذا؟! لسانها من يوم عرفت نفسها وهو معكوف على قراءة معينة تقول: يَاَكَ نَعْبَدْ يَاَكَ نَسْتَعِين، لكن قل لها في يوم واحد، بعض الشباب يأتي يقرئ أمه قال اقرئي: أقرأها الفاتحة، وإذا بها كلها مكسرة قال: ما تعرفين تركها، لا.
اجلس عندها أول ليلة في {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] تقول هي: الحمد لله ربَ العالمين، قل: لا.
بل: ربِ العالمين، ولا تكثر عليها، وغداً تأتي بالحمد لله إلى أن تضبطها بعد أسبوع {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] تقول هي: الرحمنُ الرحيم، قل: لا ليست الرحمنُ، وعلمها بفمك وبحركتك، اكسري فمك افتحي عند الفتحة اكسري عند الكسرة، ضمي عند الضمة {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:3 - 4] بعضهن تقول: مالَك يوم الدين، أي: ما هو لك يوم الدين، يَاَكَ نَعْبَد يَاَكَ نَسْتَعِين، قال: هي لا تعرف؟! حسناً على مَن تقع مسئوليتها؟ أنت تعرف -يا أخي- كم لك متعلم؟! أنت الآن في الجامعة من يوم طلبت العلم وما علمتها ولا في يوم من الأيام، سبحان الله، أنت مسئول يوم القيامة عن هذه الأم، فنقول لك: علمها كيف تصلي، وتقرأ الفاتحة، وماذا تقول في الركوع، ولا تقول: إن لسانها لا ينعكف، لا مع الدوام يصير اللسان جيداً، الحديد الصلب إذا أدخلناه في النار صار ليناً، الحبل إذا داوم على الحجر قطعه، فكيف ما إذا ما داومت على تعليم أمك لا ينفع؟! بل ينفع إن شاء الله؛ فقط تريد لك نفساً طويلاً وصبراً.(8/23)
حكم مزاحمة الناس في الصف الأول
السؤال
من الملاحظ في هذه الحلقات وغيرها أن بعض الناس يأتي متأخراً، ثم إذا بدأت المحاضرة تقدم إلى الصفوف الأولى، وبعد الصلاة يُصر على أن يجد مكاناً في الصف الأول، فيؤدي هذا إلى إزعاج الذين قد سبقوا إلى المسجد من بعد صلاة العصر، ولا يستطيعون أداء الصلاة بخشوع وركوع وسجود، نرجو نصح هؤلاء؟
الجواب
صدق أخي الكريم، لا مانع إذا أتيت إلى الصفوف من أجل أن تقترب، لكن الأولوية ليست لك، عليك إذا انتهت المحاضرة ألا تزاحم، أنت أتيت هنا من أجل أن تسمع، انتهى السماع ارجع مكانك، ودع الصف الأول للأول، أما أن تأتي مع آخر الناس وتقعد في الصف الأول، وإذا أقيمت الصلاة قمت تزاحم الناس، هذا إيذاء، والإيذاء لا يجوز، ما رأيكم بالذي يأتي متأخراً ثم يقفز ويزاحم على المائدة، سيقول له الناس: اجلس مكانك هناك، أو في المائدة الثانية، لماذا تأخرت؟! وكذلك من يجلس في بيته إلى أن تغرب الشمس أو إلى أن يؤذن ثم يأتي ويجلس وراء الصف ثم إذا أقيمت الصلاة قرب، عليه إذا أقيمت الصلاة للعشاء أن يرجع مكانه، ولا يضايق إخوانه؛ لأن مضايقتهم إيذاء، وإيذاء المسلم حرام، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) فما نريد أن نتعرض لهذا الوعيد الشديد، نعوذ بالله وإياكم من ذلك.(8/24)
حكم تنشيف اليد بعد الوضوء
السؤال
توضأت ذات يوم ثم نشفت يدي فقال لي أحد الشيبان: لا يجوز تنشيف الذراعين بعد الوضوء واستدل بحديث (فإن الذنوب تخرج مع آخر قطر الماء) هل هذا -يا شيخ- صحيح؟
الجواب
لا.
هذا الحديث صحيح وهو: (إذا توضأ ابن آدم فغسل وجهه خرج مع آخر قطرة من وجهه كل خطيئة نظرتها عيناه أو شمتها أنفه أو قالها بلسانه) هذا صحيح، لكن يخرج مع الماء من حين غسلت وجهك وانتهيت فلا يبقى قطر الماء بل ينتهي، إذا مسحت معناه مسحت الذنوب كلها إن شاء الله، ولكن من يستدل يستدل بحديث ثانٍ وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توضأ قدم له منديل أحمر فرده) قال العلماء: رده لعدم رغبته في التنشيف لا لعدم جواز التنشيف، إذ أنه لو كان غير جائز لبين للأمة؛ وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وما دام أنه ما بيّن إذاً ليس بدين، وإنما تركه عادةً، فأنت إذا توضأت وأردت أن تمسح لا مانع، وإذا لم ترد فلا مانع، ولكن يقول بعض العلماء: إن القضية تخضع للجو الذي أنت فيه، الذي يعيش مثلاً في مكة أو جيزان إذا توضأ يريد يقعد الماء عليه ما يريد يمسح لماذا؟! لأن الماء يزيد جسمه رطوبة وطراوة، وإذا دخل الغرفة وفي هواء خفيف على الماء اللزج يعطيه نوعاً من النشوة والراحة، لكن الذي يعيش في أبها وتوضأ وخرج ووجهه يقطر بالماء وصفقته الرياح وتقشر وجهه هذا ما يصلح له، فالقضية فيها سعة والحمد لله.(8/25)
حكم تأخير صلاة الفجر عن وقت الجماعة
السؤال
يقول أُشهد الله الذي لا إله إلا هو على حبك -نقول أحبك الله يا أخي- صلاة الفجر تفوتني أحياناً رغم أن أبي يوقظني على الوقت وإذا فاتتني أحس بأن قلبي يتقطع فأريد أن توصيني؟
الجواب
أولاً بارك الله فيك، وما دام أن قلبك حي بحيث إذا فاتتك مرة تحس بحرقة المعصية وألم المخالفة، فهذه علامة حياة قلبك، وبعد ذلك نقول لأبيك: بارك الله فيه عندما يوقظك في الوقت، ولكن يجب أن تعاونه بنفسك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ ربيعة بن كعب الأسلمي يقول: (أعني على نفسك بكثرة السجود) أي: بكثرة الصلاة، إذا سمعت أباك يوقظك للصلاة فعاون أباك على نفسك، بمجرد ما تسمع أباك أو المؤذن فانهض مباشرة، وإذا قمت قل أولاً: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا استعذت بالله فانهض مرة ثانية وتوضأ ويذهب كل شيء منك، لكن بعض الناس يستعيذ بالله وهو نائم يقول: أعوذ بالله من الشيطان ويجلس مكانه، لماذا؟! لأنه يضارب الشيطان وهو (مضطجع) الآن لو أتيت على شخص تضاربه وأنت مضطجع هل يخاف منك؟! لا.
لأنك مضطجع، والشيطان الآن في معركة معك؛ فإذا بدأت تحاربه ماذا تفعل؟! تقوم وتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لكن على المخدة وتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال: مكانك جيد نم بلا استعاذة بلا كلام فاضي، ولا يقوم الإنسان، لكن متى تقوم؟! إذا قمت واستعذت بالله وبدأت في مضاربة الشيطان ومحاربته بالقوة الضاربة وهي قوة الاستعاذة بالله قمت؛ لأن الله يقول: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200] فالاستعاذة بالله عند النهوض هذه واحدة مما يعينك.
ثانياً: النوم المبكر.
ثالثاً: النوم على طهارة.
رابعاً: النوم على ذكر الله.
خامساً: النوم على نية القيام لصلاة الفجر؛ لأن من الناس من ينام أصلاً وهو مبيت في نيته أنه لا يقوم، عازم على عدم الصلاة من أول الليل، هذا لا يوقظه الله، لكن ذاك الذي ينوي من أول الليل بأنه سينهض فإن الله يعينه ويأخذ بيده.
سادساً: وبعد ذلك قراءة الآيات والأذكار، وهذه كلها مؤيدات، ثم إذا جاءت ساعة الصفر فانهض، الآن الموظفون والمدرسون أليس عندهم موعد؟! مثلاً ينتهي الدوام الساعة السابعة خاصة عند المدرسين؛ لأن دوامهم شديد؛ لأنه إذا تأخر المدرس يتأخر معه أربعون طالباً يضيعون معه، خلاص سبعة ينتهي الدوام فماذا به يقوم الساعة سبعة إلا ربع؟ وإذا أتاه نوم أو شيء لا يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لا.
يعوذ من الخصمية ومدير المدرسة الذي يقفل الدوام عليه ويعطيه إنذاراً، يقوم على طول، لكن يوم كانت صلاة وما في قلبه إيمان يدفعه إلى أن يقوم، يتكاسل ولا يقوم.
فنقول: يا أخي الكريم! نسأل الله الكريم أن يعينك على أداء صلاة الفجر، وأن يتوب عليك إذا أخرتها أحياناً، وأن يوفق والدك لإيقاظك، ونطلب منك أن تعين والدك على هذا بالاستعاذة، وبسلك الأسباب المؤدية إلى صلاة الفجر.
ويقول: ادع لي بالإخلاص.
ندعو الله لجميع المسلمين بالإخلاص والتوفيق والتقوى والعمل الصالح والعلم النافع.(8/26)
حكم الهجر فوق ثلاث ليال
السؤال
تخاصمت أنا وأخي منذ عشرة أشهر، وقبل أيام قلائل نويت أن أقيم الصلح معه لما علمت ما في ذلك من فضل، ولكن اكتشفت أخيراً أنه يمارس العادة السرية، فهل إذا خاصمته ولم أكلمه بغضاً له لما كان منه هل يعرض عملي على الله يوم الإثنين والخميس؟!
الجواب
أولاً: لا يجوز لك أن تهجر أخاك، سواء شقيقك أو المسلم أكثر من ثلاثة أيام، والحديث صحيح في هذا: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث ليال) وإذا هجر المسلم أخاه فوق ثلاث ليال فقد ارتكب محرما، ً وترتب على هجره عدم رفع عمله إلى الله عز وجل، أعمالك كلها ترفع يوم الاثنين والخميس، لكن الله عز وجل يردها ويقول: (دعوهما حتى يصطلحا) إلا عمل رجلين متشاحنين في غير ذات الله طبعاً، فأنت أخطأت في هجرك لأخيك مدة عشرة أشهر، ولكنك أصبت يوم أن راضيته وأصلحت ما بينك وبينه، إذ ينبغي على كل مسلم أن يصالح المسلمين ولا يبقى في قلبه على مسلم غيظاً، فتش أنت، وراجع نفسك لا تبق، اذهب وسلم عليه من أجل أن يقبل عملك عند الله تبارك وتعالى، واعلم أن أي تردد يحصل عندك من مراضاة المسلمين إنما هو من الشيطان، يريد منك أن تبقى حماراً يركب عليك حتى يوردك النار؛ لأنه يفرح أن تصلي ولا تقبل صلاتك، ويفرح أن تصوم ولا يقبل صيامك، ويفرح أن تقرأ القرآن ولا تقبل قراءتك، هو لا يريدك أن تفعل شيئاً، ولكن إذا فعلت وتعبت ولم يقبل، أحسن وأحسن عنده.
ولذا يأتيك من هذا الباب كيف تراضيه؟! كيف تصالحه؟! غير معقول هو فعل فيك هذه كلها نزغات الشيطان، استعذ بالله واذهب إلى هذا الأخ المسلم وأمسكه وقل: تعال، أنت ما أخطأت عليّ، ولو كان هو المخطئ، قل: أنت ما أخطأت علي الخطأ مني أنا، ولكن عفا الله عما سلف، سامحني سامحك الله، لا يجوز لي يا أخي أن أهجرك، ولا يجوز لك أن تهجرني سأموت وتموت، وتسامحا.
أما أخوك هذا الذي علمت أنه يمارس العادة السرية، فكيف علمت أصلاً؟! أريد أسألك كيف علمت؟! لأن الواحد يمارس العادة السرية بينه وبين نفسه، ما أحد يفعلها في السوق، وما أعتقد أن الواحد يعمل الجريمة ويعلم الناس، يمكن بلغك هذا الخبر وهو غير صحيح.
أولاً: انصح أخاك وبيّن له حكمها، وأنها حرام ولا تجوز فإذا قال: جزاك الله خيراً، انتهى الأمر فلا تقاطعه ولا تبغضه وتتخذ من حكم العادة السرية سبباً لبغضه لجذور تاريخية قبل عشرة أشهر، وتريد تلبسها بأنه بغض في الله، ما على الله حيلة، لا.
هذا أخوك راضه وصالحه وانصحه؛ فإن استجاب فالحمد لله وإن أبى فأمره إلى الله، ولا تبغضه؛ البغض كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وسيلة من وسائل الدعوة لا تصلح في كل حال، من الناس من إذا أبغضته ازداد ببغضك له معصيةً لله، هذا يحرم بغضه؛ لأنك لو ما أبغضته لبقي على حال معين.
مثلاً: واحد من أنسابك لا يصلي في المسجد -مثلاً- أو يسمع أغاني أو على معصية، ثم أنت أبغضته في الله، لماذا؟! لأنه يسمع الأغاني وبعد ذلك علم زميلك أو نسيبك ماذا؟! قال: والله لا يأتيك من أجل أنك تسمع الأغاني، قال: عجيب ويفعل بي هكذا، والله لا أصلي من أجله، هيا ماذا انتفعنا من بغضك؟! نقول: أحب فيه الجوانب الحسنة وأبغض فيه الجوانب السيئة، واكره عمله السيئ بقلبك، ولا تواده في معصية الله عز وجل، لكن متى تنقطع الصلة به إذا ترك الصلاة، وأصر على تركها هناك لا ينبغي؛ لأن الله يقول: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] أما بغض من يقلع عن معصيته ببغضك له فواجب مثل بغضك لزوجتك أو ابنتك أو ولدك إذا أبغضته في الله؛ لأنه إن ارتكب معصيةً أثر بغضك عليه؛ لأن بغض الأب أو الزوج صعب على الولد والزوجة، فتسأل البنت تقول: لماذا أبي غضبان؟! أو لماذا زوجي غضبان؟! غضبان لأنك فعلت كذا وكذا، أما أن تسكت ولا تبغضها فتستمر في معصيتها يكون عليك إثمها.(8/27)
حكم إيذاء المصلين بالروائح الكريهة
السؤال
هناك جماعة من المصلين هداهم الله يشربون الدخان وبعضهم يأكل القات والشمة ويأتي إلى المسجد ورائحته تنفر؛ فيبعد الخشوع من الناس، ويسبب لهم الروائح الكريهة، فنرجو منكم نصيحتهم؟
الجواب
لا يجوز إيذاء عباد الله عز وجل، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى من أكل ثوماً أو بصلاً أن يأتي إلى المسجد، نهاه عقوبةً وردعاً له وكف يد له، وهذا يعتبرونه أكثر عقوبة، تسلط على الموظف ومنعه من عمله، وعملك ما هو؟! الصلاة، وكف يدك عن الصلاة إذا أكلت ثوماً أو بصلاً أي: لا تأكل ثوماً ولا بصلاً، ليس معناه: (من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مصلانا) أن تضرب في البصل والثوم إلى مسامعك وتقول: أنا ما أصلي، لماذا؟! قال: أكلت ثوماً وبصلاً، شخص من الناس كان مدعواً إلى وليمة ويوم قلنا: هيا الصلاة، قال: والله أنا آسف، لماذا؟ قال: أكلت بصلاً، يعني معي إجازة من الصلاة، قلنا: والله خيبة لك حين أكلت بصلاً، أجل منعت نفسك وحرمتها من رحمة عظيمة ومن نعمة ما أعظم منها وهي نعمة الصلاة.
وكذلك إذا كان الثوم والبصل وهو من الأمور المباحة والنعم المحللة وليس بحرام، منهي عنه عند إتيان الصلاة فكيف بالأمور المحرمة كالدخان والشمة والقات وهذه محرمة أصلاً؛ فكيف إذا جئت بها وأنت مدخن ودخلت المسجد بها والباكت في جيبك، وبعضهم يضع الباكت هناك في رجله ويدخل وبعضهم يطفيها عند الباب، لا يا أخي يا طيب ما دمت تصلي، وطيبك الله عز وجل بالإيمان وبالصلاة فعليك أن تطيب نفسك من هذه الخبائث؛ لأن الله يقول: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26].(8/28)
حكم الأناشيد الإسلامية
السؤال
ما رأيكم في الأناشيد الإسلامية التي تردد، وقد سمعتها رقيقة في الأداء، والصوت يشبه صوت المغني، وبعض الإخوة الملتزمين يستمعون لها أكثر من استماعهم للأشرطة الباقية، وبعضهم ينام عليها؟
الجواب
يجب أن يكون عندنا اعتدال في قضية الأناشيد الإسلامية، وقد سمعت فتوى جيدة للشيخ عبد العزيز بن باز وهو أنه قال: إنها جائزة ولا بأس بها، الأناشيد الإسلامية وهي الأبيات الشعرية التي يرددها الإنسان بنغمة دون أن يرافقها طبل ولا عود ولا آلة لهو، وإنما بلسانه يرددها، مثلا:
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب
هذا بيت شعر ليس فيه شيء، لكن يأتينا واحد قال: لا هذه مثل الأغاني أجل ماذا تريدني أقول؟!
ألا ليت الشباب يعود
ماذا تريدني أن أفعل، هذه ليست أناشيد هذه (خبال) لا يجوز يا أخي النشيد، أردد الكلام بشيء مفيد، أما أن أردده بطريقة مشينة كي أبرهن أنها ليست أغاني، لا.
فنقول: إذا كان النشيد أبياته وشعره طيباً، يرفع النفس، ويبارك الروح، ويبعث على الحماس، والقوة، والرجولة، وردده شباب بدون آلات لهو وكان يستعمل من قبل الشباب المؤمن على فترات بحيث لا يكون وقته كله أناشيد؛ لأن معظم الشباب ما معه في سيارته ولا عند رأسه إلا أناشيد إسلامية، عندك محاضرة؟! قال: لا.
هذه لا أريدها، عندك قرآن؟! قال: لا.
ماذا معك؟! قال: أناشيد!! أنعم بلحيتك! ضيعت حياتك! لا -يا أخي- يجب أن يكون عندك أناشيد ومحاضرات وقرآن، وبعد ذلك إذا سمعت القرآن ولان قلبك، وسمعت المحاضرة وعرفت طريق دينك، واحتجت إلى شيء من الترويح تسمع الأناشيد المحللة، لماذا؟! لحديث: (ساعة وساعة) والحديث في صحيح مسلم عن حنظلة بن أبي عامر الأسيدي، حنظلة بن الربيع رضي الله عنهما غسيل الملائكة، قال حنظلة بن أبي عامر الأسيدي كاتب وحي النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن لقي أبا بكر قال: (نافق حنظلة نافق حنظلة قال: وما ذاك؟! قال: يا أبا بكر إنا نكون مع النبي صلى الله عليه وسلم فيذكرنا بالجنة والنار حتى لكأننا نراها رأي العين، ثم إذا خرجنا من عنده عافسنا النساء والأولاد ونسينا، قال: والله إني لأجد مثل ذلك -يقول له أبو بكر: وأنا مثلك- فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدخل حنظلة قال: نافق حنظلة، قال: وما ذاك؟! فأخبره، قال: يا حنظلة! ساعة وساعة، والله لو تبقون في الشوارع كما تبقون عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة) يعني: أن الإنسان بشر، لو أنه يقعد في كل حالاته مثل ما هو عند الرسول لكان من الملائكة، والملائكة صنف آخر ونحن بشر إذا أردنا التسلية ولكن بشرط أن تكون بالحلال، فلا يأتي شخص يغني ويقول ساعة وساعة، يشغل له أم كلثوم أو أي أغنية ويقول: ساعة وساعة، لا.
تلك ساعة لله والساعة الثانية أيضاً لله لكن أقل، أما ساعة لله وساعة للشيطان، فلا.
مثلما يقول بعض الناس: ساعة لربك وساعة لقلبك، لا.
: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163] الساعات كلها لله، والأوقات كلها لله، الليل نقضيه كله لله والنهار كله لله، حتى نَومنا لله، وأكلنا وشربنا لله، أيضاً أناشيدنا لما آتي بشريط وأسمع الأناشيد أقصد به وجه الله لماذا؟! لأني أتأمل في كلماته، أتأمل في أنه بديل صالح للأغنية الماجنة، أما أن نضيق على شبابنا ونقول لا، لا تأتوا بالأناشيد، هذا تحريج وتضييق والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الحرج على الأمة وقال في الحديث: (يسروا ولا تعسرا، وبشروا ولا تنفروا) وفي الحديث الآخر: (ما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً).(8/29)
حكم مشاهدة المصارعة
السؤال
ما حكم مشاهدة المصارعة؛ لأنني لا أشاهدها -والحمد لله- إلا وقد نام أهلي ولا أجد فكاكاً من مشاهدتها؟
الجواب
ما هي المصارعة؟! المصارعة بشر عُزلوا عن الله فلا يعرفونه، وما فهموا من هذه الحياة إلا ما تفهمه الثيران، فهناك مصارعة للثيران في أسبانيا وهناك مصارعة للثيران البشرية في بعض دول العالم، يأتي الواحد ويتربى على النعم ويقوي عضلاته ثم يقعد يعافس رفيقه ذاك، وكل ذلك في وضع مزرٍ متعرٍ ما معه إلا (سلب) يغطي سوأته، بل يضغط على سوأته حتى تبقى سوأته بارزة حتى كأنما هو عارٍ، ثم يأتي ليصارع ذاك وأنت مسلم ما تخاف الله تطالع فيه، أما تعلم بأن نظرك إلى عورته حرام، وأن تشجيعك له حرام، ما هي الجدوى والفائدة التي تخرج بها بعدما رأيته، عفس يده أو خبط به أو دقه أو قفز على رأسه، وبعد ذلك ماذا يصير؟! ما النتيجة؟! هل توجد نتيجة يا إخواني؟! نعم.
سخط الله، وغضب الله، وقضاء عمرك في هذه الربع ساعة أو النصف ساعة في معصية الله، هذه نتيجة مؤلمة والله، فنقول: يا أخي! يا مسلم! اتق الله ولا تنظر.
أما أفلام الكرتون فهذه لا ننصح بأن يشاهدها الأطفال؛ لأن الطفل إذا رأى الكرتون يبني عنه علم ويتصور أنه حق، فإذا كبر ورأى أنها شيء ليس صحيحاً اضطربت المفاهيم في رأسه وتزعزعت المعلومات وبقي يعيش بعقلية الكراتين، وأنت إذا أتيت تسب شخصاً أو تشتمه تقول: أصلك كرتون يعني ما تفهم، وكذلك من عقليته وهو صغير كرتون سيبقى في عقلية الكراتين إلى أن يموت.(8/30)
حكم الاستعاذة في كل ركعة
السؤال
هل يجوز الاستعاذة في كل ركعة قبل الفاتحة؟
الجواب
لا.
الاستعاذة فقط في أول ركعة من أول الصلاة، ثم بعدها إذا قمت للركعة الثانية تسمي ولا تستعيذ.(8/31)
حكم التلاعب بالصلاة وعدم الخشوع
السؤال
ما رأيكم فيمن يعرف كيفية الصلاة والوسائل الموصلة إليها، ولكنه يتساهل ويهمل، ولا يخشع وقد يتكلم في المساجد، ولا يخشع في صلاته بم تنصحه؟
الجواب
ننصحه بأن يتقي الله؛ لأن الصلاة كما قلنا في الأسبوع الذي قبل الماضي كلها عشر دقائق، اضبط نفسك وحاصر نفسك وجاهدها ثم وسوس وفكر بعدها إلى الفجر وكلها دقائق، نسأل الله أن يعيننا وإياكم.(8/32)
إدراك الركعة لمن لم يقرأ الفاتحة
السؤال
إذا أدركنا الإمام في الركوع ولم ندرك الفاتحة فهل تحسب لنا الركعة؟
الجواب
موضوع خلاف بين العلماء ولكن جماهير العلماء؛ الأئمة الأربعة وجماهير العلماء يرون أن إدراك الركوع إدراك للركعة، ويرى الإمام البخاري وطائفة من أهل الحديث أن إدراك الركوع لا يتم به إدراك الركعة؛ لأنه لم تقرأ الفاتحة، ولكن الراجح من أقوال أهل العلم أن إدراك الركوع إدراك للركعة؛ لحديث في صحيح البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت الذي يستدل به البخاري وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) هذا حديث عام في الصلاة التي يحضرها الإنسان من أولها، أما في سنن أبي داود وإن كان في سنده مقال وهو (إدراك الركوع إدراك للركعة) فهو حديث خاص في القضية والخاص كما هو معروف في الأصول مقدم على العام.(8/33)
حكم من أحدث في الصلاة
السؤال
إذا كان المصلي في مسجد مزدحم جداً وتذكر أنه غير متوضئ أو أحدث فهل ينتظر حتى تنتهي الصلاة أم يقطع الصفوف أم ماذا؟
الجواب
إذا تذكر أنه غير متوضئ أو أحدث أثناء الصلاة فعليه أن ينصرف من الصلاة، ويخرج ولا يمكث معهم أبداً، كيف يخرج؟! يمشي من وسط الصفوف، ولا يسمى هذا قطعاً للصلاة؛ لأن سترة الإمام سترة للمأمومين، ولذا لو أن شخصاً مشى بين الصفوف فلا ينكر عليه، ولو أن شخصاً مشى بين يدي الإمام فينكر عليه، لماذا؟ لأن السترة تنعقد للإمام، وابن عباس رضي الله عنه جاء إلى الصف يوم عرفة ونزل عن حمار، وقطع الصفوف بالحمار، وهو راكب عليها، على أتان -أي أنثى الحمار- وما أنكر عليه أحد، ثم أطلق الحمار وقطع الصفوف ثاني مرة وجاء ووجد مكاناً وجلس فيه، فأنت إذا كنت غير متوضئ أو انتقض وضوءك أثناء الصلاة انصرف رأساً بدون سلام، بعض الناس يقول: السلام عليكم ورحمة الله.
السلام عليكم لا يوجد سلام، لا سلام إلا في الختام، إذا أكملت صلاتك تسلم، أما ما دمت ما أكملتها لماذا تسلم؟ لأن الصلاة هي أقوال ظاهرة وباطنة مفتتحة بالتكبير مختتمة بماذا؟! بالتسليم، إذا أحدث الإمام فإنه إن كان حدثه طارئاً، أي دخل الصلاة وهو متوضئ، وأحدث في الصلاة فيأخذ شخصاً من بعده ويجعله يكمل الصلاة، أما إذا كان حدثه سابقاً للصلاة، دخل الصلاة وهو محدث، لكنه صلى ناسياً وهو في الصلاة تذكر فيعيدون الصلاة من أولها؛ لأن الصلاة في الأصل بنيت على غير طهارة.(8/34)
أدلة تحريم تعاطي الدخان
السؤال
أنا شاب في زهرة الشباب، وفي أفضل مراحل عمري، وفي طريق طيب وهو العلم، ولكن ابتليت بشرب الدخان، فما تنصحني به؛ لأنني لا أحتاج إلا إلى نصيحة، لا أحتاج إلى غيرها، بين لي حكم شربه وانصحني وانصح شباب الأمة وثروتها؟
الجواب
الدخان حرام وأدلة تحريمه سبعة: الدليل الأول: أنه خبيث والله يقول: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] هل بقي بعد هذا الدليل دليل -يا إخواني- عندما تعرف أنه خبيث والله يقول: {يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ويقول: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:5] أي: أن الخبائث محرمة عليكم.
الدليل الثاني: أنه مسكر ومفتر: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) وفيه مادة مخدرة، لكنها قليلة لا تقضي على المخ، ولكن يقول العلماء: لو أن مدخناً أخذ سجارةً ومصها مصاً متواصلاً إلى أن ينهيها ثم أشعل الثانية ثم أشعل الثالثة ثم الرابعة لا يكمل خمساً أو ستاً إلا وهو إما ميت بفعل النوكوتين أو مصروع بفعل المواد المسكرة، لكن لما يتناول قليلاً ويتركها قليلاً ثم يمصها لا يأتيه سكر لكن: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) وضربوا على هذا -مثلاً- لو أن إنساناً أخذ كوب خمر ثم أخذ منه ملعقة وتركها على حليب وشربها لا يسكر، لكن ما حكم الحليب هذا بكوب بملعقة خمر؟! حرام، لكن لو شرب كوب الخمر كله يسكر: (فما أسكر كثيره فقليله حرام).
الدليل الثالث: أنه مضر بالصحة، إذ أنه يسبب للإنسان أمراضاً كثيرة أهمها سرطان الرئة والتهاب القصبة الهوائية والتهاب الرئتين واسوداد الشفتين، وازرقاق العينين، وتسود الأسنان، وبعد ذلك انهيار القوى، والضعف، والحدة في المزاج، واتساع حدقة العينين، واحمرارهما، فترى المدخن أقل شيء يزعجه؛ لأن النار تشب في منخره وعقله -والعياذ بالله- فهذه مضرة، ومادام أنه مضر وجب الحذر منه ومن كل المضرات؛ لأن الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29].
الدليل الرابع: أنه تبذير وإسراف، والله قد نهى عنه وقال: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27] والمبذر الذي يضيع ماله، لو أني أخذت مائة ريال ومزقتها الآن ماذا تسموني؟! مجنون مبذر، كيف تمزق مائة ريال؟! لكن لو ذهبت اشتريت بها كرتون دخان وشربته ما أنا مبذر؟!! لا.
ولا مجنون واحد؟! بل مائة مجنون، لماذا؟! لأن الذي أحرق أو مزق الريال ارتكب واحدة، لكن ذاك الذي اشترى دخان أذهب الريال، وأحرق صدره، وأغضب ربه، وأزعج ملائكته، وشوش على صحته، من أجل ماذا؟! من أجل دخان طالع نازل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فلا يجوز أن تبذر؛ لأن الله لا يحب المسرفين.
الدليل الخامس: أنه لا يبسمل عنده، لا يذكر عليه اسم الله؛ لأن الله يقول: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121] ما سمعنا مدخناً قال: بسم الله الرحمن الرحيم، ومادام أنه لا يسمي الله عليه فلا يأكل منه.
السادس: أنه لا يحمد الله عند خاتمته، إذا أكلت قلت: الحمد لله الذي أطعمني وسقاني من غير حول مني ولا قوة، ولكن لم نسمع ولن نسمع شخصاً ينتهي من السجارة ويقول: الحمد لله الذي أطعمني، ماذا أطعمك؟! النار! تحمد الله على النار! لا إله إلا الله! الدليل السابع: أنه يعلم صاحبه خصلة من خصال الحيوان لا تليق بالإنسان، وهي أن الإنسان إذا أكل طعاماً ثم بقي منه فضلة فإنه يرفعه، أما شارب الدخان فإنه إذا شرب الدخان ثم بقي منه شيء فإنه يدوسه بقدمه، ولا يصنع هذا إلا الحيوان، إذا فرغ من العلف داسه وبال عليه، وهذا إذا انتهى من السجارة داسها برجله أمام الناس، لماذا يدوسها؟! كي لا تحرق الأرض؛ لأنه عارف أنها لو ظلت تحترق عملت حريقة في المجتمع أو في سيارة أو مستودع أو أي شيء.
فنقول لك يا أخي الكريم يا من تعيش في زهرة شبابك، وتعيش في أحسن مراحل عمرك، وفي طريق العلم الشريف، ربما أنك طالب في الشريعة أو أصول الدين أو أي مجال من مجالات العلم، ننصحك نصيحةً ونرجو الله أن تدخل قلبك، ونقول لك: اترك الدخان، واعتصم بالله، وكن صاحب إرادة قوية، وانتصر على نفسك وعلى سيجارتك، وستعاني يوماً أو يومين أو ثلاثة من جراء العادة وطغيانها، لكن إذا تحررت عن العادة فسوف تمر بك أيام وليالٍ ثم تشعر بأنك طليق من العادة، ولا لها أي ضغط عليك، وتحمد الله الذي نجاك من هذه الشغلة.
والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/35)
عقوبات الذنوب والمعاصي
أوضح الشيخ حفظه الله: أن ضرر المعاصي في القلوب كضرر السموم في الأبدان، فالمعاصي سبيل الضلال والغواية، ونقيض الرشاد والهداية، وسبب كل هم وبلاء، وكل غم وشقاء.(9/1)
سنة الله في الثواب والعقاب
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة: هذا الدرس يلقى في مسجد (الأمير متعب) بمدينة جدة بعد مغرب يوم السبت الموافق للتاسع والعشرين من شهر رجب عام (1415هـ) وهو ضمن السلسلة المعلن عنها بعنوان: تأملات قرآنية من سورة الأنعام.
وتأملات هذه الليلة ستقف بنا عند وقفةٍ بعنوان: (عقوبات الذنوب والمعاصي) الذنوب التي تدمِّر أصحابها، والمعاصي التي تهلك مقترفيها، وبيان سنّة الله التي لا تتبدل، والتي يجريها الله عز وجل في كل زمان ومكان، ومع أي جنس من البشر، إذ لا يربط الناس بالله غير العبودية، فليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب ولا سبب إلا سبب العبودية، فمن كان طائعاً لله أعزه الله في الدنيا، وأنجاه من العذاب في الآخرة، ومن كان عاصياً لله أذله الله في الدنيا وأخزاه بالعذاب في النار في الدار الآخرة، فهذه سنة الله في خلقه.
إن الله خلق النار لمن عصاه وإن كان حراً قرشياً، وخلق الجنة لمن أطاعه وإن كان عبداً حبشياً، واقرءوا قول الله عز وجل: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المؤمنون:101 - 105] يخاطبهم الله على سبيل التبكيت والاستهزاء، وإلا فالله يعلم أنه قد أنزل عليهم القرآن وتليت عليهم آياته، وأنهم رفضوها: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:105] أي: ألم تكن آيات الله التي جاءت من عنده ومنزلة في كتابه تتلى عليكم؟! وما معنى أنها من الله؟ يعني ذلك: الانصياع والانقياد والإذعان، ومن يرفض ويعاند ويستمر في مخالفة أمره عز وجل رغم علمه؛ يذله الله ولا يهديه أبداً، لماذا؟ لأن الله أراه الطريق الصحيح فتعامى عنه، يقول الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23] من يهديه من بعد الله؟ ما دام أن الله أضله وختم على سمعه وقلبه، فلا يسمع كلام الله ولا يفقهه {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23] فلا يرى طريق الله، فمن يهديه من بعد الله؟! ولماذا أضله الله وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة؟ لأنه {اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] لو اتخذ إلهه مولاه لهدي، ولكن لما اتخذ إلهه هواه أضله الله، حتى لا يأتي شخص فيقول: إن الله هو الذي ختم على قلبه وسمعه وقدر عليه الغواية، فنقول: لا.
إنما ختم الله على قلبه وسمعه وبصره حين اتخذ إله هواه.(9/2)
تأملات قرآنية من سورة الأنعام
في البداية يحسن بنا أن نربط الآيات التي تحدثنا عنها فيما سبق مع الآيات الجديدة حتى يكون النسق مترابطاً.(9/3)
قبسات من نور الربوبية في سورة الأنعام
يقول الله عز وجل في أول السورة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام:1 - 3].
تبدأ السورة بـ (الحمد لله)، أي: الثناء المطلق على الله؛ لأنه هو الذي يستحق الحمد والثناء على ألوهيته المتحققة والمتجلية في خلق السماوات والأرض، وما دام أنه الخالق للسماوات والأرض وما بينهما إذاً فهو المحمود وحده {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الأنعام:1] لماذا؟! لأنه {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام:1] ثم تتصل الألوهية بالخصيصة الأولى من خصائص الربوبية وهي الخلق؛ فإنه لا خالق إلا الله.
فمن خصائص الله وصفاته: أنه الخالق، وليس هناك من يخلق غير الله سبحانه وتعالى، ولهذا تحدى الله البشر بأن يخلقوا ذبابة -والذباب أضعف شيء في الدنيا- يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73] فالطالب الإنسان، والمطلوب الذباب، ضَعُف الإنسان والذباب، ولكن الذباب أقوى؛ لأنه يسلب، بينما الإنسان يطارد الذباب فلا يستطيع أن يأخذ الذي أخذه منه.
قال العلماء: كل الحشرات والبهائم والمخلوقات إذا أكلت الطعام فإنها تنزله إلى المعدة ثم تجري عليه عمليات الهضم، ثم يتوزع بواسطة الدم إلا الذباب، لأنه ليس لديه معدة، فينتقل الطعام من فمه إلى الدم مباشرة، ويتحلل كيماوياً، ولهذا إذا أخذ السكر، أو قطعة الحلوى، أو أي شيء من الطعام وأدخله في فمه فإنه يذوب ويتحلل بحيث لو أمسكت بالذباب وأردت أن تُخرج منه شيئاً لا تستطيع إخراجه؛ لأنه قد تحول إلى شيء آخر {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73].
ولو اجتمع من في الأرض كلهم على أن يخلقوا ذبابة ما استطاعوا، بل ولا حتى شعيرة، لماذا؟ لأن الخلق من خصائص الرب سبحانه تبارك وتعالى.
ثم تحدث الله في سورة الأنعام عن أضخم الظواهر الكونية الناشئة عن خلق السماوات والأرض وهي: جعل الظلمات والنور، الظلمات الحسية والنور الحسي، والظلمات المعنوية والنور المعنوي، وكما ذكرت لكم في الدرس الماضي: أن النور هو نور الله، وأن هناك -كما يقول العلماء- نوران وظلمتان، لا يتم الاستفادة من أحدهما إلا بوجود الثاني، النور الأول: نور معنوي، والنور الثاني: نور مادي، وزيادة في الإيضاح: الشمس والمصباح لهما نور، لكن لا يتم الاستفادة من نور الشمس أو المصباح إلا بنور البصر.
إذاً لا تتم الاستفادة من نور الكهرباء أو الشمس أو المصباح إلا إذا وجد نور العين الذي هو نور الإبصار.
فإذا لم يكن الإنسان مبصراً فهل يرى الإنسان النور؟ لا.
أو وُجدت العين الصحيحة السليمة لكن ليس هناك نور هل يرى الإنسان في الظلام؟ لا.
لا يرى.
إذاً لا بد من النورين: نور البصر ونور الضوء.
وكذلك في الناحية المعنوية لا بد من نورين: نور القرآن ونور البصيرة، فالذي عنده نور القرآن والإيمان {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] فإنه يستفيد من هذا النور، وأما من عنده نور القرآن ولكن ليس عنده نور الإيمان فإنه لن يستفيد، مثله مثل المنافقين الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يرون الرسول بأعينهم، ويعايشون نزول الوحي من السماء حسب الوقائع والأحداث، لكن لما انعدم نور القلوب كفروا بالله سبحانه وتعالى، لذلك يقول الله عز وجل: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125].
فإذا وجد في قلبك نور الإيمان؛ استفدت من نور القرآن ونور السنة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام والإسلام والصلاة.
وإذا لم يكن في قلب العبد نور الإيمان فلن يستفيد من نور القرآن، لماذا؟ لأن مثله كمثل الذي عنده شمس لكن ليس عنده بصر فلا يستفيد من الشمس؛ لأنه ليس لديه بصر، وكذلك لا يستفيد من نور الدين إلا من كان عنده نور بصيرة إيمانية تملأ قلبه.
إذاً: تلك وقفة مع قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1].
ثم قال عز وجل بعد هذا: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] يا لها من مفارقات بين دلائل ناطقة في الكون بخلق الله للسماوات والأرض وبين انحراف وميل الكافر عن المنهج السوي! مفارقات تعدل الأجرام الضخمة، والمسافات الواسعة بين تلك الأجرام، وتعدل الظواهر المتنقلة.(9/4)
نظرة إلى أصل الوجود الإنساني تقرر وجود الخالق
يقول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام:2] هذه نظرة إلى أصل الوجود الإنساني، وأنه مخلوق من طين، وفي هذا لمسة وإشارة إلى أن الإنسان لا ينبغي له أن يتكبر، أو يتعاظم، أو يفخر وأصله من طين، بل عليه أن يعرف أصله وأساسه، كما قال الله عز وجل: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:5 - 7].
قيل: إن الحسن البصري قال للمهلب: أنت الذي خرجت من موضع البول مرتين: الأولى من ذكر أبيك، والثانية من رحم أمك، خرجت من ذكر أبيك وأنت نطفة، ثم خرجت من رحم أمك وأنت طفل صغير، ثم رباك الله بالنعم، وزودك بكل هذه الإمكانيات فلا تنس أصلك.
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ} [الأنعام:2].
الأجل الأول: أجل الحياة، أجل الإنسان الذي يعيشه ثم يموت، والأجل المسمى عنده: الأجل العام، أجل تدمير الحياة كلها، وقيام الناس من قبورهم للبعث وللحساب {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6].
{ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام:2] وصف الله سبحانه الكافر في الآية الأولى بقوله {يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، وهنا قال الله سبحانه: {تَمْتَرُونَ}، والمرية هي: الشك، أي: تشكون في الله {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم:10].
ويقول الله: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] أيبقى مجال للشك أو المرية بعد كل هذه الدلائل؟! خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وخلقكم من طين، وقدَّر آجالاً مسماة عنده، وآجالاً معروفة مكشوفة للناس في عالم الحياة {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام:2]؟! ثم يقول الله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام:3] لا تغيبون عنه، إنه مالك الملك عالم الغيب والشهادة {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام:3] أي: يعلم ما تقترفون، وما تعملون من عمل، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
إن الذي خلق السماوات والأرض هو الله المتفرد بالألوهية، وكل مقتضيات الألوهية متحققة فيه ولا ينازعه فيها أحد، ومقتضيات الألوهية: الخلق الرزق التدبير الإحياء الإماتة النفع الضر تعاقب الليل والنهار الرفع الخفض البسط القبض الإعطاء المنع كل هذه من الله ولا ينازعه فيها أحد؛ لذا فهو الإله الحق المستحق للألوهية والعبودية.
لقد خلق الله عز وجل الإنسان كما خلق السماوات والأرض وهو في تكوينه من الطين، وما رزقه الله من خصائص فهي بنعمة منه وفضل، والأليق للإنسان وهو يعرف أصله: أن يتبع سنّة الله عز وجل فيما يعتقده من عقيدة، ويتصوره من تصورات، ويعيشه من حياة؛ لتستقيم حياته مع سنن الله عز وجل، ومع الحياة التي سنها الله في الكون حين تحكمها شريعة الله، ولكي لا يناقض بعضها بعضاً، ولا يصادم بعضها بعضاً، ولا يمزق بعضها بعضاً.
إن هذه الآيات -أيها الإخوة- إنما تخاطب العقل البشري بدليل الخلق، فإن العقل يقف عند هذه الدلائل موقف المسلِّم ولا يستطيع أن يناقش أو يجادل بدليل الإحياء: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام:2] ثم بدليل الإيحاءات التي تقذفها هذه الآيات في النفس، فتوقظ الفطرة وتحركها في صورة التقرير لا في صورة الجدل، وبسلطان اليقين المنبعث من تقرير النفس البشرية من داخلها، ومن شهادة الفطرة الداخلية بصدق هذا التقرير الذي تراه مبثوثاً في كل معالم الكون.
فوجود السماوات والأرض وتدبيرها على هذا النسق وعلى هذا النظام، ونشأة الحياة، وحياة الإنسان كلها تواجه الفطرة بالحق وتوقع فيها اليقين بوحدانية الله، والوحدانية هي القضية التي استهدفتها السورة من أولها إلى آخرها.
إن مشركي العرب ما كانوا يجحدون وجود الله، ولهذا ليس هناك من نبي بعثه الله إلا وهو يقول للناس: أن آمنوا بوجود الله كما قال الله عز وجل في القرآن: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [المائدة:117] لأن قضية وجود الله فطرة في النفس لا تستطيع أن تغالطها، والذين كانوا يغالطونها تركوا المغالطة، فالدهريون الذين يقولون: (لا إله والحياة مادة) -وهم الشيوعيون في الأزمنة الماضية- رجعوا، والشعوب التي مورس ضدها الاضطهاد عن طريق قصرها على الإلحاد خرجت بعد سبعين سنة من النظام الشيوعي لتعلن أنه لا بد من إله، لأن معنى أن الإله غير موجود: أنك أنت لست موجوداً أيها الإنسان؛ لأن وجودك دليل على وجود الله، من أوجدك؟! فالبعرة تدل على البعير، وأثر القدم يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، أفلا تدل على السميع البصير! إن عدم إيمان الإنسان بوجود الله معناه: أنه لا يؤمن بوجود نفسه، وهل هناك إنسان عاقل يلغي وجود نفسه؟! أبداً.
فقضية وجود الله لا جدال فيها بين العقول أبداً في القديم والحديث، إنما المشكلة في قضية وحدانية الله؛ لأن النفس البشرية اتخذت آلهة، فعبدوا الحجر، والشجر، والشمس والقمر، والبقر، اتخذوا أصناماً وآلهة متعددة، فجاء الإسلام ليلغي ويبطل هذه الآلهة المزعومة، ويبين ويثبت أن الله هو الإله الحق, ولهذا كل نبي يقول لقومه: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:3] اعبدوا الله واتقوه وخافوه وحده، وأطيعوني في الشرع الذي بعثني الله عز وجل به.(9/5)
تكفير الله لمنكري الألوهية
إن مشركي العرب -كما قلت- ما كانوا يجحدون وجود الله، بل كانوا يؤمنون بوجوده، ويعترفون بأنه الخالق والرازق والمحيي والمميت، يقول الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38].
وهؤلاء المشركون في مكة، لو قلت للمشرك منهم: من خلق السماوات والأرض؟ يقول: الله، فإذا قلت له: إذا كنت مقراً بأن الله هو الذي خلق الخلق وحده فيجب أن تعبده وحده، يقول: لا.
هذا فيه نظر، أعبده وأعبد آلهة معه، ولماذا تعبد آلهة معه؟ قال: كي توصلني إليه، ولذا قال عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
هذه شبهتهم في العبادة، يقولون: نحن لا نستطيع أن نصل إلى الله مباشرةً، فلا بد من وسيط وشفيع يقربنا ويزلِّفنا إلى الله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] فجاءت العقيدة لتبطل هذا الزعم، ولتبين أن الله يُعبد من غير واسطة، ويمكن الوصول إليه من غير شفيع، وإذا دعوته فإنه قريب: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
ولذا وصمهم الله عز وجل بالشرك والكفر مع إقرارهم بوجوده سبحانه وتعالى، فلم ينفعهم هذا الإقرار، إذ لم يوحدوا الله بتوحيد الألوهية.
فدليل الخلق والحياة هي من دلائل وجود الله عز وجل وألوهيته، كما أنهما صالحان لمواجهة المشركين وتقرير وحدانيته أيضاً، وهما كذلك صالحان لمواجهة اللوثات الجاهلية الحديثة التي تنكر وجود الله، فهي لوثة دخيلة ومسحة تريد أن تجحد وجود الله، فنواجهها بما واجه الله عز وجل به كفار قريش بدليل الخلق، فدليل الخلق قاطع ومقنع على وجود الله تبارك وتعالى.(9/6)
حرص الملاحدة على عزل الدين من حياة المسلمين
لئن فشل أعداء الله من اليهود والنصارى والصليبيين والوثنيين والملاحدة في إقناع البشر بعدم وجود الله -لأن ذلك مفطور في فطر الناس- إلا أنهم قد أفلحوا إلى حد بعيد في إقناع كثير من المسلمين بإمكانية تنحية هذا الدين من واقع حياتهم، وإيهامهم بأنه يمكن لهم أن يظلوا مؤمنين بالله حتى مع وجود أرباب أخرى تشرع لهم من دون الله؛ ويصلون بذلك إلى تدمير الإسلام، وعزل الدين عن حياة الناس، مع إيهام الناس أنهم لا يزالون على الدين.
وهذا هو غاية الخبث والشر! أن يعتقد الإنسان أنه على دين وهو ليس على دين، أنه مسلم وهو ليس بمسلم، مسلم فقط بالوراثة بالتبعية بالهوية بالمزاج أما بالاستسلام لله، وبالخضوع لشرعه وبتحكيم أحكام الله، فلا!! هذا ما حرص عليه أعداء الله عز وجل من زحزحة المسلمين عن هذا المفهوم، وإقناعهم وإيهامهم أنه بالإمكان أن يبقى الإنسان مسلماً ولو لم يصل أو يزكِ بل ولو ارتكب جميع المحرمات، واقترف جميع الذنوب والمعاصي والسيئات.
هذا هو الذي استطاع أعداء الله عز وجل أن يوقعوا الناس فيه؛ لأنهم يئسوا من أن يحولوا الناس إلى ملاحدة أو إلى ديانات أخرى، فلا يستطيع مسلم أن يتحول إلى يهودي أو نصراني أبداً.
نعم.
الآن عمليات التنصير منية بالفشل، ولكن عملية الدعوة إلى الإسلام ناجحة، فمئات البشر الآن بل الآلاف في كل دول الأرض يتركون دياناتهم اليهودية والنصرانية والهندوسية ويسلمون بجهود بسيطة.
إن الدعوة إلى الله نور يمشي في الأرض، وتحمله ثلة قليلة، وتدعمه إمكانيات محدودة، ومع هذا ينتشر، بينما التنصير تدعمه دول، وتوظف له إمكانيات ضخمة: قنوات فضائية، إذاعات، صحف، إرساليات، كتب، أموال طائلة ومع ذلك لا يدخل في دين النصارى إلا أحد رجلين: جائع أو مريض، فإذا شبع قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وإذا تعافى قال: الحمد لله الذي عافاني ورد علي عافيتي، يعني بعد عشرين سنة من التنصير يقول: اللهم صلِّ على محمد؛ لأنه مسلم، فكيف يمكن أن تمسخ فطرته؟! لا يمكن.
هو أطاعك يوم أن كان جائعاً يحتاج إلى الأكل، ولما أكل وشبع رجع إلى أصله وفطرته، وأطاعك يوم أن كان مريضاً يحتاج إلى العلاج.
لكن الآن الذين يدخلون في الدين الإسلامي هل يجدون نتائج طيبة وطريقاً مفروشاً بالورود عند دخولهم في الدين الإسلامي؟ لا.
بل إنهم يقدمون التضحيات.(9/7)
حياة المؤمن هي بحياة روحه
الإنسان عندما يُسلم تتكالب عليه الدنيا كلها، ويضايق في رزقه، ويحارب في حياته، ولكن مع كل ذلك يصبر، ويثبت على دين الله عز وجل ولا يبالي ولو مات، ولو قطع قطعة قطعة؛ لأنه وجد الدين الحق.
قابلني أحد المسلمين الجدد -من مسلمي أمريكا - في الحج، قلت له: كم عمرك؟ -وعمره أظن أنه خمس وثلاثون سنة.
قال: عمري ست سنوات.
قلت: كيف ست سنوات؟! عمرك أقل شيء خمسين أو أربعين سنة.
قال: تريد عمري الحقيقي أم عمري الوهمي؟! قلت: بل عمرك الحقيقي.
قال: عمري الحقيقي ست سنوات.
قلت: كيف ذلك؟! قال: أسلمت منذ ست سنوات، فأنا حي منذ ست سنوات، لكن قبل ست سنوات ما كنت حياً، كانت حياتي حياة بهيمية.
ثم قال لي: أنتم إذا جاءكم عجل أو جحش أو أي حيوان هل تسجلون تاريخ ميلاده؟ قلت: لا.
قال: وإذا مات هل تعملون له شهادة وفاة؟ قلت: لا.
قال: حياتنا كانت هكذا، نحن كنا كالبهائم، لا نستحق أن نُسجَل في تاريخ ميلاد أو وفاة؛ لأنه لا حياة لنا، ولكن في ظل الدين والإيمان بالله عز وجل ولدت قبل ست سنوات.
ثم قال: الحمد لله الذي أحياني قبل أن يميتني.
يقول: الحمد لله الذي أحياني حياة الإيمان قبل أن أموت فألقى الله وأنا على غير الإيمان.
فذكرت قول الله عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] وذكرت قول الله عز وجل: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} [فاطر:19 - 22] من هو الأعمى ومن البصير؟ الأعمى هو الكافر، والبصير المؤمن.
من الذي في الظل ومن الذي في الحرور؟ الذي في الظل المؤمن، والذي في الحرور الكافر.
ومن الذي في الظلمات ومن الذي في النور؟ الذي في الظلمات الكافر، والذي في النور المؤمن.
من الحي وهو الميت؟ الحي: هو المؤمن، والميت: هو الكافر، وإن كان الكافر حياً لكنه يعيش حياة الصراصير والكلاب والقردة والخنازير، وهذه ليست الحياة الحقيقية، إنما الحياة الحقيقية هي التي تنبع من استجابتك لله، ولهذا يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24].
ما الذي يحيينا؟ إنه الدين إن ما يحيي الماديين الآن الهواء والغذاء والماء، لكن هذا يحييك ويحيي الحمير والبقر معك، لكن الذي يحييك أنت كإنسان هو الدين والإيمان، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] ثم قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] يَحُولُ بينك وبين قلبك، متى؟ إذا لم تستجب، فإذا استجبت لله عز وجل أصبحت حياً، وإذا لم تستجب حال بينك وبين قلبك.
وتصور من يعيش وبينه وبين قلبه حائل هل يعرف مصالحه أو حياته أو سعادته؟! لا.
هناك موانع بينه وبين قلبه، يعيش في وادٍ وقلبه في وادٍ آخر، عدو نفسه، تصرفاته كلها وبال عليه، يسمع ما يغضب الله فيصب في أذنيه الرصاص المذاب يوم القيامة، ينظر إلى ما حرم الله فتملئ العينات من جمر جهنم، يأكل الربا فيأكل النار -والعياذ بالله- يقع في الزنا فيعذب في النار، يمارس الجرائم وفي نفس الوقت يظن أنه في نعمة وعلى خير، لماذا؟ قال العلماء: لأن الله قد حال بينه وبين قلبه، وإلا لو كان معه قلب ما حدث هذا، ولهذا يقول الله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق:37] وليس المقصود بالقلب هنا هذه العضلة التي تضخ الدم؛ لأن هاذ الجهاز مع الثور مثله عشر مرات تجد أن قلبه يعمل وهو أبلد حيوان، ليس هذا هو المعني، إنما المقصود هو القلب الذي يفقه عن الله، ويعي أوامر الله، ونوَّره الله بالدين، هذا هو القلب، أما العضلة التي في الجسم ما هي إلا عضلة.
بل الآن يعالجون بنقل الأعضاء، إذا مات شخص يأخذون قلبه ويضعونه لمريض آخر، ثم بعد أن يتعافى تسأله: ما اسمك؟ يقول: أنا محمد، وكم عندك من الأولاد؟ قال: أربعة أولاد، كل حياته موجودة رغم أن القلب غير القلب، إذاً هذا ليس هو القلب، هذا اسمه عضلة ضخ الدم، تعارف الناس على أن اسمها قلب، مثل عضلة الكبد أو عضلة الرئة، أو أي عضلة في جسمك، إنما القلب هو الذي تسمع به القرآن، وتفقه به الدين، فالقلب سيد الجوارح (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
وترون الآن في عالم المشاهدة لو أن هناك شخصاً كان ضالاً، منحرفاً، قاطعاً للصلاة، مرتكباً للجرائم، ثم منَّ الله عليه بالهداية وأصلح الله قلبه وهداه، وإذا بالرجل يعزم على إصلاح حاله، أول ما يصلح في هذا الرجل قلبه، هو الذي يصمم من القلب أن يتوب، فَيَصلُحُ مع قلبه جميع جوارحه: وعينه، وأذنه، ويده، وفرجه، ورجله وبطنه وحياته كلها تصلح، لماذا صلحت حياته كلها؟ لأن القلب صلُح، لكن إذا فسد القلب فسدت العين فنظرت إلى الحرام، وفسدت الأذن فسمعت الحرام، وفسدت اللسان فتكلم بالحرام، وفسد الفرج فوقع في الحرام، وفسدت البطن فأكلت الحرام، وفسدت اليد فامتدت إلى الحرام، فتفسد الحياة كلها، لماذا؟ لأن القلب خرب ميت، لكن عندما يُنَوُر بنور الإيمان، يصلح الإنسان في هذه الدنيا والآخرة.
إن أعداء الله عز وجل لما يئسوا من إدخال الناس في الإلحاد أو الديانات الباطلة، نجحوا إلى حد بعيد في تمرير هذه الخدعة على بعض المسلمين، فحالوا بينهم وبين العمل بهذا الدين، إلا أن الأمل في الله كبير، والثقة في هذا الدين عميقة: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] وهو الذي يقول: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [إبراهيم:46 - 52].(9/8)
عاقبة المستهزئين كما وردت في سورة الأنعام
تكشف الآيات في سورة الأنعام بعد هذا عن طبيعة هؤلاء، وهي الإعراض والعناد رغم وضوح الآيات، فالذي ينقصهم ليس الدليل وإنما ينقصهم الاستعداد، تقول له: هذا عمود، يقول لك: لا.
هذه سيارة، كيف تقنعه؟ لا يريد أن يقتنع، تقول له: هذه شمس، يقول: لا.
هذه ليست شمساً هذه كهرباء، إذاً: هل يمكن أن تقنع هذا المعاند؟ لا.(9/9)
معنى قوله تعالى: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم)
يقول الله عز وجل: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام:4].
إن أبرز مقتضيات طلب الهداية: الاستعداد النفسي، هل يصلح أن تضع حباً على صخرة من أجل أن ينبت لك؟ لا.
لا بد من الأرضية الصالحة لاستنبات الحب، فتأتي على أرض خصبة التراب، ثم تضع فيها السماد، ثم تضع البذور وتسقيها بالماء، ثم تنتظر إلى أن تخرج لك الثمار إن شاء الله، أما أن تضع البذر على أرض صخرية فإنه لا يَنْبُت لك أبداً، كذلك القلوب المتحجرة المعرضة عندما تأتيها الآيات فإنها ترفضها، ولهذا يقرر الله هذا فيقول: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} [الأنعام:4] وهل بقي شاهداً أعظم من القرآن يدل على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!! أبداً.
يقول الله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عليهم} [العنكبوت:51] لو كانوا يريدون الدليل الحقيقي فالقرآن يكفيهم، كل حرف بل كل آية فيه تدل على أنه من عند الله وليس من عند بشر، ومع هذا لم يؤمنوا، لماذا؟ لأنهم معرضون.
ثم قال عز وجل: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} [الأنعام:5] وهل جاءهم؟ نعم جاءهم، {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام:5] تهديد من الله لهم.(9/10)
معنى قوله تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن)
ثم يعرض الله تبارك وتعالى، ويلفت أنظارهم إلى مصارع الأولين من الأمم السابقة، فيقول عز وجل: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عليهم مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} [الأنعام:6] فماذا حصل؟ استمروا في المعاصي والذنوب قال عز وجل: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} [الأنعام:6] وهذه سنّة الله في إفناء القرون وإحيائها، يعني: اليوم يوافق في السنة (29/ 7/ 1415هـ) في يوم (29/ 7/1515هـ) بعد مائة سنة لن يكون على وجه الأرض من الموجودين أحد، إلا النادر البسيط الذين لا دور لهم في الحياة، يعني: يبدل الله وجه الأرض كل مائة سنة مرة، فإذا ولد شخص اليوم وبعد مائة سنة لا يزال موجوداً ماذا يعمل هذا الموجود بعد مائة سنة؟ هل يعمل شيئاً في الحياة؟ لا.
قطعة متاع مركونة في زاوية من الزوايا، كلٌ يقول له: نسأل الله أن يختم لك بالحسنى، يعني: نسأل الله أن يعجل بزوالك، الكل يدعون عليه، كأنه ميت.
يقول لي أحد الإخوة: أنه رأى شائباً يرضع كما يرضع الطفل الصغير، يعطونه طعامه في رضاعة، وتغير له الحفائظ كما تغير للصغير، لا يستطيع أن يمسك نفسه، كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} [الروم:54] وهذا هو أرذل العمر الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منه: (وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر) فأرذل العمر ألا يكون لك قدرة على عمل أي شيء، فلا حياة ولا قدرة ولا إمكانية، ترى نفسك عاجزة -نعوذ بالله من ذلك الوقت- نسأل الله أن يحسن خاتمة الجميع.
لماذا هذا التبديل لوجه الأرض كل مائة سنة؟! من أجل الابتلاء والامتحان، قرن يعيش ويكسب أو يخسر، وقرن يأتي، وهكذا إلى أن تنتهي الحياة بإرادة الله عز وجل بإفناء الناس جميعاً، وفصل الحساب، وإدخال أهل الجنة الجنة وإدخال أهل النار النار.(9/11)
العقاب سنة الله فيمن عصاه من الأمم
إن هؤلاء الكفار يتخذون موقفاً واحداً في جميع شئونهم وهو: العناد، والإصرار، والمكابرة، والرفض، والإعراض، فقد كذبوا بالرسول صلى الله عليه وسلم وكذبوا بالرسل من قبله: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام:5] ويتركهم الله عز وجل أمام هذا التهديد المجمل فلا يبينه، فلا يعرفون نوع التهديد ولا موعده، ويتركهم في غاية من الخوف يتوقعونه في كل لحظة من اللحظات؛ لأنهم يتأكدون من صدقه.
جاء سعد بن معاذ إلى مكة والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة قبل الفتح، فجاء يطوف بالبيت على عادة العرب، فمنعته قريش؛ لأن قريشاً كانت مسيطرة على الكعبة، وتعرف أن سعد بن معاذ هو الذي أيد النبي صلى الله عليه وسلم، واستقبله في المدينة، فمنعوه، فدخل في جوار أمية بن الخلف، وأمية هذا من صناديد قريش، وكان صديقاً وصاحباً لـ سعد بن معاذ قبل إسلامه، فدخل عليه فعرفه، لأنه صاحبه وزميله، فقال له: أريد أن أطوف في البيت فمنعتني قريش، قال: أنت في جواري فطف بالبيت، وخرجا إلى البيت وجعل يطوف بالبيت وهو في يده، فلما رأته قريش ما استطاعوا أن يقولوا له شيئاً؛ لأن معه أمية، فجاءه أبو جهل وقال: لماذا جعلته يطوف بالبيت وهو الذي صنع ما صنع؟ وهو الذي آوى محمداً، فنظر أمية إلى سعد وقال: أجب، قال: أجب أنت فإني لا أطوف في جوارك ولكني أطوف في جوار الله، فغضب أمية، فقال له سعد: لا تغضب فإن محمداً قاتلك، قال: أوأخبرك؟ قال: نعم.
قال: متى؟ قال: لم يبين وقت ذلك، فترك يده وذهب إلى البيت، ولما دخل على امرأته قال: إن هذا الأنصاري يقول: إن محمداً قاتلي ووالله لا يكذب محمداً، -يعرفون صدق النبي وهم كفار- قالت: هل أخبرك متى أو أين؟ قال: لا.
ومرت الأيام، وتأتي قافلة قريش من الشام، ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم لاقتطاعها في غزوة بدر، ويرسل أبو سفيان زعيم القافلة رسولاً اسمه: ضمضم بن عمرو الغفاري إلى أهل مكة يطلب منهم الخروج لإنقاذ القافلة، فخرجت مكة بأسرها إلا أمية وكان رجلاً كبيراً -يعني: ذو هيئة- وصنديداً لا أحد مثله، ولكنه لم يخرج خوفاً من وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما علم عقبة بن أبي معيط بعدم خروجه أخذ مجمر من المجامر ووضع فيه بخوراً من بخور النساء ودخل عليه ورفع ثوبه وجعل البخور تحت ثوبه قال: ما هذا يا عقبة؟! قال: هذا مجمر النساء نبخرك فإنما أنت امرأة -أي: اجلس على المجمر مع النساء- قال: ولم؟ قال: لأنك ما خرجت مع قومك لإنقاذ القافلة، فضربه، وقال: قاتلك الله! والله لقد أقذعت في سبي، ثم حمل ثوبه ودخل بيته ولبس درعه وملابس الحرب وخرج، فلحقته امرأته، وقالت: يا أمية أما تذكر قول الأنصاري: إن محمداً سوف يقتلك؟ قال: والله إنه قاتلي لكن لا خير في الحياة مع المجمر.
وفعلاً خرج وقتله الله، وحقق الله قول النبي صلى الله عليه وسلم بقتل هذا الرجل.
فهذا من التهديد الذي ذكره الله في القرآن الكريم بقوله عز وجل: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [الأنعام:5 - 6] ألم يروا مصارع الأجيال الماضية، وقد مكنهم الله وأعطاهم من أسباب القوة والسلطان ما لم يعط قريشاً في الجزيرة، أرسل المطر عليهم مدراراً، وأخصب الأرض وأنبتها بالأشجار والأرزاق، ثم ماذا؟! ثم عصوا ربهم، فأخذهم الله بذنوبهم، وأنشأ من بعدهم أجيالاً أخرى، لتأتي وترث الأرض من بعدهم، مضوا والدنيا غير مكترثة بهم وورثها قوم آخرون! فما أهون العصاة والكفرة والمكذبين على الله، ما أهونهم على الأرض والحياة، لقد هلكوا فما أسفت عليهم الدنيا، لقد ذهبوا وجاء من يعمِّر الحياة من بعدهم.
وهي -أيها الإخوة- حقيقة ينساها البشر حينما يُمَكِّن الله لهم في الأرض، فينسون أن هذا التمكين من الله، وأن الله إنما مكنهم ليبلوهم فيما آتاهم بالعبودية له وحده، والتلقي عنه وحده؛ لأنه صاحب الملك الذي أعطاهم، إنها حقيقة ينساها الناس إلا من عصم الله، ينسون الله فيعبدون أهواءهم وشهواتهم، ثم ينحرفون عن عهد الله فتتحقق فيهم سنّة الله، ولا تتبين لهم سنته في أول الطريق، ولا يرون العقوبة في أول الأمر إنما يقع الفساد رويداً رويداً وهم ينزلقون وما يشعرون، حتى يستوفي الكتاب أجله، ويحق عليهم وعد الله وتتعدد صور الإهلاك في النهاية وتختلف: فمرة يأخذهم الله عز وجل بعذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم، ومرةً يأخذهم بالسنين ونقص الأنفس والثمرات، ومرةً يأخذهم بأن يذيق بعضهم بأس بعض، ومرةً يأخذهم بالصيحة، ومرةً يأخذهم بالغرق، ومرةً يأخذهم بالحرق، ومرةً يأخذهم بالعواصف والتدمير والزلازل، وهي سنة الله التي لا تتبدل، لماذا؟ لأنهم خالفوا أمر الله عز وجل.
وإن مما ينخدع الناس فيه: أن يروا الفجرة والمستهترين، والكفرة والملحدين ممكنين في الأرض، غير مأخوذين من قبل الله، والناس مساكين يستعجلون ولا يرون إلا أول الطريق، لا يرون نهاية الأمر، انظروا إلى فرعون والذين كانوا معه في عصره يقولون: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس:88] قال الله: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:89] استمر فرعون بعد دعوة موسى سنين طوال وهو في ملكه، ولكن ماذا حصل في النهاية؟ الغرق والتدمير.
وعاد وثمود، وكل الأمم التي كذبت، كان الناس في وقتهم يقولون: لماذا لا يأخذهم الله؟ فالله يأخذهم لكن لا يعجل لعجلة الناس، انظر فقط للنهايات، كذلك من يموت على الكفر ممن يعيشون معنا الآن من يمنعهم من الله؟ لا يمنعهم من الله أحد، ولكن الناس يستعجلون؛ لأنهم يرون البداية فقط ولا يرون نهاية الأمر، ونهاية الطريق لا تُرى إلا بعد أن تقع، لا تُرى إلا في مصارع الغابرين بعد أن يصبحوا أحاديث، والقرآن كله يوجه الناس إلى النظر، والتأمل، والتنبه لمصارع الغابرين، حتى لا ينخدع المخدوعون في حياتهم الفردية القصيرة المحدودة؛ فيرون أول الشيء ولا ينظرون لنهايته، وإن نهاية الشيء لا يعلمها إلا الله.(9/12)
الذنوب مهلكة لأصحابها
هناك حقيقة أخرى تغيب عن أذهان الناس وهي: أن الذنوب تهلك أصحابها -وهو عنوان التأمل في هذه الليلة- الذنوب تدمِّر أصحابها، وأن الله يهلك المذنبين بسبب ذنوبهم، وأن هذه سنّة ماضية ولو لم يرها الإنسان في عمره القصير أو المحدود إلا أنها سنّة باقية لا تتبدل، تصير إليها جميع الأمم، وتنتهي إليها جميع الكائنات عندما تفشو الذنوب، وتنتشر المعاصي، وتقوم الحياة على المخالفات.
في هذه الحياة المحدودة يُحِقُ الله عز وجل على العاصين العقوبات.
والعقوبات -كما ذكرت لكم- تتنوع؛ لأن الذنوب هي سموم وهلاك القلوب، وضرر الحياة، والله يقول: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] أصلح الله الأرض بالدين والرسالات، وأفسد الناس الأرض بالمعاصي والمخالفات، فهذه المعاصي سموم تنخر في قلوب البشر، فإذا خربت القلوب دمَّرت الحياة.
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
وضرر المعاصي على القلوب أعظم من ضرر السموم على الأبدان، والذي يستقرئ التاريخ ويرجع إلى الوراء يرى ويلمس أنه ما من شر وقع في الأرض إلا وسببه المعاصي، يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم الذي أُوصي كل شاب بقراءته واسمه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لأن كثيراً من الناس اليوم يقول: ما هو الدواء لما في قلبي؟ الدواء تجده في هذا الكتاب، فقد تكلم رحمه الله في هذا الكتاب عن آثار الذنوب والمعاصي.
يقول رحمه الله: ما الذي أخرج آدم من الجنة؟ كان آدم أفضل من الملائكة، والملائكة تسجد له، ولكن ما الذي أخرجه من الجنة؟! إنه شؤم المعصية، أمره الله بألا يأكل من الشجرة فأكل منها، فقال له الله: اخرج.
وما الذي أخرج إبليس من الجنة وطرده، وبُدِّل بعد القرب طرداً، وبعد الرحمة لعنة، كان طاوس الملائكة، وما من بقعة في الأرض ولا في السماء إلا وقد عبد الله فيها، ولكن لما عصى الله ولم يسجد لآدم، وقال: أنا خير منه، قال له الله: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص:77 - 78].(9/13)
إهلاك قوم نوح
ما الذي أغرق قوم نوح حتى علا الماء رءوس الجبال، وما رحم الله منهم أحداً، حتى ولد نوح، يشفع نوح في ابنه فيقول: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45] أنت قلت لي يا رب: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون:27] وهذا من أهلي فلماذا تغرقه؟ قال الله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود:46] كان يتصور نوح عليه السلام أن الأهل هم أسرته وأبناؤه، والله يعني بالأهل أهل العقيدة، فإذا كان ابنك كافراً فما هو منك ولا أنت منه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46].
حتى ذكر المفسرون: أن امرأة من قوم نوح كان معها رضيع -وهي كافرة- فلما جاء الغرق، ونزل الماء من السماء، وخرج من الأرض، يقول الله: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:11 - 12] حتى التنور الذي توقد فيه النار خرج منه الماء، يقول الله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود:40] كل مكان تتوقع أن يخرج منه الماء إلا مكان النار، ومع ذلك يخرج الله من مكان النار ماء، فالتقى ماء السماء بماء الأرض حتى غرق الناس، فكانت هذه المرأة قد صعدت على رأس جبل من أجل ولدها، فلحقها الماء وهي جالسة فقامت، ووضعت ابنها على رأسها حتى علاها الماء وعلا ولدها وأغرقهما جميعاً، ما الذي أغرقهم؟ المعاصي، كذبوا نوحاً وما آمنوا برسالته.(9/14)
إهلاك قوم عاد
ما الذي سلط الريح على قوم عاد؟ وعاد هي: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:7 - 8] كانوا يسكنون في الأحقاف في حضرموت، وكانت قبيلة من أشد القبائل، كان الواحد منهم طوله مثل النخلة، لما بين الله مصرعهم قال: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7] كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً بأيديهم، يده مثل (البوكلين) ينحت الجبل فيصنع منه بيتاً، وكانوا على الخمر والزنا واللهو، جاءهم هود عليه السلام، فدعاهم إلى الله عز وجل فكذبوه، فأرسل الله عليهم الريح، فتح من جهنم قدر منخر ثور -مثل الحلقة- سماها الله (عقيم) وعقيم أي: لا تترك أي شيء وراءها: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عليه إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:42] ولهذا يقال للرجل الذي لا يلد: عقيم، يعني: إذا مات فليس بعده شيء، لأن العقيم لا يعقبه أحد، كذلك هذه الريح إذا جاءت على شيء لا تترك شيئاً، وإنما تهلك كل شيء.
فلما جاءت الريح سوداء قالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24] قالوا: هذا مطر، وهم على خمر وزنا ويريدون المطر، قال الله: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:24 - 25] استمرت عليهم {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7] كانت الريح تأتي إلى الواحد منهم فتقف عنده، ثم تلتف عليه وتحمله وتأخذه إلى عنان السماء فترمي به، فيهوي من السماء إلى الأرض ويتقطع قطعة قطعة والعياذ بالله بسبب ماذا؟ الذنوب والمعاصي! وما الذي سلط على ثمود قوم صالح الصيحة؟ صاح فيهم جبريل صحية قطعت قلوبهم في أجوافهم؛ لأنهم كذبوا وطلبوا من صالح عليه السلام أن يخرج لهم من صخرة عندهم ناقة، وكان غالب أنعامهم الإبل، فطلب صالح ذلك من الله، فأخرج الله لهم ناقة عشراء، قال: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155] {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [هود:64] تشرب يوماً وأنتم تشربون يوماً، فقاموا وتمالئوا عليها فعقروها، فلما عقروها سلط الله تبارك وتعالى عليهم الصيحة: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} [الحجر:83] {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} [المؤمنون:41] قطعهم الله وأهلكهم والأسباب هي الذنوب والمعاصي.(9/15)
إهلاك قوم لوط
وما هو سبب هلاك قرى قوم لوط؟ تلك القرى التي كانت تعيش في البحر الميت الذي هو الآن في الضفة الغربية، وهذا المكان ميت لا تعيش فيه الكائنات الحية؛ لأنه موطن عذاب، كانت هناك قرى اسمها قرى سدوم، ست قرى في كل قرية مائة ألف، كانوا يأتون فاحشة إتيان الذكران من العالمين، وما كان أحد يأتي بهذه الفاحشة قبلهم، ولهذا قال الله: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:80] ولا سبقتهم إليها حتى البهائم، ما علمنا حماراً يركب حماراً ولا قرداً يركب قرداً ولا كلباً يركب كلباً أبداً، الحيوانات نفسها تعاف هذه الفعلة، لكن الحيوانات البشرية إذا ضلت عن منهج الله تفعل هذه الفعلة، ولذا أرسل الله عليهم جبريل ومعه الملائكة، فغرس جبريل جناحاً من أجنحته، ثم حمل القرى الست -قرىً فيها ستمائة ألف نسمة- بحرثهم وزروعهم وبيوتهم، حتى سمعت الملائكة في السماء أصوات الكلاب والقطط، ثم قلبها عليهم قال الله: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [الحجر:74] بسبب ماذا؟ المعاصي والذنوب!(9/16)
إهلاك قوم شعيب
ما الذي أرسل الريح والسحاب والظلل على قوم شعيب؟ {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [الشعراء:189] تدرون ما هو عذاب يوم الظلة؟ -نعوذ بالله وإياكم من عذاب الله- كانوا يعيشون في بلادهم في مدين، فكذبوا رسولهم شعيب عليه السلام، فأخذهم حر في البيوت، حر ضاقت منه نفوسهم، حرارة متناهية، إذا لمست جلده فإنه يفور مثل النار، إن جلسوا في البيوت حرارة، وإن خرجوا إلى الشمس حرارة، فماذا يصنعون؟ جعل الله تبارك وتعالى في منطقة من مناطقهم ظلال، وهي سحاب في السماء من كان يجلس تحتها يأتيه برد، فاجتمعوا كلهم تحت هذه الظلة، وهذه الظلة هي ظلة العذاب: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [الشعراء:189] فلما جاءوا في هذا المكان نزلت عليهم هذه السحابة بالعذاب والتدمير وأهلكهم الله عن بكرة أبيهم بأسباب المعاصي.(9/17)
إهلاك قارون
ما الذي خسف بـ قارون؟ يقول الله: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عليهم وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76] إذا أعطاك الله مالاً ولست على دينه فلا تفرح؛ لأن هذا استدراج، أما إذا أعطاك الله مالاً وأنت على الدين فنعم المال الصالح في يد العبد الصالح، فكان قومه يقولون له: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:76 - 78].
وهذا هو شأن الجاحد لنعم الله، يقول: إنما أوتيت هذا المال على علم، وذكاء، وفطنة، وخبرة، أنا رجل صاحب عقل، أنا عقلية تجارية، فقال الله: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:78 - 79] لكن أهل الإيمان قالوا: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص:80 - 81].
لا إله إلا الله! ما أعظم الله! بينما هو في ملكه وزينته وخيلائه بين رجاله وكما في الحديث: (أوحى الله إلى الأرض أن ابتلعيه، فانشقت من تحت قدمه وابتلعته بكل ما عنده من قصور، وخزائن، ثم أُطبقت عليه).
قال الله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ} [القصص:81 - 82] الذين يقولون يا ليت لنا مثل ما لـ قارون {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:82 - 83] نسأل الله من فضله، وهذه النهاية دائماً لأهل التقوى.(9/18)
آثار المعاصي على أهلها قبل العذاب
أما المعاصي فإن شأنها التدمير، يقول ابن القيم: إن للمعاصي آثاراً -أيضاً- قبل العذاب: أولاً: أنها تجرئ العبد على الله، بدلاً من أن تكون عبداً تستحي من الله، فإنك بالمعاصي تصير عندك جرأة على الله، ولا تخاف من الله، تبارز الله بالعظائم، وإذا كثرت الذنوب طبعت القلوب؛ لأن الذنوب تتراكم وتتراكم، فلا يعرف القلب بعد ذلك إلا المعصية، ولا يعرف إلا المخالفة والعياذ بالله.
ثانياً: ثم إنها تولد أمثالها، إذا عمل الشخص معصية قالت المعصية: أختي أختي، فيعمل الثانية، فتقول الثانية: أختي أختي فتدعو المعصية معصية أخرى إلى أن يغرق الشخص بالمعاصي، بينما إذا عمل طاعة قالت الطاعة: أختي أختي، فالحسنة تتبعها حسنة.
ثالثاً: أن المعصية تمحق بركة العلم، العلم الذي يدرس الآن في المدارس والجامعات، ويقال في خطب المساجد والمحاضرات علم كافٍ لإنقاذ الناس، خطبة واحدة كافية، ولكن لماذا لم تعد هناك فائدة من العلم الذي يدرس في المدارس والجامعات وغيرها؟ لأنه يسمع الإنسان الكلام فيدخل من أذن ويخرج من أخرى بسبب المعصية، لكن الذي ليس عنده معاصٍ يستقر العلم في قلبه، يقول الشافعي وقد شكا إلى وكيع:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يؤتى لعاصي
إذا أردت أن يرزقك الله علم الخشية الذي يدلك على العمل الصالح؛ فعليك أن تتوب إلى الله من الذنوب والمعاصي.
رابعاً: المعاصي تذهب ببركة الرزق: الرزق إذا كان فيه معصية تذهب منه البركة ولو كان كثيراً، لأن العبرة في الرزق ليست بالعدد والكم، لكن العبرة بالكيف والبركة، قد تجد شخصاً فقيراً لكن عنده بركة في رزقه وقناعة، وشخصاً غنياً وقلبه فقير، إذا سألته: كيف أنت يا أخي، كيف حالك؟ قال: الدنيا صعبة هذه الأيام، والسيولة النقدية غير متوفرة، والأحوال متأزمة، والاقتصاد العالمي متضعضع، بينما تجد آخر مصلي فتقول له: كيف حالك؟ قال: الحمد لله في نعمة وفي خير، آكل شارب والحمد لله.
إذاً: من الفقير الحقيقي هذا أم ذاك؟ ذاك هو الفقير.
وآثار الذنوب كثيرة جداً ولا مجال لاستقصائها لكن نذكرها باختصار: تعسير الأمور على الإنسان: لأن الذي يطيع الله ييسر الله له أموره، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4].
ومنها أيضاً: وحشة يجدها العبد العاصي بينه وبين الله، وبينه وبين الطائعين من عباد الله، وبينه وبين المساجد، وبينه وبين القرآن، وبينه وبين الذكر، يعني: يُحس بوحشة فلا يستأنس، وهذه مصيبة أن تستوحش من ربك ومن بيوته وكتابه، وعباده الصالحين، وتبقى لك ألفة بالمعاصي وأعداء الله؛ لأن الذي يستوحش من الله يألف الشياطين، والذي يستوحش من بيوت الله يألف المقاهي والمخدرات والأماكن الموبوءة الخبيثة، والذي يستوحش من الطيبين يستأنس بالخبيثين، وهذه من عقوبات المعاصي التي يشقى الإنسان بسببها والعياذ بالله.
وأيضاً: -وهي مهمة جداً- أن العاصي تسقط منزلته عند الله، وإذا سقطت منزلته عند الله سقطت منزلته في الأرض، لأن المعز والمذل هو الله، والعزة بيده عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إليه يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10] فإذا سقطت عزة وهيبة الإنسان ومكانته عند الله عز وجل أسقطها الله في الأرض، وأصبح الإنسان لا قيمة له، كما قال الله: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18].
إن أعظم إهانة للإنسان أن يكون عبداً لشهواته، ومسخراً لتلبية نزواته، وهممه في الحياة واهتماماته محصورة بين شهوات البطون والفروج والمتع والأموال فقط، فلا يكون له أمل أكبر من هذا، إنما هو محصور في سجن الشهوة والهوى، والنفعيات فقط، لا يكون له نظرة أبعد فينظر إلى ما بعد هذه الحياة.
هذا وأسأل الله الذي لا إله إلا هو لي ولكم التوفيق في الدنيا والآخرة.(9/19)
الأسئلة
هذا وأسأل الله الذي لا إله إلا هو لي ولكم التوفيق في الدنيا والآخرة، ونبدأ باختصار بالإجابة على بعض الأسئلة.(9/20)
وسائل تقوية نور البصيرة والإيمان
السؤال
ما هي الوسائل التي تؤدي إلى قوة نور البصيرة؟ وما هي الوسائل التي تؤدي إلى قوة الإيمان؟
الجواب
أما نور البصيرة فيأتي بوسائل من أهمها: أولاً: تلاوة كلام الله، لأن الله سمى القرآن (نور)، فالذي يكثر من قراءة النور تتجمع هذه الأنوار في قلبه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً} [الشورى:52] وقال في آية أخرى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [النساء:174] وقال في آية أخرى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة:15] فتلاوة القرآن الكريم تجعل في قلبك نوراً.
ثانياً: من وسائل تقوية نور البصيرة: قراءة السنّة المطهرة التي جاءت عن الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، فإن الله أرسله: {شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب:45 - 46] فهو سراج للأمة صلوات الله وسلامه عليه، فإذا قرأت من سنّته أضاء الله في قلبك سراج الإيمان ونور الإيمان.
ثالثاً: من وسائل تقوية نور البصيرة: المحافظة على الصلاة في المساجد، فإنها محطات النور، كما قال الله في سورة النور بعد أن ذكر آية النور قال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] فكأن هذه الأنوار موجودة في (بيوت) أي: في المساجد.
رابعاً: من وسائل تقوية نور البصيرة: مرافقة الصالحين الذين يحملون هذا النور؛ لأن الذي معه نور تستطيع أن تمشي معه، إذا مشيت في ليلة وليس عندك مصباح ولكن زميلك معه مصباح، فإنه يضيء لك الطريق، فترى بنوره، وكذلك الذي تعيش معه وعنده إيمان ينفعك إيمانه؛ لأنه إذا جاء وقت الصلاة قال: نذهب إلى الصلاة فتقوم تصلي معه، وإذا جاءت معصية قال: اتركها فتتركها، وإذا جاءت طاعة قال: هلم نقبل عليها فتقبل على الطاعة معه، وإذا جاء ذكر لله حثك عليه فتذكر الله، فأنت بمرافقتك للطيبين أصحاب النور الإيماني يزرع الله في قلبك النور، هذه وسائل تقوية نور البصيرة.
أما وسائل تقوية الإيمان فهي كذلك ست: أولاً: قراءة القرآن.
ثانياً: قراءة السنّة.
ثالثاً: المحافظة على الطاعات.
رابعاً: البعد عن المعاصي.
خامساً: البحث عن قرين صالح.
سادساً: الحذر من قرين السوء.
هذه ست وسائل لتقوية الإيمان، إذا عملت بها؛ فإنه بإذن الله يزداد إيمانك.(9/21)
وصايا مفيدة لمن هدايته قريبة
السؤال
أنا شاب في بداية الطريق فما نصائحك لي جزاك الله خيراً؟
الجواب
بدايةً: أهنئك بأنك في بداية الالتزام، وأنك انتقلت من حياة العبث واللهو والباطل إلى حياة الإيمان والعمل الصالح، وأسأل الله لي ولك الثبات على هذا.
وأنصحك: أولاً: بالتوبة من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها.
ثانياً: بالمحافظة على الطاعات كبيرها وصغيرها.
ثالثاً: طلب العلم: يلزمك أن تطلب العلم، فوسائل طلب العلم متعددة: عن طريق الكتاب والشريط الإسلامي، وعن طريق الحلقات والندوات، وعن طريق دروس العلم الموجودة في جدة، فتجعل لك برنامجاً وتطلب العلم؛ لأن العلم يزيد في إيمانك إن شاء الله عز وجل.
إضافة إلى ذلك ترك قرناء السوء، والاحتكاك والجلوس مع القرناء الصالحين الذين تزداد بهم أنساً وألفةً وأنت في طريقك إلى الله تبارك وتعالى.
وأدلك على شريط محاضرة جيد بعنوان: (أسباب الهداية عشرة أسباب) وشريط آخر اسمه: (وسائل الثبات على دين الله اثنا عشر سبباً) وهاتان محاضرتان ألقيتهما في الرياض.(9/22)
أفضل كتاب تفسير للمبتدئين
السؤال
دلنا على بعض الكتب في التفسير لطالب العلم، والبعيدة عن التحريف والإسرائيليات؟
الجواب
أحسن كتاب ندل الشباب المبتدئين عليه، كتاب جديد اسمه: أيسر التفاسير، يتكون من خمسة مجلدات للشيخ: أبو بكر جابر الجزائري ألفه بأسلوب عصري حديث، ثم إن الرجل مطلعٌ على كل كتب التفسير، فيأتي بالآيات ثم يشرحها شرحاً إجمالياً، ثم يشرح المفردات، ثم يبين الأحكام المستفادة والهدايات التي دلت عليها تلك الآيات.(9/23)
وسائل إزالة قسوة القلوب
السؤال
ما السبيل إلى إزالة قسوة القلب، وإسراع دمعة العين، والخشوع في الصلاة والخوف من الله عز وجل؟
الجواب
هناك وسائل كثيرة لا يتسع المجال لها، لكن أهم شيء منها: - قراءة القرآن بتدبر وتمعن.
- الإكثار من ذكر الموت.
- زيارة المقابر.
- التأمل في هذه الحياة وفي سرعة زوالها وانقضائها.
- أكل الحلال؛ لأن الذي يأكل الحلال يخشع قلبه لذكر الله.
- البعد عن الذنوب والمعاصي، واستحضار عظمة الله في ممارستك للصلاة والعبادة.(9/24)
حكم من تعطرت خارج بيتها
السؤال
هذه أخت في الله تقول: إنها تعمل مُدَرسِة وتذهب مع السائق إلى باب المدرسة، ومعها زميلاتها، وعندما تدخل المدرسة تضع عطراً في أول اليوم الدراسي فما يأتي آخر اليوم إلا وقد ذهب العطر، وزوجها يمنعها من ذلك، فما الحكم في هذا؟
الجواب
لا يجوز للمرأة أن تتعطر إذا خرجت من بيتها، بل ينبغي أن يكون العطر خاص بالزوج وفي البيت في داخل الغرفة، أما إذا خرجت فلا يجوز؛ لأنها حتى إذا ركبت مع نساء فإن أثر العطر يبقى في السيارة، وحتى إذا دخلت في المدرسة فإن أثر العطر يبقى في المدرسة، وإذا جاء عمَّال النظافة ينظفون بعد العصر يشمون الرائحة، وقد تخرج الرائحة من المدرسة للمارين، فالأولى للمسلمة ألا تقرب العطر مطلقاً إلا في البيت.
وقد تقول بعض الأخوات: إن رائحتها قد تكون كريهة؟ فنقول: إذا اغتسلت المرأة وتنظفت بالصابون والماء فإنه لا يبقى عليها أي رائحة إن شاء الله، أما العطر فإنه رائحة مغرية، فالعطر يلفت انتباه الناس نحوك، وأنتِ لستِ بحاجة إلى أن تجذبي النظر إليك إلا نظر زوجك، ولهذا سميت التي تتعطر زانية: (أيما امرأة استعطرت ثم خرجت ليشم الرجال ريحها فهي زانية زانية زانية).
ونشير هنا إلى مسألة ذكرتها ولم تسأل عنها، وهي: كونها تأتي مع سائق، إن كانت تأتي مع سائق لوحدها فهذا محرم لأنه: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) وإن كانت تأتي مع سائق وهناك بعض الزميلات بحيث يركبن كلهن سوياً وينزلن سوياً -فلا تركب واحدة ثم تأتي الثانية، أو ينزلن وتبقى واحدة معه- والمسافة ليست مسافة سفر، يعني: داخل المدينة، والسائق مؤتمن، والزميلات كلهن ثقات، فلا بأس، أما إذا كان السائق خائن فلا ولو كن عشر نسوة؛ لأن الخائن سوف يختلس النظر، والمرأة لا تستطيع أن تمنع عينيه من النظر، وتقول له: لا تنظر، بعضهم يرجع إلى الوراء وهو لا يحتاج أن يرجع إلى الوراء لكن من أجل أن ينظر إلى النساء، يتقحم النار والعياذ بالله.(9/25)
نصيحة لمن ابتلي بالعادة السرية
السؤال
لي أربع سنوات في الالتزام، وأنا في حلقة من حلقات تحفيظ القرآن الكريم، ولكني مبتلى بالعادة السرية، ولا أقدر على تركها إلى الوقت الحالي فما نصيحتكم؟
الجواب
يا أخي الكريم يبدو أنك ضعيف الإرادة وشهواني، ولذا لا بد من مراجعة حسابك مع نفسك، لأن العبد الشهواني لا يصلح أن يكون عبداً لله، العبد الشهواني تغلب عليه نزواته لدرجة أن يكون طالب علم وملتزم ومن أهل القرآن، وبالرغم من هذا يصر على فعل هذه العادة الشيطانية القبيحة المحرمة، والتي صاحبها -والعياذ بالله- ملعون، والتي تأتي يده يوم القيامة حبلى له، كل حيوان منوي يخرج عن طريق الاستمناء باليد -فيما يسمونه بالعادة السرية، وما هي عادة سرية إنما هي عادة شيطانية، ويسمونها في الشرع نكاح اليد والعياذ بالله- ولكن لا يرى آثار هذا الحمل إلا يوم القيامة، وتصور أن شخصاً معه ستمائة ولد يوم القيامة يسحبهم بيده، فهذه مصيبة.
أقول لك: اتقِ الله! اتقِ الله! والرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطاك العلاج حين قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم) هذا هو الدواء الرباني، لم يقل فعليه بيديه؛ لأن بعض الشباب يقول: أنا لست متزوجاً، وإذا لم يكن عندك زوجة فهل تلجأ إلى الحرام؟ أين أنت من الآية الكريمة؟ {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] معناها: أن تكون عفيفاً، وهناك وسائل كثيرة تمنعك من قوة الشهوة: أولاً: لا تكثر من الأكلات التي تزيد في شهوة الرجل، إذ لا تزال شاباً وأنت غير متزوج، وكل من الأطعمة التي ليس فيها ما يقوي الشهوة، فالأطعمة التي تقوي الشهوة مثل: اللحوم والشحوم والبر والسمن والعسل، لكن كل من البقوليات والخضروات، أيضاً ابذل جهداً بدنياً ليستنفذ طاقتك، فإن كان أبوك تاجراً فاعمل في الدكان احمل واصعد وانزل، وإذا كان عندك مزرعة فاعمل في المزرعة، فإذا لم يكن عندك مزرعة ولا تجارة استهلكها في الرياضة، ضع لك في البيت أثقال، المهم لا تصل إلى الفراش إلا وأنت متعب؛ من أجل أن تنام مباشرة.
ثم لا تكثر من التفكير في هذه القضايا، إذا جاءك التفكير قم صلِّ ركعتين؛ لأنك بهذا تكيد الشيطان، فبعدها لا يجعلك تفكر؛ لأنه يعرف أنك إذا فكرت فسوف تصلي ركعتين.
ثانياً: إذا جئت تنام على الفراش وما جاءك النوم فاقرأ القرآن، أو السنّة، لا تأتِ الفراش وأنت لا تجد حاجة للنوم، لأن تقلب الإنسان على الفراش وهو لا يحتاج للنوم يجعله يفكر في هذه الأمور، فيعبث بيده فيحصل منه هذا الشيء والعياذ بالله.
ثالثاً: لا تنظر إلى الحرام؛ لأن النظر المحرم يذكي هذه الشهوة، فلا تشاهد الأفلام والمسلسلات التي فيها قصص غرام أو صور نساء، ولا تقرأ المجلات ولا الجرائد العارية والرخيصة.
لا تقرأ القصص الغرامية.
رابعاً: استشعر خوفك من الله، تذكر أنك عبد لله، وأن الله عز وجل ما خلقك لهذه الأفعال القذرة، وأنك إنسان مفضل ومكرم، ثم اطلب من الله أن يتوب عليك.(9/26)
أعمار أمة النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
قلت: إن الإنسان بعد المائة سنة ليس له أي دور، وهذا فيه نوع من المبالغة، إننا نعرف بعض الناس قد بلغوا المائة وهم لا يزالون أقوياء، ويوجد عندنا شيخ كبير في السن يجيد إتقان أصوات القبائل الأخرى؟
الجواب
أنا قلت: إن النادر ممن يجاوز المائة، يعني: أكثر من مائة سنة ليس هناك أحد يعيش، هذا بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين وقليل من يجاوزهما) والذي يقول إنه في المائة لو جئت تراجعه بالضبط لوجدت أنه أقل من ذلك؛ لأنه لم يكن في السابق تاريخ للولادة، أحد الناس يزعم أن عمره مائة وعشرون عاماً، لما جئنا نحسب تبين لنا أن عمره ثمانون سنة، وأربعون سنة من مبالغات الإنسان، فقليل الذي يصل إلى المائة، ونحن نتكلم عن العموم فقط ولا نتكلم عن التدقيق في الناس، على العموم أعمار الناس كما جاء في الحديث (ما بين الستين والسبعين وقليل من يجاوزهما).(9/27)
طلب بتكرار الزيارة
السؤال
لا نريد أن تكون الزيارة مرة واحدة في الشهر نريد أن تكون أكثر من ذلك، وأن تتعاونوا معنا هنا في حضور الجلسات والحلقات؟
الجواب
جزاك الله خيراً، ولكني أرى أن في تكرار الزيارة مشقة عليَّ، فإن لدي التزامات كثيرة في غير مدينة جدة -في مكة والرياض والمدينة والطائف وأبها - وفي كل مدن المملكة مما يجعلني لا أستطيع حتى المجيء مرة في الشهر، ولكن أسأل الله الإعانة.(9/28)
حكم الطعن في أعراض المسلمين
السؤال
بعض الشباب الملتزم -هداهم الله- لديهم بقايا من خراب جاهليتهم السابقة قبل التزامهم، وهذا أكثر ما يكون في اللسان، فتجده يتكلم على فلان وفلان، ويصف هذا بأنه باطل، وأن فلاناً كلامه غير صحيح؟
الجواب
هذه من الأمراض التي يشيعها الشيطان بين الناس، فإذا رأى الشاب الملتزم الذي يحفظ نفسه، ولا ينظر إلى الحرام، ولا يسمع الأغاني وغير ذلك، استعمله في طريق ثانٍ وهي: شغله بأكل لحوم العلماء والنيل من المشايخ، وتتبع سقطات الصالحين وتضخيم أخطائهم، وكأنه جندي من جنود إبليس، وهذا لا يجوز في شرع الله، غيبة المسلم حرام، وغيبة العلماء أشد حرمة، فإن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في الذين ينالون منهم معلومة، وما رأينا إنساناً تتبع لحوم العلماء بالجرح والثلب والتنقص إلا نكبه الله في الدنيا قبل لآخرة والعياذ بالله، فنوصي طلبة العلم والفضلاء أن ينصرفوا إلى الدعوة، وإذا رأوا في إنسان من الصالحين أو من الطيبين خطأ أو معصية أو تقصيراً فالناس كلهم خطاءون، من ذا الذي لا يخطئ؟ فالكمال لله عز وجل.
وعليك أن تنصح هذا الشخص المخطئ بالاتصال الهاتفي، أو بالرسالة البريدية، أو بالمواجهة الشفوية، وتقول: يا شيخ أنت قلت كذا -مثل هذا الأخ جزاه الله خيراً الذي كتب لي هذه الورقة وقال لي: أنت قلت كذا وكذا- وهذا حق ليس فيه شيء، ونحن نقبل النصيحة -أيها الإخوان- فالذي يريد أن يكون كاملاً كذاب، والمعصوم هو الرسول صلى الله عليه وسلم، والعاصم هو الله تبارك وتعالى، فما ينبغي للإنسان أن يتتبع سقطات الناس، ولا أن يتخذ لحومهم غرضاً، فيتكلم فيهم في المجالس، ويضع من قدرهم بحجة أنه متدين.
إن التدين الحقيقي هو الذي يبعثك على العمل للإسلام لا على النيل من العاملين للإسلام.
نختم -أيها الإخوة- بالدعوة إلى التبرع لإخواننا في جميع ديار المسلمين، وهذه رسالة جاءتني من الندوة العالمية للشباب الإسلامي، وهي ندوة مباركة تقوم بخدمة الأمة الإسلامية في كافة أنحاء العالم بما لها من برامج دعوية، وأنشطة ووسائل توعوية، وأمور إغاثية، ومخيمات شبابية، وهي تطلب منكم مد يد العون والمساعدة لتستمر في مواصلة الخير، والعمل الصالح لخدمة الإسلام والمسلمين.
أسأل الله لي ولكم التوفيق ولهم الإعانة، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(9/29)
العمل الصالح وأهميته
بدأ الشيخ ببيان أن العمل في الدنيا هو الذي يحدد نوع الجزاء في الآخرة، ثم ذكر بعض الأمور المعينة على بذل أسباب النجاة في الآخرة، وذكر منها: التدبر في قصص القرآن الكريم والسنة النبوية، وأورد قصة آدم مع إبليس، وكذلك قصة نوح مع قومه، ثم حذر من الفهم الخاطئ لبعض المفاهيم الشرعية، وبين أن ذلك يؤدي إلى التقصير والتهاون في العمل لأجل نيل مرضاة الله في الآخرة.(10/1)
مبدأ الثواب والعقاب الإلهي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله: لقد رتب الله عز وجل الجزاء في الدنيا والآخرة على فعل المكلف، وجعل مدار السعادتين في الدنيا وفي الدار الآخرة نتيجة سلوك الإنسان، وزود الإنسان بالإمكانات التي تعينه على سلوك طريق الخير باختياره، أو سلوك طريق الشر باختياره، وأقام الحجة على الخلق ببعثة الرسل، وبإنزال الكتب، قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] وفطر الإنسان على فطرة الدين، والأرض القابلة لاستنبات الدين هي: الفطرة، يقول عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) ولم يقل: يمسلمانه؛ لأنه مسلم بالفطرة، وفي حديث آخر في صحيح البخاري وهو حديث قدسي، يقول الله عز وجل: (إني خلقت عبادي حنفاء -أي: مستقيمين- فاجتالتهم الشياطين).(10/2)
ترتيب الجزاء الأخروي على كسب الإنسان الدنيوي
إن المتأمل لآيات الكتاب الكريم ولأحاديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه يجد هذا واضحاً، بل يذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه الجواب الكافي أن هذا واضح في أكثر من ألف موضع في القرآن الكريم، وهو أن الله دائماً يرتب الجزاء على فعل الإنسان.
قال عز وجل: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:55] فلا يحصل شيء من العبد إلا ويحصل له جزاء، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، يقول عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] فظهر الفساد في البر والبحر: فساد في الهواء، والماء، والثمار، وكل شيء بكسب العباد، فتتأثر جميع المخلوقات بكسب الإنسان {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41] وإلا لو أذاق الله العباد كل ما عملوا ما بقي على ظهرها من دابة، ولكن الله حليم يمهل ولا يهمل، ويقول عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:26 - 27] فهذه آية توضح أن القضية قضية كسب، فاكسب خيراً؛ تربح، واعمل سيئات؛ تحسب عليك، فلا يأخذ ذنوبك غيرك، ولا يأخذ حسناتك غيرك، يقول الله عز وجل: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31] ويقول عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:46 - 52] في الجنة من كل فاكهة زوجان {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن:53 - 54] جنى أي: ثمر، فثمر الجنان دان، وأنت جالس يأتيك الثمر في مجلسك، وحين تقوم يقوم معك، وحين تمشي يمشي معك، فأينما اشتهيته وجدته {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:55 - 56] نساء الجنة قاصرات الطرف، فقد قصرت طرفها على زوجها فلا تطمع في سواه، ولم يطمثها قبله أحد، فهي نظيفة مبرأة، وبعد ذلك يقول الله عز وجل في وصفهن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:57 - 58].
حورياتك في الجنة وزوجاتك -يا عبد الله- مثل الياقوت والمرجان، فتصور امرأة مثل الياقوتة، كيف يكون وضعها؟ الآن أقل قطعة من الياقوت أو المرجان قيمتها مبالغ طائلة، وحجمها لا يتعدى رأس الإصبع، فكيف تريد ياقوتاً أو مرجاناً بلا قيمة؟ لا.
ثم قال عز وجل: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:59 - 60] وهذا الشاهد من الآيات، هل جزاء إحسانهم في الدنيا إلا إحسان الله لهم بالثواب العظيم في الجنة.
في الآية التي تلوتها عليكم يقول الله فيها: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} [يونس:26] أي: أحسنوا في عقيدتههم فكانت خالصة من الشرك، وأحسنوا في عقيدتهم فكانت صافية من شوائب البدع والخرافات؛ لأن العقيدة لا بد أن تكون صافية من أمرين: ليس فيها شرك ولا بدعة ولا خرافة، وإنما خالصة: توحيد لله، واتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك أحسنوا في عبادتهم، فيعبدون الله على أفضل صورة، وأحسنوا في سلوكهم، وأخلاقهم، وتعاملهم، فماذا يحصل لهم وهم محسنون؟ قال الله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس:26] ما هي الحسنى؟ قال العلماء: الحسنى هي: الجنة، والدليل: أنها جمعت كل شيء حسن، فكل ما خطر في بالك مما يتصوره عقلك ويذهب إليه خيالك من جميع الملذات والنعم، ففي الجنة أعظم منه، ويكفيك أن الله يقول: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] وليس بما كانوا يلعبون، أو يسمرون، أو يضيعون، لا.
{بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] فقد قطعوا لياليهم وأيامهم في طاعة الله، فيقول الله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس:26] أي: الجنة، واحدة بواحدة، لكن بقي مكسب؟ ما هو؟ قال: (وزيادة)، فما هي الزيادة؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنها النظر إلى وجه الله الكريم)، وهو أعظم نعيم يحل بأهل الجنة، وهل أعظم من أن تمتع بصرك بالنظر إلى وجه ربك وخالقك؟! الآن إذا جاء ملك أو وزير أو أمير، ومر من شارع أليس يتدافع الناس ويتسابقون، ويقفون في الشوارع يريدون أن يروه إذا مر، ويريدون أن يروا وجهه إذا عرض، لماذا؟ لأنه صاحب فضل عليهم، وهل هناك صاحب فضل أعظم من فضل الله عليك؟ خلقك من العدم، ورباك بالنعم، وأوجدك من لا شيء، ثم أرسل لك رسوله، وأنزل عليك كتابه، وهيأ لك جنته، ودعاك إلى عبادته، ثم سرت في طريقه حتى أسكنك جنته، وبعد ذلك وأنت في الجنة يتم عليك نعمته بأن تنظر إليه.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت يا حي يا قيوم! يا فارج الهم! يا كاشف الغم! يا أرحم الراحمين! نسألك باسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، أن تمتعنا وآباءنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وجميع إخواننا المسلمين بالنظر إلى وجهك الكريم في الدار الآخرة، وأن تعتق رقابنا من النار، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] وهذه الزيادة تأتي بعد تطمين الله لأهل الجنة، بأنهم يمرون على النار {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ} [يونس:26] والقتر هو: الإحراق، فإحراق النار يأتي منه قترة وعذاب شديد {وَلا ذِلَّةٌ} [يونس:26] والذلة هي: الخزي؛ لأن عذاب النار ينقسم إلى قسمين: عذاب مادي وهو: الإحراق، وعذاب معنوي وهو: الذلة والانكسار الذي يحصل للإنسان في النار.
والنار كلها سيئة -نعوذ بالله وإياكم من النار وما فيها من العذاب- قال تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:26].(10/3)
جزاء من كسب السيئات في الدنيا والآخرة
{وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} [يونس:27] وهل السيئات مكسب؟ قال العلماء: ليست مكسباً، ولكن من باب التهكم والسخرية، فيسخر الله منهم ويتهكم بهم.
فهؤلاء المغفلون الذين عاشوا ستين أو سبعين سنة وهم يحملون ويكسبون على رءوسهم سيئات، فيكسب أحدهم من عينه سيئات فينظر إلى ما حرم الله، ويكسب من أذنه سيئات فيستمع إلى الأغاني وما حرم الله، ويكسب من لسانه سيئات فيتكلم في الغيبة والنميمة والسب والشتم واللعن وشهادة الزور ويمين الفجور، ويكسب من بطنه سيئات فيأكل ما حرم الله، ويكسب من فرجه فيقع في الزنا واللواط وما حرم الله، ويكسب من يده فيبطش فيما حرم الله، ويكسب من رجله فيمشي إلى ما حرم الله، فهذا يكسب ويجمع، فماذا يجمع؟ يجمع سيئات.
وأين تذهب السيئات؟ أتذهب إلى غيرك أم إليك؟ بل إليك، فأنت الذي أتيت بها، فهل نعطي الجماعة وهم ما فعلوا منها شيئاً؟ لا والله، فما معك إلا الذي معك، يقول الله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46] وعندنا مثل في الجنوب -ويمكن أن أكثركم من أهل الجنوب- يقول: (ما غبر صبيح فعلى قرنه)، وصبيح عندنا هو: الثور، وسمي صبيحاً؛ لأن في جبهته بياضاً، فإذا جاء صبيح هذا إلى الحقل أو الزرع جاء إلى الجثوة، والجثوة هي: الدمن، أي: السماد الطبيعي، فيأتي يغرس قرنه ويخوض معركة مع الجثوة، ويأخذ هذا السماد وينطح به في السماء، ويحسب أنه يغبر على القبيلة وهو يغبر على رأسه.
وكذلك نحن نقول لصبيح المعاصي من البشر، نقول: يا صبيح المعاصي! ما عصيت من معصية فعلى قرنك، والله ما تضر أحداً، وما تضر الدولة، ولا الجماعة، ولا أمك، ولا أبوك ولكن تضر نفسك.
فإن كنت تحب نفسك؛ فتوقف عن المعاصي، وإن كنت تكره نفسك؛ فزود، قال تعالى: {بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14].
قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} [يونس:27] فماذا نعطيهم؟ أنعطيهم حسنات؟ معقول؛ لأن الذي يعمل السيئات ويتصور أن الله سيعطيه حسنات فهذا يتهم الله بأنه لا يعرف كيف يجازي عباده، لا.
قال: {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [يونس:27] خذ سيئة وأعط سيئة فليس هناك غير ذلك، وبعدها قال تعالى: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [يونس:27] فلا يمنعهم من الله أحد.
وقد يقول شخص: أنا صاحب سيئات، ولكن عندي من يمنعني: فعندي جاه، وسلطة، وقوة، ومال، أيمنعك ذلك من ربي؟ والله لا يمنعك من الله أحد، ولكن الله يمنعك من كل أحد؛ لأن الله غالب على أمره، والتاريخ موجود أمامنا، فهل استطاع فرعون الذي ادعى أنه الرب ويقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] هل امتنع من الله؟ أبداً.
النمرود الذي يقول لإبراهيم: ادع ربك أن يخرج لي في الميدان، أريد أن أحارب ربك، فأين هو النمرود؟ ذهب، سلط الله عليه بعوضة دخلت من أنفه واستقرت في دماغه، وصارت تنتفض حتى ضربه عبد من عبيده في رأسه فشطره إلى نصفين وسقط نصف جناح البعوضة، فقال الله لها: أتريدين دية، أم تريدين جناحك؟ قالت: أريد دية، فكم الدية؟ قال: الأرض من يوم أن خلقتها إلى يوم أن أفنيها.
قالت: لا، بل أريد جناحي.
وجاء في الحديث: (لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).
فمن يمتنع من الله؟ لا أحد.
يقول الله: {مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [يونس:27] ثم بين الله عز وجل حال وجوههم يوم القيامة، فأهل الإيمان -جعلنا الله وإياكم منهم- لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة، وجوه مبيضة، ومسفرة، ضاحكة مستبشرة، فرحة بلقاء الله، تفرح بأن الله أنجاها من النار ووعدها بالجنة.
لكن أولئك قال الله فيهم: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً} [يونس:27] الله أكبر! لا إله إلا الله! كيف يكون وجهه وليس قطعة بل قطع من الليل البهيم الأسود؟ قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] تبيض وجوه أهل الإيمان والعمل الصالح، وتسود وجوه أهل الكفر والنفاق والفجور والمعاصي والعمل السيئ، قال تعالى: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:27].(10/4)
ميزان الفلاح في الآخرة
أيها الإخوة: من كان يريد السعادة والفوز والفلاح؛ فلا بد له من أن يتأمل هذه القضية، وألا يتكل على شيء، إلا على رحمة الله، ثم إيمانه وعمله الصالح.
أما الاتكالات والمغالطات -والتي سوف آتي بها إن شاء الله في هذا الدرس- فنريد أن نضعها جانباً، وأن نعمل؛ لأن الميدان ميدان عمل، يقول الله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ} [الملك:2] أكثر أموالاً، أو أرفع رتبة، أو أكبر جسماً، أو أقوى عضلاً كل هذا لا قيمة له.
تعال إلى صاحب أكبر رتبة في الدنيا إذا مات، وقل له: كيف أنت في رتبتك؟ يقول: لا شيء.
تعال إلى أكبر تاجر في الدنيا وعنده المليارات واسأله وقد وضع في التراب، وخرج من الدنيا، وليس معه إلا قطعة قماش من ماله كله، وقل له: ماذا نفعك المال؟ سيقول: لا شيء.
تعال لصاحب العضلات، والقوة، والرياضة، إذا لف في أكفانة ووضع في التراب، واسأله: أين عضلاتك؟ يقول: لم تغن عني شيئاً، فما الذي ينفعك هناك؟ قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] ويقول: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف:7] فالقضية قضية عمل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة: (يا فاطمة! سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئاً، فلا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتيني بالنسب) فلا ينفع النسب، يقول الله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:101 - 102] فبم تثقل الموازين يوم القيامة؟ وما هي العملة الدارجة؟ وما هي الوحدة الوزنية يوم القيامة؟ فوحدة الكيلو، ووحدة الذهب، والريالات، والعمارات، والوظائف، والزوجات، والألوان، والجنسيات، كل هذه لا تنفع، فليس هناك إلا وحدة واحدة ربانية هي: العمل، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فهذا الذي يوزن به الناس.
ولو كان عبداً حبشياً كأن رأسه زبيبة! ولو كان عبداً حبشياً، فـ بلال عبد حبشي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأسمع قرع نعليك في الجنة يا بلال!) وأبو لهب بن عبد المطلب قرشي هاشمي، وهو عم الرسول، يقول الله فيه: {تَبَّتْ} [المسد:1] أي: خسرت وخابت {يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] لماذا؟ {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا} [المسد:2 - 5] أي: في عنقها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ، فلماذا ارتفع بلال الحبشي إلى أن أصبح سيد الصحابة؟ يقول عمر رضي الله عنه: [أبو بكر سيدنا وأعتق بلالاً سيدنا] عمر المخزومي الهاشمي القرشي يقول: إن بلالاً سيده.
ولماذا أصبح أبو لهب واسمه عبد العزى، أي: عبد الإله الذي كان يعبده الكفار، وسمي أبا لهب تشاؤماً، أي: أبو النار، فله نصيب منها قبل أن يدخلها، ومع أنه قرشي هاشمي، فلماذا تبت يداه؟ بسبب العمل، فليس عنده شيء من مؤهلات الآخرة.(10/5)
التدبر في القصص القرآني
الذي يريد النجاة يلزمه أن يتدبر هذه القضية، ويلزمه بعد التدبر أمران: الأمر الأول: أن يمعن النظر في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة، وأن يستقرئ التاريخ بدءاً بخلق آدم، وأمر الملائكة بالسجود له، وطاعة الملائكة وعصيان إبليس، وما ترتب على طاعة الملائكة وما ترتب على عصيان إبليس، ونهي الله لآدم من أكل الشجرة، وما ترتب على المخالفة من خروجه من الجنة، وتوبته بعد أن نزل إلى الدنيا، وما ترتب على التوبة من رجعته إلى الجنة.
ثم خذ الرسل والأنبياء، فقصصهم تاريخ واضح أخبرنا الله به في كتابه عز وجل، تقرءوه كأنما ترى القضايا مفصلة؛ لأن العرض القصصي في القرآن عرض واضح وأخاذ وجذاب، فتجده في سورة الأعراف بشكل، وفي سورة يونس بشكل، من أجل أن يعطيك عدة مناظر للحادثة، فتخرج كأنما هي مصورة أمامك.(10/6)
قصة آدم عليه السلام مع إبليس
يقول الله عز وجل للملائكة: {وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] وبعد ذلك علم آدم الأسماء كلها، وبعد ذلك أمر الملائكة بالسجود له فقال: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [ص:71 - 73] والملائكة الذين سجدوا هم عباد الله الذين يطيعون الله، ويسبحونه بالليل والنهار لا يفترون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فبطاعتهم ظلوا ملائكة مقربين عند الله عز وجل، إلا واحداً، وهو إبليس.
ولهذا فالطائعون في الأرض قدوتهم الملائكة، والعصاة قدوتهم إبليس، فهو المدير العام للعاصين، فإذا أردت أن تصير مع المدير العام فاعص الله.
وبعد ذلك ماذا كانت معصية إبليس؟ طلب منه أن يسجد: {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الحجر:33 - 34] يقول ابن القيم: يا قليل العزم! إبليس طرد من الجنة بذنب، وأنت عند الباب وعندك ألف ذنب تريد أن تدخل، وأبوك أخرج من الجنة وهو من أهلها بذنب، وأنت خارجها وعندك ألف ذنب.
فلا يمكن ذلك.
فلا بد من المراجعة مع هذه النفس الأمارة بالسوء.
فلما رفض أن يسجد، والله عز وجل لا يعصى، فهل يعصى الملك في مملكته؟ أبداً، إذا صدر أمر من أي ملك أو رئيس دولة في مملكته؛ لزم الشعب تنفيذ أمره.
وهل يعصى المدير في إدارته؟ هل يعصى الرجل في بيته؟ لا.
فهل يعصى الله في خلقه، وسماواته وأرضه؟ لا يعصى.
لكن إبليس عصى، وقال: لا أسجد.
ولماذا لا تسجد؟ {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76] والنار تأكل الطين وهذا قياس فاسد؛ لأن النار وسيلة إحراق، والطين وسيلة إعمار، فقال الله له: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:34 - 36] يريد أن يستوفي {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:37 - 39] لا إله إلا الله! {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:40] الذين تشرفوا بعبوديتهم لك، فهؤلاء لا أقدر عليهم، قال الله له: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42] لا تقدر عليهم، فهم في جنابي، ولاذوا بحماي، فليس لك عليهم سلطان، إلا من اتبعك، والذي يأبى إلا أن يمشي وراءك، وتوسوس له بالشر فيطيعك؛ فإن جنهم موعدهم أجمعين {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42] {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:18] أي: ستساق أنت ومن معك إلى جهنم.
لماذا؟ لأنهم ما تشرفوا بالعبودية لله عز وجل، فلما خرج إبليس من الجنة رأى أن المسألة فيها لعنة وطرد والسبب آدم، فجاء إليه ووسوس له: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20] وقال له: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} [طه:120] وهي في الحقيقة شجرة الخروج لا الخلد.
لكن انظر كيف قلب الحقائق، فجعل الأبيض أسود، فشجرة الخروج يقول عنها: إنها شجرة الخلد، فمثلاً حين يأتي الشيطان إلى الشخص الهادئ الجالس، فيقول له: أتريد أن ترى الدنيا؟ فأنت مهموم وعندك وساوس وأفكار.
قال: نعم.
قال: أتريد أن تنشرح وترى الدنيا كلها؟ قال: نعم.
قال: خذ هذه الحبة، أو هذه الجرعة من (الكوكايين) أو المخدرات، فسترى الدنيا كلها.
فإذا أخذ الجرعة وإذا برأسه يدور، وبعد فترة وإذا به مروج للمخدرات، وماذا بعد ذلك؟ قبضوا عليه، وأخرجوه، ونسفوا رأسه.
فمن الذي ورطه في هذا؟ إبليس ورطه كما ورط أباه، فقال: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] فمسكين آدم عليه السلام أحسن الظن بالشيطان؛ لأنه حلف له.
قال الله: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] * {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:22] أي: بكيد وخديعة ومكر، فما كان آدم يتصور أن أحداً يحلف بالله كاذباً، فصدق الشيطان، ولهذا لا تصدق الشياطين من الإنس، فقد يأتي ويحلف لك: والله إني أريد مصلحتك، فهذا شيطان، يريد أن يدليك كما دلى أباك -والعياذ بالله-.
وبعد ذلك رجع آدم عليه السلام، قال الله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121] * {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122] ثم بقيت سلسلة العمل بالخير والشر ممثلة في الناس إلى يوم القيامة، وتأتي نتائج الناس وثمرات أعمالهم واضحة.(10/7)
قصة نوح عليه السلام مع قومه
هاهو التاريخ أمامنا بدءاً بنوح عليه السلام، والذي بدأ دعوته في أمته ومكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومارس معهم جميع وسائل وأساليب الدعوة سراً وجهاراً، ليلاً ونهاراً، وبعد ذلك ذكرهم بنعم الله، وقال: إن الله أعطاكم ومنَّ عليكم ورزقكم، فاشكروا الله عز وجل: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ بِسَاطاً * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} [نوح:10 - 20] وبعد مزاولات وممارسات طويلة ومتنوعة في سبيل هدايتهم، رفضوا، قال عز وجل: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً} [نوح:21] {إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} [نوح:5] * {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً} [نوح:6] * {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح:7] فإذا جاء ووقف بينهم وهم جالسون في مجموعات، وقال: اتقوا الله، واعبدوا ربكم، قالوا: ماذا تقول؟ ويجعلون أصابعهم في آذانهم، وبعد ذلك يأخذ الواحد منهم ثوبه أو إزاره ويغطي وجهه، ويقول: لا أريد أن أراك، ولا أريد أن أسمع كلامك {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ} [نوح:7 - 9] أي: دعوتهم دعوة جهرية على الملأ {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح:9] إلى آخر الآيات.
وبعد ذلك قال وقد دعا الله: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26] لكن ما قالها نوح -كما يقول المفسرون-: إلا بعد ممارسة؛ لأن بعض الناس الآن يدعو إلى الله مرة واحدة، فإذا لم يجد استجابة، يقول: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26] يقول: أخي هذا ليس فيه خير، أو أبي هذا شرير ليس فيه خير، أو زوجتي هذه ليس فيها خير، كم سنة دعوتها؟ أدعوتها سنة، أو سنتين، أو ثلاثين سنة، أو تسعمائة وخمسين سنة؟ قال: لا.
كلمتهم في الدين فرفضوني، عجباً: إنها قضية مسلمة، كيف تريد من شخص يعيش على المعاصي مدة ثلاثين سنة أن تكلمه كلمة واحدة فيرجع إلى الله؟ شخص قضى من عمره في المعاصي يحتاج منك دعوة مدة ثلاثين سنة حتى يرجع إلى الله، أما بمجرد كلمة فلا يمكن أن تغير الناس بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب وبهذه السهولة، فلا بد من الصبر، والمعاناة، وتغيير الأساليب، والتفنن والتنويع، حتى يهديه الله عز وجل، يقول الله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35].
فنوح عليه السلام ما قصر في دعوته، فقد مكث تسعمائة وخمسين سنة لا تشغله إلا الدعوة إلى الله، ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، بكل الأساليب، وبعد بذل الأسباب، وبعد معرفةٍ وصبرٍ وخبرة في أن هذه النوعية من البشر نوعية خبيثة لا يمكن أن تهتدي، قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26] لماذا؟ قال: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} [نوح:27] من هم عباده الذين أسلموا؟ وكم عدد الذين أسلموا؟ قضى من عمره تسعمائة وخمسين سنة، فكم ثمرة هذه الدعوة؟ في أصح الروايات: أنهم بلغوا اثنا عشر رجلاً، فيقول نوح وهو خائف عليهم: يا رب! إذا ما أهلكت أولئك الكفار، فإن هؤلاء الاثني عشر سيضلون؛ لأن أولئك عندهم بالليل والنهار ليضلوهم: يا رب! نجّ هؤلاء الاثني عشر، أما البقية فأغرقهم ودمرهم، ولأنه لا يتصور أنه سيأتي منهم نسل طيب، قال: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:27] فهم سيئون وأولادهم فجرة كفار.
عندها استجاب الله عز وجل دعوته، فقال الله عز وجل له: {اصْنَعِ الْفُلْكَ} [المؤمنون:27] وكان يصنع الفلك في صحراء وليس في بحر {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ} [هود:38] قالوا: ما هذه يا نوح؟! قال: هذه فلك، قالوا: أين البحر يا نوح! أتصنع فلكاً في الصحراء؟ فسخروا منه، وقالوا: تعالوا وانظروا إلى نبيكم هذا، أليس مجنوناً؟ أيصنع سفينة في الصحراء؟! ولكن كان عنده ثبات على دينه وعقيدته، وكان يقول: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] * {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [هود:39] فاضحكوا الآن، لكن فيما بعد سترونها تجري في البحر.
هكذا أهل الإيمان يثبتون على دينهم ولا يتزعزعون لمجرد سخرية أهل الباطل، فأهل الباطل يسخرون منك، إذا رأوك أعفيت لحيتك، قالوا: (أوه مطوع معه لحية) فقل: نعم.
مطيع لله، وأقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن بعض الناس إذا قيل له: (مطوع) سكت وذهب يحلقها، تقول له: ماذا بك؟ قال: يا شيخ! كل من رآني قال: (مطوع) لا إله إلا الله! ألا تصبر على كلمة مطوع؟ والصحابة حلقوا رقابهم في سبيل الله، وأنت لا تصبر على كلمة (مطوع) أتريد الجنة وأنت لا تصبر على كلمة واحدة؟ فأين الإيمان؟ لا إله إلا الله! ولما انتهى من صنع الفلك، قال الله عز وجل له: {فَاسْلُكْ فِيهَا} [المؤمنون:27] أي: أركب جماعتك، خذ معك {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [المؤمنون:27] من جميع المخلوقات: من الحيوانات، والسباع، والطيور؛ لأن الأرض ستنتهي كلها.
فالحياة فنيت في عهد نوح إلا من ركب السفينة، وما بقي في الأرض أحد من الناس، والطيور والهوام والسباع والوحوش.
فأخذ معه من كل زوجين اثنين ذكر وأنثى، من أجل أن يستمر التوالد وتستمر الحياة.
وبعد ذلك قال الله عز وجل: {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [المؤمنون:27] وبعد ذلك ركبوا في السفينة، ولما استقروا فيها، قال الله عز وجل: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر:11] * {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً} [القمر:12] أي: فجر الله الأرض عيوناً، وحتى التنور الذي يوقد فيه النار، هل يتوقع أن يخرج منه ماء؟ فيصبح مكان النار ماءً؟ قال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود:40] فار التنور بالماء، قال الله عز وجل: {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:12] أي: فالتقى ماء السماء مع ماء الأرض على أمر قد قدره الله {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:13] الدسر أي: المسامير {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:14] هذه السفينة سفينة ربانية لا تجري بالذرة، ولا بالفحم الحجري، ولا بالديزل ولا بالبنزين {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:14].
وبعد ذلك يشفق نوح وتنتابه عاطفة الأبوة، ويقول لربه عز وجل: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:45] وأنت قد قلت: وأهلك، ظن نوح أن الأهلية هنا: أهلية النسب، وأنه جمع أولاده وما علم أن الأهلية هي: أهلية العقيدة والدين، فقال: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45] وأنت وعدتني بنجاة أهلي، وولدي رفض أن يركب، وقلت له: {ارْكَبْ مَعَنَا} [هود:42] قال: {سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:43] فيا رب! لا تغرقه؛ لأنه من أولادي، قال الله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] فما الذي أهلكه؟ عمله الغير صالح، وما الذي نجى نوحاً والاثني عشر معه؟ العمل الصالح.
فتدمير وإغراق كامل للكون والحياة من أجل الكفر، وإعمار ونجاة لسفينة تجري بعين الله من أجل الإيمان والعمل الصالح، ثم بعد نوح خذ سلسلة الأنبياء: فرعون وما عمل الله به من إغراق، فروحه إلى النار، وجسمه إلى الغرق، فقصة هود مع قومه، وصالح مع قومه، وشعيب مع قومه، وموسى مع بني إسرائيل وفرعون، وعيسى مع قومه، ومحمد صلى الله عليه وسلم مع الكفار في مكة، فماذا حصل لأقوامهم؟ دمر الله عليهم.
في غزوة بدر الفاصلة، وقف النبي صلى الله عليه وسلم على القليب؛ وهو حفرة فيها مجموعة من رءوس الكفر عقبة بن أبي معيط وأبو جهل وأمية بن خلف، وهم الرءوس الكبار، فوقف عليهم وقال: (هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً، أما أنا فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فقال الصحابة: يا رسول الله! أتخاطب قوماً قد ماتوا؟ قال: والذي نفسي بيده! إنهم لأسمع لكلامي منكم) فما الذي ذهب بهم إلى(10/8)
استعراض القرآن لنتائج الأعمال
ثم استعرض بعد ذلك كلام الله عز وجل فيما يتعلق بالأعمال، من أول البقرة إلى آخر الناس، تجد باستمرار أنه ليس هناك شيء يحصل إلا بالعمل، قال الله عز وجل من أول البقرة: {آلم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:2 - 5] فبماذا كانوا على هدىً من ربهم ومفلحين؟ بست خصال: يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وينفقون، ويؤمنون بما أنزل إليك، ويؤمنون بما أنزل من قبلك ويوقنون بالآخرة، فهذه خصالهم التي استحقوا بها أن يكونوا من أهل الهدى والفلاح في الدنيا والآخرة.
ثم انتقل بعدهم إلى الكفار، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] لماذا؟ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7] لماذا ختم الله عليهم؟ قال: لأنك لو أنذرتهم أو لم تنذرهم لا يؤمنون، فلا ينفع فيهم، قلوبهم مقفلة ومنكوسة -والعياذ بالله-.
ثم جاء على المنافقين، وهم: الذين يلعبون على الحبلين، فيأخذون من الكفر أعماله، ويأخذون من الدين أقواله، والقول لا ينفع من دون عمل، قال الله: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:8 - 10].
ثم استمر في العرض، فتأتي بأول سورة الأنفال، يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4] ويقول الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71] فانظروا متى جاءت الرحمة؟ جاءت بعد هذه الأعمال الخمسة: يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله.
ويقول في أول سورة المؤمنون: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] بماذا أفلحوا؟ {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:2 - 5] إلى آخر الآيات.
المهم، لو استعرضت معكم كل القرآن على هذا النحو، نرى أن الله يرتب الجزاء على فعل العبد.(10/9)
استعراض السنة لنتائج الأعمال
نأتي إلى السنة، وهي الوحي الثاني، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي) وقال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي) وقال: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك: كتاب الله وسنتي) وقال: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) أي: السنة، فهذه السنة تأتي فيها فتجد الأحاديث فيها شاملة، وملفتة للنظر، فكل شيء مرتب على الإيمان والعمل الصالح، فأحياناً يكون العمل واحداً لكن القصد يختلف؛ فتختلف النتيجة.
في الصحيحين من حديث عمر رضي الله عنه، لما هاجر الصحابة إلى المدينة هاجر أناس لهم أغراض، فشخص هاجر من أجل أن يتزوج أم قيس، وشخص هاجر من أجل تجارة، قال: الناس ذهبوا وأنا سوف أذهب أبيع وأشتري معهم، وهم في الظاهر مهاجرون.
ولكنهم في الباطن مختلفين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) فهذا ذهب يريد أن يتزوج؛ فيقال له: تزوج، ولكن ليس لك شيء عند الله، وهذا ذهب يتاجر؛ فيقال له: تاجر، لكن ليس له شيء عند الله.
لكن هذا ترك ماله وخرج من بيته مهاجراً إلى الله، هذا له الشيء العظيم عند الله عز وجل.
وهكذا كل الأحاديث على هذا النحو.
وأذكر لكم حديثاً واحداً فيه عبر، وهو حديث في الصحيحين، قال عليه الصلاة والسلام وهو يحكي لنا خبر من كان قبلنا من الأمم، قال: (كان فيمن كان قبلكم من الأمم ثلاثة، خرجوا في سفر، فآواهم المبيت إلى جبل، فدخلوا في غار ليبيتوا، وحينما ناموا، انطبقت عليهم صخرة من الجبل فسدت عليهم باب الغار، فلا يستطيعون الخروج) ولا يوجد هاتف ولا دفاع مدني، ولا يوجد إلا صخرة لا يزحزحها إلا مئات الرجال، فما يفعل لها ثلاثة نفر؟ لا يقدرون على شيء، فكان أحدهم عاقلاً فقال: (إنه لا ينجيكم مما أنتم فيه إلا الله، فادعوا الله بصالح أعمالكم) الله أكبر! لو تقال هذه الكلمة لنا -أيها الإخوة- أو لو يحصل هذا لي أو لكم -ولا ننفي الخير عن العباد، ولكن هذا حال معظمنا- ماذا نقول لله عز وجل؟ وبإي شيء ندعو الله؟ لا إله إلا الله! فالأول وقف، وسأل الله، قائلاً: (اللهم إنه كان لي ابنة عم وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، وراودتها مراراً وكانت تمتنع عليَّ وآوتها الحاجة يوماً إلى الاقتراض مني، فقلت لها: لا أعطيك حتى تخلي بيني وبين نفسك، فأطاعته مضطرة لا مختارة، يقول: فلما قعدت منها مقعد الرجل من زوجته، قالت لي: يا هذا! اتق الله) الله أكبر! هذه الكلمة ما أعظمها في القلوب المؤمنة، هذه الكلمة تهز القلوب من الداخل، كان عمر إذا قيل له: اتق الله يمرض أسبوعاً، لكن من الناس من تقول له: اتق الله، فكأنك نفخته {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206] فهذا المنتفخ تكفيه جهنم، قالت له: (يا هذا! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، قال: فقمت وتركتها) وطبيعي أن هذه القضية -أيها الإخوة- سهلة في الذهن، ولكن في التطبيق العملي لا يعملها إلا من كان عنده من الإيمان مثل الجبال الراسيات؛ لأنه في تلك اللحظات يضيع العقل، ويعمى البصر، وتطغىالشهوة على الإنسان، وينسى حتى النار، وينسى الله، ولا يستحضر أن الله يراه.
لكن هذا مؤمن، لما سمع كلمة اتق الله، غلبت عليه مخافة الله وطغت على شهوته، وألغى حبه، ورغبته في ممارسة الجريمة، قال: (اللهم إن كنت تعلم أني تركتها من أجلك فارفع عنا ما نحن فيه، فتحركت الصخرة) من الذي حركها؟ الله، وذلك بسبب العمل، لكنهم لا يستطيعون الخروج، فرأوا النور ولكن الفتحة صغيرة فلا يستطيع أحد أن يخرج.
فقام الثاني وقال: (اللهم إنه كان لي أبوين كبيرين في السن، وكنت لا أغبق قبلهما زوجة ولا ولداً -أي: ما أعطي لبناً ولا عشاء لأحد قبلهم- ورعيت يوماً إبلي فنأى بي المرعى بعيداً -يعني: ما وجدت مرعىً إلا في مكان بعيد- يقول: ثم عدت آخر الليل وقد ناما، فحلبت غبوقهما -أي: اللبن- وكرهت أن أوقظهما، وجلست واقفاً على قدمي والقدح في يدي، وحولي صبية يتضاغون من الجوع -أولاده يبكون من الجوع- فقلت: والله لا أغبقكم إلا بعدهما، حتى برق الفجر) لا إله إلا الله! طول يومه وهو على رجله يرعى؛ لأن الرعي ليس سهلاً، وأشق مهنة هي: مهنة الرعي، فلا يجلس لحظة إلا ويطرد ويحد ويعد، وحين رجع لم ينم، بل ظل واقفاً، ولو أيقظهما للعشاء لما أزعجهما، لكنه حساس، وله قلب عظيم، وعنده تقوى، وبر، فيقول: لا أيقظهما من النوم، ولا أعطي أولادي قبلهما، فترك امرأته وأولاده جياعاً إلى أن جاء الفجر- قال: (اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك من أجلك فارفع عنا ما نحن فيه، فتحركت الصخرة) أين أبناؤنا وبناتنا من هذا الحديث؟ أين هم؟ كيف يفرطون في باب وطريق موصل إلى الجنة عن طريق الوالدين، فإذا كان عندك أم أو أب أو الاثنين معاً فاسلك إلى الجنة عن طريق برهما؛ لأن البر من أعظم القربات، والعقوق من أكبر الكبائر.
ورد في الصحيحين من حديث أبي بكر رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين) فقرن الله عقوق الوالدين بالشرك، وقرن برهما بطاعته، فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] وقال عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36] وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] فلا تضيع هذا الباب وتصرخ في أبيك أو أمك.
ويقول بعض الشباب: أبي سيئ، أو ليس جيداً.
عجيب! إذن تذهب إلى أي معرض ونبدل أباك ونعطيك واحداً وفق هواك.
ليس معك إلا أبوك، وليس لك طريق إلى الجنة إلا عن طريقه، حتى ولو كان كافراً! ولو كان كافراً أما أمر الله بطاعة الأب وإن كان كافراً؟ قال الله عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15] أي: بالشرك، ثم قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فإذا كان لك أب مشرك أو كافر وأمرك بالكفر فلا تطعه، ولكن صاحبه بالمعروف، وأنفق عليه، واعمل له كل شيء، لماذا؟ لأنه سبب وجودك في هذه الحياة.
وبعد ذلك فالجزاء لك من جنس عملك مع أبيك، فكما تكيل لأبيك يكيل لك ولدك ويزيد، وفي الحديث: (بروا آباءكم تبركم أبناؤكم) وكما تدين تدان.
(فقام الثالث وقال: اللهم إنه كان لي أجراء -أي: عمال عملوا عندي بأجر- فأعطيت كل واحد أجره، إلا واحداً ترك أجره وذهب، فنميته، حتى صار وادياً من الإبل ووادياً من البقر ووادياً من الغنم، ثم جاءني بعد زمن, فقال: إني كنت قد عملت عندك قبل سنوات، وتركت أجري عندك، وأنا الآن بحاجة إليه؛ فأعطني أجرتي، فقلت له: إن ما ترى من هذه الأودية المملوءة بالمواشي والأنعام هي لك، قال: أتهزأ بي، قال: لا والله لا أهزأ بك ولكنها لك، فقد نميت لك أجرتك، وبارك الله فيها، قال: فاقتداها واستاقها فلم يترك منها شعرة واحدة.
اللهم إن كنت تعلم أنني صنعت ذلك خوفاً منك فافرج عنا ما نحن فيه، فتحركت الصخرة، وخرجوا يمشون).
ونقول لأصحاب المؤسسات، والشركات، والأعمال الذين يستأجرون ويستعملون العمال، ويعطلون حقوقهم، ويؤخرون أجورهم، ففي بعض المؤسسات تمر الأشهر ولا تدفع أجور العمال، لماذا؟ حتى يتركها في البنك فتزيد، ثم يدفع لهم فيما بعد من أرباحها الربوية، وإذا اشتكى العامل في مكتب العمل؛ يأتي به صاحب العمل ويقول: هذا خروج نهائي بدون عودة؛ لأنك مشاغب، فسترى ما سنفعل بك.
أقول: أنت ستريه لكن الله سيريك ما سيفعل بك.
إذا استطعت على الناس فاعلم أن الله يستطيع عليك، فهذا العامل مسكين، له زوجة، وأولاد، وطموحات، وآمال، ويريد أرضية في بلده، ويريد أن يبني له بيتاً، وعنده مثلما عندك، لماذا تستغله وتمتهنه وتحتقره وتمارس عليه ضغطاً؟ وتؤخر أجره؟ لماذا تلزمه نهاية كل شهر أو عندما تجدد إقامته تأخذ منه خمسة أو ثلاثة آلاف؟ بأي حق؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه) فما هذه الممارسات؟ وما تجارة الرقيق هذه؟ لماذا تتاجر في أحرار؟ ألأن الله جعل يدك العليا؟ ألأن الله جعلك صاحب المؤسسة؟ كان بالإمكان أن تكون أنت عاملاً عنده في بلده، وكان بالإمكان أن تكون أنت الفقير وهو الغني، لكن الله فضلك، أفيليق بك وقد فضلك الله أن تعامل الله بهذا الأسلوب، في امتهان عباد الله واحتقارهم؟ إنه لا يجوز ذلك لك، يقول الله: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) فالظلم ظلمات يوم القيامة، والله يقتص يوم القيامة للشاة الجلحاء من ذات القرن، والحديث في الصحيحين، فإن الله يخلق الشاة ومعها قرن، ويخلق الشاة الأخرى وليس معها قرون، فتأتي ذات القرن وتنطح الأخرى والقرن ليس منها، فمن أعطاها القرن؟ هل هي اشترته من السوق؟ فهذا القرن من الله، تأتي التي ليس عندها قرن وتنطحها في بطنها.
فهذه النطحة عند الله، ويوم القيامة يقتص لها، والحديث كما يقول العلماء: إن فيه إشارة إلى أن من الناس من يستعمل قرنه مثل الشاة، فهو ليس معه قرن ولكن معه مال، فيستعمل المال لينطح به من ليس عندهم مال.
وهو إنسان لكن معه منصب، فق(10/10)
الحذر من المغالطات والفهم الخاطئ لبعض الأمور
أنا قلت لكم: لا بد من أمرين: الأمر الأول: أن نتأمل كتاب الله وسنة رسول الله، لنعرف كيف رتب الله الجزاء في الدنيا والآخرة على العمل.
الأمر الثاني: أن يحذر العبد من بعض المغالطات، والخدع، والأماني، والأوهام، التي يزينها الشيطان ليخدعك بها؛ من أجل أن تعتمد على هذه الخدع وتترك العمل، فيغمسك إلى أذنيك في النار.
والله قد بين كما سمعتم، والرسول بين، أنه لا ينفع إلا العمل، واسمعوا آية في سورة آل عمران يقول الله فيها: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران:30] أي: من معاصٍ محضرة، لكن ماذا؟ {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] أي: إذا جاء يوم القيامة والمعاصي أمامه يتمنى أن بينه وبينها أمداً بعيداً، لكنها ملاصقة له، بل على ظهره وكتفه، يقول الله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} [الأنعام:31] أي: ذنوبهم.
أين يحملونها؟ {عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام:31] {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل:25] أي: إذا كان هو داعية ضلال فيحمل أوزاره وأوزار كل من أضله فإذا كان مغنٍ؛ فيحمل وزر الغناء، وكل من ضل عن طريق الله بالغناء فأوزارهم على ظهره.
وإذا كان يبيع اسطوانات وأشرطة، فيحمل وزره ويحمل وزر كل من اشترى شريطاً من هذا الدكان.
وإذا كان يبيع أفلام الفيديو؛ فيحمل وزره ووزر كل من ضل بسبب أي شريط بيع من هذا الدكان.
وإذا كان يبيع الدخان؛ فيحمل وزر الدخان وكل من شرب (سيجارة) واحدة من هذا الدخان، يقول الله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام:31] وإذا كان يؤجر دكانه على صالون حلاقة، أو هو نفسه فتح مؤسسة واستورد الحلاقين، ونحن لا تنقصنا المعاصي حتى نأتي بشخص يجلد لحى المسلمين، ويسميه: صالون جنة النعيم، ورأيت مرة في أحد الإعلانات: صالون اللحية الغانمة، والله ما هي بغانمة، لحية تحت رجل الحلاق ما هي بغانمة، ولحية يكنسها الحلاق ما هي بغانمة، ولحية يضعها في صندوق القمامة ويدعو عامل البلدية ويقول له: اكنس هذه اللحى، ما هي بغانمة، أين اللحية الغانمة؟ هي التي تكون في وجهك، أما حين تحلقها عند الحلاق أو في الحمام وتذهب مع مياه التصريف فهذه ما هي بغانمة، ثم يقول: نعيماً.
الله لا ينعم عليك، نعيماً على ماذا؟ تحلق لحيتي وتأخذ مالي وتقول: نعيماً، لا.
إنه عذاب أليم -والعياذ بالله-.
فإذا فتحت دكان حلاقة أو أجرت على حلاق؛ فما من لحية تحلق هنا إلا وعليك إثم حلقها إلى يوم القيامة، ولو لحيتك ملء وجهك، ولكنك حلقت لحى المسلمين، وفتحت قلعة لمحاربة سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فانتبه! ولا تعتمد إلا على العمل، يقول الله: {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] فهي فوق ظهره وهو يقول: يا ليت المعاصي ليست معي، لكن لا والله، فقد كانت معك في الدنيا فهي معك في الآخرة، ولو أنك ابتعدت عنها هنا؛ لأبعدها الله عنك في الآخرة.
لكن ما دامت معك هنا فكيف تريدها أن تبتعد عنك هناك؟ لا.
فرفيقك رفيقك، وعملك عملك، إن كان عملاً صالحاً فهو معك، وإن كان سيئاً فهو معك، قال الله عز وجل: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30].
والمغالطات -أيها الإخوة- كثيرة، سوف أذكرها لكم باختصار:(10/11)
المغالطة الأولى: الاعتماد على سعة رحمة الله ومغفرة الله بدون عمل
تأتي عند العاصي المقيم على المعاصي إلى رأسه، وتقول له: اتق الله! يقول لك: ربنا غفور رحيم، هذا مستهزئ بالله، وعاجز، ومغرور ومخادع، فالله غفور رحيم لمن تاب وأناب ورجع إلى الله، يقول الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] ثم قال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر:54] أي: إن كنتم تريدون أن يغفر الله لكم؛ فأنيبوا إلى الله، ثم قال: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55] ويقول: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ} [طه:82] فليس غفاراً لمن داوم على المعاصي، ويقول: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50] قال العلماء: غفور رحيم لمن تاب، وعذاب أليم لمن استمر على المعاصي، ويقول عز وجل: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] قال الشيطان: أدخل في الرحمة هذه، وقال اليهود والنصارى: ونحن كذلك، قال الله: {فَسَأَكْتُبُهَا} [الأعراف:156] فالرحمة واسعة ولكني أكتبها لمن تتوفر فيه أربعة عشر شرطاً: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:156] * {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157] فهذه أربعة عشر شرطاً -لا نقدر عليها إلا أن يشاء الله- من أجل أن ندخل في رحمة الله.
أما أن نقيم على المعاصي ونقول: رحمة الله، فلا يجوز ولا يمكن أبداً، فلا تعتمد على رحمة الله إلا إذا عملت؛ لأن العمل مؤهل، لكن القبول برحمة الله، والعمل مؤهل لكن دخول الجنة برحمة الله، قالوا: يا رسول الله! وهو يقول لهم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) الرسول صلى الله عليه وسلم يطمع في رحمة الله، وهل هناك في الدنيا أعبد من الرسول؟! كان يقوم الليل حتى تتشقق قدماه، وبعد ذلك يطمع في رحمة الله، وأنت وأنا نطمع في رحمة الله ونحن مقيمون على الذنوب والمعاصي، لا.
فأول مغالطة: اعتماد الناس على رحمة الله وسعة عفوه ومغفرته وهم مقيمون على الذنوب، هذه مغالطة، إذا أردت المغفرة والرحمة، فأقلع عن الذنب، فهذه أول واحدة.(10/12)
المغالطة الثانية: الاعتماد على حسن الظن بالله ارتكاب المعاصي
لحديث صحيح، وهو حديث قدسي: (أنا عند حسن ظن عبدي بي، فليظن بي عبدي ما شاء) قال العلماء: حسن الظن يقتضي حسن العمل، فالمؤمن يحسن الظن بأن الله لن يضيع عمله؛ فيعمل صالحاً، لكن أن يحسن الظن بالله ويرتكب المعاصي، فهذا سوء ظن بالله.
الآن أنا أضرب لكم مثالاً: الموظف الذي يحسن الظن بمديره أن يرقيه ويتيح له فرصاً من انتدابات، ودورات، وترقيات، ما الذي يلزمه؟ يلزمه حسن العمل، دوام مبكر، انصراف متأخر، تواجد مستمر، أداء متميز، طاعة مطلقة، أي: يلزمه أن يكون موظفاً مثالياً، وبعد ذلك لو جاءت أي فرصة فيحسن الظن بالمدير.
لكن أن يكون موظفاً فاشلاً، لا يداوم إلا الساعة العاشرة، وإذا دخل والأوراق على الطاولة أدخلها في الأدراج، وقال: يا ولد! هات قهوة وهات شاهي، وذهب وأتى بفول وطعمية، وقال: أغلق الباب واتركنا نفطر.
فيفطر وكأنه قد عمل إلى أن تعب، وهو ما قد أنجز ولا معاملة، ثم أخذ (السيجارة) وأشعلها، ثم يكلم زميله في الهاتف قائلاً: أين سمرت البارحة؟ وأين ذهبت؟ وبعد ذلك دعا السكرتير قائلاً: أين (الجرائد)؟ وما هي أخبار المباريات أمس؟ وما هي أخبار الأفلام والفن؟ إلى أن يؤذن الظهر وهو لم ينجز ولا معاملة، وآخر اليوم إذا أذن الظهر صلينا، وركب سيارته وذهب.
فالمدير لا يعرف هذا الموظف الفاشل، ما رأيك حين تأتي عنده يقول: أنا أحسن الظن بالمدير أنه سيرقيني، فهل هذا وارد؟ وإذا رقاه المدير، ماذا يكون هذا المدير؟ فاشل مثله.
فالمدير لا يرقي إلا الموظف المجتهد، أما الموظف البطال فلا.
-ولله المثل الأعلى- فحسن الظن بالله، أنك إذا أحسنت ظنك بالله في أن يغفر لك، فاعمل عملاً صالحاً من أجل أن يغفر الله لك، يقول الحسن البصري: [إن قوماً غرهم حسن الظن بالله حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، يقولون: نحسن الظن بالله، كذبوا.
والله لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل!].
أما إحسان الظن بالله مع المعاصي، فهذا يسميه العلماء: عجز، والعاجز قد أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم والحديث في سنن الترمذي، يقول عليه الصلاة والسلام: (الكيس -العاقل الفطن الأريب- من دان نفسه) دانها أي: جعلها مدينة له، واستعلى عليها وانتصر عليها.
فإن كانت نفسه تحب الأغاني، يقول: لا.
وإن كانت تحب النظر إلى الحرام، يقول: لا.
وإن كانت تحب النوم عن صلاة الفجر، يقول: لا.
فدان نفسه حتى أصبحت مثل الدابة الذلول، لكن بعض الناس حمار نفسه، يريد أن يقوم ليصلي، فتقول نفسه: نم، قال: حسناً، وركبت عليه، وبال الشيطان في أذنيه.
أو يريد أن يترك سماع الأغاني، فتقول نفسه: يا شيخ! اسمع، قال: حاضر، فهذا حمار نفسه (الكيس -العاقل- من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني).
إذن فمن المغالطات: أولاً: مغالطة الاعتماد على الرحمة بدون التوبة.
ثانياً: الاعتماد على حسن الظن بالله مع إساءة العمل.(10/13)
المغالطة الثالثة: الاعتماد على مكفرات الصغائر
ثالثاً: الاعتماد على بعض النصوص التي ورد فيها: أن بعض الأعمال إذا عملها الإنسان كفَّر الله بها خطاياه، مثل: حديث في صحيح مسلم: (أن من صام يوم عاشوراء كفَّر الله عنه ذنوب سنة ماضية) أو حديث في الصحيحين: (أن من صام يوم عرفة كفَّر الله عنه ذنوب سنتين: سنة ماضية، وسنة مقبلة) أو (من قال في يوم مائة مرة: سبحان الله وبحمده، كفر الله خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر).
فهذه النصوص صحيحة ولكنها تكفِّر الذنوب الصغيرة التي يلم بها العبد إلماماً من غير إصرار، أما الكبائر فلا يكفرها إلا أحد أمرين: إما التوبة، وإما النار، وأنت -أيها الإنسان- المقيم على الكبيرة بالخيار، ما هو الأفضل والأخف: التوبة أو النار؟ التوبة، كبائر الذنوب إذا أصر عليها الإنسان فلا كفارة لها إلا أن يتوب قبل أن يموت، أو يعذب بها بعد الموت، ونحن نقول: إن الخيار الأفضل أن يتوب؛ لأن التوبة أسهل، صحيح أن التوبة فيها صعوبة ومعاناة، فإذا كان الشخص يدخن ويريد أن يتوب فإنه يدوخ، لكن هذه الدوخة أخف أو النار؟ ترك الزنا فيه صعوبة على الذي قد استمرأه، ترك شرب الخمر فيه صعوبة لمن تعوده، لكن صعوبة ترك الذنب أخف مليون مرة من العذاب على الذنب، فهذه النصوص الشرعية الثابتة إنما تدل على تكفير السيئات التي يلم بها العبد من صغائر الذنوب دون كبائرها.(10/14)
المغالطة الرابعة: الاعتماد على الاستغفار مع المداومة على الذنب
وهذا كما ورد: (المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بالله) وأضرب لكم على هذا مثالاً: لو كنت واقفاً بسيارتك في ميدان، وجاء شخص من الناس وهو راجع إلى الوراء وصدم سيارتك من غير قصد، ونزل وأبدى أسفه واعتذاره، وتحمله لمسئولية خطئه، وقال: سامحني أنا والله لم أعلم ولم أر، ولم أقدر المسافة، فأنت بحكم أنك صاحب حق، بالخيار: إما أنك تعفو عنه، أو أن تطلب منه شيئاً من المال مقابل الخطأ الذي حصل منه، والأولى أن تعفو؛ لأنه غير متعمد.
لكن بعدما صدمك وتحركت أنت بسيارتك لحقك، وحين توقفت وعينه في عينك جاء صدمك في الباب الذي عندك، وبعد ذلك نزل إليك وقال: آسف يا أخي! أنا صدمتك هناك لكن -يا أخي- لحقتك وصدمتك.
هل تسامحه؟ بل تقول: لا والله أما هذه فلا أسامحك فيها.
ولكن يمكن أن تكون كريم أخلاق وتفوتها له أيضاً.
فإذا بك تمشي، ولما وقفت عند بيتك إذا به وراءك ويصدمك مرة ثالثة، فهل تنزل تضاربه؟ أم تقول له: شكراً؟ بل تنزل وتأخذ العصا من تحت المقعد وتضربه حتى يموت، وتقول: أنت قاعد ورائي صدمتني هناك، وصدمتني في السوق، وعند بيتي، تريد أن تذبحني يا عدو الله! لماذا؟ لأنها ثلاث مرات -ولله المثل الأعلى- فواحد يستغفر ويقول: أستغفر الله العظيم من الدخان ويمصها، فهل هذا مستغفر؟ هذا كذاب ومخادع، ومستهزئ بالله، لا بد أن يصحب الاستغفار الندم والإقلاع وترك الذنب والمعصية، أما المداومة على الذنب والاستغفار، وتقول: أنا أستغفر الله، وسوف أزني وأستغفر الله، وسوف أشرب الخمر وأستغفر الله، وسوف آكل الربا وأستغفر الله، فكيف يكون ذلك؟! فأقلع عن الذنب واستغفر الله من الذنب الماضي وداوم على الطاعة، هذا هو الاستغفار الحقيقي.(10/15)
المغالطة الخامسة: أن يعتمد الإنسان على صلاح أبويه
فإن كان أبوه شيخاً أو داعية أو رجلاً صالحاً، يقول: الحمد لله عز وجل سيشفع في أبي، وإن شاء الله أبي فيه خير ويأتيني خيره، لا.
فأبوك خيره له وأنت شرك عليك؛ لأن الله يقول: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] دع أباك ولا تأخذ منه شيئاً {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم:40 - 42] فلا تعتمد على صلاح أبيك، لم ينفع ولد نوح صلاح أبيه، فالأب نبي وولده كافر فما نفعه والده.
البعض يعتمد على أنه موجود في دار مقدسة، كأن يكون من أهل مكة أو المدينة، فيقول: نحن ربنا راضٍ عنا، فنحن جيران بيت الله، وجيران رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فنقول: ما ينفعك هذا الجوار، إن لم تكن أهلاً له.
أما أن تعتمد على أنك من أهل مكة، فلا.
فإذا أسأت فمصيبتك أكبر، ليس من يعصي في مكة كمن يعصي في غيرها، فكما تضاعف فيها الحسنات تضاعف فيها السيئات وتكبر لفضيلة الزمان والمكان.(10/16)
المغالطة السادسة: الاعتماد على محبة الصالحين
من الناس من يعتمد على المغالطة السادسة وهي: مغالطة محبة الصالحين، يقول: والله يا شيخ! أنا أرتاح للصالحين وأنا أحب الصالحين، لكنها محبة جوفاء، ومحبة صورية كاذبة، إذ أنه لا ينتفع بالصالحين، ولا يقلدهم، ولا يعمل عملهم، فأعماله أعمال السيئين، ولسانه يحب الصالحين، فهذا كذاب، يقول الإمام الشافعي:
أحب الصالحين ولستُ منهم وأرجو أن أنال بهم شفاعة
فمن يقول هذا؟ الشافعي وهو من الصالحين، بل من أئمة الصالحين رضي الله عنه وأرضاه، يقول: من اشتغل عن العلم بشراء بصلة لم يتعلم.
وكان إذا أراد أن يحفظ وضع المسطرة على السطر الثاني من أجل ألا تنتقل عينه للسطر الثاني فيحفظه قبل الأول، حفظ موطأ مالك في ستة أيام، وهو أعقد كتاب من كتب الحديث، ولما رآه مالكاً قال: ما أرى إلا أن الله قد نور قلبك بالإيمان فلا تطفئه بظلمة المعاصي.
وخرج يوماً يريد أن يشتري سلعة، فمرت امرأة وكشفت الريح عن عقبها؛ لأن عباءتها طويلة والرياح هبت عليها فكشفت طرف رجلها، فنظر النظرة الأولى المسموح بها، وغض بصره، ولما رجع إلى البيت، أراد أن يقرأ ويحفظ، فإذا به لا يحفظ، فذهب إلى شيخه وكيع بن الجراح، وقال له: يا شيخ! حفظي ما عاد كالسابق، قال: أين ذهبت؟ قال: إلى السوق، قال: وماذا رأيت؟ قال: لا شيء، إلا امرأة مرت وهبت الريح فكشفت عن ساقها فرأيتها، قال: لو أنك كررتها ما حفظت حرفاً، مثل بعض طلبة العلم الآن يقول: أنا لا أحفظ القرآن.
كيف تحفظ القرآن وأنت كل يوم في سوق النساء؟ كيف تحفظ القرآن وأنت تتسمع الأغاني؟ فلا تجتمع الأغاني مع القرآن، فقال رضي الله عنه:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يؤتاه عاصي
كان يقول:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
قال له الثاني ورد عليه:
تحب الصالحين وأنت منهم وحب القوم يلحق بالجماعة
قال:
وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواءً في البضاعة
والشافعي الذي يقول هذا القول! يقول:
أحب الصالحين ولست منهم وأرجو أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواءً في البضاعة
وما عنده من المعاصي مثلما عندنا رضي الله عنه ورحمه، فعليك ألا تعمل سوءاً ثم تحب الصالحين وتقول: أنا أجلس مع الصالحين، من جلس مع قوم يقال: (قوموا مغفوراً لكم).
فمغفور لكم أي: للصالحين للتائبين، أما المقيمون على الذنب فلا؛ لأن عندك موانع.(10/17)
المغالطة السابعة: الاعتماد على الإرجاء
من المغالطات: الاعتماد على الإرجاء، بأن يقول: إنه لا يضر مع الإيمان ذنب، وما دمنا مؤمنين ونقول: لا إله إلا الله قال صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) فلا إله إلا الله مفتاح له أسنان، وأسنانه الفرائض والعبادات والعمل الصالح، فلا تنفعك لا إله إلا الله إلا إذا عملت بها، وطبقت شروطها السبعة.
أما أن تكون كلمة مجردة فلا تنفع.(10/18)
المغالطة الثامنة: الاعتماد على القدر
ثامناً: الاعتماد على القدر؛ بأن يأتي الشخص ويعصي، وإذا قلت له: لماذا تعصي الله؟ قال: ربما أني شقي، فيقول: ربما أنك سعيد، وما يدريك أنك شقي؟ هل اطلعت على اللوح المحفوظ؟ هل قرأت الكتاب الذي في الأزل؟ لماذا تحتمل أنك شقي ولم تحتمل أنك سعيد، إلا لانهزامك أمام شهوتك، ونفسك الأمارة بالسوء، وتحمل مسئولية سلوكك على قدر ربك، لا.
فليس لك علاقة بما كتب في الأزل، بل لك علاقة بالعمل، فأنت عبد خلقك الله للعمل الصالح، وبإمكانك أن تعمل العمل الصالح، وعندك يقين أن الله لا يظلم مثقال ذرة، فاعمل صالحاً والله لا يظلمك، أما أن تعمل السيئات وتحتج بالقدر، وتقول: ربما أن ربي كتبني شقياً، إذن اصفعه على وجهه، فإذا صفعته، وقال: ما لك تصفعني؟ فقل: ربما أن ربي قد قدر عليَّ ذلك، فسيرفض، ويقول: لا.
ما قدر الله الصفعة أنت الذي فعلتها، فقل: فلماذا لا ترضى بالصفعة، وترضى بالمعاصي التي تقول: إن الله قدرها عليك؟! فالإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان، لكن يجب أن نؤمن بالقدر ونعمل بما أمرنا الله به، ونفر من قدر المعاصي إلى قدر الطاعات، ومن قدر الجوع إلى قدر الشبع، ومن قدر الظمأ إلى قدر الري، ومن قدر المرض إلى قدر العلاج، وهكذا، نفر من قدر إلى قدر.
لما دخل عمر بن الخطاب الشام ومعه أبو عبيدة بن الجراح ومجموعة من الصحابة، وذهبوا إلى عمواس، وجدوا الطاعون أمامهم، فقال عمر: [لا ندخل، فقال أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله يا أمير المؤمنين! -أي: أتفر من قدر الله وهو المرض من أجل أنك تخاف على نفسك- قال: لو قالها غيرك يا أبا عبيدة! نفر من قدر الله إلى قدر الله] فهذا هو الفهم الصحيح للإسلام.
أترون هذا المؤمن الذي يقع في المعاصي ويحتج بالقدر مثله مثل: مدرس في فصل فيه ثلاثون طالباً، ودخل عليه المدير والموجه وقالوا له: كم تقدر نسبة النجاح عندك من خلال معرفتك بالطلاب؟ فقال المدرس؛ لأنه يعرف الطلاب ويعرف الفروق الفردية بينهم، قال: أتوقع أن ينجح ثمانية وعشرون طالباً، إلا طالبين لن ينجحا، فهو يعرف أن في الفصل طالبان لا يحضران درساً، ولا يصغيان لشرح، ولا يتجاوبان مع المدرس، فقام أحد الطلاب الثلاثين ووضع الدروس ولم يحضر درساً، وحين جاء آخر السنة وطلعت شهادته ساقط، وعليها عشرون دائرة حمراء قال له أبوه: لماذا سقطت؟ قال: إن الأستاذ في أول السنة حين دخل علينا المدير والموجه، قال: سوف يسقط طالبان، فربما أني أحدهما، فما رأيكم في هذا العذر؟ أهذا ينفع؟ لا ينفع عند المدير ولا عند الأب، فكيف ينفع عند الله؟! أتعمل المعاصي وتقول: ربما أن الله قدر عليَّ؟ لماذا لا تحتمل أن يكون القدر أحسن؟ أما قضية القدر فليست لك أنت، فالله هو المقدر وأنت المقدر عليك أن تسير في أمر الله.
إذا أذن المؤذن فهل تملك قدرة على الصلاة؟ نعم.
أما إذا قدر الله عليك وأصابك حادث مروري وتقطعت رجلاك، فهل يكلفك الله أن تصلي في المسجد، أم يعفيك؟ بل يعفيك، ويجوز لك عندها أن تصلي في البيت، وإذا مرضت فلم تستطع أن تقوم لتصلي، فصل قاعداً.
لكن أن تكون عندك القدرة على أن تصلي وتقعد، وعندك القدرة على أن تصلي وتنام، فعندها أنت مؤاخذ؛ لأنك تملك الوسيلة التي تستطيع أن تعمل بها العمل الصالح.
هذه أيها الإخوة! بعض المغالطات التي يغالط بعض الناس أنفسهم بها، والمغالط لنفسه هو أضيع الناس، يمكنك أن تغالط الناس لكن أن تغالط نفسك، فلحساب من؟ لحساب الشيطان الرجيم.
فيا إخوتي في الله! عوداً على بدء، أكرر وأقول: لا بد من الإيمان والعمل الصالح، كمؤهلات نعتمد عليها لترشيحنا إلى أن ننال رحمة الله عز وجل، ولن ندخل الجنة بالعمل؛ لأنه لا قيمة لعمل أمام جزاء لا يعلمه إلا الله، أي: مهما عملت من عمل فهل يساوي شيئاً مما في الجنة مما أعده الله لك؟ لا.
لكنه مؤهل وسبب، وإلا فالدخول برحمة الله عز وجل.
فلنحذر -أيها الإخوان- من الاتكال على المغالطات، ولنتق الله في أنفسنا، ونتوب إلى الله من الذنوب صغيرها وكبيرها، ودقيقها وجليلها، وأن نحافظ على الطاعات، وأن نصبر -أيها الإخوة- فإنما هي أيام معدودة، وساعات محدودة، وسنين معينة، وسوف ننتقل منها إلى الدار الآخرة، وهناك سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
ووصية أقولها للإخوة الذين يسألون ويقولون: وكيف نواجه المعاصي؟ كيف نواجه هذه الشهوات العارمة، وهذه السيول الجارفة من الذنوب؟ أقول واجهوها بأمرين: الأمر الأول: الصبر.
والأمر الثاني: اليقين.
فتصبر عن الزنا وعندك يقين أن الله سيعوضك في الجنة بالحور العين، وتصبر عن الغناء وعندك يقين أن الله سيعوضك بأن تسمع غناء الحور في الجنة، وتسمع خطاب رب العالمين، وتصبر عن النظر المحرم في الدنيا وعندك يقين أن الله سوف يمتعك بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة، وتصبر على الصلاة، والطاعة وعندك يقين أن الله سيثيبك، يقول الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] يقول ابن تيمية رحمه الله: لا تنال الإمامة في الدين إلا بالصبر واليقين.
هذا وأسأل الله في الختام أن يوفقني وإياكم إلى ما يحبه ويرضاه.(10/19)
الأسئلة(10/20)
نصيحة لأصحاب الدشوش
السؤال
يتسابق الناس في هذه الأيام لتركيب هوائيات الإرسال المباشر مما يمكنهم من استقبال عشرات المحطات العالمية بما فيها من شرور، فما نصيحتكم؟
الجواب
قبل أن أنصح أقول: هذه الهوائيات أو هذه الصحون، هي صحن الشيطان، وهذه مائدة إبليس، فالدش يصب ماء على رأسك وأنت تغتسل، لكن هذا يصب ناراً ويصب شراً وعذاباً ولظى على رأسك وأنت تركبه فوق بيتك، من أجل أن يصب كل ما هب ودب على أسرتك وعلى أولادك، فأسأل كل من ركبه: هل تجلب هذه الهوائيات خيراً أو شراً؟ بل شراً محضاً، وهل ينقصنا الشر حتى نقوي أجهزة الشر من أجل أن نجلب لنا مزيداً من الشر؟ هل هناك عاقل يركب فوق رأسه شيء يصب عليه الشر؟ ففيها أفلام جنسية، ومن أين تأتي هذه الأفلام الجنسية؟ من بلاد كافرة، بلاد لا أخلاق لها ولا دين ولا مبادئ ولا عقائد، يعيشون كما تعيش البهائم، يتسافدون كما تتسافد الحمر، يركب الرجل الأنثى في الشارع، وينقلون هذا في أفلام وتنشر عبر الهوائيات، وأنت تركب هذا الهوائي من أجل أن يربي ولدك وابنتك، تربية جنسية.
وهناك إذاعات تنصير تبث مبادئ التنصير باللغة العربية عبر الأقمار، من أجل أن تعرف دين النصارى وتفكر في أن تغير دينك، وتزعزع عقيدة التوحيد في قلبك.
وهناك أفلام جرائم، تعلم الولد كيف يحترف الجريمة، وأفلام بوليسية سيئة.
فيذهب الرجل ويستدين المال إن لم يكن عنده ويركب هذا الهوائي فوق بيته، وقيل: إن هناك من يركب هوائيين، وشخص قال: إنه رأى ستة هوائيات، حتى لا يترك في الأجواء موجة شر إلا وحولها على بيته.
فهل يعمل هذا عاقل أيها الإخوان؟! أنا أقول: لا تبرأ ذمتك -أيها الإنسان- بهذا العمل، إنك تدمر دينك ونفسك وعقيدتك، وأسرتك وأولادك، وسوف تعض أصابع الندم: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52] إن كنت قد فعلت ذلك فسارع الآن وأزله، وإن كنت لم تعمل فاسأل الله أن يحفظك وأن يثبتك، واعتصم بكتاب الله، يقول الله: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:43 - 44].(10/21)
حكم السفر إلى بلاد الكفار للسياحة
السؤال
في هذه الأيام، أيام العطلة يسافر الكثير إلى بلاد الكفر، فهل من كلمة لمن أراد السفر؟
الجواب
العطلة نعمة، يقول عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) فنحن مغبونون في هذه النعمة: عافية، وشباب، ومدرسون، وطلاب، وثانويات، وجامعات، وصحة، وفراغ ثلاثة أشهر، كيف تقضي هذه الأشهر الثلاثة؟ تقضيها بما يرضي الله، إما أن تلتحق بالمراكز الصيفية حتى تنتفع بما يلقى فيها من خير، تمارس فيها أنشطة، وأعمالاً صالحة، أو تذهب إلى الحج والعمرة، أو تزور رحمك إذا كان في الجنوب أو الشمال أو الرياض أو أي منطقة، أو تمارس بعض الأعمال السياحية المباحة، كزيارة بعض المناطق الطيبة والجميلة في بلادك، أما أن تحجز وتسافر من أجل أن تفسد خارج البلد، وترجع وقد ضيعت دينك فهذه مصيبة.
فنحن نحذر كل إنسان من أن يسافر، فهناك فتن صانك الله منها فلماذا تراها؟ ولماذا تترك ولدك وامرأتك وابنتك يرونها، وتحجز لأهلك كلهم؟ فإذا كان عندك أربعين أو خمسين ألفاً فأرسلها لإخوانك في البوسنة والهرسك الذين يموتون جوعاً الآن، أو أرسلها إلى إخوانك المجاهدين الأفغان الذين يحتاجون إلى كل ريال بعد قيام دولة الإسلام عندهم، أو استأجر لك شقة عند الحرم واجلس صلِّ الصلوات الخمس في الحرم، فالشقة لمدة عشرة أيام أو عشرين يوماً تأخذها بخمسة آلاف أو ستة آلاف ريال، وأدرك كل تكبيرة في الحرم، وفي الصف الأول، أو الصف الثاني، فهي لك بمائة ألف تكبيرة، وهذا أحسن من أن تكون على شواطئ، وأنهار، و (بلاجات) ومسارح، ومراقص، ومخامر وفساد، فلا ترجع إلا وقد صب الله عليك من الغضب مثل الجبال الرواسي، الله ينعم عليك وأنت تحارب الله بنعمه، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: (إني أنا والجن والإنس في خبر عظيم، أخلقهم ويعبدون غيري، وأرزقهم ويشكرون سواي، خيري إليهم نازل، وشرهم إليَّ صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إليَّ بالمعاصي).
أترون أن النعمة التي نحن فيها تستمر مع المعاصي؟ والله لا تستمر، وعندي من التاريخ شاهد على هذا اليمين، وعندي من القرآن شاهد، يقول الله عز وجل: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] ويقول في قصة سبأ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} [سبأ:15] يقول لهم الناصحون: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15] ونحن نقول لأهل هذه البلاد: كلوا من رزق ربكم واشكروا له.
تدخل السوق فتملأ سيارتك، من كل ثمار الدنيا، وتدخل (السوبر ماركت) تملأ العربية من كل ثمار وملذات ومتاع الدنيا، وتعطيه ورقة، كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة، هل في الدنيا بلد أطيب من هذه البلاد؟ ورب غفور يغفر الذنب العظيم، قال الله: {فَأَعْرَضُوا} [سبأ:16] أي: رفضوا وركبوا رءوسهم، حجز وسافر، وزنا، وسكر، {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ:16] فاكتسحهم واقتلع بلادهم وحروثهم وزراعتهم من أرضها، ثم قال: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ} [سبأ:16] بدل الجنان الوارفة والثمار الدانية جنتين، ماذا فيهما؟ {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:16] (خمط) أي: الشوك، (وأثل) وهو الشجر الذي ترونه فليس له ثمر، (وشيءٍ من سدر قليل) أي: النبق، فهذا هو الفاكهة، فليس عندنا برتقال أبو سرة، ولا تفاح أبو لمعة، ولا موز أبو نقطة، والله لا نعرف هذه، إلا فيما بعد حين فتح الله الخير عندنا.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/22)
عالم الروح
بدأ الشيخ محاضرته بالكلام عن الأعمال الصالحة وأنها سبب لاكتساب النور في الآخرة.
ثم تحدث عن أحوال الموتى، وحقيقة شعور الأحياء بأحوالهم في القبور، وكذلك ظهور أمارات العذاب على الميت بعد الموت وعند الدفن.
وكذلك حقيقة تزاور الأموات بأرواحهم مع أرواح الأحياء، مبيناً حقيقة استئناس الميت بالأحياء.(11/1)
العمل الصالح سبب اكتساب النور في الآخرة
الحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار، ونعوذ بالله من صباح إلى النار، ومن ليلةٍ إلى النار، أو في النار، أو ساعة في النار، أو لحظة في النار؛ فإن أجسامنا لا تقوى على النار، وأحوالنا لا تتحمل ظلمات النار ولا ظلمة القبور، انظروا كيف ضاقت أخلاقنا، وكيف تعطلت جوارحنا حينما انطفأت عنا (الكهرباء) لحظةً واحدة، ونحن نعلم يقيناً أنها ستعود؛ لأن ظاهرة الانطفاءات ظاهرة طبيعية في كل مناسبة، وأيضاً على يقين أنه إن لم تشعل (الكهرباء) فلدينا وسائل وبدائل كثيرة نستطيع بواسطتها أن نرى وأن نستفيد من حياتنا.
لكن ما ظنكم فيمن يوضع في القبر وتحتويه الظلمات من كل جانب ولا يعلم من أين يأتيه النور؟ لأن نور القبور إنما يكتسب من سلوك العبد في هذه الدنيا، فمن كان في هذه الدنيا على النور مكنه الله عز وجل من العيش في القبر على النور، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] وقال عز وجل: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ} [الحديد:12] لأنهم مؤمنون وأهل عقيدة، ودين، والتزام، وانتماء، وهداية، وانتظام في سلك المؤمنين، قال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12] فما هو النور الذي يسعى معهم؟ إنه نور العمل الصالح، والإيمان والهداية يسعى أمامهم وعن أيمانهم فتقول لهم الملائكة: {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} [الحديد:12 - 13] أي: أهل الظلمة الذين عاشوا في الدنيا في ظلمة الكفر، والنفاق، والأهواء، والشهوات، والفتن، عاشوا بعيداً عن الهدى وبعيداً عن الرسالات، فعاشوا مع الشيطان في ظلماته؛ لأن الله عز وجل يقول: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] فوحد النور وجمع الظلمات وفي أول سورة الأنعام يقول ربنا عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] فالظلمات متعددة والنور واحد، وهو نور الله، ونور الإيمان واحد يعيش عليه المؤمن.
أما إذا حرم نفسه من النور؛ فلن يعيش في ظلمة واحدة، بل تتوارد عليه الظلمات وتحتويه من كل جانب: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40] كما مثل الله عز وجل بذلك المثل في سورة النور فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ} [النور:39 - 40] أي: أعمالهم إما أن تكون كالسراب وهو العمل السيئ الذي كانوا يتصورون أنه صالح في أذهانهم لكن لما لم يكن خالصاً لله عز وجل قدموا على الله فلم يجدوا شيئاً: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور:39] وهناك أعمال سيئة أخرى من الكفر قال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} [النور:40] أي: هذا العمل إما كسراب أو كظلماتٍ {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور:40] والبحر اللجي: هو البحر العميق، والمحيطات الكبيرة التي تزيد أعماقها على ثلاثة آلاف متر.
هذه الحقيقة العلمية التي تحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن لم تثبت للناس إلا في هذا الزمن بعد صنع الغواصات الذرية التي تستطيع أن تغوص في أعماق المحيطات، فاكتشف بواسطة الأجهزة التي رصدت حركة الموج أن في تلك المحيطات العميقة أمواجاً، وليس موجاً واحداً.
فقد كان الناس يتصورون أنه لا يوجد في البحر إلا الموج الذي على سطح البحر والذي يتكون نتيجة تأثر البحر وسطحه بالعوامل الجوية.
لكن اكتشف أن في أعماق المحيطات أمواجاً ما كانت تعلم قبل هذا الزمان، والذي تحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من ربه عز وجل بالرغم من أنه لم يركب البحر، ولم يعرف البحر صلوات الله وسلامه عليه، ولكنه يتحدث عن أخص القوانين وأدق النظم التي تجري في البحار العظيمة وكأنه قد عايشها صلوات الله وسلامه عليه: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور:40] يعني: عميق {يَغْشَاهُ مَوْجٌ} [النور:40] أي: هذا البحر يغشاه موج {مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} [النور:40] وهذه الأمواج تكون موانع لاختراق الأضواء: {مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} [النور:40] يحول بين الشمس وبين البحر: {مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
فمن أراد النور في هذه الدنيا والآخرة فعليه بالإيمان والعمل الصالح، ومن عاش في نور مادي، وظلمة معنوية وروحية كافرة والعياذ بالله؛ فإنه وإن تمتع بهذا النور المادي فسوف يشقى -والعياذ بالله- بظلمة القلب والوجه في الدنيا، ثم ظلمة القبر، ثم ظلمة الصراط، ثم في دار الظلمات أجارنا الله وإياكم منها وجميع إخواننا المؤمنين إنه على كل شيءٍ قدير.(11/2)
حقيقة شعور الأحياء بحال الأموات
سبق الكلام أيها الإخوة! عن عذاب القبر وهل يعرفه أحد من البشر وقلنا: إن الله عز وجل قد أعطى لرسوله صلى الله عليه وسلم قدرةً على سماع المعذبين في قبورهم وثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة التي سقناها في الليلة الماضية، لكن هناك أسئلة، منها: هل يسمع عذاب أو نعيم القبر أحدٌ من الناس غير الأنبياء والرسل؟ هذا ما تحدث عنه أهل العلم في كتبهم فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الرابع والعشرين من فتاواه وفي المجلد الخامس من الفتاوى يقول: لم يزل الناس يتحدثون عن سماعهم أو رؤيتهم للمعذبين في قبورهم.
يعني في حالة اليقظة يتحدثون عن سماعهم وعن رؤيتهم للذين يعذبون في قبورهم أو ينعمون في قبورهم، ومن هؤلاء ثقاة أعلام لا مطعن في دينهم ولا شك في أمانتهم، ثم يقول: قد يكشف لكثيرٍ من أبناء زماننا هذا العذاب أو هذا النعيم في اليقظة وفي المنام ويعلمون ذلك ويتحققون منه وعندنا من ذلك أمور كثيرة.
يقول رحمه الله: عنده من الأخبار والمشاهدات التي نقلت عن الثقاة الذين لا يشك في دينهم وأمانتهم عنده من ذلك أخبارٌ كثيرة، وهذا حق فإنه في كل زمانٍ وفي كل مكان يكشف الله تبارك وتعالى لأفرادٍ من الأمة شيئاً مما يحدث لأصحاب القبور من نعيم أو عذاب للزيادة في إقامة الحجة ولهداية، من شاء الله هدايته: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] وقد سبق أن ذكرت في مناسبة في غير هذا المسجد قصتين مما كشف لأصحاب هذه الدنيا من عذاب القبر ومن نعيمه، وهاتان القصتان سمعتهما بأذني ممن حضرهما وهو ثبتٌ صادق لا أشك في دينه وأمانته، وأعرفه باسمه وعمله ودراسته وقد حضر القصة وعاصرها: فالأول هو الشيخ صالح الراجحي وكان يعمل مع شركة ابن لادن، وكان الرجل صاحب القصة -وهو عم الشاب- يعمل عنده سائق جرافه، وكان طالب علم مستفيد، وكان يحضر معنا كل الندوات.
والقصة لشابٍ أكرمه الله عز وجل بالجنة ورضي عنه وأدخله في رحمته، وحدثت في القصيم والذي يحدثني بها هو الذي حضر القصة وشم الرائحة بأنفه، وكان مقيماً في أثناء الحادث وملخص القصة: أن أحد الشباب الذين هداهم الله ونشئوا في طاعة الله، فلا يعرف إلا الله والقرآن والمسجد والصلاة، حتى ذكر عنه أنه لم يُر مرةً واحدة يلعب مع صبيٍ في الشارع، وإنما كان طريقه من المسجد إلى البيت، وشاء الله عز وجل أن يبلغ مبلغ الرجال وأن يكون قد حفظ أكثر كتب أهل العلم بعد حفظه لكتاب الله عز وجل، وبعد ذلك مرض، وأشرف عمه -لأن والده متوفى- على تمريضه، ومكث مريضاً أسبوعاً ثم بعد ذلك توفي وقدم إلى رحمة الله، وكانت وفاته قبل صلاة الظهر، وأراد عمه أن يدعو الناس للمشاركة في دفنه ولكن الجو كان حاراً والناس غير مجتمعين في مكان معين، فرأى أن من الأنسب أن يؤجل الدفن حتى يجتمع الناس لصلاة الظهر ثم يخبرهم، فغطى الولد بغطاء، ونام عند رأسه من أجل أن يستريح؛ لأنه كان قد تعب خلال تمريضه في ساعات المرض، ويحدث عن نفسه فيقول: بينما هو في المنام إذ أقبل عليه مجموعة من النساء علم من رؤيتهن ومن جمالهن وشكلهن أنهن لسن من نساء الدنيا، وإذا بهن يسلمن عليه قائلات: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فرد عليهن السلام، فقلن له: نسألك بالله يا شيخ! إلا عجلت علينا بهذا الشاب، فقال: من أنتن؟ قلن: نحن زوجاته من الحور العين في الجنة، ونحن في انتظاره على أحر من الجمر وأنت تنام! ففزع الرجل من نومه وقام فرحاً؛ لأنه اعتقد أن من هؤلاء الحور في انتظاره فما مات، بل هو يزف ولكن لا يزف إلى زوجةٍ من نساء الدنيا وإنما يزف إلى زوجاتٍ من الحور العين اللائي قال الله فيهن: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:35 - 38] نسأل الله وإياكم من فضله.
فقام الرجل ودعا الناس وسارع في تشييع الجنازة ودفنها، وكل من دخل الغرفة من الناس يقول: يا شيخ! عندك رائحة غريبة، رائحة كأطيب ريح وجد على وجه الأرض، ريح العود لكن ليس ريح الدنيا، فكان يسكت ولا يحدث إلى أن مرت عليه قرابة الشهرين فحدث بالخبر فانقطعت الرائحة من ذلك المكان.
فهذه قصة لأهل الإيمان اللهم اجعلنا منهم وثبتنا على الإيمان حتى نلقاك.
أما القصة الأخرى فهي لشابٍ مات على الكفر والضلال والعياذ بالله بشهادة أهله ووالده، وينقلها لنا أحد الإخوة الذين أعرفهم وزاملتهم في شركة كهرباء الجنوب، واسمه المهندس علي غرم الشهري.
يقول: كنا في خروج للدعوة في مدينة الزرقاء في الأردن، وصلينا الجمعة في أحد مساجدها، وبعد صلاة الجمعة كان معنا مجموعة من طلبة العلم منهم عالم من الكويت، وبينما نحن في المسجد وقد انصرف الناس إذا بالناس يدخلون من أبواب المسجد بشكلٍ غير طبيعي وهم يصيحون أين الشيخ؟ أين الشيخ؟ ثم جاءوا إلى الشيخ الكويتي فقالوا له: يا شيخ! يوجد شاب توفي صباح هذا اليوم عن طريق حادث مروري دهسته سيارة من سيارات الشحن، ولما حضرنا قبره وجئنا ووضعناه في القبر فوجئنا بوجود ثعبان عظيم في القبر، فنحن الآن لم نضع الشاب ولا ندري كيف نتصرف، يقول الأخ علي: فقام الشيخ وقمنا كلنا معه، وذهبنا إلى المقبرة ووجدنا هذا الثعبان في وسط القبر، فقلت له: كم حجمه، قال: كان حجمه في غلظ الماسورة بوصتان وهو متلوٍ ورأسه من الداخل، وذنبه من الخارج، رافعاً رأسه وفاتحاً فمه مخرجاً لسانه وعينه بارزة وينظر في الناس، يقول: فقال الشيخ: دعوه واحفروا في مكان آخر، يقول: فذهبنا إلى مكانٍ آخر على بعد مائتين متر فحفرنا قبراً، وبينما نحن في نهايته إذا بالثعبان يخرج من القبر الثاني، فقال الشيخ: انظروا المكان الأول، فذهبنا للأول فلم نجده هناك فقد اخترق الأرض وطلع من القبر الثاني، فقال الشيخ: لو حفرنا ثالثاً ورابعاً فسيخرج منه فلا حيلة إلا أن نخرجه -فحاولوا إخراجه- يقول: فجئنا بعصي وأسياخ وحملناه وأخرجناه من القبر، فجلس على شفير القبر، يقول: والناس كلهم ينظرون، وأصيب أكثر الناس بإغماء وحملتهم سيارات الإسعاف، وحضر رجال الأمن ومنعوا الاقتراب من القبر إلا العلماء وذوي الميت، يقول: وبينما جيء بالجنازة وأدخلت في القبر ووضعت من قبل أهل الميت ونحن واقفون إذا بذلك الثعبان يتحرك حركةً عظيمة، ثار على إثرها الغبار وملأ أرجاء المكان، يقول: ثم دخل من أسفل القبر ولما تحرك فرَّ كل من حول القبر، والذين بداخل القبر صعدوا وفروا من الخوف، يقول: فالتوى عليه بدءاً من أرجله حتى وصل إلى رأسه، ثم اشتد عليه فحطمه يقول: والله إننا كنا نسمع تحطيم عظامه كما تحطم حزمة الكراث، يقول: ثم لما هدأت الغبرة وسكن الأمر جئنا ننظر، وإذا به على هذا الوضع متلو عليه، يقول: فما استطعنا أن نفعل شيئاً قال الشيخ: ادفنوه، قال: فوضعنا اللبنات ودفناه وذهبنا عنه وعدنا إلى المسجد ثم ذهبنا إلى بيت العزاء لنعزي ونسأل عن حاله؟ فسألنا والد الشاب، قلنا: كيف كان ولدك، وماذا عمل؟! قال: كان طيباً وطائعاً وولداً جيداً، لكنه كان لا يصلي، مطلقاً.
فهذا والعياذ بالله مصيره المحتوم؛ لأنه كما تعرفون أن ترك الصلاة كفرٌ والعياذ بالله.
فهذه الآيات حدثت في زماننا هذا وأدركناها وفي كل بيئة وفي كل بقعة تقع آيات ودلالات لتدعيم قضية الإيمان بعذاب القبر؛ حتى يهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.(11/3)
حقيقة ظهور أمارات العذاب على الميت
قال الإمام ابن تيمية في مكان آخر في المجلد الخامس وهو يريد أن يدلل على إمكانية رؤية الناس لعذاب القبر ولو لم يكونوا أنبياء ولا رسلاً، يقول: إذا علم وعرف أن النائم يكون نائماً وتقعد روحه وتقوم وتمشي وتذهب وتتكلم وتفعل أفعالاً وأموراً بباطن بدنه مع روحه ويحصل لبدنه ولروحه نعيمٌ أو عذاب مع أن جسده مضطجع وعينيه مغمضتان وفمه مطبق وأعضاؤه ساكنة، وقد يتحرك لقوة الحركة الداخلية في روحه وقد يقوم ويمشي -بعض النائمين يقوم ويمشي ويذهب يفتح الباب ويفعل حركات وهو لا يدري؛ لأن روحه في حلم فتستعمل جسده، فتجده يمد يديه، وما الذي يمده وهو نائم؟ قوة الحركة الداخلية لروحه أثرت حتى على حركات ظاهره- فيصيح وربما يتكلم لقوة الأمر الباطني في روحه، فكان هذا مما يعتبر به في أمر الميت في قبره، فإن روح الميت تقعد وتسأل وتنعم أو تعذب وتصيح وذلك متصلٌ ببدنه مع كونه مضطجعاً في قبره وقد يقوى ذلك حتى يظهر ذلك في بدنه وقد يرى خارجاً من قبره، وقد رئي كثير من الأموات استطاع أن يخرج من قبره وأوصى بوصايا ورجع ودخل في قبره، وقد يرى خارجاً من قبره والعذاب مشتعل به، وملائكة العذاب توثقه فيتحرك بدنه ويمشي ويخرج من قبره، وقد سمع غير واحدٍ أصوات المعذبين في قبورهم، وقد شوهد من يخرج من قبره وهو معذب ومن يقعد بدنه أيضاً إذا قوي الأمر، لكن ليس هذا لازماً في حق كل ميت كما أن قعود بدن النائم لمن يراه ليس لازماً في كل نائم، يعني: ليس كل ميت يعذب، يراه الناس، كما أنه ليس كل نائم يرى رؤيا نعيم أو عذاب، يسمعه الناس، إنما يكون ذلك بقوة التأثير.
وقد ذكر الشيخ حمود بن عبد الله التويجري في كتابه الدلائل الواضحات في تحريم المسكرات والمفترات كثيراً من القصص الثابتة عنده بسندها القوي، حتى أنه شوهد وحتى أصبح كالمتواتر أن كثيراً ممن يموت وهو مدمن للدخان تلف رقبته ويُلْفَتُ وجهه عن القبلة إلى الخلف، وبينما هم يردونه ترى رأسه يُلْفَتُ عن القبلة ثانية، وذكر قصصاً كثيرة جداً من هذا الجانب ممن يعرف، وأذكر أنه حدثنا أحد الإخوة وهو الشيخ أحمد بن سامر رحمة الله تعالى عليه، وهو من الدعاة إلى الله وقد توفي في حادث مروري في خميس مشيط غفر الله له وأسكنه فسيح جناته، يحدثنا هو بنفسه يقول: حضرت جنازة رجل في تهامة يقول: فلما وضعناه في القبر وكان من المصلين، لكنه كان مبتلى بالدخان وبالشمة، يقول: فمنذ أن وضعناه في القبر كشفنا عن وجهه وإذا برأسه يلتف مستدبراً القبلة، يقول: فأرجعته فلما أطلقته عاد كما كان، ثم أرجعته فالتف، يقول: فما استطعت أن أفعل شيئاً، فتركناه والعياذ بالله على هذا الوضع.
وذكر الشيخ التويجري قصة ثبتت عنده، وحصلت في نجد يقول: إن مجموعة ممن كانوا مستعملين على أمر الزكاة، أي: استعملهم ولي الأمر للذهاب والتطواف على البادية من أجل أن يأخذوا زكاة المواشي، يقول: وفي طريقهم حصل لواحد منهم مرض وتوفي وكان هذا المسكين المتوفى مبتلى بالدخان ولكنه لم يكن يشرب مع الجماعة؛ لأنهم كانوا ينكرونه، وقد كان في الماضي أكبر منكر في نجد فلا أحد كان يستطيع أن يشرب الدخان، فهذا الرجل كان يستخفي به ولكن بعضهم كان يعلم أنه يدخن، رغم أنه لم يكن يعلن بالدخان أمامهم، فلما توفي أرادوا أن يدفنوه، ولكن لم يكن معهم ما يحفرون به إلا عصيهم فجاءوا إلى رجلٍ من البادية وقالوا: توفي أخونا وليس عندنا شيء نحفر به، فنريد منك أن تعطينا معولاً أو فأساً نحفر به ونرجعه، قال لهم: أنا ما عندي إلا فأسي وهذا الفأس غالٍ جداً فأنا أقطع به حطبي وأعلف به لإبلي، وأنا أخاف أن أعطيكم إياه فتضيعونه عليَّ وأنا لست في المدينة لأذهب وأشتري بدله، قالوا: لن نضيعه أبداً، قال: أريد أن تعطوني رهناً، فرهنوا عنده بندقية، قال: إن بندقيتكم هذه لن تقطع لي حطبي ولن تنفعني، فقط أريدها رهناً لكي تعيدوا لي الفأس، قالوا: أبشر، فذهبوا وحفروا القبر تحت حجر ولما جاءوا إلى اللحد أرادوا أن يلحدوا فما استطاعوا أن يلحدوا والفأس في العصا، فنزعوا العصا من الفأس وبدءوا يحفرون بالفأس بدون عصا حتى انتهوا من القبر، فلما انتهوا -والإنسان بطبعه إذا انتهت حاجته إلى شيء نسيه، مثلك الآن إذا حصل لسيارتك مشكلة؛ تأخذ المفك لتصلحها فإذا زالت نسيت المفك؛ لأنك كنت تهتم بالمفك حين كنت محتاجاً إليه، لكن لما انتهت حاجتك نسيته، فهؤلاء لما انتهت حاجتهم نسوا الفأس في القبر ودفنوا صاحبهم- ولما وقفوا وإذا بالعصا ما فيها فأس، فقالوا لبعضهم: ماذا نصنع؟ قال بعضهم: نفتح القبر ونخرجه فالبدوي لا يريد إلا فأسه، قال بعضهم: الفأس قيمته عشرة ريالات فلماذا نفتح على أخينا في قبره وهو مستور فيه الآن ولا ندري ماذا يجري عليه.
فأخذوا أنفسهم وراحوا إلى البدوي وحين نظر إلى العصا وليس فيها فأس -وتعرفون أن الأعراب جفاة ومن بدا جفا- تصور أنهم يمكرون به، وأنهم يخدعونه فما تردد في أن يقوم ويأخذ البندقية وينتصب لهم قائلاً: أعلام تريدون أن تخدعوني، فوالله لا يكون ذلك، فإما فأس وإلا رءوسكم، قالوا: لا حاجة لك برءوسنا وفأسك موجود ولكن نحن نسيناه في وسط القبر، فدفن مع الميت، قال: ليس لي شأن.
يقول: فذهبوا من عنده وجاءوا واضطروا إلى فتح القبر وفتحوا القبر وهالهم ما رأوا إذ وجدوا أن صاحبهم هذا قد غُلّت يداه ورجلاه وعنقه في حلقة الفأس ورأس الفأس من عند فمه، وقد وسعت الحلقة حتى انتظمت رجليه ويديه ورقبته فلما رأوه راعهم ذلك وجاءوا بالبدوي، وقالوا: تعال انظر فأسك، ولما رأى فأسه قال: آمنت بالله! هيا اذهبوا، فأعطاهم بندقيتهم ودفنوا القبر وذهبوا.
فهذه القصة ذكرها الشيخ حمود التويجري في كتابه الدلائل الواضحات في تحريم المسكرات والمفترات، وغير ذلك كثير، يقول: لكن لا يلزم أن يكون هذا الأمر بحق كل ميت، كما لا يلزم أن يكون القعود والحركة والاستيقاظ في حق بدن كل نائم، بل هو بحسب قوة الأمر ودواعيه.(11/4)
حقيقة تزاور أرواح الموتى، ومعرفتهم بأحوال الأحياء
هل يمكن أن يسمع الإنسان في اليقظة أو يرى نعيماً أو عذاباً؟ سمعتم ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، أما السؤال الثاني، فهل تتلاقى أرواح الأموات ويتزاورون في قبورهم؟ أو يعرفون هم في قبورهم شيئاً مما يدور في هذه الدنيا بعد وفاتهم؟ تكلم أهل العلم في هذا كثيراً جداً يقول: ابن عبد البر ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مسلمٍ يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام) فهذا نصٌ واضحٌ في أنه يعرف من يعرفه في الدنيا ويرد عليه السلام.
وثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوهٍ متعددة أنه أمر بقتلى بدر بعد انتهاء المعركة فألقوا في قليب -أي: في حفرة- ثم جاء حتى وقف على رءوسهم وناداهم بأسمائهم: (يا فلان بن فلان! يا فلان بن فلان! يا فلان بن فلان! -والصحابة واقفون- هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً) قال له عمر: (يا رسول الله! أتخاطب أقواماً قد جيفوا؟ -أي: صاروا جيفاً قد انتفخت- فقال عليه الصلاة والسلام: والذي بعثني بالحق ما أنتم أسمع لما أقول منهم) يقول هم يسمعون أكثر منكم: (والذي بعثني بالحق ما أنتم أسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون جوابا) فهذا نصٌ صريحٌ صحيح في أنهم يسمعون في قبورهم ما يدور في هذه الحياة الدنيا.
وثبت أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين إذا انصرفوا عنه، وقد شرع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مررنا على القبور أن نسلم على أهلها سلام من نخاطب فيقول: (قولوا: السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين) وهذا خطابٌ لمن يسمع ويعقل، إذ لو كانوا لا يسمعون؛ لما كنا نستطيع أن نقول: السلام عليكم وهم لا يسمعون، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة مخاطبة المعدوم أو مخاطبة الجماد، وهذا محال والسلف كلهم مجمعون على هذا وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي ويستبشر به.
يقول ابن القيم رحمه الله: حدثنا محمد بن الحسين قال حدثني رجل من آل عاصم الجحدري - عاصم الجحدري تابعي من الصالحين- قال: رأيت عاصماً الجحدري في منامي بعد موته بسنتين، فقلت له: أليس قد مت؟! قال: بلى، قال: فأين أنت؟! قال: أنا والله في روضة من رياض الجنة، أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى أبي بكر المزني فنتلقى أخباركم، قال: قلت: أجسادكم أم أرواحكم؟! قال: هيهات بليت الأجساد وإنما تتلاقى الأرواح، قال: قلت: فهل تعلمون بزيارتنا إياكم؟! قال: نعم.
نعلم بها عشية الجمعة كله، ويوم السبت في الليل إلى طلوع الشمس قال: قلت: فكيف ذلك من بين سائر الأيام؟! قال: بفضل يوم الجمعة وعظمته عند الله عز وجل.
وحدثنا محمد بن الحسين أيضاً عن حسن القصاب قال: كنت أغدو مع محمد بن واسع، ومحمد بن واسع رحمة الله تعالى عليه من أعلام التابعين، عالم ربانيٌ حدث عن أنس أي: أدرك أنساً وحدث عنه، وهو ثقة وعابد وصالح، لم يُر ولم يعلم أخشع لله منه، وكان الناس إذا وجدوا في قلوبهم قسوةً جاءوا إليه فنظروا إلى وجهه فتلين قلوبهم لذكر الله، فالرجل تذكر رؤيته بالله من خشوعه وخضوعه وخوفه من الله عز وجل، أوصى رجلاً فقال: [كن ملكاً في الدنيا وملكاً في الآخرة، قال: كيف ذلك؟! قال: ازهد في الدنيا، تكن ملكاً من ملوك الدنيا وأيضاً من ملوك الآخرة]، وكان من كثرة عبادته متواضعاً ومزرياً بنفسه يقول لأصحابه: [والله لو أن للذنوب ريحاً ما جلس إلي أحد]، فمع كثرة عبادته كان يحتقر نفسه، يقول: والله لو أن للذنوب ريحاً ما جلس بجواري أحد؛ لكن نحن اليوم لا إله إلا الله!! الإنسان منا مركب من رأسه إلى قدميه ذنوباً ويقول: أنا أحسن من غيري! فيزكي نفسه، وهذا هو الموت والبلاء.
فهذا من أعبد الناس ويحتقر نفسه ويقول: لو أن هذه الذنوب لها رائحة ما كان يستطيع أحد أن يجلس إليه.
وكان يقول: [إذا أقبل العبد بقلبه على الله أقبل الله بقلوب العباد عليه] وكان يقول: [يكفي من الدعاء مع الخوف والورع العمل اليسير]، يعني: عملك لو كان يسيراً، ولكن عندك ورع وخوف وزهد وأيضاً عندك دعاء ولجوء، فيكفي هذا ليكون سبباً من أسباب النجاة.
وكان شجاعاً واشترك في معركة مع قتيبة بن مسلم في قتال الروم ولما سأل عنه قتيبة قال: ما صنع محمد بن واسع؟ قيل: هو ذاك رافع إصبعه إلى السماء يدعو الله، الناس يقاتلون بقوتهم وهو يقاتل بقوتين، فيقاتل بقوته المادية، وبقوة الله العظيمة، فقال قتيبة بن مسلم: والذي نفسي بيده لتلك الإصبع أعظم عندي من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير، يعني: أن هذه الإصبع سبب للنصر بإذن الله أكثر من يد مائة ألف شاب طرير ومائة ألف سيف شهير، وهذا من تمام اعتمادهم رضي الله عنهم على قوة الله عز وجل؛ لأنهم يعلمون حقيقةً أن النصر إنما يكون من الله عز وجل.
قيل لـ محمد بن واسع يوماً: كيف أصبحت؟ قال: [أصبحت قريباً أجلي، بعيداً أملي، سيئاً عملي].
يقول: قريباً أجلي أي: سأموت قريباً، بعيداً أملي، أي أن آمالي طويلة عريضة.
سيئاً عملي، فهذا شعوره وهو يقوم الليل كله، ويكثر من صيام الدهر، لكن إذا سُئلنا نحن كيف أصبحنا؟ نقول: إننا أحسن من غيرنا! طيبة أعمالنا، قريبة آمالنا، بعيدة آجالنا، أي: العكس ولا حول ولا قوة إلا بالله! قال له الملك ابن المنذر: وقد ولاه القضاء، فاعتذر ثم كرر عليه يريد أن يوليه القضاء فاعتذر قال: والله لتلين الأمر -أي: القضاء- أو لأجلدنك ثلاثمائة سوط، قال: [افعل فإن ذل الدنيا خير من ذل الآخرة]، يقول: اضربني فأنا بالضرب أصير ذليلاً لكن ذلي في الدنيا أهون من أن أكون ذليلاً في الآخرة إذا وليت القضاء ثم لم أعدل؛ لأن القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة، فالغالبية في النار، أي: من كل ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة، فمن هو الذي إلى الجنة؟ قاضٍ عرف الحق فحكم به، فهذا الذي إلى الجنة، وقاضٍ عرف الحق ولم يحكم به فإلى النار، وقاضٍ لم يعرف الحق فحكم بغير حق ففي النار ولا حول ولا قوة إلا بالله! فيقول ابن القيم حدثنا محمد بن الحسين عن حسن القصاب قال: كنت أغدو مع محمد بن واسع في كل غداة سبت إلى المقبرة فنقف على القبور ونسلم على أهلها وندعو لهم ثم ننصرف، فقلت ذات يومٍ: لو صيرت هذا اليوم -يوم الإثنين- قال: [بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويوماً قبلها ويوماً بعدها]، وحدثني يقول محمد بن عبد العزيز بن أبان قال حدثنا سفيان الثوري قال: بلغني عن الضحاك أنه قال: من زار قبراً يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته، فقيل له وكيف ذلك؟ قال: بفضل يوم الجمعة، هذا عن من؟ عن سفيان الثوري، وسفيان الثوري هذا إمام من أئمة الدين وتابعيٌ جليل، وإمام من الحفاظ، وسيد من سادات المسلمين، طلب العلم وأكثر منه حتى طلبه على أكثر من ستمائة شيخ، ليس على واحد أو اثنين! طلب العلم وكان لا يذكر له عالِم عنده علمٌ ليس عنده إلا ضرب الأرض إليه وأخذ عنه، وأخذ عنه هو من العلماء أكثر من ألف راوٍ وكان شديد الفطنة، عظيم الذكاء، عظيم الحفظ، يقول: ما استودعت قلبي شيئاً فخانني، أي: ما استودعت في قلبي شيئاً من العلوم ثم احتجت إليه فخانني، بل بمجرد ما أطلبه يأتي به القلب؛ لأنه كالمسجل، وكان عابداً زاهداً ورعاً تقياً، يقول عنه سفيان بن عيينة: ما رأيت رجلاً أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري رحمه الله.
وقال عنه الإمام أحمد: سفيان هو الإمام الذي لا يتقدمه أحدٌ في قلبي، وأحمد بن حنبل وسفيان بن عيينة حين يزكيان رجلاً فهو الرجل، يقول أحمد: سفيان هو الإمام الذي لا يتقدمه أحدٌ في قلبي، ويقول عنه يوسف بن أسباط: قال لي سفيان بعد صلاة العشاء: ناولني المطهرة لأتوضأ وأنام، قال: فناولته المطهرة فأخذها بيمينه ثم وضع يساره على خده، ثم نمت واستيقظت بعد طلوع الفجر -يقوله يوسف بن أسباط - يقول: وإذا بالمطهرة في يده وهو كما هو منذ أن نمت أول الليل، فقلت له: يا إمام قد طلع الفجر قال لم أزل على هذا الوضع منذ ناولتني المطهرة؛ لأنني تذكرت الآخرة.
يقول: إنه تذكر الآخرة فما أتاه النوم، فجلس وكأن عقله قد سلب منه من قوة التأثر بذكر الله عز وجل، وذكر الدار الآخرة.
يقول سفيان الثوري: من زار قبراً يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته، ويقول: حدثنا بشر بن منصور قال: لما كان زمن الطاعون كان رجل يختلف إلى الجبال، يعني: إلى المقابر، فيشهد الصلاة على الجنائز فإذا أمسى وقف على باب المقابر ثم دعا لهم وقال: آنس الله وحشتكم، ورحم غربتكم، وتجاوز عن مسيئكم وقبل من محسنكم، ولا يزيد على هذه الكلمات، قال: فأمسيت ذات ليلة وانصرفت إلى أهلي -يقول هذا الرجل- ولم آتِ المقابر فأدعو لهم كما كنت أدعو قال: فبينما أنا نائمٌ إذا بخلقٍ كثيرٍ قد جاءوني فقلت من أنتم؟ وما حاجتكم؟ قالوا: نحن أهل المقبرة، قلت: ما حاجتكم؟ قالوا: إنك قد عودتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك، فقلت: وما هي؟ قالوا: الدعوات التي كنت تدعو بها، قال: قلت فإني أعود ل(11/5)
حقيقة استئناس الميت بمن حوله من الأحياء
لقد ثبت في الصحيح أن الميت يستأنس بالمشيعين لجنازته بعد موته، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري قال: حضرنا عند عمرو بن العاص قبل وفاته رضي الله عنه وأرضاه وهو في سياق الموت، فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجدار، وجعل ابنه يقول: (ما يبكيك يا أبتاه! أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟ فأقبل بوجهه علينا وقال: إن أفضل ما أعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإني كنت على ثلاث درجات، فلقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً مني لرسول الله صلى الله عليه وسلم -لأنه أسلم متأخراً هو وخالد ومجموعة من كبار الصحابة- ولا أحب إلا أن أكون قد تمكنت منه فأقتله فلو مت على هذه الحال لكنت من أهل النار، فلما أنعم الله علي بالإسلام لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: ابسط يدك لأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال مالك يا عمرو! قال: أشترط يا رسول الله! قال: ما تشترط؟ قال: قلت أشترط على ربي أن يغفر لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله وما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنت أطيق النظر إليه إجلالاً وإعظاماً ولو سئلتُ أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه، ووددت لو أنني مت على تلك الحال لرجوت الله أن أكون من أهل الجنة، ثم مات رسول الله وولينا أشياءً بعده لا أدري ما حالتي فيها فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحةٌ ولا نار، فإذا دفنتموني فسنوا عليَّ التراب سناً، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور وتقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي) فدل ذلك على أن الميت يستأنس بالحاضرين عند قبره ويسر بهم.
هذا عمرو بن العاص رضي الله عنه داهية العرب ودهات العرب أربعة: عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه، وكل منهم انفرد بالدهاء في جانب، وكان عمرو بن العاص داهية العرب في الحزم والقوه والشدة والبأس، وكان معاوية داهية في الحلم والأناة، وكان المغيرة بن شعبة داهية في سرعة البديهة، وقد كان أميراً على البحرين في خلافة عمر بن الخطاب، فلما قدم الحجاج من البحرين، وكان عمر شأنه محاسبة الولاة عن طريق سؤال رعاياهم، فكان إذا حج جمع الوفود من كل بلد وسألهم: كيف أميركم؟ فإن أثنوا عليه خيراً مكنه وإن أثنوا عليه شراً حاسبه، فلما علم أهل البحرين بهذا الأمر أرادوا أن يقعوا في المغيرة فكادوا له مكيدة وجمعوا مائة ألف درهم من بعضهم وجاءوا بها إلى عمر وقالوا لما سألهم: كيف أميركم؟ قالوا: يا أمير المؤمنين! جاءنا صعلوكاً -يعني: ما عنده مال- ولما أردنا أن نأتي إلى الحج وهو معنا استودع عند بعضنا مائة ألف درهم فعرفنا أنها من بيت مال المسلمين فجئنا بها إليك يا أمير المؤمنين! -يظنون أنه يقول: ما شاء الله! وكثر الله خيركم- فقام عمر رضي الله عنه؛ لأنه يقول: [لا تحكم على الخصم حتى يحضر]- فإنه وإن كان الخصم الذي جاءك يشتكي قد فقئت عينه، فربما الآخر قد فقئت عيناه فلا تتعجل بالحكم.
وقد عاتب الله داود؛ لأنه تعجل بالحكم، فقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص:26] ومقتضى الحق أنك لا تحكم حتى تستمع الدعوى والإجابة من الطرفين، أما أن تحكم مباشرةً فمعناه أنك لست حاكماً عدلاً، وأرسل الله على داود اختباراً في هذا فجاءه اثنان من الملائكة وتسورا المحراب وقال أحدهما: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:23] فما صبر داود وما سأل الخصم وإنما حكم مباشرة: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص:24] ثم علل وقال: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص:24] قال الله عز وجل {وَظَنَّ دَاوُدُ} [ص:24] أي: اعتقد وعلم {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص:24] يعني أننا اختبرناه بهذين الخصمين {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص:24].
وما يدار في كتب الإسرائيليات من أن داود عليه السلام كان له تسع وستعون زوجة، وأنه رأى امرأة في بيتها، فأرسل زوجها إلى الغزو، ثم أخذها وتزوج بها، فهذا كله كذب وافتراء وقدح في مقام النبوة، فمعاذ الله أن يفعل هذا وهو نبي مجتبىً مختار، فهذا الفعل لا يفعله إنسان عادي بأن يكون عنده تسعة وتسعين امرأة ناهيك عن أن يأخذ تلك، كما أنها امرأة لرجل آخر، والإنسان لا يطمح عادة إلا إلى البكر أما امرأة رجل آخر فلا يعقل ذلك! لكن هذه من الإسرائيليات التي تردها أدلة الشرع في عصمة الأنبياء وجلالة قدرهم ولا ينبغي القول بها كما ذكر ذلك المحققون-.
فكان عمر بن الخطاب شأنه ألا يترك الأمر معلقاً، فقال: هاتوا لي المغيرة؛ فلما جاء المغيرة، قال: ما هذا يا مغيرة؟ قال: ما هو يا أمير المؤمنين؟! قال: إن هؤلاء زعموا أنك جئتهم صعلوكاً وأنك أخذت من مال المسلمين بغير حق فلما قدمت إلى الحج استودعتهم مائة ألف درهم، فمن أين أتيت بها؟! قال: اصبر يا أمير المؤمنين! أولاً: أنا ما استودعتهم مائة ألف بل مئتي ألف -انظروا إلى الدهاء وسرعة البديهة- فمرهم أن يأتوا بها أولاً- فهم ما عندهم إلا مائة ألف وقد بحثوا عنها بكل وسيلة وهذه حجة عليهم- قال لهم أمير المؤمنين: هاتوا المائة الثانية، فـ المغيرة لا يكذب أبداً، فلما عرفوا أنهم وقعوا في ورطة قالوا: يا أمير المؤمنين! والله ما أعطانا لا مائة ولا مائتين -فكذبوا أنفسهم- ولكنا كرهنا الرجل قال: وما تكرهون فيه؟! قالوا: كرهناه دينه وعدله فأردنا المكر به فأوقعنا الله في مكرنا، فقال: الحمد لله الذي لم يخيب فراستي في المغيرة ورده والياً على البحرين.
فهذا من دهائه رضي الله عنه.
وكان عمرو بن العاص داهية العرب، ورجل العالم الذي دوخ الدنيا يضرب به المثل في الحزم والدهاء فتح مصر واستعمله عمر عليها.
وكان أهل مصر يأتون كل سنة بفتاة جميلة عذراء ويلبسونها أحسن الثياب ثم يدفعونها في النيل، وإذا لم يفعلوا ذلك فإن النيل لا يجري، فلما جاء عمرو أنكر عليهم وكتب إلى عمر قائلاً: إن أهل مصر يدفعون إلى نيلهم كل سنة فتاةً من فتياتهم، قال عمر: امنعهم من ذلك وألق كتابي هذا في النيل، وكان عمر قد كتب: [من أمير المؤمنين عمر إلى نيل مصر إن كنت تجري بأمر الله؛ فإن الله سيجريك، وإن كنت إنما تجري بأمر الشيطان فلا أجراك الله]- عمر يخاطب النيل! انظروا إلى قوة الإيمان- فأخذ عمرو بن العاص الكتاب ورمى به في النيل، يقول: فجرى النيل ذلك العام كما لم يجر من قبل وذلك بأمر الله عز وجل، وانقطعت تلك العادة الشيطانية التي كان الشيطان قد أوحى بها إلى الناس.
هاجر عمرو متأخراً سنة ثمانٍ للهجرة، وكان ذلك قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بحوالي ثلاث أو أربع سنوات، وهاجر معه خالد بن الوليد، وفرح بهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأمَّره عمر على بعض الجيش وجهزه للغزوات، وله أكثر من أربعين حديثاً منها ثمانية في صحيح البخاري، وكان واضحاً لا يعرف النفاق، يقول عنه قبيصة بن جابر: [ما رأيت رجلاً أبين رأياً، ولا أكرم جليساً ولا أشبه سريرة بعلانية من عمرو بن العاص رضي الله عنه] وكان ذا رأيٍ وشجاعةٍ ودربةٍ في أمور الحرب رضي الله عنه.(11/6)
حقيقة تلاقي أرواح الأموات وأرواح الأحياء
المسألة الثالثة: من المسائل التي يمكن أن نسأل عنها ونناقش فيها: هل تتلاقى أرواح الأموات وأرواح الأحياء؟ فالسؤال الأول هل يعرف الأحياء ما يجري من نعيم أو عذاب في القبور؟ وقد أجبنا عليه.
والثاني: هل تتزاور أرواح الأموات مع بعضها في القبور؟ وقد أجبنا عليه.
أما الثالث: فهل تتزاور أرواح الأموات مع الأحياء الذين على ظهر الأرض؟ وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله: هذه مسألة شريفةٌ عظيمة القدر وجوابها: أن الأرواح في عالم البرزخ على قسمين: أرواح معذبة وأرواح منعمة، فالمعذبة في شغلٍ شاغلٍ بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي، ولهذا فالمعذب لا يزور أحداً في الدنيا.
فالذي يزور هو من يكون في نعيم، أما الذي يكوى ويحرق بالنار، بالليل والنهار فليس عنده وقت ليزور أحداً، وإنما هو في شغلٍ شاغلٍ بما سلط عليه من عذاب القبر والعياذ بالله.
قال: وأما الأرواح المنعمة فهي تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا، فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها وروح نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الرفيق الأعلى قال عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] وهذه المعية ثابتةٌ في الثلاث الدور، الدنيا، ودار البرزخ، ودار الجزاء، والمرء مع من أحب في هذه الدور نسأل الله الذي لا إله إلا هو إن يحشرنا في زمرته؟ وأن يجعلنا ممن يعيش معه ويراه صلوات الله وسلامه عليه.
يقول الإمام الشعبي: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي ويقول: (يا رسول الله! يا نبي الله! والله الذي لا إله إلا هو إني لأحبك أكثر من نفسي وأهلي ومالي، وإني أكون في أهلي فأذكرك فلا تهدأ نفسي حتى آتي إليك فأنظر إلى وجهك يا رسول الله! وإني ذكرت يا رسول الله! أنك ستموت وأنني سأموت فعرفت أنني لن أكون معك في الدار الآخرة، وأنك ستكون في منزلة النبيين، وأنني إن دخلتُ الجنة كنت في منزل أدنى من منزلتك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم -فانظروا إلى نظرة الرجل البعيدة، يقول: إنك ستموت وأنت مع النبيين وأنا إن دخلتُ الجنة لن أكون مع النبيين ولن أراك، فماذا أفعل؟ قال:- فلم يرد عليه النبي فنزل قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69]).
هذا نصٌ في ذلك وقد أخبر الله عز وجل عن الأحياء أنهم يرزقون عند ربهم وأنهم يفرحون ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، وهذا دليلٌ على تلاقيهم في عالم البرزخ من وجوه ثلاثة: الأول: أنهم عند ربهم يرزقون.
والثاني: أنهم يستبشرون بإخوانهم لقدومهم عليهم من بعدهم.
والثالث: أن لفظ الاستبشار يفيد أنه يبشر بعضهم بعضاً فهم يتباشرون بذلك بالآخرة كما كانوا يتباشرون بالبشرى في الدنيا.
وقد تواترت الروايات فيما يتعلق بتلاقي أرواح الصالحين في الآخرة مع أرواح الصالحين في الدنيا كثيراً جداً ومنها: ما روى صخر بن راشد قال: رأيت عبد الله بن المبارك -هذا الذي ذكرنا قصته- بعد موته فقلتُ له: ألست قد مِتَّ؟ قال: بلى، قلت: فما صنع الله بك؟ قال: غفر لي مغفرةً أحاطت بكل ذنبٍ، قلت: فأين سفيان الثوري؟ قال: بخٍ بخٍ ذاك: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69].
وقال أبو عبد الله بن مندة: حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم عن مطرف عن جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42] قال: [بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتساءلون بينهم فيمسك الله أرواح الأموات ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها].
وقد دل على التقاء أرواح الأموات والأحياء أن الحي يرى الميت في منامه فيستخبره فيخبره الميت بما لا يعلم الحي فيصادف خبره كما أخبر.
وأبلغ من هذا أنه يخبره بما عمله من عمل ولم يطلع عليه أحداً غيره.
يقول ابن القيم رحمه الله قال سعيد بن المسيب -وهو من أئمة التابعين-: [التقى عبد الله بن سلام -وهو صحابي من اليهود أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم- وسلمان الفارسي فقال أحدهما للآخر: إن مت قبلي فالقني في المنام -انظروا إلى يقينهم بقضية الموت- قال: إن مت قبلي فالقني في المنام وأخبرني بما لقيت عند الله، وإن أنا مت قبلك فسوف ألقاك فأخبرك، فقال الآخر: وهل تلتقي الأموات والأحياء؟ قال: نعم.
أرواحهم في الجنة تذهب حيث تشاء، قال: فمات أحدهم فلقي الآخر في المنام، فقال له: ماذا أصنع؟ قال: توكل على الله وأبشر فلم أر مثل التوكل].
قال العباس بن عبد المطلب: [كنت أشتهي أن أرى عمر في المنام فما رأيته إلا بعد حولٍ من موته فرأيته يمسح العرق عن جبينه وهو يقول: هذا أوان فراغي إن كاد عرشي ليهد لولا أني لقيت رءوفاً رحيماً] ولما حضرت شريح العابد الوفاة دخل عليه عبيد بن الحارث وهو يجود بنفسه فقال: يا أبا الحجاج إن قدرت أن تأتينا بعد الموت لتخبرنا بما لقيت من ربك فافعل -وكانت كلمة مقبولة عند أهل العلم وأهل الفقه في الدين- فمكث زماناً بعد موته لم يره ثم رآه في المنام فقال له: كيف حالك؟ قال: تجاوز ربي عن الذنوب فلم يهلك منا أحداً، قلت: إلا من؟ قال: إلا الأعيان، قلت: ومن هم؟ قال: الذين يشار إليهم بالأصابع.
يقول هؤلاء رسبوا في الامتحانات.
وقال عبد الله بن عمر بن عبد العزيز: رأيت أبي في النوم بعد موته كأنه في حديقة فدفع إليَّ تفاحات، فأولتهن الولد فقلت: أي الأعمال وجدت يا أبتِ؟ قال: الاستغفار يا بني.
فالاستغفار من أعظم الأعمال؛ لأن الله عز وجل جعله أماناً من العذاب في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد موته قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33].
نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يغفر لنا وإياكم ذنوبنا وأوزارنا، وسيئات أعمالنا، وأن يتقبلنا في عباده الصالحين إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/7)
الأسئلة
هنا بعض الأسئلة من الأسبوع الماضي سوف أبدأ في إجابتها، والأسئلة التي أتت اليوم إن شاء الله في المستقبل.(11/8)
مصير النمام الذي مات على التوحيد
السؤال
ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام)؟ وهل معناه أن الذي يموت نماماً لا يدخلها ولو مات على الإيمان أو التوحيد؟
الجواب
هذه الأحاديث أيها الإخوة! كما يقول العلماء: أحاديث الوعيد التي خرجت مخرج التهديد والترهيب من فعل بعض الأشياء لا تؤخذ لوحدها وإنما تؤخذ مع عموم الأدلة مثل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (من صلى البردين دخل الجنة) وهذا حديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم و (البردان) يعني العصر والفجر، فلا يأتي واحد يصلي الفجر والعصر ويترك المغرب والظهر والعشاء ويقول: مادام أنه من صلّى البردين دخل الجنة فأنا أدخل الجنة، فنقول: لا (من صلى البردين دخل الجنة) ولكن لابد من الصلوات الخمس بأدلة أخرى.
فهنا دلت الأدلة الشرعية الثابتة في كتاب الله عز وجل، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من مات على التوحيد لا يخلد في النار وأن مصيره إلى الجنة في آخر الأمر، إذ يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرةٍ من إيمان، وإنما المقصود أنه لا يدخل الجنة نمام أي: لا يدخلها ابتداءً، يعني: لابد من دخوله النار ليعذب على قدر الأقذار التي علقت به؛ لأنه إذا مات الإنسان وهو نظيف بالتوحيد، ونظيف من المعاصي والذنوب فإنه طيب في الظاهر والباطن فيدخل دار الطيبين، أما إذا مات وبه قذر أو به لطوخ من المعاصي فإنه لا يدخل الجنة الطيبة إلا بعد التعقيم في النار، والمكث في التعقيم يكون بحسب كثرة الأوساخ فالذي أوساخه قليلة يكون مكثه قليلاً، والذي أوساخه كبيرة ومتأصلة يكون مكثه طويلاً، وقد يدخل الجنة ابتداءً بدون تعقيم، وإنما تعقمه رحمة الله عز وجل كما قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
فأما الشرك فلا يغفره الله؛ لأن المشرك كالخنزير كما يقول ابن القيم: الخنزير لو أدخلته من طرف البحر -تريد أن تغسله- وأخرجته من الطرف الآخر طلع عليك خنزيراً فلا ينظفه ماء البحر، لكن المسلم الذي يموت موحداً وعليه أقذار، فإنه يمحص بقدرها، وكلما كانت ذنوبه أكثر كان مكثه أكثر، فالنمام لا شك أن عمله كبير، ومن كبائر الذنوب، وهو يعذب صاحبه في القبر ويعذبه في البرزخ، ولكن إذا كان موحداً -مات على التوحيد- ولا يشرك بالله، فإنه بتوحيده ستكون نهايته إلى الجنة بإذن الله عز وجل.(11/9)
مصير المتقلب بين التوبة والمعاصي
السؤال
أنا شابٌ التزمت في أول حياتي ثم عدت إلى حياة اللهو، واليوم تبت إلى الله من قلبٍ صادقٍ فهل تقبل توبتي؟
الجواب
نعم.
يا أخي الشاب! تقبل توبتك ويقلب الله سيئاتك التي عملتها حسنات، ولكن اثبت يا أخي المسلم! فإن التذبذب والصعود والهبوط والجد مرة والكسل مرة والمحافظة على الصلاة مرة وتركها مرة هذه ظاهرة خطيرة لحياة الشاب؛ لأنه قد يأتيه الموت وهو في النزول، فمن يرجعه؟ أو قد ينزل نزلة لا يصعد بعدها إلى يوم القيامة، بعض الشباب يقول: أنا الآن اهتديت لكن ضيقت على نفسي! فلماذا لا أفعل مثل هؤلاء العابثين وأشبع نفسي بالمعاصي والذنوب، ثم أتوب؟! فينزل فإذا نزل عاش هذه الحياة العابثة، فإما أن يموت قبل أن يتوب، أو يستمرئ هذه الأمور والعياذ بالله فيألفها ولا يستطيع أن يتوب، فيموت خاسراً والعياذ بالله لأن الله هو الذي يحبب الإيمان ويزينه في القلوب قال الله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7] فنسأل الله أن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، وأن يكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، فاثبت يا أخي! على دين الله ولا تتذبذب فإن هذا خطر؛ لأن القلب هو مجال هذا التذبذب، وهذا القلب جهاز عجيب يتقلب.
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه يتقلب
وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله ويقول: (اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك) فكان يسأل وهو المعلم لهذه الأمة ويقول: اللهم ثبت قلبي على دينك وعلى هداك، فاسأل الله التثبيت واثبت على دين الله عز وجل واتبع وسائل الثبات وهي: تلاوة القرآن الكريم، وفعل ما أمر الله به من أوامر وفي مقدمتها التوحيد، والصلوات الخمس، والزكاة؛ لأن الذي لا يصلي في المسجد وتوحيده فيه خلل فإن الله لا يثبته، يقول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} [النساء:66] أي ما أمر الله به: {لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66] فأعظم شيء يثبتك على الدين فلا تزيغ ولا تهلك هو أن تتمسك بطاعة الله، وتعض عليها بنواجذك وتحرص عليها بكل قواك وتجاهد نفسك بقوة وعنف أن تكون الأول في دين الله.
لكن أن تتكاسل في الصلاة وتأتي مرة في الصف الأول، ومرة في الثاني، ومرة في الأخير، ومرة تصلي في البيت، ومرة في المسجد، ومرة تضيعها، وتريد أن تثبت على الدين، فهذه بداية انحدار والعياذ بالله والذي يعمل هذا لا ترده إلا جهنم والعياذ بالله، لكن الذي يجاهد نفسه باستمرار فما إن يسمع الأذان حتى يقوم إليها فهذا يثبته الله عز وجل، ويحبب له الإيمان، فلا يمضي عليه سوى فترة بسيطة من الزمن وإذا بهذه الأعمال والطاعات تصبح صفة لازمة وثابتة فيه، ولا يمكن أن يتركها في أيِّ حال من الأحوال؛ لأن الله ثبته قال الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27] يعني: هنا {وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].(11/10)
حكم صلاة الركعتين بعد الإحرام
السؤال
كنت قاصداً العمرة ولما أحرمت من الميقات كان وصولي وقت صلاة من الصلوات الخمس فصليت ثم اكتفيت بها فقيل لي لابد من صلاة ركعتين فهل هذا صحيح؟
الجواب
لا، ليس بصحيح، والصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل محرماً بعد أن أدى الفريضة فهذا هديه، فإذا صليت فريضةً في ميقاتٍ من المواقيت فإنك تحرم بعده، أما إذا أتيت على غير فريضة، فقد اختلف أهل العلم في حكم صلاة الركعتين فمنهم من قال: لا أصل لها، فإذا أتيت في غير الفريضة فتحرم من الميقات ولا تصل ركعتين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعلها وإنما صلى الفريضة، فإما أن تصلي الفريضة إن كنت جئت في وقتها، فإن لم يكن فلا تصل.
ومن أهل العلم -وهم الجمهور- من قال: يصلي ركعتين قياساً على صلاة الفرض فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما صادف وقت فرضٍ أحرم بعده ولما لم يصادف الإنسان وقت فرضٍ فليصلِ نفلاً تشبهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يرجحه الشيخ عبد العزيز بن باز والكثير من العلماء المحققين أنه يصلي بعد إحرامه.
لكن أن تصلي فريضة وبعدها تصلي نافلة فهذا خطأ ولم يقل به أحد من العلماء.(11/11)
الحرص على تسوية الصفوف في الصلاة
السؤال
أرى أن يوجه الإخوة المصلون إلى تسوية الصفوف أثناء قيام الصلاة حيث وأن الصفوف أحياناً تكون منقطعة ومتقطعة ومخلخلة وغير مستوية؟
الجواب
هذا تنبيه جيد جداً وهو مهم؛ لأن تسوية الصفوف أيها الإخوة! كما تعرفون من تمام الصلاة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها قالوا: كيف تصف؟ قال: كانوا يتمون الصفوف الأول فالأول ويتراصون في الصفوف) فتسوية الصفوف جزءٌ من تسوية القلوب، فإذا استوت الصفوف استوت القلوب، وإذا اختلفت الصفوف اختلفت القلوب فلا بد من المراصة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بهذا الجانب وكان السلف من بعده يهتمون بأمر الصلاة، وكان عمر يضرب الناس بالدرة -بالعصا- أثناء تسوية الصفوف؛ لأن استواء الصفوف مطلوب وشيء من متطلبات الفريضة، فينبغي للمسلم أن يحرص على هذا وأن ينظر عن يمينه وعن شماله، وأن يجر إليه من بجانبه، وأن يتقدم أو يتأخر حتى يستقيم الصف ولا يبقى فيه اعوجاج، وأن يتم الصف الأول فالأول، وأن لا يبدأ صفاً من الوسط حتى ينتهي الصف الذي قبله من طرفيه؛ لأنه غالباً ما يبدأ الناس الصفوف من عند الباب وتجد بعض الصفوف ناقصة باستمرار؛ لأن الشخص إذا سلم يريد أن يختصر الطريق إلى الباب وينصرف من هناك.(11/12)
طلب العلم بين فرض العين وفرض الكفاية
السؤال
نجحت من الثانوية وحمدت الله عز وجل ثم بعد ذلك طلب مني أهلي أن أدرس فحرمت الدراسة على نفسي كما حرمت الجنة على الشيطان -لا حول ولا قوة إلا بالله- ثم تذكرت أنه ليس لي بد من الدراسة فسجلت في الجامعة وقبلت، ثم إنه واجهتني الكثير من الصعاب في الدراسة -يعني كأنه يتصور أن هذا اليمين هو الذي سبب له هذه الصعاب- هل عليَّ إثم في تحريم الدراسة على نفسي؟ وهل عليَّ في تحريمها كفارة؟
الجواب
أولاً: أنت مخطئ في تحريم الدراسة؛ لأننا أمة العلم، فالجهل ما بنينا به مجداً، وأول آية نزلت علينا في كتابنا قول الله عز وجل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] فلن نبلغ شأواً ولا مجداً إلا بعلمنا وبإنتاجنا وبحضارتنا في شتى الميادين، سواء كانت هذه العلوم التي ندرسها علوماً شرعيةً أو علوماً دنيوية، لكن طبعاً العلوم الشرعية لابد منها؛ لأنها فرض عين على كل مسلم فلابد لطالب الطب أن يكون فقيهاً في الدين، ولطالب الهندسة لابد أن يكون فقيهاً في الدين، والطالب في كلية التربية لا بد أن يكون فقيهاً في الدين، فليست العلوم الشرعية مقصورة على طلاب الشريعة وطلاب العلوم الدينية.
فنريد الطالب مزوداً بالدين في كل جامعة وفي كل ميدان، ولكن طالب الشريعة يزداد تخصصاً، فيعرف في الدين ما لا يعرفه في أمور تخصصية نادرة تعتبر من فروض الكفاية.
فأنت يا أخي! قد أخطأت كثيراً حينما حرمت الدراسة على نفسك، والله قد قال للنبي صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1] وقال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] فينبغي لك أن تقف عند هذا اليمين ولا تحرم ما أحل الله، وعليك أن تواصل دراستك وأن تستعين بالله، ولتعلم أن هذه المصاعب التي تواجهك في دراستك الجامعية شيء طبيعي في حياة كل شاب جامعي، لكن مع الاستمرار لابد أن تدك هذه العقبة إن شاء الله وتبلغ إن شاء الله المرتبة الطيبة والمنزلة الرفيعة لتنصر دينك من منصبٍ أقوى ومن مكان أفضل بإذن الله.
ويلزمك كفارة يمين أن تطعم عشرة مساكين كل مسكين كيلو ونصف أو اثنين كيلو رز من أوسط ما تطعم أهلك إن شاء الله، وأسأل الله أن يتوب عليَّ وعليك.(11/13)
فضل المخيمات الصيفية في حفظ الشباب
السؤال
أرجو أن تقدموا نصيحة للآباء الذين يرفضون تمكين أبنائهم من الذهاب إلى الرحلات المدرسية والمعسكرات والمخيمات الدينية؛ لأن فيها منفعة للشباب؟
الجواب
أقول يا إخواني! بالنسبة للآباء فإن الشاب لا يمكن أن يتعايش مع الإسلام وأن يفهم الدين فهماً عملياً بواقع التجربة إلا عن طريق التعايش مع إخوته في الله في المخيمات والمعسكرات الإسلامية؛ لأن هذا الكلام الذي نقوله في الندوات الآن شيء نظري، ويمكن أن يثبت ويمكن أن يذهب لكن إذا طبق في مجال العمل فإنه يثبت ويستقر، ولذا تجد الشاب إذا عاش يوماً أو يومين أو ثلاثة في مخيم إسلامي؛ فإنه يرجع بنفسيات مختلفة اختلافاً كبيراً أكثر من سماعه للمواعظ والمحاضرات في ثلاث سنوات؛ لأنه هنا يسمع عن القيام للصلاة، لكن هناك يسمع كلمة قم للصلاة، ويسمع الخشوع، ويسمع قيام الليل، ويسمع كل هذه الأشياء المهمة جداً.
وعليك أيها الأخ المسلم! إذا أردت أن يهتدي ولدك وأن يثبت على دين الله أن تسمح له في كل فرصة تسنح للذهاب مع إخوانه في رحلة أو في مخيم إسلامي، لكن بشرط أن تعرف من المسئول، ومن القائم على المخيم الإسلامي، وأن يعرف أنه رجل موثوق في دينه وفي عقيدته وفي حسن إشرافه ودرايته، أما غير ذلك فلا؛ لأني سمعت في يوم من الأيام أنه يوجد مخيم اسمه مخيم إسلامي وأنهم في الساعة التاسعة صباحاً يقومون في وقت الفطور ويشغلون الميكرفون والمسجل على أم كلثوم تغنيهم: يا صباح الخير يا اللي معانا، بعد الفطور قاموا يلعبون إلى الظهر ورجعوا يقولون: مخيم ديني وإسلامي، أي إسلامي؟! بل هذا مخيم شيطاني.
وأذكر مرة من المرات قبل حوالي عشر سنوات أقامت إدارة التعليم مخيماً إسلامياً بطلائع الشباب الطيبين من الثانويات في المناطق المجاورة بـ أبها وجيزان ونجران وبيشه والباحة، فجاء من كل منطقة عشرون طالباً، فكان مجموعهم مائة طالب، والمخيم مدته أسبوعاً وكان في القرعا، وكنت أنا مسئولاً عن هذا المخيم ولما جاء الطلاب إلى البيت اجتمعوا من أجل أن نبدأ المخيم، وكان أكثرهم قد أتى معه بالكاميرا والمسجل وبعضهم أحضر الورقة في جيبه والثاني أحضر معه (الضومنة) وقالوا رحلة في السودة أو في القرعا مدة عشرة أيام، فلما جاءوا وجلسوا أول جلسة تكلمنا معهم وأعطيناهم لمحة عن المخيمات الإسلامية، وذكرنا لهم برامج المخيمات، وكان برنامجنا يبدأ عند الساعة الثالثة والنصف صباحاً، يعني: قبل الفجر بحوالي ساعة، فيبدأ بصلاة التهجد، يقول لي واحد من طلاب نجران لما صار ملتزماً واهتدى: والله ما سمعت بصلاة التهجد إلا منكم، لما قلتم صلاة التهجد يقول: قلت: ما هي التهجد؟! إلا أن معنى التهجد النوم، فما فهمت أن صلاة التهجد يعني قيام الليل.
فكانوا يقومون الساعة الثالثة والنصف إلى الساعة الرابعة والنصف صلاة تهجد، وبعد الساعة الرابعة والنصف يقرءون القرآن ويصلون الفجر وبعد صلاة الفجر نقسمهم عشر حلقات كل عشرة طلاب مع مدرس من المدرسين الذين كانوا يشرفون على المخيم، يقرءون القرآن ويتعلمون القرآن، وكان هناك طلاب في الثانويات لا يعرفون حتى قراءة الفاتحة، يعني: كما أنزلها الله عز وجل بل يقرءون ويلحنون فيها، وبعد الإشراق نصلي ركعتين ثم يذهب الطلاب في حركات رياضية وكنت أنا الذي أدرسهم الرياضة؛ لأن عندي خلفية فيها بعد ذلك نرجع ونفطر، ثم فترة راحة من الساعة الثامنة إلى الساعة العاشرة، ومن الساعة العاشرة إلى الساعة الثانية عشرة محاضرات نستضيف فيها بعض العلماء ليلقوا دروساً على الطلاب، وبعد الظهر هناك غداء وراحة إلى العصر، وبعد العصر زيارة للأماكن المحيطة بالبيئة وأيضاً بعض الحركات والألعاب الرياضية، ومن المغرب إلى العشاء حفل سمر، ومن بعد العشاء بساعة هناك عشاء ثم بعدها النوم مبكراً، فهذا هو البرنامج، فالشباب أول ما أتوا تضايقوا قليلاً منه لكن في آخر الأمر وبعد أسبوع طلبوا تمديده، فاستأذنا من المسئولين في دار التعليم ومددناه عشرة أيام؛ لأن عندنا وفر في الإمكانية والميزانيات، بعد ذلك والله كنا نودعهم في آخر يوم وهم يبكون، وأن أحد الطلاب كتب لي وهو من نجران يقول لي: أكتب لك هذه الرسالة بمداد قلمي ودمع عيني، يقول: والله رجعت إلى بيتي وأنا غريب عن أمي وأبي وأبنائي وإخواني، يقول: غريب ما عرفت هذه العيشة الزكية عيشة الدين.
فإذا وجدت يا أخي المسلم! مخيماً إسلامياً أو معسكراً أو رحلة فيها أناس طيبون يربون لك ولدك ويهدونه إلى الصراط المستقيم، خير لك يا أخي! من أن تترك ولدك لعبة أو طعمة يمكن أن يخطفه شيطان يعلمه الشر أو يعلمه المخدرات، ويعلمه الفساد ثم تندم وتعض على أصابع الندم، صحيح أنك تحرص عليه وهذا طيب من الطيبات، لكن بعض الآباء يمنع ولده حتى من الخير.
فامنع ولدك من الشر وأطلقه في الخير أما أن تمنعه من الخير والشر فإنه لن يبقى هكذا، بل سيكون فريسة للشر يوماً من الأيام حين يتحرر منك.
أما الآن فسيطيعك؛ لأنه مضطر لذلك، لكن حين يكبر فلن يطيعك، وأنت قد منعته من الخير الذي يحفظه، فسيتقبل الشر وينحرف والعياذ بالله.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يوفقنا وإياكم.(11/14)
حكم تخطي رقاب المصلين
السؤال
أكثر الشباب الملتزم الطيب يأتي إلى الندوة والمجلس والمحاضرة متأخراً ثم يتخطى رقاب الناس، فهل هذا جائز؟
الجواب
تخطي الرقاب لا يجوز وينبغي التفسح؛ لأن تخطي الرقاب يؤذي المسلم إلا إذا رأى الإنسان فرجة خالية أمامه ليس فيها أحد، ولم يتقدم أحد ليقعد فيها؛ فإن من حقه أن يأتي ويقعد فيها ولا يقعد عند الباب.(11/15)
سؤال في أحكام الرضاع
السؤال
أخت أخي من الرضاعة هل تكون أختاً لي؟
الجواب
لا.
من أين صارت أختك؟ أخت أخي من الرضاعة يعني: أن أخاك رضع من امرأة وأصبح أخاً لجميع البنات والأولاد الذين رضعوا من هذه الأم، والذين خرجوا من صلب زوج هذه المرأة من غيرها، هم أخوة له، أما أنت فلست أخاهم، فيقول: أخت أخي من الرضاعة هي أختي، ويريد أن يسلم عليها، فلا يجوز ذلك.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/16)
نعمة الإيمان والدين
الإيمان أعظم نعمة في هذا الوجود؛ لأنه بغير الإيمان يخسر المرء الدنيا والآخرة، وقد يكون خسران الدنيا سهلاً، لكن خسارة الآخرة لا تعدلها خسارة؛ لأنها خسارة أبدية، كما أن الفوز فيها هو الفوز، فالعاقل من أدرك ذلك، والموفق من رزق نعمة الإيمان، والخاسر المغبون من حاد عن ذلك، وطاوع الشيطان الرجيم.(12/1)
أهمية الإيمان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على دربه واقتفى أثره، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:(12/2)
الإيمان أعظم نعمة على الإطلاق
أيها الإخوة في الله! من أعظم النعم التي يمن الله بها على الإنسان في هذه الحياة، نعمة الإيمان والدين، ومن أعظم وأجل النكبات وأخطر العقوبات التي يُعاقب بها الإنسان في هذه الحياة، هي عقوبة الحرمان من نعمة الإيمان والدين، فمن أكرمه الله بنعمة الهداية فقد أُكرم وأُنعم عليه بأعظم نعمة، ومن حُرم هذه النعمة فقد عُوقب بأعظم عقوبةٍ ينالها في الدنيا والآخرة.
ذلك -يا عباد الله- لأن النعم إنما تعرف بآثارها ونتائجها؛ فكلما كان أثر النعمة كبيراً كان قدرها كبيراً، وأثر نعمة الإيمان لا ينحصر في هذه الدار، إنه أثرٌ يرافقك أيها الإنسان! عبر رحلتك الطويلة التي تقطعها منذ أن تُولد حتى تستقر قدمك إما في الجنة وإما في النار، الإنسان في سفر وفي رحلة وفي مراحل، رحلة الحياة، ثم رحلة الموت، ثم رحلة الحياة البرزخية في القبر، ثم رحلة الحياة يوم القيامة، ثم آخر محطة يقف فيها الإنسان خلودٌ في الجنة لأهل الإيمان -جعلنا الله وإياكم منهم- أو خلودٌ في النار لمن حُرم نعمة الإيمان -أعاذنا الله وإياكم منهم-.
فنعمة الإيمان معك في الحياة، وعند الموت، وفي القبر، وفي الحشر، ومعك إلى أن تدخل الجنة، وعقوبة الحرمان من نعمة الإيمان لعناتٌ في الدنيا، وغضبٌ من الله عند الموت، وعذابٌ في القبر، وفي الحشر، وفي النار، أعاذنا الله وإياكم من النار.
لذا كان حريَّاً بالعقلاء أن يكون تركيزهم على الحصول على نعمة الإيمان والدين، لا تفكر كثيراً ولا تشتغل كثيراً بغير هذه النعمة، فإنك بالإيمان تكسب كل شيء، ولا تخسر شيئاً، تكسب الدنيا والآخرة، وبغير الإيمان والدين تخسر كل شيء، ولا تكسب شيئاً، ما الذي يكسبه البعيد عن الله، ما الذي يكسبه المجرم والكافر والفاجر يكسب الغضب والسخط واللعنات والبعد عن الله ومخالفة أوامر الله عز وجل.(12/3)
الإيمان أعظم نعمة امتن الله بها على رسوله وعلى عباده
الإيمان نعمة امتن الله بها على رسوله صلى الله عليه وسلم، وامتن الله بها على الأمة إلى يوم القيامة، يقول الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح:1 - 2] أي: يتم دينه وإيمانه عليك.
ويقول عز وجل: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:10 - 11] أي: بدين الله وامتن الله بهذه النعمة على الصحابة، فقال في آخر ما نزل في حجة الوداع ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقفٌ بـ عرفة يقول الله له: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3].
ما هي النعمة التي أتمها الله على الصحابة في عهدهم؟ هل هي النعمة التي نتصورها الآن؟! لقد انقلبت مفاهيم أكثر الناس، فظنوا أن النعم هي النعم البهيمية، ملء البطون وانتفاخ الجيوب، وشهوات الفروج وعمارات وسيارات، هذه نعم يعطيها الله للكافر ويعطيها الله للمسلم.
لكن النعمة الحقيقة التي أرادها الله، والتي ينعم بها الله على من أحب به من عباده، هي نعمة الإيمان والدين، يقول الله عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} [النساء:69 - 70].
أي: هذه النعمة من الله، نعمة الطاعة من يطع الله والرسول هو الذي أنعم الله عليه، أما شخص شبع من الملايين لكنه عاصٍ، لا يأتي إلى المسجد، هل هذا مُنعم عليه؟! لا.
والله! هذا معاقب عقوبة ليس بعدها عقوبة؛ لأنه حرم من نعمة الصلاة، حرم من نعمة الهداية، حرم من نعمة القرآن، وعنده مال! المال مع اليهود ومع الكفار! عنده عمارة! العمارات مع الكفار، عنده سيارة! السيارات مع الكفار؛ أجل النعمة التي يختص الله بها من يشاء: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:105] ما هي؟ الدين.
فإذا أعطاك الله الإيمان وجعل قلبك حياً، وجعل لك نوراً في قلبك، فهذه هي النعمة التي اختصك الله بها.
يقول الله عز وجل فيها: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:8].
فضلاً من الله ونعمةً أن يحبب إليك الإيمان ويزينه في قلبك، لذا كل شيء بغير الإيمان ليس بجيد، يحبب الله إليك الصلاة فلا تعيش إلا بها، يحبب الله إليك القرآن؛ فلا تستأنس إلا بتلاوة كتاب الله، يحبب الله إليك العلماء والدعاة والمساجد والحج والعمرة والصيام، وتفرح بكل عمل ٍيحبه الله ويرضاه، وأيضاً يزينه في قلبك، ويكره إليك المعاصي! أكره شيء عندك أن تعصي الله، إذا رأيت امرأةً متبرجةً فإنك تغض بصرك، إذا سمعت أغنيةً فكأنما دخلت رصاصة في أذنك، إذا عُرض عليك ريال من حرام تضطرب ولا تقدر أن تأكل، لماذا؟ لأن الله كرّه إليك الكفر والفسوق والعصيان: {فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:8] هذه هي النعمة الحقيقية؛ لأن من الناس من انقلبت موازينهم؛ فحبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وكره إليهم الإيمان، أكره شيء عنده عندما يسمع الله أكبر، أو أن يرى داعيةً إلى الله، أو أن يقال له: قم إلى طاعة الله، لكن يحب كل شيء غير الله، يقول الله عز وجل: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45].
إذا ذكرت المباريات والحفلات والطار والطبل والزير، تذكر السهرات، مثل الخيط ينقطع عليها، لكن إذا ذكرت الندوات ذكر العلم وذكر الدعاء، ذكر الصلوات آه اشمأز قلبه! لماذا؟ لم يكن مؤمناً بالله، لم يرُزق نعمة الإيمان، حُرم من نعمة الإيمان، أجل! يا أخي في الله النعمة الكبرى التي تستطيع أن تسعد بها في الدنيا والآخرة، هي نعمة الإيمان والدين.(12/4)
من آثار نعمة الإيمان
قد يقول قائل أو يسأل سائل: ما أثر هذه النعمة؟ قد يتصور بعض الناس أن أثرها فقط في الآخرة، أما الدنيا فإنها تمنع الشهوات، وتقيد الإنسان وتمنعه عما يريد، وهذا فهمٌ خاطئ واعتقادٌ باطل؛ إذ أن أثر نعمة الإيمان معك في الدنيا ومعك في الآخرة، يقول الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النساء:134].
إذا أردت ثواب الدنيا العاجلة تجده عند الله، وفي دين الله، لكن إذا ما أخذت الدين ضيعت الدنيا وضيعت الآخرة، خاسر من ليس له دين، وقد يقول قائل: كيف خاسر؟ نقول: الله يقول في القرآن: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ} [العصر:1 - 2] من الإنسان؟ أنا وأنت وكل إنسان على وجه الأرض، يقسم الله بالعصر وهو الدهر والزمن: {وَالْعَصْرِ} [العصر:1] {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2] كيف هو في خسر؟ خسران وأنا صاحب عمارة، خسران وأنا صاحب وظيفة، خسران وأنا في منصب، نعم خسران! كيف؟! الآن الخسارة في معروف الناس هو أن يمتلك الإنسان شيئاً ثم يفقده، هذه تسمى خسارة، بنى عمارة وانهدمت هذه خسارة، أو اشترى سيارة وانصدمت! خسارة، أو حفر بئراً وطاحت! خسارة، تزوج بزوجة وماتت! خسارة، المهم توظف في وظيفة وفصل منها! خسارة، هذه الخسارة في الدنيا.
إذاً عند الموت ما الذي يحصل للإنسان؛ إذا كان موظفاً يخرج من وظيفته، وإذا كان في عمارة ينكس من عمارته، وإذا كان معه ملايين يخرج من ملايينه، هل يبقى معه شيء عند الموت؟ أليس هذا بخاسر؟ خاسر.
الملك عند الموت وهو في آخر لحظة من حياته قبل أن يموت، هل يستطيع أن يشكل الوزراء، أو يقيم الحروف، أو يعمل أي شيء بعد الموت؟ لا شيء، انتقل المُلك لغيره، كل إنسان عند الموت خاسر.
{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:3] الذين آمنوا بعد الموت يربحون الآخرة، ولذا إذا أردت أن تكون رابحاً فعليك بالإيمان، حتى لا تموت وليس لك عمل، إذا كنت تخسر الدنيا؛ لأنك تموت منها، تخرج منها كما تخرج الشعرة من العجين؛ فلا تخرج من الدنيا خاسراً بحيث تخسر الدنيا وتخسر الآخرة، كن رابحاً عند خروجك من الدنيا، فإذا خسرت الدنيا تربح الآخرة.
إذا أودعوك في الحفرة المظلمة، وتخلوا عنك، ورفضك أولادك وأهلك، وأموالك تقتسم من بعدك، وما معك من الدنيا شيء وإذا بالجنة تستقبلك، وإذا بالعمل الصالح يمهد لك، وإذا بقبرك يصير روضة من رياض الجنة، وإذا بالملائكة تستقبلك وتفرش لك فراشاً من فراش الجنة، لماذا؟ لأنك من الذين آمنوا وعملوا الصالحات.(12/5)
أثار نعمة الإيمان في الدنيا
أما آثار نعمة الإيمان ففي الدنيا وفي الآخرة:(12/6)
الإيمان والدين يفسران الحياة التفسير الحقيقي
أما في الدنيا: فهي أولاً أن الإيمان والدين يُقدم للإنسان التفسير الحقيقي لهذه الحياة، ما هي هذه الحياة؟ من يستطيع أن يعرفها؟ ما حقيقتها؟ من أين جاء إليها الإنسان؟ ولماذا جاء إليها؟ وإلى أين بعد أن يموت الإنسان؟ أسئلةٌ محيرة!! حارت في فهمها العقول في القديم والحديث، وعجزت كل الفلسفات والأفكار والنظريات أن تجيب على هذه الأسئلة، وعاش الإنسان في عذاب، وعاش في شقاء وهو يعيش ولا يدري لماذا يعيش! حتى قال شاعرهم:
جئت لا أعلم من أين؟! ولكني أتيت! ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيتُ! وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيتُ! كيف جئت؟! كيف سرت؟! كيف أبصرت طريقي؟! لست أدري! ولماذا لست أدري؟! لستُ أدري؟!
لا يدري لماذا يعيش!! ولهذا يعيش الإنسان في عذاب؛ لأنه لا يدري لماذا يعيش، من الذي يقدم لك التفسير الحقيقي؟ إنه الإيمان بالله إنه الدين(12/7)
بالإيمان والدين ينشرح الصدر ويطمئن القلب
إذا عرفت أنك تعيش لعبادة الله، وأنك عبدٌ من عباد الله، وأنك تعمل صالحاً لتلقى الجزاء عند الله، وتترك السيئات لتلقى الأجر عند الله، فإن قلبك يطمئن، وإذا حصل هذا لك انشرح صدرك، وهذا أثر من آثار نعمة الإيمان وهو انشراح الصدر، يقول الله عز وجل فيه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] حياةً طيبة.
هو في الأساس كان حياً، لكن بالإيمان والعمل الصالح الله يحييه حياة أخرى، غير حياة البهائم، حياةً طيبة، هذا في الدنيا: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
قال العلماء: الحياة الطيبة هي: هدوء النفس واستقرار القلب والطمأنينة والسكينة، التي قال الله فيها: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:28 - 29].
لماذا يحصل في القلب الأمن والطمأنينة بالإيمان؟ لأن الإنسان عرف لماذا يعيش، استقر قلبه على أنه يعيش لغرضٍ معين فسكنت جوارحه، فالله عز وجل يطمئنه في حياته، الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بماذا؟ بذكر الله، أي: بدين الله، لا يطمئن القلب بالمال، ولا يطمئن القلب بالزوجات، ولا يطمئن القلب بالوظائف والعمارات، إنما تطمئن الأجساد بهذا.
أما القلب فلا يطمئن إلا بالإيمان بالله، فإذا لم يحصل له هذا، عاش عيشةً ضنكاً، كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:124 - 127].
فهذا أثر عاجل لك في الدنيا، أن تعيش في أمن، وهل للإنسان مطلب غير أن يعيش سعيداً آمناً.
الآن التكالب على الدنيا والتنافس والتناحر عليها من أجل السعادة، ولكن والله لا توجد السعادة إلا في الإيمان بالله.
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
السعادة ليست في أكل ولا في شرب ولا أن تسكن في عمارة، ولا أن تملك ملايين ولا أن تركب سيارة، ولا أن تتزوج زوجة هذه سعادة مادية.
السعادة الحقيقية: هي أن تكون على صلةٍ بالله، السعادة واللذة في ركعةٍ لله خاشعة، في تلاوةٍ لكتاب الله، في صيام يومٍ من أجل الله، في انتصارك على شهواتك، في استقامتك على دينك، هذه هي السعادة، والذي ذاقها لا يتخلى عنها ولو قطع قطعة قطعة.
يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في الصحيحين، عن أنس رضي الله عنه قال: (ثلاثٌ من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان -ومن ضمنها قال:- أن يكره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار).
لو خُيِّر بين أن يرتد عن الدين أو يقذف في النار؛ لاختار أن يقذف في النار ولا يرجع إلى الكفر، لماذا؟ ذاق حلاوة الإيمان، ذاق طعم الإيمان وقد رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.
ومن آثار نعمة الإيمان أن تعرف لماذا خلقت.
ومن الآثار أن الله يرزقك الأمن والطمأنينة في قلبك.(12/8)
حصول الولاية من الله لأهل الإيمان
أما الأثر الثالث: أن الله عز وجل يتولاك: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257] ومن كان الله وليه، فلا يخاف ظلماً ولا هضماً، يتولاك الله؛ فيسددك وييسر أمرك، ويرزقك من حيث لا تحتسب، وكل أمرٍ تسير فيه تجد أمامك نوراً، لماذا؟ لأن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الحديد:28] كفلان: يعني نصيبان من رحمته نصيبٌ في الدنيا، ونصيبٌ في الآخرة.
ويجعل لكم نوراً: أي فرقاناً، أين يجعل النور؟ في نظرك، وفي قلبك، تنظر به الطريق فترى كل ما أمامك بوحيٍ من الله، بنورٍ وهدى من الله عز وجل، ويغفر لك إذا أخطأت أو زللت لأنك بشر؛ فإن الله عز وجل يغفر ذنبك ويرفع كربك لماذا؟ لأنك مع الله، وهل هذا شيءٌ سهل أيها الإخوة! إنه من أعظم النعم على الإنسان أن يكون على نورٍ من الله عز وجل.(12/9)
الإيمان يضبط السلوك والأفعال
من آثار نعمة الإيمان أن الإيمان يضبط سلوك المكلف، المكلف بغير دين وبغير إيمان، لا يدري أين يتجه، ولكن بالدين والإيمان تراه، متجهاً اتجاهاً واحداً، ولذا كل أمرٍ يُسخط الله يمتنع عنه، كل أمرٍ يرضي الله يسير فيه، يُعرض عليه.
الزنا يقول: معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي، يُدعى إلى ممارسة أي شيءٍ من المحرمات؛ فيقول: لا، يستثار إلى القتل فلا يقتل، يستثار إلى السرقة فلا يسرق، ولذا يعيش آمناً منضبطاً، من بيته إلى عمله إلى مسجده إلى مصالحه، ولا يقع في جريمة ولا يقع في مشكلة، فيعيش آمناً مطمئناً، ولو جئنا إلى أصحاب السجون، الذين ينتظرون الأحكام الشرعية، وسألنا كل واحد منهم عن قضاياهم، لوجدنا أن الشيطان هو الذي أوقعهم في هذه المشاكل.
تأتي إلى السارق فتقول له: لماذا سرقت؟ فيقول: الشيطان، وأنت ما هي قضيتك؟ قال: أنا قاتل، منتظر للسيف كل جمعة! لماذا تقتل؟ قال: الشيطان، وأنت؟ قال: أنا روجت أو هربت المخدرات لماذا تهربها؟ قال: الشيطان، تسلط عليهم الشيطان، عندما تركوا الإيمان، يقول الله عز وجل: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99 - 100].
فإذا أصبح عندك إيمان فقد أصبح عندك حصانة ووقاية، يأتيك الشيطان يوسوس لك في أمر تقول: لا، معاذ الله، يعرض عليك جريمة، تقول: معاذ الله، فتعيش آمناً لا تدخل سجناً ولا يقام عليك حد، ولا تقف في موقف شر، لماذا؟ لأن الله عز وجل حفظك.
الآن هناك بشر في هذا اليوم، أنتم الآن ستخرجون من هذه الجمعة بإذن الله، وتذهبون إلى بيوتكم، وتتناولون الغداء مع أزواجكم ومع أولادكم، وليس في قلوبكم إلا الأمن والطمأنينة، فاحمدوا الله على هذه النعمة.
لكن من الناس الآن من ينتظر أن يُدعى ويقال له: اكتب وصيتك واغتسل آخر غسله في الحياة، ماذا فيه؟! قالوا: اليوم إعدامك، وتسمعون كل يوم جمعة بعد الساعة الثانية والنصف الأخبار بيانات من وزارة الداخلية عن تنفيذ أحكام الله في المجرمين.
وهذه من نعم الله علينا في هذه البلاد، علينا أن نشكر الله على هذه النعم يا إخواني، فإن إقامة الحدود في الأرض تطهيرٌ لها، والله الذي لا إله إلا هو لو لم تُطبق شريعة الله في هذه الأرض لأكل الناس بعضهم بعضاً، ولكن نشعر بالأمن، تنام قرير العين بابك مفتوح وسيارتك مفتوحة، وتمشي السيارة من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، محملة بمئات الآلاف ليس فيها إلا السائق وحده لا يخاف على شيء، لماذا؟ طبقت شريعة الله، وقف كل إنسانٍ عند حده، فلنحمد الله على هذه النعم أيها الإخوة! ولنحمد الله على نعمة الستر أنك مستور، هل تعرف مقدار المعاناة التي يعاني منها ذلك الذي يخرج للقتل؟! لو استطعنا أن نصل إلى نفسيته ونأخذ شريحة من شرائح نفسه، ونحللها أي حالٍ حالته أيها الإخوان؟! وهو يرى العساكر مصطفين حوله، ويرى السياف وهو منتظر من أجل يقطع رقبته بالسيف أو بالبندقية تنفض ظهره وتخرج كبده أمامه! كيف حالته أيها الإخوان؟! حالة ما بعدها حالة، نعوذ بالله وإياكم أن نقف مثل هذه الحالات، ما الذي أوقعه في هذه الورطة، نزغة شيطان، نزغة شيطان بينه وبين أخيه المسلم يتضاربان ويتقاتلان على كلمة، ويقتل بعضهم بعضاً على متر من الأرض، ويقتل بعضهم بعضاً على مبلغ من المال، لكن لو كان عندك إيمان ودين فلا تستطيع أن تقتل، لماذا؟ لأنك تعرف ما بعد القتل.
كابني آدم قابيل وهابيل في القرآن قص الله قصتهما علينا، وهو أنهما قربا قرباناً أي: قدما شيئاً لله، فتقبل الله من أحدهما، ولم يتقبل من الآخر؛ لأن الله يعرف من المخلص منهما، فهذا الذي رفض قربانه قال لأخيه الذي قبل قربانه: لأقتلنك، قال: إنما يتقبل الله من المتقين، لماذا تقتلني، أنا وأنت تقدمنا بقربة لله والله قبل مني ولم يقبل منك، ماذا أفعل لك إذا كان الله لم يقبل منك، قال: لأقتلنك، قال: إنما يتقبل الله من المتقين، قال: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [المائدة:28] يقول: إذا أنت تريد أن تقتلني فأنا والله ما أقتلك لماذا؟ قال العلماء: كان أقوى وأقدر على الانتقام والبطش؛ لكن منعه خوف الله، قال: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [المائدة:28 - 29] وبعد ذلك قال: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:30] والعياذ بالله.
فيا أخي المسلم! نعمةٌ عليك من الله أن تعيش آمناً، لا تعرف السجون، ولا تعرف القضايا، لماذا؟ لأنك تمضي على الطريق المستقيم، كلما دعاك شخص إلى جريمة أو خطيئة تقول: لا، لا أسير إلا في طريق الحق.
أحد الناس أعرف قصته، كان نائماً في بيته وقد خلع ملابسه ولبس ثياب النوم، واستسلم للنوم ويأتيه زميل له ويناديه من عند الباب، فتستجيب الأم، تقول: من؟ قال: أنا فلان، من فلان؟ قال: زميل فلان، زميل ولدها أريده، قالت: قد نام، قال: أيقظيه، قالت: يا ولدي قد نام الساعة الثانية عشرة من الليل ماذا تريد منه الآن؟ قال: أريده أيقظيه الأمر مهم، فمسكينة ذهبت وأيقظت ولدها وليتها ما أيقظته، قالت لولدها: فلان يريدك، هو بمجرد أن سمع كلمة فلان قفز مثل الحصان، أما لو أنها أنهضته للصلاة لا ينهض، أو انهضته ليجيب والده فإنه لا ينهض، أو أنهضته لأي غرض فإنه لا ينهض.
لكن عندما إذا أيقظته لزميله آه فإنه يقوم، فقام واقتحم ونزل عليه، فقال له زميله عند الباب: أريدك تأتي معي، قال له: أين؟! قال: عندي موعد لدي صيد -يصطادون أعراض المسلمين- وأريد أن تأتي معي تحميني، قال له: أبشر.
ثم رجع وخلع ثوب النوم، ولبس ثوبه وأخذ مسدسه في جيبه، ومشى معه إلى عند البيت الذي يصطادون فيه أعراض المسلمين، ثم قال له: اجلس هنا؛ أجلسه عند شجرة ودخل هذا الخبيث واقتحم البيت، قفز من على السور ونزل على المرأة التي قد واعدها، ولما دخل أحس به صاحب البيت، وعرف أن شخصاً دخل بيته، فأخذ مشعابه وفتح الباب، فلما سمع هذا فتح الباب وهرب، وصاحب البيت خرج من الباب واتجه جهة الذي يحميه، فرآه فلما رآه طرده ظناً منه أنه هو الذي دخل البيت، وذلك قد هرب.
فلحقه ولما أدركه وضربه بالعصا، أخرج الولد هذا الذي كان قد نام في فراشه المسدس وقتل صاحب البيت، وعندها قبض عليه ولما جاءوا به إلى السجن حققوا معه؛ اعترف قال: أنا القاتل: قالوا: لماذا قتلت؟ قال: أنا كنت نائماً، وكانوا قد جاءوا بالذي دعاه، قال: أبداً لم أدعه ولا أعرفه ولا يعرفني، قال: كيف ما دعوتني؟! قال: أبداً أنا عندي الشهود والثبوت أنني في الليلة الفلانية من أولها إلى آخرها كنت في القرية الفلانية، وأتى بشهود يشهدون لله عن خلق الله، أنه موجود طوال الليل في القرية الفلانية، وجلس أياماً وليالي وأخرجوه، وهذا جلس في السجون سنوات ثم أخرجوه وقطعوا رقبته، لماذا؟ ما الذي أخرجه؟ لو أنه يخاف الله؟ لو كان عنده إيمان ودين ودعاه صاحب السوء، وقال له: أنا ذاهب إلى الحرام، لقال له: اتقِ الله يا عدو الله! تغزو على بيوت المسلمين، تصطاد محارم الله، ورجع إلى فراشه، لكن جره إلى الشر لأنه خبيث، وليس عنده إيمانٌ بالله عز وجل.
فالإيمان يا عباد الله حصن لك أيها الإنسان! وحماية لك، يحميك من الشر، ويحميك من الزلل، هذه آثار نعمة الإيمان في الدنيا قبل الآخرة.(12/10)
آثار نعمة الإيمان الأخروية
أما آثار نعمة الإيمان بعد ذلك فهي الآثار الحقيقية:(12/11)
حسن الخاتمة
أول أثر عند الموت: في ساعات الحرج، في ساعات انكشاف الحقائق، في ساعات زوال الحواجز، هناك في لحظات الموت، لحظات حرجة، لحظات يرى الإنسان فيها الجنة والنار، يتمنى أن يعود إلى الدنيا ليعمل صالحاً، يتمنى أنه قد صلى، يتمنى أنه قد تاب إلى الله، يتمنى أنه قد عمل الصالحات؛ لكن لا ينفع شيء في تلك اللحظات.
يثبت الله أهل الإيمان بالقول الثابت وهي شهادة أن لا إله إلا الله، المؤمن عند الموت يودع الدنيا بهذه الكلمة يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وفي الحديث الصحيح: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) هذه علامة من علامات حُسن الخاتمة.
إذا حضرت وفاة إنسان ونطق بالشهادة عند الموت ومات عليها، فاعلم أنه من أهل الجنة، ولكن من الذي ثبت عليها أيها الإخوة! من الذي يقولها! لا يثبت عليها إلا من عاش عليها في هذه الدنيا، من عاش على لا إله إلا الله، وحكم عينه بلا إله إلا الله، فلم ينظر بها فيما حرم الله، وحكم أذنه بلا إله إلا الله، فلم يستمع بها ما حرم الله، وحكم لسانه بلا إله إلا الله، فلم يتكلم بما حرم الله، وحكم يده ورجله وفرجه وبطنه وزوجته وأولاده وتجارته وبيته، فحياته كلها متفقة مع لا إله إلا الله، حتى أصبحت لا إله إلا الله تسير في عروقه، وتتردد مع أنفاسه، هذا عند الموت بدون تردد يقول: لا إله إلا الله.
لأنه عاش على لا إله إلا الله، وعرف لا إله إلا الله فلا يتردد، بل يقولها: لأن الله يقول: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27] أي: لا إله إلا الله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27] أي: عند الموت {وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] أي: في القبر {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
فإذا قال: لا إله إلا الله خرج متوجاً برضوان الله ورحمة الله، ومعه هذه البطاقة، وهذه الشهادة، وهذه الرخصة، للعبور إلى الجنة.(12/12)
تثبيت الله للعبد في القبر
بعد ذلك في قبره يسأل ثلاثة أسئلة: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ أسئلة مكشوفة تبدو الإجابة عليها سهلة، هي سهلة الآن، وصعبة عند الموت! في ذلك الموقف اللسان المتكلم يسكت، الله يقول: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65].
اللسان الكذاب الذي يأتي بالدعاوي ويكون في الدنيا كالسيف، هناك غير موجود، لا يوجد إلا العمل، من الذي يتكلم؟ تتكلم الجوارح عند الموت، يسأل الميت في قبره: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فيثبت الله المؤمن، ويقول: ربي الله، لأنه عرف الله، ديني الإسلام؛ لأنه عاش على الإسلام، نبيي محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سار على منهجه واتبع سنته.
فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي، فافرشوا له فراشاً من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها ونعيمها، وينام كما ينام العريس، هذه التي في القبر.(12/13)
صاحب الإيمان يبعث آمناً يوم القيامة
تأتي النعمة الكبرى يوم القيامة، يبعث الناس من قبورهم ويبعث صاحب الإيمان لا يخاف ولا يحزن، الملائكة تؤنسه وتبشره عنده، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [فصلت:30 - 31].
يقوم من قبره ويبعث، وإذا بعث فالملائكة عند رأسه، تقول: لا تخف ولا تحزن نبشرك بالجنة؛ لأنك ولي الله في الدنيا، فنحن أولياؤك الآن، وبعد ذلك يأتي على كربات يوم القيامة وأهوالها فيتجاوزها بسهولة.
أولاً: يمر على الصراط كالبرق الخاطف.
ثانياً: يشرب شربةً من حوض النبي صلى الله عليه وسلم؛ لا يظمأ بعدها أبداً، ينقطع الظمأ إلى أبد الآبدين عند هذه الشربة.
ثالثاً: يستظل في ظل عرش الرحمن؛ لأن الشمس تدنو من الرءوس حتى تغلي منها أدمغة العباد كما تغلي اللحوم في القدور من حرارة الشمس، ولا يوجد مظلة ولا سيارة ولا عمارة ولا شيء إلا مظلة الله، من استظل بدين الله وشريعة الله هنا، أظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ومن عاش تحت جحيم وحميم وحر الكفر والفسق والمعاصي، عاش تحت آلام وحرارة النار في النار والعياذ بالله.
رابعاًَ: يأخذ كتابه بيمينه؛ لأنه كان من أهل اليمين، كان يمشي على الطريق الصحيح، ولم يكن يعكس السير، يأخذ كتابه بيمينه ويقول: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:19 - 24].
بما عملتم في الأيام الماضية كلوا واشربوا هذا جزاؤكم، ليس بما لعبتم وضيعتم وسرتم في غير ما يريده الله تبارك وتعالى، ثم يزن موازين ترجح وتميل بالخردلة، الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء:40] ويقول: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].
يُوزن فترجح موازينه؛ لأن لديه عمل وإيمان وعقيدة صافية ومتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، وصلاة في المسجد، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وحب في الله وبغض في الله، وأمر بطاعة الله وذكر لله، وتلاوة كتاب الله وعمل صالح، فهذا ترجح موازينه، قال الله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:8].
وبعد هذه العقبات وتجاوزها، يقال له: أنت ناجح تجاوزت العقبات، فادخل هذه الكرامة: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:70 - 72].
نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا وإياكم من أهلها، هذا مصيرك يا أخي وهذه حياتك في ظل الإيمان بالله، أما الذي لا يريد هذا، فهو ما سنتكلم عنه في الخطبة الثانية.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.(12/14)
طريق الغواية والضلال
الحمد لله على إنعامه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيراً.
يا أخي في الله: لا خيار لك في أن تسلك طريق الإيمان أو غيره، إذ أن الخيارات إنما تكون في الأمور المتقابلة والمتقاربة، الخيار أن تتوظف في وظيفة أو أخرى، الخيار أن تتزوج ببنت آل فلان أو بنت آل فلان، الخيار أن تدرس في كلية نظرية أو كلية علمية، لكن الخيار بين الجنة والنار، الخيار بين سعادة أبدية أو شقاء أبدي، يقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36].
ظل ضلالاً واضحاً من يرفض طريق الإيمان، ويستمر في طريق الغواية والضلال، فهذا يشقى في الدنيا ويشقى في الآخرة.
يشقى في الدنيا لأنه لا يدري لماذا يعيش، يعيش كما تعيش البهائم، كما قال الله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] وكما قال عز وجل: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].
فيعيش كما تعيش البهائم، وبعد ذلك يعيش قلقاً، لماذا؟ لأن جميع متع الدنيا ولذائذها لا تسعد، ولا تستطيع أن تنفس عنك العذاب الداخلي هذا، إلا الإيمان بالله عز وجل، فيعيش في قلق وفي عذاب، ولو كان في أعلى وأرقى صور المتاع الدنيوي.(12/15)
طريق الكفر لا يحقق السعادة وإن توفرت الإمكانيات المادية
ها هي أوروبا الكافرة، ها هو الغرب الكافر يعيش قمة في التطور المادي، فجروا الذرة، طوعوا المادة، سبحوا في الفضاء، غاصوا في الماء، عملوا المعجزات في المادة.
لكن هل حققت لهم المادة سعادة؟ هل استطاعت المادة أن تحل ألغاز الحياة؟ إن ضغط الحياة المادية قد ضغط على أنفسهم من الداخل حتى فجرها، فتفجرت النفوس في مشاكل ومعضلات من أبرزها الانتحار، فظاهرة الانتحار في الغرب ظاهرة شائعة، وكذلك الأمراض النفسية، الجنون المسرحي والتمثيلي، الجنون الكروي، التحلل الأسري، التفكك الاجتماعي، حياة جحيمية، يألف الإنسان منهم كلبه، ولا يألف أخاه، لماذا؟ لأنهم لم يجدوا الحياة الحقيقية في ظل الكفر بالله عز وجل؛ فحرمانهم من هذه الحياة بسبب كفرهم.
وبعد ذلك لا يضبط الله سلوكه، فيعيش ملطخاً به في كل أرض والعياذ بالله، لا يتولاه الله، ولا ييسر الله أموره، وكلما سار في طريق عسرها الله عليه، يجعل أمره كله عسيراً؛ لأن الله يقول: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:8 - 10] والعياذ بالله.(12/16)
الخاتمة السيئة لأهل الكفر والضلال والمعاصي
وعند الموت يقال له: قل لا إله إلا الله فلا يستطيع أن يقولها، لا يقدر أبداً ويُلجم على لسانه، اليوم نختم على أفواههم، ولو كان يعرفها قبل؛ لأنه لم يعمل بها فلا يستطيع أن يقولها، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه الجواب الكافي ذكر قصصاً كثيرةً عن قومٍ حضرتهم الوفاة، وقيل لهم: قولوا لا إله إلا الله، فما قالوها.
أحدهم قيل له: قل لا إله إلا الله وكان يتعامل بالربا، كان يبيع العشرة بعشرين، يسلف الناس عشرة ويستملها بعد ذلك عشرين، قالوا له: قل لا إله إلا الله، قال: العشرة بعشرين، ومات على العشرة بعشرين.
وفي العصور المتأخرة هذه، نُقل إلينا أن رجلاً ممن كان يبيع ويشتري في العقار بطريقةٍ محرمة، لما حضرته الوفاة قالوا له: قل لا إله إلا الله، قال: على شارعين، قالوا له: قل: لا إله إلا الله، قال: برخصة البلدية، ومات على شارعين والعياذ بالله.
وشابٌ وقع له حادث مروري، وجاءوا عليه وقد قطع (الدركسون) بطنه، وهو يلفظ أنفاسه، والمسجل شغال وهو في آخر رمق يتكلم ويغني مع المغنية، ويقول: هل رأى الحب سكارى مثلنا؟! مات على هذه الكلمة والعياذ بالله.
ما رأى أسكر ولا أفشل منك ولا أجناسك، والعياذ بالله أن تعيش على هذا وتموت على هذا فانتبه يا أخي! لأنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعث عليه، فعندما يُريد أن يقول: لا إله إلا الله لا يستطيع أن يقولها.
رجل كان يُدخن ولما حضرته الوفاة قيل له: قل لا إله إلا الله، قال: هبوا لي دخاناً، يريد يُكيف في القبر، قالوا: لم يعد هناك دخان أنت ستموت الآن، قل: لا إله إلا الله، قال: والله ما أقولها أنا بريءٌ منها، تبرأ من لا إله إلا الله، ثقلت على لسانه؛ لأنه قد لوثه بهذه الخبائث والعياذ بالله.(12/17)
حال أهل الكفر والضلال في القبور
هذه المصيبة على الإنسان عند الموت، وفي القبر يسأل: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فيذهن مثل الذاهن من النوم يقول: هَا هَا لا أدري؛ لا يدري من ربه! لا يدري من نبيه! لا يدري، لماذا؟ لأن الله يقول: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
وبعد ذلك تقول الملائكة: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد على رأسه فيصير طحيناً إلى قدمه، ثم يعذب إلى يوم القيامة، ويُفرش له فراش من النار، ويفتح له باب إلى النار، وينام كما ينام اللديغ والعياذ بالله، إلى أن تقوم الساعة؛ فإذا بعث الناس من قبورهم، قام وعليه الذلة.(12/18)
حال أهل الكفر في مشاهد يوم القيامة
يقول الله عز وجل: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:43 - 44].
يمر على الصراط فيسقط، تهبط قدمه الأولى والثانية في سواء النار والعياذ بالله، يأتي إلى مظلة الرحمن فيطرد؛ لأنه ما استظل بظل الله ولا بظل شريعة الله، يأتي إلى الحوض ليشرب فيذاد؛ لأنه لم يشرب من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كان مشربه مشرباً غير شرعي، يأتي ليوزن فيخف ميزانه؛ لأنه رخيص تافه ليس معه عمل، ليس عنده إلا الأغاني والمسلسلات (والأفلام)، ما لديه إلا أمواس يحلق بها لحيته ليل نهار، لماذا؟ لأنه تافه لا قيمة له عند الله عز وجل، وبعد ذلك يُعطى كتابه بشماله (الشهادة حقه) يرى الناس يأخذون كتبهم بأيمانهم فيقدم يمينه فتضربه الملائكة على كتفه فتطيح يمينه، فيأخذ الكتاب بالشمال فإذا رأى الكتاب وإذا بعمله كله من يوم أن خلقه الله إلى أن مات وهو مسجل، قال الله: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ} [الإسراء:13 - 14] أنت الذي أنت عبأته، أنت الذي عبأته بالمنكرات والمعاصي: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:14] {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29].
فإذا رأى كتابه قال: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة:25] يقول: ليتني ما رأيت هذه الشهادة: {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:26 - 29].
يقول الله: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32].
سلسلة من سلاسل النار، ذرعها سبعون ذراعاً بذراع أهل النار يسلك فيها، تُدخل من فمه وتخرج من دبره ليشوى في النار كما تشوى الدجاجة في المقلاة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولماذا؟ قال: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة:33].
فيا إخوتي في الله! من كان مستقيماً وملتزماً بمنهج الله؛ فليحمد الله وليطلب من الله الثبات حتى يلقى الله، ومن كان مقصراً وكلنا ذاك الرجل؛ كلنا مقصرون، فلنتب إلى الله عز وجل.
فليتب الإنسان منا ولا يؤجل، فالتأجيل ليس من مصلحتنا، لا تقل: أتوب بعد ذلك، بعد ذلك ما تملكها أنت، قد تقول: أتوب بعد ذلك وتموت اليوم، أو تموت بعد شهر أو بعد سنة، خطر كبير أن تجازف بمصيرك، وأن تخاطر به ولا تتوب، الأفضل والخيار الأمثل أن تتوب الآن، لأنك إذا تبت وفاجأك القضاء والقدر وإذا بك سلمت.
وإذا تبت ومد الله في أجلك وإذا بك كل يوم ترتفع درجة عند الله، لكن إذا أخَّرت التوبة وأجلت الرجعة إلى الله، ومت ولقيت الله وهو عليك ساخط كيف تصنع؟! كيف ترقعها مع الله؟! وإن لم تمت مد الله في عمرك، وأنت عاص فإنك كل يوم تزداد إثماً، لو مت اليوم أحسن من أن تموت غداً؛ لأنك تسلم من المعاصي.
أجل الأفضل لك أن تتوب الآن، وسوف تجد رباً كريماً يغفر الذنب العظيم، ويقول: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] لا تقل: أنا كثير المعاصي، أنا فعلت وفعلت، مهما عملت من ذنوب فإن رحمة الله أوسع من ذنوبك، بل إن الله عز وجل لا يغفر الذنب فقط، ولكن يغفر الذنب ويبدل الذنب كله حسنات، قال الله: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70].
فيا إخوتي في الله! لابد من الرجعة إلى الله والعودة إليه، لأننا سنموت، لو كنَّا لن نموت كان من حقنا أن نعصيه، وما دام الإنسان على يقين أنه سيموت، ولن يستطيع أن يفلت من قبضة الله، فإن الأفضل في حقه أن يتوب إذا أراد النجاة في الدنيا والآخرة.
ألا وصلوا على خير خلق الله، محمد بن عبد الله فقد أمركم بذلك فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعنا معهم ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، برحمتك يا أرحم الراحمين.(12/19)
بصيرة المؤمن
تحدث الشيخ في هذه المحاضرة عن عدة عناصر فبدأ بالحديث عن زهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، ثم بدأ بالحديث عن البصيرة وذكر أسباب تقويتها، وجعلها نافذة، مبيناً أن من هذه الأسباب غض البصر عن الحرام، وكف النفس عن الشهوات، وغيرها من الأسباب المؤدية لنفاذ البصيرة.(13/1)
زهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله: مرحباً بكم في روضة من رياض الجنة، وحيى الله هذه الطلعات الطاهرة، وهذه الوجوه المباركة التي أقبلت إلى الله، تلتمس طريقاً إلى الجنة، تريد الدخول على الله من أشرف الأبواب باب العلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع).
أنتم تأتون إلى حلق الذكر، ولكنكم لا تسيرون على الأرض، وإنما تسيرون على أجنحة الملائكة، تأييداً ورضاً بهذا المسلك النبيل، وبهذا الغرض الجميل، حين يحب الناس الدنيا فتحبون الله، وحين يحب الناس اللهو واللعب والركض فتحبون أنتم الذكر، حينما يحب الناس الطبل والزير فتحبون القرآن والتفسير، حينما يحب الناس العود والناي فتحبون أنتم الحديث والآي، {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60].
هذه بضاعتكم وهذه حياتكم وهذا قدركم؛ فاحمدوا الله على ما آتاكم، هذا هو الفضل، هذا هو الخير، والله يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:57 - 58] بفضل الله وبرحمته أي: بالهدى والدين من الله، فمن أوتي العلم وأوتي الدين والإيمان فقد أوتي خيراً كثيراً ولو حرم من الدنيا كلها.
لقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأجلاء الكرماء العظماء أكرم عيشة عرفتها الحياة، ومع هذا ما كان عنده شيء من الدنيا، بيت النبوة أشرف بيت على وجه الأرض، تقول عائشة رضي الله عنها: (كان يدخل الهلال والهلال والهلال ولا يوقد في بيوت آل محمد نار) الله أكبر! تصوروا لو أن بيوتنا لا توقد فيها النار يوماً واحداً كيف تكون؟ الآن توجد النيران وليس ناراً واحدة، لكن هل هذه هي السعادة؟ لا.
بيوت آل محمد ليس فيها نار قال: [فما طعامكم يا أماه؟ قالت: الأسودان؛ التمر والماء].
وكان صلى الله عليه وسلم ينام على الحصير -لا ينام على الفراش الوثير- حتى يبدو أثر الحصير في جنبه الشريف صلوات الله وسلامه عليه، وكان يخرج في بعض الأيام وهو مربوط على بطنه الحجر، لقد خرج أبو بكر يوماً من الأيام يشكو الجوع فلقيه عمر فقال: ما أخرجك؟ قال: والله ما أخرجني إلا الجوع، ثم كشف عن بطنه وإذا فيه حجر -والحجر تضغط على المعدة فتسكت؛ لأن المعدة إذا خلت من الطعام أرسلت إشارات وأصدرت حركات توحي أنها تريد طعاماً، فيكون في البطن ألم حرقة الجوع، نعوذ بالله من الجوع، فإذا ضغط على الأمعاء والبطن بحجر التقى جدار المعدة بعضها ببعض فتسكت كأنها شبعت لكن بالحجر، وما شبعت بالطعام- فكشف عمر عن بطنه وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج عليهما فيشكوان عليه قالا: يا رسول الله! ما أخرجنا إلا الجوع، ويكشف عن بطنه الشريفة وإذا على بطنه حجران، وهو الذي يقول: (والله لو أردت أن تكون معي الجبال ذهباً وفضة لكانت، ولكن أريد أن أشبع يوماً وأجوع آخر، فإذا شبعت شكرت الله، وإذا جعت سألت الله) هذه حياة القلب حياة الإيمان، فمن رزق هذه النعمة فقد رزق النعمة الكبرى.(13/2)
الحاسة التي يتميز بها الإنسان عن الحيوان
أيها الإخوة: عنوان المحاضرة: بصيرة المؤمن.
هناك حواس زود الله الإنسان بها لإدراك ما في هذه الحياة، لمعرفة الوسط الذي يعيش فيه الإنسان، حاسة البصر يطل منها الإنسان على عالم الألوان، فيرى الأبيض والأسود والأحمر والأزرق والأصفر بعينه، فحاسة العين تطل على عالم الألوان، وحاسة الأذن تطل على عالم الأصوات، صوت محمد وعلي وعبد الله وفلان، تعرف الصوت بأذنك، وحاسة الشم يطل منها الإنسان على عالم الروائح، إذا أردت أن تشم رائحة عطر هل تشمه بأذنك، أو تقربه إلى عينك، أو تطعمه بلسانك، أين تضعه؟ في أنفك؛ لأن أنفك هو الذي يعطيك دليلاً على نوعية هذا العطر أو هذه الريح، وحاسة اللسان تطل منها على عالم الطعام والأذواق، إذا أردت أن تعرف طعم التفاح لا تضعه عند عينك، ولا تضعه عند مسمعك، وإنما تذوقها بلسانك، وحاسة اللمس تطل منها على عالم الأجسام، فتعرف الحديد من الخشب، والجدار من الإسفنج؛ فتعرف أي شيء عن طريق حاسة اللمس، هذه خمس حواس.
وهذه الخمس الحواس ليست خاصة بالإنسان، بل مع الإنسان ومع الحيوان، بل ربما عند بعض الحيوانات حواس أدق وأقوى من حاسة الإنسان، الطائر الصغير: العصفور يعيش في جو السماء، ولكنه بعينه الصغيرة التي هي مثل حبة البلسن، أو مثل حبة العدس يرى الحبة في الأرض، وهو في السماء فينزل ويأخذها، عينه صغيرة والحبة أكبر من عينه ولكن يراها بعينه الصغيرة، عنده قدرة على رؤية الأشياء البعيدة بأدق إمكانية.
حاسة السمع موجودة عند بعض الحيوانات تسمع على مدى بعيد، وكذلك حاسة الشم بشكل عجيب، كل هذه الحواس موجودة عند الإنسان وعند بقية الحيوان، بل بعض الحيوانات كما قلت أكبر، فعين الثور مثلاً كبيرة جداً لكنه ثور، وعين الحمار كذلك كبيرة لكنه حمار لا تنفعه.
ولكن يتميز الإنسان عن سائر الحيوان بحاسة سادسة ليست مع الحمار، ولا مع الطائر، ولا مع السمك، ولا مع أي شيء من البهائم والأنعام، إن الحاسة السادسة هي البصيرة التي بها يكون الإنسان إنساناً، وبعدمها يكون الإنسان حيواناً بل أرذل من الحيوان.
واسمعوا ماذا يقول الله عز وجل: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] فالعمى ليس عمى العين، العمى عمى القلب، عمى البصيرة، يقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى} [الإسراء:72] يعني: أعمى القلب {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء:72] من كان في هذه أعمى هل يعني: أعمى العيون؟ لا.
لأن عمى العين ليس باختيارك، هل هناك أحد يغمض عينيه ويخيطها ويعمى، لا.
الله يفرضها على الإنسان، فالمؤمن يرضى بقضاء الله إذا ذهبت عيناه ويستسلم، وإذا رضي واحتسب أبدله الله الجنة، ورد في الحديث القدسي: (إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر لم يكن له عوض عندي إلا الجنة) فإذا أخذ الله منك هذه الحاسة وعوضك بحاسة الإيمان ما خسرت، لكن إذا زودك بهذه الحاسة -حاسة البصر- وحرمت حاسة البصيرة فلم تعش حياة الإيمان لم تنفعك هذه العيون، فهو أعمى في الدنيا وأعمى في الآخرة يقول الله عز وجل: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:19 - 22] ويقول الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأحقاف:26] ويقول عز وجل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النحل:78] لماذا؟ {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] ويقول عز وجل: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] ويقول عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] أجل بم تتميز؟ بالبصيرة.(13/3)
تعريف البصيرة وأهميتها
ما هي البصيرة؟ هل نبحث عنها في الصيدليات، أم في المستشفيات؟ لا.
هذه لا توجد لا في البقالات ولا في المستشفيات، ولا يحصل عليها بكثرة الريالات، ولا بقوة العضلات، ولا بعلو الرتب والمناصب، بل هي: نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
أين النور هذا؟ اسمعوا ماذا يقول الله في النور: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} [النور:35] يعني: في قلب عبده: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35] المشكاة: الفتحة التي في الجدار -في الماضي- وفيها مصباح يعني: لمبة {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ} [النور:35] يعني: اللمبة {فِي زُجَاجَةٍ} [النور:35] مغطى بالزجاجة من أجل ألا يؤثر عليه الهواء: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور:35] ملمعة ونظيفة كأنها كوكب، وبعد ذلك: هذا المصباح من أين يوقد؟ قال: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} [النور:35] يعني: الزيت والزاد الذي يوقد منه ليس بنزيناً وإنما من زيت زيتونة {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35] يعني: تصيبها الشمس في الشروق وتصيبها الشمس في الغروب فيأتي زيتها أصفى من الشمس: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] نور المشكاة على نور المصباح على نور الزجاجة على نور الزيت تجمعت أنوار أين هي كلها؟ في قلب العبد المؤمن -اللهم نور قلوبنا يا رب العالمين- {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35].
هذا النور يقول الله عز وجل عنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ} [الحديد:28] ماذا؟ {نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد:28] وقال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
هذا النور -أيها الإخوة- والإيمان، وهو الهداية، هو التوفيق الذي إذا حل في قلبك حيت بصيرتك وانطلقت، ورأت الأمور على حقائقها وأعادت ترتيب المسائل؛ لأن القضايا والأمور والأحداث في حياة الإنسان غير مرتبة الترتيب السليم لفقدان البصيرة، هناك أشياء غير مهمة تجد الإنسان يقدمها، وأشياء مهمة مرفوضة، غير مقدمة مهملة، لماذا؟ لأن البصيرة التي تعرف أن هذا مهم فيقدم، وهذا غير مهم فيؤخر غير موجودة، فإذا جاءت البصيرة بدأ الإنسان يعيد ترتيب قضايا حياته، ويعطي لكل شيء ما يناسبه من الاهتمام.
الآن لما عميت بصائر أكثر الناس، ما عرفوا الأمور على حقائقها ولم يروا إلا ما تراه حواسهم فقط، فرأوا الدنيا، فيعيشون للدنيا التي يرونها ويسمعونها ويشمونها ويتذوقونها ويلمسونها ويتمتعون بها، فلها يعيشون، وبها يفرحون، ومن أجلها يغضبون، وفي سبيلها يموتون، وإذا قلت له: آخرة، قال: يا شيخ! فيما بعد، لماذا؟ لأنها ليست في ذهنه، وليست واردة في حساباته؛ لأنه لا يراها، ليس لديه نور ينظر به، وليست عنده بصيرة يستطيع أن يخترق الحجب وأن ينفذ إلى الآخرة، ولذا لا يرى إلا الدنيا، لماذا؟ قال العلماء: هذه الإصبع إذا وضعتها في المكان المناسب رأيتها بحجمها، تضعها أمام عينك فتراها بوضعها الطبيعي ولكنك تراها وترى ما وراءها، لا تستطيع الإصبع أن تحجب الرؤية عن عينيك وأن تسد أفق النظر عما وراءها، فأنا الآن أرى إصبعي وأرى المجلس المملوء بالمؤمنين، وأرى اللمبات والأعمدة، وأرى الميكرفون، وأرى يدي، لكن إذا قربت الإصبع جداً جداً إلى أن تلصقها بعينك ماذا ترى؟ لا ترى إلا الإصبع فقط، يقولون: وراءها مسجد وراءها أناس، تقول: لا.
لا أرى إلا الإصبع، لماذا؟ لأنك ألصقتها، ما وضعتها في المكان المناسب، لكن إذا أبعدتها قليلاً ترى الناس، كذلك الناس ألصقوا الدنيا بقلوبهم، ألصقوا الدنيا بأعينهم، ألصقوا الدنيا بجميع حواسهم فلا يرون إلا الدنيا، ولو أنهم أبعدوا الدنيا قليلاً -لا نقول: يرفضونها وإنما يجعلونها في المكان الصحيح- لرأوا الآخرة، ولرأوا الجنة والنار.
حارثة بن وهب رضي الله عنه -وإن كان الحديث فيه مقال، لكنه يستشهد به في مثل هذه الأمور- لقيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمناً يا رسول الله! قال: انظر ماذا تقول، فإن لكل قول حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: يا رسول الله! عزفت نفسي عن الدنيا وشهواتها؛ فأظمأت نهاري بالصيام، وأسهرت ليلي بالقيام، وأصبحت وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها؛ فقال عليه الصلاة والسلام: عرفت فالزم، إنك امرؤ نور الله قلبك بالإيمان).
إذا أنار الله القلب وفتح البصيرة؛ رأى الإنسان الدنيا والأمور كلها على حقيقتها، ورأى الله في كل شيء.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
ينظر إلى السماء فيرى آثار قدرة الله في خلق السماء فيقول: لا إله إلا الله! سبحانك {مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191].
ينظر إلى البحر فيقول: لا إله إلا الله! سبحان من أجراه.
ينظر إلى الجبال فيقول: لا إله إلا الله! سبحان من أرساها.
ينظر إلى الأرض فيقول: لا إله إلا الله! سبحان من مدها وبسطها.
ينظر إلى الثمار فيقول: لا إله إلا الله! سبحان من حلاها وأنبتها.
ينظر إلى العسل وهو يأكل ويقول: لا إله إلا الله! سبحان من أخرج هذا العسل من هذه الحشرة.
يأكل الموز فيقول: سبحان من أخرج هذا الشيء من الطين! {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد:4] لماذا؟ فتح الله بصيرته، لكن البهيمة التي لا تعرف الله وليس عندها إيمان ولا نور تأكل من اللوز ومن الموز ومن اللحم ومن العسل ومن كل شيء، ولا تقول: سبحان الله! ولا تقول: لا إله إلا الله! لماذا؟ مثل الدابة أو الثور أو الحمار -الله يكرمكم- إذا أكل علفاً هل يتفكر في هذا العلف كيف ساقه الله له؟ أبداً، يأكل حتى تمتلئ بطنه ويذهب فيركب أنثاه، وكذلك بعض البشر يعيش حياة البقر وحياة الحمير لا فرق بينه وبين البهائم والعياذ بالله.(13/4)
الفرق بين المؤمن والكافر في النظر إلى الدنيا
المؤمن يتميز بهذه البصيرة التي ينظر بها إلى الأمور، يعيش في الدنيا ويسكن في القصر ولكن بجسده وقلبه يعيش في القبر، يعيش على الفراش الوفير وهو يتذكر الكفن والحفرة المظلمة، يعيش في النور وهو يتذكر ظلمات القبور، يعيش مع الزوجة ومع الأبناء وهو يتذكر الوحشة في أول ليلة من ليالي القبر، يأتي على الإنسان في أول ليلة موحشة في قبره ما لم يتعرض له في حياته قط، يقال: يومان وليلتان ما مر عليهما الإنسان في حياته: أول ليلة في القبر وأول ليلة إما في الجنة وإما في النار، يقول:
فارقت موضع مرقدي ليلاً ففارقني السكون
القبر أول ليلة بالله قل لي ما يكون
إني أبثك من حديثي والحديث له شجون
يقول: أعطيك ما في قلبي وهو ذو شجون، يقول: أنا إذا غيرت مرقدي ليلة من الليالي في غير بيتي أتقلب طوال الليل، لماذا؟ قال: لأني غيرت موضع مرقدي، يقول:
القبر أول ليلة بالله قل لي ما يكون
كيف تلك الليلة يا إخواني! ونحن نعيش في غفلة عن هذا المصير، من الذي يعيش حياة القبور؟ إنهم أهل البصيرة، لا تخدعهم الفلل ولا العمارات ولا السيارات ولا الزوجات ولا غرف النوم، وإنما يعيشون هموم الآخرة قبل أن يصلوها، فيستعدون لها، ويعملون من أجلها.
أما البهائم البشرية فهم في غفلة، يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] ويقول عز وجل: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات:46] ويقول عز وجل: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].
فبالإيمان وبالبصيرة التي ينور الله بها قلب المؤمن تنضبط حياة الإنسان، يرى الآخرة، ويرى الجنة وما أعد الله فيها للمؤمنين فيعمل، ويرى النار وما أعد الله فيها للعصاة والمجرمين فيتوقف، لا يستطيع أن يقدم على المعصية، يدعى إلى الزنا فيقول: إني أخاف الله.
يدعى إلى الحرام فيقول: إني أخاف الله.
يدعى إلى الربا فيقول: معاذ الله.
لماذا؟ لأنه آمن بالنار فكأنما يراها رأي العين، ورأى الجنة كذلك فيقوم إلى عبادة الله، وإلى طاعة الله، بل يقوم إلى الموت في سبيل الله.
حنظلة بن عامر الأسدي رضي الله عنه وأرضاه (غسيل الملائكة) قام من على فراشة في ليلة عرسه ومع زوجته في أول ليلة يبني بها، وليلة الزواج يسمونها: ليلة العمر، كل شخص يخطط لها طوال حياته من أجل أن ينبسط فيها، يأخذ إجازة من العمل قبلها وبعدها يريد أن يرتاح، لكن حنظلة عنده نظرة للآخرة، لما سمع المنادي: يا خيل الله اركبي! قال لزوجته: أسرجي حصاني، فقامت تسرج الحصان، وهو يلبس آلة الحرب -السيوف والدروع- فركب على الحصان ولم يغتسل -خرج جنباً- فقاتل حتى استشهد، ويضحي بزوجته، ولكن الله يعطيه بدلها اثنتين وسبعين زوجة في الجنة، وفي آخر اليوم، يتفقدون القتلى فيجدونه وإذا برأسه يقطر ماء، والماء معدوم في المعارك، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (سلوا زوجته، فقالت: خرج وهو جنب، قال: والذي نفسي بيده إن الملائكة لتحمله وتغسله في صحاف من ذهب بماء المزن بين السماء والأرض) ما الذي جعله يقوم من جانب امرأته ويذهب يموت في سبيل الله؟ البصيرة، لكن لما عدمت البصيرة عند بعض الناس لا يقوم من فراشه ليصلي في المسجد، يسمع المنادي فوق رأسه: الله أكبر! وهو يتقلب كالخنزير على فراشه دون أن يصلي، لماذا؟ لأنه مطموس البصيرة، أعمى القلب، والله لو يعلم أن في المسجد مائة ريال لا ينام، لو قيل: لكل صلاة مائة ريال، هل هناك أحد سيترك صلاة بخمسمائة ريال في اليوم، وفي الشهر بكم؟ بخمسة عشر ألفاً، هذا راتب أفضل من أي راتب، لا أحد يتركها، لكن لو كان الجزاء الجنة (من غدا إلى مسجد وراح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا وكلما راح) فمن يأتي لهذه؟ يأتي لها الذين يرونها، يرونها بماذا؟ يرونها بقلوبهم، ما رأوها بأبصارهم ولكن رأوها ببصائرهم: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] إذا عمي القلب فليس في الإنسان فائدة والعياذ بالله.
هذه البصيرة يرى الإنسان بها حقائق الأمور فيرتب أموره على هذا الوضع، ويعيش عيشة الإيمان.(13/5)
أسباب نفاذ البصيرة لدى المؤمن
هل هناك وسائل وأسباب تقوي هذه البصيرة وتجعلها نافذة وقوية؟ نعم.
روى البخاري في الصحيح حديثاً قدسياً يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل، والحديث القدسي هو الذي لفظه ومعناه من الله مثل القرآن غير أنه لا يتعبد به في الصلاة، ولكن تقرأ في الصلاة بالقرآن وهو: الكلام الذي أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم لفظه ومعناه، ومتعبد به في الصلاة، والحديث القدسي هو الذي أوحي به من الله إلى النبي لفظاً ومعنىً وغير متعبد به في الصلاة، والحديث النبوي الشريف هو الذي أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم معناه دون لفظه، المعنى من الله واللفظ من محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا الحديث القدسي في صحيح البخاري، يقول عليه الصلاة والسلام: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) وفي بعض الروايات: (من عادى) من بدأ العداوة والأذى لأولياء الله فقد آذن الله بمحاربته وأعلن الله عليه الحرب، ومن أعلن الله حربه فهو مهزوم؛ فمن يقدر على الله: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21].
النمرود كان يدعي أنه الإله، ولما دعاه إبراهيم إلى عبادة الله وحده كفر وقال: إنه هو الرب ولا يعرف أنه يوجد رب غيره للناس، وبعد ذلك طلب من إبراهيم أن يبارز الله، قال: هذا الذي تدعي أنه إلهك يا إبراهيم، أريد أن يبرز لي في الميدان، أريد أن أقاتله، فإن غلبني فهو الرب وإن غلبته فأنا الرب؛ فالله عز وجل أرسل له جندياً من أصغر الجنود وأضعفها، يقول الله: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفتح:4] هذا الجندي هو بعوضة أرسلها الله للنمرود؛ لأنه أضعف من البعوضة لا يستحق أن يرسل له أسداً أو نمراً أو ثعباناً، البعوضة تسلبه وتمتص دمه ولا يمتنع منها، وبينما كان نائماً في الليل يشخر كالثور دخلت البعوضة من أنفه واستقرت في رأسه، وتربت على دماغه، وكانت تنتفض بجناحها، فإذا انتفضت أحس في رأسه مثل الصواعق دوار وصداع وحركة غريبة في رأسه، فلا تسكن إلا إذا ضرب وجهه بالنعال، وإذا وقف الضرب حركت أجنحتها فيقول: اضرب اضرب، فضرب النعل أخف من حركة البعوضة في رأسه حتى تقطع وجهه، أصبح وجهه تسيل منه الدماء من كثرة الضرب، حتى تقيحت وتقرحت وبدت عظام وجهه، وأخيراً لم يجد فرصة للحياة، لم يتحمل أبداً، إن ضرب تألم، وإن لم يضرب تألم من الداخل ما هو الحل؟ الحل: الموت، دخل عليه عبد من عبيده وفي يده سيف، قال: يا عبدي! قال: نعم.
قال: اضرب هامتي -يقول: اضرب رأسي- فسل العبد السيف وفلق رأسه، فنزل السيف على رأسه ونزل على جناح البعوضة فقصه فاشتكت إلى الله، وقالت: يا رب! دخلت في عدوك بأمرك لأعذبه؛ لأنه عدوك، ولكن سلطت عليَّ من قطع جناحي، فقال الله لها: أتريدين جناحك، أم تريدين دية؟ قالت: كم الدية؟ قال: الدية الدنيا منذ خلقتها حتى أفنيها -قصورها وعماراتها وبنوكها ومزارعها وسياراتها وكل ما فيها- ففكرت قالت: ماذا أفعل بالدنيا، وأنا مكسورة الجناح لا أطير؟ فقالت: لا يا رب! أريد جناحي من أجل أن أطير، فأعطاها الله جناحها، ولذا قال في الحديث: (لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة.
والجندي الآن الجديد الموجود في العالم اسمه: الإيدز، وهو يهدد أمريكا وأوروبا والعالم كله، أين كان الإيدز، والإنسان موجود منذ القدم ولم يعرفه إلا هذه السنة؟ سلطه الله عليهم لما عتوا عن أمر الله، ولما شاعت فيهم الجريمة والفاحشة، وأصبح الجنس عندهم إلى أرذل درجة من درجات الحيوانية، يعني: الحياة الجنسية عندهم لا تطاق أبداً، وتمارس بشكل بهيمي يستحي منه الحمار والحيوان، فماذا سلط الله عليهم؟ سلط الله عليهم الإيدز، الإيدز فيروس يدخل في الجسم ويسير مع الدم، ويقتل الكريات البيضاء ويقضي على المناعة.
الكريات البيضاء تشكل جيشاً داخلياً لمحاربة الأجسام الغريبة، وهي التي تحفظ للجسم مناعته وقوته ضد أي مرض، فإذا ماتت هذه الكريات يصبح الجسم لا يستطيع أن يقاوم أي مرض، وبالتالي أقل زكام يقتله، أقل جرثومة تقتله، والعالم إلى الآن لم يستطع أن يجد لهذا المرض علاجاً.
من يستطيع أن يحارب الله؟ {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفتح:7] أرسل الله عز وجل على قوم عاد الريح، أتدرون كم فتح عليهم؟ قدر حلقة الخاتم فكانت تحملهم إلى السماء ثم تلقيهم {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:7 - 8].
سلط الله عز وجل على قوم فرعون الغرق، وسلط الله عز وجل على قوم لوط الهدم بحيث حمل قريتهم ثم قلبها عليهم، وعلى ثمود الصيحة، وكل أمة يسلط الله عليها عذاباً، والله قادر أن يسلط على الكفار عذاباً لا يعرفه الناس، ولكن الله يقول: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182 - 183] {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} [فاطر:45].
(من عادى لي ولياً -من آذى لي ولياً- فقد آذنته بالحرب) فقد أعلنت عليه الحرب، انتبه يا أخي في الله! لا تعادي أولياء الله، لا تؤذ عباد الله، من هم أولياء الله؟ بعض الناس يتصور أن الأولياء هم الذين في القبور وعليهم قباب ويطاف حول قبورهم، لا.
هؤلاء أولياء -إن شاء الله- إن كانوا صالحين، وكل مؤمن بالله فهو ولي لله؛ لأن الله يقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] من هم؟ {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] فكل مؤمن يتقي الله فهو ولي من أولياء الله؛ لا تؤذه في ماله، ولا تؤذه في نفسه، ولا تؤذه في عرضه، ولا تؤذه بأي أذى، حتى لو دخلت المسجد تتوضأ في دورة المياه وشخص في الحمام لا تطرق عليه الباب؛ لأن هذا إيذاء له، هل هناك أحد في الدنيا يقعد في الحمام باختياره؟ لا.
الإنسان يدخل الحمام مضطراً من أجل أن يقضي حاجته، وهو يود أن يخرج في أول فرصة، لكن أحياناً ينتظر، يكون عنده حاجة أكبر يقضيها، فإذا أتيت تطرق عليه الباب ألست تؤذيه؟ الإيذاء لا يجوز.
لا تؤذه بدعائه بغير اسمه، كأن تقول: يا طويل! يا قصير! يا متين! يا ضعيف! يا أسود! يا فلان أنت يا علان، لا.
بل ناده باسمه، بل بكنيته فإذا كان اسمه محمداً وله ولد اسمه عبد الله تقول: يا أبا عبد الله! وإذا كان اسم ولده خالد فتناده: يا أبا خالد! لماذا؟ لأن الكنى محببة إلى النفس والعرب تحبها، إذا ناديتني بابني أفضل من أن تناديني باسمي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكنى بأبي القاسم صلوات الله وسلامه عليه، فلا تؤذ عبد الله بالنظر إلى بيته، إذا رأيت أهله معه وأنت ماشٍ في الطريق فلا تنظر إلى زوجته، بل ابتعد عنه، لا تؤذه في ماله، (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) لماذا لا تؤذيه؟ خوفاً من الله حتى لا يحاربك الله؛ لأن الله لو حاربك قصمك.(13/6)
التقرب إلى الله بما افترض والزيادة من النوافل
(من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بعمل أحب إليَّ مما افترضته عليه) أحب عمل تتقرب به إلى الله ما افترضه الله عليك، ما الذي افترض الله عليك؟ افترض الله عليك التوحيد، أول فريضة توحيد الله، إفراد الله بالعبادة، توحيد الله بالألوهية، وتوحيد الله بالربوبية، وتوحيد الله بالأسماء والصفات، وفي الألوهية بألا تصرف شيئاً من أنواع العبادة إلا له، وفي الربوبية بألا تعتقد أن الخالق، أو الرازق، أو المحيي أو المميت، أو المعطي، أو النافع أو الضار، أو المانع إلا الله، في الأسماء والصفات أن تثبت لله كل اسم وكل صفة أثبتها لنفسه أو أثبتها له رسوله، وأن تنفي عنه كل ما نفى عن نفسه ونفى عنه رسوله صلوات الله وسلامه عليه.
والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم فريضة؛ لأن الله يقول في القرآن الكريم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] ويقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] فمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم فريضة، ما معنى المتابعة؟ أن تتخذه قدوة لك، فلا تزد ولا تنقص؛ لأنك إذا زدت ابتدعت، والزيادة في الدين بدعة، ولو كانت حسنة كما يقول بعض الجهلة يقول: نحن نزيد في الدين زيادة حسنة، نقول: لا.
لا توجد زيادة حسنة: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) الذي يزيد في الدين كالذي ينقص منه، يسعنا ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم وما وسع الصحابة وما وسع سلف هذه الأمة.
من أين جاءت هذه؟ أخذناها من كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، لا إله إلا الله توحيد الله، محمد رسول الله متابعة الله.
ثالث فريضة: الصلاة الزكاة الصيام الحج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الله يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] تنهي عن المنكر بلسانك أو بيدك، وأضعف شيء بقلبك، هل هناك أحد لا يستطيع أن ينكر المنكر بقلبه؟ لا يوجد أحد لا يستطيع؛ لأنك تستطيع ولا أحد يدري ماذا في قلبك، فإذا علم الله أنك تكره المنكر فأنت مؤمن، وإذا الله علم أنك تؤيد المنكر وتحب المنكر فكما يقول عليه الصلاة والسلام: (وليس بعد ذلك من الإيمان حبة خردل) الذي لا ينكر المنكر حتى بقلبه هل هو مؤمن؟ لا.
من جاهد بيده فهو مؤمن، ومن جاهد بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهد بقلبه فهو مؤمن، ولكن من رضي وتابع.
الدعوة إلى الله فريضة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل:125] من يحمل الدعوة إن لم تحملها أنت؟ اليهود والنصارى؟! ليس معنى كونك داعية أن تكون واعظاً وخطيباً وعالماً كبيراً لا.
ادع نفسك وادع زوجتك، الذي يدعو زوجته وتهتدي على يديه يبعث مبعث الأنبياء يوم القيامة؛ لأن النبي من بني إسرائيل يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، والنبي يأتي ومعه الرجل والنبي يأتي ومعه الرجلان، والنبي يأتي ومعه ثلاثة وهكذا، فالذي يدعو زوجته وأولاده داعية، والذي يدعو زوجته وأولاده وأسرته ومحيطه الأسري فهو أفضل، وكذلك الذي يتوسع قليلاً في حارته ومجتمعه وهكذا كلما زدت زاد الخير.
قراءة القرآن فريضة {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4] الحب في الله فريضة، البغض في الله فريضة، هذه الفرائض تتقرب بها إلى الله عز وجل.
يقول عليه الصلاة والسلام: (وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه) متى يحبك الله؟ إذا عملت النوافل، انظر التفريق بين المحبة للعمل والمحبة للعامل، المحبة للعمل إذا قدمته وهي الفرائض (وما تقرب إليِّ عبدي بعمل أحب إلي -أحب إلى الله- مما افترضته عليه) هذا يحبه الله، لكن أنت متى يحبك؟ إذا عملت شيئاً آخر مع الفريضة، ما هو الشيء؟ النوافل (ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه) يصلي العشاء أربع ركعات، لكن يقول: يا ربِ! أربع قليلة، يمكن أنني ما وفيتها ويمكن غفلت فيها، سأزيد اثنتين نافلة، ويذهب إلى البيت وقبل أن ينام يزيد اثنتين أو أربعاً أو ستاً أو ثماناً، ثم يصلي الوتر، وبعضهم يوفقه الله فينام ثم يستيقظ آخر الليل قبل الفجر بساعة أو ساعة إلا ربع أو نصف ساعة فيصلي اثنتين أو أربعاً أو ستاً أو ثماناً ثم يوتر، هذا يتملق لله، هذا يطلب عفو الله، هذا يقول: يا ربِ! أنت أحببت العمل فقدمته، والعامل أريد أن تحبه يا رب، فكيف تقبله؟ الله لا يقبلك ولا يحبك إلا بالنوافل (ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه) فيصلي الصلاة ويصلي وراءها نوافل، ويصوم رمضان ويصوم بعده ستة أيام من شوال، ويصوم يوم عرفة، ويصوم اليوم التاسع والعاشر من عاشوراء، ويصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ويصوم الإثنين والخميس من كل شهر إذا وفقه الله وقدر على ذلك، ويزكي المال في رمضان أو في غيره إذا حال عليه الحول، وكلما رأى مسكيناً أعطاه، خاصة إذا قال لك المسكين: لله، انتبه! لا تقل: لا يوجد، فيجعله ربي حقاً، فتظل تبحث لا تجد شيئاً يجعلك الله فقيراً.
يحدثني أحد الإخوة في مكة المكرمة عن رجل من أهل الخير في مكة خرج من المسجد الحرام وسيارته واقفة أمام الموقف وهو من الأثرياء ومن الوجهاء، وقصد سيارته وركبها وشغلها، فوقف عليه رجل من الفقراء المساكين وقال له: لله ريال أتعشى به -وما أكثر الفقراء في مكة - يقول: ريالاً فقط آخذ به سندوتشاً أو عصيراً أو بسكويتاً أتعشى به -الرجل هذا من أهل الخير وينفق، لكن يقول: قد شغلت السيارة وقد وضعت رجلي على البنزين وأريد أن أمشي، والأمر يحتاج أني أقف، وأدخل يدي في جيبي وأخرج ريالاً أو خمسة أو عشرة وأعطيه- فيقول: تكاسلت عن العمل هذا فقلت له: على الله، يقول: فنظر الرجل إلى سيارتي (150000) ألفاً، وجيوبي وبطني منتفخة، وأقول لا يوجد شيء (على الله) يقول: فنظر لي بعين وقال لي: على الله! نعم.
رزقي على الله وليس عليك، أنا ما سألتك لي سألتك لله، وما دام عييت فليس رزقي عليك، الذي خلقني سوف يرزقني ويعطيني أعظم مما تعطيني، يقول: ثم تركني، يقول: وبينما كان يدور الحوار بيني وبينه كان هناك امرأة تبيع (الفصفص) وتبيع الحلويات فنادت الرجل وأدخلت يدها في كيس وأعطته ريالاً -انظر الملايين ما نفعت، وهذه التي يمكن ليس لديها إلا هذا الريال أخرجت الريال وأعطته- يقول: فلما رأيتها تعطيه ريالاً وأنا معي الملايين ولم أعطه ريالاً شعرت كأن شخصاً ضربني في قلبي بخنجر، وقلت: ما قيمة ملاييني وما قيمة حياتي، يقول: فأوقفت السيارة وأدخلت يدي في جيبي وأخرجت عشرة ريال ونزلت أبحث عن الرجل، يقول: بحثت عنه فما وجدته، ويقول: فكأن من سحبني وقادني إلى تلك المرأة فأعطيتها العشرة، أنفقتْ ريالاً فرد الله لها عشرة؛ لأن الله يقول: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] فكان درساً لهذا الغني.
فعليك أن تنتبه، الفقير الذي يسوقه الله لك نعمة من نعم الله عليك، إذا ساق الله لك فقيراً وأنت في سيارتك أو في دكانك أو في مكتبك فهو نعمة ساقه الله إليك من أجل أن تنال الثواب على يديه، فلا ترده ولا تنهره انتبه! {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10] أعطه ولا تقل: ليس عندي شيء، إلا إذا لم يكن عندك شيء حقاً، لكن أن يكون جيبك مليء بالمال فتقول: ليس عندي شيء، لكن للببيسي نخرج الأموال، وللماء نخرج الأموال، وللدخان نخرج الأموال، وللجرائد نخرج الأموال، وللغداء وللعشاء وللسمك وللدجاج والأكل والشهوات، واللِعب واللُّعَب والأطفال نخرج الأموال، أمَّا لله فنقول: لا يوجد شيء، إذاً فمن الذي أعطاك المال؟! الله، يقول الله عز وجل: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] الله يقول: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] ما الذي غرك بالله؟ غرك المال؟ المال مال الله، جئت إلى الدنيا وأنت عارٍ لا تملك خرقة واحدة، والله رزقك ورفعك وأعطاك مالاً فلماذا تبخل؟ فلا بد أن تنفق من المال في غير الزكاة.
وأيضاً الحج تحج الفريضة وتحج النافلة، تعتمر الفريضة وتعتمر النافلة، تقرأ القرآن تأمر بالمعروف تنهى عن المنكر تزيد في النوافل، لماذا؟ لتكون محبوباً عند الله، فإذا أحبك الله ماذا يحصل؟ اسمعوا وهنا الشاهد من الحديث قال: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) يصبح بصرك بصيرة ربانية، تنظر بنور الله، تسمع بأمر الله، تتكلم بأمر الله، عبداً ربانياً، لا تنظر إلى ما حرم الله؛ لأن نظرك رباني، نظرك محكوم بأمر الله، لا تسمع شيئاً حرمه الله؛ لأن أذنك أذن ربانية تضطرب وتهتز لأقل معصية لا ترضي الله عز وجل، (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه) فتقوم العلاقة بينك وبين الله عامرة، إذا سألت الله يعطيك.
قد يقول أحد الناس: أنا أسأل ولا يعطيني ربي، الله يعطيك لكن ليس الآن، إذا سألت وأنت حبيب الله فإن الله يستجيب لك بأحد ثلاثة أمور: إما أن يعطيك سؤالك، وإما أن يعطيك إياه في الآخرة، وإما أن يرد عنك من القضاء والقدر المر بقدر هذا الدعاء، فلا ينزل عليك شيء، (ولا يرد القضاء إلا الدعاء) هذا حديث في الترمذي والدعاء والقضاء يصطرعان بين السماء والأرض، فإذا نزل القضاء نزل مخففاً، وأحياناً يكون الدعاء أقوى من القضاء فيرده بإذن الله عز وجل، حتى ورد في الحديث: (إن المؤمن يوم القيامة ليعطى حسنات كأمثال الجبال(13/7)
غض البصر
هناك خمسة أسباب ذكرها ابن القيم رحمه الله في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، وهو ينقل عن أحد السلف واسمه شجاع الكرماني وكان من أعظم عباد الله بصيرة، كان له فراسة وبصيرة نافذة يقول: من غض بصره عن الحرام، وكف نفسه عن الشهوات، وعمر باطنه بالتقوى، وعمر ظاهره بالسنة، وأكل الحلال، لم تكد تخطئ له فراسة، وفتح الله بصيرته.
قال ابن القيم رحمه الله: لما غضضت بصرك جازاك الله من جنس عملك، ما هو عملك؟ غض البصر، فماذا حصل؟ فتح بصيرتك، إذا أنفقت مالك يجازيك الله من جنس فعلك، ماذا يعطيك الله؟ تنفق مالاً يرد الله عليك أكثر مما أنفقت، يقول عليه الصلاة والسلام: (من ترك شيئاً لله -ماذا يعطيه الله؟ - عوضه الله خيراً منه) ما تترك شيئاً لله إلا والله يعطيك أفضل منه، تركت البصر من أجل الله ففتح الله لك البصيرة من أجله، فأنت عندما تغض بصرك عن الحرام ماذا يحصل لك؟ يفتح الله بصيرتك، فتصبح تنظر بنور الله، ويحبب الله لك الإيمان، ويزينه في قلبك، ويكره إليك الكفر، والفسوق، والعصيان، ويجعلك الله من الراشدين، تحب القرآن، تحب المساجد، تحب أهل الخير، تحب الصلاة، تحب حلق الذكر؛ فتصير عندك طاقة، ويصير عندك إيمان وإقبال، ويصير عندك توجه كبير، لماذا؟ لأن الله فتح بصيرتك، وبعد ذلك يحفظك الله عز وجل عن الوقوع في المعاصي؛ فتكره سماع الأغاني، وإذا رأيت امرأة لا تريد أن تنظر إليها، وإذا كان هناك حرام فيحفظك من الذهاب إليه، يضيق صدرك من الحرام، تضيق مذاهبك من الشر، لماذا؟ فتح الله بصيرتك، عندما غضضت بصرك عن الحرام، ولهذا قال الله في القرآن في سورة النور: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] أزكى لك أن تغض بصرك، قال العلماء: أزكى لأسباب؛ لأن فيه اثنتي عشرة فائدة، أعظم فائدة وأجل فائدة: أنك امتثلت أمر الله؛ لأنه لا توجد أي قوة في وجه الأرض تستطيع أن تضبط بصرك إلا قوة الله.
بإمكان الإنسان أن ينظر في عمارة وهذه العمارة قد يكون فيها شباك، وفي الشباك امرأة متبرجة فينظر لها ويمتع عينه بها، ويأتي صاحب البيت أو أحد الناس من أهل الخير، يقول: اتق الله، لا تنظر إلى المرأة، فيقول: أنا لا أنظر إلى المرأة، أنا عندي عمارة وأريد أن أشتري ألمنيوم مثل الذي في الشباك، ويقول للرجل: نظرتك بعيدة، أنا لا أريد النساء، لكن الله يعلم أنك تنظر إلى المرأة، من الذي يعلم؟ {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] قد تتظاهر أمام الناس أنك تغض بصرك لكنك تنظر شزراً هنا وهناك، ربي يعلم ماذا في قلبك.
فإذا غضضت بصرك كان هذا دليلاً على مراقبتك لله، وعلى امتثالك لأمر الله، وعلى شعورك بمراقبة الله، وعلى علمك بأن الله ينظر إليك، هذا هو الإيمان، وهذا هو الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه) فهذه أعظم فائدة.
من فوائد غض البصر: أن القلب يبقى سليم.
لأن القلب سليم إذا سلم من قنوات الشر، سليم إذا نظرت العين إلى الحلال، لكن إذا نظرت إلى الحرام فهو سهم في القلب، وإذا سمعت الحرام فهو سهم في القلب، وإذا بطشت في الحرام فهو سهم في القلب، ويبقى القلب مطعون من كل جهة، ولذلك بعض الناس الآن قلبه ميت قد طعنه حتى أهلكه، طعنة بالغناء، وطعنة بالزنا، وطعنة بالنظر، وطعنة بالربا، وطعنة باللواط، وطعنة بقطع الصلاة؛ وطعنات من كل جانب، فيبقى القلب مسكيناً من أين تأتيه العافية والسموم تأتيه من كل جانب؟! أما قلب المؤمن كالملك على العرش، جالس محفوف بالعناية والجند من حوله، والأبواب كلها مغلقة، إذا جاء الشيطان يدخل من عند العين قالت العين: ارجع لا تدخل من عندي، يأتي من عند الأذن، تقول الأذن: ارجع لا تدخل من عندي، يأتي من عند اللسان فيقول: لا يدخل من عندي، يأتي من عند الفرج فيبقى القلب سليم مائة بالمائة.
لكن قلب العاصي مسكين معذب من كل جهة وطريق، فأول فائدة بعد امتثال أمر الله عز وجل أن القلب يبقى سليم؛ لأن النظر سهم كما جاء في الحديث الذي في مسند أحمد: (النظر سهم مسموم من سهام إبليس من تركه مخافة الله أبدله الله إيماناً يجد حلاوته إلى يوم يلقاه) والناظم يقول:
وأنا الذي جلب المنية طرفه
يقول: أنا الذي جلبت الموت لقلبي عيني.
فمن المطالب والقتيل القاتل
ويقول:
وأنت إذا أرسلت طرفك رائداً لقلبك أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
فأنت تنظر إلى أشياء لا تقدر عليها ولا تصبر عنها، وطريق السلامة أن تغض بصرك.
في غض البصر كلفة وفيه معاناة ومشقة، لكنها أخف بملايين المرات من معاناة النظر، النظر سهم يحرق القلب، والقلب إذا احترق قوي جندي الشيطان، وإذا قوي جندي الشيطان ونظرت جاءت النظرة الثانية؛ لأن الله يقول: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:168] ما قال خطوة بل خطوات، النظرة الأولى خطوة، ثم كلمة، ثم بسمة، ثم كلام، ثم سلام، ثم موعد، ثم لقاء، ثم زنا، ثم جهنم، بدأت بالنظر وانتهت بالنار، يقول الناظم:
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر ناظره ما ضر خاطره لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
ولذلك الذين يغضون أبصارهم الآن مرتاحين، الشاب المؤمن الذي يغض بصره فهو في ألف راحة، لا يعرف إلا زوجته، كلما رأى شيئاً توقف، يقول: "النافذة التي يأتيك منها الريح سدها واستريح" عينك يأتيك منها ريح الزنا كل يوم أقفلها واسترح، لكن تنظر وتنظر وتنظر يحترق قلبك وأنت لم تجد أي شيء، وإن لقيت شيئاً لقيت الحرام ولعنة الله وغضب الله وسخط الله، يقول الله تعالى: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] الإنسان يصبر على مرارة غض البصر من أجل أن يفتح الله بصيرته على النظر إليه في الجنة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] كما أنك الآن تصبر على ألم الإبرة إذا جاء الممرض يدفع إليك بالعلاج في عضلتك أو في الوريد هل أنت تحس براحة، أم بألم؟ ولهذا بعضهم يغمض عينيه منذ أن يبدأ الدكتور بضرب الإبرة، لكن يصبر على ضربة الإبرة ثم يفركها الممرض بالقطنة وينساها لماذا؟ دخلت العافية، نحن كذلك في طريق الإيمان نغض أبصارنا ونصبر من أجل ما عند الله، أما أن أفتح عيني وأنظر والله يغضب عليَّ، ويمقتني، ويحرق قلبي، ويسخط عليَّ، ويحرمني من النظر إليه في الجنة، ثم لا أستفيد شيئاً إلا غضب الله، لا.
لا بد -أيها الإخوة- من غض البصر.
ومن فوائد غض البصر كما قال ابن القيم رحمه الله في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي يقول: أنه يورث القلب أنساً بالله؛ لأن إطلاقه يشتت القلب ويفرق القلب ولا يبقى القلب مجموعاً على الله، وإنما موزعاً بين المناظر التي رآها، وهذه من أعظم آفات القلب.
وكذلك أن غض البصر يورث القلب نوراً يقذفه الله عز وجل، وإطلاقه يورثه ظلمة؛ لأن المعصية ظلمة والطاعة نور، فإذا أطعت الله نوّر الله قلبك، وإذا عصيت الله أظلم الله قلبك -والعياذ بالله- ولهذا ذكر الله عز وجل هذه الآية -آية النور- عقب الأمر بغض البصر في سورة النور لما أمر بغض البصر قال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:35].
أيضاً: يورث المؤمن فراسة، والتي نسميها البصيرة؛ لأنك يوم أن غضضت بصرك من أجل الله فتح الله بصيرتك على كل ما يحبه الله ويرضاه، وإنما يجازيك الله عز وجل من جنس فعلك.
وأيضاً: فإن النظر إلى الحرام يحول القلب إلى محل لإلقاء القاذورات فيه، فلا يصلح أن يكون محلاً لكلام الله، ولا يصلح أن يكون محلاً للإيمان بالله، لماذا؟ لأنه أصبح مثل الزبالة لا يقع فيه إلا الحرام والخبث، فإذا جاء الكلام الطيب لا يستقر، وإذا جاء النظر الطيب لا يستقر، فإذا أردت أن يكون قلبك محلاً لما يحبه الله ويرضاه فطهر عينك من النظر إلى ما حرم الله عز وجل، أما إذا نظرت فإنك تتمتع ولكن متاع عاقبته مرض القلب -والعياذ بالله- وما والله وجدنا -أيها الإخوة- أنفع للمسلم من غض البصر، ولو كان فيه صعوبة بسيطة لكن مع الزمن يتغلب المسلم عليه حتى يهديه ويشرح الله صدره وينور قلبه، ولا يعد له رغبة في أن ينظر إلى ما حرم الله تبارك وتعالى.(13/8)
كف النفس عن الشهوات
والمقصود بالشهوات الشهوات المحرمة: شهوة الفرج وهي الزنا واللواط، وشهوة البطن وهي أكل الربا والحرام والمخدرات والمسكرات والدخان، وشهوة المال وهي جمع المال من الحلال والحرام، وشهوة التسلط والسيطرة والاستعلاء بالكبر والسطو على الناس والاستعلاء عليهم وظلمهم واستعبادهم واحتقارهم وازدرائهم، هذه شهوات شيطانية يسميها العلماء الذنوب السبعية؛ لأنها تجعل الإنسان مثل السبع يفترس الناس، هذه الشهوات كف نفسك عنها، وكن في دائرة الحلال منها فقط، فشهوة الحلال خذ منها ما تحتاج، فتأكل من شهوة البطن ما أحل الله، وتقع في شهوة الفرج فيما أحل الله، وتجمع من المال فيما أحل الله، حتى تكون في دائرة الحلال فتسلم من الشهوات؛ لأن الشهوات منفذ وباب خطير على النفس البشرية يدخل منها الشيطان.(13/9)
التقوى
التقوى يعني: المراقبة لله، يعني: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية من الخوف منه والمراقبة له، بأن تتصور أنك تحت الرصد الرباني وتحت النظارة الإلهية، وأن تعلم أن الله عز وجل مطلع عليك لا يخفى عليه من أمرك خافية؛ لأن الله يقول: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم:32] ويقول: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة:7] فالله معك، يعلم السر وأخفى، يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فإذا علمت بهذا الرصد وهذه المراقبة من الله عز وجل حملك هذا على الخوف منه، هذا معنى المراقبة، أن تعمر باطنك من الداخل بالتقوى والمراقبة، أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل أمره وترك نهيه وبمراقبته عز وجل، حتى ولو خلت عنك أعين الرقباء:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستح من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
إذا حان هذا وحصلت في قلبك المراقبة والشعور بأن الله مطلع عليك فتح الله بصيرتك.
أما إذا جعلت الله آخر من تخاف منه، يعني: كثير من الناس عنده مراقبة لأشياء لكن لا يراقب الله، يراقب الناس، يخاف من الناس، يستحي من الناس، فإذا لم يجد الناس ولم يخف من الناس ولم يراقب الناس ولم يبق إلا الله لم يخف من الله، وجرأ على الله، واعتدى على حرمات الله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء:108] {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:13] لا بد أن تكون المراقبة في قلبك أهم من كل مراقبة؛ لأنك إذا أحسست بهذا الشعور فإن قلبك يكون حياً باستمرار وبالتالي تبقى بصيرتك نافذة.(13/10)
العمل بالسنة
السبب الرابع من أسباب نفاذ البصيرة: العمل بالسنة.
أعمال الإسلام تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عمل قلوب، وعمل ألسن، وعمل جوارح، فعمل القلب هو: الإيمان والتصديق، وعمل اللسان هو: الإعلان والذكر والشهادة، وعمل الجوارح هي: الطاعات والفرائض التي نمارسها بجوارحنا، وهذه الأعمال تنقسم إلى قسمين آخرين: ظاهرة وباطنة، فالباطنة في القلوب، والظاهرة ما نعمله من أعمال يراها الناس؛ فلا بد أن نعمر هذه الظواهر بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فنصلي كما كان يصلي صلى الله عليه وسلم، فعليك أن تعمر ظاهرك بالسنة يعني: ظاهر عملك، ليس معنى ظاهرك يعني: المظهر الشكلي وإنما الظاهر العملي، (صلوا كما رأيتموني أصلي) ونحج كما كان يحج صلى الله عليه وسلم، قال: (خذوا عني مناسككم) ونزكي كما أمرنا صلى الله عليه وسلم، ونصوم كما شرع لنا صلى الله عليه وسلم، ونعمر حياتنا في كل شئون حياتنا على هديه ومنهجه، ومن ذلك المظهر الخارجي للمسلم، يربي المسلم منا لحيته اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب:21] من كان يرجو الله، من كان يرجو لقاء الله، من كان يرجو النجاة في اليوم الآخر فله في رسول الله أسوة حسنة، يعني: قدوة، والذي ليس له عند الله أمل ولا يرجو لقاء الله لا يتخذ رسول الله قدوة، فخير البرية أفضل من مشى على وجه الأرض هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أولى الناس بأن يكون قدوتك، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] وقد أمرنا أن نعفي لحانا، والقضية ليست قضية شعر، لا.
القضية قضية انتماء وقضية اعتزاز وفخر وشعور بالعزة؛ لأنك تتبع وتنتمي وتقلد خير البشر صلوات الله وسلامه عليه، وبعد ذلك سنة نبوية ثابتة بأحاديث صحيحة، وإطلاقها واجب وإعفاؤها واجب وحلقها معصية، بل صرح العلماء بأن حلقها محرم، ومن أراد التأكد فليشتر شريطاً اسمه زينة الرجال جمع فيه الإخوة مجموعة من الكلمات للشيخ محمد بن عثيمين والشيخ صالح بن عبد الله بن حميد والشيخ عبد العزيز بن باز وبعض الدعاة، وذكروا فيها أحكام حلقها.
فنقول: اعمر ظاهرك بالسنة؛ لأنك ما إن تعمر ظاهرك بالسنة إلا ويحيي الله في قلبك الإيمان ويطلق بصيرتك، صحيح أنه شعر، لكن له أثر، هو لا يعبر عن شيء إلا عن انقيادك وخضوعك وإذعانك لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن تمردك عليه يشعر بأنك غير راضٍ، بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحى، يقول الله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9] انتبه ينطبق عليك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] نحن نؤكد على هذا الأمر في كل محاضرة لماذا؟ لأنها معصية ظاهرة، نلمسها في إخواننا المؤمنين، وليس معنى هذا أن اللحية كل شيء في الدين، لا.
هي شيء من الدين، وبعض الناس ما عنده لحية وعنده في قلبه إيمان مثل الجبال، ولا ينقصه إلا هي، وبعض الناس ليس في قلبه إيمان ومعه لحية، فهذه كلحية أبي جهل لا تنفعه.
لكن نطلب أن يكون الظاهر صحيح والباطن صحيح حتى يكتمل الإنسان في الخير إن شاء الله، وهذه سنة نبوية، ومعلم من معالم الرجولة، وقد ذكرت هذا في بعض المحاضرات، وقد سألني بعض الإخوان يقول: هل حلقها مباح؟ قلت: لا.
حلقها محرم وإعفاؤها واجب؛ لأن الشرع طلبه في أحاديث كثيرة (قصوا الشوارب) (أعفوا اللحى) (أكرموا اللحى) (خالفوا المجوس) (خالفوا المشركين) (وفروا اللحى) فالذي يحلقها هل أكرمها؟ لا.
إكرامها أن تبقى في وجهك، أما أن تحلقها وتجعلها تحت رجل الحلاق هل هذا إكرام لها؟! وبعضهم يقول: أنا لا أحلقها عند الحلاق أنا أحلقها بيدي، أين تحلق بيدك؟ قال: في الحمام، قلنا: ما قصرت، أهذا إكرام للحية؟ لا.
إكرامها إعفاؤها في وجهك، وأيضاً فهي معلم من معالم رجولتك يقول الله: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران:36] هناك فروق بين الرجل والمرأة، ومن ضمن الفروق اللازمة، التي لا تتساوى المرأة بالرجل اللحية، شعر الرأس عند الرجل والمرأة هل هو سواء، شعر الجفون عند المرأة والرجل هل هو سواء، وهل شعر الحواجب عند المرأة والرجل سواء، وهل شعر الإبط عند المرأة والرجل سواء، وهل شعر العانة عند الرجل والمرأة سواء، وهل شعر الوجه عند المرأة والرجل سواء؟ لا.
عند المرأة ليس فيه شعر وعند الرجل شعر، لماذا؟ لا تصلح المرأة إلا بدون لحية، ولا يصلح الرجل إلا بلحية.
ما هو رأيك لو ذهبت إلى بيتك الآن ودخلت ولقيت امرأتك قد معها لحية ترضى أم تغضب؟ تقول: اذهبي عند أهلك، ما تقدر تعيش معها بلحيتها، لماذا؟ لأن الله خلقها متعة لك، وكذلك المرأة لا تريدك إلا بلحية.
وقد أجري استفتاء لـ (400) امرأة في الرياض: هل تفضل الرجل ذا اللحية أم الرجل الحليق؟ كلهن بالإجماع قلن: نريد الرجل الملتحي، لكن المرأة المسكينة تضطر تحت وطأة الاضطرار والإذعان أنها تقعد معك.
وبعض الناس يقول: طيب أنا حليق وامرأتي معي ساكتة، ساكتة لأنها لا تستطيع أن تعمل أي شيء هل تطلقك؟ لكن لو معك لحية والله تنبسط المرأة؛ لأنها ترى فيك معالم الرجولة فهي تضطر أنها تصير أنثى، ولكن إذا لم تكن لديك لحية تجد بعض النساء تضطر أنها تكون الرجل حتى أنها تسير أمامه في الطريق وهو يأخذ الشنطة ويأخذ البنت وراءها، لكن لو معه لحية ما تقدر تسبقه أبداً بأي حال من الأحوال، حتى عند إشارة المرور إذا وقفت ترى أن بعضهم ينظر إلى السيارة التي بجانبه وهذا لا يجوز، فإذا كنت عند إشارة السير لا تنظر في السيارات المجاورة التي فيها عوائل؛ لأن هذا يؤذي الناس، لكن بعضهم ينظر وبعض النساء تكون كاشفة في السيارة، فإذا نظر إليها رجل حليق تنظر إليه، وإذا نظر إليها ملتحٍ ترفضه وتتغطى عليه؛ لأنها رأت إنساناً يختلف عنها، فاللحية معلم من معالم الرجولة ينبغي أن تعفيها وتعمر بها ظاهرك كما قال عليه الصلاة والسلام: (قصوا الشوارب) (أعفوا اللحى) (أكرموا اللحى) (أرخوا اللحى) فمن عمر ظاهره بالسنة في حلق رأسه، إذا حلق يحلق حلاقة عادية لا (تايسون) لأن اسمه في الشرع قزع والقزع منهي عنه، وهو حلق جزء من الرأس وترك جزء، كأن يحلق شعره من الجوانب ومن الخلف ويترك الشعر الذي في الأمام كما هو.
ويعمر ظاهره في لبس الثوب، وبالسواك، وبكل ما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا عمرت ظاهرك بالسنة أصبحت إسلاماً يمشي في الأرض، الناس الذين يرونك يرون الدين فيك ممثل، أنت تمثل الإسلام.(13/11)
أكل الحلال
إن أكل الحرام يطمس البصيرة، لماذا؟ لأن (كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به) والحديث في مسلم: (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب! يا رب!) كل هذه وسائل استجابة الدعوة، يطيل السفر والمسافر له دعوة، بعد ذلك أشعث والأشعث الذي عليه علامات الضعف والذل وشعره أشعث ليس مغسولاً، أغبر ليس عنده ماء يغسل من آثار السفر، ثم يمد يديه إلى السماء والله يستحي أن يرد يد السائل صفراً، ويقول: يا رب! ويكرر: يا رب! بأعظم صفة لله وهي الربوبية يا رب! ولكن (ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام -قال الله-: فأنى يستجاب له) كيف نستجيب له وهذا كله مغذى بالحرام وملغم بالحرام؟ والعياذ بالله.
وانتبه أن تعمل في البنوك، أو أن تضع أموالك فيها؛ لأنك تأكل حراماً، وإذا كنت تملك دكاكين لا تؤجرها لصاحب الاسطوانات أو أشرطة الفيديو أو أشرطة المسجلات يعني: تسجيلات غنائية، ولا تؤجرها لحلاق يحلق لحى المسلمين، ما من لحية تحلق إلا وعليك إثمها إلى يوم القيامة، بعض الناس عنده عمارة ولحيته وافية، لكن لحى المسلمين تحلق في عمارته، لا تبع الدخان في دكانك حتى ولو كنت لا تدخن، لو كنت تدخن فعليك ذنبك، لكن إذا لم تدخن والدخان يباع في دكانك، ما من سيجارة تباع في دكانك إلا وعليك إثمها إلى يوم القيامة، لماذا؟ لأن من دل على ضلال فإن عليه وزره ووزر من عمله إلى يوم القيامة، ومن دل على هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة دون أن ينقص من أجورهم ودون أن ينقص من أوزارهم، فلا بد أن يكون دخلك حلال.
إذا كنت موظفاً في الدولة أو في شركة يجب أن يكون دخلك حلالاً، كيف يكون دخلك حلالاً؟ أولاً: بالمحافظة على الدوام، فإذا كان الدوام السابعة والنصف فتأتي من بداية الدوام لا تقعد إلى الساعة التاسعة وتأتي آخر الشهر تأخذ الراتب كاملاً وأنت كل يوم تنقص ساعتين من الدوام، من أخذ الأجر حاسبه الله بالعمل، ولا تقل: أنا موظف، وما عندي شغل، أنت أجير عند الدولة، عندك شغل اشتغل، ما عندك شغل اجلس على مكتبك واستعد للعمل، أما أن يتراكم المراجعون على (ماستك) وعلى بابك إلى الساعة التاسعة أو الساعة العاشرة ثم تأتي متأخراً ثم تقوم تفطر ثم تقرأ الجرائد ثم تقضي نصف الوقت في المكالمات، ثم إذا جاءت الصلاة خرجت وبعد الصلاة تقول: انتهى الدوام ارجعوا غداً، هذا لعب وخيانة لولي الأمر، وفي نفس الوقت خيانة للمسلمين، وفي نفس الوقت خيانة لنفسك لأنك أكلت نفسك الحرام وأكلت أولادك الحرام، اذهب للعمل الساعة السابعة والنصف وابق في مكتبك طوال الدوام ولا تتسيب ولا تصرف دقيقة من دقائق العمل إلا في العمل إلى الساعة الثانية والنصف فإنك بعدها تحس بالتعب لكن تأخذ راتبك حلالاً والله يجعل لك فيه البركة.
بعض الموظفين راتبه (10000) ولا يأتي آخر الشهر إلا وهو يستلف، لماذا؟ لا توجد بركة، وبعض الموظفين راتبه (2000) ويوفر منه ويضيِّف ويبني؛ لأن فيه بركة، ليست البركة في العدد، ولكن في الكيفية التي يجمع منها المال، أما الكم فقد يكون الكم كثيراً منزوع البركة فلا خير فيه، وقد يكون الكم قليلاً فيه بركة ففيه خير كثير.
وهكذا في كل دخل لك إذا كنت موظفاً في شركة، أو كنت بائعاً في دكان عند عمك، انتبه أن تأخذ ريالاً واحداً؛ لأنه حرام، بعض الناس راتبه ألفين (2000) ريال أو (3000) آلاف ريال، ويبيع وآخر اليوم تكون المبيعات (3000) آلاف ريال فيأخذ منها خمسين ريالاً أو مائة أو عشرين يقول: هذه حق المقاضي، وعمه لا يدري وهذا حرام، انتبه لا تأخذ ريالاً واحداً، كن كـ المبارك رضي الله عنه - المبارك - الذي كان مولى -عبد- في بغداد عند مولاه -سيده- وكان مزارعاً في مزرعة لسيده، ثم جاء سيده يوم من الأيام إلى المزرعة من أجل أن ينظر فيها وكان فيها بساتين وثمار، فقال للعبد المبارك: أعطنا رماناً -ومعه بعض الوجهاء- فأتى برمان حامض مثل الليمون، فلما أكلوا منه فإذا طعمه مثل الليمون قال له: يا ولدي! أعطنا غير هذه الرمانة الحامضة، فذهب فأتى برمانة أحمض من الأولى، فقال: لماذا تأتي لنا بالرمان الحامض؟ قال: والله ما أعرف حلوه من حامضه منذ دخلت هذا البستان، قال: لماذا؟ قال: ما أذنت لي آكل منه والله ما أكلت منه حبة واحدة منذ عرفت البستان، قال: أنت في البستان منذ سنوات وما تعرف حلوه من حامضه من أجل الله؟ قال: نعم.
قال لمن معه: أشهدكم أن هذا البستان له -أعطاه البستان كله- ومرت الأيام وتبلغ بنت عند هذا الرجل التاجر بنت ذات دين وذات أمانة وذات خلق، بلغت مبلغ الزواج، فيأتي إلى الرجل هذا المبارك -وهو عبد قد أعتقه لوجه الله وأعطاه البستان- وقال له: يا مبارك! قال: نعم.
قال: لدي بنت أريد أن أزوجها، فأشر عليَّ من أزوج، قال له: اليهود يزوجون للمال، والنصارى يزوجون للجمال، والعرب الجاهليون يزوجون للحسب والنسب، وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم يزوجون للدين، ابحث عن أهل الدين، ابحث عمن تنتمي إليهم، إن كنت من اليهود ابحث عن رجل (مليونير) وإن كنت من النصارى فابحث عن أشقر أو أحمر، وإن كنت من أصحاب أبي جهل فابحث لك عن فلان بن فلان بن فلان، وإن كنت من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فابحث عن مؤمن يخاف الله، فقال الرجل: والله ما أظن أحداً على وجه الأرض أدين منك، أنا زوجتك ابنتي، قال: قبلتها، فتزوجت بهذا الرجل وولدت له عبد الله بن المبارك إمام من أئمة التابعين رضي الله عنه وأرضاه.
فاترك المال الحرام، فمن ترك حراماً من أجل الله عوضه الله خيراً منه.
تذكر كتب العلم: أن رجلاً حج قبل أربعين سنة من أهل مصر إلى بيت الله الحرام، وانتهى به الحج ولم يرجع، وظل يبحث عن عمل فلم يجد، ومرت عليه أيام وليالي ما ذاق طعم العيش، خرج من المسجد الحرام يوماً من الأيام في صلاة الظهر وإذا به يجد أمام الباب منديلاً أخضر ففتحه وإذا بداخله عقد بمائة ألف درهم -عقد لؤلؤ- فوضعه في جيبه، وقال في نفسه: والله إن فرحتي بهذا العقد لا تعدل حزن صاحبه عليه، ثم جلس في مكانه، وإذا بذلك الرجل يصيح: يا جماعة الخير! من وجد منديلاً صفاته كذا وكذا، فلما سمعه ناداه فقال له: ما هو لونه؟ قال: أخضر، قال: ما الذي داخله؟ قال: عقد، قال: هل هو هذا؟ قال: نعم.
قال: تفضل، فأخرج ذاك ألف درهم وأعطاه إياها، قال: والله لا آخذ شيئاً إلا من الله وهو يموت جوعاً، قال: لو أني كنت آخذ المال لأخذت العقد مع أن المال حلال لو أخذه، لكن قال: والله ما آخذ جزائي وثوابي إلا من الله، أخاف آخذ المال فيمنعني مما عند الله.
وخرج وظل أياماً وليالياً يبحث عن عمل حتى وجد له عملاً بسيطاً، ثم استطاع أن يصل إلى جدة، ومن جدة ركب البحر يريد بلده، وفي البحر تضطرب السفينة وتغرق ويغرق كل ركابها إلا هذا الرجل نجاه الله على لوح خشب، وظل أياماً وليالياً وهو يسبح في البحر والبحر يتقاذفه والأمواج تتلاطم به، إلى أن قذفت به الأمواج إلى ساحل البحر في منطقة وقام يمشي ووصل إلى قرية من قرى أهل الساحل وجلس عندهم أياماً وليالياً، وكان صاحب دين وصاحب قرآن، وهم أهل خير أحبوه، قالوا: يا شيخ! اجلس معنا، قال: والله أجلس معكم، ولم يرجع إلى بلده، وصار يصلي بهم الصلوات الخمس، وصار يعلم أولادهم القرآن، مكث عندهم حتى أصبح الرجل الأول والأخير فيهم، وعزموا على أن يزوجوه، فقالوا: يا شيخ! أنت الآن منا وأصبحت من أفضلنا، ونريد أن تسكن معنا دائماً ونريد أن نزوجك، قال: ما عندي شيء، قالوا: كل شيء جاهز، استأجروا له بيتاً، ودفعوا المهر، وجاءوا بالبنت وعقدوا ودخل على الزوجة في ليلة العرس، ولما دخل عليها في ليلة عرسها رأى تلك المرأة الجميلة وعلى صدرها العقد الذي رآه في مكة -نفس العقد الذي وجده في مكة هو على صدر البنت- فلما رأى العقد على المرأة رجع وقال: أين والد العروس؟ فلما رآه قال له: هل حجيت قبل سنوات طويلة؟ قال: نعم.
قال: حصل لك شيء في الحج؟ قال: نعم.
قال: ماذا حصل؟ قال: أنا صاحب مال وعندي بنت وحيدة وحجيت واشتريت لها عقداً بمائة ألف درهم ووقع مني عند باب المسجد فوجده رجل ابن حلال وأعطاني إياه وأعطيته جائزة ولم يأخذها، ونذرت في نفسي إن لقيته في الحياة لأزوجه بهذه البنت، لكن ما لقيته، والبنت كبرت فزوجناك، قال: أنا ذلك الرجل، وبدأ يعانقه ويسلم عليه من جديد، ويدخل البيت على البنت وإذا قد العقد معه امرأة، لماذا؟ (من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه).
انتبه يا أخي! لا تأكل الحرام، لا تقل: الدكان إذا أخرجت منه بائع الدخان يبقى الدكان من غير مستأجر، ليكن كذلك، لا تقل: الشقة إذا أخرجت منها المستأجر الذي لا يصلي في المسجد -وأنت تعرف أنه لا يصلي- لا تُؤجر، ولتكن الشقة فارغة طوال حياتها.
لا تأوي محدثاً (لعن الله من آوى محدثاً) وأعظم محدث في دين الله من لا يصلي فرائض الله، حتى يكون راتبك حلالاً، وإيجار شققك حلالاً، وإيجار دكاكينك حلالاً، وحياتك حلالاً، وأولادك حلالاً، وطعامك حلالاً، وتكون حياتك حلالاً، من أجل أن يرضى الله عنك، وأيضاً يطلق بصيرتك وتصبح تنظر بنور الله؛ لأنك قدمت محبة الله في الحلال، وقدمت محبة الله في النظر إلى الحلال، وقدمت محبة الله في عمارة ظاهرك بالسنة، وقدمت محبة الله في عمارة باطنك بالتقوى والمراقبة، وقدمت محبة الله بكف نفسك عن الشهوات المحرمة، وأيضاً قدمت محبة الله في فعل الفرائض التي هي أحب شيء إلى الله، ثم قدمت محبة الله في الزيادة في النوافل حتى أصبحت محبوباً عند الله، وإذا أحبك الله توجهت إليك السعادة من كل جانب.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يرزقنا وإياكم حبه، وحب من يحبه، وحب كل عمل يقربنا إلى حبه، اللهم اجعل ما رزقتنا عوناً لنا على ما تحب، واجعل ما زويت عنا فراغاً لنا فيما تحب، واجعل حبك أحب إلى قل(13/12)
الأسئلة(13/13)
حكم من يقتصر في السلام على السلام عليكم دون ورحمة الله وبركاته
السؤال
رجل إذا قيل له: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، قال: ذبحتمونا برحمة الله وبركاته، قولوا: السلام عليكم فقط؟
الجواب
هذا مسكين مطموس البصيرة، ولو أتيت تحسب الكلمات التي تكلم بها لوجدت ملايين الكلمات الفاضية، وإذا جاءت رحمة الله وبركاته ثقلت عليه؛ لأنه منكوس.
أما عرفت يا أخي! أن في كلمة السلام عليكم عشر حسنات، وفي كلمة السلام عليكم ورحمة الله عشرون حسنة، وفي كلمة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ثلاثون حسنة.
دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (السلام عليكم، قال: وعليكم السلام عشر، جاء الثاني قال: السلام عليكم ورحمة الله، قال: وعليكم السلام ورحمة الله عشرون، دخل الثالث وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، قال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ثلاثون، فلما سألوا الرسول قال: الأول قال: السلام عليكم فكانت له عشر حسنات، والثاني قال: ورحمة الله فكانت له عشرون حسنة، وقال الثالث: وبركاته فكانت له ثلاثون حسنة)، لا يضيع ثلاثين حسنة إلا محروم، يعني: لسانك يتعب من رحمة الله وبركاته، لماذا ثقلت عليك هذه الكلمات ولم تثقل عليك الكلمات الأخرى؟ لكن ذكر الله ثقيل على القلوب المريضة -والعياذ بالله- والله يقول: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] إذا قال لك شخص: السلام عليكم، قل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذه أحسن منها، وإذا ما قدرت قل: وعليكم السلام (أو ردوها مثلها) لكن بعض الناس يقول: السلام عليكم قال: هلا، السلام عليكم قال: مرحباً، قلت: السلام عليكم قال: أهلين، ما هذه الهلهلة والمرحباً، أقول: السلام عليكم يا أخي! فيبقى يهلهل لي طوال الليل، لا.
قل: وعليكم السلام؛ لأنه دعاء أما هلا هلا فليست بدعاء.(13/14)
أساليب المشركين في محاربة الدعوة
منذ بداية الدعوة الإسلامية والمشركون يسعون للحيلولة دون وصولها إلى الناس بأساليب مختلفة، منها: محاولتهم صد النبي صلى الله عليه وسلم عنها بالتأثير على عمه أبي طالب، وإلصاق التهم به، والاستهزاء به والسخرية منه والتعالي على أصحابه، وتحذير الناس منه وطلب المعجزات للتحدي والإعجاز، ثم ساوموه على التنازل عن بعض مبادئه مقابل إغراءات دنيوية، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان ثابتاً أمام هذه التحديات، فلم يفتر ولم يركن إليهم، وواجه تلك الأعباء حتى انتشر نور الإسلام في أرجاء الأرض.(14/1)
فضيلة مجالس الذكر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أما بعد: أيها الأحبة في الله! مرحباً بكم وحياكم الله على مائدة العلم والإيمان، تلك المائدة التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه، المائدة الربانية، التي من أقبل عليها ورتع فيها وعاش في ظلالها أدرك السعادة بحذافيرها، ونال خيري الدنيا ونعيم الآخرة.
ومجالس العلم هي مجالس الهدى، ومجالس النور، ومجالس الروح، ومجالس الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، وحاجة القلوب إلى سماع العلم الرباني والهدي السماوي أعظم من حاجة الأرض إلى نزول الغيث، فكما أن المطر هو غيث الأرض، كذلك الذكر والعلم هو غيث القلوب، وكما أن المطر إذا انقطع عن الأرض اغبرت وأقفرت وانقطع خيرها وكثر شرها، كذلك القلوب إذا انقطع عنها الغيث السماوي، وانقطع عنها العلم القرآني، والهدي الرباني، قست وتحجرت وأظلمت، وكثر شرها وانعدم خيرها، وما ترونه اليوم في كثيرٍ من الأحوال من قسوة في القلوب وتحجر في العيون، وجرأة على المعاصي وكسل في الطاعات؛ كل هذا بسبب حرمان القلوب من سماع ذكر الله سبحانه وتعالى، ومن بعد القلوب عن مجالس الرحمة، هذه المجالس التي تحفها الملائكة، وتغشاها السكينة، وتنزل على أهلها الرحمة، ويذكر الله سبحانه وتعالى الجالسين فيها عنده في الملأ الأعلى، أي كرامة أعظم من هذه الكرامات وأي عزة يبلغها الإنسان أعظم من هذه العزة، أن تجلس والملائكة تحفك، والسكينة تنزل عليك، والرحمة تغشاك، ويباهي بك الله عز وجل في الملأ الأعلى، فهنيئاً لكم -أيها الإخوة- وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه الجلسة التي نقضيها في هذا المجلس ثواباً في موازيننا يوم نلقى الله سبحانه وتعالى.(14/2)
دعوة لدراسة السيرة النبوية
أيها الإخوة! دراسة السنة أو السيرة النبوية الطاهرة من الضرورات للمسلم؛ لأن السيرة هي التطبيق العملي الصحيح لتعاليم الكتاب والسنة؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم والجيل الأول جيل الصحابة الذين اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم هم الذين تمثلوا هذه التعاليم، وأبرزوها في واقع الحياة، ولذا من الضروري أن نترجم تلك المعاني التي نقرأها نصوصاً في الكتاب والسنة، نجد لها ترجمة عملية في واقع الحياة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي تطبيق أصحابه رضي الله عنهم في السلف الأول وفي القرون المفضلة.
إن دارسة السيرة النبوية من الأوليات ومن الضروريات حتى تعرف كيف تعبد الله، وكيف تتعامل مع الحياة من حولك، وكيف تدعو إلى الله، وكيف تنظر إلى المجتمع، وكيف تنظر إلى الفرد، وكيف تنظر إلى الأمة، تلك النظرات لا تكون صائبة ولا مسددة إلا إذا كان الإنسان على علم وعلى فهم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد درسنا طرفاً من هذه السيرة في الجلسات الماضية، واليوم نستأنف هذه المجالس لنتعرف على سيرة الحبيب العطرة صلوات الله وسلامه عليه، وعنوان هذا الدرس هو: (أساليب المشركين في محاربة الدعوة).
حينما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصدع بما يؤمر به من الدين وأن يعرض عن المشركين، استجاب الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر، وشمر عن ساعد الجد، وصدع بالحق، ودعا إلى هجر الأوثان، وإلى عبادة الرحمن، وبين حقائق الإسلام، ودحض أباطيل وشبهات المشركين التي عشعشت في عقولهم وخيمت على قلوبهم، وعندما رأى المشركون في مكة أن أثر هذه الدعوة لم يكن محدوداً كما كان الحال في الماضي، وإنما رأوا أن هذه الدعوة بدأت تنتشر وتنفذ إلى قلوب الناس في القريب والبعيد، بدءوا في المواجهة للصد عن دين الله ولإطفاء نور الله، وسلكوا في ذلك أساليب متعددة.(14/3)
محاولة التأثير على عم النبي صلى الله عليه وسلم
من أبرز تلك الأساليب: محاولة التأثير على عمه أبي طالب حتى يكفه عن الدعوة أو يجرده من الحماية والجوار الذي كان يتمتع به في ظل وجود عمه أبي طالب، فقد ذهبت مجموعة من أشراف قريش إلى أبي طالب وقالوا له: إن ابن أخيك سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفنا أو تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه؛ لأن أبا طالب كان على الشرك ومات عليه، لكنه كان يحمي النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال عليه الصلاة والسلام: (ما زلت في عز ومنعة حتى مات أبو طالب).
وما نال المشركون منه شيئاً حتى مات أبو طالب، كان يشكل الحماية الخارجية، ولهذا سمي العام الذي مات فيه أبو طالب وماتت فيه خديجة سمي (عام الحزن)؛ لأنه انكشف ظهر النبي صلى الله عليه وسلم في المواجهة الخارجية، وأيضاً فقد الدعم الداخلي في المنزل من صاحبة الرأي والمشورة، وصاحبة المواقف البارزة وهي خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها، فحزن صلى الله عليه وسلم حزناً عميقاً بعد وفاة أبي طالب ووفاة خديجة، ولذا قال الكفار لـ أبي طالب: إنك على مثل ما نحن عليه.
أي: أنت مشرك مثلنا، والذي يتعرض لنا هو -أيضاً- ينالك أنت أولاً، فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً ورد عليهم رداً جميلاً وانصرفوا عنه، لكن لم يستجب أبو طالب لهم ولم يتكلم على النبي صلى الله عليه وسلم.
ومضى الرسول صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يدعو إلى دين الله، ويستمر في نشر الدعوة، وهنا غضبت قريش وحقدت على النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءوا مرة أخرى إلى عمه أبي طالب، لكن جاءوا إليه بأسلوب آخر، الأسلوب الأول كان طلباً، الأسلوب الثاني تهديداً وقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا -أي: لك مكانة- لست رجلاً مغموراً ولا رجلاً هامشياً؛ لأنه من أشرافهم وكبرائهم، فذكروه بمكانته وبمنزلته، قالوا: لك سن، ولك شرف، ولك منزلة فينا، وإنا قد استنهيناك عن ابن أخيك فلم تنهه عنا، وأقسموا له بأنهم لن يصبروا على أفعاله حتى يكفه عنهم أو ينازلوه -أي: ينازلوا أبا طالب، حتى يهلك أحد الفريقين- عند هذا عظم خطب أبي طالب؛ لأنه شق عليه أن يفارق قومه ويعاديهم، وأيضاً شق عليه أن يسلم الرسول صلى الله عليه وسلم ويخذله، ولذا استدعى النبي صلى الله عليه وسلم وأبلغه بالذي قاله له الكفار، وطلب منه أن يبقي عليه وعلى نفسه، وألا يحمله من الأمر ما لا يطيقه، وقال له: وضعتني في خيار صعب: إما أن أسلمك لهم، وإما أعاديهم، وكلاهما صعب، فالأفضل والحل الوسط أنك تتركهم وتترك آلهتهم وتترك محاربتهم؛ حتى لا تعرضني أنا لضرر منهم، أو تعرض نفسك لأذى لا تطيقه؛ لأنه ليس بإمكانك أن تواجه القبيلة بأسرها.
وفي رواية لـ ابن إسحاق: أن النبي صلى الله عليه وسلم لمس من عمه في هذه العبارات الضعف والإشارة إلى عدم القدرة على نصرته، ولذا قال له في جواب عظيم: (والله يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه) ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد علق ترك الدين والدعوة إليه على المستحيل، يقول: على فرض أنهم جاءوا بالشمس ووضعوها -وهذا مستحيل- في يميني والقمر في يساري -وهذا مستحيل- ما تركت، حتى لو فعلوا المستحيل، حتى يظهره الله أو أموت دون هذا الدين، ثم بكى صلى الله عليه وسلم، ولم يبكِ صلى الله عليه وسلم بكاء الضعيف، ولكنه بكاء الشجاع الذي يقول هذه الكلمات العظيمة التي تهتز الجبال الرواسي أمامها وأمام قوتها وصلابتها، ثم يستجيش العاطفة في قلب أبي طالب، وكأنه يقول له: أنت عمي وما أرى أن تخذلني، ثم قام من عند عمه، وولى عنه، فلما ولى ناداه أبو طالب، وقال: أقبل يا ابن أخي، فلما أقبل قال: اذهب على ما أنت عليه فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لهم أبداً.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على إسلامه؛ ليس لأنه عمه من حيث النسب، لا.
ولكن لمثل هذه المواقف التي وقفها في حماية الدعوة، ولهذا كان حريصاً حتى آخر لحظة من لحظات حياته، وهو يلفظ الروح جاء إليه يقول: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله) يريد فقط مبرراً وحجة، يقول: لا إله إلا الله، ما عاد في صلاة ولا صوم، لكنه وبتأثير من قرناء السوء الذين قالوا له: أترغب عن ملة عبد المطلب، فنظروا إليه ونظر إليهم، ثم قال في آخر لحظة من لحظات حياته: على ملة عبد المطلب.
ومات مشركاً.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) فاستغفر صلى الله عليه وسلم لعمه، فأنزل الله عز وجل النهي له وللمؤمنين من بعده إلى يوم القيامة، وقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] لأن القرابة قرابة العقيدة، والصلة صلة الدين، فإذا كان ليس على مثل ما أنت عليه من الدين فلا صلة ولا قربى، ولو كان أباك، ولو كان ولدك، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] لماذا؟ {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة:22] من كتب الله في قلبه الإيمان تجد في قلبه التجرد، والحب في الله والبغض في الله، يحب عباد الله ولو كانوا من أبعد مكان ومن أي لون ومن أي جنس، ويبغض أعداء الله ولو كانوا أقرب الأقربين إلى نفسه، ولهذا نوح عليه السلام لما قال الله له: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون:27] ظن عليه السلام أن معنى أهلك أي: أهلك في النسب، زوجتك وأولادك وجماعتك، فركب وركب أهله لكنه ابنه أبى أن يركب، قال: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا * قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ} [هود:42 - 43] فقال نوح لربه: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45] أنت قلت: وأهلك، وهذا من أهلي، أي: لا تغرقه، دعه يسلم مع بقية الناس، قال الله له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] وهو ابن نوح، لكن الله ينفي عنه الأهلية، ويقول: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] ما دام ليس هو على دينك، ليس من أهلك.
وكذلك -أيها الإخوة- هذا هو الضابط ويشكل مبدأ من مبادئ المسلم وهو: أن يحب في الله ويبغض في الله، ولهذا جاء حديث في صحيح مسلم وصحيح البخاري: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار).
فكان موقف النبي صلى الله عليه وسلم من أبي طالب بسبب مواقفه تلك التي وقفها، لكن لما نهاه الله لم يعد يستغفر له، وقد خفف على أبي طالب من العذاب في النار، ولكن لا تخفيف في النار، جعله الله في ضحضاح من نار، والضحضاح في اللغة هو: الماء الذي يغطي الكعب، فالنار تغطي أهل النار كلهم إلا أبا طالب فالنار إلى كعبه فقط، ما رأيكم هل هذا تخفيف؟ هل تستطيع أن تمشي في النار، إذا أتيت مكاناً حاراً هل تمشي عليه؟ جرب عندما تخرج من الحرم وما معك حذاء، فتمشي من الباب إلى السيارة لا تستطيع المشي، تنسلخ رجليك من حرارة الأرض فكيف بالنار! ولهذا لا يرى أبو طالب أن في النار أشد عذاباً منه، وهو في ضحضاح من نار -نعوذ بالله وإياكم من عذاب النار-.
في هذا الموقف وفي هذا الأسلوب عبرة وحكمة وهو: أن هذا الموقف القوي من الرسول صلى الله عليه وسلم من المشركين ينسجم مع ما أمر به من البلاغ، فإن الله فقال له: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] وبعد ذلك طمأنه قال: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [الحجر:95].
موقف فيه عبرة وهو موقف أبي طالب، وهذا الموقف عجيب: مشرك وكافر ولكن يقوم بهذه الخدمة للدين، وليس لهذا تفسير، وقد اجتهد العلماء على هذا منهم ابن كثير قال: إن الله سبحانه وتعالى امتحن قلب أبي طالب بحب محمدٍ صلى الله عليه وسلم حباً طبيعياً لا حباً شرعياً؛ لأنه لو أحبه حباً شرعياً لأحب دينه، لكن أحبه حباً طبيعياً؛ لأنه ابن أخيه، وكان استمراره على دين قومه من حكمة الله، ومما صنعه لرسوله من الحماية، إذ لو أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركي مكة وجاههة ولا مكانة، ولحاربوه مثلما حاربوا غيره من المسلمين، لكن ليحمي رسول الله بقي على دين قومه، ولما هابوه واحترموه، لو عرفوا أنه قد أسلم لتجرءوا عليه ولمدوا أيديهم عليه وألسنتهم إليه بالسوء، ولكن سبحان الله! {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68].
وقد قسم الله العباد إلى أقسام: فهذان العمان كافران، أبو طالب وأبو لهب، اثنان أحدهما يحمي والآخر يحارب، فـ أبو طالب(14/4)
إلصاق التهم والادعاءات الباطلة بالنبي صلى الله عليه وسلم
من الأساليب التي طرقها الكفار بعد هذا الاتجاه إلصاق التهم والادعاءات الباطلة؛ لتشويه صورة النبي صلى الله عليه وسلم في أذهان الناس؛ لأنهم رأوا النفوذ قوياً، والاستجابة جارفة، وأيديهم تفلس، والناس ليس في مكة فقط بل في الطائف والمدينة في كل مكان بدءوا يدخلون في الدين، فما بقي إلا التضليل الإعلامي والتشويه لصورة النبي صلى الله عليه وسلم في أذهان الناس، فألصقوا به العديد من التهم.(14/5)
اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مجنون
منها: اتهامه بالجنون، كما قال الله عنهم: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6] وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم في أول سورة القلم: {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:1 - 2] ويكفيه تزكية الله له.
وأيضاً يحكي الله عز وجل هذا عنهم ويقول: إنهم يقولون: {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم:51] وهذا من عجائب الأمور أن تنعكس المفاهيم، وتنقلب التصورات، ويوصف أعقل البشرية وأهدى الإنسانية المعلم الأول للإنسانية بأنه مجنون، وهم أصحاب القلوب المتحجرة، وأصحاب العقول المنكوسة الضالة هم العقلاء، وهم يعبدون الأحجار، ويزنون بحلائل الجار، ويشربون الخمور، ويفعلون المنكرات، ويصفون أنفسهم بأنهم أصحاب العقول، ومن يأتي لينقذهم من هذه الضلالات ويحررهم من هذه الخرافات والخزعبلات يوصف بأنه مجنون، هذا والله من عجائب الأمور، ولذا فقد توجه مثل هذه التهم إلى بعض الناس في كل زمان وفي كل مكان، ولكن يكفيك -يا أخي- أنك على الحق.(14/6)
اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر
أيضاً من اتهاماتهم وتشويه صورة النبي صلى الله عليه وسلم في أذهان الناس: أنهم اتهموه بأنه ساحر، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص:4] {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان:8].
وقد تحير الوليد بن المغيرة حينما أرسله كفار قريش ليفاوض النبي صلى الله عليه وسلم ويساومه على تقديم أي شيء يريده نظير أن يترك الدين، قال له: يا ابن أخي! إن كنت إنما أتيت بما جئت به تريد مالاً جمعنا لك حتى تكون أغنانا، وإن كنت تريد جاهاً سودناك أي: جعلناك ملكاً، وإن كنت تريد زوجاً زوجناك بأجمل فتاة، وإن كان الذي يأتيك رئي من الجن -أي: يأتيك شيء من الجن صرع- بذلنا لك حتى نعالجك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اسمع يا أبا الوليد، وقرأ عليه فواتح سورة فصلت، حتى بلغ قول الله عز وجل: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} [فصلت:13] فوضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم وخاف من الصاعقة، قال: أسألك الله والرحم، ثم رجع وقد تغير موقفه، بناء على سماع القرآن، وقال: والله يا قوم! إن لكلامه لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمورق، وإن أسلفه لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، والله ما هو بالشعر ولا بالنثر.
فلما قال هذه الكلمات نخر في كفار قريش، قالوا: أصبأت يا أبا الوليد؟ ماذا يقول السفهاء إذا سمعوا كلامك؟ والله لا تقوم حتى تقول فيه قولاً يؤثر عنك، قم فكر، قال: دعوني أفكر، فقام وفكر، ثم فكر، ثم قدم وأخر، فلعن كيف قدر، وقال كما قال الله عنه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر:11] يقول: اتركني يا محمد، اترك هذا الذي يقول هذا الكلام: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً} [المدثر:12 - 16] الآيات الواضحات والدلائل البينات التي سمعها ورفضها موقفه منها العناد {كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً} [المدثر:16] والجزاء: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [المدثر:17] صعود جبل في جهنم اسمه صعود، سيكلف بصعود هذا الجبل، لماذا؟ قال: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:18 - 25] قال الله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:26 - 30] والعياذ بالله.
وكانوا يتلقون الركبان والذين يقدمون إلى مكة ويحذرونهم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يقولون: إنه ساحر يفرق بين الرجل وبين ولده، وبين الزوج وزوجته، ولكن لم يكن الناس يستجيبون لهم، إلا البسطاء المغفلين، وأما العقلاء فيقولون: نسمع منه، ومنهم: الطفيل بن عمرو الدوسي، هو من أشراف قومه، ومن نبلاء عشيرته، رجل عظيم من بلاد زهران، من بلاد دوس، دخل مكة وتلقوه على أبوابها، وقالوا: هذا قطن ضعه في أذنك، قال: لماذا؟ قالوا: هناك رجل عند الكعبة إذا سمعته يسحرك، يقول: فوضعت الكرسف -القطن- في أذني وجئت أطوف، وإذا بي أسمع، قلت: حسناً يا طفيل أنت رجل عاقل ولبيب، أخرج القطن واسمع إن كان خيراً، فلما سمع القرآن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداًً رسول الله.
الله أكبر! لا إله إلا الله!(14/7)
اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالكذب
أيضاً من الاتهامات الباطلة التي رمي بها النبي صلى الله عليه وسلم: اتهامه بالكذب، وهم يعرفون أنهم كاذبون، وأن أصدق البشرية على الإطلاق هو محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لم يعرفوا عنه كذبة واحدةً في حياته قبل الرسالة ولا بعد الرسالة، أربعين سنة ما كذب كذبة واحدة على الناس، هل يتصور أن يكذب على الله؟! ولهذا قال هرقل لـ أبي سفيان لما سأله قال: أتتهمونه بالكذب؟ قال: لا.
وأبو سفيان كان كافراً، ولو عرف أنه يكذب كذبة واحدة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لقالها، لكن لا يستطيع، لماذا؟ لأنه يوجد أناس وراءه، قال هرقل: إذا كذب أخبروني.
وكان يخشى أبو سفيان أن يقول كلمة فتنقل عنه كذبة، وكانوا يتعيرون بالكذب في الجاهلية، قال هرقل بعد ذلك: سألتك هل جربتم عليه كذباً؟ فقلت: لا.
فقلت: ما كان ليدع الكذب على الناس ثم يكذب على الله، بل هو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
وكانوا يسمونه -أيضاً-: مفترٍ.
يقولون: كما قال الله عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان:4].
وقالوا: إنه يكتتب هذه الآيات، وهذه الآيات سموها أساطير، قال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان:5] وقالوا: إن هذا الكلام ليس من عند الله وإنما يتعلمه من الناس، لكن من الذي يتعلمه منه؟ نسبوا هذا إلى رجلٍ أعجمي، كان يصنع السيوف في مكة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس عنده ينظر إلى صنعته قبل البعثة، فأخذوا بأثر رجعي، قالوا: نعم كان يجلس عنده إذاً هو الذي علمه.
قال الله عز وجل ليبطل هذه الشبهة: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:103] لكن ماذا؟ {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] كيف يعلمه وهو أعجمي؟! فالأعجمي لا يعرف الكلام بالعربية، وإذا تكلم تكلم بغير الفصحى، وهذا قرآن عربي بلسان مبين، وقد عجزتم أنتم أيها الفصحاء والبلغاء، ملوك البيان وأساطير الفصاحة في العالم -قريش- أن تأتوا بمثله، أو بعشر سور مفتريات من مثله، أو بسورة واحدة، ثم أقام التحدي عليهم وعلى الجن إلى يوم القيامة: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} [الإسراء:88] ليس الإنس فقط {عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] كيف يأتي به من عند أعجمي؟!! انظروا الضلال والعقول المقلوبة، هذه كلها افتراءات باطلة.(14/8)
لجوء المشركين إلى الغمز والضحك على النبي صلى الله عليه وسلم
ولما لم تنجح تلك الأساليب وهي أساليب إلصاق التهم؛ لأن التهم لا تلصق إلا بصاحبها، الثوب النظيف نظيف، لا يلصق به أي شيء، لكن المتسخ والملوث يمكن أن تلصق به أي شي، أما الثوب النظيف فأي شيء تضعه عليه يظهر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم نظيف في حياته، أنظف مخلوق على وجه الأرض، اختاره الله، كما قال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] يقول عليه الصلاة والسلام: (اختارني الله عز وجل، فأنا خيار من خيار) صلى الله عليه وسلم، ما اجتمع عليّ أو لي أبوان على باطل، أو على سوء، من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
لما عجزوا أن يلصقوا به شيئاً من التهم الباطلة، لجئوا إلى الغمز واللمز والضحك والاستهزاء والسخرية والتعالي على المؤمنين، وأوضح الله جل وعلا هذا في كتابه، يقول الله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:53] يقولون: لم يجد الله من يمتن عليهم إلا هؤلاء الضعفاء: بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وابن مسعود الهذلي، ضعفاء القوم، أي: أنتم الذين تدخلون، لماذا لم ينزل القرآن على رجل صاحب شخصية؟ وقالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] ما وجد الله إلا أنت يا محمد؟ قال الله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف:32] فالله هو الذي قسم الرحمة بين العباد.
وروى البخاري في صحيحه: أن امرأة قالت للرسول صلى الله عليه وسلم -امرأة مشركة كافرة- وهي ساخرة ومستهزئة: إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثاً -تقول: لماذا لم يأتك شيطانك؟ أي: تتصور أن الذي يأتي بالوحي أنه الشيطان- فأنزل الله عز وجل: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1 - 3].
وروى البخاري -أيضاً-: أن أبا جهل قال مستهزئاً متحدياً كما قال الله: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] فنزل قول الله عز وجل: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] قال الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33] وجود النبي صلى الله عليه وسلم كان أماناً من العذاب {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال:23 - 34].
وذكر ابن إسحاق حديث العراشي الذي باع لـ أبي جهل الإبل ومطل بأثمانها، فـ أبو جهل كافر مماطل خبيث اشترى من شخص من قبيلة عراش قطيعاً من الإبل، ثم وعده بأن يعطيه الثمن بعد ذلك وماطله، فلما جاء الأعرابي إلى قريش قالوا له: ما تريد؟ قال: أبو جهل اشترى مني ولم يعطني المال، قالوا: تريد رجلاً يعطيك؟ قال: نعم.
قالوا: اذهب إلى محمد، لماذا؟ من باب الاستهزاء والتهكم؛ لأن وضع النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مستضعف، لا يستطيع أن يحمي نفسه، وأبو جهل هو سيد القوم وكبيرهم، فالأعرابي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشكا إليه، فذهب معه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي جهل، وقال له: أعطه حقه، قال: حسناً وذهب أبو جهل وأعطاه ماله، ما له كاملاً، فلما سمعت قريش أنه أعطاه، سألوه، قالوا: ما هذا؟ كيف تعطيه؟ كيف سلمته؟ قال: ويحكم والله ما هو إلا أن طرق بابي، وسمعت صوته حتى ملئت رعباً وفزعاً، ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لفحلاً من الإبل فاغراً فاه ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه، والله لو أبيت لأكلني.
فقد كان فاغراً فاه الناب الأعلى عند رأسي والناب الثاني عند رجلي، يريد أن يبلعني.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنهم كانوا يسخرون من الرسول صلى الله عليه وسلم ويستهزئون به، يقول الله: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:29 - 30] كل شخص يقول: انظر {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:31].
وهذه الآية وإن كانت تفسر حادثة من حوادث الزمن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنها خلق العصاة والمجرمين في كل زمان، وهو الاستهزاء بالذين آمنوا، ولذا انتبه واحذر من أن تستهزئ بشيء فيه ذكر الله؛ لأنه يعرضك للوقوع في الكفر والعياذ بالله.
ثبت -أيضاً- من طرق صحيحة في مسند أحمد في بعض الأحاديث: أن أشراف قريش اجتمعوا يوماً في الحجر وتذاكروا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وبينما هم في شأنه إذ طلع عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت، فسكتوا، ثم بدءوا يغمزونه، فقال لهم: (يا معشر قريش أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح) وكان في وقته وقت ضعف الإسلام والمسلمين لا يقدر أحدهم أن يسلم، فالذي يسلم يحارب، ومع هذا يقول لهم هذه الكلمة لرفع شعار من شعارات التقوى، وهذا يدل على قوة النبي صلى الله عليه وسلم وشجاعته، وعلى رده على استهزاء هؤلاء، ومن منطلق الاستعلاء والكبرياء على الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لا نجالس هؤلاء -أي: صهيباً وبلالاً وخبيباً - اطردهم عنا، اجعل لنا مجلساً، فهمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يوافق ويجعل لهؤلاء مجلساً ولهؤلاء مجلساً طمعاً في إسلامهم، فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52] ويقول عز وجل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].
وفي يومٍ من الأيام مر صلوات الله وسلامه عليه على مجموعة من المشركين فاستهزءوا به، فغاضه وامتلأ قلبه غيضاً، فأنزل الله عليه: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام:10].
ومن كبار المستهزئين الذين تولوا كبر الاستهزاء والسخرية بالنبي صلى الله عليه وسلم مجموعة: منهم: الأسود بن عبد المطلب بن أسد، والأسود بن عبد يغوث، والوليد بن المغيرة المخزومي أبو خالد بن الوليد رضي الله عنه، والعاص بن وائل السهمي أبو عمرو بن العاص رضي الله عنه، والحارث بن الطلاطلة الخزاعي، فأنزل الله عز وجل في هؤلاء: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [الحجر:95] أي: سوف نقضي عليهم، وقد ثبت أن جبريل رمى في وجه الأسود بن عبد المطلب ورقة خضراء فعمي، أذهب الله بصره وطمس عينيه؛ لأنه كان مستهزئاً كبيراً، ومر الأسود بن عبد يغوث بجبريل فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه -انتفخ- حتى صار مثل الجرة ثم مات، ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى جرح صغير في أسفل كعبه فانتقض الجرح، وكان قبل سنين قد سل، فانتقض الجرح ثم مات، ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله فخرج على حمار يريد الطائف، فربض به حماره على نبات خفيف فدخلت شوكة في أخمص رجله فقتلته، ومر به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فتحرك الصديد فيه وقتله، ومن كبار المستهزئين أبو جهل وأمية بن خلف، والنضر بن الحارث، والأخنس بن شريح، وأبي بن خلف، وهؤلاء كلهم قتلوا وقضي عليهم في معركة بدر وبعدها، نصراً لنبيه صلى الله عليه وسلم.(14/9)
تشويش المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وطلب المعجزات
من الأساليب -أيضاً-: أسلوب التشويش بإحداث ضجة عندما يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، حتى لا يسمع أحد القرآن فيفهم مراد الله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت:26] أي: أحدثوا لغواً وضوضاء {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] لكن هذا الأسلوب لم ينجح.
طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم في نوع من التحدي والتعجيز، أن يأتي بالمعجزات ومزايا ليست عند البشر، من ذلك قولهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان:7] ما هذا؟! رسول يأكل مثلنا ويمشي معنا {لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} [الفرقان:7] يمشي معه {فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان:7 - 8] ويقولون أيضاً: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} [يونس:15] يقولون: هذا القرآن لا نريده {أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس:15] هات شيئاً آخر، فرد عليهم سبحانه وتعالى بقوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس:15] ما هو من عندي حتى أبدله، ولو كان من عندي وهو لا يصلح لكم سوف آتي بغيره، لكن هذا من عند الله كيف أبدله وهو ليس من عندي؟ {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} [يونس:15] بتبديل كلام الله وإعطاؤكم ما تريدون وترك ما لا تريدون {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15].
وقالوا أيضاً: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الإسراء:90] لأنه لم يكن عندهم ماء إلا ماء زمزم القليل، فكانوا يريدون ينابيع وأنهار {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ} [الإسراء:91] لأنه لا يوجد عندهم مزارع، ومكة منطقة غير زراعية، فيريدون نخيلاً وأعناباً {فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} [الإسراء:91 - 92] يقولون: ائت بربك والملائكة معك من أجل أن نؤمن بك، وبعد ذلك: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} [الإسراء:93] فأنت ساكن في غرف بسيطة، نريد أن يكون لك بيت من زخرف مزخرف وجميل {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء:93] اصعد {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ} [الإسراء:93] حتى لو صعدت لن نسلم لك، لماذا؟ {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} [الإسراء:93] أي: ائت بكتاب مكتوب من السماء ليس من الأرض، قال الله سبحانه وتعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} [الإسراء:93] تطلبون شيئاً ليس مني أصلاً، فأنا بشر رسول مكلف بأداء رسالة، أوحى الله بها إليَّ وأنا أبلغها لكم، أما ما تطلبون ليس إليَّ، فلست إلهاً حتى أعطيكم ما تريدون، وإنما أنا رسول لا أملك إلا الرسالة.
وسألوه -أيضاً-: أن يسير لهم جبال مكة، قالوا: هذه الجبال نريدك أن تجعلها أرضاً مبسوطة من أجل أن نزرعها.
وطلبوا منه أن يبعث لهم الآباء أمثال قصي ليسألوه عن صدقه، فرد الله عز وجل عليهم بقوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} [الرعد:31] {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:109] وهذا إخبار بأن حقيقة الكفر عندهم ليست ناتجة عن نقص الآيات، الآيات واضحة، لكن الكفر عندهم ناتج عن إصرارهم وعنادهم، ولهذا قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:111] وبعد ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:146] لماذا؟ قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146] فالقضية ليست نقصاً في الدلالة، أدلة صدق النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أنه رسول من عند الله أوضح من الشمس، لكن المعاند الذي لا يريد الدليل لا تستطيع إقناعه، ولهذا سمي الكافر كافراً؛ لأنه مغطي للحقيقة، ومعنى الكفر في اللغة: التغطية، كفر الشيء أي: غطاه، فهم يغطون الحقائق، فالحقائق ناصعة والبراهين ساطعة والدلائل واضحة، لكن لا يريدون الإيمان بها أصلاً فيكفرون بها ويغطونها.
وسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم: أن يجعل لهم جبل الصفا المقابل للمروة أن يجعله ذهباً، فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ربه وقال: رب اجعلها لهم ذهباً، فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت الأمم التي قبلهم، قال: لا.
بل أستأني بهم صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن الله يقول: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء:59] عندما تأتي آية واضحة يرفضها الكافر بعدما تأتي، وبعد ذلك يحصل تدمير مباشرة، كما حصل لقوم صالح، تحدوه وقالوا له: أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء، أي: في الشهر العاشر، حامل، قد لقحت، فدعا ربه، فخرجت الناقة، وقال لهم: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} [الأعراف:73] هذه مخلوقة من عند الله {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155] فعقروها، فماذا حصل لهم؟ قيل لهم: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود:65] فاليوم الأول اسودت وجوههم، واليوم الثاني احمرت، واليوم الثالث قطع الله قلوبهم في أجوافهم، وصاح فيهم جبريل صيحة واحدة فأصبحوا خامدين عن بكرة أبيهم، فمن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالأمة أنه ما سأل الله عز وجل أن ينزل آية؛ لأنها لو نزلت آية لعرف الرسول أنهم سوف يكذبونه مثل سابقيهم ويحق عليهم العذاب، وهو رسول رحمة وليس رسول عذاب، قال: لا.
أستأني بهم، أي: أنتظر وأتمهل لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده، كما قال لجبريل لما رجع من الطائف -هذا سيأتي معناه بعد-: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين -جبلين عظيمين في مكة - قال له: (لا.
إني لأرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله) كانت نظرة النبي صلى الله عليه وسلم نظرة بعيدة، ما كانت نظرة قصيرة مؤقتة، لا.
فهؤلاء الكفار إذا أصروا على كفرهم اتركهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده، وفعلاً تحقق -كما سمعتم- خالد ابن من؟ ابن الوليد بن المغيرة، وعمرو بن العاص بن وائل، وعكرمة بن أبي جهل، أولئك رءوس الكفر وهؤلاء رءوس الهداية والدين والنضال والجهاد في سبيل الله.(14/10)
مساومة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم
لما عجزت كل هذه الأساليب في رد النبي صلى الله عليه وسلم ومنعه عن مزاولة الدعوة، لجئوا إلى أسلوبٍ آخر: هو المساومة، أي: نعطيك شيئاً وتترك لنا شيئاً، وهو أن يعملوا شيئاً من الدين ويعمل هو شيئاً من الشرك، وقالوا له: اعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، هذا عدل، أما أن تريد منا جميعاً أن نعبد إلهك ونترك آلهتنا {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] فقالوا له: إن كنت منصفاً وعادلاً، فنحن نوافقك على أن تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، لكن لا تنفع أوساط الحلول بين الشرك والإسلام، وبين الكفر وبين الحق والهدى، لا يوجد إلا نور، إما أسود وإما أبيض، وإذا أخذت القليل فلا يصح، فأنزل الله عز وجل عليه: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} [الكافرون:1 - 4] كررها للتأكيد {لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون:6] وهو الكفر ودين الشرك {وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] وهو التوحيد ودين الإسلام.
وهذه تمثل الآية التالية: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3] قاعدة الثبات على العقيدة، وعدم الرضا بالمساومة، لا مساومة على الدين، إما حق وإما باطل، وإما تنازلات في عقيدة المسلم، لا.
لأنك بقدر ما تتنازل بقدر ما تضيع من دينك.
وساوموا عمه على هذا، ولكنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه).
لم يوافقهم النبي صلى الله عليه وسلم على هذه المساومة بدءوا بالتحرش المباشر، بسب القرآن، وبسب الرسول صلى الله عليه وسلم، وبسب الذات الإلهية، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، روى البخاري ومسلم في قوله سبحانه وتعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء:110] أن ابن عباس قال: [نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختفٍ بـ مكة، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله لنبيه: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} [الإسراء:110] أي: بقراءتك، فيسمع المشركون قراءتك فيسبوا القرآن {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء:110] حتى لا يسمع أصحابك، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء:110] وهي القراءة المعتدلة التي يسمعها أصحابك فيستفيدون، ولا يسمعها المشركون فيسبوا الله ويسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم] وفي هذا إرشاد نبوي وتوجيه للدعاة إلى أن تكون مواقفهم مواقف معتدلة، ومواقف مصلحة ومنفعة للدعوة، من غير تعنت ولا اندفاعات ولا مواقف فيها نوع من التشنجات، إنما للمصلحة التي من أجلها شرعت القراءة، من أجل أن يسمعها المسلمون بعدك، فلا داعي أن ترفع صوتك حتى يسمعك الكفار فيسبونك ويسبوا القرآن، لا.
بل نهى الله أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم عن سب آلهة المشركين، قال: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] لأن المسلمين كانوا يسبون أصنام الكفار، فأخذ المشركون يسبون الله، فنهاهم الله.
وفي هذا تعليم للمسلم أنه إذا كان يترتب على فعلك لأمرٍ معروف مشروع، فعل منكر أعظم لزمك ألا تفعل هذا المشروع، فسب آلهة الكفار أمر مشروع وأمر من الدين أن تسب اللات والعزى والأصنام، لكن لما كان يترتب على هذا السب منكر أعظم؛ وهو أن يسبوا الله، قال الله: لا تسبوا آلهتهم، ولهذا ذكر ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين أن شيخ الإسلام ابن تيمية مر على قوم من التتر وهم سكارى، فأراد بعض تلامذة الشيخ أن يأمرهم وينهاهم عن المنكر عن الخمر، فمنعه الشيخ، فاستغرب الطالب؛ لأن الشيخ كان أمَّاراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ومن أبرز الناس في الأمر والنهي، فقال له: إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء -أي: التتر- تصدهم عن قتل المسلمين وهتك أعراضهم، فدعهم وما هم فيه.
يقول: اتركهم سكرانين؛ لأنك إذا أقمته من السُكر لا يقوم يصلي ويذكر الله بل يقوم يقتل المسلمين ويعتدي على أعراضهم، فأنت عملت أمراً مشروعاً وهو الأمر بالمعروف، لكن ترتب على الأمر المشروع هذا أمر أنكر منه وهو قتل المسلمين، إذاً لا تفعل.
هذه قاعدة من قواعد التغيير التي ذكرها ابن القيم وهي أربع درجات: الدرجة الأولى: أن يزول المنكر ويعقبه المعروف، فهذا مشروع باتفاق أهل العلم.
الدرجة الثانية: أن يزول المنكر ويعقبه منكر لكن أقل منه، أي: المنكر (100%) بالتغير يصبح (50%) هذا -أيضاً- مشروع بالاتفاق.
الدرجة الثالثة: أن يزول المنكر ويعقبه منكر مثله في درجته، فهذا موضوع نظر واجتهاد.
الدرجة الرابعة: أن يزول المنكر ويعقبه منكر أعظم منه، فهذا محرم بالاتفاق، مثلاً: رجل لا يصلي في المسجد ويصلي في بيته، فغضب عليه رجل، بدل أن يدعوه إلى الله ويمارس معه أسلوب الدعوة غضب عليه وهجره، ولم يعد يزوره في البيت، وأبلغه أنه لا يدخل عليه، فسأل هذا وقال: لماذا هو غضبان؟ قالوا: لأنك لا تصلي في المسجد، قال: هذا الذي أغضبه؟ قال: والله لا أصلي حتى في البيت من أجله.
هذا هو التغيير الذي لا يريده الشرع، لماذا؟ لأن الهجر دواء، فإذا كان ينفع استعمله، وإذا كان يضر لا تستعمله؛ لأنك إذا هجرته زدته عناداً، لكن لو هجرت زوجتك لا يزيدها عناداً؛ لأنها محتاجة لك، تبحث عن رضاك، لو هجرت ولدك، ما يزيده عناد؛ فهجرك للولد، وهجرك للزوجة، وهجرك للعامل، ولمن تحت يديك وهو محتاج إليك فهذا مشروع، لكن هجرك للناس فهذا ولد الناس، وعلم أنك غضبان، قال: ما شأني وشأنه؟ ما دام أنه غضبان هكذا أغضبه أكثر، والله لا أركع ركعة، فترك الصلاة، هرب من فعل المحرم الذي هو ترك الصلاة في المسجد فوقع في الكفر والخروج من الملة بتركه للصلاة، من الذي حمله على هذا؟ موقف الأخ، أراد أن يكحله فأعماه، ما معنى هذا المثال؟ رأى عنده مرضاً في عينيه، فأخذ المكحل يريد أن يداويه بالمكحلة فأعماه بالكلية، وهذا من الخطأ، فإن من فقه الدعوة: أن تعرف هل التغييرات في صالحك أم في صالح الشر، فمتى كان التغيير مضموناً في أن نتائجه حسنة بعد دراسة وبعد تأمل ونظر من قبلك، اعمل، أما إذا عرفت أن في ذلك ضرراً ومنكراً أعظم من المنكر الذي عليه هذا الرجل، فعليك أن تسلك أسلوباً آخر.(14/11)
الأسئلة(14/12)
حكم التدخين
السؤال
نصحت مدخناً فقال لي: التدخين ليس حرام، أريد دليلاً؟
الجواب
في قرارة نفس المدخن وقناعته أن التدخين حرام، لكنه يغالط، وأقرب دليل ندحض به حجته نسأله: هل الدخان طيب أم خبيث؟ إن كان منصفاً سيقول: خبيث، وإذا قال: خبيث فقد حكم بالحرمة عليه؛ لأن الله يقول: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] وأقرب دليل على أنه خبيث: شهادة الشركة الصانعة، وأي شركة ترسل معها دعاية لها، إلا الدخان، يصنعونه ويكتبون عليه دعاية ضده، مكتوب على كل كرتون: التدخين يضر بصحتك، تحذير رسمي، والذي يضر طيب أم خبيث؟ خبيث، فالشركة تقول: خبيث وأنت تقول: طيب، فهو خبيث وما دام أنه خبيث إذاً هو حرام، المغالط الذي يقول: إنه طيب، هذا مسكين ومنكوس، والمنكوس لا يقتنع وهذه أبيات تقولها سيجارة:
أنا السرطان والقار أنا سل وأخطار
أنا الأمراض أجمعها ومنها أنت تختار
تقول: عندي مستودع الأمراض وخذ واحداً منها.
أنا علب ملونة وعندي الموت أشكال
حرمت بنيك من زاد وهان لأجلي المال
بعض الناس يترك أولاده ويشتري دخان.
لقد سممت أجواءك وناري أصبحت داءك
فكم آذيت أبناءك وكم أحرقت أحشاءك
بجيبك لي مكانات ومن رئتيك أقتات
يغرك شكلي الجذاب لكني نفايات
أنا أغلى من الذهب وللأعواد منتسب
فكم أوهمت ذا هم بتدخيني لدى الغضب
مقامي في الشرايين كوسواس الشياطين
فحتى ما تلوموني وبالرئتين تغذو لي
تقول: لماذا تلوموني وتغذوني على الرئتين؟
أعاديكم وتحموني وبالأموال تفدوني
إلى الأمراض أدعوكم وأنتم لا تعادوني
تعالوا يا أحبائي لأقتلكم بأوبائي
وأجعلكم مهازيلاً وأهدافاً لأدوائي
ثم سألها شخص: من هم أصدقاؤك؟ قالت: صديقتي الشيشة؛ لأنها بنت عمها، فالدخان مصيبة وحده.
أنا وصديقتي الشيشة نعكر صافي العيشة
بعض الناس يقول: تركت الدخان، الحمد لله، لكني أشرب شيشة، قلنا: هرب من منكر إلى منكر أعظم منه.
أنا وصديقتي الشيشة نعكر صافي العيشة
ونجعل من له كيف كطير نتفوا ريشه
أحدهم سألها قال: من عدوك؟ قالت:
عدوي صاحب الصبر به يقوى على قهري
نجا بالعزم والإيمان من كدري ومن شري
فقام الرجل الذي سألها وأمسك بها وداسها بقدمه، ثم توضأ وتناول السواك، وقال: أستغفر الله العظيم وأتوب إليه.
فلا مجال أبداً للتردد بأن السيجارة خبيثة وحرام.(14/13)
حكم الاستعانة بالأشخاص لمعرفة مكان الماء
السؤال
نستعين بشخص يقال له (المُودة) وذلك لتعيين المكان المناسب لحفر الآبار؟
الجواب
نحن نسميه في الجنوب (المسمِّع) ويسمونه في نجد (الصنَّات) هذا ينقسم إلى قسمين: قسم مباح وقسم حرام، فالقسم المباح: أن بعض الناس عندهم خبرة في الأرض وطرقها وجبالها ووديانها ويستدلون على باطنها بظاهرها، فإذا جاءوا على وادٍ فيه أشجار وفيه عتل أخضر، قالوا: لا ينبت الشجر ولا العتل إلا على ماء، فيقولون: احفروا هنا حفرة، وإن شاء الله تكون خيراً، هذا لا شيء فيه؛ لأنه اجتهاد نظري وعقلي، مثل الجولوجيا يستدلون على البترول في الأرض بظاهر طبقات الأرض.
وقسم شركي محرم: وهو الاستعانة بالجن؛ لأن الجن عندهم قدرة على الغوص في طبقات الأرض، فإذا استعان بهم الإنسان المشرك قدموا له خدمة، وأروه أين الماء، فيأتي إلى الناس ويحدثهم ويقول: احفروا في هذا المكان، احفروا عشرة أمتار، تجد مترين طيناً، وبعد ذلك مترين يأتيك (جرشة) الحمرة، وبعد ذلك مترين يأتيك صلب وحجر يحتاج إلى دينميت، وبعد ذلك تلقى بعده (جرشة) بيضاء تختلف وبعده يأتيك الماء، أبشر بالماء، من علمه؟ هو يقول: أرى فوق وتحت الأرض.
لا.
ما ترى كذباً في كذب، هذا الجني أراك واستعنت به، وهذا شرك ولا يجوز تصديقه.(14/14)
حكم استعمال المنشطات في العمل
السؤال
أبي يستخدم حبوب منشطة ليسعى في طلب الرزق، وأنا شاب ملتزم، هل يجوز أن آكل معه من طعامه؟
الجواب
هذه الحبوب المنشطة هي من المخدرات؛ لأنها تبعث في الإنسان النشاط لكن على حساب الصحة، وهي جزء من المخدرات وهي محرمة ولا يجوز تعاطيها.
أما والدك فعليك أن تنصحه، وإذا لم ينتصح وأنت محتاج إلى أن تأكل من أكله فإن أكله الذي يأتي به حلال؛ لأنه من طريق الكد والتعب، لكن تناوله للحرام حرام هو عليه، ولا ينقلب وينسحب عليك أنت، فعليك أن تناصحه وتبين له أن هذا حرام ونسأل الله أن يتوب عليه.(14/15)
حكم لبس خاتم الفضة للرجال
السؤال
هل يوجد وزن معين لا يمكن تجاوزه في لبس الخواتم الفضية بالنسبة للرجال؟
الجواب
الخاتم بالنسبة للرجل ليس ضرورياً وإنما عند الحاجة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً بعد أن كاتب الملوك، فقالوا له: إن الملوك لا يقبلون الرسائل إلا بختوم، فاتخد خاتماً كتب عليه (محمد رسول الله) فإذا كنت عمدة أو قاضٍ أو لك مكانة تحتاج فيها إلى ختم، والختم تريده في الخاتم، لا بأس، ولا مانع، وإذا كان ليس له ضرورة فلا داعي له، بعض الناس يتخذ الخاتم للتزين والتجمل، وهذا منهي عنه؛ لأن جمال الرجل ليس في خاتمه ولا في أصابعه، جمال الرجل في رجولته وشجاعته ومروءته ودينه، أما إذا اتخذ الجمال في الخاتم والسلاسل والحمرة فما بقي إلا أن نلبسه لبس النساء ويتحول إلى امرأة، ونبحث له عن رجل يتزوج به.
أما الوزن فقد حدده النبي صلى الله عليه وسلم، قال للرجل: (خذ خاتماً من فضة ولا تتمه مثقالاً) والمثقال بالوزن (4.
2) فإذا كان في هذا الحدود فلا بأس، وبعضهم يلبس خاتماً كبيراً ولو وزنته لكان عشرة أو عشرين جراماً، بل بعضهم يضارب به، يتخذه ويقول: من أجل أن أضارب به.(14/16)
حكم سب الله ورسوله ودينه
السؤال
شخص سب الدين عند تعرضه لموقفٍ من المواقف، فهل يخرج من الملة مع أنه من غير قصد؟
الجواب
سب الدين على ثلاثة أنواع: إما سب الدين، أو سب الرسول، أو سب الله سبحانه وتعالى، فإن كان السب لله أو للدين فإنه يكفر، وإذا تاب تاب الله عليه، وكذلك إذا سب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يكفر ولكن إذا عرف عنه فإنه يتوب إذا تاب الله عليه لكن لا بد من قطع رأسه، وإقامة الحد عليه وتنظيف الأرض منه، انظروا إذا سب الله وتاب أمام القاضي، يعزره تعزير إما بسجن أو ضرب لكن لا يقتله، أما شخصية الرسول إذا سبت قتل، لماذا؟ قد يقول شخص سب الله أعظم من سب الرسول؟ لا.
ليس أعظم، لأن مقام الله سبحانه وتعالى أرفع من أن يناله شيء من سب الذي سبه، ولكن مقام الرسول صلى الله عليه وسلم يمكن أن يناله شيء، ولهذا يقطع رأسه حتى لا يتعرض أحد لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بأي أذى.
وهذا مقرر في كتب الفقه.(14/17)
حكم قول: (إن شاء الله)
السؤال
شخص قال لصديقه: هيا إلى الصلاة، فرد عليه: إن شاء الله، فقال الداعي إلى الصلاة: هذه لا تحتاج إلى إن شاء الله، فما الحكم مع أن الداعي إلى الصلاة يقصد الخير ونيته زيادة عزم الشخص الآخر؟
الجواب
لا شيء فيها إذا كان يقول: إن شاء الله، أي: أقوم، فلا شيء يتم إلا بمشيئة الله، أما إن كان يقول إن شاء الله على سبيل التهاون أو الاستهزاء، فهذا لا يجوز وهذا حرام والعياذ بالله.(14/18)
حكم الدعاء على الأولاد عند الغضب
السؤال
أرجو توجيه كلمة إلى الأخوات في الله، في الأمور التالية: هناك بعض النساء عندما تغضب على أولادها تدعو عليهم، مثل: الله يأخذ عمرك، ويريحني منك، الله لا يوفقك، وقد يصل الأمر إلى اللعن، وعندما ينصحون يقولون: هذا ليس من القلب؟
الجواب
هذا من الأخطاء سواءً عند النساء أو عند الرجال، ولهذا جاء النهي يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يلعن أو يسب أو يدعو أحد على ولده فقد توافق ساعة إجابة) نحن نعرف أن الأم حين تدعو على ولدها ليس من قلبها، وكذلك الأب حينما يدعو على ولده ليس من قلبه، لكن إذا دعت عليهم ووافقت ساعة إجابة استجاب الله، وبالتالي من المتضرر؟ أنت، فلا تقل: الله يأخذ عمرك، تقول: الله يهديك، الله يصلحك، الله يوفقك، خير من أن تقول: يأخذ عمرك، الله يجعلها في وجهك، الله ينتقم منك، لماذا؟ ليست دعوة واحدة، لكن بعض الناس لا يبرد قلبه حتى يدعو عليهم، يقول: الله يهديك، لا الله لا يهديك، لماذا الله لا يهديه؟ هل هدفك أن الله لا يهديه؟ لا.
فالكلمة الطيبة أحسن من الكلمة السيئة، ولذا عود نفسك -يا أخي- أنك لا تدعو على أحد من أولادك أو مالك أو شيء آخر، وأذكر أني ذكرت لكم القصة التي أنا أعرف صاحبها: هذا رجل كان نائماً في فراشه وولده نائم، وبعد ذلك طرأ عند ولده فكرة أن يخرج، يأخذ له دورة بعد المذاكرة، فجاء إلى والده، الولد طيب ولا يخرج إلا بإذن، فجاء إلى أبيه وقال: يا أبت! نفسي ضيقة أريد أن أدور كذا، فمن شفقة الأب على الولد ومن حرصه عليه قال له: لا يا ولدي الساعة الآن الثانية عشر، اذهب ونم، فرجع الولد غضبان، وذهب إلى أمه، وطلب منها الشفاعة، فجاءت الأم تشفع عند الأب، وأصروا عليه حتى وافق لكن قال كلمة، قال: اذهب الله لا يردك.
وكأن الكلمة هذه وافقت وقت إجابة، وذهب الولد وركب سيارته ودار دورة وفي إحدى التقاطعات اصطدم بسيارة، وقطعته قطعاً حتى مات، وجلس الأب والأم في البيت ينتظرون، ومرت ساعة وساعتان وثلاث وما جاءهم النوم، أذّن الفجر وخرج يصلي، رجع من المسجد إلى البيت ما جاء الولد، طلعت الشمس، ذهب إلى الشرطة يسأل: هل حصل شي؟ قالوا: هناك حوادث، دعه يذهب إلى المستشفى ينظر، فذهب إلى المستشفى ففتحوا الثلاجة فوجد ولده آخر واحد وضع في الموتى، فعرفه بثيابه التي خرج وهي عليه، وندم لكن حين لا ينفع الندم، يقول: أتمنى أن الشوكة التي في رجله هي في عيني، وما أنا صادق عندما قلت له: الله لا يردك، لكن من باب الغضب، وكان الأولى بأن يقول: حسناً اذهب الله يسهل أمرك، الله ييسر لك، الله يرجعك، أحسن من الله لا يردك.(14/19)
حكم الكذب على الأطفال
السؤال
من المشاكل التي تقع فيها بعض النساء الكذب على الأطفال للتخلص من بعض طلباتهم؟
الجواب
هذا من وسائل التربية الغير مجدية؛ لأن القدوة من أهم أسس التربية، إذا كانت الأم تقول للولد: لا تكذب وهي تكذب يصبح كذاباً، وإذا قالت: لا تسرق وهي تسرق يصبح سارقاً، وإذا قالت: لا تلعن وهي تعلن يصبح لعاناً، وإذا قالت صل وهي لا تصلي لا يصلي، التربية بالقدوة من أهم أنواع التربية، فلماذا تكذبين على الولد؟ كوني صريحةً دائماً، وعلمي الولد الصراحة والصدق؛ لأنك إذا علمته الصدق صار صادقاً، ولا تتخلصين بالكذب، وإنما تخلصي منه بالأسلوب الجاد والصادق والإقناع، أو لبي الطلبات إذا كنت تستطيعين.(14/20)
حكم وضع الطعام في القمامة
السؤال
من الأخطاء عند بعض النساء: أنهن يضعن بقية الطعام في القمامة، وبعضهن تضعه حتى مع حفاظات الأولاد؟
الجواب
هذه معضلة اجتماعية ومشكلة خطيرة تنذر بغضب الله وسخطه؛ لأن الله عز وجل غيور على هذه النعم، ونحن وإن كنا في نعمة لا نشعر بها، لكن غيرنا يتمنى أن يعيش على ما في القمائم التي نضعها في الزبالات، وما من بيت يوضع فيه طعام من بيوتنا إلا وما يُترك بعد الأكل أكثر مما أكل، يكسر القرص ويأخذ منه نصفه والباقي يترك، وتفتح التفاحة ويأخذ منه شقرة والباقي يترك، واللحم يأخذ جزءاً ويترك مثله، والرز يأكل من الطرف والباقي يترك، والإدام يأكل نصف الصحن ويبقى النصف، والباقي أين يذهب؟ بدل أن يقدم في السفرة القدر المطلوب، لا.
لا بد أن يزيد أي: يشبعون فوق هذا والباقي يرمونه في الزبالة، ولهذا ترون الآن ما من بيت ولا شقة إلا وعنده في كل يوم قمامة، رز ولحم وإدام وعيش، كما يقول أحدهم: ضاع المسلم بين الزنبيل والقمامة، يرفع زنبيلاً وينزل قمامة، أحدهم كانت امرأته تقول له دائماً: هات وهات، قالت: وكان كل يوم يقول لي: وأنتِ هات هات، ما قلت لي في يوم من الأيام: خذ، قالت: خذ القمامة وأنزلها.
أما وضع القمامة ووضع الحفاظات مع النعمة فهذه كارثة، يجب أن توضع الحفاظات في سلة مستقلة وتوضع بعيده عن الطعام؛ لأن هذا إهانة، ولا يوضع في القمامة شيء من الطعام، القرص أو العيش أو الإدام أو الرز يوضع في أوانٍ، ويجعل في الثلاجة، وإذا كان هناك أناس من الفقراء والمساكين يعطى إياه وإذا ما وجد فقراء ومساكين يحمل هذا كله ويخرج إلى البادية أو الصحراء أو إلى مكان بعيد، فيضعه هناك لتأكله الطير، والأفضل من هذا كله أن تكون المرأة ذات عقل وذات تدبير، بحيث إذا جاءت تطبخ طبخت بالقدر الذي يكفي الأسرة فقط، بل يقومون وهم جائعون، لأن أفضل طعام وأبرك طعام هو الطعام الذي ينتهي قبل أن تشبع، ولهذا جاءت السنة بلعق الإناء، ما معنى لعق الإناء؟ أي: أنه لعق الطعام، لكن من منا يلعق الإناء، سوف تنفطر بطنك إذا لعقت الإناء؛ لأن الإناء ممتلئ.(14/21)
حكم ترك النساء قراءة القرآن
السؤال
عدم قراءة القرآن من قبل بعض النساء بحجة أن الوقت لا يكفي وأن هناك مشاغل؟
الجواب
من الأسوأ ما يمكن أن تجد المرأة لكل شيء وقت إلا القرآن لا تجد له وقتاً، وهذا من ضعف دينها، ومن هزال إيمانها، عندها وقت لكل شيء، حتى المسلسلات لها وقت في برنامجها، والتزين له وقت، والطبيخ له وقت، والحدائق لها وقت، والملاهي لها وقت، حسناً والقرآن ليس له وقت؟ لأنه أصلاً لا يوجد عندك إيمان قوي، لا.
القرآن مهم، ولا بد أن يكون لها ورد معين من كتاب الله، وأفضل الأوقات بعد الفجر أو بعد المغرب، أو عند النوم أو بعد العصر، حسب ظروف المرأة، وإذا التحقت بإحدى مدارس القرآن لتعلم كتاب الله وحفظه، فهذا من أفضل ما يمكن.(14/22)
حكم دخول الحائض إلى المسجد
السؤال
هل يجوز دخول المرأة وهي حائض إلى المسجد أو المرور به؟
الجواب
لا يجوز لها أن تدخل المسجد، وإذا كانت حائضاً والمسجد فيه مدرسة لا تأتِ المدرسة؛ لأن الشارع أمرها باجتناب المساجد.(14/23)
كفارة اليمين
السؤال
حلفت بالله ألا أكمل الدراسة بعد تخرجي من الجامعة، ولكن بعد فترة عدت وأكملت الدراسة ما الحكم؟ وما هي الكفارة؟
الجواب
كفارة الحلف، تخرجت من الجامعة وأنت لا تعرف كفارة الحلف! أي جامعة هذه التي تخرجت منها، معنى جامعي أي: الذي جمع العلوم كلها، وإلى الآن لا تعرف كفارة اليمين، كفارة اليمين: أن تطعم عشرة مساكين، أو تعتق رقبة، أو تكسو عشرة مساكين، إذا لم تجد هذه ولا تلك كلها فإنك تصوم ثلاثة أيام.
والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(14/24)
الإصرار على المعاصي
تحدث الشيخ عن طلب العلم مبيناً أنه نوعان: علم شرعي وهو علم الكتاب والسنة، وعلم دنيوي تندرج تحته بقية العلوم، وقد أوضح خلال هذا فرضية العلم الشرعي، ثم ضرب أمثلة تتناول سعي من سبقونا في طلب العلم وحرصهم على ذلك، مسهباً في الحديث عن سوء الخاتمة، وموضحاً علاقة الإصرار على المعاصي بها.(15/1)
أهمية طلب العلم وتحصيله
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: طلب العلم الشرعي -علم الكتاب والسنة- فريضة من فرائض الدين، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) وليس في الحديث مسلمة، ولكنها تدخل ضمن المعنى؛ لأن كل تكاليف الشرع موجهة إلى الرجل والمرأة ما لم يختص الرجل بحكم وتختص المرأة بحكم، وإلا فإن الأصل أن كل تكاليف الشرع موجهة إلى الإنسان بجنسيه: الذكر والأنثى.
فالعلم المفروض هو قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن العلم ينقسم إلى قسمين من حيث هو فريضة: فرض عيني، وفرض كفائي.
فالفرض العيني هو علم القرآن والسنة مما يتعلق بعبادة الإنسان وعقيدته وسلوكه، فهذا لا يعذر بجهله أحد وإنما يجب عليه شرعاً أن يتعلم ذلك.
أما الفرض الكفائي فهو بقية العلوم -أي: علوم الإنسان التجريبية- كالطب والهندسة والكيمياء والفيزياء وجميع هذه العلوم.
فليس مفروضاً على كل مسلم أن يكون طبيباً أو مهندساً، ولكنه فرض كفائي يجب على الأمة في العلوم، فإذا قامت به بعض الأمة سقطت العهدة عن البقية، إذ ينبغي ويجب أن يكون في المجتمع المسلم أطباء ومهندسون وعلماء في كل مجالات الحياة، حتى يعمروا هذه الحياة عمارة حقيقية، ويكونوا خلفاء لله في أرضه؛ لأن الدين يشمل وينتظم كل مصالح الدنيا والآخرة، وسعي الناس في طلب العلم -والحمد لله- خاصة الشباب منهم في هذا الزمن، الذين نسأل الله عز وجل أن يوفقهم ويثبتنا وإياهم، ويبصرهم في دينه، فإن حرصهم على حضور حلقات العلم هو قيام بالواجب، وليس في ذلك شك؛ لأنهم يؤدون فريضة الله، وهي ظاهرة تدل على الصحوة الإيمانية التي يشعرون بها، نسأل الله أن يزيدهم توفيقاً وهداية وثباتاً.
ولا نريد أن نبالغ إذا قلنا: إن الشباب في خير؛ حتى لا يحصل لهم شيء من الغرور، ويظنون أنهم قد قاموا بالواجب على أكمله؛ لأن الدارس لسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة السلف رضي الله عنهم، ورؤيته للجهد الجهيد والمعاناة التي كان يشاهدها ويلاقيها السلف في سبيل تحصيل العلم، يرى في ذلك أنه لا نسبة ولا تناسب بيننا وبينهم؛ لأنهم كانوا يقطعون الفيافي والقفار والمدن والشهور في سبيل تحصيل العلم.(15/2)
موسى عليه السلام وحرصه على طلب العلم
موسى عليه السلام لما وقف خطيباً في بني إسرائيل وقال: إنه لا يعلم في الأرض أعلم منه، ولم يستثن ويقول: إلا الله، فأراد الله أن يخبره أن في الأرض من هو أعلم منه، فأوحى إليه أن هناك عبداً صالحاً آتاه الله علماً، وأنه يسكن في مجمع البحرين؛ ومجمع البحرين في نهاية قارة إفريقيا في الشمال الغربي منها، عند التقاء البحر الأبيض المتوسط مع المحيط الأطلسي في مضيق جبل طارق، في أرض المغرب في مدينة اسمها طنجة، أي عند التقاء المحيط الأطلسي مع البحر الأبيض المتوسط، في المضيق الذي يسمونه الآن: مضيق طارق، ليس طارق عبد الحكيم؛ لأن بعض الناس لا يتصور إلا هذا الاسم، وإذا قلت له: محمد عبد الوهاب، لم يخطر في ذهنهم إلا الموسيقار، لا يعرفون أنه يوجد شخص اسمه محمد بن عبد الوهاب؛ الإمام المجدد الذي دعا إلى دعوة التوحيد، والذي قامت على دعوته هذه الدولة، والذي نظف وطهر الله بدعوته هذه الجزيرة العربية من أدران الشرك، بعد أن كان الشرك مهيمناً ومخيماً عليها، لدرجة أنهم في نجد كانت المرأة التي لا تحمل تأتي إلى عذق النخل وتقول له: يا فحل الفحول! أعطني بعلاً قبل الحول.
وكان يطاف بقبر زيد بن الخطاب في اليمامة كما يطاف بالكعبة، ولكن بأثر دعوة هذا الشيخ المبارك، ثم بتعاون أسرة آل سعود مع الشيخ في أول الدعوة، وكان لهذا الأثر قيام التوحيد، ومن ثمرة التوحيد هذه الدولة الموحدة إن شاء الله.
أكثر الناس يجهل محمد بن عبد الوهاب وغيره من الأعلام، ولا يعرف إلا الأسماء التي يسمعها في الليل والنهار عن المغنين.
المضيق هذا اسمه مضيق طارق بن زياد، وهو فاتحٌ وقائدٌ إسلامي عظيم، فتح الأرض حتى وصل إلى أسبانيا عبر المضيق وأحرق السفن، وقال للجيش: البحر من ورائكم والعدو من أمامكم، فاقتحموا وفتحوا بلاد أسبانيا وجزءاً من بلاد فرنسا، يوم أن كانت راية الإسلام مرفوعة وعلم الجهاد عالياً.
أخبر الله موسى أن هناك عبداً صالحاً أعلم منه، فقطع المسافة من بلاد فلسطين حتى مغرب الشمس.
انظروا! يقطع الطور ويأتي إلى مصر ويعبرها إلى ليبيا وتونس والجزائر ثم المغرب، كل هذا على قدمه، وليس معه شيء إلا غلامه وهو يوشع بن نون، وهم يعبرون الطريق في سبيل تحصيل العلم؛ من أجل أن يقف على عالم يأخذ منه علماً، فلما وجده قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66] الغرض من الرحلة الطويلة أنه يتعلم منه، فقال له الخضر عليه السلام: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:67] فالعلم يحتاج إلى صبر، ومن لم يصبر لا يتعلم.
والصبر أنواع عدة: صبر في الطلب، والأدب، والأداء، والحفظ، والمجالسة؛ لأن مجالس الذكر تطول وتكثر عليك، فلا بد من الصبر والتحصيل والحفظ.
{قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:67] {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} [الكهف:69] قال: من أول الآداب أن تمشي ولا تسأل، أي: لاحظ وارصد، لكن لا تسأل {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً * فَانْطَلَقَا} [الكهف:70 - 71].
وعبر الرحلة كانت هناك ثلاثة مشاهد، تستوجب من موسى عليه السلام أن يسأل عنها؛ لأنها أشياء في ظاهرها الإفساد وعدم التعقل: المشهد الأول: عندما ركب السفينة خرقها، والخرق تدمير وتخريب، وموسى نبيٌ مرسل للإصلاح ومحاربة الإفساد، فلم يصبر على الذي يراه السفينة تُخرق، والماء قد يدخل وتغرق السفينة، فقال للخضر: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف:71] فكان الجواب مباشرة أن قال له الشرط: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ} [الكهف:72 - 74].
المشهد الثاني: دخلا مدينة، فوجدا غلاماً يلعب مع الأطفال فلحقه الخضر وأمسكه بإحدى يديه ورأسه بيده الأخرى ثم قطع رأسه، فاستنكر موسى هذا الأمر؛ لأنه قتل للنفس بغير حق، وقال: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف:74] في الآية السابقة قال: {شَيْئاً إِمْراً} [الكهف:71] أي: يدعو إلى العجب؛ الناس يركبونك في السفينة وأنت تخرقها، ولكن هنا لم يقل له: (شَيْئاً إِمْراً) ولكن قال له: (شَيْئاً نُكْراً)، أي: أمر منكر لا يمكن أن أسكت عليه، فقال: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} [الكهف:75] ففي الآية السابقة قال: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ} [الكهف:72] لكن في المرة الثانية: (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ) وهذه فيها زيادةٌ توبيخ {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي} [الكهف:76] أي: أعطني فرصة أخيرة ومحاولة ثالثة وأخيرة: {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} [الكهف:76].
المشهد الثالث: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف:77] عندما وصلوا إلى القرية لم يضيفوهما، وطلبوا من أهلها الطعام فلم يطعموهما، ثم وجد الخضر جداراً يريد أن ينقض فقال لموسى: دعنا نبني هذا الجدار، قال موسى: سبحان الله! كيف يطردونا ولا يطعمونا وأنت تبني لهم جداراً دون مقابل، على الأقل خذ عليه أجراً {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:77 - 78] أنت لا تصلح لطلب العلم، فالعلم يريد صبراً {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:78] ثم ذكر له القصة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أخي موسى، لو صبر لأرانا من عجائب علم الله عند الخضر عليه السلام) لأن الله قال: {عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [الكهف:65] علم لدني أي: من الله تبارك وتعالى أطلعه الله عليه، ففاصله بعد أن أخبره الخبر، ويوم أن أراد أن يعود ليودعه كان في المحيط الأطلسي طائر ينقر في المحيط، ويأخذ بمنقاره نقطة من الماء، قال الخضر: أترى هذا يا موسى؟ قال: نعم.
قال: هل ينقص هذا المنقار من هذا المحيط شيئاً؟ قال: لا.
قال: والله ما علمي وعلمك في علم الله إلا كما ينقص هذا العصفور من هذا المحيط {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [طه:98] {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [سبأ:3] ويعلم كل ورقة، {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] سبحانه لا إله إلا هو! يسمع دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء.
وقطع الرحلة موسى عليه السلام وعاد، وهذا كله في سبيل تحصيل العلم.(15/3)
السلف وطلب العلم
كان سلف هذه الأمة يقطعون المسافات الطويلة في سبيل تحصيل العلم، وما هذه الآثار العظيمة التي بين أيدينا من كتب وتفاسير ومصنفات وشروحات إ لا نتيجة تحصيل السلف للعلم، حتى إننا نعجز عن عَدِّ أسمائها ومعرفتها فضلاً عن قراءة ما فيها، ومن الناس من عنده كتباً لم يقرأها أبداً، بل من الناس من لا يعرف بعض أسماء الكتب لبعض المؤلفين الكبار.
إذاً: هذه العلوم والثروة العظيمة كانت ببركة الصبر والسعي والجهد والتحصيل العلمي لإرضاء الله عز وجل، لم يدرسوا العلم من أجل الشهادات كما هو الآن في غالب أحوال الناس من طلب العلم للحصول على المؤهل، فإذا حصل على الشهادة نسي العلم كله.
ولهذا لو سألت الطالب الذي يختبر اليوم في مادة التوحيد وعنده بعد يومين مادة التفسير، تعال واسأله بعد أن يخرج من التفسير عن التوحيد الذي دخله قبل يومين، يقول: والله قد نسيت، أين علمك عن التوحيد؟ قال: وضعته في الورقة.
فالهدف من تحصيله للعلم أنه يقدم للامتحان، بينما السلف هدفهم العلم لوجه الله عز وجل.
يروى عن الإمام أحمد إمام أهل السنة رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يحفظ ألف ألف حديث، أي مليون حديث بأسانيدها، وأنه أشكل عليه رجل في سند حديث، فسأل عنه فقيل له: إنه عند عبد الرزاق الصنعاني، صاحب المصنف، وكان يسكن في صنعاء بـ اليمن، وكان الإمام أحمد يسكن في بغداد بـ العراق، فرحل من بغداد إلى اليمن، يريد أن يأخذ السند.
وكان معه في الرحلة يحيى بن معين، ومرا في طريقهما إلى اليمن بـ مكة فحجا، ولما كانا يطوفان بالبيت رأيا عبد الرزاق الصنعاني، قد جاء من اليمن للحج، وكان يحيى بن معين يعرف عبد الرزاق، فسلم عليه بعد أن طاف، وقال للإمام أحمد: يا أبا عبد الله! قد كفيت مسيرة شهر ومؤنتها، يقول: وفر الله عز وجل عليك مسيرة شهر إلى اليمن وأيضاً النفقة فيها؛ لأنها على حسابهم بدون انتداب، وبدون مؤنة، وكانت وسائل النقل في ذلك الوقت الحمير، لا يوجد عندهم سيارات ولا طائرات؛ يمشون على أقدامهم في الحر والقر والبرد والجوع والخوف! وفي سبيل العلم يقطعون كل هذه المسافات، فقال يحيى بن معين للإمام أبي عبد الله: لم لا نسأله الآن؟ قال الإمام أحمد: والله لا نرجع عن النية التي قد أردناها لوجه الله، والله لا آخذ هذا الحديث إلا في صنعاء، لأنني خرجت من هناك لوجه الله، فلا أريد أن أعطل نيتي بطلب العلم، ولا أبد أن أرحل.
ولكن من الناس اليوم من تكون الندوة بجوار بيته، والعالم يأتي إلى قريته، ثم لا يأتي للصلاة؛ لأن المحدث سوف يؤخره نصف ساعة أو ساعة، وبعضهم يأتي يصلي فإذا قام المحدث أو العالم أو طالب العلم يذكر خرج وتركه والعياذ بالله، ربما كانت الحلقة العلمية موجودة في أبها في مسجد الشيخ عائض أو أحمد بن حسن ولكنه لا يحرص على الحضور إليها، وكيف يريد هذا الإنسان أن يرزق العلم، ويؤتى الإيمان، وتحل البركة وهو معرض مدبر عن الله عز وجل! إن أقصى درجاتك أن تحرص على طلب العلم على الأقل بدون شد رحال، فكيف إذا كنت في مدينة تقام فيها ندوات ولا تحضرها؟! أجل.
كيف تريد أن تهتدي؟!(15/4)
عظم أجر طالب العلم
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث طويل وسوف أذكره بطوله لأخذ الشاهد منه، قال: قال عليه الصلاة والسلام: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) انظروا إلى جزالة الأحاديث، وعظمة البلاغة النبوية صلوات الله وسلامه عليه.
يقول: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة -هذا الشاهد- وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة).
انظر الفرق بين النزول والغشيان، النزول يقول العلماء: يكون على موضع، أما الغشيان فيكون على العموم، فتنزل السكينة على موضع، أين تنزل السكينة؟ في القلوب (إلا نزلت عليهم) أي: على قلوبهم، (السكينة) وهي ضد القلق، والتبرم والتضجر والحرج، و (غشيتهم) أي: تغشى الموجودين، حتى الذي ما نزلت عليه السكينة في قلبه تنزل عليه الرحمة، ولو كان قلبه ليس خاشعاً كأن يكون ليس من أهل الذكر أو المجلس، أو مر لغرض وسمع الصلاة قامت وجاء يصلي، لكنه يدخل معهم في الرحمة؛ لأنهم (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) (وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده).
ثم قال عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) أي: وسائل النقل التي يعبر عليها الناس يوم القيامة هي العمل، أما النسب فلا يسرع ولو كنت ابن الملك أو ابن الأمير أو ابن الوزير أو ابن أي شخصية في الدنيا وما عندك عمل والله لا تمشي على الصراط خطوة واحدة، ولا ينفعك في القبر لا ملك ولا مال ولا جاه ولا سلطان ولا نسب ولا أي شيء من مقومات الدنيا، لكن تأتي وعندك إيمان قوي، ولو كنت ابن أوضع إنسان فإن الله تبارك وتعالى يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
الوسائل التي يقطع بها الناس الأهوال يوم القيامة هي وسائل الإيمان، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة: (يا فاطمة! لا أغني عنك من الله شيئاً لا يأتيني الناس يوم القيامة بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم) لا ينفع النسب يوم القيامة، فالله تعالى يقول: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون:102] أي: بالإيمان والعمل الصالح {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:102 - 108] لا يوجد مراجعة، ولا فرصة، ولا يوجد دور آخر {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً} [المؤمنون:109 - 110] أي: هزءاً {حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي} [المؤمنون:110] اشتغلتم بهم وسخرتم منهم حتى نسيتم ذكر الله عز وجل، وجعلتم هؤلاء هم شغلكم الشاغل {وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ * قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:110 - 112] يسأل أهل النار الذين ضيعوا وفرطوا فيقول لهم: كم لبثتم في الأرض عدد سنين حتى صعب عليكم العمل الصالح؟ قالوا: {لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19] ليسوا متأكدين هل هو يوم كامل أم لا؟ لأنهم قارنوا مدة بقائهم في الدنيا مع مدة بقائهم في عرصات القيامة؛ فوجدوا أن عمرهم الطويل الذي هو ستين أو سبعين أو ثمانين لا يساوي جزءاً من يوم القيامة {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً} [المؤمنون:113 - 114] والله ما عشتم إلا قليلاً في هذه الدنيا {لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:114 - 118].(15/5)
أسباب سوء الخاتمة
إن أسباب سوء الخاتمة كثيرة:(15/6)
استحواذ الشيطان على الإنسان
من أسباب سوء الخاتمة: هيمنة الشيطان وسيطرته وغلبته، واستحواذه على الإنسان، فإنه عند الموت يكون ضعيفاً والشيطان يضله والعياذ بالله ولا يثبته الله، ولهذا إذا أردت أن تكون قوياً عند الموت فكن قوياً على الشيطان الآن، أما إذا ضعفت أمام شهواتك، ومغريات الشيطان وخدعه، فاعلم أنك ستكون أضعف عند الموت.(15/7)
فساد العقيدة
من أسباب سوء الخاتمة: فساد العقيدة، وخراب التوحيد، حيث إن التوحيد يهتز عند الأحداث، وأعظم حدث يمر على الإنسان هو الموت، فإذا كانت عقيدته فاسدة، فإنه يهتز ولا يثبت، ومن صور الشرك: دعوة غير الله، والذهاب إلى الكهنة والمشعوذين، وتصديق العرافين، ودعاء الجن.
ما شاع الآن وانتشر بين صفوف المثقفين الذين يقرءون المجلات والصحف التي فيها شركيات على هيئة أعمدة توضع في هذه المجلات، اسمها: حظك هذا الشهر، وهذه كهانة وعرافة لكن من شكل جديد، أي: متحضرة ومتطورة.
وصورتها: أن يأتي بالأبراج، ويقول لك: يأتيك في هذا الشهر كذا ويحصل لك كذا وتهدى لك هدية تعاني من مرض كذا حتى إني قرأت مجلة فيها: إذا كان عمرك ستين عاماً فإنك سوف تعاني من آلام (الروماتيزم) هذا الشهر، طبيعي فالذي عمره ستين يأتيه (الروماتيزم) كل يوم في هذا الشهر وفي غيره.
ومن يستدل على الأحداث بما يقع بالنجوم من القوس وزحل والعقرب والسرطان والأسد والسنبلة هذه كهانة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد) وفي بعض ألفاظ الحديث: (من أتى كاهناً فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين نهاراً).
فينبغي للمسلم أن يتجنب هذه الخرافات والخزعبلات، وألا يقرأها وألا يدخل هذه المجلات بيته؛ لأنه لو أدخلها، وقرأها الأطفال والنساء فسدت عقائدهم.
وبعض البنات لا تقرأ في الجريدة إلا هذه الأشياء؛ لأنها خاوية من العقيدة، والولد عندما يرى حظه يعيش على الخرافات والخزعبلات، بينما النجوم هذه ليس لها علم ولا تأثير على ما يدور في أرض الله بقضاء الله وقدره؛ فالنجوم زينة، والله تعالى يقول: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] وذكر أنها زينة للسماء، ويقول الشاعر القحطاني:
أما النجوم فقد خلقن زينة للسما كالدر فوق ترائب النسوان
فهي زينة للسماء، وليس لها أي تأثير على قضاء الله وقدره، بل كل ما يقضي الله عز وجل ويقدر على عباده بمشيئته تبارك وتعالى وعلمه، ولا علاقة للنجوم بذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كذب المنجمون ولو صدقوا) يأتي الشخص إلى الكاهن، فيقول: نجمك أنت القوس، قال: ماذا؟ قال: تقيس ولا تنقاس.
يعني: تقيس الناس ولا أحد يقيسك.
وهذا القوس واحد من اثني عشر برجاً، وكثير من الناس على القوس هذا، يعني: هؤلاء كلهم يقيسون ولا أحد يقيسهم! هذا كذب.
وشخص آخر يقال له: أنت نجمك الجدي، قال: ماذا؟ قال: في كل شيء هدي.
انظر كيف التلفيق والسجع، من أجل أن يضلل الناس والعياذ بالله.
وآخر: وأنت نجمك الثور، حراث وراث تحب البلاد، الآن لا يوجد حراث وراث ولا عندنا شيء من هذا الكلام كله.
وهذا يأتي على ألسنة الكهنة والمشعوذين، ولا ينبغي للمسلم أن يصدق هذا، ومن صدق فقد كفر والعياذ بالله!(15/8)
الإصرار على المعاصي
من أسباب سوء الخاتمة: الإصرار على المعاصي.
هذا سبب من أسباب سوء الخاتمة، الذي يعرف أن هذه معصية، ويعرف حكم الشرع فيها، ثم يتجاهل أمر الله فيها، وهو مصر على المعاصي، كمن يعلم أن الغناء حرام، وقد سمع في الخطب والمواعظ والأشرطة أنه حرام، لكن لا يرتاح إلا عندما يغني، كأنه يعاند خالقه! كأنه يعاند رسول الله صلى الله عليه وسلم! أنت عبد مأمور، والله عز وجل أخبرك على لسان الرسول في القرآن والأدلة النبوية الثابتة: إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل، وأنه لا يجتمع حب القرآن وحب الغناء في قلب مؤمن، وفي الحديث في البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: (ليكونن أقوام في من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) الحر: الزنا، والحرير: الملابس الحريرية، والخمر معروفة، والمعازف الآلات من اللهو والطرب.
وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام، والحديث حسن ولكنه غريب عند الترمذي وفي غرابته ضعف، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة حلَّ بها البلاء، وأصابتها ريح حمراء، وزلزلة وخسف ومسخ: إذا كان المغنم دولا، والزكاة مغرماً، والأمانة مغنماً، وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه، وتعلم العلم لغير الدين، وظهرت المعازف والقينات، ولعن آخر هذه الأمة أولها، وأكرم الرجل مخافة شره، وكان زعيم القوم أرذلهم -إلى آخره- قال: فلينتظروا عند ذلك ريحاً حمراء، وزلزلة وخسفاً ومسخاً) الشاهد من الحديث: ظهور القينات والمعازف، واشتغال غالب الناس بهذا المرض، حتى غزا كل بيت، ودخل كل صدر، ولم يسلم منه حتى البدوي في شعث الجبال ووهاج الصحراء، فالرجل والمرأة والكبير والصغير يغنون؛ ينامون على الغناء ويستيقظون على الغناء، ويخرجون بالسيارات يغنون، وفي الرحلات يغنون، وفي كل أمرهم يغنون، حتى لو عرضت على الناس اليوم مقطعاً من أغنية، وجئت بعازف وقلت له: اعزف طرفاً من هذه الأغنية، واسأل الناس: ما هي هذه الأغنية، والذي يعرف نعطيه مائة ريال؟ لامتدت إليك الأيادي كلها، هذه أغنية فلان، تسألهم من ملحن الأغنية؟ قالوا: فلان، ومن واضع كلماتها؟ قالوا: فلان، الله أكبر!! ثقافة موسيقية متناهية.
لكن لو جئت بآية من كلام الله عند أمة القرآن، وقلت: هذه الآية في أي سورة، والذي يعرفها نعطيه جائزة مائة ريال؟ لجلس الناس يتلفتون، أما فيكم (مطوع) يجيب؟ هل هناك شخص يحفظ القرآن؟ طيب وأنت؟ ألست مطوعاً؟ لكن مطوع لإبليس! المطوع من أطاع الله، أحد الإخوة يقول: الناس كلهم مطاوعة، لكن هناك مطاوعة لله وهناك مطاوعة للشيطان؛ أناس أطاعوا الله فهم مطاوعة الرحمن، وأناس أطاعوا الشيطان فهم مطاوعة الشيطان.
كيف تعرف الأغاني ولا تعرف القرآن؟! لماذا تخصصت في سماع الغناء ولم تفرغ نفسك لكلام ربك الذي أنزله الله هداية لك ونوراً وصلاحاً وفلاحاً، والذي يقول الله فيه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29]؟! فالمعاصي -أيها الإخوة- والإصرار عليها واستباحتها والمداومة عليها سبب عظيم من أسباب سوء الخاتمة؛ لأنها تحدث في الإنسان الألفة للمعاصي، والإنسان إذا استمر على شيء ألفه، وهذه الألفة تلازم الإنسان في حالة اليقظة وعند المنام وعند الموت، وكما ترون الإنسان إذا نام؛ إذا كان -مثلاً- عالماً ونام فإنه يرى في منامه دائماً الكتب، والندوات، وطلبة العلم، والمحاضرات والمناقشات، وإذا كان رياضياً ولاعب كرة من الدرجة الأولى أو الممتازة فإنه يرى في منامه المباريات، والكرة وقد دخلت المرمى.
وبعضهم يصيح، يقول أحدهم: إن امرأته قامت في الليل فزعة؛ لأن زوجها رأى دخول الكرة في الفريق الثاني، فصاح وما زال يصيح؛ لأنه رأى رؤية عاش عليها فنام عليها، وكذلك عند الموت يحصل له أنه يألف المعاصي ولا يستطيع أن يتكلم عند الموت إلا بالمعاصي التي كان يعيش عليها، يقول مجاهد بن جبر: [قد بلغنا أنه ما من ميت يموت إلا مثل له جلساؤه في الدنيا يحضرون عنده في الموت].
وأن رجلاً حضرته الوفاة فقيل له: قل: لا إله إلا الله، وكان لاعب شطرنج، فقال للناس الذين يقولون: قل: لا إله إلا الله: تشك، تشك، تشك هذه عبارة من عبارات لاعبي الشطرنج.
وأن شخصاً آخر كان مدمناً للخمر ولما حضرته الوفاة قيل له: قل: لا إله إلا الله، قال: اشرب واسقني، قال: قل: لا إله إلا الله، قال: اشرب واسقني، حتى مات عليها.
وأن شخصاً آخر كان مدخناً فلما حضرته الوفاة، قيل له: قل: إلا إله إلا الله، قال: هذا دخان حار، هذا دخان حار، هذا دخان حار، قالوا: قل: لا إله إلا الله، قال: والله لا أقولها، أنا بريء منها.
لا حول ولا قوة إلا بالله!! وقد ذكرت لكم أن حصلت في منطقة خميس مشيط، حادثة وفاة لشخص كان يحرج على السيارات ويبيعها في معارض السيارات، وكان لا يصلي ولا يعرف الصلاة أبداً، فلما حضرته الوفاة، قالوا له: قل: لا إله إلا الله، فجاء بالألفاظ التي يقولها بالميكرفون، عندما كان يبيع السيارة، قال: (أربحه، أربحه خربان تربان، كومة حديد) قالوا: قل: لا إله إلا الله، قال: (خربان تربان) قل: لا إله إلا الله، قال: (كومة حديد) ومات عليها والعياذ بالله.
أيها الإخوة! خطر عظيم على المسلم أن يصر على المعاصي، حتى ولو كانت من الصغائر؛ لأن الصغائر تكون من الكبائر يوم القيامة:
لا تحقرن من الذنوب صغيراً إن الصغير غداً يصير كبيراً
إن الصغير وإن تقادم عهده عند الإله مسطر تسطيراً
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على المرء حتى تهلكه) فعليك يا عبد الله ألا تستبيح شيئاً من الذنوب والمعاصي؛ لأنك قد تراه صغيراً، ولكنه عند الله عظيم، يقول الله عز وجل: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] ويقول أحد الصحابة: [إنكم لتعملون أعمالاً لا تعدونها شيئاً كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر].
وفي الحديث أيضاً يقول عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن ليرى الذنب البسيط عند رأسه مثل الجبل يخاف أن يسقط عليه، وإن المنافق ليرى الذنب العظيم كالذباب على أنفه يقول به هكذا) يرى أي ذنب ويقول: بسيط يا شيخ، أنتم تشددون، والذي قلبه حي إذا ارتكب أي خطيئة يرتعد قلبه خوفاً من الله! قلب حي، وأما الميت فكما يقال:
ما لجرح بميت إيلام
الميت لو طعنته ومزقت جلده لا يحس؛ لأنه ميت، والله تعالى يقول: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
فيا أخي! لا تطفئ نور الإيمان بالمعاصي، ولا تستبح المعاصي، ولا تداوم عليها، بل عليك أن تنفر منها، وأن تتوب إلى الله؛ لأنك إذا ألفتها في دنياك ألفتها عند الموت، وختم لك بسوء الخاتمة.
وأما إذا ألفت الطاعات، فيقول لي أحد الإخوة: إنه قد حضر جنازة رجل كان من أهل الخير، وحصل له في آخر عمره أن أصيب بمرض في رأسه أفقده صوابه، وأصيب بغيبوبة طوال الأسبوع منذ أن مرض حتى توفي بعد أسبوع وهو في غيبوبة لا يعرف شيئاً عن الحياة، كان خلال وقته طوال الأسبوع يتوضأ من غير شعور، يقول: هاتوا الوضوء، فيأتون له بكأس فارغ فيدخل يده في الكأس ويتوضأ، وإذا انتهى صلى قِبل القبلة يصلي مرة هنا ومرة يصلي هنا؛ لأنه عاش طوال وقته على الصلاة فختم له بها، فإذا حصل لك ألفة للطاعات ومحبة للقربات، ألفتها في الدنيا ومت عليها وبعثت عليها، وإذا حصل العكس، أي: ألفة للذنوب وللمعاصي يحصل لك نفرة من الطاعات، فالذي يذنب كثيراً لا يتوب، وهذا على خطر! خطر المشيئة أن تدركه سوء الخاتمة -والعياذ بالله- أما الذي يتوب من الآن إلى الله، ويتعلم ويتدرب على الطاعات، ويألفها ويحبها ويداوم عليها حتى تصبح خلقاً ثابتاً له، فإنه مظنة إن شاء الله أن يختم له بحسن الخاتمة.(15/9)
الانحراف بعد الاستقامة
من أسباب سوء الخاتمة العدول والانحراف عن الاستقامة بعد أن يسير الإنسان عليها؛ لأن الاستقامة والتمسك بها، ثم التغير عنها والانحراف عما كان عليه الإنسان هو خلق إبليس؛ لأن إبليس كان من الملائكة، وفي بعض الآثار أنه كان طاووس الملائكة، وما من بقعة في الأرض ولا في السماء إلا وقد سجد لله فيها سجدة، ولكنه نكص عن الطاعة ووقع في المعصية بمخالفته أمر الرب عز وجل حينما قيل له: اسجد لآدم مع الملائكة {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] وهذا الخلق سار على نهجه الأبالسة من بعده، وأتباعه من المخذولين -والعياذ بالله- إلى يوم القيامة؛ لأنهم يسيرون في طريق الهداية ويستنشقون عبير الإيمان ويتذوقون طعم الهداية ثم ينتكسون، فإذا انتكسوا لا يرجعون؛ لأن الله يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3].
فالانتكاسة خطيرة جداً، ولذا -يا مسلم- تمسك، إذا أراك الله السبيل وذقت طعم الإيمان فتمسك به إلى آخر لحظة من حياتك، ولا تنتكس فربما تكون انتكاستك هذه لا رجعة بعدها -والعياذ بالله-.
بلعام بن باعوراء من قوم موسى، آتاه الله آياته، وأعطاه دلالاته، ولكنه انتكس وأخلد إلى الأرض والشهوات، وقال الله فيه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:175] والانسلاخ من الشيء هو تركه وعدم الرغبة في العودة إليه إذا خلعت ثوبك الآن ماذا تقول؟ تقول: خلعت ثوبي أو وضعت ثوبي، لكن هل تقول: سلخته؟ لا.
وإذا سلخت جلد الشاة، هل تقول: وضعت أو خلعت جلدها؟ لا.
تقول: سلخت جلدها، يعني: أبعدت جلدها الذي لا يمكن أن يعود إليها.
فـ بلعام ترك الآيات القرآنية ورفضها مع نية عدم العودة إليها أبداً.
لا يريدها، انسلخ منها، وكأن هذه الآيات والتحصينات كانت درعاً واقياً له، فلما تركها وانسلخ منها قال الله: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف:175] تسلط عليه الشيطان بعد أن تخلى عن الآيات {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:175 - 176].
وكذلك قصة برصيص العابد، وهذه القصة ذكرها أهل العلم في كتب التفسير عند قول الله عز وجل: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:16 - 17].
ذكرها ابن كثير وابن جرير وصاحب فتح القدير وصاحب الدر المنثور، وكثير من المفسرين ذكروا قصصاً كثيرة، بعضهم أوردها على التفصيل، وبعضهم أوردها على الإجمال، وبعضهم نسبها إلى الإسرائيليات، ولكن الصحيح من هذه القصص: أن رجلاً يقال له برصيص، وكان رجلاً عابداً منقطعاً للعبادة، منعزلاً عن الناس، يعبد الله في صومعته ولا يخالط الناس في شيء، وكان في قريته، وهذه القرية حصل أن اعتدى عليها قوم، فاستنفر رجالها لرد العدوان، وكان منهم رجلان لهما أخت، وهذه الأخت كانت في غاية الجمال، فوقعوا في حرج بين ترك البنت بدون قيم، أو بين الجلوس معها وترك الجهاد، فأتاهما الشيطان وقال لهما: الجهاد أفرض عليكم من أختكم.
انظروا كيف يزين الباطل حتى يقدمه في صورة الحق، وقال لهما: هذه أختكم ضعوها عند برصيص، هذا رجل عابد ومؤتمن على عرضكم ولا يمكن أن يفعل شيئاً، فذهبا إليه وقالا له: يا شيخ! هذه أختنا نضعها عندك أمانة، ونحن سوف نذهب إلى الجهاد، فرفض أول الأمر، قال: لا.
أنا ما تركت الدنيا وانعزلت في صومعتي إلا خشية فتنة النساء، اذهبوا عني وطردهم.
فلما خرجوا جاءه الشيطان وقال له: تزعم أنك عابد وأنك رجل صالح، كيف ترد هذه المرأة وتعطل إخوانها عن الجهاد! هذا عمل مبارك، اقبلها واتركها عندك، وأنت رجل مؤتمن، فما زال يمنيه حتى رغب له الأمر، وجاء الشيطان إلى نفوسهما وقال: عودا إليه لعله أن يطيعكم، فرجعا إليه فوافق بشرط: أن يضعوها في غرفة، وأن يقفلوا عليها الباب، وأن يتركوا بينه وبينها فتحة، يعطيها طعامها في الصباح وفي المساء، ذلك من بالغ احتياطاته حتى لا يقع في الفتنة، فقالا له: نحن آمنين لك يا شيخ! ما دامت كل هذه الاحتياطات التي تضعها -أجل هذه من بالغ الأمانة- قال: أجل حتى يطمئن قلبي وتطمئن قلوبكم، فوضعها في غرفة وعندها حمام.
وأجروا لها ماءها ووضعوا بينها وبينه فتحة، وكان يأتيها في الصباح بالطعام وفي المساء بالطعام، وذهبا في الجهاد، وبقيت على هذا الحال فترة من الزمن.
ثم جاءه الشيطان في صورة الناصح وقال له: يا شيخ! أنت رجل أمين، وهذه المرأة مسكينة مؤتمن عليها أنت، كيف تتركها ولا تدري هل هي حية أو ميتة، أو مريضة أو متعافية، أو مسرورة، أنت رجل أمين، لا شك، افتح الباب عليها وادخل انظر حالها، وإذا فتحت الباب انتهت المسألة، فالخوف في قلبك، والله عز وجل يراقبك، ولا يزال به حتى أغراه بأن جاء وكسر الباب ودخل عليها، ولما دخل عليها كانت في وضع لم تكن تشعر بأن أحداً سيدخل عليها، فكانت قد وضعت ثيابها كاملة، فلما أصبحت هي وإياه في غرفة واحدة، تحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) وماذا تتصورون أن يأمر الشيطان إذا كان هو الثالث؟ هل يأمر بالعفة؟ والحصانة والدين؟ لا.
ولهذا حرم الشرع على المسلمين الخلوة بالأجنبيات:
لا تخلو بامرأة لديك بريبة لو كنت في النساك مثل بنان
أي: مثل ثابت البناني.
إن الرجال الناظرين إلى النسا مثل الكلاب تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحوم أسودها أكلت بلا عوض ولا أثمان
يقول ثابت البناني، وهو من أعبد خلق الله، صلى أربعين سنة الفجر بوضوء العشاء، لا يعرف أبداً النوم في الليل، ليس له فراش، كان عابداً لله، يقول: والله لو أمنتوني على ملء الأرض ذهباً لوجدتموني أميناً، ووالله ما آمن نفسي على أمة سوداء رأسها كأنه زبيبة.
لأن الفتنة على الرجال قوية، قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت على أمتي فتنة أشد على الرجال من النساء) ولهذا احذر يا شاب! احذر يا مؤمن! لأن الخطر عند أول نظرة، والمصيبة عند أول مكالمة، وأول قبلة، لكن ما دمت معتصماً بحبل الله عز وجل؛ تخاف الله وتراقبه لا تنظر لا تتكلم لا تقرأ لا تحاول أن تتصل بأي امرأة محرمة، أنت في عصمة الله عز وجل، فإذا سقطت والتفت لفتة بسيطة على طريق الشيطان؛ ساقك الشيطان إلى هاوية والعياذ بالله.
فهذا الرجل ما زال الشيطان يغريه ويوسوس له حتى أطاعه فدخل بها، فلما رآها عارية وهو خال بها لم يملك نفسه، فزنا بها والعياذ بالله! فلما قضى وطره، استيقظ ضميره، وجاء العتاب الداخلي يلومه، فأتاه الشيطان يقول له: كيف تعمل؟ ما هو موقفك وقد فعلت هذه الفعلة العظيمة؟ أين وجهك؟ أين سمعتك؟ فما زال به حتى كاد أن يقتل نفسه، ثم وضع الشيطان له الحل، وهو يريد أن يضعه في مشكلة أعظم من الزنا المسألة فضيحة، ولو جاء أهلها واطلعوا حصلت فضيحة، كيف تعمل؟ ولكن الحل أن تقتلها، وإذا قتلتها وجاء أهلها فأخبرهم أنها مرضت وتوفيت، وسوف يصدقونك، فما وجد إلا غير هذا الحل، فدخل عليها فضربها بالفأس في رأسها، ثم حفر لها في الغرفة، ودفنها مكانها، وجلس.
وبعد الزنا وقتل النفس فقدَ طعم الإيمان، لم يعد يصلي ولا يعبد الله كما كان، لماذا؟ لأن المعاصي حجاب بين العبد وبين الله، لم يعد يتلذذ بالطاعة ويده ملوثة بالجريمة، وهو مستغرق ومتلطخ بحمأة الرذيلة والعياذ بالله.
ومكث ما شاء الله أن يمكث وجاء إخوانها من الغزو، فلما دخلا عليه سألاه: أين أختنا؟ قال لهما: منذ أن ذهبتما مرضت، وبقيت مريضة مدة من الزمن وهو الأمر الذي قضى أن أكسر الباب وأدخل لأشرف على تمريضها، ومكثت مدة ثم توفيت ودفنتها.
فقالا له: جزاك الله خيراً، ونحن واثقون منك، والحمد لله على حكم الله وودعوه وخرجوا.
وفي الليل وهما نائمان جاء الشيطان إليهما في المنام، فقال للأول: أختك لم تمت؛ قتلها العابد بعد أن زنى بها، وجاء للثاني وأخبره بنفس الرؤية، وفي بعض الروايات: أنهم أربعة إخوة، وفي بعضها: أنهم ثلاثة، فلما جاء في الصباح وإذا بعضهم يقص الرؤية على الآخر، قال: أنا رأيت، وقال ذاك: أنا رأيت، وقال الآخر: وأنا رأيت، وتواطأت الرؤى، فقالوا: قد تكون الرؤيا صادقة، أجل! نذهب ونسأله على الأقل، فذهبا إلى العابد فسألاه، قالوا: يا شيخ! نريد أن نرى قبر أختنا، أين قبرها؟ فجاءه الشيطان قبل أن يأتوا، وقال: لقد علموا، وأنت لا تحاول أن تكتم الحقيقة، أخبرهم والله غفور رحيم، وربما يسامحونك، فلما سألوه، قالوا: أين أختنا، أين قبرها؟ نريد أن نراه! قال: أنا أعلمكم بالحقيقة، فأخبرهم بالأمر كاملاً، فأخذوه وحملوه ووضعوه في جذع نخلة، وبعد أن صلبوه، وجاءوا ليقتلوه! فقال له الشيطان حينما أرادوا أن يقتلوه، قال له: أنا الذي ورطتك في أخذ البنت، والزنا بها، وقتلها، وأستطيع أن أنقذك ولكن بشرط واحد.
قال: وما هو؟ قال: أن تسجد لي سجدة، انظروا! ما يأس منه الشيطان، جعله يزني، ويقتل، وأيضاً لا يريد أن تبقى كلمة التوحيد؛ يريده أن يشرك ويكفر بالله، قال الله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبّ(15/10)
ضعف الإيمان
من أسباب سوء الخاتمة وهو آخرها: ضعف الإيمان: لأن الإيمان في مذهب السلف: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعات وينقص بالعصيان.
هذه عقيدة الأمة.
الإيمان شيء في قلبك، كلما زدت في الطاعات كلما زاد إيمانك، مثل الشجرة التي كلما سقيتها وشذبتها ورعيتها نمت وترعرعت وأثمرت، وكلما ضايقتها وحرمتها الغذاء وأعطيتها البنزين كلما ذبلت حتى تموت، فغذاء إيمانك الطاعات، وموت إيمانك المعاصي، وضعف الإيمان سبب من أسباب سوء الخاتمة.
الآن الكهرباء تتفاوت في القوة، فهناك لمبة قوة الوات فيها خمسمائة أو ألف وات؛ هذه التي يسمونها الكشافات الهيلوجين، كشاف يكشف لك مدى كيلو، هذه فيها تيار كهربائي وهو قوي جداً، وهناك تيار كهربائي في اللمبة التي نسميها نحن (السهارية) القوة فيها خمسة وات، تلك خمسمائة وهذه خمسة، هذه كهرباء وتلك كهرباء، لكن هذه كهرباء ضعيفة لا تنفعك في شيء، إذا كنت نائماً على فراشك وأردت أن تقرأ كتاباً والكهرباء سهارية، لا تستطيع أن تقرأ؛ لأن ضوءها ضعيف، هل تستطيع أن تدخل الخيط في خرق الإبرة على ضوء السهارية؟ لا تستطيع، هل تستطيع أن تبحث عن حاجاتك؟ لا يمكن.
رغم أنه يوجد كهرباء، إلا أنها ضعيفة، لا تسمن ولا تغني من جوع، إذا أردت أن تنتفع بالكهرباء جيداً أشعل مائة شمعة أشعل مائتي شمعة ولهذا الناس في إيمانهم الآن يتفاوتون؛ من الناس من إيمانه مثل الشمس يضيء للعالم، ومن الناس من إيمانه مثل القمر، ومن الناس من إيمانه مثل أكبر لمبة يضيء لنفسه ولقريته ولمدينته ولأهله، ومن الناس من إيمانه ضعيف إلى درجة أنه لا يضيء لنفسه؛ يقع في المعاصي والذنوب والآثام ولا ينتفع بإيمانه، رغم أن عنده إيمان، لكن إيمان ضعيف والعياذ بالله! وضعف الإيمان يضعف حب الله في قلب العبد، ويقوي حب الشياطين والمعاصي والدنيا في قلبه، ويستولي على القلب بحيث لا يبقى في القلب موضع لحب الله تعالى، إلا من حيث التصور وحديث النفس، يعني: لم يبق شيء عملي، يبقى فقط شيء نظري، ذهني، أي: لا يظهر شيء عملي في القلب مما يظهر أثره في سلوك العبد، فلا يمتنع عن ارتكاب معصية، ولا يقوم إلى طاعة؛ لأنه منهمك في الشهوات، مرتكب للسيئات، فتتراكم ظلمات الذنوب والخطايا والآثام في قلبه والعياذ بالله، فلا تزال تطفئ نور الإيمان وتضعف قوته إلى أن يأتي الموت، فإذا جاءت سكرات الموت ازداد حب الدنيا في قلب العبد ضعفاً؛ عندما يرى الإنسان أنه سوف يفارق هذه الدنيا وهي محبوبة إليه، وحبها غالب على قلبه، لا يريد تركها، ولا مفارقتها، فيرى ذلك رب العزة والجلال من قلبه والعياذ بالله فينقلب ذلك الحب إلى بغض لله وللقاء الله، فإذا خرجت روحه في هذه اللحظة وهو يبغض لقاء الله ولا يحب لقاء الله، ويحب الاستمرار في الدنيا والإخلاد إلى الدنيا، حينها يختم له بسوء الخاتمة، فيخرج من الدنيا مغضوباً عليه والعياذ بالله، فكل ذلك من أسباب ضعف الإيمان، فقو إيمانك يا عبد الله.
ذكر أهل العلم قصة عن سليمان بن عبد الملك، لما خرج حاجاً -وهو من خلفاء بني أمية- ووصل المدينة، سأل: هل هنا رجل من الصحابة؟ قالوا: لا.
قال: هل هنا رجل من التابعين الذين أدركوا الصحابة؟ قالوا: نعم يوجد.
فدل على أبي حازم، فجيء به، فلما أتاه قال له: يا أبا حازم! ما لنا نكره الموت ونحب الحياة؟ فقال له: [يا أمير المؤمنين! إنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم، فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب].
هذه طبيعة في النفس؛ إذا كان عندك عمارة جديدة، مفروشة مطلية، مهيأة، وعندك عشة أو بيت شعبي قديم متشقق وغير جيدة، والعنكبوت قد عشش فيه هل تحب أن تنتقل من (الفيلة) الجديدة إلى هذا البيت؟ حتى أولادك لو قلت لهم: ما رأيكم أن نذهب إلى ذلك البيت؟ يهربون منه ويقولون: والله لا ننام فيه ليلة واحدة، لماذا؟ لأنهم قد تعودوا على السقوف المنقوشة، وألفوا العمارة الفارهة، فالإنسان الذي يعمر داراً ويخرب أخرى لا يحب أن ينتقل من العمران إلى الخراب.
يقول: أنتم عمرتم ديناكم لكنكم خربتم آخرتكم، فلا تحبون الانتقال من دار عمرتموها إلى دار خربتموها، قال: صدقت.
ثم قال: ليت شعري مالنا عند الله؟ يقول: الله أعلم مالنا عنده.
قال: اعرض نفسك على آية في كتاب الله، قال: وما هي؟ قال: قوله عز وجل: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار:13] {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:14].
هذه الآية ميزان ديني، تعرف به نفسك، هل أنت من الأبرار أو الفجار؟ الأبرار من هم؟ عباد الله الصالحين، الذين سلموا قيادتهم لله، وأخضعوا حياتهم لأوامر الله، فلا يمكن أن يتحركوا ولا يسكنوا إلا بأمر الله، هؤلاء أبرار، أما الفجار فهم الهاربون عن الله؛ الذين تحكمهم الأهواء والرغبات والشياطين -والعياذ بالله- ولا يطيعون لله أمراً ولا يقيمون له ولا لرسوله وزناً، ولا لكتابه محبة، هؤلاء فجار، وقد بين الله ذلك بهاتين الآيتين: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار:13] {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:14].
قال له: فأين رحمة الله يا أبا حازم؟ قال: رحمة الله قريب من المحسنين.
ومن يتصور أنه يحصل على رحمة الله وهو يعمل الذنوب والمعاصي؟ يقول ابن القيم: هذا من سوء الظن بالله؛ إذا ظننت أنك تعصي الله وهو يعطيك على المعصية ثواباً؛ لأنك تتهم الله أنه لا يعرف كيف يجازي عباده.
إن لله في الكون سنناً، ومن سننه أنه قال: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31] لكنك تقول: لا.
ليجزي الذين أساءوا بالحسنى.
الله أكبر! هذا غلط، وسوء ظن بالله عز وجل، يقول الله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:89 - 90] {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [القصص:84] ويقول الله عز وجل: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن:60] وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
فرحمة الله إذا أردت أن تنالها فتعرض لها بطاعته، أما أن تتعرض لها فهذا خطأ ومن سوء الظن بالله عز وجل.
وقد ضربت في مرة من المرات مثلاً بموظف عند مدير، وهذا الموظف سيئ السلوك، قليل الإنتاج، ضعيف التصرف، لا يحضر الدوام إلا متأخراً، وينصرف قبل الدوام بساعة، وإذا أعطاه مديره عملاً ما أثقله عليه! يريد أن يمرر أي عمل، وإذا عمل لا يخلص في عمله، المهم لا يوجد عنده إتقان ولا انضباط، ومع ذلك يتطلع كل يوم إلى الترقية، وإلى العلاوة، وإلى الدورات، والانتدابات، وتحسين الوضع، ما رأيك هل يعطيه المدير هذه الأشياء وهو على هذا الوضع؟ لا.
لا يعطيه.
من يعطي المدير؟ المدير يعطي الترقية والعلاوة والدورة والانتداب والتقرير والتكريم والتفضيل وتحسين الوضع للموظف المثالي، صاحب الإنتاجية المتناهية، والدقة العظيمة، والإخلاص، والأداء المتميز، والحضور المبكر، والمرابطة الدائمة على العمل، ومن إذا عمل معاملة تقرأها وأنت مغمضٌ لعينيك، أي: لا تطمئن إلا لعمله، لماذا؟ لأنه يعملها بقلبه؛ لا يمررها بأي وسيلة، وليس هدفه أن يدحرج المعاملة ويمشيها من عنده ويقول: تخلصنا منها، خذها مني، لا.
يحب أن يتقن في عمله المضبوط، هذا إذا جاءت الترقية يرى اسمه؛ لأنه أهل لها، يتعرض للترقيات بالعمل ولا يتعرض لها بالأماني الكاذبة، وأنت إذا كنت تريد الترقية في الجنة، والنجاة من النار، تعرض لذلك بالعمل الصالح، أما أن تعمل السيئات؛ تزني وتسكر وتترك الصلاة، وإذا قيل لك: يا أخي! اتق الله، تقول: الله غفور رحيم.
نعم، لكن ليس لك يا أخي، غفور رحيم لمن يعمل الصالحات؛ لأن الله تعالى يقول: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50].
الرحمة والغفران لمن يستحقها، والشدة والعذاب لمن يستحقها، وهؤلاء استحقوها برحمة الله، لقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، وبقوله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [فاطر:7].
فقال له: يا أبا حازم! كيف العرض على الله؟ قال: [يا أمير المؤمنين، أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالعبد الآبق يقبض عليه سيده].
وهذا المثل من أعظم ما يقال في هذا الموقف؛ لأن الغائب عن أهله إذا قدم عليهم بعد طول سفر، وقد جمع له مبلغاً من المال وأتى بالهدايا لأمه وأبيه وزوجته، ولإخوانه وأولاده ولأقاربه ولجيرانه، ثم دخل أول ليلة وأرسل لهم برقية بوصوله في ليلة كذا، بالله ما ظنكم فيه تلك الليلة، أليس في غاية السرور والابتهاج، والفرح، لماذا؟ لأن الدنيا كلها فرحت به؛ لأنه جاء بشيء.
لكن ما رأيكم بمن جاء وليس معه نقود؛ اغترب ثم عاد مفلساً، مثلما يغترب بعض الناس؛ يعيش كل حياته في القهاوي وعلى الشيش -والعياذ بالله- والدخان والمنكرات ثم لا يأتي بشيء، يقولون له: ذهبت وعدت كما كنت، لا كثر الله خيرك! لماذا ذهبت؟ أمن أجل أن تعيش، أم من أجل أن تحصل على نقود، وتنفع نفس(15/11)
الأسئلة(15/12)
مشروعية إتمام الصف الأول فالأول
السؤال
ما رأيكم فيمن يجلس في الصفوف المتأخرة، ولا يزال في الصف الأول فراغ؟
الجواب
هذا يدل على الحرمان -والعياذ بالله- وعلى أن صاحب هذا الفعل لا يحب ولا يحرص على الخير؛ لأن أفضلية الصفوف كما جاء في الحديث: (إن الله يصلي على ميامن الصفوف، والصفوف الأول) وقال في الحديث: (ألا تصفون عند ربكم كما تصف الملائكة عند ربها، قالوا: وكيف تصف؟ قالوا: كانوا يتمون الصفوف الأول فالأول) وفي الحديث أيضاً: (خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها) ويقول عليه الصلاة والسلام: (لو تعلم أمتي ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا) أي: عندما يدخل اثنان المسجد ويوجد مكان واحد في الصف الأول، وهما قد دخلا معاً، فيقول أحدهما: لا يمكن أن أجعلك تقعد فيه، ويقول الآخر: أنا مثلك، لا تقل: تفضل وأنا سوف أقعد، ولكن نستهم عليه؛ لأن الأجر لا مساومة فيه ولا كرم، أنا أؤثر بحظي من كل شيء إلا العبادات، لكن الناس اليوم إذا دخلوا على العزائم يريدون الصف الأول والسفرة الأولى، لا يريد أن يأكل في السفرة الثانية، لكن حينما يدخل المسجد يجلس في مؤخرته، والصف الأول فارغ، سبحان الله!! هذا خذلان يا أخي، تعال إلى الصف الأول؛ لأنك كلما كنت أقرب إلى الإيمان كلما كنت أقرب إلى الله، وقد قال العلماء: إن الذي يأتي بالروضة في الصف الأول ويمين الصفوف قلبه يخشع أكثر من الصف الثاني، وإن الذي يأتي بالصف الثاني أحسن من الصف الثالث، وكلما كنت أقرب كنت إلى الخشوع أقوى وأقدر إن شاء الله، فلا ينبغي لك -يا أخي المسلم- أن تدخل المسجد إلا بعد أن تأخذ بالصف من طرفه إلى طرفه، أي: تبحث لك عن مكان، لكن لا تزاحم؛ لأن بعض الناس يفهم الأمر بالمقلوب، فيأتي متأخراً فإذا أقيمت الصلاة زاحم الناس ما تريد؟ قال: أريد الصف الأول، هذا كذاب، تريد الصف الأول؟ احضر مبكراً، أما أن تزاحم المسلمين وتتخطى رقاب الناس وتضايقهم تريد الصف الأول، هذا تغشيش، تريد أجراً بغير تقدم، الغرض من حث الناس على المسابقة في الصف الأول هو حثهم ودفعهم إلى المسابقة إلى المساجد، أما أن تجلس في البيت إلى أن تقام الصلاة ثم تأتي تزاحم الناس بعصاتك، تضايق الناس من أجل الصف الأول، أنا أخشى أن الذي يعمل هذا العمل لا يحصل له حتى أجر الصف الأخير بل يأثم بإزعاج المسلمين؛ لأن المسلمين لا يجوز إيذاؤهم، والله يقول: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) فلا تؤذ عباد الله بأي أذى، ابحث عن مكان في الصف، فإن وجدت فالحمد لله، وإن لم تجد فاجلس حيث انتهى بك الصف، أما أن تتخطى الرقاب وتضايق المسلمين فهذا ليس مباحاً وليس من الشرع.(15/13)
وجوب الحكمة في دعوة الآباء إلى الخير
السؤال
هناك من الشباب من منّ الله عليهم بالهداية لكنهم يخطئون في تعاملهم مع آبائهم الذين يظهر عليهم آثار الفسق، فيهجرونهم ويرمونهم بألفاظ لا تليق مثل: يا فاسق، أرجو توجيه النصيحة لهؤلاء؛ لأنهم كثيرون والله المستعان، وجزاك الله خيراً؟
الجواب
سبق أن قلت -أيها الإخوة- في مثل هذه الليلة: إن مسئولية الشاب المهتدي كبيرة إزاء والديه، وعليه أن ينجح أولاً في دعوته، ولا يستعجل ولا يستبق الأحداث، عليه أن يدعوهم إلى الله باللطف وبالحكمة وبالخدمة وبالتفاني في أداء الواجب لهما حتى يهديهم الله، أما أن تحمل عليهما وأن تقول: يا فاسق، وأنت قليل دين، ولا يوجد فيك خير لا.
أبداً، هذا ليس أسلوباً، الله تعالى يقول: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ} [العنكبوت:8] يعني: إذا هم جاهدوك {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:8] لكن ماذا؟ {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] حق الوالد عظيم جداً عند الله عز وجل، مهما كان عاصياً، أو فاسقاً فلا ينبغي لك أن تواجهه بشيء من الشدة، بل عليك أن تتلطف معه، وتدعوه بالحسنى، وتدعو الله له، وتخدمه، وتحبب نفسك إليه حتى يطيعك؛ لأنه إذا أحبك أطاعك، أما إذا بغضته فيك، وتقول له: أنت كذا وكذا، وأنت لا تصلي، ينظر لك هو بمنظار هو نفس منظارك، وتبدأ الجفوة بينك وبينه، وتزداد الهوة، وبالتالي هو أقدر منك وأقوى عليك، ربما يردك عن الدين ويحول بينك وبين الهداية، ولكن أرضه وأطعه في غير معصية الله عز وجل، وتودد إليه، وكن خدوماً له، يستجيب لك بإذن الله عز وجل، وفي الليل ادع الله له؛ لأن أعظم وسيلة للهداية الدعاء: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].(15/14)
حكم الألبسة في الشرع
السؤال
متى بدأ لبس العقال والغترة بهذه الصفة؟ وهل تعرف العرب ذلك؟
الجواب
هناك قاعدة عامة: ليس في الشرع شيء معين من اللباس أي: شيء أوجبه الشرع، البس ما تريد، إذا خلا لبسك من أربعة أشياء: أولاً: ألا يكون حريراً ولا ذهباً.
ثانياً: لا يكون فيه تشبه بالنساء.
ثالثاً: لا يكون فيه تشبه بالكفار وأعداء الله عز وجل.
رابعاً: لا يكون فيه كبرياء ولا مخيلة ولا غطرسة.
وبعدها البس غترة، أو عقالاً، أو ثوباً، أو أي نوع أعجبك، أما البنطال والجاكيت فإن الأصل فيه أنه مختص بالكفرة، وما هو عند المسلمين، لا في مصر ولا سوريا ولا المغرب ولا تونس ولا في أي بلاد المسلمين، لو ذهبت إلى مصر الآن تجد الكبار لا يلبسونه ولا يعرفونه، فهو لباس مستورد ينبغي للمسلم ألا يلبسه، خاصة إذا كان في مثل بيئتنا التي لا تهتم به، لكن لو كان في بيئة مثل بيئة مصر، العرف العام كله بناطيل، فلو لبست بنطالاً وهدفك أنك لا تتشبه بالكفار، فليس فيه شيء، بشرط: أن يكون البنطال واسعاً ليس ضيقاً، ولا (شارلستون) هذا لباس من أعجب العجب، الرجل من تحت يدخل فيها اثنان ومن عند الفخذ محصور بحيث ينزل إلى أسفل الفخذ، الشيء الذي لا ينبغي أن نراه في إخواننا، (الكرفتة) ليست تقليداً إسلامياً إنما تقليداً غربياً، وقد رأيت مرة في أكازيون معلن عنه في جريدة الشرق الأوسط، محل أزياء يبيع بالتخفيضات ويخفض إلى خمسين بالمائة وخمسة وعشرين بالمائة، من ضمنها يقول: (كرفتة إيطالي) كانت بمائتين وعشرين ريالاً، وسعرها مع التخفيض مائة وسبعين ريالاً، حبل أضعه في رقبتي، ثم قرأت في مناسبة ثانية في نفس الجريدة، قال: كرفتة تقتل مليونيراً، ماذا؟ شخص مليونير كانت معه كرفتة وجاء يوم من الأيام إلى مزرعة، وعنده مزرعته في أمريكا، وكان من ضمن المزرعة آلة ماطور تضخ الماء في طريق السيل، فجاء، وكأن السير لف على الكرفتة، ولم يشعر إلا وهو في البئر، فالكرفتة ليس لها داع أبداً، أما إذا لم يكن في هذا شيء فاللباس إن شاء الله أمره واسع بإذن الله عز وجل.(15/15)
حكم إطلاق كلمة (مطاوعة)
السؤال
متى بدأ التحدث بكلمة مطاوعة؟
الجواب
لا أعرف تاريخاً لها، وإنما ابتدأها الجهلة الذين يريدون أن يخصصوا ويفصلوا بين الدين والدنيا، فيصفون هذا مطوعاً، أي مؤمن وملتزم، والعاصي ماذا اسمه، بالمنطق وبالمقابلة؟ إذا كان الطائع نسميه مطوعاً، وإذا رأينا عاصياً ماذا نسميه؟ هل نسمية معصي أو معوص، أو معصعص، أي: لم ير الطريق، لا.
لا يوجد مطاوعة، يقول أحد الإخوة: الناس كلهم مطاوعة، لكن هناك من يطيع الله، وهناك من يطيع الشيطان، فكل واحد يطيع، لكن من تريد أن تطيع؛ إذا كنت تريد أن تطيع ربك فأنت من المؤمنين، وإن كنت تريد أن تطيع الشيطان فأنت من المنافقين والعياذ بالله.(15/16)
حكم لبس الغترة في الصلاة
السؤال
هل الغترة تعتبر من مكروهات الصلاة؟
الجواب
لا.
ليست كذلك، يقول الشيخ عبد العزيز بن باز: إذا كنت تصلي وغترتك هكذا فهو الأسلم لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان لا يكف شعراً ولا بشراً ولا ثوباً) كان إذا سجد لا يرفع شيئاً فاسجد هكذا ولا عليك شيء إن شاء الله.
صحيح أن العقال يكثر فيه الحركة إذا وقع؛ لأن بعضهم يضع العقال قبل الصلاة، ويضبطه، وإذا سقط أخذه، وضبطه، ويسقط ويأخذه يعني: ليس لديه شغل إلا عقاله، والصحيح إذا سقط العقال اتركه إلى آخر الصلاة، ولم تلبس العقال؟ لا داعي للبسه؛ لأن العقال يلبسه الناس من أجل أنه يضبط الغترة، فإذا كانت غترتك تنضبط فلا داعي له.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(15/17)
لهم دار السلام عند ربهم
في هذه المادة يتحدث الشيخ حفظه الله عن آيات الترغيب والترهيب، ذاكراً الجنة وترغيب الله فيها مع الحث على المسارعة للفوز بأعلى درجاتها، متبعاً ذلك بإيراد أوصافها، وما أعد الله فيها من النعيم لأهلها بشيء من التفصيل.(16/1)
الترغيب بذكر الجنة ونعيمها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله! هذا الدرس ضمن سلسلة تأملات قرآنية في سورة الأنعام، يلقى بعد مغرب يوم السبت الموافق للثامن والعشرين من شهر ذي الحجة سنة (1415هـ) على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وذلك بمدينة جدة بمسجد كيلو12، عنوان هذا الدرس: لهم دار السلام عند ربهم.
ودار السلام هي الجنة -جعلنا الله وإياكم من روادها ومن أهلها- وسماها الله عز وجل دار السلام؛ لأنها سلمت من كل آفة ومن كل خلل ونقص، والسلام بمفهومه الشامل: السلامة من الموت، والسلامة من المرض، والسلامة من الفقر والهرم، والسلامة من الهم، والسلامة من التعب والنصب، والسلامة من كل آفة وعلة، وتوفر كل نعمة: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] إنها الجنة! نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا وإياكم من أهلها.
وقد كان الدرس الماضي عن النار -أعاذنا وإياكم منها- وهو بعنوان: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) وذكرنا ما ذكره الله في كتابه، وما ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته من بيان وتوضيح للنار، وما أعد الله فيها من النكال والعذاب الذي لا يتصوره عقل ولا يخطر على قلب بشر، ولما كان القرآن مثاني -هذا أسلوب القرآن- إذا جاء بذكر النار عقب بذكر الجنة؛ لأن النفوس لا تمشي إلا بالسوْق وأيضاً بالحدو، السوْق: سوط في ظهورها، والحدو: صوت يهيجها، مثل الإبل، فهناك إبل إذا قام الحادي يعطي لها أصواتاً؛ ترنمت ونشطت وهملجت وقطعت الأرض، وهناك إبل مريضة لا تمشي إلا بالسوط وإلا بركت.
وإن من الناس من يهيجه ذكر الجنة، فإذا سمع بما فيها نشط، ومنهم من يزعجه ذكر النار فإذا سمع بما فيها نشط في العبادة، ومن الناس -وهم غالب البشر- من يهيجه ذكر الجنة وأيضاً يزعجه ذكر النار على السواء، وهذا ملاحظ إذا قرأت القرآن، فإنك لا تجد الله تبارك وتعالى يخوف عباده من النار إلا ويبشرهم بالجنة، فجاء القرآن الكريم بذكر الجنة ثم بذكر النار، أو ذكر النار بداية، وفي الغالب أن الله عز وجل يذكر النار دائماً باستمرار قبل الجنة، ويقول العلماء: إن في هذا سراً، وهو أن القلوب الغافلة لا يزعجها إلا الألم، فإذا انتبهت وصار عندها خوف جاء الأمل بذكر الجنة وما أعد الله لأهلها.
وهذه الجنة أيها الأحبة جاء ذكرها في سورة الأنعام، يقول الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} [الأنعام:126] أي: هذا الدين، هذا القرآن، هذا الإسلام، هذا صراط الله، هذا الكتاب الكريم، هذه السنّة المطهرة، هذا الرسول الكريم، صراط وطريق واضح: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [الأنعام:126] فصّل الله الآيات، وبين الله الأمر وأقام الحجة، لكن لمن؟ {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [الأنعام:126] لقوم عندهم عقول وذاكرة وأفهام وألباب، أما الغافلون المغطى عليهم، أما المخمورون المخدوعون، فإنه لا يزعجهم سوى النار، فإذا وقعوا في النار قالوا: يا ليتنا نرد، ولكن لم يعد هناك مرد، انتهى الأمر، فليس هناك إلا النار.
أما الذين يذَّكرون وتزعجهم قوارع القرآن، فقد قال الله عز وجل وهو يطمئنهم: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام:126 - 127] ليس فقط دار السلام، وإنما عند ربهم، وتصور عندما تكون عند ربك، ربك الذي رحمك، ربك الذي خلقك ورزقك، ربك الذي هداك وسددك، ثم لما مِت وأنت على دينه أحبك وأكرمك وقربك وأدخلك جنته، ولهذا تقول امرأة فرعون آسية بنت مزاحم وهي تدعو الله: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ} [التحريم:11] لا تريد بيتاً في الجنة فقط بل تقول: عندك يا رب! يقولون: سألت الجار قبل الدار: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11] لأن بيتاً ليس عند الله لا يصلح، ونعيماً وسلاماً ليس عند الله لا يصلح، والله يقول: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} [الأنعام:127] وهذا شرف لهم فوليهم الله، ومن كان الله وليه فلا يخاف ظلماً ولا هضماً، بسبب ماذا؟ قال الله: {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:127].
{لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} [الأنعام:127] بسبب ماذا؟ هل لأن لهم جنسية معينة؟ أم لأن لهم أرصدة في البنوك كثيرة؟ أم لأن عندهم شهادات عالية؟ أم لأن لهم مقاماً رفيعاً في المجتمع، أم لأن لهم رتباً أو مناصب أو جاهاً أو سلطاناً؟ لا.
فهذا في الدنيا فقط، لكن في الجنة: {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:127] أي: بسبب ما كانوا يعملون من عمل صالح بوأهم الله هذه المنزلة وأحلهم هذه الدرجة، فلهم دار السلام التي سلمت من كل آفة، وعند ربهم، والله وليهم.(16/2)
الحث على المسارعة والمسابقة إلى الجنان
أيها الإخوة: هذه الجنة هي دار النعيم، أعدها الله عز وجل لعباده المؤمنين المتقين الأبرار جزاء إيمانهم الصادق وعملهم الصالح في هذه الدار، وجزاء تركهم للمعاصي والذنوب والسيئات، قال عز وجل: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] ويقول عز وجل: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً} [مريم:63] أما الفاجر لا يرث إلا النار، ويقول عز وجل: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [المطففين:22] أبرار جمع بَر، والرجل البَر هو الرجل الصالح، رجلٌ بَرٌ تقي ليس بفاجر ولا شقي: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14] ويقول عز وجل: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:12] صبروا على طاعة الله، وصبروا عن معصية الله، وصبروا على أقدار الله المؤلمة، أما الذي لا يصبر على الطاعة، لا يفلح فالصلاة فيها مشقة، صلاة الفجر في المسجد فيها نوع من التعب، لكنه لم يصبر، يريد أن ينام، ولم يصبر عن معصية الله؛ لأن المعاصي محببة، والشهوات مطلوبة عند النفس، لكنه لم يستطع أن يصبر، لم يصبر عن الغناء، ولم يصبر عن الزنا، ولم يصبر عن الربا، ولم يصبر عن الحرام -والعياذ بالله- فهذا لم ينجح ولن ينجح.
{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا} [الإنسان:12] جزاهم بسبب صبرهم: {جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:12] ثم بعد ذلك رغب الله الناس وشوق الله الناس، فكان يكفي في القرآن الكريم أن يقول الله: من أطاعني فله الجنة ومن عصاني فله النار، ويبين لنا ما في الجنة من شيء، لكن القرآن مملوء من أوله إلى آخره بالترغيب والتشويق والتنويع والتفصيل لما أعد الله في الجنة لعباده المؤمنين من أجل تشويق النفوس وجذبها إلى هذه الجنة العالية، يقول الله عز وجل: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21] اللهم إنا نسألك من فضلك يا رب العالمين! (سابقوا) إلى ماذا؟ إلى جنة.
كم هي مساحتها؟ عرضها كعرض السماء والأرض.
أعدت وهيئت لمن؟ للذين آمنوا بالله ورسله.
بعد ذلك قال الله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ} [الحديد:21] ذلك الفضل العظيم يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ثم قال في سورة آل عمران: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] لما أمر الله عز وجل بالسير إلى الجنة أمر بالمسارعة والمسابقة والفرار، فقال في سورة الحديد: {سَابِقُوا} [الحديد:21] وقال في سورة آل عمران: {سَارِعُوا} [آل عمران:133] وقال في سورة الذاريات: {فَفِرُّوا} [الذاريات:50] كلها إلى الله، ولما أمرنا الله بالسير في الدنيا والمعيشة قال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] امشوا على مهلكم، وكلوا من رزقه، ليس من رزقكم، والله إن أسرعت أو أبطأت لن تأكل إلا رزقك، وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (من أصبح والدنيا همه) مفتوح قلبه على الدنيا -والعياذ بالله- مثل جهنم: {هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] طالب الدنيا مثل شارب البحر، كلما زاد شربه زاد عطشه: (لو أن لابن آدم واديان من ذهب لتمنى الثالث، ولا يملأ جوفه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب).
يقول عليه الصلاة والسلام: (من أصبح والدنيا همه فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه) الملايين في (البنك) لكنه لا يرى إلا الفقر، لا يرى الأرصدة ولا يرى العمارات ولا يرى السيارات، لا يرى إلا الفقر! وإذا رأيته تراه ملهوفاً كمثل الكلب إن تتركه يلهث أو تحمل عليه يلهث، تسأله: ماذا عندك؟ قال: والله الأمور صعبة، والسيولة منعدمة هذه الأيام، والأحوال متأزمة، كأنه لا يملك عشاء ليلته، لماذا؟ لأنه لا يرى إلا الفقر بين عينيه: (وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له).
(ومن أصبح والآخرة همه) في قلبه مثل النار مما أمامه من الأهوال والأخبار، همه القبر والحشر، همه الجنة كيف يدخلها، همه النار كيف ينجو منها، كيف صلى، كيف صام، كيف تصدق، كيف ربى ولده، كيف حفظ زوجته، كيف بنى دينه، كيف حمى عقيدته، كيف دعا إلى دينه، هذا الذي همه الآخرة، قال: (ومن أصبح والآخرة همه جمع الله له شمله -أموره المتفرقة يجمعها الله له- وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة) هو لا يفكر فيها لكن تأتيه، وليس من شأن المسلم أن يرفض الدنيا إذا جاءته فلا يرفضها، بل يأخذها ويسخرها في طاعة الله؛ لأن الدنيا مثل الدابة إما أن تركب عليها أو تركب عليك، فإن كنت مؤمناً ركبت عليها، وذهبت بها إلى الله، وإن كنت فاجراً ركبت عليك وجعلتك حماراً لها تذهب بك إلى النار، فكن راكباً على دنياك، ولا تكن مركوباً لها.
فالله عز وجل أمرنا أن نسارع وأن نسابق إلى الجنة، وأما الدنيا فأمرنا أن نسير وأن نمشي فيها، ولكن هل الناس -أيها الإخوة- واقعيون مع هذه الآيات في حياتهم، أم أنهم يلهثون ويسارعون بل ويقتحمون ويقتتلون على الدنيا؟ وأما الآخرة فقليل من يسير في طريقها، وإذا أراد طريقها فإنه لا يسرع وإنما يمشي، وبعضهم يعثر وبعضهم لم يمش خطوة واحدة في طريق الله، وهو يسارع بكل أسلوب بالليل والنهار، وبكل تفكير واهتمام في الدنيا، أما إذا جاءت الصلاة والدين فإنه يعثر الخطا.
فهذا لم يعرف الله ولم يعرف دينه، وهو خاسر وسوف يعض أصابع الندم ولكن حين لا ينفع الندم.(16/3)
حقيقة الجنة وبعض صفاتها
أخي الكريم: اعلم -كمقدمة- أن الجنة فوق ما تقرأ وما تسمع وما تتصور، وأعظم مما يخطر في بالك؛ لأن الإدراك لا يمكن أن يحيط بما في الجنة، والله يقول: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ} [السجدة:17] لا تعلم ما أعدّ لك في الجنة؟ {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] تصور الآن حين يقال لك: إن زوجتك في الجنة حورية، تصور بكل خيالك جمال هذه الحورية! اذهب بخيالك إلى كل مذهب وتصور كل تصور للجمال ثم سيقف تصورك ولا يمكن أن يصل إلى تصور ما أعد الله لك من الحور العين؛ لأن الله يقول: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
يقول ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قول الله عز وجل: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25] قال: [لا يشبه شيء مما في الجنة مما في الدنيا إلا في الأسماء] التشابه فقط في الأسماء، يعني: يوجد خمر في الدنيا، لكن هل خمر الجنة مثل هذا؟ لا.
ويوجد لبن في الدنيا، لكن هل لبن الجنة مثل هذا؟ لا.
وتوجد نساء في الدنيا، لكن هل حور الجنة مثل نساء الدنيا؟ لا.
قصور الجنة، أنهار الجنة، ولدان الجنة، طعام الجنة، لباس الجنة، شراب الجنة، كل ما في الدنيا لا يمكن أن يساوي ما في الجنة إلا في الأسماء فقط، أما في الحقائق والكيفيات فقد نفى الله ذلك، يقول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه الإمامان البخاري ومسلم في الصحيحين، قال الله عز وجل: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، اقرءوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]).(16/4)
عدد الجنان ومراتبها وتفاضلها
اعلم يا أخي في الله! أن الجنة ليست جنة واحدة وإنما هي جنان، ذكر الله عز وجل في القرآن أربع جنان، وقيل: إنها ثمان، قال الله عز وجل: {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء:21] كما أن في الجنة من التفاضل في المنازل ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي بسند صحيح عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: (في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلى درجة في الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة، ومن فوقها العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى) اللهم إنا نسألك الفردوس من الجنة.
ويروي البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق).
فأهل الجنة وهم في الجنة يرون أهل الغرف العالية مثلما نرى نحن النجوم التي في أعلى السماء، وذلك من تفاوت ما بينهم في الدرجات، وأعلى الجنان الفردوس، ثم عدن، ثم الخلد، ثم المأوى، وهذه هي الجنان الأربع قد بينها الله عز وجل في سورة الرحمن، يقول الله تبارك وتعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] ووصف ما فيهما من الأنهار فقال بعدما وصفها: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:48 - 58] تصور زوجتك ياقوتة وأخرى مرجانة تمشي أمامك، كيف تتصور امرأة من ياقوت، هل لك أن تتصور هذا في الدنيا؟ لا يمكن.
لكن نسأل الله أن يجعلنا نراهن حقيقة في جنته ومستقر رحمته، وأن نتمتع بهن في الجنة.
وهذه لا تأتي -يا إخواني- إلا بتعب دائم، فالسلعة الغالية لا أحد ينالها إلا بتعب: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) فالجنة لا تنالها الهمم الضعيفة:
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحد لا اثنان
يا سلعة الرحمن كيف تصبّر الـ خطاب عنك وهم ذووا إيمان
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد بين الأراذل سفلة الحيوان
يا سلعة الرحمن لولا أنها حجبت بكل مكاره الإنسان
ما كان عنها قط من متخلف وتعطل دار الجزاء الثاني
لكنها حجبت بكل كريهة ليصد عنها المبطل المتواني
وتنالها الهمم التي ترنو إلى رب العلا في طاعة الرحمن
هذه الجنة العالية يقول الله فيها بعد ذلك: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] وبعد ذلك ذكرها ثم قال: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62] يعني: أقل من هذه الاثنتين جنتان: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:63] فما نوعهما؟ قال: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن:64] بينما قال في الأخرى: {ذَوَاتَى أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:48 - 49] {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن:66] وقال في الأخرى {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن:50] والعين الجارية ليست كالعين التي تنبع وهي في مكانها لا تجري، والعين الجارية أفضل.
وبعد ذلك قال في الفاكهة: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68] أما في الأخرى فقال: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:52] وبعد ذلك لما جاء عند الحوريات قال: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:70 - 72] أما في الأخرى فقال: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ} [الرحمن:56] يقول ابن القيم: فرق بين القاصرة والمقصورة، فالقاصرة قصرت نفسها، والمقصورة جبرت على قصر نفسها: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:74] {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن:76] {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78].
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جنتان من فضة آنيتهما من فضة وما فيهما من فضة، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما من ذهب، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه عز وجل في جنة عدن).(16/5)
أبواب الجنة
للجنة -أيها الإخوة- ثمانية أبواب، وسعة هذه الأبواب ما بين المصراعين مسيرة أربعين عاماً -وهذا الأمل يفتح لها قلوبنا إن شاء الله، ونسأل الله أن نكون من المزاحمين على هذه الأبواب- المسافة بين المصراعين مسيرة أربعين عاماً يقول في الحديث: (وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام) اللهم اجعلنا ممن يزاحم على هذا الباب يا رب العالمين! يا أخي! يا أيها الملتزم! يا أيها المستقيم! لا تتصور أنك أنت المستقيم لوحدك، فهناك ملايين البشر ساروا في طريق الله، فلست لوحدك بل معك ملايين من البشر، فاسلك سبيل الصالحين ولا تغتر بقلة السالكين، واحذر طريق الهالكين ولا تنخدع بكثرة الهالكين، فإن العبرة بمن نجا، كيف نجا وليست العبرة بمن هلك كيف هلك؛ لأن دواعي الهلكة كثيرة، أما دواعي النجاة قليلة، والناس من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى جهنم وواحد إلى الجنة، جاء في الحديث الصحيح: (يقول الله: يا آدم! قال: لبيك ربِ وسعديك، قال: أخرج بعث الجنة من بعث النار، قال: ربِ! وكم بعث الجنة؟ قال: من كل ألف واحد، وتسعمائة وتسعة وتسعون إلى جهنم) فمتى تأتي هل في المائة الأولى أم المائة الثانية أم الثالثة أم الرابعة؟ لا إله إلا الله! باب من هذه الأبواب الثمانية، مخصص لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وبقية الأبواب لسائر الأمم ويشارك فيها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم لهم باب خاص لا يدخل فيه شخص من الأمم الثانية، لكن أمة محمد يدخلون من هذا الباب ويدخلون من الأبواب كلها، وهذا من فضل الله على هذه الأمة.
وهذه الأبواب كل منها مخصص لعمل خاص، ففيها باب للصائمين يسمى باب الريان، وفيها باب للمصلين يسمى باب الصلاة، وفيها باب للمتصدقين يسمى باب الصدقة، وفيها باب للبارين بوالديهم يسمى باب البررة، يعني: إنسان ليس عنده كثير عمل صالح لكنه بار بوالديه، فيدخله الله الجنة من هذا الباب، وآخر متخصص في الصدقة، لا يصلي كثيراً، يصلي الفرائض فقط، لكن يده تبذل بالصدقة والخير، فيدخل من باب الصدقة، وآخر متخصص في الصلاة، يصوم الفريضة ويتصدق بالفريضة ولكن في الصلاة لا تراه إلا مصلياً، فيدخل من باب الصلاة، وآخر متخصص في الصيام، يصلي الفريضة ولا يستطيع أن ينفق فلا يملك مالاً، لكنه دائماً يصوم فيدخل من باب الصائمين، وشخص متخصص في الحج لا تفوته حجة، بينما لا يقوم الليل، ولا يكثر من صيام النوافل، ولا يتصدق كثيراً، لكن إذا جاء الحج شد رحله وحج، وهذا يدخل من باب الحج ومن باب العمرة.
ومن الناس من يدخل من كل الأبواب، أي نعم.
وهذا قليل في الأمة، ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم واحداً منهم وهو: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقد كان يسبق في كل باب، إن جئت إلى باب الصدقة وإذا به الأول، وإن جئت إلى باب الجهاد وإذا به الأول، وإن جئت إلى باب الصلاة وإذا به الأول، وإن جئت إلى باب الصيام وإذا به الأول، ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أعلى أحد أن يدعى من هذه الأبواب كلها؟ قال: نعم.
وأنت منهم يا أبا بكر!) وهذا شرف كبير -يا أخي- أن تكون لك خيارات عديدة، فلا تقول: أنا والله متخصص في الصلاة، بل افرض أن الصلاة لم تقبل منك، وإذا بك ضائع، لا.
تخصص في الصلاة وتخصص في الصيام، وأكثر من الحج، وأكثر من ذكر الله، وأكثر من الدعوة إلى الله، وسابق في كل خير، والله تبارك وتعالى يقول: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
روى مسلم وأصحاب السنن عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -والحديث صحيح في صحيح مسلم، حديث عظيم وفضله كبير جداً، والعمل فيه بسيط-: (ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) ما أعظم هذا الفضل! وورد في رواية أخرى ليست في الصحيح، وهي في السنن: (اللهم اجعلنا من التوابين المتطهرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).(16/6)
تفصيل نعيم أهل الجنة من القرآن والسنة
أيها الإخوة: أما ما أعد الله عز وجل من النعيم مما تشتهيه النفوس وتلذ به الأعين، فقد جاء مفصّلاً وموضحاً توضيحاً عظيماً في كتاب الله عز وجل، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والتفصيل هو:(16/7)
أرض الجنة وتربتها
المعروف أن الأرضية عندنا تراب، وإذا أردت أن تمقت إنساناً تقول له: خذ تراباً؛ لأن التراب ليس له قيمة، ونحن الآن نتنافس على التراب، بينما نزهد في التربة الغالية تربة الجنة، وما هي تربتها؟ تربتها الزعفران، وحصباؤها اللؤلؤ، وملاطها المسك الأذفر.
روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! مم خُلق الخلق؟ قال: من الماء.
قلت: الجنة ما بناؤها؟ قال: لبنة من فضة ولبنة من ذهب.
قلت: ما ملاطها يا رسول الله؟! قال: المسك الأذفر.
قلت: وما حصباؤها؟ قال: اللؤلؤ والياقوت.
قلت: وما تربتها يا رسول الله؟! قال: الزعفران، من يدخل ينعم فلا يبأس، ويخلد فلا يموت، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم) -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم- هذه هي تربة الجنة وأرضيتها.(16/8)
أنهار الجنة
لكل مسلم في الجنة في قصره أنهار تجري من تحته، ذكر الله هذه الأنهار وأنها من أربعة أنواع، تنحدر من الفردوس وتمر بالجنان الأربع، وهي: نهر من ماء، ونهر من لبن، ونهر من خمر، ونهر من عسل مصفى، يقول الله عز وجل: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد:15] والأسن: آفة تصيب الماء إذا ركد، إذا تركت الماء راكداً أياماً وليالي تأتي عليه وقد تغير، وتعفنت رائحته، و (آسنَ) يعني: تسمم ولم يعد يصلح للاستعمال، لكن ماء الجنة غير آسن.
{وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد:15] وهذه آفة في اللبن أنه إذا مر عليه وقت تغير طعمه، هذا اللبن الموجود في الأسواق إذا اشتريته اليوم يكون له مذاق، وإذا اشتريته بعد أسبوع يصبح حامضاً، أما بعد أسبوعين فإنه يتسمم ولا يصلح للاستعمال، ولهذا يضعون على كل علبة تاريخ انتهاء الصلاحية، لكن لبن الجنة ليس له انتهاء في الصلاحية، ولا يتغير طعمه.
{وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [محمد:15].(16/9)
قصور الجنة
يا أصحاب العقار! يا من تحبون العقار! يا من تحبون المباني! استمعوا إلى وصف قصور الجنة وعماراتها! يقول عز وجل: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر:20] ويقول عز وجل: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً} [الفرقان:75] ويقول عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} [الفرقان:10].
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة) هذه لأهل الخيام، وتلك للذين يحبون العقار؛ لأن هناك من الناس من يحب العقار لكنه يريد أن يعمل له في الحوش أو في الحديقة أو في البستان بيت شعر، أو يعمل له خيمة؛ لأنه ضاق من الغرف والمجالس ومل منها، فيريد أن يأتيه الهواء من كل جانب، فاسمع ما لك من خيمة في الجنة، يقول عليه الصلاة والسلام، والحديث في الصحيحين: (إن في الجنة لخيمة من لؤلؤة مجوفة -كل الخيمة من لؤلؤة- عرضها ستون ميلاً، في كل زاوية منها -من زوايا هذه الخيمة- أهلٌ -يعني: زوجة- لا يرون الآخرين -يعني: أن بينها وبين رفيقتها مسافة بحيث أنها لا تراها من كبر المسافة، كم مساحة هذه الغرفة؟ - يطوف عليهن كلهن) أي: أن المؤمن يطوف على زوجته هذه وتلك في خيمة واحدة لا يرى بعضهم بعضاً، لا إله إلا الله!(16/10)
فرش الجنة وآنيتها
يقول عز وجل بالنسبة للفرش: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن:54] يقول ابن القيم: البطانة من استبرق فكيف الظاهر؟ ماذا يكون؟ لا يعلمه إلا الله، وتجد دائماً أنك عندما تعمل فراشاً تضع البطانة من النوع الرديء، لكن الذي في واجهة الناس من النوع الحسن، ولهذا عندما تشتري -الآن- مجلساً عربياً ترى أنهم يضعون القماش الحسن مما يلي الجالس، ولكن إذا قلبت المسند ترى قماشاً ليس بنفس الجودة تلك، بل أقل بكثير؛ لأن هذا لا يراه أحد، ولكن في الجنة لا يوجد هذا.
فالبطائن من استبرق، وهو أعظم أنواع الحرير حسناً، والذي يظهر للناس الذي يجلسون عليه ما هو؟ أخفاه الله من أجل أن تتشوق النفوس إليه، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها.
ويقول عز وجل: {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] ويقول: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة:15 - 16] ويقول: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية:13 - 16] هذا بالنسبة للفرش.
أما الأواني فهي من صحاف وأكواب وكئوس كلها من الذهب، يقول عز وجل: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف:71] ولكن لمن؟ للذي لم يشرب ويأكل فيها في الدنيا، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تشربوا ولا تأكلوا في آنية الذهب والفضة في الدنيا، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة) لا تأكلوا ولا تشربوا في آنية الذهب ولا الفضة فإنها للكفار في الدنيا -إذ عندهم مال- ولكن أنتم إن شاء الله هي لكم في الجنة.
قال عز وجل: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف:71] ويقول عز وجل: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} [الإنسان:15 - 16] فكيف تكون هناك ذهب وهنا فضة؟ قالوا: آنية الذهب للذي في الجنة التي من الذهب، وآنية الفضة للذي في الجنة التي من الفضة.(16/11)
نساء الجنة
ولقد جاء التفصيل الكثير في الجنة فيما يتعلق بالنساء، يقول ابن القيم رحمه الله: وفي هذا سر بليغ، فإن أعظم لذائذ الحياة الدنيا هي النساء، ولهذا قدم الله عز وجل هذا في سورة آل عمران، فقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران:14] ثم أباح الله الزواج الحلال وحرم الزنا، وحتى لا يتصور من يرفض الزنا ويستعف ويكتفي بما أحل الله عز وجل، حتى لا يتصور أنه محروم جاء التعويض له في الجنة والترغيب والتشويق بذكر ما أعد الله عز وجل له في الجنة بشكل ملفت للنظر، سمى الله نساء الجنة فقال: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:58] وقال في آية أخرى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات:49] وقال في آية أخرى: {كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة:23] وقال: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن:70] وقال: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] وقال: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] يعني: وصف عظيم لنساء الجنة.
كما جاء الوصف في السنّة، يقول عليه الصلاة والسلام: (لكل مؤمن في الجنة زوجتان من نساء الدنيا) أما من الحور العين فعلى قدر أعماله، والحد الأدنى أن له اثنتان من نساء الدنيا، فإن كان عمله (100%) أخذ سبعين حورية، وإن كان عمله أقل من ذلك -مثلاً- أخذ خمسين حورية، يعني: يتفاوتون في الحوريات؛ لأن الحوريات أنشأهن الله إنشاءً: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:35 - 38] نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
ولعلك تقول: مالنا ولنساء الدنيا؟! بعض الناس يقول: أنا أهرب -الآن- منها في الدنيا وتلقاني أيضاً في الجنة؟ وهناك شخص ماتت زوجته فلما ماتت وأراد أن يتزوج -ولم تمت حتى آذته- فلما ماتت قال له أحد أولاده: أسأل الله يا أبي! أن يجمعك بها في الجنة، فقال الأب: أسأل الله ألا يجمعني بها في الجنة! يقول: أن يجعلها في دار غير الجنة؛ لأنه كان قد ضاق ذرعاً بها.
ولعل شخصاً من الناس يقول: حسناً ما لنا ونساء الدنيا؟ نريد فقط نساءً حورياتٍ، وأما نساء الدنيا فلا نريدهن.
نقول: لا.
إن نساء الدنيا غير نساء الجنة؛ لأن الله تبارك وتعالى ينزع من النساء سوء الأخلاق، وينزع منهن جميع الصفات السيئة، ولا يبقى فيها إلا الخلق القويم الجميل؛ ولأن المؤمن لا يتلذذ التلذذ الكامل إلا بنساء الدنيا، فاعلم أن النساء المؤمنات المسلمات الصالحات اللاتي استقمن على دين الله وأدخلهن الله الجنة سيكن لك في الجنة خير وأجمل من الحور العين، وأجمل أيضاً في الأخلاق من الحور العين، وأن الحور العين خدم لهن، فالحورية في الجنة تكون خادمة للمؤمنة من نساء أهل الجنة، يقول الله عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].
واعلم أن نساء أهل الجنة مطهرات، ليس كما كانت في الدنيا، سواء منهن المسلمات أو الحور العين، فلا بول ولا غائط ولا حيض ولا نفاس، ولا ولادة، وإنما أبكار، كلما جاءها زوجها رجعت بكراً كما كانت، فليس هناك شغل عند المؤمن إلا افتضاض الأبكار في الجنة، يأتيها بكراً ويذهب فيردها الله بكراً مرة أخرى، كيف؟ لا نعلم.
هذا نعيم أعده الله لأهل الجنة.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
يقول الله: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25] ويقول: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] وسماهن الله كواعب: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} [النبأ:33]، وأتراب أي: في سن واحدة، وكواعب: يعني: ناهدات، أي: مرتفعات النهود.
أرأيت يا أخي! لو أن رجلاً أو شاباً أراد أن يتزوج وأخبره أحد الناس عن فتاة جميلة مهذبة ذات خلق ودين وجمال، فحببه إليها، حتى ازداد شغفاً لها ورغبة فيها، وبذل المال الطائل في سبيل الزواج منها، ولربما أدى هذا إلى إتلاف روحه في سبيل نيلها، وهذا رب العالمين -أيها الإخوة- أصدق المخبرين: {ِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87] يخبرنا عن الحور العين ويصفهن ويحببهن إلينا بما يجعلنا نرغب فيهن، ونعمل من أجل الحصول عليهن، والزواج منهن، فهل من خاطب -أيها الإخوة- في الحوريات؟ هل من راغب لهن في الجنة، إن كنت خاطباً فبرهن على صدقك بدفع المهر المقدم، إنه الإيمان بالله، إنه العمل الصالح، إنه اجتناب محارم الله.
ولا تكن كمثل ذلك الأعرابي الذي صلى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أحسن الصلاة، صلى صلاة خفيفة ثم رفع يديه وقال: اللهم إني أسألك حوراء عيناء في الجنة، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (أحسنت الخطبة ولكنك أسأت المهر) تريد جنة وفيها حوراء عيناء بهذه الصلاة المضطربة! لا ينفع هذا المهر.
إن الجنة -أيها الإخوة- لا بد أن تدفع فيها المهر الغالي.
ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر
يقول ابن القيم رحمه الله:
فكن مبغضاً للخائنات بحبها لتحظى بها من دونهن وتسلم
ويا خاطب الحسناء إن كنت راغباً فهذا زمان المهر فهو المقدم
إن كنت تريد الحوراء فقدم المهر، وهو: الإيمان والعمل الصالح، والاستقامة على منهج الله، وإليك هذا الحديث الشريف الذي يزيدك حباً في الحوريات، يروي الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على الأرض لأضاءت ما بينها -يعني: ما بين الخافقين- ولملأت ما بينهما ريحاً -ما بين السماء والأرض- ونصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها) فما ظنك -يا أخي- إن كان خمارها خير من الدنيا وما فيها، وريحها يعبق ما بين السماء والأرض؟ فيا سعادة من تكن له هذه الزوجة! اللهم وفقنا للعمل الصالح والإيمان الصادق حتى نكون من أزواجهن برحمتك يا أرحم الراحمين! واعلم يا أخي! أن من في الجنة لا يحتاج إلى مرآة، فإذا كنت في الجنة فلا يوجد هناك مرايات لكي ترى شكلك ومنظرك، وإنما تنظر في وجهها وفي صدرها فترى وجهك في صدرها، وترى مخ ساقها من وراء الحلل كما ترى اللبن في القارورة، لا تخفيه حللها، ويحكى أن رجلاً من الصالحين لما سمع قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:111] لما سمع هذه الآية، قال: الله اشترى مني ودفع لي الجنة، فقام وجاهد حتى وجدوه وقد قتل في سبيل الله عز وجل.(16/12)
الخدم والغلمان في الجنة
ومن تمام سعادة الإنسان في الجنة أن يكون له خدم يخدمونه؛ لأنه إذا خدم نفسه تنغصت معيشته، لكن عندما يكون لديه خدم يقومون على خدمته، ويشرفون على أموره فإنه يزداد سعادة، بحيث لا تبذل أي جهد وإنما يوزع الأعمال على خدمه وغلمانه من حوله، فهذا يقدم له الماء، وهذا يقدم له الطعام، وهذا يقدم له الملابس، وهذا يقدم له الحذاء، وهذا يفتح له باب السيارة، وهذا يعمل في المزرعة، وهذا يرتب المكان، خدمة عظيمة! من الذي يخدمك في الجنة؟ وصف الله عز وجل خدم الجنة وغلمانها بأنهم لؤلؤ مكنون، فقال عز وجل: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} [الإنسان:19] وإذا كان الخدم مثل اللؤلؤ المنثور فكيف بالمخدومين، لا إله إلا الله! واعلم يا أخي! أن أولئك الغلمان هم ملك لأهل الجنة، وليسوا أجراء، وإن أدنى أهل الجنة منزلة من يقف ويكون على خدمته ثمانون ألف غلام، يقول الله: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} [الطور:24] ويقول: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71] ويقول عز وجل: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:17 - 21].(16/13)
طعام وشراب أهل الجنة
أما طعامها وشرابها، فقد ذكر الله عز وجل الطعام بأنه من ألذ اللحوم وهو الطير، قال عز وجل: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21] وقال: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الطور:22] وهذا اللحم غير منقطع، فمتى شئته وجدته، بخلاف ثمرات الدنيا وفاكهة الدنيا، ولحوم الدنيا فإنها توجد في أوقات وتنعدم في أوقات، أما فاكهة الجنة وثمار الجنة فإنها لا مقطوعة ولا ممنوعة، لا مقطوعة بزمن، ولا ممنوعة بثمن: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74] واعلم أن الجنة فيها من جميع الثمار ومن جميع الفواكه، التي تعلمها والتي لا تعلمها، ولا تعرف مكانها ولا تحمل في سلة أو كيس وإنما معلقة في أشجارها، وإذا أردتها تدلى لك الغصن، يقول الله عز وجل: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن:54] وقال عز وجل: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} [الإنسان:14].
وورد في الحديث أن المؤمن وهو جالس في الجنة يشتهي الفاكهة وهي في الشجرة فيتدلى له الغصن ثم يقطف منه ويأكل ثم يعود الغصن كما كان، يقول الله عز وجل: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:23] فلا يذهب ليأتي بها ولكنها دانية.
ويروي الترمذي عن أنس رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، اقرءوا إن شئتم {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30]) ولعلك تقول: يا أخي! إن هذه الشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام فكيف يستطيع أن يأكل من جميع الثمار، فاعلم يا أخي! أن أغصان الجنة ملتفة حول بعضها من كثرتها، يقول الله: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن:48] أي: ملتفة بعضها على بعض، ولكن تأكل من كل الثمار، وتجد لآخر فاكهة، أو لآخر طعام من اللذة والطعم ما لأول أكلة، لماذا؟ قال العلماء: لأن طعام الجنة ليس كطعام الدنيا، فأنت تأكل طعام الدنيا على أساس تقوية جسمك وتعويضه بالمواد الغذائية، فإذا اكتفى جسمك فإنك بعد ذلك لا تريد، ولهذا إذا شبعت وأتى شخص وأجبرك بشيء طيب، فإنك تقول: طعام طيب ولكني شبعت، فلا أستطيع، وإذا أجبرك وقال: والله لابد أن تأكل -هذا إكرام أم ماذا؟ إهانة- وفتح فمك وأدخل فيه الطعام بالقوة فإنك ستموت أو تتقيء؛ لأنك تأكل لغرض، وهذا الغرض هو تعويض الجسم بالطعام، لكن في الجنة لا تأكل لغرض تعويض الجسم، وإنما تأكل لغرض المتعة.
وفي قول الله عز وجل: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف:71] ذكر ابن كثير حديثاً، قال: (يطوف على رأس كل رجل من أهل الجنة عشرة آلاف خادم مع كل خادم صحفتان: صحفة من ذهب وصحفة من فضة، في كل صحفة لون من الطعام ليس في الثانية مثله) يعني: عشرة آلاف في صحفتين كم تصبح؟ عشرين ألف نوع من الطعام، يأكل من أوله حتى يصل إلى آخره، فيجد لآخر لقمة من الطعم واللذة مثل ما لأول لقمة، لا إله إلا الله! اللهم إنا نسألك من فضلك يا رب العالمين! هذه ثمارها وطعامها.(16/14)
لباس وزينة أهل الجنة
أما لباسهم فهو الحرير، يقول الله عز وجل: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} [الإنسان:21] وهذه الثياب لها خاصية أنها لا تبلى، وكلما طال عليها الزمن تزداد جمالاً وجودة، أما الرجال فيلبسون على رءوسهم التيجان المرصعة باللؤلؤ.
روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أهل الجنة جرد مرد) ليس هناك لحى في الجنة، إذا كان معك لحية في الدنيا وأتعبتك وأزعجتك بالإحراجات وبما يصفك الناس به فاصبر عليها، فإنك في الجنة ستكون أجرد أمرد، من أجل النعيم، لكن إذا كنت أجرد أمرد هنا تكون معك لحية هناك، لكن أين تكون؟ لا حول ولا قوة إلا بالله! أخي: لا بد أن نتمسك بهذه السنة -أيها الإخوة- هذه السنة ليست شعر، لا.
هذا هدي نبوي، هذا دين، هذا شرع، هذا أمر الله، يقول الله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] الرسول أمرنا أن نعفي لحانا، قال: (قصوا الشوارب) (اعفوا اللحى) (أكرموا اللحى) (أرخو اللحى) (أسدلوا اللحى) (خالفوا المجوس) (خالفوا المشركين) كانت لحيته الشريفة ما بين منكبيه، تملئ وجهه.
فالقضية ليست قضية شعر، وإنما قضية انتماء، قضية اعتزاز، قضية فخر، قضية محبة للرسول صلى الله عليه وسلم.
من أحب مخلوق عندك أنت أيها المسلم؟! إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من الرجل المثالي في كل حياتك، والذي تتشرف أنت أن تكون من أتباعه ومتأسٍ به؟ إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قال الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] هذا الذي يكون له أسوة في رسول الله، من كان يرجو الله، ويرجو ما عند الله، وذكر الله كثيراً، أما من يحلق لحيته ويعتدي عليها -أيها الإخوة- فإنه يخالف هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ويخالف أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول يقول: (أكرموا اللحى) فهل أكرمها مَن حلقها؟ لا والله.
بل أهانها، أين يحلق الرجل لحيته؟ إما في غسالة البيت، وتذهب بعد ذلك في المجاري أو عند الحلاق، يحلقها ثم يدوس عليها برجله، ثم يكنسها بالمكنسة، ويضعها في صندوق القمامة، ثم تمر سيارة البلدية ويدعيهم فيقول: خذوا ثمانين لحية واذهبوا بها إلى المحرقة.
هذه لحى المجرمين! أكرم ما فيك وجهك ولحيتك، ولهذا لو جاء شخص وجذب لحيتك فإنك تأكله، كل شيء يهون فيك إلا لحيتك، وكان الآباء والأجداد يوم أن كان للحية قيمة إذا قال الشخص كلمة وأراد أن يلتزم بها قال: في لحيتي، يعني: انتهى.
لكن الآن لو قال لك: في لحيته، يعني في ماذا؟ في عظمه، ولا وحول ولا قوة إلا بالله! (إن أهل الجنة جرد مرد كحل، لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم، عليهم التيجان، وإن لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب، وأما النساء فيلبسن على رءوسهن الخمر) سبحان الله! يقول العلماء: إن المؤمن والمؤمنة في الجنة يعفيان من كل تكاليف الشرع الإسلامي، لا صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولا حج ولا بر، ولا شيء، ليس هناك إلا أكل ونكاح، حتى النوم لا يوجد، لماذا؟ قال العلماء: لأن النوم في الجنة يفوت على الشخص النعيم؛ ولأنه إذا نام فاته الأكل والشرب والنكاح، ولا يوجد نوم في النار، لماذا؟ لأن النوم يريحهم من العذاب، ولهذا قال الله: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً} [النبأ:24] قالوا: البرد يعني: النوم، لا يذوقون النوم، فأهل الجنة لا ينامون حتى لا يفوتهم شيء من النعيم، وأهل النار لا ينامون حتى لا يستريحون من العذاب.
إلا تكليف واحد أبقاه الله على النساء في الجنة، وهو: الحجاب.
ولهذا قال الله: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] أي: محجبات، والمرأة في الجنة وهي في الجنة أيضاً محجبة، وهذا شرف عظيم لها، أن الله عز وجل يغار عليها في الدنيا ويغار عليها أيضاً في الجنة، وعلى رءوسهن الخمر، وقد علمت أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن خمارها أي: غطاءها خير من الدنيا وما فيها.
وأما الزينة والحلي، فهي أسوار، يقول الله عز وجل: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23] ويقول: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان:21] والحديث في سنن الترمذي يقول عليه الصلاة والسلام: (لو أن رجلاً من أهل الجنة طلع فبدا إسوره لطمس ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم) الآن في الليل هل ترون النجوم؟ نعم.
لكن في الصباح والنهار هل نراها؟ لا.
هي موجودة ونورها موجود لكن لا نراه، لماذا؟ لأن الشمس طمسته، كذلك لو طلعت إسورة فقط من حلي مؤمن من أهل الجنة لطمست الشمس كما تطمس الشمس النجوم، فلن ترى الشمس من بريق إسورة فقط من أساور أهل الجنة.
فهذه الجنة -يا أخي- وهذا وصفها.(16/15)
حال أهل الجنة
أما عن حال أهلها ونعيم أهلها -جعلنا الله وإياكم من أهلها- فإنهم يدخلون الجنة شباباً، سواءً مت كبيراً أو صغيراً، شيخاً أو كهلاً، فإنك تعود إلى سن ثلاث وثلاثين سنة، وهذا المعدل أفضل معدل لسن الشاب، أما قبله وبعده فليس بحسن، لكن هذا السن أحسن شيء، وطول الواحد منهم طول آدم، ستون ذراعاً، والعرض سبعة أذرع، والجمال جمال وحسن يوسف عليه السلام، والخلق خلق محمد صلى الله عليه وسلم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون بني ثلاثين في الجنة لا يزيدون عليها أبداً وكذلك أهل النار) نعوذ بالله وإياكم من النار.
وروى البخاري والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول زمرة تدخل الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون ولا يتمخطون ولا يتغوطون، آنيتهم من ذهب، وأمشاطهم من ذهب، ومجامرهم من الألوة، ورشحهم المسك) والألوة هي العود، وهو عود الطيب، والعرق الذي يخرج من أهل الجنة المسك.
ويقول عليه الصلاة والسلام -والحديث أيضاً أخرجه الترمذي -: (أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة النصف، والثانية على لون أحسن كوكب دري في السماء، لكل رجل منهم زوجتان) وهكذا يعيشون في الجنة يأكلون ويشربون، لا يتغوطون ولا يبولون، وإنما يرشح منهم الطعام والشراب رشحاً لونه رشح وريحه ريح المسك، كما أنهم لا يموتون ولا يمرضون، ولا يهرمون ولا يضعفون، ولا يحزنون ولا يتعبون، وليست بينهم عداوة ولا بغضاء، وليس بينهم حسد ولا نزاع، بل إخوة متحابون، يقول الله: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الدخان:56] {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:34 - 35] {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].
روى الإمام مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة لسوقاً -السوق هذا كل جمعة- فتهب ريح -يسمونها ريح الشمال- فتحثوا وجوههم وثيابهم بشيء من الجمال، فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول أهلوهم: والله لقد ذهبتم وعدتم إلينا وقد ازددتم حسناً وجمالاً فيقولون: والله وأنتم لقد ازددتم حسناً وجمالاً) يعني: مع كثرة الاستمرارية والعيش في الجنة يمل بعضهم بعضاً، فيجري التجديد للجمال كل أسبوع، يعني: كل أسبوع ومعك زوجة فيها جمال غير الجمال الأول.
وقارن في الدنيا عندما يكون معك سيارة (موديلها) [95] تستريح فيها، لكن عندما تطلع [96] فماذا تفعل؟ تنظر إلى [96] وتقول: الله ما هذا الجمال! هذه ممتازة، هذه شكلها حسن! وتبقى سيارتك في نظرك قديمة، وإذا جاء (موديل) [97] أصبحت سيارتك أقدم، إلى أن تستقبحها وتبيعها.
لكن لو كان لك كل (موديل)، كلما ظهر (موديل) اشتريته، معناها أنك رجل في مكان عالٍ، كذلك أهل الجنة كل أسبوع، وليس كل سنة، كل أسبوع يجتمعون في سوق اسمه سوق الجنة، وهذا السوق يحصل فيه بيع وشراء، لكن من غير ثمن، السلع موجودة وأنت تأخذ منها ما تشاء، والله يتجلى على الناس في ذلك اليوم:
ويرونه سبحانه من فوقهم نظر العيان كما يرى القمران
وبعد ذلك يرجعون إلى بيوتهم، فإذا دخلوا على زوجاتهم لا يعرفنهم، تقول الزوجة: والله ما أنت الأول، ازددت والله حسناً وجمالاً، وهو يقول: وأنت أيضاً لست الأولى، ماذا فعلت؟ ازددت حسناً وجمالاً.
تغير (الموديل)! كل أسبوع ومعك (موديل) عظيم في الجنة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها.
يقول عز وجل وهو يبين أن أعظم نعمة هو النظر إلى وجهه الكريم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] أي: مشرقة وجميلة {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] أي: مشاهدة، ويقول: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] والزيادة هي: النظر إلى وجه الله الكريم، ويقول: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] والمزيد هو: النظر إلى وجه الله الكريم، فعندما يتجلى الله عز وجل ويكشف لهم الحجاب يخرون سجداً لله عز وجل فيقال لهم: ارفعوا رءوسكم يا عبادي! إن عهد العبادة قد مضى في الدنيا وانقطع، وأنتم اليوم في درا النعيم، ودار الجزاء: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] فلا صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا جهاد، بل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74].
ويزداد النعيم عليهم عن طريق الملائكة التي تدخل من أجل التبريك والتهنئة، يقول الله عز وجل: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24].(16/16)
أخلاق أهل الجنة
أما في ما بينهم -أيها الإخوة- من أخلاق وتعامل، فلا خصام ولا كذب ولا لغو ولا حسد، بل تحيتهم فيها سلام، يقول الله: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [إبراهيم:23] {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} [يونس:10] ما هي آخر دعواهم؟ إذا أرادوا شيئاً، أحدهم يريد فاكهة -مثلاً- لا يقول: أنا أريد فاكهة وإنما يقول: سبحانك اللهم، أو يقول: الحمد لله رب العالمين فتأتي الفاكهة: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [يونس:10] {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} [الواقعة:25 - 26] ليس عندهم إلا سلام، لماذا؟ لأنهم في دار السلام، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل دار السلام.
ثم يحصل بينهم نوع من الذكريات، وأهل الجنة على الأسرة يقابل بعضهم بعضاً يشربون من الأنهار ويتناولون من الثمار، ويأكلون من الفواكه واللحوم، وينكحون أجمل الحوريات، يحصل لهم نوع من الذكريات، وهذا نوع من النعيم، أنهم يتحدثون في الجنة، فيتذكرون ما كانوا فيه، يذكر الله عز وجل لنا في كتابه الكريم بعض هذه الأحداث والمحاورات، يقول الله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:25 - 26] يقولون: إنا قبل ونحن في أهلنا ومع أزواجنا ومع أولادنا كنا خائفين، كنا مشفقين من عذاب الله، كان هذا الخوف يمنعنا من المعاصي، كان هذا الخوف يزجرنا عن الآفات والسيئات، كان يقودنا إلى الطاعات والعمل الصالح: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [الطور:26 - 27] أي: أمّننا الله: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:27 - 28].
ويقول عز وجل: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:50 - 51].
واحد أهل الجنة يتحاور مع جلسائه في الجنة قال لهم: إني كان لي قرين، كان لي صاحب، كنت على الطاعة وهو على المعصية، كان يستهزئ بي، كان كلما رآني على الإيمان والعمل الصالح قال لي: هل أنت مصدق أن هناك جنة ونار؟ {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:51 - 53] وبينما هو يحدثهم وإذا بآخر يقول: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:54] هل تريدون أن ترون هذا الذي كان يكذب، هذا لم يختفِ، بل موجود، أين يا رب؟ موجود في النار.
قال عز وجل: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55] في وسط النار: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:54] هل تريدون أن تروا هذا المستهزئ المكذب، هل أنتم مطلعون، -وهم على الأسرة- ويفتح لهم باب ونافذة، وإذا بهم يرونه: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55] ماذا قال؟ {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56] يقول: والله إنك أردت أن تهلكني يا عدو الله! {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] أي: لولا الثبات على الدين لكنت من المحضرين، ثم يقول لإخوانه: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ * أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقومِ} [الصافات:58 - 62] هذا المكان أحسن أو ذاك ما رأيكم؟ إذا دخلت بيتاً وتريد أن تتعشى، وأنت معزوم على العشاء، واستوقفك صاحب البيت وقال: انظر! هذا المجلس يوجد فيه عشاء ومشايخ وعلماء وخرفان وفاكهة، وهذا المجلس يوجد فيه (سواطير) و (مشاعيب) وسلاسل ومجرمون، وخبط وضرب، تريد هنا أو هناك، ماذا ستقول؟ ستقول: تخيرني! الله أكبر عليك! تشاورني! ليس في هذا مشورة، ونحن نقول للناس الآن: يوجد جنة ونار هل فيها خيار؟ ماذا تختار؟ الله يقول: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] ويقول تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] تختار بين الجنة والنار؟! {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36].
أيضاً من دواعي النعيم في الجنة أن يحصل نوع من الكشف لأهل الجنة بما يعاني منه أهل النار، ليعرفوا فضل الله عليهم بنعيم الجنة، وقد ذكر الله تبارك وتعالى هذا في أنه يحصل محادثة بين أهل الجنة وأهل النار، قال عز وجل في سورة الأعراف: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف:44] النداء يأتي من الجنة لأهل النار: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقاً} [الأعراف:44] يقولون: وجدنا الذي وعدنا الله من النعيم، إنه موجود حقاً ونحن فيه الآن {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقاً قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف:44] أهل النار يقولون: نعم.
فقط! لم يطيلوها؛ لأنه ليس هناك مجال للتطويل؛ لأنهم في النار والذي في النار لا يستطيع أن يتكلم كثيراً: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:44] أعاذنا الله وإياكم من النار.
ثم يأتي نداء من أهل النار: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ} [الأعراف:50] لا يريدون إلا الماء؛ لأنهم في نار تشوي أجوافهم وأكبادهم {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50].
ويذكر الله تبارك وتعالى ما يقوله المنافقون حينما تنطفئ أنوارهم ولا يرون نوراً وهم يسيرون على الصراط، فيقول عز وجل: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] قال المفسرون: انظرونا يعني: انظروا إلينا من أجل أن نقتبس من أنواركم، أو انظرونا أي: انتظروا حتى نلحق بكم ونمشي على نوركم: {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} [الحديد:13] يعني: اذهبوا إلى الدنيا، الأنوار التي تريدها في الآخرة تأخذها من الدنيا، و (ارجعوا وراءكم) تقال لهم على سبيل التهكم وإلا ليس هناك إمكانية للرجوع إلى الدنيا: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [الحديد:13 - 14] كنا جيراناً وإخواناً وأصدقاءً وأرحاماً وزملاءً، كيف ذهبتم وتركتمونا؟ {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى} [الحديد:14] نعم.
كنا سوياً: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد:14] بالمعاصي والوقوع فيها، وترك الطاعات وعدم ممارستها: {فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} [الحديد:14] وما هي الأماني؟ ما يفعله من يتمنى المغفرة وهو مقيم على الذنب، عندما تذهب إلى شخص وهو غارق إلى أذنيه في المعاصي وتقول له: يا أخي! اتق الله! فيقول لك: ربنا غفور رحيم، غفور رحيم لك؟ لا.
غفور رحيم لمن يتوب ويرجع، أما المصر على الذنب فلا.
بل شديد العقاب عليه: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50] {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ} [طه:82] لكن لمن؟ لمن استمر؟ لا.
{لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] ثم قال بعدها: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر:54].
أما أن يظل مقيماً على المعاصي ويقول: الله غفور رحيم، فهذه أماني، والأماني رءوس أموال المفاليس، هذا مفلس يوم القيامة، ليس عنده شيء إلا الأماني، والأماني لا تفعل شيئاً: {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14].
ويحصل أيضاً خطاب بين أهل الجنة، يقول الله عز وجل: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ} [المدثر:39 - 40] أحدهم يسأل ويقول: أين فلان؟ لكن عمن؟ عن المجرمين.
إذا عرف أنه مجرم قال: أين هو؟ فيقال: في النار.
فينظر إليه ويقول: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:42] ما الذي ذهب بك إلى النار؟ لماذا لم تكن معنا؟ {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ(16/17)
سبيل الجنة
أما سبيل الجنة، جنة عدن، فإليك بيانه من كلام الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف:10 - 12] هذا هو سبيل الجنة وهذا هو طريقها، واعلم -يا أخي- أن السلف رحمهم الله لما عرفوا هذا الطريق وعلموه سلكوه وساروا فيه، وقدموا في سبيله كل ثمن، استرخصوا المهج والأرواح، واسترخصوا البعد والخروج من الديار، خرجوا من ديارهم، فارقوا زوجاتهم، فارقوا أنفسهم، قُطِّعت رقابهم، بقرت بطونهم، قطعت أنوفهم وآذانهم، وشوهت خلقتهم في سبيل الله، لماذا؟ لأنهم عرفوا الطريق، يقول الله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
وهذا مثل من أمثلتهم: رجل منهم اسمه: عمير بن الحمام رضي الله عنه، وقف في غزوة بدر والرسول صلى الله عليه وسلم يقول للصحابة: (قوموا إلى جنة عدن، وجنة عرضها السماوات والأرض، قال: يا رسول الله! عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم.
قال: بخ بخ.
قال: ما حملك على هذا؟ قال: أرجو أن أكون من أهلها، قال: ما بينك وبينها إلا أن تموت، فنظر إلى يديه وفيها تمرات، قال: والله إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات، ثم رماها وقام ودخل المعركة وقاتل وأبلى بلاءً عظيماً) مات في سبيل الله، هذا هو الصادق! أما الذي يريد الجنة وهو كاذب، يريد الجنة وهو مقيم على الذنوب، يريد الجنة وهو مضيع لصلاة الفجر، يريد الجنة وهو محافظ على شرب الدخان، تقول له: اترك التدخين، يقول: يا شيخ! لم أستطع! يريد الجنة وهو ينظر إلى الحرام، يريد الجنة وهو يستمع إلى الحرام، يريد الجنة وهو يقع في الزنا، يريد الجنة وهو يتعامل بالربا، ويقول: الله غفور رحيم ونريد الجنة، أبوك آدم أُخرج من الجنة بذنب.
يقول ابن القيم: يا قليل العزم! أبوك أُخرج من الجنة بذنب وأنت عند الباب وخارج الجنة وعندك آلاف الذنوب كيف تدخلها، وما هو ذنب آدم؟ لا زنى ولا سرق ولا لاط ولا رابى، وإنما لا تأكل من الشجرة فأكل من الشجرة، وما أكل يريد أن يعصي الله، بل يريد أن يبقى في الجنة، يريد أن يبقى فيها دائماً، ومن الذي كاد له؟ إنه الشيطان، هو الذي قال له: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20]، إذا أكلتها أصبحت من الملائكة، قال الله: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:22].
فيا إخواني! هذه الجنة تحتاج إلى عمل وتحتاج إلى صدق مع الله تبارك وتعالى، ثم بعد ذلك ليعلم كل منا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله؛ لأن عملك مهما عملت لا يساوي شيئاً من نعم الله عليك في الدنيا فضلاً عن الآخرة: (قالوا: يا رسول الله! ولا أنت؟ قال: ولا أنا) ما رأيكم، من منا يبلغ درجة الرسول صلى الله عليه وسلم في عبادته؟ حتى الرسول لا يدخل الجنة بعمله، قال: (حتى أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) قدِّر يا أخي! نعمة الله عليك، ثم اعرف ما عملت، لو عبدت الله من يوم أن تخلق إلى أن تموت فهل تعدل هذه العبادة نعمة البصر؟ هل تعدل نعمة العافية؟ لا.
لا تعدل أي نعمة من نعم الله عليك، ثم إذا عبدت الله وصليت؛ صليت بجسد من الذي خلقه؟ الله، العافية التي في هذا الجسد من أعطاك إياها؟ الله.
إذا تصدقت بالمال، فمن أين هذا المال؟ من الله.
إذا جاهدت ووضعت مالاً أو نفساً فمن من؟ من الله.
إذاً: كل شيء من الله، وهو صاحب الفضل الأول والأخير: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53].
فعلينا -أيها الإخوة- أن نعبد الله وأن نتوب إليه، وأن نستقيم على منهج الله، وأن نجاهد أنفسنا على طاعة الله، وأن نجاهدها عن معصية الله، وأن نسأل الله الثبات حتى نلقاه، وبعدها يعطينا الله فضلاً منه وكرماً ورحمة يعطينا الجنة وإلا فليست الجنة نظير أعمالنا، فأعمالنا قليلة، وأفضال الله علينا كثيرة.
نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن ينصر دينه وأن يعلي كلمته، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنه سميع الدعاء، كما نسأله تبارك وتعالى أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يكتبنا وإياكم في هذه الساعة المباركة وفي هذا المكان المبارك من أهل الجنة، وأن يعتق رقابنا وإياكم ورقاب آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وجميع المسلمين من النار؛ إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.(16/18)
الأسئلة(16/19)
ما أعد الله للنساء في الجنة
السؤال
استشهدت كثيراً بما للرجال في الجنة -هذا السؤال جاء من عند الأخوات- فهل من حديث لنا نحن النساء في الجنة؟
الجواب
كل ما للرجال في الجنة فللنساء مثله، إلا مسألة التعدد، لا يوجد إلا حوري واحد فقط، لكن حوري يسد إن شاء الله، ويقوم باللازم وزيادة، أما لماذا لم يذكر الله الحور الرجال في الجنة في القرآن الكريم؟ قالوا: لأن الله ذكر النساء؛ لأنهن موضع تلذذ، فأغرى الله الرجال بهن، وإلا فإن للمؤمنة في الجنة مثلما للرجل، مما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر.(16/20)
نصيحة باغتنام أيام العمر بفعل الطاعات
السؤال
نحن في هذه الأيام نودع عاماً هجرياً فهل من ذكرى لإخواننا في الله عز وجل؟
الجواب
نعم.
نحن اليوم ثمانية وعشرين وغداً تسعة وعشرين وبعده ثلاثين، نطوي عاماً من أعمارنا، لا ندري ما الله عز وجل قد كتب لنا فيه من العمل الصالح، وهكذا الأيام والشهور والأعوام تمر، وسنقف في يوم من الأيام أمام نهاية أيامنا ولن يبقى معنا شيء إلا ما عملناه من عمل صالح، وأنا شبهت عمر الإنسان مثل هذا التقويم المعلق في المساجد، يعلق في أول العام وهو سمين، فيه ثلاثمائة وستون ورقة، ثم في كل يوم ننزع ورقة ورقة ورقة إلى آخر يوم من شهر ذي الحجة حيث لا يتبقى منه إلا هذا (الكرتون) فماذا نصنع (بالكرتون)؟ نرميه، لأنه لم يعد فيه ورق انتهت أيامه، وكذلك أنت، أنت سمين بالأيام التي معك، وكل يوم تنزع ورقة من عمرك، إلى أن تنتهي أوراقك ولا يبقى إلا (الكرتون)، يعني: الجسم، فأين تذهب (بالكرتون)؟ تذهب به إلى المقبرة، والأوراق هذه محفوظة، كل ورقة: (ما من يوم تغرب فيه الشمس أو تشرق إلا وملك ينادي: أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة) كل يوم لا يعود.
أيها الإخوة: اليوم يوافق 28/ 12 / (1415هـ) لا يعود هذا اليوم، وإنما يأتي يوم 28/ 12/ لكن (1416هـ) وبعده (1417هـ) وهكذا، فنحن نقطع الأعمار، وتمشي بنا الأعوام، وإنما أنت أيها الإنسان مجموعة أيام إذا ذهب يومك فقد ذهب بعضك، وفت الزمان جزءاً منك، فاحذر يا أخي! أن تُضيع حياتك، وإن كنت قد أسأت في الماضي فاستغفر الله، واستدرك ما فاتك، واحمد الله عز وجل الذي مد في عمرك، يقول عليه الصلاة والسلام -والحديث في سنن الترمذي - كان إذا استيقظ من النوم يقول: (الحمد الله الذي رد عليّ روحي، وعافاني في بدني، وأذن لي بذكره) انظروا إلى الثلاث: الحمد لله الذي رد عليّ روحي، يعني: كنت ميتاً، ثم: (عافاني في بدني) تقوم وإذا بك ما شاء الله صحيح البدن معافىً من رأسك إلى قدمك لا يوجد فيك شيء تالف، ثم: (أذن لي بذكره) يعني: أعطاك تمديد في العمر لأجل أن تذكره، كان من الممكن أن تموت ولا تقوم، كم من شخص نام ولم يقم من فراشه.
فهذا -أيها الإخوة- ما نوصي به الإخوان: بأن يتذكروا أن هذه الأيام كلها من أعمارنا وأن علينا أن نتوب إلى الله، وأن نتدارك ما فاتنا من عمل صالح.(16/21)
الأمر بغض البصر ومجاهدة النفس عليه
السؤال
أنا شاب ملتزم والحمد لله، ومشكلتي أنني لا أستطيع أن أغض بصري عن النساء اللاتي أراهن أمامي في الشارع أو في السوق، أو في السيارات إلا نادراً، فما هو الحل لمثل هذه المشكلة؟
الجواب
أنت ملتزم والحمد لله وتحتاج إلى نوع من المجاهدة؛ لأن الشيطان ابتلاك بهذه المعصية، وهذا من البلاء، وعليك أن تعالج نفسك، فأنت مريض بهذا الأمر، ويكون هذا عن طريق الجهاد والتذكر، وأن هذه النظرة تغضب الله، وأن الله ينظر إليك في تلك اللحظة، وأن هذه النظرة تفسد قلبك، وأنها تعدم دينك، وأنها لا تفيدك، هل منها مصلحة؟ ما هي فائدة النظر إلى الحرام؟ لا شيء، إنما ضرر ذلك عليك في دينك ودنياك وقلبك وكل شيء، لكن المصلحة في ماذا؟ في غض بصرك؛ لأن غض البصر راحة للقلب، كلما رأيت شيئاً التفت عنه، لكن إن رأيت شيئاً وفتحت عينك أحرقت قلبك، ولهذا يقول الناظم:
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
يسر ناظره ما ضر خاطره لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
فنوصيك بالمجاهدة وبالابتعاد عن أماكن تجمعات النساء، الأماكن التي فيها نساء لا تقربها، الأسواق لا تنزلها، المسجد الحرام إذا كان عندك هذا المرض فلا تأتيه، لماذا؟ لأنك تأثم، المكان الذي يوجد فيه نساء لا تذهب إليه فترة الترويض والمجاهدة، إلى أن يعينك الله وتتغلب على هذا المرض والعياذ بالله.(16/22)
حكم تقصير اللحية بسبب الألم
السؤال
هل يجوز الأخذ من اللحية؛ لأننا نرى ذلك عليك، نرجو التوضيح؟
الجواب
أبداً.
لا يجوز الأخذ من اللحية، وليس ذلك علي والحمد لله، فأنا من فضل الله لا آخذ شيئاً من لحيتي، لكن لحيتي هكذا فماذا أفعل؟! ليس بيدي طولها؟ هل أعلق فيها ثقالة لكي تطول، الله خلقها هكذا، فمالي حق أن أذهب أطولها، وأما أني آخذ منها فلا، وأسأل الله أن يثبتني وإياكم على الإيمان.(16/23)
نصيحة لأصحاب الفضائيات
السؤال
هل تجوز مقاطعة من في بيته دش؟
الجواب
أولاً: لا ينبغي لمسلم أن يأتي إلى بيته (بالدش)؛ لأن معناه أنك تستمطر كل ما في قنوات السماء من شر، وتدخله على أهلك وعلى زوجتك وأولادك، وأنت مأمور بحمايتهم وإصلاحهم، ومسئول عنهم يوم القيامة، فالله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] أو قال: أوردوهم النار؟ والذي يأتي بالدش إلى بيته هل هو يورد الخير على أهله أم يورد الشر؟ لا يوجد أحد -أيها الإخوة- يستطيع أن يقول: أنا أورد الخير على أهلي، وبعضهم يقول: إنما هي قنوات عربية فقط، فنقول: هو بعينه الشر والدعارة، وهل بعد ذلك من شر! ونقول: الباطل باطل، والمنكر منكر من أي طريق ومن أي مصدر، فعليك يا أخي! أن تتقي الله، واعلم أن عذرك هنا سيكون مردوداً عليك يوم القيامة إذا اعتذرت به بين يدي الله، وتجد بعض الناس يقول: أولادي يضيعون في الشوارع، فأنا آتي لهم بالدش من أجل أن يبقوا في البيت، يعني: كأنه يقول: أولادي يفسدون في الخارج فأنا أريد أن أفسدهم بيدي، سبحان الله العظيم! هل هذا هو الحل؟! إذا كان أولادك يضيعون في الخارج فاجمعهم في البيت على الخير، حاصر أولادك واحفظهم، أما أن تأتي لهم (بالدش) ليسمروا على ما حرم الله فلا والله.
أيها الإخوة: لقد وقع كثير من الناس في مثل هذا الشر، وبعضهم تنبه وأدرك الخطر وأبعده، وبعضهم انهزم أمام شهوة نفسه أو زوجته وأولاده، ولكن سيجر الندم فيما بعد، وما يحصل اليوم من مشاكل ومآس ومن فضائح لا يعلمها إلا الله، كلها بأسباب هذا الوباء وهذا الخطر، -والعياذ بالله- لماذا؟ لأن الشخص ينتقل إلى كل قناة في الدنيا، يجلس (والريموت كنترول) في يده وينتقل به من قناة إلى قناة، ومن مباراة إلى مباراة، ومن فيلم إلى فيلم، ومن مسلسل إلى مسلسل، حتى أن بعضهم لا يأتيه النوم إلى الفجر، فإذا جاء لينام رفضت عيناه أن تغمض، تجبست عيناه في رأسه، والأولاد لا يذاكرون الدروس، يقول أحدهم: والله الولد كان يأتي الترتيب الأول ولما دخل (الدش) في الشهر الثاني جاء ترتيبه الحادي عشر، (رجع عشر مراتب)، قلت: جيد! الشهر الثالث لن ينجح مطلقاً، وشخص آخر يقول: زوجتي أنام وهي بجانبي، وبعد أن نكمل كل شيء ونريد أن ننام، يقول: أغمّض وأفتّح وأنظر وإذا بها ليست عندي، ذهبت عند (الدش)، تريد أن تسمر.(16/24)
أهمية حلقات التحفيظ وثمرة المحافظة عليها
السؤال يقول: يحضر معنا في هذا المجلس عدد من شباب حلقات مدارس تحفيظ القرآن الكريم في المنطقة، وهم بحاجة إلى توجيه، خصوصاً من تسول له نفسه بوازع من إغراءات الشيطان ترك هذه الحلقات؟
الجواب
إن تعليم القرآن الكريم وتعلمه من أعظم الأعمال، يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (خيركم -خير الأمة وأفضلها وأعظمها - من تعلم القرآن وعلمه) والله عز وجل ذكر في القرآن الكريم آية القراء، في سورة فاطر، يقول الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:29 - 30].
ثم إنك -يا أخي- وأنت تقرأ القرآن تخرج ومعك ملايين الحسنات، فكل حرف بعشر حسنات، كم تقرأ يا طالب العلم! وأنت يا مدرس القرآن؟! أنت على أفضل عمل، فإذا جاءك إيحاء أو إغراء أو تشويش من قبل شياطين الإنس أو شياطين الجن بأنك معقد أو أنك ضيعت وقتك أو أن الزملاء يلعبون أو يرون المباريات، أو يلعبون بالدراجات، أو يلعبون في الحارات، وأنت فقط عاكف على القرآن، أو جاءك يا ولي الأمر إيحاء شيطاني أنك تعقد ولدك، يأتي بعض الشياطين يقول لك: ما هذا الولد! من الصباح إلى الظهر في المدرسة ومن الظهر إلى العصر غداء، ومن العصر إلى المغرب مدرسة القرآن، عقدت ولدك وضيعته، فقل: لا والله ما عقدته، والله إني حفظته.
التعقيد هو أن تضيعه في الشوارع، هو أن تتركه مع المنحرفين والسيئين، لكن إذا حفظته من مدرسة إلى مسجد إلى بيت، فهذه هي التربية الحقة، وسيكون ولدك هذا قرة عين لك في الدنيا والآخرة، وستجني ثمرة صلاحه إن شاء الله، وقد جربنا من حفَّظوا أولادهم القرآن كيف كانت ثمارهم والحمد لله.
إن القرآن له آثر في تربية الأولاد، فنقول: الله الله أيها الإخوة الشباب! وأيها الإخوة الطلاب! يا من وفقكم الله لحلقات العلم! داوموا عليها واستمسكوا بها، ولا تنصرف أنفسكم عن كتاب الله، فإنكم والله على أعظم عمل في الدنيا والآخرة.
وأسأل الله لي ولكم الثبات.
والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(16/25)
أدلة البعث والنشور
إن التكذيب بالبعث والنشور مسألة خطيرة؛ لأنها تتعلق بمصير الإنسان في الحياة الأخروية، والتي ينال فيها المرء سعادته أو خسارته الأبدية، ولعظم هذا الأمر أعطانا الله تعالى من الأدلة السمعية والبصرية ما تقر به القلوب وتستنير به البصائر، مما يوصل العبد إلى المطلوب ألا وهو إخلاص العبودية لربه من خلال إيمانه بوجود الله وتصديق شرعه، والإيقان باليوم الذي أخبر به تعالى.(17/1)
فتنة التكذيب بالبعث والنشور
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فإن الإيمان بالبعث من ركائز هذا الدين، ومن أركان الإيمان، والحديث في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ وهو حديث جبريل عندما أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلم الصحابة أمر دينهم حين سأله عن الإيمان وأركانه، قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالعبث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى) ستة أركان لا بد من تحققها في عقيدتك أيها المؤمن، وإذا انهدم ركن من أركان الإيمان ذهب الإيمان.
والذين يمارون في البعث أو يشكون فيه فهؤلاء لم تدخل حقيقة الإيمان قلوبهم، بل ما زالوا يعيشون في الضلال، الذي هو الضياع وعدم معرفة الطريق، تقول: فلان ضال، أي: إلى الآن تائه لا يدري أين يتجه.
وفلان مهتدٍ، أي: عرف الطريق ولزمها، ولهذا يقول عز وجل: {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [الشورى:18] الذين يشكون في أمر البعث والنشور في ضلال بعيد؛ لأنهم إلى الآن لم يعرفوا الطريق الموصل إلى الله تعالى عبر أركان الإيمان الستة، ألا وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى.
وقد ذكرنا في الماضي شيئاً عن البعث، واليوم سيكون الدرس عن أدلة البعث والنشور، ما هي الدلائل والبراهين التي نستطيع أن نثبت بها أن البعث والنشور كائن لا محالة؟ فإننا نواجه بالمكذبين، ونواجه بالضالين والزائغين عن صراط الله المستقيم، وربما يوردون علينا بعض الشبه، ولكن ونحن نعلم علم اليقين بالأدلة والقواطع والبراهين الساطعة على صدق إيماننا وعلى أدلة بعثنا بعد موتنا؛ نقف على أرضٍ صلبة، ونتيقن ونجزم أن من لا يؤمن بالبعث فهو ضالٌ ولو كان من كان، وأن من يؤمن بلقاء الله، ويؤمن بالبعث والنشور فهو المهتدي، يقول عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110].
والتكذيب ليس جديداً في حياة البشر، فإن أمر البعث والتصديق به عقدة العقد، ومشكلة المشاكل عند أصحاب العقول المتحجرة، والقلوب القاسية، والنفوس الحيوانية الهابطة الذين يرون في الإيمان قيداً على شهواتهم وملذاتهم، وهم يريدون أن يعيشوا حياة البهائم بدون قيود وضوابط، وإنما يأكلون ويشربون ما يشاءون، ويسرحون ويمرحون وينامون ويسهرون كيف يشاءون، هؤلاء يتفلتون من ضوابط وقيود الإيمان بالتكذيب والعلل والشبهات الساقطة الذابلة الهاوية التي لا أساس لها من الصحة.(17/2)
مصير المكذبين بالبعث يوم القيامة
ذكر الله عز وجل في القرآن الكريم صوراً ونماذج من كفرهم وتكذيبهم وذمهم ومقتهم وتهددهم وتوعدهم، يقول الله في سورة الرعد: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد:5] بعد أن ذكر الله في أول السورة جولة في آثار خلق السماوات والأرض قال بعد ذلك: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد:4] قال: وإن تعجب يا محمد فإن ما يثير عجبك هو تكذيبهم بالعبث والنشور بعد أن رأوا آيات الله وقدرته العظيمة في خلق السماوات والأرض: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد:5].
ثم وصفهم الله فقال عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} [الرعد:5] أي: هذا جاحد؛ والجاحد لا حيلة معه، هذا أول وصف: {وَأُولَئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [الرعد:5] يعني: من العذاب يوم القيامة أن يغلّهم الله بالأغلال في أعناقهم؛ لأنهم غلّوا عقولهم، أي: قيدوها وعاشوا في سجن المادة الضيق ولم يخرجوا إلى عالم الغيب الوسيع؛ العالم الذي ينتظم الدنيا والآخرة، فلما قيدوا عقولهم وغلّوها عذبهم الله بأن غلّهم في الأعناق يوم القيامة: {وَأُولَئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الرعد:5] هؤلاء المكذبون وصفهم الله بأنهم كفار، وأنهم في الأغلال في جهنم وأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون.
وعندما أوردوا فريتهم: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام:29] قال الله لهم مكذباً وراداً عليهم: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام:30] يعني: بعد البعث {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام:30] يبعثهم الله عز وجل من قبورهم ويقررهم ويقول: أليس هذا بالحق الذي وعدكم به رسلي؟! والذي أنزلته في كتبي وحذرتكم منه؟ قالوا: بلى وربنا.
لا يوجد مجال للتكذيب؛ لأنهم رأوا الأمر رأي العين، رأوا الأمر على حقيقته فقالوا: بلى وربنا؛ يحلفون بالله في مظهر من الضعف والشفقة والتذلل والخضوع، لم يعرفوا الله عز وجل في الدنيا حتى يرحمهم يوم القيامة، ولكن لم يعرفوه إلا حينما أضاعوا الفرصة.
مثلهم مثل الطالب البليد الذي يُكذّبُ بالامتحانات، فهو يشتغل في العام الدراسي من أوله إلى آخره، والطلاب المؤمنون بصدق الإدارة والتعليم يجتهدون، لكن هذا المكذب يقول: لا أحتاج امتحانات إنها كذب في كذب من قال لكم بأن هناك امتحانات لا يوجد شيء، وعاش طوال السنة وهو يلعب ولا يذاكر، ولا يفتح حتى كتاباً، وفي آخر يوم من العام الدراسي أدخل الصالة وعزلت عنه الكتب والمواد، وقدمت له الأسئلة، ولما رآها وإذا به لا يعرف منها حرفاً واحداً، أما المجتهدون فقد بدءوا يجيبون، وأما هذا اللعاب لا يعرف حتى حرفاً واحداً، فيقول له رئيس اللجنة -ولله المثل الأعلى-: لماذا كذبت بالامتحان، أليس هذا الامتحان حق؟ فيقول: بلى يا سعادة المدير! يا رئيس اللجنة؛ يريد أن يسترحمه، أي: أخرجني واتركني أنظر إلى الأسئلة! أمهلني أراجع! أمهلني أذاكر! قال الله عز وجل: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام:30].
أخي ليس لديك إلا فرصة واحدة فلا تضيعها؛ لأن التصحيح صعب! نعم.
هي مرة واحدة؛ من فرط فيها خسر الخسارة التي ليس بعدها ربح، ومن اغتنمها وعمل بها ربح الربح الذي ليس بعده خسارة، وكما جاء في الحديث: ينادى يوم القيامة: ألا إن فلان بن فلان قد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، ثم يبيض وجهه، ويأخذ كتابه بيمينه، ويعرضه على الخلائق، وأما ذاك الساقط -والعياذ بالله- الخامل؛ ينادى عليه يوم القيامة: ألا إن فلان بن فلان قد شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً، فيسود وجهه، ويأخذ كتابه بشماله، ويقول للخلائق: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:25 - 26].
ويرد الله أيضاً على طائفة من المكذبين وهم يقولون: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} [الإسراء:49] شيء مستغرب! كيف سيعود هذا خلقاً جديداً؟!! فقال الله تعالى لهم: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} [الإسراء:50] أي: كونوا أصعب وأقوى شيء، كونوا حجراً أو حديداً لا بشراً من عظم ولحم: {أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء:51] تصوروا أي شيء أعظم من الحديد أو الحجر أو أي شيء؛ يتحداهم الله بألا يبقوا على أصل خلقتهم حتى يستحيل عليه أن يعيدهم في نظرهم، يقول: حولوا أنفسكم إلى أي مادة صعبة أو إلى أي مادة كبيرة في نفوسكم وعقولكم: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} [الإسراء:51] الحجب الآن بين العالم المشاهد والعالم المغيب حدها الموت، وبعد الموت ينكشف كل شيء! ورد في الحديث: (إن المؤمن ليرى مقعده من الجنة وهو في بيت أهله).
أخبرني أحد الإخوة في قصة غريبة لرجل توفي في إحدى القرى المجاورة لمدينة أبها؛ رجل عُرف بالصلاة والأذان في المسجد، وكل أهل القرية يعرفونه ويحبونه، وعاش على هذا الوضع إلى أن توفي رحمة الله تعالى عليه وعلى جميع موتى المسلمين، وفي ليلة وفاته وبينما كان جالساً في فراشه وعنده ولده المشرف على تمريضه، وإذا به يوقظ الولد، قال: يا ولدي! قال: نعم، قال: افتحوا الباب للرجل الذي خلفي؛ لأنه لا يستطيع أن يدخل منه، قال: من هو؟! قال: الرجل الكبير الذي عليه ثوب أبيض، يقول الولد: تلفت خلفي فما رأيت شيئاً، يقول: وإذا به يوم أن جلس -الرجل عامي لا يقرأ ولا يكتب لكنه من أهل الفطرة والإسلام والدين- يقرأ آية من كتاب الله كأعظم قراءة سمعها ولده من قارئ قراءة مرتلة مجودة، يقول: والله ما أظنه صوت أبي، لكن صوت خارجي، يقول: وبعدها مال على جنبه ومات.
فالمؤمن يرى منزله من الجنة وهو في بيت أهله، والكافر والفاجر يرى منزله من النار -والعياذ بالله- وهو في بيت أهله، فما بين الآخرة والدنيا إلا هذه العتبة -أي: عتبة الموت- وسوف نقف كلنا عندها وندخل، وبعد الموت تنكشف الحجب فإما سالم وإما -والعياذ بالله- خاسر، نعوذ بالله وإياكم من الخسران.(17/3)
أصناف المكذبين بالبعث والنشور
المكذبون بالبعث والنشور أصناف: الصنف الأول: صنف الملاحدة الذين أنكروا وجود الله أصلاً -عليهم من الله ما يستحقون- ومنهم الفلاسفة -فيما مضى- والشيوعيون الذين يعيشون في هذه الأزمان الذين يقولون: لا إله والحياة مادة، وإذا ناقشتهم على بساط العقل والمنطق تهاووا وسقطوا؛ لأنهم لا يملكون أدلة، وعندما تناقشه عن ساعته التي في يده وتقول له: هذه الساعة ليس لها صانع، يقول لك: مستحيل، تقول له: من صنعها؟ يقول: المهندس، تقول: والمهندس له صانع؟ يقول: لا.
ليس له صانع، تقول له: كيف؟!! أقول إن الساعة ليس لها صانع فلا تصدق، وأقول: إن المهندس الذي صنعها له صانع فتقول لا.
لا صانع له؟ أيهما أشد عقدة: المهندس أم الساعة؟! سبحان الله العظيم! مستحيل أن تكون الساعة من غير صانع، وليس بمستحيل أن يكون إنسان من غير خالق! لا والله {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35].
هؤلاء الملاحدة الذين ينكرون صدور الخلق وحدوثه عن الله سبحانه وتعالى ينكرون النشأة الأولى والثانية أصلاً، وهم منكرون لوجود الله تبارك وتعالى، فهؤلاء لا نقاش معهم.
الصنف الثاني: قوم يعترفون بوجود الله تعالى، ولكنهم يكذبون بالبعث بعد الموت، ومن هؤلاء العرب الذين بعث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، فإنهم كانوا يقرون بوجود الله، يقول تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] فهم معترفون بأنه الخالق لهذه السماوات والأرض، ولكنهم يقولون: {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النمل:67 - 68] هذا هو الصنف الذي يؤمن بوجود الله لكنه يكذب بوجود البعث؛ يدعون أنهم يؤمنون بالله ولكنهم يدعون أن قدرة الله عاجزة عن إعادتهم وإحيائهم بعد إماتتهم، وهؤلاء هم الذين ضرب الله لهم الأمثلة والبراهين والحجج بأنه قادرٌ على البعث والنشور؛ لأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
الصنف الثالث: قوم يؤمنون بالبعث لكن على صفة وهيئة تختلف عما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يؤمنون بأساطير وخرافات وضلالات وفلسفات وأفكار ليس يدعمها دليل لا من كتاب ولا سنة، فهؤلاء في حكم المكذبين.
هذه أصنافهم.(17/4)
الأدلة على البعث والنشور
أما الأدلة على البعث والنشور فكثيرة، وإذا طُلب منك دليل فإن لديك من الأدلة ما تقنع به الحجارة فضلاً عن البشر؛ لأن الإيمان بالبعث دل عليه القرآن والسنة النبوية المطهرة، والقرآن كله من أوله إلى خاتمته مملوء بذكر أحوال البعث والنشور، وأحوال يوم القيامة، وأحوال الجنة والنار، وتفاصيل ما هو كائن وما سيكون إلى يوم القيامة، وما سيكون بعد يوم القيامة في الجنة والنار، وفي عرصات القيامة وتقرير ذلك بالأمثال والأخبار والأيمان والأقسام، وكما ذكر القرآن الأدلة ذكر أيضاً فرية المكذبين بالبعث والنشور، وذكر أيضاً شبهاتهم وفندها، ورد على مزاعمهم واحدة بعد واحدة حتى لم يعد لهم دليل يستطيعون أن يستندوا عليه في إثبات كذبهم وضلالاتهم.
والفطرة السليمة التي سلمت من الأصابع البشرية الضالة تهدي إلى الإيمان بالبعث وتدل عليه، ولا صحة أبداً لما يزعمه الضالون من أن العقول تمنع وقوع البعث والنشور، فإن العقول تقره ولا تمنع من وقوعه، بل توجب وقوعه، والأنبياء لا يأتون أبداً بما تحيله العقول، بل يأتون بما تقبله العقول وتوجبه، ومن تلك الأدلة ما يلي:(17/5)
أدلة القرآن بوقوع البعث والنشور
الدليل الأول: إخبار الله تبارك وتعالى في القرآن بوقوعه: وهل أصدق من الله عز وجل؟ إذا أخبر الله في القرآن بخبر لزم منك -أيها المؤمن- بمقتضى إيمانك أن تصدق؛ لأنه لا أحد أصدق من الله قيلاً، وقد أخبر الله عز وجل أن البعث والنشور كائن، وهذا من أعظم الأدلة الدالة على وقوع البعث؛ فمن آمن بالله وصدق برسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابه الذي أنزله الله على رسوله فلا مناص له من الإيمان بما أخبر به من البعث والنشور، والجزاء والحساب، والجنة والنار.
وقد نوع الله تبارك وتعالى في الكتاب الكريم أساليب الإخبار ليكون أوقع في النفوس وآكد في القلوب، ففي بعض المواضع من القرآن يخبر الله بوقوع يوم القيامة إخباراً مؤكداً بـ (إن) يقول الله عز وجل: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه:15] ومرة يؤكد بـ (إن، واللام)، يقول جل ذكره: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85] اللام الداخلة على (آتية) لام التوكيد، إن: حرف توكيد ونصب، ومرة يؤكد بـ (ما): {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ} [الأنعام:134] ومرة بأداة الحصر: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} [المرسلات:7] هذه كلها أساليب في تأكيد عملية الإخبار عن البعث والنشور وأنه كائن لا محالة.
- الدليل الثاني: قَسَم الله تبارك وتعالى؛ فيقسم الله على وقوع البعث؛ أنت إذا أخبرك رجل تثق في خبره صدقت خبره، وإذا أكد لك الخبر بأي وسيلة من وسائل التوكيد كان الخبر آكد عندك، وإذا أكده لك بالقسم وأنت تعرف أنه رجلٌ صادق بار مؤمن لا يمكن أن يكذب فإن الخبر عندك يأخذ مأخذ المسلمات، سبحان الله! الله عز وجل يخبر ويؤكد ويقسم على وقوعه، يقول الله تبارك وتعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [النساء:87] هذا قسم يقسم الله بالذي لا إله إلا هو فيه بنفسه.
ويقسم على وقوعه بما شاء من مخلوقاته، يقول الله عز وجل: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَالْحَامِلاتِ وِقْراً * فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:1 - 6] يعني: إن يوم الدين يوم البعث والنشور لواقع.
ويقسم الله بخمسة أشياء في سورة الطور: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:1 - 8].
ثم يأمر رسوله بأن يقسم بالله تبارك وتعالى على وقوعه، ويرد على المكذبين فيقول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3] ويقول عز وجل: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس:53] ويقول جل ذكره: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7].
- الدليل الثالث: ذمه تعالى للمكذبين في بعض مواضع القرآن ذماً مباشراً، فيقول تبارك وتعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [يونس:45] أي: خاسر لا خير فيه! ما ربح من دنياه إلا العذاب والسخط! ليته ما خلق! ليته ما عرف هذه الحياة! لو لم يعرف الحياة لكان في عداد المهملين! لو كان حيواناً لكان في عداد من يصير تراباً! لكنه عاش في الدنيا ليعبد الله، ومكنه الله وزوده بوسائل الإدراك؛ العقل والنظر والسمع ولكنه ما استخدم هذه الوسائل فخسر دنياه؛ قال الله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [يونس:45] ويقول: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] أي: عمي عن الإيمان بالله والعياذ بالله! الدليل الرابع: وكما ذم المكذبين يمدح أهل الإيمان المصدقين جعلنا الله جميعاً منهم؛ يمدحهم ويقول: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:7 - 9] هذا ثناء؛ سماهم الله راسخين في العلم، أي: ليسوا سطحيين؛ لأنه العلم عن الله، علم الكتاب والسنة، ليس علم المادة؛ قد تجد إنساناً عالماً رأسه مثل الجبل في الذرة والفلك والطب والهندسة وفي كل شيء، لكنه في علم الله لا يعرف شيئاً، هذا أجهل ثور -والعياذ بالله- في الأرض، وتجد آخر لا يستطيع أن يقرأ حتى حرفاً واحداً، لكن عنده من الإيمان بالله مثل الجبال.
هذا هو العالم؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] أي: العلماء به، وبعد ذلك الراسخون في العلم الذين رسخت قلوبهم في العلم بحقائق هذه الحياة حتى عرفوا مصيرهم وعرفوا سر خلقهم ووجودهم، وعرفوا البعث بعد الموت.
هؤلاء راسخون؛ لأنهم غاصوا في أعماق الحقائق، أما السطحيون الذين عرفوا من الدنيا السطح فقط، فإنهم يعيشون وتفكيرهم في هذه الدنيا فقط؛ في المادة وعناصرها وأجزائها، هؤلاء قال الله تعالى فيهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] هؤلاء -والعياذ بالله- ستكون لهم مواقف مخزية وحينها يتمنون أنهم ما عرفوا هذه الحياة.
- الدليل الخامس: من ضمن الأساليب في الإخبار أنه تبارك وتعالى يذكر في القرآن أن وعد البعث صادق، ولا مجال لتكذيبه، ويقول: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ * فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود:103 - 109] يقول: لا تخف ولا تشك في هؤلاء الذين يعبدون غير الله؛ إنما يعبدون الشهوات والطواغيت والمادة، وهم سائرون على ما سار عليه أسلافهم من الكفار والمكذبين، ولكن الجزاء عندنا، وسوف نوفيهم نصيبهم غير منقوص.
ويقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان:33] هذا وعد الله الذي لا يتبدل ولا يتغير أبداً، ويقول عز وجل: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} [سبأ:29 - 30] ويقول مهدداً ومتوعداً: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:83] ويقول جل ذكره: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} [الذاريات:5].
- الدليل السادس: إخباره تعالى عن مجيئه في بعض الأحيان بصيغة الاقتراب، فيقول تبارك وتعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً} [المعارج:6] يعني: يوم القيامة {وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج:7] ويقول: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1] أتى هنا فعل ماضٍ، وعبَّر الله عز وجل بالماضي ليؤكد تحقق وقوعه وقربه وكأنه قد وقع، أَتَى أَمْرُ اللَّهِ أي: البعث والنشور {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل:1] ويقول الله عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُول(17/6)
الاستدلال بحدوث النشأة الثانية من حدوث الأولى
الاستدلال على وقوع وإمكان النشأة الثانية بالأولى، أي: ذكر الله في القرآن الكريم أدلة على أن النشأة الأخرى ستكون بناءاً على وقوع النشأة الأولى، فنحن نشاهد في كل يوم خلقاً جديداً؛ أطفال يولدون، من خلقهم؟ اسأل الآن من الذي خلق هذا الولد؟ سبحان الله! حتى الأطباء يقولون: يضعه الأب نطفة وتستقبله الأم عن طريق بويضة، ويحصل اللقاح بين البويضة وهذه النطفة؛ والنطفة حيوان منوي صغير يدخل في هذه البويضة وتغلق عليه، ثم تطرد الحيوانات المنوية الأخرى فتموت، وبعد ذلك: من علم عنه في تلك الظلمات؟ ومن رباه؟ وبعد ذلك يبقى أربعين يوماً كما هو نطفة، وبعد أربعين يوماً يتحول إلى علقة، وبعد أربعين يوماً يتحول إلى مضغة، وبعد أربعين يوماً يتحول إلى عظام -هيكل عظمي كامل- ثم ينشئه الله خلقاً آخر؛ ثم يكسوا الله العظام لحماً، وبعد ذلك يبدأ في النمو وهكذا يكون عظاماً كاملة لا ينقصه عظم إلا الأسنان: الجمجمة موجود، والعمود الفقري موجود، والأضلاع موجودة.
أنا رأيت جنيناً صغيراً في مختبر في مستشفى من مستشفيات المملكة أضلاعه مثل الدبابيس، يقول: خرج في بداية الشهر الخامس، وبعد ذلك أخذوه إلى التشريح وفصلوا اللحم منه، فإذا عظامه هيكل عظمي كامل لا ينقصه إلا الأسنان؛ الأسنان لم تطلع؛ لعدم أهميتها في بداية حياة الطفل فالله أخرها، وتطلع بعد ذلك عندما يأكل، أما الآن فطعامه سوائل فلا داعي للأسنان، وبعد ذلك هل سمعتم واحداً في الدنيا طلعت له أسنان؟ أبداً.
لا يوجد، بينما الصغير يولد تجد معه قدرة على المص، وتجد (الكتكوت) يخرج من البيضة، ومباشرة تجده يقف على قدميه ويبحث عن حب ويأكل، لكن الطفل الصغير لا يستطيع أن يأكل ولا يستطيع أن يهضم، إذاً ليس عنده أسنان، ماذا عنده؟ عنده فم، وعندما تعطيه ثدي أمه يرضع مباشرة.
هذه الأضلاع وهذا العظم.
وبعد ذلك يبدأ الولد في النمو المتوازن سواء بسواء؛ الضلع الذي هنا يطلع مثل الضلع الذي هنا، واليد التي هنا مثل اليد التي هنا، والرجل التي هنا مثل الرجل التي هنا، والعين هذه تطلع مع العين هذه، سواء بسواء، خلايا متوازنة! كل شيء في مكانه! سبحان الله الذي لا إله إلا هو!! فالذي خلق هذا الخلق هو الذي نراه كل يوم يحدث، كل يوم يأتي لنا ولد أو بنت كذلك، وقد سألني أحد الإخوة بالأمس سؤالاً، يقول: حديث سأله عنه أحد الناس يسأل عن صحته وهو حديث: (إن خير الأمة من تبكر ببنت) يقول: هل هذا حديث صحيح؟ قلت: لا.
ليس بصحيح وليس من مشكاة النبوة، الخيرية لا تكتسب بأنثى أو ذكر، الخيرية تحصل عليها أنت بفعلك وعملك وجدك واجتهادك وإيمانك، فقد ترزق بنتاً ولا تكون من خير الناس، وقد ترزق ولداً ولا تكون من خير الناس، لكن الخيرية بجهادك، أما الولد والبنت فهي بمشيئة الله تعالى، يقول الله عز وجل: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} [الشورى:49 - 50] والقضية ليست بالرجل ولا بالمرأة.
من الذي يحدد نسبة البنات والأولاد في الشعوب والأمم؟ لا أحد يحدد أبداً، ولا يستطيع أحد أن يحدد، ولو حدده الناس وترك للأب أن يختار لكان كل واحد يقول: أريد رجالاً، أريد أن أتفاءل برجال، وذاك يريد رجالاً وكثر الرجال.
من أين لهم نسوة؟ ثم بعد ذلك ماتوا وانقرض الجنس البشري لكن لا.
أنت يأتي لك أولاد وذاك يأتي له بنات، وقد تكون البنت هذه أبرك من بعض الرجال، لا تظن أن البنت إذا جاءت بأنك تنهزم! لا يا أخي.
هذه ظنون جاهلية؛ الجاهليون الذين كانوا لا يؤمنون بالله كانوا إذا جاءتهم البنت تهتز قلوبهم.
قال الله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} [النحل:58 - 59] لا يا أخي: إن الله عز وجل هو الذي يضع البركة في البنت والولد، ورب امرأة كانت أبرك من مئات وعشرات من الرجال! ولا حول ولا قوة إلا بالله! فالخلق يتم والأولاد يولدون كل يوم، وبعد ذلك يرى الإنسان هذا بأم عينيه؛ ثم هو ينكر أن الله قادر على أن يحيي الناس مرة أخرى! إن الذي خلق قادر غير عاجز على أن يعيد، سبحان الله! إن الذين يطلبون دليلاً على البعث بعد الموت يغفلون عن خلقهم الأول، فالقادر على خلقهم أول مرة قادرٌ على إعادة خلقهم مرة ثانية، وقد أكثر الله عز وجل من الاستدلال على النشأة الآخرة بالنشأة الأولى، وتذكير العباد الذين يستبعدون إمكان وقوع البعث بعد الموت بذلك، يقول الله عز وجل في نقاشٍ عقلي منطقي في سورة مريم: {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} [مريم:66] قال الله: {أَوَلا يَذْكُرُ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} [مريم:67] ثم يقسم الله تعالى ويقول: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم:68] يقسم الله تبارك وتعالى أنه سوف يحشر هؤلاء وكل شيطان متمرد على أمر الله.
وأيضاً يقول الله تبارك وتعالى وهو يذكر في القرآن الكريم أبانا آدم أن الله خلقه من تراب، فالقادر على جعل التراب بشراً سوياً لا يعجزه أن يعيد البشر بشراً سوياً.
عندما تأتي شخصاً بنى له بيتاً من الحجارة ثم جاء وهدها، هل تقول: لا تقدر على أن تبنيها مرة ثانية؟ لا.
الذي بدأ قادر على الإعادة؛ لأن الإعادة أسهل من البداءة، وإلا فإن الله عز وجل لا يعجزه شيء، كل شيء سهل، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:5 - 7].
وقد أمر الله الناس بالسير في الأرض، والتذكر لما سيكون فيها، والنظر إلى كيفية بدء الخلق فيها، يقول الله تبارك وتعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت:19 - 20] وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [الروم:27] كلمة: (أهون عليه) هذه في البشر، لكن له المثل الأعلى، فكل شيء هين على الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم:27] فكما خلق فهو قادر على أن يعيد، إذ لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.(17/7)
قدرته تعالى على إيجاد العظيم مثبتة قدرته على إيجاد الحقير
من أدلة وقوع البعث والنشور: أن الذي قدر على أن يخلق الأعظم قادر على أن يخلق الأقل عظمة، فإن من يستطيع أن يحمل خمسين كيلو لا يعجزه حمل كيلو، أليس كذلك؟ والذي يستطيع أن يجري مائة متر لا يعجزه أن يسير خطوات؛ لأنه قدر على الكثير فمن باب أولى أن يقدر على القليل.
وقبيح في نظر البشر أن يرمى بالعجز عن حمل الشيء الحقير من يستطيع أن يحمل الشيء العظيم، ومثله: إذا غلب إنسان رجلاً شديد البأس قوياً لا يقال له: إنك لا تستطيع أن تصرع هذا الهزيل، أي: إذا رأيت رجلاً أمسك برجل قوي جداً وصرعه، ورأيت آخر سفيهاً وصغيراً وقلت: أتحداك أن تصرع هذا؟ ماذا يقول لك؟ يقول: يا أخي! أنا قدرت على ذلك الذي مثلي مرتين وطرحته، أما هذا فسوف أنفخه نفخة تأخذه إلى هناك لماذا؟ لأن الذي يقدر على الأكبر يقدر على الأصغر، ولله المثل الأعلى تبارك وتعالى.
والله تعالى من جملة خلقه ما هو أعظم من خلق الناس، فكيف يقال للذي خلق السماوات والأرض: إنك لا تستطيع على أن تخلق الناس؟ يقول الله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً} [الإسراء:98 - 99] وقال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} [يس:81] وقال عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33] وقال سبحانه: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57] قال ابن تيمية رحمه الله بعد أن ساق هذه النصوص: إن من المعلوم والبديهيات والمسلمات عند العقول أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق أمثال بني آدم، والقدرة عليه أبلغ والإمكان أيسر؛ لأن من قدر على الكبير قدر على الصغير.(17/8)
الأدلة العقلية على قدرة تحويل الله الخلق من حال إلى حال
من الأدلة: قدرته تبارك وتعالى على تحويل الخلق من حال إلى حال؛ له القدرة البالغة المطلقة التي لا يعجزها شيء، والله قد بين لنا أنه قادر على أن يحول الناس من حالة إلى حالة: ويحول المادة من حالة إلى حالة.
ما هي المادة التي تجدها صلبة وعندما تسلط عليها حرارة تتحول إلى سائلة الثلج! من يتصور أن الثلج يصبح ماء؟ ومن يتصور أن الماء يتحول إلى بخار؟ لكن إذا سخنه يصير بخاراً! فالذي يقدر على تحويل المواد من مادة إلى أخرى أليس قادر على أن يحول الإنسان من طين إلى أن يكون بشراً سويا؟! سبحان الله العظيم! يقول الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة:10] بين الله تبارك وتعالى في أكثر من موضع أن من تمام ألوهيته أنه يقدر على تحويل الخلق من حالٍ إلى حال، ولذا فهو يميت ويحيي، ويخلق ويفني، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام:65 - 96] فهو يخرج من الحبة الجامدة الصماء نبتة غضة طرية خضراء تزهر وتثمر وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ثم تعطي هذه النبتة حبوباً جامدةً ميتة، ويخرج من الطيور الحية البيضُ الميت، ويخرج من البيض هذا حياة طيور جديدة سبحان الله! إن هذا لهو قادر على أن يحيي الموتى.
وتقليب العباد من حال إلى حال، ومن موت إلى حياة، ومن حياة إلى موت دليل على عظمته وقدرته تبارك وتعالى، يقول الله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28].(17/9)
إحياء الله لبعض الموتى في الحياة الدنيا
وهذه تؤكد عملية إحياء الأموات.
إحياء الأموات في هذه الحياة؛ حصل هذا أن أناساً ماتوا فأحياهم الله، وإحياؤهم دليل على قدرة الله عز وجل على إحياء الناس كلهم بعد الموت، ولقد شاهد البشر في فتراتٍ مختلفة من التاريخ عودة الحياة مرة أخرى إلى الجثث الهامدة والعظام البالية المتفتتة، بل شاهدوا الحياة تدب في الجمادات، وقد حدثنا الله عز وجل وأخبرنا عن هذه المعجزات الباهرات في كتابه الكريم فمن ذلك: قوم موسى لما قالوا له: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153] وقد مارس العملية أولاً حين قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] فالله تعالى قال له: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] أي: لن تستطيع أن تصمد عيناك لرؤيتي {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] إذا تمكن جبل الطور من أن يستقر ويواجه عظمة الإله فسوف تراني، يقوله الله عز وجل، {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} [الأعراف:143] الله لم يتجلَّ لموسى ولو تجلى له لاحترق، لكن تجلي الله للجبل جعله يخر مدكوكاً: {جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] لا إله إلا الله!! هؤلاء قومه قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] قال الله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [الذاريات:44] صعقتهم الصاعقة وماتوا وتقطعت قلوبهم في أجوافهم، لكن قال الله تعالى: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:55 - 56] فالله أحياهم بعد أن أماتهم وبعثهم لعلهم يعرفون الله تبارك وتعالى.
كذلك بنوا إسرائيل لما قتل فيهم قتيل بين قبيلتين: وكان رجل منهم له ولد وهذا الولد له عم، فأراد الولد أن يقتل عمه ليأخذ ماله، فقتله ثم حمله ورماه في القبيلة الثانية، وجاء في اليوم الثاني وإذا بالمقتول عندهم، قالوا: أنتم الذين قتلتموه، قالوا: ما قتلناه ونحن أبرياء منه، قالوا: لا بد أن نسأل، ثم ذهبوا إلى موسى عليه الصلاة السلام، قالوا: هذا الرجل وجدناه قتيلاً عند آل فلان وهم ينكرون قتله، فمن قتله؟ فطلب موسى من الله تبارك وتعالى أن يوحي إليه بمن قتل هذا المقتول، فالله عز وجل أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة حتى يؤخذ شيء من هذه البقرة ويضرب بها ذلك الميت فتعود له الحياة ويخبر بمن قتله.
فبنوا إسرائيل على عادتهم لا يمتثلون الأمر مباشرة، ولكنهم يلفون ويدورون، قالوا: يا موسى ما لونها؟ ما هي؟ ما شكلها؟ ما طولها؟ ما عرضها؟ فشدد الله عليهم؛ كلما سألوا سؤالاً أعطاهم صفة لا يجدونها، حتى إنهم لم يجدوا تلك البقرة إلا عند امرأة من بني إسرائيل رفضت أن تبيعها لهم إلا بملء جلدها ذهباً أحمر، يقول بعض المفسرين: لو أنهم أخذوا أي بقرة من البقر وذبحوها لوجدوا الغرض، لكن لما شددوا شدد الله عليهم.
ولهذا انتبهوا أيها الإخوة! من شدد شدد الله عليه، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الدين عميق فأوغلوا فيه برفق، ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه) ويقول صلى الله عليه وسلم: (ولا تغلوا كما غلت أهل الكتاب) فإن غلّو بني إسرائيل أخرجهم من الدين وقال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171] والغلو: هو تجاوز الحد.
وأريد أن يفهم الناس من هذه الكلمة أن الغلو ليس تطبيق السنة؛ بعض الناس عندما يرى شاباً يقصر ثوبه، ويضع يديه على صدره، ويصلي في المسجد، ويغض بصره قال: هذا متشدد، وأنت؟ قال: أنا على الدين، ماذا تفعل؟ قال: أغني، وأجلس مع النساء ولو تبرجن فإن الدين يسر، هذا كذب، هذا ليس ديناً، هذا تمرد وتملص وتسيب وتضييع لدين الله عز وجل؛ الدين اليسر هو السنة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وترك الدين تسيب؛ والتشدد يكون فوق ما أمر الله به.
أعطيكم مثالاً على التشدد، والحديث في الصحيحين: ثلاثة نفر جاءوا إلى نساء الرسول فسألوا عن عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبروا بها فكأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من رسول الله؟ رسول الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر! أما نحن لم يغفر لنا ما تقدم ولهذا لا بد أن نزيد! انظروا هذه النظرة! أكثر الناس الآن عندما تقول له: يا أخي! هذه سنة رسول الله، قال: وأين أنا من رسول الله، تريدني أن أكون مثل الرسول؟ لن أصير مثل الرسول، سبحان الله! يقول: الرسول صادق وأنا لا أقدر أن أصدق مثل الرسول ولا أصلي في مسجد الرسول كما يصلي هو، لكنه رسول يصلي في المسجد، أما أنا فلا أقدر أن أصلي؛ أنا ضعيف! ويضيع الدين بحجة أنه ليس مثل الرسول، لكن لك في رسول الله أسوة حسنة، يقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] هؤلاء الصحابة يقولون: أين نحن من رسول الله؟ لسنا مثل الرسول مغفور لنا، ولذا فلا بد أن نزيد، فشخص قال: أنا أقوم الليل ولا أنام أبداً -رضي الله عنهم وأرضاهم، آمنوا والله إيماناً مثل الجبال- والثاني قال: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر أبداً! والثالث قال: النساء والأطفال مشغلة عن دين الله، فلن أتزوج النساء أبداً! هذا غلو! هذا خروج على فطرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته وهديه، وبالتالي يكون تغييراً للمبدأ وللمنهج الإيماني؛ منهج النبي صلى الله عليه وسلم، لما سمعهم نادى فيهم وقام وخطب الناس؛ قال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني) هذا هو التشدد -أي: أنك تشدد على نفسك- بعض الناس يتشدد ويمشي حافياً! ماذا بك؟ قال: يا شيخ، هذه الحذاء تفسد الرجال، أنا أريد أن أمشي من أجل أن أشتد، يا أخي امشِ بالحذاء! كان صلى الله عليه وسلم لا يتكلف مفقوداً ولا يبخل موجوداً، إن وجد حذاء لبسها ولا يرفضها، وإن لم يجد مشى، وأنت إذا لقيت حذاءك انتعلها، لكن تدعها وتمشي حافي القدمين في الشارع فهذا ليس من الدين.
وسمعت عن بعض الناس يقولون: لا نستعمل الكهرباء، لماذا؟ قالوا: إن هذه الكهرباء تأتي لنا بالمنكرات! ويستعملها أهل المعاصي في المنكرات! طيب: الهواء الذي تتنفسه أنت الآن يستنشقه أهل المعاصي في المنكرات، إذاً اترك الهواء، والماء الذي تشربه؛ لأن أهل المعاصي يشربونه، والأرض التي تسير عليها أهل المعاصي يسيرون عليها، أجل! اخرج من الأرض وطِر في السماء وحلق! هذا ليس دين الله تبارك وتعالى، هذا غلو وتشدد.
وأحد الإخوة دخل على أناس في مسجد وإذا بهم يموتون من الحر! سوف ينقطعون في - الرياض أيام الحر الشديد- وإذا به يصلى معهم ولا يعرف كيف يصلي، ولما انتهى قال: يا جماعة: لم لا تشغلون المراوح والمكيفات؟ لماذا يا إمام؟ قال: هذا من الترفيه الذي لا ينبغي! الإمام نفسه يقول: لا تشغلوا المراوح ولا المكيفات، ابقوا في الحر حتى تعرفوا حر جهنم! هذا ليس من دين الله، لا حول ولا قوة إلا بالله! هذا اسمه غلو وتجاوز للحد، نحن ننصح الناس من الغلو في الدين؛ لأن الغلو إذا تجاوزه الشخص انعكس، يقول: ما تجاوز الحد انقلب إلى الضد.
فبنوا إسرائيل تجاوزوا وبدءوا يلفون ويدورون حتى إن الصفة لم تتوفر إلا في تلك البقرة الوحيدة فاشتروها بملء جلدها ذهباً ثم ذبحوها.
وجاء موسى عليه السلام وأخذ ضلعاً من ضلعها وضرب الميت، قال الله تبارك وتعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:73] حين ضربه قام الرجل كأنه كان نائماً، قالوا: من قتلك؟ قال: ابن أخي، وابن أخيه هو الذي يصيح ويقول: كيف تقتلون عمي؟! قال الميت: هذا الذي قتلني، فأخذوه وقتلوه، فهذا من آيات الله التي حصلت في إحياء الموتى بعد أن كانوا موتى، أحياهم الله! وإن من أحياهم قادر على إحياء جميع الأموات.
- الدليل الثالث: أخبرنا الله عز وجل في آخر سورة البقرة عن الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف فقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [البقرة:243].
-الدليل الرابع: حدثنا الله عن الرجل المكذب الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها؛ البيوت قد تهدمت، والقبور قد نصبت، والحياة قد انطمست، فقال في عقله: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة:259]؛ استبعد وقال: متى يحيي الله هذه الأرض بعد موتها؟ {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259] رأى العظام وهي تتشكل، ورأى العظام وهي تكسى لحماً، ورأى الروح وهي تنفخ، أما طعامه الذي كان معه قبل أن يموت فقد بقي لم يتسنه ولم يتغير ولم يتحمض ولم يتعفن رغم مرور مائة سنة وهو محفوظ بالقدرة الإلهية لم يتغير أبداً؛ لأنه آية(17/10)
إحياء الأرض بالنبات بعد إنزال المطر عليها
وكذلك ضرب المثل بإحياء الأرض بالنبات بعد إنزال المطر عليها، ونحن اليوم نرى بعد نزول المطر والغيث والحمد لله الأرض قد اخضرت، والأشجار أثمرت، وامتلأت الأرض بالورود والألوان الزاهية والأشكال المشكلة، بعد أن كانت قبل المطر غبراء دبراء لا أثر للحياة فيها، لكن لما نزل عليها الماء، أين كانت هذه البذور؟ من الذي حفظها؟ من الذي أحياها؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو، يقول الله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50] ويقول عز ذكره: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الفرقان:48] ويقول: {إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر:9] ويقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39] ويقول: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف:11].(17/11)
مقتضى عدل الله موجب للبعث والنشور
من حكمة الله ومقتضى عدله أن يوجب وجود بعث وجزاء بعد الموت لا بد.
وإلا فإن هذا مناقض ومعارض للعدل الرباني الإلهي، لماذا؟ لأن الله خلق الخلق لعبادته، وأرسل الرسل وأنزل عليهم الكتب لبيان الطريق الموصلة إليه، فانقسم الناس إلى قسمين: قسم استجاب واستقام على طاعة الله، وعمل في سبيل الله، وبذل نفسه وماله وحياته كلها في دين الله.
وقسم رفض دين الله، وكذب رسله، وقضى حياته كلها في محاربته هو ورسله، وفي إيذاء عباد الله؛ يفتك بالأرواح يسيل الدماء يهتك الأعراض يسرق الأموال يفسد في الأرض ثم يموتون كلهم، أفيليق في منطق العقل أن يموت ذلك الصالح وذلك الخبيث المنحرف الطالح ثم لا يجزي الله المحسن بإحسانه، ولا يعاقب المسيء على إساءته؟ هل هذا معقول؟ لا.
ولهذا يقول الله عز وجل: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} [القلم:35 - 38] ويقول: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27] ثم يقول: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] أي: مستحيل، ويقول الله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20] ويقول: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الجاثية:21 - 22].
هذه -أيها الإخوة- الأدلة السبعة التي نغرسها في قلوبنا، ونجزم عليها ونعيش في سبيلها، ونعيش عليها ونحن مؤمنون بلقاء الله، ويترجم هذا الإيمان ويصدق أو يكذب بسلوكنا، فإن من الناس من يقول: آمنا، ولكن فعله يكذب قوله، لا يكون صادقاً من قال: آمنا إلا إذا أقام على هذا الكلام دليلاً من عبادته وترك محارم الله تبارك وتعالى، واستقامته على منهج الله.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يرزقني وإياكم الإيمان القوي، وأن يثبتنا وإياكم عليه حتى نلقى الله.
والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تنبيه: ينتشر في هذه الأيام ورقة يقولون: إنها مصورة بالكمبيوتر على القصبة الهوائية والرئة اليمنى، وأن المتأمل فيها يقرأ كلمة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وإذا كان الكلام صحيحاً، يعني: أن هذا جاء عن طريق تصوير لهذه الجزئية من جزئيات الجسد بالكمبيوتر والتكبير له، فإنه واضح من خلال القراءة لها كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله -واضحة باللغة العربية- وبإمكان أي واحد منكم أن يراها، هذه من آيات الله الدالة على عظمة الله وقدرته، والله تعالى يقول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53] ولكن لسنا -أيها الإخوة- في شكٍ من أمر ديننا ولا عقيدتنا حتى نبحث عن المؤيدات، كأننا نقف ونريد من يثبتنا، لا.
نحن ثابتون ولو لم نر، هذه إن كانت حقاً فهي تزيد، وإن كانت ليست بحق فلا نتزعزع في إيماننا؛ لأننا نخشى أن يأتي يوم من الأيام يبحثونها فيقولوا: لا.
الأمر فيه خطأ إن كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله كلمة حق عليها نعيش وعليها نحيا وعليها نموت وعليها نبعث إن شاء الله، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل لا إله إلا الله، وهذه لا تزيد المؤمن إلا إيماناً وتثبيتاً عند الله تبارك وتعالى.(17/12)
الأسئلة(17/13)
حكم الاختلاط بحجة طهارة القلب
السؤال
في القرية التي أسكن فيها وفي القرى المجاورة من حولنا نشاهد مناظر لا يرضاها الشرع من التبرج وكشف الوجه والصدر والاختلاط في السهرات، ونرى المرأة تجلس مع ابن عمها وابن جارها سواء كانت متزوجة أو غير ذلك، ولما أرشدناهم قالوا: نحن إخوة والقلوب صافية، وأنت تريد أن تفرق بين الأسرة والأقارب، وهذه المرأة أو البنت تذهب إلى العمال؛ والمزارع مثل مزارع البن -كأن الأمر هذا في غير البلاد هذه- فأرشدنا أرشدك الله لعل الله عز وجل أن ينفعهم؟
الجواب
نقول: -أيها الإخوة! - من نور الله بصيرته من الإخوة الذين يقيمون في هذه الديار وعاد إلى بلده فإن مسئولية الدعوة يجب أن يحملها وينشرها، كما منَّ الله عليه وأنقذه مما كان فيه من الضلال، وينبغي أن يحمل هذا النور وهذه المسيرة إلى أهله وعشيرته، وأن يبلغ من يعرف ومن لا يعرف من قراه التي يعيش فيها بدين الله تبارك وتعالى، ولكن ينبغي أن يكون الإبلاغ عن طريق العلم.
لا بد أن تتعلم؛ لأنك إذا أوردت المسألة وقرنتها بالدليل من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقنعت، أما إذا قلت كلاماً كذا بدون دليل فإنك تقف موقف العاجز عن الرد، ولكن لا يمنعك عدم علمك عن أن تقول الحق، إنما قل الحق فإن استطعت أن تدعمه بالدليل فهذا أفضل، وإن لم تستطع فعليك أن تأمر وتنهى بما تقدر عليه بحسب استطاعتك وما وصل إليه علمك والله عز وجل سيثيبك.
أما هؤلاء الذين يعيشون في الجهل والبعد عن دين الله وشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في اختلاطٍ، وتبرجٍ، وتكشفٍ، وسهرٍ محرم، ويدعون أن قلوبهم طاهرة، فهؤلاء والله ما قلوبهم بطاهرة، ولا عرفوا دين الله ولا عرفوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، إن الله أمر بالأوامر ونهى عن النواهي وتعبد العباد بهذه الأوامر، وحق العباد أمام الأمر والنهي الامتثال والطاعة لا أن يردوا أمر الله بحجة أن قلوبهم طاهرة، فإن القلب الطاهر هو القلب الذي يستجيب لأمر الله، أما الذي يرد أمر الله فهو قلب نجس، لا طهارة فيه، والذي يقول: أنا لا أحجب زوجتي؛ لأن قلبها وقلبي طاهر، وقلب الرجال طاهر، والله لو كان القلب طاهراً لحجبت امراءتك، إذ ما يمنعك من الحجاب إلا رغبتك ورغبة امرأتك في النظر! أجل.
كيف ترغب المرأة في النظر إلى الرجال والرجل يرغب في النظر إلى النساء ويدعي أن قلبه طاهراً؟! لا نعلم أن قلبك طاهراً، وما شققنا صدرك، لكن الذين هم أطهر خلق الله صحابة رسول الله وأمهات المؤمنين الذين أمرهم الله بالحجاب فقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] وأمر الحجاب مثل أمر الصلاة.
ما ظنكم لو قلنا لشخص: جاء رمضان شهر الرحمة والغفران، والشرع يلزمك أن تصوم رمضان، فما صام، ولما جاء في الظهر وإذا به يأكل، ما بك؟ قال: أنا قلبي طاهر ولو ما صمت، والإيمان في الصدور، رمضان ليس بترك الأكل كل يا رجل وأنت على دينك طاهر ما رأيكم فيه؟ كذاب.
وآخر قلنا له: صلِ الصلوات الخمس، قال: ماذا في الصلاة؟ أقوم وأقعد ليس إلا قيام وقعود! ما هذه الصلاة؟ الصلاة صلاة القلب، أنا أصلي في قلبي، قلبي طاهر ولو لم أصل! ما رأيكم فيه؟ هذا كافر.
والذي نقول له: حجب زوجتك قال: الحجاب في القلب، أنا قلبي طاهر ولو لم تكن امرأتي محجبة، قلبي طاهر ولو جالست النساء، هذا مكذب لله ولرسوله، والذي يسمع الأغاني، نقول له: اترك الأغاني يقول: لا.
والله أنا أسمعها من هنا وتخرج من هنا، كلام يذهب، أنا لا أتأثر، نقول: لا.
أنت كذاب لو أنك لا تتأثر لتركته؛ لأنك عصيت الله عز وجل، لا تنظر إلى النساء قال: لا.
حتى ولو نظرت إلى النساء لا يضر، ماذا هناك يا أخي، أنا أملك نفسي، ولو نظرت، فأنا طاهر وشريف! لا.
إنك يوم أن نظرت عصيت الله، ولو كنت طاهراً لما عصيت الله؛ لأن الطهارة هنا طهارة حسية ومعنوية، فالإنسان الذي عنده خبث في قلبه للنساء والنظر إليهن هذا نجاسته نجاسة حسية، يقول الله تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] والمرجفون في المدينة والذين في قلوبهم مرض؛ مرض الشهوات، والنساء، وحب الزنا -والعياذ بالله- حتى ولو كان ليس له رغبة في النساء ثم نظر فإن في قلبه مرض، لماذا في قلبه مرض؟ مرض معنوي؛ معصية الله، ولهذا قال العلماء: إن توبة العنين من الزنا الذي لا يقوم له عضو على الزنا -وهو تائب من الزنا؛ لأنه لا يعمل الزنا- قالوا: مقبولة، رغم أن وسيلة الزنا لا توجد، لماذا؟ لأن الله يعامله على قلبه، سواء معه الآلة أو لم تكن معه الآلة.(17/14)
حكم السكن مع من لا يصلي في المسجد
السؤال
إنني في حيرةٍ من أمري.
أسكن مع زملاء أحبهم في الله ولكنهم لا يصلون في المسجد؟
الجواب
كيف تحبهم في الله؟ ما هذا الفهم الخاطئ؟ ما معنى الحب في الله؟ الحب في الله أنك تحبه؛ لأنه ولي لله، يقوم بأوامر الله وينتهي عما نهى الله عنه؛ فأنت تحبه في الله، لكن هذا الذي لا يصلي في المسجد يجب أن تبغضه في الله، لا أن تحبه في الله؛ لأنك إذا أحببته في الله فقد عصيت الله؛ لأنك أحببت عدواً لله قطع بيوت الله، فالحب يجب أن يبنى على الاستقامة الكاملة والتمسك بأوامر الله تعالى.
السائل: وخصوصاً صلاة الفجر لا يصلونها؟ الشيخ: وهذا الكلام هو (ترمومتر) الإيمان الذي ينتشر فيها، لا ينفعه قيامه في غيره؛ لأن الذي لا يصلي الفجر في المسجد منافق والعياذ بالله.
السائل: وأيضاً يتفرجون على المسلسلات والفيديو، ويسمعون الأغاني وينظرون إلى ما حرم الله؟ الشيخ: وأيضاً يحبهم في الله! السائل: رغم أنني نصحتهم مراراً فما هو الحل يا شيخ، هل أجلس معهم، أم لا؟ واعلم أني أحبك في الله، فأعطني نصحيتك وإرشادك، وفقك الله؟ الشيخ: أنا أقول بالنسبة لي أسأل الله أن يكون حبك لي في الله حباً صادقاً، أخاف أن تكون قد رأيت فيَّ شيئاً من المعاصي وأحببتني في الله على ذلك، وأسأل الله أن يجمعنا وإياك وإخواننا في جنات النعيم.
أما هؤلاء الذين لا يصلون في المسجد وخصوصاً صلاة الفجر، ويسمعون الأغاني، وينظرون إلى الأفلام والمسلسلات، ويتفرجون إلى الحرام، فإن جلوسك معهم خطأ وخطر على دينك وعقيدتك، وعليك أن تنجو بنفسك؛ لأنك تقول: نصحتهم مراراً فلم يلتزموا، فر منهم فرارك من الأسد، فر منهم فرارك من المجذوم، أو الذي عنده إيدز أو سرطان أو (كوليرا)، هؤلاء عندهم إيدز في أخلاقهم، وسرطان في عقيدتهم، و (كوليرا) في تصرفاتهم، انجُ منهم وإلا فإن كثرة الإمساس تذهب الإحساس، وقريباً بعد أيام تكون واحداً منهم.
يا أخي: فر بدينك وتعرف على الإخوة الصالحين المؤمنين الطيبين الذين بمعيشتك معهم تزداد ديناً وهداية إلى الله عز وجل.(17/15)
حكم التعامل مع تاركي الصلاة
السؤال
عندي أصدقاء في العمل وبعضهم يؤدي الصلاة وقت الظهر، وبعضهم لا يصلي، وبعد الصلاة أسألهم يقولون: قد صلينا، ونحن نجلس معهم، ونأكل معهم، فما الذي تنصحون به؟ وما الشريط الإسلامي المفيد لهم؟
الجواب
الزملاء في العمل تربطك بهم رابطة العمل وينقسمون إلى قسمين: 1 - قسم مؤمن طيب ملتزم هؤلاء تربطك بهم رابطتان: رابطة الإيمان والالتزام والحب في الله ورابطة العمل، وينبغي أن تعاملهم معاملة الإخوة في الله والإخوة في العمل.
2 - زملاء آخرون في العمل لكن ليسوا معك ولا على مثل ما أنت عليه من الإيمان والدين والهداية والاستقامة، فهؤلاء تتعامل معهم بما تقتضيه ظروف العمل فقط، لكن تضحك معه، وتبش له، وتأكل معه، وتسمر معه، وتتمشى أنت وإياه زيارة سهرات، لا.
لماذا؟ {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22].
أما الشريط الإسلامي الذي يفيد لهم فلا أستطيع أن أدلك على شيء، ولكن اذهب إلى أصحاب التسجيلات واسألهم فإنهم سيدلونك على الأشرطة المفيدة إن شاء الله.(17/16)
حكم التلفظ في الصلاة بأذكار لم ترد
السؤال
نسمع إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، بعض المصلين يقول: الحمد لله، وبعضهم إذا قال الإمام: إياك نعبد وإياك نستعين، قالوا: استعنا بالله، وبعضهم إذا قال الإمام: قد قامت الصلاة، قال: أقامها الله وأدامها فما حكم ذلك؟
الجواب
أما إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فلا ينبغي أن تقول الحمد لله، بل تقول ما ورد في الشرع: (ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال عبد وكلنا لك عبد، ولا ينفع ذا الجد منك الجد).
تقول هذا الكلام.
وإذا قال الإمام: إياك نعبد وإياك نستعين، فلا تقل: استعنا بالله؛ لأنه لم يرد، وبعض أهل العلم يقول: إنك إذا قلتها تبطل الصلاة؛ لأنها كلام من خارج الصلاة.
أما إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، وقلت: أقامها الله وأدامها، فقد ورد فيها حديث وفي سنده ضعف، ولكن بعض أهل العلم يجوز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، وهذا دعاء من فضائل الأعمال أن تدعو الله أن يقيمها وأن يديمها عليك، وبعضهم يقول: تقولها أحياناً وتتركها أحياناً حتى لا تستمر على فعلها فيفهم الناس من فعلها أنها حديث صحيح، أو أنها ثابتة.(17/17)
حكم تقبيل رأس الوالدين
السؤال
هل يجوز تقبيل رأس الوالدة يومياً في الصباح والمساء وعند العودة من الدوام؟
الجواب
هذا يا أخي من البر، فإذا قمت في الصباح وقبلت رأس والدتك أو يدها وذهبت إلى الدوام ورجعت من الدوام وقبلت رأسها ويدها، ورجعت في الليل وقبلت رأسها وودعتها، ودعت لك أمك أو دعا لك أبوك هذا من البر؛ لأن أفضل من أسدى لك جميلاً بعد الله عز وجل هما الوالدان؛ ولهذا يقول الله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] وقرَن عبادته بطاعتهم فقال جل ذكره: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36] ومن لا يشكر لوالديه لا يشكر لله عز وجل، فأعظم الناس نعمة عليك هما والداك، فعليك أن تعرف قدرهم وأن تبرهم، وأن تأتي إليهم في الصباح وتقبل الوالدة أو الوالد، وتسلم على يده ورأسه، وتقول: أي خدمات يا أبت؟ ادع الله لي بالتوفيق، إذا قال لك أبوك: وفقك الله، نور الله قلبك، يسر الله أمرك، فهي نعمة عظيمة.
لكن بعض الأولاد لا يتصرف تصرفات حسنه؛ لأنه يعرف أن أباه لا يريدها أصلاً! لماذا؟ يقول: لأني أخاف أن أقول له فيصرخ، يقول: فأذهب من دون استئذان! إذا صرخ فهو أصلح لك من عدم استئذانك، قد تكون تريد أن تسافر أو تذهب عمرة أو أي رحلة فتقول: أذهب وأعلم أبي بعد ذلك، لأضع أبي أمام الأمر الواقع.
هذا ليس صحيحاً، فأبوك إذا سأل: أين ذهب؟ قالوا: ذهب، قال: الله يجعلها في وجهه، حينها جاءتك قنبلة من السماء؛ لأن دعوة الوالد على ولده لا ترجع لا وفقه الله، ولا تقبل منه ما فائدته! لكن تعال إلى أبيك وقل: يا أبت: أريد أن أذهب عمرة، فإذا قال: امش، وفقك الله، دعوة طيبة، وإذا قال: لا.
اجلس، فأنت بنيتك يكتب الله لك عمرة ولو أنت قاعد في البيت، لماذا؟ لأن الذي منعك طاعة الله ثم والداك.(17/18)
نصيحة للشباب المتذبذب
السؤال
يقول: نرجو أن تقدم نصيحة للشباب المتذبذب الذي لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وهم كثيرون معنا الآن، نرجو أن تنقذهم وتدلهم على الطريق؟
الجواب
صدق أخي الكريم، لا ينبغي للشخص أن يبقى متردداً؛ نريد استقامة! أنا أرى كثيراً من الشباب يأتون المسجد لكن لا يزالون يشاورون أنفسهم.
لا يوجد مشاورة ولا خيارات في دين الله، إنما هي الجنة أو النار، السعادة الأبدية أو الشقاء الأبدي، لا خيار لك في هذا، والله تعالى يقول: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] ويقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] هل لك خيار وقد قضى الله بالأمر؟ لا.
قضى الله أن تعبده، أي: لا بد أن تعبده، بماذا تعبده؟ باتباع أمره واجتناب نهيه، فسر ولا تبقى متذبذباً؛ لأن التذبذب خطر.
أنت قد تقول: أنا والحمد لله أفكر في أن ألتزم، ما هو الالتزام؟ الالتزام أن أصير مؤمناً؛ أن أنفذ الدين بحذافيره فلا أسمع، ولا أنظر، ولا أتكلم، ولا أمشي إلا بالحلال، ولا آكل إلا الحلال، وأطلق لحيتي، وأقصر ثوبي، وأمشي مع الطيبين، وأسمع الشريط الإسلامي، وأدعو إلى الله، وآمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأحب وأبغض في الله، وأعيش هموم الدين، ومشاكل المسلمين، وأعيش بقلبي وقالبي مع الإسلام في كل أرض ومكان، وبعد ذلك أغير بدل الكتاب الماجن الكتاب الإسلامي، وبدل المجلة الفاجرة المجلة الإسلامية، وبدل الجريدة الخاسرة جريدة إسلامية هذا هو المؤمن، لكن إذا قلت: لا والله.
أنا سوف أصلي، أنت الآن على خطأ! أنت متردد، أقل مصيبة تردك إلى الوراء، فاغنم قلبك واغنم حديدك إذا حر، فإن الحديد يضرب وهو ساخن.(17/19)
حكم التمثيل في الشرع
السؤال
نحن جماعة مقبلون على تقديم حفل، ونحن في حيرة من أمرنا من ناحية تقديم مشاهد تمثيلية؛ لأننا سمعنا أن هناك فتوى من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بتحريم هذه المشاهد حتى ولو كانت هادفة فما رأي فضيلتكم؟
الجواب
أولاً: موضوع التمثيل إن كان تمثيلاً باطلاً، أو لنساء، أو تمثيلاً للصحابة والأنبياء والرسل، أو لمجون وكذب فهذا حرام بإجماع العلماء، ولا أحد ينازع في هذا؛ لأنه يجمع كل المصائب، وهو الموجود الآن في المسلسلات والتمثيليات وأفلام الفيديو هذا كله باطل وكذب، ولا ينبغي لك أن تعيش مع الكذاب وتعطي عقلك غيرك.
أما التمثيليات الهادفة التي تمارس في بعض الأماكن كالمدارس الثانوية والجامعات والمراكز الصيفية والمعسكرات الإسلامية، والمخيمات الدينية من أجل معالجة قضية، ولا يمكن أن تصل هذا القضية وأن تفهم إلا إذا أظهرت في شكل روائي، بحيث يمثل هذا دور الشاب المنحرف، وذاك دور الشاب الطيب، وكيف لقيه وجلس معه وراح هو وإياه وأثر فيه، وبعد ذلك اهتدى والتزم وصار ملتزماً فهذه هادفة.
وشاب آخر كان يدخن وكان -والعياذ بالله- سكيراً ولقيه واحد آخر وقال: تعال يا أخي هذه مذاهب انقسم العلماء فيها إلى قسمين: 1 - قسم يقول: لا يجوز، لماذا؟ قالوا: لأنه كذاب؛ لأنه يمثل أنه منحرف وليس منحرفاً، وما دام أنه كذب فلا يجوز.
2 - وقسم يقول: جائز ولو كانت التمثيلية كذباً، لماذا؟ قالوا: لأنه ورد في الدين ما يسندها، ما هو الذي يسندها؟ قالوا: جبريل لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أليس كان يمثل دور طالب العلم، أجيبوا علي؟ بلى.
هل كان جبريل لا يعرف؟ كان يعرف الجواب وهو يسأل الرسول -أخبرني عن الإسلام- يعرف الجواب لكنه جاء ليمثل دور طالب العلم، وليس هذا بكذب، لماذا؟ ولهذا لما ذهب قال: (أتدرون من السائل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم) رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد، وليس عليه أثر السفر، ما جاء من مكان بعيد، من أين جاء؟ من الملائكة، وجلس وأسند ركبتيه، وبعد ذلك علمهم كيف يجلس طالب العلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه، وقال: أخبرني عن الإسلام، هذا دور روائي.
أيضاً حديث آخر في صحيح البخاري ومسلم؛ حديث الأعمى والأقرع والأبرص، الذي أرسل الله لهم ملكاً من الملائكة وجاء إلى الأول وقال: ماذا تريد المهم أن الله عز وجل رزقهم، ثم بعد ذلك جاءهم الملك في أشكالهم، جاء عند الأقرع في صورة أقرع، وجاء عند الأعمى في صورة أعمى، وجاء عند الأبرص في صورة أبرص.
وهذا شكل تمثيلي، لكن الهدف منه اختبار وابتلاء هؤلاء الناس، هل ينسون الماضي أم يذكرونه؟ فبعضهم نسي الماضي وقال لما قال له: أسألك بالذي أعطاك الجلد الحسن والمال الكثير أن تعطيني شاة أتبلغ بها في سفري، قال: أنا ورثته كابراً عن كابر، مثلما ينكر بعض الناس الآن عندما تقول له: اذكر فضل الله عليك، قال نحن أغنياء من يوم خلقنا -أي: نحن ما لحقَنا شيء من الجوع- وقد كان يطلب على الأبواب، (شحات) لكن الله رزقه ونسي الماضي، لا حول ولا قوة إلا بالله! فهذه أدلة تدلل إن شاء الله أنه إذا أراد بعض الشباب الطيب على أن يقوموا بممارسة عمل مسرحي نظيف شريف لا مجون فيه ولا تزوير، كمن يأخذ أذناب الخرفان ويضعها كلحية -أي: يقص ذنب الخروف ويعلقه في وجهه ويمثل بأنه رجل مسن، هذا كذب! لا يصلح؛ لأن هذا تزوير، إنما يظهر في شكله، وبعضهم يأخذ الطلاء ويلطخ وجهه ويفعل له لحية وشارباً، وبعضهم كأنه شيطان، لا.
لا يجوز أن يظهر في صورة شيطان، لا يجوز أن تظهر مسلماً في صورة شيطان، ولا يظهر في صورة كافر مثل أبي جهل، لا.
ولا يظهر في صورة صحابي أبداً، إنما صورة من الصور العادية يظهر فيها من يمثل الدور.
أنا أقول هذا بعد الاستقراء والنظر في الأدلة، وبعد التشاور مع بعض الإخوة نسأل الله ألا يكون به بأس والله أعلم.(17/20)
ميزانية نهاية العام
إن الأيام والشهور والأعوام، تمر علينا فماذا قدمنا لأنفسنا؟ هل قمنا بمحاسبتها؟ هل حافظنا على رأس المال، من الأعمال الصالحة؟ هل قمنا بمراجعة الحسابات؟ ومراجعة الربح والخسارة؟ إننا لنهتم بترتيب أوضاعنا الدنيوية، بينما الأوضاع الأخروية أهملناها.
فيا أخي! اعمل لنفسك جدولاً زمنياً تحاسب نفسك فيه، وتحصي أعمالك خيرها وشرها، لتسلك طرق النجاة، وتتجنب سبل الهلاك.(18/1)
محاسبة النفس وتصحيح مسارها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله: في هذا اليوم الثلاثاء: الموافق للثاني من شهر محرم من عام: (1411هـ) على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وفي جامع الذياب بحي السُلَي بمدينة الرياض، وبالأمس ودَّعنا عاماً من أعمارنا، وطَوَينا صفحةً من صفحات حياتنا، ودَّعناه بما استودعناه من عمل، وكما مر هذا العام والأعوام التي قبله ستمُر بقية الأعوام من أعمارنا، وسيجد الإنسان نفسه يوماً من الأيام، وهو يقف في المحطة الأخيرة من رحلة هذه الحياة، وسينزل نزولاً إجبارياً، وسيتم التعامل معه على ضوء تعامله هنا، فمن أحسن هنا لقي إحسانه هناك، ومن أساء هنا لقي إساءته هناك، يقول عز وجل: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31] ويقول عز وجل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:89 - 90] ماذا تتوقع أن تُجْزى عليه إلا عملك؟! هل تتوقع أن يعطيك الله عملَ غيرِك؟! أو أن يضع الله سيئاتك في موازين غيرك؟! لا والله، لا يظلم ربك مثقال ذرة، يقول عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] تنكشف أوراق الإنسان وحساباته، ويجد كل شيء، والله لا يظلمك الله شيئاً.
يقول الله عز وجل: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30] هذا تحذير في ذلك تتمنى أن يجعل الله بينك وبين سيئاتك أمداً بعيداً، لكن من الآن اجعل بينك وبينها أمداً بعيداً، أما أن تجعلها ملازمة لك، وملاصقة لك، فتعايش المعاصي والسيئات بالليل والنهار فسوف تعايشك السيئات في النار، أما إذا جعلت بينك وبينها الآن حجاباً مستوراً من طاعة الله، وجعلت بينك وبينها عوازل وموانع من تقوى الله؛ جَعَلَ الله بينك وبين النار عوازل وموانع وأسكنك الجنة.
وبين عامٍ يمضي وآخر يحل فترةٌ من الزمان نطويها اسمها: العمر، وتنقص أعمارنا بمقدار ما يمر من أعوامنا، أنت مجموعة أيام، وكل يوم يمشي ينقص بعضك إلى أن تنتهي، مَثَلُك مَثَلُ التقويم المعلَّق على الجدار، في أول العام الدراسي أو العام الهجري تجده سميناً مليئاً بالأوراق، ثلاثمائة وستين ورقة؛ ولكن في مغرب كل يوم تنزع ورقة، وتمشي الأيام، ولا ننتبه إلا والتقويم لم يبق منه إلا اللوح فقط.
وكذلك أنت! كل يوم تنزع ورقة من عمرك، وسيأتي عليك يوم لا يبقى منك إلا اللوح، ما هو اللوح؟! جثتك، واللوح ماذا يُفْعَل به فيما بعد؟! يُرْمَى ويهمل، وأنت يوم أن تنتهي أيامك وتنتهي ساعاتك ولحظاتك في هذه الحياة، تُرْمى وتقذف في المقبرة، وترتفع روحُك إما إلى علِّيِّين، أو تُسْقَط وتُهْبَط وتُدَنَّس وتُسَجن في سجِّين.
يقول عز وجل: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18]-جعلنا الله وإياكم من الأبرار- كلمة أبرار تحمل معاني البر والصفاء، وتحمل معاني القرب من الله، رجلٌ بارٌّ، رجلٌ برٌّ: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} [المطففين:18 - 19] تعظيم وتفخيم لعلِّيِّين: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:20 - 21] كتابٌ مرقومٌ يشهدُه المقربون مِن الملائكة، وماذا في هذا الكتاب؟! يقول الله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [المطففين:22] هذا هو المكتوب في الكتاب: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:22 - 24] كما كانت في وجوههم نضرة الإيمان، ونضرة البهاء والصلاح، ونضرة الخوف والمراقبة، فأيضاً يوم القيامة: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24].
أما أولئك -والعياذ بالله- الذين غفلوا، ومرت الأعمار عليهم هكذا سراعاً وراء بعضها دون تأمل ولا مراجعة، ولا وقفة ولا محاسبة، فيقول الله فيهم: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:7 - 9] ماذا في الكتاب؟! {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المطففين:10] نعوذ بالله وإياكم من ويل، ومن عذاب الله عز وجل.
فنحن نمتطي مطايا الليل والنهار، فهذه الأيام مطايا ونحن ركوب على ظهورها، وننزل من مطية الليل إلى مطية النهار، ونفرح بدوران الشهر من أجل أن نستلم الراتب، أحب الأيام إلينا أيام: (28) و (29) و (30)، وأسوأ الأيام إلينا أيام: (4) و (5) و (6)، نبيع أعمارنا برواتبنا، والأيام والليالي تسير بنا ونحن لا ندري، لا نستطيع أن نقف على عجلة الزمان أو نوقفها عند نقطة معينة، بل تسير بنا الأيام ونحن لا ندري، ولا مجال للتريُّث، ولا معنى للانتظار، فإن الزمان لا ينتظر أحداً، ولا يتريَّث لأحد، يروي الإمام مسلم حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على ضرورة السرعة في العمل الصالح مع الله، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل)، وبسط اليد بالليل والنهار دليلُ استعجال، أي: بسرعة تُبْ إلى الله، ما دمتَ أسأت في الليل فإن الله بسط يده لك من أجل أن تتوب؛ لأنك مسيء؛ هذا فيه عملية حث، عملية شحذ للهمم وأنك تسير ولا تدري ما المصير الذي تصير إليه، فلا بد أن تتنبه وأن تكون عاقلاً، لا تسِرْ مع الذين يعيشون بعقلية البهائم، ولا همَّ لهم إلا هذه الدنيا، ولا ينتبهون إلا وهم يَقْتَحِمون ويُقْذَفون ويُدَعُّون على رءوسهم إلى النار وهناك يقولون: {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66] {يَا وَيْلَتَى} [الفرقان:28] {لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:25 - 27].
يقول الظالم: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] لماذا؟ {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100] حسناً! لماذا كنت غافلاً؟! من الذي أخرك؟! يقول الله: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
فكل تأخير -يا أخي في الله- في إنقاذ نفسك وتصحيح مسارك لا يعني إلا تعريضك لمزيد من الخسارة، وتعريضك لنهاية المصير والانحدار والدمار، وما أجمل أن يعيد الإنسان تنظيم وضعه مع الله بين الحين والحين! وأن يُرْسِل نظرات ناقدة في جوانب نفسه ليتعرف على عيوبها وأخطائها، ويرسم السياسات القصيرة والعاجلة للتخلص من الأخطاء والخطايا! يا أيها الإخوة في الله: في كل بضعة أيام ينظر أحدنا إلى مكتبه، ويعيد ترتيب أوراقه، فيقضي على الفوضى التي حلت على المكتب من قصاصات متناثرة، وسِجِلات مبعثرة، وأوراق أدت غرضها، ويقوم بترتيب كل شيء، ويضع كل شيء في وضعه الصحيح؛ فالمعاملات القابلة للحفظ تُحْفَظ، والمعاملات اللازم تحويلها تُحَوَّل، والأوراق التي لا غرض لها تُمَزَّق وتُهْمَل.
وفي البيت تصبح الغرف والحجرات غير مرتبة ومتناثرة، فإذا بأيدي الإصلاح تتدخل من الزوجة أو الخادمة وتجول هنا وهناك، وتنظف الأثاث المُغْبَر، وتطرد القمامة الزائدة، وتعيد كل شيء إلى مكانه ونظامه.
بل ثوبك الذي على جلدك تراجعه كل ثلاثة أيام؛ لتزيل ما عَلِق به من أوساخ وأقذار، ولتلبس ثوباً جديداً تستطيع أن تعيش به بين الناس.
أيها الإخوة في الله: ألا تستحق حياة الإنسان منا مثل هذا الجهد؟! ألا تستحق نفسك أن تتعهدها بين الحين والحين؛ لترى ما لحق بها من اضطراب فتزيله، وما تعرضت له من إثم فتنفيه، مثلما تنفي القمامة من ساحات منزلك وبيتك؟! ألا تستحق النفس أيها الإخوة! -بعد كل مرحلة تقطعها من مراحل الحياة- أن نعيد النظر فيما أصابها من غُنْم أو خسارة، وأن نرجع إليها، وأن نعيد إليها توازنها، وأن نعيد بناءها وترتيبها.
فالنفس تحتاج إلى توازن مثل السيارة؛ فالسيارة تمشي في الطرق المعبَّدة والعادية سليمة؛ لكن إذا مشيت بها على مَطَبٍّ فإنها تَرتجُّ، وبالتالي تحتاج إلى ميزان، فتذهب بها إلى الجهاز من أجل أن توزن عجلات السيارة.
أنت الآن تعيش وتقع في مطبات، ونفسك ترتج بالأزمات، وتهتز بالفتن والمشكلات، وهي في عراك دائب على ظهر هذه الحياة.(18/2)
إجراء الإصلاحات ومعالجة العلل والآفات
إن الإنسان -أيها الإخوة والله الذي لا إله إلا هو- لَهُو أحوج ما يكون إلى التنقيب والتفتيش في أرجاء نفسه، وتَعَهُّد حياته، وإجراء الصيانات لها من العلل والأمراض والآفات.
ما السبب؟! السبب أن الإنسان قلَّما يبقى متماسكاً، فلا بد له من تثبيت، السيارة التي تمشي دائماً في المطبات تتخلخل وتتحلل مساميرها (وصواميلها) وتحتاج منك أن تجري لها بين فترة وأخرى إعادة تثبيت وتوازن وفحص دوري لتَفَقُّد أجزائها، ونحن واقعيون مع سياراتنا، فلا يمكنك أن تجدد الاستمارة حتى تفحص السيارة.
لكن هل فحصنا قلوبنا؟! هل فحصنا جوارحنا؟! هل أعدنا التدقيق مع أنفسنا؟! نفحص أجسادنا، ونجري فحصاً كاملاً للجسم: فحصٌ للعينين؛ وهل هي سليمة! فحصٌ للرئتين؛ ومدى قوة التهوية فيهما! فحصٌ للكبد.
فحصٌ للأمعاء.
لكن القلوب التي في الصدور لم نجرِ لها فحصاً! إن حِدَّة الاحتكاك، وضغط الشبهات، وضروب الشهوات تؤثر في النفس، فإذا غفل الإنسان عن نفسه، وترك عوامل الهدم تنال منها، فسوف تقضي عليه لا محالة، وينفرط عليه أمره، ويكون شأنه كمن قال الله فيه: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] فكثير من الناس الآن أمره فُرُطٌ؛ لماذا؟! لأنه غافل عن الله، والله يقول قبل هذا: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] ينفرط عليه دينه فلا يجمعه، يضيع صلاته، يضيع عقيدته، يضيع الزكاة، وإذا قلت له: الصلاة! قال: يا شيخ، نحن مشغولون! - الزكاة! - يا رجل -الله يهديك- أنت ما زلت تريد زكاةً، الناس عندهم (مليارات)، ونحن ماذا عندنا؟ نحن ليس معنا شيء! - والحج! يقول: الحج زحمة، وحَرٌّ هذه السنة.
- والعمرة! يقول: العمرة، نحن قد أدينا، العمرة تكفي مرة.
- والصوم! - الله المستعان! - ويذهب ليصوم في (كازابلانكا)، أو في (تايلاند)، ويحج، ويأتي بعمرة! لا إله إلا الله! فهذا مفرط! اليوم وأنا في الفندق نائم ضرب الجرس عليَّ شخص، وأنا في ساعة استغراق النوم، الساعة الثالثة، وهو أحسن وقت، وإذا بالهاتف يدق، قال: ألوه.
قلت: نعم.
قال: طائرة (بومباي) متى تقلع؟ قلت: من تريد أنت؟! قال: الخطوط السعودية؟! قلت: لا يا رجل، أنا في الفندق، أين تريد أنت؟! قال: أريد (بومباي).
قلت: لماذا؟! ماذا في (بومباي)؟! تريد عمرة؟! تحج؟! قال: لا.
فقط نوسِّع الخاطر.
قلت: والله تضيِّق الخاطر أيها الأخ! والله يضِيْق فكرك وبالك بمعصية الله، وغضب الله وسخطه، هناك ذنوبٌ وآثامٌ حماك الله منها، وتحجز بالطائرة من أجل أن تذهب لتتمتع وتراها وتوسِّع البال.
الله أكبر! كيف يتَّسع فكر مسلمي هذا الزمان بمعصية الله؟! إن القلوب تنعكس، والنفوس تنقلب حين ترى أن معصية الله توسيعٌ للبال! إنا لله وإنا إليه راجعون!(18/3)
فرح الله بتوبة عبده
يا أخي المسلم: يا أخي في الله! وقفةٌ مع النفس مع بداية هذا العام الجديد، وقفةٌ صادقة جادة تصحح المسار، وتزيل الأخطاء، وترجع إلى الطريق الصحيح، فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ولا تعتذر يا أخي بكثرة خطاياك، فلو كانت كزبد البحر ما بالى الله بها، إذا اتجهت إليه قصداً، وإذا انطلقت إليه ركضاً، إن الخطأ القديم لا يجوز أن يكون عائقاً أمام التوبة الصادقة، يقول ربنا عز وجل -وهو يخاطب أصحاب الأخطاء الكبيرة، المسرفين على أنفسهم، يقول فيهم ويدعوهم بدعاء وبنداء العبودية ويتحبب لهم- في سورة الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر:53] أسرفوا على أنفسهم بالذنوب والخطايا.
{لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] إذاً: ماذا نعمل؟ قال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:54 - 55] ما هو العذاب الذي يأتيك بغتة إذا كنت عاصياً؟ إنه الموت، هل يرسل الموت إنذارات قبل أن يأتي؟! لا.
بل يركب الرجل منا سيارته ولا ينزلونه منها إلا ميتاً.
ويلبس ثوبه ولا يَخْلَعُ ثوبه هو، بل يُقَطَّع ثوبُه من عند أزراره، إي نعم هذا معناه: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى} [الزمر:56 - 59] اسمعوا هنا! بلى للإضراب، بلى أنت كذاب أيها العبد: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:59] لا تكن المعاصي عائقةً، فتقول: والله، أنا كثير الذنوب.
فإذا كنتَ كثير الذنوب؟! إذاً: فالله كثير المغفرة.
تقول: ذنوبي عظيمة؟! فالله مغفرته أعظم من ذنوبك، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم لقيت الله مستغفراً غفر الله لك، لو كانت ذنوبك كزبد البحر، أو كعدد الرمل، أو كعدد قطر السماء، فرحمة الله أوسع: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] فقط حوِّل (الموجة)، هذا الذي نريده منك، الماضي هذا كله يغفره الله لك، بتبعاته ومسئولياته وما فيه من أخطاء، كلها يبدلها الله لك حسنات، فهل يوجد أعظم من هذا يا أخي؟! أي فضل أعظم من هذا! إذا غفر الله لك فهذه كرامة؛ لكن كونه يغفر لك وتكون عليك (مليون) سيئة، فيحولها الله لك (مليونَي) حسنة، فهذا فضلٌ لا يضيعه إلا خاسر لا خير فيه، والعياذ بالله.
وأيضاً: مع أن الله يغفر لك يفرح بك! ففي الحديث الذي في صحيح البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: (لَلَّهُ أشد فَرَحاً بتوبة عبده من رجل كان في فلاة -مسافر- ومعه راحلته، وعليها زاده وماؤه، فضلت عنه، وبحث عنها فلم يجدها، فلما يئس منها استسلم للموت، وأتى إلى تحت شجرة، وانطرح تحتها ينتظر الموت -انتهى! ليس من وسيلة للنجاة! - وبينما هو نائم ينتظر الموت إذا بناقته تعود وتقف بين يديه، فلما فتح عينيه وجدها -ما معنى هذا؟! معناه أنه وجد الحياة- قام فَرِحاً وقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك)، لم يعرف أن يتكلم؛ لأنه كان موقناً بالموت والهلاك، والآن أعاد الله له وسائل الحياة، فأخطأ من شدة الفرح.
فاللهُ يا أخي يفرح بتوبتك أعظم من فرحة هذا الرجل بعودة ناقته! أفلا تُفْرِح ربك؟! ألا تريد أن يفرح ربك بك يا أخي؟! تريد الشيطانَ عدوك أن يفرح بك، لتكون عبداً وحماراً له، يركب على ظهرك ورقبتك، ويسوقك إلى جهنم، ثم يقذفك فيها، ثم يتخلى عنك في النار ويقول: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:22] ما أخذتك بكتاب ولا بعصا: {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22] * {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22] خزي والله أعظم خزي! أيُّ مجد وأيُّ عَظَمَة أعظم من أن يفرح بك ربُّك، ويكرمك ويحفظك في الدنيا، ثم يدخلك الجنة في الآخرة؟ أخي في الله: ألا يُبْهِرك هذا الترحيب، وهذه الفرحة من ربك؟! أترى سروراً أو فرحةً تعدِل هذه البهجة الخالصة من الله عز وجل؟!(18/4)
متطلبات العودة إلى الله
يا أخي في الله: إن تصحيح وضعك بعد إجراء المحاسبة، هو تجديد لحياتك، ونقلة حضارية حاسمة لتغير معالم نفسك، وذلك لا يعني أن تدخل أعمالاً صالحة وسط جملة ضخمة من العادات القبيحة، والتصرفات والأخلاق السيئة، فهذا خلط وتغشيش لا يصلح.
إن العودة تتطلب منك أن تعيد ترتيب حياتك كلها، وأن تستأنف مع ربك علاقةً كاملة أفضل، وعملاً أكمل، وعهداً، وعقيدةً، وهو يدعوك سبحانه وتعالى إلى هذا في سيد الاستغفار؛ ففي صحيح البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلك على سيد الاستغفار؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: قل: اللهم أنت ربي وأنا عبدك، خلقتَني وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بك من شر ما صنعتُ، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
إن العودة إلى الله تقتضي أن تعيد تنظيم حياتك كلها، وتُجْري تغييراً كاملاً: تغييراً للشريط الذي كنت تسمعه! وتغييراً للمجلة التي كنت تشتريها! وتغييراً لطريقة النوم! وتغييراً لوقت النوم! وتغييراً لوقت الاستيقاظ! وتغييراًَ للزملاء والأصدقاء! وتغييراً لمواعيد الدوام؛ كنتَ تأتي الساعة التاسعة؛ لكن عندما التزمتَ لا تأتي السابعة والنصف إلا وأنت على المكتب؛ لأنك تريد أن تأكل حلالاً! وتغييراً لأسلوب العمل؛ كنتَ تدخل وأنت تنفخ، وتصيح على الموظفين والمراجعين؛ لكن لما التزمتَ أصبحت تدخل مبتسماً؛ لأن تبسمك في وجه أخيك صدقة، ولأنك لا تحقر من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق.
وتغييراً في أسلوب أدائك لعملك؛ كنت من قبل تتنصل عن المعاملات، وتمشِّي الأوراق، وتزيحها، وتمرِّرها، يعني: فقط تتخلص، لكن لَمَّا صرتَ ملتزماً ومسلماً لا تنهي معاملة إلا بعد ضبطها (100 %)، تبحثها من أول ورقة إلى آخر ورقة، لماذا؟! لأنك تغيرت تغيراً كاملاًَ! وتغييراً لعينيك؛ إلى أين كانت تنظر؟! وتغييراً لأذنيك؛ ماذا كانت تسمع؟! وتغييراً للسانك؛ بِمَ كان يَهْرِف ولا يعرف؟! وتغييراً لبطنك؛ ماذا كان يأكل؟! وتغييراً لفرجك؛ أين كان يقع؟! وتغييراً ليديك! وتغييراً لقلبك! وتغييراً لكل شيء في حياتك! لماذا؟ لأنك راجعتَ نفسك، وجدَّدتَ حياتك.(18/5)
أهمية المحاسبة ومعرفة الربح والخسارة
أيها الإخوة: إننا واقعيون مع كل شيء في حياتنا إلا مع أنفسنا، فما من عمل إلا وله حساب يتقنه، ويعرف مدخله ومخرجه، وربحه وخسارته، بدءاًَ بالفرد، ومروراً بالمؤسسة والإدارة والوزارة، وانتهاءً بالدولة؛ هناك ميزانيات سنوية، وسنة مالية، يعرف فيها كل إنسان مركزه المالي، وربحه وخسارته.
وكذلك لا بد من سنة مالية إيمانية لك أيها الأخ، تعرف فيها خسارتك وربحك مع الله عز وجل.
وموضوع المحاضرة هو: ميزانية نهاية العام، سوف نضع الآن ميزانية للمدخلات والمخرجات، للأرباح والخسائر، للمعاصي والطاعات؛ لنعرف مركزنا الإيماني: أين نحن من الله؟! أنحن من أهل البر؟! أم نحن من أهل الإثم؟! أنحن من أهل الجنة؟! أم من أهل النار؟! هل فكر أحدنا أن يمسك قلماً ودفتراً، ويسجل فيه ما يفعله، ويعرف بين الحين والآخر رصيده من الخير والشر، لو أننا نخبط في هذه الدنيا خبط عشواء، ونتصرف دون معقِّبٍ أو محاسِبٍ أو رقيب، لجاز لنا أن نبعثر حياتنا كما يبعثر السفيه ماله؛ ولكن كيف نبعثر أيامنا! وكيف نضيع شهورنا وأعوامنا! والله قد حفظ ودوَّن علينا مثاقيل الذر، وأعد قوائم الحساب الطويل؟! يقول الله عز وجل: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].
ويقول عز وجل: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] كل شيء أنت تعمله تكتبه الملائكة، أنت تُملي وهي تكتب، وكل يوم يكتمل تكتمل معه صفحته، فإذا اكتملت السنة اكتمل السِّجِل، وإذا اكتمل العمر حوِّل إلى الآخرة بسِجِلَّاته، فتأتي فتحملها، قال الله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:31] ترد على الآخرة ومعك سجلاتك، إما بيضاء فيبيِّض الله وجهك، أو سوداء فيسوِّد الله وجه البعيد والعياذ بالله.
يقول ربنا عز وجل: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً * مَنِ اهْتَدَى} [الإسراء:13 - 15] الهداية لِمَنْ؟ {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ} [الإسراء:15] عندما تضل هل ستضل الناس؟! لا.
بل تضل نفسك {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15].
أليس الأجدر بنا والأولى أن نستكشف نحن هذا الإحصاء والحساب؟! إذا كان عندك رصيد في أي بنك أو في أي مكان، فإنك في كل يومين أو ثلاثة أيام تقول: أعطوني كشف الحساب لماذا؟! لأعرف كم ذَهَبَ! وكم بَقِي! حسناً، وكشف حسابك مع الله: ألا تريد أن تعرف كم ذَهَبَ، وكم بَقِي؟! ألا تريد أن تعرف كم ربحك، وكم خسارتك؟! تريد أن تعيش هكذا ضائعاً، حتى تفاجأ وإذا بالأرصدة كلها ديون على ظهرك! مَن أكل ولم يدرِ افتقر وهو لا يدري، نحن نُجْري موازنة على شكل مبسط في بيوتنا، كل واحد منا يعمل موازنة شهرية، في يوميْ (28) و (29) ينظر فيهما كم بقي من الراتب، فإذا كان الذي بقي (20) أو (30)، أو (100) فإنها تكفيك حتى آخر اليوم.
ولكن ما هي المشروعات المستقبلية في الشهر الآتي؟! كم تصرف؟ الراتب (4000) ريال: (1000) ريال تصرفه.
و (1000) ريال لقسط السيارة.
و (1000) ريال لقسط الأرضية.
و (1000) ريال توفره.
هذه المحاسبة تشبه هذه الميزانية؛ لكن بشكل مبسط.
إن الأجدر بنا أن نستكشف نحن حساباتنا، وأن نحصي على أنفسنا الذي يخصنا وحدنا، أما ينبغي أن تكون -يا أخي- على بصيرة بمقدار وحقيقة ما تفعل من خطأٍِ أو صواب؟!(18/6)
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا
أيها الإخوة في الله: إن الانطلاق في هذه الحياة دون اكتراث، والاكتفاء ببعض الأعمال الباردة لهو نذيرُ هلاكٍ وعلامةُ خسارة.
وإن إهمال النفس، وعدم محاسبتها، والاستغراق في شهواتها، والانغماس في ملذات الحياة، والمنافسة على الحطام الفاني دليلٌ على ضعف الإيمان أو على انعدامه.
فمحاسبةُ النفس ضرورة تتمشى مع طبيعة هذا الدين، يقول عز وجل وهو ينادي أهل الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] ما معنى هذه الآية؟ يعني: محاسبة {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] حتى لا تقول: أنا والله لم أعلم يا ربِّ، لا.
بل اتقِ الله، فالله يعلم ماذا تعمل.
ثم يحذرك ويقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} [الحشر:19] هؤلاء هم الضائعون، نسوا الله، فماذا حصل؟! {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] يعني: ما حاسبوا أنفسهم {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19].
ثم بين الله أن هؤلاء لا يستوون مع هؤلاء، فقال عز وجل: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر:20] مَن هم أصحاب الجنة؟! هم الذين حاسبوا أنفسهم، مَن هم أصحاب النار؟! هم الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20] بِمَ فازوا أيها الإخوة؟! بالمحاسبة.
ويروي الترمذي حديثاً في السنن وهو حسن، قال عليه الصلاة والسلام: (الكيِّس -يعني: الفطن، اللبيب، العاقل، الأريب- من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت -هذا هو الكيِّس- والعاجز مَن أتبع نفسَه هواها، وتمنى على الله الأماني).
وهناك أثر لـ عمر يقول فيه: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على ربكم، وإن قوماً حاسبوا أنفسهم في الدنيا فسَهُل عليهم الحساب يوم القيامة، وإن قوماً أهملوا الحساب في الدنيا فشَقَّ عليهم الحساب يوم القيامة].
والذي يحاسب نفسه الآن في أنظمة المرور، فيراجع دائماً رخصة القيادة ومتى تنتهي، ويراجع رخصة (الاستمارة) ومتى تنتهي، فيجددها، ويراجع علامة (الفحص) الدوري ومتى تنتهي، فيجددها، هذا عندما يمر في الشارع ويجد نقطة مرور وفي هذه اللحظة تقوم بالتفتيش على السيارات، فبمجرد أن ينظر المرور في الرخصة وإذا بها مجدَّدة، والاستمارة مجدَّدة، (والفحص) جديد، ما رأيكم في هذا؟! هل هو مستريح أم غير مستريح، فعندما يرى الناس كلهم واقفين، يمضي ورأسه مرفوع في السماء، فلا يخاف من شيء، وإذا وقف عند العسكري: - أين الرخصة؟ - خذ.
- أين (الاستمارة)؟ - تفضل.
- عجيب! أين الفحص؟ - انظر، أما تراه أنت؟! - يتكلم ورأسه في السماء.
- لماذا؟! - لأنه حاسب نفسه قبل أن يأتي إلى هذا المكان.
- فماذا يفعل به العسكري؟! - غصباً عنه يقول: تفضل.
- لماذا؟ - لأنه محاسبٌ لنفسه، ماضٍ في الخط.
لكن ما ظنكم بشخص رخصته انتهت منذ ثلاث سنوات، (والاستمارة) من يوم أن أخذها لم يجددها، (والفحص) الدوري ما زال على ذلك اللون الأصفر من الـ (1408هـ)، قد جاء (1409هـ)، و (1410هـ)، و (1411هـ)، وهو ما زال في (1408هـ)؟! ما رأيكم؟! وعندما مرَّ في الخط السريع، وإذا بنقطة المرور تقف هناك، فنظر وقال: أوه! ضرب الفأس في الرأس.
بعضهم يقف جانباً وينزل ويذهب ويقول: سأقعد إلى ما بعد العشاء ثم آتي لآخذ السيارة؛ لكن أفراد المرور أذكياء يضعون له قيوداً يقيدون بها سيارته، وإذا رجع إليها فإذا بها مقيدة، فلا يأخذها إلا بأمرهم.
وبعضهم يحول ويرجع إلى ورائه كيْلْوَيْن أو ثلاثة من أجل أن يبحث له عن مخرج يخرج منه؛ لكن أفراد المرور أذكياء، لا يقفون عند المكان الذي فيه مخرج، بل يقفون عند مخنق، حتى لا يستطيع أحد أن يفر من عندهم.
وبعضهم يقول: والله ورطة؛ لكن الله يخلصنا، لعلنا نخرج من هذا المأزق، بأن يتركنا رجل المرور هذه المرة ويكون طيباً، ويواصل، فإذا وصل عند العسكري ترى السائق وجهه صغيراً، وصوته خافتاً: - أين الرخصة؟! - حاضر.
لا يريد أن يخرجها، يريد أن يلهيه قليلاً حتى يقول العسكري: خلفك أناس، هيا اذهب فقط، وفي المرة الأخرى حضِّرها وأخرجها بسرعة، عندما ترى النقطة حضِّر الرخصة.
ولكن العسكري يقول له: لِمَ لَمْ تحضِّرها؟! ألا تعرف أنا نطالب الناس بالرخص؟! فيقول: دعني أَنْظُر.
فيبحث في جيبه فلا يجدها، فيفتح الدرج فلا يراها: يا أخي! أقول لك شيئاً؟! فيقول العسكري: قف جانباً، قف جانباً، دع غيرك يمشي، ما دام أنه لا رخصة معك فقف جانباً.
ثم يُضْطَرُّ إلى أن يُخْرِجَ الرخصةَ؛ لأن عدم وجود الرخصة مصيبة ثانية، فالذي ليس معه رخصة مصيبته أعظم من الذي معه رخصة ليست مجدَّدة، ثم يأتي بها إليه، ويقول له: والله أنا آسف يا شيخ، المعذرة، والله لم أستطع أن أجدد الرخصة، كان عندي ظروف.
لماذا إذاً تهين نفسك؟! لماذا تذل نفسك؟! لماذا لم تجدد رخصتك وتجعل رأسك في السماء؟! أيها الإخوة! هذا في الدنيا.
فكيف بمن لا يراجع نفسه، ويأتي يوم القيامة وليس عنده رخصة سير إلى الله! بل كان يسير إلى النار، وليس عنده (استمارة) توصله إلى الجنة، وليس عنده بطاقة (فحص) دوري لقلبه وإيمانه؟! يأتي عند الزبانية فلا يقف ربع ساعة ولا نصف ساعة، بل {غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] يقول:
عِشْ ما بدا لك جاهداً في ظل شاهقةِ القصورِ
يُغْدَى عليك بما اشتهيتَ لدى الرواحِ إلى البكورِ
فإذا النفوس تَقَعْقَعَتْ في ضيق حشرجة الصدورِ
فهناك تعلم موقناً ما أنت إلا في غرورِ
إذا بلغت الروح وحَشْرَجَتْ ونَشِبَتْ، فهناك يعرف الإنسان أن هذه الدنيا كلها غرور ومكر وخداع ويقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة:25] * {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:26].(18/7)
تعويد النفس على فعل الخير وإبعادها عن المؤثرات التي تصرفها عنه
أيها الإخوة: إن ترويض النفس على الخير وفطامها عن الضلال، يحتاج إلى طول رقابة ومحاسبة، وإن إقامة دار جديدة على أنقاض دار خربة، لا يتم إلا بصعوبة بالغة وجهد جهيد، فكيف ببناء نفس؟! أترون ذلك يتم بالغفلة والإهمال والمكر؟! كلا والله، لا بد من الحساب الدقيق، والمقارنة، والإحصاء، واليقظة.
إن علاج الأمور بمغالطة النفس، وتغطية العيوب، وتلميع النفس، والتطبيل لها، وتزيين المظاهر لها، لا جدوى منه ولا خير فيه، وكُلُّ ما يحرزه الإنسان من هذا العلاج، هو رواج كاذب لن يغير من الحقيقة شيئاً.
إن الإنسان يتجاوب مع المؤثرات التي تحيط به من الخير والشر، كما يتجاوب جهاز الاستقبال في المذياع مع الموجات التي تملأ الجو، كل شخص يتأثر، هناك موجات ومؤثرات عليك، خير وشر وقلبك يتأثر بالخير كما يتأثر بالشر، إذا جلست في مجلس علم فإنه يحيي قلبك، وإذا جلست في مجلس لغو ولهو وغيبة ونميمة وطرب ولعنة -والعياذ بالله- يتأثر قلبك، مثل المذياع، فالجو مملوء كله بالموجات، وأنت تختار الإذاعة التي تريدها، تريد إذاعة القرآن، هذا حسن! تريد صوت أمريكا! من الممكن أن تلقاها، وهكذا.
إن الإنسان يتأثر، وبحسب وضع قلبك وضبطه على جهة الاستقبال، تكون طبيعة الإذاعة التي تصدر عنك يا أخي في الله.
كذلك الإنسان إذا حاسب نفسه، وضبط المعايير، فيضبط عينَيه، لا يتركهما مفتوحتين على كل شيء، بل يضبطهما: يا عين! لا تنظري إلا الحق، ويا أذُن! لا تسمعي إلا الحق، ويا لسان! لا تتكلم إلا بالحق.
أما أن يفتح عينَيه على الحق والباطل، وأذُنَيه على الحق والباطل، ولسانه في الحق والباطل، وبطنه في الخير والشر، فمعنى هذا أنه مطلق، ليس عنده مسارات ولا قيود، ولا نظام محاسبة، ثم إن هذا المطلق، لا بد له من قبضة، يقول الله تبارك وتعالى: {كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة:11 - 12] مَن يفلته مِن قبضة الله؟! مَن يمنعه مِن أن يناديه الله؟! الله يقدر عليه ولا يمنعه مِن الله مانع، والله يمنعه فلا يقدر عليه أحد إذا منعه تبارك وتعالى.(18/8)
حالات ضبط النفس وإهمالها
إن ضبط مسارات النفس -أيها الأخ في الله- إذا حاسبتها فإنها تطيب، وإذا أهملتها فإنها تخبث.
ففي الحالة الأولى: يحيا الإنسان في جو من الخير، فينحسر دونه، وتنحسر وتمتنع موجات الإثم والعصيان، وهو ما أشار الله إليه عز وجل بقوله في القرآن عن الشيطان: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:99] فليس للشيطان سلطان عليك.
لماذا؟! لأنك حددتَ اتجاهاتك، ضبطت موجات الاستقبال عندك، قال: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:99] فعلى مَن سلطانُه؟! قال: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ} [النحل:100] مَنْ هُمْ؟! {يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل:100] ضبطوا الموجات على استقبال الشيطان؛ الأغاني تضرب في أذن أحدهم كل يوم، ويريد من الله أن يهديه، والنظر المحرم كذلك، كل يوم يذهب إلى الأسواق والمعارض فينظر بعينيه في محارم المسلمين كالكلب، ويريد أن تأتيه الهداية، وبطنه مملوء بالربا والحرام والرشوة، ولسانه لا يكف عن الكلام طوال اليوم، في اللعن والسب والشتم والغيبة والنميمة! قال عز وجل: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل:100] تولوا الشيطان، {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:100].
وفي الحالة الثانية: الذي لا يستجيب لدواعي الإيمان ويستجيب لدواعي الشيطان ماذا يحصل له؟! تؤزُّه الشياطين.
لماذا؟ لأنه أصبح مَركباً لها، يقول الله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [مريم:83] ماذا تصنع بهم؟! {تَؤُزُّهُمْ أَزّاً * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:83 - 84] هم يغفلون والله لا يغفل، هم لا يحسبون والله يحسب: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ} [المجادلة:6] وماذا؟! {وَنَسُوهُ} [المجادلة:6]، إذا نسيتَ فإن الله لم ينس، وإذا غفلت فإن الله لم يغفل، وإذا لم تحسب فإن الله يحسب عليك، أنت لست مغفولاً عنك، فإذا غفلتَ سلط الله عليك الشياطين، وأرسلها: {تَؤُزُّهُمْ} [مريم:83] قال العلماء: تؤزُّهم: تدفعهم إلى المعاصي، تدعوهم إلى المعاصي، تصدهم عن الهداية.
لماذا؟! لأنهم أصبحوا حميراً للشيطان، أصبحوا مَراكب لإبليس.
والعياذ بالله! وقد طلب الله من عباده أن يتحصَّنوا من الداخل ضد كيد الشيطان باليقظة أولاً، وصدق التوجه، والاستعاذة، واللجوء إلى الله؛ للاحتماء بقوته، والاستجارة بعزته؛ ولكن لا بد مع الاستعاذة من عمل، فإذا قال الطالب في آخر الامتحان: أعوذ بالله من السقوط في الامتحان، فلا يغنيه هذا إلا إذا أقبل على دروسه، فيقبل على الدروس ويذاكر ويقول: أعوذ بالله من السقوط، أما أن ينام ويلعب طوال العام ويقول: أعوذ بالله من السقوط فإنه يسقط غصباً عنه.
وإذا قال التاجر: أعوذ بالله من الخسارة، فلا يُقْبَل منه ذلك حتى يعرف رأس ماله، وأرباحه، وخسائره، وإلا خسر.
فحين تستقر الحقائق الإيمانية في قلب المؤمن، ييئس الشيطان ويندحر، ولا يتمكن منك أيها المسلم؛ لأنك قوي.
انظر يا أخي إلى الرياح العاصفة، إذا هبت على الصحراء أثارت غبارها، وإذا مرت على المياه حركت لُجَجها؛ ولكن هذه الرياح العاتية، حينما تتناوش مع قمم الجبال الشمّاء، لا تنال منها منالاً، الريح العاصفة إذا جاءت في الصحراء تُحْدِث زوبعة، وتأخذ الرمال وترفعها إلى السماء، وإذا جاءت على البحر تُحَرِّك الأمواج؛ ولكن إذا جاءت إلى الجبال ماذا تفعل بها؟! هل تحرك الجبال؟! أبداً.
الريح تعرض والجبل ثابت.
كذلك أنت يوم أن تكون جبلاً من جبال الإيمان، إذا مرت بك رياح المعاصي، وعواصف الشهوات؛ لا تكن سهلاً فتعصف بك، ولا تكن ماءً فتحركك، فكن جبلاً من جبال الإيمان والعقيدة، تمر بك العواصف فتتبخر وأنت ثابت، لا تنال منك منالاً لأن رأسك في السماء، وقمتك سامقة:
سأعيش رغم الداءِ والأعداءِ كالنسر فوق الهمة القعساءِ
ويقول الناظم:
ومن يتهيَّب صعود الجبالِ يعش أبد الدهر بين الحُفَرْ
الذي يتهيَّب صعود جبال الإيمان يعيش في حُفَر ومستنقعات المعاصي، في حفرة الغناء، والزنا، والربا، والمنكرات، ومن عاش في الحُفَر سُلِّطت عليه الأقذار والأوبئة.
(فالبيارة) تحفر في الوادي ليس في رأس الجبل، هل رأيت شخصاً يحفر (بيارته) في رأس الجبل؟! وكذلك الشيطان لا يحفر (بياراته) في قمم جبال أهل الإيمان، وإنما يحفرها في صدور أهل الفسق والنفاق والعياذ بالله.
فالإنسان حينما يكون أمره فرطاً، وحياته غفلة، وأيامه لاهية، فإن الشيطان يستولي عليه، ويتحكم فيه، أما يوم أن يحزم أمره، وينظم شئونه، ويحاسب نفسه، فهيهات أن تنال منه الشياطين شيئاً.(18/9)
مواطن محاسبة النفس
إن ميادين وأبواب محاسبة النفس ثلاثة: فأبواب (الميزانيات) عندنا أربعة أبواب: بابٌ أول، وبابٌ ثانٍ، وبابٌ ثالثٌ، وبابٌ رابعٌ؛ هذه أبواب الميزانية.
كذلك أبواب ميزانية حساب النفس ثلاثة أبواب: الباب الأول: حساب رأس المال.
الباب الثاني: حساب الأرباح.
الباب الثالث: حساب الخسائر.
وأعتقد والله -إن شاء الله- ولا أَتَأَلَّى على الله، أعتقد جازماً أن وقفة صادقة منك أيها المسلم تقضيها مع نفسك لهي جديرة بأن تكشف لك الحسابات، وإذا عرفت مركزك الإيماني فبعدها مباشرة تصحح وضعك، فإذا عرفت أن مركزك المالي في المؤسسة أنه خاسر، فمباشرة تصحح الوضع، فتطوي قيد بعض العمالة، تخفض المصروفات، تحاول أن تزيد الدخل، تعمل لك أنشطة أخرى جانبية مساعدة؛ لكن عندما لا تحاسب فإنك لا تدري بنفسك إلا وأنت مديون بعشرة ملايين، فيقال: خذوه إلى السجن.
وكذلك الذي يتعامل مع الله، إذا لم يحاسب نفسه فإنه لا يعلم بها إلا عند الموت، وإذا به مديون بالسيئات، فيقال: إلى السجن؛ والسجن هو النار.
يا أخي: بمناسبة انصرام عام من أعمارنا وهو عام: (1410هـ)، فإننا نطلب من المكلفين أن يقفوا مع أنفسهم وقفات للمحاسبة والمراجعة؛ لمعرفة وضعهم الإيماني، فيحاسبوا أنفسهم على: رأس المال، والأرباح، والخسائر.
وهذه الميادين الثلاثة سوف أذكرها على سبيل الإيجاز:(18/10)
رأس المال وكيفية المحافظة عليه
إن رأس مالك -يا أخي في الله- هو الفرائض فلا تضيعه.
وأهمه: توحيدك، وعقيدتك، فحاسب نفسك وراجعها:- هل عقيدتك صافية؟! هل توحيدك خالص؟! هل تصرف نوعاً من أنواع العبادة لغير الله؟ هل تدعو غير الله؟! لأن الدعاء مخ العبادة، والذي يدعو غير الله يشرك بالله! هل تذبح لغير الله؟! هل تنذر لغير الله؟! هل ترجو غير الله؟! هل تخشى غير الله؟! هل تخاف من غير الله؟! هل تتوكل على غير الله؟! هل تستغيث بغير الله؟! هذه هي أنواع العبادة؛ توحيد الألوهية.
راجع نفسك: هل تقسم بغير الله كما يصنع بعض الجهلة، إذا جاءه ضيف لا يقسم بالله ولكن يحلف بالطلاق؛ لأنه يرى أن القسم بالله سهل، وأن الناس سيسبونه، وإذا ذهبوا قالوا: فلان والله دعانا إلى وليمة سهلة.
عجيب! الذي يطلق إنسان كريم، والذي يحلف بالله سهل! بعضهم يطلق وليس عنده امرأة، يتدرب، حتى لا تأتيه المرأة إلا وقد صار عارفاً برأس ماله، وبعضهم يطلق وامرأته ليست غالية عنده؛ فيقولون: لا تحرمونه من زوجته، طَلَّقَ يا جماعة! لكن إذا قال لهم: والله لا تذهبوا حتى تأكلوا ذبيحتكم.
قالوا: لا.
نحن مشغولون، آسفون.
يقسم لهم بالله، فلا يقدِّرونه، ويقسم لهم بالطلاق فيقدِّرُونه.
هذا من الشرك بالله، ومن تعظيم غير الله عز وجل؛ لأن الحلف بالله تعظيم، والحلف بغير الله تعظيم لغير الله، فمن كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله، ومن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك.
هل تدعو غير الله كما يصنع بعض الناس، هناك من يدعو غير الله في بعض البلاد الإسلامية، فيدعون قبوراً عليها القباب، يطاف بها كما يطاف بالكعبة، وتقدم لها النذور، ويُطلب منها ما لا يُطلب إلا من الله؛ يُطلب من صاحب القبر أن يزوج البنت، وأن يشفي المريض، وأن يكشف البلوى، ويقول الشخص لصاحب القبر: يا سيد العارفين، الشكوى على أهل البصيرة عيب، والعارف لا يُعرَّف، يقول: أنت تعرف ماذا في قلبي، والشكوى عليك عيب، أخيرك بالذي في قلبي وأنت تعرفه وذاك ميت مسكين! يقول الله عز وجل: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14].
فلا تدعُ غير الله، ولا تذبح لغير الله، ولا تنذر لغير الله، ولا تذهب إلى كاهن، أو مشعوذ، أو ساحر؛ فإن الذهاب إلى هؤلاء الذين يسمونهم: أصحاب الطب العربي، وهو طب شيطاني وشركي وهو نسف لعقيدتك وتدمير لحياتك: (مَن أتى كاهناً أو عرَّافاً فصدَّقه فقد كفر بما أنزل على محمد) فإذا ابتلاك الله بمرض، أو ابتلى زوجتك، أو ابنتك، فلا تذهب إلى هؤلاء الكهنة، ولا تذهب إلى ساحر لتصرف قلباً عن قلب، أو تعطِّف قلباً على قلب، فإن السحر كفر، والله يقول في القرآن الكريم: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102].
فالذهاب إلى السحرة كفر! بعض الناس يزوج ابنته -مثلاً- ثم يريد أن يطلقها من هذا الرجل، من أجل أن يبيعها بمائة ألف أخرى، ليس معه وظيفة إلا ابنته، هي سلعته، يبيعها كل سنة على شخص، وبعد أن يزوجها على رجل يقول: لا بد أن يطلقها، فيذهب إلى ساحر فيقول: نريدك أن تصرف الرجل عنها، نريده أن يراها مثل الأتان.
فيقول: نعم.
فيعطيه ألف ريال، وانتهى! هؤلاء هم السحرة وهذا كفر والعياذ بالله.
فلا تذهب إلى ساحر، ولا تصرف، فإن هذا سحر والعياذ بالله.
كل هذه أنواع من الشرك الذي يجب أن تحاسب نفسك عليه؛ لتعرف مقدار عقيدتك وتوحيدك مع الله عز وجل.
أيضاً: حاسب نفسك في الصلاة؛ لأنها أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي عمود الدين، وهي الحبل الممدود من السماء إلى الأرض، مَن وصلها وصَلَه الله ومَن قَطَعها قطعه الله.
حاسب نفسك على الصلاة: أين أنت من الصلاة؟! هل تؤديها؟! وهل تؤديها بكامل الطهارة؟! وهل تؤديها بكامل الخضوع والخشوع وحضور القلب في الصلاة؟! وهل تؤديها مع جماعة المسلمين في المسجد؟! فإن الله لا يقبل الصلاة منك إلا في المسجد إلا مِن عذر، فقد أثنى الله على المؤمنين وقال فيهم: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:36] * {رِجَالٌ} [النور:37] يا سلام! ما أعظم هذا اللقب من الله! سَمَّاهم الله رجالاً، والرجولة هنا لا تعني الذكورة، الواحد مِن الناس إذا كان لا يصلي يقول: أنا رجل.
وهو لا يصلي.
فنقول: لا.
لستَ رجلاً.
فيقول: كيف لستُ رجلاًَ؟! فنقول: أنت ذكر فقط.
حتى الحمار ذكر، والكلب ذكر، والقرد ذكر؛ لكن لست برجل، أنت رجلٌ يوم أن تصلي، فالله يقول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:36] مَن هُم؟! {رِجَالٌ} [النور:37] ما عملهم؟ قال: {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37]، والتعبير بالتجارة؛ لأنها غالب ما يشغل الناس، وإلا فقد ينشغل الإنسان بغيرها، فتلهيه وظيفته، ويلهيه أولاده، وتلهيه شهواته؛ لكن غالب ما يُلهي الناس عن الدين هي التجارة، ثم قال عز وجل: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37].
هذا هو الذي دفعهم إلى المحافظة على الصلاة في المساجد: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43].
لا بد أن تراجع نفسك وتحاسبها: هل أنت تصلي الصلوات الخمس في المسجد؟! إذا كان
الجواب
نعم.
فأنْعِم والحمد لله.
وإذا كان الجواب: لا.
فصحِّح من الآن ومن غد، قل: والله لن أصلي إلا في المسجد، خصوصاً الفجر والعشاء، لماذا؟! لأنها مقياس الإيمان، إذا أردت أن تقيس إيمانك، فابحث عن نفسك في صلاة الفجر.
فإن كنت في أحضان المرأة، أو على الفراش فالله المستعان، خَلَفَ الله عليك في إيمانك، وإن كنت في الروضة وفي الصف الأول فأنعِم وأكرِم، للحديث الذي في صحيح البخاري ومسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً).
حاسب نفسك على الصلاة؛ لأن الصلاة مكيال، مَن وفَّى وُفِّي له، ومَن طَفَّفَ طُفِّف عليه.
حاسب نفسك في الخشوع: لأن الشيطان يمكر بك، يدعك تصلي؛ لكن يسحب قلبك في الصلاة وليس لك من صلاتك إلا ما حَضَر فيها قلبُك، فجاهد شيطانك.
فما الفائدة إذا أبعدت قلبك عن الصلاة؟! تريد أن تتمتع بالدنيا؛ لكن جسدك في المسجد؟! فأنت ملزومٌ ملزوم، وما دام أنك ملزومٌ ملزوم إذاً أحْضِر قلبَك، ثم اخرُج، صلِّ العشاء، كم مدة صلاة العشاء من الدقائق؟! (10) دقائق، أحْضِر قلبك (10) دقائق، ثم وسوس بعدها إلى الفجر، كم معنا من بعد صلاة العشاء إلى الفجر؟! كم ساعة معك؟ ثمان ساعات، هلا وسوسنا فيها؟! لكننا لا نوسوس إلا في العشر الدقائق الخاصة بالصلاة، وبعد الصلاة انتهى، ليس هناك وسواس، ولا هواجس ولا أفكار، وإذا وُضع الطعام أمامنا وبُسطت السفرة من الأرز، واللحم، والإدام، والفاكهة، والخضرة، هل يفكر أحد في غير هذا، هل يأتيك وسواس في العمارة أو في الدراسة وأنت تأكل الأرز؟! لا والله، لن توسوس إلا في الأرز فقط، متر في متر فتوسوس فيه! لماذا؟! لأنك هنا في عمل يحبه الشيطان، أو يرضى عنه أو يبيحه؛ لكن الصلاة أعظم عمل لمحاربة الشيطان؛ ولذا يدخل عليك، ويقسم على باب المسجد ويقول: والله لأخرجنك منها مثلما أدخلتك.
يقول: أنت معاند، الناس أطاعوني وقعدوا يلعبون ويسمرون وأنت أبيت إلا أن تصلي؛ لكن سأريك، أنت عنيد، فيقسم على رأسك وأنت عند الباب: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ:20].
بعض الناس يبر بِقَسَمِ الشيطان فإنه من حين أن يقول: الله أكبر، يسلِّم قلبه للشيطان، ويذهب فيبيع ويشتري ويسافر ويعود ويبني ويهدم ويضرب ويعمل كل شيء أثناء الصلاة، فإذا انتهت الصلاة وسألتَه: ماذا قرأ الإمام في الركعة الأولى.
قال: لا أدري.
- أين أنت يا طويل العمر؟! أين أنت؟! - والله موجود؛ لكني أفكر في الدنيا.
لا إله إلا الله! ما قيمة وجود جسدك في المسجد إذا كان قلبك غير موجود! أحد العلماء يقول وقد سأل شخصاً بعد أن أتم صلاته، قال له: ماذا قرأ الإمام في المغرب في الركعة الأولى؟! قال: لا أدري.
قال: وفي الثانية؟! قال: لا أدري.
قال: لماذا؟! قال: لم أكن موجوداً.
فقال العالم: لو سألنا هذا العمود (الإسمنت): يا عمود، ماذا قرأ الإمام في المغرب؟! تكلم يا عمود! لقال: لا أدري.
العمود يقول: لا أدري، وفعلاً هو لا يدري! حسناً! ما الفرق بين العمودين؟! العمود المتحرك والعمود الثابت؟ العمود الثابت لا يدري، والعمود صاحب الرجلين لا يدري! إذاً: كلاهما لا يدريان؛ لكن الأفضل العمود الثاني؛ لأنه (24) ساعة لم يخرج، وذاك (10) دقائق وما ضبطها، ضيَّع نفسه! فحاسب نفسك في خشوعك في الصلاة؛ لأن الصلاة جسد، والخشوع روح، ولا قيمة للجسد بدون الروح، الآن إذا مات شخص ما(18/11)
ضرورة محاسبة النفس على التقصير في وجوه البر والطاعات
حاسب نفسك على برك لوالديك: هل أمك وأبوك أحياء؟! لاحظ أن والديك عندهما التحويلة إلى الجنة، أقرب طريق إلى الجنة من عند أمك وأبيك، اغتنم فرصة وجودهما، لو مات أبوك أو أمك وهما غضبانان عليك، فإنك تتعذب طوال حياتك، هل تعيدهما من القبور لكي تبرهما؟! هل تبدلهما في المعرض لكي تأخذ أباً أو أماً جديدة فتبرهما أو أحدهما، ليس معك إلا أبوك، وليس معك إلا أمك، فاغتنم فرصة وجودهما في حياتك، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: أنه عليه الصلاة والسلام قال: (رَغِم أنف من أدرك أحد أبويه أو كلاهما فلم يدخلاه الجنة) هذا خاسر لا خير فيه.
صحِّح وضعَك مع والديك، فإنهما جنتك ونارك، وبر الوالدين من أعظم القربات، وعقوقهما من أعظم الكبائر، والله قرن طاعته بطاعتهما فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14].
وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23].
وقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36].
وفي الحديث الصحيح في صحيح البخاري ومسلم عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين).
ومن عقوبات عقوق الوالدين: أن الله يسلط على العاق ولداً يعقه أعظم مما عَقَّ أباه، وكما تدين تدان، فمن بر والديه بره أبناؤه، ومن عق والديه عقه أولادُه، وكما تكيل يكال لك.
حاسب نفسك مع الوالدين، وارجع من الآن، وحاذر ثم حاذر أن تردَّ على أبيك أو أمك! فمن أعظم ما يُغْضِب الوالد والوالدة أن ترد عليهما، بل إذا قالا شيئاً قل: حاضر، ثم إذا قلتَ: حاضر، لا تقل: حاضر بصوت مرتفع، لا.
بل بصوت منخفض، وألبس صوتك بسمة؛ لأن هذا أبوك، والله يقول: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا} [الإسراء:23] ماذا؟! {أُفٍّ} [الإسراء:23] ما هو الأف؟! الأف ليس بكلام، الأُفُّ مظهرُ التضجُّر، أي: إذا قال لك أبوك شيئاً فلا تقل: أُفّ؛ لأن (أف) هذه حرام، كيف يتكلم على أبيه؟! لا إله إلا الله! أحدهم يخبرني بقصة لعامل في منجرة، تكلم على أبيه، فترك المنجرة ودخل على أبيه ليفطر، فقال لأبيه: كذا وكذا.
فتكلم معه أبوه بلطف، وأبوه شائب، وهذا عضلاته مفتولة؛ لأنه عامل يأخذ الأخشاب، ويشتغل في منجرة.
فقام يتكلم على أبيه، ويمد يده إلى عين أبيه، ويقول: أصلك أنت أنت! حتى كاد أن يفقأ عين أبيه، وأبوه يشير يشير إليه خائفاً منه، ماذا يفعل به؟! فيخرج من عنده ويدخل إلى المنجرة، ويأتي بلوح الخشب وهو مغضب، ويسيره على المنشار، فيقطع الله إصبعه.
لماذا؟ لأنها إصبع خبيثة كادت أن تخرج عين الوالد.
فلا تعق والديك، حاسب نفسك على هذا، وصحح الوضع، فأبوك يريد أن تكون قريباً منه ويرجع صالحه لك، فهو يحبك، ويدعو لك، ودعوة أبيك وأمك لك أعظم من الدنيا وما عليها، يوم أن تمشي وأبوك وأمك راضون عنك، وإذا سُئل أحدهما عنك، قال: الله يوفقه، الله ييسر أمره، الله يجعل له من أمره يسراً.
لكن يوم أن يُسأل أبوك عنك، وإذا بك عاق، قال: الله يجعلها نكداً عليه، الله لا يوفقه.
الله أكبر! ما أعظم من هذه يا أخي! فلا تبحث عن حتفك بنفسك.
حاسب نفسك على صلة أرحامك: هل لك أرحام؛ عمات، وخالات، وجدات، وأخوات؟ هؤلاء عليك أن تحاسب نفسك عليهن، هل أنت تصلهن أم قاطع لهن؟ مَن وَصَلهن وَصَله الله ومَن قطعهن قطعه الله، إن قاطع الرحم لا تنزل عليه الرحمة، ولا تنزل على قوم يجلسون معه، قاطع الرحم ملعون بنص الكتاب، يقول الله عز وجل: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22] * {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23].
حاسب نفسك على تلاوة القرآن الكريم: فهذا من رأس مالك.
كم تقرأ في كل يومٍ قرآناً؟! كيف أنت مع القرآن؟! كيف هي علاقتك مع القرآن؟! قوية أم واهية وضعيفة؟! هل القرآن معك في كل وقت وفي كل حين؟! أم أنه مهجور من حياتك؟! صحح وضعك! إذا أردت أن تعرف منزلتك عند الله، فاسأل نفسك عن منزلة القرآن في نفسك، فإن كنت تحب القرآن، فاعلم أن الله يحبك، وإن كنت تألف القرآن، فاعلم أن الله يألفك، وإن كنت تداوم وتعيش مع القرآن، فاعلم أن الله معك ما دمتَ مع كتاب الله عز وجل، أما أن تهجر القرآن ولا تقرأه إلا على ما يناسبك ويناسب ظروفك فلا.
بل يجب أن تخصص لك ورداً معيناً من القرآن لا يقل عن جزء؛ هذا أقل شيء، والذي يختم في أكثر من شهر هاجرٌ لكتاب الله، والله يخبر أن الرسول عليه الصلاة والسلام يشتكي هؤلاء يوم القيامة فيقول: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30].
والله قد أمرنا بتلاوة القرآن فقال: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4].
وقال: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:32].
ويقول النبي عليه السلام: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه).
يأتي يوم القيامة ويقال لقارئ القرآن: (اقرأ ورتل واصعد في درج الجنة، فمنزلتك عند آخر آية تحفظها) هذا شرف كبير لك يا أخي المسلم.
اعرف نفسك وحاسبها على الأذكار؛ أذكار الصباح والمساء:- هل تذكر الله في الصباح؟! أم تبكِّر إلى الدوام من دون ذكر، والله قد أمرك {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران:41]؟! لا بد من أذكار الصباح؛ لأنها حفظ وحرز وحصن، ولا بد من أذكار المساء.
وأذكار الصباح قبل شروق الشمس، وأذكار المساء قبل غروب الشمس.
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه:130].
لا بد أن تذكر الله وتحصن نفسك بالآيات والأذكار التي شُرِعت، ودل عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي موجودة في كتب الأذكار، لا بد أن تكتبها في ورق وتتحفَّظها، وتداوم عليها في ورقة إلى أن تحفظها، وبعد شهرين لن تعد تحتاج إلى كتاب؛ لأنك داومت عليها أكثر من مرة فحفظتها.
ثم تعلم أذكار الأحوال والمناسبات: أذكار الطعام، الشراب، النكاح، دخول الحمام، الخروج من الحمام، رؤية باكورة الثمار، رؤية القمر، لبس الثوب، رؤيتك للمرآة.
هذه الأذكار كلها يجب أن تكون عالماً بها؛ لتكون مع الله في كل حين وفي كل وقت.
حاسب نفسك على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: هل تغضب لله إذا رأيت منكراً؟! أم أنك بارد الإحساس متجمد؟ لا بد أن تنكر، والإنكار بإحدى المراتب الثلاث: بالتغيير باليد: إذا كنتَ من أهل السلطة.
أو باللسان: إذا كنتَ من أهل العلم، وعندك علم، وتريد أن تبينه للناس.
أو بالقلب: إذا كنت عادياً، ولا تقدر أن تغير بلسانك ولا بيدك، فتغير بقلبك، وتنكر المنكر وتبغضه، وتقاطعه، ولا تجلس في مجلس هو فيه، وذلك أضعف الإيمان، وليس من الإيمان بعد ذلك مثقال حبة خردل من إيمان، فالذي يعايش المنكر ويجلس مع أهله ويستريح معهم، فهذا منكر هو بنفسه، هذا مشارك للذي عمل المنكر؛ لكن إذا أتيت إلى مجلس ولم تستطع أن تغير بيدك، ولا بلسانك، ولم تستطع إلا بقلبك فذلك أضعف الإيمان، ويريد منك قلبُك مغادرة المنكر، فتخرج، أما أن تقعد وتقول: أنا سأغير بقلبي فلا يصلح.
لا تغير بقلبك وأنت جالس.
حاسب نفسك على الدعوة إلى الله: ما نصيبك من الدعوة إلى الله؟! هل لك دور؟! مَن تنتظر أن يقوم بدورك في الدعوة؟! الدعوة رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم، مات وخلَّف رسالته هذه على أمته، فلم يعد هناك نبي جديد، ليس إلا أنا وأنت؛ فلا بد أن ندعو إلى الله.
هل تقوم بالدعوة؟! والدعوة بحسب طاقتك طبعاً: - دعوتك لنفسك دعوة، وكثَّر الله خيرك يوم أن تقوم بنفسك.
- دعوتك لزوجتك دعوة، مَن يعينك على امرأتك، ويدق عليها الباب، ويعلمها الدين إذا لم تعلِّمها أنت؟! - دعوتك لأمك، وأبيك، وإخوانك، وأخواتك دعوة.
- دعوتك في مكتبك، وزملائك في العمل دعوة.
- دعوتك في حيك، وجيرانك، ومسجدك دعوة.
ليس بالضروري أن تكون خطيباً، أو أن تكون عالماً كبيراً؛ لكن إذا علمتَ شيئاً من دين الله فبلغه: (بلغوا عني ولو آية) بلِّغ عن الرسول ولو حديثاً، احمل هموم الداعية، احمل هموم الإسلام، افرح للدين، اغضب للدين، أحب في الله، أبغض في الله.
هذه اسمها: حساب رأس المال، وهو الباب الأول.(18/12)
الأرباح وكيفية المحافظة عليها
الباب الثاني: حساب الأرباح وهي: النوافل: - قيام الليل.
- صلاة الضحى.
- الرواتب.
- السنن.
- صيام الإثنين والخميس من كل أسبوع.
- صيام ثلاثة أيام من كل شهر.
- صَدَقات.
- عمرة نافلة.
- حج نافلة.
- ذكر لله.
هذه كلها نوافل، وهي أرباح.
فإذا حفظت رأس مالك حفظتَ أرباحك.
لكن يوم أن تُضَيِّع رأسَ المال تَضِيْعُ الأرباح من باب أَولى.(18/13)
مراجعة الخسائر وكيفية تفاديها
ثم أنتقل إلى الباب الثالث من أبواب ميزانية هذا العام، وهو: مراجعة الخسائر، وأبواب الخسائر سبعة:(18/14)
أمراض القلب
الباب الأول والكبير: باب القلب: وتدخل منه أكبر خسارة على الإنسان؛ لأن القلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله.
وأمراض القلب هي: الشبهات والشهوات.
فالقلب يجب عليْك أن تتفقده، وأن تعمل له (فحصاًَ)، فتحاسبه: هل هو سليم من الشبهات والشهوات والبغضاء والحقد والكبرياء والغضب والأنفعال؟! هذه أمراضه، إذا كان فيه شيء فنظِّفه قبل أن يكون التنظيف في النار.(18/15)
جارحة اللسان الخطيرة
ثم انتَقِل إلى الباب الثاني والجارحة الأولى والخطيرة وهي: جارحة اللسان: فإنها من أخطر الجوارح على دين الإسلام، فاللسان قنبلة تدمر دين العبد؛ يصلي، ويصوم، ويعمل ويعمل، ثم يقول كلمة تنسف عمله كله، وتعرفون الحديث الذي في صحيح مسلم؛ حديث الرجل الذي كان صالحاً وكان له أخ عاصٍ، وكان ينصحه باستمرار، ولا يستجيب له، فأتى إليه يوماً وهو على المعصية فقال له: (والله لا يغفر الله لك) الله أكبر! ما هذه الكلمة! رغم أن بواعثها ودوافعها حسنة؛ والغضب كان لله؛ لكن تجاوز الحد، فقال الله له: (من هذا الذي يتألَّى عليَّ؟! قد غفرتُ له وأحبطتُ عملك) كلمة واحدة أوبَقَت دنياه وآخرته: (رُبَّ كلمة قالت لصاحبها: دَعْني).
والحديث الآخر في الصحيح: (أتدرون من المفلس؟! قالوا: المفلس من لا درهم ولا دينار لديه، قال: لا.
المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات، وصلاة، وصيام، مثل الجبال، ثم يأتي وقد شتم هذا، ولعن هذا، وأكل مال هذا، وسب هذا، وهتك عرض هذا، فيؤتى لهذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته -تقسم أعماله على العباد- فإذا فنيت حسناته أُخِذ من سيئاتهم، ثم طُرِحَت عليه، ثم طرح في النار).
من الذي ضيعه وأحبط عمله؟! إنه لسانه.
والحديث في سنن أبي داوُد، ومسند أحمد، من حديث معاذ رضي الله عنه، وهو صحيح، قال عليه الصلاة والسلام وهو يوصي معاذاً بما يدخله الجنة، وينجيه من النار، قال له في نهاية الأمر: (أفلا أدلك على ملاك ذلك كله؟ َ -يعني: السور الذي يحمي لك دينك كله- قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: كف عليك هذا -أمسِك لسانك- قال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يَكُبُّ الناس على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم؟!).
والحديث الآخر: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب) بكلمة واحدة.
والذين كانوا في غزوة تبوك قالوا كلمة واحدة فكفروا بها، وليتهم ما تكلموا؛ لكنها مضت ولم تصحح أبداً، قالوا: (ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء -يعني: الرسولَ وأصحابَه- أوسع بطوناً، وأجبن عند اللقاء!) يريدون أن يضحكوا ويقطعوا الطريق وهم سائرون، وإذا بالقرآن ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] لا إله إلا الله! كفر بكلمة؟! نعم.
يقول راوي الحديث: (كأني بالرجل هذا وهو متعلق بنسعة ناقة رسول الله، والحجارة تنكب رجليه، وهو يقول: يا رسول الله، والله ما أعنيها! يا رسول الله، إنما هي حديث الركب! يا رسول الله، أندخل النار وأنت بين أظهُرنا؟! يا رسول الله: ((إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ)) [التوبة:65] والرسول يقول له: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]) كلمة واحدة ضيعته وأفقدته دينه كله، وخسر الدنيا والآخرة.
فلسانك حصانك، لماذا سمي اللسان حصاناً؟ لأن للحصان عناناً، والحصان الذي ليس له عنان تراه يشرد ويهرب ولا يستطيع أحد أن يمسكه؛ لكن عندما يوضع له العنان وهي: حديدة تُدْخَل تحت لسانه، ثم يمسكها الفارس من فوقه، عندها تستطيع أن تمسك به، ولسانك حصانك إن صنته صانك وإن أهنته أهانك.
وعنانك -أيها المسلم- إيمانك، يزمَّ لسانك، فلا تستطيع أن تتكلم مع الناس في الباطل، فإنك إذا سمعت الناس يخوضون في الباطل سكت، لماذا؟! لأنه: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) فلا يتكلم الإنسان إلا بحق أو يسكت، فالمؤمن صمام ثابتٌ وصندوقٌ تجاري مقفل، لا أحد يدري ما وراءه، وإذا تكلم تكلم بعقل، وأما ذاك المنافق فهو غبي ملجلج، يتكلم بباطل وحق، وغيبة ونميمة، وشتم وقيل وقال وقلنا وسمعتم ما هذا الكلام؟! (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع) لا ندري كيف تشيع الإشاعات بين الناس؟! عندما جئت إلى الرياض سمعتُ أخباراً كثيرة عن الإخوان الدعاة في أبها، قال شخصٌ: هل صحيحٌ أنك مسجون؟! وقال ثانٍ: هل صحيح أن الشيخ الفلاني مسجون؟! قلت: من الذي يروِّج هذا؟! قالوا: يقولون.
قلت: الله أكبر! ما هذه الوكالة؟ هذه وكالة إبليس، وكالة أنباء (يقولون)، لا يروج لها إلا الأبالسة الذين قد ورد فيهم عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه: (نهى عن القيل، والقال) قيل، وقال، ويقولون، هذه قَلْقَلَةٌ! - مَن قال؟! - لا أدري، سمعتهم والله يقولون.
- ليس لك عَمَل إلا النقل كلما سمعت شيئاً ذهبت لتقوله؟! إذا سمعت كلاماً فقل: اسمعوا يا جماعة الخير! إن كان عندكم خبر أكيد فأتوا به، فإذا قيل لك: والله يقولونه، فقل لهم: استحوا على أنفسكم: (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع).
هذه الأراجيف، وهذه الإشاعات، وهذه الخزعبلات، لا تروج إلا في المجتمعات المريضة، ونحن في مجتمع سليم والحمد لله، مجتمع نظيف، فمجتمعنا وديننا يأمرنا أن نكون عقلاء، لا نحدِّث إلا بالحقائق، ولا نروج الإشاعات والأباطيل والخزعبلات بيننا.
فحاسب لسانك، ولا تتكلم بكلمة إلا وأنت تعرف أن لك عند الله بها ثواباً، وإلا (إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب) والذهب أفضل من الفضة، لكن بعض الناس لا يريد ذهباً، ويا ليته يتكلم فضة، بل يتكلم -والعياذ بالله- تراباً وعذاباً؛ يتكلم بغيبة، وبنميمة، وبلعن، وبسب، وبكذب، ويتكلم -والعياذ بالله- بشهادة الزور، ويحلف بالله فجوراً، ولسانه يشتغل (24) ساعة يهلكه، ويدمِّر دينه، وينسف إيمانه، والعياذ بالله!(18/16)
محاسبة العين
ثم الباب الثالث والجارحة الثانية: حاسب عينك:- أين تنظر عينك؟! هل تنظر في كتاب الله؟! هل تنظر في ملكوت الله؟! أم أنها تنظر فيما حرم الله؟! تنظر إلى النساء الحرام؟! (من ملأ عينيه من الحرام ملأهما الله من جمر جهنم).
أم أنك تنظر إلى ما متع الله به الناس من نعم، فتنظر إلى هذا الذي معه سيارة أو معه وظيفة أو معه عمارة فتحسده؟! أم تنظر إلى الآخرين بعين الازدراء والاحتقار، بينما ترى نفسك في الأعلى؛ لأنك منفوخ بنفخة الكبرياء؟! يأتي إبليس فيضع فيه الكبر وينفخه، فيرى نفسه كبيراً وهو منفوخ، هو في الأصل مثل (البالونة) التي ليس فيها هواء، ترونها صغيرة؛ لكن إذا نُفِخَت كبرت.
فهذا المنتفخ بماله: المال ليس لك، هو مال الله ساقه إليك من حيث لا تدري.
والمنتفخ بصحته وعافيته: العافية ليست منك، الله هو الذي أعطاك العافية.
والمنتفخ برتبته ومنصبه: المنصب ليس منك، الله الذي رفعك.
تنتفخ لماذا؟! لماذا تتعالى على الناس؟! لماذا تنظر إلى الناس أنك أعظم منهم، وأحسن منهم؟! (مَن تواضع لله رفعه، ومن تعاظم وتكبر على الله وضعه) فإذا أردت العزة والرفعة فتواضع، وإذا أردت الذلة فتكبر، والعياذ بالله!(18/17)
محاسبة الأذن
ثم الباب الرابع والجارحة الثالثة: انتَقِل من عينك إلى أذنك وحاسبها: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].
ماذا تسمع؟! ماذا تصبُّ هذه القناة السمعية على قلبك؟! هل تصبُّ قرآناً ومواعظ وخيراً، أم تصبُّ أغاني وشراً وغيبة ونميمة؟! فلا تسمع إلا خيراً؛ لأنك مسئول، ولأنك تتأثر بكل ما تسمع.(18/18)
محاسبة البطن
الباب الخامس والجارحة الرابعة: حاسب نفسك على بطنك: ماذا ينزل فيه؟! ماذا تأكل؟! هل تشرب الدخان وأنت طيب؟! كيف تأخذ خبيثاً؟! والله يقول: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور:26] وأنت طيب أم خبيث؟! أنت طيب.
إذاً لماذا تحب الخبيث؟! لماذا تشرب الخبيث؟! بل لماذا تُقَبِّل الخبيث؟! الخبيث كلٌّ يقول: الله يكفينا شره، وأنت تأخذه، وتسلم عليه، وتمصه بشفتيك، وتحمله في جيبك، وتشتريه بمالك، وتبخر به نفسك، وتحارب به ملائكتك، وتغضب به ربك، وتنشِّط به عدوك، وتقوِّي به مصانع أعداء الإسلام، بواخر تأتي بدخانٍ وتذهب بأموال من عند المسلمين! لا إله إلا الله! هل تشرب الدخان؟! هل تشرب الشيشة، أو الشمة؟! أحد الناس قال: أبشرك تركت الدخان؛ لكن تحوَّلت إلى الشيشة.
قلت: الله لا يكثر خيرك (عَيَّا من اللحمة وشرب مرقتها)، مثل ثور (الخلبة)؛ ينزع يده من (الخلبة) ويضع رجله مكانها، لا، هذه ألعن من تلك، ولماذا؟! قال: أبشرك، الشيشة لا أستطيع أن أشربها إلا عند شرب القهوة أو في البيت، أما الدخان فأشربه في كل مكان.
قلت: والله هذا عذر أقبح من فعل.
هذه خبيثة نجسة -والعياذ بالله- فيها ماء يُقاس على بول الكلاب -والعياذ بالله- هذه تنسف الصدر، وتخرب الكبد والأعضاء، وتغضب الرب، ليس فيها خير، يسمونها: (تعميرة)، يدخل القهوة وهو ما يزال واقفاً فيقول: عبئ حجراً، (عمِّر).
وهو يعبئ جمراً أحمر مدمراً والعياذ بالله، وليس يعمِّر.
بل يخرب.
فيا أخي الكريم: هل تشرب الشمة؟! الشمة هذه مسحوق مثل الطين الأصفر، يضعه الشخص داخل فمه، ثم يتفل مثل غائط الدجاج، والعياذ بالله! فتسوِّس أسنانه وتخرب صدره، وترى شكله وهو قاعد في المجلس ومعه علبته أو معه منديله وهو يبصق، ما هذا؟! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172].
هل تشرب الخمر؟ هل تروج المخدرات أو تتناولها؟ هل تأكل الربا؟ هل تأكل الرشوة؟ هل تأكل الهدية المحرمة؟ فإذا كنت مسئولاً أو في منصب، وأتتك هدية وقبلتها أو لبستها كثوبٍ هديةً -مثلاً- من أجل أن تمشِّي معاملة، هذا حرام في دين الله، ورشوة لا تجوز لك.
نظِّف بطنك، فإن (كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به) (الله طيب لا يقبل إلا طيباً) (أطب مطعمك تُجَب دعوتك).
لا يجوز لك أن تأكل إلا طيباًَ، فكل حلالاً، والله لو تأكل طيناً لهو أفضل لك من الحرام.(18/19)
اليد والرجل ومحاسبتهما
ثم أنتَقِل إلى الباب السادس والجارحة الخامسة: جارحة الرِّجْل: هل تحملك قدمك إلى حرام؟! ثم انتقل إلى الباب السابع والجارحة السادسة: جارحة اليد: هل تكتب بيدك حراماً؟! هل تبطش بيدك حراماً؟! هل تغمز بها حراماً؟! (من مد يده على امرأة لا تحل له، جاءت يده يوم القيامة مغلولة إلى عنقه).
هذه هي الحسابات.
انتهت ميزانية العام، حاسب نفسك من الآن يا أخي، إن كنت ناجحاً ورابحاً فالحمد لله، واسألْ من الله الثبات، وإن كنت خاسراً فغيِّر الميزانية الآن، اجْرِ -مباشرةً- تصحيحات في الداخل، لا تقبل بالخسائر، وقل: يا عين، والله لن تخسِّريني بعد اليوم! إن الحسنات كل يوم تذهب بسببك! يا أذن، والله لن تخسِّريني بعد اليوم، ولن أسمع شيئاً حراماً! يا لسان، لم تعد هناك خسائر! يا رِجْل، لم يعد هناك رَواح لمنكر! يا يد، لن تكوني في منكر! أوْقِف الخسائر.
وبعد ذلك تعال إلى رأس المال وحافظ عليه.
وارجع إلى الأرباح وزوِّدها.
ستجد نفسك إن شاء الله من الرابحين.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يختم بالصالحات أعمالنا.
اللهم اختم لنا عامنا الماضي بخير، واجعل عامنا الحاضر عام نصرٍ وعزةٍ للإسلام والمسلمين، وردَّنا فيه إلى دينك القويم، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.(18/20)
الأسئلة(18/21)
المحافظة على صلاة الفجر دليل الإيمان
السؤال
هل من كلمة توجيهية لتارك صلاة الفجر في جماعة؟
الجواب
نعم.
نوجه إخواننا ونقول لهم: اتقوا الله في أنفسكم، واعلموا أن علامة إيمانكم صلاة الفجر، وعلامة نفاقكم ترك صلاة الفجر، فلا تسأل أحداً عن إيمانك ولا عن نفاقك، اسأل نفسك عن صلاة الفجر، وجاهد نفسك يا أخي، وبالمجاهدة -بإذن الله- يتم لك التغلب على هذه العادة، وسوف تستأنس بها بعد أن يعلم الله صدقك وجديتك في طلب طاعة الله عز وجل.(18/22)
حقيقة هجرة القلب إلى الله ورسوله
السؤال
هل للقلب هجرة إلى الله ورسوله؟
الجواب
نعم.
يوجد كتاب اسمه: طريق الهجرتين وباب السعادتين، لـ ابن القيم رحمه الله، يقول فيه: طريق الهجرتين: - هجرة بالقلب إلى الله: بالعبودية.
- وهجرة أخرى بالقلب إلى رسول الله: بالاتباع.
هذه طريق الهجرتين، تهاجر بقلبك إلى مولاك فتعبده، وإلى رسولك فتتبعه.
ثم يترتب على هجرتيك هاتين باب السعادتين: - سعادة الدنيا.
- وسعادة الآخرة.
فنحن نستغل هجرة العام الهجري؛ لنهاجر بقلوبنا إلى الله، إذْ (لا هجرة بعد الفتح؛ ولكن جهاد ونية).(18/23)
نصائح للآباء بضرورة تزويج الأبناء
السؤال
أنا شاب وفقني الله للهداية، والحمد لله، وطلبت من والدي الزواج، وهو مستطيع؛ ولكنه يمانع بحجة التخرج من الجامعة، وأنا لا أستطيع أن أصبر، وأخشى على نفسي من الفاحشة، فما توجيهكم جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أقول لأخي الكريم الذي هداه الله: أسأل الله أن يثبتك، وأن تستمر في طريق الهداية، وأن يصبرك عن الحرام والفاحشة، ولا بد أن تصبر، وإخوانك صابرون؟! فلماذا أنت لا تصبر؟! إذاً ما هو الحل إذا رفض أبوك؟! هل تذهب فتزني؟! لا.
اصبر غصباً عنك، إن كنت تريد الجنة لا بد أن تصبر.
أما توجيهي لوالد هذا الشاب الذي يقدر على تزويج ابنه ولم يزوجه: فأنا أقول: إنه آثم، وإنه يتعرض للعذاب من الله عز وجل، فكما أنه مأمور بحفظ صحة وغذاء ولده؛ فإنه مأمور -أيضاً- بحفظ دينه وعرضه، وما دام أنه قادر فعليه أن يزوجه.
وقضية تركه إلى أن يتخرج، من أجل أن يعتمد على نفسه، فهذا فيه حثٌّ لولدك على أن يعقَّك؛ لأن ولدك يوم أن تزوجه من مالك، وتخسر عليه، وتقوم بلوازمه، فإنك تكتنفه وتستولي عليه، وتجعله ردءك ومعك؛ لكن يوم أن تقول: ما لي ولك، كُن رجلاً زوج نفسك فكأنك تقول: ليس لي منك شيء، ولهذا منذ أن يتخرج ويتزوج يَقْلِب لك ظهر المجن، وينسى أنك أبوه؛ لأنك أنت الذي علَّمته طريق العقوق.
لا يا أخي، هم فلذة كبدك، ما هي الخمسون الألف أو الستون الألف التي تدفعها على ولدك؟! خسارة هذه؟! والله ليست بخسارة، الدنيا كلها ضعها تحت القدم.
فزوِّج ولدك يا أخي! حتى تحفظ دينه، وحتى ترضي الله، وتخرج أنت من الإثم.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وأن يوفقنا لِمَا يحبه ويرضاه، وأن يحفظ علينا أمننا وطمأنينتنا واستقرارنا، وأن يجعل من أرادنا في هذه البلاد بسوء أو شر أو كيد أو مكر، أن يجعل كيده في نحره، وأن يجعل تدميره في تدبيره، وأن ينزل عليه بأسه الشديد، وعذابه الأكيد، فإنه لا يُعْجِز الله عز وجل.
اللهم آمِنَّا في دورنا، ووفِّق وأصلح واهدِ ولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم وفقهم لِمَا تحبه وترضاه، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم.(18/24)
عقوبة تارك الصلاة
للصلاة مكانة عظيمة في هذا الدين، فقد اختصت بخصائص عن سائر العبادات، وكان من أهمها أنها شرعت في السماء وأنها لا تسقط عن العبد بأي حال من الأحوال.
وهي أبرز صفات المؤمنين كما بين الله ذلك في كتابه، ولذا كان لتارك الصلاة أحكاماً في الدنيا قبل الآخرة، من أهمها أنه يقتل ردة بعد استتابته.
وقد تطرق الشيخ في محاضرته إلى التحدث عن نعم الله وكيفية شكرها، مبيناً أن المعاصي هي السبب في زوالها، مع ضرب أمثلة من الأمم السابقة ممن كفروا بنعم الله، خاتماً ذلك بوصية بالمحافظة على مجالس العلم الشرعي.(19/1)
فضل مجالس ذكر الله
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أولاً: جزى الله الإخوة القائمين على أمر هذه الندوة خيراً، حيث هيئوا لنا هذا الاجتماع المبارك وهذه الحلقة الطيبة في هذه الروضة الناظرة وفي هذه المجالس الطاهرة؛ مجالس الملائكة، مجالس النور، المجالس التي يحبها الله ويباهي بأهلها في السماء، المجالس التي يقول الله عز وجل للقاعدين فيها: (قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات) لأن من أعظم القربات إلى الله ومن أجلِّ الأعمال إلى الله: ذكر الله تبارك وتعالى، يروي أصحاب السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أدلكم على أفضل الأعمال عند ربكم، وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله عز وجل).
وقد كلف الله المكلفين بعبادات محددة في زمن معين وبهيئة معينة وبكمية معينة إلا ذكر الله، فما حدده بعدد ولا بزمن ولا بهيئة أو كيفية، وإنما طلب الإكثار منه وبين أن من صفات عباده: الإكثار من ذكره، قال عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:190 - 191] وهذه هي حالات الإنسان الثلاث التي لا يمكن أن يكون في غيرها فهو إما أن يكون قائماً أو قاعداً أو راقداً.
فالمؤمن يذكر الله قائماً وقاعداً وعلى جنبه وفي كل حالة من أحواله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191].
ويثني الله عز وجل على أهل ذكره فيقول: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] ويقول: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] ويخبر تبارك وتعالى أن من أبرز صفات عباده أهل الإيمان كثرة ذكر الله، يقول عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد:28] تسكن قلوبهم وترتاح قلوبهم وتهدأ قلوبهم عند سماع ذكر الله: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] أي: قلوب أهل الإيمان، جعلنا الله وإياكم منهم.(19/2)
حال المعرضين عن ذكر الله
يخبر تعالى أن أبرز صفات أعدائه المكذبين لرسله المحادين له الرافضين لأوامره، أنهم لا يحبون ذكر الله عز وجل، قال عز وجل: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [الزمر:45] أي: يريد كل عِلْم إلا ذكر الله، يذكر كل شيء إلا ذكر الله، يذكر الدوام ولا يغيب عنه، يذكر الطعام ولا يفوته، يذكر مواعيد زملائه ولا يخل بوعد، يذكر المباريات ولا تفوته مباراة، يذكر المسرحيات ولا تفوته مسرحية، المهم أنه ينظم أموره كلها، ولكنه لا يذكر الله عز وجل، وقد قال الله في شأنه: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} [المجادلة:19] أي: استعمرهم واستولى عليهم {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19].
فيقول عز وجل: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45] لو قيل: إن المباراة في أرض بعيدة سيمشي على ركبه ويديه، ولو قيل له: إن السمرة واللعب في أبعد وادٍ أو في أصعب جبل لذهب إليه، لكن الندوة وذكر الله لا يأتي لها إلا مرغماً، إنا لله وإنا إليه راجعون! وقد توعده الله بالعذاب الذي لا يصبر عليه، قال عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] لأن العيشة الهنية والسعيدة والرضية هي في طاعة الله، وما يبحث الناس عنه الآن من مسليات ومن مهدئات لأنفسهم، كلها بسبب البعد عن الله، وما عرفوا من أين أتوا وما لاحظوا أن سبب بلائهم هم يسيرون فيه وأن السعادة كلها في طاعة الله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] أي: عذاب الدنيا المعيشة الضنك، وعذاب الآخرة أن يحشره الله أعمى، يحشره الله أعمى بصر وأعمى بصيرة، ويأمره الله عز وجل أن يسير على الصراط وأن يعبر على الجسر.(19/3)
حال المعرضين عن الله إذا مروا على الصراط
الجسر وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع صفات: أنه أدق من الشعر وأحد من السيف، وأحر من الجمر، وأروغ من الثعلب، والعباد مكلفون ومأمورون بالسير عليه إذ لا وصول إلى الجنة إلا بالمرور عليه، والجسر مضروب على متن جهنم، فجهنم من تحت والناس في المحشر والجنة هناك وأنت تريد الجنة فامش إليها.
كيف تمشي في طائرة؟ في سيارة؟ على وسيلة نقل؟ لا، هناك وسيله اسمها: وسائل النقل الإيماني، ووسائل العمل الصالح، الذي قد تجهز بعمل صالح وبإيمان صادق في هذه الدنيا يعبر، ولهذا أخبر عليه الصلاة والسلام: (أن من الأمة من يمر كالبرق الخاطف).
لما رئي سفيان الثوري رضي الله عنه في المنام قالوا: ما صنع الله بك؟ قال: [وضعت قدمي على الصراط والثانية في الجنة] أخذها خطوة كلها، لماذا؟! لأن سفيان عابداً تقياً خائفاً من الله، منهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاود الخيل، ومنهم من يمر كشد الرجل أي: مثل عدو الرجل، ومنهم من يمر ماشياً، ومنهم من يمر عابراً يمشي ويتعثر، ومنهم من يحط أول خطوة والثانية في النار.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فالله يحشره أعمى ويأمره بأن يسير على الصراط، وكيف يسير وهو أعمى؟! كيف ينظر والجسر أحد من السيف، وأدق من الشعر، وأحر من الجمر، وأروغ من الثعلب؟ لو نصبنا الآن خشباً ووضعناه بين عمارتين طول كل عمارة أربعة أدوار وبين العمارتين عشرون متراً ووضعنا هذا العمود وقلنا للناس امشوا عليه وعرضه (50سم) من يقدر أن يمشي عليه؟ لا أحد يستطيع أن يمشي، وإذا مشى فسيمشي وهو خائف جداً، والسقوط أقرب.
لكن السقوط في نار جهنم سبعين خريفاً، يقول عليه الصلاة والسلام وقد سمع وجبةً وهو مع أصحابه -أي: رجة-: (أتدرون ما هذه؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذاك حجر ألقي في شفير جهنم لم يصل إلا اليوم له سبعون خريفاً ما وصل إلا اليوم) اللهم صلِّ وسلم على رسول الله.
فسبب حشر الله له أعمى: أنه كان أعمى في هذه الدنيا، كان مبصراً في كل شيء إلا في طاعة الله، أما في دين الله فهو أعمى لا يعرف شيئاً في دين الله ولا يريد دين الله، وإذا قلت له: تعال -يا أخي! - تعلم دين الله، اجلس في مجالس العلم، انتقل من بيتك واركب سيارتك وابحث عن العلم، أين طلبة العلم، أين الندوات، أين الحلقات، اذهب إليها، قال: شغلتونا دعونا نسمر ونمسي، أشغلناه بطاعة الله، يريد أن يعيش أعمى ويموت أعمى، قال الله: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء:72] {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].(19/4)
حب الذكر من علامات الإيمان
علامة الإيمان -يا أخي المسلم! - وعلامة اليقين حبك لذكر الله، يقول الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22] اللهم اجعلنا منهم يا رب.
{شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ}، أي: فتح الله قلبه للدين، فهو على نور من الله، أينما سار فهو على نور أمامه بين يدي الله عز وجل، لماذا؟ لأنه منشرح الصدر والقلب لله؛ قلبه مفتوح ومشرق ومنور بنور الله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22] إن قاسي القلب الذي لا يلين لذكر الله، الذي تقشعر منه جلود الذين آمنوا ويخشون الله عز وجل، هذا يصبح وقوداً لجهنم -والعياذ بالله-؛ لأن الله يقول: {نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] القلوب القاسية التي ما لانت في الدنيا بطاعة الله وما لانت في الدنيا بذكر الله عز وجل يعذبها الله عز وجل بأن يلينها بالعذاب الشديد، وبالنكال الأكيد، وبالنار السوداء التي تحرق أصحابها؛ لأنهم ما رضوا بطاعة الله في هذه الحياة.
فيا أخي المسلم! لا أحد يعرف ما في قلبك، ولكنك أنت أعلم بنفسك، فإن كان قلبك يلين لذكر الله، ويحب ذكر الله، وأينما سمع بذكر الله ذهب إليه، ولو كان عالماً، لكنه يعرف مجالس العلم وفضيلتها، ويعرف أن الله يباهي بأهلها في السماء، وأن الله تبارك وتعالى ينادي أصحاب مجالس العلم ويقول: (قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات) فهو يحب ذكر الله في الليل والنهار، فهذه علامة الإيمان.
أما إذا كانت الأخرى: القلب قاسٍ، والعين متحجرة، والقلب غافل ولا يريد ذكر الله، فاعلم أن في قلبه مرضاً، وعليه أن يسارع بعلاجه في هذه الدنيا قبل أن يكون العلاج في جهنم، وقبل أن يكون الدمع دماً والأضراس جمراً أعاذنا الله وإياكم من ذلك! فجزى الله الإخوة الذين هيئوا لنا هذا الاجتماع المبارك خيراً، نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما نقول وبما نسمع، وأن يجعله حجةً لنا لا حجةً علينا.(19/5)
خصائص الصلاة وأهميتها
أما الموضوع الذي اخترته للحديث اليوم فهو مهم جداً، وذو علاقة وأهمية بالغة؛ لأنه يتعلق بكل مسلم بعينه؛ ولأنه العبادة العظيمة الذي تعبد الله بها أهل الأرض وأهل السماء ألا وهي: الصلاة.
والصلاة التي نعنيها هي الصلاة التي أمرنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بأدائها كما يجب إذ قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
والصلاة: هي أقوال وأعمال ظاهرةٌ تبدأ بالتكبير وتختم بالتسليم، شرعها الله تبارك وتعالى وتعبد الناس بها وفرضها عليهم وسماها صلاة بمعنى: صلة بينه وبين عباده.(19/6)
أنها من أول ما شرع وكونها شرعت في السماء
إن المتأمل في فرضية الصلاة يجد أن هناك خصائص اختصت بها الصلاة: أولاً: كونها من أول ما شرع بعد التوحيد، وبعد تثبيت العقيدة جاء الأمر بالصلاة.
ثانياً: أن جميع عبادات الإسلام كلها شرعت والنبي صلى الله عليه وسلم في الأرض يتلقى تشريعها من الله عن طريق الوحي إلا الصلاة؛ فإن الصلاة لما أراد الله أن يشرعها أسرى بنبيه صلى الله عليه وسلم، وما ذاك إلا لعظمها ولجلالة قدرها، قال عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1] أسرى الله برسوله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عرج به من المسجد الأقصى إلى السماء حتى بلغ سدرة المنتهى.
ثم شرع الله له الصلاة وأمره بها وفرضها خمسين صلاة، بمعنى: أنها لو بقيت على الفرض الذي فرضه الله لكنا مأمورين أن نصلي في كل (نصف ساعة) صلاة، ولكن بفضل الله ورحمته وبشفقة هذا النبي صلوات الله وسلامه عليه طلب من ربه التخفيف، بعد أن شاور موسى وأخبره وقال: (إن الله قد فرض عليَّ خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فرجع فخفف الله خمساً ثم خمساً ثم خمساً حتى بقيت خمساً، وخفف خمساً وأربعين صلاة؛ فلما وصل إلى موسى قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، قال: يا موسى! قد سألت حتى استحييت من ربي، قال الله عز وجل: إني قضيت وقضائي لا يرد هي خمسٌ في العدد وخمسون في الأجر).
اللهم لك الحمد يا ربي، أي: كان المنطق أنه إذا خفف خمساً وأربعين أو بقى خمساً رحمة من الله يعطينا أجر الخمس وكَثُرَ خير الله وطاب، ولكن الله عز وجل كريم فقد حذف خمساً وأربعين وجعل ثوابها قائماً مع ثواب الخمس وأصبح لك مع الخمس خمسين صلاة، كأنك إذا صليت خمس صلوات تصلي خمسين صلاة.
ففرضها الله عز وجل في السماء وهي خاصية لها تميزت بها عن جميع شرائع الإسلام.(19/7)
من خصائص الصلاة أنها لا تسقط عن العبد في جميع الأحوال
إن الصلاة عبادة لازمة للعبد المسلم لا تنفك عنه بحال من الأحوال، إذ أن كل عبادة تجب في أحوال وتسقط في أحوال إلا الصلاة -فمثلاً- الزكاة: ركن من أركان الدين ومبنى من مبانيه وعمود من أعمدته، ولا يكمل إيمان الإنسان ولا يقوم دينه إلا بالصلاة والزكاة.
ولهذا لما منع المرتدون الزكاة في عهد أبي بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم واستباح دماءهم وأعراضهم وقال: [والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه] فقد اعتبرهم مرتدين عن دين الله؛ لأنهم رفضوا الزكاة، لكن الزكاة تسقط في أحوال، فالذي ليس عنده مال ليس عليه زكاة، والذي عنده مال وما حال عليه الحول ليس فيه زكاة، والذي عنده مال وحال عليه الحول ولكنه لم يبلغ النصاب ليس فيه زكاة، والذي عنده مال وحال عليه الحول وبلغ النصاب لكن لا يملكه فليس عليه زكاة، فالزكاة ركن لكنها تسقط في أحوال.
والصيام ركن يجب على الإنسان في كل عام شهراً، لكن إذا كان الإنسان مريضاً أو على سفر أباح الله له أن يفطر وأن يقضي من أيام أخر، ولكن إذا استمر به المرض وكان مرضاً لا يرجى برؤه فإنه يسقط عليه الصوم ويجب عليه الإطعام إن كان قادراً، فإن لم يستطع الإطعام سقط عنه الصوم والإطعام.
والحج ركن من أركان الدين لكنه يجب بثلاثة شروط: أمن الطريق، ووجود الزاد، ووجود الراحلة، فإذا كان الطريق غير آمن بحيث لو حججت قتلت سقط عنك الحج، وإذا لم يكن عندك زاد يكفيك في سفرك ويكفي أهلك من بعدك حتى تعود وليس عندك راحلة سقط عنك الحج، كما قال تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] وهكذا كل الشرائع الدينية تسقط في حالات إذا عجز الإنسان عنها.
أما الصلاة فلا تسقط فإن كنت مريضاً تصلي وإن كنت متعافياً تصلي، يقول عمران بن الحصين كما قال عليه الصلاة والسلام: (صل قائماً، فإن لم تستطع -وكنت مريضاً- فقاعداً، فإن لم تستطع -وكنت لا تستطيع حتى أن تجلس من المرض- فعلى جنب، فإن -كنت وأنت على جنب- لم تستطع فأومئ إيماءً بطرفك).
وإذا كنت على غير طهارة فالمطلوب الطهارة؛ لأن الطهارة مفتاح الصلاة، ولكنك إذا لم تستطع الوضوء، كأن تكون في المستشفى وعملت عملية وبطنك مفتوح وثيابك ملطخة ولا تستطيع أن تبدل هذه الثياب المتنجسة، ولا تستطيع أن تتوضأ فصلي في ثيابك، ولو كانت غير طاهرة؛ لأن هذا لا تستطيعه.
وإذا ما كان عندك ماء وما قدرت أن تتوضأ فتيمم، فإن لم تستطع أن تتيمم فصل بغير تيمم ولا وضوء وصلاتك صحيحة.
وإذا كنت على السرير ولا تستطيع أن تحوله إلى القبلة فصل إلى أي وجهه {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] فلا تسقط عنك الصلاة في أي حال من الأحوال في حال المرض.
والبلية والمصيبة أن بعض الناس إذا مرض ترك الصلاة، لماذا؟ قال: أصلي إذا تعافيت، سبحان الله!! وهل تضمن العافية؟ يوم قربت من أيام الامتحان -لأن المرض هذا وسيلة إلى الموت- وأنت تصلي طوال حياتك ويوم جاء المرض الذي يمكن أن تخرج منه فتترك الصلاة على أمل أنك تتعافى؟! من يضمن لك العافية؟ بل صل على أي وجه حتى لو تومئ بطرفك، فالصلاة واجبة ولا تسقط عن الإنسان في حال العافية والمرض.
والصلاة واجبة على الإنسان في حال الإقامة والسفر، في حال السفر يسقط عنك الصوم ويجوز لك أن تفطر وتقضي فيما بعد، لكن الصلاة لا تتركها وتقضي فيما بعد، صلِّ وأنت مقيم وتصلي وأنت مسافر.
ولكن من رحمة الله عز وجل بهذا العبد أن خفف عليه، فإذا كنت مسافراً فبدل أن تقف مرتين في صلاة الظهر والعصر قف مرة وصل الظهر والعصر سواء، وإذا كنت مسافراً وبدل أن تقف مرتين للمغرب والعشاء صل المغرب والعشاء جمع تقديم أو جمع تأخير.
ومن رحمة الله عز وجل أن جعل الصلاة الرباعية التي هي أربع ركعات ركعتين تصلي الظهر والعصر اثنتين والمغرب ثلاثاً ولا تقصرها؛ لأنها وتراً، والعشاء اثنتان، والفجر هي مقصورة في طبيعة الحال.
هذه رحمة من الله تبارك وتعالى، ولكن لا تدع الصلاة في حال السفر ولا في حال الإقامة ولا في حال المرض وكذلك في حال الخوف، أي: القتال، فإذا اشتبكت الجيوش الإسلامية مع جيوش الكفر فإن مبرر الجهاد لإعلاء كلمة الله كافٍ أن يكون الإنسان مشغولاً عن الصلاة بعمل أعظم وهو الجهاد الذي هو ذروة سنام الدين، فكان يمكن أن يكون للإنسان عذر لو أخر الصلاة؛ لكن لا تؤخر الصلاة حتى في الجهاد، كيف أصلي وأنا مجاهد؟ لقد نظم الله عز وجل صلاة الخوف وشرعها في القرآن الكريم: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء:102] ثم ذكر الله عز وجل كيفية أداء الصلاة بأن ينقسم الجيش إلى قسمين، وأن يكون لهم إمام، قسم يصلي وقسم يقاتل، والإمام يصلي ركعة ثم ينتظر، وهؤلاء الذين صلوا يتمون الركعة الثانية لوحدهم ويسلمون، والإمام لا يزال واقفاً في الركعة الأولى، ثم يأتي القسم الثاني فيدخلون معه ثم يصلي الإمام الركعة الثانية وهم يصلون الركعة الأولى، ثم ينصرف ويقومون هم ليقضوا ركعتهم الثانية، هذه صلاة الخوف والجيوش محتدمة والسيوف مصلتة ولكن لابد من الصلاة، فهذه صلاة فكيف تضيعون الصلاة؟ وهل تنصرون إلا بالصلاة؟ إن الصلاة هي وسيلة النصر على الأعداء فكيف نضيع سلاحنا؟! كيف نضيع وسائل نصرنا؟ فمن أجل أن نقاتل أعداء الله، لا بد أن نصلي.
فإذا اشتبكت الجيوش فليس هناك مجال، فيقسم الناس صفاً صفاً أي: ينتظر أو يقاتل، قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ} [البقرة:239] أي: اختلط الحابل بالنابل: {فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة:239] أي: صلوا وأنتم وقوف على أرجلكم، أو ركباناً على خيولكم وعلى جمالكم وعلى -بالمفهوم الحديث- سياراتكم ودباباتكم، المهم أن تصلوا، لا يمر عليك وقت الصلاة وتتركها وتقول: أقاتل.
لا إله إلا الله! لا إله إلا الله!(19/8)
الصلاة فرض على الأمم من قبلنا
هذه الصلاة هي التي تعبد الله بها كل الأديان والأمم، وشرعت في كل الأديان، والذي يستقرئ القرآن يجد أنه ما من قوم بعث الله عز وجل فيه رسولاً وأنزل فيه كتاباً إلا وأمرهم بالصلاة كما أمرهم بالتوحيد وإن اختلفت الصلاة بكيفيتها وتشريعها عن بقية الأديان إلا إنها متفقة أنها صلاة.
فإبراهيم عليه السلام لما أتى بإسماعيل وأمه إلى مكة قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم:37] وكان يدعو ويقول: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم:40].
وموسى عليه السلام لما كان في الليلة التي كان فيها مسافراً وعائداً من أرض مدين إلى أرض مصر، وكان في الطور ومعه زوجته وكانت حاملاً، وفي ساعات المخاض أي: النفاس وكانت ليلةً باردةً مطيرةً مظلمة، أي: في حالة لا يعلمها إلا الله: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً} [القصص:29] أي: من جنب الجبل وجد ناراً: {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً} [طه:10] يريد أن يدفئ أهله: {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل:7] {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:11 - 14].
أول شيء: اعبدني وأقم الصلاة، ذكر الصلاة مع العبادة مع الأمر بالتوحيد: {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:14 - 15] وفي سورة يونس يقول الله عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [يونس:87] أوحى الله إليهم إذا بنوا بيوتهم في مصر أن يجعلوا بيوتهم إلى القبلة، أي: إلى بيت المقدس، وماذا؟! وأقيموا الصلاة، اجعل بيتك إلى القبلة وأقم الصلاة.(19/9)
الصلاة وصية الله لعيسى ابن مريم
هذا عيسى عليه السلام يذكر الله عز وجل عنه حينما جاءت به مريم تحمله، وقد حملت به من غير أب، ولله عز وجل أن يخلق ما يشاء؛ لأنه على كل شيء قدير.
خلق الناس على أربعة أصناف: الصنف الأول: من غير أم ولا أب وهو آدم، قال الله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] فالله يخلق ما يشاء ويختار، فخلق آدم حيث قبض قبضةً من التراب، ونفخ فيه من روحه من غير أم ولا أب لا حمل في بطن ولا خرج من صلب، وإنما الله عز وجل قبضه من التراب وخلقه ثم نفخ فيه من الروح وصار بشراً سوياً.
الصنف الثاني: من أب بلا أم، وهي حواء خلقها الله من ضلع آدم الأيسر؛ ولهذا المرأة خلقت من ضلع أعوج وما في الدنيا امرأة مستقيمة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته -وكسره طلاقها- وإن استمتعت به استمتعت به على عوج) الذي يريد امرأة مستقيمة ما فيها عوج في الجنة، ولهذا أعوج ما في المرأة أعلاها أي: لسانها: (فاستمتعوا بهن على عوجهن) هكذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا صنف خلقه الله عز وجل من أبٍ بلا أم وهي حواء.
الصنف الثالث: خلقه الله من أم بلا أب وهو عيسى عليه السلام، بعث الله جبريل فنفخ في جيب درعها وبعدها حملت لما جاءها الملك قالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:18 - 23] لأنها من بيت الطهر والعفاف، من بيت المروءة والشرف، من بيت العزة والطهارة والنقاء.
فتقول: ليتني مت قبل هذا اليوم {وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} [مريم:23 - 24] لكي يطمئنها أن القضية بأمر الله ليس فيها عيب أبداً، ولا فيها مخالفة ولكنها سنة الله الجارية {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:24 - 26]، وكان صومهم الإمساك عن الكلام والطعام والشراب والنكاح، كان الذي يتكلم بكلمة يفطر ويقضي ذلك اليوم.
{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم:27] فلما رأوه معها وهم يعرفونها أنها طاهرة، {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} [مريم:27] من أين جاء هذا؟ لقد جئت شيئاً عظيماً، جئت بمصيبة كبيرة، كيف هذا؟!! {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً * يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:27 - 28] دعوها وذكروها بنسبها وأخيها العابد الذي كان عابداً في بيت المقدس {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:28] يقولون: هذا ليس عملك أنت، كيف فعلت هذا؟ وهذا يتعارض مع الطهر والعفاف ومع النقاء والفضائل التي كنت تعيشين عليها في بيتك مع أمك وأبيك ومع أخيك هارون، {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:28 - 29] بدون كلام {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} [مريم:29].
فترك الثدي وكان يرضع من ثديها وتكلم وقال لهم: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30] وفي هذه الكلمة يقول العلماء: إن فيها نسفاً لعقيدة النصارى، الآن في العالم أكثر من (ألف مليون) نصراني يعتقدون أن عيسى ابن الله ولكنه يقول هو: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30] وهو أعرف الناس بنفسه، فكذبوا، والله يقول: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [مريم:35] فهنا قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ} [مريم:30 - 31].
هذه وصية الله لعيسى عليه السلام وهي الشاهد من الحديث: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم:31 - 36].
الصنف الرابع: وهو من خلقوا من أم وأب وهم سائر البشرية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:13](19/10)
منزلة الصلاة في الإسلام
يقول الله سبحانه وتعالى في شريعة الإسلام بالشريعة الخاتمة المهيمنة المسيطرة التي هي آخر الرسالات والتي رسولها آخر الرسل، قال الله عزوجل فيها: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] فكانت الصلاة قطب هذا الدين وعمود هذا الإسلام.
وفي حديث معاذ بن جبل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار؟ قال: تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت الحرام إن استطعت إليه سبيلا، ثم قال: ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: الصوم جنة) الصوم وقاية؛ لأنه يحفظك من كل معصية، والصائم يحفظ من معصية الله، فكيف يخرب ويبني في نفس الوقت.
(الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل ثم قرأ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17] ثم قال: ألا أدلك على ملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: كف عليك هذا، قال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) فلا يكب الواحد في النار إلا لسانه، اللسان هو وسيلة النجاة وهو وسيلة الهلاك.
لا حول ولا قوة إلا بالله! فجاءت الصلاة لتكون ذات منزلة عظيمة في دين الله حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) قال: (حبب إليَّ من دنياكم الطيب) صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه طيب.
والطيب يرفع النفس ويبارك الروح، ولذا قال أهل العلم: لو أنفقت ثلث مالك في الطيب لم تعد مسرفاً، أي: لو أن راتبك (ستة آلاف ريال) وأنت شهرياً تصرف (ألفي ريال) في الطيب لم تعد مسرفاً، لماذا؟ لأن الطيب يحبه الله تبارك وتعالى، والملائكة تحب الطيب، والناس يحبون الطيب، فمن كان طيباًَ في ريحه فهو طيب عند الله في كل أموره.
لكن اليوم أكثر ما ينفق الناس أموالهم في الدخان في طيب الشيطان، ولا يمكن أن يغلق الباكت إلا والباكت وراءه، بل بعضهم يشتري (كراتين) لأنه يخاف أن تأتي حروب وتصير أزمة في الدخان، فهو يكنزه مثلما يكنز البر والحب -لا حول ولا قوة إلا بالله! - ولو حسب كم يشتري كل يوم يشرب علبتين، والعلبتان (بثمانية ريالات) أو (بعشرة ريالات) بحسب نوعية الدخان، أي: يشتري في الشهر (بثلاثمائة ريال) أي: في السنة (ثلاثة آلاف وستمائة ريال) في الدخان، ويقول بعضهم: إن ريال الدخان معوض، فلو جاءه فقير عند الباب في الصباح وأعطاه ريالاً قلنا: كثر الله خيرك، لكن لو جاءه في اليوم الثاني: ويريد ريالاً، قال: ماذا أتى بك؟ فبالأمس أعطيتك ريالاً وتمر عليَّ كل يوم، ولكن الدخان كل يوم (عشرة) وليس فيها كلام ولا تبرم أبداً ولا ضجر، لماذا؟! لأنها طاعة للشيطان ومعصية لله تبارك وتعالى.
بينما كم ينفق الإنسان في العود؟ كم ينفق الإنسان في الطيب؟ قليل جداً، فرسول الله صلى الله عليه وسلم طيب ويحب الطيب يقول: (حبب إليَّ من دنياكم الطيب والنساء -أي: الحلال-، وجعلت قرة عيني في الصلاة) صلوات الله وسلامه عليه، ويقول وهو يلفظ أنفاسه في آخر لحظة من لحظات حياته: (الله الله في الصلاة، الله الله في الصلاة، الله الله في الصلاة، وما ملكت أيمانكم) ولما نزل قول الله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم:59] خلف أي: نشء جديد، أي: أناس يأتون وأبرز صفاتهم أنهم لا يحبون الصلاة، وهذا موجود الآن، إلا من رحم الله.
ما من بيت إلا وفيه معركة بين الأب وبين الأولاد في الصلاة، الأب يريد طاعة الله والأولاد لا يريدونها أبداً، إذا دعاهم إلى الصلاة كأنه يضرب وجوههم بحديد، فلا يريدون الصلاة: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:59] أما المباراة يذهب من قبل العصر ينتظرها يأتي لكي يلعب كرة، والكرة أتعب من الصلاة، لكنها صلاة إبليس وطاعة للشيطان، لكن الصلاة ثقيلة عندهم: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] لما نزلت هذه الآية قال محمد صلى الله عليه وسلم لجبريل: (أو تضيع أمتي من بعدي الصلاة؟!) أيعقل أن يُضيع مسلم الصلاة؟ (قال: يأتي أقوام في آخر الزمان يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا، درهم عنده خير من صلاة)، فالآن تركوها بلا درهم ولا ريال ولا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون!(19/11)
أحكام تارك الصلاة
هذه العبادة جاءت في دين الله لازمة ومأمور بها ومحضوض عليها وببيان أنها فرق بين المسلم والكافر، يقول عليه الصلاة والسلام: (العهد الذين بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) ويقول: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) ويلزم بكفر الإنسان التارك للصلاة أحكام شرعية:(19/12)
يستتاب وإلا يقتل ردة
أولاً: يستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب وإلا قتل وقتله ردة وليس حداً وفرق بين من يقتل حداً وبين من يقتل ردة، فمن يقتل حداً كمن يقتل قصاصاً أو يقتل في رجم، هذا يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين؛ لأنه مسلم، ما كفر ولا خرج من الدين بهذه الجريمة التي اقترفها، وإنما هو صاحب كبيرة تحت مشيئة الله في الدار الآخرة إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه، ولكن بإسلامه لا بد له من دخول الجنة.
أما تارك الصلاة فإنه يقتل ولكنه لا يقتل حداً بل يقتل ردةً؛ لأنه كافر مرتد عن الدين، وتنتفي عنه أحكام المسلمين، فلا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وإذا دفن لا يوجه إلى القبلة؛ لأنه ليس من أهل القبلة، أما المسلم إذا مات يوجهونه إلى القبلة، لماذا؟ ما معنى القبلة بالذات؟! أنا رأيت قبور اليهود نظرتها في نجران ليسوا موجهين لقبلة قبورهم منظمة تجاه القبلة، لكن أهل الإسلام قبورهم كلها متجهة إلى الله؛ لأنهم من أهل القبلة.
فتارك الصلاة ليس له قبلة، إذاً ماذا نصنع به؟ قالوا: يربط كما تربط الدابة، إذا مات حمار في القرية هل يقبرونه ويكفنونه ويصلون عليه؟ والله إن تارك الصلاة ألعن من الحمار، يوم القيامة يتمنى أن يكون حماراً يوم يقول الله للخلائق كلها هذه الحيوانات تكون تراباً، فيقول: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40] ليته كان ثوراً أو بقرة أو حماراً، ويقول الله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12]، ويقول عز وجل: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] فالحمار يسحب حتى تأكله الذئاب في طرف الوادي، ولكن الإنسان قالوا: يسحب ولا يحمل على رقبة، لماذا تحمله وهو عدو الله كافر؟! يسحب ولكن لا يترك للذئاب تأكله، لماذا؟ قالوا: لأن الذئاب لو أكلته لشبقت؛ لأن طعم لحم الإنسان ليس كطعم الحمار فإنه لذيذ، فإذا ذاقته الذئاب والسباع لفتكت بالناس واعتدت عليهم وأصابها الشبق، فلا يدفن في الأرض بل يحفر له ويوارى جسده ويكب على وجهه، فلا يوجه إلى قبلة ولكن يكب على وجهه.
والعياذ بالله!(19/13)
أن تحرم عليه زوجته
إن تارك الصلاة تحرم امرأته عليه بدون طلاق؛ لأن الطلاق بين المسلمين، أما الكافر إذا كفر وارتد عن دين الله انفسخ العقد؛ لأنه مبني أصلاً بين الرجل وبين المرأة على الإسلام، ولهذا لو جاءك أحد يخطب ابنتك وأعطاك (ملايين الملايين) وهو كافر يهودي أو نصراني فلا تزوجه أبداً، لماذا؟ كيف تعطي ابنتك نصرانياً أو يهودياً؟ وكذلك تارك الصلاة هو مرتد عن دين الله وفي حكم اليهودي أو النصراني أو الملحد فمتى يثبت لك أنه ترك الصلاة وأنه ارتد عن دين الله، فإنه تحرم عليه زوجته ويلزمك شرعاً أخذ ابنتك، وإذا تركت أختك أو ابنتك تحت بطنه وهو كافر مرتد لا يصلي فإنما ترضى بأن تأتي أختك أو ابنتك الفاحشة؛ لأنها ترتكب حراماً ويأتي أولادها أولاد زنا وأنت راض تسمع أيها المسلم! فلا ينبغي لمسلم أن يعلم هذا الأمر ويترك عرضه تحت كافر أو مرتد عن دين الله عز وجل، فما في الدين شيء تركه كفر على الإطلاق إلا الصلاة.(19/14)
الصلاة من أبرز صفات المؤمنين
لقد ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم صفات أهل الإيمان وجعل من أبرز صفاتهم ومن أهم علاماتهم هذه الصلاة.
والذي يتأمل القرآن كله يجد أن الصلاة تأتي في أول صفات أهل الإيمان، يقول الله في أول سورة البقرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة:1 - 3] هذه صفات أهل الإيمان {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] أي: القرآن هداية لأهل التقوى، فمن هم؟ قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3].
وقال عز وجل في سورة التوبة: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة:71].
وقال عز وجل في أول سورة الأنفال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] و (إنما) يسميها العلماء أداة حصر، يعني: تحصر الإيمان في أهل هذه الصفات والذي ليس فيه هذه الصفات فليس من أهل الإيمان فالله يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] أي: خافت وارتعدت من الله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4].
ويقول الله عز وجل في أول سورة المؤمنون: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2] ثم ذكر الصفات كلها وقال في النهاية: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:9 - 11].(19/15)