من أسس التربية(53/3)
الثبات في المبادئ والبعد عن التناقض
أيها الآباء! أيها الأمهات! أيها المربون! أيها المربيات! إن أول أسس التربية الثبات في المبادئ والبعد عن التناقض بين الأقوال والأفعال، السلوك الحسن هو حسن في كل وقت، والسلوك السيئ هو سيئ في كل وقت.
إن وضوح الحق والثبات عليه، وملازمته، يُكَوّن في المتربي نفساً مستقرة غير مضطربة، فيعرف الخطأ من الصواب، ويميز بين الحق والباطل، تأملوا هذا التوجيه النبوي الكريم، يقول عليه الصلاة والسلام: {مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع}.
توجيه للأب في أمر ابنه بالصلاة منذ السابعة، سن التميز والإدراك، وهو توجيه في المداومة والمتابعة، فمن الخطأ البين أن يأمر ابنه بالصلاة أحياناً، ويترك المتابعة أحياناً أخرى، ومن الخطأ كذلك أن يراه لا يصلي ثم يتهاون في ذلك أو يتغاضى.(53/4)
التفريق بين خطأ الإهمال وخطأ الاجتهاد
أيها المربون: يحسن التفريق بين الخطأ الناتج عن الإهمال والتقصير، والخطأ الناتج عن الاجتهاد والمحاولة، فالخطأ الناتج عن الإهمال والتقصير يستحق المحاسبة والعتاب.
أما الخطأ الناتج عن الاجتهاد والمحاولة فحقه التشجيع، ينبغي أن يتربى الطفل على أن خطأه بعد المحاولة والاجتهاد ليس مما يعاب، ينبغي أن يُعوَّد على الشجاعة والإقدام، والاعتراف بالخطأ، والسعي في تصحيحه، إذا رأيت كبيراً راشداً يرى أن في الاعتراف بالخطأ غضاضة وعيباً فاعلم أنه قد نشأ على أسلوب في التربية خاطئ ومضطرب.
إن الطفل وهو يعيش التجارب والمحاولات ويمر بالظروف والمتغيرات، ينبغي أن يحاط بالأمان والثقة، ويمنح فرص الاختيار وتنمية الإحساس بالمسئولية، وتحمل نتائج الأعمال، إنه يتلذذ بالإنتاج والنجاح، وكذلك بالإنجاز، ويتوقف ويتألم عند الفشل والإخفاق، لا ينبغي أن نقطع عنه ذلك وأن نحيطه بجو من الحساب والعتاب بل ينبغي أن يحاط بجو من الثقة والشفقة، والتقدير والاعتبار.
إن المربي الذي يسلك أسلوب القسوة والتملك والصرامة المفرطة، لا تراه إلا شديد المطالبة بحقه، يفرض الطاعة فرضاً، ليس له هم إلا تنفيذ أوامره وحفظ حق نفسه واحترام سلطته، يقابل ذلك مربٍ مهمل متساهل ميال إلى سرعة الاستجابة لمطالب الطفل، لا يكترث بحقوق نفسه، غير قادر على ضبط مسالك طفله ولا يعتني بقضايا أبنائه.
أيها الإخوة: إن كلا المسلكين لا ينتج إلا ضعيف الشخصية، المنطوي على نفسه، المعتمد على غيره، بل قد يكون عدواني النزعة، إنها تربية على المكر والاحتيال والكذب وعدم الصراحة، كما تورث الذلة والهوان، والجبن والخور.
أيها المربي الفاضل: إن المسلك الرشيد وسط بين هذا وذاك، إن الأب المربي، الحافظ لحقه، المدرك لمسئوليته، المتوازن في مطالبه يعرف للطفولة طبائعها ومطالبها، لا يتبرم من كثرة أسئلتها، ولا يضيق بآرائها، حريص على تنمية مدارك الطفل العقلية والنفسية، يعيش الأطفال في هذه الأجواء في ضبط حازم ملتزمين بالآداب والنظام، يقبلون التوجيه، شخصيتهم الفردية محترمة، فرص الابتكار لهم متاحة، وممارسة المهارات متوفرة، أسلوب يوازن بين الانضباط والاستقلال، تتحمل فيه الناشئة مسئوليتها الفردية والجماعية.(53/5)
أهم ثمرات التربية التزام الصدق وتجنب الكذب
أيها المعلمون: إن العلوم والمعارف، والمواد العلمية والتعليمية عناصر أساسية في التربية، ولكن النجاح والمقياس ليس بكثرتها وسردها بل في مدى ما انطبع في النفوس من العقائد الصحيحة وما استقام من الأعمال الصالحة، وما طاب من السلوك المهذب، والعلوم والمعارف تفقد قيمتها إذا لم تتجسد قناعات في القلوب، وممارسات في السلوك، يتجلى فيها يقظة الضمير وسمو الوجدان، والاستمساك بالفضائل والنهوض بالمسئوليات.
وأظهر المظاهر وأول الدلائل على النجاح وأهم ثمرات التربية ولب لبابها: التزام الصدق وتجنب الكذب، في الأقوال والأفعال، ألم يقل عليه الصلاة والسلام: {عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر}؟
والبر: هو الكلمة الجامعة لكل خير من الأقوال والأفعال والاعتقادات، والكذب يهدي إلى الفجور، والفجور: كلمة تجمع أنواع الشرور.
إن أول ما يتفتق عنه وعي الطفل في نشأته ومداركه من خلق والديه ومن حوله مسألة الصدق والكذب، فكم رأيتم من الآباء والأمهات يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون خلاف ما يقولون، يأمرون بالبر وينسون أنفسهم.(53/6)
شذرات تربوية
أيها الإخوة: واسمعوا إلى هذه الشذرات التربوية، يقول عمر بن عتبة لمؤدب ولده: ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودة بك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت، علّمهم كتاب الله، ولا تملهم فيتركوه، ولا تتركهم منه فيهجروه، وارو لهم من الحديث أشرفه، ومن الشعر أعفه، ولا تنقلهم من علم حتى يحكموه، فإن ازدحام الكلام مشغلة للأفهام، وعلمهم سنن الحكماء، وجنبهم محادثة السفهاء.
وفي وصية أخرى، يقول فيها هارون الرشيد لمؤدب ولده: لا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيدها إياه من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه ما استطعت بالقرب والرفق والملاينة، فإن أباها فعليك بشيء من الشدة والغلظة.
وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: حدث الناس ما حدجوك بأبصارهم، -أي: حددوا النظر إليك- وآذنوا إليك بأسماعهم، -أي: أصغوا وأنصتوا- فإذا رأيت منهم فترة -أي: مللاً- فأمسك، وقليل نافع خير من كثير ضائع.
أيها الإخوة: إن التربية حينما تعطى حقها، فإنها بإذن الله تبني شخصية متزنة، مرتبطة بربها، محبة لنبيها صلى الله عليه وسلم، عاملة بدينها، ذات طموحات عليا ومثل أعلى، تجعل من الأمة في أفرادها قوة متماسكة لا تعصف بها المحن، ولا تنال منها الخطوب، ولا تصيب منها الكوارث والشدائد؛ لأنها قوة بإذن الله تكونت من لبنات قوية متماسكة.
يقول لقمان ناصحاً ابنه: {ِوَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:17 - 19].
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة وألهمنا العلم والحكمة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(53/7)
معالم في التربية
الحمد لله عم بحكمته الوجود، وشملت رحمته كل موجود، أحمده سبحانه وأشكره، وهو بكل لسان محمود، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الفرد الصمد المعبود، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، صاحب المقام المحمود والحوض المورود، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الحنفاء الأطهار الركع السجود، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم الموعود، والموقف المشهود.
أما بعد: -
فاتقوا الله عباد الله! فإن تقواه أقوم وأقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7].
أيها الآباء: أيها المعلمون! أيها المربون! يُربى أبناؤنا على القدوة الحسنة، ونشدان الكمال، وعلى إحقاق الحق، وحب العدل، يجب البعد عن التناقض بين المبادئ الأصيلة الصحيحة من الإيمان والخير والطهر وبين مبادئ الكفر والظلم والقسوة والانحطاط الخلقي.
أيها المربون: ينبغي أن يعلم أن التقليد فطرة مغروسة في سلوك الطفل، فهو يقلد ما يراه، إن حسناً فحسن، وإن سيئاً فسيء، ومن ثم فلا ينبغي أن تقع عين الطفل إلا على كل مظهر حسن، وعلى ألا تتلقى أذناه إلا كل لفظ مهذب، ولا ينمو رصيده من المشاهدات والمدركات والمعارف إلا على كل تصرف رشيد وكل عمل مفيد.
والنفوس مجبولة على حب التملك والتفوق والثناء، فلا ينبغي أن يغفل الأب والمربي عن الحوافز المادية، والمشجعات الأدبية، فتتنوع الحوافز والجوائز فيُمنح مالاً، ويُهدى كتاباً، ويُشجع بالألفاظ المسموعة والمكتوبة، ناهيك بالحافز الأخروي، وربط الناشئة بما عند الله، فما عند الله خير وأبقى من عظيم الأجر وجزيل الثواب، وهذا يتناسب مع كبار الناشئة قبل صغارها.
يجب مع ذلك -على الكبار- العناية بالألفاظ، وأسلوب الخطاب، وترك الفظاظة والغلظة، مع مراعاة حسن الهيئة من الملامح المبتسمة، والقسمات المبتهجة، في أريحية وطلاقة وجه، فيكسب القلوب، ويملك المشاعر، ولا يسع الناس إلا طلاقة الوجه وبسط المحيا، وتبسمك في وجه أخيك صدقة.
ينبغي أن يسود في التربية احترام الكبير، ورحمة الصغير، وحفظ الحقوق، واحترام الممتلكات العامة والخاصة، والعطف على المحتاج، ورعاية المريض والعاجز، والرفق بالحيوان، والتنظف والتجمل، والشجاعة في القول، والرأي والعمل، و {المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير}.
أيها الإخوة: إنها التربية المتكاملة المتوازنة، تعصم بإذن الله من النزوات النفسية، وتحمي من سلطان الميول الجامحة، والأهواء المؤذية، وتنير للناشئة طريق الهدى والصلاح، فتقوم الحياة والعلاقات على الحب والطاعة والتعاون والمناصحة، وتنطبع النفوس على جميل الخصال وتدفع بالسلوك إلى أنبل الفعال، سدد الله الخطا وبارك في الجهود وأصلح الأنفس والنيات والذريات، إنه سميع مجيب الدعوات.
هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال عز من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واخذل الطغاة والملاحدة وجميع أعداء الدين، وانصر عبادك المؤمنين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لتوفيقك، وأيده بتأييدك، وأعلِ به كلمتك، وانصر به دينك، ووفقه لما تحبه وترضاه، وأصلح له بطانته، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين، اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك، لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك، اللهم انصرهم في فلسطين، وفي كوسوفا، وفي كشمير، وفي كل مكان يا رب العالمين.
اللهم سددهم وأيدهم، اللهم أنزل سخطك ومقتك على اليهود الغاصبين، والصرب الظالمين، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل كيدهم في نحورهم، واجعل اللهم الدائرة عليهم يا قوي يا عزيز! ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(53/8)
مراتع الظلم ونموذج كوسوفا
الوقت له دوره الفعال في بناء الحضارات، وقد جاءت الآيات والأحاديث مبينة أهمية الوقت.
وأدق أنواع المحاسبة الزمانية الوقوف عند ظلم النفس والوقوف عند الظلم والتظالم.
وللظلم عاقبة وخيمة.
ودفعاً للشر الذي يترتب على الظلم يجب نصر المظلوم.
وهناك نموذج صارخ للظلم وهو ما يحصل لأهل كوسوفا على أيدي الصرب الظلمة، مما يوجب نصرتهم وإنقاذهم.(54/1)
الوقت وأهميته
الحمد لله واهب النعم، ومؤتي الحكم، جعل في كر الأيام معتبراً، وفي تقلب الزمان مزدجراً.
أحمده سبحانه وأشكره، يقلب الليل والنهار، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله بالضياء، وقدمه في الاصطفاء، وجعله قدوة الحنفاء، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آل بيته وأهل صحبته وأنصار دعوته، ما رقت القلوب، وراقبت ربها علام الغيوب، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:-
فأوصيكم -أيها المسلمون- بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، وأقلوا الركون إلى الدنيا، فإن ما أمامكم عقبة كئود، ومنازل مخوفة لا بد من ورودها والوقوف عندها.
فالمنية دانية، وأظفارها ناشبة، واحذروا التسويف وطول الأمل: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197].
أيها الإخوة المسلمون: للزمن -بإذن الله- دوره في الفعل الحضاري، والإسلام قد أمر بالتفكر والتدبر والاعتبار والتفكر، والنظر في المآلات وتقدير العواقب، من خلال رؤية واسعة تستصحب الزمن بأبعاده كلها، الماضي منه والحاضر والمستقبل، عرف المسلم قيمة الزمن، بعد أن كان قبل الإسلام متخاذلاً سلبياً، كما جاء في الآية الكريمة: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [الجاثية:24] فجاء نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، داعياً ومبلغاً ومحذراً: {اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك}.
وقائلاً: {لا تزول قدما عبدٍ حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين أكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه}.
لقد أدخل الإسلام الزمن في حساب المسلم ومسئوليته، من خلال ربط الأحكام بتعاقب الليل والنهار، وحركة الشمس والقمر، فالصلاة كتاب موقوت، والزكاة في الحول ويوم الحصاد.
وللصوم هلاله ورؤيته، وللحج مواقيته وأهلته، فأي تساهل أو تفريط في هذه المواقيت يُفوَّت الثواب، ويعرض للعقاب، ناهيك بالأزمنة الخاصة الفاضلة في ثوابها وبركاتها، ومزيد العمل الصالح فيها، كيوم الجمعة، ويوم عرفة، وعشر ذي الحجة، والإثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، وأيام البيض.
بل لقد صحح الإسلام النظر إلى الكواكب في مساراتها، والأفلاك في جريانها؛ فطهر العقول من لوثات الخرافات، والتعلق بالبروج والأنواء تطيراً وتشاؤماً.
فالشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، والنجوم والكواكب زينة للسماء، ورجوم للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، و {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس:5].(54/2)
خطورة إضاعة الوقت
أيها الإخوة المسلمون: كم سيكون الواقع مريراً والأمر خطيراً إذا فرط العبد في وقته، وذهل عن هذه الحكم الباهرة، ذهل عن مسئوليته وإضاعة أوقاته.
إن كثيراً من مواقع الفشل، ومواطن الخلل عند المسلمين المعاصرين، تظهر وتتجلى في حساب إنتاجهم وإضاعتهم لأوقاتهم.
إن إنتاج بعضهم في عملهم اليومي لا يجاوز حصيلة نصف ساعة، إن الحال مخيف حينما تكون المحاسبة جادة، كيف يستثمر المسلم طاقاته وقدراته، وبماذا يصرف أوقاته وساعاته.
إنها صورة فاضحة من حالة الوهن الحضاري، حين يسيطر الكسل، ويدب الضعف، ويقتل الوقت، وتفشو الاتكالية، فتنتهي الأمة إلى مرحلة القصعة التي تتخاذل حتى تتكالب عليها الأمم؛ لأكل خيراتها وتعطيل طاقاتها.
أيها المسلمون: إن حل هذه المسألة: هو إعادة النظر في تصويب معادلة الزمن، ليصحح مساره، وتسقط الأمة وأفرادها في محاسبة للنفس جادة، ولأمر ما قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وفي وصية من آخر وصاياه: {إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، ثم قرأ عليه الصلاة والسلام: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]}.(54/3)
الظلم وخطره
أيها المسلمون: إن أدق أنواع المحاسبة الزمانية: الوقوف عند ظلم النفس، حين قال الله عز وجل: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36] الوقوف عند الظلم والتظالم، عند ظلم النفس وعند ظلم الغير، ومن ظلم غيره فقد ظلم نفسه لا محالة.
عباد الله: الظلم واسع المعنى، يتناول وضع الأشياء في غير مواضعها، وانتقاص الناس في حقوقها، والتفريط في الواجبات، واقتحام المنهيات، يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله: والظلم مبارزة الرب بالعصيان، وهو لا ينشأ إلا عن ظلمة القلب، والعبد إذا اكتنفته ظلمات ظلم لم يغنه بعد ذلك شيء.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: كل ما نهى الله عنه راجع إلى الظلم، وكل ما أمر الله به راجع إلى العدل.
ومن أجل هذا؛ كان أكبر أنواع الظلم، وأعظمها وأعلاها: الظلم الذي لا يغفره الله ما لم يتب منه صاحبه، ذلكم هو الإشراك بالله، عياذاً بالله! وفي التنزيل: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72] {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254].
ومن أعظم أنواع الظلم: تظالم العباد فيما بينهم، وفي الحديث القدسي: {يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا} فأكل مال اليتيم، والتفريط في الوصايا، وعقوق الوالدين والأرحام، والمماطلة في المعاملات، والغصب والسرقة، والاختلاس، وأكل الربا، وتطفيف المكيال والميزان، والعسف والتغرير بالعميل، وخيانة الودائع والأجير والوكيل والكفيل والشريك، والحكم والولايات العامة والخاصة، والقضاء، كل ذلك وأمثاله من المعاملات والتعاملات والعلاقات؛ التفريط فيها والخيانة لها والغش فيها ظلم مقت الله أهله، وأحاطت بالديار عواقبه، و {بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:44].(54/4)
ثمرات الظلم وعاقبته
أيها المسلمون: في أجواء الظلم توضع الأمور في غير مواضعها، وتقع الأشياء في غير مواقعها، فيعظم الحقير، ويمجد الوضيع، ويوسد الأمر إلى غير أهله، وحينئذ تعاني الأمم الأمرّين من أحكام الجاهلية ومسالكها، وما استساغ أحد الظلم إلا لظلمة في قلبه، ودخل في طويته، وخلل في نفسه: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
الظالم يمتطي سفينة الغفلة، فيرد موارد الهلاك، يتجرأ على حقوق الآخرين ليقضي مآربه، دعته قوته وجاهه وماله ونفوذه ليتجاوز الحدود، ويعتدي على الحقوق، غفل عن الوقوف بين يدي جبار السماوات والأرض: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان:27] {يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52].
مشاعر مجرمة، وشعور آثم: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه:111] ظالم أثيم، لا يبالي بدين ولا قرابة، ولا يعبأ بمسئولية ولا رقابة: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة:165].
الظلم وخيم المرتع، سيئ العاقبة، هو منبع الرذائل، ومصدر الشرور، إذا فشا في أمة أهلكها، وإذا حل بقوم فرقهم، به تخرب الديار، وتزول القرى والأمصار، وتنتشر الفوضى ويعم الهرج.
وما تزول الدول ولا يضطرب الحال إلا بسب الظلم والتعسف والجور: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} [الكهف:59] {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ} [هود:102 - 103].
وجزاء الظلم سريع النزول معد للعقوبة، يقول بعض السلف: أعجل الأمور عقوبة وأسرعها إلى صاحبها ظلم من لا ناصر له، ومجاورة النعم بالتقصير، واستطالة الغني على الفقير.
وفي الحديث الصحيح: {من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال رجل: يا رسول الله وإن كان يسيراً؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك} رواه مسلم.
وبعض الناس قد يتوهم أن حكم الحاكم له بحق أخيه يبيحه له ويعفيه من مسئوليته، وهذا غلط فاحش، وفهم خاطئ، وغفلة مهلكة، وقلة فقه في الدين، فإن الحاكم بشر يخطئ ويصيب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: {إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم فلعل أحدكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق؛ فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو يذرها}.
وفي الحديث الآخر: {من خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى يرجع} رواه أبو داود، ويل لهؤلاء الظلمة من ثِقل الأوزار، وويل لهم وقد امتلأت بمظالمهم الديار، وأين المفر من ديان يوم الدين؟ يوم تنشق سماء عن سماء، ويأتي الرب لفصل القضاء، وتجتمع عند الله الخصوم: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] {وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران:151].
{المفلس: من يأتي يوم القيامة وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار} بهذا صح الخبر عن نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم.(54/5)
وجوب نصرة المظلوم
أيها الإخوة المسلمون: والمظلوم له حق النصرة، فالظالم لا يرتدع ولا ينقمع إلا إذا أدرك أن جانب من يريد ظلامته محمي عزيز المنال.
ففي دين الإسلام لا يجوز خذلان المسلم، فكيف إذا كان مظلوماً: {فالمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه} وعند البخاري رحمه الله من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: {أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننصر المظلوم} وفي الحديث الآخر: {إذا رأيتم أمتي لا يقولون للظالم أنت ظالم، فقد تودع منهم} إسناده حسن من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
ويقول علي رضي الله عنه: [[إنما أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الحق حتى اشتري، وبسطوا الجور حتى افتدي]].
أيها الأحبة في الله: ولقد أعطي المظلوم حق الجهر بالسوء من القول انتصاراً لنفسه وإثباتاً لحقه، وتثبيتاً لعزته، فالظالم لا حرمة له: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] وتأملوا رحمكم الله هذه الآيات من سورة الشورى، وما أعده الله من خير عظيم دائم لمن تحلوا بهذه الصفات التي اشتملت عليها هذه الآيات، يقول الله عز وجل: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:36] إلى أن قال سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:39 - 41].
ولعلك تجد رحمك الله أن العفو والصفح ممدوح، ولكن ذلك بعد ثبوت الحق لصاحبه، فيجب أن يعرف المعتدي جريرته، ويعترف الظالم بظلامته؛ فيكون المظلوم قد نزل عن حقه بعد القدرة على أخذه، فهو قد تنازل في سماحة مذكورة وسبق بالفضل.
وفي نصرة المظلوم حتى يأخذ حقه، والأخذ على يد الظالم حتى يكف عن تعديه حفظ نظام المجتمع، وحماية الضعفاء من تسلط الأقوياء، والإنسان إذا أمن العقوبة مال إلى الشر وتجاسر على الظلم.
أما الذين يشهدون المعركة بين القوي والضعيف، ثم يدعونها تنتهي حسب قوانين الغاب وشرائع الذئاب من غير معونة ولا نكير؛ فهؤلاء شركاء في الظلم أعواناً للظلمة، يقول ميمون بن مهران: الظالم والمعين على الظلم والمحب له سواء.
وفي الحديث: {ما من مسلم يخذل امرأً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه عرضه، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئٍ ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وتنتهك فيه حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته}.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله: {فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده}.
ورحم الله امرأً أنصف من نفسه فأدى ما عليه واقتصر على حقه وأراح القضاء وما أزعج السلطات، وأهل العدل إذا استرحموا رحموا وإذا حكموا عدلوا وإذا قسموا أقسطوا، والمظلوم دعوته مستجابة، وإن كان فاجراً فجوره على نفسه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:42 - 46].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم، وأقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(54/6)
كوسوفا نموذج صارخ للظلم(54/7)
كوسوفا والاضطهاد الظالم
ساءت الأحوال في كثير من المواطن، في فلسطين وكشمير وأجزاء من لبنان، وهاهي كوسوفا نموذج صارخ، تسمع عواء الذئاب، وترى السباع وهي تنهش من لحوم الضحايا، ولا تكاد تسمع إلا أنيناً خائفاً خافتاً للمظلوم والمستضعفين، حالات من الفتن والمظالم يقوم بها الصرب الظالمون.
حالات من الفتن والمظالم، إبعاد وطرد، وتصفية عرقية، وعصبية حمراء، وعنصرية سوداء، وحرب إبادة شعواء، أراقوا الدماء، وتحكموا في الرقاب؛ فأساءوا وظلموا واستخفوا بالحرم، إزهاق أرواح، وهتك أعراض، وتمثيل وإذلال، وتهجير وإحراق في كل واد.
أهل كوسوفا في كل واد يهيمون، فراشهم التراب، وغطاؤهم الغمام.
قوافل هائمة من الشيوخ والعجائز والأطفال، لقد صرح الصرب في إعلامهم وأحاديثهم وفي مقابلاتهم؛ بأن الهدف هو القضاء على المسلمين هناك، فالمسلمون في أوروبا يجب أن ينتهوا، لقد صرحوا وتنادوا: إن على أهل كوسوفا ومن حول كوسوفا أن يختاروا أحد أمرين: إما أن يتحولوا عن دينهم، وإما الموت ولا خيار غير ذلك، بل لقد قال بعضهم: إن بيننا وبين المسلمين ثأراً، وسوف نقوم بطردهم، ومن يريد البقاء فسوف نقتله، لا نريد مسلمين بيننا.
وهذا شيء من الواقع.
أيها المسلمون: إن تدخل القوى الكبرى في محاولة لحل مشكلة كوسوفا، ورفع المظلمة عن أهلها، شيء يدعو إلى الارتياح، وهو محل ترحيب، ولكن هذه الآلة الحربية الجبارة، ألا تستطيع منع التصفية العرقية الفاضحة؟ ألا تستطيع منع التهجير الجماعي الفادح ضد مسلمي كوسوفا؟ ألا تستطيع منع اغتصاب المسلمات؟ إنه أبشع مشهد تختزنه الذاكرة الإنسانية في التاريخ المعاصر.
هل المقصود هو حماية الطريق لقوافل النازحين بدلاً من التوجه الجاد والسريع نحو منع الطرد والإبعاد وإيقاف النزوح، ومن ثمَّ إعادة الجميع إلى ديارهم ومنحهم حقوقهم؟
المحميون في كوسوفا أرضهم محروقة، ونساؤهم مفجوعة، يلوذون بالغابات كالطرائد المذعورة، ويا لحقوق الإنسان!(54/8)
النصر لأهل كوسوفا
أما المسلمون فيجب عليهم أن يبادروا في عون إخوانهم، وإسعافهم وتقديم ما يستطيعون من عون مادي ومعنوي؛ فأهل كوسوفا يعيشون محنتين: محنة التصفية الجسدية والطرد من الوطن، ومحنة التغريب والإخراج من الدين، مما يتطلب المبادرة السريعة المكثفة من الحكومات الإسلامية وشعوبها في نصرة إخوانهم في الدين، وإرسال مواد الإغاثة العاجلة، طعاماً وكساء ودواء، كما يجب التحرك على جميع الأصعدة، سياسياً وإعلامياً لحماية هؤلاء العزل، ونصرة قضيتهم وحفظ دينهم.
إنهم أمانة في أعناق المسلمين جميعاً، وهم مسئولون عنهم يوم القيامة، وإن الأمل بعد الله لمعقود على الحكومات الإسلامية، وأغنياء الأمة والقادرين منها ومنظمات الإغاثة الإسلامية، ورابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي؛ لتقوم بواجبها.
فهذا بلاء عظيم، وامتحان كبير، والمسلمون تتكافأ دماؤهم، وبهذا تحفظ أمة الإسلام كرامتها وعزتها، وتشعر بكيانها وتحترم قضاياها، ولا يسكت على الهوان غيور، ولن تنكسف شمس كوسوفا بإذن الله ولله الأمر من بعد ومن قبل.
اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اللهم اهزم الصرب المجرمين الظالمين المعتدين، اللهم اهزمهم وزلزلهم، اللهم خالف بين قلوبهم، وشتت شملهم، وفرق جمعهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
سبحانك ربنا! عز جاهك، وجلّ ثناؤك، وتقدست أسماؤك، يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم واجعل على هؤلاء الصرب رجزك وغضبك، وعذابك ومقتك، يا إله الحق! اللهم وانصر إخواننا المسلمين في كوسوفا، اللهم كن لهم وأيدهم، وارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وردهم إلى ديارهم أعزة منتصرين.
اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأطعمهم، ومستضعفون فانصرهم.
اللهم نجهم من شر الصرب ومن شايعهم، وغدرهم وخبثهم وكيدهم، اللهم واجعل الصرب بأسهم بينهم شديداً، ولا تجعل لكافر على مسلم سبيلاً برحمتك يا أرحم الراحمين.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وتداركوا أنفسكم، وأسعفوا إخوانكم، واحذروا المظالم، وليتحلل كل واحد مما ابتلي به من مظالم، ما دام في دار الإمكان قبل ألا يكون دينار ولا درهم، بذلك أرشد نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم اعلموا رحمكم الله أنكم في مقتبل هذا العام الجديد، فاستقبلوه بالأعمال الصالحة، والتشمير عن ساق الجد، وإحسان العمل والوعد الجميل، وإن خير ما تبادرون به صيام يوم عاشوراء، فقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يحرص على ذلك حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما: {ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم؛ يوم عاشوراء} متفق عليه.
ومن أراد صيام هذا اليوم، فليصم يوماً قبله أو يوماً بعده، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم، قال: {صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، صوموا يوماً قبله ويوماً بعده} وفي رواية: {أو يوماً بعده}.
فبادروا رحمكم الله بصالح الأعمال، قبل أن تتخطفكم الأجيال، ثم صلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين، فقد جاء في محكم التنزيل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم ارض عن الخلفاء الأربعة الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك، يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة، وانصر به دينك وأعلِ به كلمتك، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمع كلمتهم على الحق، يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، واجعل ما أنزلت قوة لنا على طاعتك، وبلاغاً إلى حين.
اللهم إنَّا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، على الله توكلنا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(54/9)
أمة القرآن
إن كل ما يحتاجه المسلمون من صلاح وإصلاح، وحسن معاش ومعاد محصور في هدي القرآن، وهدي من كان خلقه القرآن، وهو نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
والأمة الإسلامية في هذا العصر في أكثر مواقعها وأحوالها تحتاج أن تراجع نفسها في موقفها من قرآن ربها.(55/1)
منزلة القرآن الكريم
الحمد لله ذي الطول والمن والإحسان، أكمل لنا ديننا، وفضله على سائر الأديان، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أنزل عليه القرآن معجزةً محفوظةً، وحجةً باقيةً على تعاقب الأزمان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوه واعملوا وأخلصوا، وجدوا واجتهدوا، واعلموا أنكم ملاقوه، وتوبوا إلى الله ربكم، وأنيبوا إليه واستغفروه.
أيها المسلمون: لئن كان من المناسب أن يتحدث المتحدث عن الصيام في هذه الأيام، فإن قرين الصيام هو القرآن، في شهر الصيام تنزل القرآن، والقرآن لم يسم شهراً بعينه، سوى شهر رمضان: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان:3] {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1].
ولئن تحدث المتحدثون عن غزوة بدر الكبرى في أحداثها وعبرها، فإنهم إنما يتحدثون عما أنزل الله على عبده يوم الفرقان: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال:41] والقرآن كله فرقان: {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].
أيها الإخوة: تجتمع هذه المناسبات والملائمات وتتعاضد، ولكن القرآن العظيم قبل ذلك وبعده حديث كل مناسبة.(55/2)
صلاح الأمة باتباع القرآن
أمة القرآن: إن كل ما يحتاجه المسلمون من صلاح وإصلاح، وحسن معاش ومعاد محصور في هدي القرآن، وهدي من كان خلقه القرآن، نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ولكن أمة الإسلام في كثير من مواقعها وأحوالها تحتاج إلى أن تراجع نفسها في موقفها من قرآن ربها.
إن الكثير منهم يجهلون، أو يغفلون أن للقرآن العظيم تأثيراً حقيقياً في حياتهم المعاشية والمدنية، وإن كثيراً منهم وكثيراً يتشككون أو يترددون في أثره في تحقيق السعادة المنشودة في الدين والدنيا معاً، ولكن أهل العلم والإيمان يقولون في رسوخ وشموخ: ليس في قارات الدنيا الخمس ولا الست وحيٌ من عند الله حقٌ إلا هذا القرآن العظيم، ولن يُعرف الله معرفة صحيحة، ولن يصح إيمان عبد إلا عن طريق هذا القرآن.
كتابٌ استوعب هدي موسى وعيسى والنبيين من قبلهما، عليهم جميعاً وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
اجتمع في هذا القرآن ما تفرق في الرسالات قبله، فحفظ حقائق النبوات الأولى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19] فحفظها جميعاً، وهيمن عليها {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة:48].(55/3)
حفظ الله لكتابه
إن وثائق النقل لتتضافر، وإن براهين الإثبات لتتواتر على أن هذا الكتاب عزيز: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] كتاب محفوظ، لم ترق إليه شبهة، ولم يختلط به كلام بشر، ما شانه نقص، ولا شابته زيادة، كتاب خاص لمحمد، ولأتباع محمد صلى الله عليه وسلم، لم يقع لصاحب رسالة قبله، أن أقام بكتابه دولةً سارت في حياته مسيرتها نحو المشارق والمغارب، وبلغت من بعده دعوتها ما بلغ الليل والنهار: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [القصص:49].
كتاب كريم، أودع الله قوته في ذاته، حاول الأعداء قديماً وحديثاً، عربٌ جاهليون، وغربٌ مستشرقون، وزنادقةٌ حاقدون، حاولوا جميعاً العبث به، والتشويش في صدقه، فأجلبوا وتنادوا: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26].
شككوا في تنزله، وطعنوا في جمعه وتدوينه، ونالوا من قراءاته وحروفه، ولكنها محاولات هزيلة، رجعوا على أعقابهم خاسئين، استمعوا إلى القرآن، وهو يسجل هذه الدعاوى المخزية في أسلافهم وأخلافهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان:4 - 5].
وقالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:103] وقالوا: {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:2] وقالوا: {مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [القصص:36] ولما عجزوا واندحروا، رضوا لأنفسهم بالدنية والنقيصة، فقالوا: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة:88] {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:5].(55/4)
حاجة الأمة إلى مراجعة موقفها من القرآن
أيها الإخوة: الأمة تحتاج إلى أن تراجع مواقفها من قرآنها، القرآن حقٌ من عند الله، من بين دفتيه انطلقت خير أمة أخرجت للناس: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم:1].
أمة خيرةٌ تربت على مائدة القرآن، أخذت كتاب ربها بقوة، وسارت على نهجه بعزم، خضعت لتعاليمه بإيمان، فهداها للتي هي أقوم، لقد كان هذا القرآن خيراً عاماً تآخت عليه شعوب الإسلام، ونشأت به مدنية كانت زينة الأرض وضياءها، ورحمتها وعدلها، هؤلاء الأسلاف -من الرواد- قرءوا القرآن، فأحيوا به ليلهم رهباناً، وعمروا به نهارهم فرساناً، تفيض أعينهم من الدمع مما عرفوا من الحق، يغشاهم الخشوع، ويكسوهم الوقار، كان القرآن ربيع قلوبهم، ونور صدورهم، وجلاء أحزانهم، تأدبت به أخلاقهم، وعمرت به مسالكهم، قوةً في الحق، وورعاً في المطاعم والمشارب، وبصراً بأهل الزمان: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] لهم في قرآنهم ما يحث عزائمهم إذا كلت، ويحفز هممهم إذا ضعفت: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23].
يا أهل القرآن: الأمة تحتاج إلى أن تراجع مواقفها من كتاب ربها، فالقرآن عمدة الملة، وكلية الشريعة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، لا طريق إلى الله سواه، ولا سبيل إلى النجاة بغيره.
هل يُدعى إلى الله بغير كتاب الله؟ وهل يُرجى فلاح عباد الله بغير كتاب الله؟
هو التبيان والفرقان، والروح والذكر، هدىً للمتقين، ورحمة للمؤمنين: {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] وذكرى لمن كان له قلب، أحسن الحديث، وأصدق الكلام، وشفاء لما في الصدور، هو نعمة الله السابغة، وحجته الدامغة، نور الأبصار والبصائر، أنزله ربنا وشرفه، وعداً ووعيداً، وأمراً وزجراً، وحكماً وعلماً، ورحمةً وعدلاً.
كتاب لا تفنى عجائبه، وبحر لا يُدرك غوره، وكنز لا تنفد درره، وغيث لا تقلع عن المدرار سحائبه، أنزله ربنا لنقرأه تدبراً، ونتأمله تبصراً، ونسعد به تذكراً، ونلتزم بأوامره طمعاً، ونجتنب نواهيه خوفاً.
تحيا القلوب بمواعظه، وتطمئن النفوس بترتيله، وتقوم الحياة بأحكامه، وتعم السعادة بآدابه، أسلوبه رفيع، ونظمه بديع، لفظه معجز، ونظمه باهر: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1].
لم يشب بيانه غموض، ولم يعب لفظه ضعف، ولم يدخل معانيه القصور: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82].
الأمة تحتاج إلى أن تراجع نفسها ومواقفها من قرآنها، أصدق ما تثبت به عقائد الإيمان، وأوضح دليل إلى المعارف والعلوم، وأقرب سبيل إلى برد الطمأنينة في القلوب، وأفضل حديث تناجي به مولاك في الأسحار.
ولكن أيها الإخوة: حين عز هذا المنهج، وطال الأمد، واشتغلت الأمة بغيره أو تشاغلت، دب في جسمها دبيب الضعف، وهجرت فئام منها القرآن هجراً غير جميل؛ هجروا براهين القرآن في العقائد والإيمان، وسلكوا طرائق محدثة، واصطلاحات مبتدعة، زاعمين أن أدلة القرآن لا تفيد القطع واليقين؛ فحادوا عن الطريق وتاهوا.
أما في ألوان العبادات والتعبدات: فركن فئام منهم إلى أحزاب مصنوعة، وأوراد متكلفة، وتعاويذ منحرفة، ورقىً غير مشروعة، وأخذوا بأنساك الأعجام من غير أهل الإسلام، وثمة أقوام حظهم في القرآن القراءة في المقابر، وفتح الأيدي والأفواه للاستجداء والمسألة.
أين مكان القرآن في الحكم؟! وأين موقعه من مناهج التربية ومقررات الدراسة؟! هل ضاق كتاب الله وعلوم القرآن عن أن يعطي حكماً في نازلة؟! أو أن يرسم منهجاً في تربية؟! وهل لا تنبت المناهج، ولا تصح الدساتير إلا في غير ديار المسلمين؟!(55/5)
أهمية تدبر القرآن الكريم
نعم.
أيها الإخوة: لقد أحسنت الأمة إذ حفظت قرآنها حروفاً ومخارجَ، ومدداً وغنناً، وأداءً وتغنياً، ولكن يجب أن ينضم إلى حسن التلاوة وإجادة القرآن وظيفة التدبر: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] لقد وصف الله عز شأنه أمماً سابقةً بأنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني، إنهم أميون أمية عقل وفهم، وأمية تدبر وعمل، يرددون كتابهم تلاوةً من غير فقه ولا عمل، وأمية العقل والفكر؛ عنوان حالات الضعف والتبعية، ولقد أوضح ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين حدث أصحابه يوماً، فذكر لهم أشياء قال فيها: {وذاك عند ذهاب العلم، فقام زياد بن لبيد الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، فقال: يا رسول الله! كيف يذهب العلم، ونحن قرأنا القرآن، ونقرئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأراك من أفقه رجل في المدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والإنجيل، ولا ينتفعون مما فيهما بشيء} أخرجه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه، وقال: حديث حسن غريب.
ومصداق ذلك في كتاب الله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16].
يقول ابن كثير رحمه الله: هؤلاء أهل الكتاب أقبلوا على الآراء المختلفة، والأقوال المؤتفكة، وقلدوا الرجال في دين الله، فعند ذلك قست قلوبهم، لا يقبلون موعظة، ولا يخشون وعيداً، ولا يرجون لله وقاراً.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واعلموا أن ميدان القرآن معهد ومسجد، وبيت ومدرسة، وسوق ومعركة، وروح وعقل، يتلى من المصاحف والصدور، في المساجد والمنازل، في الصلوات والخلوات على ألسنة المتعبدين والمتعلمين، تلهج به الجيوش في زحفها، وتقطع به الجنوب المتجافية ليلها في محاربها، جعلته دستورها كما جعلته ذكرها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] * {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] * {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} [طه: 125] * {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:123 - 126].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(55/6)
ضرورة الاعتناء بكتاب الله
الحمد لله الكريم الجواد، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، مَنْ تمسك بكتابه، عز وساد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، هدى إلى سبيل الرشاد صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم المعاد.
أما بعد:
أيها المسلمون: كتاب الله هو الحياة والروح، والغذاء والشفاء، وهو العصمة والنجاة، قفوا عند حلاله وحرامه، اجعلوا لبيوتكم وخلواتكم حظاً من قراءته، فالذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب، والذي يقرأ القرآن، وهو ماهرٌ به مع السفرة الكرام البررة، ومن قرأه وهو عليه شاق، فله أجران.
قوموا بحق النصح لكتاب الله، تفكروا في عجائبه، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، انشروا علومه، وادعوا إلى سبيله، ومن أحب أن يعلم حاله، ويختبر عمله، فليعرض نفسه على كتاب الله.
يقول الحسن البصري رحمه الله: رحم الله امرءاً عرض نفسه وعمله على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله، حمد الله وسأله المزيد، وإن خالف أعتب نفسه وحاسبها، ورجع إلى ربه من قريب.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، فخير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، فقد أمركم بذلكم ربكم في محكم التنزيل، فقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والخلق الأكمل، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة والكفرة والملحدين، وانصر اللهم عبادك المؤمنين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة، وأعنه على أمور دينه ودنياه، وأيده بالحق، وأيد الحق به، وأعزه بطاعتك، وأعز به دينك، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمةً لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك؛ لإعزاز دينك وإعلاء كلمتك، اللهم انصرهم في فلسطين وكشمير، وفي البوسنة، والشيشان، وفي كل مكان، اللهم أيدهم بتأييدك وانصرهم بنصرك، وسدد رميهم وآراءهم، واجعل الدائرة على أعدائهم، يا قوي يا عزيز.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(55/7)
فضل يوم الجمعة
لقد اصطفى الله هذه الأمة من بين الأمم، واصطفى رسولها محمداً صلى الله عليه وسلم، واصطفى لها يوم الجمعة، فيوم الجمعة له فضل عظيم ومكانة رفيعة في الإسلام، وقد تحدث الشيخ في هذه الخطبة عن فضله، وعن الآداب والأحكام التي يتميز بها يوم الجمعة عن غيره من الأيام، وتعرض الشيخ أيضاً لبعض مظاهر الغفلة عن صلاة الجمعة.(56/1)
اختصاص الأمة بيوم الجمعة
الحمد لله المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، من هداه فهو السعيد، ومن أضله فهو الطريد البعيد، أحمده سبحانه وأشكره، والشكر من أسباب المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العرش المجيد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أشرف من أضلت السماء، وأكرم من أقلت البيد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، أهل التوفيق والتسديد، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الوعيد.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الإخوة ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ فاتقوه رحمكم الله، فتقواه أقوم وأقوى، وأعدوا واستعدوا فالأوقات تمضي، والأعمار تنقضي، ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة.
وجنة ربي لا تنال بالتمني، ولا بشرف النسب، كما لا تنال بعمل الآباء ولا الأجداد، ولا بكثرة الأموال ولا الأولاد: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:37].
أيها المسلمون: أمة الإسلام! أمة المصطفى! اصطفاها ربها واصطفى لها، واختارها واختار لها: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:78] اصطفى لها الدين، واصطفى لها محمداً صلى الله عليه وسلم، خياراً من خيارٍ من خيار، أكمل لها الدين، وأتم عليها النعمة، ورضي لها الإسلام دينا: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج:78]
امتن الله عليها بخصائص، وخصها بفضائل لم تكن للأمم قبلها ببركة هذا النبي الكريم: {أعطيت خمساً لم يعطها أحدٌ من الأنبياء قبلي} اختار من البقاع مكة، ومن الشهور رمضان، ومن الليالي ليلة القدر، وخص عشر ذي الحجة بمزيدٍ من الفضل، وليوم عرفة من الشرف مالا يخفى، ويوم النحر يوم الحج الأكبر.
هناك مواسم للاجتهاد في الطاعات، ومناسبات للإقبال على العبادات، تتكرر وتدور، لتبدد الفتور، وتجدد النشاط، وتوقظ الغافلين، يقبل المقبلون فيها على ربهم، فيزدادون حباً وقرباً، مواسم تتجدد لينفك العبد من الانهماك في أشغاله، ويتحلل فيها من قيود مهنته وأعماله.
أيها الإخوة: وإن من هذه الأيام ومن مواسم النفحات يوماً جل بين الأيام قدره، وعلا في الإسلام ذكره، إنه عنوان الملة، وعيد أهل الإسلام، هدى الله له أمة الإسلام، وأضل عنه الأمم الأخرى، فحقٌ على الأمة أن تعرف قدره، وتحفظ منزلته، إنه يوم بدء الخليقة، ويوم منتهى الدنيا، إنه يوم الجمعة، عيد الإسلام، يشرق على المسلمين ليؤلف بينهم بالمودة، ويربطهم برباط الجماعة، ويظهر فيهم الوحدة والعزة.
ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: {نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، والناس لنا فيه تبع، اليهود غداً، والنصارى بعد غد} وفي لفظ مسلم: {أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا؛ فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة} وفي المسند والسنن من حديث أوس بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: {من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق الله آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم تبلغني} وعند مسلم: {خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة} فهو أعظم مجامع المسلمين بعد يوم عرفة.(56/2)
آداب يوم الجمعة
ولقد كان من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تعظيم هذا اليوم، وتشريفه، وتخصيصه بعباداتٍ يختص بها عن غيره، فله في الدين أحكامٌ مقررة، وآدابٌ محفوظة مرعية.(56/3)
قراءة سورة الكهف
ففي يوم الجمعة: يشرع قراءة سورة الكهف، كما أخرج الحاكم والبيهقي وغيرهما بسندٍ صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة سطع له نورٌ من تحت قدمه إلى عنان السماء يستضيء به يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين}.(56/4)
كثرة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
كما تستحب في هذا اليوم وليلته كثرة الصلاة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح: {فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي} وفي حديثٍ آخر: {أكثروا من الصلاة عليَّ يوم الجمعة وليلة الجمعة} اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.
يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله: رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الأنام، والجمعة سيد الأيام، فبالصلاة عليه في هذا اليوم مزية ليست لغيرة، وكل خيرٍ نالته أمته في الدنيا والآخرة فإنها نالته على يده، فجمع الله لأمته به من خيري الدنيا والآخرة، فأعظم كرامة تحصل له إنما تحصل يوم الجمعة، إذ فيه بعثهم إلى قصورهم ومنازلهم في الجنة، ويوم الجمعة هو يوم المزيد إذا دخلوا الجنة، وهو عيدٌ لهم في الدنيا، قال رحمه الله: وهذا كله إنما عرفوه وحصلوه بسببه وعلى يده عليه الصلاة والسلام، فمن شكره وأداء القليل في حقه أن يكثروا من الصلاة عليه في هذا اليوم والليلة.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.
ومن خصائص يوم الجمعة -أيها المسلمون- هذا المشهد العظيم، وهذا التجمع الكبير في صلاة الجمعة، إنها صلاة أسبوعية جامعة يجتمع فيها المسلمون في مساجدهم الكبار ليشهدوا الخير والذكر، صلاة يسعى فيها المسلمون إلى ذكر الله، ويذرون البيع واللهو والتجارة، يتحللون من شئون المعاش، ويوثقون صلتهم بربهم، صفة خاصة، وهيئة خاصة، لخطبتيها وركعتيها من أعظم مجامع المسلمين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: {الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفراتٌ لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر} رواه مسلم وغيره.(56/5)
التطيب والاغتسال
ومن توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بين الجمعتين وزيادة ثلاثة أيام.
اجتماعٌ إسلامي مهيب يزدان بالكمال والبهاء، وشذا المسك والعنبر، مما يشرح الصدور، ويسر القلوب، ويؤنس الإخوان، ويرضي الرب تبارك وتعالى، اجتماعٌ شرعت له آداب، وتقررت له مهذبات من الاغتسال والتطيب، واتخاذ الزينة، والعناية بالبدن، وتطهير النفس، وإعزاز الدين.
في الخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيبه إن كان له، ولبس أحسن ثيابه ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد ثم يركع ما بدا له، ولم يؤذِ أحداً، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي كانت كفارة لما بينهما}.
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فرأى عليهم ثياب النمار، فقال: {ما على أحدكم وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته} والماشي إلى الجمعة له في كل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها، كما في خبر: {من غسل واغتسل وبكر وابتكر ودنا من الإمام فأنصت كان له بكل خطوة يخطوها صيام سنة وقيامها} وذلك على الله يسير.
رواه الإمام أحمد في مسنده بسندٍ صحيح.(56/6)
التبكير إلى صلاة الجمعة
كما يتأكد التبكير إليها تبكيرٌ في هدوءٍ وسكينة، من أجل استجماع الذكر، وتدبر القرآن، والتهيؤ لسماع الوعظ، وقبول النصح، لعل الله أن يغفر الذنوب، ويعظم الأجر، من هذا الذي لا تطيب نفسه بالتقدم والبكور والمسارعة للاستكثار من الأجور؟!
ولقد قال بعض أهل العلم: كانت الطرقات على عهد السلف عامرة وقت السحر وبعد الفجر بالمبكرين إلى الجمعة الذين يمشون بالسرج، ويقال إن أول بدعة أخرجت في الإسلام ترك البكور إلى الجمعة، وإن البكور إليها لدليل شدة العناية بها، وقرب أهل الجنة يوم القيامة وسبقهم إلى الزيارة يوم المزيد بحسب قربهم من الإمام وتبكيرهم إلى الصلاة.
ومن لطائف الأسرار في هذا المقام ما نبه إليه بعض أهل العلم حيث قال: لما كان يوم جمعة في أسبوع كالعيد في العام، وكان العيد مشتملاً على صلاة وقربان، وكان يوم الجمعة يوم صلاة، جعل الله سبحانه التبكير فيه إلى المسجد والمسارعة بدلاً من القربان، كما في الخبر الصحيح: {من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر}.
عباد الله: من أحب الخير لنفسه فليتقرب إلى الله وليبادر وليجتنب التشاغل بالشواغل، من قال لصاحبه: أنصت فقد لغا، ومن مس الحصى فقد لغا، وليمتنع عن إيذاء المصلين والتشويش عليهم بتخطي رقابهم، أو إيذائهم بالروائح الكريهة في بدنه وملبسه ومأكله ومشربه.
جاء رجلٌ يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ يخطب فقال له: {اجلس فقد آذيت وآنيت} أي: آذيت بالتخطي، وآنيت: تأخرت عن المبادرة والتبكير.(56/7)
حسن الاستماع إلى الخطبة
أما خطبة الجمعة -أيها الإخوة في الله- فناهيك بها فهي عظة الواعظ، وتطهير للنفوس، وترقيقٌ للقلوب، وشفاء للصدور، وتذكيرٌ بالله، وترغيبٌ في ثوابه، وترهيبٌ من عقابه، إيقاظٌ للقلوب، وما أنفع الكلم الطيب حين تحيا به القلوب!
خطبٌ ومواعظ، فيها الثناء على الله، وتمجيده والشهادة له بالوحدانية، ولنبيه بالرسالة والبلاغ، وتذكيرٌ للعباد في أيام الله، ووصيتهم بتقوى الله سبحانه، وما يقربهم إليه وإلى جناته، ويباعدهم عن سخطه ونيرانه.
خطبٌ مشتملة على أصول الإسلام، وقواعد الديانة، وما تقتضيه الأحوال، وحثٌ على الفضائل، واجتناب الرذائل، مما يصلح الفرد والمجتمع في العاجل والآجل.
إنها تجديدٌ للعزائم، وتواصٍ بالمكارم، دعوات حق، وكلمات صدق، أمرٌ بمعروف، ونهيٌ عن منكر.
الله أكبر! حين تخرج هذه المواعظ من قلوبٍ صادقة لتصب في آذان صاغية، وأفئدة منشرحة تحب الناصحين، وتستجيب للواعظين، تسمع حين تسمع بقلوبٍ واجفة، وأجسادٍ خائفة، تتلقى أوامر ربها بعزمٍ شديد، وحزمٍ جليد، تطهر القلوب، وتمحو الذنوب، تيقظ القلوب الغافلة، وتنشط الهمم الوانية، ويراجع المرء نفسه لينظر ما قدمت يداه.
هذه هي خطب الجمعة، في مضامينها وعظاتها، وهذا هو المصلي الناصح لنفسه، منصتٌ لخطبة إمامه، مصغٍ لوعظ خطيبه، قد نفعه ربه بالإرشاد والعظات، وتوجيهات الدين والدنيا.(56/8)
مظاهر الغفلة عن صلاة الجمعة(56/9)
ترك صلاة الجمعة
يقابل ذلك -أيها الإخوة- قومٌ غافلون، متهاونون، كأنه لم يطرق آذانهم الوعيد الشديد، فلم يعرفوا لهذا اليوم حقه، ولم يكترثوا بفضله: {من ترك ثلاث جمعٍ تهاوناً، طبع الله على قلبه} بهذا صح الخبر عن نبيكم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ويقول عليه الصلاة والسلام وهو قائمٌ على أعواد منبره: {لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمع والجماعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين}.(56/10)
اللهو وإتيان المعاصي والموبقات
قومٌ ساهون لا يقيمون لهذا اليوم وزناً، ولا يحسبون له حساباً، لا يعرفون إلا أنه يوم فراغ ونزهة ولهو، بل إن بعضهم ليجترئ على الله فيه، ويأتي من المعاصي والموبقات، ويطلق لنفسه عنان الشهوات مالا يفعله في غيره، نعوذ بالله من الخذلان.
أهل لهوٍ وغفلة يعبون من اللهو عباً، ويشربون من الأهواء بأوفى المكاييل، لا يتحرزون من حرام، ولا يتباعدون عن مواطنه، ملئوا الأسواق، وأكلوا الأرزاق، وانتشروا في المتنزهات، لا يعرفون بيوت الله، ولا يشرف أحدهم في إقامة شعائر الدين، منهم من بجوار المساجد بيوتهم ولكنهم أبعد الناس عنها بقلوبهم.(56/11)
التكاسل حتى تقام الصلاة
وهناك فئة كسالى، يأتون إلى المساجد في فتورٍ وملل، ينتظر الواحد منهم إقامة الصلاة؛ ليأتي مسرعاً ثائر النَفْسِ والنَفَس، يدخل إلى الصلاة مشوش الفكر، لم يراعِ أدب الإسلام في دخول بيوت الله، ولم يعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التزام السكينة والوقار، فاته أجر التبكير إلى الصلاة، أما علم هذا الكسول أن منتظر الصلاة كالمرابط في سبيل الله، والملائكة تستغفر له ما دام في مصلاه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه؟
الله أكبر! {لا يزال قومٌ يتأخرون حتى يؤخرهم الله} دخلوا في سراديب الغفلة، وقست قلوبهم، أما يخشون أن يختم الله على قلوبهم، ويطمس أبصارهم، وينزع حلاوة الإيمان في قلوبهم؟(56/12)
تتبع زلات الخطيب
ومن أصناف الغافلين أيها الإخوة: من لا يدعوه إلى الإنصات وحسن الاستماع إلا حب التطلع والاستطلاع، ليقارن بين هذا وذاك، ولعله مبتلى بتتبع الزلات، وعد الهفوات، مما ليس من مسالك صالح المؤمنين.(56/13)
إعلاء شأن أعياد الكفار
ومن مظاهر الغفلة والذل والانهزام عند بعض المسلمين: إعلاؤهم لشأن أعياد الكفار وأيامهم، حتى تضاءلت منزلة يوم الجمعة عندهم، فلا يقيمون لها وزناً، ولا يرفعون لها شأناً، وكأنها ذيلٌ في آخر الأسبوع، ليس لها عندهم من الرعاية الشرعية ولا الرسمية كما يعتنون بأعياد الأمم الأخرى الأسبوعية وأيامها، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
إن حقاً على من أحب الخير لنفسه أن يعرف لهذا اليوم فضله، ويعطيه حقه، ويتقرب إلى الله بما يستطيع من العبادات المشروعة، ويؤدي الواجب، رغبة في الخير، وتلمساً للفضل، مقبلاً على مواطن الطاعات، بالعزائم النشطة، والنفس المتفتحة، والآمال الواسعة، بفضل الله وبرحمته يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:9 - 11].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(56/14)
ساعة الاستجابة في يوم الجمعة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، لا فوز إلا في طاعته، ولا عز إلا في التذلل لعظمته، ولا غناء إلا في الافتقار إلى رحمته.
أحمده سبحانه وأشكره، إذا أطيع شكر، وإذا عصي تاب وغفر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، وحجته على الخلائق أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة: هذا هو يوم الجمعة بفضله ومنزلته، وذكره وخصائصه، وذلكم هو الدين بحكمه وحكمته، فليس الدين بصومعة منعزلة، ولا الدنيا بسوقٍ منفصلة، لكن المسجد منارة السوق، والسوق عمارة المسجد.
المسلمون إذا فرغوا من صلاتهم لم ينقطعوا عن الصلة بربهم، ولم يغفلوا عن ذكره: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] عملٌ وكد، ونشاطٌ وكسب، وذكرٌ وشكر، لا انفصام بين ذلك ولا افتصال.
كان عراق بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف بباب المسجد ثم قال: اللهم إني أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك فأنت خير الرازقين.
اهتمامٌ وعناية حتى لا يكون الدين رسوماً جامدة، ولا حركات جافة، المستمسكون بالدين، قومٌ صالحون يقبلون على مواطن العظة، ومجالس الذكر بأفئدة واعية، وجلودٍ مقشعرة، يجدون راحتهم ولذتهم وسعادتهم في إطالة اللحظات في التلاوة والمناجاة.
فلماذا -يا عبد الله- لا تتحلى بحلل الصالحين، وتتزيا بزي المتقين، وتكثر من ذكر الله وتلاوة كتابه، وتكثر أيضاً من الصلاة والسلام على حبيبه وخليله محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتحرص على حفظ إخوانك، فلا تفرق بين اثنين، وتصالح من خاصمت، وتتقي الله عسى أن تربح وتفلح؟ فكمل نفسك بالمحامد وارعها في دواوين المتقين.
واعلم -وفقك الله- أن أهل العلم رحمهم الله قد نصوا على أنه لا يجوز السفر يوم الجمعة لمن تلزمه صلاة الجمعة بعد دخول وقتها إلا إذا كان سيؤديها في مسجدٍ في طريقه.
ولا تنسى -وفقني الله وإياك- أن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبدٌ يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه، فقد قال النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {إن في الجمعة ساعةً لا يوافقها عبدٌ مسلم وهو قائمٌ يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه} وأرجى أوقاتها ساعتكم هذه، وما بين العصر إلى غروب الشمس.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله- واجتهدوا في الخير تصيبوه بإذن الله، وتحروا الفضل تبلغوه إن شاء الله، ثم صلوا وسلموا على عبد الله ورسوله محمد نبيكم فقد أمركم ربكم فقال قولاً كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.(56/15)
لا لمؤتمر السكان والتنمية
إن سر تكريم الإنسان هو العقل والإرادة وقبول التشريع، ولذلك الذي يسير على غير هدى الله ولا يوافق الشرع الحنيف يتعرض للعيشة الضنك والضلال والشقاء.
وإن المؤتمر الذي عقد باسم مؤتمر السكان والتنمية لينضح بالكفر ويطفح بالإلحاد، ولأصحابه نظرة معكوسة في فهم الواقع، وهو في حقيقته مؤامرة صهيونية علمانية إلحادية دولية، والحقيقة التي يخفونها أن تكاثر الدول الضعيفة -وبخاصة دول الإسلام- يخيفهم ويفزعهم.(57/1)
سر تكريم الإنسان
الحمد لله خلق الخلائق وقدر أقواتها، وقدم أرزاقها، وحدد آجالها، فلن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، أبان الطريق، وأوضح السبيل، فاستبانت نفوس الحق، وأجابت دعوة ربها، وضلت أخرى فآثرت هواها على هداها، فاستسلمت لشهواتها.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة الحق واليقين، إيماناً بحقيقتها وعملاً بمقتضاها، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، المبعوث بالهدى ودين الحق، باتباعه تبلغ النفوس مناها في آخرتها ودنياها، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، خير الأمة وأزكاها وأبرها وأتقاها، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من دينكم بالعروة الوثقى.
أيها المسلمون: كرم الله بني آدم، وحملهم في البر والبحر والجو، ورزقهم من الطيبات وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، بشر مُكَرَّم، جعله الله محلاً لهدايته، وأهلاً لتكاليفه، هو الوحيد من بين المخلوقات، عاقل ذو إرادة، متحكم في رغباته، قادر على كبح جماح شهواته.
نعم.
إن سر التكريم وجوهر الإنسانية: العقل والإرادة وقبول التشريع.
فبغير السير على هدى الله، وبغير كبح جماح النفس، والتقدير الصحيح للمضار والمنافع؛ يكون الإنسان وحشاً كاسراً في غابة مخيفة، كم من أمة ابتعدت عن نور الله، واستسلمت لنزواتها، وانطلقت لاهثة وراء مشتهياتها، فزلَّت بها القدم، ثم زالت إلى العدم، زلَّت ثم زالت {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:123 - 124].
وحضارة اليوم بِمَلاحِدَتها ومادِّيِّيْها، على هذا الطريق المنحرف تنجرف، كفار بالله، وكفار بالغيب، لا يرجون لله وقاراً.
استسلموا لعقولهم، واستعبدتهم آلاتُهم وحاسباتُهم، يخططون للدنيا، ويدبرون في الكون، بعيداً عن الله وذكره وشكره، لسان حالهم ومقالهم يقول: ربنا لقد أخطأتَ التقدير، وأسأتَ التدبير، فالأقوات غير كافية، والموارد عندنا متناقصة، والأرض لنا غير متسعة! تعالى الله عما يقول الظالمون الكافرون الجاحدون علواً كبيراً: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57] {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21] ويدُ ربنا ملأى لا تعيضها نفقة، سَحَّاء الليل والنهار، سَوق الرزق بإذن الله، وتوزيعه بحكمة الله، خلق الأرض: {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت:10] {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17].(57/2)
حقيقة مؤتمر السكان والتنمية
أيها الإخوة: في الأيام القريبة سوف يُعقد مؤتمر يتظاهر أصحابه بالحب للبشرية، والخوف عليهم، وهو ينضح بالكفر، ويطفح بالإلحاد، ويناوئ الله في حِكَمِه وأحكامه: {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1] و {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} [النساء:89].
مؤتمر يهدد -فيما يزعمون- بالانفجار السكاني، ويخوف بنقص خزائن الله.
مؤتمر يزعم أن الحل لمشكلات البشر بنشر الإباحية المطلقة، وإقرار اللواط، وزواج الشواذ، وفوضى الجنس بين المراهقين والأحداث والمتزوجين والعزاب، وشرعية الإنجاب من غير زواج، وتمرد الأبناء على ولاية الآباء، والتنفير من الزواج المبكر، وإباحة الإجهاض!
وهذا تمردٌ على كل الشرائع السماوية، والقوانين الشريفة، والأخلاق السامية، والفِطَر السليمة، وإلحادٌ صارخ، وكفر بواح.
لقد أجلبوا بخيلهم ورَجِلِهم وعُدَّتهم وعتادهم، وكتبوا واستكتبوا وتنادَوا من كل جانب.
لقد زعموا أن قلة السكان تؤدي إلى زيادة التنمية، وهذا ميزان معكوس، ومعالجة سَلْبية.
إن الموارد لا تزيد -بإذن الله- إلا إذا زاد عدد البشر، فالإنسان هو الوحيد من بين المخلوقات على هذه الأرض الذي يتعامل مع هذه الموارد -بإذن الله وهدايته- بالتنمية والزيادة، والمزج والخلط، والتركيب والتوليد، والجمع والتفريق.
الصين أكثر الدول سكاناً، وهي أرفعها في التنمية معدلاً، هذا هو الحديث إليهم بمقاييسهم.
وأما أهل الإسلام، وأهل الإيمان، فينظرون إلى القضية بمقياس أكبر وأدق.
إن استدرار الأرزاق، واستجلاب الخيرات، ورفع معدلات التنمية، لا يكون ولن يكون إلا بالإيمان بالله رباً مدبِّراً خالقاً حكيماً، عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير.(57/3)
من مقتضيات الإيمان بالله
ومن مقتضيات هذا الإيمان: اتباع الأوامر، واجتناب النواهي، نؤكد الميثاق مع ربنا ولا ننقضه، ومن ثَمَّ: يكون الخضوع لله، وتحكيم شرعه، والبعد عن الظلم والتظالم، وأكل الربا، وأكل أموال الناس بالباطل، ومنع الزكاة وحقوق المال، وتقطيع الأرحام، وبخس الناس أشياءهم، وتضييع الموارد والثروات، وتبديدها فيما لا يرضي الله، والحذر من ارتكاب الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق، والشرك بالله، والقول على الله بغير علم.
هذه هي مقتضيات الإيمان.
ويقترن بذلك: الأخذ بسنن الله في العلم والعمل، وحسن الاستثمار، ومراجعة السياسات الاقتصادية، والخطط التنموية، وبرامج التعليم والإعلام، والاستفادة الكاملة من الفرد والجماعة على نور من الله وهدي الإسلام.
إن البلاء في سياساتهم وليس في أُناسِيِّهِم.
خزائن الله لا تنفد، وإنما شحت أنظمتهم الجائرة، وخابت وحاقت بهم خططهم الماكرة.
ليس الحل بمعاقبة الإنسان، وإهلاك الشعوب، والتعامل مع البشر كما يُتَعامل مع النفايات، ليُلْقَى الفائض في الزبالات، ألا ساء ما يحكمون.
أيها المسلمون: أيها العقلاء! إن الأعداد البشرية، وزيادتها، ونقصها، وتوازنها، كل ذلك خاضع لسنة الله وحكمته وقدره وعلمه: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد:8] {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر:11].
وخضوعاً لهذه السنن الإلهية، والحكم الربانية، جعل نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم من أعظم الذنوب وأكبرها: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك؛ لأن حق الحياة محفوظ لكل نَسَمَة.
ولَمَّا أذن النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالعزل لمن سأله، قال عليه الصلاة والسلام: {ما من نَسَمَة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة} وفي رواية أخرى: {اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قُدِّر لها} هذه هي العقيدة وهذا هو الواقع.(57/4)
ظلم الدول الكبرى
أيها الإخوة: هذا جانب من القضية، وثَمَّة جانب آخر: إنه حكم الظالم على المظلوم، والقوي على الضعيف:
فلقد صبوا جام غضبهم على الدول الضعيفة والفقيرة، استبدو بالثروات، واحتكروا الصادرات، واتهموا الدول الفقيرة بأن فقرها وعَوَزَها بكثرة سكانها، أليسوا هم الذين يتلفون فائض الإنتاج حتى لا تنخفض الأسعار؟! أليست أسعار ما يَرِدُ منهم في تزايد، وأسعار ما يصْدُرُ إليهم في تناقص؟! اتفاقيات ومعاهدات جائرة، يبرمونها مع هؤلاء الضعاف الفقراء، منحازةٌ مع دول الشمال، وما يَرِد من الشمال، وما ينتجه الشمال، مساعداتهم التي يمنُّون بها لا تصل إلا مخنوقة بالديون، ومثقلة بفوائد الربا، ومكبلة بالشروط، ومحدودية الصرف بما لا يرفع رأساً أو يورث تنمية.
أما الستار الحديدي الغليظ، فمضروب على التقنيات، ووسائل تحسين الإنتاج، وتطوير الاستثمار، ناهيك بسياساتهم المسعورة في التسلح، وإنفاق البلايين وبلايين البلايين في إنتاج السلاح وترويجه، وافتعال الحروب ونشرها، وزعزعة الاستقرار السياسي، والمذابح الجماعية، والفتن الطائفية: (لقد ربينا أبناءنا صغاراً، فقتلتموهم كباراً) قتلتموهم حسياً، وقتلتموهم معنوياً.
إن عندهم من مخزون السلاح ما يكفي لتدمير الأرض، وإهلاك الحرث والنسل عشرات المرات، ولو أنهم اكتفوا بمخزون يكفي لتدمير العالم مرة واحدة لفاض في ميزانياتهم ما يغطي مشروعات الإنتاج والخدمات في العالم أجمع!
لكنه الإجرام الغليظ، والأنانية المستحكمة، والجور في التوزيع، والاستئثار المقيت بما يملكون من صادر، وما يقْدِرُون عليه من وارد!
ومع ذلك يتبجحون ويأتمرون ويوصون ويقررون، ثم ينْحُون باللائمة في المشكلة الإنمائية والسكانية على هذه الدول الضعيفة، ولكنه (الثور يُضْرَب لَمَّا عافت البقر).
وإن أردتم شيئاً من الحقيقة -أيها الإخوة- فلتعلموا أن تكاثر الدول الضعيفة والفقيرة -وبخاصة دول الإسلام- يخيفهم ويفزعهم، طفحت بذلك وثائقهم وملفاتهم، لقد قررت تلك الوثائق والملفات أن تزايد السكان يهدد مصالحهم ويزعزع أمنهم، ولقد قالوا فيما قالوا: إن أقطارهم أصبحت تذوب كالجليد تحت الشمس أمام تزايد الشعوب الأخرى، ولقد كان بعضهم أكثر صراحة حين قال: إنهم يواجهون في المستقبل خطر الأَسْلَمة.
يعني: دخولَهم في الإسلام.
لقد تعالت نداءات كُتَّابهم ومنَظِّرِيهم في التحذير من اختلال ميزان القوى بين الشرق والغرب، حتى صرحوا بأن لدى مناطق المسلمين خصوبة، تفوق ما لديهم بأضعاف، مما سوف ينقل السلطة والقوة في مدة لا تتجاوز بضعة عقود، هذا ما حصلت به حساباتهم ونسبهم المئوية.
نعم أيها الإخوة.
لقد تناقصت أعدادهم، وقلت نسب المواليد فيهم؛ فأصبحوا يدفعون الإعانات للأسر؛ لزيادة الإنجاب، ولم تزدد أعدادهم، وقد استباحوا ما حرم الله على ألسنة رسله، وتنزلت به كتبه، فأحلوا السفاح، واكتفى الرجال منهم بالرجال، والنساء بالنساء؛ فصار حالهم متردداً بين شذوذ وسحاق.(57/5)
السعادة في الدين الإسلامي
ألا فاشكروا الله أيها المسلمون، اشكروه إذ كثَّركم: {وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:86].
ثُمَّ فليخسأ الماديون: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6].
وليُدْحَر الملاحدة: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت:60].
وليَنْدَحِر الكافرون بالغيظ: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} [الإسراء:31].
والصَّغار والذلة للإباحيين، فلقد بايع المؤمنات رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن.
ولنهنأ بديننا، ولنتمسك بالحق من عند ربنا: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون:71].
{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً} [الإسراء:100].
{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:37].
كلا.
خابوا -وعزتك يا ربنا- وخسروا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واخذل الكفرة والملاحدة وكل من خذل الدين.
اللهم وأصلح أحوال المسلمين، وبارك لهم في أرزاقهم وذرياتهم، واجعلهم شاكرين لنعمك قابلين وأتمها عليهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
استجب اللهم يا رب العالمين.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(57/6)
خطورة مؤتمر السكان والتنمية
الحمد لله القاهر فوق عباده عزاً وسلطاناً، تعالى مجده، وتعاظم ملكه، قسَّم الخلق بعدله ورحمته، فمنتحل كفراً، ومنتحل إيماناً.
أحمده سبحانه وأشكره، وأسأله المزيد من فضله وكرمه، والإعانة على ذكره وشكره، وحسن عبادته، فطوبى لمن ذُكِّر بآيات ربه فزادته إيماناً، وويل لمن ذُكِّر بها فخر عليها صُماً وعمياناً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، دعا إلى الحق سراً وإعلاناً، فأشاد بالتوحيد منائر، وكسر للشرك أصناماً، وهدم أوثاناً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، كانوا للدين دعاة وعلى الحق أعواناً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة: إن هذا المؤتمر مؤامرة صهيونية علمانية إلحادية دولية، يُمارَس من خلالها إرهاب حضاري على الأخلاق والأسرة، وحملة شرسة على ما بقي لأهل الإسلام من تفوق في سلاحهم البشري وحصنهم الأخلاقي، إرهاب حضاري، وتعسف دولي، حينما تحتمي التوصيات والمقررات بمظلة الأمم المتحدة؛ لتمارَس من خلالها الضغوط السياسية، والمحاصرات الاقتصادية، وتربَط بها المساعدات الدولية، وتعلو من خلالها صيحات التشريع الإعلامية.
إنهم وبكل صفاقة سوف يصفون المخالفين والممتنعين بالتحجر الفكري، والرجعية الدينية، والخروج على الإجماع الدولي، والتمرد على العالَم المتحضر.
إرهاب دولي حين تفرض الدول الكبرى بمنظِّريها الملاحدة رأيها، وتُملي أفكارها، وتفرض رؤيتها الخاصة على أمم الدنيا كلها في ديكتاتورية ضيقة.
لماذا يتخذون من أفكارهم الإلحادية المادية المنحرفة المصادمة لتعاليم الديانة الصحيحة، المناقضة للإيمان بالله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره؛ لماذا يتخذون منها ويجعلونها مسلَّمات متحضرة يجب أن يلتزم بها جميع دول العالم؟!
هذا هو حالهم، وحال الناس معهم: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واعتصموا بكتاب ربكم، واعملوا لدنياكم وآخرتكم.
ثم صلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين أجمعين، نبيكم محمد الأمين، فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك، يا أكرم الأكرمين.(57/7)
لعلكم تتقون
القبول عند الله معلق بالتقوى، وأهل التقوى هم الأعلون في الدنيا والآخرة.
والصيام غايته التقوى، حيث يدع الصائم الأكل والشرب والشهوات طاعة لله، فعلى المسلم أن يغتنم هذه الأيام الفاضلة والليالي العظيمة بالتقرب إلى الله بقيام الليل وقراءة القرآن والذكر والصدقة وفعل الخير.(58/1)
التقوى والمتقون
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله، {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم، العز والشرف في التقوى، والسعادة والعلى عند أهل التقوى.
التقوى -أيها المسلمون- كنز عظيم، وجوهر عزيز، إن خيري الدنيا والآخرة مجموع فيها: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] والقبول عند الله معلق بها: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] والغفران والثواب موعود عليها: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق:5]
أهلها هم الأعلون في الآخرة والأولى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] غير أن أزمنتنا المتأخرة، وعصورنا المادية، كست قلوب أصحاب كثير من أهلها طبقات من الغفلة، وغشت على أبصارها سحباً من الصدود كثيفة؛ فعموا عن الطريق، وحسن ظنهم بالترقي في جاه الدنيا وسلطانها، فالشقي في ميزانهم من قلت مادته وقدر عليه رزقه، وهذا لعمر الحق غفلة شنيعة، وجهل في المقاييس عريضة: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131] {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].
نعم.
أيها الإخوة! المتقون تقر أعينهم بالطاعات في الدنيا، وبعالي الدرجات من الجنة في الأخرى، يقال ذلك أيها المسلمون وقد أظلكم هذا الشهر الكريم المبارك، شهر فرض الله عليكم صيامه لعلكم تتقون.(58/2)
غاية الصيام
أيها الإخوة! غاية الصيام: تقوى الله عز وجل تقوى يتمثل فيها الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
تقوى صادقة دقيقة يترك فيه الصائم ما يهوى حذراً مما يخشى، ولئن كانت فرائض الإسلام وأحكامه وأوامره ونواهيه كلها سبيل التقوى، فإن خصوصية الارتباط بين الصيام والتقوى شيء عجيب!(58/3)
صوم القلب والجوارح
أيها الإخوة! جوارح الإنسان عين وأذن، ويد ولسان، وبطن وفرج، والقلب من ورائها أصلها وحاكمها، صام القلب واتقى إذا جرد العبودية لله وحده، وخضع لجلاله، وسعى لقربه، وأنس بمناجاته، وخلص من الشرك، وسلم من البدع، وتطهر من المعاصي.
قلب تقي يرى الهوى والشهوة، والظن والبغي، والعداوة والبغضاء، والغل والحسد، والمراء والجدل، يرى كل ذلك أمراضاً قلبية فتاكة، تقتل الأفراد وتهلك الأمم.
القلب التقي يرفضها ويأباها ويتقيها ويتقيؤها، وصيامه ينفيها ويجفوها، قلب صائم متدين لله بالطاعة، مستسلم له بالخضوع والاستجابة، منقاد لتنفيذ الشرع في الأمر والنهي، عبودية لله خالصة، لا يصرفه عنها شهوة ولا شبهة، ولا يشوش عليه فيها أمانٍ ولا مطامع، قلب قوي تقي، لله صلاته وصيامه، ونسكه ومحياه ومماته، {من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه}
وإذا صلح القلب صلحت الجوارح؛ فقامت بحق الطاعة، وكفت عن الآثام، فالبطن محفوظ وما حوى، ترك الطعام والشراب والشهوة من أجل الله، تقى عال يقي النفس جماح غرائزها، وإرادة مستعلية تأخذ أمر ربها بقوة، وتزدجر عن النواهي باستسلام، لقد كان على الهدى وائتمر بالتقوى، من منع جسده تخمة الغذاء؛ ليمنع جوارحه السوء والأذى.
قلة الشبع تكبح الجماح، وتبعد نزغات الشياطين: {والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم} قلة الشبع تجعل الجوارح أقرب لفعل القربات يرق القلب، ويغزر الدمع، ويخذل الشيطان.
وانظر -حفظ الله دينك وزاد في تقاك- في ضعاف المهازيل، ممن جاع نهاره، وملأ في الليل بطنه، فهو صريع لذة عارمة، وعبد لشهوة جامحة، هل حقق معنى التقوى حين تفنن بأطايب الطعام وألوان الموائد؟ بينما قليل منه قد يشبع جياعاً، ويسعد أسراً، قليل منه قد يكفكف دموعاً، ويوقف عبرات، هل أعطى واتقى أم كيف أعطى، وماذا اتقى من جعل رمضانه تبذيراً وفطره تخمة؟! مسكين بائس لا يرى في الصوم إلا جوعاً لا تتحمله معدته، وعطشاً لا تقوى عليه عروقه، أي تقوى وأي مقاومة عند أمثال هؤلاء المهازيل؟! أولئك أقوام انهزمت عزائمهم أمام جوع بطونهم، لقد أورثهم الشبع قسوة فجعلهم نئومين، وأقعدهم كسالى، ألا فاقعدوا فأنتم الطاعمون الكاسون.
من أعلن استسلامه في معركة لقيمات، لا تدوم سوى سويعات، فليس جديراً أن يعيش عزة المتقين، وعلياء الشهداء المجاهدين.
الله أكبر! لقد فرض الصيام لتمحيص التقوى، وليصبح المسلم صائماً تقياً في مطعمه ومشربه، قصده رضا محبوبه {الصوم لي وأنا أجزي به}.
هذا حال البطن وما حوى، فيا ترى ما بال الرأس وما وعى؟
من لم يدع قول الزور والعمل به كيف صام؟ وماذا اتقى؟ حظه من صيامه الجوع والعطش، ونصيبه من قيامه السهر والنصب، أين التقوى في أسماعهم وأبصارهم؟ لغو ولهو، وقيل وقال، وأصوات معازف، وصور ماجنة، وقصص خالعة، في النهار نوم في تقصير، وفي الليل سهر في غير طاعة، متبرمون في أعمالهم، سيئون في معاملاتهم، متثاقلون في أداء مسئولياتهم، نشاط في اللهو والسمر، وكسل في الجد والعبادة.(58/4)
الطاعة في رمضان
أيها الأحبة: شهركم شهر التقوى، شهركم موسم عظيم للمحاسبة، وميدان فسيح للمنافسة، تصفو فيه نفوس من داخلها، وتقترب فيه قلوب من خالفها، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، وتصفد فيه الشياطين، وتكثر دواعي الخير وأسباب المثوبة، رحمة ومغفرة، وعتق من النار.
فأقبلوا على الطاعة، وتزودوا من التقى، واستروحوا روائح الجنة، وتعرضوا للنفحات.
الصائمون المتقون: لا يزالون في صلاة وصيام وتلاوة وذكر وصلة وإحسان وجد وعمل، فاطلبوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات ربكم؛ فخيركم من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله.
أيها المتقون الصائمون: فتشوا عن المحتاجين من أقربائكم، والمساكين من جيرانكم، والغرباء من إخوانكم، لا تنسوا برهم وإسعادهم، أشركوهم معكم في رزق ربكم، اذكروا جوع الجائعين، ولوعة الملتاعين، وعبرات البائسين، وغربة المشردين، ووحشة المهاجرين.
اسألوا في شهر التقوى والمحاسبة: هل قام بحق التقوى من بات شبعان وحوله جائع يستطيع إشباعه فلم يفعل؟ اسألوا: هل قام بحق الشهر من رأى نفساً مؤمنة بائسة يستطيع إسعادها فلم يفعل؟
أيها المسلمون! صوموا حق الصيام لعلكم تتقون، ومن يتق الله يكن الله معه، ومن كان الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل، وإذا كان الله معك -يا عبد الله- فمن تخاف؟ وإذا كان عليك فمن ترجو، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:183 - 185].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(58/5)
ضرورة اغتنام الأوقات في رمضان
الحمد لله جعل الصيام جنة، وسبباً موصلاً إلى الجنة، أحمده سبحانه وأشكره، هدى إلى خير طريق وأقوم سنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بعثه إلينا فضلاً منه ومنة، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس! فالشهور والأعوام والليالي والأيام مواقيت الأعمال ومقادير الآجال، تمر سريعاً وتنقضي جميعاً، إنها أيام الله خلقها وأوجدها، وخص بعضها بمزيد من الفضل، ما من يوم إلا ولله فيه على عباده وظيفة من وظائف طاعاته، ولطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بفضله رحمته من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم.
وإن بين أيديكم شهراً عظيماً، وأياماً فاضلة، وليالي شريفة؛ فأحسنوا فيها الوفادة، وجدوا فيها بالعمل، وأروا الله من أنفسكم خيراً، فلم يكن سلفكم يستعدون لها بمزيد من الأكل والشرب، ولكن بالطاعة والعبادة والجود والسخاء، فهم مع ربهم عباد طائعون، ومع إخوانهم بررة محسنون، والأسوة في ذلك والإمام نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فهو أجود ما يكون في رمضان، ويجتهد فيه ما لا يجتهد في غيره، يحيي ليله ويوقظ أهله ويشد المئزر، ذلكم هو مسلك التقوى، وهذه هي مراسم الاستقبال فاعملوا وأحسنوا وأبشروا.
ثم صلوا وسلموا على سيد رسله، وخاتم أنبيائه، والشافع المشفع عند الله يوم لقائه، نبيكم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.(58/6)
يا شباب الإسلام
إن العناية بالنشء مسلك الأخيار وطريق الأبرار، ولا تفسد الأمة إلا حين تفسد أجيالها، ولا يستقيم طريقها إلا حين يصلح شبابها وناشئتها.
وإن أول لبنة في بناء الشباب هي لبنة العقيدة ورسوخ الإيمان، يتبع ذلك لبنة العزيمة الصارمة والهمة العالية واقتران العمل بالعلم، ومراعاة الميول والرغبات للاستفادة من الطاقات المتاحة، فكل ميسر لما خلق له.(59/1)
أهمية صلاح النشء من أجل بناء الأمة
الحمد لله، أعاد وأبدى، وأجزل علينا النعم وأسدى، لا هادي لمن أضل ولا مضل لمن هدى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أكْرِم به نبياً! وأنْعِم به عبداً! صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، كانوا أمثل طريقة وأقوم وأهدى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
أيها المسلمون: زينة الحياة الدنيا وعُدة الزمان بعد الله؛ شباب الإسلام الناشئون في طاعة ربهم، لا تكاد تُعْرَف لهم نزوة، أو يعهد عليهم صبوة، يستبقون في ميادين الصالحات، أولئك لهم الحياة الطيبة في الدنيا، ولهم الظل الظليل يوم القيامة، يوم لا ظل إلا ظل المولى.
ولئن تطلعت الأمة لإصلاح ناشئتها، ورغبت في أن تقر عينها بصلاحهم، فعليها أن تهتم بتربيتهم وتسليحهم بسلاح الإيمان، وتحصينهم بدروع التقوى، وأخذهم بجد وقوة إلى العلم النافع والعمل الصالح.
إن العناية بالنشء مسلك الأخيار وطريق الأبرار، ولا تفْسُد الأمة وتهلك مع الهالكين إلا حين تفسُد أجيالها، ولا ينال الأعداء من أمة إلا إذا نالوا من شبابها وصغارها.(59/2)
الأنبياء والاهتمام بصلاح الذرية
وفي كتاب الله إخبار عن أنبياء الله حين توجهوا إلى ربهم بصلاح ذرياتهم من قبل وجودهم ومن بعد مجيئهم.
فمن دعاء زكريا عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38] ولا خير في ذرية إن لم تكن طيبة.
ويقول إبراهيم عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35].
وفي دعاء له آخر: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:40].
وكل صالح من عباد الله يبتهل إلى ربه: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف:15].
من الشباب ينشأ العلماء العاملون، والجنود المجاهدون، وفيهم الصناع والمحترفون، إذا صلحوا سعدت بهم أمتهم، وقرت بهم أعين آبائهم وأمهاتهم، وامتد نفعهم وحسنت عاقبتهم، {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الرعد:23].(59/3)
لبنات في بناء الشباب
ولقد رسم النبي صلى الله عليه وسلم فيما رسم منهجاً واضحاً في وصايا وجهها لشباب الأمة المحمدية ممثلة في ابن عمه الغلام عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، حيث قال له: {يا غلام! ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك}.(59/4)
العقيدة وأهميتها في صياغة الشباب
إن أول لبنة في بناء الشباب لبنة العقيدة، ورسوخ الإيمان، وصدق التعلق بالله وحده، والاعتماد عليه.
إن أولها: حفظ الله بحفظ حقوقه وحدوده، ومن ثم الاستعانة به وحده في الأمور كلها، والتوكل عليه، واليقين الجازم بأن بيده سبحانه الضر والنفع.
يأتي كل ذلك -أيها الإخوة- ليكون دافعاً للشباب، وهو في ثورته وطموحه وتكامل قوته؛ ليكون قوي العزيمة عالي الهمة.(59/5)
قوة العزيمة وعلو الهمة وأثرها في حياة الشباب
وإن شباب الإسلام اليوم بحاجة إلى المعرفة التامة بالعزائم من الأمور، والعالي من الهمم.
إن قوي العزيمة في الشباب -أيها الشباب- من تكون إرادته تحت سلطان دينه وعقله، ليس عبداً لشهواته، {فتَعِس عبد الدينار وعبد الدرهم}.
من صرامة العزيمة وعلو الهمة أن يفرغ الفؤاد عن الشهوات القريبة والعواطف السريعة.
اسمعوا إلى صقر قريش عبد الرحمن الداخل في قصة حفظها لنا التاريخ، يقول التاريخ: حينما عبر هذا الصقر البحر أول قدومه على الأندلس أهديت له جارية فارعة الجمال، فنظر إليها وقال: إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا شُغِلْتُ عنها بما أَهُمُّ به ظلمتها، وإن أنا اشتغلت بها عمَّا أَهُمُّ به ظلمتُ هِمَّتِي، ألا فلا حاجة لي بها، ثم ردها إلى صاحبها.
أيها الشباب: إن الشهوات والعواطف وحب الراحة وإيثار اللذات هو الذي يُسْقِط الهمم، ويفتِّر العزائم، فكم من فتيان يتساوون في نباهة الذهن، وذكاء العقل، وقوة البصيرة؟! ولكن قوي الإرادة منهم وعالي الهمة فيهم، ونفَّاذ العزيمة بينهم هو الكاسب المتفوق، يجد ما لا يجدون، ويبلغ من المحامد والمراتب ما لا يبلغون، بل إن بعض الشباب قد يكون أقل إمكانيات وأضعف وسائل؛ ولكنه يفوق غيره بقوة الإرادة وعلو الهمة والإصرار على الإقدام.
وإنه لحقيق بالرجال القوامين على التربية أن يعطوا هذا الدرس مكانه من التوجيه من أجل بناء صروح من العز شامخة، إن لم يكن ذلك فقد ظلمت الأمة نفسها، وخسرت أجيالها، وهضمت حق دينها، وأضاعت رسالتها، {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم:12].
وما اقترن العزم الصحيح بالتوكل الوثيق على مَن بيده ملكوت كل شيء إلا كانت العاقبة فوزاً ونجاحاً، {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159].
وإن من مظاهر ضعف الهمم في التعليم والتوجيه، ومن بخس حق العلم والمعرفة: أن يطلب الفتى العلمَ لينال به رزقاً، أو ينافس به زميلاً، حتى إذا أدرك الوظيفة، أو فاز على الزميل، أخلد إلى الراحة، ونسي العلم، وأضاع المعرفة، وتنحَّى عن الطلب، وإنما يرتفع رأسُ الأمة ويظهر عزها بهمم أولئك الذين يُقبلون على العلم بجد وصبر وثبات، ولا ينقطعون عن التحصيل والاستزادة إلا حين ينقطعون عن الحياة.(59/6)
أهمية اقتران العلم بالعمل في صياغة الشباب
والعلوم -أيها الإخوة- ما وضعت إلا لتهدي إلى العمل النافع، فلا شرف لها في نفسها، وإنما شرفها بما يترتب عليها من عمل صالح وأثر حسن، فالفقيه من يجد في علمه ما يعرف به أحكام الوقائع والنوازل، وكيف تكون المفاخرة بفتيان درسوا من العلوم التجريبية ما درسوا، ثم لم ينفعوا بلادهم في معامل ولا مصانع تكون بها أمتهم رائدة إلى الصلاح، وقائدة إلى مناهج الحق والصواب في كل ميدان وفي كل مجال؟!
ومن هنا كان لزاماً -أيها المسلمون- اقتران العلم بالعمل، فمَن عَلِم خيراً فليبادر إلى فعله، ومن عَلِمَ شراً فليحذر الاقتراب منه، وما يحيي القلوب بالمعرفة اليقظة والعلم النافع إلا المبادرة إلى العمل، فبه تستنير القلوب، ويصح المسير في دروب الحياة.
يقول بعض السلف: [[كنا نستعين على حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمل بها]].
ويقول بعض الحكماء: إذا أردت الاستفادة من النصائح المكتوبة والمسموعة فجربها واعمل بها، فإنك إن لم تفعل كان نصيبك نسيانها.
إن المعلومات النظرية التي لم ينقلها العمل من دائرة الذهن والأفكار المجردة إلى واقع الحياة لا فائدة فيها، فالجندي لا تنفعه معلوماته إذا لم يمارسها في الميدان، وماذا ينفع الطبيب علمه وكراريسه وآلاته إذا لم يمارسها طباً وعلاجاً؟!(59/7)
ضرورة مراعاة الاستعدادات والرغبات والمواهب عند صياغة الشباب
يُضَمُّ إلى ذلك -يا شباب الإسلام- العلم بما اقتضته سنة الله سبحانه وتعالى وحكمته، من اختلاف النفوس في استعداداتها ورغباتها ومواهبها من أجل أن ينتظم الشأن في هذه الحياة، فلربما نشأ وليدان في مهد واحد فتختلف ميولهما واختصاصاتهما في العلوم والمطالب، وإن لكم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لَخَيْرَ أسوة، وفي توجيه النبي صلى الله عليه وسلم لَهُمْ حسب طبائعهم وقدراتهم لأَوْضَحَ قدوة، فقد اختلفوا في طبائعهم ومهماتهم وأعمالهم ومعارفهم؛ فـ بلال غير أبي بكر، وخالد غير أبي ذر، وابن عباس غير ابن عمر، ومصعب غير ابن عوف؛ كانوا مهاجرين وأنصاراًَ، وكان فيهم أصحاب بيعة الرضوان، وفيهم الولاة والحكام، وفيهم العسكريون والقادة، وفيهم أوعية العلم والفقه، وكلهم أبلى في الإسلام بلاءً حسناً، وكلهم كان على ثغر من ثغور الإسلام فحفظه وصانه.
من أجل هذا -أيها الإخوة- فلا فرق بين عمل وعمل، فالأعمال المباحة على كثرتها واختلافها مطلوبة متأكِّدة حسب حاجة الأمة إليها، وبناء حياتها وقوَّتها عليها، {ألا فاعملوا فكل ميسر لما خلق له}.
أمةُ الإسلام مطالبةٌ بالدعوة إلى الله، مطالبة بإعداد القوة لإرهاب أعداء الله، بحاجة إلى التكامل والتكافل.
إن على كل شاب أن يعلم من العلم ما يقوده إلى حسن العمل، فيتخذ موقعه المناسب حسب قدرته وموهبته وحاجة الأمة إليه، والعلم بشئون الدنيا وأمورها مطلوب إذا كان طريقاً لعز أمة الإسلام وقوَّتها، حيث الابتكار والاختراع والتفوق، فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
واحذروا الوقوف عند حدود الأماني، والاقتصار على الكلام والمقترحات المجردة، فذلك يفتح أبواباً مَخُوفَة من الجدل الطويل، والثرثرة القاتلة للوقت والجهد والمواهب، وما الأماني إلا رءوس أموال المفاليس.
فاتقوا الله جميعاً أيها المؤمنون، و {اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:105].
{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، وهدانا صراطه المستقيم، وجنَّبنا طريق أصحاب الجحيم.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(59/8)
شغل وقت الشباب بالطاعات أمان من ضياعهم في متاهة الأهواء
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بالرحمة والهدى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن بنهجهم اهتدى.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، اتقوا الله أيها الناشئة، واعلموا أن للعمر أجلاً، والآمال عريضة بحر لا ساحل له، فسارعوا إلى العمل الصالح، واحفظوا لحظات العمر، واشغلوا الوقت بما ينفع في العاجل والآجل.
إن الشاب إن لم ينشغل في مشروعات الخير والجهاد والمجاهدة والإنتاج المثمر نهبته الأفكار الطائشة، وعاش في دوامة من النزاهات والمهازل.
إن شغل الأوقات وشحنها بالأعمال والواجبات والانتقال من عمل إلى عمل، ومن مهمة إلى مهمة -ولو كانت خفيفة يسيرة- يحمي المرء من علل البطالة ولوثات الفراغ.
والنفس -كما قال الإمام الشافعي رحمه الله- إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.
وإن الأمة تتخلص من مفاسد كثيرة وشرور عريضة لو أنها تحكمت في أوقات الفراغ لأبنائها، وليس بالإفادة منها بعد أن توجد، ولكن أيضاً بإيجاد ترتيب لا يكون معه فراغ قاتل.
إن مشاعر الخوف والقلق والحقد والغيرة والحسد لا تندفع إلى النفس الإنسانية إلا حينما تكون فارغة غير مشغولة، وإن توزيع التكاليف الشرعية في الإسلام منظور فيه إلى هذه الحقيقة.
إن شرائعه تدور على الجهاد والمجاهدة؛ مجاهدة النفس، ومجاهدة الناس، فالصلوات الخمس في ترتيبها وتوزيعها، والعبادات الأخرى في واجباتها ونوافلها بدنية ومالية، والأذكار بكرة وعشياًَ، قياماً وقعوداً وعلى المضاجع، والحرف والمهن، والقيام بالحقوق للقريب والبعيد، كل ذلك جهادات ومجاهدات تستغرق العمر كله لحظة لحظة، لا تبقي فرصة للغفلات والذهولات.
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا صالحاً، وسيروا على النهج، وأصلحوا النشء.
ثم صلوا وسلموا على المبعوث بالحق رحمة للعالمين، نبيكم محمد بن عبد الله، فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأزواجه وذريته.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، وعن سائر الصحابة أجمعين والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين.(59/9)
أمراض القلوب
في هذه الخطبة يتحدث الشيخ عن مرض خطير من أمراض القلوب ألا وهو قبول أكل الحرام.
وقد حذر فيها من أكل الحرام، وبين أضراره وبعض صوره في زماننا هذا.
وأوصى الأمة بتقوى الله في المأكل والمشرب والملبس، كما تعرض لبعض صفات القلب السليم، وذكر بعض ثمرات أكل الحلال.(60/1)
صفات القلب السليم وفضل أكل الحلال
الحمد لله رب العالمين؛ ربانا وربى جميع الخلائق بنعمه، لا إله غيره، ولا معبود بحقٍ سواه، أحمده سبحانه وأشكره، وأسأله المزيد من فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أسبغ علينا نعمه، وأغنانا برحمته من واسع فضله، أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، وهو طيبٌ لا يقبل إلا طيبا.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، فبشر وأنذر وبلغ البلاغ المبين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون! اتقوا الله ربكم، وأخلصوا دينكم لله، واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، ادعوه مخلصين له الدين، فبالدين الخالص، والعمل الصالح؛ تصلح الحياة وتزكو النفوس، ويستقيم أمر الدنيا والآخرة.
الدين الخالص والعمل الصالح يثمر سلامة القلب، وإذا سلم القلب استقامت الجوارح، وصلح الجسد كله.
القلب السليم مملوءٌ بمحبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، والرغبة في الطاعة، والنفور من المعصية.
صاحب القلب السليم يسير على نورٍ من الله مجتنبٌ للمحرمات، متوقٍ للشبهات، يترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس، وبالمقابل فبمرض القلوب وفسادها؛ يغلب الهوى، وتنبعث النفوس إلى المعاصي وتغرق بالشهوات، وتضل بالشبهات، فيحل الضعف، وينتشر الفساد، ويعم التحلل والانحلال، وإن مما يتميز به مرضها وسلامتها واعوجاج الجوارح واستقامتها مسائل الحلال والحرام، أكلاً وشرباً، ولبساً وتعاملاً.
ولقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: {إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام} وماذا بعد ذاك أيها المسلمون؟ يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
أيها المؤمنون: الحلال بَيِّن، وطلب العيش مشروع، وأبواب الحلال واسعة، ونعم الله متكاثرة، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس.
ولكن قوماً يأبون إلا عبادة الدرهم والدينار، يستمرئون أكل أموال الناس بالباطل، من غير ورعٍ ولا حياء، ولا مروءة ولا كرامة، فويلٌ لهم مما يكسبون، الرزق مكتوب، والأجل محتوم، ومصير هذه الدنيا إلى الزوال، والمآل إلى الحساب، إذا استغنى العبد بالحلال عن الحرام، فالله يكلؤه برعايته، ويحفظه بعنايته، يحفظه في نفسه، ويحفظه في عقبه وذريته، ويحفظه في ماله، ويبارك له في سعيه، يقول ابن المنكدر: [[إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظٍ من الله وستر]].
جاء عن بعض السلف: خمس خصال بها تمام العمل: "الإيمان بالله، ومعرفة الحق، وإخلاص العمل، والعمل على السنة، وأكل الحلال، فإن فقدت واحدة؛ لم يرتفع العمل".
ومن تعفف عن الحرام والمشتبه؛ أمده الله بتوفيق من عنده، وجعل غناه في قلبه، وأصلح له شأنه، أما من ركبه الشيطان وساقه الهوى، وقادته النفس الأمارة بالسوء، فاقترف المحرمات، وخاض في الشبهات، ودخل مواطن الريب؛ فقد فتح على نفسه أبواب الشر والهلكة، ولا يلومنَّ من أساء الظن به، ومن وقع في الشبهات؛ وقع في الحرام، ومن تهاون بالمحقرات؛ اجترأ على الكبائر.
عباد الله: إن من ضيع أمر الله؛ ضاع بين خلقه، بل يدخل عليه الضرر والأذى ممن يرجون نفعه وفضله، يتسلط عليه أقرب قريب من أهله وعشيرته.(60/2)
أكل الحرام خطره وأضراره وبعض موارده
أيها المسلمون: أكل الحرام وشربه ولبسه والتغذي به موجبٌ لسخط الله في الدنيا والآخرة، تمحق به البركات، وتخرب به عامر الديار، وتتفرق بسببه البيوتات، ورد عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: {إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل الله منه عملاً أربعين يوماً، وأيما عبدٍ نبت لحمه من سحت فالنار أولى به} فالله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26].
ولقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: {الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!} خرج ذلك الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرج الطبراني من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه بسندٍ رجاله رجال الصحيح سوى رجلين لكنهما وثقا، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يؤتى يوم القيامة بأناسٍ معهم الحسنات كأمثال جبال تهامة، حتى إذا جيء بهم جعلها الله هباءً منثوراً، ثم يقذف بهم في النار، فقيل: يا رسول الله! كيف ذلك؟ قال: كانوا يصلون ويصومون، ويزكون ويحجون، غير أنهم إذا عرض لهم شيء من الحرام أخذوه، فأحبط الله أعمالهم} وفي صحيح البخاري رحمه الله، من حديث خولة الأنصارية رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة}.
أمة الإسلام: متى يرجى العز ومتى يؤمل النصر وكثيرٌ من الناس قد بارزوا الله بالمعاصي في أموالهم وطرق اكتسابهم؟ إن العبد مسئول عن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وإن وجوه التعامل بالحرام كثيرة، والطرق المؤدية إليه واسعة، ومدخل الشيطان وجنوده فيها عريق، وكلها أكلٌ لأموال الناس بالباطل، التعامل بالربا من آكله وموكله، وكاتبه وشاهديه الارتشاء من الراشي والمرتشي والرائش الخيانات والسرقات القمار والميسر شهادة الزور الأيمان الكاذبة في الأموال أكل أموال اليتامى كتمان العيوب في البضائع السحر والكهانة والشعوذة والتنجيم التصوير المحرم وأدوات اللهو المحرمة، وما يُدفع في الزنا والنياحة، والكذب في الأسعار، والغش في المقاولات والتجارات، واحتكار الأقوات، كل هذه أنواع من الكسوب المحرمة، كلها موارد من موارد الحرام.
أيها الإخوة في الله: أيها التجار! كيف يستجاب الدعاء؟ ولماذا تنزع البركات؟ ومتى يهدأ اضطراب الأحوال في أمة الإسلام؟ يقول وهر بن الورد: لو قمت في العبادة مقام هذه السارية لن ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل في بطنك: حلالٌ هو أم حرام".
وقيل لـ سفيان رحمه الله: لو دعوت الله؟ فقال: إن ترك الذنوب هو الدعاء.
ويقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [[بالورع عما حرم الله يقبل الدعاء والتسبيح]].
وقد استبعد نبيكم صلى الله عليه وسلم إجابة دعاء ذلك الرجل المسكين المسافر الأشعث الأغبر وهو يمد يديه، ويلح في الدعاء: يا رب يا رب، لكن مطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذاؤه حرام، فأنى يستجاب لذلك!
فاتقوا الله أيها المؤمنون في أنفسكم، واتقوا الله في أهليكم، أصلحوا فساد القلوب بالكف عن الحرام وطلب الحلال، والعمل الصالح، فأي لحمٍ نبت من سحت فالنار أولى به.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ورزقنا الاستقامة على هديه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(60/3)
حث على تقوى الله في المأكل والمشرب
الحمد لله؛ يغفر الذنوب، ويستر العيوب، ويجزي الشاكرين، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمي، أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، ووضع الإصر والأغلال عنا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم وأطيعوه، وعظموا أمره ولا تعصوه، ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، واعلموا أن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب.
فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والمال الحرام لا بركة في إنفاقه، ولا قبول في الصدقة منه، وإذا تركه خلف ظهره كان زاده إلى النار، ولتعلموا أن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، فاجتهدوا رحمني الله وإياكم في المطعم الحلال، والملبس الحلال، والمعاملة الحلال، يقول بعض السلف: "إن الرجل إذا تعبد، قال الشيطان لأعوانه: انظروا من أين مطعمه، فإن كان مطعم سوء، قال: دعوه يتعب فقد كفاكم نفسه".
فالاجتهاد مع أكل الحرام لا ينفع، فاتقوا الله في أنفسكم وما وليتم.
ثم صلوا وسلموا على الهادي البشير، والسراج المنير، فقد أمركم بذلك اللطيف الخبير، فقال سبحانه قولاً كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد نبي الرحمة والهدى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك وإحسانك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل اليهود والنصارى ومن شايعهم وسائر الكفرة والملحدين برحمتك يا أرحم الراحمين.
الله آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيدهم بالحق، وأيد الحق بهم، وارزقهم البطانة الصالحة، واجمع بهم كلمة المسلمين يا أكرم الأكرمين!
اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر دينك وكتابك، وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، اللهم أيدهم بتأييدك، وانصرهم بنصرك، اللهم قوِّ عزائمهم، وسدد سهامهم وآراءهم، واجعل اللهم الدائرة على أعدائهم يا قوي يا عزيز.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(60/4)
الطلاق وآثاره
في أحضان الأسرة المتماسكة الملتزمة بأحكام الله تنمو الخلال الطيبة، وتنشأ الخصال الكريمة، والمودة والرحمة هي قوام الأسرة، وخير المؤمنين خيرهم لنسائهم، وتخلخل الأسرة ليس فساداً للأسرة فحسب؛ بل هو فساد للمجتمع بأسره، ولأجل ذلك يحرص الشيطان على التفريق بين الزوجين أشد مما يحرص على أي شيء آخر، وقد اعتبر الإسلام الطلاق آخر العلاج؛ حين تتعذر العشرة وتفشل جميع الطرق التي وضعها لحل المشكلة وحسم النزاع.
ثم إذا أراد الزوج بعد ذلك أن يطلق فعليه الالتزام بالطلاق السني وأن يجتنب الطلاق البدعي، وأن يحسن إلى مطلقته ويمتعها، وألا يفشي أسرارها.
كما يجب عليها ألا تخرج من بيتها أثناء عدتها ولا يخرجها.(61/1)
أهمية الأسرة في بناء المجتمع
الحمد لله، أمر ووصى، وشرع فأحكم، وهو العليم الخبير، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا معقب لحكمه وإليه المصير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أنار السبيل، وأوضح الطريق، وهدى إلى النهج القويم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: في أحضان الأسرة المتماسكة الملتزمة بأحكام الله تنمو الخلال الطيبة، وتنشأ الخصال الكريمة، ويعيش الصبية الصالحون حيث تفشو المودة، وتنتشر الرحمة في جنبات هذا البيت الكريم، متمثلاً فيه قول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21].
إن المودة والألفة هي قوام الأسرة، وإن أجلى مظاهرها وأوضح أسبابها حسن العشرة، ولزوم الطاعة، والتواصي بين الزوجين بالخير، وجميل الخلق، فأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخير المؤمنين خيرهم لنسائهم، والمرأة إذا صلت خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبوابها شئت.(61/2)
خطورة الطلاق وانفراط عقد الأسرة
وفي المقابل -أيها المسلمون- فإن تخلخل الأسرة وضعف تماسكها، ليس فساداً للأسرة وحدها، أو شقاءً لأفرادها فقط، ولكنه فسادٌ للأمة كلها، ودمارٌ للبشرية جميعها، بل كم من حضارةٍ هوت لانهيار كيان الأسرة فيها، واختلاط الحلال والحرام في نظامها، وانتشار الفساد في أخلاقها، ومن هنا فإن الشيطان لا يحرص على شيء حرصه على تفريق الأسرة، والدخول بين الرجل وأهله ليفتت لبنة المجتمع، ويمزق أصول الأمة، جاء في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: {إن الشيطان يبعث سراياه، فأقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا فيقول: ما صنعت شيئاً، ثم يجيء أحدهم، فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته؛ فيدنيه منه، ويقول: نعم أنت، فيلتزمه} أي: يضمه إليه ابتهاجاً بما صنع.(61/3)
الطلاق في غير محله تعد لحدود الله
وإن من أعظم أسباب الفتن وتفكك الأسر وتشتت الأهل: التعجل في أمر الطلاق والتطليق.
إن كثيراً من المسلمين يظلمون أهلهم وأهليهم لجهلهم بأحكام دينهم وحكم تشريعه، الطلاق في غير محله تعدٍ لحدود الله وتجاوز لسننه، ونفور عن مواطن الألفة والمودة والرحمة، وبعدٌ عن مسالك الصلاح والإصلاح: {أبغض الحلال إلى الله الطلاق} كما جاء في الحديث، وفي حديثٍ آخر عند الدارقطني: {ما خلق الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق} وفي مسند الديلمي عن علي رضي الله عنه مرفوعاً: {تزوجوا ولا تطلقوا، فإن الطلاق يهتز له العرش} استشهد به القرطبي، وفي لفظ آخر: {تزوجوا ولا تطلقوا، فإن الله لا يحب الذواقين والذواقات}.
وأخرج الخمسة إلا النسائي وحسنه الترمذي من حديث ثوبان رضي الله عنه: {أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة}.
إن الطلاق على هذه الشاكلة -أيها المسلمون- عبثٌ وحمق، وفصلٌ لعرى الزوجية التي تمت بكلمة الله، وقامت على أمانة الله، يقول عليه الصلاة والسلام وقد أخبر عن رجلٍ تجاوز الحد في الطلاق: {ما بال أحدكم يلعب بحدود الله، يقول: قد طلقت قد راجعت؟! أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! حتى قام رجلٌ من القوم فقال: يا رسول الله! ألا أقتله؟} أخرجه النسائي.(61/4)
معالجة الإسلام لمشكلة الطلاق
أيها المؤمنون! أيها الأزواج! لقد جاء الإسلام بمناهج وطرقٍ للحفاظ على الترابط، وعلى ضبط النفس، لو فقهها الناس وساروا عليها وألزموا بها أنفسهم، لقلت المشكلات الأسرية، ولضاقت مسالك الطلاق والشقاق، واستقرت الحياة الزوجية، وتماسكت أركان البيوتات.
أيها الإخوة: إن الإسلام يضيق مسالك الطلاق، والطلاق في الإسلام علاجٌ ودواء، والدواء لا يؤدي غرضه إلا إذا استعمل بطريقٍ صحيح، وكما ينصح الخبير كماً وكيفاً، فمن خالف فلا يلومنَّ إلا نفسه، وإن مما يُؤسف له كل الأسف أن تلحظ كثيراً من الجهلة والحمقى ينظرون إلى الطلاق وكأنه عقوبة أو كأنه سيفٌ مصلت يهدد به هذا الأحمق زوجته وأم أولاده وربة بيته، يهدد بالطلاق، أو يتلفظ به في أمور صغيرة وأشياء حقيرة، إما لأنها لم تنجز طعاماً، وإما لأنها لم تهيئ لباساً، أو تراه يدخل الطلاق في منازعاته وخصوماته مع الناس، طلاقاً ثلاثاً أو عشراً، أو مائة أو ألفاً، فيجتمع عليه شقاء الدنيا، وإثم الآخرة، اتخذ آيات الله هزواً، ولم يجعل للصلح ولا للرجعة موضعاً، أغضب ربه، وظلم نفسه، وخسر أهله، وفرق شمله، وشمت به الحاسدون.(61/5)
ضوابط وآداب لإيقاع الطلاق
عباد الله: إذا كره الرجل من زوجته أمراً أو خلقا، وتعذر عليه إصلاحه ومعالجته، واشتد بينهم الشقاق والنزاع، وخشي كل واحد منهما أن يظلم صاحبه، أو يقصر في حقوقه إذا حصل ما يشوش البال، أو يكدر الحال، فحينئذ يكون النظر في جدوى الطلاق.
إن على الزوج الذي بيده العصمة -وهو الحليم الحكيم العاقل- ألا يقدم على هذا الأمر الخطير الذي يعلم أنه يترتب عليه مصيره في نفسه، ومصير أهله، ومصير أولاده إن كان بينهما أولاد.
عليه بالتروي والصبر ومشاورة الناصحين الأخيار من أهل الدين والعقل والصلاح حتى لا يتفرق الشمل، ولا يتشتت الأهل، ولا يضطرب حال الأولاد، ثم بعد هذا التفكير الطويل والاستشارات الحصيفة؛ إذا تحتم الطلاق سبيلاً لحل المشكلة، فلا بد من مراعاة الآداب الشرعية والأحكام الإسلامية.
إن المباح في ذلك -أيها الإخوة- أن يطلق طلقة واحدة في طهرٍ لم يحصل فيه وطء، هذا هو طلاق السنة، فلا يطلق ثلاثاً، ولا يطلق حائضاً، ولا يطلق في طهر حصل فيه وطء إلا أن يتبين حمل، وإذا حصل الطلاق على هذه الصفة، فإن المرأة تبقى في بيت الزوجية ولا تخرج منه، فهو لا زال بيتها، ولا يجوز للرجل أن يخرجها.
إن الجهال من الأزواج والزوجات حالما تصدر كلمة الطلاق، تفارق المرأة البيت، ولو لم تخرج، لأخرجها هذا الأحمق الغاضب، أين هذا من قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1]؟!
إنها تبقى في بيتها، فالمسألة معالجة ومداواة، وليست عقوبة ولا انتقاماً ولا تشفياً: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1].(61/6)
حكم الطلاق أثناء الحيض وحكم الطلاق ثلاثاً
أما الطلاق في الحيض فمعصية لله ولرسوله، وهو طلاقٌ بدعيٌّ محرم، يراجع فيه الزوج إن لم يكن الطلاق ثلاثاً، فتبقى بعد الرجعة حتى تطهر، ثم يطلقها إن شاء، والأولى أن يبقيها حتى تحيض المرة الثانية، فإن شاء أمسكها وإن شاء طلقها.
والطلاق الثلاث طلاقٌ بدعيٌّ محرم لا يجوز تعاطيه، وهو تلاعبٌ بكتاب الله، واتخاذ لآيات الله هزوا، كما لا يحل إيقاع الطلاق في طهرٍ حصل فيه وطء ما لم يتبين حمل.
ولكن الطلاق في كل هذا يقع على الصحيح من أقوال أهل العلم مع الإثم والحرمة.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وتفقهوا في دينكم، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، واحذروا الظلم وتعدي حدود الله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:231].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(61/7)
من الآداب أن يمتع الرجل زوجته إذا طلقها متاعاً حسناً
الحمد لله نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، أحمده سبحانه وأشكره، وأسأله التوفيق والهداية، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرشد الأمة بقوله: {خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي} صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنين، وقوموا بحقوق الله عليكم في أنفسكم وأهليكم، ولا تنسوا الفضل بينكم، واعلموا أن من آداب الطلاق بعد وقوعه أن يتلطف المطلق في الأمر؛ فيعطي المرأة ما تتمتع به من أنواع المال، لتحصل المواساة، وينجبر الفاجع.
روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه طلق امرأة فبعث إليها بعشرة آلاف درهم، فقالت: متاع قليل من حبيب مفارق.(61/8)
من آداب الطلاق ألا يفشي أحد الزوجين سر صاحبه
ومن الآداب كذلك ألا يفشي أحدهما سر الآخر، كما في الحديث الصحيح عند مسلم رحمه الله وغيره: {إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه، ثم ينشر سرها}.
ونقل عن بعض الصالحين أنه أراد تطليق امرأته، فقيل له: ما يريبك منها؟ فقال: العاقل لا يهتك سراً.
فلما طلقها، قيل له: لم طلقتها؟ فقال: ما لي ولامرأة غيري؟!
فاتقوا الله أيها المسلمون، والتزموا بآداب دينكم وحافظوا على بيوتاتكم، فإما إمساكٌ بمعروف وإما تسريحٌ بإحسان.
ثم صلوا وسلموا على المصطفى المختار محمد بن عبد الله سيد الأبرار؛ فقد أمركم بذلك ربكم فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد نبي الرحمة والهدى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الرحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك المؤمنين، وأيد بالحق إمام المسلمين، وارزقه البطانة الصالحة، ووفقه لما تحب وترضى يا رب العالمين.
اللهم اخذل اليهود والنصارى ومن شايعهم وسائر الكفرة والملحدين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك، اللهم أيدهم بتأييدك، وانصرهم بنصرك، واجعل الدائرة على أعدائهم يا قوي يا عزيز.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(61/9)
الزموا سفينة النجاة
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو العلامة الفارقة لهذه الأمة وعنوان خيريتها، وهو وظيفة الدولة المسلمة، كما أن أول المسئولين عنه هم علماء الأمة الذين ينبغي أن يكونوا هم المُثُل العليا للخير والاستقامة، وعليهم أن يتحلوا بالصبر ويتحملوا الأذى في سبيل الله حتى تقوم هذه الفريضة، ومما ينبغي تنبيه الأمة إليه أن دعوى الحرية الشخصية دعوى عريضة يتوصل بها المجرمون إلى المعاصي والسيئات، ويسقطون بها المسئولية الجماعية؛ وبذلك يجردون الأمة من أقوى أسلحتها ومن عنوان خيريتها، وتزداد المنكرات وتنتشر، وينتفش الباطل، ويتلاشى الحق، ويحيق بالناس أمر الله.(62/1)
فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الحمد لله المتفرد بالملكوت والقدرة، المتعالي في سلطانه ومجده، لا يقدر أحد من خلقه قَدْرَه، أحمده سبحانه وأشكره، كم أسبغ من نعمة! وكم أقال من عثرة!
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تنفع قائلها يوم الحسرة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، الفوز والعز لمن أطاعه، والذلة والصغار لمن عصاه وخالف أمره، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، استجابوا لربهم، وأطاعوا نبيهم في المنشط والمكره، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ، فاتقوا الله ربكم وأنيبوا إليه، واستغفروه من جميع الذنوب وتوبوا إليه، تحببوا إليه بطاعته والثناء عليه، سبحانه! ملأت عظمته قلوب أوليائه، وتعلقت بمحبته أفئدة أصفيائه، مَن توكل عليه كفاه، ومَن سأله أفاض عليه من عطاياه.
أيها المسلمون: الإنسان مدني بطبعه، لا تستقيم حياة البشر، ولا يهنأ عيشهم إلا مع بني جنسهم، قد جعل الله بعضَهم لبعض سُخرياً، لا يستقل أحدٌ بحاجته دون الآخر.
ومن مظاهر المدنية الإنسانية وخصائص الطبيعة البشرية: المناصحات والمشاورات، والإرشادات والتوجيهات، والأوامر والنواهي، فهذه كلها من لوازم الوجود البشري والحياة المدنية.
فالبشر لا بد لهم من أمر ونهي، ودعوة وإرشاد، ومناصحة وتوجيه، فمَن لم يأمر بالخير والحق أو يُؤمر به أَمَر بالشر والباطل وانجرَّ إليه، ولو أراد الإنسان ألا يأمر ولا ينهى؛ لا بخير ولا بشر، ما أمكنه ذلك؛ لأن هذا من مقتضيات الفطرة الإنسانية ومتطلبات الحياة الاجتماعية.
ونفوس البشر كلها: إما لوَّامة، وإما مطمئنة، وإما أمارة بالسوء.
وجميع هذه النفوس إن لم تُشغل بالحق والخير شُغلت بالسوء والباطل، ومن لم يزحف بمبادئه زُحِف عليه، {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251].(62/2)
جماع دين الإسلام في الأمر والنهي
وأمة الإسلام هي الأمة الجامعة لأصول الديانات بدينها، والوارثة لجميع الكتب بكتابها، والمهيمنة على جميع الشرائع بشريعتها، والخاتمة للرسالات برسالتها.
وجماع دين الإسلام أمر ونهي؛ فالأمر الذي بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم هو الأمر بالمعروف، والنهي الذي جاء به هو النهي عن المنكر.
وجميع الولايات والمسئوليات في الإسلام إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمجتمع المسلم يعرف المعروف ويقره ويرضاه، ويحبه ويلتزمه ويأمر به، وينكر المنكر ويأباه، ويجتنبه وينهى عنه.(62/3)
علاقة خيرية الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إخوة الإسلام: ومن أجل هذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو العلامة الفارقة لهذه الأمة، وتاج عزها، وعنوان خيريتها، يقول الله عزَّ وجلَّ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
فهو ثمرة الرسالة وخلافة النبوة وأثر الدعوة، {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157].
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول الإسلام، وركن من أركان الملة، وأساس من أسس الشريعة، ومظهر من مظاهر حضارة أهل القرآن، به قِوام الأمر ومِلاكه، لا يرتفع منار الشريعة بدونه، ولا اعتصام بحبل الله إلا على هداه، هو الجهاد الدائم والفريضة المحكمة، وهو الباب الحافظ للشريعة بإذن الله من هجوم البدع، وتراهات الانحراف، ورياح الفسوق، وتيارات المعاصي، به بإذن الله حماية العقيدة، وصيانة الفضيلة، وحراسة الحرمات.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صورة من صور التكافل والتضامن وتحقيق الموالاة بين أهل الإيمان، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71].
من أخص خصائص أهل الإيمان الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم: أنهم آمرون بالمعروف، ناهون عن المنكر، حافظون لحدود الله.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب من أعظم أسباب النصر والتمكين، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:40 - 41].(62/4)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثره على البيئة الإسلامية
هذه الشعيرة ضمانة للبيئة الإسلامية من التلوث الفكري والانحلال الأخلاقي، فإذا كانت الأمم تهتم بصحة البيئة وسلامة الأبدان ونظافة المطاعم والمشارب ونقاء الماء والهواء، فإن صفاء الفكر واستقامة الخلق أكبر وأعظم، والتلوث فيهما أشد وأنكى، وأي باب أوسع في هذا التلوث من نشر اللوثات الفكرية التي تشكك في الدين، وتهز الثوابت، وتفسد الأخلاق، وتنشر الرذيلة، في كتاب، أو قصة، أو قصيدة، أو رواية، أو مسلسل، أو شريط، أو مجلة، أو صحيفة؟!(62/5)
من يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أيها الإخوة في الله: والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة الدولة الإسلامية بأجهزتها وولاياتها ودواوينها ووزاراتها، وهو وظيفة الدعاة والموجهين والمربين وأجهزة الإعلام والتعليم، كل حسب قدرته وحسب صلاحيته، {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} وفي رواية: {وليس وراء ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان}.(62/6)
دور أهل العلم في القيام بهذه الفريضة
ويأتي أهل العلم والصلاح في مقدمة المسئولين عن هذا الركن العظيم، اقرءوا إن شئتم: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:63].
يقول ابن جرير رحمه الله: ما في القرآن آية أشد توبيخاً للعلماء من هذه الآية، ولا أخوف عليهم منها.(62/7)
أهمية وجود القدوة الصالحة لإصلاح المجتمع
أيها المسلمون: وعلى الرغم من وضوح ما تقدم، فإن كل مجتمع مهما بلغ من الفضل والاستقامة لا بد له من طائفة تتمثل فيها المُثُل العليا، تحفظ للمجتمع وجوده المعنوي المتمثل في صلاح عقيدته وحسن أخلاقه وأدب تعامله، على حد قول الله عزَّ وجلَّ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
إنهم طائفة تمثل الخيرية في المجتمع، وتحافظ عليها وتحميها.
إن في أرواحها من التوهج، وفي نفوسها من الحيوية ما يجعل هم مجتمعها هو همها الأكبر، فيسعد بها المجتمع، إذ تحفظ عليه توازنه واستقامته، وعناصر استمراره وبقائه.
إنهم فئة من المجتمع مسموعة الصوت، واضحة التأثير، تملأ الفراغ، وتملك من التأثير ما يجعل جادة الحق واضحة، وطريق الصواب بارزة، ومسالك الخير بينة، فتستمر سُنَّة المدافعة بين الحق والباطل.
إنهم {أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود:116] مشاعل وسرج يصلحون ما أفسد الناس، بدين الله قائمون، وعلى الحق حراس، يدعون من ضل إلى الهدى، ويبصرون من العمى، ويصبرون على الأذى، همهم -أثابهم الله وأعظم أجورهم- إقامة دين الله، وإعلاء كلمته، وإعزاز أوليائه.
إنهم صمام الأمان بإذن الله، وسبب نجاة الأمة من الهلاك.(62/8)
ضرورة تحلي الدعاة إلى الله بالصبر
عباد الله: وإن من المعلوم البين أن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكليف ليس بالهين، ووظيفة ليست باليسيرة، فهو يصطدم بشهوات الناس ورغباتهم، ويقطع بعض أهوائهم وملاذهم، ويكبت غرور بعض المتكبرين، ويحد من تسلط بعض المتسلطين، ففي الناس الجبار الغاشم، وفيهم الظالم المتجاوز، والمنحرف الذي يكره الاستقامة، وفيهم أشباه البهائم عبيد الشهوات، بل فيهم من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف.
ومن ثم تأتي هذه الفئة الطيبة المباركة -وكل من يقوم بمثل ما تقوم به- فتقوم بمحاربة الانحراف والمدافعة من أجل فُشُوِّ المعروف، فتتلقى الأذى والعنت والتطاول والاتهامات؛ لأنها تسير في مضادة أهل الشهوات والأهواء الذين لا يهتمون إلا بإشباع رغباتهم، ولا يتجاوز ضررهم مواقع أقدامهم.
إن هذه الطائفة تلقى ما تلقى لأنها تسير في ركاب الأنبياء وفي دروب المرسلين، تقوِّم المعوج، وتنصر المظلوم، وتحارب الأهواء، وكتاب الله قرن محاربة هذه الفئة بالكفر بآيات الله وبتكذيب المرسلين، يقول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21].
ومن أجل هذا فقد جعل هؤلاء الأخيار من الصبر حصناً حصيناً، ومن الاحتمال والتحمل خلاً أميناً، يوطنون أنفسهم على تجرع كئوس المرارة، وتجنب خلائق المداهنات، وتحمل أذى الخلق في جنب الله، معتمدين على مولاهم، لا يحزنون على من خذلهم، ولا يأسفون على من قلاهم، قد قطعوا أطماعهم من الخلق، ووثقوا بكفالة الإله الحق، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3].
يتحرون الإخلاص والبعد عن الهوى أو قصد التشكي أو الانتصار للنفس، في نزاهة نفسية وصفاء قلبي، بعيداً عن الضغائن والأحقاد، بأسلوب الأدب والمحبة والشفقة، يخاطبون العقل، والغيرة الدينية، والحمية، والشهامة، متسلحين بسلاح العلم، والحكمة، والعدل، والإنصاف، والرفق، والحلم، والصبر، يعلمون أن للنفوس إقبالاً وإدباراً، فيتعاهدونها حين إقبالها وانبساطها بالكلمات الطيبات، والمُهاداة والملاطفات، حتى تصل إلى القلوب بإذن الله، متمثلين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.(62/9)
الفهم الخاطئ لمفهوم الحرية وآثار ذلك
أيها الإخوة المسلمون: هؤلاء هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وهذا هو دورهم وفضلهم، وذلك هو مسلكهم وسبيلهم.
غير أن من أعظم مآسي هذا العصر ومن طَوامِّه: هذا الغلو المقيت والمبالغة الخاطئة في مفهوم الحرية الشخصية والخصوصية الفردية في مقابل حق الجماعة ودور المجتمع؛ فباسم الحرية الشخصية وباسم خصوصية الأفراد هَشُّوا للمنكرات وارتضوها، وتشربوها وارتضعوها، وعشقوها وغرقوا فيها، ارتضوا الكفر والإلحاد، وعاشوا في الفسوق والضلال، وحاربوا الفضيلة، ونشروا الرذيلة، كل ذلك باسم الحرية الفردية والحقوق الشخصية؛ حرية في العري والعهر والزنا واللواط، وحرية في الكفر والإلحاد والردة، حتى جعلوا ذلك في مناهج الدراسة وبرامج السياحة ووسائل الترفيه، وكانت النتيجة التي انتهت إليها غالبيتهم -ولا زالوا فيها ينحدرون- أن تفككت المجتمعات على نحو مخيف، وذابت الأسر بشكل مروِّع، وذهب رونق الحياة ونضارتها، وسوف يعصف ذلك بكل الجهود الكبيرة التي تُبنى بها الحضارات، ويقوم عليها بناء الأمم.
ومع الأسف فإن الغلو في هذه النظرة الفردية انتقل إلى كثير من أبناء المسلمين، فترى هذا المبتلى لا يقبل النصيحة، ولا يحب الناصحين، بحجة أن هذا تدخل في الخصوصيات، يحاجون على الحرية الشخصية، بل إنه ليزعم -وهو مخذول- أن هذا تحجر وانغلاق ورجعية وتزمت، ويعلم الله والمؤمنون أن الإسلام قد قام على خلاف ذلك، فلقد وازن بين حق الفرد وحق الجماعة، والمسئولية -والله- مشتركة {فكلكم راعٍِ، وكلكم مسئول عن رعيته} {
الجواب
=6001305>> وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71].(62/10)
مثال يوضح المسئولية الجماعية على الأمة
يجسد ذلك ويوضحه هذا المثال العظيم الدقيق الذي ضربه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: {مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وبعضهم في أعلاها، فكان الذين في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا بهم، فأخذ أحدهم فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه، فقالوا: ما لك؟ قال: تأذيتم بي، ولا بد لي من ماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه وأنجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم} أخرجه البخاري في صحيحه.(62/11)
من آثار سوء فهم الحرية
أيها الإخوة في الله: ويوم يزيف الناس هذا الحق ويدرسونه بالباطل بدعوى التقدم والحرية والخصوصية يكونون بذلك قد جردوا هذه الأمة من أقوى أسلحة دعوتها ودعامتها وتضامنها وضمانة الخيرية فيها، وأبعدوها عن أقوى خصوصية بقائها واستمرارها، وبتركه وإهماله تسقط الأمة من ميزان التقييم والتفضيل حتى تصير إلى حضيض الانهيار الاجتماعي، مستوجبة اللعن والطرد كما لُعن الذين من قبلها، {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78] * {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79].
وبعد أيها الإخوة المسلمون: فبإقامة هذه الشعيرة يقوم الدين وتُحفظ الملة، وتعز الأمة، وتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر، وبذلك تستقيم الموازين، وتتضح المفاهيم، فيتبين للناس المنكر من المعروف، والحق من الباطل، والمشروع من الممنوع، والمباح من المحرم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:116 - 117].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(62/12)
آثار ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الحمد لله، أحكم الأشياء وأبدعها صنعاً؛ له الملك كله، وبيده التدبير كله، إعطاءً ومنعاً، وخفضاً ورفعاً؛ أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، ما أرسل رياحاً، وما أزجى سحاباً، وما أنبت زرعاً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قدر الأقدار ضراً ونفعاً؛ وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، فكان رحمة للعالمين، وهدى للبشرية جمعاء؛ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، استجابوا وانقادوا فكانوا أسمع وأوعى؛ والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: إن ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمة وانحساره أمر خطير ونذر شر مستطير.
بضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تزداد المنكرات وتقوى، وتنتشر في الناس وتطغى، وحال الناس لا يقف عند حد، فإما أن يهيمن الخير والمعروف، ويرتدع المنكر ويستتر، وإما أن ينتفش الباطل ويستعلي المنكر.
والمجتمع الصالح هو الذي يسوده البر، ويكون فيه أهل الاستقامة والصلاح ظاهرين، والبلاء كل البلاء أن يعلن أصحاب المنكرات منكراتهم، ويتظاهر أهل الشر بشرهم.
والأمة التي تظهر فيها المنكرات وتفشو وتُعلن تتعرض لهزات عظيمة لا يعلم مداها إلا الله، والمعصية إذا خفيت لا تضر إلا صاحبها، أما إذا أُعلن بها فإنها تضر العامة، وكل الأمة معافى إلا المجاهرين، ولقد سألت أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: {يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم، إذا كثر الخبث} فإذا تهاون الناس مع أهل المعاصي والمنكرات الفكرية والأخلاقية، وفشا أمرها، فلا يزال الخبث ينتشر وتألفه النفوس، وتتربى عليه الأجيال، وحينئذ يحيق بالقوم أمر الله، صالحهم وطالحهم.
فإذا ما غلت الأسعار، فإنها لا تقتصر على الفاسقين، وإذا ما اضطرب الأمن فإنه لا يخص الطالحين، وإذا استباح العدو الحِمَى فإنه لا يستثني أحداً.
وإذا ما استمر أصحاب الأهواء والشهوات في غيهم، فعلى المجتمع أن يتحمل المسئولية تجاه حاضره ومستقبله ودنياه وآخرته، {لتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراًَ، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم}.
وفي الحديث الآخر: {ما من رجل يقوم في قوم، يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون على أن يغيِّروا عليه فلا يغيِّروا إلا أصابهم الله بعذاب قبل أن يموتوا}.
ويقول ابن العربي: والسكوت عن المنكر تتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات وركوب الذل من الظَّلَمَة على الخلق.
أيُّ خير يرتجى مِمَّن يرى مَحارم الله تنتهك، وحدوده تضيَّع، وهو بارد القلب، أخرس اللسان؟! وهل الخوف والْهَلكة إلا من مثل هذا؟! ونعوذ بالله من موت القلوب، والقلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره لدين الله أكمل وأتم.
قيل لـ ابن مسعود رضي الله عنه: [[مَن ميت الأحياء؟ قال: الذي لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً]].(62/13)
هيئة الحسبة في بلاد الحرمين
أيها الإخوة في الله: ومن أراد نجاة نفسه وفوزها وسعادتها في الدنيا والآخرة، فليلزم سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإن مَن تأمل في عالم اليوم وقلب نظره في أرجاء العالم الإسلامي، أدرك ما عليه هذه البلاد المباركة، بلاد الحرمين الشريفين، التي جعلت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جهة مسئولة وجهازاً خاصاً وهيئة تتولى القيام به وترعاه وتباشره وفق أنظمة شرعية على نهج الكتاب والسنة، مع مراعاةٍ لمتغيرات العصر ومتطلبات الأحوال والناس، وهذا من توفيق الله وفضله لهذه البلاد وأهلها وقادتها، بل هو من أخص خصائصها في رفعها لواء الحكم بما أنزل الله، كتاباً وسنة ودستوراً ومنهج حياة، ورعايتها للحرمين الشريفين مأوى أفئدة المسلمين، وهي كلمة حق تقال وأعمال تُذكر وتُشكر مع ما يُرجى ويؤمَّل من مزيد الدعم والتأييد، فالتيارات كثيرة والمتغيرات متسارعة، والمغرضون كثير، والمتربصون أكثر، ورافعو ألوية الفساد لا يألون جهداً في غرق السفينة، وسنن الله لا تحابي أحداً، فإِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، وليس لفرد ولا لمجتمعٍ حصانة ذاتية، ومن يضمن السلامة حين يتعرض لتيارات الفتن وموجات التحلل عياذاً بالله واعتصاماًً به؟!
فنسأل الله العلي القدير أن يسبغ على هذه البلاد نعمة الأمن والأمان، وأن يحفظ عليها رخاءها، وأن يثبتها على دينه، وأن يزيدها استقامة على شرعه.
كما نسأله سبحانه أن يعم بالخير والتوفيق والصلاح جميع بلاد المسلمين، إنه خير مسئول وأكرم مأمول.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عز من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الدين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.
اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق والتوفيق والتأييد والتسديد إمامنا وولي أمرنا.
اللهم أعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين بالعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد، يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُذَلُّ فيه أهل معصيتك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
اللهم إنا نستغفرك، إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً.
اللهم إنا نستغفرك، إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً.
اللهم واجعل ما أنزلته قوة لنا على طاعتك، وبلاغاً إلى حين.
اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنعنا بذنوبنا فضلك، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنعنا بذنوبنا فضلك، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنعنا بذنوبنا فضلك.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك، وإعزاز دينك.
اللهم انصرهم في فلسطين، وكشمير، وفي الشيشان، وفي كل مكان يا رب العالمين.
اللهم وانصر إخواننا في الشيشان، اللهم وانصر إخواننا في الشيشان.
اللهم سدد سهامهم وآراءهم.
اللهم كن لهم ولا تكن عليهم.
اللهم إنهم ضعاف فاحملهم، وعراة فاكسُهم، وجياع فأطعمهم.
اللهم واجعل الدائرة على أعدائهم، وأنزل عليهم بأسك ورجزك إله الحق.
اللهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، واجعلهم غنيمة للمسلمين، وعبرة للمعتبرين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(62/14)
السبيل إلى الحج المبرور
الحج كم اعتز به من ذليل لاذ بجناب الله، وبورك فيه منكسر انطرح بين يدي مولاه، تآلفت فيه قلوب، وفرجت كروب، وحطت فيه أوزار وغفرت ذنوب، امتزجت فيه دموع المذنبين، وتعانقت أصوات المستغفرين، وتوحدت رغبات الراغبين، وهو إخلاص يحفظ العبد به عقيدته من الزيغ والابتداع، ومنه تعود النفوس أقوى إيماناً، وأخلص عقيدة، وأنقى سريرة، وأزكى نفساً، وأكرم خلقاً، وهو مظهر لوحدة الأمة واجتماع كلمتها.(63/1)
مكانة البيت العتيق
الحمد لله؛ بَوَّأ لخليله إبراهيم عليه السلام مكان البيت العتيق، وجمع لمن قصده خالصاً مخلصاً أسباب التوفيق، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، يسر السبيل لبيته المحرم؛ فجاءوا حُجاجاً وعُماراً من كل فجٍ عميقٍ.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً بها المخرج من كل ضيق، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، ذو المجد المؤثَّل والنسب العريق، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فتقوى الله سبيل النجاة، وطريق الفلاح، فاتقوه رحمكم الله لعلكم تفلحون.
أيها المسلمون: ها هم حجاج بيت الله الحرام تتوافد أفواجهم إلى هذه الأرض الطيبة المباركة في خطاً وئيدة متهيبة.
أيها الحاج الكريم! إن فيضاً دفاقاً من المشاعر والأحاسيس يملك عليك روحك وقلبك، وأنت تقلب بصرك الثاقب وبصيرتك الواعية، فإذا أنت تعيش خُطا محمد صلى الله عليه وسلم، وصحبِ محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم وأرضاهم في صورةٍ حيةٍ نابضة، ومشاعر لله عابدة، وأشواق حارة في الإقبال على هذا البيت ورب هذا البيت.
أرضٌ مباركة ضمَّت أروع حوادث التاريخ، وأعظم ملاحم الإنسانية، أرض تروي أوديتها وجبالها ووهادها ورمالها تاريخاً عبقاً، طويلاً عريضاً، زاخراً بالبطولات، وألوان الجهاد والانتصارات، ومصارع الشهداء في سبيل الله، وإعلاء كلمة الحق.
أرضٌ تغيرت بسيرتها ومسيرتها معالم التاريخ، وقفزت بالإنسانية إلى أبعد الآفاق في المعالي والحياة الكريمة.
تَقْدُم -أيها الحاج- إلى هذه البلاد الطيبة الطاهرة، وهي تمد يديها إليك مرحبة، يتشرف أهلها بقدومك، ويتقربون إلى الله بخدمتك، ولاة الأمر فيها صادقون جادون في كل ما ييسر الحج، ويعين على أداء النسك.
حفظك الله!
كم وقف بساحاتها من الجموع؟! وكم سالت على ثراها من الدموع؟! وكم ذابت في عرصاتها فوارق الأجناس واللغات؟!
كم اعتز بها من ذليل لاذ بجناب الله! وبورك فيها من منكسر انطرح بين يدي مولاه؟!
كم تآلفت فوقها قلوب! وفُرِّجت على ثراها كروب! وحُطت فيها من أوزار وغُفرت ذنوب؟!
كم امتزجت فيها دموع المذنبين! وتعانقت أصوات المستغفرين! وتوحدت رغبات الراغبين؟!
كم تجردت فيها النيات! وسالت على جنباتها العبرات؟!
هذه هي الأرض الطيبة المباركة التي تَقْدُم إليها، فماذا أعددت؟! وكيف تهيأت؟!
أيها الحاج: دمت في رعاية الله وكنفه.
إن الحج عبادة عظيمة تتداخل فيها أنواع من العبادات لا يتيسر تداخلها في غيره: عبادة في المال، وعبادة في البدن، أعمال بالقلوب والألسنة والجوارح، جَمَعت أنواعاً من التعبد عملاً وقولاً ونيةً.(63/2)
آداب وتوجيهات أثناء الحج
وهذه طائفة من الآداب والتوجيهات بَسَط أهل العلم -رحمهم الله- القول فيها، وحثوا مريد الحج على مراعاتها، والحفاظ عليها؛ تَلَمُّساً للحج المبرور والعمل المقبول:(63/3)
إخلاص النية لله جل وعلا
أول ذلك وأولاه: إخلاص الدين لله عز وجل:-
فالله لا يقبل من الأعمال إلا خالصها، فهو سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك.
فالعبادة محض حق الله وحده، لا شريك له، منه الخير، وبيده الخير {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123] لا يكشف الكرب إلا الله، ولا يفرج الْهَمَّ إلا الله، ولا يسوق الْمَدد ولا يغيث المستغيث إلا هو سبحانه وبحمده.
إخلاصٌ يحفظ به العبد عقيدته من الزيغ والابتداع، ويكف به جوارحه عن المعاصي والآثام.
إخلاصٌ يبتعد به عن الرياء والسمعة.
إخلاصٌ يقود إلى التوبة، توبةٍ صادقةٍ نصوح، يصحبها الإقلاع عن الذنب، والندم على اقترافه والتحسر على التفريط فيما سلف، توبة يتجدد فيها العزم في هذه البقاع الطاهرة على ألا يعود إلى معصية أو ذنب، متباعداً عن رفاق السوء وبواعث المنكر.
ومن علائم التوبة وصدق التوجه: تحري النفقة والكسب الحلال: {فإن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً} وكيف يرجو القبول مَن يمشي بالحرام، ويغتذي بالحرام، ويكتسي بالحرام؟!
كيف يرفع يديه إلى مولاه ليقول: لبيك وسعديك، وهو لم يتزود إلا بالحرام، ولم يركب إلا من الحرام؟!
كيف يمد يديه: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!
وإن من الخوف والورع -أيها الحاج الكريم- أن تحاسب نفسك، فتجتنب الإسراف في التنعم والترفه والتكلف في كماليات المعاش والمراكب، ألم تتجرد من لباس أهل الدنيا؟! ألم تقتصر على إزار ورداء؟! ألا تتجرد من أعباء الدنيا وأثقالها؛ لتقف موقف صدق في محاسبة جادة، فتكبح جماح الشهوات، وتوثق اللجام من الإغراق في المشتهيات.
إن الحرص على الاستكثار من وسائل الترف يصرف عن آداب الحج وأسراره، وما يستحب من إظهار المسكنة والحاجة والتضرع إلى ربك وانكسارك بين يديه.
ومما يعينك -وفقك الله، إن كنت ممن وسع الله عليه وبسط له في رزقه- أن تتفقد من حولك من رفقتك، ولتؤثِر المحتاجين والغرباء، ولتطعم البائس الفقير، وتكون طيب النفس فيما تنفق، فأهل النفاق وقليلو الإخلاص هم الذين ينفقون وهم كارهون.
ابذل حفظك الله، وإذا وسع الله عليكم فوسعوا، ولَتُسْأَلُنَّ عن النعيم، ولقد سئل نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم: {ما بر الحج؟ قال: إطعام الطعام، ولين الكلام}.(63/4)
اختيار الرفقة الصالحة
ولتعلم -وفقك الله- أن مما يرجى معه بر الحج تخيُّر الرفقة الطيبة، ذات الصلاح والاستقامة والطاعة والتقى، ممن يرغِّب في الخير، ويعين على الطاعة، ويستمسك بالشرع وآدابه وأهدابه، رفيق صدق، يهدي عند الضلالة، ويذكر في النسيان، ويعين عند العجز، إن جبنت شجعك، وإن ضاق صدرك صبَّرك وباسطك، ناهيك إذا كان من أهل العلم والفقه في الدين، فاستمسك بغرزه، وخذ بركابه، فذلك مما يعين على مبار الحج ومكارم الأخلاق، رفيق العلم والصلاح يمنع من سوء ما يطرأ في السفر من مساوئ الأخلاق والتساهل في أمور الدين، وربما جعله الله سبباً في الصلاح في الحال والمآل.
ثم لتعلم أنك واجدٌ من صاحبك في بعض الأحيان جفاء ومغاضبة، فاصبر وتحمل وتجمل وباعد عن الخصام الدائم، والعبوس المستمر، فذلك مما تتكدر به الحياة، وتتنكد معه المعيشة، وتسوء به الرفقة، وتتعسر معه الأمور، والأولى لك أن تجد في مكارم أخلاقك ما يديم لك الصحبة، وتسلم لك به حجته، وحينئذٍِ يذهب عنك سوء الظن والحقد والمشاحنة ونقائص الأقوال والأفعال، وترعى لصاحبك حقه وحرمته، فاحفظ نفسك من مصاحبة الجهال والسفهاء والكذابين والمنافقين والعصاة المجاهرين، فإن مخالطة هؤلاء مجلبة للمأثم، وقائدة إلى السوء.(63/5)
الاجتهاد في تطبيق مناسك الحج حسب سنة رسول الله
توجه إلى عبادة ربك على علم وبصيرة، وتعلم من أحكام الحج ما تصح به مناسكك، واسأل أهل العلم فيما أشكل عليك، اشتغل بما يقربك من ربك ومولاك، مدركاً عظم الفريضة التي أنت فيها، والعبادات التي أنت مقبلٌ عليها، والبقاع الشريفة التي تتعبد الله فيها، قَوِّ الصلة بربك في سفرك وإقامتك، وحِلِّك وترحالك، مستعيناً بالله، متوكلاً عليه، أحسن الظن بربك، فهو سبحانه أكرم من أن يخيِّب سعي القاصد لكرمه، أو يحرم مِن رحمته الواسعة مَن لاذ بحرمه، ربك كريم جواد، إن سألته أعطاك، وإن دعوته أجابك: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] أكثر لله خضوعك وانكسارك، وداوم على التكبير والتهليل والدعاء والتضرع بحضور قلب وإخلاص سر.
هل تأملت كلمات التلبية التي يضج به الحجيج، وترتج لها جنبات المشاعر؟!
إنها كلمات موجزات تتضمن معاني ساميات، وأهدافاً عاليات: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).
ففي التلبية من كليات العقيدة ما يشير إلى الحكمة من اختيارها شعاراً وذكراً في هذا الموسم العظيم لهذا الجمع العظيم.
التلبية إجابة دعوة الله لخلقه حين دعاهم إلى بيته، فالملبي مستسلم منقاد، مستجيب مقيم على الطاعة.
في التلبية توحيد الله سبحانه، وإفراده بالعبادة، ونفي الشريك عنه، فيها من حمد الله والاعتراف بنعمه ما يورث طمأنينةً في النفس، ويفيض بالأمن والأمل والرضا والتفاؤل.
في التلبية الإقرار بالملك لله وحده، فهو سبحانه الملك المتصرف، فمَن هو هذا الضال الذي ينسب التصرف لأحد غير الله في السماوات ولا في الأرض؟!
إن التلبية نداءٌ للملأ الأعلى ليتجرد الحجيج كلهم من المادية وطغيانها، ويعلنوا المساواة التامة والأخوة الكاملة، لا فرق بين حدودها وألوانها وأجناسها ولغاتها أمام خالقها الواحد الأحد، فكلهم لآدم وآدم من تراب، وأكرمهم عند الله أتقاهم.
هذه بعض تأملات في ألفاظ التلبية، كيف لو تفتحت الأبصار والبصائر في النظر في حكم المناسك وأسرار العبادات، فلسوف تعود هذه النفوس المتأملة أقوى إيماناً، وأحسن إسلاماً، وأخلص عقيدةً، وأنقى سريرةً، وأعف جارحةً، وأطهر معاملةً، وأزكى نفساً، وأكرم خلقاً.(63/6)
الاستكثار من الأعمال الصالحة في الحرمين
أيها الحاج الكريم: رعاك الله وأعانك، اغتنم شرف الزمان وشرف المكان، فاستكثر من الأعمال الصالحة؛ من الصلاة، والصدقة، والإحسان، والبذل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهل، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة حسب الطاقة، وما كان الحج مبروراً إلا لاشتماله على البر الجامع لكل خير، إحساناً مع الله، وإحساناً مع عباد الله، فالحج المبرور يملأ القلوب ألطافاً ويطليها محبةً وانعطافاً.
واعلم أن من علامة إعراض الله عن العبد أن يشغله فيما لا يعنيه.
فإياك والخوض فيما لا يعنيك، واجتنب الفسوق، والجدال، والسخرية، والمراء، واحفظ لسانك من الغيبة والنميمة، والوقوع في أعراض الناس: علمائهم، عامتهم، وجهائهم، قادتهم، فذلك خسران مبين، اجتنب المخاصمة، والمشاحنة، ومزاحمة الناس في الطرقات، وأماكن العبادة.
وفقك الله وأعانك على أداء نسكك، وجعل حجك مبروراً، وسعيك مشكوراً، وذنبك مغفوراً.
وتقبل الله منا ومنك صالح الأعمال إنه سميع مجيب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:30 - 32].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(63/7)
الحج صورة مصغرة لوحدة المسلمين
الحمد لله الذي هدانا إلى خير منهاج، وجعلنا على طريق مستقيم ليس فيه التباس ولا اعوجاج، أحمده سبحانه وأشكره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والسراج الوهاج، صلى الله وسلم وبارك عليه عدد ما تعبد متعبد وكلما أمَّ البيت حاج، وعلى آله وأصحابه والأزواج، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: إن الحج -بلا مراء- مجسد للوحدة بين المسلمين، إن كل شعائره ومشاعره تدعو إلى الوحدة والتوحيد تلبيةً، ولباساً، وتنقلاً جماعياً بين المشاعر في مناسك موحدة، وحدة تتخطى حدود البيئة والجنس واللغة، إنه توكيد للوحدة الجامعة لكل من ينتسب لهذه الأمة المسلمة.
في الحج تحقيق منافع كبرى يشهدها المسلمون في مناسكهم، ويذكرون اسم الله عليها، منافع عظمى لا تقع تحت حصر، وتتجدد في كل عصر.
إن أمة الإسلام وهي تكتوي بلهيب الصراعات والنزاعات بحاجة إلى فقه الحج، والدخول في حرم الله وحرماته؛ لتتخلص نفوس أبنائها من الأنانية، والبغضاء، والكراهية، والشحناء.
أُخُوَّةُ الدين ورابطةُ الحرم تفرض التناصر بين المسلمين، لا تناصر عصبيات عمياء، ولكن تناصر المؤمنين الصالحين المصلحين بإحقاق الحق وإبطال الباطل ورد عدوان المعتدين.
وإن مِن منغصات هذا العصر وبذور الشقاق فيه بين المسلمين مصطلح (السياسة والأنشطة السياسية)، هذا المصطلح العابث الغامض المتلون.
وبادئ ذي بدء: فإن من المرفوض التفريق بين الدين والسياسة، فالسياسة الصالحة من الدين، والدين يحتضن السياسة ويُصْلِحها؛ ولكن السياسة في مصطلحها المعاصر المائع غير المنضبط -والمتبصر يدرك ذلك- تأخذ ألواناً من المفاهيم في عبث وتلوُّن وتقلب لا يقره فقه صحيح، ولا يقبله كريمٌ متزن.
لقد جعل بعض الناس من مفهوم السياسة العابث ووسواسها سبيلاً للمجاهرة بمهاترات كلامية، وهتافات بشعارات فئوية، وإحياء لنعرات جاهلية، بل إن فيها دعايات مبطَّنة لأشخاص واتجاهات، بل رفع صور لرؤساء وزعامات.
إن رجل العلم والفقه يخشى أن يشبه هذا أعمال الجاهلية الأولى الذين جعلوا من حجهم مواسم للمفاخرة وتعداد الأمجاد والغارات والثارات.
ومع الأسف! فإن هذا من وساوس هذه السياسات المتلونة، وأوهام تلك الدعوات المتقلبة.
بل إن منها سياسات ظالمة جائرة، تَحمل صاحبها على اقتراف المظالِم، والجرأة على الإلحاد في الحرم، وانتهاك حرمة المقدسات.
إن هذا شيء يجب أن يترفع عنه أهل الإسلام، وينبغي أن يُفَرَّق بين هذا وبين التوجه الصحيح في إفادة هذه الجموع الهائلة والحشود المتكاثرة، واستغلال المناسبة الاستغلال الصحيح لإيصال النافع لهذه الأمة وهذه الجموع، وتأكيد عقيدة التوحيد، ورباط الوحدة، والتذكير بفرائض الإسلام وحرمات المسلمين في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وحفظ حقوقهم والدفاع عن قضاياهم.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واستمسكوا بدينكم، واعتصموا بعروته الوثقى وحبله المتين، وافقهوا الأحكام، واعملوا بالسنن.
ثم صلوا وسلموا على نبيكم نبي الرحمة والملحمة، فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عزَّ قائلاً عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة وكل مَن خذل الدين.
اللهم وَلِّ علينا خيارنا، واكفِنا شر أشرارنا، اللهم واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، ووفِّقه لما تحب وترضى، اللهم أيده بتأييدك، وأعزه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، وارزقه البطانة الصالحة، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمةً لرعاياهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رُشد يُعَزُّ فيه أهل طاعتك ويُذَلُّ فيه أهل معصيتك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك.
اللهم انصرهم في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين والشيشان، وفي كشمير والفلبين، وفي كل مكان.
اللهم كن لهم مؤيداً ونصيراً ومعيناً وظهيراً، اللهم سدد سهامهم وآراءهم واجعل الدائرة على أعدائهم.
اللهم واجمع كلمة إخواننا في أفغانستان والصومال، وأرِهم الحق حقاً، وأصلح ذات بينهم، وأرِهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه إنك سميع الدعاء.
ربنا ظلنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ؛ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(63/8)
توحيد الله أولاً
التوحيد أساس الدين، وحصنه الحصين، إليه دعا الأنبياء، وبه نادى الكتاب والسنة، وحاجة البشر إليه عظيمة، ومن أجل ذلك لزم الحديث عنه وبيان قوادحه ونواقضه، وفي هذه الخطبة بيان لأهمية التوحيد، وتحذير من الإخلال به، وبيان لمبررات الخوف من هذا الإخلال.
وفي ختام الخطبة توضيح لواقع الناس مع قوادح التوحيد من حيث العلم النظري والواقع العملي.(64/1)
أهمية التوحيد
الحمد لله الذي خلقنا لعبادته وتوحيده، ومنَّ علينا وتفضل بتسبيحه وتمجيده وتحميده، أحمده سبحانه وأشكره، وعد الشاكرين بمزيده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أفضل رسله وأكرم عبيده، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله ربكم الذي خلقكم، واستعينوا على طاعته بما رزقكم، فربكم جلت حكمته لم يخلقكم هملاً، ولم يترك أمركم في هذه الحياة مهملاً، بل خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً.(64/2)
حاجة البشر إلى دين الله
أيها المسلمون: إن بني الإنسان حين يضلون عن سبيل الله يتخبطون في فوضى التديُّن، ويغرقون في ألوان الشرك، وأوحال الجاهلية: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31 - 32].
{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:116].
البشر عقولهم قاصرة عن أن تدرك طريق الصلاح بمفردها، أو تستبين سبيل الرشاد بذاتها، إنها لا تستطيع أن تجلب لنفسها نفعاً أو تدفع ضراً.
لا يرتفع عن النفوس الشقاء، ولا يزول عن العقول الاضطراب، ولا ينزاح عن الصدور القلق والحرج إلا حين توقن البصائر، وتسلِّم العقول بأنه سبحانه هو الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الجبار المتكبر، له الملك كله، وبيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112].
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النساء:125].
أيها الإخوة: إن إسلام الوجه لله وإفراده بالعبادة يرتقي بالمؤمن في خُلُقه وتفكيره، وينقذه من زيغ القلوب وانحراف الأهواء وظلمات الجهل وأوهام الخرافة، ينقذه من المحتالين والدجالين وأحبار السوء ورهبانه، ممن يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، التوحيد الخالص المخلص يحفظ الإنسان من الانفلات بلا قيد أو ضابط.(64/3)
مكانة التوحيد في الدين الإسلامي
أيها الإخوة: توحيد الله هو العبودية التامة له سبحانه، تحقيقاً لكلمة الحق (لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله) صلى الله عليه وآله وسلم، تحقيقاً لها في لفظها ومعناها، والعمل بمقتضاها، يقيم المسلم عليها حياته كلها، صلاته ونسكه، ومحياه ومماته، توحيدٌ في الاعتقاد، وتوحيدٌ في العبادة، وتوحيدٌ في التشريع، توحيدٌ تُنَقَّى به القلوب والضمائر من الاعتقاد في الألوهية لأحد غير الله، وتُنَقَّى به الجوارح والشعائر من أن تُصرف لأحد غير الله، وتُنَقَّى به الأحكام والشرائع من أن تتلقاه من أحد دون الله عز وجل.
التوحيد هو أول الدين وآخره، وظاهره وباطنه، وقطب رحاه، وذروة سنامه، قامت عليه الأدلة، ونادت عليه الشواهد، وأوضحته الآيات، وأثبتته البراهين، نصبت عليه القبلة، وأسست عليه الملة، ووجبت به الذمة، وعُصِمت به الأنفس، وانفصلت به دار الكفر عن دار الإسلام، وانقسم به الناس إلى سعيد وشقي، ومهتدٍ وغوي.(64/4)
التوحيد في القرآن والسنة
أيها الإخوة: لقد كانت عناية القرآن بتوحيد الله عظيمة، فهو القضية الكبرى، وهو مهمة رسل الله الأولى، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36].
{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45].(64/5)
ذكر التوحيد في القرآن الكريم
فالقرآن كله حديث عن التوحيد، وبيان حقيقته والدعوة إليه وتعليق النجاة والسعادة في الدارين عليه، حديث عن جزاء أهله وكرامتهم على ربهم، كما أنه حديث عن ضده من الشرك بالله وبيان حاله وأهله وسوء منقلبهم في الدنيا وعذاب الهُون في الأخرى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].
{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48].
والأوامر والنواهي ولزوم الطاعات وترك المحرمات هي حقوق التوحيد ومكملاته، القرآن العظيم يخاطب الكفار بالتوحيد ليعرفوه ويؤمنوا به ويعتنقوه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21].
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} * وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50 - 51]
وكل نبي يقول لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه ُ) [الأعراف:59] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
والتوحيد يخاطَب به المؤمنون ليزدادوا إيماناً، وليطمئنوا إلى تحقيق توحيدهم، وليحذروا النقص فيه أو الخلل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136].
ومن صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان:68].
ومن نعوت أهل الإيمان الموعودين بالتمكين في الأرض: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55].
بل لقد خاطب الله أنبياءه ورسله بنبذ الشرك، والبراءة من أهله، والإعراض عنه وعنهم، فقال عز وتبارك: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج:26].
وقال عز وجل: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132 - 133].
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66].
{قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [الرعد:36].
{وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [القصص:87].
{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:106].
قال أهل العلم رحمهم الله تعليقاً على هذه الآيات وأمثالها: فإذا كان يُنْهَى عن الشرك مَن لا يمكن أن يباشره، فكيف بمن عداه؟!
ولقد قال إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:35 - 36].
قال إبراهيم التيمي: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟!
هذا بعض خبر القرآن.(64/6)
التوحيد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم
أما السنة: فإن بِعثةَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورسالتَه وسيرتَه مِن أولِها إلى آخرِها، مكيها ومدنيها، حضرِها وسفرِها، سِلمِها وحربِها، كلُّها في التوحيد، منذ أن أُمِرَ بالإنذار المطلق في سورة المدثر: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5] إلى الأمر بإنذار العشيرة الأقربين: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:213] {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] إلى الأمر بالصدع بالدعوة: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94].
ثم من بعده الأمر بالهجرة: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] والإذن بالقتال والجهاد: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40] إلى فتح مكة حين كسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأصنام بيديه، وتلا: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] إلى الإعلام بدنو الحِمام: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3].
لم تخلُ فترة من هذه الفترات البتة من إعلان التوحيد وشواهده، ومحاربة الشرك وظواهره، ويكاد ينحصر عرض البعثة كلها في ذلك، فما ترك عليه الصلاة والسلام تقرير التوحيد وهو وحيد، ولا ذهل عنه وهو محصور في الشعب، ولا انصرف عنه وهو في مسالك الهجرة والعدو مشتد في طلبه، ولا قطع الحديث عنه وأمرُه ظاهر في المدينة بين أنصاره وأعوانه، ولا أغلق باب الخوض فيه بعد فتح مكة الفتح المبين، ولا اكتفى بطلب البيعة على القتال عن تكرار عرض البيعة على التوحيد ونبذ الشرك، فهذه سيرته المدونة وأحاديثه الصحيحة، والقرآن من وراء ذلك كله.
من أجل هذا كان التوحيد أولاً، ولا بد أن يكون أولاً في كل عصر وفي كل مصر.(64/7)
علاقة التوحيد بأركان الإسلام
أما أركان الإسلام الخمسة الكبرى ومعالمه العظمى، فشُرِعت لتعلن التوحيد وتجسده وتقرره وتؤكده، تذكيراً وتطبيقاً، وإقراراً وعملاً.
فالشهادتان: إثبات للوحدانية، ونفي للتعدد، وحصر للتشريع والمتابعة في شخص المرسَل المبلِّغ محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والصلاة مفتتحة بالتكبير المنبئ عن طرح كل مَن سوى الله عز شأنه، واستصغار كل من دون الله عز وجل، ناهيك بقرآن الصلاة وأذكارها في منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
أما الزكاة فهي قرينة الصلاة في التعبد والاعتراف للرب بجليل النعم، وإخراجها خالصة لله طيبة بها النفس براءة من عبادة الدرهم والدينار، {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:6 - 7].
أما الصيام الحق فهو الذي يدع الصائم فيه طعامه وشرابه وشهوته من أجل ربه ومولاه.
أما الحج فشعار الأمة كلها في هذه البطاح والبقاع، فهو التلبية بالتوحيد ونفي الشرك.
يقول أبو إسحاق الشاطبي -رحمه الله- في ذلك كله: نحن نعلم أن النطق بالشهادتين والصلاة وغيرهما من العبادات إنما شرعت للتقرب إلى الله، والرجوع إليه، وإفراده بالتعظيم والإجلال، ومطابقة القلب للجوارح من الطاعة والانقياد.
وفي مأثور نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الورد اليومي الذي يجعله المسلم في حزبه: {أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين} وفي الدعاء النبوي: {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم}.(64/8)
أسباب الاهتمام بالتوحيد
عباد الله: ما كانت هذه الأدلة المتكاثرة، والحجج المتظاهرة، والبراهين المتواترة، إلا لعظم الأمر، وخطر شأن القضية، وشدة شأن الخوف على الناس من الانحراف والقلوب من الزيغ.
ولماذا لا يُخاف عليهم والشياطين ما فتئت تترصد لبني آدم تجتالهم وتغويهم؟ وفي الحديث القدسي: {خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنَزِّل به سلطاناً} رواه مسلم وأحمد من حديث عياض بن حمار المجاشعي.
كيف لا يكون خوفٌ والرسول صلى الله عليه وسلم خاطب أصحابه الصفوة المختارة من الأمة: {أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر}؟!
ويزداد الخوف حين يتأمل متأمل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: {الشرك أخفى في الأمة من دبيب النمل} بل لقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن فئاماً من الأمة تعبد الأوثان، وقبائل تلحق بالمشركين.
والحافظ ابن كثير رحمه الله يعلق على قول الله تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] قال رحمه الله: فيه تشديد لأمر الشرك، وتغليظ لشأنه، وتعظيم لملابسته.
لماذا يا عباد الله لا يُخاف الخللُ في التوحيد والنقصُ في صدق التعبد والتعلق؟! لماذا لا يُحذر من الشرك وأنواعه وأسبابه، والله عز وجل يقول في محكم تنزيله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]؟!
قال بعض أهل العلم: في هذه الآية دلالة على ما يتخلل بعض الأفئدة، وتنغمس فيه بعض النفوس من الشرك الخفي الذي لا يشعر به صاحبه غالباً، فمثل هذا وإن اعتقد وحدانية الله، لكنه لا يخلص له في عبوديته، فيتعلق بغير ربه، ويعمل لحظ نفسه، وطلب دنياه، أو ابتغاء رفعة أو منزلة، أو قصد إلى جاه عند الخلق، فلله من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخَلْق نصيب، والله أغنى الشركاء عن الشرك.(64/9)
صور من الإخلال بالتوحيد
أيها الإخوة في الله:! الأمر خطير ودقيق، شرك خفي في المحبة والتألُّه والخضوع والتذلل، مَن أعطى حبه وذُلَّه وخضوعه وتسليمه وانقياده وطاعته لغير الله، فكيف يكون محققاً للتوحيد؟! {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121].
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31].
هذا مشرك في الخوف والرجاء، وآخر في الجهاد والتضحية، وذاك مشرك في باب الأسباب، وآخر في باب النفع والضر، وانظروا في السحر والشعوذة، والتطير والتشاؤم، والرقى والتمائم، والحلف بغير الله، في صور لا تكاد تحصر، ناهيك بدعاء غير الله، والغوث من المقبورين، والغلو في الصالحين، والطواف حول الأضرحة، يدعون عندها ثم يدعونها، ويعلقون عليها القناديل والسرج والستور، ويذبحون عندها ولها، ويتمسحون بها، ويتطور الحال حتى يتخذوها أعياداً ومنسكاً، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الإخوة! وصورة جديدة من صور الخلل في التوحيد، باءت بها فئات من المنتسبين إلى الإسلام، تزعم الثقافة والاستنارة، لا ترضى بحكم الله ولا تسلم له، بل إن في قلوبها لحرجاً، وفي صدورها لغيظاً وضيقاً، إذا أقيم حدٌ من حدود الله ارتعدت فرائصهم، واشمأزت قلوبهم، قاموا وقعدوا، وأرغوا وأزبدوا، ولهم إخوان يمدونهم في الغي، يزعمون الحفاظ على حقوق الإنسان، وما ضاعت حقوق الإنسان وحقوق الأمم إلا بهم وبأمثالهم، الإسلام عندهم ظَلَم المرأة وهَضَم حقوقها، والحدود قسوة وبشاعة وتخلف، وحكم الردة تهديد لحرية الإبداع والفكر، وأحكام الشرع كلها عودة إلى عصور الظلام والتعصب والانغلاق، بل لقد أدخلوها في نفق الإرهاب المقيت {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
الله أكبر! التوحيد صعب على الأذلاء، ومن سيم الخسف والذل والتبعية {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] صعب على من استمرءوا الفساد، وولغوا في الأوحال {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45] إنهم لا يعرفون التوحيد، ولا يعرفون صفاء الدين، مستعبَدون في فكرهم، مشركون في تفكيرهم، وكأنهم قالوا للذين كفروا وكرهوا ما نزل الله: سنطيعكم في بعض الأمر، بل لعلهم قالوا: سنطيعكم في كل الأمر.
إنهم حين لم يعرفوا التوحيد ولم يحققوه، أصبحوا وكأنهم فئة منفصلة عن الأمة، فئة منفصلة عن أمة الإسلام بفكرها وسمتها ورؤيتها وغايتها، مشدودة من خارجها من الشرق والغرب في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب، وقد تجلى ذلك في تجاهلهم بل تمردهم على تاريخ الأمة وأصالتها وتراثها.
وبعد أيها الإخوة: فإن نعمة التوحيد يخرج بها قلب العبد من ظلمات الشرك وجهالاته إلى نور الإيمان بالله وتوحيده، يخرج من التيه والحيرة والضلال والشرود إلى المعرفة واليقين والطمأنينة والرضا والهداية، يخرج من الدينونة المذلة لأرباب متفرقين إلى الدينونة الموحِّدة لرب الأرباب: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:57 - 61].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(64/10)
وقوع الناس في قوادح التوحيد
الحمد لله، ولا نعبد إلا إياه، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، حمى حِمى التوحيد، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، فأظهر الله به دينه على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: تحقيق التوحيد يحتاج إلى يقظة قلبية دائبة دائمة، تنفي عن النفس كل خاطرة تقدح في عبودية العبد لربه، وتدفع كل خالية شيطانية في كل حركة أو تصَرُّفٍ ليكون ذلك كله خالصاً لله وحده دون مَن سواه.
ومع شديد الأسف -أيها الإخوة- فإن قوادح التوحيد ونواقضه صارت عند كثير من الناس من أخفى المعاصي معنىً، وإن كانت من أجلاها حكماً، فلظهور حكمها ترى المسلمين عامتهم يتبرءون منها، ويغضبون كل الغضب إذا نُسبوا إليها، وهم في هذا الغضب محقون، ولكن لخفاء معناها وقع فيها من وقع وهم لا يشعرون.
ولقد قرر أهل العلم أن الخوض في قوادح التوحيد والحديث عن مظاهر الشرك هي طريقة القرآن، وذلك من أجل تحذير المسلمين وليس الحكم عليهم به، فـ أهل السنة والجماعة لا يُكَفِّرون أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا زال أهل العلم يتكلمون عن أحكام الردة وأسبابها، وطرق الزيغ والضلال، ومسالك الابتداع، والتحذير منها، فمن علِم العقائد الصحيحة وعلَّمها ودل عليها، ونبه إلى طرق الزيغ والكفر والبدع؛ فقد سلك مسلك حق، ونهج منهج نصح.
وإن مما ينبغي التنبيه إليه أن من الخطأ في المنهج، وعدم التوازن في العرض وطرق التعليم أن ترى كثيراً من الكتب والمؤلفات تفصِّل في الفروع وأحكام المسائل حتى النادر منها وبعيد الوقوع، وهذا شيء في بابه حسن، ولكنهم لا يَعْنَون بالأصول مما يحتاجه الناس والناشئة، فلا يفصِّلون في التوحيد وأنواعه وحقوقه، ولا يبينون ضده من الشرك وأنواعه ومظاهره وأسبابه.
وثمة خطأ منهجي آخر، وهو أن المتقدمين رحمهم الله سلكوا في باب العقائد مسالك كلامية، ومصطلحات منطقية، فخفي على الناس كثير من مهمات العقائد وأصول الدين، ولو سلكوا مسلك القرآن في البيان، لكان المتعلمون والناس أحرى بهداية الله وفضله في هذا الباب.
يقول ابن حجر الهيتمي رحمه الله: ينبغي منع من يُشْهِر علم الكلام بين العامة لقصور أفهامهم، ولأنه لا يؤمَن عليهم من الزيغ والضلال، ولا بد من أخذ الناس بفهم الأدلة على ما نطق به القرآن ونبه عليه؛ إذ هو بيِّنٌ واضح يُدْرَك ببداهة العقل.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله- وأخلصوا دينكم لله، وحققوا توحيدكم، وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمد رسول الله، حامي جناب التوحيد، فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عز قائلاً عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك المؤمنين.
اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واهدهم لتحكيم شرعك، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين!
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين!
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ؛ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(64/11)
جريمة الزنا
ضبط السلوك وقوة الإرادة يرتقيان بالمرء في سلم الشرف والمجد، وينبئان عن روح إنسانية شريفة، ومع ذلك فقد ينحرف البشر عن جادة الصواب، ويقعون في مستنقعات الجريمة والفاحشة، وهذا حديث عن واحدة من تلك الجرائم، وهي جريمة الزنا، يتضمن النظرة الإسلامية إلى هذه الجريمة من خلال القرآن والسنة، ثم من خلال واقع المجتمع الإسلامي.
وتحوي هذه المادة كذلك تشريعات الإسلام التي تحد من انتشار هذه الجريمة، وتنقي المجتمع -في حالة تطبيقها- من تلك الحثالة من البشر، الذين يخالفون الفطرة، ويرفضون العفة والطهارة.(65/1)
عزة الإنسان وكرامته لا تقبل الفاحشة
الحمد لله حمداً يليق بجلاله، والشكر له على جزيل إنعامه وجميل إفضاله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أسمائه وصفاته وأفعاله، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله الصادق في مقاله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه وآله والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوه رحمكم الله، اتقوه تقوى مَن أناب إليه، واحذروه حذر من يؤمن بيوم العرض عليه، واعبدوه مخلصين له الدين، وراقبوه مراقبة أهل اليقين، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
أيها المسلمون: لا يتفاضل الناس في مراقي الشرف والمجد، إلا بمقدار ما تتمتع به النفوس من ضبط السلوك وقوة الإرادات، فالرجل ذو العزيمة يتجلى فيه مظهر الكرامة الإنسانية مطبوعاً على أجمل صورة من الكمال والنبل، وبسبب ضعفها وهوانها ينزل المرء من سماء الإنسانية العالي ليكون أشبه بالحيوان ساقطاً مهملاً، قيمة المرء إباؤه وعزيمته، وميزانه نزاهته وسمعته، وشرفه في طهارة عرضه، وبياض صفحته، ونقاء ذيله.
لقد كان الشرفاء الأحرار في كل الأمم حتى في عصور الجاهلية المظلمة يعتزون بشرف سمعتهم، وصيانة أعراضهم، ويقفون دونها أسوداً كاسرة ونموراً مفترسة، يغسلون إهانة أعراضهم بأسنة رماحهم وحد سيوفهم، لا ينامون على إهانة، ولا يصبرون على عار، ولا يقبلون ذلة، ولقد قالت هند بنت عتبة وهي تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَوَ تزني الحرة يا رسول الله؟!}.
أيها الإخوة: يثار هذا الموضوع وتقلب صفحاته وأهل هذا الزمان في كثير من الأقطار يعيشون في عصر يوشك أن تسود فيه الإباحية ليجعلوا من ارتكاب الفواحش والموبقات حاجات بدنية لا يعاقب عليها القانون، ما دامت محفوفة بالتراضي.
ومما يكشف ذوبان الهمة وموت الإنسانية حين يشاهَد رجلٌ ينقاد للبهيمية، فيأتي الفاحشة ويعانق الرذيلة، ويشتد الخزي ويعظُم الشنار، حين لا يكون مستوراً عن الشاهدين والمشاهدين.
إنها حضارة البهائم في تلك الديار في حدائقها ومتنزهاتها وشواطئها وأفلامها وقنواتها.
من أجل هذا -أيها الإخوة- فهذا حديث عن جريمة من أبشع الجرائم، وفاحشة من أكبر الفواحش، وموبقة من أكبر الموبقات، تتجلى فيها هذه البهيمية المغرقة، جريمة تفقد الشهامة، وتذهب بالمروءة، يحل مكان العفاف فيها الفجور، وتقوم فيها الخلاعة مقام الحشمة، وتطرد فيها الوقاحة جمال الحياء.
إنها جريمة الزنا، كم جرَّعت من غُصة! وكم أزالت من نعمة! وكم جلبت من نقمة! وكم خبأت لأهلها من آلام منتظَرة وهموم متوقَّعة وهموم مستقبَلة!
العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما السماع، والفم يزني وزناه الكلام والقُبَل، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى؛ والفرْج يصدِّق ذلك أو يكذِّبه.(65/2)
موقف الإسلام من جريمة الزنا
أيها الإخوة: الإسلام يقف من هذه الجريمة موقف حزم وحسم وصراحة وصرامة، إنه يمتدح الشهم الكريم الذي يغار على نفسه، ويغار على حرماته، ويندد بالديوث الذي يقر الخبث في أهله، لتبقى الأعراض مصونة، والشرف موفوراً عزيزاً، لقد اقترن حال الزاني بحال المشرك في كتاب الله {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3].
الزنا محرم بقواطع الأدلة من محكم القرآن وصحيح السنة وإجماع أهل الملة، بل إجماع أهل الملل، إنه قرين لأعظم موبقتين: الشرك بالله، وقتل النفس: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:68 - 70].
يقول الإمام أحمد: لا أعلم من القتل ذنباً أعظم من الزنا، والله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله نهى عن قربه والدنو منه مما يعني البعد عن بواعثه ومقدماته ودواعيه ومثيراته، فقال سبحانه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32].
قال أهل العلم: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]: هذا قبح شرعي.
{إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء:32]: وهذا قبح عقلي.
{وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32]: وهذا قبح عادي.
قالوا: وما جمع ذنب هذه الوجوه من القبح إلا وقد بلغ الغاية فيها.
أيها الإخوة: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن} بهذا صح الخبر عن نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، زاد النسائي في رواية: {فإذا فعل ذلك خلع رِبْقَة الإسلام من عنقه، فإن تاب تاب الله عليه} وفي رواية البزار: {والإيمان أكرم على الله من ذلك}.
وفي خبر عند أبي داود والترمذي والبيهقي: {إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان كالظُلَّة على رأسه، ثم إذا أقلع رجع إليه الإيمان}.
وفي صحيح البخاري في حديث المنام الطويل، وفيه: {أنه عليه الصلاة والسلام جاءه جبريل وميكائيل عليهما السلام، قال: فانطلقنا فأتينا على مثل التنور، أعلاه ضيق وأسفله واسع، فيه لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فيه فإذا فيه رجالٌ ونساءٌ عراة، فإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك ضوضوا -أي: صاحوا من شدة الحر- فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني، فهذا عذابهم إلى يوم القيامة}.
وأخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد عن عيسى عليه السلام: [[لا يكون البطالون حكماء، ولا يرد الزناة ملكوت السماء، وفي جهنم نهر يقال له: نهر الغوطة، يجري من فروج المومسات، يؤذي أهل النار ريح فروجهن]].
وأخرج الخرائطي وغيره مرفوعاً: {المقيم على الزنا كعابد وثن} قال أهل العلم: ويؤيده ما صح من أن مدمن الخمر إذا مات لقي الله كعابد وثن، قالوا: ولا شك أن الزنا أشد وأعظم عند الله من شرب الخمر.(65/3)
أضرار الزنا ومخاطره
الزنا يجمع خلال الشر كلها، قلة دين، وذهاب ورع، وفساد مروءة، الغدر والكذب شعاره، وقلة الحياء والخيانة دثاره، وعدم المراقبة مسلكه، وضعف الأنفة ديدنه، وذهاب الغيرة من القلب بليته، ناهيك بغضب الرب وفساد الحُرَم والعيال، فضائح زنا، وقبائح خنا، تذهب اللذات وتبقى الحسرات، {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24].
الزنا انتكاسة حيوانية وارتكاسة بهيمية، تذهب بمعاني الأسرة ومشاعر الإنسانية الراقية، وتطيح بكل أهداف السمو الأُسَري وعلاقات الرحم وأواصر القربى، ترد ابن آدم المكرم إلى مسخ حيواني سافل، كل همه إرواء جوعة اللحم والدم في لحظة عابرة وشهوة عارمة ونزوة حيوانية بحتة.
جريمة الزنا في المجتمعات الطاهرة تتعدى في سوئها وسوءتها إلى الأسرتين، وتجلب مآسيَ للفئتين.
الزنا نذير رعب وفزع في فشو الأمراض، ونزع البركات، ورد الدعاء.
الزهري والسيلان من أمراضه، والهربز والإيدز من أوبئته، في أمراض يرسلها الله لم تكن في الأسلاف مما يعلمون ومما لا يعلمون.
نعم أيها الإخوة: انظروا في أحوال المأفونين من أهل هذه الحضارة والمغرورين بها، لقد أطلقوا لشهواتهم العنان، استباحوا كل ممنوع، ونبشوا كل مدفون، وكشفوا كل مستور، تنصلوا من مسئوليات العائلة، وجروا خلف كل متهتكة وفاجرة، هل أدى بهم ذلك إلى تهذيب الدوافع كما يقولون؟! وهل أنقذهم من الكبت كما يزعمون؟! لقد انتهى بهم إلى سعار مجنون، لا يهدأ ولا يرتوي، لقد قل نسلهم، وتوقف نموهم مما ينذر بفنائهم.
لقد قل نسلهم لأنهم قضوا شهواتهم بغير الطريق المشروع، وتهربوا من المسئولية، وتبرءوا من سياج الأسرة، الحلال عندهم لا يفترق عن الحرام، لا يغارون على محارم، ولا يشمئزون من فواحش، العلاقات عندهم معزولة عن الخُلُق والروح والدين والعبادة.
لقد كان عادياً عندهم استقبال الآلاف المؤلفة من اللقطاء وأولاد التبني، لا يسألون: من أين جاءوا، ولا يكترثون بالآثار الاجتماعية التي يخلفها مَن لا آباء لهم ولا أمهات، وهم يزعمون أنهم أرباب العلوم والمعارف.
بلى إنهم عبيد لفنون الإثارات والتهتك التي يروجها الإباحيون البهيميون، يدفعون إليها الذكور والإناث دفعاً خبيثاً، في اختلاط مهلك، وإعلام فاضح في رواياته ومسلسلاته، مما ينضح فحشاً وخلاعةً وتهتكاً، ليس وراءه إلا لقاء البهائم.(65/4)
نبذ الزنا في المجتمعات الإسلامية
إن أهل الإسلام يرفضون بحسم وحزم كل هذه المظاهر والنتائج، فالزنا فاحشة موبقة، وكبيرة من كبائر الذنوب توصَد كل الأبواب المفضية إليها، ويعاقَب على وقوعها بالجلد والتغريب للبكر، والقتل للثيب بالرجم، الأسرة وحدها هي الملتقى المشروع لأشراف الناس وكرام بني آدم.
المجتمع المسلم الطاهر يمقت الزنا، ويمقت مقدماته، وينكر بواعثه ودواعيه، وليس فيه إلا علاقات طاهرة، على أساس من أحكام الشرع والمشاعر الإنسانية الراقية، يلتقي عليها قلبان وروحان وإنسانان، وليس متعتين مجردتين وجسدين متباعدين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج:29 - 30].
لقد قطعت شريعتنا دابر هذه الجريمة، ووضعت لها جزاءً حاسماً في صرامة جادة، وحذرت من الرأفة بالفاعلين، وزجرت عن تعطيل الحد أو الترفق في إقامته، بل أمرت بإقامته في محضر مشهود في طائفة من المؤمنين {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2].
ولقد علم الله والمؤمنون أن الدماء لا تحفظ، والأموال لا تصان، والأعراض لا تحترم، والبلاد لا تصلح، والعباد لا تستقيم، والأمن لا يسود إلا بإقامة الحدود وقطع الأكف الآثمة وسد الأفواه الأفاكة.
حدود الله شرعت لتحفظ النفوس من التعديات الآثمة والنزوات الطائشة.
الزاني المحصن إذا ثبت زناه استُبِيح دمه، فكان قريناً لتارك دينه وقاتل نفسه: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة}.
الله أكبر أيها المسلمون! وهل رأيتم أكبر من هذه الجرائم الثلاث؟! أليس من السر الذي يلفت نظر العقلاء أن دين الإسلام -وهو دين الرحمة والرأفة حتى مع الحيوان- وقف هذا الموقف الشديد مع هؤلاء الزناة والزواني؟! أليس هذا الدين الذي يحب الستر ويدعو إليه يقيم هذا الحد على مشهد من المؤمنين؟!
لماذا كل هذا أيها الإخوة؟!
إن الرأفة بالزناة ممن ثبت زناهم، وتحققت جنايتهم، إنما هي قسوة على المجتمع، وقسوة على الآداب الإنسانية، وقسوة على الضمير البشري، بل قسوة على حقوق الإنسان.
إن القسوة في الحد أرأف ثم أرأف بالمجتمع مما ينتظره من شيوع الفواحش، لتفسد الفطرة، وترتكس في حمأة الرذيلة، وتعيش في بيئة الأدواء والأمراض.
نعم! إن الحد جلد وقتل وقطع، فلتشمئز نفوس الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولتغتظ صدور الذين لا يرضون بحكم الله.
تباً لهم! لقد قالوا: إن إقامة الحدود غلظة وقسوة ووحشية، لا تليق بحضارات اليوم.
ويحهم! ماذا فعلوا بالأبرياء؟! وما هو مصير الضعفاء؟! ألم ينسفوا بمخترعاتهم الجهنمية مدناً آمنة؟! ألم يدكوا عواصم عامرة تعج بالألوف والملايين، لا ذنب لهم ولا خطيئة سوى الظلم والهمجية؟! فيا لوحشة هذا المتحضِّر! ويا لخراب هذا المتنوِّر، هل علومهم ومعارفهم أتت بكل هذه البلايا؟!
وبعد أيها الإخوة: فلو حفظت شريعة الله في كل بلاد المسلمين، ولو أقيمت حدود الله، وحيل بين الذين يتعدونها، لما رأيت في كثير من البلاد مظاهر السقوط في الحضيض، ولما تغير عليهم ما تغير {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
ألم يعلموا أن حفظ الفروج سبيل للفرج في الدنيا والتوفيق في المسيرة؟! واذكروا إن شئتم قصة صاحب الغار حين فرج الله عليه بعفته عن الحرام.
ألم يعلموا أن حفظ الشهوات سبيل للاستظلال بظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، واذكروا ذلك العفيف الذي دعته ذات الحسن والجمال فاعتصم بخوفه من الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(65/5)
مشروعية النكاح وحرمة السفاح
الحمد لله، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؛ أحمده سبحانه وأشكره وهو الحليم الشكور؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، الشافع المشفع يوم النشور؛ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الظلام والنور.
أما بعد:
أيها المسلمون: الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة، ولا يلغي الوظائف التي ركبها الله في الإنسان، ولا يكبت الغرائز، ولا يستقذرها، ولكنه يهذبها وينظمها، ويسيِّرها في مسالك الطهر، ويرفعها من مستوى الحيوانية المحضة لتصبح محوراً تدور عليه الآداب النفسية والاجتماعية.
إنه يحارب الحياة البهيمية الساقطة التي لا تقيم بيتاً، ولا تبني أسرةً، ولا تنشئ حياةً كريمةً ومجتمعاً طاهراً.
إن الإسلام يقصد إلى حياة أسرية كريمة محترمة، تشترك فيها الآمال والآلام، ويؤخذ فيها حساب الحاضر والمستقبل، مَحْضِنٌ لذرية صالحة، ومنشأٌ لجيل طاهر، فيه الأبَوان حارسان أمينان لا يفترقان.
هذا المجتمع الكريم النابت في تعاليم الإسلام يتميز بآدابه، ويلتزم بأحكامه.
هذا المجتمع يجعل جريمة الزنا قصية في ركن لا يطالها إلا فئات شاذة لا يؤبَه بها.(65/6)
الوسائل الوقائية من جريمة الزنا
إن الذي يفضح هذه الجريمة ويضيِّق دائرتها هو الإسلام بأحكامه وآدابه وعقائده، بَدْءاً من الإيمان بالله وخشيته وتقواه وحسن مراقبته سبحانه وتعالى، ثم تنقية المجتمع من بواعث الفتن ومواطن الرِّيَب:
- التزامٌ بالملابس السابغة المحتشمة التي تُكْرِم ابن آدم وتحميه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59].
أدبُ غضِّ البصر وكفِّ العيون الخائنة من البحث عن العورات: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:30 - 31].
- تحريمُ الخلوة بين الرجل والمرأة غير ذات المحرم طهارة لقلوبهم وقلوبهن {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] {ما خلا رجلٌ بامرأة إلا وكان ثالثهما الشيطان} {لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم}.
- المباعدةُ بين مجالس الرجال ومجالس النساء حتى في المساجد دور العبادة، للرجال صفوفهم وللنساء صفوفهن.
- منعُ الاختلاط المحرم في التعليم والعمل، وكل مجال يقود إلى الفتنة.
- تيسيرُ سبل الزواج.
- التزامُ آداب الاستئذان والاستئناس، حتى لا تقع العيون على عورات أو تلتقي بمفاتن.
ومن أعظم الآداب في هذا الباب: الكفُّ عن إشاعة الفاحشة في المؤمنين ومحبة ذلك والرغبة فيه عياذاً بالله: إذا انتشر بين الأمة الحديث عن الفواحش ووقوعها فإن الخواطر تتذكرها، ويخف على السمع وقعها، ومن ثم يدب إلى النفوس التهاون بوقوعها، ولا تلبث النفوس الضعيفة الخبيثة أن تُقْدِم على اقترافها، ولا تزال تتكرر حتى تصير متداوَلَة، وانظروا ما تفعله كثير من وسائل الإعلام في الناس وفي النفوس.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واستمسكوا بدينكم، والزموا آدابه وحدوده، عبوديةً لله خالصة، وسلوكاً لمسالك الطهر والعفة، يصلح الفرد كما يصلح المجتمع، فتسعدوا في الدنيا وتسلَموا، وتفوزوا في الآخرة وتفلحوا.
ثم صلوا وسلموا على نبيكم نبي الرحمة والهدى، فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز قائلاً عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأزواجه وذريته.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، وانصر عبادك المؤمنين، واخذل الطغاة وكل من خذل الدين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة، وأعزه بطاعتك، وأعز به دينك، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم واجعلهم رحمة لرعاياهم.
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُذَلُّ فيه أهل معصيتك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين!
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع مجيب الدعوات.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ؛ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعونه.(65/7)
أخلاقيات الحوار
لاشك أن الحوار وسيلة من وسائل نقل الأفكار، والحاجة إلى إتقانه أكثر إلحاحاً في عصرنا الراهن.
والحوار الناجح تعاون بين المتحاورين من أجل معرفة الحقيقة والتوصل إليها.
وينبغي لنجاح الحوار البدء بمواطن الاتفاق، وسلوك الطرق العلمية، والسلامة من التناقض، وقصد الحق والبعد عن التعصب، والالتزام بالقول الحسن، وتجنب منهج التحدي والإفحام، وحسن الاستماع والإنصات.(66/1)
أهمية الحوار في عصرنا الراهن
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله.
أشكره ولا أكفره، وأسأله المزيد من فضله وكرمه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة الحق واليقين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، جعلنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فبتحية الإسلام أحييكم، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
سعادة مدير التعليم بمنطقة الرياض، سعادة مدير ثانوية السفارات الأستاذ/ عبد العزيز الثنيان، الإخوة أعضاء هيئة التدريس في المدرسة، أيها الإخوة الحضور، رغبت إدارة المدرسة مشكورةً في أن أشارك في أنشطتها المتميزة حسب ما رأيت وما اطلعت، سواء في المجلة الدورية التي يصدرونها، أو معرض الكتاب الذي يقرب للمنتسب لهذه المدرسة المعرفة والثقافة، ثم ما أتحفوني به لأقوم بهذا الجزء من النشاط، وهو هذا اللقاء الطيب المبارك الذي يجمعني بكم، كما أنهم في دعوتهم مشكورين خيروني أن أختار أحد موضوعين فاخترت أحدهما وكان بعنوان" أخلاقيات الحوار"
وكما تفضل فضيلة الشيخ/ أحمد آل الشيخ في تقديمه حين ذكر أهمية الحوار، فقال: إنه مهمٌ أولاً من حيث أن ديننا جاء به، وأسلوب الدعوة قائم على الحكمة والموعظة الحسنة، كما يقول الله عز وجل آمراً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
ولا شك أن الحوار مطلوبٌ في كل زمان وفي كل مكان، ولكنه يبدو في وقتنا الحاضر أن الحاجة إليه أكثر إلحاحاً.
أولاً: لما أبرزه فضيلة الشيخ المقدم الشيخ/ أحمد، وهي نقاط جوهرية وأساسية جداً في إبراز أهمية الموضوع.
وثانياً: ما يتميز به هذا العصر من ميزات: ومنها اتصال العالم بعضه ببعض، حتى أصبح كبلدة واحدة؛ لا يكاد يقع شيء في الشرق؛ إلا وتسمعه بأسرع من الصدى في الغرب، وكذلك ما حصل في الغرب تراه في الشرق، ثم تلاقح المعارف والثقافات ووسائل الإعلام التي غزت لا أقول كل قطر، ولا كل بيت بل -ولا أبالغ إذا قلت- كل ركن من أركان البيت! ويرى فيها من يرى، ويسمع فيها من يسمع ألواناً وأشكالاً من الطروحات، وأنواع الغزو، وقنوات الثقافة والتأثير، مما يستدعي مراجعة، وأقولها بكل قوة: لابد أن نراجع أوضاعنا ومثقفينا وأحوالنا، وبخاصة أننا في هذا الصرح العلمي المتميز من بلادنا بمبناه ومعناه إن شاء الله، وهو مدرسة ثانوية، والثانوية كما تعلمون تحوي الطلاب في مقتبل الحياة وبدء النضوج الحقيقي.
وهذه الفترة كما يقول المربون وكما يقول علماء النفس: هي من أحرج المراحل، ولا أكون مبالغاً إذا قلت: إن من أولى ما ينبغي أن يهتم به في هذه المرحلة قضية الحوار، وإن لم يكن حواراً فكرياً على المستوى العالي، لكنه الحوار بين الأستاذ وبين الطالب في هذه المرحلة، وبين الطالب وبين أبيه في هذا السن، القضية دقيقة جداً، وتحتاج فعلاً إلى نوع من النظر الدقيق، وإلى نوع من التفكير في هذا الباب، هذا جانب.
والجانب الآخر -كما أسلفت قبل قليل-: الطرح الذي يطرح، فمع الأسف أن كثيراً من أسباب الإعلام ووسائله هي بأيدي غيرنا، يطرحونها ولا نكاد نرى شيئاً متميزاً، من هنا يجب أن نكون جادين وصادقين إذا كنا نريد أن نبني أنفسنا حتى نكون أصحاب مبادرات، وأصحاب طروحات، وأصحاب استقلال في فكرنا، وفي كل ما نطرح.
من أهم ما يجب أن ننظر فيه في قضية الحوار ما يلي:
كيف نتحاور؟
ما هي أسباب الحوار؟
ما هي وسائله؟
ما هي أصوله؟
ما هي أخلاقياته؟
الكلام في هذا كثير وطويل، ولا تكفيه المحاضرة ولا المحاضر، وإنما ينبغي أن نهيئ أولادنا وأنفسنا في تقبل الرأي الآخر بكل قوة، ولا يعني تقبله أن نستسلم له، إنما كيف نسمع، وكيف نستمع، وسوف نرى إن شاء الله على حسب ما يسمح به الوقت أشياء من هذا، وسوف تكون عناصر هذا اللقاء كالتالي:
تعريف الحوار.
غايته.
التمهيد في وقوع الخلاف، وهذا غالباً سأتجاوزه، لأن الوقت لا يسمح.
بيان لمجمل أصول الحوار.
أخلاقيات الحوار وآدابه.
طبعاً لا بد أن أذكر التعريف، وهو لا يخرج عما أشار إليه الأستاذ/ أحمد في الغاية من الحوار؛ لأن التعريف لا بد أن يشمل الغاية، ثم أشير إشارة سريعة إلى أصول الحوار، ثم نبسط الكلام حسب ما يسمح الوقت حول ما يتعلق بأخلاقيات الحوار.(66/2)
تعريف الحوار
الحوار والجدال بمعنى واحد، والله عز وجل يقول في كتابه: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] فالآية جمعت اللفظين، والحوار: (تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) (وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) فالحوار والجدال يدل أحدهما على الآخر.
والحوار في اللغة هو: مجرد مراجعة الكلام، فيقول: تحاور الرجلان، أو تحاور المتحدثان بمعنى: كل واحد تبادل الحديث، فمراجعة بعضنا لبعض في الكلام يسمى حواراً، وأحياناً قد تكون لفظة الجدال بمعنى الخصام، فهي أحياناً تعني الوصول إلى الحق، وأحياناً لا، والمجادل هو مجرد المخاصم، ولكن ليس هذا هو مقصودنا هنا، أما تعريف الحوار فهو: مناقشة بين طرفين، أو أطراف يقصد بها إما تصحيح، أو إظهار حجة، أو إثبات حق، أو دفع شبهة، أو رد باطل، هذا هو مقصود الحوار، وهذا هو غايته، فهو يراد به: إما أن نصحح خطأً، وإما أن نظهر حجةً، وإما أن نثبت حقاً؛ لأنه ليس بالضرورة في الحوار أن يكون غايته في الحق دائماً، وسوف نرى كيف أن الحوار قد يكون مجرد ممهد، وليس بالضرورة في كل لقاء أن نصل إلى الحق فيه، فإن من مقاصد الحوار التهيئة والتمهيد والتوطئة، وقد يكون تصحيحاً أو إظهار حجة أو دفع شبهة أو رد باطل من القول أو من الرأي.
فمن هنا نعرف غاية الحوار، فغايته إقامة الحجة، أو دفع الشبهة، أو هذا مجمل غايته في الحقيقة، لكنه في واقعه تصحيح.
فالحوار الناجح الصحيح تعاونٌ بين المتحاورين من أجل معرفة الحقيقة والتوصل إليها، هذه هي الغاية الأصلية؛ لكن هناك غايات تمهيدية منها مثلاً: إيجاد حل وسط يرضي الأطراف.
أنتم تلاحظون الخلافات بين الناس -حتى بين الزوجين- أحياناً قد ترى من المصلحة أنك لا تحسم القضية، لكنك تزيل بعض ما في الصدور فقط، حتى تجمع بين المختلفين على الأقل ليخف شيء من الشحناء.
فقد تكون غاية الحوار ليست بالضرورة أن تصل إلى ما تريد في هذه المرحلة، إنما تكون الغاية إيجاد حل وسط يرضي الأطراف.
وأحياناً يكون مقصود المحاور التعرف على وجهات نظر الأطراف الأخرى، وهذا هدفٌ تمهيدي قد يكون إحدى غايات الحوار، كذلك قد يكون من غايات الحوار -وهي ليس الغاية القصوى- البحث والتنقيب من أجل الاستقصاء والاستقراء في تنويع الرؤى والتصورات المتاحة، وذلك من أجل الوصول إلى نتائج أفضل وأمكن، ولو في حوارات تالية، وهذا مهمٌ جداً فالغايات التمهيدية مهم أن نفقهها، وبخاصة ونحن في صرح تربوي، ونعاني حقيقة في بعض الأحيان من مشكلات تربوية يعرفها المربون؛ كالمرشد الطلابي، والموجه، ومدير المدرسة، أحياناً قد تكون المشكلات مع الطلاب لم تصل بالضرورة إلى الغاية القصوى، أحياناً قد تكون تمهيدية، فكيف تعالج القضية التي وقع فيها؟
والحوار من أمثل الطرق التي تؤدي إلى حل لهذه المشاكل.
أما وقوع الخلاف بين الناس فلا أريد أن أتحدث عنه، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى أشار إلى أن الخلاف موجود، كما أن الله جعل الناس مختلفين في صورهم ومختلفين في أشكالهم؛ قال سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22].
هذا الاختلاف الخلقي جزماً يترتب عليه اختلاف في الرؤى، واختلاف في التصورات، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في مقام آخر: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119] فالخلاف موجود، ولا يمكن أن تنفك الدنيا عن الخلاف، وعندي فيه كلام طويل، لكن أرجئ الكلام فيه إلى مناسبة أخرى، أو إن بقي عندنا وقت، أو أن يكون ثمة أسئلة مثارة؛ لأن الوقت يعاجلنا.(66/3)
البدء بمواطن الاتفاق
أهم شيء قبل أن يبدأ الحوار أن ينظر المتحاوران في مواطن الاتفاق.
ما معنى ذلك؟
أي: ينبغي حينما تتحاور مع أحد أن تبدأ بمواطن الاتفاق؛ لأن مواطن الاتفاق تطمئن النفس وتريحها، حينما تحس أنت وجليسك، الذي تريد أن تتناظر معه أنكما متفقان، عندها يطمئن هو ويرتاح؛ حينما تأتي له بالمسلمات والأشياء المتفقة بينكما، ترتاح النفس.
احرص قدر ما تستطيع ألا تقول: لا؛ لأن (لا) تنفر، وسوف نبسط هذا.
فمن الحكمة أن الإنسان يبدأ بمواطن الاتفاق، ولهذا نقول: إن بدء الحديث والحوار بمواطن الاتفاق طريقٌ إلى كسب الثقة وفشو روح التفاهم، ويصير به الحوار هادئاً وهادفاً.
فالحديث عن نقاط الاتفاق وتقريرها يفتح آفاقاً من التلاقي والقبول والإقبال مما يقلل الجفوة، ويردم الهوة، ويجعل فرص الفوز والنجاح أفضل وأقرب، كما يجعل احتمالات التنازع أقل وأبعد.
ولهذا بعض المتمرسين يقول: دع صاحبك المناظر لك يوافق ويجيب بـ (نعم) وحُلْ ما استطعت بينه وبين (لا)؛ قدر ما تستطيع حاول أن تأتي بأشياء يقول فيها: نعم، لماذا؟
قال: لأن كلمة (لا) عقبة كئود يصعب اقتحامها وتجاوزها، فمتى قال صاحبك: لا، أوجبت عليه كبرياؤه أن يظل مناصراً لنفسه، لماذا؟
قال: لأن التلفظ بـ (لا) ليس تفوهاً مجرداً بهذين الحرفين، الواقع أن الذي يقول: لا، قد تحفز كيانه، وانتفخت أعصابه وأوداجه وعضلاته وغدده، عندما يقول الإنسان: لا، يكون عنده شيء من الانفعال الداخلي كل واحد منا يحس به، فهو اندفاع بقوة نحو الرفض، أما إذا استطعت بخطواتك المرتبة أن تجر صاحبك إلى أن يقول: نعم، نعم، فإنها -أي: نعم- هادئة وسهلة ورقيقة ورفيقة، لا تكلف أي نشاط جسماني وأي إفرازات.
فالحرص على مواطن الاتفاق وإظهارها وإبرازها يجعل النفوس تتقبل الحق، فالحوار له فنه، ونحتاج أن نتمرس فيه كثيراً جداً، ومع الأسف لو تقرءون النقاش الذي يأتي في الصحف، أو الردود فسترون أن كثيراً منها متشنج، وترى فيها بعض العبارات وإن غلفت متشنجاً جداً، ولو كانت من مثقفين، ولو كانت ممن يحملون مؤهلات عالية، لا يكاد يكتب أحدهم مقالة أو مقالتين إلا وخرج إلى تجريح الشخص.
فنحن لم نوطن أنفسنا، ولم نعلم أجيالنا وناشئتنا كيف تتقبل الرأي الآخر، وقبولها لا يعني أن تسلم به، إنما قبوله كيف تسمع، فنحن نناقش في أطروحاتنا في وسائل الإعلام -في الصحافة، في التلفزيون، في الراديو- بعيدين عن الأصول، نطرح طروحات متشنجة أو مثاليات غير معقولة، إذا كنت وحدك خلف الشاشة ما عندك أحد فإنك تطرح مثاليات، فليس الحوار أن أطرح ما عندي بقوة، وأنت مستعد أن تسمع بروح هادئة وأعصاب هادئة، فالقضية دقيقة، والقضية تحتاج إلى تربية قبل أن نسمع مجرد كلمات.
ولهذا أحياناً حينما يدور نقاش في التلفزيون أو في الراديو، وأنت تسمع تجد نفسك تتنرفز ولو كنت هناك لأمسكت بتلابيب هذا المتحدث، هذا يدل على أنك ليس عندك قاعدة في الحوار، ولا عندك استعداد أن تسمع، فالقضية دقيقة يا إخواني، فمن هنا احرص على ألا يقول صاحبك: لا.(66/4)
أصول الحوار(66/5)
سلوك الطرق العلمية
لو افترضنا أن أمامنا متحاورين، فما هي الخطوات التي ينبغي أن يلتزما بها في سبيل أن يتوصلا إلى الحقيقة؟
أولاً: أن تُسلك المسالك العلمية، أي: أن المتحاورين يلتزمان الطرق العلمية.
ما هي الطرق العلمية؟
ليست خطابة، وليست كلمات متشنجة، وليست مجردة دغدغة عواطف، فدغدغة العواطف هذه تنفع للجماهير، ولكن في حوار بيني وبينه، وأحس أنه ندٌ لي وأنا ندٌ له ينبغي أن نلتزم قواعد:
القاعدة الأولى: أن تكون طرق الحوار علمية، ما معنى ذلك؟
فإذا كانت القضية دعوى، فلا بد أن آتي بأدلة، إما أدلة عقلية، أو أدلة نصوص إذا كانت شرعية، فإذا كانت عقلية، تكون مسلمات عقلية ومنطقاً عقلياً معروفاً، وإذا كانت أخباراً فلا بد أن أنقل خبراً صحيحاً، لا أبني حواري على أن أقول: قالوا وقلنا، لا أدخل إلا وأنا متأكد من أدواتي، فأولاً لا بد أن نقدم أدلة صحيحة مثبتة ترجح حقيقتي.
والأمر الثاني: صحة النقل فيما أدعيه، ولهذا علماؤنا -علماء الحديث وغيرهم- يقولون: إن كنت ناقلاً فالصحة، وإن كنت مدعياً فالدليل، فهذا ضروري عندما أدخل في الحوار، فأنا لا أدخل إلا ومعي أدواتي، لا يكفي أن أقول: قالت الصحيفة الفلانية، أو سمعت فلاناً يقول.
ولهذا أكثر أخطائنا تكون من مقالات سمعناها من غير أن نتبين صحتها.
وأحياناً قد تكون المقولات صحيحة، لكن مراد صاحبها مختلف، أو أنها نقلت إلينا جزئية، أو نقلت مبتورة.
مهمٌ جداً أن نسلك المسالك العلمية في طرح الحوارات، فإذا كانت دعوى، فلا بد من أدلة، وإذا كانت نقلاً، فلا بد من التثبت في الصحة، والله عز وجل قد قال للمخالفين: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] في أكثر من آية، فقال: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93] وقال: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} [الأنبياء:24].
وقد يكون استيعاب أصول الحوار يحتاج إلى وقت وأنا سوف أذكر أصلين على سبيل العجل؛ لأن استيعابها قد يحتاج إلى وقفات دقيقة، أو علمية بحتة، لكن أشير إليهما على كل حال.(66/6)
السلامة من التناقض
الأصل الثاني: سلامة كلام المناظر ودليله من التناقض، فالمتناقض ساقطٌ بداهةً.
بمعنى أنت إذا تكلمت، يجب أن تحرص أن يكون كلامك صحيحاً غير متناقض.
فمثلاً حينما قالت الأقوام المكذبون لرسلهم: سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ.
وفرعون وصف موسى بأنه ساحرٌ أو مجنون، وكذلك أيضاً قوم محمد صلى الله عليه وسلم الكفار قالوا له: ساحر أو مجنون، فهذا وصف متناقض غير مقبول، لماذا؟
لأن السحر والجنون لا يجتمعان، لا يمكن أن يكون الشخص ساحراً ومجنوناً، غالباً السحر يحتاج إلى ذكاء وفهم، لكن الجنون خلل عقل، فكيف تصف هذا بأنه ساحر، أو مجنون، إذاً قضية متناقضة حقيقة، فلما لم يكن عندهم حجة، أتوا بأي أوصاف، وكذلك أيضاً حينما قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم فيما أتى به القرآن: إنه سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، والسحر لا يكون مستمراً، قال تعالى عنهم: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:2] فهو تناقض، فالسحر لا يكون مستمراً، والمستمر لا يكون سحراً.(66/7)
ألا يكون الدليل هو عين الدعوى
الأصل الثالث: ألا يكون الدليل هو عين الدعوى، وهذه قضية منطقية أصولية قد لا نقف عندها كثيراً، بمعنى أنك إذا طرحت شيئاً، أو تريد أن تأتي بشيء، فلا تأت بعين الدعوى تجعلها دليلاً؛ لأن بعض الناس أحياناً قد يكون عنده من البهرج، وعنده من قوة العبارة يريد كما يقولون: يلفك، فيأتي بعين الدعوى مغلفة، بينما هو الحق أن يأتي بدليل، لا أن يأتي بالدعوى ويجعلها دليلاً؛ لأن هذا غير مقبول.(66/8)
الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مسلمة
الأصل الرابع: (وهذا مهم جداً، وسوف نقف عنده بعض الوقفة) الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مسلمة، أي: حينما يتحاور المتحاوران، فلا بد أن يكون هناك مسلمات فهي لا تدخل في النقاش، أو تكون هناك أمور غير مسلمة فلا يجوز أن تدخل في المسلمات، فإذا كنت مثلاً تتحاور مع نصراني، النصراني لا يسلم بالقرآن، ولا يسلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلا تجعل القرآن من المسلمات في الحوار معه، وإذا كنت تتحاور مع مسلم في قضايا شرعية، أو قضايا أثيرت، فلا يمكن أن تكون المسلمات محل نقاش، لماذا؟
لأننا إذا دخلنا إلى المسلمات، خرجنا إلى شيء آخر، وسوف يتشعب النقاش.
مثلاً: في الإسلام مسلمات، منها ربوبية الله سبحانه وتعالى، واستحقاقه للعبادة سبحانه وتعالى، وكماله في أسمائه وصفاته، وتنزيهه سبحانه وتعالى عما لا يليق به، وكذلك ما يتعلق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بالقرآن.
وكذلك قضية الحجاب، حجاب المرأة المسلمة فهو مسلم، ولا يجوز أن يكون محل خلاف، وتعدد الزوجات ليس فيه خلاف، والربا ليس فيه خلاف.
الحجاب قضية مسلمة، لأن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دلت على الحجاب، وهناك قضايا داخل الحجاب قد تكون محل خلاف، ويمكن أن تكون محل حوار، مثل كشف الوجه، لا شك أن العلماء مختلفون فيها، وإن كنا نرى وجوب تغطية الوجه، لكن هذه القضية مما تقبل الحوار، لكن أصل الحجاب لا يقبل الحوار.
وكثير من الصحافات العربية وبعض الناس الذين هم قليلو الدين، وبعض التوجهات التي قد تكون علمانية تطرح قضية الحجاب وكأنها قضية مختلف فيها.
وقضية الحجاب محسومة في الإسلام، وليست محل نظر، ولا يجوز أن تكون محل نظر بين المسلمين، أما حينما نناقش نصرانياً، أو وثنياً، فيمكن أن نناقشه؛ لأنه غير مسلم بها، لكن بين المسلمين الحجاب مسلَّم به.
وكذلك تعدد الزوجات، فهي قضية مسلم بها، ليست محل نقاش البتة؛ لأن كتاب الله عز وجل حسمها: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3] على معنى أن مشروعية التعدد ليست محل جدال، ولهذا من الخطأ مناقشتها، وأنا أعتبره خطأً لعدم الفهم، لا أتهم من يفعلونه اتهاماً سيئاً، إنما أظنه جهلاً، يأتي الإنسان يطرح في الجريدة أو في الصحيفة أو في التلفزيون أو في وسيلة إعلام، ويقول: ما رأيك في تعدد الزوجات؟ فهذا لا يجوز، وليس محل حوار أبداً البتة؛ لأن التحدث فيه محسوم.
قد نتحاور في مسألة ما هي وسائل العدل بين الزوجات؟ أما هل التعدد جائز أو غير جائز، فلا يجوز أن يكون محل نقاش.
الحكم بما أنزل الله لا نحاور فيه هل التشريع الإسلامي صالح للتطبيق أو غير صالح؟ أو الحدود هل هي صالحة للتطبيق في زماننا أو غير صالحة؟ فهذا ليس محل نقاش، ولا يجوز البتة أبداً، بل يكفر الذي يقول ذلك، لكننا نحسن الظن ببعض قليلي العلم الديني حينما يطرحون هذه القضايا، لأنه مجرد سبق صحفي أو منشور صحفي يريد أن يثير ويروج للصحيفة التي يعمل فيها؛ لأن هذه مسلمات.
مقصودي: أن هناك مسلمات قد تكون عقلية، وهناك مسلمات دينية، فالمسلمات الدينية تكون بين أصحاب الدين، والمسلمات العقلية أيضاً مسلمة بين الناس كلهم؛ مثلاً: حسن الصدق، وكون الصدق حسناً، هذا مسلَّم، لا يوجد أحد يقول: إن الصدق سيئ، وكون الكذب قبيحاً، وشكر المحسن أيضاً؛ فهذه مسلمات ليست محل جدل، وكذلك معاقبة المسيء أيضاً، فهي ليست محل جدل، فهذه من المسلمات المتفق عليها، فمقصودي: أن من أصول الحوار أن تنطلق من مسلمات ثابتة، فلا تجعل المسلمات محل نقاش إلا إذا كانت عندك غير مسلَّمة.(66/9)
التجرد وقصد الحق والبعد عن التعصب
الأصل الخامس: التجرد وقصد الحق والبعد عن التعصب، وهذا الأصل له جانبان: جانب: كونه أصلاً، وجانب كونه خلقاً من أخلاقيات الحوار، فهو باعتبار أصل من الأصول، وباعتبار آخر هو جانب من جوانب أخلاقيات الحوار، فكونه أصلاً يعني: أنه يجب، لماذا قلنا: أخلاقي؟
لأنه قلبي، والشيء القلبي غالباً يرجع إلى وازع الضمير كما يقال، لكنه أصل بمعنى أنه لا يمكن إذا كنت جاداً وصادقاً في أن تصل إلى الحق، لا يمكن إلا أن تطبق هذا الأصل، وهو التجرد وقصد الحق والبعد عن التعصب والالتزام بآداب الحوار، وإذا لم تكن مستقراً، وجاداً وصادقاً، فإنه لا يمكن أبداً أن تصل، وأكثر ما يفشل الحوارات هذا حتى المفاوضات على مستوى الدول، فإن لم يكن هناك صدق وجدية؛ فلا يصلون، ولهذا تطول وتطول إلى ما لا نهاية؛ لأن هناك أهدافاً غير منظورة، ولعل كل طرف يعرف ما عند الآخر.
ولهذا يقول الغزالي أبو حامد: التعاون على طلب الحق من الدين، ولكن له شروط وعلامات، منها: أن يكون في طلب الحق كناشد ضالة لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد معاونه، ويرى رفيقه معيناً لا خصماً، ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهره له.
ولهذا يقول الشافعي رحمه الله: ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق، أو يسدد، أو يعان، وتكون عليه رعاية الله وحفظه، وما ناظرني أحد فباليت أظهرت الحجة على لساني أو لسانه.
والمقصود هو: أن يكون الحوار بريئاً من التعصب خالصاً لطلب الحق خالياً من العنف والانفعال، بعيداً عن المشاحنات الأنانية والمغالطات البيانية مما يفسد القلوب ويهيج النفوس.(66/10)
أهلية المحاور
الأصل السادس: أهلية المحاور، وهذه قضية مهمة جداً؛ بمعنى أن يكون المحاور مؤهلاً، لا جاهلاً ولا غير متخصص، كما أنك ينبغي أن تكون مستعداً.
ومع الأسف، فإن ما يحصل في بعض الحوارات أن يكون المناظر عن الجانب الإسلامي غير مؤهل، وقد يكون مستشرقاً كافراً أو مسلماً غير مؤهل، فلا بد في الأصول أن تأتي بإنسان مؤهل.
ولقد ندمت وأسفت أني لم أحضر الندوة التي أقيمت من جملة النشاط الثقافي، وكنت عليها حريصاً، لكن بلغني أنه وقعت أشياء جميلة جداً وحوارات، وبخاصة طروحات من بعض الذين نحبهم كانت على مستوى يثلج الصدر.
فالمهم فعلاً أهلية المحاور، فمن الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من هو على الباطل، ومع الأسف، أحياناً في الغرب يقيمون ندوات، ويأتون بمستشرقين يدافعون عنا، ويخرجون بنتائج وتوصيات ومقررات، فمن الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من كان على الباطل، ومن الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يعرف الحق، ومن الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يجيد الدفاع، قد يكون هو على حق وعلى معرفة به؛ لكن لا يجيد الدفاع عنه، ومن الخطأ كذلك أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يدرك مسالك الباطل، وليس كل واحدٍ مؤهلاً للدخول في حوار صحي يجني ثماراً يانعةً ونتائج طيبة، حتى آتي إلى الأخلاقيات.(66/11)
قطعية النتائج ونسبيتها
الأصل السابع: قطعية النتائج ونسبيتها، وهذه قضية دقيقة ومهمة، وخاصةً فيما ذكرنا قبل قليل من أنه قد يكون مقصودك من الحوار ليس الوصول في الوقت الحاضر، إنما تذكر أشياء تمهيدية، فمن المهم جداً، حتى من ناحية نفسية ليصل الحوار إلى مبتغاه ألا يكون هناك تشنج؛ وغالباً الذي يفشل هو المتشنج، وغالباً الذي يفشل هو الذي يرفع صوته، وغالباً الذي يفشل هو الذين ينفعل، بقدر ما تكون مستمسكاً بهدوئك مهما سمعت يكون نجاحك، ولهذا أحياناً قد تسمع أشياء عجيبة، وأشياء تكاد تكون أوضح من الشمس في خطئها، ومع هذا عليك أن تكون هادئاً جداً، لكن ليس هذا هو المقصود، المقصود أن توطن نفسك، أنك قد تكون أنت المخطئ، بمعنى أنك على حق تحتمل الخطأ، وغيرك يحتمل الصواب.
ولهذا نقول: من المهم في هذا إدراك أن الرأي الفكري نسبي الدلالة على الصواب أو الخطأ، والذي لا يجوز عليهم الخطأ هم الأنبياء عليهم السلام، بمعنى حينما يأتي محاورك بأشياء ويطرح طروحات، فلا تتشنج؛ فربما تكون أنت المخطئ، وهذه قضية مهمة، بل أحياناً روح التسليم تجعل صاحبك يسلم أيضاً، أما التشنج فيفشل الحوار، فإذا اعتقدت أنك قد تخطئ، وأنك غير معصوم، وأن ما أتى به صاحبك من وثائق ينبغي أن تسلم، وأن تكون عندك -كما يقال- روح رياضية في هذا الموضوع.
فإن الذين لا يجوز عليهم الخطأ هم الأنبياء عليهم السلام فيما يبلغونه عن ربهم سبحانه وتعالى، وما عدا ذلك، فيندرج تحت المقولة المشهورة: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب.
وبناءً عليه، فليس من شرط الحوار الناجح أن ينتهي إلى قول واحد، فإن تحقق هذا واتفق المتحاوران على رأي واحد، فنعم ذلك ونعم المقصود، وهو منتهى الغاية، وإذا لم يكن، فالحوار ناجحٌ إذا توصل المتحاوران بقناعة إلى قبول كل من منهجيهما، يسوغ لكل واحد منهما التمسك به.
طبعاً ليس الكلام في القضايا الدينية، ولنفترض أننا نتناقش في منهج تربوي، نتناقش في صلاحية هذا الكتاب من عدمه، فلا نريد في نهاية حوارنا أن نقول: أنت التزم به في كذا، وأنا ألتزم به في كذا، وانتهت القضية، أحياناً فعلاً قد لا تحسم القضية، وينبغي أن تعرف ذلك أن القضية قد لا تحسم في بعض الأحيان.
فيكون الحوار ناجحاً إذا توصل المتحاوران بقناعة إلى قبول كل من منهجيهما، ويسوغ لكل واحد منها التمسك به ما دام في دائرة الخلاف السائغ، وما تقدم من حديث عن غايات الحوار يزيد هذا الأصل إيضاحاً كما أسلفت
ولهذا ابن قدامة رحمه الله يقول: وكان بعضهم يعذر كل من خالفه في المسائل الاجتهادية، ولا يكلفه أن يوافقه فهمه.
ولكن الحوار يكون فاشلاً إذا انتهى إلى نزاع وقطيعة وتدابر ومكايدة وتجهيل وتخطية.(66/12)
الرضا والقبول بالنتائج
الأصل الثامن والأخير في الأصول: الرضا والقبول بالنتائج، ومع الأسف أنه فيما قرأتم وقرأنا وما يطرح في كثير من وسائل الإعلام لا نكاد نرى أحداً سلم للآخر، أو رضي بالنتائج أبداً، ولا شك أن هذا يدل على سوء في التربية في هذا الباب، وكان ينبغي أن نوطن أنفسنا أن نقبل الحق من أي إنسان جاء، وأقبل لنفسي أني قد أكون على خطأ، لكننا مع الأسف نتكلم من ناحية نظرية، أما في الواقع فإلى الآن لم نصل إلى مرحلة أن نربي أنفسنا وأولادنا وأجيالنا على أن تتقبل بالتسليم بالخطأ، مع الأسف أننا لم نصل إلى هذا.
فإذاً من الأصول الرضا والقبول بالنتائج التي يتوصل إليها المتحاوران، والالتزام الجاد بها وما يترتب عليها، وإذا لم يتحقق هذا الأصل، كانت المناظرة ضرباً من العبث الذي يتنزه عنه العقلاء.
ولهذا يقول ابن عقيل: وليقبل كل واحد منهما من صاحبه الحجة، فإنه أنبل لقدره، وأعون على إدراك الحق، وسلوك سبيل الصدق، والشافعي رضي الله عنه وأرضاه يقول: ما ناظرت أحداً فقبل مني حجة إلا عظم في عيني، ولا ردها إلا سقط من عيني.
هذه إشارات إلى أصول الحوار، طبعاً قد تجدون في بعض المراجع أصولاً غير ما ذكرت لكم، لكن يدخل بعضها في بعض غالباً، وبعضها قد يحتاج إلى مزيد من البسط، وبعضها مضغوط في بعض، فهذا إيجاز لأصول الحوار.(66/13)
أخلاقيات الحوار وآدابه
نأتي إلى أخلاقيات الحوار وآدابه:(66/14)
التزام القول الحسن وتجنب منهج التحدي والإفحام
من أخلاقيات الحوار: التزام القول الحسن، وتجنب منهج التحدي والإفحام: أي: حاول وأنت تتحدث أن تختار ألفاظك، وألا تدخل مدخل المفحم، كمن يريد أن يحشر خصمه في زاوية؛ لأن هذا غالباً لا يؤدي إلى حل، إنما يؤدي إلى تشنج وتنتهي القضية، لكن كما قلنا: تحاول أن يقول: نعم، نعم، نعم، فذلك خيرٌ من أن تحشره وتريد أن تظهر عليه، تأكد يا أخي وإن لم تتحدث، أن الحضور يعرفون، الحضور تفهم، وإن لم يقولوا شيئاً، فلابد من التزام القول الحسن، وتجنب منهج التحدي والإفحام، فمن المهم باسم المتحاورين التزام الحسنى في القول، والله عز وجل يقول: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53] وقال: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] فهذا هو الأصل، {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] ويلحق بهذا الأصل -كما قلت- تجنب أسلوب التحدي والتعسف في الحديث، وتعمد إيقاع الخصم في الإحراج، ولو كانت الحجة بينة والدليل دامغاً، فإن كسب القلوب مقدم على كسب المواقف -وهذه قاعدة مهمة فالزموها- كسب القلوب مقدم على كسب المواقف مهما كان، لأنك إذا كسبت الموقف وخسرت الناس، فماذا فعلت؟
أنت مقصودك أن تكسب الناس، فقد تكسب الموقف، لكنك لا تكسب الناس، وإذا كسبت الناس، كسبت الموقف، أما إذا كسبت الموقف وخسرت الناس، فقد ذهب كل عملك هباءً، وبخاصة إذا كنت من الناس الذين يدعون إلى الله، وتريد الحق فعلاً، إذا كنت تريد الحق وبسط الحق، فاكسب الناس، ولا تكسب المواقف، فكسب القلوب مقدم على كسب المواقف، وقد تفحم الخصم، لكنك لا تقنعه، وقد تسكته، لكنك لا تكسب تسليمه وإذعانه، وأسلوب التحدي يمنع التسليم، ولو وجدت القناعة العقلية، وهذه طبيعة البشر، ولهذا الأنبياء أتوا بالحجج، ومع هذا فالطغاة رفضوا الإيمان لا لعدم قناعتهم ولكن لاستكبارهم، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] فليس الذي يمنع خصمك أنك لست على الحق، ينبغي أن تعرف هذا، ومادمت واثقاً من نفسك، فتأكد أن الذي يمنعه ليس أنك على الحق، إنما هو شيء في نفسه، في داخله، فما دام أنه شيء داخلي، وأنك لست مسئولاً، فلماذا التشنج؟ ولماذا الإفحام والإقحام؟
فإذا كنت اتبعت الأصول السابقة من العلم، وأصول العلم، وإقامة الحجة، وإثبات صحة الخبر إلى آخر ما سبق، فالقضية منتهية، فهذا الذي نقول، وإنك لتعلم أن إغلاظ القول ورفع الصوت وانتفاخ الأوداج لا يولد إلا غيظاً وحقداً وحنقاً.
ومن أجل هذا، فليحرص المحاور ألا يرفع صوته أكثر من الحاجة، فهذا رعونة، وإيذاء للنفس وللغير، ورفع الصوت لا يقوي حجة، ولا يجلب دليلاً، ولا يقيم برهاناً، بل إن الصوت العالي لم يعل في الغالب إلا لضعف حجته وقلة بضاعته، فيستر عورته بالصراخ، ويواري ضعفه بالعويل، وهدوء الصوت عنوان العقل والاتزان والفكر المنظم والنقد الموضوعي والثقة الواثقة.
على أن الإنسان قد يحتاج إلى رفع الصوت قليلاً في بعض الأحيان، أو يغير الإنسان نبرات صوته إذا كانت الصيغة استفهامية، أو تقريرية، أو إنكارية، أو تعجبية، هذه أشياء معروفة في أصول الحوار، لكنها لا تعني السفه على صاحبك، أو أنك تريد أن تسكته برفع صوتك، لكن إذا كان المقصود تغيير لهجة الصوت، لأن المقام يستدعي أن يكون الأسلوب إنكارياً، أو تعجبياً أو استفهامياً أو تقريريا، ً أو غير ذلك من أساليب البلاغة مما يدفع الملل والسآمة، فمعلوم أنه مطلوب.
على أن هناك أحياناً بعض الحالات التي يسمح فيها ويسوغ فيها اللجوء إلى الإفحام، وإسكات الطرف الآخر، لكن هذا ليس الأصل، هذا قد يحتاج إليه، لكنه خلاف الأصل، فإذا استطال مثلاً صاحبك وتجاوز الحد وطغى وظلم وكذب، وأتى بأشياء مكشوفة، وعادى الحق وكابره مكابرةً بينة، فلمثل هذا جاءت الآية الكريمة: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] فحينئذٍ قد تتجاوز الحسنى، لأن الناس تحب أن ترى الحق عالياً، وتحب أن ترى الباطل مقموعاً، وقال سبحانه وتعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] ففي حالة الظلم والبغي والتجاوز قد يسمح بالهجوم الحاد المركز على الخصم وإحراجه وتسفيه رأيه؛ لأنه يمثل باطلاً، وحسنٌ أن يرى الناس الباطل مهزوماً مدحوراً.
وهناك كلمة لطيفة جميلة على الهامش، وهي أنه لا ينبغي للإنسان أن يستعمل الضمير (أنا) في الحديث، ذكر ذلك كثير من المتأدبين، وقال: لا ينبغي للإنسان أن يقول أنا ونحن إذا استطاع، إنما يستعمل ضمير الغيبة، فهو أحسن، فلا يقول: في رأيي، أو في درسنا، أو في تجربتنا، أو في رأينا، أو على حسب علمنا، يحسن أن يقول: يبدو للدارس، تدل التجارب، الذي يبدو للباحث، ونحو ذلك، فهي ألطف؛ حتى لا يحس السامع بأن ثمة أسلوب تعالٍ على المتحدثين، أو بين المتحاورين.
أخيراً من غاية الأدب واللباقة وإدارة الحوار ألا يفترض في صاحبه الذكاء المفرط، فيكلمه بعبارات مختزلة، ولا يفترض فيه الغباء المفرط، فيأتي بأشياء من المسلمات بحيث يمل منها المتحاوران، أو يمل السامعون، والناس في ذلك درجات في عقولهم وفهمهم.(66/15)
الالتزام بوقت محدد
القضية الثانية في آداب وأخلاقيات الحوار: الالتزام بوقت محدد في الكلام، وهذه أيضاً مهمة وجميلة، ومع الأسف أنه لا يكاد يُلتزم بها، وبخاصة في الندوات، إذا أقمنا ندوات، فلا يكاد أحد يلتزم، فإذا أتى الإنسان بأوراقه أوجب على نفسه أن يقرأها كلها، كان ينبغي قبل الدخول أن يكون المتحاورون والمنتدون ومدير الندوة متفقين على أن يأتي الواحد بكلمات تغطي الجزء، لكن مع الأسف إذا كانت شهوة الكلام هي المطلوبة، فهذا مشكلة، ومع الأسف ما تعودنا على ذلك عملياً؛ رئيس الندوة يقول: يا إخواني بقيت دقيقتان، ومع هذا لا أحد يستجيب، وإن كان رئيس الندوة أحياناً يستخدم سلطته، ويوقف الكلام، لكن لا ينبغي هذا، فهو يؤثر على مجريات الأمور والهدوء والانسجام الموجود في القاعة وينبغي أن نكون جادين في الالتزام بالوقت في الكلام، فينبغي أن يستقر في ذهن المحاضر ألا يستأثر بالكلام، ويستطيل في الحديث ويسترسل بما يخرج به عن حدود اللباقة والأدب والذوق الرفيع.
فـ ابن عقيل الحنبلي يقول في كتابه فن الجدل: وليتناوبا الكلام مناوبةً لا مناهبةً؛ بحيث ينصت المعترض للمستدل حتى يفرغ من تقريره للدليل، ثم المستدل للمعترض حتى يقرر اعتراضه، ولا يقطع أحدٌ منهما على الآخر كلامه، وإن فهما مقصوده من بعضه.
حتى إن فهمت فاسكت حتى ينتهي، لا تقل له: كفى فقد فهمت، ولهذا قال ابن عقيل: وبعض الناس يفعل هذا - أي: يقاطع- تنبيهاً للحاضرين على فطنته وذكائه، وليس في ذلك فضيلة إذ المعاني بعضها مرتبطٌ ببعض، وبعضها دليل على بعض، وليس ذلك علم غيب، أو زجراً صادقاً، أو استخراج ضمير حتى يفتخر به، وبخاصة إذا افترضنا أن المتحاورين على مستوى من العلم، ومستوى من العقل، ومستوى من الفهم.
وغالباً المستمعون كذلك على مستوى من الفهم، فليس ذكاءً أنك تفهم من منتصف الطريق، فإذا فهمت فاسكت.
قال ابن عقيل: ومن المفيد أن نعلم أن أغلب أسباب الإطالة في الكلام ومقاطعة حديث الرجال يرجع إلى ما يلي:
أولاً: إعجاب المرء بنفسه.
ثانياً: حب الشهرة والثناء.
ثالثاً: ظن المتحدث أن ما يأتي به جديدٌ على الناس، وهذه مشكلة فلا ينبغي أن تفترض أن الناس كلهم جهال.
رابعاً: قلة المبالاة بالناس في علمهم ووقتهم وظرفهم، لو كنت تحترم الناس ما حاولت أن تستطيل في شيء ليس لك فيه حق.
قال: والذي يبدو أن واحداً من هذه الأسباب إذا استقرت في نفوس السامعين كافٍ في صرفهم وصدهم ومللهم واستثقالهم لمحدثيهم.
وأرجو ألا أكون منهم!(66/16)
حسن الاستماع والإنصات
الثالث من الآداب: حسن الاستماع، وأدب الإنصات، وتجنب المقاطعة، وهذه قضية مكملة لما سبق، ينبغي للمتحاور -الطرف الثاني أو كل واحد بالنسبة لصاحبه- ينبغي له أن يحسن الاستماع وأدب الإنصات وأدب المقاطعة، وهذا والله نحتاجه كثيراً في مدارسنا، وبخاصة بين الأستاذ وتلميذه، يعني: لو أن أساتذتنا اجتهدوا في أن يعلموا تلاميذهم أدب الحديث بمعنى أن يكونوا هم القدوة، فالمشكلة أن الأستاذ يريد الكلام، وهو الذي يُسمع فقط، لا يكاد يحسن أن يعطي طالبه فرصة الحوار، ولو فرصة الحديث، فهذا نوع من التعالي مع الأسف، ويجب أن نكون صادقين في نقد أنفسنا، وبخاصة في مثل هذه المدرسة الثانوية -كما قلنا-: الثانوية طلابها في مستوى المراهقة، والمراهق -كما يقول علماء النفس- يريد أن يثبت ذاته، وينبغي أن يعطيه المدرس فرصة في أن يثبت ذاته بحيث يتحدث ويتكلم ويعطيه فرصة، ولا يستهزئ به، ولا يجعل زملاءه يسخرون منه، فحسن الاستماع وأدب الإنصات وتجنب المقاطعة من أخلاقيات الحوار.
فكما قلنا في آداب الحوار: الالتزام بوقتٍ محددٍ، وتجنب الإطالة، كذلك نطلب حسن الاستماع، واللباقة في الإصغاء، وعدم قطع حديث المحاور، وإن من الخطأ -وهذه قضية يا إخواني مهمة جداً- أن تحصر همك في التفكير فيما ستقوله، وألا تلقي بالاً لمحدثك ومحاورك، وهذا كثير؛ زميلك يتحدث وأنت مشغول بالرد، لا يا أخي اسمع ما يقول، يمكن أن يقول حقاً، هذه قضايا دقيقة، وهي ترجع إلى الضمير يا إخواني، إن أغلب أخلاقيات الحوار ضميرية؛ أنت بنفسك أبصر، ليست أشياء تقاس بالترمومتر، لو كانت تقاس، لم تكن هناك مشكلة، بل كلنا سنكون منضبطين، فحينما يتحدث صاحبك، ينبغي أن تكون مستمعاً جيداً، لا أن تكون مشتغلاً بالرد، ومن الخطأ أن تشغل همك في التفكير فيما ستقوله، وألا تلقي بالاً لمحدثك ومحاورك، وقد قال الحسن بن علي رضي الله عنهما لابنه رضي الله عنهم أجمعين: [[يا بني إذا جالست العلماء، فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ولا تقطع على أحدٍ حديثاً، وإن طال حتى يمسك]] ويقول ابن المقفع: تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ومن حسن الاستماع إمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه، وقلة التلفت إلى الجوار، والإقبال بالوجه، والنظر إلى المتكلم، والوعي بما يقول.
إذاً: لا بد في الحوار الجيد من سماع جيد، والحوار بلا حسن استماع -كما تقول العامة- حوار طرشان -جمع أطرش- فكل من طرفيه منعزلٌ عن الآخر، فالسماع الجيد يتيح القاعدة الأساسية لالتقاء الآراء وتحديد نقاط الخلاف وأسبابه.
حسن الاستماع يقود إلى فتح القلوب واحترام الرجال وراحة النفوس، تسلم فيه الأعصاب من التوتر والتشنج، كما يُشْعِر بجدية المحاور وتقدير المخالف وأهمية الحوار، ومن ثم يتوجه الجميع إلى تحصيل الفائدة والوصول إلى نتيجة.(66/17)
تقدير الخصم واحترامه
الرابع من الآداب والأخلاقيات: تقدير الخصم واحترامه، وهذه مهمة جداً أن تقدره، وقد نكون أشرنا إليه في بعض الطروحات التي تطرح في وسائل الإعلام في الردود، لا يكاد يكون فيها تقدير إلا في الحلقة الأولى، أو الثانية بعد ثلاث أو أربع حلقات تجد الدنيا انفتحت على التجريح الشخصي وإلى الكلام في الشهادات، وإلى الكلام في السيرة الذاتية، وإلى الكلام في تاريخه العلمي أين ذهب؟ وأين أتى؟
ما كان ينبغي هذا أبداً، والتقدير أيضاً قلبي، وبقدر ما تكون صادقاً في التقدير يظهر هذا على سلوكك وأسلوبك وكلامك وحديثك وكتابك، فينبغي في مجلس الحوار التأكيد على الاحترام المتبادل من الأطراف، وإعطاء كل ذي حق حقه، والاعتراف بمنزلته ومقامه، فيخاطب بالعبارات اللائقة وبالألقاب المستحقة والأساليب المهذبة، فتبادل الاحترام يقود إلى قبول الحق، والبعد عن الهوى، والانتصار للنفس.
أما انتقاص الرجال، وتجهيلها، فأمر معيبٌ محرمٌ، وما قيل من ضرورة التقدير والاحترام لا ينافي النصح وتصحيح الأخطاء بأساليبه الرفيعة، وطرقه الوقورة، فالتقدير والاحترام غير الرخيص، والنفاق المرذول، والمدح الكاذب، والإطراء على الباطل، وهذا يقودنا إلى قضية أخرى تنبع من التقدير، وهي أنك تتوجه بالحوار إلى القضية المطروحة، ويصرف الفكر إلى المسألة المبحوثة ليتم تناولها بالبحث والتحليل والإثبات والنقد بعيداً عن صاحبها أو قائلها، كل ذلك حتى لا يتحول الحوار إلى مبارزة كلامية، طابعها الطعن والتجريح والعدول عن مناقشة القضايا والأفكار إلى مناقشة التصرفات والأشخاص والشهادات والمؤهلات والسيرة الذاتية.(66/18)
حصر المناظرات في مكان محدود
ومن الآداب: حصر المناظرات في مكان محدود، هذه قضية دقيقة، وأظن أن أكثر من نبه إليها علماؤنا المتقدمون، وهي قضية دقيقة، وأظنها تحتاج إلى نظرة، وقد تكون مستغربة، وهي حصر المناظرات في مكان محدود، ما معنى ذلك؟
أهل العلم يقولون: إن المحاورات والجدل ينبغي أن يكون في خلوات محدودة الحضور، قالوا: وذلك أجمع للفكر والفهم، وأقرب لصفاء الذهن، وأسلم لحسن القصد، وإن في حضور الجمع الغفير ما يحرك دواعي الرياء والحرص على الغلبة بالحق والباطل، مع الأسف في الوقت الحاضر الآن أصبحت محاورات تلفزيونية خاصة في الخارج بين رؤساء الأحزاب، وبين المرشحين للانتخابات، غالباً هذه المحاورات لا تؤدي إلى حق، إنما استعراض عضلات، وتقديم طروحات كاذبة، وكما يقال: كل واحد يطرح مشروعه الانتخابي، وكل مشروع كذاب، لماذا؟
لأنهم أمام الجمهور، ويريدون مجرد المفاخرة، والرياء والأطروحات الكاذبة، ولو انفردوا بأنفسهم وصدقوا، لكانت مصلحة الوطن أجدى وأولى وأوصل للحق؛ لكن القضية من أجل الفوز في الانتخابات واستمالة الجمهور، وهم كذابون، ولهذا أكثر الطروحات الانتخابية كاذبة وأفاكة، ولا يصلون إلى شيء، بل حتى على مستوى الانتخابات الأمريكية وغيرها يطرحون أشياء، وتجد الرئيس حينما يذكر، يشتغل في قضايا السياسة الخارجية، ويذهب عن كثير من القضايا التي وضعها في سياسات اقتصادية، أو سياسات اجتماعية، أو أشياء غيرها، لأن القضية جماهيرية، ولا يكادون يلتزمون بأدبيات الحوار؛ لأنه لا يريد أن ينهزم أمام الجمهور، أو أمام جمهوره الذين يرغبون ترشيحه، ولهذا يذكر أهل العلم عن المحاورات أنها ينبغي أن تكون في خلوات، واستدل أهل العلم بآية لطيفة من كتاب الله عز وجل، وهي قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46] فالله عز وجل أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول لقومه: ما جئت به، فكروا به منفردين؛ لأنكم إذا فكرتم متداخلين، كل واحد يتعصب، ولهذا في قصة طويلة حقيقة ذكرها المؤرخون أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس كانوا يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد منفرد، فإذا خرجوا تقابلوا في الطريق، ثم تعاهدوا على عدم السماع، فكان كل واحد منهم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن معجباً به، لكن إذا اجتمعوا كل واحد كذب على الآخر، حتى قال بعضهم: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود، لكن في النهاية قال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياءً أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياءً ما عرفت معناها، قال الأخنس: وأنا، إلى أن قال: خرج الأخنس من عندي حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟
فقال أبو جهل: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاشينا على الركب -أي: تساوينا- وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه وحي من السماء، فمتى ندرك هذا؟ ما معنا إلا أن نكذب فقط، والله لا نؤمن به، ولا نصدقه، قال: فقام من عنده الأخنس وتركه.
فلذلك قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} [سبأ:46] فالإنسان إذا انفرد يكون أقرب إلى قبول الحق، أما أمام الناس، فذلك يؤدي كثيراً إلى حجب الحق والوصول إلى الحقيقة.(66/19)
من آداب المحاورات الإخلاص
الأدب الأخير وهو المهم، وهو الأول والأخير: الإخلاص.
هذه الخصلة من الأدب متممة لما ذكر، من أصل التجرد الذي قلناه قبل قليل في طلب الحق إلى آخره، ومن أجلى المظاهر في ذلك أن يدافع المحاور عن نفسه حب الظهور، والتميز على الأقران، وإظهار البراعة وعمق الثقافة والتعالي عن النظراء والأنداد.
إن قصد انتزاع الإعجاب والثناء واستجلاب المديح مفسد للأمر صارف عن الغاية، وسوف يكون فحص النفس ناجحاً ودقيقاً لو أن المحاور توجه إلى نفسه بهذه الأسئلة، هذا من الأسئلة التي يوجهها الإنسان إلى نفسه، ليختبر إخلاصه، هل ثمة مصلحة ظاهرةٌ ترجى من هذا النقاش وهذه المشاركة؟
هل يقصد تحقيق الشهرة أو إشباع الشهوة في الحديث؟
هل يتوخى أن يتمخض هذا الحوار عن نزاع وفتنة وفتح أبواب من هذه الأبواب التي من حقها أن تسد؟
من التحسس الدقيق ومن تصادق النفس أن يحذر بعض التلبيسات النفسية والشيطانية، فقد تتوهم بعض النفوس أنها تقصد إحقاق الحق، وواقع دخيلتها أنها تقف مواقف انتصار ذات هوى، ويدخل في باب الإخلاص والتجرد توطين النفس على الرضا والارتياح من ظهور الحق كما سبق.
كل المبادئ السابقة الذي يبلورها واقعاً ملموساً ومجسداً هو أن يكون لدى الإنسان الإخلاص الصادق لله عز وجل: بأن يقصد إعلاء الحق والدين، ونفع الناس، وأن يقصد ظهور الحق، ولو على غير يديه، وعلى لسان غيره.
ومما يعينك على الإخلاص أن تعلم أن الآراء والأفكار ومسالك الحق ليست ملكاً لواحدٍ، أو طائفة، والصواب ليس حكراً على واحدٍ بعينه، فَهَمُّ المخلص ومهمته أن ينتشر الحق في كل مكان، ومن أي مكان، ومن أي وعاء، وعلى أي وسيلة.
وإن من الخطأ -وافهموا هذه يا إخواني- إن من الخطأ البين في هذا الباب أن تظن أن الحق لا يغار عليه إلا أنت، ولا يحبه إلا أنت، ولا يدافع عنه إلا أنت، وليس له مخلص إلا أنت، ولا يتبناه إلا أنت، ولا تحرسه إلا أنت، فإن من الجميل وغاية النبل والصدق إحسان الظن بالناس.
ومن الصدق مع النفس وقوة الإرادة أن توقف الحوار إذا وجدت نفسك قد تغير مسارها، ودخلت في مسالك اللجج والخصام ومدخولات النوايا، وأكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(66/20)
الأسئلة(66/21)
ماذا يفعل من له أب يتبنى الأفكار العلمانية؟
السؤال
فضيلة الشيخ: بماذا توجهون شاباً ملتزماً قد ابتلي بأبٍ تقلب في التبني الجزئي والتأثر بعدة اتجاهات واعتقادات كان أولها الشيوعية، ثم الاشتراكية، ثم القومية، وكان ناصرياً، وفي نهاية المطاف بعثياً، هذا بالإضافة إلى انغماسه في النظر الحرام، وسب المسلمين أعني العلماء والدعاة، والجماعات الإسلامية في كل مكان، واتهام نياتهم، والفرح بذبحهم من قبل العلمانيين، ورفض قتل -أحد الناس ذكر اسمه- وهو صاحب لجج وقوة لسان، وهو ممن ينهى بناته عن الالتزام بالدين، وعن المحافظة على الحجاب، وكثيراً ما يقع له مع ابنه نقاش، فيتطور إلى إنكار الأحكام الشرعية، وتأويل النصوص، ثم الطعن في الصحابة، ثم إنكار السنة وثبوتها، ويحصل أن ينطق أحياناً بالكفر الصريح مثل: إنكار ثبوت السنة، فهل أولى لابنه الصبر عليه مع النصح والدعوة، أم يجب عليه رفع أمره للمحكمة الشرعية، وذلك لأنه على هذا المنهج منذ أربعين عاماً؟
الجواب
عليه أن يناصح وأن يستمر معه الحوار، وأن يستمر في الاجتهاد في الدعاء له، ولا شك أن هذا كلام خطير، نسأل الله السلامة، ونسأل الله له الهداية حقيقة، وعليك أن تستمر في مناصحته والجدال معه ما دام أن هناك فرصة للحوار، ونحو ذلك، فأنا أرى أن يستمر معه الحوار؛ لأن القضية -هي كما تعلم- مهمة الدعاة وهي ميراث النبوة، والنبي صلى الله عليه وسلم مهمته البلاغ، وكلف بالبلاغ عليه الصلاة والسلام: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:272] فيجتهد، ولا ييئس أبداً، ولهذا إبراهيم عليه السلام دعا لأبيه، في الحياة وبعد الممات، في الحياة، قال: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم:47] وكان يدعوه كثيراً، وفي منهج إبراهيم ما يرشد السائل، فهو كان رقيقاً، وقال له: يا أبت، ويا أبت، ويا أبت بمنتهى الرقة: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم:43 - 45] إلى آخره، ثم قال: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم:47] فالاجتهاد في الدعاء له، لعل الله سبحانه وتعالى أن يختم له بخير، هذا هو الذي أراه.(66/22)
كيفية محاورة كبار السن
السؤال
فضيلة الشيخ: ما الطريقة المثلى عند محاورة كبار السن، وبخاصةٍ حين يحاجك أحدٌ بقوله: ولو؟
الجواب
كلمة (لو) هي (لا) معقوفة، نحن كنا نحرص ألا تدعه يقول: لا.
لكن أتى بها معقوفة، فلا شك أن المحاورة لا تنتهي، لكن على الإنسان أن يتخير الأجواء؛ لأن كثرة النقاش والجدال مملة، وإذا كان الإنسان كلما جلس أثار نقاشاً، فلا شك أن هذا يجعل الأمر مملولاً، بل يجعل الإنسان مكروهاً، إنما الحوارات تتخير أوقاتها وظروفها ومناسباتها، حتى لا تخرج عن حدود الأدب وحدود المبتغى من قصد الحق والتقريب إليه -كما قلنا- الحوار ليس بالضرورة أن يكون في جلسة واحدة تستكمل فيها القضايا، فربما كان بعضها ممهدات، وبعضها تكون موضحات، وبضعها قد تكون أموراً تقبل النظر والخلاف حيث يكون الأمر فيها سهلاً وواسعاً، وليست كل مسألة لا بد أن نصل فيها إلى رأي موحد؛ كما قال الأخ ناصر: إنه لا بد أن نصل إلى رأي موحد وحاسم، فهذا في بعضها، وبعضها يقبل التنوع واختلاف وجهات النظر.(66/23)
واجبنا تجاه من ينادي باستخراج البطاقة الشخصية للمرأة
السؤال
فضيلة الشيخ: ظهرت في الفترة الماضية في بعض الصحف المحلية -وبالتحديد في جريدة الجزيرة - ظهرت دعوات مشبوهة تدعو إلى استخراج بطاقة شخصية للمرأة السعودية، وبصفتكم أحد أعضاء مجلس الشورى، وكذلك أحد العلماء الأفاضل، ما هو موقفكم في ذلك، والله يرعاكم؟
الجواب
إن هذه القضية فيما يبدو لي تحتاج إلى نظر وقد تعرض على هيئة كبار العلماء، أيضاً القضية يحسم فيها من هذا الباب، حيث أن فيها رأياً، لأن الصورة بذاتها-كما تعلمون- في مجالات أذن فيها، كما في الجواز وفي غيره، والقضية ليست كبيرة من حيث ما يتوصل إليه، لكن يبدو لي أن خروجها من جهة علمية معتمدة لها صفة الرسمية والشرعية هو أولى في قطع النزاع؛ لأنها هي التي تنظر المصلحة والمصالح، أما أن تخاض على مثل ما ذكر الأخ، وتصل إلى حالٍ فيه نوع من التشنج بين الأطراف، ونوع من التدخلات في النيات وفي المقاصد من جميع الأطراف، وكان ينبغي في هذه الأمور- لأنها قضية فعلاً تحتمل النظر، وتحتمل الطرح من حيث المفاسد الشرعية والمصالح الشرعية- أن تنظر فيها جهات شرعية، وتقرر ما تراه في هذا.(66/24)
الحوار في الثوابت الشرعية
السؤال
إذا بادرني شخصٌ ما في الحديث والحوار في قضيةٍ مسلمٍ بها، بم أرد عليه وأجاوبه في مثل هذه الأمور؟
الجواب
حينما نقول مسلمة، نعني أنها مسلمة بين المتحاورين، وقد مثلت بالحجاب، لأنه إذا كان مسلماً، فلن ينازع، ولا يجوز له أن ينازع، ولا يجوز أن يكون الحجاب محل نزاع إلا إذا كان غير مسلم، فذلك شيء آخر، فتحتاج عندها أن تخرج من هذه القضية إلى أن تثبت له أن الإسلام حق، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق، وهذه قضية خطيرة، أما إذا سلم بأن الإسلام حق، وأن القرآن حق، فعندها تكون القضية ليست محل جدل إلا في الأشياء الفرعية -كما قلنا لكم- فبعض القضايا في تفريعاتها قد تكون صورة من صور الربا محل نزاع، هل هي ربا أو لا؟ هذا شيء آخر، ومثل كشف الوجه، فلا شك أن ذلك محل خلاف، فهذه تقبل النقاش، وتقبل الطرح.(66/25)
الحوار مع أهل البدع
السؤال
ذكر عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة أنهم إذا تناقشوا مع أهل البدع كانوا يردون عليهم بشدة وعبارات قوية، فما رأيك في ذلك من حيث كون الحوار يتطلب الانفعال؟ كذلك ذكر عن بعض الأئمة أنهم يرفضون الحوار مع بعض أهل البدع، بل يأمرون بعدم الرد عليهم مطلقاً.
الجواب
هذا يختلف، ذكرنا أنه في بعض الأحيان قد تحتاج إلى نوع من الشدة، إذا كان عند المحاور عناد، لكن هذه استثنائية، فما نقل عنهم هو من هذا الباب، وكذلك أيضاً عندما ينقل عدم الحوار، لأن ذلك قد يكون فيه إظهار البدعة، ولهذا الإمام أحمد يقول: لا نرد عليهم، لأن في الرد إظهاراً، وإذا كان كذلك، فلا نقبل حوارات في أشياء والناس عنها في غفلة، فإن ذلك يؤدي إلى البلبلة، إنما نحاور في الأشياء التي يفيد فيها الحوار، هذا الذي يحمل عليه ما نقل عن السلف رحمهم الله، وقد نقل عنهم أنهم ناقشوا وجادلوا وألفوا في الردود كما تعلم، وفي بعض الأحيان سكتوا، فيحمل ما روي عنهم على هذا كما هو واضح.(66/26)
الجدل المذموم
السؤال
ذكر طوائف من السلف ذم نوعٍ من الجدل والكلام، أرجو من فضيلتكم بيان هذا النوع، وهل من هذا الجدل الخوض في بعض القضايا الأدبية مما لا ثمرة له عقلية، أو شرعية، أو عملية؟
الجواب
لا، الجدل الذي ذموه الجدل المنطقي الذي لا يؤدي إلى الحق، وإنما ينتج عنه بلبلة، وسفسطة، فإن نصوص الكتاب واضحة في الحوار الذي يقصد به الوصول إلى الحق، والمنطق نفسه تكلموا في حله أو حرمته، أما ذات النقاش والحوار، فهذا ليس محل خلاف.
الحوار إذا كان بين متخصصين، مثل: متحاورين يتحاورون في قضية جغرافية فليس هناك إشكال، أو بين متخصصين في اللغة العربية يتحاورون في اللغة العربية، لا يهمنا، فكل حوار في تخصصاتهم فيه فائدة، لكن لن تكون ثمرته كثمرة قضية الحلال أو الحرام، أو قضية للناس كلهم فيها تأثيم، وفيها وزر، فإذا كانت قضايا فكرية تتعلق بتخصصاتهم، فمن المعلوم أنه لا حجر فيها، إنما لا ينبغي أن تطرح على الناس بحيث تؤدي إلى بلبلة، أو تؤدي إلى الدخول في قضايا تمس معتقدات الناس.
من النكت التي تقال: أن شيخاً كان يدرس النحو في المسجد، طبعاً يسأل بعض الطلاب، فقال لبعض الطلاب: أعرب، فأعرب، فكانت الجملة فيها الباء حرف الجر، فقال: مثلاً بمحمدٍ، الباء حرف جر، فالذي بجانبه سمع، فذهب إلى عمه فقال: إن الشيخ يقول: إن البحر انفجر، فأحياناً تطرح أشياء للعامة لا تفهمها، فينبغي أن تحدد أطر الحوار وحدود الندوات وغير ذلك.(66/27)
استقيموا ولا تطغوا
الاستقامة كلمة جامعة لشرائع الدين من قيام بين يدي الله والصدق معه والوفاء بعهده، والاستقامة أمرها عظيم، وقد أمر بها الأنبياء والرسل، وهي شاقة على النفس، فتحتاج إلى المراقبة والملاحظة والتسديد والمقاربة، ومدار تحقيق الاستقامة على حفظ القلب واللسان، فمن صلح قلبه صلح حاله، وهي أعلى مقامات الدين، وأحق من يحفظ حق الاستقامة ولاة أمور المسلمين؛ لأن المسئولية المنوطة بهم كبرى والأمانة عظمى، والواجب على الرعية حفظ حقوق ولاة الأمر والسعي في الطاعة والصلاح.(67/1)
معنى الاستقامة
الحمد لله سلك بأهل الاستقامة سبيل السلامة، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، بوأ المتقين في دار المقامة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدخرها ليوم القيامة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، فاز من جعله إمامه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أهل الفضل والكرامة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله.
يقول الله عز وجل في محكم التنزيل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:13 - 14].
أيها المسلمون: الاستقامة كلمة جامعة تأخذ بمجامع الدين، الاستقامة قيام بين يدي الله بما أمر الله، والتزام بالصدق مع الله، ووفاء بالعهد مع الله، فالاستقامة: لله وبالله وعلى أمر الله {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف:13] فكما استقاموا إقراراً استقاموا إسراراً، وكما استقاموا قولاً استقاموا عملاً، لقد جمعوا بين أصلي الكمال في الإسلام: الإيمان والاستقامة.
فالإيمان بالله: كمال في القلب بمعرفة الحق، والسير عليه معرفة بمقام الربوبية والألوهية، معرفة بالله رباً حكيماً إلهاً مدبراً معظماً في أمره ونهيه، قد عمر القلب بخوفه ومراقبته، وامتلأ منه خشية وإجلالاً، ومهابةً ومحبة، وتوكلاً ورجاءً، وإنابة ودعاء، أخلص له في القصد والإرادة، ونبذ الشرك كله وتبرأ من التعلق بغير ربه، والاستقامة اعتدال في داخل النفس من غير عوجٍ يمنة أو يسرة، وانتهاج للتقوى والعمل الصالح، والتزامٌ بالتواضع من الرأي والعلم والعمل، وقيام بأداء الفرائض واجتناب النواهي، وقول بالحق وحكم به، وبعد عن مواضع الشبه وموارد الفتن.
{قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف:13] إذا تمكن ذلك في العبد وتحقق، ظهر ذلك طمأنينة في النفس، ورقة في القلب وقرباً من الرب، إيمان واستقامة ينجلي بها الليل البهيم لذي البصر السقيم، وينسكب على القلوب الظامئة فترتوي، ويغشى النفوس العاصية فتستكين، ويهيمن على القلوب الشاردة فترجع وتئوب.(67/2)
بيان أهمية الاستقامة وعظم شأنها
بالاستقامة أُمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112] {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى:15] وبالاستقامة أُمر النبيان الكريمان، موسى وهارون عليهما السلام: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:89].
أيها المسلمون: استقيموا كما أمرتم ولا تطغوا، استقيموا ولا تتبعوا الهوى، استقيموا ولا تتبعوا سبيل الذين لا يعلمون.
أيها المسلمون: الاستقامة شاقة؛ فالنفس معها تحتاج إلى المراقبة والملاحظة، استقامة لا تتأثر بالأهواء، استقامة تحقق العدل والتوحيد، استقامة بعيدة عن المجاوزة والطغيان، يقول عمر رضي الله عنه: [[الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب]].
وأوضح من ذلك وأبلغ إرشاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما إذ قال له: {يا عبد الله بن عمرو! إن لكل عالم شِرة، ولكل شِرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي أفلح، ومن كانت فترته إلى بدعة خاب وخسر}.
ويقول بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان، إما إلى تفريط وإما إلى مجاوزة، ولا يبالي بأيهما ظفر، زيادة أو نقصاناً.(67/3)
سددوا وقاربوا
أيها الإخوة: الأمر خطير فبعض الناس قد لا يفوته علم أو عبادة، ولكن يفوته التوفيق والصواب، استقامة في اقتصاد، وعمل بعد علم، وإخلاص في القلب، ومتابعة للسنة، اقتصاد يعصم عن بدعة التفريط والإضاعة، ويحفظ من حد الغلو والإسراف والمجاوزة، ونظراً لعظم الأمر ودقته فقد وجهكم نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: {استقيموا ولن تحصوا} وبقوله: {سددوا وقاربوا} وقبل ذلك: أمركم ربكم عز وجل بقوله: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت:6].
فالمطلوب الاستقامة وهي السداد والإصابة، فإن لم يقدر فليجتهد في المقاربة وليستغفر الله، فإن نزل عن ذلك فالخوف عليه من التفريط والإضاعة، استغفار مقارن لمسيرة الاستقامة وجبر للنقص البشري، وتسديد للقصور الإنساني، استغفار وتوبة تعيدان إلى جادة الاستقامة، وتردان إلى مسلك الحق والعدل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود:114 - 115].
{وأتبع السيئة الحسنة تمحها} استقامة مقرونة باستغفار، مما يعني يقظةً دائمة، ومحاسبة صادقة، وضبطاً للانفعالات البشرية.(67/4)
حفظ القلب واللسان مدار تحقيق الاستقامة
إذا كان الأمر كذلك -أيها الإخوة المسلمون- فإن مدار تحقيق الاستقامة على وجهها يكون بحفظ القلب واللسان، فقد جاء عند أحمد من حديث أنس رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: {لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه}.
ولقد كان من دعاء نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم: {أسألك قلباً سليماً، ولساناً صادقاً} فمن صلح قلبه استقام حاله فلم ينظر ببصره إلى محرم، ولم ينطق لسانه بمأثم، ولم تبطش يده في مظلمة، ولم ينهض بقدمه إلى معصية، والأعضاء كلها تكفر اللسان، وتقول له في مطلع كل صباح: {اتق الله فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا} بهذا جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعاً وموقوفاً.(67/5)
ولاة أمور المسلمين أحق من يحفظ حق الاستقامة
إذا كان الأمر كذلك فأحق من يحفظ حق الاستقامة: ولاة أمور المسلمين ورعاياهم: أما ولاة أمور المسلمين: ففرض عليهم الاستقامة على أمر الله، وتقوى الله فيما استرعاهم ربهم من مسئوليات، فمسئوليتهم عظمى، وأمانتهم كبرى، يجب عليهم أن يقيموا دين الله ويحكموا بما أنزل الله، ويطبقوا في الناس شرع الله: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] يقيمون العدل في الأمة ويرعون المصالح ويتفقدون الأحوال، ويرفقون بالرعية ويأمنون السبل، ويفكون المظالم، ويحفظون الدين، وينفذون الأحكام، ويقيمون الحدود، ويولون الأكفاء: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41].(67/6)
حقوق ولاة الأمر على الرعية
أما الرعية: ففرض عليهم حفظ حقوق ولاة أمور المسلمين، والتعاون معهم في أداء المسئوليات، وحمل الأمانات، وتكثير الخير وسبله، وتقليل الشر وموارده، حق لولاة الأمور السمع والطاعة، والدعاء بالتوفيق والتسديد، وبذل النصح والصدق فيه بالحكمة والرفق، والكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، مع حفظ حقهم في الإجلال والهيبة، والتعظيم والتوقير، والحذر من الوقيعة في أعراضهم، والجرأة عليهم بتنقصهم أو الدعاء عليهم فهذا من أسباب تولد الضغائن والأحقاد وفشو التنازع، والطاعة لازمة على المرء فيما أحب وكره، في اليسر والعسر، والمنشط والمكره، إلا أن يأمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة: {إنما الطاعة في المعروف}.
يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: {بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم} متفق عليه.
ومن رأى من أميره شيئاً يكرهه من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية ولا ينزع يداً من طاعة، فإن من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية، والعاصي لا يكفر بالمعصية إن لم يستحلها، وليس من سبيل الاستقامة أن يحمل الحماس بعض الناس على الوقوع في مخالفات الشرع.
فاتق الله يا عبد الله ولا تقل بلسانك إلا معروفاً، ولا تبسط يدك إلا إلى خير، كف عما لا يعنيك، ودع فضول الكلام والنظر، اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره، واجعل شكرك لمن لا ترتفع عنك نعمته، واجعل طاعتك لمن لا غنى لك عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه.
يقول سفيان الثوري رحمه الله: [[عليك بالرجاء لمن يملك الوفاء، وعليك بالحذر لمن يملك العقوبة، وعليك بمراقبة لمن لا تخفى عليك منه خافية]].
أيها الإخوة! أيها الأحبة! هذه هي الاستقامة في حقيقتها وطريقها.
أما جزاء أهلها: فتتنزل عليهم ملائكة الرحمن ألا تخافوا ولا تحزنوا، أمن من المخاوف وسلامة من المكاره، لا يأسون على فائت، ولا يشفقون من مستقبل، مسددون موفقون، محفوظون بملائكة الله من أمر الله، بإذن الله: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [فصلت:31] لهم الأمن في الحال والمآل والنعيم المقيم: {نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:32].(67/7)
الاستقامة أعلى مقامات الدين
أيها الإخوة! الاستقامة في الدين مقام من أعلى المقامات، بها يرتقى لأسمى الكمالات، وأفضل الطاعات مراقبة الله على دوام الأوقات.
أهل الاستقامة لا يصبح الدين عندهم فريسة العابثين، ولا ميدان المتلاعبين، وليس لعبة للمنحرفين، وتقلبات المنافقين، أهل الاستقامة يتواصلون بالدين، لا يحمل بعضهم على بعض ضغينة، ولا تشوبهم ريبة، ولا تسرع إليهم غيبة، في الله يتحابون، وفي دين الله لا يغلون أو يزيدون، ومهما طال عليهم الطريق فلغير دين الله لا يدينون، غير ناكسين في عزيمة، ولا منحرفين عن وجهة، ولا زائغين عن عمل.
أما من قل نصيبه واختلت استقامته، واعوجت مسيرته، فتجرفه أهواء عاتية، وتحرفه أغراض متباينة، لا يحمل رسالة، ولا يقيم دعوة، ينحرف عند أدنى محنة، ويضل عند أدنى شبهة، ويزل لأول بارق شهوة: {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} [الحج:11] دينه ما تهوى نفسه، وعقيدته ما يوافق هواه، هذا حال الفريقين، وهذا مسلك النجدين، فليجاهد العبد نفسه في تحقيق الإيمان والاستقامة، وليسأل ربه الثبات حتى الممات، والحفظ من فتن الشهوات والشبهات، وليعرض عن الجاهلين، وليصفح عن المسيئين.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(67/8)
وقفة مع حديث (قل آمنت بالله ثم استقم)
الحمد لله أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه الجمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بعثه للعالمين رحمة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه خيار الأمة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد جاء سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؟ فقال: قل آمنت بالله ثم استقم} رواه مسلم.
وزاد غير مسلم بسندٍ صحيح قال: {قلت: يا رسول الله! ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: هذا}.
أيها الإخوة: الإيمان دليل الحيران، وعدة المحارب، ورفيق الغريب، وأنيس المستوحش، ولجام القوة، وقوة الضعيف، الإيمان ضرورة للإنسان كي يطمئن ويبقى، وضرورة للإنسان كي يسعد ويرقى، إيمان القرآن والسنة، إيمان الصحابة وتابعيهم بإحسان، علمٌ ونية، وعقيدة وعمل، من أراد السعادة فلا سعادة من غير طمأنينة، ولا طمأنينة بغير إيمان، ومن أراد الحياة الطاهرة فلا طهارة بغير استقامة، ولا استقامة بغير إيمان، والنصر على الأعداء لا يكون إلا بالجهاد، ولا جهاد بغير إيمان، والخير والبركة والرخاء لا تكون بغير أخلاق، ولا أخلاق بغير إيمان، والتعاون بين المسلمين والوحدة بين المسلمين لا تكون بغير إخاء، ولا إخاء بغير إيمان، وأفضل الطاعات مراقبة الله على دوام الأوقات.
فاتقوا الله رحمكم الله، واستقيموا إلى ربكم واستغفروه، ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر والخلق الأكمل.(67/9)
العدل أساس قيام الأمم
احترام العدل تقليد تتوارثه الأمم، وتقيم له الضمانات، وتبني له السياجات، وقد تواطأت على حبه الشرائع الإلهية والعقول الحكيمة والفطر السوية، ولقد دلت الأدلة الشرعية وسنن الله في الأولين والآخرين أن العدل دعامة بقاء الأمم، ومستقر أساسات الدول، وباسط ظلال الأمن، وأن الله ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ويخذل الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة.
ولا أعدل ولا أصدق من عدل شريعة الله، فهي مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد، لا تعبأ بالأنانية والهوى، فهي لمصالح النوع البشري كله، وعدلها ينظم كل ميادين الحياة وشئونها، فهو في الدولة والقضاء والراعي والرعية والأولاد والأهلين، وهو عدل في حق الله وفي حقوق العباد، وهو في الأبدان والأموال والأقوال والأعمال.(68/1)
العدل ومنزلته في الشرع والعقل والفطرة السليمة
الحمد لله يمنُّ بالفضل ويقضي بالحق، ويحكم بالعدل، إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره وهو الغفور الرحيم؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبد الله ورسوله، المبعوث للأحمر والأسود، هدى بإذن ربه إلى أقوم طريق، وأعظم سبيل؛ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون؛ والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوه رحمكم الله، وأحسنوا فهو سبحانه مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.
أيها المسلمون: احترام العدل تقليدٌ تتوارثه الأمم المحترمة وتقيم له الضمانات، وتبني له السياجات من أجل أن يرتقي ويستقر، وإن الحضارات الإنسانية لا تبلغ أوج عزها، ولا ترقى إلى عز مجدها إلا حين يعلو العدل تاجها ويتلألأ به مشرقها، تبسطه على القريب والغريب، والقوي والضعيف، والغني والفقير، والحاضر والباد.
العدل تواطأت على حبه الشرائع الإلهية، والعقول الحكيمة، والفطر السوية، وتمسح بادعاء القيام به ملوك الأمم وقادتها وعظماؤها وسادتها.
حسن العدل وحبه مستقر في الفطر، وكل نفس تنشرح لمظاهر العدل ما دامت بمعزلٍ عن هوى يشوبها في قضية خاصة تخصها.
لقد دلت الأدلة الشرعية وسنن الله في الأولين والآخرين: أن العدل دعامة بقاء الأمم، ومستقر أساسات الدول، وباسط ظلال الأمن، ورافع ألوية العز والمجد، ولا يكون شيءٌ من ذلك بدون العدل.
والقسط والعدل هو غاية الرسالات السماوية كلها: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:25].
إن أية أمة تعطلت من هذه الخصلة الجليلة لن تجد فيها إلا آفات جارحة، ورزايا قاتلة، وبلايا مهلكة، وفقراً معوزاً، وذلاً معجزاً، ثم لا تلبث بعد ذلك أن تبتلعها بلاليع العدم، وتلتهمها أمهات الظلم.
بالعدل قامت السموات والأرض، وبالظلم يهتز عرش الرحمن، العدل مفتاح الحق، وجامع الكلمة، ومؤلف القلوب، إذا قام في البلاد عمر، وإذا ارتفع عن الديار دمر، إن الدول ستدوم مع الكفر ما دامت عادلة، ولا يقوم مع الظلم حق ولا يدوم به حكم.
أيها الإخوة: العدل في حقيقته تمكين صاحب الحق ليأخذ حقه، في أجواء العدل يكون الناس في الحق سواء، لا تمايز بينهم ولا تفاضل، في العدل يشتد عذر الضعيف ويقوى رجاؤه، وبالعدل يهون أمر القوي وينقطع طمعه: {لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279].
أيها الإخوة في الله: وإن أمة الإسلام هي أمة الحق والعدل والخير والوسط، نصبها ربها قوامة على الأمم في الدنيا، شاهدة عليهم في الأخرى، خير أمة أخرجت للناس، يهدون للحق وبه يعدلون، يتواصون بالحق وبالصبر، ويتماسكون في ميادين الخير والبر، ويتسابقون إلى موجبات الرحمة والأجر، أمة أمرها ربها بإقامة العدل في كتابه أمراً محكماً وحتماً لازماً: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء:135].(68/2)
الشريعة الإسلامية والعدل
لا أعدل ولا أصدق ولا أقوى من عدل شريعة الله، فهي مبنية على المصالح الخالصة، أو المصالح الراجحة، بعيدةٌ عن أهواء الأمم وعوائد الضلال، لا تعبأ بالأنانية والهوى، ولا بتقاليد الفساد، إنها لمصالح النوع البشري كله، ليست لقبيلة أو بلدٍ أو جهة: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى:15].
إن الإسلام صدق كله، وعدل كله، خبره صدق، وحكمه عدل: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115].
عدل الإسلام -أيها الإخوة- يسع الأصدقاء والأعداء، والأقرباء والغرباء، والأقوياء والضعفاء، والمرءوسين والرؤساء.
عدل الإسلام ينتظم كل ميادين الحياة ومرافقها ودروبها وشئونها في الدولة والقضاء، والراعي والرعية، والأولاد والأهلين.
عدل في حق الله، وعدل في حقوق العباد، في الأبدان والأموال، والأقوال والأعمال.
عدل في العطاء والمنع والأكل والشرب، يحق الحق ويمنع البغي في الأرض وفي البشر: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته} وفي الحديث الآخر: {ما من أحدٍ يكون على شيء من أمور هذه الأمة فلم يعدل فيهم إلا كبه الله في النار} أخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه.(68/3)
العدل المأمور به(68/4)
من العدل توحيد الله وعبادته
إن أولى ما يجب الوفاء به من العدل حق الله سبحانه في توحيده وعبادته، وإخلاص الدين له كما أمر وشرع خضوعاً وتذللاً، ورضاً بحكمه وقدره، وإيماناً بأسمائه وصفاته، وأظلم الظلم الشرك بالله، وأعظم الذنب أن تجعل لله نداً وهو خلقك.(68/5)
العدل في حقوق العباد
ثم العدل في حقوق العباد تؤدى كاملة موفورة؛ مالية أو بدنية، قولية أو عملية.
يؤدي كل والٍ ما عليه مما تحت ولايته من ولاية الإمامة الكبرى، ثم نواب الإمام في القضاء والأعمال في كل ناحية أو منطقة.
في الحديث الصحيح: {إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا} رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وإن ولاة المسلمين حقٌ عليهم أن يقيموا العدل في الناس، فلقد جاء في مأثور الحكم السياسات: لا دولة إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل.
حكم كله عدل ورحمة، في خفض الجناح ولين الجانب، وقوة الحق عدل ومساواة، تكون فيه المسئوليات والولايات والأعمال والمهمات تكليفاً قبل أن تكون تشريفاً، وتبعات لا شهوات، ومغارم لا مغانم، وجهاداً لا إسناداً، وتضحية لا تحلية، وميداناً لا ديواناً، وأعمالاً لا أقوالاً، وإيثاراً لا استئثاراً، إنصافاً للمظلوم ونصرة للمهضوم، وقهراً للغشوم، ورداً للظلوم، ودفعاً للمظالم عن كواهل المقروحة أكبادهم، ورداً لاعتبار من أذلهم البغي اللئيم.
لا تأخذ الأئمة في الحق لومة لائم، ولا تعويص واهن.
وإن حداً يقام في الأرض خير من أن تمطر سبعين أو أربعين صباحاً.
وفي مثل هذا صح الخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أهل الجنة ثلاثة: سلطان مقسط موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، ومسلم عفيف متعفف ذو عيال}.
والإمام العادل سابع سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.(68/6)
نزاهة القضاء من أهم أركان العدالة
أما نزاهة القضاء ونقاء ضمائر القضاة، فحسبك به من عدل وقسط أن صاحب الحق في جو القضاء العادل يشعر بالثقة والأمان في أروقة المحاكم وفي دواوين القضاء، فهو مطمئن إلى عدالة القضية ونزاهة الحكم وشرف ضمائر الحكام، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته، ولأن يخطئ الحاكم في العفو خيرٌ من أن يخطئ في العقوبة.
وهذا ما تعرفه دنيا الحضارات ودين أهل الإسلام.
القاضي العادل يوافي الناس بلحنه ولفظه، في وجهه ومجهوده، لا يطمع شريف في حيفه، ولا ييئس ضعيف من عدله، لا يمضي مع هوى، ولا يتأثر بود، ولا ينفعل مع الروح، لا تتبدل التعاملات عنده مجاراة لصهرٍ أو نسب، ولا لقوة أو ضعف، يزن بالقسطاس، وبالعدل يقضي، يدني الضعيف حتى يشتد قلبه وينطلق لسانه، ويتعاهد الغريب حتى يأخذ حقه، وما ضاع حق غريب إلا من ترويعه وعدم نصرته.
جاء في الخبر عنه صلى الله عليه وسلم: {إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلى الله عنه ولبسه الشيطان} وفي رواية الحاكم: {فإذا جار تبرأ الله منه}.(68/7)
العدل مع غير المسلمين
أيها الإخوة: عدل في كل ميدان، وقسط يكفل الحق لكل الناس، ولو كان من غير المسلمين، ولو كان من الأعداء والمناوئين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
هذا هو العدل العالمي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، عدلٌ يتم فيه ضبط النفس والتحكم في المشاعر.
إنها القمة العلياء والمرتقى الصعب الذي لا يطلبه إلا من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبياً ورسولاً، وبدينه دستوراً وحكماً.
إنه عدل محمد صلى الله عليه وسلم، مكيال واحد وميزان واحد.
ولقد انتظر بكم الزمان -أيها الإخوة- وطالت بكم الحياة حتى رأيتم أمماً آتاها الله بسطة في القوة والسيطرة، فما أقامت عدلاً، ولا حفظت حقاً، ويل لهم وما يخالفون! إذا اكتالوا لأنفسهم يستوفون، وإذا كالوا لغيرهم أو وزنوا فهم يخسرون، ولكن هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم يأبى إلا الحق: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى:15].
إن الأمة لا تصل إلى هذا القدر من السمو ونصب ميزان العدل، إلا حين تكون قائمة بالقسط لله، خالصة مخلصة، قد تلبست بلباس التقوى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8].
والفئة الباغية إذا فاءت إلى أمر الله ودخلت في الطاعة، فإن حقها في العدل محفوظ: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9].(68/8)
العدل في الأقوال
والعدل -أيها الإخوة- كما يكون في الأعمال والأموال فهو مطلوب في الأقوال والألفاظ: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152].
ولعل العدل في الأقوال أدق وأشق، وصاحب اللسان العدل يعلم أن الله يحب الكلام بعلم وعدل، ويكره الكلام بجهل وظلم {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33].
تأملوا هذا الإنصاف النبوي في القول، حينما أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكمه على كلمة قالها شاعر حال كفره، حين قال عليه الصلاة والسلام: {أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل}.
ثم هاهو عثمان بن مظعون رضي الله عنه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم يسمع البيت كاملاً، فيترتب النهج المحمدي نفسه بالتقويم والعدل، فيحق الحق ويقول القسط، فقال في شقه الأول: [[صدقت، ولما قال الشطر الثاني: وكل نعيم لا محالة زائل.
قال: كذبت، نعيم الجنة ليس بزائل]].
أيها الإخوة: لم يكن كذب الشاعر في الشطر الثاني بمانع عثمان رضي الله عنه من أن يقر له بالقسط والحق في شطره الأول.
وهذا علي رضي الله عنه يقاتل من خرج عليه، فلما سئل عنهم أمشركون هم؟ قال: [[هم من الشرك فروا، قيل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، قيل: فما هم يا أمير المؤمنين؟! قال: هم إخواننا بغوا علينا؛ فقاتلناهم ببغيهم]].
ومن لهذا العدل من القول غير أبي الحسن رضي الله عنه وعن ذريته الطيبين الطاهرين؟! وهل بعد هذا الإنصاف من إنصاف؟!
والنووي رحمه الله يقول: وينبغي ذكر الفضل لأهل الفضل ولا يمنع منه شنآن أو عدل، والعبد إذا وجد العدل وحب القسط، علم الحق، ورحم الخلق، واتبع الرسول، واجتنب مسالك الزيغ والبدع، هكذا يقرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.(68/9)
ثمرات العدل
أيها الإخوة: إذا ساد العدل حفظت الحقوق، ونصر المظلوم، وولت الهموم، وأدبرت الغموم، أما حينما يتجافى الناس عن العدل، ويقعون في الظلم، فإنه ينبت فيهم الحقد والقطيعة والفرقة وذهاب الريح.
من تجافى عن العدل دخل دائرة الظلم، يأخذ ولا يعطي، ويغلب ولا ينبل، يأخذ الذي لا يستحق، ويمتنع عما يحق، تغلبه مسالك المنافقين: {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154] {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:48 - 49].
إن الحيف وسلب الحقوق وإهدار الكرامات مبعث الشقاء ومثار الفتن.
إن قوماً يفشو فيهم الظلم والتظالم، وينحسر عنهم الحق والعدل إما أن ينقلبوا بفساد وإما أن يتسلط عليهم جبروت الأمم، يسومونهم خسفاً، ويستبدونهم عسفاً، فيذوقوا من مرارة العبودية والاستذلال ما هو أشد من مرارة الانقراض والزوال.
وبعد -أيها الإخوة- فإن الظلم خراب العمران، وخراب العمران خراب الأمم والدول.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك رغد العيش بعد الموت، ونسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.
اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين، وبالحق والعدل قائمين، استجب اللهم يا رب العالمين!
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(68/10)
أهمية العدل بين الأولاد والزوجات
الحمد لله؛ شمل الأنام بواسع رحمته، وصرف العالم ببالغ حكمته، لا يشغله شأن عن شأن وهو الحكيم الخبير، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أصدق الناس في الأقوال وأرشدهم في الأفعال، وأعدلهم في الأحكام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحبٍ وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس، واستقيموا إليه واستغفروه، وأعدوا من الأعمال الصالحة ما يقربكم لديه.
أيها الإخوة: وكما يكون العدل في الأبعدين فهو كذلك في الأهلين والأقربين، وأحق الناس بالعدل أبناؤك، فمن ابتغى بر أبنائه وبناته، وأن يحبوه في حياته، ويترحموا عليه بعد مماته، وتصفو قلوبهم فيما بينهم، فليتق الله وليقم العدل فيما بينهم، وليسوِّ بينهم في العطية والمعاملة والنظرة والابتسامة.
وليتق الله أولئك الذي يحرمون بعض المستحقين من الذرية في عطية أو وصية، فذلك حرام وجور وظلم، والوصية به وصية ظلم وجور ومخالفة للعدل والحق، لا يجوز نفاذها ولا إنفاذها، وتلك أفعال شنيعة وظلم مهلك، تقوم به الخصومات، وتثور به الأحقاد، وتقع به المظالم، وتتقطع به الأرحام.
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: {أن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا أرضاً كانت لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا، قال عليه الصلاة والسلام: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم، قال: فرجع أبي فرد تلك العطية} متفق عليه.
وفي رواية: {إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم، فلا تشهدني على جور؛ أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فإذاً سووا بين أولادكم في العطية كما تحبون أن يسووا بينكم بالبر}.
والعدل في المعاملات الزوجية فرض وحق واجب في النفقة والكسوة والمعاملة والعشرة، كما يفعل الكرماء من ذوي العقل والدين والمروءة والكمال، تطعمها مما تطعم، وتكسوها مما تكتسي.
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كانت عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط -وفي رواية: وشقه مائل-}.(68/11)
في ظلال العدل والإحسان
أيها الإخوة: حينما تتشرب النفوس العدل، فيكون سجية لها، فإنه يقودها إلى محاسن الأخلاق، ومكارم المروءات، عدل في السلوك كله، وسط بين الإفراط والتفريط، جود وسخاء من غير سرف ولا تقتير، وشجاعة وقوة من غير جبن ولا تهور، وحلم وأناة من غير غضب ماحقٍ أو مهانة مردية، وكل تعاملٍ فقد العدل فهو ضرر وإضرار، وفساد وإفساد: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود:85].
وفي ديننا -أيها الإخوة- مرتبة فوق العدل، قد أمر الله بها مقترنة بالعدل، مرتبةٌ تأتي لتجمل وجه العدل الصارم، وتظهر وجهه الجازم الحازم، إنها مرتبة الإحسان، حين تدع الباب مفتوحاً لمن يريد أن يتسامح في بعض حقوقه، إيثاراً لود القلوب، وشفاءً لغل الصدور، ليداوي جرحاً ويكسب فضلاً، ويرتفع عند ربه درجاتٍ عُلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].
هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عز قائلاً عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واخذل الكفرة والطغاة والملحدين، وانصر عبادك المؤمنين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجمع به المسلمين على كلمة سواء يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم وأيدهم وقو عزائمهم، واجمع كلمتهم، وسدد سهامهم وآراءهم، واجعل الدائرة على أعدائهم يا قوي يا عزيز!
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ، وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(68/12)
الوقائع والمتغيرات وضوابط النظر فيها في اجتهاد الفقهاء
المتغيرات لا تتحدد، والوقائع لا تتناهى، والاجتهاد لا بد منه؛ ليفسر النصوص وينظر في الوقائع.
ومعلوم أن مصادر التشريع الأساسية هي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وهناك مصادر تبعية لهذه المصادر، ومنها الاستحسان والعرف والمصالح المرسلة، وهناك ضوابط للنظر في هذه المصادر.(69/1)
بيان الترابط بين الدين والحياة
الحمد الله الذي أكمل الدين، وأتم النعمة، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
للحياة سمة هي التغير، وللدين سمة هي الشمول، وبين هاتين السمتين ترابط واتصال هذا بيانه:
إن أحوال الناس وتصرفاتهم تختلف باختلاف النسب الزمانية والمكانية والعرفية وغير ذلك.
فمن التغير تغير الاصطلاحات، فتنصرف العبارة عن معنىً إلى معنىً آخر، بحسب البلد أو الزمن المستعمل لذلك الاصطلاح.
ومن التغير تغير الحال من الوضع المعتاد إلى وضع الحاجة أو الضرورة.
ومن التغير تغير الأعراف، فيكون شيء ما قبيحاً في بلد، وهو في بلد آخر حسن غير قبيح.
ومن التغير تغير الوسائل، فلقد كان الناس في الماضي ينتهجون في معاملاتهم المالية نهجاً غير معقد، بينما هم اليوم يتعاملون عبر مؤسسات مالية طرق التعامل فيها شديدة التعقيد، وغير هذه الصور كثير، فإن المتغيرات لا تتناهى ولا تنقضي إلا بانقضاء الحياة ذاتها، هذا هو شأن الحياة.
أما الشريعة: فجاءت لتكون الشريعة الخاتمة الشاملة الصالحة لكل زمان ومكان، وشريعة بهذه المثابة لابد أن تستوعب الحياة كلها، ثابتها ومتغيرها، ولابد أن تنتظم كل فعل من أفعال المكلفين.
وإن العالم المسلم اليوم يريد أن يصحو صحوة رشيدة، وينهض نهضة قوية.
ولكننا نعلم علم اليقين أنه ما لم يواكب تلك النهضة فقه رشيد سديد يتصدى به أهل العلم لمتغيرات الزمان؛ فيجتهدون في استنباط الأحكام لها؛ فإنه ستكون فتنة مبناها على أحد منزعين:
الأول: الجمود.
والثاني: الانفلات.
وقد رُئِيَتْ بوادرهما، فهناك أقوام ممن وهت صلتهم بالكتاب والسنة وكلام أهل العلم، أطلقوا دعاوى التجديد والتطوير وتغير الأحكام بتغير النسب، وجعلوا تلك الدعاوى تكأة يتكئون عليها، وهم يدعون إلى الانحلال أو الخروج عن أحكام الدين.
وفي المقابل جمد فريق على الماضي وأساليبه وطرائقه، فلم يواكبوا ولم يستوعبوا مستجداته.
وهذا كله يبين مدى الحاجة إلى تصدي أهل العلم للمتغيرات؛ حتى يستنبطوا الأحكام لها، لئلا يصبح الدين كلأً مباحاً يرتع فيه كل ضال.
إن أحكام المتغيرات لا تُلْقى جزافاً بلا حجة ولا برهان، بل هناك أصول صحيحة وقواعد قويمة وضوابط متينة، يبني عليها الفقيه اجتهاده، ويجب ألا يتصدى لهذه المتغيرات وتأصيل منهجها إلا قوم ممن جمعوا بين التأصيل العلمي العميق والفهم الواقعي الدقيق، ونحسب أن فضيلة محاضرنا الشيخ الدكتور: صالح بن عبد الله بن حميد من أولئك، فقد هيأ الله عز وجل له المنبت الحسن، فهو ابن سماحة الإمام العلامة الفقيه: محمد بن عبد الله بن حميد أسبغ الله عليه شآبيب رحمته، وزانه الله عز وجل بالعلم، حيث أخذ عن والده علوم الشريعة واللغة، كما تلقى تعليماً نظامياً حتى حصل على درجة الدكتوراه عام (1402هـ)، ونفع الله عز وجل به؛ فتصدر لتعليم الناس وإفتائهم، فدرس في كلية الشريعة وفي المسجد الحرام ولا زال، وتدرج في عدة وظائف، وهو الآن نائب الرئيس العام لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي، وإمام المسجد الحرام وخطيبه.
وله مؤلفات عدة منها رفع الحرج في الشريعة ضوابطه وتطبيقاته، وكتاب تلبيس مردود في قضايا حية وتوجيهات وذكرى وهو ديوان خطب، وهو عضو في عدد من المجالس والهيئات العلمية.
ونسعد في هذه الليلة بسماع محاضرة لفضيلته، عنوانها المتغيرات وضوابطها في اجتهاد الفقهاء، وستكون محاضرة فضيلته في ضوء المحاور الآتية:
الأول: مصادر التشريع.
الثاني: ضوابط النظر في المتغيرات.
الثالث: تطبيقات لبعض مجتهدي الفقهاء في النظر إلى المتغيرات.
ولعل من الطالع أن تكون هذه المحاضرة هي فاتحة محاضرات النشاط الثقافي بمركز الملك فيصل هذا العام، فباسم المركز نرحب بفضيلة الشيخ الدكتور: صالح بن عبد الله بن حميد، ونشكر له استجابته لهذه الدعوة، كما نرحب بالأساتذة والإخوة الكرام والحضور، وقبل أن أترككم مع فضيلته أدعو الأساتذة الراغبين في التعليق أن يتكرموا بكتابة الاسم حتى تُنَظَّم التعليقات حفاظاً على الوقت، كما أدعو الإخوة الراغبين في طرح الأسئلة أن يكتبوا أسئلتهم، وأترككم مع فضيلته، داعياً الله عز وجل أن ينفعنا بعلمه، وأن يجزيه عنا خير الجزاء.(69/2)
تصحيح ضبط العنوان
أحمد الله تبارك وتعالى، وأصلي وأسلم على رسوله وخيرته من خلقه، سيدنا ونبينا محمد سيد الأولين والآخرين، والمبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الأساتذة الفضلاء! أيها الإخوة الأعزاء! بعد حمد الله وشكره، أشكر لمؤسسة الملك فيصل -رحمه الله- الخيرية دعوتها لأشرف بالوقوف أمامكم في هذا الجمع الكريم وفي هذا اللقاء الطيب المبارك بإذنه تعالى؛ لأتحدث إليكم حديثاً حددت المؤسسة عنوانه، وأرسلت إلي باقتراحات حول أطره، ولقد حرصت أن ألتزم بهذه الأطر؛ لأنها كانت أطراً علمية ومدروسة، وهذا شأن المؤسسات العلمية التي تعرف ما يصدر عنها، وتحترم نفسها كما تحترم كل ما يتعلق بها.
والموضوع لعل الزميل الشيخ الفاضل الأستاذ: عبد الرحمن أتى بلبه، وأتى بشيء كثير من تأصيله، ولا أبالغ إن قلت: وبعض التفصيل.
غير أن ما أستفتح به هذا الحديث إليكم، هو أن لي نظراً في تغيير العنوان، لكني أرجو أن يكون داخلاً في المتغيرات ذات الضوابط إن صح هذا التعبير؛ لأن العنوان الذي اختاروه هو: " المتغيرات وضوابطها في اجتهاد الفقهاء " والواقع أن المتغيرات لا تنضبط، كما أشار الزميل في مقدمته وكما سوف تسمعون، وهذه سنة الله عز وجل كما هو ملحوظ، وسننه في خلقه وفي هذه الدنيا -لما تقتضيه طبائع الناس حسب ما أودع الله فيهم- متغيرة.
لكن الانضباط هو في النظر، ضوابط للنظر وليس ضوابط للمتغيرات، ولهذا أستحب أن يكون العنوان هكذا " الوقائع والمتغيرات وضوابط النظر فيها في اجتهادات الفقهاء " فإن هذا أدق لبيان المقصود، وإن كان العنوان مفهوماً وكما في الموجز الذي سمعتموه واضحاً، ولكن كعبارة أكثر علمية وأكثر التزاماً بالقيود، ينبغي أن يكون الاسم هكذا: " الوقائع والمتغيرات وضوابط النظر فيها "؛ لأن المتغيرات لا تنضبط، والوقائع لا تتناهى، إنما الضابط في النظر أي في الاجتهاد؛ ضوابط الاجتهاد ضوابط الاستنباط قواعد الاستنباط أصول الاستنباط، هذه هي التي ينطلق منها المجتهد وينطلق منها المستنبط الراسخ.
وفي كلامه عني شيء من الغلو، وإن كانت رسالة الأستاذ عبد الرحمن في الماجستير عن الغلو كما علمت، لكنه غلا بعض الشيء فيما سمعتم من تقديم لهذا المتحدث أمامكم، فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يسامحه وأن يغفر لي وله ولكم.
والعنوان كما أسلفت " الوقائع والمتغيرات وضوابط النظر فيها في اجتهادات الفقهاء ".(69/3)
شمولية الشريعة وعمومها
نزلت شريعة الإسلام على الأرض وحياً من عند الله عز وجل وتبارك على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قرآناً وسنة، تحمل في أصولها ما يعالج قضايا الاعتقاد، ويرسي قواعد العدل والمصلحة والرحمة في الأحكام، وخلود الشريعة وكمالها وتمام النعمة بها يصدق بنصوصها وأصولها الثوابت، ينضم إلى ذلك مجالات الاجتهاد النابعة من أصالة الفكر في تفهم تلك النصوص ومقرراتها وفي حسن تطبيقها على كل ما يجد في الحياة من وقائع، وما يلم بها من تطورات وتطويرات ومتغيرات بسبب إحداثات الفكر الإنساني، وتلون البيئات، والتحولات في المجتمعات، وما تقتضيه سنن الله عز وجل في هذا.(69/4)
معنى الاجتهاد
والاجتهاد في تفسير النصوص أو النظر في الوقائع لتنال حكمها في الشرع طريقه إما بالنص المنصوص عليه، وإما فهم النص فيما لم ينص عليه، ولا يكون ذلك إلا لذي الرأي الحصيف المدرك لعلم الشرع الشريف.
وفي هذا يقول الغزالي: وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، وميدان هذا علم أصول الفقه؛ فإنه يأخذ في هذا سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسليم اهـ.
وذلكم هو ميدان الاجتهاد، من أجل تحصيل الحكم الشرعي في مسألة غير منصوصة، وبتعبير آخر فالاجتهاد هو بذل المجهود في طلب المقصود من جهة الاستدلال، هكذا عرفه الجرجاني في تعريفاته.
والاجتهاد يشمل الدقة في فهم النص وفي طريقة تطبيق حكمه، أو في مسالك ذلك التطبيق على ضوء الملاءمة بين ظروف النازلة التي يتناولها النص، والمقصد الذي يستشرفه النص نفسه من تطبيقه، يوضح ذلك الإمام شمس الدين ابن القيم رحمة الله عليه في عبارة سلسة مبيناً نهج الصحابة رضوان الله عليهم فيقول: " فالصحابة رضوان الله عليهم مثلوا للوقائع بنظائرها، وشبهوها بأمثالها، وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها، وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد، ونهجوا لهم طريقه وبينوا لهم سبيله اهـ.
وليس المقصود بالاجتهاد التفكير العقلي المجرد، فهذا ليس منهجاً مشروعاً، بل هو -أعني التفكير العقلي المجرد- افتئات على حق الله في التشريع، حتى لو كان جاداً بعيداً عن الهوى، مادام أنه لم ينطلق من مفاهيم الشرع ومبادئه وأصوله وحقائق تنزيله ومثله العليا ومقاصده الأساسية.
ومن أجل هذا فإن نطاق الاجتهاد الشرعي يتمثل بفهم النصوص الشرعية وتطبيقاتها ودلالتها وقواعد الشرع المرعية.(69/5)
مصادر التشريع
بعد هذه التقدمة الإجمالية أقول: إن من المعلوم أن مصادر التشريع الأساسية هي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ثم بعدها مصادر توصف بالمصادر التبعية، وأحياناً يعبر عنها بالمصادر المختلف فيها، أي أنها مبنية على المصادر السابقة -الكتاب والسنة والإجماع والقياس- ومنبثقة منها وفي إطارها، لا تعدوها ولا تخرج عنها.
وهذه المصادر يوجد اختلاف في اعتبار بعضها لدى المجتهدين من أهل العلم.
ومن أبرز هذه المصادر التبعية: المصلحة المرسلة العرف الاستحسان الاحتياط سد الذرائع قاعدة الضرر والضرورات عموم البلوى الاستصحاب والبراءة الأصلية.
والمقام لا يتسع لبسط القول في هذه المصادر كلها، وإن كانت مناسبة الحديث تقتضي ذلك، ولكن محدودية الوقت ومزاحمة العناصر الأساسية لأصل الموضوع تلجئ إلى الاختصار، فأستسمح الحضور الكرام العذر في بعض الاقتضاب، الذي أرجو ألا يكون مخلاً.
وفي مدخل هذا الموضوع أقول: إن هذه المصادر من العرف والاستحسان والمصلحة هي المحك الدقيق، والمرتقى الصعب في النظر فيما بسطه علماء الأصول والقواعد -رحمهم الله- حينما بحثوا في أعراف الناس وحاجاتهم وضروراتهم وأثر المتغيرات والأحداث على استمساكهم بدينهم وعلى انتظام أمور معاشهم، وكان ذلك معتركاً دقيقاً يجب التثبت فيه على ما سيتبين إن شاء الله.
وعليه فإن الحديث سيكون متناولاً ثلاث قضايا رئيسية:-
أولاها: استعراض لبعض هذه المصادر التي نعتبرها قواعد أساسية تنطلق منها أحكام التغيير المنبنية على هذا التغيير، على أنني سوف أنهي الحديث عن كل مصدر بما يضبطه بخصوصه.
ثانيها: ضوابط عامة في النظر في المتغيرات.
ثالثها: نماذج من الاجتهادات الفقهية في هذا المضمار.(69/6)
تعريف عام لبعض مصادر التشريع(69/7)
المصلحة المرسلة وضوابط الأخذ بها
وسوف يقتصر الكلام على المصادر التالية: المصلحة المرسلة، الاستحسان، سد الذرائع والاحتياط، عموم البلوى، العرف.
المصلحة المرسلة هي: المصلحة التي شهد الشرع لجنسها، بمعنى: أنها تدخل تحت أصل شهدت له النصوص في الجملة، وليست هي المصلحة الغريبة التي لم تشهد النصوص لنوعها حتى تكون قياساً، ولا لجنسها حتى تكون استدلالاً مرسلاً، فهذه الأخيرة ليست حجة عند أحد من الأئمة، والغزالي الشافعي والشاطبي المالكي يحكيان إجماع أهل العلم على رد المصالح الغريبة، ويدخلانها في باب الاستحسان الذي رده الشافعي وشدد النكير على القائلين به، وهو غير الاستحسان الذي روي عن مالك وأبي حنيفة رضي الله عنهما، فهذا الأخير استدلال بنص أو إجماع أو عرف أو مصلحة في مقابلة عموم أو قياس، وهو الذي سوف تأتي الإشارة إليه.
غير أن الأخذ بالمصلحة المرسلة لابد فيه من أمور:-
الأول: أن تكون معقولة، بحيث تجري على الأوصاف المناسبة، التي إذا عرضت على أهل العقول تلقتها بالقبول.
الضابط الثاني: أن يكون الأخذ بها راجعاً إلى حفظ أمر ضروري أو رفع حرج لازم في الدين، بحيث لو لم يؤخذ بالمصلحة المعقولة في موضعها؛ لكان الناس في حرج شديد.
الثالث: الملاءمة بين المصلحة التي تعتبر أصلاً قائماً بذاته وبين مقاصد الشرع؛ فلا تنافي أصلاً من أصوله، ولا تعارض دليلاً من أدلته القطعية، بل تكون منسجمة مع المصالح التي يقصد الشارع إلى تحصيلها، بأن تكون من جنسها وليست غريبة عنها.
ومن أجل هذا -أيها الإخوة- ونحن نتحدث عن الضوابط نقول: إن المصلحة أو الاستصلاح باب واسع ومدخل عريض، قد يدخل منه من لا يفقه في الشريعة ولا يدرك مراميها، ومن هنا منع منها من منع من المجتهدين خشية من هذا الباب، ومن المقرر والمعلوم أن الشريعة تراعي مصالح العباد، وباب الاجتهاد مفتوح فيما لا نص فيه، ولكن للاجتهاد شروطه، وللمصلحة ضوابطها وحدودها، فليس مرد المصلحة إلى تقدير الناس فيما يكون به الصلاح والفساد.
فإذا حسب الناس أن التعامل بالربا -مثلاً- قد بات مصلحة نحتاج إليها، ولا يقوم أمر الناس إلا به، فهو بمقتضى هذا النظر مصلحة حقيقة، وعلى الشريعة بما التزمته من تحقيق مصالح الناس ورفع الحرج عنهم أن تتسع لرفع هذا الحكم؛ لأنه قد رأى ذلك علماء في الاقتصاد، وخبراء في التجارة، من أجل تنشيط الحركة التجارية والنهوض بها.
وقد يتفق علماء التربية وعلماء النفس -مثلاً- على أن الجمع بين الجنسين في مرافق المجتمع يهذب الأخلاق، ويخفف من شدة الميل الجنسي، ويمكن من استخدام كافة القوى البشرية المتاحة من أجل التنمية، فلا يبقى نصف المجتمع معطلاً، فهي مصلحة ينبغي تحقيقها، والشريعة تراعي تحقيق المصالح.
وقد يقول الأطباء: إن لحم الخنزير ليس بمستخبث، وإن أكله لا يعقب أي آثار سيئة في الخلق أو الجسم.
إننا نقول لهؤلاء وأولئك وكل من يسير في ركابهم من المستغربين والمستشرقين والذين في قلوبهم مرض: إن تقدير ما به يكون الصلاح والفساد عائد إلى الشريعة نفسها، وقد وضع ذلك في مقاصد الشريعة الخمسة: حفظ الدين، ثم حفظ النفس، ثم حفظ العقل، ثم حفظ النسل، ثم حفظ المال.
ويبدو لي أن " ثم " هنا استعمالها ليس دقيقاً؛ فأقول: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، وإن كانت قمتها -لا شك- حفظ الدين، بل إن بعض الأصوليين يؤكد هذا: حفظ الدين، ثم حفظ النفس، ثم حفظ العقل إلخ.
وبناءً عليه فإن كل ما توهمه الناس مصلحة مما يخالف تلك الأسس العامة في جوهرها، أو الترتيب فيما بينها -أيضاً- ترتيباً مرعياً، أو يخالف دليلاً من الأدلة الشرعية، من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح، ليس من المصلحة في شيء، وإن توهمه من توهم.
أما نتائج خبرات الناس وتجاربهم، فيجب عرضها على نصوص الشريعة وأحكامها الثابتة، فما وافقها أخذ به، والحكم بذلك للنصوص الشرعية ومقاصد الشريعة، وما خالف ذلك وجب طرحه وإهماله واعتباره مصلحة ملغاة.
ويجب أن يفهم أن الشارع لم يلغ مصلحة دلت عليها تجارب الناس وعلومهم، بل الواقع أن تقدير هؤلاء المجربين والخبراء للمصلحة كان خطأً، صاحبه خلل وفساد نابع من هوى في نفس المجربين، أو خطأ في وسائل التجربة، أو نقص في الاستقراء، فنحن نتهم تقدير هؤلاء، ولا نتهم نصوص الشريعة.
نخلص من ذلك إلى أن الخبرات العادية والموازين العقلية والتجريبية المحضة لا يجوز أن تستقل وحدها بفهم مصالح العباد وتنسيقها.
وهذا فيما يتعلق بالمصلحة.(69/8)
الاستحسان تعريفه وأقسامه
أما الاستحسان فقد عرفه ابن رشد المالكي فقال: إنه طرح لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه، فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنىً يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع.
وعرفه أبو الحسن الكرخي الحنفي حيث قال: الاستحسان هو العدول عن الحكم في مسألة بما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول.
فالاستحسان نوع من الترجيح بين الأدلة، وحقيقته كما يلاحظ وكما يصرح به كثير من الأصوليين أنه أخذ بأقوى الدليلين.
ويقسم الأصوليون الاستحسان إلى أنواع ثلاثة:
أولها: الاستحسان بالنص، وذلك يجري في كل أنواع العقود التي قالوا: إنها على خلاف القياس كالسلم والإجارة والقرض ونحوها، وهي استحسان بالنص لأنها قد ثبتت بنصوص شرعية على غير وفق القاعدة العامة من عدم صحة بيع المعدوم وعقود الربا ونحو ذلك.
وأغلب إطلاقات الاستحسان في كتب الفروع تنصرف إلى هذا النوع، وعلى الخصوص في كتب الفروع عند الحنفية فيقولون: هذا جائز استحساناً، ويعنون هذا النوع من الاستحسان بالنص.
الثاني: الاستحسان بالإجماع.
أي أن سند هذا الاستحسان هو الإجماع كما في مسألة الاستصناع.
الثالث: استحسان الضرورة، كما في مسألة تطهير الحياض والآبار؛ لأن الأصل أن الماء إذا خالطته نجاسة ولو كان كثيراً فإنه ينجس مادام أنه ليس جارياً، ولكن عفي عن ذلك استحساناً للضرورة، ووجه ذلك أن القياس يأبى طهارتها لأن الدلو ينجس بملاقاة الماء، فلا يزال يعود وهو نجس، ولأن نزع بعض الماء لا يؤثر في طهارة الباقي، وكذا خروج بعضه عن الحوض، وكذا الماء ينجس بملاقاة الآنية النجسة، والنجس لا يفيد طهارة؛ فاستحسنوا ترك العمل بموجب القياس للضرورة، فإن الحرج مرفوع بالنص، وفي موضع الضرورة يتحقق معنى الحرج لو أخذ بالقياس.
الرابع: الاستحسان بمعنى القياس الخفي، وقد سمي قياساً خفياً في مقابلة القياس الجلي، وهو القياس المصطلح عليه، والاستحسان بهذا المعنى يقصدون به ما قوي أثره.
ومن أمثلته: طهارة سؤر سباع الطير، فالقياس الجلي أن سؤره نجس لأنه من السباع، ودليل النجاسة حرمة أكل لحمه كسائر السباع، وفي الاستحسان هو طاهر، لأن السبع ليس بنجس العين بدليل جواز الانتفاع به شرعاً كالصيد، وكذا الانتفاع بجلده وعظمه، ولو كان نجس العين لما جاز كالخنزير.
وإن كان بعض التمثيل فيه نظر، فإن الكلب على ما قرره أهل العلم نجس العين وإن كان حلاً صيده.
وسؤر سباع البهائم إنما كان نجساً باعتبار حرمة الأكل؛ لأنها تشرب بلسانها وهو رطب من لعابها، ولعابها متولد من لحمها، وهذا لا يوجد في سباع الطير؛ لأنها تأخذ الماء بمنقارها، ومنقارها عظم، وعظم الميتة طاهر، فعظم الحي أولى؛ فصار هذا الاستحسان وإن كان باطناً أقوى من القياس وإن كان ظاهراً.
وهذا النوع من الاستحسان هو الذي يغلب إطلاقه عند الأصوليين.(69/9)
سد الذرائع والاحتياط
سد الذرائع يعني أن ما كان ذريعة أو وسيلة إلى شيء يأخذ حكمه، فما كان وسيلة إلى الحرام يحرم، وإن كان في أصله حلالاً.
ومعنى هذا أن الأمر الجائز في الأصل يمنع منه في الحالات التي يؤدي فيها إلى ما لا يجوز، فعقد البيع حلال مشروع في أصله لقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] ولكن قاعدة سد الذرائع تقضي ببطلان هذا البيع إذا قصد به المحرم، أو كان الباعث والدافع إليه غير مشروع، كما في بيع السلاح لمن يقتل مسلماً، أو لأهل الحرب، وبيع العنب لمن يتخذه خمراً أو ما شابه ذلك.
أما الاحتياط فهو احتراز المكلف عن الوقوع فيما يشك فيه من حرام أو مكروه.
- مجال الأخذ بالاحتياط: والمكلف يأخذ بالاحتياط في مجالين: في مجال تحقق الشبهة، وفي مجال حصول الشك في الحكم الشرعي.
أما مجال تحقق الشبهة فذلك في الشبهة التي تعرض للمكلف في الأحكام الشرعية.
- أقسام الشبهة: وذلك قسمان:
القسم الأول: شبهة حكمية، أي تقع في الحكم الشرعي بمعنى أن حكم الشارع غير ظاهر من الدليل على وجه العلم أو الظن، وهذه غالباً مختصة بالمجتهدين -مختصة بالعلماء- حينما ينظرون في حديث -مثلاً- ولا يتبين لهم حكم، فتقع شبهة عند المجتهد.
فمعلوم أنه يجتنب مثل هذه التي لم يتوصل فيها إلى يقين أو ظن غالب يفيد الاطمئنان، فهذه لا تكون إلا في مجال المجتهدين والعلماء -أعني الشبهة في الحكم- وهي التي تقع في الحكم الشرعي، بمعنى أن حكم الشارع غير ظاهر من الدليل على وجه العلم أو الظن، وهذا متوجه إلى حكم الشرع نفسه.
ومن هنا تأتي توقفات بعض العلماء والمجتهدين في بعض المسائل من حل أو حرمة أو غير ذلك من أقسام الحكم الشرعي؛ لذا سميت بالشبهة الحكمية.
القسم الثاني: الشبهة المحلية، وهي التي ترد على المحكوم فيه، الذي هو محل الحكم من حيث دخوله تحت حكم الشارع من حل أو حرمة أو غير ذلك.
إذاً: هذه أيضاً مجال ثان من تحقق الشبهة في المحل.
المجال الثاني: الشك في الحكم الشرعي الطارئ بسبب الشك في الواقع، فيطرأ الشك في الحرمة والوجوب أو الإباحة؛ فيحتاط المكلف من نفسه، وذلك بالخروج من دائرة الخلاف؛ فإذا طرأ الشك في الحرمة -أي بين الحل والحرمة- أو بين الوجوب والاستحباب ونحو ذلك، فإن المكلف يحتاط لنفسه، فإنه -مثلاً- لا يخرج من عهدة الواجب إلا بيقين أو ظن غالب إذا كانت المسألة مترددة بين الوجوب والاستحباب.
على أن الاحتياط في جملته مطلوب فيما علم أمره وتحقق فيه يقيناً اختلاط الحلال بالحرام أو ظن ذلك ظناً غالباً -إما يقين أو ظن غالب- وذلك بقرائن وعلامات توصل إلى ذلك، كما لو كان في بلاد المسلمين أو مع فساق لا يتورعون عن اقتراف المنهيات، أما إذا كان في ديار المسلمين ولم يظهر ما يدعو إلى الاشتباه، فلا ينبغي التدقيق والإلحاح في الأسئلة مع أعيان المسلمين، بل قد يصل الأمر إلى تحريم السؤال إذا كان فيه إيذاء لمسلم ظاهره الاستقامة.
- موضع عموم البلوى:
يظهر عموم البلوى في موضعين:
الموضع الأول: ما تمس إليه الحاجة في عموم الأحوال، بحيث يعسر الاستغناء عنه إلا بمشقة زائدة.
الموضع الثاني: شيوع الوقوع والتلبس بحيث يعسر على المكلف الاحتراز عنه أو الانفكاك منه إلا بمشقة زائدة.
إذاً: هو جانبان؛ إما أن يكون مس حاجة وضرورة يحتاجها المكلف، أو جانب بلاء واقع لا يستطيع الإنسان أن ينفك أو يحترز عنه، كأنهما وجهان -كما يقال- لعملة واحدة، ففي الموضع الأول ابتلاء بمسيس الحاجة، وفي الموضع الثاني ابتلاء بمشقة الدفع، ويضبط ذلك ميدانان أساسيان:
الأول: نزار الشيء وقلته، فمشقة الاحتراز من الشيء، وعموم الابتلاء به قد يكون نابعاً من قلته ونزارته، ومن هنا كان العفو عن يسير النجاسات وعن أثر الاستجمار في محله، والعفو عما لا يدركه الطرف وما لا نفس له سائلة، وونيم الذباب -فضلات الذباب- وما ارتش من الشوارع مما لا يمكن الاحتراز عنه وما ينقله الذباب من العذرة وأنواع النجاسات، فهذا يعفى عنه لعموم البلوى لأنه يشق الاحتراز عنه.
الثاني: كثرة الشيء وشيوعه، كما أن عموم الابتلاء ومشقة التحرز قد تكون نابعة من تفاهة الشيء ونزارته، كذلك قد يكون الأمر لكثرته وشيوعه، فيشق الاحتراز عنه ويعم البلاء به.
وقد نبه الغزالي إلى أن الغلبة التي تصلح عذراً في الأحكام ليس المراد بها الغلبة المطلقة، وإنما يكفي أن يكون الاحتراز أو الاستغناء عنها فيه مشقة وصعوبة، نظراً لاشتباهه بغيره من الحلال والمباح، واختلاطه به وامتزاجه معه بحيث يصعب الانفكاك عنه كما هو ظاهر في بعض صور النجاسات والمستقذارت واختلاط الأموال.
معذرةً أحياناً إذا كانت بعض العبارات فيها شيء من الجفاف كما تقتضيه أحياناً بعض العبارات العلمية على أني حرصت حقيقة أن أبسط قدر الإمكان، لكن على كل حال إن كنت أحسنت ففضل من الله، وإن كان غير ذلك فأرجو العفو والمعذرة.(69/10)
العرف
وهو أيضاً مصدر من المصادر، ويراد به: ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول، فهو شامل لما عرفته النفوس وألفته، سواء كان قولاً أو فعلاً، ولا ينكره أصحاب الذوق السليم.
ويحصل الاستقرار في النفوس والقبول للطباع بالاستعمال المتكرر الصادر عن الميل والرغبة.
ويخرج من ذلك العرف الفاسد، وهو ما استقر لا من جهة العقول، كتعاطي المسكرات وأنواع الفجور التي تستقر من جهة الأهواء والشهوات.
كما يخرج ما لم تتلقه الطباع السليمة بالقبول، كالكشف عن العورات وعدم الاحتشام، والألفاظ المستقبحة، فهذه كلها غير داخلة في العرف المصطلح أو المعتبر.(69/11)
إشارات في العرف
ويحسن أن نقف هنا وقفة، ونحن بصدد الحديث عن العرف؛ لأن العرف هو أكثر ما يتشبث به كثير من الذين عندهم شيء من إلمام بالعلوم الإسلامية، أو ما جرى عليه الاصطلاح بالثقافة الإسلامية، وبعض الكتاب ممن يسمون -إن صح التعبير- بالكتاب الإسلاميين يرون كلاماً أو يرون لائحة، أو تبدر بادرة من كلام لبعض إمام من الأئمة؛ فتجده يظن أنه حفظ شيئاً لكنه غاب عنه أشياء.
ولهذا الخوض في العرف والكلام فيه يتلذذ به بعض الناس، لكنه يفقد معايير كثيرة، ومن هنا قد أقف هنا وقفة في هذا الموضوع حتى نشير إلى شيء من ضوابطه.
فأقول: يحسن أن نقف هنا وقفة ونحن بصدد الحديث عن العرف، ووقفتنا ستكون من جانبين:-
من جانب تأكيد العلماء على اعتبار العرف.
ومن جانب تكييف علمي للعرف، وكيف يكون دليلاً شرعياً حيث تناول علماء راسخون قضية تغير العادات والأعراف، وبخاصة أن ذلك مزلق خطير، وقد يكون مركباً أثيراً لبعض المتعالمين أو المغرضين، ووقفتنا هذه ذات شقين:-
أحدهما: تأكيد العلماء في قضية اعتبار الأعراف والعوائد.
ثانيهما: التفسير العلمي الفقهي للمقصود باعتبار الأعراف والعوائد.(69/12)
تأكيد العلماء على اعتبار العرف
يقول الإمام القرافي في الاستمساك بالعرف والنظر فيه، وضرورة أن يفقهه المجتهد، والناظر في الأحكام، والذاهب إلى الاستنباط، يقول: إن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت، وتبطل معها إذا بطلت، وعلى هذا القانون -والكلام للقرافي - تراعى الفتاوى على طول الأيام؛ فما تجدد في العرف اعتبره، وما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين.
ويقرر السيوطي في أشباهه أن العادة والعرف مرجوع إليهما في الفقه في مسائل كثيرة، والحافظ ابن القيم يقول: ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا المفتي الجاهل -بل عبارة ابن القيم أشد من هذا- يضر أديان الناس وأبدانهم، فالله المستعان! انتهى كلام الحافظ رحمه الله.
وابن عابدين الحنفي رحمه الله يزيد الموضوع جلاءً يقول: كثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو لفساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً للزم عنه المشقة والضرر بالناس، ولخالف ذلك قوانين الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد.
ثم قال: ولهذا نرى مشايخ المذهبية -يعني الحنفية- خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة، بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا أخذاً من قواعد المتن.
إذاً: هذا بعض كلام أهل العلم بتأييد الأخذ بالعرف والعادات وانبناء بعض الأحكام عليها.(69/13)
التفسير العلمي والفقهي لاعتبار العرف
أما التفسير العلمي أو الفقهي لاعتبار العرف، فلا ينبغي أن يفهم من اختلاف الأحكام باختلاف العادات أنه اختلاف في أصل خطاب الشرع، بل معنى هذا الاختلاف أن العادات إذا اختلفت اقتضت كل عادة حكماً يلائمها، وسوف نرى هذا بعد تفصيل بعض المسائل التطبيقية، اقتضت فيها كل عادة حكماً يلائمها، فالواقعة إذا صحبتها عادة اقتضت حكماً غير الحكم الذي تقتضيه عندما تقترن بغيرها من العادات.
فإذا جرت عادة قوم باستقباح كشف الرأس كان التعزير بكشف الرأس مجزئاً.
مثلاً: الحكم الشرعي هو التعزير، فتغير الحكم حينما يكون التعزيز بكشف الرأس، وفي بلد لا يكون كشف الرأس قبيحاً فلا يكون ذلك تعزيراً.
فلم يتغير الحكم، وليس تغيراً للحكم ولا تغيراً للدليل ولا للنص، إنما العادة نفسها قد تغيرت نظرة الناس إليها، فكان التغير في الحكم.
فإذا جرت عادة قوم باستقباح كشف الرأس كان التعزير بكشف الرأس مجزئاً، وإذا لم يكن كشف الرأس في عادة قوم مستقبحاً امتنع أن يكون طريقاً كافياً للتعزير.
ولابد للقاضي من اتخاذ طريق آخر كما سيأتي معنا أيضاً في تمثيل العدالة؛ والعدالة معلوم أنها مقصودة ومطلوبة شرعاً، لكن بم تكون؟ أحياناً قد تختلف عادات الناس في أشياء لأنهم ضبطوا العادة بالمروءة، والمروءات أمور مرتبطة بالعادات، فحتى كشف الرأس أحياناً إذا كان مستنكراً في بلد، يكون خلافاً للمروءة، الأكل في الأسواق -وسوف يأتي التمثيل بهذا- كان في زمن من الأزمان وفي بلد من البلدان أمراً مستنكراً، ومن أكل في الأسواق قد يكون في بعض البلدان يخالف المروءة، أما الآن في كثير من البلدان لا يكون مخالفاً للمروءة، ومن هنا لا يقدح في العدالة.
إذاً: العدالة محفوظة والتزام العدالة فيما التزمت به شرعاً من الشهادات وغيرها منضبط ومعتبر، لكن عادات الناس حينما اختلفت وقع مثل هذه.
ولابد للقاضي من اتخاذ طريق آخر في التعزير، يكون له وقع الألم في نفس المستحق للتعزير، فخطاب الشرع الذي تعلق بالواقعة المقتضية للتعزير حال صحبتها للعادة، استقباح كشف الرأس غير الخطاب الذي يتعلق بواقعة مثلها يصاحب عادة عدم استقباح ذلك.
يوضح ذلك أن هناك أوصافاً ربط الشارع الحكم بها، وبنى عليها أمر الناس، فالعدالة -مثلاً- شرط في قبول الشهادة بنص كتاب الله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] وحينما تراجع كلام أهل العلم وتأليفاتهم للعدالة وأوصاف أصحابها، تلاحظ أنهم يربطونها بمألوف الناس، ودلائل التعقل والمروءة، وهذا حق لا مرية فيه، ولكنْ معلوم أن هذا متغير، فما يكون مألوفاً في بلد قد لا يكون في البلد الآخر وكذلك عند اختلاف الزمن.
وليزداد الأمر عندك وضوحاً: السير مكشوف الرأس أو الأكل في الأسواق، كان في يوم من الأيام أو بلد من البلدان مظهراً من مظاهر قلة المروءة، واستمع في ذلك إلى القرافي في فروقه حين يقول:
ما الصحيح في هذه الأحكام الواقعة في مذهب الشافعي ومالك وغيرهما المرتبة على العوائد والعرف الذين كانا حاصلين حالة جزم العلماء بهذه الأحكام؟ فهل إذا تغيرت تلك العوائد وصارت العوائد تدل على ضد ما كانت تدل عليه أولاً، فهل تبطل هذه الفتاوى المسطورة في كتب الفقهاء ويفتى بما تقتضيه العوائد المتجددة، أو يقال نحن مقلدون وما لنا إحداث شرع لعدم أهليتنا للاجتهاد، فنفتي بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين؟
ويجيب على تساؤله هذا رحمه الله ويقول: إن استمرار الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديداً للاجتهاد من المقلدين، حتى يشترط فيهم آلية الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها ونحن نتبعهم فيها من غير استئناف.
من كل ما تقدم يتبين بلا ريب أن للظروف الملابسة للأشخاص أو للوقائع والأحداث أثراً في إدراك العلل وتوجيه الاستدلال بمدركه ودليله وتبين مسالك تطبيقه ضماناً لمشروعية نتائجه، إذ العبرة بالنتائج العملية الواقعة أو المتوقعة، وبيان ذلك أن الظروف المتجددة الواقعة أو المتوقعة والتي تلابس الأشخاص أو الوقائع، ينشأ عنها دلائل تكليفية جديدة تقتضي أحكاماً جديدة تناسبها، وبما أن الظروف تتغاير وتتمايز باضطراب؛ فاقتضى هذا وجوب اعتبارها شرعاً.(69/14)
الضوابط العامة في النظر إلى المتغيرات(69/15)
الأصل في النصوص الثبات والدوام
أما الآن فنأتي إلى الضوابط العامة في النظر إلى المتغيرات:
أشرنا إلى بعض الضوابط في المصادر التي تكلمنا عنها من الاستحسان والعرف والاحتياط وسد الذرائع والبلوى، لكن هذه ضوابط عامة في النظر الكلي أو الإجمالي.
أولاً: لا يجوز أن يفهم مما تقدم أن النصوص غير ثابتة، أو أنها لا تضع تشريعاً دائماً ثابتاً مستقراً شاملاً في الزمان وفي المكان، بل إن ذلك هو الأصل، أعني أن الأصل في النصوص هو الثبات والدوام.
ومن أجل هذا فيجب لزوم الحذر التام من التساهل أمام نصوص الشرع، أو محاولة التحلل منها، فذلك مزلق خطير، ومركب عسير، تزل فيه الأقدام، وتضل الأفهام، وتنهار الأحكام.
إن مما يجب أن يعلم في هذا الباب أن شريعة الإسلام قد حكمت في ديار متباعدة الأقطار، مترامية الأطراف، قروناً متوالية، وأزمنة متتالية، ولاقت مختلف العادات والتقاليد، وعايشت جميع البيئات، وعاشت عصور الرخاء والشدة، والقوة والضعف، واجهت الأحداث في جميع الأطوار؛ فما قصرت عن حاجة، وما عجزت عن واقعة، ولا قعدت عن مطلب.
والأمر الذي يجب أن ننبه إليه، وهو منطلق مهم من منطلقات هذا الحديث، هو أن في سنن الله وفي شرعه عنصرين: أحدهما: ثابت، والآخر: متغير.
فالاستمساك بأحدهما وإهمال الآخر يترتب عليه فساد عظيم، فالاستمساك بالثابت وحده جمود، والاستمساك بالمتغير وحده تسيب وتحلل وانحلال وضياع.
الثابت يجب أن يبقى ثابتاً، بل لا يمكن زحزحته فضلاً عن أن يسعى في زحزحته.
والمتغير طبيعته التغير، وجعله ثابتاً والالتزام به دائماً أبداً يوقع في عسر وحرج لا يطيقه المكلفون، وإن شئتم مزيد إيضاح فلتعلموا أن دعاة التحرر في هذه العصور المتأخرة من التيارات الوافدة من الغرب أو الشرق استمسكوا بالمتغير وجعلوه ركن تفكيرهم -وأنا لا أتكلم عن الحداثة، فهنا فقه وليس لغة، فالاستمساك بالمتغير وحده غير صحيح لأنه يؤدي إلى الانهيار- أقول: إن شئتم مزيد إيضاح فلتعلموا أن دعاة التحرر في هذه العصور المتأخرة في التيارات الوافدة من الغرب أو الشرق استمسكوا بالمتغير، وجعلوه ركن تفكيرهم وأصل حضارتهم، وظنوا أن الحياة تستقيم بهذا المفهوم للحرية عندهم، وهي التغير في كل شيء أصولاً وفروعاً، قوانين ودساتير؛ فهي موضة متغيرة لا تنتهي.
وبهذا وكما تشاهدون وتلاحظون حين لم يكن لهم ثوابت مستقرة، ومحاور يستندون إليها؛ فقد ضاعوا وأضاعوا، فلم تنضبط حركاتهم؛ ومن ثم فقدوا معنى الثبات في نهاية المطاف، فبمعرفة الثوابت والاستمساك بها وتمييز المتغيرات وضبط حركتها حول المحور الثابت حتى لا يخرج عن المسار الصحيح يكون الدوام والثبات والتمشي مع المتغيرات في الأزمنة والأمكنة، والناس مع بقاء ركود الثوابت والمحافظة على الجوهر، وهذا سر بقاء الشريعة وحيويتها حينما تطبق على وجهها.(69/16)
اعتقاد دوام الشريعة ومواكبتها للجديد
ضابط آخر: وهو منطلق عقدي صرف، أخاطب به أهل الإسلام، ومن لا يؤمن به فلا خطاب لنا معه، ذلكم هو ما يجيب عليه هذا التساؤل أو هذا
السؤال
كيف يتأتى للشريعة التي نزلت قبل أربعة عشر قرناً أن تواكب ما جَدَّ في حياة الناس من تغيرات؟
الجواب -كما أسلفت- عقدي إيماني نابع من الإيمان بالله الحق العليم الحكيم، فكأن هذا المتسائل أو المتشكك يظن أن الله لم يكن يعلم -تعالى الله- حين أنزل هذه الشريعة أن أموراً ستجدّ في حياة الناس تختلف عن الأوضاع التي كانوا عليها يوم نزلت هذه الشريعة، إذاً: كأنه يشك في علم الله.
ويقول: إن حكمته سبحانه تقتضي ألا ينزل شريعة غير ممكنة التطبيق، إلا في حيز من الزمن، ثم يلزم الناس بها إلى يوم القيامة، ألا ساء ما يظنون!
ولكي يزداد الأمر وضوحاً في هذا الأمر الإيماني: لو نظرت إلى بعض الضعاف في هذا المضمار ممن استهوتهم حضارة الرجل الأبيض، وسولت لهم أنفسهم السوء، ويحبون أمام الناس أن يبقى لهم الانتساب إلى الإسلام مع اتباعهم أهواءهم، فهم يريدون إسلاماً على مزاجهم، أو على مزاج إخوانهم في الغي من المستشرقين والمستغربين والذين في قلوبهم مرض، فتبدأ مقولتهم بأنهم لا يأخذون بأقوال الفقهاء والمفسرين والشراح والمحدثين، فهم بشر ورجال، ولا تعبد بآراء الرجال، ولا يأخذون إلا من الكتاب والسنة.
ثم يتدرج بهم الأمر بأن يأخذوا بالقرآن والمتواتر من السنة وما كان قطعياً في ثبوته ودلالته، فالسنة فيها الضعيف والمردود والموضوع، بل حتى أخبار الآحاد فيها عندهم نظر، ثم يتدرجون ليطعنوا في بعض الدلالات ليقولوا: إن القرآن إنما كان يعالج أوضاعاً وبيئات قد اندرست، ويهتم بشئون مجتمعات بدائية وبدوية، وقد يترقى بهم الحال -كما يقول الشيخ القرضاوي - ليقولوا: إن القرآن إذا قال: إن الخنزير رجس فإنما كان ذلك في خنازير سيئة التغذية، أما خنازير اليوم فتلقى عناية خاصة.
وحينما ينظرون في الميراث، وفيه للذكر مثل حظ الأنثيين، يقولون: إنما كان ذلك قبل أن تخرج المرأة إلى ميادين العمل وتثبت وجودها في جوانب الحياة المختلفة، والخمر حرم في بيئة حارة، ولو نزل القرآن في بيئة باردة لكان له حكم آخر، وهكذا نلاحظ التحلل من الأحكام وترقي الأمر إلى نسبة الله عز وجل إلى الجهل بشئون خلقه وما يضرهم وما ينفعهم، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.(69/17)
عدم تبرير الواقع
وعدم تبرير الواقع هو ضابط آخر، ذلكم أن الحديث عن التغير والتطور ومجاراة العادات والأعراف، لا يعني أن هم المجتهد والفقيه تبرير الواقع، وتلمس السند الشرعي له، والتعسف بدعوى أن ذلك هو مفهوم المرونة والتطور، فالإسلام لم يأت ليخضع لأهواء الناس ومجريات حياتهم، ولكنه جاء ليرفع الناس إلى ميزان الحق والعدل والمصلحة الحقيقية، ويكف عنهم الإثم والظلم، ويرفع الآصار والأغلال.
إن هذا التشريع لم يضعه المجتمع حتى يخضع له ويستجيب لظروفه وأوضاعه.
إنه تشريع إلهي وضع ليرقى بالمجتمع، وتخضع أوضاعه لهدايته، فكلمة هذا التشريع هي العليا.
إن مهمة التشريع أن يصوب الخطأ، ويقوم المعوج، لا أن يبرر العوج، وأن يسوغ الأوضاع والتصرفات، إنه يستعصي على الذوبان والتميع.(69/18)
مجالات الاجتهاد
ومن جانب آخر فإن للاجتهاد عند أهله مجالاً كبيراً؛ الاجتهاد في فهم النصوص، والاجتهاد في ثبوت بعضها -أعني: في مدى تصحيح بعض الأحاديث ودرجة قبولها- ثم الاجتهاد فيما لا نص فيه بخصوصه بطرقه، كالقياس والمصلحة المرسلة، والاستحسان، على نحو ما تقدم، والأصول والثوابت التي لا مساغ للاجتهاد فيها هي القطعيات، وما علم من الدين بالضرورة، وما تلقته الأمة بالقبول من الفرائض المحكمات والنصوص القطعيات، كالصلاة والزكاة والصيام والحج، والمواريث والحدود والمحرمات من الربا والزنا والخمر والميسر وعدد الطلاق والوفاة وأمثال ذلك فهذه دوائر لا تقبل الاجتهاد والجدل، كأن يقول بعض الناس بتعطيل فريضة الزكاة اكتفاءً بالضرائب، فضلاً عما يشوب الضرائب من حديث ومن نظم فقهية، أو يقول بتعطيل فريضة الصيام تشجيعاً للإنتاج، أو بإلغاء فريضة الحج توفيراً للعملة الصعبة، أو بإباحة الزنا والخمر وما يتبعهما ترغيباً في السياحة، أو باستحلال الربا دعماً لمشروعات التنمية والإنتاج فالقول بذلك من المهازل.(69/19)
أهلية المجتهد
ضابط آخر: إنه ليس لكل أحد الحق في أن يقول في دين الله ما لا يعلم، فباب الاجتهاد والفتوى يجب أن يكون مقصوراً على أهله.
ومع الأسف فإن فُشُوَّ القراءة والكتابة في الناس والمفهوم الخاطئ لحرية البحث العلمي جعلت أناساً يتجرءون على أحكام الله، ويتجاوزون حدود الله في اقتحام أبواب الحلال والحرام، ولم يعرف لهم زاد من العلم سوى ما يسمى بثقافة إسلامية عامة، فجعلوا مساحة الحلال والحرام مباحة لكل من هب ودب؛ فظهرت أقوال من غير خطم ولا أزمة، ونزعت الثقة في أولي العلم والأئمة.
ومسئولية حراسة ذلك يجب أن يتولاها العلماء الربانيون المخلصون، والمراكز الإسلامية العريقة المعروفة، إذا أخلصت لله وبنت منهجها وطريقها على الإخلاص لشرع الله، فبهذا تستعيد مكانتها وموقعها، وتحمي حمى الدين وساحة الأحكام، كدور الإفتاء والقضاء الشرعي وهيئات كبار العلماء.
ومما يعين على تحقيق ما جاء في الفقرة السابقة محاولة الاجتهاد الجماعي، واستصدار الأحكام الفقهية في القضايا المستجدة والوقائع الملحة، وذلك بإعطاء المجامع الفقهية مكانتها اللائقة بها، كمنتدى لكبار فقهاء الأمة بعيداً عن المؤثرات الخارجية والتوجهات السياسية وغير السياسية؛ ذلك أنه قد كثر الأدعياء، وانتشر المغرورون والمتهورون والمتهتكون الذين لو فتح لهم الباب لاجترءوا على حدود الله وغيروا معالم الشرع إرضاءً لنزوة، أو سعياً لشهرة، أو اتباعاً لهوى، ويصبح الدين والناس فوضى، فَيَضِلوا ويُضِلوا.
هذا فيما يتعلق بإجمال الضوابط.(69/20)
أمثلة من اجتهادات الفقهاء(69/21)
حكم اللقطة
ونأتي إلى نماذج من اجتهادات الفقهاء:-
حكم اللقطة: نص الحديث عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: {سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة من الذهب والورق.
فقال: اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء صاحبها يوماً من الدهر فأدها إليه، وسأله عن ضالة الإبل فقال: ما لك ولها؟! دعها فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها، وسأله عن الشاة فقال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب} متفق عليه واللفظ لـ مسلم.
هذا هو الحكم الماضي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخليفته أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، فلما جاء عهد عثمان رضي الله عنه كما في الموطأ عن ابن شهاب الزهري قال: كانت ضوال الإبل في زمان عمر بن الخطاب إبلاً مؤبلة لا يمسها أحد، حتى إذا كان زمن عثمان بن عفان أمر بتعليفها ثم تباع، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها.
وكان لـ علي رضي الله عنه اجتهاد في المسألة آخر في بعض جوانبها، فقد وافق عثمان في جواز التقاط الإبل من أجل حفظها لصاحبها، لكنه رأى التقاطها والإنفاق عليها من بيت المال حتى يجيء ربها؛ لأنه رأى أن إعطاء ثمنها لصاحبها لا يغني عنها بذاتها، وكان هذا الاجتهاد من الخليفتين الراشدين: عثمان وعلي لما رأيا من تغير أخلاق الناس وفساد الذمم، فصارت بعض الأيدي تمتد إلى الممنوع؛ فترك هذه الضوال لم يعد طريقاً لحفظها على أصحابها الذي هو مقصود الشارع، فسلكا طريقاً آخر يحقق مقصد الشارع في حفظ الأموال لأربابها.(69/22)
العقل في الدية
جاء في الشريعة بأن من قتل خطأً فإن عليه الدية تسلم لورثة القتيل، فحفظ الشرع بهذا حق هؤلاء الورثة ورد للمقتول ما أمكن من اعتبار، ومن أجل خطأ القاتل وما يتضمنه من نوع عذر وعدم تحميله المسئولية كاملة، جاء الشرع بأن تتحمل عقيلة القاتل هذه الدية، ومثل ذلك شبه العمد بتفاصيل ونسب معلومة في كتب الأحكام، ومن المحفوظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قضى بالدية على العاقلة، وتوجه الحق عليها لما تحمله من حق النصرة والعصبة لصاحبهم الظالم.
وجاء عمر رضي الله عنه وكأنه تمعن معقول النص، ولم يقف على لفظه، فرأى أن المسئولية يشارك فيها من تكون به النصرة والمعونة، وليس مجرد القرابة النسبية والميراث، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله موضحاً هذا التوجه: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية على العاقلة، وهم الذين ينصرونه ويعينونه، وكانت العاقلة على عهده هم عصبته، فلما كان في زمن عمر جعلها على أهل الديوان، لهذا اختلف فيها الفقهاء فيقال -والكلام لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- أصل ذلك أن العقالة هل هم محددون بالشرع، أو هم من ينصره ويعينه من غير تعيين؟
إذاً: المجتهد ينظر في العقالة: إما نظراً لغوياً، أو نظراً عرفياً، بالنظر اللغوي في لغة العرب أو العرفي وهو أن نعود إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما قلنا في العدالة، فالعدالة والعاقلة هذان لفظان موجودان، لكن ما الذي يدخل تحتهما؟
فشيخ الإسلام ابن تيمية يقول مؤصلاً في الموضوع: أصل ذلك أن العاقلة هل هم محددون بالشرع، أو هم من ينصره ويعينه من غير تعيين؟
فمن قال بالأول لم يعدل عن الأقارب؛ لأنها العاقلة على عهده، ومن قال بالثاني جعل العاقلة في كل زمان ومكان من ينصر الرجل ويعينه في ذلك الزمان والمكان.
فلما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنما ينصره ويعينه أقاربه كانوا هم العاقلة، إذ لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ديوان ولا عطاء، فلما وضع عمر رضي الله عنه الديوان كان معلوماً أن جند كل مدينة ينصر بعضه بعضاً ويعين بعضه بعضاً، وإن لم يكونوا أقارب، فكانوا هم العاقلة.
قال شيخ الإسلام: وهذا أصح القولين، وأنها تختلف باختلاف الأحوال، وإلا فرجل سكن المغرب وهناك من ينصره ويعينه كيف تكون عاقلته من بالمشرق في مملكة أخرى، ولعل أخباره قد انقطعت عنه، والميراث يمكن حفظه للغائب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في المرأة القاتلة أن عقلها على عصبتها، وأن ميراثها لزوجها وبنيها، قال: فالوارث غير العاقل.(69/23)
السياسة الشرعية وتحري صلاح الناس
يُعرف ابن عقيل السياسة الشرعية بأنها ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي.
إنها تعني تدبير الشئون العامة من قبل ولاة الأمور بما يكفل تحقيق المصالح ورفع المضار بما لا يتجاوز حدود الشريعة وأصولها الكلية، فهي نظر في واقع المسلمين وما يجد لهم من أحوال وما يحل بهم من أزمات، فتتخذ لذلك الحلول المناسبة على نور من الشريعة وفي إطارها العام.
وحينما يجيل الباحث نظره فيما بحث فيه أهل العلم والفقه في سلطات ولي الأمر وصلاحياته في هذا الميدان وما يسن هو من تنظيمات وتدبيرات؛ ليحفظ على الأمة مصالحها وينتظم به معاشها، يجد في ذلك كلاماً واضحاً ونبراساً هادياً.
على الرغم مما أكدوه من دقة الموضوع، حتى قال الحافظ ابن القيم في دقة الموضوع: وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك ومعترك صعب، فرط فيه طائفة، فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرءوا الناس على الفجور والفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقاً صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له.
وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه، فإن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كتبه؛ ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه.
ويؤكد هذه المقولة لدى ابن القيم الفقيهان الجليلان: ابن فرحون المالكي والطرابلسي الحنفي حيث قالا: إن إهماله يضيع الحقوق، ويبطل الحدود، ويجرئ أهل الفساد، ويعين أهل العناد، والتوسع فيه يفتح أبواب المظالم الشنيعة، ويوجب سفك الدماء وأخذ الأموال غير الشرعية.
وعلى الرغم مما يجب أن يتوخى من دقة، ويلتزم من عناية، إلا أن أهل العلم صرحوا بجواز ذلك وعظم حاجة الناس إليه، يقول الإمام القرافي بعبارة صريحة جريئة: إن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية -أعني بالسياسة السياسة الشرعية وليس بمصطلحها المعاصر، السياسة على الأحكام التي تتعلق بالمصلحة المرسلة تقريباً- ليس مخالفة للشرع بل تشهد له الأدلة كما تشهد له القواعد، وقال: إن الفساد قد كثر وانتشر بخلاف العصر الأول، ومقتضى ذلك اختلاف الأحكام بحيث لا تخرج من الشرع بالكلية لقوله عليه الصلاة والسلام: {لا ضرر ولا ضرار} إلى أن قال: والاختلافات في الشرع كثيرة لاختلاف الأحوال، فكذلك ينبغي أن يراعى اختلاف الأحوال والأزمان فتكون المناسبة الواقعة في هذه القوانين السياسية مما شهدت له القواعد بالاعتبار، فلا تكون من المصالح المرسلة، بل أعلى رتبة، فتلحق بالقواعد الأصولية.
وبهذا يستخلص من كلام أهل العلم: أن الحكم مادام في دائرة الاجتهاد، ولم يرد فيه نص قطعي، أو حكم اجماعي، وهو يؤدي إلى درء مفسدة، أو جلب مصلحة، ويستند إلى سند شرعي من المصلحة المرسلة، أو سد الذرائع أو العرف؛ فهذا الحكم قابل للبحث والنظر من قبل ولي الأمر، ينظر فيه بما يحقق المصلحة، ولو كان قد صدر فيه حكم اجتهادي سابق.(69/24)
التسعير
ومن التطبيقات أيضاً التسعير؛ فقد غلا السعر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض الصحابة: سعر لنا.
فقال: {إن الله هو المسعر القابض الباسط، وإني أرجو أن ألقى الله وليس في عنقي مظلمة لأحد} ظاهر الحديث يدل على المنع من التسعير مطلقاً وفي كل حال، ولكن لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله توجيه دقيق في فقه هذا الحديث، وهو يقول: إذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق فهذا إلى الله، فإلزام الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق.
أي أن السعر إذا كان خاضعاً -كما يقول الاقتصاديون- لقانون العرض والطلب، فليس لولي الأمر التدخل حين ذاك؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو القابض الباسط.
أما إذا امتنع أرباب السلع -والكلام لـ ابن تيمية - من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمتها، قال: ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل.
وأصرح من ذلك ما قاله الإمام أبو بكر بن العربي في شرحه على الترمذي قال: سائر العلماء بظاهر الحديث -أي: يأخذون بظاهر الحديث- لا يسعر أحد، والحق التسعير وضبط الأمر على قانون لا تكون فيه مظلمة على أحد من الطائفتين، وذلك قانون -والكلام لـ ابن العربي - لا يعرف إلا بالضبط للأوقات ومعايير ومقادير الأحوال وحال الرجال، والله الموفق للصواب، وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حق وما فعله حكم، لكن على قوم صحت نياتهم واستسلموا لربهم، أما قوم قصدوا أكل الناس والتضييق عليهم فباب الله أوسع، وحكمه أمضى هذا كله كلام القاضي أبي بكر بن العربي.
ويقول ابن القيم: وجماع الأمر أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير، سعر عليهم تسعير عدل، لا وكس ولا شطط، وإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل انتهى كلام ابن القيم.
وعليه فإذا تغير حال الناس وفشا الطامعون وانتشر المتلاعبون في أسواق المسلمين، فليس في الحديث ما يمنع من ضرب اليد على هؤلاء، وإلزامهم بالعدل، ورفع الظلم عن الفئتين.
وبقي أن تعلم أن هذا الرأي وهذا النهج هو نهج بعض فقهاء التابعين والمالكيين وبعض الحنبليين.(69/25)
المنع من الادخار
أخرج البخاري وغيره عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثلاثة أيام ويبقى في بيته منه شيء، فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله! أنفعل كما فعلنا في العام الماضي؟ قال: كلوا واطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان بالناس جهد -مشقة ومجاعة- فأردت أن تعينوا فيها} وفي بعض الروايات: {إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت} أي أن دافة دفت قوماً من البادية على المدينة وكانوا في مجاعة وفي جهد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعينوهم بلحوم الأضاحي ولا يدخروا، وهم قوم محتاجون قدموا من خارج المدينة فأراد النبي صلى الله عليه وسلم مواساتهم.
ولئن ظن كثير من الفقهاء رحمهم الله أن هذه الإباحة نسخ للنهي المتقدم، أي حينما قال لهم: {من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثلاثة أيام} فنهاهم ثم أباح لهم، ولئن ظن كثير من الفقهاء رحمهم الله أن هذه الإباحة نسخ للمتقدم فليس الأمر كما ظنوا على التحقيق، وإنما كما قال القرطبي رحمه الله في تفسيره: بل هو حكم ارتفع لارتفاع علته، فالمنسوخ لا يعود أبداً، والمرفوع بعلة يعود بعود العلة، فلو قدم على أهل بلدة أناس محتاجون في زمان الأضاحي ولم يكن عند أهل ذاك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا، لتعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاثة أيام كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد وقع مثل ذلك في عهد علي رضي الله عنه، فقد صلى بالناس في يوم عيد، ثم خطبهم، فنهاهم عن ادخار فوق ثلاث تأسياً بنهي النبي صلى الله عليه وسلم، بل قال الحافظ ابن حجر في الفتح: والتقييد بالثلاث واقعة حال وإلا فلو فلم تسد الخلة إلا بتفرقة الجميع لزم على هذا التقدير عدم الإمساك ولو ليلة واحدة.
ولعلك بهذا تدرك أن النهي كان من مقتضيات السياسة الشرعية في تقييد المباح، وهي تصرفات من الإمام بوصف الإمامة نظراً لما يجب لأخوة الإسلام وما يقتضيه من ظرف.
ويلحق بذلك المنع من أكل اللحم، حينما منع الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس من أكل اللحم يومين متتالين، وكذلك منعهُ الزواجَ من الكتابيات، كما في سنن سعيد بن منصور: [[أن حذيفة بن اليمان تزوج يهودية بـ المدائن فكتب إليه عمر أن خلِّ سبيلها، فكتب إليه: أحرام هي يا أمير المؤمنين؟ فكتب إليه عمر: أعزم عليك ألا تضع كتابي هذا حتى تخلي سبيلها، إنها ليست بحرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن -وفي رواية أخرى-: أن تعليل المنع خوفاً أن يقتدي به المسلمون، فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن، وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين]].
ومن المعلوم في الشرع أن نساء أهل الكتاب حل للمؤمنين ولكن الإمام عمر خشي مفسدتين إحداهما: إما التساهل في شرط الإحصان والعفاف المشروط بالمحصنات من الذين أوتوا الكتاب، فيقع المسلم في المومسات والفاجرات، وإما كساد سوق الفتيات المسلمات، وهو باب في سد الذرائع، سلكه الإمام حسب ما تقتضيه السياسة الشرعية.
مثل ذلك أيضاً في عهد عثمان القراءة في المصاحف التي بقيت بعدما استنسخ المصحف الإمام، فإن عثمان رضي الله عنه لما أمر بكتابة المصحف الإمام حين خشي اختلاف الأمة، أتبع ذلك بالأمر بإحراق المصاحف الأخرى، ومن ثم منع من القراءة فيها مع أن ذلك كان مباحاً من قبل.(69/26)
أحكام اجتهادية من غير نص
كتب الأحكام زخرت بمسائل فقهية، ومعالجات استنباطية دقيقة، تدل على ما كان يبذله السلف رحمهم الله في حل مشكلات الأمة، مع ما يتصفون به من ورع، غير أن هناك أحكاماً مبثوثة -نمثلها بمثال واحد وبه أختم هذا اللقاء المبارك- غير أن هناك أحكاماً مبثوثة في مدونات الفقهاء رحمهم الله، ليس مستندها النص لكنهم ربطوها بأعراف وعادات مبنية على معرفة بشرية بحتة، وإذا كانت هذه المسائل على هذا النحو، فمعلوم أنه إذا جاء ما يدل على خلافها بطريقة قطعية أو ظن وارد، فلا يكون للاستمساك بها وجه وجيه، ويؤخذ مثال على ذلك أقصى مدة الحمل؛ فأقصاه عند أبي حنيفة رحمه الله إلى سنتان، وعند أحمد والشافعي رحمهم الله أربع، وعند الليث ومالك رحمهم الله في المشهور عنه خمس، وعند الزهري ومالك سبع، وقد حكى ذلك ابن حزم في المحلى.
ومستند القائلين بالسنتين أثر عن عائشة رضي الله عنها أن المرأة لا تزيد في حملها على سنتين، وقالوا: إن مثل هذا لا يقال بالرأي من قبل عائشة فله حكم المرفوع، ولكن الإمام مالكاً رحمه الله حينما حدث بهذا الأثر كما ذكر البيهقي في السنن قال: سبحان الله! من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان امرأة صدق، وزوجها رجل صدق حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كل بطن أربع سنين، أي أن مالكاً لم ير قول عائشة هذا من قِبَل المرفوع.
ثم يأتي ابن حزم ليعلق على الجميع؛ فيقول في مباراة فقهية على ما فيها من شدة حزمية معهودة قال: ولا يجوز أن يكون حمل أكثر من تسعة أشهر ولا أقل من ستة أشهر لقول الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف:15] مع قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233] فمن ادعى أن حملاً وفصالاً يكون في أكثر من ثلاثين شهراً فقد قال بالباطل والمحال، ورد كلام الله عز وجل جهاراً.
ثم ضعف ما روي عن عائشة وقال في قصة نساء بني العجلان: إنها أقوال مكذوبة راجعة إلى من لا يصدق ولا يعرف منه ولا يجوز الحكم في دين الله بمثل هذا.
ويوضح هذا التوجه الشيخ محمد الهند في فتاواه ويقول: إننا إذا بني أحكام الحمل على مثل أقوال النساء هذه، نكون قد خالفنا القرآن، وخالفنا الثابت المطرد في مدة حمل المرأة؛ فهي لا تكاد تبلغ سنة واحدة فضلاً عن عدة سنين، وخالفنا القياس الفقهي، على تقدير صدق أولئك العجائز إن أخبرنا به الأئمة من أن ذاك وقع شذوذاً؛ فكيف إذا لم يصدقوا؟! وخالفنا ما قرره أطباء هذا العصر من جميع الملل والنحل على سعة علمهم بالطب والتشريح وعلم وظائف الأعضاء، واستعانتهم في بحثهم واختبارهم بالآلات والمجسات والمسابير والأشعة، وعلى بناء علمهم على التجربة والاستقراء، واستعانة بعضهم في ذلك ببعض على اختلاف الأقطار لسهولة المواصلات البريدية والبرقية، وكثرة النساء اللاتي تعوَّدن على الجرأة في القول، وعدم خجلهم من إظهار ما لم يكن يظهره أمثالهن في بلادهن أو غيرها من قبل هذا كلام فيه نظر.
أقول ولعلك بهذا تدرك: أن المسألة خاضعة للنظر وراجعة إلى ما تغلب فيه العوائد من أحوال النساء على ما تميز به هذا العصر من دقة المعرفة العلمية على التجربة والكشف والنظر بحاسة لا على التخمين والحدس.
ولعلي بهذا أنهي ما سمعتم، أرجو أن يكون ما ذكرته فيه فائدة وفيه وضوح، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(69/27)
الأسئلة
.(69/28)
حدود الأمر المتغير
السؤال
ما هي حدود الأمر المتغير الذي يجب أن ينظر الفقيه في حكمه؟ أو بعبارة أخرى: هل كل أمر متغير عن أصله يجب أن يستنبط له حكم؟
الجواب
الأحكام التي في النصوص الشرعية، إما حكم بنص فهذا ليس محل اجتهاد، أو كان مجمعاً عليه أو كان من المعلوم من الدين بالضرورة، أي أنه كان قطعياً، إما من ثبوت نصه، أو أنه معلوم من الدين بالضرورة، أو مجمع عليه، أما إذا كان غير ذلك وخاصة فيما كان داخلاً في الأعراف والعادات، وكذلك ما يدخل تحت المصلحة المرسلة وتحت الاستحسان؛ لأن الكتاب والسنة والإجماع والقياس ما جاء فيها ليس محل نظر، والقياس على نظر فيه قد يكون أخف من غيره، ولكن مع هذا الاتفاق عليه كما هو معلوم لدى جماهير أهل العلم من اعتباره مصدراً يكاد يكون إجماعاً، ويكاد يكون من خالفه لا يعتد بمخالفته، وحتى من خالفه تجده رجع إلى الأحكام في طريق الاستصحاب والبراءة الأصلية كما هو معلوم.
فما لم يكن مقطوعاً به أو معلوماً من الدين بالضرورة أو منصوصاً عليه نصاً ثابتاً فإنه يقبل النظر ولو قال به مجتهد سابق؛ لأن المجتهدين لهم نظر يمكن أن يعاد النظر فيه.(69/29)
أحكام الرخص
السؤال
هل أحكام الرخص تعد من المتغيرات التي تستقل بأحكام أو يعتبر الحكم في حال المقيم ثابتاً وفي حال المسافر ثابتاً في حقه غير متغير؟
الجواب
الرخص والعزائم نوعان من أحكام الشرع منصوصة كلها، والعزائم والرخص منصوصة على معنى أن هناك حكمين منصوصين، ففي العزائم والرخص كِلا الحكمين منصوص، صلاة الأربع في حالة، وصلاة الركعتين في حالة، فكلاهما منصوص، ومحل النظر لا يسمى ترخيصاً أو لا يسمى رخصاً؛ لأن الرخص والعزائم من الشارع، وكلها نصوص من الشارع، إنما يكون النظر في مواطن التخفيف أو اليسر أو شيء آخر له جوانب أخرى، قد يكون عموم البلوى، أو تغير العادات، بحيث يشق على الناس وللاجتهاد فيه نظر، أما العزائم والرخص فهذه كلها منصوصة.(69/30)
علاقة القضية الإعلامية بالضوابط الشرعية للمتغيرات
وهنا نفتح المجال للدكتور سعيد بن زعير للتعليق لمدة خمس دقائق فقط:
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، نزجي الشكر الجزيل لمؤسسة الملك فيصل الخيرية التي نظمت لنا هذه الندوة، وهذه المعلومات التي نحن في أمس الحاجة إليها، والشكر يُزجَى لصاحب المعالي فضيلة الدكتور/ صالح بن حميد على هذه المعلومات القيمة، ولو لم نحصل في هذه الجلسة إلا على ما أشار إليه في ضبط العنوان، فهي في الواقع حقيقة نعيشها تتعلق بالنظر في المتغيرات، وحصر معالي الشيخ النظر في ضوابط النظر في المتغيرات.
نعم.
إن الكثير ينظر في المتغيرات لكن ما ضوابط هذا النظر؟ فالشكر مكرراً مرة أخرى، والذي أريد أن أشير إليه أن الاختلاف بين المجتهدين من منضبطين بضوابط النظر وغير منضبطين هو سنة ماضية؛ ففي كل زمن يأتي من ينظر نظراً منضبطاً بضوابط الشرع، ويأتي من هو غير منضبط.
والإشكال في واقعنا ليس في وجود من ينضبط في نظره، ويقدم الأحكام الشرعية الصحيحة وفق النظر الشرعي، أو وجود من يقدم الأحكام الشرعية غير المنضبطة، فهذه ستبقى إلى قيام الساعة، لكن الإشكال فيما يسمى بالتعبير الموضوعي عن وجدان الجماهير وهو القضية الإعلامية، والذي يجعل هذا الضبط الشرعي والحكم الشرعي الذي نظر إلى المتغيرات بضبط صحيح يصبح في وجدان الجماهير، إن الذي يجعله يعيش هو العرض الموضوعي لهذه المعلومات الصحيحة وغرسها غرساً صحيحاً في نفوس الأمة حتى تحترمها، لكن عندما ننظر إلى واقع الأمة اليوم نجد خللاً كبيراً في هذا العرض، نجد تلميعاً لفئة تقدم لنا نظراً شرعياً غير منضبط وهو من انطبق عليهم التعريف الذي ذكره سماحة الشيخ في أنهم ليس لهم ضوابط في النظر في المتغيرات، فيتحدثون في المتغيرات نظراً غير منضبط، ويقدمون لنا أموراً لا تتفق مع الشريعة، ثم يأتي الإعلان ليلمع هؤلاء.
إن فئة موجودة في العالم العربي والعالم الإسلامي في شرقه وغربه، تقدم للأمة هذا الانحراف، وهم لا يمثلون نسبة عالية بين المجتهدين ولا بين المفكرين ولا بين الناظرين في المتغيرات، هذه النسبة لا تمثل غالبية وهؤلاء يلمعون إعلامياً حتى صوروا للأمة كأنهم هم مجتهدو الأمة، وهم مفكرو الأمة، وهم من يقتدى بهم، وهنا يأتي الخلل.
إن البلاء المستطيل، والشر المستطير، الذي يؤذن بهلاك الأمة -وأعتبر النظر غير المنضبط في المتغيرات بضوابط الشرع هو الباطل- إذا كان الناس يتحدثون عن مخاطر الإعلام الذي يسوغ الشهوات في سلوك الناس، فإن الحديث عن الإعلام الذي يقدم الشبهات في أحكام الشريعة أخطر، إن الذي يقدم لنا نظراً في متغيرات بغير ضوابط الشرع أخطر بكثير ممن يقدم لنا انحرافاً سلوكياً أو انحرافاً في مادة إعلامية.
إن الصحافة العربية تهدد الأمة بكوارث عندما يصاغ وجدان الجماهير من خلال هذه التصورات التي تقدم.
ولكم أن تنظروا في الصحافة المحلية والصحافة الأجنبية فهي تقدم من ذلك شيئاً كثيراً، يلمع أناس يصورون بأنهم مجتهدون، وليس من حقهم من خلال الضوابط التي سمعناها في المحاضرة أن يجتهدوا لماذا؟ لأنه ليس عندهم ضوابط في النظر وهم يخالفون أقوال المجتهدين في الأمة.
نسأل الله للقائمين على الإعلام في العالم العربي والعالم الإسلامي أن يوفقوا لتقديم هذه الاجتهادات الصحيحة لتصبح حقيقة وجدان للجماهير لتنضبط بضوابط الشرع، ولتنظر للمتغيرات بضوابط الشرع، وليفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(69/31)
أهمية المجامع الفقهية ودور الإفتاء
هناك تعليق للشيخ صالح فليتفضل
شكراً لفضيلة الدكتور، ولعلي في ضوابط النظر ذكرت نوعين من الضوابط: ضوابط في القواعد التي تبنى عليها التغيرات، وهي -كما قلت- المصلحة المرسلة والاستحسان والعرف وعموم البلوى، وهذه الضوابط ذكرتها تعريفاً، وذكرت أيضاً ما يضبطها ودقة المسالك فيها، وأنها مزلة أقدام ومضلة أفهام، وضوابط عامة كذلك أشرت إليها فيما يتعلق بالمجتهد وفيما يتعلق أيضاً في نفس قضية ضبط النظر، وهناك أناس غير منضبطين وليسوا من أهل النظر ولا من أهل الاجتهاد، وأنا أشرت -طبعاً أنا لا أرد على الدكتور وإنما أوضح- إلى المجامع الفقهية وإلى دور الإفتاء وإلى دور القضاء ومجالس القضاء ومجامع العلماء، وهذه المجامع ينبغي أن تأخذ دورها، مبتعدة -كما قلت- عن المؤثرات الخارجية سياسية وغير سياسية، وأن يعود إلى الفقه احترامه وأن تحمى ساحته وأن تحفظ، هذا جانب مهم جداً وأكدت عليه، ولا يكون حفظ إلا حينما تكون هناك جهات موثوقة: دار إفتاء، دار قضاء، هيئة كبار علماء في كل بلد إسلامي، منها إفتاء وتكون أيضاً محل ثقة هذا مهم جداً.
قضية الاستجابة لأهواء الجمهور أيضاً هذه من الأخطاء التي وقعت فيها الأمة كثيراً، نتيجة سوء ما جاء من التيارات الوافدة من غرب وغيره، ومع الأسف رأينا كثيراً أن الجماهير هي التي تقود الناس، تقود العلية وتقود الوجهاء، تقود من تسلموا القيادة سواء علمية أو إسلامية أو غير ذلك، وهذا هو النظر القاتل، أن يكون المسئول ينظر ماذا يريد الجمهور، هذا جانب يجب أن يعاد النظر فيه وهو أن يكون الجمهور هو الذي يقول.
نحن قلنا: الشريعة هي التي ترفع الناس، وليس من حق المجتهد أو حق المسئول أن ينزل بالمبادئ والمثل إلى رغباتهم، إنما يرفع الناس ليستمسكوا بالمبادئ والمثل.
كلمة ختامية للمقدم:
انتهى الوقت ولم تنته حاجتنا إلى الاستماع لفضيلة محاضرنا الكريم، ولكننا نقف عند هذا الحد التزاماً بما قرر للمحاضرة من وقت، ونسأل الله أن يجزي عنا فضيلة الشيخ الدكتور/ صالح بن عبد الله بن حميد خير ما يجزي العلماء العاملين، وأن يرفع درجته ويعلي قدره، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(69/32)
أم المؤمنين خديجة
إن المرأة المسلمة التي تريد من نفسها أن تقتدي بأمهات المؤمنين، عليها أن تعرف سيرة النساء الأوائل، وكيف كن في تحمل أعباء الدعوة إلى الله عز وجل، وتربية أبنائهن على نصرة هذا الدين الحنيف، وإن النظر في سيرة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها كافٍ في تكوين المرأة نفسها، وبيان منزلتها في الدين، وعظم مشاركتها في الحياة.(70/1)
خديجة ومكانتها بين النساء
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، نشكره ولا نكفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا أشرك به أحداً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله بشر وأنذر، وبلغ البلاغ المبين، فكرم رسولاً، وشرف عبداً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أنوار الدجى، ومصابيح الهدى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واهتدى.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس! فتقوى الله حبل متين، ونور مبين حبل ما له انفصام، ونور تستضيء به القلوب والأفهام {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28].
أيها المسلمون! إن أنبياء الله أصحاب الرسالات الكبرى، والمسئوليات العظمى، يحملون قلوباً كبيرة، عظيمة المعاناة والمقاساة، حتى قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3].
إنهم يقاسون جهاداً كبيراً في سبيل الحق الذي ينشرونه، والدين الذي يبينونه، وإنهم في هذا أحوج ما يكونون إلى من يتعهد حياتهم الخاصة بالإيناس والمؤانسة والعناية والرعاية، وإن من حفظ الله لنبيه محمد وعنايته به وما أراد به من كرامته؛ أن هيأ له ما هيأ من أسباب ووسائل من هذا الباب.
وهذا حديث عن صورة أخاذة من العناية الإلهية في بيت النبوة المحمدية إنه استعراض لملامح امرأة نبيلة امرأة مؤمنة تجسد فيها كمال الأنوثة، وحسن التبعل، وحق المسئولية استعراض سيرة امرأة عريقة النسب، ممدودة الثروة، عرفت بالعقل والحزم والطهر وحسن الخلق نشأت في بيت من بيوتات الشرف والمجد والرئاسة.
إنها صورة من صور العناية الإلهية لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
تلكم هي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الأسدية أم القاسم، وأم هند، سيدة نساء قريش، بل سيدة نساء زمانها.(70/2)
ميلاد أم المؤمنين خديجة بنت خويلد
كان ميلاد خديجة رضي الله عنها قبل عام الفيل بخمس عشرة سنة، فقد عرفت بذكائها، وجلالة قدرها؛ بل إنها من النساء الكمَّل، والكمَّل في النساء قليل نقية السريرة صافية الروح ذات حسنٍ وجمال اجتمع لها حسن الخلق، وشرف الحسب، وعلو النسب، مصونة كريمة، وكان من خبرها أنها تستأجر الرجال في التجارة بمالها مضاربة بشيء منه تجعله لهم.(70/3)
زواج النبي صلى الله عليه وسلم بخديجة بنت خويلد
يقول ابن الأثير: فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق الحديث، وعظم الأمانة، وكرم الأخلاق، أرسلت إليه؛ ليخرج في مالها إلى الشام تاجراً لتعطيه أفضل ما كان يعطيه غيره، ومعه غلامها ميسرة، وقبل محمد صلى الله عليه وسلم ذلك، ورحل بالتجارة وعاد رابحاً موفوراً، وسرت بالربح؛ ولكن إعجابها بالرجل كان أعمق.
إن امرأة بهذه المنزلة من النسب والحسب والعقل والمال؛ لا بد أن تكون مطمعاً للسادات من رجال قريش؛ ولكنها كانت بوافر عقلها، وثاقب نظرها، لا يعجبها في كثير من الرجال أن يكونوا طلاب مال وليسوا طلاب أنفس.
لقد أدركت أن أبصارهم تمتد إليها بغية الإفادة من ثرائها، ولعلهم يريدون أن يجعلوا من الزواج سلماً ومطمعاً؛ ولكنها عندما عرفت محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجدت فيه ضرباً من الرجال آخر.
وجدت رجلاً لا يستهويه مال ولا تغنيه حاجة، لقد رأت رجلاً تقف كرامته شامخة موقف النبل والتعفف، فما تطلع إلى مالها، ولا إلى جمالها، ولا إلى منزلتها ونسبها.
لقد أدى الأمين ما عنده من مال التجارة وربحها ثم انصرف راضياً مرضياً، لقد وجدت خديجة في محمد بن عبد الله طلبتها فحدثت بما في نفسها إلى صديقة من صديقاتها، ثم كانت الخطبة، وكان العرض، وكان القبول.
تروي كتب السير أن عمه أبا طالب قال في خطبة النكاح: إن محمداً لا يوزن بأحد إلا رجح به، فإن كان في المال قل فالمال غبنٌ زائل، ومحمد لقد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وقد بذل لها من الصداق ما عاجله وآجله من ماله كذا وكذا، قال الراوي: ثم تكلم ورقة بن نوفل، فقال مجيباً أبا طالب: إنكم أهل لذلك كله لا تنكر العشيرة فضلكم ولا يرد أحد من الناس ذخركم وشرفكم.(70/4)
عيش خديجة مع النبي صلى الله عليه وسلم
تزوجها عليه الصلاة والسلام وعمره خمس وعشرون سنة وعمرها أربعون سنة.
عاشت خديجة في كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاش في كنفها خمساً وعشرين سنة، رافقته أفضل رفقة، وألفته أعظم ألفة، وصادقته أوفى محبة؛ بل كانت رضي الله عنها لا ترى ميله إلى شيء إلا بادرت به إليه، وقد رأت قبل بعثته ميله إلى مولاه زيد بن حارثة فوهبته له.
ولما أكرم الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم برسالته، ونزل عليه الحق وهو في غار حراء ونبئ بإقرأ رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على زوجته خديجة فقال: {زملوني زملوني! فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لـ خديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله.
لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرئ الضيف، وتعين على نوائب الدهر}.
أيها الإخوة! هذا هو البيت، وهذه هي ربته، وهذه هي الحياة الزوجية والأسرية، لقد بادرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليها الحال مع خطر الأمر وشدته وعظم أهميته، وما ذلك إلا لما يعرف من كمال نظرها، وحسن برها، ووفرة عقلها، ورباطة جأشها، ونفاذ بصيرتها.
يقول ابن القيم رحمه الله: استدلت بما فيه من الصفات والأخلاق والشيم على أن من كان كذلك لا يخزى أبداً، فقال ابن القيم: فعلمت بكمال عقلها، وسلامة فطرتها، أن الأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، والشيم الشريفة، تناسب أشكالها من كرامة الله وتأييده وإحسانه لا تناسب الخزي والخذلان.
نعم.
لقد رأت بنظرها الحصيف حتى أقسمت قسماً لا حنث فيه، فنفت الخزي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر استقرائي.
لقد كان موقفاً من أشرف المواقف التي تُحمد من امرأة في الأولين والآخرين طمأنته حين قلق، وأراحته حين جهل، وذكرته بفضائله وجميل فعائله، فالأبرار مثله لا يخذلون، والكرام مثله لا يخزون، وإن الله إذا طبع رجلاً على المكارم الجزلة والمنابت السمحة؛ فليكن أهل إعزازه وإحسانه.(70/5)
فضل خديجة رضي الله عنها
آمنت خديجة رضي الله عنها برسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يقول ابن الأثير: خديجة أول خلق الله إسلاماً بإجماع المسلمين، فسبقت نساء هذه الأمة بل سبقت نساءها ورجالها رضي الله عنها وأرضاها.
ويقول ابن حجر: قوة يقينها، ووفرة عقلها، وصحة عزمها؛ لا جرم كانت أفضل نسائها.
قال العلماء: ولم يكن حينئذٍ على وجه الأرض بيت إسلام إلا بيتها، قالوا: وهي فضيلة ما شاركها فيها غيرها.
إنها الزوجة الكريمة القائمة بالمسئولية على تمامها تخفف عن زوجها ما يلاقي، وتهون عليه ما يواجه لها مقام صدقٍ من أول البعثة لا يسمع شيئاً مما يكره من تكذيب ورد إلا فرج الله عنه بها، فإذا رجع إليها خففت عنه وواسته بحسن لفظها، وعمق مشورتها، ووفرة مالها، فأحسن الله مثوبتها، ورفع درجاتها، وأعلى مقامها، حتى استحقت أن ينقل لها الروح الأمين جبريل سلام رب العزة.
جاء في خبر الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: {أتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد! هذه خديجة قد أتتك بإناء فيه إدامٌ وطعام وشراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني -وفي بعض الروايات- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا خديجة هذا جبريل يقرئك السلام، قالت: لله السلام ومنه السلام، وعلى جبريل السلام -وفي بعضها- وعليك السلام ورحمة الله وبركاته}.
ولا غرو أن يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين أيضاً: {خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد} ويقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: {خط رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة خطوط في الأرض، ثم قال: هل تعلمون ما هذا؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم -امرأة فرعون-، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد} وقد جاءتها البشارة بالجنة من ربها في حياتها، فقد جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب}.
ومن لطائف الأسرار التي لاحظها العلماء في هذا البيت الذي خص الله به خديجة رضي الله عنها أنه بيت خاص زائد على ما أعده الله لها من ثواب عملها، وقالوا: والقصب لؤلؤة مجوفة واسعة كالقصر المنيف، وقد جاء عند الطبراني في الأوسط من حديث فاطمة رضي الله عنها قالت: {قلت: يا رسول الله! أين أمي خديجة؟ قال: في بيت من قصب.
قلت: أمن هذا القصب؟ قال: لا.
من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت} قال السهيلي: والنكتة في قولهم: (القصب) ولم يقل: من لؤلؤ لأن في لفظ القصب مناسبة؛ وذلك لكونها أحرزت قصب السبق بمبادرتها بالإيمان قبل غيرها، ثم إنه لا صخب فيه ولا نصب، أي: لا منازعات ترتفع معها الأصوات، وهذا مناسب لما كانت عليه خديجة رضي الله عنها من حسن الاستجابة والطاعة، فلم تحوج زوجها إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب؛ بل أزالت عنه كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عصيب، وكانت حريصة على رضاه من كل ممكن، ولم يصدر منها ما يغضبه قط؛ فناسب أن يكون منزلها الذي بشرت به من ربها بالصفة المقابلة لفعلها، فهي لم تصخب عليه، ولم تتعبه يوماً من الدهر.(70/6)
وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وفياً معها كل الوفاء، عرف حقها وقدرها ومنزلتها فلم يتزوج عليها لا قبل البعثة ولا بعدها، فعاشت معه منفردة خمساً وعشرين عاماً، فصان قلبها من الغيرة، ومن نكد الضرائر، وهي فضيلة لم يشاركها غيرها، ولقد حفظ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانتها حية وميتة، تقول عائشة الصديقة بنت الصديق محظية رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها وعن أبيها تقول: [[ما غرت من امرأة ما غرت من خديجة من كثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها]] فكان إذا ذكر خديجة لم يسأم من الثناء عليها، واستغفاره لها، قالت عائشة: [[فذكرها ذات يوم فحملتني الغيرة، فقلت: عجوز من عجائز قريش، حمراء الشدقين، لقد عوضك الله من كبيرة السن، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب غضباً شديداً، وسقطت في جلدي أو في خلدي -أي: ندمت- وقلت: اللهم إن أذهبت غيظ رسولك لم أعد أذكرها بسوء ما بقيت]] وفي رواية، قالت عائشة: {فقلت كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، قد أبدلك الله خيراً منها، فقال: والله ما أبدلني خيراً منها، آمنت بي حين كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني منها الولد دون غيرها من النساء} وكان من حبه لها، ووفائه بحقها، يتفقد صواحباتها وصديقاتها بعد وفاتها، ومن أحب شيئاً أحب محبوباته، فكان إذا سمع صوت أخت خديجة برقت أساريره ابتسامة ورضا وبهجةً وفاء لزوجته تحت التراب، وإذا ذبح شاة، قال: {أرسلوا إلى أصدقاء خديجة} وإذا دخلت عليه امرأة كانت تدخل عليه أيام خديجة هش لها وبش، وسر لرؤيتها ثم يقول: {أكرموها فقد كانت خديجة تحبها}
وروي أن عجوزاً جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ قالت: خيراً بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فلما خرجت، قالت عائشة: يا رسول الله! تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال، فقال: يا عائشة! إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان}.
أيها الإخوة! هذا هو بيت النبوة، وهذه هي العلاقة الزوجية المثلى كما يرسمها الإسلام بأسمى معانيها: وفاء وحباً، وبذلاً وعطاءً، وعملاً وجهاداً، وصبراً وتحملاً وتجملاً.
إن المرأة في صدر الإسلام، وحين يطبق الإسلام على وجهه تجد ربة بيت من طراز رفيع ما يمنع من ذلك علم ولا فقه، ولا ثقافة ولا رجاحة عقل، ولا وفرة مال، إن تصور ربة البيت إنساناً لا يجيد إلا الطهي والخدمة ضرب من السلوك القاصر لا تعرفه الأمم إلا حين انهيار حضاراتها، وسقوط مستواها العام في العلم والفكر والنظر وشغل المجتمع.
وبعد -أيها الإخوة- فقد توفيت خديجة رضي الله عنها: في السنة العاشرة من البعثة، في شهر رمضان، وهي في الخامسة والستين من عمرها بعد حصار الشعب، ودفنت في الحجون، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم في قبرها ولم تكن شرعت صلاة الجنازة، فرضي الله عنها وأرضاها ورضي عن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كلهن ورضي عن الصحابة أجمعين.
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:1 - 11] نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(70/7)
منزلة المرأة في الدين والمجتمع
الحمد لله في كل حال، وعلى كل حال، حمداً طيباً مباركاً يستدعي مزيد الإحسان والإفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، كريم السجايا، وشريف الخصال، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.
أما بعد:
أيها الإخوة! إن الدروس من هذا البيت النبوي تجل عن الحصر إنها الدروس لربات البيوت، فما كانت النساء في الصدر الأول بجاهلات بحقيقة الإسلام، ولا جاهلات بجهاده وجلاده في الجزيرة وخارج الجزيرة، ولكن توزيع المسئوليات أعطى كلا الجنسين نصيبه من العنا والمسئولية دون تعسف.
المرأة قبل كل شيء وبعده ربة بيت، وزوجة بطل، وأم شهيد إنها زوجة حانية أو أم مربية، أو في طريقها إلى هذا المصير النبيل.
إن الموسومات برائدات النهضة الإنسانية أقصر باعاًَ، وأنزل ركبة أن يفهمن هذه المثل، ولو قلت لإحداهن: تستطيعين صناعة المستقبل بإذن الله كما تبغين، عندما تحسنين التبعل للرجل، وتنشئة الذرية، ورعاية الأسرة؛ يتورم أنفها ضيقاً وغيظاً، وإن تصور المرأة في البيت إنساناً قعيداً لا دور له جهل شنيع، وفهم متخلف لمعنى الأسرة والتربية والمسئولية، هذا درس من الدروس أيها الإخوة.
وثمة درسٌ آخر: ففي هذا الزواج المبارك ما يلجم أفواه المستشرقين والمستغربين من الذين يأكل الحقد أفئدتهم على الإسلام ونبي الإسلام وأهل الإسلام؛ حين يريدون أن يتخذوا من تعدد زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلاً للنيل من الإسلام ومن نبي الإسلام، وما علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث مع خديجة رضي الله عنها وهي المرأة الأيم التي تزوجت رجلين قبله وتكبره بخمس عشرة سنة، لبث معها خمس عشرة سنة لم يتزوج غيرها قضى معها زهرة عمره، وقوة شبابه، ألا ساء ما يزرون وما يكتمون!
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله- واعتبروا بنبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بيته وسوقه، وحضره وسفره، وفي شأنه كله، واقتدوا به وتأسوا، وصلوا وسلموا كما أمركم بذلك ربكم، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك وكرمك يا أكرم الأكرمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم أيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وأيده بتأييدك، وأعزه بنصرك، وألبسه لباس الصحة والعافية، وارزقه البطانة الصالحة، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(70/8)
توحيد العبادة
تكمن أهمية التمسك بالتوحيد بأنواعه الثلاثة في أنه الحد الفاصل بين الإيمان والكفر، وقد تحدث الشيخ عن التوحيد فبين أهميته، ثم عرج على ذكر أنواع التوحيد الثلاثة وتعريفاتها، كما ركز على بيان ذكر التوحيد في القرآن والسنة، ووضح علاقة التوحيد بأركان الإسلام وخاصة الحج، وحذر من عاقبة الخوف الموصلة إلى الشرك بالله مبيناً بعض الصور المخلة بالعقيدة.(71/1)
أهمية الحديث عن التوحيد
إن الحمد لله؛ نحمده ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، أشكره ولا أكفره، وأسأله المزيد من فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله بعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة ورفع أركان الملة، ودل على التوحيد ومعالمه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فبتحية الإسلام أحييكم أيها الإخوة: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
ثم أشكر مكتب الدعوة بشمال الرياض لدعوته وإتاحة الفرصة للقاء بكم في هذا المحل الطاهر المبارك، وهذا البيت من بيوت الله عز وجل، وفي سلسلة الدروس التي عقدوها بمناسبة موسم الحج حيث إن اليوم هو الثامن والعشرون من الشهر الحادي عشر من سنة سبعة عشرة وأربعمائة وألف من هجرة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
والموضوع الذي اختاره الإخوة المنظمون لهذه الدروس هو: (توحيد العبادة وعظم شأنه).
وأخي فضيلة الشيخ ابن محسن قال عنه: إنه يحسبه مهماً بل إنه أهم المهمات، وكما أشار فضيلته أنه هو الغاية التي خلق الله لها الجن والإنس على حد قوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أي: ليوحدون، ومن هنا فإن الحديث فيه يجب أن يكون متوافراً وألا يغفل الناس عنه؛ وسوف نرى -إن شاء الله- في ثنايا عناصر هذا الموضوع أن الغفلة عنه ولو للحظاتٍ يسيرة في حساب الزمن؛ فإنها تؤدي مباشرة إلى انحراف الأمة.
ويكفي إشارة إلى ذلك في أهمية الموضوع أن خليل الله إبراهيم عليه السلام وهو إمام الحنفاء والذي أمر نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم باتباعه: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل:123] وهو إمام الموحدين، هو الذي قال فيما أخبر الله عز وجل عنه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:35 - 36].
وتأكدوا يا إخواني أن هذا الإضلال -نسأل الله السلامة ونسأله ألا يزيغ قلوبنا- في كل زمان ومكان، والحديث سوف يكون منتظم العناصر، ولعلي أستطيع أن آتي عليها كلها وإن كان بعضها يدل على بعض وبعضها يفيد بعض؛ لأن الحقيقة أن كل حديثٍ عن الدين فهو عن التوحيد إما عن حقيقته أو غايته أو مآله، أو كماله، أو عن ضده، وسوف نرى ذلك جلياً، ولهذا فإن العناصر التي تتضمنها هذه الكلمة هي:
الأول: تعريف وإثبات.
والثاني: التوحيد في القرآن والسنة، وحينما نقول السنة سوف نشير إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في مكيها ومدنيها.
الثالث: التوحيد وأركان الإسلام.
الرابع: التوحيد والحج، (بمناسبة الدروس المعقودة).
الخامس: المتابعة، يعني: متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تمثل جانباً كبيراً جداً في تحقيق التوحيد، ونعني به الاتباع الذي هو مضادٌ للابتداع.
سادساً: الخوف من الشرك.
سابعاً: صور جديدة من الخلل في العقيدة.
ثامناً: طريقة تعليم التوحيد.(71/2)
تعريف التوحيد وإثباته
التوحيد كما هو -والحمد لله- في مناهجنا جلي وواضح، وهذه البلاد -ولله الحمد- بعلمائها وولاتها تهتم بهذا اهتماماً منقطع النظير، وما ذلك إلا لما أراده الله عز وجل بها من الخير حينما هيأ لها الإمام المجدد شيخ الإسلام وعلم الأعلام الإمام/ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ثم عضده الإمام/ محمد بن سعود، فقامت هذه الدولة على التوحيد مجددة دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ثم تلاميذ أو أئمة هذه الدعوة تلاميذ؛ سواء شيخ الإسلام من نفسه أو من ذريته، أو ممن تتلمذوا عليه، فهؤلاء علمونا التوحيد، وبينوه لنا.(71/3)
تعريف التوحيد بأنواعه الثلاثة
من مسلماتنا -أيها الإخوة- التي نعرفها في هذه البلاد ولا يكاد يعرفها كثيرٌ من أبناء المسلمين انقسام التوحيد إلى أنواعه الثلاثة:
توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وكلها تعود إلى توحيد الألوهية، ولهذا إذا أردنا أن نعرفها جميعاً بتعريفٍ يجمعها كلها بما يشمل توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، فنقول: هي إفراد الله عز وجل بما يختص به.
فإذا ما جئنا إلى توحيد الربوبية وهو الذي نعرفه بأنه: توحيد الله بأفعاله؛ من الخلق والرزق والإحياء والممات نقول هو: إفراد الله بالخلق والملك والتدبير.
وهذه الصفات الثلاث تجمع جميع خصائص الله عز وجل في أفعاله سبحانه وتعالى، سواء كان إنزال غيث أو كان إحياء، كلها في خلقه وملكه وتدبيره، والتدبير كل تصريف، والملك الهيمنة على هذا الكون سبحانه وتعالى، فهو له وحده، ولهذا قال: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26] كلها داخلة في الملك، فإذاً توحيد الربوبية هو: توحيده من حيث إنه إفراد الله عز وجل بالخلق والملك والتدبير، وإذا ما نسبنا الملك والتدبير والتصرف إلى غيره فهي إضافية، وإلا فإن الله عز وجل نسب لنا ملكاً وذكر أننا نملك وقال: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] فهي إضافية بحدود ما أعطانا الله سبحانه وتعالى، أما الملك الحقيقي والتصرف الحقيقي فهو لله سبحانه وتعالى، ومن هنا لا بد أن نفرد الله عز وجل بما يختص به.
وتوحيد الألوهية هو: إفراده سبحانه بالعبادة، وفي أصله: هو توحيد الله بأفعال العباد، بمعنى: أفعالنا نحن التي تصدر منا، من دعاء واستغاثة واستعانة وذبحٍ ونذر هي أفعالنا نحن نفردها لله سبحانه وتعالى، ونخصه بها، ولهذا نقول: إن التوحيد هو: إفراد الله بالعبادة، ولاحظوا أننا نستصحب كلمة إفراد لأننا نعرف التوحيد.
وتوحيد الأسماء والصفات هو: إفراده سبحانه وتعالى وتفرده بما سمى به نفسه ووصف به نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
إذاً: بهذا ندرك معنى التوحيد كله، وهو: إفراد الله بما يختص به، إن كان في أفعاله سبحانه، وإن كان في أفعالنا، وإن كان في أسمائه وصفاته، وإذا أردتم المزيد لتعريف التوحيد؛ لاحظوا تعريف ضده وهو الشرك.(71/4)
تعريف الشرك
الشرك: هو مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله، هذا هو الشرك.
ولا أحب أن أقف حقيقة عند التعريف؛ فبالشرك يتجلى التوحيد، والشرك مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله، لكن نقف عند صفتين تبين كيف يتجلى توحيد العبادة.
الله عز وجل قال في الكفار: بسم الله الرحمن الرحيم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] أي: يساوون، يساوونه بماذا؟ معلوم أنهم لم يساووه بالخلق، فلم يعتقدوا أن آلهتهم تخلق وترزق، وإنما يساوونه بأفعالهم، يصرفونها لغير الله عز وجل، وبخاصة المحبة والتعظيم والتذلل والخضوع.
وكذلك أيضاً في قوله تعالى حينما يتحاج أهل النار في النار ومع معبوداتهم من دون الله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98] فهم ما ساووهم بالخلق ولا بالرزق وإنما ساووهم بالعبادة والمحبة والخضوع.
وإذا كان الأمر كذلك ولأجل أن نميز حينما قلنا إن الشرك هو: مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله نقول: الإنسان يحب ويخاف، والله وضع فينا غرائز الحب، وغرائز الخوف، فالله قال في حق نبيه وكليمه موسى عليه السلام: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67] وقال في حق إبراهيم وهو صاحب الملة الحنفية وهو القدوة: {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود:70] هذه خيفة فطرية لا تدخل فيما قلنا من أنه من خصائص الله، فالخوف الجبلي والفطري أن تخاف من السبع والأسد، وأحياناً قد تخاف من آخر الليل أو تخاف من البرية تستوحش، هذا خوف جبلي ليس له علاقة بالتوحيد، وأنت لست ملوماً في هذا.
وكذلك الحب، فالإنسان يحب أهله وأولاده وزوجه، ويحب أباه وأمه، ويحب أمواله كما قال عز وجل في كثيرٍ من المحبوبات: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا} [التوبة:24] هذا بطبيعة أننا نحبها، فمحبتنا لها محبة فطرية وجبلية، والله وضعها فينا؛ لأجل أن تقوم الحياة حينما خلقنا واستخلفنا في هذه الأرض واستعمرنا فيها وطلب عمارتها، جعل فينا هذه الغرائز حتى نتعلم ونتشبث بقدر من نقوم من المهمة التي استخلفنا الله عز وجل فيها.
فهذا الحب فطري، كأن يحب الإنسان أهله إلخ، لكن حينما يرقى وينازع حق الله عز وجل في الحب، وحق الله في الخوف، وحق الله في الخضوع وحق الله في التذلل والانقياد والرغبة والرهبة، حينئذ تأتي خصائص الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] والآية التي تلوناها قبل قليل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} [التوبة:23 - 24].
إذاً: القضية موازنة، والخوف الفطري والحب الفطري لا إشكال فيه، لكن أن ينازع أو أن يغلب أو أن يطغى على حب الله عز وجل وعلى الخوف منه وعلى تعظيمه وإجلاله سبحانه وتعالى؛ حينئذ يدخل الإنسان في دائرة الخطر، ومن هنا يا إخواني جاء التحذير من الشرك في كثيرٍ من الآيات التي سوف نراها إن شاء الله.
ولهذا إذا لاحظتم المنحرفين في عقائدهم -وخاصة في بعض المنتسبين للإسلام في كثيرٍ من الأقطار- من خلال تعلقهم بالقبور والأضرحة، ترون أنه حب وخوف وتعلق وتعظيم، وتعليق في نفعٍ وضر وتعلق ولهان، لو كانوا يعلمون حق المعرفة ويعتقدون صحة الاعتقاد بأن الله هو النافع الضار، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يجب إفراده في التعظيم والمحبة والإجلال؛ لما كان ذلك منهم، ومن هنا سوف نرى -إن شاء الله- طريقة تعليم التوحيد.
إذاً: يا إخواني! هذا هو التوحيد من حيث تعريفه، ومن حيث بيان ضده كذلك الذي هو الشرك؛ لأن بضدها تتبين الأشياء.
ثم أيضاً من أسماء هذا التوحيد: الفقه الأكبر، ولاشك أن المسلم المطلوب منه أن يتفقه في دينه كما في قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {من يرد الله به خيراً يفقه في الدين} فأولى الفقه وأهمه وأعظمه وأكبره فقه التوحيد، بمعنى فقه العقيدة، ولاشك أن الأحكام يجب أن تعرفها؛ لتقيم بها دينك؛ لأنها هي أيضاً من وسائل تحقيق التوحيد ولاشك.
لكن أهمية الفقه الأكبر كما عرفه أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: [[معرفة النفس ما لها وما عليها]] فأولاها هو فقه العقيدة والتوحيد.(71/5)
إثبات التوحيد عن طريق القرآن
نأتي إلى العنصر الثاني: التوحيد في القرآن والسنة، قبل أن نأتي إلى الكلام عن التوحيد في القرآن والسنة نأتي إلى إثبات التوحيد، وليس هناك طريق لمعرفة التوحيد ولا لتعليمه ولا لإثباته ولا لبيانه للناس حق البيان إلا عن طريق القرآن؛ القرآن كتاب هداية، بيَّن التوحيد بشكل جلي وعجيب وسهل وميسور، ليس على الطريقة التعليمية -مع الأسف- التي انحرف بها كثيرٌ من المتقدمين من باب المنطق وعلم الكلام والعقليات المحضة التي لم تجد شيئاً ولم تفد التوحيد الحقيقي، وإنما إثبات التوحيد بطريق القرآن.
ولهذا نقول: إن الطريق الفطري لإثبات التوحيد -ونعني به توحيد الألوهية بخاصة- هو: الاستدلال عليه بتوحيد الربوبية، فأي إنسان تريد أن تبين له التوحيد ائته عن طريق توحيد الربوبية.
وتوحيد الربوبية تقريباً لا يكاد ينكره أحد، إلا مع الأسف في وقتنا الحاضر وإلا فالأمم كلها تعرف توحيد الربوبية، وتعلم أن الله عز وجل هو الخالق والرازق والمحيي والمميت والمدبر والمصرف سبحانه وتعالى وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، هذا هو توحيد الربوبية الذي تعرفه كل الأمم ولا يكاد ينكره إلا فئام قليلة من الدهرية أو غيرها، لكن -مع الأسف- مع الماديات المعاصرة صار هناك خلل كبير، وسوف نشير إليه إن شاء الله.
فالقرآن أثبت توحيد الألوهية عن طريق توحيد الربوبية؛ لأن طبيعة قلب الإنسان يتعلق بالمصدر الذي خلقه والشيء الذي يعتقد أنه مصدر نفعه وضره، فإذا كان هذا مسلماً في النفوس -لأن القلب بطبيعته يتعلق بهذا- معترفاً بالخلق وبالرزق وبمصدر النفع والضر؛ فهذا هو المدخل الوحيد والقريب والذي لا يقبل الجدل.
ولهذا حينما تتأمل بعض الآيات مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] أمر بالعبادة والتوحيد، ما هي العلة؟ {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22] وهذا خطاب لشيء مقبول تطيقه النفوس وتؤمن به.
بل حتى أحياناً قد يكون هناك بعض العقول غير مسلمة وعندها غفلة، وحينما تذكرهم بآيات الكون مباشرة يرجعون، ولهذا الله عز وجل قال: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] وقال بعدها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164] فسبقها بالقضية ثم أتى ببرهانها، ففي الآية الأولى في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] نقول مثلاً: فجعل تفرده بالربوبية حينما قال: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21] فجعل تفرده بالربوبية خلقاً للحاضرين والماضين، أنتم ومن قبلكم، وتمهيد الأرض ورفع السماء، وإنزال المطر ليحيي الأرض بعد موتها، ويخرج الرزق لعباده جعل كل ذلك آية على توحيد الإلهية واستحقاقه وحده للعبادة وتفرده بذلك وتنزيهه عن الأنداد والشركاء: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22].
هذه طريقة سهلة وواضحة في أن قضية إنكار وجود الله لا تكاد تقبلها الفطر، نعم قد تصيبها غفلة لكن مِن السهولة إثباتها، فما دام أنها مستقرة يترتب عليها توحيد الألوهية، مثلاً في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس:31 - 32] آيات كثيرةٍ إلى أن قال: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس:35].
فقررهم سبحانه بما لم يسعهم إنكاره، ولا مخلص لهم من الاعتراف به من تفرده بالرزق والملك والتدبير والإحياء والإماتة والبذل والإعانة: {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [النمل:64] والإرشاد والهداية: {أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس:35] ولذا يقيم عليهم الحجة في وجوب تقواه: (أفلا تتقون)، دون من سواه، ولا ينكر عليهم حكمهم الخاطئ، وشركهم الفاضح، وعكوفهم على من لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
وهناك آيات طويلة مثل آية النمل: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:59 - 60] تسلسل طويل جداً يمر بكل المعارف البشرية وبكل الأحوال التي تمر على البشرية: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:60] يعني: يعدلون به غيره.
{أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:61 - 62] وهذه قضية كبيرة جداً، وكثيراً ما ينبه إليها القرآن: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَ(71/6)
التوحيد في القرآن والسنة(71/7)
التوحيد في القرآن
القرآن كله أحاديث عن التوحيد -كما فصل ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله- وبيان حقيقته، والدعوة إليه، وتعليق النجاة والسعادة في الدارين عليه، حديث عن جزاء أهله وكرامتهم على ربهم، كما أنه حديثٌ عن ضده من الشرك بالله، وبيان حال أهله وسوء منقلبه في الدنيا وعذابهم في الأخرى.
ولو حاولنا أن نقسم الآيات التي تخاطب الناس في التوحيد، لوجدنا أن الله عز وجل خاطب الكفار وخاطب المؤمنين وخاطب الأنبياء، فهناك شيء عجيب من عناية القرآن بالتوحيد، فكل القرآن العظيم خاطب الكفار بالتوحيد؛ ليعرفوه وليؤمنوا ويعتنوا به، فالله عز وجل يقول للناس: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:21] ويقول: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50 - 51] في آيات كثيرة جداً.
وكل نبي يقول لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وعيسى كل نبي يقول: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] والله عز وجل يخبر عن نبيه في آيات إيمانية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] كل الأمم منهم الكفار خوطبوا في التوحيد ليعرفوه ويؤمنوا به.
وخوطب به المؤمنون، سواء حينما كانوا في مكة أو كانوا في المدينة، وبعض العلماء الذين يكتبون في التاريخ يقولون: إن من مظاهر القرآن المكي أنه يتحدث عن العقيدة والتوحيد، والحقيقة أن المكي والمدني كله يتحدث عن التوحيد، فهذا أمر يحتاج إلى نظر، وإن كانت -ولاشك- طريقة المخاطبة اختلفت، لكن الأحكام كلها في أركان الإسلام الكبرى، سوف نرى أنها أيضاً لب التوحيد وهي أحكام.
فالله عز وجل يخاطب المؤمنين بالتوحيد ليزدادوا إيماناً، وليطمئنوا إلى تحقيق توحيدهم، وليحذروا النقص والخلل فيه، فلهذا قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} [النساء:136] بل عباد الرحمن من صفاتهم: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان:68] مع أنهم عباد الرحمن والله أثنى عليهم، وذكر من صفاتهم: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان:68].
مما يدل على أن القضية كبيرة وليست خاصة بخطاب بالكفار، أن الله عز وجل خاطب بها حتى المسلم، وسوف نرى في فقرة الخوف من الشرك شيء عجيب، فالأمر ليس سهلاً.
وكما قلنا لكم: اجتهدوا وأنتم تقرءون القرآن، وتأملوا كيف يكاد يكون في كل آية إشارة إلى التوحيد، إما صريحة وإما مرد، وإما غاية، وإما مآل، وإما وسيلة، وإما كمال إلخ.
فعباد الرحمن {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان:68] والموعودون بالتمكين في الأرض في قوله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] فأخف خصائص المؤمنين والمسلمين والمحبوبين إلى الله عز وجل والمقربين منه والموعودين بالتمكين في الأرض أنهم يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، وهذا مما يدل على أنه يجب أن تكون هي قضية القضايا وهي سبيل الشرع.
والمؤمنات في آية البيعة فيهن ميمونة، لكن الله خاطب نبيه في مخاطبة المؤمنات: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} [الممتحنة:12] سماهن المؤمنات وهن مؤمنات {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} [الممتحنة:12] ومعلوم من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع المؤمنين والمؤمنات، فهن قد جئن مؤمنات يبايعن على ترك الشرك.
أما الأنبياء والرسل فقد خاطبهم الله أيضاً بالتحذير من الشرك، مع أنه حاشاهم عليهم السلام، مما يدلك على كبر القضية، فالله عز وجل قال لإبراهيم: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج:26] حاشاهم وهو الذي أثنى عليه ربه فقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} [الممتحنة:4] ومع هذا أوحى الله إليه وأكد عليه ألا تشرك: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج:26] ولهذا إبراهيم خشي على ذريته الشرك، كما ورد في أول مفتتح الحديث: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:35 - 36].
ولهذا أيضاً فيما حكى الله عنه: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة:128] وقال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ(71/8)
التوحيد في السنة والسيرة
السنة والسيرة بمعنى واحد في هذا الباب، فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعث بالتوحيد، فأول ما أمر به {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:1 - 3] معنى وربك فكبر: توحيد، وقلنا: إن تقديم المعمول قبل العامل من التخصيص {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:4 - 5] الرجز الأصنام.
فإذاً هذا الذي أمر به هو توحيد، ثم أمر بإنذار العشيرة {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:213 - 214] وحاشاه عليه الصلاة والسلام.
ثم الأمر بالصدع، لا حظوا أننا نتحدث عن الآيات التي فيها التوحيد، وإلا فهناك أشياء كثيرة في التدرج في التشريع، لكن نتلمس الآيات في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيه القرآن له، فهو قد قيل له: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:3] وقيل: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5] وهو مع الأقربين من عشيرته: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:213 - 214] ثم أمر بالصدع في القوم كلهم {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] وبعد الهجرة أيضاً لم ينته التوحيد، محمد صلى الله عليه وسلم يقول لصاحبه أبي بكر: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] القضية تثبيت مرتبة المعية، وهي كما تعلمون من توحيد الأسماء والصفات، وهي تعني حقيقتها كما قال العلماء: توحيد الربوبية مستلزم توحيد الألوهية وتوحيد الألوهية متضمن توحيد الربوبية.
والذي بقي توجيهات ونحن نتدرج في تاريخ السيرة، قال: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40] القضية قضية توحيد {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].
إلى فتح مكة تجد إعلان التوحيد، ويحطم النبي صلى الله عليه وسلم الأصنام وهو يتلو: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] إلى أن جاءه الموت عليه الصلاة والسلام وأعلن في القرآن في قوله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ} [النصر:1 - 3] تنزيه {بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ استغفاره بالعبادة {إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [لنصر:3].
والنبي صلى الله عليه وسلم وهو في مرض الموت كان يقول: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} وهذا من آخر ما قال.
إذاً ليس التوحيد في عهد مكة وليس القرآن المكي فقط هو من يتدث عن التوحيد، بل التوحيد صحب السيرة كلها من {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5] إلى {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} وهو في مرض الموت عليه الصلاة والسلام.
ولهذا نقول: يا إخواني لم تخل فترة من هذه الفترات ألبتة من إعلان التوحيد وشواهده، ومحاربة الشرك وظواهره، ويكاد ينحصر عرض البعثة كلها في ذلك، فما ترك عليه الصلاة والسلام صغيراً ولا كبيراً وهو وحيد، ولا ذهل عنه وهو محصور في الشعب، ولا انصرف عنه وهو في مسألة الهجرة والعدو مشتد في طلبه، ولا قطع الحديث عنه وأمره ظاهر في المدينة وأنصاره وأعوانه متظاهرين، ولا أغلق باب الخوض فيه بعد فتح مكة الفتح المبين، ولا اكتفى بطلب البيعة على القتال عن تكرار أمر البيعة على التوحيد {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} [الممتحنة:12] فهذه سيرته المدونة وأحاديثه الصحيحة والقرآن من وراء ذلك كله توحيد، ولو تتبعتم وتلمستم لوجدتم شيئاً عجيباً لا في القرآن ولا في السيرة، ولهذا نقول: ومن أجلها كان التوحيد أولاً ولابد أن يكون أولاً في كل عصر وفي كل مصر.(71/9)
التوحيد وأركان الإسلام
المعروف أن أركان الإسلام وخاصة الأركان الأربعة الصلاة والزكاة والصوم والحج هي فروع، وهي من أصول الدين، ولا شك أنها من المعلوم بالضرورة أنها أركان وأحكام، والأحكام يعتبرونها من الفروع، لكن الواقع أن تقرير التوحيد من خلالها شيء عجيب.(71/10)
الشهادتان
أول الأركان هي الشهادتان، وهي ظاهرة لأنها نطق وإقرار بما في القلب؛ حينما تقول: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله) فهذا تقرير في عقيدتك في الله وعقيدتك في محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وبالله عليكم كم مرة تمر على المسلم ذكر الشهادتين والأذان في اليوم والليلة؟ خمس مرات، هل هو المؤذن فقط الذي يردد أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله أم نحن؟ نحن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا إذا سمعتم المؤذن أن نقول مثل ما يقول، لماذا؟ هل نقولها عبثاً؟ لا.
معناها: فكلما قال المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله.
التحيات: كم تصلي أنت؟ الصلوات الخمس وفيها التشهدات، كم تصلي في السنة وخاصة إذا أعانك الله وأصبحت من المجتهدين في النوافل كم مرة تقول في التحيات: أشهد أن لا إله إلا الله؟ هذا ليس عبثاً يا إخواني، بل هذا من عقيدة التوحيد.(71/11)
الصلاة
الصلاة بين الأركان خمسة تذكيراً وتطبيقاً وأركاناً وإظهاراً وعملاً، فالشهادتان هي في وحدانية الله، والصلاة مفتتحة بالتكبير، وكم في الصلاة من تذكير بالتوحيد؟
أولها افتتاح بـ: الله أكبر، وهذه تعني بلا شك أنك إذا اعتقدت في الله الربوبية هو لا بد يقودك إلى توحيد الألوهية، فإذا كنت تعتقد حقيقة أن الله هو أكبر من كل شيء إذاً ستكون موحداً، والخوف والمحبة والتعظيم والتذلل والخضوع هذا هو التوحيد.
فإذاً: الصلاة مفتتحة بالتكبير المنبئ عن طرح كل من سوى الله عز وجل، ثم شأن استصغار كل من دون الله عز وجل، ناهيك بطبيعة الصلاة من قراءة القرآن في الصلاة، وأركان الصلاة في منازل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] كم من الأذكار تمر عليك في الصلاة وفي التشهدات وفي غيرها، شيء عجيب في الصلاة!(71/12)
الزكاة
الزكاة هي قرينة الصلاة في التعبد لله عز وجل، وفي مراقبة النفس من عبادة الدرهم والدينار، ولهذا قال الله عز وجل: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت:6] من هم؟ {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:7] فهناك ارتباط بين الزكاة وبين التوحيد، فأنت تخرج الزكاة بإخلاص وطيبة بها نفسك تبغي بها ثواب الله عز وجل، ومعتقد أن الملك لله وأن المال لله ومن مال الله الذي آتاك: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] هذه هي الزكاة، ولهذا كانت مطهرة {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] تزكية التوحيد منبع العقيدة والتعلق بالله عز وجل والتجرد من الدنيا عبادة الدرهم والدينار.(71/13)
الصوم
{من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه} ألم نقل: إن توحيد العبادة هو توحيد الله بأفعال العباد، فمتى تكون أفعالي لله، فقول الزور وعمل الزور هذا أنني أخطأت في عملي ولم أجعله لله {فمن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه} ولهذا قال الله عز وجل في الأضاحي في الأخير: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37].(71/14)
الحج
الحج من أقوى مظاهر التوحيد، أولها: التلبية: (لبيك اللهم لبيك)، هؤلاء الذين يتهموننا أحياناً أننا نتهم الناس في عقائدهم، فلماذا الحاج أول ما يأتي بحج أو عمرة يصل الميقات ثم يقول: (لبيك لا شريك لك لبيك؟) وهل يقول هذا عبثاً؟!
لكن مع الأسف أن كثيراً منهم يقولونها عبثاً بل يقولونها وكأنهم ينشدون أناشيد، تلاحظون في وسائل الإعلام الناس في الحافلات يقولون: لبيك اللهم لبيك، حتى معانيها لا يقفون عندها وقفة حقيقية إن الحمد، والنعمة لك والملك يقف عند الملك، لأنه يردد شيئاً لا يفقهه.
وميزة الإسلام أنه بالعمل والحياة وليس طقوساً نرددها أو نواقيس كما هي عند اليهود والنصارى وغيرهم.
حينما كان النداء للصلاة كان نداءً عظيماً ولم يكن ناقوساً ولم يكن مجرد تنبيه، وإنما شعار توحيد، كذلك الحج افتتاحه: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك)، وبخاصة هذه القضية التي تبين توحيد العبادة.
وسبب وقوع الناس في الأضرحة وفي التعلق بالتراب وبالأحجار؛ لأنه فعلاً لا يوجد توحيد، يعني: ندرك نعمة الله عز وجل علينا حقيقة بما نحن فيه من توحيد حينما نرى نزاهة الحرمين الشريفين من مظاهر الشرك، نحن عندما نقول: لبيك لا شريك لك لبيك، في الجاهلية كانوا يقولون: لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك.
مع الأسف أن طبيعة النفس البشرية أحياناً تميل إلى تقديس الأشياء والمقدسات، ليست لأن الديار المقدسة، فالحرم المكي مقدس وهذه المظاهر مقدسة ومباركة، لكن أين صفاء العقيدة التي بها نعرف معنى التقديس؟
مع الأسف أن مفهوم التقديس عند كثيرٍ من المسلمين من الذين ما عرفوا صفاء العقيدة يظن أن التقديس يكون بالتمسح وبالتعلق بالحجارة، وباحتضان الأعمدة والأسطوانات والجدران ووضع الخدود على التراب، أو أن ينفضه على الرءوس أو في الجيوب أو في تمائم وحروز، ولهذا نقول: لبيك لا شريك لك، ولهذا قال ربنا: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش:3] ما قال: يعبدوا البيت لكن مع الأسف أن الإنسان بسرعة ينحرف.
ولهذا تلاحظون مظاهر الأخطاء عند المسلمين في هذا الباب كثيرة على جبل عرفات وعلى حجارة عرفات بل حتى على أشجار عرفات يربطون بالخيوط ويعظمون الأشجار والحجارة.
أما الشعوذة والسحر والكهانة فقد فشت حتى في بلادنا التي نعترف بصفاء عقيدتها؛ لأن طبيعة النفس البشرية ضعيفة، فالخوف من الشرك يجب أن تعمر به القلوب: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:35 - 36].(71/15)
التوحيد والحج
في كل الأزمان والأعصار تخوف من إمام النبوة الأولى إبراهيم عليه السلام، فالحج من أظهر مظاهر التوحيد، وهو من أكثر ما يخاف منه لأنه بالنسبة لـ منى وعرفة والمسجد الحرام ومكة المكرمة وغار حراء وغار ثور كلها مواطن شريفة ومقدسة، ولاشك أنها تبعث في المسلمين ذكريات جميلة، لكن مع الأسف لا تعود الذكرى ولا أي شيء منها وإنما يرون الأطلال، ولا شك أنك ترى الأرض التي نشأ عليها محمد صلى الله عليه وسلم ومشى عليها أبو بكر وعمر وعلي والصحب الكرام ودار الندوة، ولا شك أنها تحكي تاريخ الإسلام لكننا لا نعبدهم من غير الله، ولا نستكين لهم كما هي الانحرافات الموجودة.
فمظاهر التوحيد في الحج سنقف عندها وقفة إلى حدٍ ما ولهذا نقول في التلبية: (لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).
فأقف عند التلبية وأبسطها قليلاً من حيث إنها تجسد التوحيد كله، فالعلماء قالوا: إن توحيد الألوهية متضمن إثبات الربوبية، وإثبات الربوبية مستلزم إثبات الألوهية، ولهذا لا تجد أحداً يوحد الله في الألوهية إلا وقد وحد في ربوبيته.
فأنت قل: لبيك اللهم لبيك ولهذا قل: إن الحمد والنعمة هذا التوحيد فيه ربوبيات بالتفصيل كما سنرى، لكن من الناس من يوحد الله في الربوبية لكنه لا يوحده في الألوهية، ولهذا كان من يوحد الله في ربوبيته ولا يوحده في ألوهيته كافراً، إذا كان موحداً في الربوبية فعلينا أن نعلمه توحيد الألوهية، ولهذا صاغ العلماء هذه القاعدة: توحيد الربوبية مستلزم توحيد الألوهية، وتوحيد الألوهية متضمن توحيد الربوبية.
فهذا المقصود منه هو: الملك لا شريك لك، إثبات لتوحيد الربوبية، وقوله وحدك لا شريك لك هذا توحيد الألوهية، وفي قوله: إن الحمد والنعمة لك، هذا يدل على توحيد الأسماء والصفات، فالحمد وصف للكمال، والنعمة من صفة الأفعال، فقد تضمنت توحيد الأسماء والصفات، بل إن قولنا الأسماء والصفات حين نوجدها لربنا، فإننا نقول: إثباتاً بلا تكييف، وتنزيهاً بلا تعطيل، فهل هذا في التلبية؟ نقول: نعم.
نحن عندما نثبت الأسماء والصفات نثبتها بلا تكييف ولا تمثيل، ونثبت حقيقتها مع اعتقاد أنها ما زالت عليه من غير تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه، لأنه قال: إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وحتى في الأسماء والصفات كلمة التلبية تضمنت مجموعة التوحيد الثلاث: الألوهية، والربوبية، والأسماء والصفات.(71/16)
الخوف من الشرك
لعلنا أشرنا في إشارات من الخوف من الشرك، ولعلكم أيضاً لمستم الانحرافات في العالم الإسلامي.
والآيات الكثيرة والجميلة في معناها والواضحة في دلالتها حتى في حق الأنبياء عليهم السلام -وحاشاهم أن يشركوا- مما يدل على أن الأمر مخوف، ولهذا نقول: إن هذه الأدلة المتكاثرة والحجج المتظاهرة والبراهين المتواترة ما كانت إلا لعظم الأمر وخطر شأنه، وشدة الخوف فيه على الناس من الانحراف، والقلوب من الزيغ، ولماذا لا يخاف عليه والشياطين ما فتئت تترقب لبني آدم تجتالهم وتغويهم كما جاء في الحديث القدسي: {خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم فحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً} الحديث رواه مسلم وأحمد.
ولماذا لا يأتي الخوف من الشرك والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: {أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، وعندما سئل عنه قال: الرياء} وقد علق على ذلك الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في شرح كتاب التوحيد فقال: فإذا كان الشرك الأصغر مخوفاً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كمال علمهم وقوة إيمانهم؛ فكيف لا يخافه من هو دونهم في العلم والإيمان بالمراتب، قال: خصوصاً إذا عرف أن أكثر علماء الأمصار في الأزمنة المتأخرة لا يعرفون من التوحيد إلا ما أقر به المشركون -أي: توحيد الربوبية- وما عرفوا معنى الألوهية التي نفتها كلمة الإخلاص عن كل ما سوى الله عز وجل.
وكذلك في حديث: {الشرك أصغر من دبيب النمل} أيضاً قال رحمه الله: إن تخوف الخليلين عليهما السلام لما يريانه من سنن الله في مصير الأمم بعد الأنبياء، وكيف تصبح -إن لم يحفظها ربها- فريسة لشياطين الإنس والجن والدجالين والمضلين من عباد الأوثان والجاهلية في كل زمان ومكان.
فالخوف من الشرك شديد، وقد ذكرنا لكم صور تعلق الناس بالسحر والكهانة والخوف والشعوذة وفشوها، إنها دليل على خلل في العقيدة، وعلى خلل في توحيد العبادة والألوهية.(71/17)
صور جديدة من الخلل في العقيدة
نأتي إلى صور جديدة من الخلل في توحيد العبادة -العقيدة- وهي في هذا العصر المادي، فإن فئات من الذين يزعمون الانتساب إلى الإسلام -وهم محسوبون على المثقفين- ومن لا يرضون بحكم الله يجدون في صدورهم حرج؛ حينما يكون الحديث عن إقامة حدود الله، فترتعد فرائصهم وتشمئز قلوبهم، فيقومون ويقعدون ويلوون ويزبدون ولهم إخوان يمدونهم في الغي، ومع الأسف أنها ظهرت صور من صور الردة، هذه -يا إخواني- لاشك أنها من الأمور التي تخيف، فالإسلام عندهم ظلم المرأة وهضم حقوقها، والحدود عندهم قسوة وبشاعة وتخلف، وحكم الردة تهديد لحرية الإبداع والفكر، وأحكام الشرع عندهم عودة إلى أصول الظلام، وتعصباً وانغلاقاً، لقد أدخلوها في الإرهاب، حتى المتمسك بالإسلام قالوا: هؤلاء إرهابيون، والله عز وجل يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] صور من صور التوحيد، ولهذا يقول يوسف عليه السلام فيما أخبر الله عز وجل عنه: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:39 - 40] فالقضية جلية لا تحمل إلا برهان.
فإذاً الخاتمة التي نختم بها: إن التوحيد صعب على الأذلاء من هؤلاء المعارضين، وهؤلاء الذين يزعمون الثقافة ويزعمون أنهم يريدون الخير لأممهم مع أنهم هم أساس الداء وهم بهم يعظم البلاء، فالتوحيد صعب على الأذلاء، ومن فيهم الخسة والذلة والتبعية، ولهذا يقول: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] التوحيد صعب على من استمرءوا الفساد وولغوا في الأوحال، والله عز وجل يقول: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45].
إنهم لا يعرفون التوحيد ولا يعرفون صفاء دينهم، مستعبدون في تفكيرهم وكأنهم قالوا للذين كفروا وكرهوا ما نزل الله: سنطيعكم في بعض الأمر، بل في كل الأمر، إنهم حين لم يعرفوا التوحيد ولم يحققوه أصبحوا وكأنهم فئة منفصلة عن أمة الإسلام بفكرها ورؤيتها، وغايتها مشدودة من خارجها من الشرق والغرب في السياسة والاقتصاد والأدب، وقد تجلى ذلك في تجاهله بل في تمرده على تاريخ أمته وأصالتها وتراثها، ونعمة التوحيد أيها الإخوة يخرج بها العبد من ظلمة الشرك وجهالاته إلى نور الإيمان بالله وتوحيده.
أسأل الله سبحانه وتعالى ألا يزيغ قلوبنا بعد إذا هدانا، وأن يرزقنا الفقه في الدين، وأن يرزقنا الاستمساك بتوحيد ربنا، إنه سميع مجيب، وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه وسلم.(71/18)
الأسئلة(71/19)
مدى صحة عبارة: "أول واجب على المكلف هو النظر في الوجود"
السؤال
فضيلة الشيخ: نقرأ في بعض الكتب عبارة: (أول واجب على المكلف هو النظر في الوجود) فما صحة هذه العبارة؟
الجواب
هذا خطأ في طريقة المنهج، وفي تعليم التوحيد، وهي التي سار عليها المتكلمون، فهذه الكلمة ليست صحيحة والواجب على المكلف هو التوحيد وهو أن يعبد الله عز وجل، وقد قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أي: يوحدون، وما قال: وما خلقتهم إلا لينظروا أولاً، ولكان النظر مأمور به، لكن ليس كل من نظر بلغ، وليس كل قادر على النظر مطلوب، ولهذا هناك كفار عقلاء وعباقرة ومع هذا الهداية بيد الله سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272].
فالمطلوب هو بيان التوحيد، ووالله يا إخواني أنا أقولها بكل صدقٍ وإخلاص: إن شيخ الإسلام/ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في مؤلفاته وفي رسائله هذه التي هي صغيرة في مبناها لكنها كبيرة في معناها: الأصول الثلاثة، والقواعد الأربع، وضع رحمه الله مما يدل على فقه عظيم في أمور الناس، فهي سهلة منقولة من الكتاب والسنة تخاطب العامة؛ ولذلك كانوا يحفظونها ويعرفون معناها، فهي طريقة قرآنية سهلة وميسرة، ولا نقول: نحن متعبدون بها، لكن يمكن أن ننسج على منواله ونقدرها ونأخذه بها، وكما قال الشيخ: نطورها، ونبسطها في مناهجنا بحيث يتربى عليها الناشئة والأطفال ويتوسع في ذلك وتوسع في معارفه، فيركز على التوحيد والنحو والعلوم والرياضيات والجغرفيا والتاريخ وفي كل مادة في طريقة سهلة، في النظر في آيات الكون وفي أن يعرفوا طريقة القرآن، فالقضية تحتاج إلى نظر وتحتاج إلى تطوير ومعالجة، فهو رحمه الله وضع شيئاً كي يفهم الناس، ونستطيع أن نوسع هذه الخطى وأن نضع على منهجه.(71/20)
علم الكلام
السؤال
نسمع عن علم الكلام، وما مدى صحة هذه التسمية، وهل تدل على شيء؟
الجواب
هم يسمون علم العقائد علم الكلام، بل حتى الذين يأخذون به يسمونه الكلام وهم الذين يقولون للعلماء: أنهم يثبتون العقائد بطريق العقل، وبطريق المنطق، والمنطق له قواعد خاصة، وله أيضاً قواعد معينة كبرى وصغرى إلى آخره فهم يحاولون أن يثبتوا العقائد وبخاصة ما يسمونها بتسوية الدين كالنبوة ووجود الله عز وجل، ومسألة الصانع، والنبوة والمعجزة والقرآن فكل هذه عن طريق المنطق وعلم الكلام، ولكن لا شك أن هذا كما أشرنا في مفتتح حديثنا العنصر الأول ذكرناه هي طريقة القرآن في إثبات التوحيد وإثبات العقيدة، وهو النور والهداية لكن مع الأسف لا تؤدي الغرض.
والشيء الثاني: أننا لو سلمنا -إن صح التعبير- به في خاصة الخاصة فلا يفقه العامة منه شيئاً، ولهذا أشير إلى كلمة لواحد منهم من علماء الشافعية، كلام لطيف جداً ذكره ابن حجر الهيتمي صاحب كتاب: الزواجر من علماء الشافعية، وإن كان له كلام منتقد لكن على كل حال له كلام في هذا يؤخذ به، يقول: ينبغي منع من يشهر علم الكلام بين العامة -وأنا أقول بين العامة والخاصة- لقصور أفهامهم ولأنه لا يؤمن عليهم من الزيغ والضلال، ولابد من أخذ الناس بفهم الأدلة على ما نطق به القرآن ونبه عليه إذ هو بين واضح يدركه العقل.
كلام سليم وصحيح، فعلم الكلام ليس بحجة ولا يستفاد منه شيء إلا في بعض الأشياء فيما يتعلق بالعقل؛ لأن الهداية بيد الله لا تخالف القرآن وفي الأمم في الحاضر والماضي كفار صناديد، وهم مع ذلك كما في الهند يعبدون البقر، علماء في الذرة وعلماء في الكون ومع هذا يعبدون البقر والأصنام والأوثان.
اليابانيون كلهم بوذيون يعبدون بوذا وبعض الإخوان ذهبوا إلى هناك، فتستغرب على أناس على مستوى من العبقرية العلمية والعلوم المادية ومع هذا يجلس إلى التمثال بوذا.(71/21)
تأثير المعاصي في التوحيد
السؤال
قرأت لـ ابن القيم رحمه الله قوله: كل معصية قبل أن تنسى شرك، كيف يكون ذلك؟
الجواب
هذا أشرنا إليه أن المعاصي تؤثر في التوحيد ولاشك؛ لأن المعصية تعني وجود خلل في العقيدة، وإذا استرجعت في ذهنك قوله صلى الله عليه وسلم: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن} فإذاً لو كانت عنده قوة عقيدة في لحظة الإقدام على المعصية، لكانت رجحت أن يقدم، فلما كان هناك شيء من الضعف غلبت المعصية وغلب الهوى وغلبت النفس الأمارة بالسوء وغلب الشيطان.
حتى إن بعض العلماء يقول -أثناء المعصية-: مشيراً إلى قوله صلى الله عليه وسلم: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن} يعني: ارتفع أثناء الزنا فإذا أقلع عاد، فالمعصية تعني قلة الخوف من الله عز وجل، وقلة الخوف تعني: ضعف العقيدة، ولذلك من أنواع العبادات: الخوف، هذا معنى كلام ابن القيم فيما عزوته إليه والله أعلم.(71/22)
علاقة مطالع النجوم بنزول الأمطار
السؤال
نلحظ أن بعض الناس يقول: ينزل المطر في مطلع النجم الفلاني، فهل هذه العبارة مستقيمة؟
الجواب
إذا كان يقصد أنه بسببه هذا لا شك أنه الشرك، كما في حديث زيد بن خالد الجهني عندما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فمن قال: مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب}، فإذا كان يعتقد أن الكوكب هو الذي ينزل الأمطار، وأنه بسبب اختلاف مطالعها والنجم الأخضر والأزرق هذا لا يصح ولا يجوز.
أما إذا كان يقول: أن الله أوجد هذه الأشياء بالأسباب واعتقد أنها مجرد سبب، فهذا جائز، ولهذا الله عز وجل علمنا سنناً حتى نتقي وحتى نقدم، ولا يوجد أحد يغرس بر إلا في وقته، ولا يغرس بطيخ إلا في وقته، فلا يكاد يغرس في مكان إلا بسبب، فهذا ليس اعتقاداً بالأموال ولا بالفصول وإنما معرفة بالأسباب، بحيث وقت الغرس يكون هو من فصل كذا وكذا، أو حتى يجوز غرس النخل في الوقت الفلاني، البر من كذا وكذا، والبطيخ في الوقت الفلاني، هذا لا شيء فيها؛ لأنها سنن الله عز وجل وضعها ودل الناس عليها، لأن الاستخلاف علمنا وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون، وعلم الإنسان ما لم يكن يعلم.(71/23)
خوف السر
السؤال
هل لكم يا معالي الشيخ أن تحدثونا عن خوف السر؟
الجواب
هذا يتعلق بقضية الإخلاص والرياء، إذا نظرنا إلى طبيعة شريعتنا ففيها أعمال علنية مشروعة يؤديها المسلم مع إخوانه، ويؤديها علانية، فهذه تؤدى على نحو ما شرع الله صلاة الجماعة، إذاً من يقول: أنا لا أصلي جماعة خوفاً من الرياء! ويقول: أنا لا أحج وأترك الطواف لأنني أخشى الرياء، فلا يفعل بل حتى الصدقة التي يمكن أن تكون حرةً قال: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] إذاً هذه متعلق بالعلن والخوف العلني والحذر.
خوف السر: هو أن تخشى الله عز وجل وأنت مفرط، وهذا أيضاً دقيق، ولاشك أنها تجعل الإنسان يقوم في جنة الليل يبكي ويبكي، لماذا؟ هذا الخوف من الله عز وجل.
أما إذا كان الخوف من الناس بسبب شرهم فإن هذا أيضاً يختلف، فالخوف الجبلي مفطور في الإنسان، فلو قيل: إن السلطان هددك؛ تجد أنك تخاف وأنت في بيتك، هذا خوف جبلي وتخاف فعلاً، أو قيل: إن في البيت لص، فهناك شبه من الخوف، سواء خوف من ناحية أنه جبان، أو خوف من المواجهة وماذا تكون النتيجة، بل أحياناً قد يكون هذا خوف دائم، فالخوف الجبلي سواء كان سراً أو علناً لا خوف فيه، والخوف من الله عز وجل كذلك أيضاً هو على نحو ما ذكرت.(71/24)
انتهاء فرقة المعتزلة
السؤال
هل صحيح أن المعتزلة فرقة كانت ثم اندثرت؟
الجواب
يبدوا أنها خفّت كثيراً وأوشكت أن تندثر، لكن مع الأسف أن العقلانيين من الأدباء والكتاب حرصوا على إحيائها، كـ طه حسين ومن سار على شاكلته، اجتهدوا أن يحيوا مذهب الاعتزال ولهذا حتى الحداثيين الآن الذي له قراءة في الحداثيين يلاحظ أنهم ليسوا معتزلة ويا ليتهم معتزلة! فهم يكفرون بالله عز وجل من حيث لا يعلمون نسأل الله السلامة.
لكنهم أحياناً قد تعجبهم نظرات عقلانية، فبعض صناديد المعتزلة لهم نظرات عقلية تعجب الماديين، وتعجب المتأثرين بالغزو الفكري الغربي، ومن هنا يحيونها، لماذا؟ ليس قناعة بالدين -والمعتزلة مقتنعون بالله وبالإسلام وبرسوله- لكن هؤلاء يخرجونها من أجل أن يضللوا بها ويقولون: نؤمن، لا.
نسأل الله السلامة.
من هؤلاء الذين صاروا ضد دينهم الإسلام.
المعتزلة لاشك أنهم أهل ضلال ومنهجهم كان في الرد على الكلاميين والإلحاديين، فهم أرادوا أن يردوا على الملاحدة والزنادقة وأرادوا أن يردوا على اليونان الفسقة لكن أخطئوا بلا شك وإلا مقاصدهم كانت حسنة، لكن هؤلاء ما أخذوها من أجل أن يؤصلوا الفلسفة اليونانية يعني: هؤلاء يريدون أن يحيوا الاعتزال أو بعض مناهج المعتزلة من أجل أن يؤصلوا الفلسفة اليونانية والفلسفة الأرضية المادية.(71/25)
قول بعض الناس "فلان عنده ثقة بنفسه"
السؤال
قول بعض الناس: فلان عنده ثقة بنفسه، هل هو قول صحيح؟
الجواب
صحيح إذا كان المراد به في معناه أنه ليس جباناً وعنده شخصية، ولا شيء فيه إذا كان ثقة بنفسه بحيث يتجاوز حدوده ويتجاوز ما هو معلوم لله تعالى في تصريف خلقه وفي هيمنة مشيئته سبحانه وإرادته هذا لا، أما فلان عنده ثقة بنفسه بحيث لو أنك قارنت بين من يختلفون من بعض الناس تجده عنده تردد وخوف بينما الثاني عنده ثقة بنفسه، فيجوز هذا التعبير ولا شيء فيه.(71/26)
أدوية تشفي من الصداع والضغط
السؤال
نرى في بعض الصيدليات أدوية حديثة يزعم أنها تشفي من الصداع والضغط وغير ذلك فهل استعمالها صحيح، أم أنها من التمائم؟
الجواب
والله ما أدري عنها، لكن هذا ترجع إذا كانت طبية صحيحة ويرجع في هذا ينبغي أن ينظر فيها عالم الشراب وعالم الطب، فإذا كانت فعلاً لها أثر طبي صحيح فهي دون ذلك، أما أنها مجرد علم نفس أو أشياء نفسية لا يجوز، وأغلب التمائم من الأشياء النفسية، تضع الإنسان في مجرد توهم يضع خيطاً في رقبته أو في عضده أو في كاحله أو حتى في خاصرته هي وهم، أما إذا كانت فعلاً تتضمن علاجاً مادياً؛ فهذا أنا لا أعرف عنها شيئاً ويرجع النظر فيها كما قلت إلى حقيقتها.(71/27)
علاقة الحج بالعقيقة
السؤال
أردت أن أحج حجة الإسلام وقالت لي أمي: إنه لم يعق عنك، فهل ثمة علاقة بين العقيقة والحج؟
الجواب
ليس هناك علاقة بين العقيقة والحج، العقيقة لاشك أنها مسئولية الأب أن يعق عن أولاده لكن العقيقة مستحبة وليست واجبة، لكن لا علاقة بين صحة الحج وعدم العقيقة فالحج صحيحٌ إن شاء الله.(71/28)
أيهما يقدم: الحج أم الإنفاق في الجهاد
السؤال
امرأة قالت: والله لأتصدقن على المجاهدين في سبيل الله، وهي تريد الآن أن تحج فهل عليها الوفاء وكيف بالنسبة للحج أثابكم الله؟
الجواب
هذا لا يمنع مادام المبلغ ليس له علاقة بقدرتك على الحج، أما لو كان المبلغ لا يكفي بين الحج وبين الإنفاق فدين الله يقدم على كل حال، أما إذا كان عندك القدرة فلا بأس إن شاء الله.(71/29)
عبارة (شاءت الأقدار)
السؤال
نقرأ من عبارة بعض الكتاب: (شاءت الأقدار) فهل العبارة هذه صحيحة؟
الجواب
لا هذا غير صحيح، إنما هي مشيئة الله سبحانه وتعالى، ولا يقال: شاءت الأقدار، وإنما يقال: شاء الله سبحانه وتعالى، بل حتى بعض العلماء يقف عند قوله تعالى: إنه على ما يشاء قدير، أو لا يستحسنها، بل هو قدير على كل شيء وهذه تتوجه إلى مذهب المعتزلة، فيها قصد وينبغي أن يبتعد عنها.(71/30)
تزكية المال المسروق وقد حال عليه الحول
السؤال
لدى زوجتي ذهب وقد حال عليه الحول ولكنه سرق فهل نزكيه اليوم؟
الجواب
الذي نقول به: أنه لا زكاة في حلي النساء الماضي الاستعمال، ومادام أنه معد للاستعمال أو أنها تدخره لتستعمله وعادة المرأة لا تستعمل حليها دائماً، كما أنها أيضاً لا تستعمله دفعة واحدة، فهي عندها أنواع تستعملها في مناسباتها وإن كان المنهي عنه الإفراط في مثل هذا لكن الأصل أن الحلي ما دام أن شراءها من أجل الاستعمال فإنه لا بأس فيه.(71/31)
مدى صحة خبر السبع في الصفا
السؤال
ما خبر السبع في الصفا فكل الإخوان يسألون عن خبر هذا السبع فهل هو صحيح؟
الجواب
لا صحة له في الواقع، والأمر فعلاً أنه كذب، ذكر ذلك أيضاً أئمتنا كالشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، وكذلك الشيخ: محمد السبيل أيضاً أصدر في ذلك بياناً حملته الصحف كذب ذلك ومن طريف ما قال الشيخ محمد السبيل حفظه الله قال: إن مثل هذا الأمر من علامات الساعة، ولأنه من حديث الرويبضة، والرويبضة هو: الذي يتحدث بما لم يعلم، فالأمر لا صحة له، ولكن عقول الناس تطير بمثل هذه الشائعة.(71/32)
قصة أصحاب الكهف
إن من حكمة الله البالغة أن أرسل لنا القرآن منهاجاً نتبعه ونحكِّمه في جميع أمورنا، ومن الأمور التي ينبغي أن نتبعها أساليب القرآن في الدعوة إلى الله، وفيها أسلوب القصص، فالقصص لها مكانة عظيمة في الدعوة إلى الله.
ومن القصص المهمة في القرآن الكريم ما ورد في سورة الكهف، فهي قد احتوت على أربع قصص.
وقد عرض الشيخ قصة أصحاب الكهف بإيجاز وذكر فوائد قيمة من هذه القصص، ثم بين الوصايا والتعليمات التي أمر الله بها رسوله في هذه السورة.(72/1)
القصص وأهميتها في الدعوة إلى الله
الحمد لله لم يزل واحداً أحدا، ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا، أحمده سبحانه وأشكره، لا نحصي لنعمه عددا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنجي من الردى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله أشرف متبوع وأفضل مقتدى، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه نجوم الدجى، ومصابيح الهدى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان صلاة وسلاماً على مر الزمان أبدا.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله ما استطعتم، وتداركوا بالتوبة النصوح ما فرطتم، ازجروا النفوس عن هفواتها، واغتنموا أعماركم بالأعمال الصالحة قبل فواتها، ألا وإن كتاب الله بينة بصائره، فيه الحجج الظاهرة، والمواعظ الزاجرة، والقصص البالغة.
أيها الإخوة: القصص في القرآن الكريم وسيلة من وسائل البيان، وسبيل من سبل الدعوة، القرآن الكريم كتاب هداية ومنهج حكم، ودستور حياة، يقص القصص ليعالج بها قضايا، ويقرر الحقائق ليغير بها باطلا.
القصص في القرآن الكريم: قوة في الحق وإبداع في البيان، ووضوح في المعالجة، قصص هو أحسن القصص، أنباء القرى تقص على نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، في هذا القصص: تحقيق التوحيد، وإثبات الوحدانية، ورسوخ العقيدة، والتضحية في سبيلها، فيها إثبات الوحي والرسالة، وبراهين الإيمان بالغيب والبعث بعد الموت، ومظاهر القدرة الإلهية.
فيها الإنذار والبشارة، والترغيب والترهيب، وعقبى المستقيم، ومصارع الظالمين، وآثار الصبر والجزع، والشكر والبطر، فيها تصحيح منهج الفكر والنظر، وتصحيح الميزان على نهج الحق والعقيدة والإيمان، في القصص تجديد الصراع الدائم بين الحق والباطل، والكفر والإيمان، فيها التسلية لأهل الإيمان حين يتعرضون للبلاء والإعراض والأذى، فيها يتجلى التمسك بالإيمان والصبر في البأس والبأساء، وانتظار الفرج بعد الشدة، واليسر بعد العسر.(72/2)
فوائد القصص التي في سورة الكهف
أيها الإخوة: وبين يدينا سورة من كتاب الله الكريم، سورة عظيمة حوت قصصاً عجيبة، إنها قصص الأسباب والمسببات، والإيمان والإلحاد، والغيب والشهادة، قصص تستأصل جذور التعلق بالمادية وأصول الدجل وأساليبه وتلبيساته، تفضح عباد الدنيا، والمتعلقين بزينتها، والفاشلين في ابتلائها.
قصص تبين حدوث الأسباب وما وراء الأسباب، والإيمان بالغيب، والرجم بالغيب، قصص الصراع بين الإيمان والمادة، والآثار المترتبة على هذا الصراع في العقيدة والعمل والأخلاق والسلوك والآثار والنتائج، قصص تفضح عبثية المحاولات التي تبذل من أجل محو الحق أو تحريفه أو تشويه الحقائق أو العبث بها.
قصص عجيبة في توجهاتٍ سديدة، وعظات بالغة، تأخذ بمجامع القلوب، وتنطوي على صور مشرقة من الجهاد والمجاهدة، والكفاح والتضحية.
تلكم -أيها الإخوة- هي: سورة الكهف، لقد حوت قصصاً أربع، هي من أحسن القصص: قصة أصحاب الكهف، وقصة صاحب الجنتين، ثم إشارات إلى قصة آدم وإبليس، وقصة موسى عليه السلام مع العبد الصالح، ثم تختم السورة بقصة ذي القرنين.
إنها قصص الأسباب وما وراء الأسباب، ولعل من الأسرار في هذه السورة العظيمة ما جاء عن نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وأبو داود وغيرهما من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف -وفي رواية لـ مسلم: من آخر الكهف- عصم من فتنة الدجال}.
إن من شرح الله صدره للإيمان، ووهبه نعمة النظر والتدبر تتجلى له الآيات العظيمة، فيرى قانون الأسباب والسنن وما وراء الأسباب والسنن، فأصحاب الكهف لبثوا في كهفهم: {ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} [الكهف:25] {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُود لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} [الكهف:18].
وصاحب الجنتين اعتمد على حوله وقوته: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} [الكهف:34]، ومن يا ترى ينفعه وينجيه؟ {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} [الكهف:40 - 41] {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً} [الكهف:43].
والعبد الصالح قال لموسى عليه السلام: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف:67 - 68].
أما ذو القرنين فملك صالح مكن الله له في الأرض وآتاه من كل شيء سببا.
والدجال يفتن بماله وكنوزه وما يجري الله على يديه من البلايا والفتن فهي فتن المادة ومغريات المادة.
أيها الإخوة: في هذه القصص تتجلى قدرة الله عز وجل وحكمته على مخالفة سنن الكون، ونواميس الحياة التي يألفها الناس، وإيجاد الخوارق والمعجزات التي لا يدركون عللها وأسرارها، فأصحاب الكهف ناموا نومتهم الطويلة المئين من السنين.
والعبد الصالح خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار في أفعالٍ لم يحط بها نبي الله موسى عليه السلام خُبرا.
وذو القرنين بلغ مغرب الشمس كما بلغ مطلعها.
في هذه القصص بيان للمنهج في البعد في الخوض فيما لا يحيط به علم بشر، ولا تدركه عقولهم من أمور الغيب، وصرف المراء فيما لا طائل تحته: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف:22].
{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} [الكهف:70].
أيها الإخوة: إنها قصص الأسباب وما وراء الأسباب، وقصص المادة وما وراء المادة، وفي أعقاب الزمن يعيش الناس حضارة مادية سلبت ألباب أصحابها، تشوهت فيها الحقائق، وقام عندهم الشك والريب في الغيب والشهادة، والأولى والآخرة، فلسفاتٍ مادية حلت محل الأديان، وسحرت النفوس والعقول، أدت في كثيرٍ من مساراتها إلى كفر وإلحاد، وزندقة وفساد مسارات تعارض النبوات والإيمان بالغيب، واحترام الشرائع وتعظيم الشعائر.
ترى فيهم الانهماك فيما يحقق الدلائل البدنية، والمنافع العاجلة والمبالغة في متع الحياة الدنيا، والاتجاه إلى التحلل من المثل والقيم، والأخلاق والفضائل، بل حصروا تنافسهم في السيطرة على أسباب هذه القوى المادية وطاقاتها، ترى ذلك في أقلامهم وقرائحهم، وشعرهم وأدبهم وقصصهم وملاحمهم وبطولاتهم ومغامراتهم، بل في حروبهم وثوراتهم، وإبداعاتهم واختراعاتهم، ناهيك بأفكارهم وفلسفاتهم، كل ذلك في المادة ومتعها: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} [الكهف:7 - 8].
أيها المسلمون: ومن غير المنكور أن هذا الكون بني بإذن الله على سنن وأسباب لا تتقلب، وخصائص للأشياء قل ما تفارقها، ولكن الماديين والملاحدة ضلوا عما وراء الأسباب، ضلوا عن رب الأرباب الذي بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، يحيي ويميت، يمحو ما يشاء ويثبت: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] جهلوا أن هناك أسباباً مؤثرة أخرى فوق القوى المادية وأسبابها، لها نتائجها وآثارها من الإيمان والعمل الصالح، وطاعة الله وحسن عبادته، والعدل، والبر، والمودة، والمكانة، وجهلوا أن ثمة أسباباً مضادة من الكفر والإثم والبغي والفساد في الأرض والظلم وغلبة الشهوات وفشو الآثام.(72/3)
عرض موجز لقصة أصحاب الكهف
أيها الإخوة: ولمزيدٍ من البيان التطبيقي والإيضاح العملي، فهذا عرض في إيجاز لقصة أصحاب الكهف، يتجلى فيها الجمع بين السنن والخوارق، والنواميس والمعجزات، إن هذه القصة على ما فيها من العجائب فهي ليست بأعجب آيات الله، ففي هذا الكون من العجائب المبثوثة، والآيات المنثورة، ما يفوق العجب من أصحاب الكهف والرقيم: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} [الكهف:9].
أصحاب الكهف فتية من صالح قومهم، ثبتوا على دين الحق، لما شاع الكفر والشرك في قومهم، وانتشر الباطل والبغي في ديارهم: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [الكهف:13 - 15].
شباب اجتمع لهم الإيمان والفتوة، تحققت لهم الهداية والثبات، سلمت قلوبهم من الحيرة، وامتلأت شجاعة وسكينة، آثروا رضا الله على زينة الحياة ومتعها، تلجأ إلى ربها في كهفها حين يعز عليها أن تعيش به في الناس: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} [الكهف:16].
الكهف ضيق خشن، ولكن حمى الله أوسع وأرحم، السعة في الإيمان والقلوب وليست في الأجساد والكهوف، والرحاب في رحمة الله وليست في الجدران والكهوف، رحمة الله حين تنتشر في القلوب والآفاق، تتمثل في مظاهر لا يحصيها العد، تتمثل في الممنوع كما تتمثل في الممنوح، يجدها من يفتحها الله له في كل شيء ولو فقد كل شيء، ويفتقدها من يمسكها الله عنه في كل شيء ولو وجد كل شيء، ما من محنة تحفها رحمة الله إلا وهي نعمة، من داخل النفس مع رحمة الله تتفجر ينابيع السعادة والرضا والطمأنينة، ومن داخل النفس مع إمساكها يدب القلق والنكد والنصب، وجدها أصحاب الكهف في كهفهم حين فقدوها في المدن والدور.
ثم العجب من هذا: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} [الكهف:18]، الكلب قد بسط ذراعيه في مدخل الكهف، ومن الطرائف في ذلك ما ذكره بعض أهل العلم إذ قال: إن الكلب قد مد ذراعيه عند عتبة الباب ومدخله ولم يكن داخل الكهف حتى تدخل كهفهم الملائكة، وطريفة أخرى وذلك أنه لما كانت التبعية والصحبة مؤثرة فقد أثرت في الحيوان فسعد برفقتهم، فما ظنك بمن تبع الأخيار من بني آدم وصحبهم ومن أحب قوماً سعد بهم.
ثم يأذن الله ببعثهم بعد هذه المئين من السنين، {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [الكهف:19] لا يدرون كم لبثوا فقصارى علمهم أنهم أدركهم النوم فناموا ثم استيقظوا، ثم رأوا أنه لا طائل من هذا السؤال، وليس من المهم معرفة الجواب، ففوضوا الأمر لله وانصرفوا إلى شأنهم: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف:19].
وتختصر القصة ليدرك هؤلاء الفتية وليعلم الناس الذين استيقظوا في عهدهم كم من الأحوال قد تغيرت؟ وكم من الأعوام قد انقضت؟ وكم من الدهور قد طويت؟ وكم من الدول قد زالت؟ {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف:21] فهذه هي الغاية، وهذا هو المغزى، وحين تنازعوا في عددهم جاء التوجيه، {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف:22] صيانة للطاقة العقلية أن تبدد في غير ما يفيده، وحتى لا يقفو المسلم ما ليس له به علم، فهذه أحداث طواها الزمن فهي من الغيب الموكول علمه إلى الله علام الغيوب.
وبعد أيها الإخوة: فهذه قصة الصراع بين الحق والباطل، وصورة مواجهة بين الإيمان والمادة، والتعلق بالأسباب والاعتماد على رب الأرباب سبحانه وبحمده.
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(72/4)
وصايا للنبي صلى الله عليه وسلم في سورة الكهف
الحمد لله العليم الخبير، تعالى وتقدس عن الشبيه والنظير، أحمده سبحانه وأشكره، قبل من عباده اليسير، وأعطى من فضله الكثير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله البشير النذير والسراج المنير، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! واستمسكوا من دينكم العروة الوثقى، واحذروا أن تؤثروا ما يفنى على ما يبقى، ولا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور.
أيها الإخوة: وتختم هذه الخطبة العظيمة بتوجيه الخطاب إلى نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه ُ) [الكهف:23 - 24] فإذا كانت القصة تحكي حال الغيب الماضي، فكذلك حال غيب المستقبل، إن كل حركة وسكون وكل نفس من الأنفاس مربوط بإرادة الحي القيوم، وسجل الغيب محاطٌ بحجب عن الأعين والعقول فهي غير قادرة على أن تدرك ما وراء هذه الحجب فالعقول محدودة وقوى البشر قاصرة، وهذه العقيدة الراسخة الثابتة في الغيب، والأسباب لا تدعو إلى كسر التوكل، ولكنها تحقق التوازن بين التوكل والأخذ بالأسباب، فلا يحس المرء بالخوف والتردد وهو يفكر ويدبر ويخطط، كما لا يشعر بالغرور والبطر وهو ينجح ويفلح ويحقق، مرتبط بالله وذكره، مؤمل في هدايته ورشده: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} [الكهف:24].
ثم الوصية الأخرى لنبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم ومن معه بالتمسك بحبل الله، بالتمسك بالسبب الأقوى سبيل الإيمان وسبيل القرآن ذلكم هو لزوم الذين سعدوا بالإيمان والتوحيد واليقين والذكر والدعاء وإن كان حظهم من الدنيا قليلا، ونصيبهم في المتع منقوصا: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28].
ثم التحذير والنهي عن الانسياق مع من قد تعلق بالمادة وزخارفها المتشبع بروحها، قد انغلق قلبه وأسرف على نفسه: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].
هذه هي القصة وتلكم هي الوصايا، فاسمعوا رحمكم الله وعوا، واقرءوا وتدبروا، ثم صلوا وسلموا على رحمة الله المهداة النبي الأمي محمد رسول الله فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عز قائلاً عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلَّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد نبي الرحمة والملحمة، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين،، اللهم أعز الإسلام والمسلمين،، اللهم أعز الإسلام والمسلمين.(72/5)
لا لمؤتمر بكين
إن الأعداء يعقدون المؤتمرات من أجل التنادي بالسلام والحرية ومن أجل رفع الفقر وتحرير المرأة، وهي دعوات براقة وكلمات جميلة، ولكن حقيقتها كذب وخداع للأمة الإسلامية.
وإن المؤتمر الذي سيعقد في بكين من أجل المرأة واحد من هذه المؤتمرات، وهو ليس في حقيقته إلا دعوة للتحلل والتفسخ.
فيجب على الدول الإسلامية أن تلتزم بدينها، ويجب على العلماء التوعية الصحيحة التي تبني الأمانة وترسخ الأفكار الصحيحة.(73/1)
حقيقة مؤتمر بكين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، بعثه بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فنعم اللباس التقوى، ونعم الزاد التقوى.
أيها المسلمون: إن أهل العقل والعلم والنظر المتوازن، ليسوا بمغرمين ولا بمبالغين في تصوير أن وراء كل حدث مؤامرة، ولا من المتوهمين أن خلف كل حديث تآمراً، ولكنهم في ذات الوقت لن يكونوا من أولئك الذين يسلمون القياد، ويرخون الزمام؛ لتقودهم أفكار فاسدة، أو تضلهم دعوات ماكرة، أو يسيروا خلف كل ناعق.
إننا بين يدي مؤتمر سوف ينعقد قريباً هذه الأيام؛ ليتحدث ويوصي ويقرر عن المرأة والأسرة والبيت وشئونه، يتحدث عن التنمية والسلام والمساواة، مؤتمر منتسب إلى الأمم المتحدة.
كم تحدثوا وائتمروا عن التنمية والأمية، والتعليم والصحة، ورفع الفقر، وحقوق الإنسان، وكرامة الإنسان، وأعباء المديونية في العالم الثالث، وهذه كلها كلمات جميلة، ودعوات براقة، كل يحبها، وكل يتمنى تحقيقها، لقد مر على قيام هذه المنظمة خمسون عاماً فأي فقر رفع؟
وأي سلام رسخ؟
وأي كرامة للإنسانية حفظت؟
إن سيطرة القرار الغربي على مجريات الأمور، أضحت واضحة بينة، إنه وحده الذي يستصدر قرارات لها أثرها ونفاذها إذا شاء، وتكون الأخرى حبراً على ورق إذا شاء.
من هذه المسلمات يكون الحديث عن مؤتمر المرأة هذا، ومن هذه المنطلقات يكون النظر إلى هذا المؤتمر، إنه مؤتمر لا يعلو فيه إلا صوت الجمعيات المتطرفة التي أعلنت الحرب منذ زمن على الأسرة والحياة الكريمة والبيت الكريم، التطرف الذي دعا بغلوه إلى الحرية الجنسية، والتفسخ الخلقي، والدعارة المعلنة المقننة، دعوات ومقررات تصادم الفطرة وتنابذ كل القيم الإيمانية المستقرة في ضمائر الأسوياء من البشر.
وحينما يقال: إن التطرف هو الذي يعد أوراق عمل هذا المؤتمر وهو الذي يصوغ وثائقه وتوصياته، ليس هذا من جزاف القول، ولا من دعاوى الباطل.
إن جماعات التطرف النسائية لها دور فعال للإعداد، وإن أعضاء تلك الجمعيات نساء شاذات متعاطيات للسحاق، تطرف ينظر إلى مصطلح الأسرة والبيت العائلي نظر ازدراء وتنقص، ونظر رجعية ومخلفات القرون البائدة(73/2)
القهر والعنف الذي تتعرض له المرأة
إن هذا المؤتمر في أنبائه، يتحدث عن: القهر والعنف الذي تتعرض له المرأة
بلى.
لقد حفل التاريخ ولا يزال يحفل بألوان من الأذى وقعت على المرأة، لقد حملت من القيود والمظالم بسبب التعسف المكروه في التقاليد والعادات الموروثة الجائرة في مختلف الحضارات والنظم، ولكن ما هو الحل؟
هل الحل كما يريد المؤتمر في تصوير العلاقة بين الرجل والمرأة أنها علاقة صراع واستعباد واستبذال، علاقة تنافس غير شريف؟
سبحان الله! كل عالمهم صراع في صراع، وحروب شتى في ميادين شتى، البارد منها والساخن حتى أدخلوها على الرجل وأهل بيته! أما علموا أن العلاقة عندنا أهل الإسلام علاقة مودة ورحمة وطمأنينة وسكن؟! {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].
وإن كنا نستنكر الممارسات الخاطئة من بعض المسلمين، وخلطهم بين التقاليد والعادات الموروثة المخالفة لآداب الإسلام وأخلاقه، وبين تعاليم الإسلام الحقة الصحيحة.
هذه المرأة المقبورة أفلا يكون الخلاص لها إلا بالإباحية الجنسية، والشذوذ الجنسي، والتفسخ الأسري، وتقويض بنيان البيوت بالجريمة، ومحاربة الزواج المبكر، وفتح أبواب الإجهاض بسبب صحيح وبغير سبب؟! هل خلاصها أن تكون غانية في سوق الملذات والشهوات يستمتع بها الرجل ويستعبدها من طلوع الشمس إلى غروبها، ومن غروبها إلى طلوعها، في دور الأزياء وقاعات السينما، وشاشات التلفاز، وصالات المسارح، وشواطئ البحار والأنهار، وبيوت اللهو والدعارة، وأغلفة المجلات والصحف السيارة؟!
بل أقول ولا أخشى لائماً: حتى في ردهات مستشفياتهم وملاحاتهم الجوية، وأستحيي أن أقول: في دور تعليمهم ومحاضن تربيتهم!! هل هذا هو سبيل الخلاص من القهر الذي ينشدون والعنف الذي يقولون؟
إنها البيوت الخربة، والمسئولية الضائعة، حين ألقاها الرجل الغربي عن كاهله؛ فوقعت نساؤهم حيث وقعت، إهمال وتنصل من مسئولية الإنجاب والتربية؛ فأصبح ذكرهم وأنثاهم لنفسه لا لأمته، للذته لا لكرامته، فالفساد في مجتمعاتهم يستشري، والخراب إلى ديارهم يسري!
لم يتحدثوا عن المرأة المقهورة المعذبة المرأة المشردة المرأة المغتصبة من إفرازات حروب أنشئوها، وكوارث أثاروها من الظلم العلني والفقر المتدني، في شعوب تنتسب إلى الأمم المتحدة، ما حال أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا في فلسطين وكشمير والبوسنة والشيشان وبورما والصومال؟
إن وثائق المؤتمر لا تكاد تعير هذا اهتماماً في مقابل احتضانها واحتفائها بالمدمنات والشاذات، والبغايا والمومسات، والمصابين والمصابات، بكل أمراض الجنس الفتاكة! هذا نبأ من أنباء مؤتمرهم.(73/3)
التنمية النسوية
ونبأ آخر يتحدث عن التنمية النسوية، إنه حديث كله أو جله عن ما أسماه بالمرأة العاملة، العمل شيء محمود، ومبتغى مقصود، ما دام منضبطاً بضابط الدين والخلق، والله لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى بعضهم من بعض، ولكن المرأة العاملة في عرفهم هي المتمردة على بيتها وأطفالها وشئون منزلها!!
لا يقال ذلك -أيها الإخوة- إفكاً ولا افتياتاً، إنهم يقولون: إن عمل ربة الأسرة داخل بيتها عمل ليس له أجر!
إنهم يقولون: ذاك عمل لا مردود له!
إنهم يقولون: هذه خدمة مجانية وعمل غير منتج! هذه هي نظرتهم، وهذا هو ميزانهم.
تربية النشء والحفاظ على الكرامة، والاستقرار العائلي والنفسي ليس بعمل وليس له أجر ولا مردود وغير منتج! هكذا قاس قائسهم وقدر مقدرهم، ألا {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر:19 - 20].
إنهم لا يعرفون الرحم ولا التراحم، ولا يعرفون البر ولا المروءة، أي خيانة أكبر من خيانة إهمال النشء وإهمال النسل؟
إنهم يعلمون -ولكنهم قوم بهت- أن السكينة والطمأنينة لا تكون إلا في بيوت مستقرة في ظلال أسرة حانية بنسائها ورجالها، وأطفالها وصباياها، أما الهمل والضياع في الأزقة والأرصفة وزوايا الوجبات السريعة فلا تبني أمة، ولا تجلب طمأنينة، بل إن حياة الطيور في أعشاشها، والسباع في أكنتها خير وأصلح من هذا الهمل الضائع.
أي امرأة عاملة تعنون؟ ما قهر الرجل ولا أذل المرأة ولا استعبدهما جميعاً إلا مثل هذه المبادئ المهلكة، والمقاييس الفاسدة، والحضارة المنتنة(73/4)
الإباحية ودعوة التحلل والتفسخ
ومن أنباء هذا المؤتمر: نبأ الإباحية، ودعوة التحلل والتفسخ، ونشر الرذيلة بأحط صورها، حتى الشذوذ الجنسي لواطاً وسحاقاً يريدونه مباحاً معلناً مقنناً، ويأخذك العجب وهم يتحدثون عن الإباحة الجنسية وفتح الأبواب مشرعة أمام التفسخ الخلقي، ثم يذهبون يتباكون على أمراض الجنس المتفشية من الإيدز والهربز وغيرها، وتنضح ورائق مؤتمرهم بإحصائيات رهيبة وأرقام مخيفة عن ضحايا الإيدز، والنسبة غالبة الإصابات بين المراهقين والمراهقات، وهي في النساء أعلى منها في الرجال هكذا تتحدث إحصائياتهم وأوراقهم.
إذا كان هذا الإيدز بأرقامه المخيفة -وحق لها أن تخيف وأن ترعب- إن كنتم مخلصين فلماذا لا تطالبون بالقضاء على الأسباب، وعندكم علم اليقين أن معدل هذه الأمراض يزداد؟!
عجب وعجب! يعالجون ظواهر العرض، ويدعون أصل المرض! ينظرون إلى الأثر ويغفلون عن المؤثر! {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة:103].
ومع هذا ينادون بالسلوك الجنسي المأمون، ولقد جاء في الخبر عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {وما ظهرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأمراض التي لم تكن في أسلافهم}.
أيها الإخوة: هلا رجعت الأمم المتحدة وراجعت مع خبرائها وباحثيها، هل ما يعاني منه الغرب من مشكلات أخلاقية، وآثار الفساد الجنسي والخلقي وتفكك اجتماعي، هل هو موجود بالضرورة في بقاع العالم الأخرى؟ أم أنه نظر إلى الناس بعيون مريضة ومقاييس جائرة؟
إن هذه الطروحات والمعالجات هي -وربك- جالبات المرض، ومفسدات الأعراض، وناشرات الحرام هكذا تقول الأرقام والإحصائيات والدراسات والملفات.
إننا نقول بكل فخر وبكل ثقة: إن أهل الإسلام هم المستهدف الأول من هذه المبادئ الفاجرة؛ لأنهم -أعني أهل الإسلام- أكثر المجتمعات محافظة، فلا وجود يذكر للمشكلات والمصائب التي يئن منها أهل الغرب، ومن انزلق في مستنقعهم، لا مكان في بلاد الإسلام يذكر للأمراض الخبيثة التي تجرها الممارسات الشاذة، ولا الحمل الحرام في بنات المسلمين، ولكنهم لا يحبون الطهر ولا التطهر، والقاعدة القرآنية بينة شاهدة: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26](73/5)
خطط الغرب نحو المسلمين
إن الغرب وأبواقه لن يرضوا إلا أن يروا مجتمعاتنا الطاهرة الطيبة، وقد انزلقت في وبائه ورجسه، إنه إصرار من المؤتمرين على فرض النظرية الغربية الملحدة الفاجرة بكل ألوانها وشعبها على جميع الشعوب.
بل أن هناك إصراراً من الغرب ورجاله ومؤتمراته ولجانه ليصهر الشعوب في عاداته وتقاليده، احتكار وقهر، ليجعل هذا السلوك الممقوت مقياس التقدم ورمز الحضارة، إنهم وبكل جرأة يربطون دعمهم المادي بالالتزام بهذه التوصيات الآثمة، والقرارات الهادمة.
إن التوجه إلى فرض أنماط وسلوك على شعوب العالم ودوله بمثل هذه الطرق وهذا الاستغلال ومن خلال هذه المنظمات والمؤتمرات ما هو إلا استخفاف بالشعوب واحتقار للأمم، وتنكر للخصوصيات الثقافية والدينية والتقاليد والأعراف الصحيحة المرعية، وتدخل في حريات الشعوب وخصوصيات الناس، ومخالفة لما سموه في وثيقة حقوق الإنسان باحترام العقيدة ومنهج التفكير.
إننا نطالب الأمم المتحدة إن كانت مخلصة منصفة أن تكبح هذه النزعات الاستعمارية، والهيمنة الغربية التي سببت وتسبب كل ألوان العناء والشقاء.
أما نحن أهل الإسلام فنأرز إلى إيماننا، ونطمئن إلى كتاب ربنا فقد خاطبنا رجالاً ونساء في التكاليف والمسئوليات: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:71 - 72] {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(73/6)
دعوة للدول الإسلامية والعلماء
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله ربكم: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1].
أيها الإخوة: إننا نهيب بالدول الإسلامية وشعوبها، كما نهيب بجمعياتها ومنظماتها الرسمية والشعبية أن تظهر الحق وتعلنه، وأن تفضح تلك الوثيقة ومن وراءها.
على علماء الإسلام بارك الله فيهم أن يقوموا بمسئولياتهم نحو توجيه الأمة، والذب عن حياض الدين وكرامة الإنسان، وتفضيل الله لبني آدم وكرامته على ربه.
عليهم أن يعلنوا رفض كل قرارات أو مقررات تخالف عقيدة الأمة، وتفسد أخلاقها، وتبارز ربها بالمحاربة، وليرتفع صوت الفضيلة على أسراب دعاة الإباحية الساقطة، وإن تنظيم الجهود في ذلك وتنسيقها بين هذه المؤسسات والمنظمات وكل هذا الجهات العاملة مما يجب التنبه له والعناية به.
أيها الإخوة: وإذا كانوا مصرين على حنثهم فإننا مصرون على الاستمساك بديننا، مؤمنون حق اليقين وعينه وعلمه بأن الخلاص الحقيقي، والأمن المنشود، والحياة الطيبة الطاهرة، والسعادة المبتغاة، لا تكون إلا في ظل الإسلام عقيدة ومنهجاً، عبادة وسلوكاً، والتحلي الصادق المخلص بالدين والأخلاق في معاملة المرأة والطفل والرجل، وتكثيف توجه الأمة نحو إسلامها من خلال ولاة الأمر فيها وعلمائها ومراكز البحوث العلمية والمؤسسات التربوية، وتطبيق أحكام الشرع التي بها وحدها لا غيرها يسعد المجتمع.
أما اللهاث وراء سراب المشاريع والخطط التي يرتب لها هؤلاء الذين يزينون الفساد، ويختلقون له الأسماء البراقة، وأغلفة من التمعلم خادعة، هذا اللهاث هو الذي سيبقي الأمة مهددة في دينها وأخلاقها، بل في شأنها كله، وإنكم لمبصرون أنه كلما ارتفعت راية للحق وعلت مناداة مخلصة لتطبيق شرع الله والالتزام به، إلا وانبرت أقلام الملاحدة، والمنظمات المشبوهة؛ لتتهم هذه الدعوات والتوجهات والتطبيقات بالوحشية والهمجية والقسوة والرجعية، وإن من أحدثها وأقربها ما يثار حول هذه البلاد الطيبة المباركة، بلاد الحرمين الشريفين في تطبيقها لشرع الله والالتزام بحدوده، وضربها على الإجرام وأهله ودعاته بيد الشرع الطاهر المطهر، ولكن قاصدة الحق سائرة بإذن الله ولن يوقفها نبح أو عواء.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد نبي الرحمة والمرحمة، فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين واخذل الكفرة والطغاة والملحدين، اللهم واخذل الكفرة والطغاة والملحدين، اللهم اجعل كيدهم في نحورهم، واجعل تدبيرهم تدميرهم يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا ووفقه لما تحب وترضى، اللهم ارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الحق وتعينه عليه.
اللهم وفقه بتوفيقك، وأيده بتأييدك، وأعزه بطاعتك، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك والحكم بشريعتك واتباع سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة من كل شر، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكون من الخاسرين ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون(73/7)
معاقد العز ودروس من غزوة حنين
لقد كان العرب قبل البعثة أمة ذل ومهانة، يسيرون في ذيل الركب، ويعيشون على هامش الحياة؛ فبعث الله إليهم رسوله صلى الله عليه وسلم فأخرجهم إلى طريق العزة والكرامة، مما أدهش العالم بأسره، وحير أصحاب الموازين المادية في تعليل تفوق هذه القوة الضعيفة وتحكمها في العالم، وما علم هؤلاء أنه توفيق واصطفاء من الله لهذه الأمة التي تعمل بدينه وتنصره، ولقد خاض النبي صلى الله عليه وسلم معارك ضارية ضد قوى الكفر معتمداً على الله ومستنداً إليه.
ومن أهم المعارك التي قادها بعد فتح مكة غزوة حنين.(74/1)
مهمة البعثة المحمدية والرسالة الإسلامية
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر، وكما حَمِد نفسه، سبحانه وبحمده لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، عز جاهه، وجل ثناؤه، ولا إله غيره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، واللواء المعقود، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فبتقوى الله تزكو الأعمال، وتعظُم الدرجات، فأكثروا من ذكره وشكره، فبالذكر تطمئن القلوب، وبالشكر تُحْفظ النعم، وتزودوا من الصالحات؛ فخير الزاد التقوى.
عباد الله: لقد طال على المسلمين الأمد، ونسي كثيرٌ منهم الذكر، ونَسوا ما ذُكِّروا به، لقد كثر عددهم، وكثرت عدتهم، ولكنهم لا يعرفون الميزان، ذَهَلوا عن سر العزة والقوة، وغفلوا عن أسباب النصر والهزيمة، وضَلُّوا طريق الكرامة والمَنَعَة.
أيها الإخوة: قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن في الحياة الإنسانية عوج في المدنية، أو فراغ في الحضارة، لم تكن رئاسة المدنية وقيادة الحضارة وظيفة شاغرة، بل لم يكن العالَم في حاجة إلى أمة تُبعث من وادٍ غير ذي زرع، كما لم يكن العرب في ذلك الزمن وجهاء مؤثرين في مسار العالَم، بل لقد كانوا في ذيل الركب، يعيشون على هامش الحياة.
لقد كان واقع أمة العرب بباديتها وبداوتها وواقع الأمم المعاصرة مِن حولِها، بحضاراتها وقوة سلطانها، لقد كان واقع الجميع واحداً في ميزان الله: {إن الله نظر إلى أهل الأرض جميعاً، فمقتهم عَرَبَهم وعَجَمَهم إلا بقايا من أهل الكتاب}.
أيها الإخوة: إن المشكلة لم تكن مشكلة تحضُّر، ولا مشكلة تقدُّم حضاري، فهذا لا أثر له في الميزان.
إن مهمة البعثة المحمدية وغاية الرسالة الإسلامية، أسمى وأعلى وأهم وأعظم، إن سر النصر، وسبيل العز، وطريق الكرامة، مدلول عليه بقوله سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
إنه جهاد في سبيل الله؛ لتكون كلمة الله هي العليا، لم يكن صراعاً على موارد اقتصادية أو سلع استراتيجية، ولم يكن منافسة للاستئثار بالأسواق، ولا تسابقاً في صناعة أو تجارة، وإنما كان لإعلاء وإعلان التوحيد؛ ليُعْبَد اللهُ وحده لا شريك له.
اسمعوا إلى هذا الابتهال النبوي في غزوة بدر بمقاتليها المسلمين في قلة من العدد وضعف من الاستعداد، مقابل عدوٍّ بكامل عدته ووافر تجهيزه.
فزع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه في إنابة نبي، وإلحاح عبد، ودعاء مضطر، مناشَدةً تجسِّد مهمة هذه الأمة، وغاية هذه الرسالة، لقد ناجى ربه بقوله: {اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبَد في الأرض}.
إن بقاء المسلمين وحياتهم الحقيقية وعزتهم مشروطة بقيامهم بحق التوحيد، وإعلان العبودية لله وحده لا شريك له.
لن يكون التمكين، ولن يكون الأمن، ولن يكون السلام، إلا بتجريد العبادة لله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:55 - 56].
لقد انتصرت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقل إلى الرفيق الأعلى، والمتبصِّر لا يرى تفوقاً عمرانياً، ولا توسعاً مادياً داخل حدود الدولة التي تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه ترك مجتمعاً موحِّداً، مؤمناً بالله، صنعه بإذن ربه، لقد كان الإنجاز رجالاً مؤمنين وعوا الرسالة واستوعبوا المهمة، خرجوا إلى الناس معلنين: [[ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها]].(74/2)
انتصار المسلمين يحير أصحاب الموازين المادية
لقد تحير أصحاب الموازين المادية في تحليل انتصار هذه الطائفة، وتعليل تفوقها، قوةٌ قاهرة من بعد ضعف شديد، ونشاطٌ عجيب من بعد سبات عميق، واستَمِعْ إلى ما ينقله الحافظ ابن كثير رحمه الله من حوار بين المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وبين يزدجر ملك فارس.
يقول يزدجر: [[إني لا أعلم أمة في الأرض كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذاتِ بَيْنٍ منكم، قد كنا نوكِّل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم، لا تغزوكم فارس، ولا تطمعون أن تقوموا إليهم؛ فإن كان عددكم كَثُر فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتاً، وكرَّمنا وجوهكم، وكسوناكم، وملَّكنا عليكم ملِكاً يرفق بكم.
فأجابه المغيرة: أيها الملك! إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها ظالماً، فأما ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أحد أسوأ حالاً منا، وأما جوعنا فلم يُشْبِهه جوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات، ونرى ذلك طعاماً لنا، وأما المنازل فهي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا من غزل أوبار الإبل، وأشعار الغنم، وحالنا قبل اليوم على ما ذكرت، فبعث الله لنا رجلاً، نعرف حسبه ونسبه وقبيلته، وهو بنفسه كان خيرنا وأفضلنا، لم يقل شيئاً إلا كان، فقذف الله في قلوبنا التصديق له واتباعه، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين، فما قال لنا فهو قول الله، وما أمرنا به فهو أمر الله]] هذا ما كان من يزدجر والمغيرة.
ثم اسمعوا إلى ما قاله مؤرخ غربي معاصر!
يقول: " بقوة واحدة ونجاح واحد زحف العرب على خلفاء أغسطس في الروم، واصطخر في فارس، وأصبحت الدولتان الكبريان، المتنافستان في ساعة واحدة فريسة لعدو لم يزل موضع الازدراء والاحتقار منهما، في عشر سنوات من حكم عمر أخضع العرب لسلطانه ستاً وثلاثين ألفاً من المدن والقلاع، وأنشأوا أربعة عشر ألف مسجد للعبادة، وبعد قرن من هجرة محمد صلى الله عليه وسلم من مكة، امتد سلطان خلفائه من الهند إلى المحيط الأطلنطي.
أيها الإخوة! كل هؤلاء لا يعرفون السر ولا الميزان، إن السر والميزان أن العرب والمسلمين أصبحوا بفضل الله ثم بدين الله واتباع محمد صلى الله عليه وسلم أصحاب دين ورسالة، بُعثِوا بَعثاً جديداً، تغيروا في داخل أنفسهم فتغير ما حولهم، انقلبت لهم الدنيا غير ما كانت، تفتحت أبصارهم وبصائرهم فإذا الفساد ضاربٌ أطنابه، وإذا الشرك يخيم على العالَم بظلماته، بعثهم الله للإصلاح فأصلحوا.
إن الحضارة والمكاسب المادية والتنظيم والترتيب آثار ونتائج وليست غايات، ولا تصلح أن تكون غايات.
لقد عرفوا واستوعبوا قول نبيهم محمد صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه: {زُوِيَت لي الأرض حتى رأيتُ مشارقها ومغاربها، وأعيطِت الكنزين: الأحمر، والأبيض، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زُوِيَ لي منها}.
وقوله صلى الله عليه وسلم: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده! لتُنْفَقَنَّ كنوزهما في سبيل الله}.
في أحاديث كثيرة تبين مستقبل هذه الأمة مع دينها، وعاقبة أمرها ومتغيراتها: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41].
نعم أيها الإخوة: لقد طال على المسلمين الأمد، فنسي كثير منهم الذكر، ونسوا ما ذُكِّروا به.
إن ميزانهم وسرهم هو الإيمان والتوحيد، والإخلاص والجهاد في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله.(74/3)
مقارنة بين غزوة بدر وحنين
لمزيد من الإيضاح والوضوح، فهذه وقفة من صورة تطبيقية تجسد الغاية، وتوضح المهمة، وتبين السبيل، إنها دروس من غزوة حنين، وأول ذلك: مقارنة عجيبة بين غزوة بدر وغزوة حنين.
في المقارنة بين الغزوتين تتجلى دروس التوحيد والإيمان، كما يتجلى قانون الأسباب والاستعداد.
غزوة بدر: أول لقاء عسكري بين المسلمين ومشركي العرب.
وغزوة حنين: آخر لقاء بين الفريقين.
معركة بدر: أرهقت المشركين، وكسرت حدتهم وكبرياءهم، وجعلت للمسلمين هيبة في قلوب أعدائهم.
ومعركة حنين: استفرغت قواهم، واستنفذت سهامهم، وأذلت جمعهم.
أمَدَّ الله المؤمنين بالملائكة في الغزوتين، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحصباء في وجوه المشركين في الغزوتين.
عدد المسلمين في بدر ثلث عدد المشركين، وقلة العدد لم تضرهم شيئاً.
وفي حنين كان المشركون ثلث عدد المسلمين، ولم يكن لهذه الكثرة كثير نفع، ولا عظيم أثر إذا ما ضعف الإيمان، ما الفائدة أن يزداد عدد الجسوم والرسوم بينما لا تزال الدنيا بأطماعها وأهوائها تتخطف الأفئدة، وتمتلئ بها النفوس؟!(74/4)
دروس مستفادة من غزوة حنين(74/5)
الدرس الأول: المؤلفة قلوبهم
في حنين ترى في الصفوف غثاءً وحُرَّاصاً على الدنيا، وسعاة إلى المغانم ممن لا يقوم بمثلهم أمر، ولا تثبت بهم قدم، من المؤلفة قلوبهم والطلقاء، ولكن هذا الدرس تتجلى فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الهادي وليس بالجابي، لطيف بتعامله، رحيم برحمة ربه، يهب ويجزل، تكرماً وتألفاً.
إن في الدنيا أقواماً تُقاد إلى الحق من بطونها لا من عقولها، لا تزال تُمَدُّ لهم حزم القوت من أفواههم حتى تدخل الحظائر أمنة، إنها ألوان من الإغراء حتى تأنس بالإيمان، وتهش للإسلام، لقد كانت غنائم عظيمة، قُدِّرت بأربعة وعشرين ألفاً من الإبل، وأكثر من أربعين ألفاً من الغنم، وأربعة آلاف أوقية من الفضة، وستة آلاف من السبي، إن أعين بعض القوم تكاد تخرج من محاجرها تطلعاً إلى الدنيا، ولقد ازدحموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اضطروه إلى شجرة، فانتزع رداؤه فقال: {يا أيها الناس! ردوا عليّ ردائي، فوالذي نفسي بيده! لو كان عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمتها عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً} بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
هذا درس المؤلفة قلوبهم.(74/6)
الدرس الثاني: الثبات والعقيدة
أما درس الثبات والعقيدة والإيمان، فقد فر في المعركة مَن فر، وولوا مدبرين كما ذكر الله؛ لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف رابط الجأش، وأمر العباس -وكان صَيِّتاً جهوري الصوت- أن يهتف بأصحاب العقيدة، ورجال الفداء عند الخطوب، فهم وحدهم -بإذن الله- الذين تنجح بهم الرسالات، وتُفَرَّج بهم الكروب، وعلت صيحات العباس: [[يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب السَّمُرة -إنهم المبايعون من المهاجرين والأنصار- يقول الراوي: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا الصوت عطفة البقر على أولادها، فقالوا: لبيك لبيك]] لقد هُزِم المسلمون حين الإعجاب بالكثرة، ثم نصروا بالقلة القليلة الصابرة الصادقة.
إن العقيدة لا يبنيها ولا يحميها بإذن الله إلا الصفوة المختارة من أصحاب الشجرة والسَّمُرة من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان، ممن يبذل ويضحي ويعطي أكثر مما يأخذ.(74/7)
الدرس الثالث: حال الأنصار في قسمة الغنائم
ومن الدروس العظيمة أيها الإخوة: الدرس الأنصاري في قسمة الغنائم مما لا ينفك عنه الطبع البشري، ثم من بعده العلاج النبوي.
يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: {لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم حنين، وقسَم للمتألفين من قريش وسائر العرب ما قسم، لم يكن في الأنصار شيء منها، ووجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم شيئاً، حتى قال قائلهم: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه.
فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن هذا الحي من الأنصار وجدوا عليك في أنفسهم، قال: فِيْمَ؟ قال: فيما كان من قَسْمِك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب، ولم يكن فيهم من ذلك شيء.
قال رسول صلى الله عليه وسلم: فأين أنت من ذلك يا سعد؟! فقال: ما أنا إلا امرؤ من قومي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجمع لي قومك فإن اجتمعوا فأعلمني.
فخرج سعد فصرخ فيهم فجمعهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقام فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار! ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم، قالوا: بلى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟! قالوا: وما نقول يا رسول الله؟! وبماذا نجيبك؟! المنّ لله ولرسوله.
قال: والله لو شئتم لقلتم فصَدَقْتُم وصُدِّقْتُم، جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، وخائفاً فآمناك، ومخذولاً فنصرناك، فقالوا: المنّ لله ولرسوله.
فقال: أوَجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار! في لعاعة من الدنيا تألفتُ بها قوماً أسلموا، ووَكَلْتُكُم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام؟! أفلا ترضون يا معشر الأنصار! أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟! فوالذي نفسي بيده! لو أن الناس سلكوا شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكتُ شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، الأنصار شعار، والناس دثار، وإنكم ستلقون بعيد أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم، قالوا: رضينا بالله رباً وبرسول الله قَسْماً} الله أكبر!
إنهم الأنصار، مَثَلٌ فريد للرجال الذين تقوم بهم المهمات العظمى، وإن شأن الدنيا أنزل قدراً من أن يأسى لها رجل العقيدة والإيمان، وإن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار ليفيض بمشاعر المحبة للأنصار، ويفيض بدلائل التألم النبوي أن يُتَهم من قبل أحب الناس إليه.
لقد لامست هذه الخفقات مشاعر الأنصار، ونفضت ما عسى أن يكون قد علق بهم من الوساوس والهواجس، فأجهشت بالبكاء الصدور وارتفعت بالنشيج الأصوات، واخضلت بالدموع اللحى.
ثم متى كان المال في ميزان رسول الله صلى الله عليه وسلم دليلاً على التقدير أو برهاناً على الحب، لقد كان نصيبه كنصيب الأنصار، فالمال أعطاه مَن أعطاه، وعاد بالأنصار وعادت الأنصار به؛ ليكون المحيا والممات بينهم، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأبرار من المهاجرين والأنصار، وجمعنا تحت لوائه المحمود، وسقانا من حوضه المورود بمنه وكرمه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:25 - 27].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(74/8)
الدرس الرابع: لتركبن سنن من كان قبلكم
الحمد لله يسَّر للمؤمنين سبل طاعته، وأعان على ذكره وشكره وحسن عبادته، أحمده سبحانه وأشكره، وأسأله المزيد من فضله وكرمه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، اجتباه من رسله، واصطفاه لرسالته، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وذريته، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجه وطريقته.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله، فتقوى الله جماع الخير، ومعادن البركات.
أيها المسلمون: ومن دروس هذه الغزوة في التوحيد وتحقيقه: أن حدثاء العهد بالإسلام ممن سار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة مروا بشجرة يُعَلِّق عليها الكفار أسلحتهم، يعتقدون بركتها ونفعها، يقال لها: (ذات أنواط) فقالوا يا رسول الله: {اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم متعجباً، ومنكراً، وموجهاً، ثم قال: قلتم والذي نفسي بيده! كما قال قوم موسى لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138] لتركبن سَنَن مَن كان قبلكم}.
أيها الإخوة: إن طريق الحق، وطريق العزة، أن يرجع الناس إلى دينهم، ويستقيموا على عقيدة التوحيد، فالغاية أن يُعبد الله وحده لا شريك له، عقيدة يستقيمون عليها، ويدعون إليها، ليس من خلال قنوات فكرية ضيقة، ولا من مذهبية محدودة، ولا حزبية منغلقة، وإنما من خلال سعة دين الله، ونهج السلف الصالح، سعة ورحابة لا تتملك العواطف؛ ولكنها تتألف القلوب، لا تترك الحق، وإنما تقوِّم العقول، إنها دعوة وجهاد، وصبر ومصابرة، وإصرار ومثابرة، من غير تنكر للمفيد من الحضارة، أي حضارة في القديم أو الجديد، ولكن الإسلام لا ينتصر بأدوات غيره، والمسلمون لا عليهم أن يأخذوا بأسباب القوة، يعدوها ويستعدون بها، غيره أنه لا صلاح ولا إصلاح إلا بما صلَح به أولها.
هذا وصلوا وسلموا على رسولكم ونبيكم فقد أمركم بذلك ربكم، فقال: عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأزواجه وذريته.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، واجعل اللهم هذه البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وعبادك الصالحين.
اللهم أيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، اللهم ارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير، وتعينه عليه، اللهم أيده بالحق، وأيد الحق به، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمة المسلمين يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رُشْد يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُذَلُّ فيه أهل معصيتك ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر إنك على كل شيء قدير.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(74/9)
هل من مشمر
الجنة دار النعيم المقيم أعدها الله لعباده المؤمنين، فيها من النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولأهل الجنة العاملين لها أوصاف يعرفون بها، ولها سبيل للولوج إليها؛ فاقصد السبيل تنل النعيم.(75/1)
الجنة دار النعيم
الحمد لله الذي جعل جنة الفردوس لعباده المؤمنين نزلاً، أفاض عليهم فيها من النعم، وكساهم من الحلل فلا يبغون عنها حولاً، ويسر المكلفين للأعمال، وهداهم النجدين؛ ليبلوهم أيهم أحسن عملاً.
أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأقام الحجة على خلقه؛ فهو لم يخلقهم عبثاً ولا سُدىً ولم يتركهم هملاً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله دعا إلى الحق، وأوضح المحجة؛ فلا نبغي عن محجته بدلاً.
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأزواجه وذريته وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله حق تقاته، وسارعوا إلى مغفرة ربكم ومرضاته، وأجيبوا الداعي إلى دار كرامته وجناته؛ فالعمر سريع الذهاب بساعاته وأوقاته.
أيها المسلمون: الحديث عن النعيم المقيم، والإيمان الراسخ بالنزل الكريم؛ من الغفور الرحيم، هو سلوة الأحزان، وحياة القلوب، وحادي النفوس، ومهيجها إلى ابتغاء القرب من ربها ومولاها، الحديث عن النعيم والرضوان لا يسأمه الجليس، ولا يمله الأنيس، عزت دار الفردوس من دار، وجل فيها المبتغى والمرام، دار وجنان تبلغ النفوس فيها منيتها ومناها، غرفٌ مبنية طابت للأبرار منازلها وسكناها، جل وتقدس من سوَّاها وبناها.
غرسها الرحمن بيده، وجعلها مستقراً لأهله وخاصته، وملأها برضوانه ورحمته، فيها الفوز العظيم، والملك الكبير، والنعيم المقيم، ولموضع سوطٍ فيها خيرٌ من الدنيا وما فيها: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
أيها الإخوة: وهذا حديث ذكرى، وتذكير من آي الكتاب، وخبر سيد الأخيار والأحباب، نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، حديث ذكرى وتذكير عما أعده ربنا جل وتقدس لعباده المتقين، من جناتٍ وعيون ومقامٍ كريم.
أيها الإخوة في الله: يحشر المتقون إلى الرحمن وفداً، ويساقون إلى الجنة زمراً، لقد وجدوا ما وعدهم ربهم حقاً رضي الله عنهم ورضوا عنه، ناداهم عز جلاله: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:68 - 71].
أول زمرة منهم يدخلون على صورة القمر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكبٍ دريٍ، على خلق رجلٍ واحد على صورة أبيهم آدم، لا اختلاف بينهم، ولا تباعد بين قلوبهم؛ على قلبٍ واحد يسبحون الله بكرة وعشياً: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10].(75/2)
وصف الجنة ونعيمها
جناتُ عدن يدخلونها، غرفاتها من أصناف الجوهر كله، يرى باطنها من ظاهرها وظاهرها من باطنها، فيها من النعيم واللذائذ ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، اقرءوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:15] رياضها مجتمع المتحابين، وحدائقها نزهة المشتاقين، وخيامها اللؤلؤية، على شواطئ أنهارها بهجة للناظرين، عرش الرحمن سقفها والمسك والزعفران تربتها، واللؤلؤ والياقوت والجوهر حصباؤها، والذهب والفضة لبنتها: {غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الزمر:20] عاليات الدرجات، في عاليات المقامات، بهيجة المتاع، قصرٌ مشيد، وأنوارٌ تتلألأ {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:32 - 34].
هم فيها {عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس:56] ظلها ممدود، وخيرها غير محدود: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20 - 21] قطوفها دانية للآكلين، وطعمها لذة للطاعمين، قد ذللت قطوفها تذليلاً، نعيم البدن بالجنان والأنهار والثمار، ونعيم النفس بالأزواج المطهرة، ونعيم القلب وقرة العين بالخلود والدوام، عيش ونعيم أبد الآباد، عطاء من ربك غير مجذوذ، فيها أزواج مطهرة خيراتٌ حسان الوجوه جمعن الجمال الباطن والظاهر من جميع الوجوه، في الخيام مقصورات، أولي الطرف قاصرات، تقصر أنفسهن عيون الواصفين: {عُرُباً أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:37 - 38] لا يفنى شبابها، ولا يبلى جمالها {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] لو اطلعت إحداهن على الدنيا لملأت ما بين الأرض والسماء ريحاً وعطراً وشذى، ولطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ما في النجوم من ضياء.
حورٌ عين، راضيات لا يسخطن أبداً، وناعمات لا يبأسن أبداً، وخالدات لا يزلن أبداً.(75/3)
حال أصحاب الجنة
أصحاب الجنة: {يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} [الدخان:53].
ويحلون فيها من أساور من ذهبٍ: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23] {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71] {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} [الطور:24] يجتمعون في ظلها الظليل، يتنازعون فيها كئوس الرحيق المختوم، والتسنيم السلسبيل، تتوالى عليهم المسرات والخيرات والإحسان والمكرمات.
نُزِعَ من قلوبهم الغل، وطُرِدَ عنهم الحزن والهم: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:34 - 35] {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً} [الواقعة:25 - 26] هدوءٌ ورضا، يغمره السلام والاطمئنان، والود والأمان، يبلغهم ربهم السلام: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58] {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد:23] بالسلام، {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24] وخدم الجنة يحيونهم بالسلام: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73] في جنات عدن يأتلف شملهم مع الصالحين من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الرعد:23] {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].
وفي جو التجمع والتلاقي، تنادي الملائكة بالتكريم والترحيب: {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32].
وهل ترى نعيماً -يا عبد الله- فوق هذا النعيم؟(75/4)
الزيادة في الجنة
نعم.
لقد بقي بعد الحسن الزيادة، فهذا هو يوم المزيد، فاستمع يوم ينادي المنادي: يا أهل الجنة! يا أهل الجنة! إن ربكم تبارك وتعالى يستزيركم، أي: يطلب زيارتكم، فحي على الزيارة، فينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنجائب قد أعدت لهم حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح؛ نصبت لهم منابر من نور ولؤلؤٍ وزبرجد وجلسوا على كثبان المسك، ثم ينادي المنادي: يا أهل الجنة سلام عليكم: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44] فيجيبون ربهم بالسلام، يا أهل الجنة! هذا يوم المزيد، ثم يكشف الرب الحجب، ويتجلى لهم فيغشاهم من النور ما يغشاهم، فيا قرة عيون الأبرار في النظر إلى الوجه الكريم في الدار الآخرة، ويا ذلة الراجعين في الصفقة الخاسرة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة:22 - 25].(75/5)
أوصاف عباد الله الصالحين
أيها الإخوة: هؤلاء هم أصحاب الحسنى وزيادة {كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:17 - 19] يصلون بالليل والناس نيام، يصومون وغيرهم يأكل، وينفقون وغيرهم يبخل، ويجاهدون وغيرهم يتقاعس ويجبن، أولئك هم عباد الله، حفظوا وصية الله، ورعوا عهد الله وميثاقه، بربهم يؤمنون، وبربهم لا يشركون: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28] استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة: {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً} [الرعد:22] في السراء والضراء: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37] {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:3 - 6] {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8] طالما تعبت أجسادهم من الجوع والسهر، واستعدوا من الزاد لما يكفي لطويل السفر عبراتهم تجري وفي قلوبهم معتبر.
كثر استغفارهم فحطت خطاياهم، وكلما طلبوا من ربهم أعطاهم، فسبحان من اختارهم واصطفاهم! إنهم عباد الله المخلصون، فيهم الشهيد المحتسب، والعفيف المتعفف، والسلطان المقسط، والضعيف المتضعف المتواضع ذو الطمرين، مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره.
أقوامٌ يقطرون نزاهةً، أفئدتهم مثل أفئدة الطير، فيهم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، متحابون في جلال الله، فيهم: صاحب القرآن يقرأ ويرتل ويرتقي.
فيهم: تارك المراء ولو كان محقاً، وتارك الكذب ولو كان مازحاً، وبيت في الجنة لمن حسن خلقه؛ يكظم الغيظ، ويعفو عن الناس والله يحب المحسنين.
فيهم: من أطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام {خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40].
جنة ربي: {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:32 - 33] عيونٌ تبكي من خشية الله، وعيونٌ تحرس في سبيل الله، يخافون من ربهم {يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:10 - 12].
الله أكبر! أهل الجنان والغرفات: أقوامٌ آمنوا بالله وصدقوا المرسلين: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43].
ألا هل من مشمر إلى الجنة يا عباد الله؟
قولوا كما قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن المشمرون إن شاء الله.
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم إنا نسألك الجنة وما يقرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما يقربنا إليها من قول وعمل، ونسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عينٍ لا تنقطع، ولذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، استجب اللهم يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(75/6)
سبيل الجنة
الحمد لله، رضي من عباده اليسير من العمل، وتجاوز لهم الكثير من الزلل، وخص من شاء بهدايته وتوفيقه نعمة منه وفضلاً، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شهادة موقنٍ بها، آخذٍ بمقتضاها قولاً وعملاً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، رحمة العالمين، وقدوة العاملين، وحجة السالكين، لا نبتغي إلى السعادة بغير طريقه أملاً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد سأل الصحابي الجليل، الفقيه بالحلال والحرام، ومبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعليم والقضاء والفتية: معاذ بن جبل رضي الله عنه، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {قلت: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويبعدني عن النار، قال: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جُنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما تطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17] ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله.
قال: رأس الأمر: الإسلام، وعموده: الصلاة، وذروة سنامه: الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ بلسانه وقال: كفَّ عليك هذا.
قلت: يا نبي الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يَكُبُ الناس على وجوههم أو قال: على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم} أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
أيها الإخوة: هذه هي الجنة، وهذا هو سبيلها، فهل رأيتم أشد غبناً ممن يبيع الجنان العالية بحياة أشبه بأضغاث أحلام؟ يبيع الفردوس بدنيا قصيرة، وأحوال زهيدة مشوبة بالنار ممزوجة بالغصص، حياةٌ حقيرة؛ إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرَّت أياماً أحزنت دهوراً، أي سفه وأي عته ممن يبيع مساكن طيبة في جنات عدن بأعطانٍ ضيقة، وخرابٍ بور، فيا حسرة هذا المتخلف حين يعاين كرامة الله لأوليائه، وما أخفي لهم من قرة أعين، فلسوف يعلم أي بضاعة أضاع!!
فاتقوا الله رحمكم الله، وبادروا وشمروا، واعملوا وأحسنوا وأبشروا.
ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمد رسول الله فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأزواجه وذرياته، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الملة والكفرة الطغاة والملحدين، وانصر عبادك المؤمنين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحبه وترضى، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، وارزقه البطانة الصالحة، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء، والوباء، والربا، والزنا، والزلازل، والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا وعن سائر بلاد المسلمين، اللهم فارج الهم، وكاشف الغم، ومجيب دعوة المضطرين نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً غدقاً سحاً مجللاً هنيئاً مريئاً نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم غيثاً تُحيي به البلاد، وتُغيث به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد، اللهم واجعل ما أنزلته قوة لنا على طاعتك، وبلاغاً إلى حين، اللهم اسقِ عبادك وبهائمك وأحي بلدك الميت، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، وأنزل علينا من بركات السماء، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم.
اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك، اللهم انصرهم وأيدهم وثبت سهامهم وآراءهم واجعل الدائرة على أعدائهم يا قوي يا عزيز ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(75/7)
عبودية الله حقيقتها وأهلها
العبودية لله جل وعلا هي الغاية من خلق الإنسان على وجه هذه البسيطة، ولا فلاح للإنسان ولا حرية ولا سعادة إلا بتحقيق العبودية لربه وخالقه ومالكه.
وحقيقة العبادة أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، والعبودية هي أشرف المقامات.
كما أن هناك صفات لعباد الله يتصفون بها، وقد ذكرها الله جل وعلا في كتابه.(76/1)
أهمية العبودية لله في حياة الإنسان
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
فيا أيها الناس: إن ربكم يعلم ما في أنفسكم فاحذروه، ولا يخفى عليه شيءٌ من أمركم فاخشوه وراقبوه، تعرف إليكم بأسمائه وصفاته، وتحبب إليكم بنعمه وآلائه، يحب المتقين فسارعوا إلى التقوى، ويحب المحسنين فأحسنوا، ويحب الصابرين فاصبروا، ويحب المتوكلين فعليه فتوكلوا إن كنتم مؤمنين.
سبحانه وبحمده! من استهداه هداه، ومن اعتمد عليه كفاه.
أيها المسلمون: حجاج بيت الله الحرام! قضية هي أم قضايا بني الإنسان، وركيزة هي أساس ركائز المكلفين، بل هي المؤثر الأعظم -بإذن الله- في حياة البشرية وتصرفاتها ومشاعرها وعلاقاتها، بل هي ضرورة من ضروريات الإنسان أشد من الطعام والشراب، قضية تحفظ لهذا الكون انتظامه، وتضبط فيه مساره، بالخلل فيها يختل نظام الحياة، وبالضلال فيها تتيه البشرية في دهاليز العمى، وسراديب الانحطاط، ومهاوي الفساد، تلكم هي قضية العبودية لله الواحد القهار، سبحانه وبحمده، تبارك اسمه وتعالى جده، ولا إله غيره.
العبودية: قضية حتمية لا فكاك للإنسان منها بحال من الأحوال، وهي حاصلة في واقع الناس حصولاً محققاً في كل زمان وفي كل مكان، هي حتمية لأن في الإنسان حاجة وفقراً وضعفاًَ، وهو بين حالين لا ثالث لهما إما أن يتوجه بعبادته وخضوعه وانكساره لله الواحد القهار، فيكون موحداً مطيعاً مطمئناً سعيداً، وإما أن يكون خاضعاً أسيراً ذليلاً لمعبودات باطلة من الآلهة الكثيرة من الأصنام والأوثان، والهوى والشهوة، والمال والملذات، والقوانين والرجال، والأعراف والأحزاب، وكل ما تعلق به فتجاوز به حده من محبوب أو متبوع أو مطاع: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31] {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23].
أيها المسلمون: يا ضيوف الرحمن! عبادة الله الملك الحق المبين، هي الزمام الذي يكبح جماح البشرية أن تلغ في الشهوات، وهي السبيل الذي يحجز الأمم أن تتمرد على شرع الله.
العبودية الحقة: هي المحرك الفعال -بإذن الله- لهذه النفس لتنطلق في كل دروب الحق والخير والسعادة.
العبودية الحقة: هي التي تخلص البشرية من استذلال القوى والنظم والأوضاع والأشخاص، كما تخلصها من استضلال الأساطير والأوهام والخرافات، الخلل في العبادة مؤذنٌ في الخلل في نظام حياة البشر بلا مراء.
أمة الإسلام: ضيوف الرحمن! إنه لا فلاح للإنسان ولا حرية ولا سعادة إلا بتحقيق العبودية لربه وخالقه ومالكه، الإله الحق الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر عالم الغيب والشهادة: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:164] {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام:14] {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً} [الأعراف:140].
بهذه العبودية تكتسب الحرية، وبهذا الذل ترتقى درجات العز، وبمقدار الخضوع تكون الرفعة، إذا أحسن المرء العبادة وأخلصها ترقى في درجات الكمال الإنساني وأصبح لحياته قيمة، وصار لعمله لذة، ولئن كان الغنى إلى النفس فإن الحرية حرية القلب كما أن الرق رق القلب.(76/2)
العبودية تعريفها وحقيقتها
أيها الإخوة في الله: إذا كان الأمر كذلك فما هي العبودية؟ وما هي حقيقتها؟
إنها اسمٌ جامع لمراتب الأعمال والأقوال من القلب واللسان والجوارح من كل ما يحبه الله ويرضاه.
العبودية: الطاعة لله مع الخضوع له، فيفعل المكلف خلاف هوى نفسه طاعة لله وتعظيماً له.
العبادة الحقة: حركاتٌ في الظاهر، واعتقادٌ في الباطن، وطمأنينة في النفس، وتواطؤٌ وتوافق بين عبودية القلب وعبودية الجوارح.
لا بد في العبادة من الجمع بين المحبة والخضوع، فيحب العبد ربه أحب من كل شيء، ويعظمه أعظم من كل شيء، فالمحبة الخالصة والخضوع التام لا يكونان إلا لله رب العالمين لا شريك له.
إن مبنى العبودية على التسليم والانقياد والاستجابة في فعل المأمورات وترك المنهيات: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
أيها الإخوة في الله: أما أصول العبادة وأسسها: الاعتقاد بالصحيح فيما أخبر الله سبحانه عن نفسه وأسمائه وصفاته، وأفعاله وملائكته وكل ما غاب عنا؛ مما جاء على ألسنة الرسل وتنزلت به الكتب، وإفراد الله بالعبادة، وتنزيهه عن الشركاء والأنداد مع ما يتطلبه القلب ويستيقنه من التوكل على الله، والإنابة إليه، والخوف منه، والرجاء فيما عنده، وإخلاص الدين له ثم أعمال الجوارح من أنواع العبادات؛ من الصلاة والزكاة والصيام والحج وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وأداء الأمانات، والوفاء بالعهود، وبذل وجوه الإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، وكل محتاجٍ من بني آدم حتى البهائم: {ففي كل كبدة رطبة أجر}، وأعمال اللسان من تلاوة القرآن العزيز، والذكر، وقول الحق، وحسن الحديث، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والعلم والتعليم، واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والكف عن المحرمات، والبعد عن الكبر والرياء، والعجب والحسد والنفاق، والغيبة والنميمة، وكل ما نهى الله عنه.
إن العبودية على الحقيقة والتحقيق: هي الدين كله، ولما سأل جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: {هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم}.(76/3)
العبودية أشرف المقامات
أيها الإخوة في الله: العبودية أشرف المقامات، وأعلى مرتبات عبادة الله شرفت بها ملائكة الله: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:26 - 27] {وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:19 - 20].(76/4)
العبودية ومقام تشريف الأنبياء بها
العبودية: هي مقام التشريف في حق أنبياء الله، ورسله المرسلون هم أعلى مكلفين في مراتب العبودية: {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59] {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} [الصافات:171 - 172] {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص:45].
واستمع إلى هذا الوصف الجميل لأيوب الصبور: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44].
أما صاحب الملك العريض الذي لا ينبغي لأحدٍ من بعده، فقد وصفه ربه بقوله: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:30].
أما عيسى عليه السلام وقد رفعه من رفعه إلى مقام الألوهية فقد قال فيه ربه: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف:59].
ثم ناهيكم بأفضل الرسل وأشرف الأنبياء نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد شرفه ربه بوصف العبودية وهو في أعلى مقامات التكريم، وقد أسري به إلى بيت المقدس، وعرج به إلى السماء فقال سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1].
وقال سبحانه: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10].
فالأنبياء عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه هم الأعلى في مراتب العبودية، ويأتي في ذروة عباد الله الصالحين بعد الأنبياء الصديقون، والشهداء، والمجاهدون، والعلماء، وأهل الإيثار والإحسان، وهم في هذا على درجاتٍ متفاوتات لا يحصي طرفيها إلا الله، فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم وأقربهم إلى الله؛ أقواهم وأهداهم وأتمهم عبودية لله عز وجل.(76/5)
صفات عباد الله في القرآن
أمة الإسلام: حجاج بيت الله! وبالنظر في المطلوب من عباد الله على درجاتهم ومنازلهم ترى شمولية ودقة في الاعتقادات، والعبادات، ومجمل الطاعات، وآداب السلوك والأخلاق: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً} [إبراهيم:31].
{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53].
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53].
ومن جميل صفاتهم وجميل أخلاقهم ما وصفهم الله جل وعلا: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] قائمين لله بالعبادة ركعاً وسجداً: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان:64] يخافون عذاب السعير: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان:65 - 66].
ناهيكم بتحقيق التوحيد والخلوص من الشرك، واجتناب كبائر الذنوب: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68] محفوظون من الشيطان ووسواسه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42].
هم أهل التمكين والوراثة: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105].(76/6)
لذة العبودية لله
عباد الله: حجاج بيت الله! العبودية الصادقة تسمو بها الروح، وتتهذب فيها غرائز العبد وشهواته، ويترجح جانب الخير على جانب الشر، ويتجلى وقوف العبد بين يدي ربه واستحضار علمه وعظمته وإحاطته.
العبادة الصحيحة: أثرٌ عظيمٌ في النفس وطمأنينة في القلب.
العبودية أعظم ما يحصله الإنسان في هذه الحياة؛ لتكون وسيلته إلى السعادة ورضا الله وبلوغ جنته ودار رضوانه، وفي الحديث القدسي: {يابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك} أخرجه ابن ماجة بسندٍ صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
القلب إذا ذاق طعم العبادة والإخلاص لم يكن عنده شيءٌ قط أحلى من ذلك ولا ألذ ولا أمتع، يقول صلى الله عليه وسلم: {ذاق حلاوة الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ نبياً ورسولاً}.
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(76/7)
أمور تعين على تحقيق العبودية
الحمد لله؛ شرع لنا من الدين ما وصى به المرسلين، أحمده تعالى وأشكره وأومن به وأتوكل عليه، إياه نعبد وإياه نستعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله سيد الأولين والآخرين وقائد الغر المحجلين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: إن مما يعين على تحقيق العبودية وإحسان العبادة حضور القلب، وإخلاص النية، وتحديث القلب وتذكيره بالتعبد لله في حال العبادة وخارجها، وهذا التذكير نهرٌ يمد القلب باللين والرقة والخشوع حتى لا يشح ماؤه، ولا يصيبه القسوة عياذاً بالله.
أيها المسلمون: ولكل عبادة تهيؤ يناسبها، فمن التهيؤ للصلاة حسن الاستعداد من إسباغ الوضوء، والتبكير إلى المسجد، والمشي بسكينة ووقار، يقارنه تهيؤ نفسي ومعالجة قلبية.
ومن التهيؤ للحج والعمرة رد الأمانات والمظالم إلى أهلها، وتحري النفقة الحلال، واختيار الرفقة الصالحة، ورعاية آداب السفر، وغير ذلك مما يعين على تحقيق المقصود من العبادة.
كما ينبغي في كل عبادة الابتعاد عما يشوش القلب، فينخلع القلب عن علائق الدنيا وينجذب بكليته إلى ربه ومولاه.
ومما ينبغي أن يعلم أن ربنا جل شأنه لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، وفي الحديث القدسي: {يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً} ومع غناه سبحانه فإنه يحب المتقين، والمحسنين، والصابرين، والتوابين والمتطهرين.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله- واسألوه العون على ذكره وشكره وحسن عبادته.
ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم في محكم تنزيله، فقال سبحانه وهو الصادق في قيله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك المؤمنين، واخذل الطغاة والملاحدة، وسائر أعداء الملة والدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق والتأييد والتوفيق والتسديد إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وارزقه البطانة الصالحة، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، وألبسه لباس الصحة والعافية، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين.
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كشمير وفي الشيشان وفي كل مكان يا رب العالمين!
اللهم إن اليهود المحتلين الغاصبين قد طغوا وبغوا، وآلوا وأفسدوا، وقتلوا وشردوا، وأهلكوا ودمروا، اللهم اجعل بأسهم بينهم، وفرق جمعهم، وشتت شملهم، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين!
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلادنا وعن جميع بلاد المسلمين يا رب العالمين!
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(76/8)
إنما أنت مذكر
قال الله تعالى: (فذكر إنما أنت مذكر) تحدث الشيخ حول هذه الآية، وبين المقصود منها، ثم بين أن على الداعية أن يذكر ويدعو وألا ينتظر النتائج، ولكي تكون الدعوة ناجحة فلابد من تخول المواقف والمناسبات للتذكير، وتنوع الأساليب، ثم تحدث عمن هو المنتفع بالذكرى، مبيناً حال الكفار مع الاستجابة، ثم بين أن الهوى هو السبب في عدم الاستجابة، وقد ضرب أمثلة على ذلك، ثم تحدث عن الدنيا وطبيعتها، وعن طبيعة الإنسان فيها، وشرح حديث: (اغتنم خمساً قبل خمس).(77/1)
معنى قوله تعالى: (فذكر إنما أنت مذكر)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، أشكره ولا أكفره، وأتوب إليه وأستغفره، وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الخلق وله الأمر وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه ومصطفاه من رسله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، جعلنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أشكر الله عز وجل على ما منَّ به من هذا اللقاء الطيب المبارك في هذا البيت من بيوت الله، وفي هذا الجزء العزيز من بلادنا حفظها الله وصانها، وأدام عليها أمنها ورخاءها، وأعزها بالإسلام، وأعز الإسلام بها، أشكره سبحانه على هذا اللقاء في هذه المحافظة، وفي هذه المدنية ينبع الكريمة والعزيزة.
وإنَّ ما تقدم به الأخ الفاضل المقدم أشكره عليه، وإن كنت أعتب عليه في ذلك عتباً شديداً، فقد أدلى بكلمات ما كان ينبغي أن تكون في مثل هذا المقام، وخاصة ونحن في بيت من بيوت الله، جلسنا نذكر ونتذاكر، ونذكِّر أنفسنا، فما كان ينبغي له أن يأتي بمثل هذه الكلمات، وخاصة ما يتعلق بنوع من الإطراء الذي لا يحبه كل إنسانٍ يحترم هذه الوجوه الطيبة، لكنني أحسن الظن به، وأرجو من الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنا وعنه، وأن يسامحنا، وإن كنت أعلم أن ذلك هو حسن ظن منه، كما أنه حسن ظن كثير من الإخوة الذين رتبوا لهذا اللقاء، ولكنني أقول: اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، واجعلني خيراً مما يظنون.
أيها الإخوة: عنوان هذا اللقاء كما اختاره الإخوة المنظمون لهذا اللقاء هو حول التذكير والذكرى، والعنوان هو: "إنما أنت مذكر".
يقول الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21 - 22].
سوف يكون وقوفنا -إن شاء الله- أمام هذا الموضوع من عدة جوانب:
الجانب الأول: معنى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21 - 22] وأمثالها من الآيات الأخرى؛ لنبين وظيفة الواعظ، ووظيفة الداعية، ووظيفة الموجه، ووظيفة المربي.
الجانب الثاني: من هو المنتفع بالذكرى؟ وحتى نقف حقيقةً مع أنفسنا موقف المحاسبة: من هو المنتفع؟
ولماذا كثيرٌ منا يسمع مواعظ، ويسمع خطباً، ويسمع كلمات، ويقرأ، ومع هذا يحس بنوع من الضعف، ونوع من قلة الاستجابة مما يسمع ومما يذكر به الواعظون؟
الجانب الثالث: ثم محاولة لوقفة تذكيرية حول أنفسنا بطبيعة هذه الحياة، وطبيعة الإنسان، والجدية في المواقف، وصدق المحاسبة.
الجانب الرابع: ثم الإشارة إلى الضعف البشري والنقص العملي؛ مما يستدعي مع المحاسبة: توجه إلى التوبة، وبيان مواقف كبيرة في التوبة، وبخاصة ما يتعلق بالإصرار، وما يتعلق بالمجاهرة، وفيما يتعلق ببعض الابتلاءات والمصائب التي تكون مكفرات؛ لأن هذه كلها من مواقف التذكير والمحاسبة، وقد نأتي عليها كلها، وقد يسارعنا الوقت فلا نأتي عليها كلها، لكن على كل حال هذه هي أطر الموضوع إن شاء الله.
أولاً: قوله سبحانه وتعالى؛ مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو سيد الدعاة، وسيد المذكرين، وسيد الوعاظ، وسيد الخطباء، وسيد الأئمة، وسيد الأنبياء، وسيد المعلمين، وسيد الموجهين، وسيد المربين، قال له: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21 - 22].
هذه تبين -يا إخواني- ما ينبغي أن يعرفه المذكر من نفسه، وما يعرفه من طبيعة البشر، وحينما نقول: مذكر؛ يشمل الداعية، والواعظ، والخطيب، والأب مع أولاده حينما يذكرهم ويزجرهم ويعظهم ويربيهم، والمعلم في مدرسته، وكل قنوات التوجيه وكل مصادر التربية، ومصادر التذكير والتنبيه كلها يجب علينا أن نفقه هذا المعنى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21].
(ذكِّر) أمرٌ بالتذكير، وهذه لا بد منها، والتذكير واجب ومسئولية كل من أعطاه الله علماً وبصيرة، وأحسن شروط الدعوة: هو المدلول عليه بقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] وقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] فمن جمع بين هذه فإنه مأمور بالتذكير.(77/2)
لا تنتظر النتائج
عليك ألا تنقطع: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] وليس عليك القبول {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22].
إذاً: مهمتك أن تذكر، وأن تبين، وأن تجتهد، وأن توضح، وأن تسلك كل مسالك التفكير، وكل مسالك البيان والإيضاح، وتجدد وتطور في أساليبك، وأشياء كثيرة، لكن: {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] وما وراء ذلك ليس إليك {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] أي: لست مسيطراً على عقولهم.
إذاً: لا شك أن الأمور الأخرى فيما يتعلق بالمنكر، وفيما يتعلق بتوجيه الناس، وفيما يتعلق بما هو من الشرع، كالحدود والتعزيرات هذه أشياء أخرى معروفة، لكن لا تتهم نفسك حينما تذكر، ولا تظن أنك أنت مقصر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يوم القيامة: {يأتي النبي وليس معه أحد} وهو نبي مؤيد بالمعجزات والآيات والنذر، ومع هذا لا يتبع، فكونك لا تتبع، أو لا يستجاب لك، أو تكون الاستجابة ضعيفة؛ ليس اتهاماً لك، ولا أنك مقصر، فمهمتك أن تذكر، ومهمتك -لا شك- أن تراجع نفسك وتحاسبها، مثلاً: بالتذكير، والنظر في الوسائل، والنظر في الأسباب، لكن لا تنتظر الاستجابة، فإن الاستجابة بيد الله عز وجل.
وهنا آيات كثيرة في هذا الباب، يقول الله عز وجل: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:23] وهنا حصرٌ أيضاً في أن مهمتك النذارة فقط، ويقول: {وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف:9] ويقول: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} [البقرة:119] بشارة ونذارة، لكن: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة:119] فليست مسئوليتك أن يهتدي الناس، وليست مسئوليتك أن ترى نتاج عملك، وإن تره فهذا لا يعني على أنك فاشل، لماذا؟ لأن هناك عوامل كثيرة في طبيعة النفس البشرية، وحكمة الله سبحانه وتعالى، وأشياء كثيرة صوارف، وموانع، ومعوقات، فالقضية هي أن تعرف وظيفتك.
النبي صلى الله عليه وسلم دعا ثلاثاً وعشرين سنة، بعض الناس استجاب من أول وهلة، كـ خديجة رضي الله عنها، وأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، هؤلاء من أوائل من أسلم، بينما تأخر إسلام بعض الناس إلى أكثر من عشرين عاماً، كـ أبي سفيان، وسهيل بن عمرو، وخالد بن الوليد، فالاستجابة ليست لك.
ولهذا الله عز وجل يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] {لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} [الرعد:31] فالأمر ليس إليك، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم مأمور أن يصرح به، ولهذا يقول: {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الشعراء:115] ويقول: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [ص:86] ويقول: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99].
القضية فعلاً ليست خاضعة لموازين بشرية، وإن كانت هناك -كما سوف نرى بعض أشياء تتعلق بالاستجابة- قضية أنه مهمة الواعظ والمذكر والمربي والموجه والمعلم أن يجتهد في نفسه، لأن وظيفتك أن تعمل، وأن تذكر، وأن تجتهد، لكن النتائج هذه زيادتها ونقصها ليست دليلاً على فشلك، أو نجاحك.(77/3)
اختيار المواقف للتذكير
الجانب الآخر: يقول الله عز وجل: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] ما معنى ذلك؟
معنى ذلك: أن الإنسان ينبغي أن يتخير في التذكير، ليس معنى: {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] إذا لم تنفع فلا تذكر، لا.
لأننا قلنا -قبل قليل- أن النفع ليس إليك، لكن تحر الأوقات، والظروف، والأماكن، والأحوال المناسبة التي تدخل فيها على الناس، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخول أصحابه بالموعظة، أي: يتلمس، سواء كان بتخول الظروف، أو باستغلال المناسبات، فقد تكون الموعظة حينما تزور مريضاً أكثر تأثيراً حينما يكون مصاباً، أو على القبر، أو على جنازة، أو مفاجأة حادث، أو أشياء أخرى، هذه أيضاً من التخول.
إذاً: هذا جانب من جوانب التذكير، وهو تخول الظروف، ومحاولة استغلال الظروف، فإن هذه يكون لها أثرها، ولهذا قد يكون عند تجدد النعم، أو عند انصراف النقم، أو حتى عند حلول المصائب، وعند أشياء كثيرة، يتخيرها الإنسان، ويحاول أن يستغل الظرف ليذكر، وحتى الاستغلال ينبغي أن يكون بطريقة لبقة، وبطريقة خفيفة الظل، وبطريقة لا تكون ثقيلة.
فإن كثيراً من مواعظ النبي صلى الله عليه وسلم كانت مجرد كلمات يقولها في المناسبات، لكنه في الأصل كان يتخير المناسبات، مثلاً: حينما كان مع مجموعة من أصحابه عليه الصلاة والسلام، فمروا على شاة، أو سخلة ميتة، أو تيس أسك -أي مقطوع الأذنين- قال: {أرأيتم هذا؟ قالوا: نعم.
قال: لماذا ألقاها أهلها أو أصحابها؟ قالوا: لأنها لا قيمة لها، قال: إن الدنيا أهون عند الله من هذه عند أهلها} فلأجل هذه المناسبة، قال هذه الكلمة عليه الصلاة والسلام، استغلالاً للموقف، ومحاولة للتذكير في وقت نفعه: {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9].
والتذكير ليس محله المنبر فقط، أو المسجد، أو القاعات الكبرى، بل في أي مناسبة -كما قلنا- قد تزور مستشفى، أو تزور مرضى، أو في تشييع الجنازة، قد يكون حتى بمناسبة أفراح، قد يكون هناك إنسان جاءه شيء يفرحه فتستغل هذه المناسبة، والتذكير ليس بأن تأتي بمأساة في وقت الفرح، فإن هذا ليس من اللباقة، وليس من المفيد، بل في الفرح يكون فرحاً، ويكون استغلالاً للابتلاء بالخير، كما تستغل الابتلاء بالشر {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9].(77/4)
من هو المنتفع بالذكرى
قضية أخرى في التذكير: وهي أنه إذا كان خطابنا الأول للمذكِّرين والوعاظ، الآن نأتي إلى المخاطَبين المذكِّرين.
الله عز وجل يقول: {فَذَكّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] وبعدها: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:10].
إذا كنا تحدثنا قبل قليل عن المذكرين، وقلنا: ينبغي أن يفعلوا كذا وكذا وكذا، الآن نخاطب الذين يستمعون: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:10] هنا ينبغي -يا أخي- أن تقف مع نفسك وقفة المحاسب، لماذا تسمع الوعاظ، وتسمع المذكرين، وتتلى عليك آيات الله، وعندك وسائل في المسجد، في الشريط، في الإذاعة، تقرأ كتاباً، تقرأ نشرة، ومع هذا لو راجعت نفسك لوجدت شيئاً من القصور، فعليك أن ترجع إلى نفسك، الله عز وجل يقول: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:10] ويقول: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] ما تنفع كل واحد.
ويقول: بسم الله الرحمن الرحيم {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:1 - 3].
إذاً: قضية الإيمان وقضية الخشية أشياء داخلية، ويقول: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً} [يس:70] سماها حياة، فالقرآن ينذر من كان حياً {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس:69 - 70].
إذاً: إذا أردت أن تحاسب نفسك بصدق، وأن تقف موقف المراجع لنفسه أمام وعظ الواعظين، وتذكير المذكرين، ونصح الناصحين، ولهذا أكثر ما قال الأنبياء لأقوامهم: {وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79] إن القضية خطيرة أيها الإخوة.
أسألكم بالله: إذا مر عليكم عضو الهيئة، أو مر عليكم رجل محسن، أو خير، وقال: يا إخواني الصلاة، أو قال لكم: هذا كذا، أو السنة كذا، بالله هل يتعظ قلبك؟ هل تجد تثاقلاً؟ هذا خطير يا أخي! وقال هود لقومه: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79].
فعليك أن تراجع نفسك -خاصة في وقتنا الحاضر- فكم يمر عليك مسائل خير، وبخاصة في إعلامنا -ولله الحمد- ففيه إيجابيات كثيرة جداً؛ إذاعة القرآن الكريم، برامجنا الدينية والتثقيفية الجميلة، في كثير منها كم يمر عليك، وأنت تفتح السيارة هذه آيات الله تتلى، وهذه مواقف من القرآن، وهذه مواقف من السنة، وهذه مواقف من السيرة، بالله ما اجتهدت أن تقف مع نفسك موقف محاسب! إذا لم يكن ذلك فارجع إلى هذه الآية: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:9 - 10] إذا كان في قلبك خشية، وفي قلبك حياة {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً} [يس:70] وكان لك قلب {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] السمع هذا سمع خاص -وسوف نشير إليه بعد قليل- وليس مثل كمن يسمع من أذن ويخرج من أذن أخرى، إنه سمع معين نشير إليه -إن شاء الله- بعد قليل.
إذاً: هذا خطاب للذين يستمعون الذكر ويستمعون التذكير، أن ينظروا في قلوبهم، وينظروا مدى استجابتهم، يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام:36] ويقول في الآية التي قبلها: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا} [الأنعام:34] هذا كله تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} [الأنعام:34 - 35] وهذه تتعلق بـ {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21]، ولا مانع أن نعيد الكلام فيه.
هذا الخطاب من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، مما يدلك: على أن القرآن من عند الله، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم بلغه من عند ربه، حتى الأمور التي تتعلق بشخص النبي صلى الله عليه وسلم، وما يدور في صدره بينها القرآن.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يشق عليه ألاَّ يصدقه قومه، وكان يشق عليه أن يعرض قومه، فقال الله له: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} [الأنعام:35] إن كان شق عليك أنهم أعرضوا {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} [الأنعام:35] ماذا تفعل؟
تصعد إلى السماء لتأتي بآيات، أو تفتح أنفاقاً وتأتي بآيات، هذا ليس إليك، إن مهمتك البلاغ.
سبحان الله! الخطاب القرآني والتجسيد القرآني لموقف النبي صلى الله عليه وسلم من قومه، الرسول صلى الله عليه وسلم كان مشفقاً على قومه، بل حريصاً عليهم يريد أن يسلموا، أولاً: لأنه مقتنع بما جاء به، وهو أيضاً يرسم الطريق للدعاة، وكان يتحرق قلبه عليه الصلاة والسلام في سبيل أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} [الأنعام:35] إن كان شق عليك أن أعرضوا، ليس بيدك شيء: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ *(77/5)
الكفار وحالهم مع الاستجابة
يقول تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:22 - 24].
آيات عجيبة في تجسيد كيفية الاستجابة، ومنهم الذين لا يستجيبون {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22].
وقد جاء إليَّ سؤال لطيف، قال: الله عز وجل في الذين كفروا: {الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22] ومعلوم أن الأصم والأبكم ليس مكلفاً، فكيف قال هنا: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22]؟
الموضوع -فعلاً- يحتاج إلى وقفة: فإن الصم البكم في الآية ليس معنى ذلك أنه متعطل السمع، أو أنه أبكم بمعنى لا يستطيع أن يتكلم، ولكن المعنى أن عنده آلة سمعٍ، فلم يستعملها، ولم يوظفها في الحق، وعنده عقل، ولم يستعمله، ولهذا قال الله عز وجل في الذين كفروا: {وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170] فما معنى أن الكفار لا يعقلون؟
القضية خطيرة ودقيقة ومهمة في الكفار وفي العصاة، وقد يقول قائل -كما قلنا قبل قليل-: الكفار معهم عقول وعبقريات واكتشافات واختراعات، ووصلوا إلى ما وصلوا إليه باكتشافات مدنية، واكتشافات مادية، وهذا حق، ولا ينكر، ولا يُلغى، بل لو كانوا لا يعقلون لما كانوا مكلفين أصلاً؛ لأن المجنون لا يكلف، والإنسان الذي فقد آلة لا يكلف بأن يؤدي شيئاً بهذه الآلة وهو فاقدها، بل حتى الإنسان لو كان مقطوع اليد وأراد أن يتوضأ فلا يلزمه أن يغسل كتفه أو جنبه ما دام أن اليد مقطوعة إلى المرفق، انتهى المفروض عليه، فكذلك إذا كان معطل الحواس، فليس عليه تكليف، لكن الله عز وجل قال في الكفار: {لا يَعْقِلُونَ} [المائدة:103] أي: أن عندهم آلة العقل، لكن لم يستعملوها في الاستعمال الصحيح.
ولهذا لو أن إنساناً يمشي وداس رِجل شخصٍ ما فسوف يقال له: ألا ترى؟! لأنه لو كان يرى لما داس، إلا إذا كان متعمداً، بل حتى حادث السيارة، والأشياء الأخرى، فالإنسان حينما يخطئ في تعطيل حاسته سوف تتعطل، مع أن هناك تعطيلاً متعمداً، والإنسان محاسب عليه، ولهذا قال الله عز وجل في الكفار: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] ويقول في آية أخرى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:43 - 44].
إذاً: ليست القضية أنه ليس عنده عقل، ولا سمع، القضية فيها أشياء أخرى، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان:43] وفي مكان آخر تكلم عن الاستجابة، فقال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50].(77/6)
الهوى سبب عدم الاستجابة
إن الصارف عن عقلك وقلبك حتى لا يخشع، وحتى لا يسمع، هو الهوى.
والهوى كلمة واسعة في القرآن، وواسعة في اللغة العربية، فالكفار على عقولهم، وعلى عبقرياتهم، لكن الذي يضلهم هو الهوى، ولا مانع أن ندخل مباشرة ونقول: كل مشكلات العالم الآن، وحقوق الإنسان، وما أدراك ما حقوق الإنسان! والكذب في تطبيق القواعد والقضايا الدولية، سببها اتباع الهوى مصالح خاصة، ما معناها؟ معناها اتباع هوى في مقابل الحق، والحق بين واضح أبلج، ومع هذا ينصرفون ويلتوون ويلتفون على النصوص، وعلى القواعد التي رسموها، والقوانين الوضعية التي وضعوها، وكذا وكذا إلخ، ليس لأنهم لا يعقلون، بل هم الذين وضعوا القانون ويتجاوزونه؛ لأنهم لم يقصدوا الحق، إنما قصدوا الهوى.
إذاً: حينما ترى نفسك لم تستجب حين يعظ الواعظ ويذكر المذكر، اعلم أن السبب هو الهوى، حينما يتكلم الواعظ عن الربا، وتعلم أن الربا حرمه الله ورسوله، لكنك غلبتك نفسك، وغلبك هواك، فأنت -فعلاً- بين نارين، نار الآخرة، ونار حبك الرشوة، وخيانة الأمانة تستودع أمانة وتضيعها، لماذا؟ لأنك لعبت، الواعظ يعظك والمذكر على المنبر يبين لك، ومع هذا خنت لماذا؟ لأنه لو كان في قلبك حياة وخشية من الله عز وجل، لتغير الحال.
ولنا أن نقف هنا وقفة طويلة، لأنها مهمة في قضية قال تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام:36] {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22] كما قال: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179] وقال الله: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179] أضل من الأنعام، كيف؟!
الأنعام خلقها الله سبحانه وتعالى وأعطاها نوعاً من الهدى الذي تقوم به حياتها البسيطة والساذجة، قال تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] كيف تحنو على صغارها؟ كيف ترفع رجلها من أجل أن يرضع صغيرها؟ كيف تدافع عن نفسها؟ كيف تهرب حينما ترى ما يؤذي؟ كيف تنطح حينما تشعر أن الإقدام ينفعها؟ كيف تنظر في الأكل وتشمه فإذا نفع أقبلت، وكذلك الماء، وكذلك إذا أقبلت على حفرة، فإنها لا تلقي بنفسها، وإذا أقبلت على شاهق، فإنها لا تؤدي بنفسها، وهكذا إذاً عندها قدر معيشي هداها الله سبحانه وتعالى إليه بحيث تعيش ما شاء الله أن تعيش.
الإنسان أرقى من هذا بكثير، فالحيوانات لا يمكن أن تصنع إبرة، ولا يمكن أن تصنع طعاماً، تلقي فمها ثم تأكل فقط، أما ابن آدم فإنه يصنع ويعمل وينتج زراعة وصناعة، وأشياء فوق الخيال، والمباني التي يقيم فيها تتكون من عشرات الأدوار، والحيوان إن حفر له جحراً، وإلا كنَّ في أي سقف أو شق من الأرض.
فليس هناك نسبة بين عقل الإنسان وعقل الحيوان كما هو معروف، لكن لاحظوا كيف أن الإنسان إذا ألغى عقله، لا يزال يتدنى ويتدنى حتى يصل إلى درجة البهيمة، ثم يكون أضل من الأنعام {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179] وكما قلنا لكم: إن البهائم تدافع عن نفسها، وتعرف النافع والضار في حدود ما هداها الله.
الإنسان عنده عقل وعنده فهم، ويكتب نشرات صحية هذا ممنوع، وهذا اكتشف دواؤه، وهذا قد اكتشفت مضراته، وجراح، وعلماء، وأشياء كثيرة لا شك أنها محل فخر، ويطلب من المسلمين أن يصلوا إلى هذه الأمور ويتفوقوا عليها، وليس هناك إشكال، لكن كيف هذا العبقري، وهذا المكتشف، وهذا المحذر، وهذا المنبه قليلاً قليلاً إلا وقد غلبه هواه، فاقتحم ما يضره؟!(77/7)
أمثلة لاتباع الهوى
نبدأ في قضية التدخين: قبل ثلاثين سنة كان التدخين يمكن أن يظن أنه يضر، أو لا يضر، أو حرام، أو ليس بحرام، أي أن أضرار التدخين لم تكن متبلورة ولا واضحة، أما الآن فقد أجمع الأطباء والعلماء، وأجمع العالم على أنه ضار، ووضعوا الملصقات، بل حتى وسائل المكافحة أنه ضار بالاتفاق، ومع هذا يقدم الإنسان على التدخين!
لو أنك وضعت طعاماً متعفناً أمام بهيمة، هل يمكن أن تأكله؟ لن تأكله سوف تقترب منه ثم تكف مباشرة، أما ابن آدم فيقول: هذا ضار، وهذا ممنوع، ومع هذا يستمر في هذه الحالة ألا يكون أضل من بهائم الأنعام؟ بهيمة الأنعام تصل إلى حال أنها تترك الضار، أما الإنسان فمع علمه أنه ضار ولكن يتعاطاه.
هناك قضية أشد: الخمر أضراره والأمراض التي يسببها متفق عليها، سواء في الرئة، أو في الكبد، أو في المعدة، والأطم والأطم المخدرات! كيف البلاء بالمخدرات؟ حينما ترى صاحبها -نسأل الله السلامة- يقع بشكل مزري، ولو كان هناك تضليل أكثر من الأنعام فإنه يستحقه يضيع ماله، ويضيع عقله، بل -يا إخواني- إنه مستعد أن يضيع عرضه -نسأل الله السلامة- فإن من لا يستطيعون أن يحصلوا على المخدر مستعدون أن يبذلوا كل شيء حتى عرض زوجته وعرض ابنته -نسأل الله العافية والسلامة- إلى هذه الدرجة يصل الإنسان!!
إذاً: فعلاً لا يتذكر إلا من له قلب، واستعمل عقله، وما أعطاك الله العقل إلا لتتميز به، وإن لم تتميز به صرت بهيمة، وأشد من البهيمة.
نأتي إلى جانب الكفار الكفار -فعلاً- اكتشفوا ما اكتشفوا، وصنعوا ما صنعوا، لكنهم ضلوا حتى ضروا أنفسهم نِسب الانتحار عندهم أشد، نِسب الطلاق وتفكك الأسر أشد وأشد، عندهم العيادات النفسية بشكل عجيب، لماذا؟
لأنهم لم يأخذوا إلا بالجانب المادي فقط، بل وأفسدوا الجانب القلبي، والجانب الديني، والضمير؛ لأنه لا تأتي هذه إلا عن طريق التذكير والتعليمات الدينية الصحيحة، فالله عز وجل يقول: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً} [يس:70] ويقول: {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:3] {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام:36] {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:22 - 23] {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:8].
نأتي إلى قضية أخرى: إذا كان هذا هو التذكير، ووظيفة المذكر أن يبين للناس ويجتهد، ويتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يبذل ما يبذل، ويشق عليه ضلال قومه، حتى قال الله له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف:6] لكن ينبغي أن يعرف وظيفته: {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21 - 22] {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99].
الجانب الثاني: ينبغي على المتذكرين والموعوظين والمنصوحين أن يراجعوا قلوبهم، ويراجعوا أنفسهم، لماذا لا يستفيدون؟
إذاً: القضية فيها وفيها، وأكثر ما فيها -يا إخواني- الهوى، والله لا يصرف الإنسان عن الخير إلا الهوى سواء كان هوىً وظيفي، أو هوىً مالي، أو هوىً زوجي، أو هوى الأولاد: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:14].
إذاً: هذا هو المذكر، وهؤلاء هم المذكَّرون.(77/8)
الدنيا وطبيعتها
نأتي إلى مواقف المحاسبة لعلها ترق قلوبنا بشيء من أوضاع الدنيا.
عندنا جملة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، تبين أن طبيعة الحياة لا تحتاج إلى أن نقف عندها، وهي كثيرة، وسوف أختار شيئاً منها على حسب الوقت:
يقول الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20].
إن حديث القرآن عن الدنيا حديث واسع ومتنوع، حديث يبين طبيعتها فيما ينبغي أن يتنبه إليه المسلم والتالي لكتاب الله، ولا شك أن الدنيا -كما سوف نرى- في طبيعتها أنها لا تذم لذاتها، وليس بتحريم الحلال، وإضاعة المال، المال له موقف آخر، ليس هذا المقصود، لكن الوقت لا يتسع للكلام عن هذا، لكن لا مانع أن نذكر شيئاً متاع الغرور يقول سعيد بن جبير: [[ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يلهك، فليس بمتاع الغرور، ولكنه متاع]].
هذا قد لا نتكلم عنه الآن، إنما نتكلم عن الدنيا المذمومة، والدنيا لا تذم لذاتها، إنما المذموم هو عمل ابن آدم فيها، وكل الأحاديث الذامة واللائمة، ليس المدح والذم فيها للدنيا، ولا للماديات، وإنما تتعلق بعملك أنت {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ} [الحديد:20] لعب أي: للاعبين، فلا تكون لعباً إلا لمن يلعب، ولا لهواً إلا للاهي، ولا زينة إلا لمن أطغته الزينة وألهته، وتفاخر؛ لأنه صرف الدنيا لما لا ينبغي أن تكون، وجعلها للمفاخرة، وتكاثر في الأموال والأولاد.
إذاً: من جعل هذه وظيفة الدنيا، هذا هو المخوف، وهذا هو متاع الغرور، من جعلها لعباً ولهواً وزينةً وتفاخراً وتكاثراً في الأموال والأولاد، من جعلها كذلك فهذا هو المذموم، ولهذا مباشرة قال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20] والغيث هنا بمعنى: الزرع، واللغة العربية فيها تعابير كثيرة وليس هذا المقام للتفصيل، وقد عبر بالغيث باعتبار السبب؛ لأنه السبب -بإذن الله- لنبات الزرع وغيره.
والكفار هنا هم الزراع، الكافر بمعنى: الزارع، لأنه هو الذي يكفر الأرض، أي: يحرثها ويغطي البذور فيها، كما يشبه الدنيا كأنها -فعلاً- مزرعة، فالله دائماً يمثل بالزرع؛ لأن الإنسان يدرك بسرعة، ويرى تطوراته: تراها نبتة صغيرة، ثم تنمو وتصبح نضرة خضرة وجميلة، ثم بزهرها التي لا تكاد تمل منه، ثم لا يلبث أن يثمر، ثم يصبح هشيماً تذروه الرياح، بمعنى أن الحياة -كما يقول المختصون- قصيرة، بحيث يمكنك أن تراه من يوم أن كان صغيراً إلى أن يصبح كبيراً، والحياة الدنيا كهذه، أنت تعلم أنك كنت طفلاً، ثم شاباً، ثم قوة وفتوة، ثم كهولة، ثم هرماً.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} [الروم:54] القضية واضحة، فالذي يلهو بالدنيا ويتخذها دار لهو، هذه حقيقتها، ولا تستحق كل هذا؛ لأنها فعلاً كفترة الزرع إن سلمت من الآفات.
ما أنت إلا كزرع عند خضرته بكل شيء من الآفات مقصود
فإن سلمت من الآفات أجمعها فأنت بعد تمام الزرع محصود
هذا إذا فرضنا أنك سلمت من الآفات، ولكن كيف وأنت تتقلب في هذه الدنيا بابتلاءاتها ومصائبها، وابتلاء في أهلك، ونفسك، وأولادك، وممن حولك من جيرانك وأقاربك يبتلون بأشياء ومشكلات ومصائب، ونكد.
جبلت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقدار والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
فالله عز وجل يقول: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الحديد:20].
وأمثلة الدنيا في القرآن كثيرة: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24].
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف:45].
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [الزمر:21].(77/9)
طبيعة الإنسان في الدنيا
الكلام طويل في وصف الدنيا، وفيما ينبغي أن يأخذ الإنسان فيها من عجب؛ لكن الأمر الذي نريد أن نركز عليه: طبيعة الإنسان في هذه الدنيا، وتقلباته فيها.
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك} تنبيهات عجيبة عن حقيقة هذه الدنيا، وهذا هو الإنسان فيما اغتنمها، الحياة متقلبة ولا تستقر لأحد أبداً.
الرسول صلى الله عليه وسلم مع أنه أكرم الخلق على ربه، ومع ذلك مرض عليه الصلاة والسلام، وناله ما ناله من العناء، وتقلب في الأسفار، وفي الحضر، ومآسي فالإنسان ينبغي أن يقف من نفسه موقف محاسبة، ونقول هذا لأننا نتكلم عن التذكير.
{اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك} بالله يا إخواني! كم سمعتم الوعاظ دائماً يقولون: {شبابك قبل هرمك} ونعرف أن كثيراً من الشيوخ يعظون الشباب: يا ولدي انتبه لنفسك، يا ولدي كذا، كم ينبغي أن نراجع أنفسنا؟ وحينما يمر علينا الوعظ، وحين تمر علينا هذه الحكم، وتمر هذه الآيات والنذر، ينبغي أن يكون عندنا من الحياة القلبية ما نقف جادين من موقف المحاسبة.
{شبابك قبل هرمك} لماذا؟ لأن الشباب قوة، والشباب تعطي فيه عطاءً عجيباً، إذا جاء الهرم، بدأت الأرجل والركب ترتعش والخطى تقصر، كنت تصل إلى أقاصي الدنيا، والآن لا تستطيع أن تخرج من بيتك إلى طرف الشارع أو إلى الدكان المجاور، تغيرت الحال، والرسول صلى الله عليه وسلم يذكرك، هذه الدنيا منتهية ومتغيرة، فإن عشت؛ فلا بد من هرم، فإذاً لماذا لا تستغل الشباب قبل الهرم؟! وهذا خطاب لمن؟ إنه خطاب للشباب.
{شبابك قبل هرمك} إذا كان عندك فكر، وعندك القلب الحي، وعندك الخشية؛ فانظر إلى الشيوخ الكبار، يقال: كان أطفال يلعبون في السوق في سن العاشرة والحادية عشرة، فمر عليهم شيخ كبير هرم، يمشي بخطى متقاربة، فقام واحد من الصبيان فيه شقاوة، وقال: يا عم، لماذا أنت مثل المقيد؟ قال له: يا ولدي! الذي قيدني يفتل قيادك.
إذا طال بك العمر فإن القياد يفتل الآن، فالقضية خطيرة.
فينبغي للشباب إذا رأوا الشيوخ أن يتعظوا، أنت الآن في قوة تذهب إلى ما شئت، عندك همة، تكاد تطير إلى أعالي السماء، فينبغي أن تغتنم شبابك قبل هرمك.
{وصحتك قبل سقمك} يبدو لي أنه لا يوجد أحد إلا ومر بفترة مرض، وإن كانت بعض الأمراض أشد، خاصةً ممن يبتلى بمرض قد يرقد على السرير الأبيض مدة، كم يتمنى أن يكون صحيحاً! وإذا كان مريضاً يقول: والله إذا شفيت لأفعلنَّ كذا وكذا، سأراجع نفسي، وأراجع أوراقي، وبعد ذلك لا يفي بوعده.
ابن آدم عجيب! النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {وصحتك قبل سقمك} اعرف أنك صحيح؛ والحكمة المعروفة: الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى.
بالله ما هو شعورك عندما تزور مريضاً وتجلس عنده وتتحادث معه، ثم تخرج؟ كم هو يتبعك بنظراته، ويود لو أنه خرج معك، تخرج من غرفة المستشفى وأنت لا تبالي، أولادك يشتغلون مكانك، هو يتابعك بنظره، ويود لو أنه مشى معك، لكن المريض سقيم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {وصحتك قبل سقمك} هذا هو التذكير، وهذا هو مدى تأثرنا بالتذكير!
{وغناك قبل فقرك} هذه هي إيجابيات الدنيا صحة في الأبدان، وقوة في الشباب، وثراء في الأموال، وإذا لم تستغلها في الخير فستندم، الشباب والصحة والغنى، فاغتنم غناك قبل فقرك، اغتنمه بماذا؟ بالخير، بصلة الرحم، بالصدقة، بالحلال، بأشياء كثيرة.
ولو أن إنساناً -نسأل الله السلامة- فلَّس، فكم سيضرب يداً على يد ويندم.
{وفراغك قبل شغلك} وهذه من أهم القضايا، لكن مع الأسف -يا إخواني- لا يكاد الإنسان يعرف أنه فارغ، أكثر الناس -خاصة في بلادنا- بعد أن أنعم الله علينا، وأصبح عندنا رخاء، وأمن وأمان، وأشياء كثيرة، لا توجد في بلاد أخرى كم يأتي إلينا من الجاليات يبتغون الرزق، ويبتغون الفضل، لماذا؟ لأن عندنا فرص أعمال، وعندنا خير كثير.
إذاً: عندنا فراغ كبير، والفراغ في أولادنا وفي شبابنا، فينبغي للإنسان أن يستغل الفراغ بعمل، لا تنتظر أن يوجد لك فرصة عمل، أنت اشتغل، والله لو كان هناك جدية، وتأملنا مثل هذا الحديث، واشتغلنا بالفراغ الحقيقي، لزاحمنا هؤلاء الإخوة -ولا نحسد أحداً- لكن ينبغي أن نزاحمهم حتى نشتغل نحن.
فكم عندنا فراغ! والفراغ قاتل، وأكثر ما يقع الناس في الموبقات بسبب الفراغ لماذا يسهر الإنسان؟
لو كان عنده شغل وراءه لما سهر، ولو كان عنده مرض لما سهر، ولو كان عنده عمل جاد لما سهر، ولو قال لك أبوك: غداً عندك سفر، كيف تكون مشغولاً! ولو قالوا لك: عندك غداً منافسة فلن تنام؛ لأن الذي يقطع وقته في الأشياء الفارغة هو الفارغ، سهر ليل على ملهيات، وعلى وسائل إعلام سيئة، وكلها لا تجوز.
{فراغك قبل شغلك} بينما تشغل نفسك بشيء تندم عليه، أحياناً تصاب بشدة عمل بحيث تتمنى فيه فرصة أو إجازة، فعليك أن تستغل الفراغ، الله عز وجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح:7] ما قال فإذا فرغت فالعب {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} الشرح:7].
الرسول صلى الله عليه وسلم كان يشتغل: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:1 - 8] إذا فرغت؛ اشتغل واعمل.
{وحياتك قبل موتك} أي: كل حياتك، سواء كنت مريضاً أو صحيحاً، شاباً أو هرماً، فقيراً أو غنياً، الحياة لكل الناس، ليست للفقراء، ولا للأغنياء، ولا للأصحاء، إن الحياة للكل، فما عليك إلا أن تستغلها، والموت لا بد أن يأتي، الموت آتٍ آتٍ، فعليك أن تغتنم حياتك قبل موتك؛ لأن الموت آتٍ وأنت محاسب، والحياة ثلاثون أو خمسون أو ستون سنة فاستغلها.
قال صلى الله عليه وسلم -وهي حقيقة مخيفة، وهي تمثل جانباً آخر فيما سبق- {ما ينتظر أحدكم إلا غنىً مطغياً} قد تبتلى فعلاً بالغنى؛ لأن الغنى بلاء وابتلاء: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35] {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8].
{ما ينتظر أحدكم إلا غنىً مطغياً} {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] فأنت ينبغي أن تستغلها، وأن تتقي الله عز وجل، ولا تغبط الأغنياء؛ لأنه أحياناً قد تكون الدنيا ملهية، وقد تكون بلاءً، وقد تكون عذاباً، بل حتى في الدنيا -وأنتم تعرفون حياة بعض الأغنياء- وذلك لأمرين:
أولاً: قد يكون الترف يؤدي بهم إلى أمراض معروفة، من الضغط والسكر وغيرها.
ثانياً: كم(77/10)
وصف النبي صلى الله عليه وسلم لحقيقة الدنيا
نختم بحديثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تجسد الموضوع وتعطينا خلاصةً لما سبق، قوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: {يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت} أكثر ما يبتغي الناس في الدنيا المال، وحقيقة المال أنه إذا كان عندك ملايين في البنك، أو ذهب وفضة مكدسة؛ لن تستفيد منها إلا ما كان على ظهرك من نسيج، وما دخل جوفك من أكل، وكذلك إذا بنيت لك مسكناً، هذه فقط، ما هناك غير هذا أبداً مهما كان، المال كله لن تستفيد منه إلا في مركب، أو ملبس، أو سكن، أو أكل، غير ذلك لا شيء.
{إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت} وما عدا ذلك فللوالد غنمه وعليك غرمه، ولا مانع من أن أذكر أيضاً قصة لطيفة، وهي خيالية وأسطورة، لكن أذكرها لكم وأختم بها؛ تعرفون حقيقة المال، يقال: إن أحد الناس رأى أن له دعوتين مستجابتين، فدعا الله عز وجل، وقال: اللهم اجعلني لا أمس شيئاً إلا تحول ذهباً، فأجاب الله دعاءه، فوضع يده على الطاولة فصارت ذهباً، وعلى المكبر فصار ذهباً، حتى لو وضعها على عمود المسجد لصار ذهباً، وفعلاً كاد يطير فرحاً، حتى جاءه الجيران، فصار يلمس لهم ويعطيهم.
فجاء الأكل وقال: اشتروا، وأتوا بما لذ وطاب من الأكل، فقدموا له مائدة ما رأى مثلها، ثم قال: باسم الله، وبدأ يأكل فتحول الصحن إلى ذهب، والرز صار ذهباً، واللحم صار ذهباً، ليس هذا الذي اتفقنا عليه! ثم استرجع الرجل، وبدأ الحزن، فجاء ابنه يريد أن يواسيه، فسلم على أبيه فتحول إلى ذهب، وفي النهاية قال: يا رب! بقيت الدعوة الثانية، وقال: يا رب! أرجع كل شيء كما كان.
هي أسطورة كما قلت، لكن ما هو معناها؟ لو كان عندك ذهب لما أرواك من الماء، لو كنت في صحراء، وفي جيبك عشرون جنيهاً فلن تغني عنك شيئاً، فالقضية أن المال لتلبس، وتأكل، وتشرب، وتتصدق.
فيجب أن يتعظ الإنسان، والأغنياء -وفقنا الله وإياهم- إذا ماتوا فإن الأموال كلها تصير إلى الأولاد وإلى الأهل، لا شك أننا لا نقول: الإنسان يبقى فقيراً، ولا شك أنك إن تدع ورثتك أغنياء خير، لكن بحدود أن تفهم وظيفة الدنيا.
وأخيراً: النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الصحيحين: {يتبع الميت إذا مات ثلاثة، فيرجع اثنان، ويبقى واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله}.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح أعمالنا وأعمالكم، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرزقنا يقظة القلوب، وأن يجنبنا الغفلة إنه سميع مجيب، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(77/11)
الأسئلة(77/12)
حكم النصح والتذكير ممن هو مقصر
السؤال
نحن مجموعة من الشباب نتواصى بالخير فيما بيننا، ولكن يبدو علينا جميعاً التقصير من ناحية فوات تكبيرة الإحرام، أو فوات ركعة، فهل يسوغ لنا أن نذكر بعضنا ونحن واقعون في نفس ما نذكِّر به أحياناً؟
الجواب
نعم.
الإنسان ولو كان مقصراً يذكر، ولا ينتظر الإنسان أن يكون كاملاً، فالكمال لله، ولا يكمل أحد من البشر أبداً، بل حتى إذا رأى الإنسان في نفسه الكمال فهذه خطيرة، بل عليه دائماً أن يتهم نفسه بالضعف والتقصير، وتقصيره لا يمنعه من أن ينبه إخوانه، بل الله عز وجل قال لبني إسرائيل حينما لعنهم صلى الله عليه وسلم، قال: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:79] مع أنهم واقعون في المنكر، لكنهم كان حقاً عليهم أن يتناهوا، حتى قال بعض السلف: حتى أهل الخمر وهم على جلسة الخمر، كان حقاً عليهم أن يذكر بعضهم بعضاً، وينهى بعضهم بعضاً، فالإنسان ولو قصر لا بد أن ينصح نفسه، وينصح غيره؛ لأن عليه مسئوليتين: مسئولية على نفسه، ومسئولية نحو إخوانه.(77/13)
حكم دعوة العمال غير المسلمين
السؤال: يرد إلى بلادنا كثيرٌ من الأيدي العاملة غير المسلمة، فهل واجب علينا دعوتهم إلى الله تعالى؟ وهل الشريط الديني أو الكتيب يكفي في إقامة الحجة عليهم، وفي دفع الإثم عنا؟
الجواب
لا شك أن هذا من الواجب دعوة غير المسلمين للإسلام، ولكن يقوم به -لا شك- من يحسن، ويسلك مسلك الحكمة، والدعوى بالحسنى، وبطرق شتى، ولا شك أن الشريط والكتيب من أكثر المؤثرات، ولكن هذا قد يحتاج إلى مراجعة معه، بعدما يستمع إلى الشريط، أو يطلع على النشرة، فقد يكون عنده استفسارات، وعنده أشياء، وعنده مراجعة، وقد تكون مفتاحاً في سبيل النقاش معه والحوار والتنبيه، لكنها هي مفيدة، ولا أظن أنها تكون كافية؛ لأن الدعوة لها أساليبها، وهي متنوعة، وحتى لو أعطيته شريطاً، فقد تحتاج شريطاً آخر، ونشرة أخرى، وكما قلنا قبل قليل: الهداية بإذن الله، وقد يهتدي أحدهم اليوم، والثاني لا يهتدي إلا بعد سنتين، والآخر قد لا يهتدي، فمهمتك أن تدعو، وأن تنوع الأساليب، وأن تجتهد، وأن تبتهل إلى الله عز وجل أن يعينك ويسددك.(77/14)
حكم التوبة من المعاصي ثم العودة إليها
السؤال
بعض الشباب في صدر كلامهم يقولون: إنا نحبك في الله، ويقولون: إننا نقع في المعاصي، ثم نتوب إلى الله جل وعلا، ولكننا لا نمكث أن نعود مرة أخرى إليها، فما هو الحل في الخروج منها مرة واحدة؟ وهل هناك أسباب لذلك؟
الجواب
أحبكم الله الذي أحببتموني فيه، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً وإخواننا من المتحابين فيه.
هذا سؤال جميل، وكان من جملة عناصر الكلمة قضية التوبة، وقضية الإصرار والمجاهرة والاستغفار، لكن الوقت عاجلنا، على كل حال؛ لا شك أن الإنسان إذا وقع في ذنب، لا بد أن يعود وأن يتوب، وحينما يتوب قد يقع مرة أخرى، ولهذا فُتح باب التوبة، قال الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] والإنسان إذا استجمع شروط التوبة، ومنها: الإقلاع عن الذنب، والندم عليه، والعزم على ألاَّ يعود؛ يرجى له أن تكون توبته توبةً نصوحاً، لكن ومع هذا قد يعود، لكن المهم ألا يصر.
والإصرار عمل قلبي، والندم عمل قلبي، والعزم عمل قلبي، فينبغي أن ينعقد قلبه على كره المعصية، وعلى عدم الإصرار عليها، وعلى ترك المجاهرة، وعلى العزم على ألا يعود، يعقد النية والعزم بينه وبين ربه على ألا يعود.
نعم.
قد يبتلى بنفس أمارة بالسوء، أو برفقة سيئة، أو ظروف معينة، لكن حينما يقع فليرجع، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: {ويلٌ للمصرين} فالإصرار على الذنب مشكلة، أما أن الإنسان يقع، ثم يتوب، ولو كثر.
ولهذا قيل لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [[يرحمك الله! يتوب أحدنا ثم يستغفر.
قال: نعم، قال: ثم يستغفر.
قال: نعم، ثم يتوب، ثم يستغفر.
قال: نعم، قال: إلى متى؟ قال: إلى أن يكون الشيطان هو المدحور]].
وقال الحسن: [[ود الشيطان لو ظفر بذلك منكم]] أي: أنك تيأس، فلا تيأس من روح الله أبداً، مهما كانت ذنوبك، ومهما كانت أخطاؤك، ومهما كانت معاودتك للذنب، الله عز وجل يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] فالذنوب كلها مغفورة لمن تاب منها، وصدق في توبته، وكان على نفسه رقيباً، وعلى نفسه بصيرة، فإن الله سبحانه وتعالى يعينه.(77/15)
حكم الوقوع في أعراض المسلمين والعلماء والدعاة
السؤال
هل من كلمة عن الغيبة، خاصةً فيمن يغتاب أهل العلم والدعاة؟ وما هو الأسلوب الأمثل في بيان خطأ العالم والداعية إن وجد؟
الجواب
لا شك أنها من البلاء، وأكثر ما يبتلى به المسلمون عموماً الغيبة، وعلى الخصوص العلماء، فإن الحسد بين العلماء شديد، نسأل الله السلامة، وإن كانت من أدواء المجتمعات المعروفة، ولهذا جاء النص عليها في كتاب الله أنها من كبائر الذنوب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12] تصوير شنيع، تصور أن أخاك ميتٌ، وأنت تأكل من لحمه، نفس الجنازة الإنسان يتوجس منها توجساً، حتى إذا وجدت في البيت مل الناس منها وأخذوها، فتصور إنساناً ميتاً وتأكل من لحمه! إنه تصوير بشع! والغيبة أشد من ذلك.
هذا إذا كان في عرض أخيك، فكيف إذا كانوا علماء ومن الدعاة؟! إنه أشد وأشد -نسأل الله السلامة- والأشد من ذلك أنك تتهمه في علمه، أو تتهمه في دينه، أو تتهمه في عقيدته، أو تتهمه في نيته، أو تتهمه في صلاحه، أو تتهمه في حسن قصده يا أخي! لست مفتشاً، ولست مأموراً بالتفتيش عن الناس.
ألم تسمع قوله صلى الله عليه وسلم: {طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس} أنت تعلم، وأنا أعلم أننا كلنا لنا عيوب، والله ما يخلو أحدنا من عيب، بل من عيوب، بالله هل اشتغلنا بالنظر في عيوبنا؟ وهذا غير أخطاء العلماء، فإن أخطاء العلماء لا نسكت عنها، لكن نقدمها في قالب صحيح، إن الرد والنقد طيب، لكن إيانا أن نمس الشخصيات، أو نجرح في الأشخاص، أما الخطأ فلا يقر، والأشياء الخاطئة لابد أن تبين، خاصة إذا كان فيها إضلال للعامة، أو تخالف العقائد، لكن قضية أن تقع في العالم، وأن تحس بنوع من التشفي فهذا لا يجوز.
فعليك أن تراجع نفسك قد يكون- نسأل الله السلامة- من البلاء أن تبتلى بأن تقع في أعراض الناس، هذا مما يبتلى به الإنسان، بينما لو كان الإنسان عنده من نفسه رقيب لاشتغل بعيبه، والله إن عندنا من العيوب، ومن الأخطاء الشيء الكثير، لكن الله سبحانه وتعالى يسترنا، من فضله أن يستر علينا، فلماذا نفضح أنفسنا؟ فعلينا أن نفتش عن أنفسنا، وأن نشتغل في دفع عيوبنا، وأن نتوجه إلى ربنا، أما الأخطاء فلها أساليب، لكن الوقوع في الأعراض، والوقوع في التفتيش عن المعايب، واتهام النوايا، واتهام المقاصد، واتهام الانتماءات، لسنا في حاجة إلى هذا، أما الخطأ فهو خطأ، والغلط غلط، ولا بد من أن نصححه.(77/16)
التذكير مسئولية الجميع
السؤال
للمعلمين والمعلمات، وكذا للنساء في البيوت وفيما بينهن أثرٌ كبيرٌ في تذكير بعضهم ببعض، فهل هناك كلمة موجهة إلى هذه الأجزاء من المجتمع؟
الجواب
أحسنت! لكن أرجو من السائل إن يكون متبصراً ما قلت، أنا أول ما قلت تكلمت عن المذكرين، وعن الوعاظ، وعن المعلمين، وعن الآباء، كل هؤلاء مذكِّرون، لا نتكلم عن الخطيب في المنبر، أو عن الواعظ في المسجد، كل إنسان مذكر {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] ذكرنا المربي والمعلم، وحتى الأم في البيت، والأب، وكل مسئول، فكل هؤلاء مسئولون، وكل الكلام الذي سمعتموه، والذي لم تسمعوه، وقد سمعتموه من غيري، وسوف تسمعونه فيما يتعلق بالتذكير ومهمة التذكير ومهمة الوعظ هي مسئولية كل هؤلاء، مسئولية الأم، ومسئولية المعلم، ومسئولية المعلمة، ومسئولية الأب، ومسئولية الواعظ، ومسئولية المفتي، ومسئولية المربي، ومسئولية الموجه، وكل من وكل مرفقاً، أو كان له عليه سبيل، حتى هذا الإنسان.
فالتذكير مسئولية الجميع، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعين الجميع على ما هم فيه.(77/17)
الأولاد والعطلة الصيفية
السؤال
الإجازة قادمة، وأبناءنا بعد الاختبارات يتمتعون بإجازة طويلة، فهل نوجههم إلى المراكز الصيفية، أو تحفيظ القرآن، أو غير ذلك؟ هل من كلمة لأبنائنا؟
الجواب
لعل في قوله صلى الله عليه وسلم: {وفراغك قبل شغلك} إشارة لمثل هذا، وقوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح:7] أي: إذا فرغت لك فراغاً، والإجازة لا شك أنها من أكبر الفراغات، وإذا وجدت جماعات تحفيظ قرآن، وهي -والحمد لله- عندنا منتشرة والدولة -حفظها الله- تدعمها وتؤيدها، وتسعى في نشرها، وفي دعهما وتأييدها، وهذا أمرٌ لا يختلف فيه اثنان، ولا شك أنه مما ينبغي أن يلتحق بها أبناؤنا في إجازات الصيف، وهي جماعات قائمة ومؤيدة ومدعومة، وتشرف عليها جهة حكومية (وزارة الأوقاف)، وكذلك إذا كان هناك معسكرات مأذونة أيضاً في المراكز الصيفية، وفي الجامعات، وفي المدارس، وهذه أيضاً دعوة للتوجه إلى مثل هذا، فإذا وجدت هذه الأشياء، فأنا أوصي بأن يلتحق بها أبناؤنا؛ لأنها -أيضاً- تحت مظلة الجهات التربوية المأمونة في وزارة المعارف، وفي الجامعات، وفي المؤسسات التعلمية والتربوية.(77/18)
استغلال الفرص للتذكير
السؤال
هل التذكير بمستوى واحد على الناس، أم هو يختلف بالنسبة للأب مع ابنه، وللجهات المسئولة كهيئة الأمر بالمعروف، ومكاتب الدولة عن غيرهم من المحتسبة؟
الجواب
في قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] تدل على أن الإنسان يتخير الموعظة، ولعلنا ذكرنا قبل قليل إنه في ظروف معينة يأتيك رجل حسبة قد يكون في المستشفى، وهو حديث معين، وقد يكون الأب عنده مريض، أو عنده ولده حينما رسب، أو حينما نجح، فالظروف تختلف، وكل ظرف له نوع معالجة، وله نوع استغلال، وقد ذكرت لكم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالشاة الميتة؛ فذكَّر أصحابه، استغلالاً لهذا الموقف، وفي يوم الحج قال النبي صلى الله عليه وسلم: {أي يوم هذا؟ أي شهر هذا؟ أي بلد هذا؟} حتى ظن الصحابة أنه سيسميه بغير اسمه، ثم قال: {ألا إن دماءكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا فاستغلال المواقف وتخيرها سواءً من الأب في ببيته، ورجل الحسبة في الشارع، وفي أي المكان، أو الواعظ، أو إمام المسجد، المعلم، أو المعلمة، وتخير الظروف والأحوال والأوضاع، وتجدد نعم، وانصراف نقم، فليس شرطاً أن التذكير لا يكون إلا من خلال المكبر، أو خطبة جمعة، أو خلال كلام مكتوب، بل استغلال أي مناسبة حتى ولو كلمتين، أحياناً يمر عليكم واحد ويقول كلمة كأنك ما سمعتها إلا اليوم؛ لأنه أحسن استغلالها، وأحياناً تمر عليك آية من كتاب الله كأنك ما سمعتها إلا اليوم، لماذا؟ لأنها تواكبت مع مناسبة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} فاستغل هذه الفرص.(77/19)
كلمة مناسبة قرب الاختبارات
السؤال
بمناسبة الاختبارات هل من كلمة توجيه؟
الجواب
هناك جانبان للاختبارات ينبه عليها:
الجانب الأول: إذا كنت تستعد للامتحانات هذا الاستعداد، وعندك هذا النوع من الرهبة، تذكر أن هناك امتحان الآخرة أشد وأشد وأشد {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:24 - 25] فكلٌ مسئول في يوم يشيب لهوله الولدان، وتذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، فهذا جانب.
الجانب الثاني: أنك تعلم أن أي إنسان يستعد ويعمل أنه سوف ينال نتيجة عمله، وكم من مقصرين إذا جاء إلى قاعة الامتحان ضرب يداً على يد، وكفاً على كف، وقرع سن الندم! لماذا؟ لأنه فعلاً ضيع، لقد كان عندك سنة كاملة! أو عندك فصل دراسي كامل! كم كنت تقرأ؟ فالقضية تعطيك أنه لابد من المحاسبة للنفس.
ثم الأمر الثاني: أن تتقي الله في نفس الامتحان، وأن تبتعد عن الغش، ولا شك أن الشيء المبني على الغش غش، وأخشى أن يكون مستقبلك كله مظلماً، وتبني على شهادة كلها زور، وأحياناً بعض الناس يصلحهم الله سبحانه وتعالى، ثم يسأل أحدهم ويقول: أنا غشيت في الشهادة وزورت وكذبت فهل كسبي حلال؟ يا أخي! راجع نفسك من الآن، فهذه الأمور ينبغي أن موقف الامتحان يذكرنا بكل هذه المواقف؛ من حيث موقف الآخرة، ومن حيث الاستعداد وأهميته، ومن حيث ما ينبغي أن نقوم به من السلامة من الغش والتزوير، والسلامة من الدخول في الأشياء غير النزيهة.(77/20)
حكم صرف الزكاة لمشروع الزواج
السؤال
إخواننا في مشروع الزواج يستجدون ويسألون: هل يجوز صرف الزكاة لهذا المشروع؟
الجواب
نذكر مرة أخرى بأن هذا المشروع من أجمل وأفضل وأنبل المشاريع التي يقوم بها هؤلاء الأخيار -جزاهم الله خيراً- حينما ينتدبون نخبة من المجتمع، ويتولون القيام على شبابكم، والقيام على أبنائكم، والقيام على بناتكم، من أجل أن يهيئوا وييسروا سبل الزواج، فينبغي أن تساعدوهم قدر ما تستطيعون، ولا تستكثروا أي مبلغ دفعتموه، وكل مبلغ دفعتموه فالله سبحانه وتعالى أكثر في الثواب، ويجوز صرف الزكاة لمثل هذا المشروع.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(77/21)
نظرات في الدعوة ومسالك الدعاة
إن الدعوة إلى الله تعالى هي وظيفة الأنبياء والمرسلين، فلا بد أن تسير كما كانت تسير مع الأنبياء والمرسلين، ولابد أن تجري في مساراتها المحددة لها من الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ويجب على الداعية أن يتصف بالصفات اللائقة حتى ينجح في دعوته.(78/1)
الدعوة إلى الله تعالى وظيفة الأنبياء والمرسلين
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بعثه بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة في الله: أشكر الله عز وجل على أن أتاح لي هذه الفرصة في هذا البيت من بيوت الله؛ لنلتقي بهذا الجمع الكريم الطيب المبارك، ثم أشكر الإخوة في مكتب الدعوة بـ الرياض والقائمين عليه على دعوتهم، وإتاحتهم الفرصة لي للتحدث إليكم في موضوعٍ أحسبه من المواضيع المهمة، والتي لا شك أنكم سمعتم بها، واطلعتم على كثيرٍ من جوانبها ومباحثها، ولكن لابد من التذكير، وأؤكد لكم أن ما تسمعونه إنما هو تذكير، والذكرى تنفع المؤمنين، والتذكير لا يلزم منه أن يأتي المتحدث بجديد، وهذا التذكير هو تذكير في باب عظيم باب الدعوة إلى الله عز وجل التي هي وظيفة الرسل، ويحصل كذلك -أيضاً- التذكير بها ونحن في هذه الأجواء والظروف التي تجري في الساحة الإسلامية -إن صح التعبير- من أمور تقتضي وقوفنا جميعاً، والتحدث فيما ينبغي التحدث فيه، والخوض في مثل هذه القضايا؛ حتى نكون على بصيرة من أمرنا، وحتى نتلمس طريقنا في مثل هذا الاجتماع المبارك، وفي مثل هذه المذاكرات في الأمور المهمات التي يهتم بها هذا المكتب ونظراؤه في مدن بلادنا الحبيبة.
والموضوع الذي اختير الحديث عنه عنوانه: (نظرات في الدعوة ومسالك الدعاة).
هذا الموضوع دعا إليه -في تقديري- ما يلحظ في الساحة من نشاط يقوم به رجال أفاضل يدعون إلى الله، ويلاقون في دعوتهم ما يلاقيه من يقوم بمهمتهم في الماضي والحاضر، فهي سنة الله في الحاضرين والغابرين، والدعوة إلى الله هي طريق المرسلين، وقد لاقى أنبياء الله في ذلك ما لاقوا من العنت والصدود والإباء والاستكبار من لدن فئاتٍ كثيرةٍ وطبقات كبيرة من الملأ الذين استكبروا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].(78/2)
مسارات الدعوة إلى الله تعالى
إن الدعوة تقوي الأمل واليقين، وترتفع بالمدعوين إلى مستوى الشعور بالمسئولية والتكليف، وإذا ما تأكد فيهم هذا الشعور فسوف تتغير طباعهم، وتعتدل مسالكهم، ويصح توجههم وتوجيههم، ومن أجل هذا فإن واجب الداعي إلى الله عز وجل أن يعمل على إيقاظ هذا الشعور، وفي مقدمةٍ لهذا الموضوع أرى أنه يحسن التذكير بقضايا مهمة، بل هي أساسية في الدعوة بينها الله عز وجل في قوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] وكأن مسارات الدعوة تجري في هذه الأمور الثلاثة:
1 - الحكمة.
2 - الموعظة الحسنة.
3 - الجدال بالتي هي أحسن.
فيحسن أن نقدم بكلماتٍ يسيرةٍ عن هذه الأجزاء الثلاثة.(78/3)
الحكمة في الدعوة إلى الله
الحكمة مأخوذة من الحكمَةَ -بفتح الكاف والميم- وهو ما يوضع للدابة، يذللها راكبها حتى يمنع جماحها، واشتقت الحكمة من ذلك؛ لأنها إذا رزقها العبد فإنها تمنعه من أخلاق الأراذل، فالحكمة في أصلها هي: وضع الأشياء في مواضعها، وهي كل كلمة -فيما يتعلق بالدعوة- وعظتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح، وكل صوابٍ من القول ورث فعلاً صحيحاً، والحكمة تستجلب الخير الكثير، كما أخبر الله عز وجل في كتابه بقوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269] فالخير الكثير يجلبه صواب القول وسداد الرأي، مع ما يكتب الله من هدايةٍ وتوفيق.
فمن كل ما سبق نعرف أن الحكمة كلمة عامة جامعة تشمل: الأقوال التي فيها إيقاظ للنفس، ووصاية بالخير، وإخبار بتجارب السعادة والشقاوة، وكلياتٌ جامعة لمجامع الأدب، وباختصار فهي: اسم جامع لكل كلامٍ أو علم يراعى فيه إصلاح الناس ومعتقداتهم إصلاحاً مستمراً لا يتغير.(78/4)
الموعظة الحسنة في الدعوة إلى الله
أما الموعظة الحسنة فهي: القول الذي يلين نفس المخاطب ليستعد لفعل الخير والاستجابة له، وتجمع بين الرغبة والرهبة، والإنذار والبشارة، فالموعظة الحسنة تجمع بين الرغبة والرهبة، والإنذار والبشارة، فهي تذكير بالخير فيما يرق له القلب، وتخويف وترجئة وتلطف وحزم بإنسان تجله وتنشطه وتجعله بصورة من يقبل الفضائل ويحبها ويتحلى بها.
وأحب أن تتنبهوا لهذا القول؛ لأنه سيأتي له تفصيل فيما بعد.
قولنا: إنها تلطف وحزم بإنسان تجله وتنشطه: فأنت حينما تدعو أخاك المسلم ولو كان على منكر يجب أن تحفظ له حق الإسلام، وأن يشعر منك بالتقدير والاحترام، فهذه موعظة، وليس المقصود الإهانة أو التبكيت أو التوبيخ، وسيأتي تفصيل لهذا؛ ولهذا نقول: هي تخويف وترجئة وتلطف وحزم بإنسان تجله وتنشطه، وتجعله بصورة من يقبل الفضائل ويحبها ويتحلى بها.
ومن أهم مظاهر الوعظ الحسن: أن يحس الموعوظ بأن الواعظ يحبه، ويشفق عليه ويقصد نفعه.(78/5)
المجادلة بالتي هي أحسن في الدعوة إلى الله
من المعلوم أن المجادلة مقصودٌ بها دفع ودرأ المخاصمة، ولكن إذا احتاج رجل الدعوة وإلى الجدال فليكن بالتي هي أحسن، ويكون حسن الجدال في الالتزام بموضوعيته، وبعده عن الانفعال، والترفع عن المسائل الصغيرة في مقابل القضايا الكبرى؛ حفظاً للوقت، وعزة النفس، وكمال المروءة، مع الحرص على الرفق واللين والبعد عن الفظاظة والتعنيف.
ويدخل في الجدال بالتي أحسن: رد تكذيب المعاندين بكلام غير صريح في إبطال قولهم من الكلام الموجه، مثل قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]، وقوله: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج:68 - 69].
ومن الجدال بالتي هي أحسن: الإعراض عن كثيرٍ مما يقوله المخالف أو الخصم؛ لأن الدخول فيه يدخل في قضايا صغيرة، أو يدخل في قضايا ثنائية لا تصل فيها إلى الحق الذي تريد، بل قد يكون فيها خروج عن المروءة والأدب والمقصد الأعظم من الدعوة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن.(78/6)
صفات الداعية
إذا كان الأمر كذلك -أيها الإخوة- فنأتي إلى موضوعٍ يكون محلَّ نظر في مسالك الدعاة، وقبل أن ندخل في هذا الموضوع والذي هو لب هذا الحديث، نشير إلى بعض الصفات -بشيء من الإيجاز- التي يجب أن يتحلى بها رجل الدعوة، ومنها تتشعب تلك المسالك.
وهي أمورٌ سبق أن ذُكرتم بها في أكثر من مقام ومناسبة، وهي معهودة لديكم، ولكننا نذكرها بشيء من الإيجاز:(78/7)
من صفات الداعية: التقوى
من أهم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها رجل الدعوة: التقوى.
ويقصد بها كل معانيها: من فعل المأمورات، وترك المنهيات، والتحلي بصفات أهل الإيمان، فتقوى الله بشمولها إذا رزقها العبد فإنها تنير القلب، وتفتح المدارك، ويستبصر بها موهوبها مواطن الحق، ويهتدي بها إلى الوسائل والأساليب الصحيحة الملائمة للظروف والأحوال والأشخاص، فالعاقبة للتقوى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4] وأولياء الله هم المتقون.(78/8)
من صفات الداعية: الإخلاص
الإخلاص باب عظيم معلوم نظرياً، وتحقيقه عزيز، ومن حقق هذه الصفة لم يلتفت إلى نظر الناس أو تلمس مراضيهم، ويأتي هنا قول الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "إن بعض الناس يدعو إلى الله وهو إنما يدعو إلى نفسه".
وأعظم الناس مطالبة وحاجة إلى هذه الخصلة هم العلماء والدعاة، ومن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة من ضيع هذه الخصلة، ولقد قال الغزالي رحمه الله في الإحياء؛ محذراً من الشهوة الخفية الداعية إلى الشرك الخفي: "إن الداعي قد يرى حين الدعوة والقيام بها عز نفسه بالعلم والدين، وذل غيره بالجهل والتقصير، فربما قصد بالدعوة إظهار التميز على غيره -نسأل الله السلامة- وإذلال المدعو".
ولعلكم تدكرون ما قلناه قبل قليل: وهو أن الموعظة الحسنة أن تجل أخاك، وتتلطف معه، وتحفظ له حق الإسلام.
قد يقصد الداعي -نسأل الله السلامة كما ذكر الشيخ الإمام الغزالي صاحب الإحياء بما سماه-: الشهوة الخفية الداعية إلى الشرك الخفي، وهذا كلامٌ يكتب بماء الذهب.
يقول: "إن الداعي قد يرى حين الدعوة والقيام بها عز نفسه بالعلم والدين، وذل غيره بالجهل والتقصير، فربما قصد بالدعوة إظهار التميز على غيره وإذلال المدعو بإشعاره ولو بطرفٍ خفي بالجهل، وخسة أهل الجهل، والتقصير، وسوء حال المقصرين.
قال: وهذه مزلة عظيمة، وغائلة هائلة، وغرور للشيطان يطوق به كل إنسان إلا من عرَّفه الله عيوب نفسه، وفتح بصيرته بنور هدايته، فإن في الاحتكام على الغير لذةً للنفس عظيمة".
أي: الإنسان عندما يتكلم في عيوب الناس يجد لذة في أنه يتعالى ويخاطب الناس: افعلوا وأصلحوا، لماذا لا تقدموا؟ فالنقد لذيذ للإنسان، ويجد لذة في التعالي على الناس، ولهذا يقول الشيخ: "فإن في الاحتكام على الغير لذة للنفس عظيمة".
ولم يقتصر الغزالي رحمه الله على هذا الإيضاح، بل زاد في بيان المعيار والمحك في ذلك حين قال: "وهناك محكٌ ومعيار ينبغي أن يمتحن الداعي به نفسه، وهو: أن يكون قيام غيره بالدعوة وإصلاح الناس واستجابتهم لغيره أحب إليه من استجابتهم له، فإن كان يحب أن يكفيه غيره فهو على خير، وإن كان لا يحب ذلك لغيره من أهل العلم والدعوة فما هو إلا متبع لهوى نفسه، متوسل إلى إظهار جاه نفسه بواسطة دعوته، فليتق الله تعالى فيه، وليدع أولاً نفسه".
انتهى بتصرف وحذف من الإحياء.
لكن هل هناك حقيقة لكلام الشيخ حينما قال: "أن يكون دعوة غيره أحب إليه من دعوته في نفسه"؟
هذا فيه نظر، وخاصة مع قوله صلى الله عليه وسلم: {فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} فلا شك أنه كان مؤهلاً للدعوة متصدراً لها، لكن لاشك أنه إذا وجد من يكفيه اكتفى به، على معنى أنه إذا وجد في نفسه -فعلاً- أنه يحب الظهور فليتوارى، أما إذا جاهد نفسه وأراد أن ينال شرف هذا الحديث الذي أقسم فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} فهذا محل نظر في كلام الغزالي رحمه الله.(78/9)
من صفات الداعية: العلم
ومن الصفات التي ينبغي وقد يتحتم أن يتحلى بها رجل الدعوة: العلم؛ بل هو المقصود الأعظم من (البصيرة) في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] بل إن من معاني الحكمة العلم، فالبصيرة تجمع العلم والحكمة، وهذه الخصلة لا تحتاج إلى معنى العلم، فهي معلومة لديكم، ويكفي في هذا التنبيه إلى ما تحفظونه من ترجمة الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه حيث قال: (باب: العلم قبل القول والعمل) واستدل بقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] قال رحمه الله: (فبدأ بالعلم قبل القول والعمل) وفي هذا يقول الحسن البصري رحمه الله: [[العامل بغير علمٍ كالسائر على غير هدى]] وفي مأثور الحكم: "من تمسك بغير أصلٍ ذل، ومن سلك طريقاً بغير دليل ضل".
ويشمل العلم: الفهم الدقيق لما جاء في الكتاب والسنة، وسير السلف، وفهوم أهل العلم والفقه علماً وعملاً.(78/10)
من صفات الداعية: التواضع
من الصفات المهمة للداعية: التواضع:
ذلك أن من طبائع الناس أنهم لا يقبلون من يستطيل عليهم، أو يبدو منه احتقارهم أو استصغارهم، ولو كان ما يقوله حقاً وصدقاً، بل إن الاستعلاء سببٌ ظاهرٌ في كره الحق ورفضه، ومن أجل هذا فإن التواضع ثمرة المعرفة بالله وبالنفس، يقول الخليفة أبو بكر رضي الله عنه: [[لا يحتقرن أحدٌ أحداً من المسلمين، فإن صغير المسلمين عند الله كبير]] وقد خاطب الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف:28].
ويقول ابن الحاج: "من أراد الرفعة فليتواضع لله تعالى، فإن العزة لا تقع إلا بقدر النزول".
أي: بقدر التواضع.
ومما يلحق بهذا الباب: العلم بأن من طبائع النفوس النفرة ممن يكثر الحديث عن نفسه، أو يستجلب الثناء عليها، أو يستدر لها المديح، فالفضل من الله، ومن تحدث إلى الناس فليتحدث إليهم بفضل الله لا بفضل نفسه.(78/11)
من صفات الداعية: الحلم
ومن صفات الداعية أيضاً: الحلم:
وهو ضبط النفس عند الغضب، والرجوع إلى العقل عند ثورة الانفعال، وما هذا إلا بشارات القوة وعنوان البطولة: {ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} وما أحوج الدعاة إلى الله إلى هذا وخاصة حين يحتدم الجدال، ويرون أشياء قد تثار، ولكن الحكيم والحليم هو الذي يظهر أثره في مثل هذه المواقف، ومن أحوجُ الخلق بهذا رجل الدعوة الذي ميدانه صدور الرجال ونفوس البشر.
ومن أبرز صور الحلم: كظم الغيظ، ثم يعقبه في الترقي: العفو عن الناس، وتلك صفات المتقين أهل الجنة التي عرضها السماوات والأرض، ومن رزق الحلم ترقى في درجاته؛ فيصل من قطعه، ويعفو عمن ظلمه، ويحسن إلى من أساء إليه ويخطئ من يظن أن الحلم عجز، وأن العفو ضعف، وأن الإعراض عن الجاهل خوف وخور، ولا يقول ذلك إلا من تأخذه العزة بالإثم، وهو خلق ذميم يتنافى مع الحلم كما ترى.
خرج زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنه من المسجد يوم فسبه رجل، فانتدب الناس إليه، يريدون أن يمنعوه ويكفوه، فقال: [[دعوه، ثم أقبل عليه وقال: ما ستره الله عنك من عيوبنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل، فألقى إليه خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان الرجل إذا رآه قال: إنك من أولاد الأنبياء]].(78/12)
من صفات الداعية: عدم الغلظة والفظاظة
ومن الصفات كذلك: عدم الغلظة والفظاظة.
أيها الإخوة: أيها الشباب! أيها الدعاة: الناس في حاجةٍ إلى كنفٍ رحيم، وبشاشةٍ سمحة بحاجة إلى ودٍ يسعهم، وحلمٍ لا يضيق بجهلهم بحاجةٍ إلى من يحمل همومهم، ولا يثقل عليهم بهمومه، يجدون في رحابه العطف والرضا، ومن أجل هذا تأتي الرحمة الربانية لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو الرسول القدوة: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران:159] فما غضب عليه الصلاة والسلام لنفسه قط، ولا ضاق صدره بضعفهم البشري، بل أعطاهم كل ما ملكت يداه، وما نازعهم في شيء من أعراضهم، وسعهم حلمه وبره وعطفه.
وحينما يوهب العبد قلباً رحيماً، وطبعاً رقيقاً مع العلم والحكمة؛ فإنه لا يستكثر على الصغير والجاهل أن يصدر عنهم صدود عن الناصحين، والدنيا مليئة بمن لا يحبون الناصحين.
إن الداعي إلى الحق صاحب الخبرة والمراس لا يعجب من صدود الناس ونفرتهم، لكن رحمته بهم وشفقته عليهم لا تنفك تغريه بمعاودة الكرة تلو الكرة، كما يعاود الوالدان الحريصان على أولادهما في الإلحاح بالغذاء والدواء في حال الصحة والمرض، بل لقد جاء حديثٌ أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنما أنا لكم مثل الوالد لولده} هل رأيتم والداً يمل من نصح ولده؟ حتى ولو نصحته ثم نصحته تجد الوالد دائماً يكرر، هذا الذي ينبغي أن تفعلوه مع الناس، ولا تضيق صدوركم أبداً، وهل رأيت أعظم شفقة من الوالد على ولده؟ وكم قابل محمدٌ صلى الله عليه وسلم إعراض قومه بابتهاله النبوي: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون}.(78/13)
طبائع النفوس وطبقات المدعوين
أيها الإخوة: بعد هذا الاستعراض السريع لهذه الصفات البارزة من صفات الداعية، نأتي إلى بعض المسالك التي يحسن النظر فيها.
أقول: هذه إشارات في هذا الموضوع أظنكم استشعرتم من خلالها بعض المسالك التي نريد أن نبسط القول فيها من خلال ما سبق؛ من تعريف للحكمة وأبرز صفات رجل الدعوة: هذا بسط لبعض المعالم والمسالك التي أراها حقيقة في ذلك، وسوف يكون هذا البسط من خلال التعرف على طبائع النفوس، وطبقات المدعوين، وتخير الأوقات، وانتهاز المناسبات، ثم النظر في طرق الدعوة وأساليبها، من الإحسان في القول، والحرص على التلميح إذا أمكن الاستغناء به عن التصريح، والقصد إلى الستر والنصيحة، والبعد قدر الإمكان عن التشهير الذي قد ينقلب إلى فضيحة، وفي سلوك مسالك المداراة المشروعة، وإقالة العثرات ما أمكن، وإليكم -أيها الإخوة الأفاضل- بسطاً لبعض هذه المسالك.
المسلك الأول: طبائع النفوس وطبقات المدعوين.
أيها الإخوة! أيها الدعاة! الناس متباينون في طبائعهم، مختلفون في مداركهم في العلم والذكاء في الأمزجة والمشاعر مختلفون في الميول والاتجاهات؛ مما يفترض على رجل العلم والدعوة تخير المدخل، بل المداخل المناسبة لتلك النفوس المختلفة والعقول المتباينة؛ ففيهم الغضوب والهادئ، وفيهم المثقف والأمي، وفيهم الوجيه وغير الوجيه، بل إن ثمة كلمة لـ علي رضي الله عنه يصور القلوب -كل القلوب- بأنها وحشية، فيقول: [[القلوب وحشية، فمن تألفها أقبلت عليه]] يصورها رضي الله عنه وكأنها دوابٌ متوحشة لا تعرف الألفة في طبعها، ويبدو هذا -والله أعلم- في ميدان النصائح والتوجيهات، فهل رأيت من يرضى أن تنسبه إلى جهل، أو عدم معرفة، أو سوء في التصرف؟
إن الإنسان يعظم عليه أن ينسب إلى الجهل، ولذا تراه يغضب إذا نبه على الخطأ، ويجتهد في المحاجة، بل يجتهد في جحد الحق بعد معرفته خيفة أن ينكشف جهله يجب أن تعرفوا أن الناس هكذا الإنسان لا يحب أن ينكشف أو يعرف أنه جاهل لا يحب أن يعرف حتى ولو أنه على منكر، إذاً كيف تكون المعاجلة؟
هذا أمر مهم جداً.
أيها الإخوة! وأيها الشباب! أيها الدعاة: لا تشعر الإنسان أنه ناقص، أو جاهل، وإنما خذ بيده من الحضيض الذي هو فيه وارفعه بشفقة ورفق كما ترفع الأم وليدها وكما يرفع الأب ابنه.
إن القلوب في هذا الباب تنفر إذا اقترب منها بل لعلها بدافع الدفاع عن النفس تهجم وتؤذي، فأحياناً الدعاة إذا قابلوا صاحب منكر فإنه ينظر فيهم، هذا طبع يجب أن يعرفه الدعاة، فلا ينبغي للداعية إذا قابله صاحب منكر بكلام فظ أن يرد عليه بفظاظة مثله، إلا في بعض أحوال نادرة، لكن الأصل عدم ذلك.
إن القلوب تنفر إذا اقترب منها، خاصة في اقتراب الإنكار بالجهل وبالتسفيه، بل لعلها بدافع الدفاع عن النفس تهجم وتؤذي، فمن كان صاحب حكمة وفطنة في ترويض الوحوش فهو المفلح بتوفيق الله لهداية الناس، وصاحب الترويض الناجح هو الذي يحرص على تلمس الجانب الطيب في نفوس الناس، يقصد إلى شيء من العطف على أخطائهم وحماقاتهم، وشيء من العناية غير المتصنعة باهتماماتهم وهمومهم، وسوف يصل إلى مصدر النبع الخيِّر في نفوسهم، وحينئذٍ يمنحونه حبهم وثقتهم.
إن شيئاً من سعة الصدر والإحاطة بطبائع النفوس كفيل بتحقيق الخير في الناس، بنتيجة لا يظنها الكثيرون، ينبني على ذلك -أيها الإخوة- ملاحظة استيعاب المدعو وسعة مداركه، على معنى: أن الناس يختلفون في قدرة الاستيعاب ويختلفون في سعة المدارك -كما قلنا- ففيهم الجاهل والعالم، وفيهم الوجيه، وفيهم صاحب المنزلة، ومنهم من هو دون ذلك، فالمدعوون يختلفون في الاستيعاب وسعة المدارك، فلا يلقي رجل الدعوة إليه مالا يبلغه عقله، فيوقعه إما في النفرة والشرود، وإما في التخبط الفكري والدخول في غياهب الفتن، وفي ذلك يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[ما أنت بمحدثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة]]، ويقول علي رضي الله عنه: [[حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟]].(78/14)
تخير الأوقات وانتهاز المناسبات في الدعوة إلى الله
المسلك الثاني: تخير الأوقات وانتهاز المناسبات، وهذا مسلك كبير وعريض ومؤثر في معالم الدعوة وتلمسها، ويبلور ذلك كلمة جامعة لـ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين يقول: [[إن للقلوب شهوةً وإقبالاً، وفترةً وإدباراً، فخذوها عند شهوتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها]] وقد كان يذكرهم كل خميس، فقال رجل: لوددت أنك ذكرتنا كل يوم؟ فقال: [[أما إنه يمنعني من ذلك أنني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا مخافة السآمة علينا]].
ولأمرٍ ما! كان نزول كتاب ربنا منجماً؛ حتى يتمشى مع تخيل أوقات المناسبات، فنزل منجماً ومفرقاً على ثلاث وعشرين سنة، على المناسبات والأحداث والأزمنة والأمكنة، وأنت خبير -أيها الداعية- أن إقبال الناس في رمضان يختلف عنه في غيره، أي: تستغل المناسبات؛ لأن لهم إقبالاً على الدعوة وعلى الخير في مناسباتٍ، وكذلك يقبلون في موسم الحج إقبالاً مختلفاً عن غيره، وقل مثل ذلك في المناسبات المختلفة والأحداث المتجددة؛ من وقائع الأفراح وحضور المصاعب، فأنت في مناسبة العزاء لا تقوله ما تقول في مناسبة الأفراح.
فأخذ الناس بهذا ومراعاة تقلبات الدهر من حولهم يدرك به سرٌ عظيم في التأثير والاستجابة، وإذا رغبتم في مزيد من الإيضاح في هذا؛ فانظروا إلى بعض الأوقات التي أشار إليها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فنتخيرها في الدعاء، مثل: أوقات السحر، ونزول الغيث، والتقاء الجيوش، وأدبار الصلوات ونحوها، فنتخير الأوقات؛ لأن الأحوال فيها تختلف.
وإذا رغبتم كذلك في واقعة؛ فانظروا في حكمة يوسف عليه السلام حين استغل الفرصة مع الفتيين عند تعبير رؤيتيهما فدعاهم إلى الله الواحد الأحد، وقال لهم: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] يقول ذلك لأنه رأى منهم إقبالاً وقالوا: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] رأى أنهم معجبين به ويقبلون عليه، ورأوا أنه يحسن تأويل الرؤيا؛ فأراد أن يعطيهم معلومات مادام أن الثقة وجدت استغل المناسبة، فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ} [يوسف:39] ودعاهم إلى التوحيد الذي هو أعظم مطلوب.
ويلتحق بذلك -أيها الإخوة- مراعاة الأعراف والتقاليد المرعية، والطبائع والحرف والصناعات.
وقد يكون فيما أشار إليه أهل العلم من تنوع معجزات أنبياء الله، ومناسباتها مع ما يسود البيئات من علوم ومعارف، كعصا موسى عليه السلام كانت في بيئات السحرة، وعيسى عليه السلام كان في بيئة الطب، وكتاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم الذي هو القرآن كان في بلاغة العرب؛ مما يشير إلى ملاحظة الاختلاف في البيئات والمناسبات والطبائع.(78/15)
مراعاة التدرج وترتيب الأولويات في الدعوة إلى الله
قضية أخرى مهمة، ومسلك مهم وهو: مراعاة التدرج وترتيب الأولويات: وما قلناه في طبقات المدعوين وطبقات النفوس وملاحظة المناسبات يقابله نظر آخر في المدعو إليه؛ فلا شك أن الحكمة تقتضي النظر في متدرجات أمور الدعوة، لأخذ الناس بالأول فالأول، فقضايا العقيدة وأصول الملة والديانة تأتي في المقام الأول، فهي إن لم تصح في العقل فلن يجدي فيه الصنيع الحسن والعمل الطيب، قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف:103 - 105].
ففي الدعوة كليات وجزئيات، وواجبات ومستحبات، ومحرمات ومكروهات، وقضايا صغرى وكبرى، وكلٌ يجب أن تعرف مواقعها، وتوضع في مواضعها، وأظن الأمر أوضح من أن نبسط الكلام فيه، وخذوا دليلاً:
مندوب الدعوة ومبعوثها إلى اليمن معاذ بن جبل رضي الله عنه رسم له النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنهج عندما قال له: {إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يومٍ وليلة} وأنتم تعلمون أن بعث معاذ كان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، في السنة التاسعة تقريباً؛ لأن معاذاً لم يرجع من اليمن إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: التدرج كان مستمراً، والنبي صلى الله عليه وسلم قال له: {فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله إلخ}.
وهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخليفة الأموي المعدود خامس الخلفاء الراشدين، كان من قبل أن يتولى الخلافة يرى في الناس عيباً وكان يحب لو أنه أصلح.
دخل عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز على أبيه، فقال له: يا أبت! ما لك لا تنفذ وأصحاب الحوائج راكضون؟ قال: [[يا بني! إن الله تعالى ذم الخمر مرتين وحرمها في الثالثة، وإني أخشى أن أحمل الناس على الحق مرةً واحدة فيتركوه مرةً واحدة، فيكون فتنة ووفساداً كبيراً]].
إذاً: موضوع التدرج مهم جداً، وكذلك النظر في الأولويات.
هذه بعض مسالك يجب أن تراعى أثناء ممارسة الدعوة، وهي مسالك متعلقة بالمدعوين، وهناك أمور تقابلها في الدعاة، ينبغي أن يتحلوا بصفاتٍ تتطابق مع مراعاتها في أحوال المدعوين، إذاً: عندنا نوعان من المسالك: مسالك تتعلق بالمدعوين، وقد أشرنا إليها؛ من مراعاة الظروف ونحوها، ومعالم ومسالك تتعلق بالداعية نفسه؛ حتى يتماشى مع التي في نفوس وطبائع المدعوين وبيئاتهم.(78/16)
القول الحسن في الدعوة إلى الله
من هذه المسالك: القول الحسن: وهذا يعني أن رجل الدعوة إذا أحكم قوله، وسدد لفظه؛ فقد أوتي من الحكمة باباً عظيماً، يقول الله عز وجل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] يقول طلحة بن عمر: قلت لـ عطاء: إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل فيَّ حدة، فأقول لهم بعض القول الغليظ.
فقال: لا تفعل، يقول الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] يقول عطاء: فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فيكف بالحنيفي؟!
وأورد القرطبي في تفسيره عند تفسير هذه الآية حديثاً عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يا عائشة! لا تكوني فحاشة، فإن الفحش -أي: السيئ في القول- لو كان رجلاً لكان رجل سوء}.
ويعلق القرطبي على هذا بقوله: "وهذا حض على مكارم الأخلاق؛ فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليناً، ووجهه منبسطاً طلقاً مع البر والفاجر، والقريب والبعيد، من غير مداهنة وسوف يأتي التفرقة بين المداهنة والمداراة- ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه"، هذا كلام القرطبي.
والقول يكون حسناً وحكمة بقدر ما يعتنى بأصول الكلام، ويبتعد عن فضوله -يكون الكلام جزلاً، ويكون الكلام مهماً لا يدخل في الثانويات وفي القضايا الجزئية- ويتحرك بنبضات القلب الحي، وهواجس النفس الصادقة، ويحسن الكلام حين يكون قصداً عدلاً -قصداً أي: وسطاً- ليس بالإيجاز المخل ولا الطويل الممل، وقد كانت خطبه عليه الصلاة والسلام قصداً، كما في الحديث الصحيح عند مسلم من رواية جابر بن سمرة رضي الله عنه.
تنبيه: هناك فرق بين مثل هذا اللقاء وبين خطبة الجمعة، فهذا اللقاء والخطب التي مثل هذا اللقاء -وإخواننا وزملاؤنا الذين يحضرون مثل هذه المحاضرات والندوات- معلومة أنها ندوات وأحاديث مفتوحة، بخلاف خطبة الجمعة؛ فإن خطبة الجمعة -فعلاً- ينبغي أن يهتم بها الأئمة -وفقهم الله- كأن تكون قصيرة على حد ما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الخطبة فرض على جميع الناس، وعلى جميع الفئات، والطبقات، ويأثمون إن لم يحضروا فإذا كان الأمر كذلك؛ فعلى الخطيب أن يراعي أحوالهم، بخلاف هذا الجمع الكريم، فإنكم أتيتم على اختياركم، ومن شاء أن ينصرف فلينصرف، بخلاف خطبة الجمعة، وهذا أمر ينبغي أن يلاحظ.
كذلك يقول بعض الناس: الناس إذا جاءوا المحاضرات نفروا، وإذا جلسوا في الملهيات جلسوا وأطالوا، وهذا لاشك أنه من طبائع النفوس؛ لأنهم جلسوا باختيارهم وخرجوا باختيارهم نعم! ينبغي أن يذكروا ويوعظوا، لكن لا ينبغي أن تكون المعالجة على هذا النحو.
واستمعوا إلى هذا الحوار الهادئ والقول الحسن، ونحن نتكلم عن القول الحسن في الجدال الحسن، فهذا حصين الخزاعي والد عمران، كانت قريش تعظمه وتجله، فطلبت منه أن يكلم محمداً صلى الله عليه وسلم في آلهتها، فقد كان يذكرها ويسبها، فجاء حصين ومعه بعض أفراد قريش حتى جلسوا قريباً من باب النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل حصين، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: {وسعوا للشيخ -وهذا نوع من التكرمة- فقال حصين: ما هذا الذي بلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا؟ فقال: يا حصين! كم تعبد من إله؟ قال: سبعة في الأرض وواحد في السماء.
فقال: فإذا أصابك الضر فمن تدعو؟ قال: الذي في السماء.
قال: فإذا هلك المال فمن تدعو؟ قال: الذي في السماء.
قال: أفيستجيب لك وحده وتشرك معه؟ يا حصين! أسلم تسلم} فأسلم، والمسألة فيها خلاف، والصحيح أنه أسلم، فقام إليه ولده عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه، فلما أراد حصين الخروج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {شيعوه إلى منزله} وهذا نوع من التكرمة، عجباً! دخل هذا الرجل كافراً ناقماً منتقماً، فخرج صادقاً مسلماً! ليت شعري كيف كان حال قريش مع صاحبها ووجيهها حينما دخل لهم بوجه وخرج لهم بوجه آخر؟!
ويدخل في ذلك: القول اللين، الذي يستميل النوازع البشرية، ووشائج القربى، وعبارات الحنو والشفقة، فإبراهيم عليه السلام نادى أباه بكلماتٍ مشفقة: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} [مريم:42 - 45] إلى قوله: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم:47] وقال الله عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَة(78/17)
التلميح دون التصريح في الدعوة إلى الله
من المسالك التي ينبغي أن يتحلى بها رجل الدعوة حينما يخاطب الجماهير: التلميح دون التصريح فمن القول الحسن: الجنوح إلى التعريض والتلميح دون التصريح، فالتصريح يهتك حجاب الهيبة، ويورث الجرأة على الهجوم والتبجح للمخالفة، وإذا أخذت بالتصريح وكررته وأكثرت منه فإنه يجعل الإنسان يقسو، وأحياناً يندفع ويجابه ويواجه ويكشر، ويهيج على الإصرار والعناد، أما التعريض فيستميل النفوس الفاضلة، والأذهان الذكية، والبصائر اللماحة.
قيل لـ إبراهيم بن أدهم: الرجل يرى من الرجل الشيء أو يبلغه عنه أيقوله له؟
قال: هذا تبكيت ولكن يعرض.
وكل ذلك من أجل رفع الحرج عن النفوس، واستثارة داعي الخير فيها.
كيف والتعريض سنة محفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مخاطبة أصحابه، فكان يقول دائماً: ما بال أقوامٍ يفعلون كذا وكذا، ولو نظرت في القرآن الكريم في معالجة الأخطاء التي وقع فيها الصحابة، أو التي وقع فيها المنافقون، فإن الله عز وجل حينما عاتب أهل أحد قال لهم: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران:152] كان بإمكانه أن يقول: فلان وفلان وفلان أهل دنيا فأخرجوهم، وهؤلاء يريدون الآخرة، لكنه قال: منكم، وما عرفوهم، وكان بالإمكان أن يحدد حتى يخرجوا ولا يكونوا وسط البيئة، لكنه قال: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران:152] والإتيان بالدنيا ينافي الإخلاص فقوله: (منكم من يريد الدنيا) أي: لابد من إخلاص، ومع هذا قال: عفا عنكم، ضعف بشري يصيب النفوس، وسيأتي الكلام على هذا.
إن مقصودي من هذا أن القرآن لم يصرح، بل حتى في المنافقين دائماً يقول: ومنهم من يلزمك ومنهم من يقول: ائذن لي ومنهم الذين يؤذون النبي، ما قال: فلان وفلان وفلان، وكان بالإمكان أن يسميهم مع أن السيرة تسمي بعضهم، فمن قال: ائذن لي ولا تفتني هو فلان، لكن القرآن يعلمنا الأدب فيقول: منهم وفيهم، وما قال: فلان، مع أنه قد سمى أشخاصاً معينين، فسمى فرعون وأبا لهب، وأعداداً محدودين، لكن الأغلب أنه لم يسمِّ أشخاصاً بعينهم.
إذاً: الأصل التعريض، ولا يفضح إلا فاسق، ويحذر الناس منه لشدة فسقه؛ لأن التعريض يجعل خط رجعة، لكن إذا صرحت لإنسان يحاول أن يجد حججاً، ويجد في نفسه غلظة، ولا يمكن أن يستجيب له أبداً، حتى لو صلح يجد في نفسه شيئاً، لأنك ذكرت اسمه.(78/18)
النصيحة لا الفضيحة في الدعوة إلى الله
مسلك آخر: النصيحة لا الفضيحة: وهي ترتبط بالمسلك السابق، والمقصود هنا الإشارة إلى آداب النصيحة، باعتبارها مسلكاً من المسالك البارزة في الدعوة، وبخاصة إذا ما حاولنا البعد بالنصيحة عن أن تكون فضيحة، يوضح ذلك الحافظ ابن القيم رحمه الله حيث يقول: "والنصيحة إحسان إلى من تنصحه بصورة الرحمة له والشفقة عليه؛ والغيرة له وعليه؛ فهو إحسان محض ".
معاشر الدعاة! إننا نحسن وإن هذا إحسان منا للناس، فلماذا نمنُّ به بأن نؤديه في قالب مؤذي؟
ثم قال ابن القيم: " فهو إحسان محض يصدر عن رحمة ورقة مراد الناصح بها وجه الله ورضاه والإحسان إلى خلقه " هذا كله كلام ابن القيم رحمه الله.
فهذه دعوة إصلاح يجب أن يتمحض فيها الإخلاص لله، مع المحافظة على مشاعر المنصوح على نحو ما سبق في المسالك السابقة؛ لئلا ينقلب النصح مخاصمة وجدالاً وشراً ونزاعاً.
ويؤكد جانب الدقة في هذا الأمر: أن ذكر الإنسان بما يكره هو على أصل التحريم، وقد قيل لبعض السلف: أتحب أن يخبرك أحدٌ بعيوبك؟ فقال: إن كان يريد أن يوبخني فلا.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {لا تذكروا مساوئ أصحابي حتى أخرج إليهم وأنا سليم الصدر} فالإنسان بشر، ولا يكاد يفرق بين النصيحة والتعيير سوى النية، والباعث، والحرص على الستر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم السيد أن يثرب أمته، أي: يلومها على ذنبها، بل يقيم الحد ولا يثرب، لا يكثر الشكاية واللوم، كأن يذكرها بذنبها وخطيئتها، وهذا حالياً يتأسى به الآباء حينما يربون أبناءهم؛ فقال عليه الصلاة والسلام: {إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها ولا يثرب} متفق عليه.
ويقول فضيل: المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير.
وكانوا يقولون: من أمر أخاه على رءوس الملأ فقد عيره.
ذلك أن الناصح الصادق ليس له غرضٌ في إشاعة عيوب من ينصح له، وإنما غرضه إزالة المفسدة وإخراج أخيه من غوائل تلك المفسدة، وشتان بين من قصده النصيحة ومن قصده الفضيحة، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى، وكما قالت أم الدرداء: [[من وعظ أخاه سراً فقد زانه، ومن وعظه علانيةً فقد شانه]].(78/19)
التعامل مع المدعوين
مسلك آخر: أدب التعامل: ذلك أن ما سبق كان في القول والمخاطبة وحسن المجادلة، وهذا في التعامل المادي، ويكون ذلك في عدة مسالك أيضاً، وصور من اللين في التعامل والمداراة، والفرق بينها وبين المداهنة، وإقالة العثرات، ومواطن الترغيب والترهيب.
فالذي سبق كان أمراً قولياً مما كان ينبغي من الدعاة من الناحية القولية.
لين القول، وستر العيوب، والنصيحة لا الفضيحة، والتلميح دون التصريح، وهذا تعامل مادي، أي: حسي وليس قولي، فهذه صور من اللين في التعامل.
فنقول: إن النفوس مجبولة على حب من يحسن إليها، ويتلقاها باللين، ويبسط لها المحيا، والشدة قد تدفع إلى المكابرة والنفور والإصرار؛ فتأخذ النفس العزة بالإثم على نحو ما سبق، فالتعامل المؤثر ما كان دمثاً يفتح القلوب، ويشرح الصدور، فمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمؤمنون رحماء بينهم.
يروي معاوية بن الحكم السلمي قال: {صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أماه! ما شأنكم تنظرون؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم} كان الصحابة يصلون، وكان هذا الرجل لا يعرف أحكام الصلاة، وعطس رجل ومنهم وكان يعرف التشميت، فقال: يرحمك الله وهم يصلون، فاستغربوا وصاروا يرمقونه بأبصارهم فبهت، فجعل يخاطبهم في الصلاة وهم ينظرون إليه: {ما شأنكم تنظرون؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فعرفت أنهم يصمتونني -أي: يسكتونني- فلما رأيتهم يسكتونني سكتُّ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي ما ضربني ولا سبني، وفي رواية أنه قال: ما رأيت معلماً قط أرفق من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إن هذه الصلاة لا يحل فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن}، وفي مدلولها أيضاً قصة الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد إلخ
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في هذا: "والمراد تأليف من قرب إسلامه، وترك التشديد عليه في الابتداء، وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف ليقبل، وكذا طلب العلم ينبغي أن يكون بالتدريج؛ لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلاً حبب إلى من يدخل فيه، وتلقاه بانبساط، وكانت عاقبته دائماً في ازدياد بخلاف ضده".
وفي هذا يقول الإمام أحمد: "كان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقومٍ يرون منهم ما يكرهون، يقولون لهم: مهلاً رحمكم الله".
ودعي الحسن البصري رحمه الله إلى عرس، فجيء بجامٍ من فضة -أي: قدح من فضة- عليه خبيص -والخبيص طعام من التمر والسمن- فتناوله فقلبه على رغيف فأصاب منه، أي: الطعام في إناء من فضة فأخذه وقلبه على الحصير وأبعد الإناء وصار يأكل.
فقال رجل: هذا نهي في سكوت مجرد أنه أفرغ الطعام على هذا الرغيف وصار يأكل، معناه أنه لا يؤكل في هذا الإناء من الفضة، فكان هذا نوعٌ من اللباقة في الإنكار.
ويروى أن الخليفة المأمون وعظه واعظ فأغلظ عليه في القول، فقال: يا هذا! ارفق، فقد بعث الله من هو خيرٌ منك إلى من هو شر مني، وأمره بالرفق فقال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:43 - 44].(78/20)
المداراة والمداهنة في الدعوة إلى الله
أما المداراة: فهي صورة من صور التعامل الدال على الحكمة والموصل إلى المقصود، مع حفظ ما للداعي والمدعو من كرامة ومروءة، وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه فقال: باب: المداراة مع الناس، ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {ائذنوا له! فبئس أخو العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! قلت ما قلت ثم ألنت له القول، فقال: يا عائشة! إن شر الناس منزلة عند الله من تركه الناس اتقاء شره، أو اتقاء فحشه}.
قال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلام، وترك الإغلاظ، وذلك من أقوى أسباب الألفة قال: وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها والمداهنة محرمة، والفرق: أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه.
وفسرها بعض العلماء بأنها: معاشرة الفساق، وإظهار الرضا بما هم فيه من غيرٍ إنكارٍ عليهم.
والمداراة: هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق بالنهي -لأنك لا تقره على فسقه، لكن ترفق في الإنكار- عن فعله، وترك الإغلاظ عليه، حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولاسيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك.
إذا تقرر هذا المعنى فهو الذي قد عناه الحسن البصري رحمه الله في قوله: كانوا يقولون: المداراة نصف العقل، وأنا أقول: هي كل العقل.
ومن الطريف -أيضاً- قول أبي يوسف رحمه الله في تعداد من تجب مداراتهم، فعد منهم: القاضي المتأول، والمريض، والمرأة، والعالم يقتبس من علمه، لا تنسوا أن تداروا نساءكم؛ لأن القاضي أبا يوسف عد المرأة مما ينبغي مداراته.
وأكثر ما تجري المداراة في اتقاء الأشرار والمكاره، وقد جاء في حكمة لقمان: يا بني! كذب من قال: إن الشر بالشر يطفأ، فإن كان صادقاً فليوقد نارين ولينظر هل تطفئ إحداهما الأخرى؟ وإنما يطفئ الخير الشر كما يطفئ الماء النار، وقد نُظم هذا المعنى في قول الشاعر:
وإذا عجزت عن العدو فداره وامزح له إن المزاح وفاق
فالنار بالماء الذي هو ضدها تعطي النضاج وطبعها الإحراق(78/21)
إقالة العثرات والغض عن الأخطاء
إن أسلوب المداراة المتقرر في الفقرة السابقة يقود إلى غض الطرف عن أخطاء المقصرين مادام طريقاً لاستصلاحهم، وإقالة عثرات العاثرين إذا كانوا كراماً ذوي هيئات، أو كان ذلك سبيلاً إلى دفنها وتقليلها، وإن شئتم برهاناً قريباً فاستذكروا قصة حاطب بن أبي بلتعة؛ تلك الواقعة الصحيحة، فهي صورة حية من صور الضعف البشري في لحظة من لحظات الزمن، مع أنه الصحابي البدري، ولكبر الزلة قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني أضرب عنق هذا المنافق، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم صدق حاطباً حين أجابه ويحسن أن تسمعوا اللفظ.
قال الراوي: {فانطلقنا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله! قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني أضرب عنقه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب: والله ما بي ألا أكون مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، إنما أردت أن تكون لي عند القوم يدٌ يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحدٌ من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع إلخ}.
قال حاطب للنبي صلى الله عليه وسلم: والله ما بي ألا أكون مؤمناً بالله ورسوله، أي: والله إنني مؤمن، وصدَّقه النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه ضعف بشري.
فإذا عثر العالم، أو عثر رجل الدعوة، أو حتى رجل عادي من الناس؛ فمن المهم جداً إقالة العثرة، وأكثر ما أخذ الدعاة والجماعات والتجمعات الإسلامية هو نوع من التصنيف، إذا غلط من ليس من جهتهم أو إنسان آخر فإنها تكون سبة للدعوة، وهذا أسلوب لا يمكن أن يجتمع الناس بينما لو رأيتم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومسلك القرآن كما قلنا قبل قليل: ومنهم، ومنهم، ومنهم حتى تكون هناك عودة، ولا يسمى لأنه طريق -فعلاً- لاسترجاع الناس، أما إذا وُسم الإنسان وشُهر به، أو ذكر بعينه، فلا يكاد: يمشي بين الناس إلا مكابراً، وإما أن يهلك، نسأل الله السلامة!
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ حاطب: {لقد صدقت ولا تقول إلا خيراً، أما علمت يا عمر أنه من أهل بدر، ولعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم}.
إذاً: إقالة العثرة ليس إقراراً للباطل، ولكنها إنقاذٌ للواقع فيها، فحق لمن غلط أو زل أن يسمع كلمة صائبة، وأن يستضيء بشمعة أمل، من أجل أن يرجع إلى الجادة، ويسير مع الأخيار من الصحاب.
يمر أبو الدرداء رضي الله عنه على رجل قد أصاب ذنباً والناس يسبونه، فأنكر عليهم صنيعهم وقال لهم: [[أرأيتم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى.
قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم.
قالوا: أفلا نبغضه؟ قال: إنما نبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي]].
وكم عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن زلة، فعندنا -مثلاً- قصة الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مستلقٍ تحت شجرة ظلها كثيف، وكانوا راجعين من غزوةٍ، كما قال جابر في حديثه {فتركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فعلق النبي صلى الله عليه وسلم عليها سيفه، فجاء الأعرابي فأخذ السيف وخرطه، وقال: من يمنعك مني يا محمد؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: الله، فسقط السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني يا أعرابي؟ فقال: كن خير آخذ، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: لا.
-هكذا مصارحة- قال: ولكني أعاهدك ألا أقاتلك ولا أكون مع قومٍ يقاتلونك، فخلى سبيله} رواه البخاري.
فما قال: أمسكوه فإنه يريد قتل القائد، ويريد أن يقتل فلاناً من الناس فقضية مهمة وقضية كبرى، وهو يستحق القتل، لأنه شارع في القتل -كما يقال: شارع في الجريمة- ومع هذا قال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: لا.
ولكن لا أعين عليك، فخلى سبيله فذهب، فقال لقومه: جئتكم من عند خير الناس، وهذه تكفي في الدعوة، فهذه القضايا من السيرة مهم أن نقف عندها.(78/22)
الترغيب والترهيب
إن كل ما تقدم من التأكيد على مسالك اللين والرفق والمداراة والغض عن الهفوات؛ ليس معارضاً لما هو معروف ومتقرر في مسالك الشرع من ضرورة سير الدعاة والمربين بين حالي الرغبة والرهبة، والرخاء والشدة، لكن المقدم في التعامل هو الترغيب والرفق، كما قال الإمام أحمد: والناس يحتاجون إلى مداراة ورفقٍ بلا غلظة، إلا رجلاً مبايناً معلناً بالفسق والعداء فيجب نهيه؛ لأنه يقال: ليس لفاسقٍ حرمة، فالمعلن المصر لا حرمة له.
وطريق أنبياء الله عليهم السلام المذكور في القرآن مسلوك فيه النجدين: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [نوح:1 - 4] كلها كلمات تنضح بالرقة والشفقة، وقال عن محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن:8] إلى أن قال: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التغابن:9] إلى أن قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التغابن:10] بيان لطرفي الترغيب والترهيب.
إذاً: ترغيب لما وعد الله المحسنين في الدنيا، وحسن العاقبة في الآخرة {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:13] وترهيب من وعيد الله وغيرته على حرماته، والخوف من أليم عقابه عاجلاً وآجلاً: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
أيها الإخوة! فلعله بملاحظة هذه المسالك وأمثالها يتحقق الخير، وترشد المسالك، وتؤتي الدعوة خيرها الكثير، والنفوس تملك قدراً كبيراً من التأهيل في قبول ما عند الدعاة، وهي تحب سماع كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وتستفيد من المواعظ، وهي قريبة من الخير مستعدة له، فليفقه هذه السنن الدعاة إلى الله، وليحملوا الناس على توجيهات الشرع لا على جلبة الشارع -أي: السوق- وليجتنبوا المزالق والمنعطفات الخطيرة التي يتعمد أعداء الملة وضعها في الطريق وفق الله الجميع إلى سبيل الهدى، وأصلح الأعمال والمقاصد، وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه وسلم.(78/23)
الأسئلة(78/24)
كيفية التعامل مع المستهزئين بالدعوة والدعاة
وردت إلينا أسئلة كثيرة ومعظمها صدرت بقولهم: إنا نحبك في الله يا شيخ.
أحبكم الله الذي أحببتموني فيه، وجعلنا الله وإياكم وإخواننا الحاضرين والمستمعين من المتحابين فيه.
السؤال
كيف يتعامل الداعي مع المستهزئين الذي يسخرون من الدين من جهة، ومن طيب الداعي وحسن تعامله ووصفه بأنه درويش أو لا يعيش الواقع، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أظن أن الدعاة في هذا العصر ليسوا أول من استهزأ بهم، بل هذا هو شأن الأنبياء، وأنتم الدعاة المخلصون -إن شاء الله- ورثة الأنبياء، وأسوتكم الأنبياء، والذين يخالفونكم ويعاندونكم ويعارضونكم قد عارضوا من هو أفضل منكم، وما لاقى الأنبياء في كثيرٍ من مواطنهم إلا الاستهزاء والاستكبار والاتهامات العريضة ساحر، مجنون، حتى قال الله عز وجل لجميع الأمم: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذريات:53] لما ذكر قصة إبراهيم، ثم موسى، ثم هود، ثم صالح، ثم نوح في سورة الذاريات، ثم جاء خطاب محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:51 - 53].
إذاً: هذا مسلك يجب أن تعرفه، لابد أن تجد من يستهزأ، ولا بد أن تجد ممن يسميك درويش مغفل متحجر معقد، أما إذا كنت تريد طريقاً كما يقال بالتعبير المعاصر: مبسوطاً أو مفروشاً بالورود، فهذا لا يمكن: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214].
ولماذا اللين وإقالة العثرة؟
لأنك ستواجه أناساً، ولماذا كان الدعاة هم المنائر إلا لهذا السبب، أما لو كان كل من دعوته استجاب لما كان لك الفضل في أن يستجيب الناس، إنما فضلك الذي ترجو ثوابه عند الله أن تتحمل، ومهمتك هي البلاغ، والمشكلة والغلط أنك تظن أنك إذا دعوت فيجب أن يسمع هذا، ويفهم الناس ذلك فرسل الله عليهم الصلاة والسلام جميعاً ليس مهمتهم إلا البلاغ، ليس عليهم الهدى -بمعنى التوفيق والإلهام- أبداً، لا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أفضلهم ولا غيره.
والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن النبي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، فليس مهمتك أن تقول لي: يا فلان! أصلح حالك، وإذا ما صلح تقول: أعوذ بالله هذا خبيث نعم أعوذ بالله، لكن مهمتك أن تبلغ، وحينما تبلغ لا يعني أنك تبلغ مرةً واحدة، بل تبلغ في كل حين، وليس مهمتك أن يهتدي الناس.
يا أخي! أولادك تربيهم عشرين سنة البيئة واحدة، والمدرسة واحدة، والأكل والشرب واحد، ويسكنون في بيت عشرين سنة، ومع ذلك هذا شمال وهذا جنوب، فيجب أن نفقه طبائع الناس، ونفقه دين الله عز وجل، وأن نستطلع مسالك الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن مهمتنا البلاغ والدعوة والتوصيل.
والمهم من هذا كله أن نكون على طريق صحيح، أما النتائج والثمار فليست إلينا أبداً، ليس علينا أن يهتدي الناس، علينا أن نترسم طريقنا، وأن نعرف أننا على الحق، ولا يكون ذلك إلا بمراجعة أنفسنا، والتذاكر فيما بيننا، والرجوع إلى أولي العلم والفضل منا نرجع إليهم ونراجع أنفسنا فقط، أما أن نفترض أن الناس يهتدون بقولنا، أو أن الإنسان إذا طلع على منبر وقال: أيها الناس! اتقوا الله؛ فتراهم يخرجون يبكون ويتركون كل شيء، هذا لا يمكن، ولا أن تلاقي استهزاءً وسخرية، هذا لا بد أن تفترضه.(78/25)
الشعور بالرياء في الدعوة إلى الله وعلاجه
السؤال
فضيلة الشيخ: في كثيرٍ من الأحيان أجد حماساً شديداً للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، كما أمر بذلك ربي تبارك وتعالى، ووفق سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أثناء وبعد القيام بالدعوة أحس بالرياء مما أقلقني كثيراً، فبماذا تنصحونني جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أنصحك بالاستمرار في الدعوة وهاجس الرياء لا تلتفت إليه، إنما هو مدخل من مداخل الشيطان، خاصة إذا كان يكتب الله على يديك خيراً كثيراً، فالرياء عليك أن تتقيه -بإذن الله- أولاً: بمعالجة الإخلاص بينك وبين الله، لأن الرياء والإخلاص أمر قلبي لا يراه الناس -بينك وبين ربك- فإذا اجتهدت في الإخلاص ولو قال لك الناس: إنك مرائي، ولو قال لك الناس كذا وكذا، فالرياء والإخلاص عمل قلبي، ومن هنا كانت الصعوبة، وكان تفاوت الناس في الدرجات والمنازل في الإخلاص؛ فإن الإخلاص عزيز جداً، حتى إن الناس قد يصلون في صف واحد، وقد يتقدم البعض والآخر يتأخر، ويمكن أن يكون المتأخر أرقى؛ لأن أكله حلال -وهذا غير منظور- ولإخلاصه وحسن توجهه، واجتهاده في الاتباع، وحضور قلبه؛ هذه كلها تؤثر في القبول.
إذاً: عليك أن تجتهد في الدعوة ما دام أن الله قد فتح لك بابها، أما هاجس الرياء فادفعه بالاستعاذة، والنظر في القضايا التي تظن أن فيها رياء.
إذا كان مثلاً في مسجد الحارة، فاذهب إلى قومٍ لا يعرفونك وإذا كنت تجد نشاطاً عند الناس، هذا -أيضاً- يمكن أن تُعالج نفسك في الداخل، فمثلاً بعض الناس قد يصلي ويكون نشيطاً أمام الناس، فإذا ذهبت إلى البيت فصلِّ نوافل، والذي تعمله أمام الناس اعمله سراً؛ لأن عمل السر أخلص كما هو معلوم، لكن لا تتوقف عن عمل العلانية؛ لأن فرائض الإسلام منها ما هو علانية لا بد أن يكون أمام الناس، وليس رياءً؛ كصلاة الجماعة، والتمسك بالسنة، وتقصير الثياب كلها أمور ظاهرة، بل الصدقة يمكن أن تكون سرية أو علانية {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] إذاً: هاجس الرياء قد يكون مدخلاً من مداخل الشيطان.(78/26)
حكم المساهمة في الشركات والبنوك
السؤال
فضيلة الشيخ: أرجو أن تبصرونا عن المساهمة في الشركات والبنوك التي كثر حديث الناس عنها وخاصة شركة (صافولا) التي أسهمها الآن مطروحة؟
الجواب
أما البنوك الربوية فالأمر فيها ظاهر، كبنك الرياض، والبنك الأهلي وغيرها من البنوك الربوية، لكن الشركات التي أصلها استثماري في أعمالٍ مشروعة مباحة، فالأصل فيها الحل، وأنا لا أقول هذا من عندي، وإنما شيخنا عبد العزيز بن باز حفظه الله يفتي بهذا، وأنا في مثل هذا أعلن لكم أنني مقلد، وفي كثيرٍ من القضايا، بل كل ما تسمعونه مني ليس من عندي، وإنما أسمع ممن أثق به من أهل العلم فأقول بقوله، فالأصل فيها الحِل، إلا من تبين له شيء لم يتبين للناس، أو كان في نفسه شيء، فالورع هو الأفضل.(78/27)
أخبار الصلح بين المجاهدين الأفغان
السؤال
فضيلة الشيخ: ما هي أخبار الصلح الذي كنت أحد أعضائه في أفغانستان؟
الجواب
عموماً الجهاد الأفغاني حينما ابتدأ لا شك أنه كان انطلاقةً انتشت لها الأمة، وأمة الإسلام أمة مجاهدة، وكان طريقاً -إن شاء الله- نحسبه سليماً وصحيحاً، وكانت الأمة متعطشة، ويجب أن نعرف هذا، وأن يعرف ولاة الأمور في كل بلاد إسلامية مثل هذا، وأن يعرفوا نفسيات الأمة وتطلعها ومصدر عزها، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم} فحينما ظهر الجهاد تطلعت الأمة ورفعت رأسها، وكان طريقاً لعزها، وكان جهاداً في سبيل الله عز وجل، وتحمس العلماء والدعاة والشباب والناس لهذا، وكان هناك صدىً واسعاً والحمد لله، ونحسب أنه لا زال كذلك، لكن لا شك أنه حصلت خلافات قديمة ليست جديدة -كما تعلمون- واحتكاكات وصراعات، وحصل ما حصل، ومن آخرها هذه الفتنة الأخيرة، والتي كنت واحداً ممن ذهبوا، وهي فرصة للإنسان إلى أن يطلع عن كثب إلى الأحوال والوقائع، والذي يمكن أن يقال في هذا مع الأسف: إن الخلاف سنة ماضية في البشرية كلها {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118 - 119] ولكن المهم الذي يجب أن نبحث عنه هو كيفية الخروج من الخلاف؟ وإلا فالخلاف لا يمكن الخروج منه ولا بد أن يقع، لكن كيف نتحكم فيه؟
حينما ننظر في سيرة صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده؛ نجد أنه أثيرت فيهم قضايا كبرى أوشكت أن تهدد مصير الأمة، وأحياناً قد تدخل قضايا عقدية، فقد اختلفوا في الخلافة، ووصل الخلاف فيهم إلى شيء كبير، حتى إنهم في أثناء المناقشات وحينما قال الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، وقال أبو بكر: أنتم الوزراء ونحن الأمراء، قال قائلٌ من الأنصار: أنتم قتلتم سعد بن معاذ، وصل الحال إلى أن قال عمر رضي الله عنه: بل قتله الله، أي: مات ميتةً طبيعية، لكن أراد الله سبحانه وتعالى وقال عمر لـ أبي بكر: ابسط يدك نبايعك، فبسط يده فبايعه فتتالى الناس حتى اتفقوا.
إذاً: الخلاف يحصل، لكن علينا أن نحتويه، هذا هو المهم، على معنى أن نحتوي آثاره، وقد اختلفوا في كتابة المصحف، فاحتووه وما انشقوا، وعلى الرغم أن بعض الناس ما كان يرى -مثلاً- رجحان إمامة أبي بكر، ومع هذا سلَّم وبايع، وقد يرى بعض الناس رأي عمر في كتابة المصحف، حتى إنهم قالوا: نصنع شيئاً لم يصنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم! ومع هذا لما اتفق ساروا عليه، وما انشق أحدٌ، وما بدع وما فسق، وقال: هذا شيء لم يفعله وهذا خلاف.
وهناك قضايا كثيرة، والأوضح من ذلك قضايا كبرى تهم الأمة، مثل سواد العراق، اختلفوا فيه حتى قيل لـ عمر: انظر أمراً يسع المسلمين كلهم، فنظر عمر إلى ما نظر، ثم تبعه الناس، وما انشقوا عليه، وإن كانوا تفاوضوا واختلفوا ولكنهم ساروا مع رأي الإمام، وإن كان بعضهم يعتقد أنه مرجوح، وهذا مهم جداً، يجب -أيها الإخوة- أن تتنازلوا عن آرائكم ولو كانت في ظنكم راجحة، إذا كان في ذلك جمع الكلمة وما دام أنه في حدود، بل حتى ولو كان حقاً.
عائشة رضي الله عنها حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدثها عن الكعبة ويريها أركانها، وقال: {إن قومك قد قصرت بهم النفقة فبنوه على غير قواعد إبراهيم، ولولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة ولأقمتها على قواعد إبراهيم} فترك هذا الأمر وهو حق وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك بعد الفتح، وقد هدم الأصنام ولكن هذه تركها، قال العلماء: وفيه دليل على أن للعالم أن يترك أو يكتم ما هو حقاً في بعض الأمور إذا خشي على العامة.
فالقضية خطيرة، وليست سهلة.
ومن هنا لا أقول لكم إلا ما قال شيخنا عبد العزيز بن باز حفظه الله، فالقضايا العامة التي تمس الأمة يجب أن يكون لنا رأي موحد يصدر عن جهة معينة موثوقة، والشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله أصدر في أول الأمر ما أصدر، ثم أصدر بعد ذلك ما أصدر، فيجب أن نتوحد، ولا يمكن أن نصل إلى شيء وإنما هو تشقيق ثم يصل إلى اتهامات، ولا يمكن أن يكون إلا هذا.
أنا لا أتكلم عن أفغانستان إنما أتكلم عن الذين هنا، فالأفغان فيهم ما فيهم، لكن لماذا ننقله هنا، بل -والله- إن الذي هنا أشد من الذي هناك من حيث نوع النقاش الذي يدور، فقبل أن أسافر وبعد أن جئت وأنا في مكة كان إخوة من الشباب الأفاضل يتحمسون ويصدرون ويتحدثون، فذهبنا هناك وكل ما لمسناه من الطرفين عندما استمعنا واجتمعنا وتحدثنا ونقلنا إلى كلا الطرفين ما يدور في الطرف الآخر، وكلٌّ نفى ما اتهم به بانت الحقيقة واتضحت، وإن كانت هناك اتهامات قد يكون لها أصل -وأنا لست في مقام التحقيق- وأيضاً يجب أن تعلموا حينما يكون هناك مصالحة أو نريد -فعلاً- عمل صلح لا يجب أن ندقق في النقاش، ولا يمكن أن نصل إلى هذا، ولجنة الصلح هي التي تدقق في القضايا التي يتصالحون عليها، أما حينما نصلح نحن هنا فعلينا ألا نغوص، لأننا إذا غصنا لا يمكن أن نصل إلى حل.
هذا الذي يمكن أن يقال في المقام، والحديث يطول.(78/28)
الإنكار على المجاهر بالمعاصي
السؤال
كيف أجمع بين إنكار المنكر والدعوة والنصيحة إذا قابلت مجاهراً بالمعاصي؟
الجواب
لاشك أن تغيير المنكر على درجات، فالمجاهر بالمعاصي أحياناً قد تستطيع أن تنكر عليه بيدك، فهذا لك أن تنكر عليه كما لو كان أخاك الأصغر، أو كان تحت إمرتك أو إدارتك أو في مصلحتك في مؤسسة، أو في بيتك أو عملك وأنت تستطيع كما لو كان مدير مدرسة، أو مسئولاً عن مصلحة، أو رئيس مصلحة، هذا قطعاً يستطيع أن يزيل المنكر، فهذا لا شك أنه يملك، أو كان صاحب واجهة، أو كان مسئولاً عن الحي، أو كان له وجاهة بحيث يستطيع أن يأمر لما له من جاه ويسمع منه، هذا لا شك أنه له أن ينكر بيده، وينكر بلسانه، وهذا مبذول لكل أحد، والمجاهر لا بد أن تواجهه وتنبهه؛ لكن أحياناً ترى المجاهر يعمل كثيراً من المعاصي لأول مرة، فالذي تراه لأول مرة لاشك أن حقه أن تلين القول معه.
نعم! أنت قد ترى في الشارع فلان بن فلان، لكن ترى كثيراً في معصية واحدة، ولا ترى إلا فرداً في شارع كذا وشارع كذا، عشرة منكرات أو منكر واحد في عشرة مواقع، وأنت تعلم أنك رأيت الموقع هذا لأول مرة، رأيته حينما تحدث صاحبه أو الواقع فيه، فعليك أن تنكر عليه بلفظك ولسانك، وإن كنت ممن ينكر باليد أو يملك ذلك بحكم سلطة أو موقع أو نحو ذلك فتنكر باليد ولا شك، ولا يسعك إلا هذا، وترتفع عنك المسئولية بهذا، أما إذا كنت غير ذلك فتنكر باللسان، وهذا موجود -ولله الحمد- في هذه البلاد، وإن كان دون ذلك فتنكر بالقلب.(78/29)
المقصود بالهداية في قوله صلى الله عليه وسلم: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً "
السؤال
هل الهداية المذكورة في الحديث: {لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً} هي الهداية من الكفر إلى الإسلام أم أن الهداية عامة حتى للمسلم أو الفاسق؟
الجواب
معلوم أن سبب البعثة في أصلها هي هداية الكفار؛ لأنها في بعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً إلى خيبر، وأعطاه الراية، وقال له: {والله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} فأصلها في هداية الكفار، لكن الذي يبدو -والله أعلم- أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالأمر أوسع من ذلك، وفضل الله واسع والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(78/30)
مشكلات وحلول
مشاكل الزواج كثيرة في هذا العصر، من أهمها عزوف كثير من الشباب عن الزواج؛ نتيجة الثقافة المادية المعاصرة.
لذلك وجب الاهتمام بطرح المشاكل الموجودة في الساحة والقيام بطرح الحلول لها.
هذا هو محور محاضرة الشيخ حفظه الله، ثم عقب بعد ذلك بالكلام عن الطلاق السني وثمرته، وأورد طرقاً ووسائل يجب أن تستخدم قبل الشروع في الطلاق.(79/1)
إثارة بعض المشكلات وسوء تصويرها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه ونثني عليه الخير كله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه بين يدي الساعة بالحق بشيراً ونذيراً: وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته، واهتدى بهديه، وسار على نهجه وطريقته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة في الله: أحييكم بتحية الإسلام؛ تحية طيبة مباركة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والشكر لله عز وجل على ما منَّ به ويَمُنُّ من نعم عظيمة، وآلاء جسيمة، أعظمها وأفضلها وأكبرها وأجلها نعمة الإسلام؛ فأكرم بها وأعظم من نعمة! ثم ما ييسره سبحانه بمنه وفضله من لقاءات واجتماعات بمثل هذه الوجوه الطيبة في مناسبات كريمة، ومن خيرها ما يعقد في بيوت الله عز وجل من اجتماع لذكر الله عز وجل، والتذاكر فيما ينفع المسلمين، وفيما يفيد المجتمع بإذن الله.
ثم الشكر لكل من أمر بمعروف، أو نهى عن منكر، أو أقام في الأمة خيراً أو دعا إلى هدى؛ ومن هؤلاء مكتب الدعوة في جدة جزاه الله خيراً، فإن له نشاطه الملحوظ، وله عمله المشكور؛ فهو يجمع الإخوة بمحبيهم؛ ليتذاكروا فيما ينفعهم، وفيما يحفظ عليهم أوقاتهم ويذكرهم بأمور دينهم ودنياهم.
كما يزجى شكر خاص لأخينا: فضيلة إمام هذا المسجد الشيخ عدنان شاكر، فقد أحرجني كثيراً، لا لأن الموقف محرج، ولكن لأنني كنت أرده كثيراً وإن كان لحوحاً، والإلحاح في مثل هذه المواقف محمدة ومطلوب، وأرجو أنني لم أكن لئيماً، فقد كنت أعتذر كثيراً، ويعلم الله أن اعتذاري لكثرة المشاغل لا رغبة عنكم، ولا عزوفاً عن مثل هذه اللقاءات الطيبة، ولكنها ظروف ومشاغل قد تكون في مكة شرفها الله، وقد تكون خارج مكة، ولكن الله سبحانه وتعالى قد أذن بهذا اللقاء؛ فالشكر له سبحانه، ثم لكل من كان سبباً في مثل هذا التجمع الطيب المبارك.
أيضاً العنوان اختاره الشيخ عدنان، ورغب أن يكون تحت العنوان الذي سمعتم: مشكلات وحلول، وأشار أيضاً إلى بعض المشكلات التي يستحسن أن يكون الحديث عنها كبعض مشكلات الزواج، سواء فيما يتعلق بالزواج ابتداءً أو انتهاءً، وما بين ذلك من أمور الأبناء وتربيتهم، ونحو هذه المشكلات، ولعلي أعرض إلى شيء منها بطريقة أرجو أن تكون واضحةً ومفيدة إن شاء الله، وإن كنتم قد سمعتم في هذا كثيراً، ولكنها أمور ينبغي أن نتذاكر بها، وأن نذكر أنفسنا، وبخاصة أننا أحياناً -مع الأسف- نلاحظ في بعض المعالجات -وبخاصة المعالجات عن طريق بعض وسائل الإعلام- أنها معالجات غير حكيمة، وتصوير لبعض المشكلات تصويراً خاطئاً، أو تكبير للشيء أكبر من حجمه، أو تهوين للشيء بينما حجمه أكبر من ذلك.
فمن هذه المشكلات الاجتماعية على سبيل المثال: غلاء المهور العنوسة الطلاق تعدد الزوجات، وهذه كثيراً ما تجعلها بعض وسائل الإعلام سبيلاً لبعض المغرضين والمناوئين؛ ليبثوا بعض ما يريدون من سوء، من خلال تصوير هذه المشكلات وإثارتها.
على سبيل المثال -وإن كنت قد لا أتعرض له هنا، لكن حتى أريكم كيف يكون الخطأ في الطرح لبعض المشكلات-: تعدد الزوجات يتكلمون عنه وكأنه قضية تقبل النقاش، بل أحياناً قد نرى من السماجة والسذاجة أنهم يقيمون استفتاءً يسألون الشاب فيه: ما رأيك في التعدد؟
ويسألون بنتاً أو فتاة: ما رأيك في التعدد؟
والتعدد مشروع، ولا يجوز أن يطرح هذا السؤال في مجتمع مسلم؛ لأن القضية ليست قضية أن التعدد جائز أو غير جائز، فهذا لا يطرح بهذا الشكل ولا يجوز أصلاً، ومن اعتقد أنه لا يجوز للرجل أن يجمع بين اثنتين -أحياناً- أخشى أن يكون كافراً، إنما القضية هل الرجل هذا مستعد؟ وهل توفرت فيه العدالة؟
أما أن يطرح السؤال بهذه الطريقة فهذا خطأ! والله عز وجل يقول: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] فالقضية محسومة في أصل التعدد، إنما القضية هل الإنسان بذاته قادر أم غير قادر؟ هل هو يستطيع؟ وهذه قضية فردية.
فالقضية لا يجوز أن تطرح بهذا الشكل.
فقد نحسن الظن في كثير من أصحاب هذا الطرح لكنهم يغفلون لأنهم لا يفقهون، وقد يكون فيهم السيئ أحياناً.
وأيضاً هناك مشكلات سوف نعرض لبعضها لنرى كيف ينبغي أن تطرح وتعالج.
وأنا أثرت بعض أسئلة، وأحببت أن يكون طرحي إليكم عن طريق تساؤل ثم إجابات.
فمثلاً: بعض الأسئلة التي تلمست أنها توجد إما عن طريق الصحافة، أو حتى أحياناً عن طريق بعض المجالس، أو من بعض الإخوة حينما يعالجون بعض المشكلات، مثلاً هذا
السؤال
ما مدى تأثير الجوانب المادية في إقدام أو عزوف الشباب عن الزواج؟
وهو يعني قضية المهر مثلاً.(79/2)
الجوانب المادية في الثقافة المعاصرة وأثرها في قضية الزواج
السؤال
هل المهر مشكلة أو غير مشكلة؟
بل قد يُقال: هل هو مشكلة جوهرية، وهل تعالج القضية بالحد من غلاء المهور؟
إذاً هذه قضية.
ولهذا قلنا: وهل غلاء المهور هو المشكلة الرئيسية أو الأساسية في العزوف عن الزواج؟
نقول في الإجابة: يبدو من هذا السؤال بحسب من طرحه؛ أن عزوف الشباب الملحوظ عن الزواج ليس بسبب الجانب المادي، إذا كان المراد بالمادة قلة ذات اليد -يعني: ما عنده فلوس- أما إذا كان الماديات في المصطلح المعاصر معناها أنه تغيرت أفكار الناس، بحيث صارت مرتبطة بالمادة.
ولهذا أقول: إن الأمر في تقديري أكبر من ذلك، أي: أن القضية ليست مالية، بل عنده مشكلة زواج، إذ أن التأثير جاء من الآثار الكبيرة للمدنية المعاصرة بكافة معطياتها، وتكاد تكون في أغلبها معطيات سلبية، ولا سيما فيما يتعلق بالجوانب الروحية والفكرية، والعلاقات الاجتماعية.
إذاًَ: فيجب أن نفقه أن القضية تكاد تكون تحولاً فكرياً عند كثير من الناس في الشباب في الفتيات بل حتى في الآباء والأمهات.
تغيروا بحيث جعلوا القضية مادية، فيرددون: تأمين المستقبل لبنتنا! وهذا طيب.
لكن هذه النظرة يلاحظ أنها ناشئة عن بُعدٍ عن رسوخ العقيدة بتوجيهات القرآن، فالله عز وجل يقول: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32].
إذاً: لا نمنع الزواج من أجل فقر الزوج؛ لأننا لو كنا نعالج القضية علاجاً جوهرياً وصحيحاً لكنت أزوج الفقير وأعينه، لماذا أزوجه وأنا أتطلع لأن آخذ منه للأم وللبنت وللخالة وللعمة وغيرهن من أقارب الزوج.
إذاً لن نحلَّ المشكلة بهذه الطريقة؛ لأن نظرتنا قاصرة، ونظرتنا إما أن تكون نابعة من تقاليد بائدة وبالية، وإما أنها بعيدة عن النظرة الإسلامية الصحيحة، أو أنها نابعة من مدنية معاصرة ترتبط بماديات، وبشهادات، ووظيفة، وتأمين مستقبل ونحو ذلك.
ولا شك أننا لا نريد العاطل، ولا المهمل، ولا نريد المتسيب، ولا شك أن لنا فيه نظرة؛ لكن لا نحجم ونحجب شبابنا وفتياتنا عن الزواج بحجة هذا؛ لأنه لو تعاونا حقيقة، ولم نجعل المادة أو الفقر مقياساً؛ لما كنا في مثل هذا.
ولهذا نقول: إن الذي أثر في نظرتنا وغير مقاييسنا، جاء من الآثار الكبيرة للمدنية المعاصرة بكافة معطياتها، وتكاد تكون في أغلبها معطيات سلبية، ولا سيما فيما يتعلق بالجوانب الروحية والفكرية والعلاقات الاجتماعية؛ فنظرة الشباب إلى الحياة قد تغيرت تغيراً سيئاً، غير محمود، تغيراً مقروناً بكثير من الخطأ والخلط، وأصبحت أغلب المقاييس عندهم مادية؛ فالمستقبل مادة، والتخطيط مادة، بل إن تقييمه لشريكة حياته يكاد يكون مادياً أو شبه مادي؛ ولهذا تجدون في الصحافة: الزواج بالمتعلمة الزواج بالموظفة الزواج بالعاملة؛ لأن المقاييس تغيرت، حتى صارت الصحافة تطرح هذه الأطروحات.
إذاً تغيرت عندنا النظرة والتفكير؛ تغيرت تغيراً مشوباً بكثير من الخطأ والخلط، وأصبحت أغلب المقاييس مادية؛ فالمستقبل مادة، والتخطيط مادة، بل إن تقييمه لشريكة حياته يكاد يكون مادياً أو شبه مادي، فما يتلقفه الشباب من معلومات وأخلاقيات بطريق مباشر أو غير مباشر، عن طريق وسائل الإعلام بشتى أنواعها؛ مقروءة ومنظورة ومسموعة، له أثره الكبير في النظرة إلى الحياة، نظرة فيها بعد كبير عن التوجيهات والمقاصد الإسلامية؛ فالزواج في المجتمع المسلم يدين بتعاليم الإسلام ويتشربها في فكره وفي قلبه، ويفقهها ويمارسها سلوكاً.(79/3)
الزواج في المنظور الإسلامي
لو كنا نعيش الإسلام حقيقة في صدورنا، ونعيشه في سلوكنا وتحركاتنا، وفي أفكارنا، وفيما نتلقى ونلقي؛ لتغير الأمر.
ولهذا نقول: الزواج في الإسلام منظور فيه لعدة أمور، فليس مادياً بحتاً:(79/4)
الزواج غذاء للعاطفة الفطرية
أولاً: أنه غِذاء للعاطفة الفطرية التي أودعها الله في بني آدم ذكوراً وإناثاً، والزواج أيضاً وضع لهذه الفطرة في الطريق الصحيح، لا سفاح، ولا انقطاع وتبتل، بل هو وضع لها في الطريق الصحيح المثمر، ولو أن ولي البنت أن الزواج غض وإعفاف وحشمة وكرامة؛ لما نظر نظرته هذه -الكبرى- للمادة، يريد أن يكسب من ورائها؛ ليعطي أمها، ويعطي خالتها، ويعطي عمتها، ويخطط لأمور يريد أن يكسبها عن طريق المهر، لو نظر نظرة حقيقية فيها كرامة، وفيها شهامة ودين من عفة، ومن غض بصر، ومن تثبيت للفضيلة، وإعمار للبيوت، وإكثار لنسل أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لو نظر لهذه الأهداف؛ لكانت المادة جزءاً يسيراً.
فقد شرعت المادة حتى يكون هناك نوع من القيمة التي لا تعدو أن تكون بنفس نسبتها.(79/5)
الزواج إعمار للبيوت على أسس من الضبط والانضباط
فلا حرمان من فشو الزواج يؤدي إلى انتكاسات، ولا إباحية تحط إلى البهيمية، وتلغي العلاقات الاجتماعية، وتهدم المجتمعات البشرية، وتؤدي إلى التبذل والامتهان.
هذا أساس من أساسيات الزواج الإسلامي.
أساس آخر لو أننا نفقهه كأولياء للبنات، وكدعاة للمجتمع وأولياء أمور وموجهين، ومسئولين أيضاً؛ البناء الآخر: وهو أن الزواج في الإسلام بناء للأسرة على أسس من الضبط والانضباط، فالأسر في العالم المعاصر تفككت، وفي الإسلام -إذا كنا نطبق الإسلام حقاً- يجب أن تبقى الأسرة متماسكة، ومع الأسف أن المد المعاصر خلخل الأسرة، ولو كنا نفقه الإسلام جيداً؛ يجب أن نحافظ على الأسرة، ونحوطها بسياج متين، ولا تكون المحافظة إلا حينما نزوج شبابنا وفتياتنا.
إذاً: غرض الزواج كما أنه إشباع للفطرة وضبط لها؛ كذلك هو بناء للأسرة على أسس من الضبط والانضباط، يعرف كل طرف ما له وما عليه، ولعل ذلك يلحظ من مثل قوله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء:21] لو كان الإنسان يفقه هذه الكلمة كزوج ويحترم هذه الكلمة التي جسدها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {قد أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله} لعلم أن الأمر ليس سهلاً، فالعلاقة الزوجية علاقة كريمة، وميثاق غليظ، ولكن كثيراً من المسلمين لا يفقهون هذا، فضلاً عن الممارسات الخاطئة في قضايا الطلاق، وفي قضايا أخرى.
فإذاً المشكلة ليست مشكلة مهر إنما المشكلة أكبر من ذلك.(79/6)
بقاء النوع البشري على النحو المجدي والمثمر
الأمر الثالث في نظرة الزواج في الإسلام: بقاء النوع البشري على النحو المجدي والمثمر والنافع، المكافئ لما مُنحه الإنسان من عقل وتفكير، فالله عز وجل خلق الإنسان وكرمه، وجعل له مزايا يفوق بها الحيوان، بل لا مقارنة بينه وبين الحيوان إلا من حيث أنه ينمو ويأكل ويشرب؛ ولكن لا نسبة؛ لأنه أعطي العقل والتفكير، وأعطي مع ذلك التكليف، ولما أعطي التكليف وكان قادراً على تحمل التكاليف كان مستخلفاً.
فهو مسئول؛ فالله عز وجل استخلفه في هذه الأرض وهو سائله: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61].
يعني: طلب منكم عمارتها.
إذاً: النوع الإنساني يختلف عن سائر المخلوقات كلها، فخلق السماوات والأرض والجبال أكبر من خلق الناس، حتى الجمل أكبر من خلق الإنسان؛ ولكن الإنسان أعطي فكراً وصار هو المسئول: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب:72] على كبرهن وضخامتهن: {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب:72].
وإذا كان مسئولاً فلن يقوم بالمسئولية على تمامها إلا حينما تكون الأسرة منضبطة ومحترمة؛ ولهذا نقول مرة أخرى: بقاء النوع البشري على النحو المجدي والمثمر.
فإن بقية الأنواع موجودة، وقد لا تنقرض بعض الحيوانات؛ لكن ليس هذا هو المقصود، بل المقصود أن يبقى النوع البشري على نحو مفيد، يعمر هذه الأرض على نحو ما أمره الله عز وجل، فيكون الإعمار المجدي والنافع مكافئاً لما منحه الله ووهبه، من عقل وتفكير، وليس مجرد -كما يقولون: بقاء النوع- فلو كان المقصود مجرد التزاوج؛ لحصل الأمر كما يحصل للحيوانات من غير بني البشر، فالحيوانات تتكاثر، ولا يوجد أكثر من الكلاب، فهي تتكاثر وتتوالد لكن هل هذه هي المهمة فقط؟
هل المهم أن يتكاثر الجنس البشري؟
لا.
المهم أن يتكاثر تكاثراً منظماً يقوم على أساس القيام بمهمة التكليف، وهذا لا يكون إلا في أسرة كريمة.
ومن أهم أهداف الزواج: بناء الأسرة وبقاء النوع على نحو نافع، ولو فقه هذا أولياء الأمور، والمسئولون، وحفظوا هذا لما كانت القضية المادية هي كل شيء، فلو كان المقصود مجرد التزاوج؛ لحصل الأمر كما يحصل في الحيوانات من غير بني البشر؛ ولكن هذا لا يمكن أن يلائم الإنسان المستخلف لعمارة الأرض، والسير على أمر الله عز وجل.(79/7)
القيام بمسئولية الأطفال
وبناءً على ذلك يكون هناك أمر آخر: وهي مسئولية تترتب على هذا، وهي قضية الأولاد، فالحيوانات ليست مسئولة عن أولادها إلا بمقدار ما هداها الله عز وجل من فطرة، بحيث تحميها صغاراً وترضعها فإذا رضعت نفرت، ولهذا أكبر طفولة هي في الإنسان فيبقى إلى أربع عشرة سنة وهو طفل؛ بينما ولد العنز في خمس دقائق يمشي على الأرض وانتهت القضية، وخمس دقائق ثم يضع فمه ويأكل، أما الطفل فيظل في حجر أمه فقط تسعة أشهر لا يكاد يتحرك فيها فضلاً عن أن يأكل بيمينه أو يأكل بيده.
فأربع عشرة سنة وأنت تربي فيه، وقد لا ينضج إلا في حدود خمس عشرة سنة، فخمسة عشر عاماً كلها فترة تربية وتوجيه.
إذاً هذا غير مفهوم للأسف، بل حتى يكاد يكون غير مفهوم في الأمم المتقدمة.
إذاً: قضية البيت والأسرة لو فقهناها لتغيرت نظرتنا.
ينبغي أن يفهم أبو البنت وأبو الشاب أن المهمة هي: العناية بالأولاد، والتربية، والحنو والعطف عليهم، من حيث الأبوة الكادحة، والأمومة الحانية.(79/8)
أهمية قضية توزيع المسئوليات
وأيضاً لو فقهنا مهمة البيت وعرفنا توزيع المسئوليات، ومع الأسف حصل خلط أثَّر كثيراً في التسيب حتى في الأمم المعاصرة التي تزعم التقدم، فتجد عندهم مشكلات نفسية، ومشكلات عصبية، ومشكلات إلى ما لا نهاية، بينما لو كان هناك سير على النحو الفطري الذي يدعو إليه الإسلام؛ المرأة لها وظيفة معينة، والرجل له وظيفة معينة، إذا تجاوز أحدهما الآخر حصل خلل، وبمقدار التداخل والفوضى تكون الانتكاسات، شئنا أم أبينا سنة الله عز وجل.
المرأة الأصل فيها أن تكون في البيت: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] وهذه قضية فطرية، وإخراجها لا بد أن يحدث آثاراً سلبية مهما كان، فالأصل أن المرأة مُنفقٌ عليها، والأصل أن المرأة تبقى في بيتها، والأصل في المرأة أن تكون مسئولة مسئولية أولية عن البيت في الداخل، والأب مسئول عنه في الخارج، فهذه قضية أساسية، الخلل فيها يؤدي إلى خلل في النسل، ويؤدي إلى خلل في الأبناء قطعاً.
نعم.
وهناك أشياء قد تكون إلى حد ما قابلة للنظر، وقابلة للتغيرات على حسب المقتضيات؛ لكنها لا تؤثر على الأصل، فأحياناً قد يكون التعليم مطلوباً، وتختلف درجات التعليم، ولكن يبقى معلوم أنه لا يعلِّم النساء إلا نساء، وكذلك أمور النساء لا يفقهها ولا يمارسها إلا نساء؛ لكن أيضاً تبقى المسئولية الأساسية هي البيت مهما كان.
ولهذا أيضاً يلاحظ أن بعض المسلمين الذين أغناهم الله عز وجل قد أوكلوا تربية أولادهم إلى غير الأمهات؛ إما إلى خادمة وإما إلى خادم وإما إلى مربية إلخ، وهذا يؤثر كثيراً، فتجد عنده قدرة مادية على أن يأتي بخادمة ومربية؛ لكن الخادمة يتعلق عملها بأمور بيتية تتعلق بالماديات، كطبخ أو كنس؛ لكنها لا تحسن بتربية الأولاد، فهذه مسئولية الأم كما أنها مسئولية الأب مباشرة.
فبناء الأسرة وتكوينها في الإسلام مبني على أسس منها العناية بالأولاد والتربية، والحنو، والعطف، ولكن إذا سادت الماديات فعلى العطف السلام!
إذا كانت العلاقة بين الزوج والزوجة أن لها راتباً وله مثلها، أو أن الزوجة تدفع والأب يدفع أصبحت المسألة مقايضة، لا أدري كيف سيكون شعور الطفل والطفلة حينما يعلم أن أباه وأمه يتحاسبان مادياً؛ أنا دفعتُ وأنت ما دفعتَ، يفتقد الحنو والعطف، ويفتقد الرحمة التي تظل البيت: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] وإذا قلبناها إلى ماديات ذهبت المودة والرحمة.
والتربية قضية أساسية في الأسرة ينبثق عنها حنو وعطف، أبوة تكدح في الخارج، وأمومة تحنو في الداخل، فيخرج الولد سوياً يرى أباه مكافحاً، عرقه يسيل من جبينه، ينفق ويكسب لأولاده، والأم يراها تدغدغ العواطف، وتحنو عليه في صدرها وفي حجرها، وغير خافٍ حرص الأبوين على تفوق أولادهم ونبوغهم؛ مما لا يتحقق في غير هذا الجو الأسري الحاني.
إذاً العامل الرئيسي في عزوف الشباب عن الزواج: هو هذا الزخم من الثقافات والانتكاسات الفكرية، والغزو المخلخل والمفسد للمقاييس والمعايير، وليس هو غلاء المهور، أو ثقافة المرأة كما يبدو من بعض الكتابات، وإن كان لهذه أثر فمعالجته أيسر بكثير من معالجة الغزو الثقافي، الذي تستدعي معالجته النظر في مجالات كثيرة في التربية والإعلام وسائر موارد الثقافة.
إذاً قضية المهور مشكلة، ولكن تبين لنا أنها ليست مشكلة أساسية، وكذلك قضية تعليم المرأة.
والمرأة ينبغي أن تعرف أمور دينها، ولا يكون ذلك -غالباً- إلا بالتعلم، وهي لا تفقه أحكام عباداتها، وأمور دينها، وحسن تفقيه أولادها في حدود مقدرتها إلا بالتعلم، فالتعلم ليس سوءاً لذاته لكن السوء فيما يصاحب التعلم من أشياء لا يجوز أن تتعلمها ونحو ذلك، ويحرم التعلم إذا كان وسيلة إلى محرم، كما أنه يجب إذا كان وسيلة لواجب، وإذا كان وسيلة إلى مستحب فهو مستحب، فتعلم الوضوء واجب؛ لأنه واجب، فللوسائل حكم المقاصد.(79/9)
قضية الزواج المبكر
ومشكلة أخرى تثار كثيراً وهي قضية الزواج المبكر: فالزواج المبكر مشكلة من المشكلات، وتطرحه الصحافة أيضاً فتقول: ما رأيك في الزواج المبكر؟(79/10)
من إيجابيات الزواج المبكر
ومعلوم أن الإسلام يتمشى مع الفطرة، والإنسان عادة إذا بلغ صار له ميل إلى الزواج إذا كان إنساناً طبيعياً وسوياً.
إذاً نقول: الذي يبدو أن الزواج المبكر فيه خير كبير، وإيجابيات تضمحل معها السلبيات إن وجدت، لماذا؟
لأن الزواج في أي مرحلة من مراحل العمر يؤدي إلى الاستقرار والواقعية في التفكير، والشعور التام بالمسئولية، وأنتم تلاحظون في آبائنا إلى أمد قريب -قبل ثلاثين سنة- كان أغلب الناس يتزوجون في السابعة عشرة والثامنة عشرة، فتجده قبل أن يتزوج غير مستقر، فإذا تزوج استحى؛ لأنه صار رجلاً، يعيش عيشة الرجال، ويشعر أنه قد اكتملت رجولته، وأنه لا يجوز له أن يمارس ما كان يمارسه حينما كان عازباً، وهذا أمر معروف.
ولهذا نقول: الزواج في أي مرحلة من مراحل العمر يؤدي إلى الاستقرار والواقعية، فبدل أن كان المرء خيالياً تجده بعد الزواج قد صار واقعياً، يعرف قيمة الريال، ويعرف قيمة الوقت، ويعرف أنه محاسب، وهذا شيء جميل.
وأنتم تلاحظون أولادكم، يكاد الواحد يبلغ ثلاثين سنة ولكنه صغير، مادام أنه يدرس في الجامعة، ولم يتزوج، ولو تزوج وهو ابن سبع عشرة سنة، ثم أصبح عنده ولد، فإنك تجده يستحي، فقد أصبح رجلاً، بينما يمكن أن يصل إلى الثامنة والعشرين من عمره وهو في المرحلة الجامعية -مرحلة دراسات عليا- ولكنك تراه صغيراً، وهو يرى نفسه أنه عالة، ولا يشعر بالمسئولية، حتى الموظف المتزوج تجده -غالباً- يشعر بالمسئولية أكثر من الموظف العازب.
ولهذا نقول: الزواج في أي مرحلة من مراحل العمر يؤدي إلى الاستقرار والواقعية في التفكير، والشعور التام بالمسئولية؛ فلا يجنح به خيال، ولا يشق به تفكير، غير أن الناس كلما تقدم بهم عصر طالت في تقديرهم فترة المراهقة، ويصير الشخص اليوم ابن ثماني عشرة سنة أو عشرين ويقولون: هذا حدث من الأحداث، فإذا قبضت عليه الشرطة، قالوا: هذا حدث، بينما لو كان متزوجاً وقال لهم: أنا عمري ثماني عشرة سنة ومتزوج لحاسبوه حساباً عسيراً، وإذا كان في أربع وعشرين سنة ولم يتزوج لقالوا: ما زال من الشباب، وتعتبر هذه جنحة كما يسمونها في القانون، غير أن الناس كلما تقدم بهم عصر في هذه المدنية طالت في تقديرهم فترة المراهقة، حتى أصبح من بلغ خمساً وعشرين سنة أو أكثر من ذلك يعد مراهقاً، وإن كان طبعاً هذا قد يكون فيه نوع من التصوير التقريبي، وفي هذا إرهاق كبير، وهو لا يزيد المربيين إلا إرهاقاً ورهقاً، والله أحكم الحاكمين.
حينما خلق الله الإنسان وهو أعلم بمن خلق، ربطت شريعته حد التكليف بالاحتلام أو بلوغ خمس عشرة سنة، فإذا بلغها الرجل حوسب محاسبة الرجال، وكذلك المرأة إذا بلغت خمس عشرة سنة أو حاضت.
لا شك أنها هي السن التي يصبح الإنسان فيها مكتملاً، قادراً على تحمل المسئولية، والتكاليف الشرعية والاجتماعية، وأظن القارئ والمستمع ومن يسمع الآن أو يسمع فيما بعد، ومن يقرأ يشارك في أن نسب الطلاق في المجتمعات المتقدمة أعلى منها في الأمم المحافظة، وكلما دخلت أمة في المعاصرة ارتفعت نسبة الطلاق والخلافات الزوجية.
إذاً: فالقضية ليست قضية مادية، أو قضية تأمين مستقبل، بل القضية قضية استقرار، وقضية استيعاب لمسألة البيت والأسرة، ومسألة الزواج، وليست هي قضية زواج مبكر وزواج غير مبكر.
وأقصد بالأمة المحافظة أي: محافظةً دينيةً، وليست عادات جاهلية، ولا تقاليد بائدة بعيدة عن الإسلام، فهذه لا ميزان لها، إنما المحافظة التي تعني التدين والاستقامة، وتعني القيام بالمسئولية على وجهها، فهذه إذا وجدت قلت نسبة الطلاق.
إذاً: نحب أن نؤكد هنا أنه لا ينبغي أن يعطى الجانب المادي أكثر مما يستحق في تقرير الزواج من عدمه، وقد قال الله عز وجل: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] هذه آية حاسمة في أن الفقر لا يجوز أن يكون مانعاً لنا أن نزوج من يأتينا؛ ممن يُرضى دينه وأمانته وخلقه لما سبق ذكره.
إذاً: هذه قضية تتعلق ببعض مشكلات الزواج سواءً في المهر، أو الزواج المبكر، وما استتبع ذلك من كلامنا استطراداً على البيت والأسرة.(79/11)
قضية الطلاق
وقضية الطلاق كثيراً ما يثيرها الكتاب، وأحياناً المسلسلات الإذاعية أو التلفزيونية، ولا شك أن هناك ممارسات خاطئة من المسلمين في موضوع الطلاق، ولكن الطلاق في حقيقته مشروع ولا يجوز أن يشكك فيه، بل منكره كافر بالدين؛ لأنه متقرر ولا شك، والإسلام دين واقعي، دين الحياة، ودين الفطرة البشرية، فلا يمكن التعامي أو التغافل عن الطبيعة البشرية، لماذا؟
لأنه قد يحصل خلاف، وقد يتبين عدم الوئام والتجانس على الرغم من كل ما وضعه الإسلام من احتياطات في الأسرة، فالأصل في الزواج أنه مبني على أسس تتعلق باختيار الزوجة، وأهمها قضية الدين والخلق، وأمور أخرى تأتي تبعاً، كالجمال ونحو ذلك؛ لكن الأساس هو الدين: {فاظفر بذات الدين تربت يداك} فإذا أخذ الإنسان بضوابط الإسلام في اختيار الزوجة، وكذلك الزوجة في اختيار زوجها؛ فإنه ستقل ولا شك نسبة الطلاق؛ لكن مهما كان فالطلاق مشروع؛ لأنه لا بد منه في بعض الأحوال؛ لأنه قد توجد مشكلة في البيت لا يحلها إلا الطلاق والانفصال؛ وأنتم تعلمون أن بيوتاً تقع فيها مشكلة لا يمكن أن تحل، يصلون فيها إلى حال لا يمكن لأحدهما أن يقبل الآخر، ويكاد بقاؤهما أن يكون كرهاً، وكل واحد سوف يظلم الآخر، وكل واحد سوف يتنكر لحقوق الآخر.
إذاً: تأتي أحوال الطلاق والانفصال فيها هو المخرج، فالأصل في الزواج كما قال الله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] فإذا لم توجد المودة ولا الرحمة فهناك حلول إسلامية تسبق الطلاق، وسوف أتكلم في هذا عن ثلاثة أمور:
أولاً: المراحل التي تسبق الطلاق.
والأمر الثاني: الطلاق المشروع.
والأمر الثالث: أخطاء المسلمين في فهم الطلاق أو في إيقاع الطلاق.
المراحل التي تسبق الطلاق:(79/12)
مبدأ الكراهية ليس مسوغاً للطلاق
أولاً: مبدأ الكراهية ليس مسوغاً للطلاق، يجيء إنسان ويقول: أنا لا أحبها.
لماذا؟ هكذا ما أحبها.
جاء رجل إلى عمر رضي الله عنه، فعرض عليه مشكلته مع أهله، فقال: [[أنا لا أحبها، قال: وهل لا تبنى البيوت إلا على الحب؟!]] وهذا حق.
ومع الأسف أن الحب مما أساءوا إلينا فيه في وسائل الإعلام منذ عشرات السنين، فلا تكاد وسيلة إعلام إلا وتكلمك عن الحب المشين؛ حتى فسدت الأمزجة، فتجد الشاب يقرأ قصة غرامية، أو يسمع مسلسلاً إذاعياً أو تلفزيونياً، ويأتي إلى أهله وهو لا يرى إلا الذي في التلفزيون أو لا يتخيل إلا الذي في الراديو، ومعلوم أن هذا غير صحيح أبداً، ولا يمكن أن يوجد هذا الذي يُرى أو الذي يُسمع أو الذي يقرأ في الواقع؛ لأن طبيعة الإنسان حينما يعيش مع أهله خمس سنوات، أو عشر سنوات، أو عشرين سنة، فطبيعي أن توجد المشكلات، ولا يمكن تصور هذا الغزل المفسد والكلمات الساقطة التي يعبر عنها بأنها حب، هذا ليس هو الحب، ولهذا لم يعبر الله في القرآن بالحب، بل التعبير القرآني بالمودة، والمودة موجودة ولو بلغ عمر الواحد ستين سنة، كم تلاحظون من آبائكم وآبائنا، الواحد منهم عمره ستون سنة ويحنو بعضهم على بعض، هذه هي المودة، وليس الحب المشبع بالعاطفة التي تصوره الأفلام، فالله عز وجل سماه مودة، ومع هذا أيضاً هذا ليس سبباً إذا لم يحس به الإنسان أن تكون العلاقة مفصولة.
أولاً: مبدأ الكراهية ليس مسوغاً للطلاق، فالله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] فلم يقل: فإن كرهتموهن فطلقوهن.
إذاً القضية ليست هي مجرد قولك: أنا لا أحبها، بل القضية أن هناك مسئوليات، من بناء أسرة، ومفاهيم إسلامية واسعة، وكما قال عمر: [[وهل لا تبنى البيوت إلا على الحب؟!]] عندك أولاد وعندك المرأة ذات خلق ودين؛ كريمة، عفيفة، حافظة لنفسك، حافظة لنفسها، حافظة لمالك، حافظة لبيتك، أحياناً قد تتزوج صبية جميلة، وتفتن بها بينما هي سبب ضياعك وضياع مالك وأولادك، فليست هذه هي القضية، بل القضية أهداف عليا وعظمى في الأسرة، والله كم من امرأة شوهاء بَنَتْ رجالاً وأعدت أجيالاً، وكم حافظت وقامت بل لعلها قومت عوج زوجها وحفظته في سنين فقره وجهله، وحفظته في سنين بأساء مرت عليه، وقد لا يكون هناك حبٌ كبير، وقد لا يكون هناك جمال، وقد لا يكون هناك أشياء.
وليس الخير والمصلحة دائماً فيما يُحب ويشتهى {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة:216] بل قد تكون فيما لا يُحب ولا يشتهى، فالجهاد مثلاً: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {لا يفرك مؤمن مؤمنة} لا يفرك، يعني: لا يكره، أو ربما معناه: لا يطلق أو لا يبغض: {إن كره منها خلقاً رضي آخر} أنت حينما تكون بأعصابك وهادئاً، وجاء تفكيرك في قضية المفاصلة بينك وبين زوجتك، تنظر محاسنها، غالباً بنو البشر محاسنهم أكثر من مساوئهم، وليس هناك إنسان خالٍ من محاسن، بل لا يكاد يكون إنسان مساوئه (50%) من أخلاقه، فغالباً المساوئ تُعد، لكن المحاسن لا تُعَد، أمانة ودين وخلق وكرم وصبر، لعلكم تجزمون معي أن النساء أصبر من الرجال في كثير من المواقف، تصبر وتتحمل الإهانة، والأذى والإيذاء، واللوم تتحمل كثيراً.
إذاً: كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن كره منها خلقاً رضي آخر}.
إذاً هذه القضية في الطلاق.(79/13)
حل الخلافات عن غير طريق الطلاق
قضية ثانية: حل الخلافات عن غير طريق الطلاق، الإسلام شرع طرقاً أخرى غير الطلاق، الطلاق يأتي في آخر القائمة، وآخر الدواء الكي، فحينما تنظر لمشكلاتك البيتية والأسرية تكون نابعة من أمر -أحياناً- لا دخل للزوجين فيه، تجيء مشكلة من أمها، أو من أبيه أو من أمه، أي: ليس لها علاقة بينهما، بإمكان الإنسان الحكيم أن يحل المشكلة.
لماذا مشكلة الأم تجعلها على أم أولادك، أو مشكلة أو أبيك أو أبي زوجتك؟
إذاً: أحياناً المشكلة ليست نابعة من نفس البيت، بل من شيء خارجي، بل أحياناً تجدها تافهة، وقد يكون الزوج نفسه مسيئاً، كأن يكون صاحب أسفار، أو صاحب طرق ملتوية، فهذه قضية أخرى، وقد تكون المشكلة نابعة من أمر لا دخل للزوجين فيه، فقد يكون من تدخل أقارب الزوجين أو أحدهما في شئون هذه الأسرة الصغيرة، فما الحل؟
الحل يكون بتفقيه هذه الأسرة بمسئولياتها، والخطأ في تصرفاتها، أحياناً قد يذهب الزوج إلى بعض الوجهاء، أو إلى بعض أقاربه الوقورين، ويحكي له بطريقة معينة مؤدبة؛ ويستشيره في بعض الأشياء، بحيث أن هذا الوقور، وهذا الناضج العاقل، صاحب الكلمة النافذة يذهب إلى الأسرة ويتحدث معها، بحيث تحل القضايا بهذه الطريقة، أيضاً هذه طريق قبل الوصول إلى مرحلة الطلاق.(79/14)
المراحل التي تسبق الطلاق
فإذاً قد تكون المشكلة غير نابعة من الزوجين، لكن إذا تحقق الخلاف وكان سببه الزوجين، فيؤخذ في ذلك قوله سبحانه: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً * وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} [النساء:34 - 35] وقضية أخرى في الزوج: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128] إذاً هذه كلها مراحل قبل الطلاق إذا كانت هناك مشاكل.(79/15)
الوعظ
المرحلة الأولى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34] النشوز: هو الخروج عن الطاعة، فإذا خفت أن زوجتك فيها نوع من النشوز والتعالي وعدم الاستجابة، وإعطاء الحقوق فيبدأ الوعظ، والوعظ قد يكون سلماً طويلاً، وقد يكون طريقاً، وعظاً بنفسك، وعظاً بغيرك، وعظاً عن طريق وسائل جميلة؛ خاصة في وقتنا الحاضر، قد يكون شريطاً، قد يكون كتاباً، هذه طرق للوعظ، تذكرها وتجلب لها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، تجلب لها كتاب رياض الصالحين وتجلب بعض الكتب، خاصة في الوقت الحاضر -أيضاً- ظهرت كتب جميلة في تربية الأولاد، وفي حق الزوجة، ليفقه الزوج وتفقه الزوجة، ويكون ثمَّ حل.
إذًا: الوعظ والتذكير وقد يكون بالتخويف من الله عز وجل، وقد يكون بذكر الأسرة ومصيرها، والأولاد ونحو ذلك، وقد يكون بعرض المشكلة فيما بينهما: الإيجابيات والسلبيات والحلول والأطروحات إلخ.(79/16)
الهجر في المضجع
{فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34].
المرحلة الثانية: الهجر في المضجع، ولاحظ التعبير القرآني فما هو المضجع؟
يعني: الفراش، لا تهجرها في البيت أمام الأطفال، ولا أمام أمها، هذه ليست تربية، التربية بينك وبينها، والهجر في المضجع شديد على النساء؛ لأن القضية سرية، ويجب أن تبقى قدر الإمكان سرية؛ وليس إذا حدث حدث رفعت سماعة الهاتف: يا أمي! زوجي فعل وفعل، وهو كذلك يتصل.
هذا ليس من مسالك الإسلام، مسالك الإسلام أنه كلما كان سراً كان أقدر على الحل، وإذا خرج زادت المشكلة، ولهذا نعرف فيما يُعرض أن بعض النساء عندها من التحمل ما لا تكاد تذكر لأهلها أي كلمة، ولا يعرفون شيئاً، وهو يحافظ على البيت، ويحافظ على السرية، كما أن بعض الأزواج كذلك يجب أن يحفظ سر بيته ويعالج قضاياه بنفسه قدر ما يستطيع ولا ينقل إلى الآخرين شيئاً أبداً، ولهذا قال: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34] يعني: في الفراش، في غرفة النوم، وليس أمام الأولاد فلا يعرف الأولاد شيئاً، ولا ينبغي، ولهذا من الخطأ رفع الأصوات أمام الأولاد تشاجراً وسباً؛ فضلاً عن أنه يسب الأولاد ويسب أمهم، بل ويسب نفسه ويقول: يابن الفلان، يابن كذا وكذا، وهو يعني نفسه! هذا ليس سلوكاً، ولا تحل به المشكلات، ينشأ الابن وهو يرى أباه سباباً لأمه ولنفسه ولولده وللناس أجمعين.
{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34] هجر في المضجع لا ينبغي أن يتجاوز دائرة الزوجين نفسيهما.(79/17)
الضرب
{وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] الضرب أيضاً ضرب تأديب لا ضرب تعذيب؛ إذا كان الضرب مفيداً، وإذا كان لا يفيد؛ لا تضرب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {واضربوهن ضرباً غير مبرح} غير مؤلم، ومثَّل النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يضرب أحدكم زوجه ضرب العير ثم يأتي من الليل ويعلوها} تضربها في الضحى وفي الليل!
هذه بهيمية، فإذا كان هناك ضرب؛ فيكون للتأديب، هذا إذا كنت ترى أن الضرب يفيد، أما بعض الناس -فيما ينقل لنا- فإنه يضربها بالعقال أو بسوط، وهذا ليس بضرب، وهو لا يؤدب ولا يفيد، إنما يراد ضربٌ يؤدي -فعلاً- إلى نتيجة، لكن الذي لا يؤدي إلى نتيجة لا يجوز؛ لأنها مسلمة ولا يجوز أن يُعتدى على مسلم بغير حق، ولا يجوز ضرب التعذيب؛ إلا إذا كان حداً شرعياً، فهذا شيء آخر، والحد الشرعي له درجات أيضاً أربعون، ثمانون حتى الموت، وهذا شيء آخر.
حتى التأديب لا يجوز أن يضرب فوق عشر، فينبغي للضرب أن يكون للتأديب لا للإيذاء والتعذيب، هذا إذا احتيج إليه ويكون في آخر المراحل أيضاً؛ لأن المرأة أحياناً من مجرد رفع الصوت تبكي مباشرة، أو حتى قد يكون فوق ذلك بقليل، مع أني أنصح فعلاً أن الإنسان بقدر ما يستطيع عليه أن يلاحظ طبائع النساء وألا يلجأ كثيراً إلى التعنيف؛ لأنك إذا كنت رجلاً كثير اللوم والشكاية، يكون كلامك لا قيمة له، لا مع أولادك ولا مع زوجتك، فالذي يكون كثير الشكاية والكلام، والسب، ولا يأكل إلا ويسب، ولا يدخل إلا وجبينه مقطب وعيناه جاحظتان، هذا ليس بصحيح! إنما ينبغي أنك تتحرى أنك لا تتكلم حتى ولو كان في نفسك شيء، فلا تكن دائماً كثير الشكاية لا مع نفسك ولا مع أولادك.
وهذا فيما يتعلق بالزوجة.(79/18)
الصلح
أما فيما يتعلق بالزوج، فإن الله عز وجل يقول: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحا} [النساء:128] إذا رأت المرأة أن زوجها هو الذي فيه العلة، والمشكلة منه وليست منها: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} [النساء:128] نشوزاً: بمعنى أنه يقصر في حقها، أو إعراضاً، يعني: ضعف في الميول إليها؛ وقصة سودة هي قصة سبب نزول الآية، وذلك أن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها كبرت وكأنها أحست أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يميل إليها في ليلتها، فأرادت أن تبقي على زوجتيها مع النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: {يا رسول الله! إنني أترك ليلتي لـ عائشة وأبقى زوجة} فإن تنازلت -يعني: نوع من الصلح- عن حقها، فهذا نوع من الصلح فأحست بإعراض فتنازلت؛ فجعلت ليلتها لـ عائشة، فأحياناً قد تعمد المرأة إلى هذا؛ لأن المقصود هو المحافظة على الزوجية والبيت والأولاد؛ لأنه لا أشق على الرجل وعلى المرأة أن يكون أرملاً، أو أن يكون من غير زوجة ومن غير زوج، فهو أمر شديد وغير طبيعي، وأمر يؤدي إلى سلبيات كثيرة في المجتمع، فمن هنا ينبغي أن يحافظ عليه الزوجان وأن يعينهما المجتمع، فالمجتمع بنفسه يتعاضد ويتعاون في أن يهيئ الأجواء الكريمة لجميع البيوت وفي أن تعيش في عيشة رضية، فيعيش الزوجان فيما بينهما مع أولادهما.(79/19)
التحكيم
وإذا لم يجدِ هذا ولا هذا هنا لا يلجأ إلى الطلاق: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] وهذه لا تكاد تكون موجودة أبداً في الناس، إنما في ليلة وعشية إلى طالق بالثلاث وذهبت -نسأل الله السلامة- وتصبح المرأة تذهب إلى بيت أهلها، وزوجها قد قال هذه الكلمة في الليل!!
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] وعد من الله عز وجل: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] شرط وجزاؤه، وما وعده الله سيقع حتماً: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] وهذه من أهم القضايا، فإذا وصل الحال أنه ما نفع هجر ولا تأديب ولا ضرب ولا وعظ ولا تنازلات ولا غيره، إذاً: يلجأ إلى الحكم من أهله، والحكم من أهلها، وهؤلاء يكونون عقلاء، فاهمين القضية بحيث تُحل: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] طبعاً اختلف المفسرون رحمهم الله فيمن هو المخاطب في قوله: (يريدا) هل هو الزوجان أم الحكمان، على كل حال والحل مطلوب من جميعهم، من الزوجين ومن الحكمين، ولهذا يروى أن عمر رضي الله عنه وضع حكمين في مشكلة عائلية فجاءا فقالا له: [[لم نستطع التوفيق، فقال: ارجعا أصلحا نيتكما]] ما معنى أصلحا نيتكما: غالباً قد يكون أحدهما انحاز، يعني: مال إلى أحد الطرفين، قد يكون مال إلى عائلته أو إلى أهله لأنه واحد من طرف، وواحد من طرف؛ فإذا لم يريدا إصلاحاً لا يكون التوفيق، أما إذا أرادا الإصلاح يكون التوفيق، فقال عمر: [[ارجعا فأصلحا نيتكما صدق الله وكذبتما {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35]]] فيقال إنهما رجعا وأعادا القضية فحصل التوفيق.
إذاً هذا وعد من الله عز وجل.
إذاً هذه مرحلة.(79/20)
الطلاق المشروع
إذا لم تجدِ جميع هذه المراحل ولاحظوا طولها وكم سوف تستغرق؟ حينها يُصار إلى الطلاق، وإذا وصلنا إلى الطلاق كيف يكون الطلاق؟
الطلاق المشروع لا يكاد يعرفه أحد من المسلمين العامة، أو لا يفقهه أحد، أو لا يمارسه أحد مع الأسف، الطلاق المشروع: هو الطلاق السني، والطلاق السني: أن يطلقها في طهر لم يطأها فيه طلقة واحدة؛ لأن الطلاق هنا شرع -أيضاً- طريقاً لحل المشكلة من جهتين: إما أنه فعلاً يحلها وتعود، وإما أن يحلها وفعلاً تنتهي، فتكون مفاصلة، فإذاً شرع طلقة؛ لأنها الحل ولا يكون الطلاق سنياً إلا أن يطلقها في طهر لم يطأها فيه طلقة واحدة، ما معنى ذلك؟
مثلاً: اختلف الزوجان، ومروا بالمراحل التي ذكرنا: الوعظ، والهجر، والضرب، والحكمين، وما نفع، إذاً نقول له: طلق، فيجيء فيقول: زوجتي حائض، نقول له: انتظر زوجتي نفساء، نقول له: انتظر.
إذاً حينما يفكر فعلاً وينتظر وقد تكون طاهراً ويقول: إني وطأتها، فنقول له: انتظر حتى تحيض، ثم تطهر، ثم طلقها، غالباً قد يستغرق هذا عشرين يوماً، فالعشرون يوماً هذه وهو يفكر: والله أنا عندي نية أني أطلق زوجتي، متى؟
بعد عشرين يوماً؛ لأن هذا الطهر قد وطأتها فيه وسوف تحيض، وهي أيضاً تفكر، إذاً أمامكم فرصة، فبعد عشرين يوماً في اليوم الفلاني سيكون كذا؛ لأنه سيكون كذا، إذاً يفكر فيها حقيقة وفرصة للتفكير ماذا سيترتب على الطلاق، الأولاد، البيت، غالباً إذا فكر في الطلاق يتذكر المحاسن، بل حينما يطلق تجده يبكي؛ لأنه تذكر المحاسن، تذكر محاسن زوجته وهي تذكرت محاسن زوجها، وتذكروا الأولاد ومصير الأولاد.(79/21)
فوائد الطلاق المشروع
الطلاق شرعه الإسلام لحل مشكلة وليس لإيجاد مشكلة، ومع الأسف فإن الناس يجعلونه يخلق مشكلة.
إذاً: حينما يطلقها في طهر لم يطأها فيه غالباً يحتاج إلى وقت، فهو غالباً قد يكون في طهر قد وطأها فيه أو تكون حائضاً، حينئذٍ يطلق، وإذا طلق طلقة واحدة، الطلقة الواحدة هذه تكون في العدة، عدة لا تقل على ثلاثة أشهر، ثلاثة أشهر وهو يفكر وهي تفكر كم سيتذكرون المحاسن؟ كم سيتذكرون المشكلات؟ وبعد ذلك كيف ستكون حالهم؟
فإذاً الطلاق المشروع هو الطلاق السني كما قلنا: إذا أراد أن يطلق، يطلق في طهر لم يطأها فيه، فإذا طلقها طلقة واحدة، إذاً تكون العدة إما ثلاث حيضات إذا كانت ممن يحيض، أو ثلاثة أشهر إذا كانت يائسة، أو وضع الحمل إذا كانت حاملة: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] هذه واحدة.
فإذاً: في الإسلام إذا طلقها طلقة واحدة، هي ما زالت زوجة، وتجلس في البيت، لكن كيف يكون شعور الزوج وقد طلق زوجته وهي في البيت داخل غرفة طبعاً غير متحجبة فهي زوجة، أنا أتصور أنه لو كان قريب عهد بوقاع سوف يتعلق بها، ولهذا الله عز وجل يقول: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1] فتجلس حتى تكون أمامه؛ فإذا كانت أمامه غالباً يكون الوقاع، ويكون طبعاً مراجعة، حتى يقول بعض الفقهاء: لو قبلها كانت مراجعة.
إذاً: الإسلام أتى بالطلاق لا ليخلق مشاكل، إنما ليتخلص من مشاكل، فهو إما أن يتوب فعلاً إذا كانت المشكلة عويصة، وسوف تنتهي العدة وتستريح بإحسان، وإما أنهما يستعيدان المحاسن والقضايا، وحينئذٍ تعود المياه إلى مجاريها.
فإذاً طلاق واحد، وعدة ثلاثة أشهر، وثلاث حيض، وموجودة في البيت ماذا يبقى؟ اجلسي وراجعناك، فالقضية تعالج بهذا الطريق، بالله من يفقه مثل هذا ومن يمارس مثل هذا إلا من رحم الله، بينما الحاصل أن الرجل لا يجد شيئاً يذكر كأن يجد العشاء مالحاً وهي في الساعة الحادية عشرة من الليل فيقول: ما هذا؟ ثم يطلق بالعشرة أو بالخمسين، ولا تأتي الساعة الثانية عشرة إلا وهي في بيت أبيها وانتهت القضية.
أو أن الثوب ليس مكوياً أو الزرار مقطوعاً، أو أن الولد لماذا يبكي أو البنت لماذا تصيح، فهذه ممارسات تعلمون أنها تدل على أكثر من أن نسميها حمقاً، ومعلوم أن الطلاق ما شرع لمثل هذا.(79/22)
الفهم الخاطئ لتطبيق الطلاق عند المسلمين
إذا كان ما تقدم هو الطلاق السني فظاهره أن المقصود هو علاج مشكلة الخلاف بين الزوجين عن طريق هذا التصرف الذي هو عبارة عن وقف للعلاقة الزوجية، وليس فصلاً لها أو حسماً، فيتوقف وينظر، ومثله هذا إذا أوقفت موظفاً وقلت أوقفوه، يعني: لا فُصِل ولا شيء إنما موقوف حتى يُتحرى في القضية، وليس فصلاً لها أو حسماً لعلاقتهما، إنه أشبه بإيقاف موظف كما قلنا ريثما يُدرس الموضوع.
أما ما يتعاطاه المسلمون في أمور الطلاق أو كثير من المسلمين في أمور الطلاق، فهم بعيدون فيه عن الأحكام الصحيحة، والمقاصد النبيلة لهذه الأحكام.
إنهم يستخدمون الطلاق كسلاح يشهرونه في وجه المرأة إن لم تفعل كذا، كقولهم: إذا ذهبت لأمك إذا ما طبختي إذا ما أكلتي إذا ما وقفتي إذا ما قعدتي سبحان الله! إن لم تفعل كذا، أو إن أقدمت على كذا، أو إن لم يفعل فلان كذا، حتى أحياناً يدخلها في مشكلة وهي مسكينة جالسة في البيت وهو في المكتب؛ يا فلان! إذا ما جاء الملف تركتها! ما علاقة بنت الحلال في المطبخ في الملف الذي عند فلان؟!
فمع الأسف أن هذه هي الممارسات الخاطئة! إن لم يفعل فلان كذا فزوجته عليه كذا، وما ذنب هذه المسكينة التي في بيتها مع أطفالها؟!
ومن الفهم الخاطئ كذلك أن المطلقة حينما تسمع هذه الكلمة الثقيلة تخرج من البيت وتذهب إلى أهلها، وهذا خطأ، فحتى المطلقة طلاق السنة تبقى في بيت زوجها، بل سماه القرآن بيتاً لها: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1].
لعلي أكتفي بهذا القدر وأعرف أن الحديث يطول وينبغي أن يطول؛ ولكن حسب الوقت المتاح وأرجو أن تتاح فرصة أخرى في مناسبات قادمة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(79/23)
الأسئلة(79/24)
حلول عملية ونصيحة للأبناء والآباء في قضية الزواج
السؤال
فضيلة الشيخ! لقد ناقشتم المشاكل التي تحيط بقضية الزواج وأوضحتم بما فتح الله عليكم به حلول هذه المشاكل، وهناك بعض الناس نسأل الله أن يوفقنا وإياهم لما يحب ويرضى قائمون بعملية التوفيق بين الشباب والشابات، فنريد حلولاً عمليةً، ونريد نصح الآباء والإخوان على ذلك؟
الجواب
أرجو أن ما ذكرته فيه إشارات إلى مثل هذا فيما يتعلق بالآباء والأمهات، والذي هو في موضوع القضايا المادية، لا يجوز أن تكون هي المشكلة -وكما قلت- فمع الأسف تغيرت المقاييس عند الناس، أكثر ما يؤثر في الناس القضايا المادية؛ إذا كان موظفاً أو موظفة أو كانت بينهما محاسبات، فكثيراً ما يكون هو المشكلة، ولا يكون الحل مفيداً غالباً إلا حينما يترفع الآباء والأمهات عن محاسبة أولادهم وبناتهم في هذه القضايا.
وأيضاً ينبغي للزوجين حقيقةً إذا كانوا ممن وسع الله عليهم، أو كان لهم أشياء ألا ينسون، فالآباء لهم حق ولا شك، والأمهات لهن حق، وينبغي أيضاً أن يعذر الأب والأم حينما يتعلق بابنه أو يتعلق بابنته؛ لأن الأب والأم يشعران فعلاً -وهم محقان- أن على أولادهما ديناً في أعناقهم نحو أبيهم وأمهم وهذا حق، وينبغي للبنت أن تحسس وتشعر أباها وأمها فعلاً أن لهما معروفاً، وأن لهما جميلاً، وأنها مطوقة بجميل يجب أن تؤديه، فيجب أن تشعر بهذا حتى ولو بالكلمات الطيبة أحياناً، وقد لا يلزم أن يكون كل ذلك عن طريق المادة؛ وإنما حتى عن طريق الاعتراف بالجميل، فهذا مما يشرح الصدور ويجعل النفوس تتقارب، أما تعطي مالاً وأنت غليظ القلب وغليظ اللسان فهذا لا ينفع، فالكلام الطيب والكلام اللين والهدايا هذه ينبغي أن تسود بين الأسر، فإن في هذا حلاً لكثير من مشكلاتهم مع أنه -كما قلت- يجب أن نصحح كثيراً من المفاهيم، وبخاصة ما يتعلق بالماديات، بحيث ننشر فينا الأخلاق الكريمة والشهامة والمروءة والعفة والترفع عن أوساخ الناس.(79/25)
قضية الزواج بالثانية ونصيحة لمن يواجه مشكلة فيها
السؤال
أنا شاب متزوج، وأريد الزواج من أخرى، وقد حاولت كثيراً ولكن دون جدوى، فإنهم عندما يعلمون أني سأتزوج؛ لا يوافقون على زواجي، فهل من نصيحة؟
الجواب
بعض الإخوة إذا عرفوا أنه متزوج أو عرفوا أن عنده أولاداً حتى ولو كان أرملاً، فإن بعض الناس لا يرغبون فيه، وهذا يسبب نوعاً من التخوف على مستقبل الزوجة، فيكون هناك نفرة وشيء من التنغيص، وكذلك إذا كان عنده زوجة؛ لأنه توجد الغيرة بين النساء، وهذا أمر طبيعي وجبلي لم تسلم منه حتى أمهات المؤمنين اللاتي طهرهن الله عز وجل وأذهب عنهن الرجس؛ لكن أيضاً هذا يخضع للتوعية حقيقة، لكن هذه قد تعالج، لكن بشكل عام من الصعوبة أن تتحكم في عواطف الناس ولو قلت كلاماً عاماً، ومقابل هذا نلاحظ نساءً -حقيقة- فضليات قد خطبن هن لأزواجهن فتيات كريمات؛ لأنهن يعشن مشكلة، أو عندهن إحساس بالمشكلة، فهذا مقابل هذا، ومع هذا أنا أرى أنك تحاول -مثلاً- ممن تخطب منهم أنك توسِّط أناساً، وخاصة إذا كانوا من ذوي التأثير بالكلمة، أو بالعقل والرزانة، أنه من الممكن أن يقنعوا من تخطب منهم بأن يرضوا بوضعك.(79/26)
مسئولية الأب في تزويج ابنه
السؤال
يا شيخ! أنت تقول أن الزواج المبكر نافع، ولكن بعض الآباء يقول للابن: ما زلت صغيراً وما زلت طالباً، فيرفض وإن كان ابنه قد اكتمل عقله، وأيضاً هؤلاء الآباء يعتقدون أنهم غير مكلفين بتزويج الأبناء، رغم أن الولد يقع في المحرم؛ لأنه كبير وقد بلغ، وأبوه مستطيع أن يزوجه ويعطيه المال، بل أن بعض الناس قد يعطي ابنه في اليوم خمسمائة ريال كمصروف، فهل من نصيحة؟
الجواب
هذا هو عين المشكلة التي أثرناها وهي قضية أن الآباء والمجتمع عموماً قد أوتي من نوع الثقافة التي جلبت، ومن خلال وسائل الإعلام كلها بأنواعها، بل حتى بما فيها من مسلسلات وصحف، وبما فيها من إذاعة وتلفاز، وبما فيها من قصص وكتب، حتى الكتب كثير منها يتحدث عن مثل هذا، خاصة في مثل هذا، حتى بعض الدراسات النفسية والتربوية تنحو هذا المنحى.
فهو -مع الأسف كما قلت- نوع من الانتكاس أو الخوف الفكري الذي انتاب كثيراً من الناس، وإلا فالقضية كما أوضحت وفصلت، وأما قضية أن يكون الأب ملزماً بزواج ابنه، فهذه القضية قد لا يكون فيها وضوح في الإلزام بأنه يجب عليه أن يزوجه، لكن لا شك أنه إذا كان قادرًا وعنده قدرة فهو مطالب إلى حد ما، وخاصة في عموم قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] أنكحوا: بمعنى زوجوهم، فهذا أمر وإن كان العلماء قد قالوا: إنه أمر للإرشاد وللندب والاستحباب، وليس للوجوب، ومع هذا لا شك أنه إذا كان قادراً على أن يزوج ابنه، وابنُه يُخشى أن يقع في محظور أو في محرم؛ فإني أخشى أن يتحول الأمر إلى إيجاب على اعتبار أنه ما أدى إلى محرم فهو محرم، وما كان سبيلاً إلى الواجب قد يكون واجباً.(79/27)
حكم الزوجة التي لا تصلي
السؤال
فضيلة الشيخ! زوجتي لا تصلي فماذا أفعل معها؟
الجواب
لا شك أن الصلاة هي عماد الدين، وهي أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين، ولا أعلم مسلماً ينتسب إلى الإسلام ثم لا يصلي! وبخاصة أيضاً إذا كانت في ديار الإسلام وفي مجتمع ولله الحمد مثل مجتمعنا! ومجتمعنا ولله الحمد ما زال يحظى بشعائر الإسلام ظاهرة ولله الحمد، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يديم علينا نعمته، وأن يعز دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يبصر المسلمين بأمور دينهم، وأن يجعلنا مستمسكين بالحق، دالين عليه وهادين إليه، وأن يجعلنا هداة مهتدين.
فنحن ما زلنا ولله الحمد على خير وأمور كثيرة ولله الحمد موجودة عندنا ومحافظ عليها لا تكاد تجدها في كثير من بلاد الإسلام ومن أهمها الصلاة، والصلاة عندنا معروفة ومقامة في جماعاتنا، وفي بيوتنا، وفي مساجدنا، ومظهر من أكبر المظاهر التي تدل على إسلامنا في هذه الديار ولله الحمد، فأستبعد حينها أن تكون مسلمة وتنتسب إلى الإسلام وهي ترى أمها تصلي وأختها تصلي بل بنتها تصلي أحياناً إذا كانت قد وصلت حد المطالبة بالصلاة؛ ثم لا تصلي! لا شك أن النصيحة الأولى هي أن تذكرها بالله عز وجل، وأن ترى ما يؤثر فيها سواءً عن طريق كتاب أو شريط أو عن طريق رفيقاتها وزميلاتها إن كان لها معارف من الصالحات ومن الجيران، أو من الأقارب والمعارف.
فأنا أنصح -فعلاً إن صح التعبير- أن تسلط عليها بعض هؤلاء الصالحات ويتابعنها، قد تكون المتابعة بطريق مباشر أو غير مباشر، وتجتهدَ في هذا وتكثر منه ولكن تنوع في الطرق, لكن نسأل الله السلامة فيما لو لم تستجب ولم تقم بالصلاة وفعلاً أصرت، فإنها قد تكون مفارقتها ولاشك بعدما تفشل جميع الطرق والمحاولات أن تصلي نسأل الله السلامة- خيراً من إبقائها؛ لكن لا يكون ذلك إلا بعد الطرق التي أسلفت.(79/28)
حكم زواج الأقارب وحكم استشارة الطبيب قبل الزواج
السؤال
ما رأيكم فيمن يرى منع زواج الأقارب، ويرى أن الزواج بالأقارب يسبب أمراضاً عديدة تصيب الجيل الجديد، منها التخلف العقلي، وهل يعرض الرجل والمرأة اللذان يريدان الزواج نفسيهما على الطبيب ليحدد ما إذا كان يمكن الزواج أو لا؟
الجواب
لا شك أن الأصل هو الجواز والإباحة، بل في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أسوة وأعظم بها من أسوة! حينما زوج ابنته علياً رضي الله عنهما وعن نسلهما، فهي بنت ابن عمه وهم أقارب، ولا شك طبعاً في الجواز ولا أحد يقول إنه غير جائز، لكن القضايا الطبية أو المعينة وهذه تبدو لي قضايا عينية، أما أن القاعدة كلها: منع زواج الأقارب فهذا ليس جائزاً، والفقهاء لهم كلمة قريبة من هذه فهم يقولون: الزواج من القريبة أصبر ومن البعيدة أنجب؛ هكذا يقولون؛ الزواج من القريبة أصبر؛ لأنها تصبر عادة وتتحمل كثيراً والمحافظة على الرحم والمحافظة على القرابة تجعلها تتحمل كثيراً، ومن الغريبة أنجب: بمعنى أن الولد يكون أكثر نجابة.
وأيضاً ابن عمر أمر بالإغراب، أن يُغرب بمعنى يتزوج من البعيدة، فعلى كل حال لا شك أن الأصل هو الجواز، وأما إذا كانت هناك قضية خاصة، على معنى أنه إذا كان هناك فعلاً مرض معين أو حالة معينة يُخشى منها، كما لو كان في الأسرة مرض معين، مثلاً مرض وراثي؛ فهذا شيء آخر، ولا شك أن العلم الحديث توصل إلى ما لم يتوصل إليه الأقدمون، والأشياء المدركة بحس أو المدركة بشيء بشرط أن تكون فعلاً مقاييس معينة ليست تخمينية فهذه لا مانع من الأخذ بها.(79/29)
حكم الخلوة بالمراهقة
السؤال
فضيلة الشيخ! ما قولكم في بنت تبلغ من العمر العاشرة وهي من ذوات الأجسام الكبيرة يأتي إليها رجل ليدرسها وعندما أنهى والديَّ عن ذلك، يقولان: لا، هذه صغيرة، فما رأيك في هذا؟ وكثير من هذه المشاكل واقعة؟
الجواب
البلوغ محدد بواحد من ثلاثة أمور بالنسبة للنساء:
1 - إما بالحيض.
2 - وإما ببلوغ خمس عشرة سنة.
3 - وإما بالاحتلام وإما بالإنبات، وإن كان الاحتلام قد يكون لظروف النساء أقل، لكن المرأة لها ماء كما أن الرجل له ماء، لكن بالإنبات، أو بلوغ خمس عشرة سنة أو الحيض، فإذا كان واحد من هذه الثلاثة حينئذٍ تكون المرأة بالغة مكلفة يلزمها ما يلزم النساء من الحجاب، ومن التكاليف الشرعية كلها.
أما إذا كانت دون ذلك -وأحياناً بعض الفقهاء يسمونها المراهقة التي لم تبلغ بعد- فيذكر الفقهاء أنها مراهقة كبنت العاشرة أو الحادية عشرة، وقد تختلف -كما ذكر السائل- الأجسام في هذا السن وذلك بحسب بيئتها أو غذائها، أو أقليمها.
مثلاً: إذا كانت من الأقاليم الحارة، والأقاليم الباردة وقد ذكر العلماء ذلك، وهذا شيء معروف أيضاً في بني البشر أنهم يختلفون باختلاف أجناسهم وهيئاتهم وأشكالهم وألوانهم ونماؤهم من شمال وجنوب، من حار وبارد إلخ.
فإذا كانت فعلاً على نحو ما ذكر فهذه إن لم تكن بالغة فينبغي الحذر، لكن إذا كانت بالغة فلا يجوز أن يخلو بها أجنبي، أما إذا كانت دون ذلك، فإذا كانت تُشتهى ويُخشى عليها أو منها الفتنة فإنه أيضاً لا يجوز، أما إذا أُمنت الفتنة أو كان معها من لا تكون به خلوة، أو ليرفع الفتنة مع الالتزام بالأمور الشرعية؛ فهذا لا حرج فيه وإن كان هذا الحذر الذي ذكره السائل ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار.(79/30)
حكم شراء الفيزة وبيعها بضعف السعر
السؤال
ما حكم الشرع فيمن يشتري فيزة ثم يبيعها بضعف السعر؟
الجواب
لا شك أن هذا خطأ، وهذه أولاً أمور تنظيمية تؤخذ في الاعتبار؛ لأنه أمر بها ولي الأمر، والأصل في مثل هذه الأمور المباحة إذا نظمها ولي أمر للمصلحة العامة أنه يؤخذ بها، ومخالفتها لا شك أنها تؤثر على ما قُصد من الأمر من مصلحة، وإتيان مثل هذا فيه دناءة لا شك، كما أنه قد يكون فيه مضايقة للإخوة الوافدين الذي يرهَقون بمثل هذه الأمور.(79/31)
تنبيه الكفلاء في تعاملهم مع مكفوليهم
السؤال
الرجاء تنبيه الكفلاء أن يتقوا الله في مكفوليهم حيث يأخذوا منهم مالاً كبيراً بغير حق، وأن يتقوا الله بأن لا يستقدموا إلا الصالحين إلى هذه البلاد.
الجواب
لا شك أن هذه قضية يجب التنبه لها، وإخوتنا الوافدون لهم حقوق علينا وبخاصة من جاء من المسلمين، وطبعاً المسلمون معروفة حقوقهم، والذين جاءوا بعقد أو جاءوا بذمة لهم حقوق أيضاً في حدود هذا العقد وفي حدود الذمة التي بينها الإسلام، ومن أهمها المحافظة على حقوقهم المالية، وإعطاؤهم أجرهم وافياً غير منقوص، وكذلك يعطى أجره قبل أن يجف عرقه، وكذلك من أهم شيء ألا يكلفه ما لا يطيق، فإن هذا لا يجوز وإنما في حدود ما كلف به، وألا يرهق من أمره عسراً، حتى الرق لا يجوز التعسف فيه، فضلاً عن هذا -أخ مسلمٌ أجير- فلا يجوز أبداً التسلط عليه أو إيذاؤه، سواء بالتهديد فيما يتعلق بالأنظمة أو فيما يتعلق بجهل حقه، أو بخس حقه؛ فإن هذا لا يجوز.
وأخشى أن يكون الكسب من هذا فيه نوع من الكسب الحرام، حينما تأخذ من مكفولك أو من الذي يعمل عندك أو من المستقدم عندك شيئاً يرهقه، أو تأخذ منه شيئاً على غير ما اتفقتم؛ فإن هذا كله يؤدي إلى الكسب الحرام -نسأل الله السلامة- فضلاً عن أن الأخوة الإسلامية تقتضي الرفق بهم، وبخاصة أنك تعلم أنهم ما جاءوا إلا ليطلبوا الرزق لهم ولذويهم هناك، فلو تذكرت نعمة الله عز وجل عليك أن جعلك بين أهلك وذويك، وأن كانت يدك قد نقول أنها يد عليا، ولكن لا شك أنه شريف حينما عمل وحينما أخذ كسبه بعرق جبينه، لا شك أنه كريم وشريف، ولكن أيضاً احمد الله عز وجل أنك في بلدك، فالغربة شديدة، فينبغي أن نقدر لإخواننا غربتهم، وأن نقدر لإخواننا بعدهم عن أهليهم، ولهذا لو كنا نملك أن نعطيهم إجازات أو أن نسمح لهم أو كذلك نعطيهم حقوقهم فيما يتعلق -بالتأكيد- بأوامر الإركاب ونحو ذلك، على حسب ما جرى في العقد؛ لأن العقد غالباً قد يتضمن إركاباً، وقد يتضمن سفراً، وقد يتضمن حجاً وعمرة، وقد يتضمن أشياء، فكل هذه يجب أن نؤديها بطيب من أنفسنا، ويجب أن نشعر بإخواننا.
بل قد يكون علينا أمر أكثر من ذلك، وهو أنه كما قلت قبل قليل أننا ولله الحمد مجتمعنا مازال فيه خير كثير، وفيه فضل وفيه تمسك بالدين، بينما قد يكون أخونا هذا الوافد قد جاء من بلاد مسلمة فيها تفريط فحق أن نعلمه، وحق أن نريه من سلوكنا الإسلام مجسداً، أما أن يرى منا مخالفة وظاهرنا الإسلام، بينما يرى في بيوتنا ويرى في باطننا، ويرى في تعاملنا غلظاً يحمد فيه الكافرين ولا يحمدنا فيه، ويقول: المعاملات في بلاد الكفار خير منكم، وهذا معلوم أنه دعوة سيئة للدين فضلاً عن أنه دعوى سيئة عن المجتمع، ولكن أكثر ما يهمنا هو ديننا، فعلينا أن نعلمهم، وأن نعلمهم بسلوكنا قبل أن نعلمهم أشياء نظرية، هذا الذي يمكن أن يقال.(79/32)
حكم من جمع بين امرأة وخالتها
السؤال
رجل جمع بين امرأة وخالتها وأنجب ستة أطفال من كل امرأة ولقد ذُكِّر كثيراً فلم يستجب، فماذا نفعل؟
الجواب
إذا كان كذلك فهنا ينبغي أن يُرفع في أمره؛ لأنه لا يجوز هذا أبداً، فلا يجوز أن يجمع الرجل بين المرأة وخالتها، ولا بين المرأة وعمتها، فهذا يجب أن يُذَكَّر، وإن لم يستجب فيرفع إلى بعض الجهات المسئولة إما لسماحة شيخنا الشيخ/ عبد العزيز بن باز أو رئيس المحكمة التي يقطن فيها هذا، حتى يُرى أمرُه لأنه لا يجوز أن يجمع بين امرأة وخالتها ولا بين امرأة وعمتها.
أقول قولي هذا وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه وسلم.(79/33)