ابدءوا بالتوحيد
إن التوحيد هو الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب، فما من نبي إلا وقد أمره الله أن يأمر قومه أن يوحدوا الله ويعبدوه ولا يشركوا به شيئاً؛ لهذا وغيره ذكر الشيخ أنه لابد من البداية بالتوحيد، وتكلم عن تعريف التوحيد والحث على تعليمه، وتكلم عن تعريف الشرك والحذر والخوف منه، وبين أن التوحيد داخل ومرتبط بجميع أحكام الإسلام، وهذا يدل على أهميته ووجوب تعلمه وتعليمه.(1/1)
لماذا الحديث عن التوحيد؟
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بعثه ربه بالهدى، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركنا على المحجة البيضاء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه أجمعين من الأنصار والمهاجرين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:-
فأحييكم بتحية الإسلام؛ فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته ثم أشكر للإخوة الذين رتبوا لهذه الدورة ترتيبهم، كما أشكر لهم دعوتهم وإتاحتهم الفرصة لِلَّقاء بهذه الوجوه الطيبة في هذه البقعة المباركة، في هذا البيت من بيوت الله، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ذلك في ميزان حسنات الجميع.
أيها الإخوة: الموضوع -كما سمعتم- ابدءوا بالتوحيد.
ومعلوم أن الموضوع ليس بجديد، والحديث فيه قد كثر، ولا أقول: إنه متكرر أو مردد كثيراً، ولكنه متتابع، وينبغي أن يتتابع الحديث فيه لأمور سوف تتبين -إن شاء الله- من خلال ما سألقي عليكم من أفكار وعناصر في الموضوع، وفيما بين يدي من عناصر سوف أتكلم عن التوحيد من حيث تعريفه وإثباته، ومن حيث احتفاء كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم به، ومن حيث جلائه فيما يسمى بآيات الأحكام أو أحاديث الأحكام، أو حتى ما يسمى بالفروع، وهذا يستدعي الحديث عن الضد، وهو الشرك والخوف منه، وكذلك قد نتحدث -إذا كان في الوقت متسع- عن طريقة تعليم التوحيد.
وسوف أبدأ بموضوع ما يسمى بأصول الدين وفروعه، وإن كانت العادة والمتبع في الترتيب العلمي أن يُبدأ بالتعريف أولاً، ثم تتدرج المعلومات في ابتناء بعضها على بعض، ولكن يبدو أن الحديث عما يسمى بأصول الدين وفروعه هو الذي يتجلى فيه.
لماذا نتحدث عن التوحيد؟
ولماذا نبدأ بالتوحيد؟
المتبع في ترتيب علمائنا -رحمهم الله- المتقدمين منهم والمتأخرين، والناظر في مناهج التاريخ أنهم يقسمون العلوم إلى: أصول الدين وفروع الدين، ويعتبرون أصول الدين هو الحديث عن التوحيد، ويسمونه -أيضاً- في بعض المصطلحات علم الكلام والعقائد وفروع الدين تعني الحديث عن الأحكام وقضايا الفقه والتشريع.
وانبنى على هذا قولهم: إن القرآن حينما تنزل في مكة كانت عنايته بالعقيدة وما يثبت العقيدة من قصص وأحوال الأنبياء مع أقوامهم، وما حل بالأقوام من عقوبات لمخالفتهم لأنبياء الله عز وجل.
ثم قالوا: إنه بعدما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أصبح الكلام عن التشريع والأحكام، وتنزلت الفرائض.
وهذا الكلام لا شك أن له ما يسنده وما يستدل له، من حيث أن الأحكام لم تتنزل إلا في المدينة، ما عدا الصلاة فإنها شرعت في مكة بعد عشر سنين، أما سائر الأحكام فإنها ما شرعت إلا في المدينة، وهذا كلام واضح وجلي ومعلوم من تتبع تاريخ التشريع.
ولكن -وهذا هو المهم- هل توقف الحديث عن التوحيد؟ وكيف تحدث القرآن عن التوحيد في كل مراحل تنزله خلال ثلاث وعشرين عاماً؟ وكذلك كيف كانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومسيرته منذ بعث إلى أن توفي؟ أين محل التوحيد من سيرته عليه الصلاة والسلام؟
هذه القضية -يا إخواني- جديرة بالبحث وبالتأمل لماذا؟ لأن الحديث عن التوحيد هو لب الدين، في كل وقت، بل في كل ظرف، والمخاطبون بالتوحيد ليس الكفار فقط، بل إن المسلمين يخاطبون بالتوحيد، ويخاطبون بالحديث عن التوحيد، ويخاطبون بتقرير وتثبيت التوحيد.
وذلك لأننا سوف نرى -من خلال تتبع التشريع- أن القضية ليست مجال تردد لمن أنار الله بصيرته، ولو ذكرت لكم بعض قضايا سريعة تعرفونها: حينما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لقنوا موتاكم لا إله إلا الله} هذه آخر لحظة من حياة الإنسان، (لا إله إلا الله) و {من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة} الخطاب لمن؟ إنه للمسلمين وحينما كان النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، كان يقول: {لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا} في مرضه الذي مات فيه.
إذاً: حينما أتحدث عن التوحيد، فليس الأمر كما يقول بعض الناس -خاصة في خارج هذه البلاد، أو الذين لم يعرفوا طريقة القرآن- يقول: إنكم تتهمون الناس في عقائدهم أو نحو هذا الكلام.(1/2)
الحديث عن التوحيد هو طريقة القرآن الكريم
إن الحديث عن التوحيد هو طريقة القرآن، وقد خوطب به المؤمنون، بل خوطب به الأنبياء عليهم السلام جميعاً، وحاشاهم أن يشركوا، وخوطب به حتى الملائكة، ولا شك أنه خوطب به الناس جميعاً بما فيهم الكفار.
حينما يقول الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
الآية} [محمد:19] فهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، بدليل أنه قال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19] لأنه وإن كان الخطاب في البلاغة بضمير المخاطب، لكنه -كما يقولون- لمن يصلح له بمعنى أنه إذا لم يكن هناك مخاطب معين يقول البلاغيون: هذا خطاب لمن يصلح له، مثل قوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} [الإسراء:22] يصلح أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم، ويصلح أن يكون لمن يصلح له، فهو خطاب لمن يصلح له.
لكن قوله سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19] معلوم أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19] فدل على أن المخاطب هو النبي صلى الله عليه وسلم وحينما خوطب النبي صلى الله عليه وسلم هل كان محل شك في توحيده؟! لا.
بل هو الأسوة والقدوة، وهو حامي حمى التوحيد، وهو الذي سد كل طريق يوصل إلى الشرك عليه الصلاة والسلام، ومع هذا قال الله له: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19].(1/3)
خطاب الله تعالى للملائكة بالتوحيد
ولهذا سنذكر -إن شاء الله- بعض الآيات التي تتعلق بكل هذه الفئات بالملائكة والأنبياء وبالمؤمنين والكفار، فيما يتعلق بالتوحيد وفيما يتعلق بالتحذير من الشرك يقول الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وهي قضية في التوحيد ظاهرة، والسياق في سورة الأنبياء، وحديثه عن التوحيد غليظ جداً، وحتى ما قبل هذه الآيات كلها في التوحيد، لكن نقتصر على محل الشاهد، يقول الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ * وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:25 - 29].
وهذا خطاب وتهديد ووعيد للملائكة فمع أن الملائكة عباد مكرمون أثنى الله عز وجل عليهم، وفي مقام آخر قال: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم:6] وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] ومع هذا قال: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:29] مما يدل على عظم قضية التوحيد، وعلى غيرة الله سبحانه وتعالى على التوحيد، وعلى حقه سبحانه؛ لأن التوحيد محض حقه سبحانه: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:29].(1/4)
خطاب الله تعالى للأنبياء بالتوحيد
أما الحديث عن الأنبياء فطويل جداً، سواء فيما يتعلق بالأنبياء على جهة الأفراد موسى وإبراهيم ونوح وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأنبياء، أو على جهة العموم كل الأنبياء فمن الآيات التي تتعلق بالأنبياء جميعاً قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الزمر:65].
الذين أوحي إليهم هم الأنبياء، والحديث مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأنبياء الله جميعاً، فإنهم هم المختصون بأنهم يوحى إليهم {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] وحاشاه عليه الصلاة والسلام وحاشا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الشرك.
لكن فيه ما يدل على أن هذه هي القضية الكبرى، وسنرى بعد قليل كيف أن الخلل تطرق إلى الناس في التوحيد، حتى ولو كانوا مسلمين، ولو كانوا في ديار مسلمين؛ وذلك أن التوحيد حقيقته إفراد الله عز وجل بما يختص به، فإن كان توحيد الألوهية فهو إفراده بالعبادة، وإن كان توحيد الربوبية فهو إفراده بأفعاله في الخلق والرزق والملك والتدبير إلى آخره، وإن كان توحيد الأسماء والصفات فهو إفراده بما يختص به من أسماء وصفات سبحانه وتعالى.
إذاً: التوحيد هو إفراد الله بما يختص به، فأي خلل في توحيد الربوبية ومع الأسف أن الماديين الآن دخلوا حتى في شرك الربوبية، وهذا الذي لم تفعله الأمة السابقة أو في الألوهية، وسوف نتعرض لبعض الصور في ذلك أو في الأسماء والصفات، فإنها محل نزاع شديد بين المعطلة والمشبهة، وتنزيه الله وحدود التنزيه والوصف، وإن كان هذا غالباً أكثره بين الفرق المختصة، وإن كانت العامة قد لا تدخل فيه كثيراً، فما يتعلق بالأسماء والصفات، فهو غالباً بين المختصين أكثر، وإنما العامة تتلقى ما يقوله العلماء فيما يتعلق بوحدة الوجود، أو فيما يتعلق بالتنزيه، وفيما يتعلق بطريقة التنزيه وطريقة التكييف، فالتنزيه أحياناً يكون عدماً، والعامة تتلقى أن التنزيه يعني العدم والحديث في هذا يطول، والوقت لا يسمح أن نخوض فيه كثيراً لكن مقصودنا هو الحديث عن التوحيد، الذي هو حق الله عز وجل، وإفراده بما يختص به من أفعاله سبحانه وتعالى، وأفعال العباد والأسماء والصفات؛ ولهذا كان حديث القرآن كله عن هذا الموضوع، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66].
آية أخرى تتعلق بالأنبياء جميعاً في سورة الأنعام لما ذكر الله جملة من الأنبياء -وهي أحصى آية ذكرت الأنبياء- قال الله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:83 - 88].
يقول ابن كثير رحمه الله في كلام ما معناه: إذا كان هذا الحديث مع أنبياء الله -وحاشاهم أن يشركوا- فلماذا لا يكون الخوف من الشرك، فإن الله عز وجل يقول: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] وهؤلاء هم الأنبياء، وفيهم أولو العزم؟!
هذا فيما يتعلق ببعض الآيات التي تدل على ما يتعلق بالتوحيد مع الأنبياء في الجملة، أما الخاصة ببعض الأنبياء، فمن أظهرها ما يتعلق بإبراهيم عليه السلام، فإبراهيم هو صاحب الملة الحنيفية، وقد أمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملته: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123] إبراهيم خاطبه الله عز وجل بقوله: {وإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود} [الحج:26] وهو الذي حكى الله عز وجل عنه قوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:35 - 36].
والحديث في هذا لن نقف عنده طويلاً، وإنما نورد بعض الأمثلة، لنرى أن الحديث عن التوحيد لا يختص بالكفار، ولا يختص بمتهمين إن وجد متهمون، وإنما الحديث عن التوحيد غيرة على حق الله عز وجل.
ويقول الله عز وجل في حق عيسى عليه السلام -وهذا من أكثر ما ذكر أيضاً-: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة:116] وغيرها من الآيات التي ذكرت في قصة عيسى مع قومه بني إسرائيل فيما يتعلق بالشرك.
وفيما يتعلق بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم هناك آيات كثيرة، يقول الله تعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [القصص:87] {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
إلى غيرها من الآيات التي تتحدث عن التحذير من الشرك في حقه عليه الصلاة والسلام، كما في قوله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:106] وليس الموضوع استعراض للآيات بقدر أن المقصود هو التمثيل.
ونشير إلى آيات أخرى أيضاً(1/5)
خطاب الله تعالى للمؤمنين بالتوحيد
فيما يتعلق بالخطاب للمؤمنين، يقول الله عز وجل في صفات عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] صفات هي منتهى الالتزام ومنتهى الأدب ومنتهى الدين ومنتهى القيام لله عز وجل، ثم قال: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان:68] مع أنه قبلها قال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67].
آية أخرى، وهي من أجمل الآيات فيما نحن بصدده، وهي آية التمكين، الذين يمكن الله عز وجل لهم في الأرض، قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] وسيكون لنا وقفة عند قوله: {لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} وذلك بعد الانتهاء من الحديث عن خطابات الفئات كلها الملائكة والأنبياء والمؤمنين والكفار، نعود إلى قضية (شيئاً).(1/6)
خطاب الله تعالى للكفار بالتوحيد
وفيما يتعلق بالكفار هناك آيات كثيرة، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:21] ويقول تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [يونس:31] والأصل أن الخطاب فيها للمشركين، بالتوحيد والدعوة إلى التوحيد وإثباته، لكن نحن تكلمنا عما يتعلق بهؤلاء الذي هم ليسوا محل شك، بل خوطب المؤمنون منهم بوصف الإيمان، ومع هذا قال: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان:68] وقال: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55].(1/7)
الشرك والخوف منه
نأتي إلى قضية وهي قضية الخوف من الشرك، ولا نقف عندها طويلاً وإن كانت تستحق؛ لأننا سننتقل بعدها إلى قضية التوحيد وتعريفه الخ.
قضية الخوف من الشرك تتجلى في مثل قوله تعالى: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] وتتجلى في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151] ولابد أن نتأمل هذه الآية في سياقها ماذا نفت وماذا أثبتت.
والآية الأخرى في سورة النساء يقول تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36] وهنا قال: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] فعندنا هنا نفي (لا يشركون) ونكرة (شيئاً) والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، كما يقول الأصوليون والبلاغيون.
وقوله تعالى: {لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] هناك تقديران، وكلاهما صحيح، بل قد نقول: كلاهما مقصود، وكلاهما مقدر، الأول: {لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] من الأشياء لا حجر، ولا ملك، ولا شمس، ولا أي شيء، مهما عظم ومهما صغر.
إذاً: هذا نفي لأي ذرة من الشرك، أو من الأشياء التي يمكن أو يتصور أن تصرف لغير الله وهي محض حق الله تعالى.
التقدير الثاني: لا يشركون بي أي نوع من أنواع الشرك، ولا أي شيء من الأشياء المعبودة، فقد نفى أي شيء من الشرك، ونفى أي شيء من الأشياء المعبودة فالقضية دقيقة يا إخوان، بدليل أن الله عز وجل قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106].
ولو قارنت بين هاتين الآيتين لتبين لك عظم الأمر، فخصائص الطلب الإلهي: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36] {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151] وخصائص المؤمنين: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] لا شيئاً من الأشياء المعبودة، ولا شيئاً من أنواع الشرك، فالمنفي هو الأمران لا شيئاً من المعبودات مهما صغرت، ولو كان ذباباً أو أقل من ذباب أو ذرة، ولهذا نفى الله عز وجل في الآية التي تقطع نياط القلب عن سائر المعبودات من دونه امتلاك مثقال ذرة فقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ:22] نفى الله عز وجل عن المعبودات من دونه أنها تملك أي شيء ولو كان مثقال ذرة.
فحق على المؤمن ألا يرد على خاطره وقلبه أي شيء من الأشياء، ولا أي شرك من التعلقات، فالقضية دقيقة جداً.
يقول ابن كثير رحمه الله عند قوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] يقول: فيه تشديد لأمر الشرك وتغليظ لشأنه وتعظيم لملابسته.(1/8)
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون
أما قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] قال بعض العلماء: في هذه الآية دلالة على ما يتخلل بعض الأفئدة، وتنغمس فيه بعض النفوس من الشرك الخفي الذي لا يشعر به صاحبه غالباً، فمثل هذا وإن اعتقد وحدانية الله، لكنه لا يخلص له في عبوديته، فيتعلق بغير ربه، ويعمل لحظ نفسه أو طلب دنياه، أو ابتغاء رفعة أو منزلة، أو قصد إلى جاه عند الخلق، فلله من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب، والله أغنى الشركاء عن الشرك.
وهذا كلام جميل ودقيق جداً، ومنه -فعلاً- يكون الخوف من الشرك، ومنه -أيضاً- نتبين معنى هذا النفي الدقيق: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}.(1/9)
تعريف التوحيد وتعريف الشرك
نأتي الآن إلى التعريف الحقيقي ونتكلم عنه؛ لأنه يؤكد الأهمية الحقيقية، ويؤكد لماذا نبدأ دائماً بالتوحيد.
كما قلت قبل قليل: التوحيد: هو إفراد الله بما يختص به.
وهو يشمل التوحيد بأنواعه الثلاثة: إفراد الله بالعبادة وبأفعال العباد، وهذا توحيد الألوهية، وإفراد الله بأفعاله، وهذا توحيد الربوبية، وإفراد الله بالأسماء والصفات، وهذا يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات.
إذاً نقول: التوحيد هو إفراد الله عز وجل بما يختص به.
وهذا التعريف يتبين من تعريف الشرك الذي يقابل التوحيد فإن التوحيد هو إفراد الله بما يختص به من أفعاله سبحانه وأفعال العباد وأسمائه وصفاته أما الشرك فهو مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله.
وهذا تعريف دقيق جداً، وإذا عرفته عرفت التوحيد، ولهذا جاء في الحديث: {أعظم الذنب أن تجعل الله نداً وهو خلقك} نداً، أي: مساوياً لله تعالى فيما يختص به سبحانه.(1/10)
صور من صرف العبادة لغير الله
لو أخذنا قضية الخوف، فإن الخوف نوع من أنواع العبادة، لكن الخوف نوعان: خوف جبلي، وهو ما وضعه الله عز وجل في النفوس، من أنها تخاف من أشياء في الدنيا، وهو خوف وضعه الله عز وجل في النفوس لنجاتها وسلامتها، ولتعيش في هذه الدنيا ما كتب الله عز وجل لها من أجل، فأنت تخاف من الأسد فتهرب منه، وتخاف من الظالم فتتقيه؛ إما بإعطائه وإما بالهروب منه، وتخاف ممن هو أقوى منك إما بمداراته وإما بالهروب منه وهكذا.
إذاً: هذا خوف جبلي لا إشكال فيه ولا لوم، ولهذا قال الله عز وجل: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه:67 - 68] فموسى لم يكن ملوماً في هذا الخوف، وقال الله عز وجل لموسى وهارون: {لا تَخَافَا} [طه:46] فهذا خوف جبلي، وكذلك إبراهيم أوجس من رسل الملائكة: {قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28] فهذا خوف جبلي ليس له علاقة بتوحيد إبراهيم عليه السلام، وهو صاحب الملة الحنيفية.
إذاً: هذا خوف لا إشكال فيه، فأنت تخاف من الأسد؛ لأنه أقوى منك، وتخاف ممن هو أقوى منك من بني آدم؛ إما لأنه أقوى منك في بدنه، وإما لأن معه سلاحاً لا تستطيع مقاومته، كأن يكون معه سكين أو رشاش أو مسدس أو سيف وأنت أعزل، فلا شك أنك ستخاف وهذا خوف جبلي وفطري، بل قد يكون أحياناً سبيل النجاة.
ولهذا قلنا: الشرك هو مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله، والخوف الطبيعي ليس فيما هو من خصائص الله، إنما الذي من خصائص الله أن تخاف من إنسان أو من مخلوق خوفاً مما لا يقدر عليه إلا الله هذا هو الشرك، وذلك كأن تخاف من الغائب، أو من المقبور في قبره، أو تخاف من أشياء لا حقيقة لها، وتخافها أكثر من خوف الله، إما لأنها أصلاً ليس لها قدرة فتخافها، أو لها قدرة ولكنك تخافها أكثر من خوف الله عز وجل، وهذا أيضاً لا يجوز.
أيضاً: الحب، هناك أشياء محبوبات في الدنيا وضعها الله عز وجل لتقوم بها الحياة، فأنت تحب المال، وتحب أهلك وزوجك وأولادك، وتحب أشياء كثيرة، وهي محبوبات طبيعية جبلية، لكن إذا كانت أحب من الله عز وجل دخلت في دائرة الشرك، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} [التوبة:24].
إذاً: التوحيد هو إفراد الله بما يختص به، فلا تشرك معه غيره، كما أن الشرك هو: مساواة غير الله بالله فيما يختص به الله سبحانه وتعالى، إذاً فتبين لك بهذا أن التوحيد والشرك هما وجها عملة التوحيد: إفراد الله، والشرك: مساواة غير الله بالله.(1/11)
من أسماء التوحيد
التوحيد له عدة أسماء، وسوف نذكرها لبيان أهميتها فهو الفقه الحقيقي، أو الفقه الأكبر وهو علم التوحيد وعلم العقيدة، وأحياناً يسمونه: علم الكلام، وهذا هو الذي أدخل اللبس على هذا العلم وأدخل الخوف، وهو الذي قد نشير إليه -إن شاء الله- في طريقة تعليم التوحيد، فإن الخطأ الذي وقع فيه بعض العلماء السابقين -رحمهم الله- أنهم فعلاً ما أحسنوا طريقة تعليم التوحيد حينما جعلوه علم كلام وجعلوه جدلاً، ودخلوا في قضايا لا تنفع العامة، وإنما صار دائراً في حلقة بين علماء خاصة، أو -إن صح التعبير- بين خاصة الخاصة، ولم يغنهم شيئاً.
بينما لو أخذوا بطريقة القرآن في عرض التوحيد وإثباته وبيان مكملاته وبيان ضده الذي هو الشرك، وكذلك توابع الشرك؛ لكان هذا أوضح من حيث البرهان والحجة، ومن حيث البيان والوضوح، ومن حيث التأثير والقبول، ومن حيث مخاطبة جميع الناس، سواء البدوي في باديته، والفلاح في مزرعته، والصانع في مصنعه، والعالم في درسه، والصغير في محضنه كل هؤلاء يخاطبون والقرآن قد خاطب الجميع.
لكن -مع الأسف- صار هناك نوع من عدم وضوح الطريق في طريقة التعليم عند المتقدمين، فسلكوا مسالك أهل الكلام، فما وصلوا إلى شيء، وإنما حصروه في دوائر بين علماء، ومع هذا لم يغن عنهم فتيلاً، والعامة أصبحت لا تعرف شيئاً، إلا بعض طرق صوفية، ودخلوا في الخرافات، ودخلوا في الأشياء التي زادت الطين بلة، بل أوقعته في صور من الشرك الأكبر المخرج من الملة.
فالحقيقة أن التوحيد هو الفقه الأكبر، وهو علم العقيدة، ولهذا في قوله عز وجل: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122] فأول الفقه في الدين هو الفقه في التوحيد وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} فأول مراحل التفقه وأعظمها هو التفقه في توحيد الله عز وجل.(1/12)
التوحيد في أركان الإسلام
حينما نأتي إلى التوحيد في الأحكام، أو في أركان الإسلام، نجد أن أكثر ما يتكلم الناس عن التوحيد أنه هو أصل الدين، ولا يخصونه بأشياء، ويظنون أننا حينما نتكلم عن الصلاة أو عن الزكاة أو عن الحج أننا نتكلم عن أحكام فقط، وهذا صحيح من حيث أنها حلال أو حرام، ومن حيث أنها تتعلق بالأفعال التكليفية المتعلقة بأداء الحج وأداء الصلاة بركوعها وسجودها، وكذلك الطهارة التي تسبقها، ولكن هذا فهم خاطئ من حيث أنهم لم يُعلَّموا التوحيد من خلالها؛ وذلك لأن طريقة تعليم التوحيد لم تكن سديدة جداً، فكان ينبغي أن يُعلم الناس التوحيد حتى من خلال الصلاة، ومن خلال الزكاة، ومن خلال الحج، من خلال الصيام؛ لأن حقيقة التوحيد هو الارتباط بالله عز وجل والتعلق به وحده، هذا هو التوحيد، أما إذا لم تكن دائماً متعلقاً بالله وحده فإنك لم توحده.(1/13)
التوحيد في الشهادتين وفي الصلاة
الشهادتان معروفة؛ لأنها لفظ التوحيد، لكن الذي ينبغي بيانه هنا أن النطق بالشهادة غير الاعتقاد، فإن الاعتقاد هو الأصل، وذلك أن تعتقد أن الله واحد لا شريك له، لكن أن تشهد، أي: أن تتلفظ، فإن أركان الإسلام أولهما الشهادتان، بمعنى أن تشهد وتنطق أن لا إله إلا الله ما معنى ذلك؟
المشهور عندنا أن الإنسان يشهد أن لا إله إلا الله أول ما يسلم، وهذا صحيح، لكن حينما تتأمل أحكام الإسلام، تجد أن الإسلام طلب منا الشهادتين في مواطن كثيرة جداً، وهذا هو الذي ينقصنا في تعليم التوحيد.
المتبادر إلى الذهن أن الكافر إذا أراد أن يسلم يشهد أن لا إله إلا الله أمام قاضٍ، ويعلن الشهادة، وينطق الشهادتين، فيدخل في الإسلام.
لكن حينما ننظر في أحكام الإسلام نجد أننا في اليوم أكثر من عشرين مرة نشهد أن لا إله إلا الله، بل أكثر من ذلك أول مرة عند الأذان، قد تقول: المؤذن هو الذي يشهد أقول: نعم.
لكن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول} والمؤذن يقول مرتين (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله) والنطق بلفظ تجديد التوحيد ليس عبثاً، وكما خوطب به الأنبياء والمؤمنون، نخاطب نحن به أيضاً، وكأني أغسل قلبي وأغسل نفسي، وأتفقد هل أنا متعلق بالله أم لا؟ هل أنا أشهد أن لا إله إلا الله حقيقة أم لا؟ المؤذن خمس مرات في اليوم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، على رءوس الأشهاد، وأنت تقول مثله حتى في إقامة الصلاة أذان وفيها شهادتان، وكل صلاة تصليها تتشهد تشهداً أو تشهدين، وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله هل تأملتم هذا الكلام؟ هل ديننا يشكك في عقائدنا؟ لا، إنما هذا تجديد، ولا بد من التجديد.
إذاً هذا لفظ الشهادة فقط غير لفظ (لا إله إلا الله) الذي يرد كثيراً، سواءٌ في الأذان أو في غيره، فإن الأذان فيه (أشهد أن لا إله إلا الله) وفيه (لا إله إلا الله) في آخره، فضلاً عن المعاني من غير النطق.
كذلك كلمة التوحيد (الله أكبر) لو تأملتها لعلمت أنها توحيد، المؤذن يقول: (الله أكبر) وأنت تقول مثله.
ماذا تعني (الله أكبر)؟
تعنى أنه ليس في ذهنك ولا في قلبك ولا في تفكيرك ولا في تصورك ولا في سلوكك أن شيئاً أكبر من الله عز وجل، لا في تدبيره ولا في ملكه ولا في مراقبته ولا في قدرته عليك هذا هو التوحيد.
التوحيد أن يكون قلبك خالص التعلق بالله عز وجل.
حينما تقول: (الله أكبر) ويقول المؤذن: (الله أكبر).
هذا فضلاً عن تكبيرات الصلاة، فإن في كل حركة انتقال تكبيرة تكبيرة الإحرام، ثم تكبيرات الانتقال من قيام إلى ركوع إلى سجود إلى قعود إلى قيام، كله تكبير ماذا يعني هذا؟
إنه يعني معالجة النفس ومعالجة القلب، وإخلاص التعلق بالله عز وجل والارتباط به سبحانه.
هذا فقط في هذه الألفاظ الظاهرة، ألفاظ الأذان، والألفاظ الظاهرة في الصلاة، فما بالك بالتوحيد في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:4 - 5] وفي قولك: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، سبحان ربي العظيم! هذا هو التوحيد، وإن كان بعض العلماء يقولون: هذه فروع.
لكن هذه كلمة على الهامش.
الفصل بين التوحيد والفقه جيء به للتعليم، ما جيء به للتقسيم؛ بمعنى أن التوحيد ليس له علاقة بالفقه، وأن الفقه ليس له علاقة بالتوحيد، فهذا ليس بصحيح إنما جيء به للتعليم، وهو يسمى (تقسيم علوم) للتعليم فقط، فحينما نقول: فقه، وأصول، ومصطلح، وتفسير، وعلوم قرآن، وتخريج، وعلوم فرائض، ومواريث، وعلوم أخرى، حتى النحو والصرف، هذه التقسيمات إنما هي للتعليم، وليس للفصل بينها، وأن نجعلها فرعيات بحيث يكون الاهتمام بها قليلاً، وهذه موصولة بهذه، وكلها تخدم الدين، وكلها يخدم بعضها بعضاً.
كذلك هيئات الصلاة؛ فيها تعظيم لله عز وجل، فالصلاة كلها تعظيم، وكلها خشوع، كما قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] كذلك تسبيحات الركوع، وتسبيحات السجود، وهيئة الركوع والسجود، كلها حركات لله عز وجل.(1/14)
الزكاة والصيام وارتباطهما بالتوحيد
وفيما يتعلق بالزكاة وارتباطها بالتوحيد، هناك شيءٌ عجيب من جانب ارتباط المال بالتوحيد وبالدين، ولو لاحظتم الآيات المكية التي قالوا: إنها في العقائد؛ كم ذكر فيها المال؟
يقول الله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} [الماعون:1] من هو؟ {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:2 - 3] أي: من مظاهر التكذيب بالدين والتكذيب والتكذيب باليوم الآخر البخل بالمال.
إذاً: القضية ارتباط عقدي قبل أن تكون ارتباط أحكام، وبعدها يقول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4 - 7].
فحتى منع الماعون الذي هو العارية داخل في الدين، وداخل في الوعيد بالويل والزكاة قد صار لها تعليم خاص، لكن هي كلها تخدم قضية الدين والتوحيد والارتباط بالله عز وجل، ويقول الله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:42 - 46] فهذه أربع قضايا: اثنتان منها يسمونها فرعية.
إذاً: قضية المال وقضية الزكاة لها ارتباط عقدي كبير، وأوضح من ذلك -إذا كنتم تريدون نفس المصطلح- قوله سبحانه: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت:6] من هم؟ {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:7] وهناك ارتباط بين الزكاة وبين التوحيد والإخلاص، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103].
وفيما يتعلق بالصيام، له ارتباط بالإخلاص وبالدين وبالتوحيد، قال عليه الصلاة والسلام: {من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه} والله تعالى قال عن الصائم في الحديث القدسي: {يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي} هذا هو التوحيد، وهذا هو الإخلاص، وهذا هو الارتباط بالله عز وجل، وإن كان الصيام من الفروع.(1/15)
الحج وارتباطه بالتوحيد
أما الحج فناهيك به في الحديث عن التوحيد، يقول جابر رضي الله عنه وهو يحكي صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: {فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد} فأول مداخل الحج: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك ولو استعرضتم آيات الحج في سورة الحج، لوجدتم ارتباط الحج بالتوحيد والتحذير من الشرك الشيء العجيب يقول الله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج:26 - 31].
ولا شك أن قضية ارتباط التوحيد بالحج، والتركيز على التوحيد في الحج مهم جداً؛ لأنه مشاعر وشعائر تُؤدى، ومع الأسف أن هذا هو الذي أوقع بعض المسلمين فيما وقعوا فيه من التعلق بالأحجار وغيرها ولهذا كان التأكيد على قضية التوحيد في الحج أظهر منها في غيرها.
ولهذا كان وقوع بعض المسلمين في التعلق بالقبور من هذا الباب، والتعلق بالأضرحة، والطواف حولها، بسبب أن النفوس لم تُتعاهد بالتوحيد، وبالتذكير به، ولهذا كان الحديث عن التوحيد في الحج أظهر منه في غيره من الفرائض، وإن كان الأمر كما أوضحنا.(1/16)
التوحيد وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم
الحقيقة عندي أشياء لا يتسع الوقت لإتياني عليها كلها، ولكني سأوجز فيما يتعلق بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومسيرة التوحيد في سيرته عليه الصلاة والسلام
كما قلت في مطلع الحديث: أن بعض الناس يظن أن التوحيد كان خاصاً بالعهد المكي، وبعدها كأن القضية انتهت، وهذا غير صحيح، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم من أول ما ظهر إلى أن توفي عليه الصلاة والسلام وهو يدعو إلى التوحيد، ولم يفتر لحظة واحدة.
منذ أن نزل عليه: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5] وهذه الآية من أوائل ما نزل -كما هو معروف- بل هي أصل دعوة التوحيد، وهذا أمر معروف، والأمر فيها أمر فردي.
ثم جاءت قضية دعوة الأقربين -لأن الدعوة كانت مرحلية- قال له: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:213 - 214] وهذا كله مكي، لكن لاحظ كيف كان التدرج في الدعوة.
ولما أمر بالصدع: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] ففيه تنبيه لقضايا التوحيد وقضايا التحذير من الشرك، وهذا التدرج شيء عجيب، وعجيب أيضاً ملاحظة العلماء لهذا، فإنهم ما تركوا شيئاً رحمهم الله، وهذا الكلام ليس من عندي، بل هو في كتب متخصصة تبحث في التوحيد، وخاصة أن بعض العلماء لاحظ أن القضية ليست خاصة بالعهد المكي.
ثم في الهجرة قال الله عن نبيه قوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] وهذا توحيد.
وكذلك قُبيل الإذن بالقتال، قال الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:39 - 40] وهذا أيضاً تدرج، فإن المرحلة التي جاء الإذن فيها بالقتال يعتبرها الناظرون في تاريخ التشريع مرحلية، لأن الإذن بالقتال جاء متدرجاً، وحتى في هذا المرحلة كان فيها الحديث عن التوحيد، مع أن القضية المكية قد تكون انتهت بفتح مكة، قال الله: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء:81] ومعلوم أن هذه الكلمة قالها النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكسر الأصنام التي حول الكعبة.
وفي كل بعوثه التي بعثها، ومعلوم أن البعوث كانت في المدينة حينما بعث علياً، وحينما بعث معاذاً وأبا موسى، والرسل والكتابات كلها تدعو إلى التوحيد يقول عليه الصلاة والسلام لـ معاذ: {إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله} وكذلك علي رضي الله عنه عندما بعثه إلى خيبر، وكما قلنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مرضه الذي مات فيه كان يقول: {لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} وهذا هو لب التوحيد في آخر أيامه عليه الصلاة والسلام.
وهناك نصوص أخرى غير ما ذكرنا لأن الموضوع ينبغي ألا ينتهي عند هذا، وكما قلنا في قوله صلى الله عليه وسلم: {لقنوا موتاكم لا إله إلا الله} وكذلك: {من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة} {من أحق الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه}.
وختاماً أقول: لم تخلُ فترة من فترات النبوة من إعلان التوحيد وشواهده ومحاربة الشرك وظواهره، بل يكاد ينحصر غرض البعثة كلها في ذلك، فما ترك عليه الصلاة والسلام تقرير التوحيد وهو وحيد، ولا ذهل عنه وهو محصور في الشعب، ولا انصرف عنه وهو في مسالك الهجرة، والعدو مشتد في طلبه، ولا قطع الحديث عنه وأمره ظاهر في المدينة بين أنصاره وأعوانه، ولا أغلق باب الخوض فيه بعد فتح مكة الفتح المبين، ولا اكتفى بطلب البيعة على القتال، حيث كانت البيعة: ألا يشرك بالله شيئاً، ولم يفتر عن تكرار عرض البيعة على التوحيد ونبذ الشرك، فهذه سيرته المدونة وأحاديثه الصحيحة، والقرآن من وراء ذلك كله.
من أجل هذا كان التوحيد أولاً، وكان هو الأول، ولا بد أن يكون أولاً في كل عصر وفي كل مصر أقول هذا القول والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(1/17)
الأسئلة(1/18)
سبل الوقاية من الشرك
السؤال
فضيلة الشيخ: إن أمر الشرك عظيم وخطير، لذا نريد أن تبين لنا سبل الوقاية من الوقوع فيه؟
الجواب
من أهم السبل: العلم؛ لأن أكثر الذين يقعون في الشرك هم الجهال، وقد سبقت الإشارة قبل قليل إلى أن طريق تعليم التوحيد فيها بعض الخلل خاصة عند المتقدمين رحمهم الله، فما كان ينبغي لهم أن يدخلوا في دقائق الجدل، ودقائق الأشياء، وإثبات الله عز وجل، وإثبات وجود الله، وفيما يتعلق بطرق التنزيه والتعطيل، وكلام خاصة الخاصة، ولم يصلوا فيه إلى شيء، بل كان ينبغي علهيم أن يعلموا الناس بطريقة القرآن، ولهذا فإن شيخنا وإمامنا الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أتى بأحسن الطرق وأجملها فيما يتعلق بطريقة تعليم التوحيد في الحقيقة، فإن الأصول الثلاثة والقواعد الأربع، وكتاب التوحيد، من أجمل ومن أيسر السبل في أن يعلم الناس التوحيد بهذه الطريقة، ولا مانع من أنها تطور، لكن المسلك الذي سلكه فيه تبسيط وتسهيل، وخطاب للناس بما يعيشونه، وهذا هو المهم.
يقول ابن حجر الهيتمي، وهو شافعي معروف، وقد يكون له أشياء لا يوافق عليها، ولكنه قال كلاماً جميلاً، يقول: ينبغي منع من يشهر علم الكلام بين العامة؛ لقصور أفهامهم، ولأنه لا يؤمن أن يؤدي بهم إلى الزيغ والضلال، ولا بد من أخذ الناس بفهم الأدلة على ما نطق به القرآن ونبه عليه؛ إذ هو بين واضح يدرك ببداهة العقل، مع أن ابن حجر الهيتمي من الذين خاضوا في هذا، وله أمور لا يوافق عليها.
فالحقيقة أن طريقة القرآن في خطاب الناس وفي إثبات التوحيد والتحذير من الشرك، وقطع شجرة الشرك من نياط القلب، هي بطريقة القرآن، لكن أكثر ما يجنب الناس من الشرك هو العلم والتعليم والمحاضرات والدروس ووضع الرسائل الصغيرة، وخاصة فيما يتعلق بالسحر والكهانة والشعوذة، فإن هذه كلها نتيجة الخلل في التوحيد، وما أوقع الناس فيها إلا لخلل في التوحيد.(1/19)
الحب والخوف
السؤال
فضيلة الشيخ: هل من أحبَّ شيئاً حباً مفرطاً يقع في الشرك، أو من خاف من شيء خوفاً شديداً يكون قد وقع في الشرك؟
الجواب
لا، إنما يقع في الشرك إذا كان يحبه كحب الله أو أعظم من حب الله، هذا هو الشرك، أن تحب الشيء كحب الله، أو أعظم من حب الله، أو أن تخاف الشيء كخوفك من الله أو أعظم، أما الخوف الجبلي فلا شيء فيه، نعم قد تخاف خوفاً عظيماً، فإن بعض الناس إذا خاف تخرج منه أشياء، فالخوف هذا جبلي وفطري، وبعض الناس يخاف من ظلام الليل، وبعض الناس يخاف من السباع، وبعض الناس يخاف من أشخاص، فالخوف الفطري ولو ظهرت فيه مظاهر من الرعدة ومن القلق فهي أشياء طبيعية جبلية، إنما المقياس والميزان ألا يخافه كخوف الله، وألا يحبه كحب الله، ولهذا قال عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في قول الله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98] قال: إن الناس ما سووهم في الخلق والرزق، وإنما سووهم في المحبة والتعظيم، وكذلك في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] أي: يعدلون بربهم غيره في التعظيم، وفي الحب وفي الخوف وفي الرجاء، لا في الخلق والرزق، بل أحياناً قد لا يعتقدون فيهم النفع والضر، ولكن يجعلونهم زلفى.(1/20)
الطاعة والمعصية وارتباطهما بالتوحيد
السؤال
فضيلة الشيخ: من حقق التوحيد فإنه يكون أبعد الناس عن جميع المعاصي، ويكون أسرع الناس إلى طاعة ربه، هل من تعليق على هذا؟
الجواب
هذا صحيح، وهذا جانب آخر ينبغي العناية به، لكن الوقت لم يكن يتسع للقضايا التي تحفظ كمال التوحيد، وهي الطاعات، كما أن المعاصي تنقص كمال التوحيد، وهذا جانب مهم، ولعل المدخل الذي دخلناه حينما تكلمنا عن الصلاة والزكاة وارتباطها بالتوحيد له تعلق بهذا، لكن لا شك أن ما أشار إليه السائل مهم جداً، ولعله إن شاء الله يُعتنى به فيما يستقبل من الأيام، من حيث الربط بين الطاعة والتوحيد، والربط بين المعصية والشرك؛ لأن المعاصي بريد الشرك، وإن كانت الشبهات أكثر قدحاً في التوحيد من الشهوات.(1/21)
سبل تحقيق التوحيد
السؤال
ما هو السبيل الصحيح إلى تحقيق التوحيد حقاًً ليكون من المؤمنين؟
الجواب
كما قلنا في سبل الحذر من الشرك أنه العلم، كذلك التوحيد تحقيقه يكون بالعلم، حيث يجب على الإنسان أن يتعلم ويسأل، وكذلك يجتهد في أداء الفرائض والإكثار من النوافل، فإن هذه تحمي التوحيد، وتجعل المسلم متعلقاً بربه على سبيل المثال: الأوراد، فلو أن الإنسان له عناية بالأوراد اليومية، وأذكار الصباح والمساء، فإن لها تأثيراً عجيباً في التعلق بالله عز وجل، وكذلك في الإيمان والطمأنينة والسكينة والربط بين الأسباب والتوكل، فإذا وفق العبد إلى أن يكون عنده أوراد، ويأتي بها وهو يعلم معناها لوجد خيراً كثيراً، وأذكار الصباح والمساء التي نبه عليها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأوصانا بها وإذا أوى الإنسان إلى فراشه، وإذا استيقظ من منامه، وإذا خرج من بيته، وإذا دخل المسجد، وإذا أصبح وإذا أمسى.
فمثلاً: سيد الاستغفار: {اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي} فلو تأملتم معناه وما فيه من توحيد وما فيه من خضوع لله عز وجل، وما فيه من إقرار بالذنب، وما فيه من رجاء المغفرة لوجدتم شيئاً عجيباً، لو أن الإنسان تمثل هذا وعرفه وأتى به واعتقده، لعاش محققاً للتوحيد، ولعاش قريباً من الله عز وجل، ولعاش في سكينة وطمأنينة {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ومن تلك الأوراد: {أصبحنا وأصبح الملك لله الواحد القهار} {اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك، فلك الحمد ولك الشكر}.
{اللهم إني أسألك خير هذا اليوم، ورزقه وبركته وفتحه ونصره، وأعوذ بك من شره وشر ما بعده} {أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين محمد صلى الله عليه وسلم وملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} هذه كلها أذكار توحيد، بل غاية التوحيد.
وقد يكون هذا أيضاً فيه إجابة على السؤال الذي قبل هذا، فيما يتعلق بالنوافل، فالنوافل والأذكار حينما يأتي بها الإنسان على وجهها وعلى الطريقة المشروعة، ويتأمل معناها، ويتأمل ما يقول، فإنكم تحفظون شيئاً كثيراً من الأذكار، وقد تقرءونه وتجرونه على ألسنتكم، لكنكم لا تتأملون معناه.
ولا بأس أن نقف قليلاً عند هذا الذكر: {اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك، فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر} لو تأملت معناه، ورأيت ما يحتويه من معان، وما يحتويه من نقاء القلب، وما يحتويه من السلام ومن الارتباط بالله عز وجل، ومن توحيد الله وإجلاله؛ لوجدت أمراً عجيباً أولاً: الاعتراف بالنعم (ما أصبح بي من نعمة) فالنعمة التي فيك هي من الله عز وجل، ثم ما أصبح بخلق الله عز وجل أنت تعتقد أنه من الله عز وجل، ووالله لو أننا صادقون في تأمل أن ما أصاب الناس من نعم فهو منه سبحانه وتعالى، لذهب الحسد من قلوبنا؟
حينما تقول في الصباح: {ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك} فلو أن إنساناً رزق، أو ترقى، أو توظف، أو أي شيء حصل له، فأنت تقول: هذه من الله، ولا دخل لك في حصولها ولا في منعها.
إذاً: هذا هو التوحيد، وهو متعلق بالله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17] فهذا هو التوحيد، وهذا هو تحقيق التوحيد، أن يكون في قلبك، وأن ما تعرفه من أذكار وما تقوم به من شعائر، سواء فرائض أو نوافل، تتأملها وتعرف معناها وتعيشها تعيشها في سلوكك تعيشها في حياتك تعيشها حباً لله، وحباً لخلقه، وتعلقاً بالله سبحانه وتعالى، وعدم التعلق بخلقه، والرضى عن الناس، والرضى عن النفس، وهذا هو المقصود من التوحيد، وهذا هو غاية التوحيد في الدنيا والآخرة.(1/22)
من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة
السؤال
ورد في الحديث الشريف أن من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة، فهل يشمل الحديث أهل المعاصي والكبائر، أم أن الحديث يختص بالمؤمنين كاملي الإيمان فقط؟
الجواب
لا شك أن من كان آخر كلامه لا إله إلا الله خالصاً من قلبه، فلا بد أن يكون خالصاً من قلبه، فإذا قالها خالصاً من قلبه أصبح موحداً ولا شك، لكن المعاصي التي ارتكبها إن لم يتب منها فهو عرضة للعقاب، إن لم يتداركه الله برحمته، لكن مآله إلى الجنة، وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة أن من مات على التوحيد، فمآله إلى الجنة، أما المعاصي والكبائر فهذه إلى الله عز وجل، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له.(1/23)
الخلل في العقيدة والخلل في المنهج
السؤال
ما هو الفرق بين الخلل في التوحيد والعقيدة، والخلل في المنهج؟
الجواب
لا يبدو لي أن هناك فرقاً بين القضيتين، فإنه إذا لم يكن المنهج على التوحيد فهذا هو الخلل في المنهج، وإذا كان المنهج على التوحيد فانتهت القضية، فليس هناك شيء اسمه منهج وشيء آخر اسمه توحيد، وإذا لم يكن المنهج على التوحيد فلا يسمى منهجاً، هذا هو الخلل، فلا يتصور أن يكون هناك منهج وهناك توحيد، أو خلل في التوحيد وخلل في المنهج، بل إذا كان الخلل في المنهج يتعلق بالتوحيد، فهذا خلل في التوحيد، وإذا كان الخلل في التوحيد فهذا خلل في المنهج، وإذا لم يكن المنهج على التوحيد، فهذا هو الخلل بعينه.(1/24)
من أتى بمكفر فإنه يكفر وإن نطق بالشهادة
السؤال
فضيلة الشيخ: كيف نجمع بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخوارج: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإن رأيتموهم فاقتلوهم} وبين الحديث الذي عاتب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أسامة بعد أن قتل أحد المشركين بعد أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال أسامة: إنما قالها خوفاً من القتل، فقال عليه الصلاة والسلام: {هلا شققت عن قلبه}؟
الجواب
لا يبدو أن هناك تعارضاً بين هذا وهذا، لأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم جعلنا على المحجة البيضاء، وقضية معالم الدين ظاهرة فيما يتعلق بالتوحيد، وفيما يتعلق بالمكفرات، ولهذا عقد العلماء رحمهم الله باب الردة، وأحكام الردة والمرتد، وعلي رضي الله عنه قاتل الخوارج، والخوارج فئات منهم من عبّد علياً وجعله إلهاً مع أنهم أهل عبادة، بمعنى أنه ليس مجرد قراءة القرآن، ومظاهر الصلاح من حيث الصلاة والخشوع تنفع الإنسان إذا أتى بمكفر، فهم يخرجون من الدين، وليس حكمنا على خروجهم من الدين بأشياء غير ظاهرة، بل إن من يكفر يكفر بأمر ظاهر، نحن لا نكفر بالنوايا ولا نكفر بالقلوب، فإذا أتى بمكفر ولو كان ظاهره الصلاح فإنه كافر، كأن استهزأ بالله أو بالرسول، أو أنكر شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة، أو أشرك بالله عز وجل، أو جعل لله نداً، أو دعا غير الله، أو أشرك بالله، وإن صلى وصام، وإن أتى بالشعائر الإسلامية الظاهرة من الصلاة والزكاة، وإن قرأ القرآن، وكم من قارئ يقرأ القرآن وهو يلعنه، فإذا قرأ القرآن وأتى بمكفر، فهو كافر وإن قرأ القرآن إلا إذا تاب.
أما قضية أسامة رضي الله عنه فإن ذلك الرجل أتى بظاهر الإسلام، قال: لا إله إلا الله، فهو مسلم في الظاهر، أما قول أسامة رضي الله عنه: ما قالها إلا خوفاً من السيف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أشققت عن قلبه؟} فالذين يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية قد أتوا بمكفر ظاهر، وهذا هو مسلك أهل السنة والجماعة.(1/25)
حكم الذهاب إلى السحرة والمشعوذين
السؤال
فضيلة الشيخ: ما زال كثير من الناس إذا أصابته مصيبة (كأن فقد سيارته مثلاً) يذهب إلى المشعوذين والسحرة، فهل من كلمة حول هذا الخلل في التوحيد؟
الجواب
هذا هو الذي جعلنا نقول: إنه ينبغي بل يجب أن يتعاهد الناس بالحديث عن التوحيد، وتعليم التوحيد، وتحقيق التوحيد، والارتباط بالله عز وجل؛ لأن الذهاب إلى المشعوذين والذهاب إلى الكهنة والعرافين والسحرة، لا شك أنه خلل في المعتقد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد} وفي رواية: {فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً}.
فالقضية خطيرة وليست سهلة، ولهذا لا بد من تعليم الناس التوحيد تعليماً حقيقياً، والنظر في المناهج التي تعلم الناس، سوء ما يتعلق بالحلقات الخاصة، أو ما يتعلق بالمحاضرات العامة، أو ما يتعلق بكل المنتديات واللقاءات وغيرها.
جزى الله فضيلة الشيخ على ما قال، ونسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يتكرر مثل هذا اللقاء وأنتم على خير، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(1/26)
أصلحوا ذات بينكم
لقد عم الاختلاف بين الناس؛ الأزواج مع زوجاتهم، والدولة مع جارتها، والقبيلة مع أختها، والوالد مع ولده وهكذا، والدين الإسلامي قد حث وأمر بالإصلاح بين الناس، وجعل لذلك أجراً عظيماً.
والواجب على كل المتخاصمين أن يسعوا للصلح ويقبلوا به، وأن يقدموا بعض التنازلات من أجل إتمام الصلح.(2/1)
فضل الإصلاح وبعض فقهه ومسالكه
الحمد لله شرح بفضله صدور أهل الإيمان بالهدى، وأضل من شاء بحكمته وعدله، فلن تجد له ولياً مرشداً، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهاً واحداً فرداً صمداً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، كرم أصلاً وطاب محتداً، خصه ربه بالمقام المحمود وسماه محمداً، صلى الله عليه وسلم وبارك وعلى آله وأصحابه، هم النجوم بهم المهتدى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتدى.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
أيها المسلمون: أصلحوا ذات بينكم، فالإصلاح عنوان الإيمان في الإخوان: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10] الإصلاح مصدر الطمأنينة والهدوء، ومبعث الاستقرار والأمن، وينبوع الألفة والمحبة.
أيها الإخوة: في كثير من الديار أقضَّت مضاجع القضاة القضايا، وامتلأت كثير من السجون بالبلايا، ناهيك بما في مراكز الشرطة وأسرة المشافي من المآسي، بل إن مشكلات الأمة الكبرى في الصومال وأفغانستان ومواقع من ديار المسلمين أخرى تحتاج كل الحاجة إلى الصالحين المصلحين.
ألا ينبري خيرون بمساعٍ حميدة هنا وهناك، ليطفئوا نار الفتن، وينزعوا فتيل اللهب؟!
إن التنازع مفسد للبيوت والأسر، مهلك للشعوب والأمم، سافك للدماء، مبدد للثروات: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46].
بالخصومات والمشاحنات تُنتهك حرمات الدين، ويعم الشر القريب والبعيد، ومن أجل ذلك سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساد ذات البين بالحالقة، وهي لا تحلق الشعر ولكنها تحلق الدين.
إن الأمة في كثير من مواقعها تحتاج إلى إصلاح يدخل الرضا على المتخاصمين، ويُعيد الوئام إلى المتنازعين إصلاح تسكن به النفوس، وتتآلف به القلوب إصلاح يقوم به عصبة خيرون، شرفت أقدارهم، وكرمت أخلاقهم، وطابت منابتهم، وإنهم بمثل هذه المساعي الخيرة يبرهنون على نُبل الطباع وكرم السجايا.
فئات من ذوي الشهامة من الرجال، والمقامات العلية من القوم، رجال مصلحون ذوو خبرة وعقل، وإيمان وصبر، يحضرون الناس في أحوالهم ومعاملاتهم حذاق في معالجة أدوائهم، وأهل إحاطة بنفوس المتخاصمين، وخواطر المتباغضين، والسعي فيما يرضي الطرفين.
أيها الأحبة: إن سبيل الإصلاح عزيمة راشدة، ونية خيرة، وإرادة مصلحة، وإن بريد الإصلاح حكمة المنهج، وجميل الصبر، وطيب الثناء إنه سبيل وبريد يقوم به لبيب تقي، يسره أن يسود الوئام بين الناس: {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:12].(2/2)
الإخلاص في الإصلاح بين الناس
أيها الإخوة: وللإصلاح فقه ومسالك، دلت عليها نصوص الشرع، وسار عليها المصلحون المخلصون الناجحون.
إن من فقه الإصلاح صلاح النية، وابتغاء مرضاة الله، وتجنب الأهواء الشخصية، والمنافع الذاتية، وإذا تحقق الإخلاص حل التوفيق بإذن الله، وجرى التوافق، وأنزل الله الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد.
أما من قصد بإصلاحه الترؤس والرياء، وارتفاع الذكر والاستعلاء، فبعيد أن ينال ثواب الآخرة، وحري ألاَّ يحالف التوفيق مسعاه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:11].(2/3)
النجوى في الإصلاح
ومن فقه الإصلاح: سلوك مسلك السر والنجوى وإن كان كثير من النجوى مذموماً، إلا ما كان من صدقة أو معروف، أو إصلاح بين الناس، فهو محمود مستثنى، قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:11].
أيها الإخوة: هذا فقه في الإصلاح دقيق، ولعلَّ فشل كثير من مساعي الصلح ولجانه بسبب فشو الأحاديث، ونشر الأخبار، وتشويشات الفهوم، مما يفسد الأمور المضرمة، والاتفاقيات الخيرة.
إن من الخير في باب الإصلاح أن يُسلك به مسلك النجوى والمسارة، فمن عرف الناس وخَبَر أحوالهم -لا سيما فيما يجري بينهم من منازعات، ويدور بينهم من خصومات، وما يستتبعوا ذلك من حب للغلبة، وانتصار للنفس- من عرف ذلك وخبره، أدرك دقة هذا المسلك، وعمق هذا الفقه.(2/4)
جواز الكذب في الإصلاح بين الناس
إن من الناس من يأبى أن يسعى في الصلح بين فلان وفلان، ومنهم من يأنف أن يعرف الناس أنه قد دخل في مصالحة مع فلان، وآخر يصر على أن تكون المبادرة من خصمه وتمشياً مع هذا المسلك، وتمشياً مع هذه المسالك السرية، والتحركات المحبوكة، أذن الشارع للمصلح بنوع من الكذب في العبارات والوعود، قال عليه الصلاة والسلام: {فليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس، فيبني خيراً أو يقول خيراً} وفي خبر آخر عنه عليه الصلاة والسلام يقول: {لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: رجل يصلح بين اثنين، والحرب خدعة، والرجل يستصلح امرأته}.
يقول نعيم بن حمّاد: قلت لـ سفيان بن عيينة: أرأيت الرجل يعتذر من الشيء عسى أن يكون قد فعله، ويحرف فيه القول؛ ليرضي صاحبه، أعليه فيه حرج؟ قال: لا.
ألم تسمع قوله صلى الله عليه وسلم: {ليس بكاذب من قال خيراً أو أصلح بين الناس} وقد قال الله عز وجل: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114] فإصلاحه فيما بينه وبين الناس أفضل إذا فعل ذلك لله، وكراهة أذى المسلمين، وهو أولى به من أن يتعرض لعداوة صاحبه وبغضه، فإن البغضة حالقة الدين.
قلت: أليس من قال ما لم يكن فقد كذب؟ قال: لا.
إن الكاذب الآثم، فأما المأجور فلا.
فالمصلح يخبر بما علمه من الخير، ويسكت عما علمه من الشر والنقص(2/5)
الشر لا يُطفأ بالشر
وليعلم محبو الإصلاح والساعون فيه -أثابهم الله وأنجح مساعيهم- أن الشر لا يطفأ بالشر، كما أن النار لا تطفأ بالنار، ولكنه بالخير يطفأ، فلا تسكن الإساءة إلا بالإحسان، ولهذا فقد يحتاج المتنازعان إلى أن يتنازلا عن بعض الحق فيما بينهما، وإن من البصر بأحوال الناس، أن يعلم أصحاب المروءات من المصلحين أن النفوس مجبولة على الشح وصعوبة الشكائم، مما يستدعي بذلاً في طول صبر وعناء، فربكم يقول: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء:12].
إنها النفوس الشحيحة التي تحمل صاحبها وغيرها على ما تكره، ولكن في مقابل هذه النفوس الشحيحة يترقى أصحاب المروءات من المصلحين الأخيار، ليبذلوا ويغرموا، نعم يبذلون الوقت والجهد ويصرفون المال والجاه، ولقد قدر الإسلام مروءتهم، وحفظ لهم معروفهم، فجعل في حساب الزكاة ما يحمل عنهم غرامتهم، بارك الله فيهم، لئلا يجحف ذلك بسادات القوم المصلحين.(2/6)
منزلة الإصلاح
أيها الإخوة في الله: إن ميدان الصلح واسع عريض في الأفراد والجماعات، والأزواج والزوجات، والكفار والمسلمين، والفئات الباغية والعادلة في الأموال والدماء، والنزاع والخصومات، ومن أجل ذلك فقد عظم ثوابه وكبر أجره، فهو أفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة، فلقد قال نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوماً: {ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين}.
ولقد باشر عليه الصلاة والسلام الصلح بنفسه حين تنازع أهل قبا، فندب أصحابه وقال: {اذهبوا بنا نصلح بينهم}، وخرج عليه الصلاة والسلام للإصلاح بين أناس من بني عوف حتى تأخر عن صلاة الجماعة.
والإمام الأوزاعي رحمه الله يقول: ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين.
إذا كان الأمر كذلك -أيها الإخوة- فمن ذا الذي لا يقبل الصلح، ولا يسعى فيه، ليسوا إلا أناساً قد قست قلوبهم، وفسدت بواطنهم، وخبثت نياتهم، حتى كأنهم لا يحبون إلا الشر، ولا يسعون إلا في الفساد، ولا يجنحون إلا إلى الظلم، والأشد والأنكى أن ترى فئات من الناس ساءت أخلاقها، وغلت أكبادها، لا يكتفون بالسكوت والسكون، بل في أجوائهم يستفحل الخصام، ويكثر الكلام، وما أشبه هؤلاء بأعداء الإسلام وأهل النفاق! إنهم يُلهبون نار العداوة، ويوقدون سعير البغضاء، كلما خبت نار الفتن أوقدوها، ولا غرو بعد ذلك أن تضيع الحقوق، وتهدر الحرمات، ويرق الدين، وتنزع البركات.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، اتقوه وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(2/7)
ضرورة الحرص على الإصلاح
الحمد لله لا تُحصى نعمه ولا تعد، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن سيدنا ونبينا رسول الله محمد، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد، وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس: فإن تقوى الله خير زاد.
أيها الإخوة: إن الكريم لا يحقد ولا يحسد، ولا يبغي ولا يفجر، إن بلغه عن أخيه ما يكره التمس له عذراً، فقد علم أن الاعتذار يذهب الهموم، ويجلي الأحزان، ويدفع الأحقاد، ويزيل الصدود إن حقاً على إخوة الإيمان أن يسود بينهم أدب المحبة، أدب ينفي الغش والدغل مع استسلام لله بما يصنع، ورضاً بما يكتب، واسمعوا -رحمكم الله- إلى هذا الحديث: يروي أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر الله لكل عبد مسلم لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه ويبن أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا}.
قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: يدل هذا الحديث على أن الذنوب إذا كانت بين العباد، فسامح بعضهم بعضاً، سقطت المطالبة بها من قبل الله عزَّ وجلَّ.
الله أكبر يا عباد الله! {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء:147] وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب، عالية أصواتهما، وإذا أحدهم يستوضع الآخر ويسترققه، أي يطلب منه أن يخفف عنه من دينه، وصاحبه يقول: والله لا أفعل، فخرج عليهما صلى الله عليه وسلم وهو يقول: {أين المتألي على الله ألا يفعل المعروف؟! فقال: أنا يا رسول الله، فله أي ذلك أحب} فعدل الرجل عن يمينه، واستجاب لتذكير رسول الله صلى الله عليه وسلم، طاعة لله ولرسوله، واستجابة لداعي الحق.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، فمن أراد الثواب الجزيل والذكر الجميل وراحة القلب، فليحلم على الجاهل، وليعفُ عن المعتدي، وليقبل الصلح: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40].
هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آل محمد، وعلى أزواج محمد، اللهم وارض عن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر الكفرة والطغاة وسائر الملحدين اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحبه وترضاه، وأيده بالحق وأيد الحق به، وارزقه البطانة الصالحة، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم أبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنك على كل شيء قدير.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، وأصلح ذات بينهم، واهدهم سبل السلام، واجعلهم شاكرين لنعمك قابلين لها وأتمها عليهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(2/8)
الحج مدرسة وموقف
الأمة الإسلامية اليوم تشكو الفرقة والشتات، والحج يجسد أعظم وأجل صورة للوحدة الإسلامية التي لا تفرق بين أسود ولا أبيض، ولا بين عربي وعجمي.
وقد تعرض الشيخ هنا لبعض الجراحات التي ما زال جسد الأمة الإسلامية ينزف منها: فسطين - البوسنة والهرسك - كشمير.
والحل الذي تتخلص به الأمة من ضعفها هو التمسك بدين الإسلام وتطبيقه على الواقع.(3/1)
الحج ركن التواصل بين المسلمين
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أحمده سبحانه حمداً لا يُحدَّ، وأشكره شكراً لا يُعدَّ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المبعوث إلى الأبيض والأحمر والأسود، صلى الله وسلم وبارك عليه، هدى بإذن ربه إلى السبيل الأقوم، والمنهج الأرشد، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان واقتفى أثرهم وجد واجتهد.
أما بعد:
أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، جدوا في طلب الخيرات، واغتنموا أوقاتكم في الأعمال الصالحات.
أيها الحاج الكريم: ها أنت تخطو خطواتك إلى هذه الأرض الطيبة الطاهرة المقدسة، خطوات وئيدة مهيبة، تَقبَّلَ الله حجك، وغفرَ ذنبك، وشكر سعيَك، إنها أرض الإسلام الأولى، لقد كانت ميداناً لأروع حوادث التاريخ، وأخلد ملاحم الإنسانية، هذه الأرض المباركة بكعبتها ومسجدها، وشعائرها ومشاعرها، تروي تاريخاً طويلا، زاخراً بألوان الجهاد، وصور البطولات، ومصارع الشهداء، وجميل الانتصارات، يتردد في أجوائها وأصدائها نداء محمد صلى الله عليه وسلم حين انبثق معه نور الإسلام، فتغيرت معالم التاريخ، وقفزت الإنسانية إلى أسمى آفاقها.
هل تعيش -أيها الحاج! حفظك الله- هذه المشاعر والأحاسيس؟
وهل ملكت عليك روحك وقلبك ونفسك وجسدك؟
هل أدركت أن الحج ركن جديد من أركان التواصل، ورباط وثيق بين الماضي والحاضر والمستقبل؟
إنه شاهد التاريخ، ونور العقيدة، وبرهان الإيمان.
إنه الركن والرباط الذي يجعلك تقف موقف الناظر المتأمل والمحاسب والمقارن.
الحج مدرسة، والحج موقف، يا ترى! هل تحسن المقارنة؟ وهل تتقن الموازنة؟
ها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب لأمرائه وولاته أن يوافوه بالموسم ليبحث شئون الأقاليم وأمور الرعية؛ ليتحقق من بسط العدل، ويطمئن على وصول الحق.
هذا موقف.
وفي مقابله يقف رجلٌ من ساسة الغرب صارخاً في قومه، بل في العلية من قومه ليقول: إن العقبة الكئود أمام الاستقرار والتمكن من الإسلام وأهل الإسلام وديار الإسلام، شيئان لا بد من القضاء عليهما مهما كلَّفنا الأمر، أولهما: هذا الكتاب، ويعني به القرآن العظيم، وسكت قليلاً ثم اتجه نحو المشرق قائلا: وهذه، وأشار بيده نحو الكعبة، ألا شُلَّت يمينه.(3/2)
جراحات دامية في جسد الأمة الإسلامية
أيها الحاج رعاك الله: وأنت تقف موقف المتأمل، كم حاول الأعداء تمزيق الأمة؟! كم اصطنعوا من فواصل؟! وكم افتعلوا من الحواجز جغرافياً، وقومياً، وحزبياً، وسياسياً، ومذهبياً، وطائفياً؟!
لقد قطَّعوا الأسباب، وحرّموا التواصل، وفصلوا الحاضر عن الماضي المجيد، وأظلموا الطريق نحو المستقبل المأمول.
نعم! لقد حاولوا إطفاء جذوة الدين الموحد، وقتل اللغة المشتركة، وطمس التاريخ المجيد، ولقد قطعوا -أخزاهم الله- في تحقيق مآربهم شوطاً بعيداً.
وما دمت في موقف الاعتبار، ودروس الحج، فإن أمامك صورتين بائستين تجمع لك ذلك كله، إنها صورة من إخوانك في فلسطين، وصورة من إخوانك في البوسنة والهرسك.(3/3)
فلسطين جرح ينزف
أما الصورة من فلسطين فحال اليهودي الآثم مع عصبته حين قتل المصلين الصائمين، الركع السجود في جامع الخليل في فجر الجمعة من رمضان في فلسطين المحتلة، وقد قال حُكَّام صهيون: "إنه مجنون، ومن كان مجنوناً فليس بمجرم".
نعم! إن الأعمال التي يُمارسها بنو صهيون وغلاتهم في الخليل والقدس وغزة وكل الأرض المحتلة أعمال مجانين، إذا ما قيست بمقياس العقل، وهي أعمال مجرمين إذا ما قورنت بميزان العدل، وهي همجية إذا عُرِضَت على معايير الإنسانية، وهي قبل ذلك وبعده عدوان صارخ وبغي وإثم إذا ما قيست بمقياس الدين والحق هذه صورة.(3/4)
البوسنة والهرسك وآلام المسلمين فيها
أما الصورة من البوسنة -والبوسنة كلها مآسٍ- الصورة التي تُجسِّد شريعة الغاب، وقانون الاستبداد، شريعة وقانون، يكون الغاصب فيها مالكاً، والمعتدي مدافعاً، والمجرم محقاً، إنها صورة قراجدة التي افترسها الصرب المجرمون على مسمع العالم وبصره في دوله الكبرى ومنظمته المتهالكة.
سُئل أحد أصحاب القرار في دولة كبرى هل ستسمح دولتك بسقوط مدينة قراجدة في أيدي الصرب؟
فكان
الجواب
إننا لن نتدخل من أجل منع حدوث ذلك.
ولفظاعة الجواب، وشناعة المنطق، سألوا زميلة وقد كان أكثر نفوذاً منه، سألوه عن رأيه في إجابة صاحبه، فقال: إنها إجابة مُرضية.
أما متحدثهم الرسمي! فقد فتح الله عليه بهذا التصريح: إن نواصي الصرب غير واضحة عندي، ولكنهم يواصلون الهجوم والقصف، ولا أعرف ماذا سيفعلون، فلست خبيراً بنواياهم!
ما هذه البراءة؟! بل ما هذه الوقاحة؟! أما المنظمة الدولية، وقد نصبت مظلة للحق والعدل والإنصاف كما يقولون! فيقول قائلها: من الواضح أن ما يحدث في البوسنة مهم، ويُثير القلق، لكنني لا أعتقد أنه يجب المبالغة في الآثار الاستراتيجية لما يحدث.
ما أرخص دماء البشر أمام الغايات الاستراتيجية! بل ما أرخص دماء المسلمين أمام شعارهم الدولي المنافق: (حقوق الإنسان!).(3/5)
المخرج من الضعف الذي أصاب المسلمين
أيها الإخوة المسلمون: إنما يحدث اليوم في هذا الموقع سيمتد إلى غيره، وما حال كشمير عنكم ببعيد! إنها على ذات الطريق تسير، إن أطماع الأعداء لن تقف عند حد، ولن تعذر أمة الإسلام بضعفها؛ لأن ضعفها بسبب فرقتها.(3/6)
التمسك بالدين نجاة من الضعف والهوان
إذاً أين المخرج وكيف المخرج؟
المخرج جلي، والطريق أبلج، اسمعوا قول الله عز وجل: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:16].
إنه الدين ولا شيء غير الدين، إنه الدين الذي يُكسِب الأمة تميزاً يمنعها من الذوبان والتمييع والتطبيع، يحصنها مما يراد بها، ويحفظها مما يخطط أعداؤها، إنها العقيدة التي تجمع كلمتها، العقيدة التي تفرض عداوتها لأعدائها، لم يكن الغبش، ولن يكون اللبس في أمة تحسن قراءة سورة الفاتحة من كتاب ربها، ترددها وتستيقنها وتعمل بها: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7].(3/7)
عقيدة الولاء والبراء وأهميتها
الأمة في عقيدتها تمثل الجسد الواحد والبنيان المرصوص، هل يجتمع الدين الصحيح والعقيدة الصافية مع الثقة بالعدو والتصديق لأخباره، والاعتماد على وعوده؟
تقرر العقيدة أن الركون إلى الذين ظلموا والرضا عن أحوالهم ليس له نتيجة إلا أن يُسام المسلمون سوء العذاب، تُمتهن الكرامة، وتُداس المهابة، وتُسترخص الدماء، ويُستباح الحمى، وتنتقص الديار، وتستنزف الأموال: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [هود:113].
تُقرر العقيدة أن العدو إذا علا أمره فلن يقبل من المسلم إلا الردة أو القتل: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:20].
تجلي العقيدة العلاقة مع العدو في أجلى صورة، إنهم إن أبدوا الود ظاهراً، وتظاهروا بالحرص على مصالحنا وحقوقنا فما هذا إلا بظاهرٍ من القول، أما قلوبهم وغاياتهم فمنعقدة على العداوة والبغضاء: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} [التوبة:8].
العقيدة تُؤكد أن الأعداء لا يألون جهداً في إلحاق الضرر بالمسلمين، وإذا حلَّت بالمسلمين الكوارث والمصائب، وخسروا الأهل والديار والأموال فذلك ما يشتهون: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120].
وفي النهاية: فإن عقيدتك -أيها المسلم- تؤكد لك أن أعداءك مُستمرون في القتال والإيذاء سراً وجهراً، قديماً وحديثاً، في صفاقة ظاهرة أو خطة ماكرة، في حروب باردة، أو معارك ملتهبة، ليس لهم غاية إلا أن يردوكم عن دينكم إن استطاعوا: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217].
وبعد أيها الإخوة: فهذه مواقف ودروس، والطريق أبلج والمحجة بيضاء: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(3/8)
فرج الله قادم للمؤمنين
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر، أحمده سبحانه وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله سيد البشر، والشافع المشَّفع في المحشر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها الناس- وأطيعوه، وعظِّموا أمره ولا تعصوه.
أيها المسلمون: إن مع العسر يُسراً، وإن للكرب نهاية، وإنَّ الظلمة تحمل في أحشائها الفجر المنتظر.
إنَّ الدين الذي صلح به الأولون سيصلح به الآخرون لا محالة.
إن الدين الذي ضمن العزة والمنعة والقوة لأسلافه لا يزال هو الدين الذي لا يُغيره الزمن، ولا تُجافيه الفطرة، ولا تنسخه المذاهب.
يُجسد ذلك حقيقة التجسيد الحديث الصحيح عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ}.
وإذا كان المسلمون اليوم في كثير من أحوالهم قيعان تحدَّرت في رواسب العقائد الخاطئة، فأصبحت غاية الدين عندهم مظاهر من العبادة، وظواهر من البدع، وأقاويل من الوعظ، فقد آن الأوان ليكشفوا عن العيون غشاوة الباطل، ويجلوا عن القلوب صدأ الغفلة، فيبصروا الطريق، ويستبينوا الغاية، فيتعاطفون على البعد، ويتناصفون على القرب، ويتحدون في مواقفهم من الأحداث، ويقيمون شرع الله، ويصدقون مع ربهم ومع أنفسهم، وحينئذٍ يشرق الصباح، وينجلي الظلام: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك:20].
هذا وصلوا وسلموا على محمد النبي الأمي فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أقر أعيننا بعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، ودمر الطغاة وأعداء الملة وسائر الظالمين، واجعل اللهم هذا البلد آمناً سخاءً رخاء وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم أيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفقه بتوفيقك، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، وارزقه البطانة الصالحة، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين!
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين، اللهم انصر المجاهدين الذين يُجاهدون في سبيلك لإعزاز دينك وإعلاء كلمتك، اللهم انصرهم في فلسطين والبوسنة والهرسك وكشمير، اللهم انصرهم في كل مكان يا رب العالمين، اللهم وأيدهم بتأييدك، وانصرهم بنصرك وسدد سهامهم وآراءهم، واجمع كلمتهم وقلوبهم، واجعل الدائرة على أعدائهم يا قوي يا عزيز.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(3/9)
الحسد الداء والدواء
الحسد داء ينهك القلب والجسد، منه تتولد العداوة، ومنه يتولد الحقد، صاحبه يصيبه غم لا ينقطع، ومصيبة لا يؤجر عليها، ومذمة لا يحمد عليها، وسخط الرب، وغلق باب التوفيق.
ومن أعظم الدواء لهذا الداء: الخوف من الله، والرجوع إليه، والتسليم بقضائه، وأن يقدم للمحسود ضد ما يأمر به الحسد، كالبهجة والسرور عند لقائه، وتهنئته بما نال من نعم الله.(4/1)
الحسد تعريفه وأضراره
الحمد لله على نعمه التي لا تعد، وإحسانه الذي لا يحد، سبحانه وبحمده، لا إله إلا هو عليه المعتمد وإليه المستند ومن المستمد، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده الفضل، وقوله الفصل، ويأمر بالإحسان والعدل، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله كامل الحسن والنسب، وله العالي من الرتب، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه المتقربين بأحسن القرب، والتابعين لهم بإحسان في طهارة القلوب وسلامة الصدور وكمال الأدب.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوه رحمكم الله، فمن اتقاه رزقه سعادة الأبد، وبارك له في المال والأهل والولد: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4].
أيها المسلمون: داء اجتماعي خطير يحتاج إلى حملة تطهير حملة تلين القلوب المتحجرة، وتحل الأنامل المعقودة، وتتنفس فيها الصدور المتغيظة إنه داء من أدواء القلوب، شر من البخل والحرص، وأشد من الطمع والشح، بل هو أشر أنواع البخل وأذل ضروب الحرص.
إنه مرض عضال يصيب الغني والفقير، والواجد والمحروم، والعالم والجاهل، والوجيه والمطيع.
إنه داء يبخل الإنسان فيه بما ليس عنده، ويشح بما ليس في ملكه سبحان الله يا عباد الله! هل يتصور أن أحداً يمنع ما ليس عنده أو يبخل بما ليس في ملكه؟!
نعم -أيها الإخوة- إنه الحسد وما أدراك ما الحسد؟!
لقد قالوا: البخيل يبخل بماله، والشحيح يبخل بمال غيره، أما الحسود فيبخل بنعم الله على عباده.
أي وضاعة وأي صغار أن يترسب الغل في أعماق بعض النفوس حتى لا يكون لخروجه من سبيل؟! بل لا يزال يموج في جوانبها كما يموج البركان المكتوم، وكثير من أولئك لا يستريحون إلا إذا أرعدوا وأزبدوا وآذوا وأفسدوا.
إن من قلة الديانة وظهور الدناءة أن تحل الأثرة في بعض الناس فتجعله يتمنى الخسارة لصاحبه، والفشل لرفيقه؛ لا لشيء إلا لأنه لم يربح بنفسه ولم يفز بجهده.
جمهور الحاقدين الحاسدين تغلي مراجل الحقد في أنفسهم؛ لأنهم ينظرون إلى الدنيا فيجدون ما يتمنونه لأنفسهم قد امتلأت به أكف غيرهم، إنه غليان إبليسي يضطرم في نفوس الحساد، وتفسد به قلوبهم، هذه النفوس الحاسدة الحاقدة لو وكلت على خزائن الله لأغلقت أبوابها: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ} [الإسراء:100].
أيها الإخوة الأحبة: يقول أهل العلم: الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء؛ إذ حسد إبليس آدم فامتنع عن السجود، وما منعه إلا الحسد: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] وهو أول ذنب عصي الله به في الأرض حين قتل قابيل أخاه هابيل: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].(4/2)
تعريف الحسد
الحسد: تمني زوال نعمة أخيك أو السعي في إزالتها عياذاً بالله، فالحاسد يغتاظ على من لا ذنب له، يقول معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: [[كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها]].(4/3)
الحسد يفسد الدين ويبعث على الخطايا
الحسد -وقاكم الله- داء ينهك القلب والجسد، صاحبه ضجر، وعلاجه عسر ما ظهر منه فلا يداوى، وما بطن منه فمداويه في عناء، إنه قرين الكفر وحليف الباطل وعدو الحق منه تتولد العداوة، وبه تحصل القطيعة، وتتفرق الجماعة، وتتقطع الأرحام، ويفرق الشمل، وتتشتت الألفة، وتوغر الصدور، وتفسد الضمائر.
بالحسد يجرم الأبرياء، وتشوه الحقائق، ويجرح المستورون تلهٍ بسرد الفضائح، وتشهٍ بكشف الستور.
الحسد متنفس حقد مكظوم، ومتقلب صدر فقير إلى الكنف الرحوم.
الحسد يفسد الدين، ويضعف اليقين، ويكثر الهم، ويسهر العين، ويذهب بالمروءة، ويجلب الذل.
الحسد يأكل الحسنات، ويفسد الطاعات، ويبعث على الخطايا، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: {إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب -أو قال العشب-} رواه أبو داود والبيهقي وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(4/4)
الحسد يحمل على المضي في الباطل وإنكار الحق
إن الحسد يمنع قبول الحق ويحمل على المضي في الباطل طبيعة الحسد طبيعة لئيمة تأبى إلا أن تجهر بالسوء وتأمر بالفحشاء، وتنكر المعروف، وتقبح الحسن، وتذم الممدوح، وتقطع ما أمر الله به أن يوصل يبيع على بيع أخيه، ويزيد بالسلعة وهو لا يريد شراءها، ويخطب على خطبته، ويضايقه في عمله، وينقصه في علمه، ويتهمه في كسبه، ويكذبه في مقالته.
الحسد يحمل على كتمان الحق، وإنكار الفضل لأهل الفضل إذا علم خيراً أخفاه، وإن اطلع على عيب أفشاه، وإن لم يعلم حاول الكذب ولربما تعمد الكذب قاتله الله من داء فكم من صلة قطعها! وكم من رابطة مزقها! وكم من دم سفكه! فبالحسد قتل قابيل هابيل، وبالحسد عقَّ إخوة يوسف أباهم وأضاعوا أخاهم: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} [يوسف:8].
الحسد يهون على صاحبه الكذب والغيبة والغدر والنميمة والسعاية والاحتيال، والمكر وتلمس المعائب، وتعظيم الأخطاء واستجماع الزلات.
الحسود امرؤ واهن العزم، كليل اليد، جاهل بربه، غافل عن سننه، لما فاته الخير تحول يكيد للموفقين، ليس بمدرك حظاً، ولا بغالب عدواً يعيش في طول أسف، وملازمة كآبة، وشدة تحرق، لا يجد لنعم الله عليه طعماً، ساخطاً على من لا يترضاه، منغص المعيشة، محروم الطلبة، لا هو بما قسم له يقنع، ولا هو على ما لم يقسم له يقدر إذا رأى نعمة بهت، وإذا رأى عثرة شمت.(4/5)
عقوبات للحسود في نفسه
قال بعض السلف: يصل الحاسد خمس عقوبات: غم لا ينقطع، ومصيبة لا يؤجر عليها، ومذمة لا يحمد عليها، وسخط الرب، ويغلق عليه باب التوفيق.
وقال حكيم: يكفيك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك.
وقال أعرابي: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من حاسد يرى نعمة الله عليك نقمة الدهر عليه.
ومن الحسد يتولد الحقد، والحقد أصل الشر، ومن أضمر الشر في قلبه أنبت له نباتاً مر المذاق، نماؤه الغيظ، وثمرته الندم، وكلما أتحف الله عبداً بازدياد النعم ازداد هذا الحاسد غماً إلى غم وسعى في الأرض مكراً.(4/6)
بعض صور الحسد
وأشد ما تكون المنافسة، وأعظم ما يتولد الحسد بين أهل الصنعة الواحدة، والشرف المتماثل، والبيوت المتجاورة.
ومن أسوأ أنواع الحسد ما يقع بين طلاب العلم تجاه أقرانهم، فإن كنت لا تستبعد أن يقع الحسد من جاهل أو من ضعيف نفس لقلة إيمان وقلة علم؛ لكنك تأسى وتتألم حينما يقع من أناس عرفوا الحسد وشره، وعرفوا ذمه وإثمه، حملوا من العلم وعرفوا من الإيمان ما كان حرياً أن يصدهم عن مثل هذا الخلق الذميم.(4/7)
نصيحة لمن ابتلي بالحسد
أيها الحسود: أيتها النفس الشرود! لفتة يسيرة، ووقفة متأنية لترى أنك اقتحمت المضيق وتنكرت الطريق لماذا تترك الآفاق الفساح والمطلب المباح؟
أحسبت أن رزق الله ضاقت حدوده؟! أو ظننت أن فضل الله انحصرت موارده؟!
دع التشفي والتمني لما في أيدي الخلق! {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32] ودونك ميادين العمل والكسب ففيها متسع لجميع السالكين، ومتنافس لكل الكادحين: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء:32].
ثم دونك قبل ذلك وبعده عظيم الرجاء وعريض الأمل ففيه متسع للسائلين: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [النساء:32].
يا هذا: لو كانت النعم تزول بالحسد لم يبق الله عليك نعمة ولا على أحد من الخلق، فنعم الله لا تحصى وكل ذي نعمة محسود.
أيها المبتلى بالحسد: هل تأملت؟ لقد نزل بك ما كنت تتمناه لأعدائك، وحل بك ما يشتهيه لك أعداؤك، أردت المحنة لعدوك فاستعجلت محنتك، كيف لا وعساك تحسد رجلاً من أهل العلم والفضل أو من أهل البر والإحسان فتحب أن يخطئ أو يزال، وينكشف خطؤه ليفتضح، وتحب أن يخرس لسانه حتى يتلعثم ولا يتكلم، أو يمرض حتى لا يتعلم أو يعمل أي إثم تبتغيه؟ فليتك إذا فاتك اللحاق به تمنيت وسعيت لتكون مثله، ولكنك عجزت وقعدت ورضيت أن تبوء بإثمه فلا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!.
هلا نظرت وتفكرت أي سرور تدخله على عدوك إبليس؟ إن إبليس لما رآك محروماً من نعمة الورع والعلم والجاه والمال -أو هكذا تبدَّى لك- خاف أن تحب لأخيك ذلك الخير فتشاركه في الأجر بسبب المحبة، فمن أحب الخير للمسلمين كان شريكاً في الأجر، ومن فاته اللحاق بركاب الأكابر فلا ينبغي أن يفوته ركب حبهم، فخاف إبليس اللعين أن تحب ما أنعم الله على عبده من صلاح دينه ودنياه؛ فبغّضه إليك وأوقد في قلبك نار الحسد؛ حتى لا تلحق بحبك ما لم تلحقه بعملك، فانظر كيف نفذ فيك حسد إبليس وما نفذ حسدك في صاحبك.
الحسد -يا هذا- محاولة فاشلة، وحركة بائسة، تفضي إلى عكس مقصودها، وترجع سهامها إلى نحر راميها، الحسد لا يشفي غلة صاحبه بل يزيد غلته، ويضاعف كمده، ويعظم حسرته.
إن الحاسدين أمام قافلة المقادير كمثل الكلاب تنبح والقافلة تسير، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط، وقدر الله ورزقه نافذان لا محالة، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي عباد الله: {لا تحاسدوا، ولا تناجشوا ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا (ويشير عليه الصلاة والسلام إلى صدره ثلاث مرات) بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه}.(4/8)
دواء الحسد
أيها المسلمون: الحسد داء ولكن لكل داء دواء بإذن الله، فاعلم -وفقك الله- أنه متى انكشف غشاء بصيرتك ورين قلبك، وتأملت في الحسد وآثاره، ولم تكن عدو نفسك، ولا صديق عدوك؛ أعرضت عن الحسد كله حتى لا تسخط على قضاء الله، ولا تكره قسمة الله، فمن رضي بقضاء الله لم يسخطه أحد، ومن قنع بعطائه لم يدخله حسد.(4/9)
الخوف من الله والرضا بقضائه
والدواء -حفظك الله ووقاك- بالخوف من الله، والرجوع إليه، والتسليم بقضائه، فتقهر النفس على مذموم خُلُقها، وتنقلها من لئيم طبعها، فتذللها أنفة، وتطهرها حمية، فتذعن لوعظها وتجيب لصلاحها، وتستبدل بالنقص كمالاً، وتعتاظ عن الذنب مدحاً.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: {قيل: يا رسول الله! أي الناس أفضل؟ قال: كل مهموم القلب صدوق اللسان.
قالوا: يا رسول الله! صدوق اللسان نعرفه فما مهموم القلب؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد} رواه ابن ماجة بسند صحيح.(4/10)
التقديم للمحسود ضد ما يدعو إليه الحسد
إن من الخير لك والعلاج لمرضك والمداواة لقلبك: أن تقدم للمحسود ضد ما يدعو إليه حسدك فتبدل الذم بالمدح، والكبر بالتواضع، وعليك بالموافقة لأخيك فيما حسدته من أجله، واعلم أن المدح وإظهار السرور في النعمة يستجلب قلب صاحب النعمة، ويسترقه ويستعطفه، ويحمله على مقابلة ذلك بالإحسان، ثم يصير بينكما تبادل الإحسان والمعروف وحسن المقابلة فيطيب القلب، ثم ما كان تكلفاً يصير طبعاً وسجية.
والدواء في أوله مر المذاق ولكنه عظيم الأثر بإذن الله، ومن لم يصبر على مرارة الدواء لم ينل حلاوة الشفاء.
وتأمل ما يقوله ابن سيرين رحمه الله: ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا؛ لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة؟! وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو إلى النار يصير؟!
أيها الإخوة: إن نور الإيمان كفيل بتبديد دياجير الحسد من القلب، فيصبح المؤمن ويمسي سليم الصدر، نقي السريرة، طاهر الفؤاد، يبتهل إلى الله بما يلهج به الصالحون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10](4/11)
تذكر الموت
يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: [[ما أكثر عبد ذكر الموت إلا قل فرحه وقل حسده]].
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قال إذا أمسى: أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله، أعوذ بالله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر الشيطان وشركه، من قالهن عصم من كل ساحر وكاهن، وشيطان وحاسد} رواه الطبراني في الأوسط وقال الهيثمي: رجاله ثقات.
وبعد: فهذا هو الحسد بدائه وآثاره ودوائه، فإن كنت ناصحاً لنفسك فلا تطلق بصرك لتتفرس في الناس هل هذا هو الحاسد أو ذاك، ولكن ارجع إلى نفسك وتبصر بعيبك فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:1 - 5].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(4/12)
حسد الكفار لأهل الإيمان
الحمد لله الهادي إلى سواء السبيل، أحمده سبحانه وأشكره لا ند له ولا مثيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو على كل شيء وكيل، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله المبعوث بالهدى والحكمة ومحكم التنزيل، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه من كل أمة وجيل.
أما بعد:
أيها المسلمون: من أشد أنواع الحسد ما سجله القرآن الكريم على أهل الكتاب والمشركين والمنافقين من الحنق على أهل الإسلام، والغيظ الذي تمتلئ به صدورهم، قال الله: {بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [البقرة:90] {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:105] {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109].
إنه بيان جلي لما تضمره نفوسهم وتكنه صدورهم من الحسد على النعمة في دين الله الحق لقد حصرت صدورهم أن يتبعوا الحق وتمنوا حرمان المسلمين من هذه النعمة ليرجعوا كفاراً، وشواهد عصرنا على هذا كثيرة، وكل ذلك حسداً من عند أنفسهم، ولم يكن ذلك لشبهة دينية قائمة عندهم، ولكنه خبث في نفوسهم وإصرار على الباطل، وآيات أخرى تزيد ذلك وضوحاً وجلاءً، يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} [النساء:51 - 54]
إنهم لا يكفون عن تشويه الإسلام واتهام أهله وتحريض أعدائه في كل زمان ومكان، إن حقدهم لهذا الإسلام وحسدهم لأهله أضخم من أن يدارى، وأكبر من أن يخفى إنها جبلة واحدة وخطة واحدة وغاية واحدة على مر العصور وكر الدهور: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} [النساء:53].
عجباً أيها الإخوة! إنهم لا يطيقون أن ينعم الله على عبد من عبيده بشيء من فضله، ولو كان لهم نصيب من الملك لشحوا بالنقير والقطمير، وإن مجريات الاقتصاد العالمي ماثل مشاهد، ولكن الملك والتدبير لله وحده، ولولا ذلك لهلك الناس جميعاً لأنهم لا يؤتون النقير ولا القطمير: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54].
إنه الحسد على دين الله الذي أنشأ أتباعه إنشاءً، ووهبهم -بإذن الله- الحق والنور، والطمأنينة واليقين، والطهر والعز والتمكين، مما أثار حسد الحاسدين وحقد الحاقدين.
أيها الإخوة: لقد شهد اليهود والنصارى والمشركون بدين الله وهيمنته على سائر الملل والمحن؛ فهو من الوضوح والقوة ما يبهر الأبصار بنوره، ولمثل هذا تكثر السهام وتتنوع المؤامرات بقصد اقتلاعه وتشكيك أبنائه وهدم قلاعه، ولكن الحق لا ينقلب باطلاً بتشكيك المتشككين وإرجاف المرجفين، والباطل لن يكون حقاً ولو تجمع الناس عليه وتهافتوا: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33].
ألا فاتقوا الله يرحمكم الله، ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أرحم الرحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك المؤمنين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا ووفقه لما تحب وترضى، وأيده بالحق وأيد الحق به وأعز به دينك وأعل به كلمتك، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمتهم يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم.
اللهم أبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كشمير وفي كل مكان، واجعل اللهم الدائرة على أعدائهم، واجعل كيدهم في نحورهم يا قوي يا عزيز.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن والفواحش ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(4/13)
الرعاية الاجتماعية في الإسلام
الإسلام هو منبع جميع الأسس والقواعد والأنظمة التي تحفظ الإنسان من جميع النواحي، تحفظ دينه ونفسه وعقله وماله وعرضه.
والإسلام قد جسد حقيقة الرعاية الاجتماعية، حيث وضع عدة أنظمة للتكافل الاجتماعي، فمن ذلك الزكاة ومصارفها، وكذلك النفقات كالنفقة على الأبناء والآباء، وعلى المطلقات إلخ.
وهناك عصران وجدت فيهما أعلى وأسمى معاني الرعاية الاجتماعية للمسلمين، وهما في عهد العمرين: عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز.
وقد تكلم الشيخ عن ميادين الرعاية الاجتماعية، وتحدث عن دور الدولة السعودية في مجال الرعاية الاجتماعية، كما تعرض للرعاية الاجتماعية في عصرنا الحاضر واتجاهاتها.(5/1)
معنى الرعاية الاجتماعية
أحمد الله تبارك وتعالى وأثني عليه بما هو أهله، أشكره ولا أكفره، وأومن به وأتوكل عليه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة الحق واليقين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، بعثه الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه أجمعين والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فبتحية الإسلام -أيها الإخوة- أحييكم، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
ثم أشكر لمركز الأمير سلمان الاجتماعي تكرمَه بدعوتي للحضور مع هذا الجمع الطيب المبارك، وإن كان مَن يُخَص بالشكر، فهو الأستاذ: عبد العزيز الغريب، وسعادة المدير العام المهندس: عبد العزيز اليوسفي، والشكر للمقدم الأخ الشيخ: حمود السالمي، وأشكر لكم جميعاً حضورَكم وحسنَ ظنكم بمحدثكم، والشكر كذلك جملةً لهذا المركز لكل توجهه وللقائمين عليه ومن يحمل اسمه لإتاحة هذه الفرصة، بل لإتاحة هذه الأنشطة لتُقام في هذه الرقعة العزيزة من بلادنا، بل من الرياض رياضنا النضرة، وسوف يكون لي في عناصر هذه الكلمة جزءٌ من حديث عن هذا المركز.
أيها الإخوة: كما سمعتم، فإن عنوان الكلمة هو: الرعاية الاجتماعية في الإسلام، وقد رأيت أن تكون هذه الكلمة مشتملة على العناصر التالية:
أولاً: معنى الرعاية الاجتماعية، أو ما أسميتُه: مدخلاً تعريفياً.
ثانياً: الإسلام والرعاية الاجتماعية.
ثالثاً: دور الخلفاء والملوك وأهل الثراء في مثل هذه الأنشطة أو المناشط.
رابعاً: ميادين الرعاية الاجتماعية وبخاصة من جملة المناشط الإسلامية في السابق مما دلت عليه نصوص الشرع وقام ماثلاً في تاريخ أمتنا.
خامساً: الرعاية الاجتماعية في المنظور المعاصر.
سادساً: السعودية والرعاية الاجتماعية.
سابعاً: مركز الأمير سلمان الاجتماعي.
فمن حيث التعريف أو المدخل التعريفي فإن الرعاية الاجتماعية سوف ينتظم تعريفُها ببيان حقيقتها وأهدافها، وإشارة سريعة -مع أنها سوف تأتي مفصلة- إلى من ينتظمهم نشاط الرعاية الاجتماعية.
فالرعاية الاجتماعية: كفالة اجتماعية تنظر إلى الاحتياجات الإنسانية نظرة متكاملة ولا تظنوا -حينما نقول: كفالة- أنها كفالة قاصرة على المسنين أو على أصحاب القدرات القاصرة، فسوف ترون أن الرعاية أوسع من ذلك وأشمل، فهي كفالة اجتماعية تنظر إلى الاحتياجات الإنسانية نظرة متكاملة لا تبتغي الربح من وراء عملها، شعارها: (الرفاهية للجميع) بطريقة علمية مفيدة، من غير إحساس بشفقة خاصة أو استضعاف أو ممنونية.
وأعداء الإنسانية في منظور الرعاية الاجتماعية خمسة: الجوع، والمرض، والجهل، والبطالة، والتشرد.
الهدف الأسمى للرعاية الاجتماعية: هو تأمين مستوىً كريم من المعيشة والخدمات الأساسية للجميع، بمعنى: أنه إذا كان هناك من يناله بجهده وبمِلكه الخاص وبقدراته الخاصة فإن الرعاية الاجتماعية توفر ذلك لمن ينتظم فيها وينتسب إليها، ولقد قال أهل الاختصاص: إن تحقيق هذا الهدف يحتاج إلى مراجعة منتظمة بين فَينة وأخرى حسب المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية حيث تتغير الحاجات التي تحتاج إلى إشباع، وهذا سوف نأتي إليه مفصلاً -إن شاء الله- في ثنايا هذه الكلمة من حيث المتغيرات التي أدت إلى أن يلتفت الناس إليها، وبخاصة في عصرنا الحاضر إلى مثل هذا النوع من النشاط.
وزيادة في التعريف والإيضاح: فإن الرعاية تعني -وهذا هو المهم- تحقيق تكافؤ الفرص، أي: أنها مبادئ وأسسٌ وتوجهاتٌ تحكم الأعمال الجماعية المتعلقة بكثيرٍ من الجوانب الإنسانية والعلاقات بين الناس، غير مرتبطة بالعلاقة الاقتصادية البحتة، أو الوظيفية ذات المردود المادي.
وحيث إننا بصدد التعريف، فلا بد من الإيضاح أن الرعاية الاجتماعية غالباً ما تتوجه إلى العناية بالإنسان حين يكون عاجزاً عن رعاية نفسه، وهذا غالباً هو المفهوم السائد، ولكن الذي يبدو -وما سوف نرى- أن ذلك أوسع؛ لكن لا بد أن نشير إلى هذا؛ لأننا بصدد التعريف، فلا يمكن أن يُغفَل هذا الجانب، وهو من أهم مناشط ومفاهيم الرعاية الاجتماعية.
إن الرعاية الاجتماعية غالباً ما تتوجه إلى العناية بالإنسان حين يكون عاجزاً عن رعاية نفسه.
ومن هنا فإن وظيفة الرعاية تنصب على برامج التأمين ضد الشيخوخة، والعجز، وإصابات العمل، وموت العامل، ورعاية الأمومة، وفُشُو البطالة، ورعاية الأسرة، والعلاوات الأسرية، أي: أنها تلاحظ فئات من المجتمع تغيرت عليهم الأيام أو لحقت بهم كوارث أو حلت بهم نوازل، كما قد يُبتلى بعضهم بعاهاتٍ أو إعاقات، يستحقون معها رعاية خاصة تحافظ عليهم ليبقوا منتمين إلى الجماعة، مرتبطين بالمجتمع، قادرين على العطاء، وقادرين على التكيف في ذات الوقت.
وإذا كان هذا الشمول كله يتناول معنى الرعاية الاجتماعية كمصدر مستقل من مصادرها ومراجعها، فإن المسئولية فيها لا تخص فرداً أو فئة، بل إنها مسئولية مشتركة، يسهم فيها المجتمع والأمة والدولة، غير أنها قد تبدأ متدرجة من الأسرة والوالدَين، ثم القرابة والخيرين الموسرين، ثم على الدولة أن تتحمل مسئوليتها وتقدم الرعاية لمن هم في أمس الحاجة إليها، وهذا التوزُّع في المسئوليات هو ما سوف يتجلى من خلال الكلمات القادمة إن شاء الله.
إذاً: هذا هو تعريفها من حيث حقيقتها، ومن حيث أهدافها، ومن حيث المنتمين إليها، والقائمين عليها.(5/2)
الإسلام والرعاية الاجتماعية
الشريعة هي المحجة التي جاء بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه، وأوجب اتباعها والتزامها وصونها، وهي إلى الله أقصد سبيل بأن مبناها على الوحي والتنزيل، والخير كله في اتباعها، والشر كله في إضاعتها وضياعها، ولقد جعل الله لها حُماة يقيمون منارها، وحَمَلةً يحفظون شعارها، فحماتُها الملوك والأمراء، وحُفَّاظُها الأئمة والعلماء، في عدالة لا يُعدَل عنها، وكفاية لا يجوز الخلو منها، والشريعة في نظرتها للمجتمع تؤكد أنه كيانٌ إنساني متواصل، فالأسرة فيه ترتبط بالمودة الواصلة، والمجتمع في القرية والبلدة يتعاون أعوانه على الخير والأخذ بيد الضعيف والعاجز وتنمية المستغلات والموارد المملوكة للآحاد أو الجماعة على أكمل وجهٍ مستطاع، والأمة يتضافر آحادها على الخير فيما بينها وعلى التعاون فيما ينفعها، والإنسانية كلها تتعاون على رفعتها؛ فالقوي ينصر الضعيف، والعالِم يعلم الجاهل.(5/3)
الإسلام لا يدعو إلى التفريق العنصري
والقرآن الكريم أعلن أن الناس أمة واحدة، واختلافهم في ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم لا يقتضي التفاوت في معنى الإنسانية وحقوقها، بل الجميع في هذا سواء، وما كان الاختلاف في الشعوب والقبائل إلا من أجل التعارف والبراءة من التناكر والتدابر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وذلك كله في قانون الإسلام يقتضي أن يمد الإنسانُ بالعون لكل من يحتاج العون.
وعليه: فإن السعي في تهيئة الفرص لمريد العمل ومستطيعه ومطيقه أمرٌ تدل عليه تعاليم القرآن والسنة وتوجهاتهما، ويتاح لكل إنسانٍ من العمل قدر استطاعته الجسمية والعقلية، ومن قعدت به قوته عن العمل، فحقٌ أن تهيء له أسباب الحياة الكريمة.(5/4)
الإسلام يدعو إلى التضامن والتعاون
إن الإسلام يدعو أهله لينظموا جهودهم الواجبة والطوعية لسد حاجات الأفراد والأُسَر وكل من كان في حاجة إلى مساعدة مادية أو عينية أو معنوية أو صحية أو إعانة بدنية، ونصوص الشرع جلية متكاثرة في تخصيص أصحاب القدرات الناقصة والإمكانات القاصرة بنوع رعاية كالأطفال، وكبار السن، والعجزة، والأرامل، والمساكين، وهذه قدرات متناقصة من أنواعٍ متباينة كما تعلمون، فعجز الطفل غير عجز كبير السن، والعجز في الأرملة غير عجزه في الأنواع السابقة وهكذا.
فنصوص الشرع جلية متكاثرة في تخصيص أصحاب القدرات الناقصة، والإمكانات القاصرة بنوع من الرعاية، سواءٌ أكان في سن الحضانة أم مَن كَبُر حتى صار زمناً أم كان من أصحاب الإعاقات أو ذوي العاهات والأرامل واليتامى والمساكين والمسافرين وأبناء السبيل.
ومن المؤكد أنه يدخل فيهم ما يستجد من حوادث ونوازل حسب الحاجة والمتغيرات من نزلاء دور التوجيه الاجتماعي والملاحظة الاجتماعية، وسيزداد الأمر هذا جلاءً -إن شاء الله- حين الحديث عن صورٍ من الرعاية في الإسلام.
ولم أورد نصوصاً كثيرة في هذا؛ لأني أعلم أنها -ولله الحمد- في مجتمعنا معروفة، فأكثر الناس يعرفون نصوص الكتاب والسنة الخاصة في المطلقات واليتامى والمساكين وكبار السن والأطفال، حتى المجانين، فكلٌ له نصيبه في هذه النصوص مما أعلم أنه جلي، ومن هنا لم أورد نصوصاً في هذا اللقاء، وإن كان بودي لو أستشهد بها باعتبار أنها توضح المقصود؛ لكن أعلم أنها جلية لديكم، ومقامي لن يسمح بأن أوردها على النحو الذي كنت أريده، مع أنه في ثنايا هذا الدرس سوف تأتي بعض النصوص؛ لكنها -في ظني- غير كافية لمن يريد أن يستشهد لذلك، ولا يحتاج إلى برهان، كما سوف نرى.(5/5)
دور الخلفاء والملوك وأهل الثراء في الرعاية الاجتماعية
إننا عندما نتحدث عن الرعاية كثيراً ما نعني نشاط الدولة، بمعنى: أنه النشاط الذي ينبع من جهودٍ، إما من خليفة بجهده الشخصي واهتمامه الشخصي، لا لأنها وظيفة دولة؛ لأن وظيفة الدولة معروفة، أو من والٍ من الولاة، أو من أميرٍ من الأمراء، أو ثري من الأثرياء، أو نحو ذلك مما يزخر به تاريخنا.
إن تاريخ أمتنا الإسلامي عريقٌ وعميق، له قصب السبق في كل شأنٍ من شئون الحياة، وفي كل مرفقٍ من مرافقها، سواءٌ أكان في ميدان العلم والفكر، أم في ميدان العمل والبناء، أم في ميدان الرعاية والعناية، وهو عندنا أمرٌ لا يحتاج إلى برهان، فنصوص الكتاب والسنة واستنباطات أهل العلم جلية واضحة، والفقرة السابقة كان فيها إشارة إلى ذلك، والذي يعني في هذا المقام التنبيه والإشارة والإشادة بدور الخلفاء والحكام والأمراء وأهل الثراء في رعاية هذه الميادين والاحتفاء بها واحتضانها، وهذا نابعٌ من طبيعة احتفاء الإسلام بالعلم والعمل وعظم منزلتهما ومنزلة أهلهما لديه، فلا غرو أن يتبارى الحكام والولاة في التنافس الشريف.(5/6)
شهادة أحد المستشرقين بفضل خلفاء المسلمين في الرعاية الاجتماعية
قال بعض المستشرقين وهم ممن يُسْتَحْسَن الاستشهاد بمقولاتهم في هذا المقام؛ لأن بلادهم في الوقت الراهن هي مقصد كثيرٍ من المعجبين بالعلم وصناعته.
يقول هذا المستشرق: كان الارتباط بين العلم والملوك وأثرياء التجار والنبلاء في العهود الإسلامية مصدراً لقوة العلم.
قال: وفي خلال فترة قصيرة هي عهد الخلفاء العباسيين: المنصور، وهارون الرشيد، والمأمون، والمتوكل، لَقِيَت العلوم تشجيعاً لم تشهده منذ أيام متحف الإسكندرية، يعني: عهد الرومان.
والعناية العملية التطبيقية ولدت مزدهرة مع بزوغ فجر الإسلام، أي: منذ أن قام نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم بمهمة الدعوة من أول أيامها، فهو الذي يقول: {من كان له فضل زادٍ فليعد به على من لا زاد له، ومن كان له فضل ظهرٍ فليعد به على من لا ظهر له} وهو الذي نهى عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل دافة من البادية دفت على المدينة وسوف نبسط بعض البسط -إن شاء الله- في الفقرة التالية شيئاً عما أنجزه العُمَران: عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز من النظم الاجتماعية في هذا الباب.
أقول ونحن بصدد الحديث عن دور هذه القيادات في المجتمع الإسلامي في تاريخه الطويل: لقد أنشئت في تاريخ الإسلام الدواوين الخاصة للعطاء وتقديم مساعدات في ضوء الاحتياجات الشخصية للعاجزين من المرضى والعجزة وكبار السن والأرامل والمطلقات في سَوْقٍ سوف يأتي إيضاحه وبيانه.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه هو صاحب قصة الصبية الجياع مع أمهم حين حمل لهم كيس الدقيق على ظهره، وذهب به إلى هذه المرأة وصبيتها، والدموع تتناثر على لحيته، والدقيق يتناثر على وجهه، شعوراً بالمسئولية، وخشية من ضياع الرعية، وهو الذي رأى يهودياً قد طعن في السن يسأل الناس، فقال: ما ألجأك إلى ما أرى؟ فقال: أسأل الجزية والحاجة والسن، فأخذ عمر بيده، وأعطاه ما يكفيه، وقال لخازن بيت المال: انظر هذا وضرباءه -أي أمثاله- فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته، ثم نتركه عند هرمه.(5/7)
دور بعض الخلفاء في نشر العلم
وفي ميدان العلم والتعليم والنشر كم من كتب قيمة ألفت من أجل أن تُهدى لأميرٍ، يقدر العلم، ويحترم أهله، بل أنشئت دور العلم ومدارسه تحت نظر هؤلاء الأمراء النبلاء، فبيت الحكمة في بغداد أسسه هارون الرشيد، واعتنى به من بعده ابنه المأمون، والمدرسة النظامية التي بناها في بغداد الوزير المظفر نظام الملك وزير السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي سنة: تسع وخمسين وأربعمائة للهجرة، ثم بنى مدرسة أخرى في نيسابور سميت النظامية أيضاً، ثم تتابع الناس بعد ذلك في العراق وخراسان وبلاد الجزيرة، وصلاح الدين الأيوبي اشتهر ببناء المدارس ورعايتها، وأول مدرسة بناها هي المدرسة الناصرية بـ الفسطاط سنة ست وخمسين وخمسمائة للهجرة.
والحديث عن المدارس ليس فقط لأنها دُوْرٌ للعلم؛ ولكننا لأن هذه المدارس غالباً ما تشمل مرافق من الإعاشة والأرزاق، ويضع الواقفون من الشروط ما يحفظها، ويحفظ المنتسبين إليها في معاشهم ومواصلة تعليمهم.(5/8)
دور الملك عبد العزيز في مجال الرعاية الاجتماعية
وما دمنا بصدد الحديث عن دور الملوك والأثرياء في ميادين العلم والعمل والرعاية، فلعلنا نطوي الزمن لأننا لسنا بصدد إثبات أمرٍ مجهول أو البرهنة على أمرٍ يداخله شك، نطوي الزمن لنصل ونتصل ونتواصل بعهدنا الزاهر وعصرنا الميمون -بإذن الله- في بلادنا المملكة العربية السعودية، بدءاً من عهد الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، وجعل جنة الفردوس مأواه، ونحن في هذا الطي والتواصل لا نتكلم عن العلم ودُوره ومدارسه بمراحله الكافة، حتى الدراسات العليا والشهادات الكبرى، فهذا واقعٌ معاش والأجيال من أروقته تتدفق، ولكن نتحدث عن الرعاية الخاصة التي تمثل -إن صح التعبير- مزاحمة القطاع الخاص في خصوصيته مزاحمةً شريفةً، وتنافساً في المعالي، فكم من كتابٍ طُبِع على نفقة الملك عبد العزيز رحمه الله، بل من أمهات الكتب في نصرة عقيدة السلف ومطوَّلات الكتب في المذهب والتاريخ والسير، ومع حديثنا عن الهيئات والمؤسسات نذكر لها نماذج من غير حصر، منها:
مؤسسة الملك فيصل الخيرية، وجائزته العالمية.
مكتبة الملك فهد الوطنية.
مكتبة الملك عبد العزيز.
مؤسسة الأمير سلطان الخيرية بموسوعتها العلمية التي شرَّق صيتُها وغرَّب.
كرسي الملك فهد.
كرسي الأمير نايف.
جوائز تحفيظ القرآن والجوائز العلمية للمتفوقين التي يقوم عليها ويرعاها أمراء المناطق حفظهم الله.
فهي أعمالٌ جليلة لها دلالتها الكبرى، ومن أهمها وأبرزها مكانة المعرفة في وعي القيادة واهتمامها.
إن المعرفة والوعي قضية كبرى توازي قضايا السياسة، والاقتصاد، والدفاع، والأمن، والشئون الداخلية، والخارجية؛ حيث العلم والدين والمعرفة هي عنوان الريادة والسيادة واستحقاق الصدارة.(5/9)
الرعاية والخدمات الاجتماعية في عهد عمر بن الخطاب
وقبل مغادرة هذه الفقرة لا بد من إشارة إلى ما سجله التاريخ من منجزات العُمَرَين: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمر بن عبد العزيز رحمه الله، فهي نموذجٌ للفهم الجلي والتطبيق العملي من نصوص الشرع.
ففي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ظهرت بعض النظم الاجتماعية:
أولاً: ظهرت خدمات عمر بشكلٍ واضح عام الرمادة، إذ أعسر المسلمون في الحجاز وفي نجد، وجاعوا، فكان يأخذ الطعام من الأمصار ويوزعه، وكان يرسل الطعام والأموال إلى بيوت المعوزين والمرضى، ويعتني بمرضاهم، ويجهز موتاهم على حساب بيت المال، ولم يكن ليقدم هذه الخدمات اعتباطاً، بل كان يحصر أسماء الفقراء ومن يحتاجون إلى عناية ورعاية، ومن تصلهم الإعانة فعلاً، ويقدم للمحتاجين ما يطلبونه.
ثانياً: وقد أحصى أسماء الفقراء والمساكين والعجزة، وفرض لهم مرتباتٍ خاصة، وكفل معيشتهم وكل ما يحتاجون إليه، فكان يقدم لهم مرتباتٍ منتظمة، كما يقدم لهم تمويناً من الأطعمة ثابتاً، وذلك بناءً على تجربة أجراها -وسوف نذكر التجربة بعد قليل إن شاء الله- تجربة أجراها، فعَرَف بها كم يحتاج هؤلاء من طعامٍ ومالٍ شهرياً.
ثالثاً: أحصى العائلات التي لا عائل لها، سواء أمات هذا العائل أو قُتِل، ففرض لها أعطياتٍ ومرتباتٍ شهرية وكفل المعيشة لها من بيت المال.
رابعاً: اللقطاء، والمرضى، والأطفال كان عمر يفرض معاشاً لكل فطيمٍ في الإسلام، ثم حدث أن شاهد امرأة يبكي طفلها -وسوف يأتي هذا الموضوع مفصلاً- فأصدر أمره أن يرتَّب لكل مولودٍ في الإسلام معاشٌ قدره مائة درهم يزداد كلما كبر سنه، ولم تقتصر عنايته على أولاد المسلمين الشرعيين، بل كان يجمع اللقطاء، ويفرض لهم مرتباتٍ شهرية، ويجعل معاشهم من بيت المال.
خامساً: أمر بعزل المرضى، حتى لا تُنْقَل عدواهم وخاصة من كان مجذوماً، وجعل العناية بهم من بيت المال.(5/10)
الرعاية والخدمات الاجتماعية في عهد عمر بن عبد العزيز
أما الخدمات في عهد عمر بن عبد العزيز، فنورد منها ما يلي:
أولاً: اعتنى بالفقراء، وسوَّى بين جميع المسلمين في العطاء، وكان كل والٍ من ولاته يحصي عدد فقراء ولايته، ويقدم لهم المرتبات الشهرية والإعانات حتى يعيش عيشة الكفاف.
ثانياً: فرض لكل مولود يولد في الإسلام مرتباً يعيش منه، كما جعل الحد بين عطاء الرجل والطفل من الخامسة عشرة، فكان يعطي الذي يبلغ هذا السن غير ما يعطيه لمن جاوزه.
ثالثا: كانت السُّخْرة منتشرة -أي: إجبار الناس- قبل عمر، فأمر بإبطالها، ومنعها منعاً باتاً، وعُنِي بالمساجين، ففصل بين المجرمين الأشرار، وبين من يُحبَس لأجل الدين، وأوقف للجميع مرتبات يتقاضونها، كما كان يقدم إعاناتٍ لعائلات الفقراء منهم.
رابعاً: أقام عمر بن عبد العزيز مطاعم عامة، وكان الطعام يقدم فيها مجاناً للفقراء، وكذلك أمر بإحصاء أبناء السبيل والمرضى وذوي العاهات، وأمر بقائدٍ لكل أعمى، وبخادمٍ لمن لا يستطيع القيام، قالوا: إن المقصود بالقيام هنا: القيام للصلاة.
خامساً: خصص للفلاحين عشرات الألوف من الدنانير تقدم لهم ليستعينوا بها على إصلاح أراضيهم واستغلالها، كما رفع عنهم كثيراً من الضرائب والمكوس.
سادساً: كان يفرض لكبار السن مرتباً شهرياً، وكذلك اعتنى بالعاجز والمريض، وقد كتب إليه والي الكوفة ذات مرة يقول: إنه قد بقي لديه من المال الكثير، فكتب إليه عمر: انظر من كانت عليه جزية من أهل الذمة، فضعُف عن أرضه فأسْلِفْه حتى يقدر على عمله، وفي بعض النقول أن والي مصر كتب له: إنه قد فاض المال، فقال: تلمس المحتاجين، قال: قد فاض المال، قال: أعط أصحاب الجزية كما هنا، قال: قد فاض المال، قال: اشتر رقاباً، فأعتقها في سبيل الله.
ولعلكم بهذه النماذج تدركون أن ما أثبتته البحوث المعاصرة حول مبادئ الرعاية الاجتماعية الحديثة، وأيضاً ما سموها بمبادئ الديمقراطية التي تعمل على نشرها بالوسائل المختلفة، وتساعد الناس على السير عليها، تلاحظون أن كل ذلك كان أصيلاً في الإسلام، بل وإن التعاليم والمبادئ الإسلامية أكثر تقدماً وأوسع أفقاً من هذه المبادئ المعاصرة، وإن الناظر في المدارس والأوقاف وطرق تنظيمها وشروط واقفيها لَيُدْرك بجلاء أننا لا نتكلم عن مثالياتٍ لا تطبيق لها، ولكن الأمة مع الأسف حين يصيبها الضعف، فإنها تضعف من داخلها، وتنهزم في روحها، وتتعلق بالقوي، وتسير في ركابه، وتعجز أن تثق بنفسها.
ولمزيدٍ من تأكيد أصالة الأمة، ووضوح التصور عندها، فهذه وقفاتٌ عند بعض نماذج وصور من الرعاية وميادينها.(5/11)
ميادين الرعاية الاجتماعية
دين الإسلام هو الركيزة الأساسية في تنظيم المجتمع الإسلامي، لما اشتمل عليه من مبادئ توجه العلاقات بين الناس، ونظم تحمي هذه المبادئ وتجعلها واقعية؛ تعالج حاجة الفرد وحاجيات الجماعة، وتنظم علاقات المجتمعات لتسمو بها عن الشروع عن كل مصادر الإيذاء، وتدفعها إلى طريق السعادة الشاملة، وقد سلك الإسلام للوصول إلى هذه الغاية النبيلة مسلكاً دقيقاً وعملياً يتماشى مع طبيعة البشر، ويتوافق مع متغيراتهم، فهو لم ينظر إلى الرعاية الاجتماعية على أنها قضية قائمة بذاتها أو مستقلة، بل رأى أن المجتمع في قضاياه متشابك وأن قضية الرعاية تدخل فيها مكونات لا حصر لها، ومن ثَمَّ فإن توفيرها ووضع الأسس لقيامها إنما يكون بدراسة هذا الكل في مفرداته وإعطاء كل جزءٍ نصيبه من الدراسة، وبالتالي من التوجيه والتشريع، ولعل ما سبق -أيها الإخوة- من تعريفٍ يوضح ما نقصد إليه هنا ونرمي.
فمثلاً: مبدأ المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار منه صورة مِن صور التكافل بين المسلمين، حين ترك المهاجرون أهلهم وأموالهم هجرة في سبيل الله، فاستقبلهم إخوانهم الأنصار بالإيثار في أسمى المعاني، وليدعم الإسلام مبدأ التكافل، ووضع تنظيماتٍ يوفر بموجبها للأفراد غير القادرين على الكسب مورداً أو الذين لا يكفيهم كسبهم.
فمن صور التكافل: نفقة الصغار، ونفقة الزوجة والمطلقة، ونفقة الوالدين والأقارب، ونفقة الحاضنة، والزكاة ومصارفها، وبخاصة مصرف ابن السبيل ومصرف الغارمين، وكذلك الأوقاف بكل نصاعة ونضارة.
ونفقة الأقارب واجبة على تفصيلٍ مبسوط في كتب الفقه -وعندي بعض التفصيل لكن قد أتجاوزه وأخشى أن يطول الوقت.
والكفارات في الإسلام نصرفها للمساكين وبتنويعٍ عجيب، سواء أكانت كفارة اليمين، أو كفارة الظهار، أو كفارة الجماع في نهار رمضان، أو كفارة محظورات الإحرام إلخ.
كذلك دية القتيل لا يتحملها القاتل، في حالة القتل الخطأ، بل على العاقلة.(5/12)
كبار السن
وكبار السن موجودون في كل مجتمع، وقد تمر على بعضهم -أو على كثيرٍ منهم- في بعض المجتمعات أحوال تجعلهم يعيشون في نوعٍ من الاكتئاب والانعزالية نتيجة اختلاف الأجيال وغفلة الشباب، أو غفلة العاملين في أعمالهم عن هذه الفئة.
ومن هنا ندرك عظمة ديننا حين خص عن الفئة برعاية خاصة اعترافاً بماضيهم، وتقديراً لخبرتهم، وحفظاً لحقهم.
ويرتسم هذا المنهج حين نتأمل التوجيه القرآني في حق الوالدين في عبارة قرآنية رقيقة يحس بها أصحاب القلوب المؤمنة الرحيمة حينما يقول الله عز وجل: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24] وهذا انطلاق للإحساس بالمرحلة التي يبلغها كبير السن، حينما يؤدي ما عليه، ويبقى الذي له، وحينما يكون ضعيفاً لا يستطيع أن يقوم بالنشاط الذي كان يقوم به.
كنتَ ضعيفاً أنت في حال الصغر والصبا: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] إلى أن قال: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24] فجديرٌ حينما يمر أحدنا بكبيرٍ قد أقعده الزمن أن يتذكر حالة عجزه حينما كان يعطف عليه الكبار، فحقٌ عليه أن يعطف هو على هؤلاء الذين عطفوا عليه.
ولقد وُجِدَت أربطة للمطلقات والأرامل يمكثن بها حتى يتزوجن أو يرجعن إلى أزواجهن، وكثرت المستشفيات والبيمارستانات والملاجئ والأربطة ونُزُل المسافرين لإيواء أبناء السبيل والمرضى والفقراء وغيرهم من ذوي الحاجات على حسب تنوع حاجاتهم.(5/13)
رعاية الأطفال والسفهاء والمجانين وغيرهم
أُدْخِلت ولاية الأيتام والسفهاء والمجانين ومصالحهم وأموالهم وكفلاؤهم في ولاية القضاء، لماذا؟ لأن ذلك يحتاج إلى مزيد عناية بحسب ولاية القضاء، فأما إذا رأى الإمام أن يخص من هو كافٍ للقيام به، فله ذلك ولا فرق في ذلك بين من له وصيٌ خاص وبين من لا وصي له، فالأمر كله يعود في النهاية عند التقصير إلى الحاكم أو إلى القاضي كما هو معلوم.
فإذا كان الوصي قائماً بما عليه من نظر في مصالح اليتيم والسفيه والمجنون، استمر الحاكم أو السلطان على إجازة قيامهم به، ولم يتعرض له، وإن كان مقصراً أو متهماً، أسند معه غيره، وإن كان مستحقاً للعزل عزل.
واسمع إلى ما يقوله بدر الدين بن جماعة الشافعي في هذا الباب، وهو يتكلم عن حق الجنود، إذا تُوُفوا في المعركة أو استشهدوا يقول: إذا مات بعض المرتزقة من الأجناد -المرتزقة أي: الذين يأخذون رزقاً من بيت المال، وليس بالمصطلح المعاصر (مرتزقة) إنما هؤلاء هم الذين يأخذون جزءاً من بيت المال، والغزاة الذين يستحقون الزكاة قال العلماء: هم الذي لا ديوان لهم، أي: لا يأخذون شيئاً من بيت المال، لكن هناك نوعٌ من الجنود يأخذون من بيت المال نصيباً- فقال: وإذا مات بعض المرتزقة من الأجناد استمر عطاؤه على بناته وزوجاته إلى أن يتزوجن من يكفيهن، وعلى صغار أولاده الذكور إلى أن يبلغوا، ويستقلوا بالكسب، أو يرغبوا في أهلية الجهاد -أي: يسجلوا مع المجاهدين- وعلى الأعمى والزَّمِن منهم أبداً قدر الكفاية -أي: إلى أن يموت- كل ذلك لترغيب أهل الجهاد وتوفير خواطرهم عليه وتطييب قلوبهم على عيالهم بعدهم، فهذا كلام ابن جماعة.
إذا رأيتم نظام التقاعد أو نحوه أو نظام إصابات العمل فستجدون أنها لم تبلغ حتى هذا التعبير الذي عبر به ابن جماعة من الشافعية رحمه الله، ورحم علماءنا جميعاً.
كذلك -أيضاً- قد نقف عند رعاية الطفولة، فهي تشمل تلك الجهود الاجتماعية والاقتصادية ونواحي النشاط الأخرى التي تعمل على رفع مستوى الرخاء للطفل، كفردٍ له مكانته وكيانه، وكعضو في المجتمع الكبير.
واهتم الإسلام بالطفل -كما هو معلوم- وحدد معاني العناية بالجنين قبل ولادته، كما عنى بحقوقه بعد ولادته، كما اهتم بحضانته وتربيته الخ.
وقد كان عمر رضي الله عنه لا يفرض لمولودٍ شيئاً حتى يُفْطَم، إلى أن سمع ذات ليلة امرأة تُكْرِه ولدها على الفطام وهو يبكي، فسألها عنه فقالت وهي لا تعرفه: إن عمر لا يفرض للمولود حتى يُفْطَم، وأنا أكرهه على الفطام حتى يفرض له، فقال: يا ويل عمر! كم احتمل من وزرٍ وهو لا يعلم! ثم أمر مناديه، فنادى: لا تعجلوا أولادكم بالفطام، فإنه يفرض لكل مولودٍ في الإسلام.
ثم إنه كَتَب إلى أهل العوالي وكان يُجري عليهم القوت -لاحظوا التجربة التي أجراها حتى يعرف كم تستحق كل عائلة، وهي التجربة التي وعدنا ببيانها- فأمر بجريبٍ من الطعام فطُحِن -جريب أي: مقدار من الكيل- ثم خُبِزَ ثم فُرِدَ بزيتٍِ، ثم دعا بثلاثين رجلاً، فأكلوا منه غداءهم حتى أصدرهم، ثم فعل في العشاء مثل ذلك، فقال: إذاً يكفي الرجل جريبان من كل شهر، والتجارب قابلة للتجديد وقابلة للتطوير، لكن لاحظوا مدى حرصه على العدل، ثم انظروا أيضاً إلى واقعيته في طريقة تحقيق الحق للناس.
وكان يرزق -أي: يصرف للرجل وللمرأة وللمملوك- جريبين جريبين في كل شهر، وكان إذا أراد الرجل أن يدعو على صاحبه قال له: رفع الله عنك جريبك، أي: قطع الله رزقك.
وتقدير العطاء كذلك -وهذا قد يكون من اللطائف- فالكفاية قال العلماء معتبرة للإنسان بحسب ما يلي:
أولاً: عدة من يعوله من الذراري والممالك، يُحصَى البيت، ليُعرَف كم فيه ممن يعولهم هذا الرجل، أو كم يسكن في هذا البيت.
الثاني: عدد ما يرتبطه من الخيل والظهر إنه يُعْطَى بدل بنزين، فمادامت أن الخيل والظهر محسوبة فإذا كان إنسان ليس عنده ظهر، وعنده سيارة، فقد يُعْطَى بدل وقود.
الثالث: الموضع الذي يحله في الغلاء والرخص، أي: اختلاف الأسعار، فلاحِظ أن التقادير جميلة، فالعلماء ما تركوا شيئاً.
فباختصار هي:
أولاًَ: عدة من يعوله من الذراري والمماليك.
ثانياً: عدد ما يرتبطه من الخيل والظهر.
ثالثاً: الموضع الذي يحله في الغلاء والرخص، أي: فارق الأسعار، فقد كان عندهم تضخم، وكان عندهم انخفاض، فيقدر كفايته في نفقته وكسوته في عامه كله، فيكون هذا المقدر في عطائه، ثم يُعرَض حالُه في كل عام، فإن زادت رواتبه الماسة زِيْدَ وإن نقصت نُقِصَ.
وعلى قيم اليتيم أن يراعي حاله وصلاحه، ويكون تحت إشراف القاضي كما هو معلوم، ويعمل على تنمية مال اليتيم وزيادته، وكذلك -أيضاً- يوضع مال اليتيم في خزائن أمينة يؤمن عليها من الضياع.(5/14)
الوقف
الوقف كذلك هو أمرٌ جلي، وحقه أن يفرد -حقيقةً- بحديث؛ لأنه يمثل مرحلة من تطور الأمة؛ لكن مع الأسف الأمة أضاعت أوقافها، وأضاعت كثيراً من حالها، فلو أن الأوقاف عادت إليها وظيفتها، فإن الأمر سوف يختلف كثيراً، وسوف تجد كثيراً من الذين يحتاجون إلى رعاية يمكن أن يُرْعَوا من غير أن تتطلع أيديهم إلى ما في أيدي الناس، أو ما في أيدي الأثرياء، حتى إن بيت المال يخف كثيراً من أحماله لو أن نظام الوقف أقيم على وجهه، مع أني أعرف -كما تعرف الصحف وغيرها- أن الوزارة لها توجه محمودٌ في محاولة الاستفادة من الوقف.
فيمثِّل الوقف في تاريخ الأمة ركنا قوياً في الرعاية الاجتماعية، لما يتضمنه من شروط الواقفين، لصرف غلة الوقف على العجزة والأرامل والمساكين وذوي الحاجات؛ بل حتى على طلبة العلم وإحياء العلم ورسالته ووظائفه، والأوقاف العامة والخاصة مفوضةٌ إلى القضاة، فإن خص الإمام بها من يصلح لها وفوضَّها إليه، صح ذلك، وليست دائماً مفوضة للأئمة؛ فإذا كان الواقف -كما تعلمون- وضع ناظراً، فإن كان عدلاً، فإنه يتعين عملاً بشرط الواقف كما هو معروف.
والأوقاف واسعة في ميادينها، فنهاك أوقاف مساجد، وأوقاف أربطة، وأوقاف مدارس، ونزل مسافرين، وأشياء كثيرة.(5/15)
المنظور المعاصر للرعاية الاجتماعية
نأتي الآن إلى الرعاية الاجتماعية في المنظور المعاصر:-
قبل الحديث عن العصر الحاضر يحسن أن ننبه إلى متغيرات لا بد من ملاحظتها مع العصر الحاضر.
لقد حدث في الوقت الحاضر ونتيجة للانقلاب الصناعي الذي لم يعد مقتصراً على الدول الصناعية، بل تعداه للدول النامية، حدث تغير أدى إلى تخلخل التركيبة الاجتماعية، وطبيعة العلاقات الاجتماعية والأسرية.
ومن مظاهر ذلك:
أولاً: تحول السكان من الأرياف والقرى والبوادي إلى المدن مما أضعف دور الجماعات الأولية، كالأسرة والأقرباء والجيران وأهل الخير.
ثانياً: حلت مؤسساتٌ مجتمعيةٌ في المناطق الحضرية محل الأسرة وأهل الخير في أداء كثيرٍ من وظائفها حتى التعليم والصحة، وقد كانت في السابق هي مسئوليات أسرية خالصة.
ثالثاً: قلَّ إسهام الأطفال وكبار السن في الحياة الأسرية في المناطق الحضرية بعد أن كان إسهامهم رئيسياً في الزراعة والرعي، بل وفي كل مناشط الحياة.
رابعاً: ضعف أثر الدين أن الذي كان يحكم العلاقات الاجتماعية من الحياة الزوجية والأقربين والأرحام مما أدى إلى تفككٍ ملحوظ، بل لقد كانت الأسرة في السابق تضم ثلاثة أجيالٍ تحت سقفٍ واحد مع الأقرباء والخدم وغيرهم، وهذا الضعف بالتالي أدى إلى التقليل من مقدرة الأسرة على رعاية المسنين والمعاقين وأصحاب القوى الضعيفة والناقصة.
خامساً: التقلبات الاجتماعية والجغرافية والوظيفية -بل والحياة الشخصية- في المدن أضعفت من روابط الجيرة، وكذلك المهن الحرفية التي كانت قوية في العهود السابقة تلاشت؛ لأنه جاء عصر الآلة.
سادساً: عصر الآلة الحاضر أدى إلى تعطل كثيرٍ من الحرف والمهن، مما يترتب عليه فائضٌ في العمالة يفوق باستمرار فرص العمل المتاحة مع تدني الأجور وشروط العمل الثقيلة وعدم مسايرة المهارات للتطور التقني المذهل.
هذه المتغيرات جعلت من الملاحظ أن برامج الرعاية الاجتماعية تختلف في مداها وممارستها وتنظيمها من بلد إلى بلد، ومن فترة إلى فترة، بل إنها قد تختلف حسب الظروف وطبيعة الأخطار، والتقلبات في الأقاليم والمناطق مناخياً واقتصادياً ونوع الحرف والمهن، حتى قالوا: إن إصابات العمل في البلدان الصناعية أكثر منها في غيرها.
بعد هذا التمهيد والمتغيرات نأتي إلى الاتجاهات في وظيفة الرعاية الاجتماعية في المنظور المعاصر:-
أي: المنظور المعاصر ما هي نظرته إلى الرعاية الاجتماعية؟ هل هي وظيفة الدولة؟ أو وظيفة القطاع الخاص؟ أو وظيفة الأسرة؟ إلخ.
هناك اتجاهان جليان وكبيران، ولكلٍّ وجهته، فالباحثون والكاتبون في الرعاية الاجتماعية لهم اتجاهان في النظر إلى الرعاية الاجتماعية ودورها الوظيفي في المجتمع.(5/16)
الاتجاه الأول: الوظيفة الاستثنائية
يرى أصحاب هذا الاتجاه أن الرعاية الاجتماعية وظيفتها استثنائية، أي: مؤقتة، وأصحاب هذا الاتجاه يرون أن الرعاية الاجتماعية هي وضعٌ استثنائي، ينبغي أن يقتصر دور الدولة فيه في النطاق الضيق، فدور الدولة في الرعاية -عند أصحاب هذا الاتجاه- يجب أن يبقى محدوداً، قالوا: إن الدولة أهدرت كثيراً من الموارد في برامج رعاية اجتماعية غير ضرورية، ولا تمثل أسبقية هامة، قالوا: وتدخل الدولة الواسع في هذا المجال يسهم في تطوير الاتجاهات الاستهلاكية التي تعتمد على موارد الدولة وإمكانياتها، وتنفق بصورة غير مُرَشَّدة، فالدولة يجب ألا تتوغل في وظائف ومسئوليات يمكن أداؤها بصورة أفضل بواسطة الأسرة والجمعيات التطوعية والمؤسسات الدينية والخاصة.
قالوا: وإذا تدخلت الدولة فيجب أن يقتصر تدخلها على حالات الحرمان القصوى في الظروف الاستثنائية، عندما تعجز القناتان الطبيعيتان وهي الأسرة وسوق العمل، إذ هاتان المؤسستان هما الجهة المفضلة لإمداد الفرد باحتياجاته في الظروف العادية.
وخلاصة هذا الاتجاه: أن أجهزة الرعاية الاجتماعية التي تقدمها الدولة يجب أن يكون دوراً مؤقتاً، ووفقاً لهذا المفهوم للرعاية الاستثنائية والمؤقتة، فإن الرعاية الاجتماعية يجب ألا تصبح جزءاً روتينياً من البرامج الحكومية، وإنما يجب أن يُنْظَر إليها على أساس أنها عملية برٍ وإحسان وصدقة، حتى لا يستمرئُها المحتاج ويتكئُ عليها.(5/17)
الاتجاه الثاني: المؤسسية الدائمة
يرى أصحاب هذا الاتجاه أن الرعاية الاجتماعية مؤسسية دائمة، ومعنى ذلك أن الدولة هي خير مقدمٍ للرعاية الاجتماعية التي تشمل التعليم والعمل والصحة والإسكان وتأمين الدخل، بناءً على أن كل ذلك حقٌ للمواطن، ليس فيه منة ولا صدقة، كما أنها -على حسب رأيهم هذا- ليست خاصة بالحالات غير السوية أو الأشخاص غير الطبيعيين في قواهم، وعليه فإن الرعاية الاجتماعية وضعٌ مناسبٌ ووظيفةٌ مشروعة من وظائف المجتمع لمساعدة الأفراد لتحقيق ذاتيتهم، ولعل هذا ينسجم مع التعريف الذي أشرنا إليه في أول الحديث.
فالرعاية الاجتماعية بمعناها الشامل تهدف إلى توفير الخدمات التي تشبع الاحتياجات الأساسية لكل المواطنين، ويُلْحظ أن هذين الاتجاهين برزا نتيجة المجتمع الصناعي وتعقيداته، والتي أصبحت حقائق معترفاً بها، لعدم قدرة الفرد على تلبية أو إشباع كل احتياجاته بالاعتماد على نفسه أو على أسرته أو على سوق العمل، فأصبحت حقيقة واقعية، ومن هنا برزت المؤسسات التي تساعد الفرد على تحقيق وضعيته الاجتماعية العادية بصورةٍ دائمة وكافية.
إذاً هذان هما الاتجاهان، ولعلنا نشير -بعد الحديث عن هذا إلى السعودية والرعاية الاجتماعية- إلى رأيٍ وسطٍ في هذا إن شاء الله.(5/18)
السعودية والرعاية الاجتماعية
من غير المنكور توجه هذه البلاد وهي الحاكمة بشرع الله إلى السير على هدي رسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم حين أنشأت دُور الرعاية الاجتماعية، ووضعت نظماً تحفظ لهؤلاء حقوقهم، وتعترف بجميلهم، وتقدر لهم خبرتهم كأنظمة التقاعد والضمان الاجتماعي، وإن كنا نؤكد أنها أنظمة تحتاج إلى إعادة نظر وتطوير، كشأن أي نظام تمر عليه فترة من الزمن.
وإذا رجعنا إلى هذه الأنظمة -التقاعد والتأمين، والضمان الاجتماعي- نلاحظ أنها تهتم بجانبٍ، وهو جانب الحاجة أو الإشباع المادي إن صح التعبير، ولكن النظرة التطورية التي أشرتُ إليها أيضاً تستدعي المتأمل والمهتم أن يعيد النظر في هؤلاء الكبار ليدرك أنهم -وبفضل الله أولاً، ثم بفضل التطور الصحي التي تشهده البلاد- أصبح أحدهم يعيش فترة طويلة من حياته، وهو يتمتع بصحة جيدة، وبقوى بدنية ممتازة.
إذاً: هو يحتاج إلى رعاية من نوع آخر، فهو ليس بحاجة إلى نوع من الخدمات السابقة، وإنما هو محتاجٌ إلى رعاية تنتشله من عزلته، وتشعره بكيانه، وتعترف له بسابق فضله، وتؤمن ببقاء الحاجة إليه.
وهذا نوع متطور من الرعاية، فهي رعاية تهتم به في نواحيه النفسية والشخصية، تمنعه من الوحدة والانعزال، وتملأ عليه وقته بطريقة علمية مفيدة من غير إحساسٍ بشفقة خاصة أو استضعافٍ أو مِنَّة.
وإن العمل الخيري مما يتجسد شامخاً في هذه البلاد وأهلها وقيادتها بفضل الله ومَنِّه.(5/19)
تشجيع العمل الخيري في بلاد الحرمين
إنها تشجع كل متوجهٍ إلى الخير ومبتغٍ للفضل وتعينه في تذليل ما تواجهه من عقبات، والجمعيات الخيرية في بلادنا لا تكاد تقع تحت حصرٍ في المدن والقرى والأرياف، وكل ذلك مضبوط بضوابط الشرع، محكومٌ بأصوله وقواعده، وما أشرتُ إليه من إسهاماتٍ قبل قليل في دور الخلفاء كان فيه تنبيه إلى بعض ما تقوم به قيادتنا في هذا المجال.(5/20)
السعودية تنشئ عدة مراكز للرعاية الاجتماعية
أقول: وقد يحسن الربط بين ما يتوجه إليه العالم اليوم من الحديث عن خصخصة المؤسسات، والمرافق التي تتبع الدولة لجعل إدارتها بأيدي القطاع الخاص، وبين ما تحدثنا عنه فيما سبق من دور الخلفاء والأمراء وهو الذي قلت لكم: إنه قد يكون جمعاً بين الاتجاهين: اتجاه القاعدة الاستثنائية، واتجاه القاعدة الدائمية.
هذا الربط بين ما تحدثنا عنه فيما سبق من دور الخلفاء والأمراء وأهل الثراء في رعاية بعض هذه المرافق، وبين الاتجاهين اللذين ذكرناهما في وظيفة الرعاية الاجتماعية، فالذي يبدو في نظر محدثكم أن بروز هذه المراكز كالمركز الذي نحن فيه، مركز الأمير سلمان الاجتماعي، فالذي يبدو في نظر محدثكم أن بروز هذه المراكز هو نوعٌ من الخصخصة أو هو نوعٌ من المرتبة الوسطى بين تدخل الدولة الكامل وبين انفراد القطاع الخاص بهذه المراكز والمؤسسات الخدمية الاجتماعية، وعلى أي نحوٍ كان التوجه أو الترجيح، فإن هذه المراكز بهذه الصفة تمثل صورة ناجحة في أداء الرعاية الاجتماعية لوظيفتها على ما سنرى متجسداً في خاتمة حديثنا عن مركز الأمير سلمان الذي نحن في رحابه هذه الليلة.
وتوجه الدولة في الخصخصة توجهٌ قوي جداً، ويتبناه سمو الأمير نايف باعتباره رئيساً لمجلس القوى العاملة، وهو متابع متابعة كبيرة جداً، خاصة للندوة التي أقيمت العام الماضي، وكان لها توصيات، وأيضاً هذا العام -كما تعلمون- تابع توصياتها، حتى إنه قال: إن الوطن ليس هو المصلحة الاقتصادية وحدها، ولكنه باختصار هو الحياة.(5/21)
نبذة عن مركز الأمير سلمان الاجتماعي
نأتي في نهاية حديثنا ولقائنا، لأتحدث عن مركز الأمير سلمان الاجتماعي.
فهذا المركز ينتسب إلى شخصية في بلادنا مرموقة، لها بصماتها التي لا تمحى، وبخاصة في حاضرة البلاد وعاصمتها رياضنا النضرة، ومن غير المبالغ فيه أن نقول: إنها لم تكن لتصبح بهذه النضارة لولا توفيق الله أولاً ثم هذا العمل الدءوب المتميز الذي يوليه سموه لها ولأهلها وأبنائها والوافدين إليها من أنحاء المملكة وخارجها.
إن هذا المركز يمثل منتدىً ثقافياً اجتماعياً صحياً وظيفياً مهنياً، ولعل ما رُسم للمركز من أهدافٍ طموحةٍ تلبي طموحات الأمير من تقديم الرعاية المفتوحة لكل مرتاديه، حيث يجدون فيه ما يشغل الوقت، ويبهج النفس من برامج هادفة ومناشط متنوعة، تتناسب مع الظروف والإمكانات في مناخٍ اجتماعيٍ تسوده روح المودة والاحترام مع جو التعاطف والمرحمة، في مركز متكامل المرافق من الأنشطة الثقافية والرعاية الاجتماعية بشتى مجالاتها صحيةًَ وغذائيةً وترويحية.
إنه مركزٌ يستفيد ويفيد، يستفيد من ذوي الخبرة والتجربة ممن يرغبون في تقديم خدماتهم وشغل أوقاتهم بأسلوبٍ علمي، كما أن من طبيعة إنشائه فتحه أبوابه لإسهام كل مختصٍ، حيث يتيح جو المشاركة في العلاقات الاجتماعية من أجل اكتساب المزيد من المعرفة وتنمية القدرات وكسب المهارات، ولعل من أهم مهام المركز تهيئة كل منتمٍ إليه ليدرك متغيرات المجتمع وتعاقب الأجيال، لتبقى الجماعات بكل فئاتها محتفظة بتواصلها الاجتماعي والأسري.
إنه مركزٌ يتيح جو المشاركة في العلاقات الاجتماعية والمناسبات المتعددة من أجل اكتساب المزيد من المعرفة وتنمية القدرات وكسب المهارات.
هذا ما تيسر تدوينه، وأرجو ألا أكون أطلت عليكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه.
والموضوع ثَرِيٌّ وثَرٌّ، ويحتاج إلى مزيد من البسط والكتابة أيضاً وبنوع من العمل الموسوعي أو الفهرسي وبخاصة فيما يتعلق بحصر صور الرعاية الاجتماعية في تاريخ أمتنا من خلال طبيعة وظائف الأوقاف، ومن خلال المدارس، ومن خلال الأربطة، ومن خلال النُّزُل، فلو أن الإنسان درسها ودرس شروط الواقفين وشَرَط أيضاً توجيهات الولاة فيها -كما أشرنا إلى ذلك- وكذلك الفقهاء وتوجيهات العلماء -كما أشرنا في كلام بدر الدين بن جماعة - فإن هذا سوف يعيد لنا أولاً ثقتنا بأمتنا وبأنفسنا ويعلم أن ما جاء به المعاصرون ما هو إلا بناء على ما سبقهم من أمم وبخاصة أمتنا، كما أشار المستشرق في كلامه الذي استشهدنا به.
وأقول هذا القول، وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه وسلم.(5/22)
الأسئلة
.(5/23)
حكم التأمين الاجتماعي والتأمين التجاري وغيرهما
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما حكم التأمين الاجتماعي؟ وما يُقْصَد به؟ وما حكم التأمين على السيارات أفتونا مأجورين.
الجواب
أنا ليس عندي تصورٌ كامل عن بعض صوره، هناك من الصور ما هو ليس بجائز قطعاً، كالتأمين على الحياة، والتأمين التجاري، هذا لاحَظوا حرمتَه، وأفتى فيه علماؤنا، ومجامع الفقه أفتت بحرمة التأمين التجاري، وكذلك التأمين على الحياة.
لكن هناك صور من التأمين، كالتأمين التعاوني، بمعنى: أن تجتمع مجموعة، سواء أكانت باسم شركة أو باسم آخر، بحيث تدفع مبالغ إسهاماً منها، وهذا المبلغ لا مانع أن يُتاجَر به، بمعنى أن يُنَمَّى بحيث أن هؤلاء المشاركين إذا احتاجوا أو أصابتهم نكبات يأخذون من هذا الصندوق؛ لكنهم يدفعون نصيبهم على شكل تبرع، لا يُقصَد من ورائه التجارة، ولا يُقصَد من ورائه تنمية هذا السهم أو تنمية هذا النصيب الذي أسهم به صاحبه.
كذلك -أيضاً والأمر يحتاج إلى مزيد من البحث- فيما يتعلق بالتأمين الصحي ونحوه، رأيتُ كلاماً جميلاً لمتقدمين وبخاصة أن التأمين الصحي إذا كان أيضاً من جهة بيت المال أو كان أيضاً من حيث الغرامة التي تترتب على المقصر في طبيبٍ ونحو ذلك، فهذا أيضاً فيه إشارات علمائنا بما يفيد الجواز، ولكني لا أجزم بذلك، والأمر يحتاج إلى مزيد نَظَر.(5/24)
كتب في الرعاية الاجتماعية
السؤال
ما هو أفضل مؤلَّف تنصح بقراءته في مجال الرعاية الاجتماعية؟
الجواب
فيما يتعلق بالرعاية الاجتماعية يبدو لي أن الموضوع ما زال جديداً، بمعنى أن الرعاية الاجتماعية تحتاج إلى كتابة من منظور إسلامي إن صح التعبير، وهناك كتب يمكن أن تكون مصدراً لها:
فهناك كتاب جميل اسمه: تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام، لـ بدر الدين بن جماعة، وهو جميلٌ جداً في هذا الباب.
ويوجد كتاب: غياث الأمم، للإمام الجويني، فيه كلام جميل.
كذلك كتب الأحكام السلطانية، تتكلم كلاماً جميلاً في هذا الباب، وتشير إلى حقوق هؤلاء الضعاف والعجزة واليتامى والأرامل وأبناء السبيل في إشاراتٍ جميلة جداً، لكن الموضوع لا يزال محتاجاً إلى كتابة بمنظور جديد من حيث التنظيم والتبويب، وإن كان التأصيل موجوداً.
كذلك كتاب التنظيم الإسلامي للمجتمع للشيخ محمد أبي زهرة لا بأس به.
وهناك كتب في الخدمة الاجتماعية؛ لكنها ليست من منظور إسلامي، وإن كانت لا غبار عليها، لكنها تبحث في منظور معاصر بحت، ككتاب الخدمة الاجتماعية لـ محمود حسن، والخدمة الاجتماعية لـ صلاح الدين علي، والرعاية الاجتماعية وأثرها على مداخل الخدمة الاجتماعية المعاصرة للدكتور مختار عجوبة، وهذه كتب يمكن أن يستفاد منها.(5/25)
سؤال عن الجمعيات وأين دورها الفعال
السؤال
يقول السائل: جمعيات البر منتشرة، ولها موارد ضخمة، وأثرها محدود، هل من نظرة أخرى لتنظيمها والاستفادة منها بشكلٍ أفضل؟
الجواب
والله لست أدري، ليس عندي -الحقيقة- معلومات دقيقة في هذا الباب، لا أدري من أتيت بحكمك هذا؛ وأهل هذه البلاد يحبون الإسهام كثيراً في أمور الخير، وبخاصة إذا وثقوا بالقائمين عليه، وهم -والحمد لله- ثقات، والجمعيات -والحمد لله- تحظى بكثيرٍ من التأييد من القادرين والمستطيعين والموسرين، وأيضاً القائمون على الجمعيات فيما أعلم أخيار، وحريصون جداً على أن يصرفوا ما يردهم من أموال في وجوهها، وفيما نعلم أنها محكومة بأنظمة سواء مصادق عليها من جهة وزارة العمل والشئون الاجتماعية، وهي دقيقة جداً في هذا، ومحكومة بضوابط وقوائم إلخ.
وحتى الإدارة فهي حديثة؛ لكن أحياناً قد يمكن النظر إلى حدٍ ما: تباطؤ وصول الإعانات أحياناً، فقد يكون هناك مزيد تحر، هذه قد تحتاج فعلاً إلى أن يُقضَى على شيء من الروتين، ويُقضَى على شيء من هذه الأشياء، وإن كان دافعها خير وتحرٍ وحرص على براءة الذمة؛ ولكن ينبغي أيضاً لهذا الحرص أن يصحبه حرصٌ على هؤلاء الذين ينتظرون هذا المدد من هذه الجمعيات، وبخاصة فيما يتعلق بالجمعيات التي تعين على المساعدة في الزواج.(5/26)
أسئلة تختص بمركز الأمير سلمان الاجتماعي
السؤال
ثلاثة أسئلة في سؤال: السؤال الأول: فضيلة الشيخ: بودي أن تشير إلى مجالات الدعوة إلى الله في هذا المركز؟
السؤال الثاني يقول: ما رأي فضيلتكم في القسم النسائي في هذا المركز؟ هل هو من أبواب الخير أم من أبواب الشر التي فتحت على المسلمين في هذا العصر؟
السؤال الثالث: هل يجوز للمرأة أن تمارس الألعاب الرياضية؛ لأنه يوجد قسم في هذا المكان مخصص للنساء لممارسة الرياضة؟ فما هي ضوابط هذا العمل؟
الجواب
كلها تحتاج إلى تفصيل.
أما مجال الدعوة إلى الله فلا شك أنه حقٌ، وأظنه -إن شاء الله- في ذهن القائمين على هذا المركز، وبخاصة أيضاً إذا عرفنا أن الدعوة إلى الله عز وجل ميادينها واسعة، حينما يأتي المنتسب إلى هذا المركز، ويعلم أن قواعد المركز ملتزمة بالشرع، ويأتي هو ملتزماً بالشرع في أداء أنشطته وممارسة أنشطته، فهذا نوعٌ من الدعوة، بمعنى: أنه لا ينتسب إلى هذه المراكز إلا من يحافظ على شعائر هذا الدين، سواء أكانت بإقامة الصلوات أو بالالتزام بالأمور الشرعية فيما يتعلق بكشف عورات أو السباحة إلخ، والسباحة إذا كانت بنية صالحة: فهي عبادة، وقد قال عمر رضي الله عنه: [[علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل]] مثلاً إذا دخل بقصد: إعداد القوة، لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] ويبدو لي أنه يحسن أن تمتلئ ردهات المركز بكتابة هذه الآيات وهذه الأحاديث التي إذا دخل المشارك بنية تطبيقها، كان دخوله نوعاً من الدعوة إلى الله عز وجل، كإصلاح النفس.
فالدعوة ميدانها واسع، وإن كنتُ أقول: قد لا يلزم أن يكون النشاط الذي يقوم به هذا المركز نفس النشاط الذي يقوم به جهاز متخصص بالدعوة كوزارة الدعوة والشئون الإسلامية مثلاً أو وزارة الأوقاف والدعوة والإرشاد، بل يمكن أن تكون الدعوة من خلال طبيعة النشاط، ما دام المنتسبون سينضبطون بضوابط الشرع، وليذكر المنتسبون بهذه النصوص الشرعية وبهذه الضوابط الشرعية، فيبدو لي أن هذا قدرٌ كبيرٌ جداً في المساعدة على الالتزام والانضباط الشرعي.
عموماً القسم النسائي أيضاً ينطبق عليه ذلك إذا كان ملتزماً ومنضبطاً.
ولا شك أنه قسم حساس، ومع الأسف أنه قد يأتي أناسٌ مغرضون يسيئون، وأرجو أن يكون عند المسئولين -وظننا حسن جداً بهم- الحس المرهف؛ بحيث يكون الداخل إلى المركز ملتزماً بضوابط هذا المركز القائم على الضوابط الشرعية التي هي دستور هذه البلاد وقانونها.
ومن هنا أرجو مخلصاً ألا نسمع عن المنتسبات لهذا المركز -سواء أكُنَّ من الإداريات والقائمات عليه إدارياً أو المنتسبات ممن يمارسن الأنشطة- أرجو ألا نسمع إلا ما يسر، وما يعكس أخلاق النساء في هذه البلاد، فنحن مسلمون، ولا عز لنا إلا بالإسلام، ولا قيمة لنا إلا بالإسلام، ونرفض أي مبدأ أو أي دعوة مهما كانت هذه الدعوة، ومهما كان غلافها، فالذي أرجوه مخلصاً أن يكون من ذات المركز رقيبٌ؛ حتى يكون منضوياً تحت هذه المظلة التي نعيش في أمنها وأمانها ورخائها وتحت رايتها لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم.(5/27)
حكم أخذ الآباء إلى دور العجزة
السؤال
بعض الناس -هدانا الله وإياهم- إذا عجز أحد أقاربه أو أصابه خلل في المخ، قام بوضعه في دور المسنين والعجزة مع استطاعته القيام به ورعايته، وقد يكون أحد والديه، أليس هذا مخالفاً لقول الله سبحانه وتعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء:23] ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: {رغم أنفُ} إلى آخر الحديث؟
الجواب
لا شك أن هذا -مع الأسف- من الأمور التي يندى لها الجبين، لأن الله عز وجل في قوله سبحانه: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء:23] والكبر هنا مطلق، فالكبر يصل إلى ما قبل الوفاة؛ لأنه لو كان قوياً سليم القوى، فما لك منه؟! ولو كان يخدم نفسه فأين البر؟! فإذا كانت كلمة (أُف) منهياً عنها، فما بالك بما هو أشد منها؟! فلا شك أن الأمر خطير، اللهم إلا إذا كان شيئاً لا تستطيعه كما لو كان رعاية صحية، فإذا كان رعاية صحية كأن يحتاج إلى علاج أو يحتاج إلى تنويم في المستشفى، فهذه أمور أخرى ولا شك، وأحياناً قد يكون أحد الوالدين مصاباً بجلطة، وإذا كان في المستشفى فإنه يُخدم أكثر، بل ربما لو بقي عندك لمات، باعتبار أنك لا تستطيع أن تغذيه، لأنه لا يتغذى من فمه، ولا يتغذى بطريقة طبيعية، فهذه أمور مستثناة إذا كان المستشفى فعلاً أصلح له وأكثر رعاية، لكن يبقى عنايتك به، وهو هناك في المتابعة والملاحظة والحرص على أن تكون بجانبه والصدق في الدعاء له، فهذه قضايا لا بد من رعايتها والاعتناء بها.(5/28)
دور المسلمين نحو الفقراء والمحتاجين
السؤال
فضيلة الشيخ: ما هو دورنا كأفراد للوقوف مع الأسر المعدمة والمحتاجين كاليتامى والأرامل ومساعدة الأسر التي يغيب عنها ولي أمرها كالسفر ونحوه؟ أرجو بيان دورنا في الوقوف مع الأسرة المحتاجة لذلك.
الجواب
أنا أرجو أن يكون هذا هو السؤال الأخير؛ لأنني أرجو أن يكون كل ما ذكرتُه يصب في هذا الأمر، فما دام أننا سمعنا الرعاية الاجتماعية، وسمعنا كثيراً من الميادين والمجالات، وكثيراً من هؤلاء الذين يعينهم الله سبحانه وتعالى، فيقومون بهذه الأدوار النبيلة في رعاية هؤلاء ممن نقصت قدراتهم، فحقٌ علينا فعلاً أن نتقرب إلى الله عز وجل وأن نجعل ديننا واقعاً في أعمالنا، ونحن لا نتكلم عن مثاليات، بل نتكلم عن شيء واقع، تاريخنا حافل، ومع الأسف قد تكون المتغيرات التي أشرت إليها فيما يتعلق بالصناعة وما الصناعة، والمجتمع الحضري والبدوي، مع الأسف قد يكون لها تأثير؛ لكن لا ينبغي لنا أبداً أن نتأثر بها، وبخاصة أن أمامنا نصوص شرعنا حية ماثلة، ومذكرون وواعظون، وكثيرٌ من الميادين والمجالات تقابلنا، فتذكرنا بهذه النصوص في مناهجنا الدراسية وفي منابرنا، فينبغي أن نتقي الله عز وجل، وكما قلتُ أنا لم أورد نصوصاً لأني أعرف أن كثيراً منها نعرفه وكثيراً منها نسمعه ولله الحمد، وكتاب رياض الصالحين كله مليء بمثل هذا، فمجرد أن يُفتح أي باب من كتاب رياض الصالحين تجد فيه من هذا الشيء الكثير.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(5/29)
الزلازل والكوارث اعتبار واصطبار
إننا نجد الآن أن العلم بدأ يقبض وذلك بموت جهابذة العلماء، أما الكوارث فلا يمر علينا شهر أو أسبوع إلا وسمعنا بزلزال هنا، وبفيضان هناك، وهذه الكوارث آيات من آيات الله ونذير منه ينذرنا بها.(6/1)
الزلازل والكوارث آيات ونُذُر
الحمد لله، الحمد لله الذي جعل لكل شيء قدراً، وأحاط بكل شيء خبراً، أحمده سبحانه وأشكره، نعمه علينا تترى، أسبل علينا من رحمته ستراً، وأفرغ علينا بفضله صبراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، خُص بالمعجزات الكبرى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، واحفظوا الله ما استحفظكم، وكونوا أمناء على ما استودعكم، فإنكم عند ربكم موقوفون، وعلى أعمالكم مجزيون، وعلى تفريطكم نادمون: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
أيها المسلمون: لقد قضت سنة الله عز وجل أن تُبتلى النفوس في هذه الدنيا؛ بالخير والشر، والأمن والخوف، والمنح والمحن، والأقربين والأبعدين: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186].
وإن هذه الابتلاءات بأنواعها تستجيش أصغر القوى، وتستثير كامن الطاقات، وتفتح في القلوب منافذ، وفي النفوس مسارب ما كان ليتبينها أهل الإيمان إلا تحت مطارق هذه التقلبات والابتلاءات.
وفي هذه الأيام الأخيرة المتسارعة فقدنا علماءً وملوكاً، وأمراءً وأعياناً، في مواقف من الجنائز تشيعونها كل يوم وساعة عزَّ فقدهم، وشقَّ فراقهم، ولكنهم ذهبوا بآجالهم وعاشوا من الأيام ما كُتِب لهم، هم السابقون ونحن اللاحقون رحمنا الله وإياهم وعفا عنا وعنهم، وغفر لنا ولهم.
وتلاحقت آياتٌ ونُذُر كسوفٌ وزلازل في أحداث مهيبة، وآياتٍ منذرة يخوف الله بها عباده، وما أصاب إخواننا المسلمين في تركيا من مصاب جلل هز القلوب أعظم مما هز الأرضين، وإن مشاهد الضحايا والمنكوبين لتتفطر لها الأفئدة نسأل الله أن يرحم موتانا وموتاهم، ويشفي مرضانا ومرضاهم، ويجنبنا وإياهم الزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أيها المسلمون: آيات الله وابتلاءاته يرسلها على عباده نذراً وتخويفاً خسوفٌ وكسوفٌ؛ وزلازلُُ وفيضانات ورياحٌ وأعاصيرُ أوبئةٌ وأمراضٌ آيات لا تمنعها حدودٌ جغرافية، ولا تقوى عليها تحالفاتٌ دولية، ولا تقف دونها نظم التفتيش الأمنية، ولا تُفْرَض عليها مقاطعاتٌ عالمية، بل لا تفرق بين خصومٍ وحلفاء صورٌ من صور العولمة الحقيقية إذا كانوا جادين في تحييد المصطلح آثارها وكوارثها لا تبين بين المصابين والضحايا.
وإن من العقل والبصر الوقوف عند هذه الآيات لعل الله أن يوقظ القلوب من الغفلة ويرحم بالرجوع إليه.
عباد الله: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، سبحانه وبحمده، لا يقع شيء في كونه إلا بإذنه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:26] فيزدادوا إيماناً مع إيمانهم، كما يزدادوا خوفاً ومحاسبةً ورجوعاً وإنابةً واستغفاراً وتوبة، وأما الذين في قلوبهم مرض فحالهم كحال الماديين والملاحدة الذين لا يرون إلا الأسباب المادية البحتة، وأما النذر الإلهية والحكم الربانية فهم عنها غائبون، لا يرفعون بها رأساً، ولا يلقون لها اعتباراً.(6/2)
الأسباب الحسية والحكم البالغة
عباد الله: إن الأسباب الحسية وظواهر العلل يدركها البشر بما أعطاهم الله من عقولٍ وعلوم وتجارب ومعارك؛ لكنهم لا يدركون ما أودع الله فيها من الآيات الباهرة والحكم البالغة إذا غلبت عليهم الغفلة وحقت عليهم الضلالة.
حينما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهِلَّة جاء الجواب متوجهاً لبيان الفوائد الشرعية العملية: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] أما تحولات القمر الهلالية والبدرية فشأنٌ فلكي ومدْرَكٌ بالحس والنظر لا يترتب عليه في ذاته نفعٌ بشري، فتوجه الجواب إلى ما ينبغي الاهتمام به من آثار هذه التغيرات وفوائد هذه التحولات؛ من معرفة السنين والحساب، وحساب المواعيد والأوقات مما ينفع في العاجل والآجل.
لقد منح الله الإنسان القدرات على إدراك ما وراء الحواس ليترقى في مدارك للكمال الإيماني والعقلي والعملي، وهذا الترقي يمثل أرفع جوانب الإنسانية في الإنسان وأخصها وأعلاها تميزاً في ميادين الاعتقادات والقيم.
أما الذين يريدون أن يحصروا الإنسان في محيط الماديات البحتة، والمُحَسَّات المجردة؛ فقد حطُّوا من قيمة الإنسان في عقله وقلبه، وردوه إلى رجعية في التفكير، وأسفلية في النظر.(6/3)
مواقف للعبرة والاستبصار
إن نبينا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما وقع الكسوف خرج فزعاً يجر رداءه، يخشى أن تكون الساعة كيف وهو القائل عليه الصلاة والسلام: {لا تقوم الساعة حتى يُقْبَض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان} أخرجه البخاري وفي رواية عند أحمد والدارمي: {إن بين يدي الساعة مَوَتاناً شديداً وبعده سنوات الزلازل}.(6/4)
الاهتمام بأسباب الكوارث العلمية فقط
معاشر المسلمين: زلزالٌ لم يستغرق خمساً وأربعين ثانية، ماذا كانت نتائجه وما هي آثاره؟ عشرات الآلاف من الموتى والمصابين، وخسارات مادية هائلة إنهم لا يزالون يُحْصُون ويعدون ويحسبون، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرحم الموتى وأن يعوض المسلمين خسائرهم.
ولكن هلاَّ وقفوا أمام القضايا الإيمانية؟!
أهل العلم والإيمان يربطون بين هذه الآيات والنذر وبين أعمال بني آدم ابتلاءًَ من ربهم وتخويفاً وذكرى لعلهم يرجعون: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].
وإن مما يستوقف النظر والتأمل -والموقف موقف اعتبارٍ واستبصار- اهتمامهم المجرد بالأسباب العلمية البحتة، فتراهم يقولون: هذه طبقة زحفت على طبقة، وهذا صدعٌ حصل على عمق كذا وكذا، وأشد من ذلك قول بعضهم: إن المنطقة الفلانية لم تتأثر بهذا الزلزال أو توابعه! والتاريخ يشهد والناس يشهدون أنها تضرب بإذن الله وأمره في أي مكان وفي أي زمان، من دون سابق إنذار، ولا يكاد في عصورنا المتأخرة يخلو عامٌ أو أقل من عام إلا ويشهد الناس هذه الآيات والنذر، بأعاصيرها وفيضاناتها وزلازلها ورياحها في شرق العالم وغربه، وشماله وجنوبه فهل من مُدَّكر؟!!(6/5)
قولهم: ضحايا الكوارث
ومما يستوقف النظر والتأمل -والموقف موقف اعتبارٍ واستبصار- ما يعبر عنه بعضهم في ضحايا الكوارث بقولهم: إنهم ضحايا أبرياء سبحان الله! أبرياء؟! مَن الذي ظلمهم؟!
لقد كان الأولى والأجدر أن يعلموا أن هذه حوادث ونوازل وابتلاءات يقدرها الله سبحانه وتعالى ويسوقها، والموت ليس عقوبة، فربنا -جلَّ وتقدس- له الخَلْق كله، وله الملك كله، وبيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، تعالى وتبارك أمات وأحيا، وأضحك وأبكى، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مسمى، كلٌ من عند ربنا، نرضى ونسلِّم، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].
هذه الآيات والأحداث يتلقاها المؤمن موقناً بقدرة الله الخالق العظيم وقدره، يخشى غضبه ويؤمِّل رحمته في عظيم ابتلاءاته.
أيها المسلمون: ومما ينبغي أن يُذْكَر فيُشْكَر -والموقف موقف اعتبارٍ واستبصار- أن كثيراً من الناس عندما حدث الكسوف ظهر فيهم رجوعٌ إلى ربهم، ففزع كثيرٌ منهم إلى الصلاة، وقصدوا بيوت الله يتوجهون لربهم بالدعاء والتضرع، ولقد كان لكثيرٍ من أجهزة الإعلام دورٌ مشكورٌ غير منكور.
فهل يا ترى نقف وقفة لنرى عِظَم أثر الإعلام بوسائله المتنوعة، إذا توجه إلى الناس بجدية في التوعية وإحسانٍ في التوجيه وأسلوبٍ ناصع في البيان والبلاغ؟!(6/6)
سفينة النجاة في الابتلاءات
أيها الإخوة المسلمون: إنها آياتٌ وحوادث ونذر لا ينبغي أن تمر على عاقل ثم لا يستفيد منها دروساً وعبراً، ومن دَرَى حكمة الله في تصريف الأمور وجريان الأقدار لن يجد اليأس إلى قلبه سبيلاً، مهما قست الحوادث، وتوالت العقبات، وتكاثرت النكبات، فالإنسان إلى ربه راجع، والمؤمن بإيمانه مستمسك، ولأقدار الله مسلِّم، وعلى سننه جارٍ.
إننا نخاطب أنفسنا ونخاطب إخواننا المسلمين المنكوبين والمبتلين في كل مكان: إن سفينة النجاة في هذه الابتلاءات هي الإيمان بالله، والصبر على مجاري الأقدار، فاللجوء إلى الله وحده حين تهتز الأسناد، وبالإيمان والصبر والرضا واليقين تتفتح البصيرة، فلا يرى العبد ملجأً من الله إلا إليه.
إخواني: هذه الدنيا كم من واثقٍ فيها فجعته وكم من مطمئنٍ إليها صرعته وكم من محتالٍ فيها خدعته وكم من مختالٍ فيها أذلته حلوُها مر، وعذبها أجاج وجودها إلى عدم، وسرورها إلى حزن، وكثرتها إلى قلة، وعافيتها إلى سقم، وغناها إلى فقر الدار مكَّارة، والأيام غرَّارة أهلها منها في خوفٍ دائمٍ، إما نِعَمٌ يخشون زوالها، وإما بلايا يخافون وقوعها، وإما منايا حَتْمٌ وقوعها، وكل ما فوق التراب صائرٌ إلى تراب.(6/7)
الصبر على أقدار الله
أيها الإخوة الأحبة: الاعتبار والاصطبار -بإذن الله- مطية لا تكبو، وسيف لا يخبو، وهما -بإذن الله- جندٌ لا يُهْزَم، وحصنٌ لا يُهْدَم سترٌ عند الكروب، وعون على الخطوب.
إن من المعلوم أن من أعظم المقامات في ذلك الصبر على أقدار الله المؤلمة، التي تنال العبد في نفسه وماله وأهله، ولقد جاء في الخبر: {إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعمل ابتلاه الله في جسده أو ماله أو ولده، ثم صبر على ذلك حتى يبلغ المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل} {والبلايا مكفراتٌ للذنوب} {ومن يرد الله به خيراً يُصِب منه}.
يا إخوني! إن العبد إذا اتجه إلى ربه بتوحيدٍ خالص، وعزيمةٍ صادقة، وتوبةٍ نصوح، موقناً برحمته، واجتهد في الصالحات؛ دخلت الطمأنينة إلى قلبه، وانفتحت أبواب الأمل في وجهه، واستقام على الطريقة، واستتر بستر الله.
اسمعوا واحفظوا واعملوا بقول نبيكم محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: {ما أصاب عبداً همٌ ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ماضٍ فِيَّ حكمك، عدلٌ فِيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسمٍ هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي؛ إلا أذهب الله غمه وأبدله مكانه فرحاً.
قالوا: يا رسول الله! ينبغي لنا أن نتعلم هذه الكلمات؟ قال: أجل! ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن}.
اللهم أيقض من الغفلة قلوبنا، اللهم أيقض من الغفلة قلوبنا، واختم بالصالحات أعمالنا، وآنس في القبور وحشتنا، وارحم اللهم إليك منقلبنا، ونسألك الشكر على نعمائك، والصبر على بلائك، ونسألك برحمتك مغفرة الذنوب، وستر العيوب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(6/8)
الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر
الحمد لله مُوْلِي النعم، وصارف النقم، أحمده سبحانه وأشكره، ذو الجود والكرم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، ذو الشرف الأسمى، والمقام الأعظم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ذوي الأمجاد والشيم، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: إن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط، وإذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه، حتى يوافى به يوم القيامة، بهذا جاءت الأخبار عن نبيكم محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة: إن الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر والرضا بأقدار الله؛ فيعقوب عليه السلام تدرَّع في بلواه في حالَيه بالصبر الجميل، فقال في الأولى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] وقال في الثانية: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} [يوسف:83] وهو الذي قال: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86].
ونبي الله أيوب عليه السلام قال الله عنه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] فجاءه الغوث الرباني: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء:84] كما جاء الثناء العلوي: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44].
والمذموم -أيها الإخوة- هو شكوى الله وليس الشكوى إلى الله، فمن ابتغى الرضا ورام السعادة فليُعِدَّ لتقلبات الأحداث وتغير الأحوال قلباً صبوراً ولساناً لربه ذكوراً، فالكرام هم الأصبر نفوساً، ولقد فاز الصابرون بعز الدارَين: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] ولهم من الله معيته: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] وأكرمهم المولى بمحبته: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146].
جعلنا الله وإياكم ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر، فتلكم هي عنوان السعادة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
عباد الله: ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم جلَّ في علاه، فقال عز من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد نبي الرحمة والمرحمة، وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن بقية العشرة، وأصحاب بدر والشجرة، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا بتوفيقك، وأعزه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، وارزقه البطانة الصالحة، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمتهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم أبرم لأمة الإسلام أمر رشدٍ يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُذَلُّ فيه أهل معصيتك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف ويُنْهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعزاز دينك وإعلاء كلمتك، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كشمير، وفي كل مكان يا رب العالمين!
اللهم واجعل الدائرة على أعدائهم.
اللهم فرق شملهم، وشتت جمعهم، واجعل بأسهم بينهم، وأنزل بهم غضبك ورجزك يا إله الحق!
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين!
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(6/9)
السعادة الحقيقية ومصادرها
السعادة يطلبها الجميع، والقليل من يجدها، فالناس في منظورهم أن السعادة إما في المال أو الجاه أو المنصب، وهي في الحقيقة بالإيمان بالله جل وعلا.
والعمل والكد والذهاب والإياب في طلب الرزق مع الإيمان بالله والرضا بأقدار الله عامل من عوامل السعادة.
والعلم يجلب للمؤمن السعادة، ولا ينبع السخط على أقدار الله إلا من الشك وعدم اليقين بالله جل وعلا، والمتسخط إن فتش نفسه وجد أن هناك شكاً في قلبه، فالشك والتسخط أخوان، والرضا واليقين قرينان.(7/1)
حقيقة السعادة ومصادرها
الحمد لله إيماناً بكماله وجلاله، ويقيناً بعلمه وحكمته، ورضا وطمأنينة بعدله ورحمته، أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، أحمده سبحانه وأشكره، له الملك وله الحمد، نعمه على خلقه لا تعد، وفضله عليهم لا يحد، وما بكم من نعمة فمن الله، وما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، من اتبعه واستمسك بهديه فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عنه فإن له معيشة ضنكاًَ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أهل السعادة والرضا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله واستغفروه فهو سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرة، وما من خيرٍ إلا والتقوى موصلة إليه ودليلٌ عليه، وما من شر إلا والتقوى حرزٌ منه حصين ودرعٌ منه مكين.
أيها المسلمون: من يقاسي شدة الفاقة والبؤس يرى السعادة في الغنى وعند الأغنياء، ومن تتقلب به الأوجاع والأمراض يرى السعادة في صحة الأبدان وسلامة الأعضاء، والمستضعف الذي سلبت حقوقه ولم يقوَ على خلاصها يرى السعادة عند ذوي السلطان والجاه، ومن أشرب قلبه الفسوق والمجون والخلاعة والدعارة يرى السعادة أن تحف به الشهوات من كل جانب ليطلق لها العنان كيف يشاء يبحث الناس عن السكينة والطمأنينة، وينشدون السعادة والرضا، ويبتغون السرور والحبور، ويطلبونها في القوة والجاه، والثراء والحرية، والمناصب والرتب.
السعادة -أيها الإخوة- ليست في المال الوفير، ولا في الجاه العريض، ولا في البنين ونيل المآرب، ولقد قال الله عز وجل في أقوام: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55] عذابٌ في الحياة الدنيا مشقة وألم، وهمٌ وسقم، إنه معذب النفس، متعب القلب، لا يغنيه قليل ولا يشبعه كثير عذابٌ وشقاء لا ينفك فيه عن ثلاثة: همٌ لازم، وتعبٌ دائم، وحسرة لا تنقضي ولو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا تراب ويتوب الله على من تاب، ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له.
السعادة شيء لا يرى بالعين، ولا يقاس بالعدد، ولا تحويه الخزائن، ولا يشترى بالدرهم والدينار.
السعادة شيء داخل الجوانح، يغتبط به الجنان، ويمتلئ به الجنبان صفاءٌ في النفس، وطمأنينة في القلب، وانشراحٌ في الصدر، وراحة في الضمير، وهدوء في البال إنها شعورٌ جميلٌ بالغبطة، وإحساسٌ لذيذٌ بالطمأنينة، مع بهجة وأريحية وانطلاق نفسٍ في سكينه.
تصور أن واحداً من ذوي الجاه والثراء ابتلي بمرضٍ مزمن، يؤتى له بأطايب الطعام فلا يأكل، وإن أكل فلا يستلذ، أشرف مرة من نافذة بيته المنيف، وأطل من سرير مرضه الوثير، فلاحت منه التفاتة إلى عاملٍ من عماله قد افترش جانباً من الأرض تحت ظل شجرة، يأكل رغيفه مع إدامٍ يسير، لقمة في فمه وأخرى في يده وثالثة ترقبها عينه، كم يتمنى هذا الوجيه لو كان في متعة هذا العامل وصحته!(7/2)
الإيمان بالله مصدر السعادة
إن السعادة مصدرها القلب، ومظهرها الرضا، ودليها إدراك النعمة والاعتراف بها، ولا ترى أوضح ولا أفضح من خيبة إنسان يطلب السعادة في شهوات الدنيا، وقد علم -وعلمتم- أن طالبها يظل منهوماً لا تنقضي شهواته هلعاً تتشعب رغباته، ثم يقوده همه إلى منازعة الآخرين أرزاقهم، وخصامهم في حقوقهم، فيُشقي ويَشقى، وفي العداوة والبغضاء يسعى، ومن الهم والنكد يزداد ملأ فكره بهموم الحياة، وفتنه اللهو والمجون، قد أعمته فوادح الزمن وقوارع الدهر، ولو دقق هذا وحقق لوجد أن كل ما ظفر به فعقباه حزن، وعاقبته خُسر؛ إما بذهاب المأمول، أو بذهاب الآمال.
أيها الإخوة: لن يجد امرؤٌ ما يملأ نفسه رضاً بأقدار الحياة سوى الإيمان بالله، واللجوء إلى جناب ربه والانطراح بين يديه.
إن الحياة بغير الدين تعقيدٌ تحفها المنغصات، وبضعف الدين تنبت الاضطرابات الاجتماعية، والأمراض النفسية، فيفزع المبتلون إلى المهدئات والمسكنات، بل إلى المسكرات والمخدرات -عياذاً بالله- قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125].
إن الدنيا عند المؤمن ليست عبئاً مضجراً، ولا لغزاً محيراً، ولكنها مرحلة ومزرعة، ودار ممرٍ واختبار يرجو بعدها لقاء الله، الإيمان سفينته، والعبادة وسيلته.
إن المؤمن تغمره السعادة؛ لأنه موقن بأن الحياة محفوفة بأقدار الله؛ فلا يأس على ما فات، ولا فرح بما حصل لا يستسلم للخيبة، ولا يهلك نفسه تحسراً، بل كل مواقف الدنيا عنده ابتلاءٌ بالخير أو ابتلاءٌ بالشر، ولئن زلزلته وقائع البلوى ردَّه الإيمان إلى استقرار النفس، وبرد اليقين، ورباط الطمأنينة، فنعم بالسكينة من غير هلعٍ ولا شقاق.
المؤمن يملك السعادة والراحة التي تجمع له بين التوكل والعمل الكادح، لا يزعزعه جزع ولا يرهقه قلق، يعمر الحياة نشاطاً ويغمرها جهاداً.(7/3)
العمل سبب في السعادة
أيها الإخوة: إن السعادة لا تحصل بالهروب والإهمال؛ ولكنها في مواجهة الحياة وغاياتها، إن ثمة أسباباً يحسن تحصيلها ورعايتها فهي عوامل الإسعاد وجالبات الرضا، جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: {من سعادة ابن آدم المرأة الصالحة والمسكن الطيب والمركب الطيب}.
أسبابٌ وعوامل منظورٌ فيها إلى النوع والكيف، وحسب الإنسان أن يسلم بإيمانه من المنغصات، ويتيسر له من القوت ويتحقق له من الأمن والعافية ما جسده الحديث النبوي الآخر: {من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها}.
إن المال يحقق السعادة إن ابتغى به متعة عيشٍ مباحة، ولذة نفسٍ جائزة، ومكرمة تبتغي ذكرها، وصالحة تبتغي عند الله أجرها وإن لم يكن كذلك فإنه لا يعدو أن يكون حزماً من الورق الملون، أو لمعاناً من المعدن الثقيل، أو أكواماً من الطين والتراب، عليك غرمه ولغيرك غنمه.
السعيد لا يأكل أكثر مما يأكل الناس، ولا يملك أكثر مما يملك الناس، ولكنه يرضى أكثر مما يرضى الناس، سبحان الله يا عباد الله! إن أسباب الرزق أدق من أن يدرك الناس حكمتها وأسرارها إن في الناس طلاب رزق لا ينالون خبزهم ولا خبز عيالهم إلا من قاع البحار اللجية، يغشاها موجٌ من فوقه موج، وآخرون طيارون رزقهم فوق السحاب يبتغونه صعداً في أعالي السماء، ومن بين هؤلاء وهؤلاء عمال المناجم والأنفاق، ينقبون الحجارة ويفجرون الصخور، لا يرون ضوء الشمس ولا بياض النهار، ومن دون هؤلاء وأولئك من يأتيه رزقه عند بابه، ليس في رءوس الجبال ولا في أعماق البحار: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32].
السعداء مؤمنون عاملون، وعلى ربهم متوكلون، وبحكمته واثقون، وبأقداره موقنون نصيبهم المقسوم في السماء سيهبط إلى الأرض هذه هي السعادة ذات الخلق السمح والنفس المطمئنة.
وإن من مصادر الشقاء وأسباب التعاسة أن تكثر البطالة، وينتشر الذين يتكففون الناس، وينظم إليهم رواد المقاهي والأندية البطالون الذين خلوا من أي عمل وإن السعادة لهم ولغيرهم أن تهيأ لهم فرص العمل؛ صناعة وزراعة، وحرفة وتجارة، مستفيدين من مستجدات العصر ووسائله الحسنة، ويهتم بذلك ولاة أمور المسلمين، وعلى رجال الأعمال كفلٌ في هذا غير يسير.(7/4)
العلم والتربية من أسباب السعادة
ولئن كان العمل عاملاً من عوامل السعادة كبيراً؛ فإن العلم قريبه، ويقصد بالعلم الفقه في شئون الناس، وأمن الحياة علمٌ واستنارة يرتفع بها صاحبها عن مصاف الجهل والجهلاء، فالجهال تصعب قيادتهم، ويشق توجيههم، وتقل راحتهم، وتصعب إراحتهم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55].
وتكون الشخصية المتعلمة إذا كانت متفتحة تدرك الحق والنافع، وتفهم المطلوب وتحسن التجاوب، وإن ردود الفعل غير المهذبة من الجهال هي العلة في كثيرٍ من أسباب الشقاء، وعدم انتظام طرق المعاش.
ثم -أيها الإخوة- لا خير في علم إذا لم يصحبه خلقٌ كريم، وأدبٌ سامٍ، يتربى عليه أفراد الأمة؛ من الصبر والعزم، والجد والإقدام، والأمانة والصدق، والحلم وسماحة النفس، ورقة العاطفة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتربية البيت والمدرسة مقدمة بقالب الدين والشرع المطهر، فيتولد الحياء والعفاف، وسعة الأفق وانشراح الصدر: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:1 - 3].
تربية تأخذ بالناشئة إلى ربهم؛ فيلجئون إلى ذكره وشكره، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]
تربية تبعدهم عن الغل والحسد، وتملأ قلوبهم بحب الخير للناس، وسؤال الله من فضله للنفس وللناس أجمعين، قال تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [النساء:32].(7/5)
الهدوء والانضباط من عوامل السعادة
وإن من أهم ما تتوجه إليه التربية ويستجلب السعادة الهدوء والانضباط، فالفوضى والاضطراب الشخصي، والانزعاج النفسي من أظهر مظاهر الشقاء إن المضطرب غير المنضبط يلقي ببصره هنا وهناك، ينزعج ويزعج، وإنكم لتعلمون كم يجلب تجاوز الأنظمة المرعية من الشقاء الاجتماعي والضغط النفسي فضلاً عن عدم وصول الحق إلى مستحقه وتجاوزه إلى غير أهله، فأي سكينة ترجى حين تسود الفوضى؟!
أيها المسلم: أنت سعيد إذا عرفت قدر النعمة التي أنعم الله بها عليك سعيدٌ إذا عرفت نفسك وطلبت السعادة من نفسك لا ممن حولك سعيدٌ بإيمانك وخلقك وحبك للناس سعيدٌ إن كنت مع ربك فشكرت النعمة وصبرت على البلية، فكان لك الربح في الحالين وحسن الثواب في الحياتين.
الله أكبر! سعادة عند أهل الإيمان لو علم بها المحرومون من أهل الثراء والجاه وأهل الكفر والنفاق لجالدوا عليها بالسيوف، بل إن الملاحدة لما رأوا ما يغشى أهل الإيمان من الرضا والطمأنينة والقناعة والسكينة؛ ظنوا بجهلهم أن الدين قد خدر أهله، وما درى هؤلاء المساكين أن أهل الإيمان موقنون بأن أهل الأرض والسماوات لو اجتمعوا على أن ينفعوا أحداً بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه.
مؤمنون بأن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، وعندهم في دينهم الإيمان مقرونٌ بالعمل، ونواميس الكون وسنن الله لا تتبدل من أجل كسولٍ أو خامل والشفاء بإذن الله مرتبطٌ بالعلاج، والحصاد لا يكون إلا بعد الزرع، فاعمل وادأب وخذ وطالب وارض بما قسم الله لك من غير يأسٍ يدخل قلبك، ومن غير حقدٍ يأكل فؤادك، ومن غير حسدٍ يأكلك ويأكل حسناتك إن سلكت هذا المسلك فلسوف تعب السعادة عباً، ولسوف تتنزل عليك السكينة تنزلاً.
وبعد -أيها الإخوة- فهذا هو الإمام ابن القيم رحمه الله يقول: إن في القلب شعثاً لا يلمه إلا الإقبال على الله، وإن فيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وإن فيه حزناً لا يذهبه إلا السرور بمعرفة الله وصدق معاملته، وإن فيه قلقاً لا يسكنه إلا الفرار إليه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، وفيه حسراتٌ لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه، والصبر على قضائه إلى يوم لقائه، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح:4].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(7/6)
حياة الأشقياء
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأضحك وأبكى، وأسعد وأشقى، أحمده سبحانه وأشكره، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الأبر الأتقى صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه آمنوا بربهم وصدقوا بالحسنى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها الناس- واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله.
أيها المسلمون: إن البصير لا يأسى، فإن الأسى كله وأشده لأقوامٍ مخذولين تنكروا لفطرهم، وأظلمت بالشكوك قلوبهم لم تنفذ إليهم أشعة الإسلام بسكينة، ولا تسربت إليهم أنوار اليقين براحة، أولئك الأشقياء المطموسون الذين يجادلون في الله بغير علمٍ ولا هدىً ولا كتاب منير مساكين ثم مساكين، دخلوا الحياة وخرجوا منها ولم ينعموا بأطايب ما فيها، وأعظم ما فيها الإيمان بالله والاحتماء بجنابه خسروا أنفسهم وخسروا حياتهم الساخطون الشاكون لا يذوقون للسرور طعماً حياتهم سوادٌ ممتد، وظلامٌ متصل، وليلٌ حالك، لا يرقبون الفجر الصادق.(7/7)
الشك والتسخط والرضا واليقين
والغريب -أيها الإخوة- أن هناك ترابطاً وثيقاً بين الشك والتسخط، فلا سخط من غير شك؛ فلا تكاد ترى سخطاً من غير شك، ولا شكاً من غير تسخط.
قال ابن القيم رحمه الله: قلَّ أن يسلم الساخط من شكٍ يداخل قلبه، وإذا فتش نفسه وجد يقينه معلولاً مدخولاً.
فالرضا واليقين إخوان، والسخط والشك قرينان والساخط المتسخط دائم الحزن والكآبة، ضيق النفس والصدر، ضائقٌ بالناس وضائقٌ بنفسه، الدنيا في عينيه مثل سم الخياط.
أما الرضا فهو سكون وطمأنينه، وراحة فيما قدر الله واختار من أنعم الله عليه بالرضا تأتيه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، لا يصبح ولا يمسي إلا راضياً مرضياً، لا يرى إلا الحسن والسرور، فإن عين الرضا تعمى عن العيوب، وعين السخط تملؤها المساوئ وليس من شرط الرضا ألا تحس بالمكاره، ولكن الرضا ألا تعترض على المقادير، ولا تتسخط على المكتوب.
هنيئاً لمن ملأ الرضا فؤاده، فإنه لا يتحسر على ماضٍ باكياً حزيناً، ولا يعيش حاضراً ساخطاً جزوعاً، ولا ينتظر المستقبل خائفاً وجلاً، ولا يعيش في رهبة من غموض، ولا توجسٍ من جبروت إيمانه مصدر أمانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]
هذا وصلوا وسلموا على نبي الرحمة والهدى نبيكم محمدٍ المصطفى، فقد أمركم بذلك ربكم عزَّ وجل فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد الرحمة المهداه، والنعمة المسداه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الدين، اللهم واحمِ حوزة الدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم أيد بالحق إمامنا وولي أمرنا ووفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، وأصلح له بطانته، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم أبرم لأمة الإسلام أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غِلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(7/8)
المرأة والتغريب
تغريب المرأة المسلمة سلاح فتك بقطاع كبير من المسلمين، وترنحت تحت وطأة ضرباته شريحة عظيمة من شباب المسلمين، ولا تزال الدعوة إلى تحرير المرأة بالمفهوم الغربي قائمة على أشدها لإلحاق البقية الباقية من بنات المسلمين بمن قد سبق، وهذه المحاضرة تبين المفهوم الصحيح للحرية، والحقوق المشروعة للمرأة، وتزيل كثيراً من اللبس الحاصل في ذلك عند كثير من المسلمين.(8/1)
جوانب ذكر المرأة في القرآن
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا عبد الله ورسوله، بعثه ربه بالرحمة والهدى، جعلنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى آله أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأشكر الإخوة في مركز الدعوة والإرشاد بـ جدة والمكتب التعاوني دعوتهم لي للمشاركة في هذا الموضوع المهم، وفي هذه القضية التي هي من أهم القضايا، وحينما رغبوا مني أن يكون عنوان هذا اللقاء: المرأة والتغريب، كان في ذهني أشياء ظننت أنها تخص هذا العنوان، ولكن لما رأيت القائمة التي يحتويها هذا النشاط الطيب المبارك، وهذه القضايا المبثوثة في هذا البرنامج، والتي كما أشار أخي فضيلة الشيخ: أحمد بن عبد العزيز الحمدان أنهم في منتصفه، أو في آخر المجموعة الأولى منه، وجدت أن القضايا أو بعض هذه العناوين فيها شيء من التشابه، ولا غرابة؛ لأن القضايا المثارة في الساحة ما أثيرت إلا بسبب الرياح التي تهب على كثير من بقاع وديار المسلمين من الشرق والغرب، فتأملت فيما قد يحتاج إلى مزيد تركيز، فرأيت بعض عناصر قد أعرضها كلها أو أعرض شيئاً منها حسب ما يتسع له المقام، وإن كان بعضها يدل على بعض، فأولها موضوع قضية المرأة، والثاني استعراض آيات كريمات تجسد ما سوف نعنيه بقضية المرأة، ثم الوضع السيئ للمرأة في ممارسات بعض المسلمين، ثم شعار تحرير المرأة، ثم فكرة الصراع بين الرجل والمرأة، ثم تعليم المرأة، ثم عمل المرأة، وأقف عند هذا المصطلح، أو بتعبير أدق الحط من عملها في المنزل، ثم المرأة في الواقع المعاصر أو المرأة بين نظرتين.
ولا أدري هل سوف يتسع المقام لكل هذا؟ ولكني رأيت أن هذا كله مما يدخل في التغريب، على أن للتغريب أيضاً مفردات أخرى قد لا يتسع لها المقام، مع أن كثيراً من دعاة التغريب وخاصة حينما ينظر في أول ما ابتدأت هذه الرياح -كما قلت- أن كثيراً ممن تبنوها غير محمودي السيرة، تشربوا ثقافة غير ثقافة أهل الإسلام، لهم اتصال فكري وقد يكون بعضه سياسي مع جهات استعمارية، وبخاصة نشوء مثل هذه التيارات والرياح: قضايا الحجاب، والاختلاط، وقوامة الرجل، والخلط بين العادات والأحكام الشرعية، أو محاولة القول بأن الأحكام الشرعية نوع من العادات كما في الحجاب وقالوا في الفصل بين الرجل والمرأة، وأيضاً قضايا اللباس والاحتشام في قضايا نتعرض لها في ثنايا الحديث.
أولا: ً قضية المرأة.
لا تظنوا أن قضية المرأة هي وليدة الساعة، أو أنها أتى بها المستغربون، أو من يزعمون النهضة والتقدم ونحو ذلك، المرأة صنو الرجل، والمرأة جزء من الحياة، والمرأة ركن شاء الله عز وجل لها ذلك، وأعطاها من المسئولية وحفظ لها من الحقوق ما للرجل، ولهذا سوف أستعرض معكم آيات من كتاب الله عز وجل، وعليكم أن تستصحبوا أن قرآننا تنزل على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرناً، وعليكم أن تتفكروا كيف كان العالم قبل ألف وأربعمائة سنة أو ما يزيد عن ألف وأربعمائة سنة، كيف كان اليونان؟ كيف كان الصينيون؟ كيف كان الهنود؟ كيف كان الرومان؟ كيف كانت أوروبا بأجناسها؟ كيف كان اليابانيون؟ كيف كان الفرس، كيف كان العالم؟!
لا يكاد ينظر في شيء، ولا تكاد تكون حضارة محفوظة ومكتوبة ومدونة كحضارتنا أهل الإسلام أبداً، إنما رءوس أقلام، وخطوط باهتة عن بعض الشخصيات كـ أفلاطون، أو بعض الملوك ونحو ذلك ككسرى وقيصر، لا تكاد تجد شيئاً مكتوباً يمثل حضارةً متقدمة تقدماً علمياً، وبخاصة في قضايا المرأة، في قضايا الحقوق.
وأما كتاب ربنا فتنزل بهذا الحديث المستفيض عن الحياة كلها، عن المستويات فيها، بقطع النظر عن كلام الآخرة فهذا شيء جلي وليس محل حديثنا، حديثنا عن القرآن والسنة؛ قرآن نبينا الذي تنزل على قلبه صلى الله عليه وسلم وسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم وسيرته في قيام هذه الحياة برجلها وامرأتها، أتى دينٌ كامل، وفصل كل قضايا الحياة ودقائقها، بما في ذلك قضية المرأة، فلا يظن الظانون حينما نتحدث عن المرأة في هذا العصر الذي يزعمونه عصر نهضة وتقدم؛ أننا ندافع، أو أننا في الموقف الضعيف، أو أننا كنا في الظلمات.
القضية كبيرة: أوروبا كانت في عهد ظلمات وفي القرون الوسطى، وكنا في عصور النهضة، كان ديننا هو القائد، وكان ديننا هو الحاكم، وكانت حضارتنا هي التي تغطي العالم، وحكمنا لا تغيب عنه الشمس؛ بعدل ونور وعدالة، وحقوق بينه للرجال والأطفال والنساء، والحيوان والحجارة والأشجار، وحقوق المسلمين وغير المسلمين من الرهبان والشيوخ والصبيان، فإذا كانوا يتحدثون عن عصر ظلمات فهو في حقهم هم.
إذاً: فحينما نتحدث عن قضية المرأة فنحن لا نتحدث من موقف ضعف ولا لأننا محل شبهة، نحن نقول: قال الله وقال رسوله في وحي تنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بنوعية القرآن والسنة منذ أربعة عشر قرناً.
أولاً: من المعلوم في أسلوب اللغة العربية أن الخطاب للذكر هو خطاب للأنثى من باب التغليب، وهذا أسلوب في لغة العرب، بل حتى في اللغات الأخرى وهو ما يسمى بالجنس، فحين يقول: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] ليس المقصود الذكر وحده، وحينما يقول الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] معلوم أنه لا يراد به الذكر وحده، وحينما يقول: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:3] بالاستثناء لا يريد به الرجال وحدهم، وهذا كثير، ومعروف في اللغة وعند الفقهاء رحمهم الله، فأي حكم فهو للرجال والنساء؛ هذا جانب.
إذا خصت المرأة بخطاب، وهذا هو الذي سوف نستعرضه فيما بين يدي من آيات، فهي في الكلام عن المرأة.
وأعيد مرة أخرى أن قضية المرأة قضية مبحوثة في ديننا بكل جوانبها، لا لأننا من موقف ضعف، وإنما فعلاً لأن الدين جاء لإقامة الحياة على وجهها بذكرها وأنثاها، ولهذا حاولت أن أحصر الكلام في أربعة موضوعات هي في بعض آيات كتاب الله:
أولها: آيات في المساواة في الخلق والتكوين والأصل.
ثانياً: آيات في خطاب التكليف والمسئولية.
ثالثاً: آيات في أحوال الاستضعاف.
رابعاً: آيات في الجزاء والثواب.(8/2)
آيات المساواة مع الرجل في الخلق والتكوين
فمثلاً: في آيات المساواة في الخلق والتكوين والأصل، ولا أقول: المساواة في الأحكام، المساواة في الأحكام قد لا يتسع له هذا المقام، وإن كان في أصل العناصر التي عندي، ولكن لا أستطيع، وعلى كل فهن لا يساوين الرجال في الأحكام لأن الله عز وجل يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} [البقرة:228] ولم يقل: ولهن مثل الذي على الرجال.
فالحقوق مقابل الواجبات، والمساواة أصلاً غير مطلوبة، ولا تستقيم الحياة بالمساواة، ليس بين الرجل والمرأة وإنما حتى ما بين الرجل والرجل؛ لأن الثواب على قدر المسئولية، فالعسكري غير المدني والطبيب غير الأستاذ وغير المهندس، والجاهل غير العالم والحاكم غير المحكوم كلٌ له منزلة ومقام، فالتفرقة ليس لأجل الخلقة وإنما لأن المسئوليات التي ترتبت تقتضي اختلافاً في الثواب والجزاء، وخاصة الثواب الدنيوي.
أما الأخروي فمتساوون، ولا بأس أن نخرج قليلاً إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: {النساء ناقصات عقل ودين} نقص دينها أنها لا تصلي إذا حاضت، لكن ليس ثوابها ناقص وقتئذٍ بمعنى: أن الرجل يصلي في الشهر ثلاثين يوماً والمرأة تصلي ثلاثاً وعشرين يوماً إذا كان عادتها سبعة أيام والثواب واحد، فنقص دينها لا لنقص ثوابها ثم إن الشرع نهاها أن تصلي، وكذلك الصيام لا تصوم لكنها تقضي، فليس هناك في الآخرة نقص إنما نقص بقدر المسئولية مقابل الحق، ولهذا قال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} [البقرة:228] ولم يقل: ولهن مثل الذي للرجال.
فالرجال لهم امتيازات بقدر ما عليهم من مسئولية -هذا كما قلت للإخوة الموظفين- وإنما أتكلم على المساواة في الخلق والتكوين والأصل، الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:13] إذاً متساوون.
{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ذكراً كان أم أنثى، ويقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1].
إذاً: كلهم مخلوقون من نفس واحدة فلا تفرقة في هذا الأصل هو الذي {هَو الذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189] وجعل منها: (من) هنا تبعيضية، أي: فلا تمايز في هذا الباب، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [الروم:21] أي: خلقها من نفسك، فأريد أن تسترجعوا معي أننا نتحدث عن قرآن نزل منذ أربعة عشر قرناً، فنحن كما قلت: لا ندافع، ولسنا في موقف ضعف، وإنما إذا كان الناس في عمى، أو كنا قد غفلنا عن ديننا وقرآننا حصل ما حصل وإلا فنحن ما أتينا بشيء اخترعناه من عندنا.(8/3)
آيات في خطاب التكليف والمسئولية
نأتي إلى خطاب التكليف والمسئولية.
الله عز وجل يقول: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء:32] الخطاب موجه للرجال وللنساء، إذن للمرأة مقامها في المجتمع ودورها في المسئولية، وخاطبها الله كما خاطب الرجال، وقضيتها أيضاً معتنىً بها؛ لأنها هي بناء الدنيا، فالدنيا مبنية على الرجل والمرأة، بل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم أن تحدث في حجة الوداع عن قضايا كبرى كالتوحيد والربا تحدث عن المرأة حديثاً مستفيضاً، وتحدث عن الدماء والجاهلية والقصاص إلى آخره، وقال: {استوصوا بالنساء خيراً} فقضية المرأة فعلاً هي من أكبر القضايا لا لأننا نتحدث عن نهضة وتقدم، إنما نتحدث عن شيء قرره ديننا، قال تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء:7].
وفي الآية الأخرى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء:32] بل يقول الله عز وجل أول هذه الآية: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32] وواضح أن الخطاب للرجال والنساء، فالنساء قد تفضل على الرجال؛ في قربها من ربها، في اجتهادها في عملٍ، لأن الله سبحانه وتعالى عدل رحيم، فمن عمل لقي جزاء ما عمل، ولهذا قال سبحانه: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [النساء:32].
آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} [الحجرات:11] خطاب للجنسين في هذه القضية وإن كانت السورة كلها مبتدئة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات:6] وبعد ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ} [الحجرات:12] كلها للرجال والنساء لكن هنا أيضاً أفرد النساء بالخطاب وأفرد الرجال بالخطاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات:11]، هنا أريد بها الرجال بدليل أنه قال: {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات:11].
وهناك قضية المباهلة، والمباهلة هي تحمل المسئولية، وقصة المباهلة أنه أتى وفد من نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم النبي أنه تنزل الوحي بشأن عيسى، فخالفوه فدعاهم إلى المباهلة، وفي هذا قال الله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران:61] فالجميع يتحمل مسئولية استحقاق لعنة الله على الكاذبين فدعي الرجال والنساء والأطفال، فالكل يتحمل المسئولية.
والآية الطويلة في سورة الأحزاب بعد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب:28] إلى أن قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب:33] {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} [الأحزاب:34] قال بعدها: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35].
إذاً: الخطاب للجميع، والمسئولية للجميع، والقضية قضية الجميع، وهذا قبل أربعة عشر قرناً، ماذا كانت أوروبا، وماذا كانت الصين، وماذا كانت الهند؟ كان العالم كله يغط في نوم عميق، بل حتى العرب يتنزل عليهم هذا القرآن الذي قضى الله سبحانه وتعالى أن يكون خاتم الديانات، وأن يكون محفوظاً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها حجة لله على خلقه، بعد هذه الآية قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36] خطاب تكليف ومسئولية وتحمل للجنسين.
قضية أيضاً كبرى جداً، في قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة:71] من أكبر المسئوليات مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي بها قيام الأمة، وهي قوله:(8/4)
آيات في أحوال الاستضعاف
وقد قصدت إفرادها بالذكر؛ لأن ديننا لا يرى أن المرأة مستضعفة وحدها، وإنما الاستضعاف شيء طارئ على الرجال والنساء في أحوال، أما المرأة فلها مسئوليتها التامة والكاملة، لكن إذا جاءت ظروف فيها استضعاف فالقرآن ذكر الرجال والنساء، فمثلاً في قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [النساء:75] والآية الأخرى في نفس السورة: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:97 - 99]، إذاً أحوال الاستضعاف تطرأ على الرجال والنساء والولدان.
كذلك أيضاً في قضية الفتح، وكيف أن الله عز وجل أخر الفتح لحكمة يراها، ومنها قوله عز وجل: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح:25] فأحوال الاستضعاف، والنظر حتى في جميع الأحكام للرجال والنساء.
وفي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58] ومثله قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10].
فهذا يدل على أن على الكل مسئولية، وعلى أن الكل تنبني عليه القضايا في هذه الدنيا وعليه فيها مسئوليات، وكلٌ عليه مسئوليته.
إذاً: هذا استعراض في بعض أحوال الاستضعاف، وأن المرأة ليست مستضعفة لخلقتها، وإنما هي مسئولة على قدر طاقتها والرجل على طاقته لكن الأحوال الطارئة للجميع.(8/5)
آيات في قضية الجزاء والثواب
الله عز وجل يقول: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] ويقول تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]، وقال: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر:40] ويقول الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ} [التوبة:71] قال: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} [التوبة:72] وكذلك في سورة الأحزاب حينما قال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:72 - 73] إذن هذا للرجال والنساء.(8/6)
الوضع السيئ للمرأة عند بعض المسلمين وشعار تحرير المرأة
نأتي إلى قضية الوضع السيئ للمرأة المسلمة في بعض أقطار المسلمين وأعصارهم.(8/7)
الوضع السيئ للمرأة لا يقره الإسلام
لا شك أن وضع المرأة المسلمة في العصور المتأخرة كان فيه من السوء والظلم والغم ما لا يخفى ولا ينازع فيه، وأهل العلم والرأي والعقل في المجتمع مدركون بأن هذا الوضع للمرأة وللمجتمع ليس من الإسلام، فوجدت بعض الممارسات والأخطاء التي لا تقر، ونوع من الاحتقار، ونوع من غمط الحقوق، بل قد تمنع من الميراث، وقد تجبر في زواج، بل حتى إذا جاء ذكرها في بعض الديار يقال: (أكرمكم الله) حتى ولو كانت أمه، وهذا ليس من الدين في شيء، وليس من الغيرة، وليس من الحشمة، فهذه قضايا لا شك أنها ليست من الإسلام، وإنما هي عادات بالية وتقاليد أكثر ما أملاها الجهل، وقد يحصل تقصير من طلبة العلم في بيان هذا الحق، وكان ينبغي أن تكون هناك تدخلات من أصحاب القرار في سبيل رفع مثل هذا النوع من المظالم، ولهذا فلا شك طبعاً أن المطالبة بالإصلاح، وتحسين وضع المرأة، ورفع هذه الصور من الظلم عنها، لا شك أنه حق، بل إنه ليكتسب من القوة والمشروعية والقبول بقدر ما وقع على المرأة من ظلم وانتقاص.
هذا كما قلنا أمر لا ينازع فيه، والسبب في ذلك أن ديننا واضح، وكما أوردنا الآيات السابقة، فكذلك الأحكام ظاهرة، وخطاب المرأة في العبادات وفي الحقوق والواجبات واضح، وأي لبس وتشويش فإزالته بالرجوع إلى كتاب الله، وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإلى فهوم أهل العلم الصحيحة السليمة، ولا نحتاج إلى استيراده من أي جهة.
لا أستطرد في هذا لأنتقل إلى شعار تحرير المرأة.(8/8)
شعار تحرير المرأة
شعار تحرير المرأة هو منطلق مما سبق من الظلم الذي وقع على المرأة، فجعلوا ذلك الجزء المظلم مدخلاً، ولهذا نقول في شعار تحرير المرأة: إذا كان وضع المرأة المسلمة في العصور المتأخرة قد أصابه ما أصابه من ظلم وتعسف وغمط، فلا شك أن دعوة تحرير المرأة من مثل هذه الأوضاع حق، فالأمة لا ترفض أبداً تحرير المرأة في ذاته، وبمضمونه الإسلامي؛ من حرية الفكر والشعور والرأي والتملك ونحوها، وكل ما يرفع عنها المظالم، ويحفظ لها حقوقها في حدود شرع الله الذي يحكم كلاً من الذكر والأنثى، ولكن الذي حصل ومع الأسف أن شعار تحرير المرأة قد ارتبط بالدعوة إلى السفور والتبرج والاختلاط المحرم والتحلل، حتى إن جماهير الأمة اليوم لا يذكر عندها اصطلاح تحرير المرأة إلا ويقع في خاطرها على الفور معنى تبرجها وسفورها، وأصبح وصف المرأة بأنها متحررة مرادف تماماً لوصفها بالتبرج والسفور والتحلل، رغم أن وصف الحرية في جوهره لا يؤدي إلى ذلك المعنى وما كان ينبغي له أن يؤدي إلى ذلك أبداً، بل لقد أصبح شعار تحرير المرأة مثيراً للقلق والاشمئزاز لدى المسلمين المخلصين الغيورين كافة، ويترتب على ذلك أن رفض المسلمين لهذا المفهوم المنحرف (تحرير المرأة) اعتبر عداءً لحرية المرأة.
إذاًَ: هذا مع الأسف هو قضية الوقفة التي يسمح بها المقام عن معنى أو مصطلح شعار تحرير المرأة.(8/9)
افتعال صراع بين الرجل والمرأة
ولهذا أنتقل بعده إلى قضية فكرة الصراع بين الرجل والمرأة.
إن الذي أدى إليه المفهوم المغلوط لتحرير المرأة هو أنهم صوروا أن الرجل متسلط، وأنه مستبد، نعم هذا قد يكون موجوداً حقيقة إما في ممارسة خاطئة، وإما عند أمم غير إسلامية، لكنهم استطاعوا أن يدخلوا -كما قلت- من هذا الجزء المظلم إلى النفخ في قضية الصراع بين الرجل والمرأة، فهذه الفكرة ترى العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة صراع لا علاقة مودة ورحمة، والقوامة الشرعية استبداد وظلم وتسلط، لا تنظيم ورعاية وتوزيع للمسئوليات.
واسمع بعض عباراتهم الاستفزازية إن صح التعبير وفرقوا بين ما يقوله أحدهم وهو كاتب مسلم عربي، وبين ما سمعتموه من آيات كتاب الله {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1] قال: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189] وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [الروم:21] هل تأملتم الفرق بين قوله: لتسكنوا إليها، ولم يقل: لتسكنوا عندها، ولا: لتسكنوا معها، فسكن الشيء إلى الشيء بمعنى: اطمأن وارتاح وأحس فعلاً بالأمان الداخلي؛ هذه هي العلاقة التي يبنيها الإسلام بين الزوجين في عش الزوجية، ناهيك أيضاً بالعلاقة مع الأم والعلاقة مع الأخت وصلة الأرحام وكلها علاقات مودة وبر وإحسان، والعاق لوالديه ومدمن الخمر لا يدخلان الجنة، لكن هؤلاء أرادوا أن يجعلوا القضية قضية صراع، يقول هذا الكاتب: فالمرأة القوية بفكرها، أو القوية بخبرتها وبمعرفتها، تجد في تلك القوة منافذ متعددة لدفع الأذى عنها، فلا تحتاج كثيراً إلى ذلك السبيل الذي تطرقه العاجزات، فالمرأة التي ترى نفسها نداً للرجل لا تبكي عندما تصطدم به، فهي تملك من تنوع الأسلحة ما تستطيع أن تواجه به تنوع أسلحته، إذاً القضية قضية أسلحة وليست مثلما يقول: أسلحة نووية وجرثومية بين الرجل والمرأة، لكن المرأة التي لا تجد لنفسها مكاناً في ظل الرجل أو خلفه تجعل من نفسها امرأة مقيدة اليدين والرجلين مكممة الفم.
بالله عليكم إذا كنا نربي نساءنا وبناتنا على أن الحياة صراع، وأن الحقوق نهب، فكيف ستكون الحياة؟
فهو اختلاق صراع مرير بين المرأة والرجل تمخض عنه محاولات دءوبة لتكوين جمعيات نسائية لقيادة هذا الصراع، يجسد ذلك مع الأسف إلحاح في بعض وسائل الإعلام على ضرورة أن تنتزع المرأة حقوقها ولا تنتظر من يهبها تلك الحقوق، بينما هم يؤكدون أن العلاقة مودة ورحمة وأنها حقوق وواجبات، ومسئوليات كلٌ عليه مسئولياته، وكلٌ له حقوق بقدر ما عليه من مسئوليات.(8/10)
تعليم المرأة
نأتي إلى قضية تعليم المرأة وعملها: وهذه قد أقف عندها وقفات ونحن نتحدث عن التغريب.
وكما كان اللبس في مفهوم تحرير المرأة كذلك كان اللبس في تعليم المرأة، فإن من حق المرأة أن تتعلم، وكما قلنا: أي خطاب للرجال هو خطاب للنساء، وقال الله عز وجل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5] الرجل والمرأة، و {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] الرجال والنساء، فأي خطاب كما قلنا فهو موجه للرجال والنساء، ولا شك أن هناك ضوابط مأخوذة من الدين أيضاً، وإلا فقول النبي صلى الله عليه وسلم: {طلب العلم فريضة على كل مسلم}، ليس في الحديث مسلمة لكن لفظه مسلم تشمل الرجل والمرأة، إلا أنه لا شك أن هناك ضوابط تتعلق بطبيعة المسئوليات التي بها تستقيم الحياة استقامة حقيقية يترتب عليها نوع التعليم، ولهذا نقول: وكما كان الخلل واللبس في مفهوم تحرير المرأة كذلك حصل اللبس والخلل في مفهوم تعليم المرأة، إذ لا شك أن تعليم المرأة حقٌ، وحينما جاء الحديث الشريف: {طلب العلم فريضة على كل مسلم} فإن المراد به كل مسلم ومسلمة؛ لأن الخطاب كما قلنا للجميع، وهذا معروف في نصوص الكتاب والسنة، وكذلك في أسلوب اللغة، ولكن الانحراف الذي حصل في هذا المفهوم، أو هذا الشعار أنهم ربطوا ذلك باختلاط الفتيان والفتيات، وربطوا ذلك بالتبرج في اللباس، وربطوا ذلك بأمور كثيرة، فكأنهم حرصوا على أن يضعوا حينما جاء التعليم -طبعاً في غير ديارنا ولله الحمد- لكن نحن نتحدث فعلاً عن قضايا التغريب، فكأنهم حرصوا على أن يضعوا الأسرة المسلمة في الاختلاط وأمام مأزق الدين نفسه، فإما أن يعلموا بناتهم، وإما أن يحفظوا عليهن خلقهن ودينهن، من غير تعليم، وفي الواقع هناك ارتباط بين التعلم في كثير من الصور المعاصرة وبين التفسخ الأخلاقي، مع الأسف أن هذا الذي ينكره يماري مماراة ويجادل في أشياء لها برهان كالشمس في كثير من قنوات التعليم.
إذاً: حينما ربطوا بين التعليم والاختلاط، وبين التعليم والتفسخ، وبين التعليم وأنواع اللباس، كأنهم حرصوا أن يضعوا الأسرة المسلمة أمام مفترق طرق، أو مأزقٍ ديني ونفسي، فإما أن يعلموا بناتهم، وإما أن يحفظوا عليهن خلقهن ودينهن، إما أن يبقين بلا علم، وإما أن يفرطن في التزاماتهن الدينية والخلقية والتربوية، وأنت تعلم عقلاً وحساً أنه ليس ثمة تلازم بين التعليم والاختلاط، ولم يقل أحدٌ بأن البنت إذا تلقت العلم مع زميلتها وشقيقتها سيسوء فهمها ويتأخر تعليمها، ولكن مع الأسف ورغم وضوح ذلك فقد حرصت الدعوات المشبوهة والمنحرفة بمعونة مؤسسات من الداخل والخارج على ربط تعليم المرأة بالاختلاط مما أساء في نهضة المرأة المسلمة، فلمصلحة من تلزم الأسرة المسلمة بما لا يلزمها؟ وهل النهضة لا تكون إلا بترسيخ مبدأ علماني غربي في ديار الإسلام ليس له أي مردود نهضوي أو عقلاني في مسيرة الأمة نحو السبق الحضاري الراشد؟ والنتيجة لقد أخرجوها من بيت وليها أباً أو زوجاً أو غيرهما بشتى الحيل بل وأهونها، فكان ذلك بدايات المحذورات جميعاً، وتركت المرأة جهادها الكريم في بيتها، وانصرفت إلى نضال مدنس أو على الأقل ثانوي؛ سعياً وراء تحصيل علم بزعمهم، وتحقيق الكيان الاجتماعي بحسب تعبيراتهم، وإثبات الشخصية والوظيفة المرموقة، وباسم العلم والنور والتقدم أخرجوا نماذج نسوية تمرست وتقلبت في معتركات التعليم ومجالات العمل ومسارح الاختلاط المختلفة خلفت وراءها رسالتها الحقيقية وبخاصة سياسة البيت، فنبتت المشكلات الأسرية والزوجية، وتفككت الأسرة، وضاعت المسئولية، ومع الأسف أن هذا فيما يتعلق بالتعليم المختلط، أو حتى عموم تعليم المرأة.
ونحن نتكلم بشكل عام، ولكن الحمد الله بلادنا ليس فيها اختلاط ولله الحمد، والأمر لدى مسئولينا أمر واضح، وسياسة التعليم عندنا واضحة، والجهات المسئولة عن تعليم البنات تعرف كل ذلك وتعيه ولله الحمد.(8/11)
عمل المرأة
نأتي إلى قضية عمل المرأة.
قضية الحط من العمل المنزلي.
ما كان ينبغي أن يكون عمل المرأة مشكلة، لأنه مع الأسف إذا قالوا: عمل المرأة أو إذا قالوا: المرأة العاملة فإنهم لا يعترفون بعمل المرأة إلا إذا كان خارج بيتها، ومع الأسف حاولوا أن يرسخوا هذا المصطلح، وهذا من التغريب؛ فإذا قال لك: المرأة العاملة، وظروف المرأة العاملة، وتهيئة ظروف المرأة العاملة، ومساعدة المرأة العاملة، فالمرأة في بيتها عندهم ليست عاملة، ولهذا كان توجههم الأول هو الحط من العمل المنزلي.
نحن لا ننكر أن المرأة قد تحتاج إلى أن تعمل خارج بيتها، هذا لا شك أنه مقدر ومأذون فيه بضوابطه، لكن منطلقهم وهو الذي نركز عليه هو الحط من العمل المنزلي، واعتبار أنه إذا كانت المرأة في بيتها فإن نصف المجتمع معطل، والمجتمع كما يقولون أو كما يعبرون: يتنفس من رئة واحدة.
وأنا أريد أن نتحدث في هذا عن نوع من الخطاب الرقمي، أو الإحصائيات فيما يتعلق بعمل المرأة في منزلها، وهو ما يسمونه: بالإنتاج القومي، أو المردود الاقتصادي، لأن هذه معاييرهم، أما قضية الحشمة، وقضية الأدب، وقضية تربية الأولاد؛ فهذه ليست في حسابهم أبداً، صحيح أنهم يتكلمون نظرياً عن المرأة وتربية الأولاد، لكن الواقع إلحاحهم على إخراج المرأة، وعلى إلغاء أهمية العمل المنزلي هذه هي القاصمة وهذه هي الطامة، ولهذا فهم يصرون على إخراج عمل المرأة في بيتها من مفهوم العمل، ولهذا تجد في عباراتهم الشائعة: أن المرأة إذا لم تعمل خارج منزلها فإن المجتمع يكون نصف معطل، أو هو مجتمع يتنفس من رئة واحدة، وبنظرة علمية عاقلة بحسب مقاييسهم تدرك أن هذه الدعوة لا يسندها أي حجة، مثلاً: هذا اقتصادي معروف لكن بطبيعتي لا أحب ذكر الأسماء في مثل هذه الجموع والمرجع والصفحة مثبت عندي، يقول: إن إهمال تقدير خدمات وأعمال ربات المنازل عند حساب الناتج القومي يؤدي إلى كثير من المغالطات، وفي تقرير للأمم المتحدة صدر عام خمسة وثمانين ميلادية، يعني: أربعمائة وخمسة تقريباً حول القيم الاقتصادية لعمل المرأة في المنزل، يقول: لو أن نساء العالم تلقين أجوراً نظير القيام بالأعمال المنزلية.
طبعاً نساء العالم بما في ذلك أوروبا، وأوروبا المرأة العاملة فيها بالبيت قليلة جداً، وأغلب النساء التي تعمل في المنازل من نساء العالم الثالث، والعالم الثالث هو الذي يعاني الفقر، فإذا خرجت المرأة من بيتها كيف ستكون ميزانية الدول، لاحظ ماذا يقول التقرير، يقول: لو أن نساء العالم تلقين أجوراً نظير القيام بالأعمال المنزلية لبلغ ذلك نصف الدخل القومي لكل بلد.
بمعنى: أن المرأة في بيتها قد وفرت على الدولة نصف دخلها القومي، فما بالك بدول العالم الثالث الفقيرة أو التي مستواها قريب من الفقر؛ فإنها ستفقد نصف دخلها القومي، يعني: يزيد فقرها فقراً، ولا تكسل لأنها لا تأخذ من بيت المال أو من ميزانية الدولة إذا عملت، هذا بمقاييس مادية ومقاييس رقمية.
لو أعطيت نساء العالم أجوراً نظير القيام بالأعمال المنزلية لبلغ ذلك نصف الدخل القومي لكل بلد، ولو قامت الزوجات بالإضراب عن القيام بأعمال المنزل لعمت الفوضى العالم، سيسير الأطفال في الشوارع، ويرقد الرضع في أسرتهم جياعاً تحت وطأة البرد القارس، أو السَّموم اللاهب، وستتراكم جبال من الملابس القذرة دون غسيل، ولن يكون هناك طعام للأكل ولا ماء للشرب، ولو حدث هذا الإضراب فسيقدر العالم أجمع القيمة الهائلة لعمل المرأة في البيت.
ثم يقول التقرير: عمل المرأة في المنزل غير منظور لدى الكثيرين -طبعاً الأمم المتحدة تعتبر حيادية، وتتحدث عن قضايا إحصائية- وإن المرأة لا تتلقى أجراً نظير القيام بهذا العمل، إن هذا العمل حيوي وعلى جانب عظيم من الأهمية؛ غير أن هذه الساعات الطويلة من عناء المرأة في المنزل لا يدركه الكثيرون لأنه بدون أجر.
هذا كما قلنا قضية رقمية فما بالك بالتربية، ما بالك بالحنان، ما بالك بالاستقرار، ما بالك بالسكن في البيت، بالسكينة والطمأنينة، هذا كله لم يحسم، تصور زوج وزوجته لا يأتون إلا بعد العشاء، أو لا يأتون إلا بعد العصر.
إذاً: نقول: إن المرأة لو تقاضت أجراً لقاء أعمالها المنزلية لكان أجرها أكثر من أربعة عشر ألفاً وخمس مائة دولار في السنة، إن النساء الآن -وهذا عام خمسة وثمانين- في المجتمعات الصناعية يساهمن بأكثر من (25% إلى 40%) من منتجات الدخل القومي من أعمالهن المنزلية.
هذه المجتمعات الصناعية فما بالك بالمجتمعات التي لا تعمل فيها المرأة كثيراً في الخارج؟
وامرأة سويسرية تركت العمل ورجعت إلى البيت، تقول: لو حسبت أجر المربية والمعلمين الخصوصيين ونفقاتي الخاصة، لو أنني واصلت العمل لوجدتها أكثر مما أتقاضاه بكثير.
ولهذا هي فعلاً حسبت لنفسها أنها وفرت على نفسها شيئاً كثيراً، وكما قلت: هي نظرة مادية.
وما بالك بالقضايا غير المنظورة وهي أهم؛ كما في قضية التربية والسكن والحشمة، واستقرار النفس بين الزوج والزوجة وأشياء كثيرة.
مع الأسف أؤكد مرة أخرى على توجهنا الحق من العمل في المنزل، يقول أحدهم: إن مهمة المرأة التي يتم تقييمها على أساسها تنحصر في الحمل والطبخ وتنظيف المنزل والعناية بالزوج.
ومع الأسف أن هذه المقولة لأحد أبناء المسلمين، ولو أني قلت له: قال الله وقال رسوله يمكن ألا يستجيب ويقول: هذه أساطير الأولين، لكن لو قلت له: قال فلان وفلان، ولهذا سأقول له: قال برناردشو؛ لأنه غربي، وأظنه سيسمع كلامه، فأنا أقول: هذا المسكين لو سمع مقالة بعض الغربيين في أهمية الحمل لتغيرت رؤيته، ولو سمع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعنايته بالحمل والحامل والجنين لما تغيرت؛ وهذا من التغريب الذي مسخ الأفكار، ومسخ العقول.
برناردشو يقول -ولقد سميته مع أني لا أحب -كما قلت- ذكر الأسماء ولكني مضطر لخطاب مثل هؤلاء- يقول: إن العمل الذي تنهض به النساء، العمل الذي لا يمكن الاستغناء عنه هو حمل الأجنة وولادتها؛ لكنهن لا يؤجرن بأموال نقدية، وهذا ما جعل الكثير من الحمقى ينسون أنه عمل على الإطلاق، بل العكس ينظرون أنها حضانة كبهائم وكمجرد تفريخ ونحو ذلك.
ولهذا ديننا حاول أن يصور قضية الحمل بشكل: {وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:14] ليبين حقها {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} [الأحقاف:15] كل هذا بيان لأهمية هذا الأمر، والموضوع كبير في هذا.
إذاً: هذه القضايا في موضوع تعليم المرأة وشعار تحريرها والعمل كذلك خارج وداخل المنزل هي التي تدور في الساحة، وهي التي يلوكها من يلوكها على هذا النحو من الطرح مع الأسف؛ نوع من السخرية، ونوع من الاستهجان، ولكن أؤكد أنها نظرة غير عاقلة، وإنما هي إما نوع غفلة وجهل، وإما سوء نية وطوية؛ لأنها لا تخدم اقتصاداً، ولا ديناً، ولا خلقاً، ولا تماسك مجتمع، ولا نهضة حقيقية.(8/12)
كلمة لمفتي تركيا حول تحرير المرأة
لعلي أنتقل إلى الفقرة الأخيرة وهي مقالة أو كلمة أعجبتني كثيراً لـ مصطفى صبري؛ آخر مفتي في تركيا، وقد عاصر هذه القضايا، وعاصر انسلاخ تركيا وعلمنتها، ولاقى ما لاقى أيضاً حتى في مثل هذا الباب، وأعرض قضية المرأة، وله في هذا كلام، لكن تكلم في هذا كلاماً جيداً، ومقارنة بين هؤلاء الذين يريدون فعلاً أو يزعمون أنهم ينصرون المرأة، وحاول أن يقارن بين المرأة في الشرق والمرأة في الغرب بكلام لا شك إنه يحتاج إلى وقفة وتأمل.
يقول: من المقطوع به أن مسألة المرأة كانت هي الفارق المتميز بين الشرق والغرب، أو بين الإسلام والغرب، يقول: فما كان يخطر بالبال -هو يعيش معاناة بلا شك، وتوفي عام (1372هـ) - قال: فما كان يخطر بالبال أن يجد الغرب في امرأته السافرة من يقلدها في الشرق المسلم المعروف والمشهور بتدينه وغيرته على نسائه مهما قلد في غيرها، قد تقلد في كذا، لكن تقلدها في أن تنخلع امرأتك من حجابها وحشمتها وعفافها هذا ما كان يخطر بالبال.
لأنه كان في تركيا وكان يرى مثل هذا، قال: لكن مع الأسف أن غيرته على نسائه زالت مع غيرته على إسلامه.
وهذه والله قاعدة يعني: إذا قلت الغيرة على النساء فهي قلة غيرة على الدين، وهذا أمر جلي، ومن نظر إلى تعامل الغرب مع المرأة، وهذه التي أريد أن نتوقف عندها، ومن نظر إلى تعامل الغرب مع المرأة يحسب أنهم يجلون المرأة، ويقدرونها ويقصدون إلى رفعة مكانتها، ومن هذا الظن الخاطئ اعتبروا المرأة الشرقية مغموطة الحق، منكودة الحظ، محقورة مظلومة، ولكن الحقيقة كل الحقيقة: أن الغرب ومقلديهم من المسلمين إنما يعبدون هوى أنفسهم، ولهذا لا شك أن الذي يطالب بحقوق المرأة رجال، ثم المرأة تأتي في الصف الثاني وهذا تأملوه تجدوه حقيقة، ولكن الحقيقة كل الحقيقة أن الغرب ومقلديهم المسلمين إنما يعبدون هوى أنفسهم، فما مظاهر إجلال الرجل المعاصر للمرأة وتقديمه إياها على نفسه -يقدمونها بالدخول والخروج- إلا نوعاً من المخادعة وجعلها أداة للهو واللعب، وما إخراجها من بيت الكرامة والعفة إلا لتسام الخسف في سوق الابتذال، حتى إن اشتراكها في أعمال الرجل الذي قد عدوه انتصاراً لها وفوزاً بحقوقها وتحقيقاً لمساواتها المدعاة بالرجل ما هو إلا احتمالها لأعباء الحياة القاسية التي لم يقم بها رجال الشرق بعد حتى حق القيام على النساء، وهذا صحيح، فلو وقفنا وقفة هؤلاء النهضويون ماذا قدموا للأمة! هل أصبحنا دولاً صناعية؟ فقط: مجرد لباس، ومجرد خلاعة، ومسارح، وفنون، هذا الذي أخذ به كثير من دول العالم الثالث وأغلبها الدول الإسلامية، لا نهضة في أنفسنا، ولا نهضة في الاقتصاد، ولا نهضة في استقرار حقيقي، ولهذا يقول هو: وما فعله الإنسان إلا احتمال لأعباء الحياة القاسية التي لم يقم بها رجال الشرق بعد حق القيام فضلاً عن نسائه، مع أن تحملها أي: المرأة، لتلك الأعباء هو مزاحمة للرجل لا مساعدة له فيها.(8/13)
حقيقة دعوة حرية المرأة
وحينئذٍ فإن لم تقهر المرأة في هذه المزاحمة وتغلب -طبعاً لو صار في صراع حقيقي بين الرجل والمرأة ما كانت المرأة أن تغلب الرجل- ولهذا يقول: وحينئذٍ فإن لم تقهر المرأة في هذه المزاحمة وتغلب فإن عدم غلبتها وقهرها ما هو إلا تنازل من الرجل مقابل استغلاله لأنوثتها وابتذاله لها، وقد كانت المرأة في الشرق هي خير عون للرجل أعمالها كانت بحشمة؛ في الزراعة، كانت تعمل في بيتها تخدم وتقدم أعمالاً بيتية لكن كانت المرأة خير عون للرجل في عمله، ولها عملها وله عمله في سائر البيت وسائر الحياة في انضباط وحشمة وعفة فهي الزوجة والأخت والأم، وهذا هو الأمر السائد غير أننا لا ننكر أن هناك نساء مظلومات كما قلنا قبل قليل، ووجد -ولا شك- نوع اضطهاد، وهو يقول: هذا الاضطهاد الذي يتحدثون عنه ويدندنون حوله لا يخلو من إحدى صورتين:
اضطهاد على الطريقة الشرقية، أي: أنها محصورة في العمل في بيتها فهي زميلته في الحياة ومساعدته في بيته، الاضطهاد الذي يرونه اضطهاداً هو بقاؤها في بيتها، وسماه الشيخ هنا اضطهاد على الطريقة الشرقية.
قال: أو اضطهاد على الطريقة الغربية، فهي زميلته في الحياة ومزاحمته في أعمال الحياة وظروف المعيشة.
والنتيجة، يقول: إن في كلا الصورتين ليس لها موقف حر ممتاز خالٍ من الاضطهاد، لكنها في الطريقة الغربية تتميز بكونها أداة للهو واللعب والاستمتاع من قبل الرجال.
فالذين يدعون ويعملون لحرية المرأة في الشرق يريدون تحقيق جانب اللهو واللعب والاستمتاع، وهي الصورة التي يزعمون أنها بها أخذت حريتها، وسلمت من الاضطهاد، كما أن دعاة السفور يزعمون أنهم يعطون المرأة مكانة حين يكون الرجال الأجانب مزاحمين لزوجها عليها، وفي نظر العاقل المنصف فإن ضعف المرأة في القوة الجسمانية الذي لا يختلف عليه أحد من موافق ومعارض، إضافة إلى طمع الرجل بها مع عدم استغنائها عنه، كل ذلك يمنع استقلالها في الحياة، ويحتم عليها ألا تعيش فرداً منعزلاً، فكيف يكون ذلك مع حفظها وتكون مبتذلة للرجال.
هذه حقيقة يجب أن نقررها، وهي موجودة، وبمعنى أنه فعلاً هي مضطهدة يعني على الطريقة الشرقية وهي التي ننكرها أيضاً ولا نرضاها، أو الطريقة الغربية وهي فعلاً شئنا أم أبينا هي أداة استمتاع، ولهذا تضع أصباغها وزينتها في المدرسة وفي المعمل وفي الإدارة وفي كل مكان بروائحها العطرية الفواحة.(8/14)
وقفة بين نظرة الإسلام ونظرة الكفر إلى المرأة
ولعلي أختم بهذه الكلمات: وهي وقفة بين نظرتنا ونظرتهم.
هل الحرية والحقوق أن تكون المرأة غانية في سوق الملذات والشهوات، يستمتع بها الرجل من طلوع الشمس إلى غروبها، ومن غروبها إلى طلوعها في دور الأزياء، وقاعات السينماء، وشاشات التلفاز، وصالات المسارح، وأغلفة المجلات، وشواطئ البحار والأنهار، وبيوت اللهو والدعارة، والصخب في السيارة، بل ومع الأسف حتى في ردهات المستشفيات والملاحات الجوية، ومن المشين المخجل أن يقال: إن ذلك قد يقع حتى في دور التعليم ومحاضن التربية، هل هذا هو سبيل نيل الحقوق؟ أو هذه هي صورة نيل الحقوق؟ ولكن في الحقيقة إنها البيوت الخربة، والمسئولية الضائعة حين ألقاها الرجل عن كاهله فوقعت تلك النساء حيث وقعن؛ إهمال وتنصل من مسئولية الإنجاب والتربية البيتية، فأصبح الذكر والأنثى لنفسه لا لأهله، للذته لا لكرامته، فمن أجل هذا فأنت ترى أنه كلما سادت هذه المفاهيم رأيت الفساد يستشري، والخراب إلى الديار يسري، إنهم يريدون امرأة نداً للرجل ومماثلاً له ومناوئاً، والمرأة في نظرتنا شقيقة الرجل وشقه ومتممته، الرجل محتفظ برجولته والمرأة متميزة بأنوثتها، إنها في نظرتهم كما أسلفت آلت إلى سلعة في سوق النخاسين وعروض الأزياء، غانية في سوق اللذة والشهوات.
إن نظرتنا أنه لا يجوز أن يكون تأمين العيش، ولا مكافحة الفقر، ولا محاربة الجهل على حساب العرض والشرف، فما ضياع الشرف إلا ضياع العالم كله إن كانوا يعقلون، ولئن وجد الشاب والشابة في نزواته وصبواته وفترة الطيش من عمره لذة عاجلة أو شهوة عابرة فإن عاقبة ذلك الدمار والتشتت الأسري وانهيار المجتمع كله، وما كانت فتيات المجلات ونجوم المسلسلات إلا نتاج هذا النظام الخاسر.
إذاً: هذه إشارات إلى مواقع المرأة والرجل في ديننا، خلقهم الله سبحانه وتعالى من نفس واحدة، العلاقة بينهما علاقة مودة ورحمة وسكن وطمأنينة، لا علاقة صراع ومنافسات غير شريفة، وهذه بعض لمحات وبعض إشارات، والموضوع واسع، والقضية كبيرة، ولكن لعل من مجموع ما سمعتموه مما سبق وما سوف تسمعون إن شاء الله تتكامل النظرة والصورة.
وأقول هذا القول وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(8/15)
الأسئلة
.(8/16)
التغريب وكيفية معرفته
السؤال
نريد تعريفاً للتغريب؟ وما هي أهم الكتب التي تفيدنا في هذا الباب وتعرف لرواده والأسباب التي من أجلها ذكرتم أن في غالبهم من الناس المشبوهين؟
الجواب
لا شك أن التغريب مأخوذ من الغرب؛ لأن أصل هذا التوجه جاءت رياحه من هناك، فمن هنا اكتسب هذه النسبة.
ويبدو لي أن الأمر أوسع من هذا، وإنما أخذ مصطلح (تغريب) لأنه من أصله، وإلا المقصود به كل ما اشتملت عليه في بعض العناصر التي ذكرتها قبل قليل فيما يتعلق بالنظرة أولاً في أحكام الإسلام المتعلقة بالمرأة إما التنكر لها، أو الزعم بأنها عادات وتقاليد، ومن هنا فهي تقبل النظر.
والأحكام تشمل: الحجاب، وتشمل ضوابط التعليم، وتشمل ضوابط العمل، وتشمل ما يتعلق بمفهوم تحرير المرأة، فكل هذه القضايا والأطروحات يشملها كما يشمل الكلام عن المساواة، وحقوق المرأة، ونحو ذلك، هذه كلها من ميادين الحديث عن التغريب، وإلا قد يكون أوسع من ذلك، وبطبيعة الممارسة تتفتق أشياء كثيرة.
أما فيما يتعلق بالكتب فالكتب كثيرة جداً، وأنا ألاحظ أن المكتبات يكاد يكون يومياً فيها دفع جديد وكتابات متوالية جداً، ويحضرني كتاب عودة الحجاب لـ محمد إسماعيل كتاب جيد جداً في أجزاء ثلاثة، ويتكلم عن هذه الأشياء وكثير من الكتابات رأيتها لا أكاد أخص كتاباً في الموضوع.(8/17)
أثر الفضائيات في التغريب
السؤال
أسئلة يذكر أصحابها: أن من أهم الوسائل والمعاول التي استخدمها التغريبيون ضد المرأة المسلمة القنوات الفضائية في هذا الزمان فهل من كلمة لفضيلتكم حول أثر هذه القنوات في تغريب المرأة؟
الجواب
لا شك أن وسائل التغريب كان ينبغي أن تخص بالحديث، حتى التعليم يصلح أن يكون مقصداً ويصلح أن يكون وسيلة، والإعلام وسيلة كبيرة للتغريب بأنواعه المسموع والمقروء والمنظور، ولا شك أن المنظور له أثر كبير جداً، القنوات الفضائية؛ وأيضاً يضاف إليها الإنترنت الشبكة العالمية، وهذا تأثيره كبير، فبث الأفكار لا ينبغي أن نكون نحن دائماً في موقف المدافع ولا شك أن هذا قد يكون من المقاصد، لكن أولاً لا شك أن التحذير والتنبيه إلى خطر هذه القنوات أمر لا أظنه يحتاج إلى مزيد تحديد؛ لأن أثرها ظاهر فيما يتعلق بالتربية وفي جميع ما تطرحه حتى في القضايا السياسية والاجتماعية، والقضايا الثقافية والفكرية، من أراد أن يطرح طرحاً إيجابياً فلا بأس، ولكن هذا قليل ومن أراد أن يشوش ويبث الفتن أيضاً فبابه واسع جداً، ولا شك أن مما يطرحون قضايا المرأة في ندوات وفي أشياء كثيرة جداً، ولا شك أن خطرها عظيم.
وأنصح بالابتعاد عنها قدر الإمكان، لكن مع الأسف أنها اطروحات مفروضة، وأنه لا يمكن لصاحب الحق أن يجاري أهل الباطل، مثلاً: من يسبك لا تسبه، وأنت فعلاً لا تملك أن تمنع مثل هذه القنوات، لكن لا يمكن أن تجاريهم، ولهذا ينبغي أن تنشأ قنوات نظيفة، وتنصر الحق، وترد على أهل الباطل؛ فإن هذه مفيدة جداً، واعلم أن هذا مكلفٌ جداً، ويحتاج إلى أشياء كثيرة، ولكن الأمر خطير وواسع، والسلامة أن يعافيك الله عز وجل من ذلك، وضررها أكثر من نفعها، ولهذا أنصح الذي يحب الخير لنفسه ويغار على دينه ويغار على حرماته ألا يجلب التلفاز إلى بيته.(8/18)
ظاهرة التغريب في السعودية
السؤال
هذه رسالة في داخلها ثلاثة أسئلة، تقول: بالرغم من التحذيرات الموجهة إلى المرأة من أن تقع فيما وقعت فيه أختها المسلمة في أكثر من بلد، إلا أننا نجد بل ونرى في نسائنا لا أقول: بوادر، ولكن خطوات جادة إلى ما لا يحمد عقباه من سفور وتبرج واختلاط، ومظاهر التغريب الآخر، والسؤال هو: أين الخلل هل هو قصور في الدعوات الإصلاحية؟ أم أن بناتنا يحتجن إلى جرعة أكبر من جرعة التغريب؟ وما هو السبيل لاستدراك ما يمكن استدراكه قبل أن تسوق المرأة المجتمع معها إلى الهاوية؟
الجواب
لا شك أن هذا السؤال جوهري وجيد، والجواب عليه أن يخاطب من يسمع، فالمرأة والرجل سواء كان أباها أو أخاها أو له مسئولية عليها، والمرأة كذلك أيضاً سواء كانت أماً أو زوجة أو بنتاً كبيرة مثلاً على أخواتها أو أختاً، الجواب يوجه إليهن، ولهذا في مثل هذا المقام لا يمكن أن تضع مسئولية على قنوات فضائية مثلاً، أو تضع مسئولية على مناهج أو نحو ذلك، لا شك أن كل هؤلاء مسئولون، لكن الجد والتأمل أو النظر في العلاج الحقيقي هو أنك تنظر أنت ماذا تفعل، ولا شك أن هناك خللاً، ولكن أنت ماذا فعلت في بيتك؟ وأنتِ ماذا فعلت في بيتك؟ وما هو القدر من المسئولية التي تحملته أو تحملتيه، صحيح أن غيرك عليه مسئولية، والإعلام عليهم مسئولية، والتربويون عليهم مسئولية، وأصحاب القرار عليهم مسئولية، وهؤلاء يخاطبون في مواقعهم، لكن هذا خطاب للحاضر، فقبل أن نطالب الآخرين بمسئولياتهم نقول: أنت ماذا فعلت؟ وأنتِ ماذا فعلتِ؟
حتى السؤال الذي كان قبل ما كان من القنوات الفضائية، القنوات الفضائية لا شك أن أصحابها سوف يجدون في أن يبثوا ما يريدون، لكن أنا لي موقف وأنت لك موقف، تأكد لو أن لي موقفاً صارماً ولك موقف صارم لانتهت القضية، لكن ما دام أني أسمع وأتلقى إذاً هم سوف يبثون، لكن إذا توقفت أنا فسوف يتوقفون، وهذه قضية لا نتأملها، فإذا كنت فعلاً أحس أنها مشكلة على أولادي ومشكلة على نفسي إذاً فالمسئولية عليَّ أنا ماذا قمت، بدلاً من أن ألقي اللوم على الآخرين، وإن كان عليهم اللوم ولا شك، لكن ماذا فعلت، أما أن تكون القضية عملية إسقاط وتنصل من المسئولية ليقول: إن المسئول فلان، وإن المسئول الإعلام، فأنا ماذا فعلت؟ ماذا فعلت مع نفسي؟ ماذا فعلت مع أولادي؟ ماذا فعلت مع زوجتي وابني وابنتي؟
إذاً: الخطوة الصحيحة الجادة الأولى: مثل هذه الأسئلة حينما توجه لشيء موجود في المجتمع نرجع إلى أنفسنا فأنا لبنة في المجتمع، وأنا عندي نوع من القرار في بيتي ومسئوليتي، اتخذ قراراً في بيتي وفي مسئوليتي، أحمي به نفسي، ولو أن كل واحد منا اتخذ مثل هذا فقطعاً سوف تغلق كل نوافذ الشر؛ لأنها مفتوحة علي، فإذا أقفلت النافذة انتهت القضية، وأنا لا أقول: هذا سهل؛ لكن هو مسئولية، ومن السهولة أن نلقي المسئوليات على الآخرين، ومن السهولة أن أعمل عملية إسقاط وأجعل المسئولية على الآخرين وأحمله، لكن أيضاً أنا علي مسئولية على نفسي، وعلى أولادي، وعلى أهل بيتي.(8/19)
لقاء مفتوح مع الشباب
بين يدي هذا اللقاء تحدث الشيخ عن توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم للشباب (في حديث ابن عباس) ونبه إلى نعمتي الصحة والفراغ.
وفي ثنايا اللقاء يورد الشيخ بعض القضايا التي تهم الشباب والمشتغلين بالرياضة ومما تحدث عنه: كيفية التعامل مع العصاة، وكيفية النصح والتوجيه عموماً.(9/1)
واقع الشباب واللقاء معهم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونؤمن به ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا إنك أنت السميع العليم، اللهم إنا نسألك العلم النافع والعمل الصالح والإخلاص في القول والعمل، ونعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها، اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18].
أما بعد:
أيها الإخوة في الله: أحييكم بتحية الإسلام؛ فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أشكر الله عز وجل على ما منَّ به من هذا اللقاء الطيب المبارك في هذه البلدة الطيبة المباركة، حيث أزورها لأول مرة، وكم كنت متشوقاً لزيارتها واللقاء بأهلها، وبخاصة أهل العلم والفضل والناشئة والشبيبة الطيبة المباركة، وأعترف بأن التقصير هو مني، وإلا فإن الإخوة هنا كانوا يحسنون الظن، وثقتهم بمحدثكم كبيرة جداً، فكانوا يصرون على الزيارة، وكنت أتمنع ليس لأني لا أرغب، ولكن لأني أخشى ألا أبلغ الثقة التي يولوني إياها حفظهم الله، منهم فضيلة الشيخ: عبد الرحمن بن غيث، والشيخ وجيد وغيرهم كانوا يلحون كثيراً، ولا أكتمكم أن هذا كان من سنوات وليس من أشهر، وكنت عازماً على الوفاء، ولكن تأتي عوارض وشواغل وارتباطات لا أستطيع أن أنفك عنها، وكان آخرها هو ما كان موعداً محدداً قبل الحج أو قبيل فترة الحج، ولكن موسم الحج بضغطه وكثرة الحجاج كما هو معلوم، وحاجة المسجد الحرام ومكة كلها باعتبار كثرة الزوار والحجاج، ومعلوم أيضاً أن كثيراً من الجهات الرسمية تساهم في هذا، وبخاصة في جوانب التوعية للحجاج، فمن هنا كان من الصعوبة تحقيق المطلب، فتأجل إلى أن أذن الله سبحانه وتعالى بأن كتب هذا اللقاء في هذه الليلة المباركة.
كما قلت لكم أيها الإخوة، إني أحب اللقاء بالإخوة وبخاصة بالشباب وبطلبة العلم، وقد قدر الله عز وجل لي لقاءات كثيرة في أماكن ومواطن متعددة وفي مناسبات كثيرة في داخل البلاد وخارجها، وأوضاع المسلمين تبشر بخير، وبخاصة الشباب المسلم، على الرغم مما نرى من قصور، ومما نرى من أخطاء نحب ألا نراها، ومخالفات نحب أن نرى زوالها، وهو كائن إن شاء الله بإذنه سبحانه بعد أن تتضافر الجهود، ويصدق العزم، ويتحقق الإخلاص بإذن الله عز وجل.
أحببت أن يكون هذا اللقاء مفتوحاً، وألا يكون ذا موضوع محدد، وبخاصة أن يكون في هذا المكان أو في مثل هذا المكان، ومن جملة اللوحات التي ترونها أمامكم أنها ترحب بأن هؤلاء الجالسين ومنهم محدثكم ليسوا ضيوفاً، وإنما هم أصحاب محل وأهل بيت، وهذا حق، ومن هنا أرجو أن يبتعد لقاؤنا عن الرسميات كثيراً، وأن يكون الحديث واضحاً وصريحاً وجلياً في حدود ما نعيش من مشكلات وما نرجوه من آمال، ونرسمه لأنفسنا من أهداف على ضوء كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
الحديث إلى الشباب واللقاء مع الشباب حديث ممتع وشيق ومهم وضروري، وبطبيعتي أو في نظرتي العامة أنني قد يغلب عليَّ تفاؤل كثير، وأحرص على أن أنظر إلى جوانب الخير الموجودة وأن أتلمسها وأن أجعل غيري يلمسها كذلك، على رغم ما نرى من نقص ومن أشياء لا بد من إصلاحها، ولكن حينما نكون صادقين بأن نقول للمحسن: أحسنت بجانب أن نقول للمسيء: أسأت، فإن هذا يكون فيه تعادل وتوازن، ويكون فيه نظرة أقرب إلى الوسط وإلى المنهج العدل.
واقع الشباب -حينما نقارنه بسنوات ماضية قبل عشر سنوات أو أكثر- يبشر بخير كثير، فعمار المساجد من الشباب كثيرون: مصلون وأئمة وحفظة ورجال دعوة وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومهتمون بالكتاب الإسلامي وبالشريط الإسلامي وبالتوجيه الأسري وبالتوجيه الاجتماعي، وهذه أمور حق يجب أن نعترف بها، وحتى في أوساط المنتسبين إلى مثل هذا النادي الرياضي، على الرغم من أنني لست مهتماً بشئون الرياضة كاهتمام أصحابها وأهلها، فأنا لا أعرف كثيراً من المنتسبين إليها والممارسين لها حقيقة، ولكن يحدثني بعض المحدثين ممن يرون كثيراً من المنتسبين للأندية الرياضية والممارسين للألعاب الرياضية أن مظاهر السنة عليهم ظاهرة من إعفاء اللحى، ومن إقامة الشعائر، والحرص على الصلاة، ومظاهر الإيمان التي تعمر القلب من حيث التوجه إلى الله عز وجل، ورفع أكف الضراعة إليه سبحانه في كثير من المناسبات، وهذا أمر يجب أن نشكر الله عز وجل عليه، وأن نلمسه في شبابنا، وأن يكون مدخل حق نعرفه ونقره ونشجع عليه.
ثم إن الأوضاع في هذه البلاد كلها تدعو إلى هذا، ولله الحمد، فالمسئولون يؤيدون هذا، ويرغبون فيه، ويدعون إليه، ولله الحمد، خلافاً لما يلمس في كثير من البلاد، ففي كثير من البلاد وبخاصة المنتسبين إلى الرياضة والأندية الرياضية غالباً تكون سيماهم البعد عن المظاهر الإسلامية، بل لعلهم يجدون تناقضاً أن يكون المنتسب إلى الرياضة مستمسكاً بالسنة ثم يمارس الرياضة، بينما عندنا ليس نشازاً بل هو الأصل والمطلوب، وهو المنظر الذي يسر كل مسلم، مهما كان توجهه وميوله، حينما يرى أي فرد وأي مسلم، سواء كان منتسباً للرياضة أو لناد أو غيره، ويراه مستقيماً على أمر الله قد ظهرت عليه مظاهر السنة.
إذاً، هذا أمر يجب أن نلمسه وأن نتأكد منه.
اللقاء بالشباب لقاء ممتع، كذلك أيضاً من حيث أن الإنسان إلى حد ما، فهو تتقدم به السن، فيرى شباباً صالحاً، فيتذكر أقرانه حينما كانوا في سن ملائمة، من هؤلاء الشباب أصحاب العشرين والخامسة عشرة والسابعة عشرة والثلاثين، يرى أن سيما الصلاح فيهم أكثر ظهوراً، ولله الحمد، وكما قلت: يرى نشاطهم وتوجههم الإسلامي وحرصهم على الدعوة إلى الله عز وجل، ويسر بهذا.(9/2)
توجيه نبوي للشباب
لا أحب أن يكون لي حديث خاص في هذه المناسبة، أي: أن أتكلم تحت عنوان معين، فإن هذا لم أرغبه لأن يكون في مثل هذا اللقاء، أحب كما قلت أن يكون هذا اللقاء مفتوحاً، لكن لا مانع أن نشير إلى بعض موضوعات أرجو أن تكون مفتاحاً لما ترغبون أن تسألوا عنه أو تودون التنبيه إلى شيء منه.
مثلاً: في حديث ابن عباس رضي الله عنهما حينما كان خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يمشي خلف النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن ابن عباس كان صغيراً، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يناهز الاحتلام أو قريباً من الاحتلام، أي أنه كان صغيراً، يقول ابن عباس: {كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا غلام أو يا غليم}.
إذاً: هذه التوجيهات التي في هذا الحديث مخصوص بها الشباب، ومخصوص بها من كان في مثل سن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في ذلك الوقت أو مقارباً له، فكان يقول عليه الصلاة والسلام: {يا غلام -أو يا غليم- احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف}، وفي رواية غير الترمذي: {واعلم أن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً}.
حينما نتأمل هذه التوجيهات النبوية التي يوجهها النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمه ومن في مثل سنه، نرى أنها متناسبة مع الشباب ومع طموحات الشباب.
الشباب حيوية وطموح، والشباب دائماً يتطلع ويتطلع كثيراً، لكن حينما تتقدم به السن يكون أكثر واقعية، فاقتضت سنة الله عز وجل أن الإنسان في نموه وفي مراحل نموه الأولى دائماً يكون طموحاً ومتطلعاً وذا همم عالية؛ ولهذا الشباب مقدامون، والشباب عندهم جرأة ليست عند غيرهم، وسوف أختار من التعابير الأوضح ولو لم تكن دقيقة، لكن حتى يفهم ما المقصود، قد نقول: (تهور) على معنى أنه ليست عنده خبرة الشيوخ وخبرة من تقدم في السن، وهذا تقتضيه سنة الله عز وجل مما في الشباب من حيوية.(9/3)
حفظ الله
إذاً: لو تأملنا هذا التوجيهات النبوية للشباب نجد أنها ترشد هذه الطموحات وهذه التوجهات: {احفظ الله يحفظك} احفظه في قوتك؛ فإنها بمنتهاها، احفظه في سمعك، احفظه في بصرك، احفظه في سائر قواك، احفظه في توجهاتك، احفظه في أهدافك يحفظك، ولهذا أغلب الانحراف لا يكون في الشيوخ، بل يكون في الشباب، والاستقامة حينما تكون في الشباب تكون أثبت وأقوى وأصدق، ولهذا كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: شاب نشأ في طاعة الله، ولهذا حين يمتدح من يمتدح من الناس يقال: لم تكن له في شبابه صبوة، أي: لم يكن له ميل.
بينما إذا تقدم الإنسان في السن يستكثر منه ما قد لا يكون غريباً في الشباب، ولهذا كان من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان.
إذاً من أهم ما يجب أن يتنبه له الشباب: احفظ الله يحفظك.
ولهذا مما أثر عن السلف في هذا الباب: أن شيخاً جاوز الستين من عمره، ورئي وهو يبدي قوة ونشاطاً، ويكاد يتحرك كحركة الشباب في وثبه وفي قفزه، فقيل له: كيف تفعل ذلك وأنت في هذا السن؟ قال: هذه قوى حفظناها في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر.
إذاً: الشاب مطالب أن يحفظ الله عز وجل ليحفظه، يحفظ الله في أوامره فيأتمر بها، ويحفظه في نواهيه فينتهي عنها، يحفظه في قواه، في سمعه، في بصره.
{احفظ الله تجده تجاهك} أي: تجده أمامك يحفظك ويكلؤك.
ولهذا في حديث آخر: {ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها}.
إذاً تجده أمامك يحفظك ويرعاك.(9/4)
سؤال الله والاستعانة به
ثم قال: {وإذا سألت فاسأل الله} أحياناً طموحات الشباب تجعل الشاب يتعلق بالآخرين، ويجعل الغاية مبرراً للوسيلة، وأحياناً قد يشذ من أجل أن يحقق رغباته، فحينما تأتيه مغريات مادية يتعلق بها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {وإذا سألت فاسأل الله} حتى يكون تعلق الشاب بربه، وهذا لا يعني أنه يلغي الأسباب، والأسباب معلوم حكمها في الشريعة، أنه يأخذ بالأسباب، أسباب الكسب، أسباب طلب العلم، أسباب الإصلاح، أسباب التوجيه، ولكن يعلم أن كل ذلك مآله ونتيجته عند الله عز وجل وبإذنه: {وإذا سألت فاسأل الله}.
{وإذا استعنت فاستعن بالله} فلا تكن طموحات الشباب وقوته وتوجهه سبيلاً لأن يجعل الغاية تبرر الوسيلة، وإنما عليه أن يستعين بالله عز وجل وأن يكون صادقاً في توحيده وفي إيمانه وفي عقيدته، فإنه {إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله} تأكيداً للتوحيد وصلاح العقيدة، والاعتماد على الله وحده في جميع أمور الدنيا والآخرة.(9/5)
النفع والضر بيد الله
ثم قال: {واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك}.
إذاً! خذ بالأسباب ولا تكترث بما وراء ذلك، النتائج بيد الله عز وجل، وما دام أنك سائر على المنهج، فلا يضرك من خالف، ولا يضرك من يريد إعاقتك؛ فإنهم لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، إنما السير والأخذ بالأسباب مطلوب، ولا بد منه، فالله عز وجل وضع سنناً في هذه الدنيا، ودلنا عليها، وأمرنا بالأخذ بها، فإذا ما اجتهدنا وأخذنا بالأسباب، فحينئذٍ لا يضرنا من خالف ولا ينفعنا من وافق، ما دام أننا على النهج الصحيح.
هذه بعض التوجيهات النبوية للشبيبة والناشئة.(9/6)
نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس
توجيهات عامة أخرى تشمل الشباب وغيرهم، ولكن الشباب يجب أن يكونوا بها أكثر اهتماماً وأكثر عناية، منها قوله صلى الله عليه وسلم: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ}.
أما الصحة فشأنها عجيب!
ومن حكمة الله عز وجل أنه لا يكاد يعرف أهمية الصحة ولا سرها إلا حينما يفقدها الإنسان، ثم يندم ولات ساعة الندم، وأظهر مظاهر الصحة تكون في الشباب، قوةً وحيويةً وحياةً ومنتهى القوة، ولهذا أحب من المدرسين والآباء والمربين أن يلمسوا الشباب هذه المسألة، لا يكاد الشاب يدركها ما دام في قوته وطاقته، لكن حينما تتقدم السن، وتبدأ آلام الظهر والركب، ويبدأ السكر والضغط، وتبدأ المشاكل والأولاد؛ حينئذٍ يدرك أن الصحة في الشباب، فالصحة هي أكثر تمثلاً في الشباب.
وكذلك الفراغ، كنا فكل من تتقدم به السن حينما كان في أيام الشباب كان يقول: حينما أبلغ المرحلة الفلانية سوف أعمل وأعمل، فتجد الصغير يقول: حينما أتزوج، والمتزوج يقول: حينما يكون كذا وكذا، حتى المتقاعد هو يتقاعد يقول: سوف أعمل كذا وكذا بينما معلوم أن لك الساعة التي أنت فيها، وليس أثمن بعد توفيق الله عز وجل والتوفيق للإيمان الصالح من أوقات الشباب، هي الفراغ وهي الطاقة المكتملة، والطاقة العقلية، والطاقة البصرية، والفكرية، والاستجماع الفكري.
على أن الإنسان مسئول عن هذا كله، فإنك مسئول عن عمرك فيم أفنيته، ومسئول عن الساعة والدقيقة والثانية، فمظهر الصحة أكثر ما يتمثل في الشباب، ولهذا أرجو من إخوتي الشباب أن يبتعدوا عن التسويف، وحتى أكون واقعياً أطلب: من أبنائي الشباب أن يكونوا واقعيين وألا يكونوا مسوفين؛ لأن هذه الفترة تنقضي، استغل وقتك، ثم لا يدري الإنسان هل يبلغ مبلغ الشيوخ أم لا يبلغ، والأعمار بيد الله عز وجل، فالذي أوصي به استغلال الصحة والحفاظ على الوقت.(9/7)
الفراغ عند الشباب
الشباب من أكثر الأصناف البشرية والطبقات البشرية فراغاً، ولهذا يقول عمر رضي الله عنه: [[تعلموا قبل أن تسودوا]].
فأنت حينما تبلغ مبلغ الرجال سوف تتزوج، وإذا تزوجت تأتي مشاغل الأهل ثم الأولاد، ثم التقدم في السن، ثم تأتي أمراض الشيخوخة، وتبدأ آلام الظهر كما ذكرنا، وهو أنواع وألوان وأصناف، وتجد أنك غرقت، وقد يكون لك عمل يكبر وترتبط المسئوليات وتتعدد، وتتعلق حوائج الناس بك، فتزداد أعمالك وهمومك، ولا تجد فرصة -كما يقولون- لتحك فيها رأسك!
فإذاً، لا تعولوا على المستقبل من أجل أن تنجزوا فيه، إنما استغلوا الوقت الذي أنتم فيه.(9/8)
أمور تستغل بها الأوقات
ومن خير ما يستغل به الوقت:
أولاً: عبادة الله عز وجل، والعبادة أنواعها كثيرة وأصنافها كثيرة، أهمها الواجبات الشرعية وأداء الفرائض، ولعلَّ من الأسرار التي تدل على أهمية الوقت أن الفرائض الشرعية مؤقتة بأوقات، لكل فرض وقته لا يتعداه، وإذا أخرجه المكلف عن وقته أصبح آثماً إذا كان من غير عذر.
إذاً هذا يدل على أن شريعتنا تحاسبنا على أوقاتنا، تهتم بالأوقات، وجعلت لكل وقت عبادته الخاصة.
إذاً: المحافظة على الفرائض من الصلوات الخمس في جماعة المسلمين، والفرائض الأخرى من بر الوالدين وصلة الأرحام والصيام والحج حسب الشروط الشرعية والزكاة، إن كنت من أهل الزكاة وهكذا.
ثم أيضاً البعد عن جميع المحرمات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عن شيء فانتهوا} فالمنهيات لا بد أن تترك بالكلية وليس فيها ما استطعتم، إنما يجب اجتنابها بالكلية.
ومن أثمن ما يصرف فيه الوقت: الاشتغال بطلب العلم النافع، وأنفع العلوم علوم الشريعة، ففيها عبادة، وفيها نفع ذاتي شخصي ونفع للناس، ثم العلوم الأخرى التي تحتاجها الأمة؛ فإن أهل العلم ذكروا أنها فرض كفاية؛ كالطب والهندسة والزراعة والتجارة وأمثالها مما تحتاجه الأمة، حيث معرفة فروع هذا العلم ومقاصد هذا العلم بما تقوم به حياة الأمة، وبما تستقل به الأمة حق استقلالها، وحينما يكون المنتسب إلى هذه العلوم مسلماً صادقاً صالحاً خالصاً مخلصاً، فحينئذٍ يكون للأمة استقلالها الحقيقي، أما حينما يكون تابعاً، أو بتعبير أحق وأحط: حينما يكون ذنباً يردد ويقول ما يقوله أعداء الإسلام، فحينئذٍ يكون ضرره أكبر من نفعه، وإنما المسلم الحق هو الذي يأخذ من هذه العلوم ما وافق الشريعة منها، ويكون صادقاً في التعلم وفي نفع المسلمين.
ومما يحفظ به الوقت كذلك وتحفظ به الصحة أيضاً والفراغ: الأعمال النافعة كالتجارة والزراعة وصنوف المكاسب والأعمال، وهي كثيرة في المجتمع، يقوم بها المسلم أولاً لينفع نفسه ثم ليقوت من تحته، وينفق على من تلزمه نفقته، ثم ينفع المسلمين، ومعلوم أن كل هذه الأمور إذا صدقت فيها النية، فهي عبادة وداخلة في مفهوم العبادة، حتى أن الصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: {يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟} فالعلم النافع والكسب الحلال والعمل المشروع هذا كله عبادة إذا صلحت فيه النية وصدق صاحبها، وسلك في طلبها الوسائل المشروعة.(9/9)
اللهو المباح
لا مانع كذلك من اللهو المباح والترفيه البريء، وإن كانت لفظة الترفيه قد لا تكون دقيقة ومقبولة في المصطلحات الشرعية؛ لأن الرفاهية والترفيه قد لا يكون محموداً، إنما اللعب المباح واللهو المباح على حد قوله صلى الله عليه وسلم: {كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا -واستثنى ثلاثة أمور منها- ملاعبة الزوجة، وركوب الفرس، وكذلك الرمي}.
وهناك وجوه من اللهو المباح، منها مثلاً: المسابقة، والمصارعة بين الرجال، والمسابقة سواء مع إخوانك وزملائك أو حتى مع أهلك؛ فقد سابق النبي صلى الله عليه وسلم عائشة مرتين، سبقته في الأولى وسبقها في الثانية، وصارع النبي صلى الله عليه وسلم ركانة وكان شديداً، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم، وسابق النبي صلى الله عليه وسلم بناقته العضباء فسُبقت، فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم ألا يختلفوا وقال: {إن حقاً على الله ألا يرفع شيئاً إلا وضعه}.
فكان يسابق بنفسه عليه الصلاة والسلام، ويسابق أيضاً بإبله.
وفي المناسبات كالأعياد ونحوها يرخص في اللهو المباح كما رخص النبي صلى الله عليه وسلم للحبشان، حيث كانوا يلعبون في العيد وأراد عمر أن ينهرهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {دعهم، لتعلم يهود أن في ديننا فسحة} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، بل أذن لـ عائشة أن تنظر إليهم من وراء خدرها.
فهذه أمور على حسب ما جاءت به الشريعة، وعلى حسب ما هو مبسوط في كتب الأحكام، فهذا كله من اللهو المباح، لكن في حدود ألا يطغى على المقاصد الأصلية، وألا يكون غاية، ولا مانع أيضاً من الألعاب المستحدثة، ما دامت لا تتعارض مع الشريعة، لكن تكون في حدود ما رسمته الشريعة من اللهو المباح، وهذا لا يكون غاية، ولا يجوز أن تتخذ غايات، ولهذا حينما أذن النبي صلى الله عليه وسلم بالرمي قال: {ارموا بني إسماعيل؛ فإن أباكم كان رامياً} وقال: {علموا أولادكم الرمي وركوب الخيل} لكنه قال في مقام آخر: {ألا إن القوة الرمي} إذاً، المقصود من الرمي هو الاستعداد للحاجة إليه حينما قرأ قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] قال: {ألا إن القوة الرمي} إذاً هو وسيلة لغاية إسلامية شريفة.
ومن الشيء الذي يتلهى به، وهو مباح: الصيد، والصيد فيه متعة ورياضة، وفيه كسب مشروع عليكم، فهو مباح في حدود ما أباحته الشريعة، سواءٌ كان بآلة كنبل أو رمح أو حتى ببندقية من الأشياء المستحدثة أو عن طريق الجوارح كالكلاب والصقور ونحوها، فهذا أيضاً مباح كما هو معلوم.
فهذه أمور يمكن أن تكون وسيلة لتغطية الفراغ في حدود ما رسمته الشريعة، واستغلالاً للقوى وللصحة، ويبدأ بالأهم فالمهم فما دون ذلك، كما قلنا في أداء العبادات الإسلامية: الفروض العينية ثم الفروض الكفائية ثم الأكثر نفعاً كطلب العلم ونحوه، ويغطي كل ذلك ويشمله الدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا باب واسع وباب فسيح، منه ما يكون فرض عين، ومنه ما يكون فرض كفاية، ومنه ما يكون دون ذلك، ففروض الأعيان حينما تغير منكراً في بيتك، وحينما تأمر بالمعروف في بيتك، فأنت المسئول الأول، ولا تنتظر أن يأتي غيرك ليأمرك وينهاهم أو يأمر أهلك وينهاك، والدعوة إلى الله عز وجل باب مفتوح، ووسائلها كثيرة منها: الدعوة باللسان، الدعوة بالقلم، الدعوة بالفعل وبالقدوة الحسنة، وهذا هو أهمها، وهناك وسائل كثيرة.
كل ذلك مما يشغل به الفراغ، ومما تستغل فيه قوة البدن وقوة الفكر والصحة العامة، ولا أحب أن أطيل، لأنني أحب أن يكون الحديث مفتوحاً، ولكن هذه أمور أحببت إثارتها من أجل أن نستجمع ما نريد أن نقول، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يبصرنا بأمور ديننا؛ هو ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على خير الخلق نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(9/10)
الأسئلة
.(9/11)
حكم كشف الفخذ أثناء المباريات
السؤال
يلاحظ أثناء المباريات أن اللاعبين لا يسترون عوراتهم كاملة، فيبدو جزء من الفخذ، فما توجيهكم في ذلك؟ جزاكم الله خيراً!
الجواب
لا شك أنه إذا ظهر مثل هذا فلا بد من التنبيه عليه، ثم أولاً كل إنسان مسئول عن نفسه بخاصة باعتبار أن غالب المسئول عنهم هم مكلفون من حيث التزامهم بأوامر الشريعة، وستر العورة معلوم أنه مطلوب، وإن كان هناك من قد يبدي الخلاف المعروف في ستر الفخذ، وهل يلزم ستره أم لا، وفي ذلك نصوص يستدل بها كل فريق، ومنها ظهور فخذ النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان جالساً ومعه أبو بكر وعمر، فلما دخل عثمان ستر فخذه، وسألته عائشة عن السبب فقال: {ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة؟}.
ومما يدل على النهي عن كشف العورة قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي: {يا علي! لا تكشف فخذك} أو كما جاء، فلا شك أن المطلوب من الإخوة هؤلاء الالتزام بهذا الأمر، والحرص على الاستمساك بهدي الشريعة، أما خلاف العلماء فهو في أغلب المسائل، ولكن يأخذ الإنسان جانب الورع في دينه، وبخاصة أنه ليس ثمة حاجة ضرورية في هذا الأمر، كما لو كان الكشف لطبيب أو نحو ذلك، فالأمر هو كما أوضحت.(9/12)
حكم فضح العاصي وستره
السؤال
علمت أن فلاناً من الشباب قد ارتكب جرماً عظيماً وإثماً كبيراً، فنصحته ووجهته، وقد يكون نال شيئاً من عذاب الدنيا كشيء من العقوبة أنزلها الله، فهل من الواجب علينا فضحه عند الناس؟
الجواب
لا شك أن الإنسان قد يقع في ذنب أو في موبقة من الموبقات ويستره الله عز وجل، والنبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحالة قال: {من أصاب شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنه من يُبْدِ لنا منكم صفحته نقم عليه الحد} فالأصل في مثل هذا أن يستر الإنسان على صاحبه حتى ولو رآه على منكر.
لا شك أنك تنكر عليه وتنصحه، لكنك تستر عليه؛ بمعنى ألا تتحدث عن فعله، وألا ترفع بأمره إلى المسئولين، ما دام الأمر في هذه الحدود.
أما إذا كان شره مستطيراً، أو كان ضرره يتجاوز إلى غيره، أو تخشى أن يؤثر على الناس، أو أنه تكرر هذا منه كثيراً، على الرغم من النصائح المتوالية والتوجيهات ثم خشي منه، وكان من المصلحة تنبيه أولياء الأمور والرفع إليهم، فنعم.
وإلا فالأصل هو الستر، ولهذا ينبغي أن تستر على أصحاب المعاصي، ولو رأيته تنصحه.
ولهذا رأى سعيد بن المسيب رجلاً يجر آخر كان مخموراً أو نحو ذلك قال: هلا سترته بثوبك! أو لو سترته بثوبك كان خيراً لك.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك لأخي ماعز عندما أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: {هلا سترته بثوبك؟}.
فالأصل يا إخواني هو الستر على هؤلاء؛ لأن الستر غالباً يكون طريقاً إلى الرجوع والتوبة؛ لأن الفضيحة أحياناً قد تورث عناداً، وتورث استكباراً، وقد تورث غلظة في الطبع وغلظة في قبول النصائح.
ثم الستر أيضاً حتى لا تفشو المعاصي والمنكرات في الناس؛ لأنه إذا تحدث الناس بها، ولم تقع العقوبة، هان وقعها في النفوس، لكن إذا بقيت مستورة بقيت كبيرة، ولا يحب الناس الحديث بها، لكن حينما يفشو الحديث فيها، ويتناقلها الناس، يخف ارتكابها، ولهذا كان على الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وزر كبير وعذاب أليم في الدنيا والآخرة؛ كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].
ولهذا كان من أعظم الذنوب أن يقع الإنسان في الذنب، فيستر الله عليه، ثم يذهب فيكشف ستر الله عليه ويتحدث، ويقع في هذا أحياناً بعض من سترهم الله عز وجل ثم عادوا من سفر المعصية ليتحدثوا إلى أترابهم وأقرانهم، وهذا لا يجوز بأي حال، وقد أثم في سفره وأثم بعد عودته! وهذا من إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.
ومثل ذلك أيضاً: بعض وسائل الإعلام التي لها في هذا باع ليس بقصير، فإن هذا من إشاعة الفاحشة وهذا لا يجوز، ولهذا إذا أشيعت خف وقعها على الناس، وخف الإحساس بها، وكما يقال: إذا كثر الإمساس قلَّ الإحساس.
ولهذا إذا رأيت عاصياً فينبغي لك أن تستر عليه، لكن لا يعني ذلك أنك لا تنصحه، ولا يعني أنك لا تتابعه فيما بعد في إصلاحه واستصلاحه، لكن يكون ذلك سراً بينك وبينه، لا أنك حينما تستر عليه، إذا بك تتحدث عنه إلى إخوانك أو إلى أهلك، ثم لا يمر أسبوع أو أسبوعين إلا وقد ظهر الخطأ، فهذا لا ينبغي ولا يجوز.(9/13)
الأسلوب الأمثل في النصح والتوجيه
السؤال
يرى بعض المربين والمهتمين في أمور الشباب والطلاب نفوراً وإعراضاً عن قبول النصح والتوجيه خصوصاً في سن المراهقة، فما هو الأسلوب الأفضل الذي ترونه في الطريقة الجدية والمؤثرة حتى تكون النتيجة طيبة ومثمرة؟
الجواب
أولاً: يجب أن يعلم الناصح والمعلم والمبلغ ورجل الدعوة أن مهمته هي البلاغ، أما التوفيق فبيد الله، لست مسئولاً عن هداية الناس، لا تفترض أنك إذا قلت لفلان أو نصحت فلاناً أنه غداً يصبح من الأولياء، وتراه في المحراب، فهذه ليست مهمتك، وهذا إلى الله عز وجل، فإذا كان أنبياء الله عز وجل ومنهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال له الله عز وجل: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48].
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم القيامة أن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، وهو نبي مؤيد بالمعجزات ومعصوم من الله عز وجل فيما يبلغه عن الله، ومع هذا فالتوفيق بيد الله، ولهذا لا تفترض إذا دعوت أنه سيستجاب لك، أو أنك إذا نصحت أن ينكف الناس عما نهيتهم عنه، فالمطلوب هو إشاعة المعروف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما الامتثال فبيد الله.
ثم أيضاً: إذا رأيت هذا الإعراض من الناس، فلعلك تبدأ بمحاسبة نفسك قبل أن تحاسب الآخرين، قد يكون عندك استكبار، قد يكون عندك استعلاء، قد يكون عندك احتقار لصاحب المنكر، أي: أنك أعجبت بنفسك أنك من الصالحين، وأنك من الذين عصمهم الله ووقاهم، إذا دخل في نفسك شيء من الإعجاب أو العجب، وكذلك رأيت نوعاً من الاستعلاء أو نوعاً من التحقير لهذا الواقع في المعصية، فهذا يؤثر كثيراً على العمل وعلى النتيجة، إنما حقك أن ترى الناس كأنهم في نار، وأنت تنقذ إنقاذاً بشفقة كما يفعل الأب مع أولاده والأم مع أولادها، لا أن تنظر إلى الناس باستعلاء ومقت، وكما في الحديث الذي يقول: {والله لا يغفر الله لفلان -قالها حينما رأى رجلاً على معصية مرة أو مرتين أو ثلاثاً فقال: والله لا يغفر الله لفلان- قال الله: من ذا الذي يتألى عليَّ! قد غفرت له وأحبطت عملك}.
فمحاسبة النفس في هذا الباب مهمة جداً، فالمهم أن تعلم أن مهمتك هي البلاغ والتوجيه، وإذا استدعى الأمر عقوبة أو زجراً، إن كنت من أهلها، كما لو كان ولدك مثلاً، ويؤثر فيه الأدب، أو كان من إخوانك، أو ممن لك عليهم يد، وترى أن القوة تنفع فيهم، فهذا شيء آخر، وهذا يختلف باختلاف أساليب التوجيه والنصح وإنكار المنكر.
وإن كان ضرره مستفحلاً، واحتاج الأمر إلى الرفع به إلى الجهات المسئولة، فهذا أيضاً بابه معروف، هذا من ناحية.
والأمر الثاني: الرفق في المناصحة، ولا بد من الرفق وعدم العنف، وألا تشعر الواقع في المعصية أنك اكتشفته، وأنك قد تحايلت عليه، وأنك أتيت بما لم تأت به الأوائل، فهذا وقعه شديد؛ لأن الإنسان إذا وقع في معصية شعر بشيء من تأنيب الضمير، ويخجل إذا اكتشفته، فينبغي أن تشعره بأن الأمر ليس بهذه الصورة التي يشعر بها، فإذا صاحب ذلك عنف منك حصل انفجار.
ثم أيضاً الحالة المسئول عنها وهي حالة المراهق، المراهق غالباً إدراكه غير سوي، وفكره غير ناضج كما هو معلوم، عنده عنف وعناد وطموح، وعنده عدم استجابة وتطلعات واحتقار، وغالباً المراهق يحتقر غيره حتى ينضج؛ ولهذا تلاحظون فرقاً بين من عمره ما بين الرابعة عشرة إلى الثانية والعشرين أو ما حول ذلك، وبين من هو في الخامسة والثلاثين والثلاثين تجده ناضجاً، ويحسن الجواب والسؤال والتعامل مع الآخرين، بينما ذلك قد يكون عنده شيء من الجفاء أو الجفوة أو نوع من العنف.
فإذاً ينبغي أن تنظر في كل حالة على حسب واقعها أو طبيعتها أو نوع الخطأ الذي ارتكبه، قد تكون الأخطاء متفاوتة، منها ما هو كبيرة من كبائر الذنوب، ومنها ما هو دون ذلك، فلكل حالة معالجتها.
وأيضاً يختلف حسب علاقتك بالشخص، إذا كان من أقاربك أو من معارفك، غالباً يكون هو أكثر خجلاً، ولهذا ينبغي أن تكون رفيقاً جداً، وإذا كان بعيداً أو واحداً من المسلمين الذين صلتك بهم ضعيفة أو لا تكاد تعرفهم، ووجدته على منكر أو على خطأ، فالمعالجة تختلف.
فينبغي ملاحظة هذا، ثم أيضاً ذكر المحاسن وفتح باب آمال التوبة وفتح باب آمال أن الإنسان يخطئ، ولهذا يقول العلماء: من وقع فحاول أن تنقذه باللين، ومن لم يقع فادرأه، والدرء أحياناً قد يكون فعلاً بعنف، أي: عندما تشعر أن أحداً يريد أن يرتكب ذنباً فلتكن عنيفاً معه، فقد ينفع العنف، لكن من وقع فلا ينفع العنف، وقد يكون الرفق أكثر تأثيراً.(9/14)
إلقاء المحاضرات في النوادي والملاعب
السؤال
بعض الإخوان يقولون: كيف تحاضرون في النادي المعد للعب، نرجو إيضاح ذلك وتوضيح هذا الإشكال؟
الجواب
لعلَّ فيما ألمحت فيه من كلام حول طبيعة منتسبي الأندية في بلادنا، وكذلك منتسبي الرياضة في بلادنا يختلفون كثيراً عمَّن في غير بلادنا، أولاً السمة العامة ولله الحمد هي الاستمساك بهذا الدين، ومظاهر الصلاح كثيرة ولله الحمد، ومظاهر اتباع السنة كذلك، والأبواب مفتوحة للصالحين أيضاً، بينما قد يكون في غير هذه البلاد يوشك أن يكون هناك تعارض بين الصلاح وبين الدخول إلى النادي.
وأوضح برهان من البراهين الواضحة: اللوحات التي أمامكم؛ فكلها قال الله وقال رسوله، وهذا خير كثير، لا تجده في كثير من بلاد العالم، لا تجد هذا أبداً ولا من يتحدث بالإسلام، ولا من يفكر أنه يتحدث وهو منتسب للرياضة أو منتسب لنادٍ أو منتسب إلى كثير من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، فمظاهر الخير يجب أن نلمسها، ويجب أن يلمسها الآخرون، ويجب أن نحمد الله عز وجل على وجودها، ونحمد القائمين على فعلها، والأخطاء لا بد أيضاً أن نسعى في درئها والبعد عنها وإبعاد شبابنا عنها.
على سبيل المثال: من مظاهر الخير الموجودة مثلاً أنك في الطرق العامة -حينما تحين الصلاة- تجد كثيراً من أصحاب السيارات يقفون ويصلون، لم يوقفهم أحد، لم توقفهم شرطة، ولا هيئة، ولا غيرها، فهذا خير كثير، فلا تجد أبداً في أي بلد شباباً أو شيباً أو أسراً وعوائل يقفون ويصلون.
تجد حتى اللوحات التي فيها تذكير بالله وذكر لله وتسبيح وتحميد، فهذا خير كثير، لوحات تذكرك بالله تقول: اذكر الله، صلِّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه قضايا لا تكادون تجدونها في غير هذه البلاد.
فمشاركة أبنائنا في نواديهم ومنتدياتهم وأن نكون معهم ونرى ما يعملون خير من أن نتركهم يذهبون لا ندري إلى أين يذهبون، ولا ندري أيضاً ماذا يعملون، وماذا يقال لهم لو تركناهم لغيرنا.(9/15)
الصحوة الإسلامية
السؤال
ألا ترى يا فضيلة الشيخ أن الصحوة الإسلامية أعطيت أكبر من حجمها، وأنه قد يكون لأعداء الإسلام يدٌ في ذلك لتغطية كثيرٍ من الفساد وحتى يكتفي المسلمون بهذا الصحوة؟
الجواب
أما أنها أعطيت أكبر من حجمها فلا أظن ذلك، وهي من مظاهر الخير والصلاح، والمقياس هو كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛ من حيث الاستقامة في السلوك من اتباع الأوامر واجتناب النواهي وإقامة الصلوات والمحافظة على السنن، والاجتهاد في أمر الدعوة، وإصلاح الناس وإصلاح الناشئة والشبيبة.
لماذا ينكر تفاني الشباب في الدعوة؟ كيف صلاح البيوت والبنات؟
الأب تجده هو الذي على المنكر، والابن والبنت يبكون على ما عليه أبوهم، وهذا كثير وظاهر.
كيف يقال: إنها أعطيت أكبر من حجمها؟!
ترى فيهم صلاحاً ظاهراً، استقامة، التزام النساء بالحجاب، وبعض الصور لم نرها حتى في آبائنا وأمهاتنا من حيث تغطية الأيدي والأرجل بالقفاز المعروف والجوارب، هذا كله خير كثير، وإن كانت تغطى في السابق، لكن ليس على هذا النحو.
وأنا وإن كنت لا أحب الحديث عن نفسي، وأكره ذلك وأمقته، ولكن اضطررت لذكر شيء من باب التدليل على هذا الأمر، تصلني فتاوى وبخاصة عن طريق الهاتف، وغالباً المتحدث عبر الهاتف -سواء كان رجلاً أم امرأةً- يتحدث بمنتهى الصراحة وبمنتهى الوضوح، لا يراه أحد ولا يسمعه أحد إلا المتحدث إليه، فيتحدثون عن فضائح في البيوت بين الآباء والأمهات، والذين يشكون هم بنات وأبناء مما يدل على صلاح واستقامة؛ لأنه لو كان الأمر ليس بحق مثلاً لرأيته في الظاهر فقط، بينما في الداخل ترى أشياء لا بد أن تظهر آثارها على السطح، فهم على خير إن شاء الله، نعم هناك شذوذات وتصرفات خاطئة، وهذا أمر وارد وهذا شأن البشر، وقد يوجد نوعٌ من القصور، وقد يكون من التشدد ليس في السلوك، إنما أحياناً في بعض إيصال السلوك للآخرين أو نقد أعمال الآخرين، أما أن يكون للأعداء مدخل فيها، فأخشى أن يكون مدخلها من الجانب السلبي، كما يقال: إجهاض هذه الصحوة بأن يدخل فيها أناس ليسوا منها، ويتلبسون بالمظاهر وهم ليسوا منها، ومع الأسف أننا فيما نسمع أنه يوجد مثل هذا في خارج هذه البلاد، يأتي منتسبون إلى جهات مشبوهة، ويتزيون بزي الصالحين من الشباب، ويفعلون ما يفعلون، حتى نقل هذا لنا عن بعض من في ساحات الجهاد الأفغاني، يتزيون بزي أهل الجهاد، ويفجرون ببنات المجاهدين مثلاً، فتحدث البلبلة، فينسب هذا إلى العمل في الساحة ونحو ذلك، فقد يكون العكس، ومعلوم أن خطط الأعداء لا يستبعد منها أي شيء، ولكن حينما يكون الإخلاص والتكاتف ويكون الصدق -والصدق في العمل أن يكون على كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم- فحينئذٍ تكون النصرة للمؤمنين بإذن الله.(9/16)
السبيل إلى طريق الهداية
السؤال
أنا أحد اللاعبين في هذا النادي، وأريد أن أهتدي، فما الطريق السليم إلى ذلك؟ جزاكم الله خيراً!
الجواب
الهداية بيد الله، وأنت مسلم ومن أبناء المسلمين، وأنت تقول: أريد أن أهتدي، وأنت مهتد إن شاء الله، والمسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويحرص على أداء الفرائض، فهذا مسلم، وإن شاء الله من المهتدين، والقصور الذي يقع يسعى الإنسان في تلافيه.
ويعينه على ذلك أمور كثيرة، منها: التوجه الصادق لله عز وجل، والاجتهاد في الدعاء، وألا تيئس، وأن تدعو الله عز وجل، وتكثر من ذكره على جميع أحيانك، ثم تختار لك رفقة طيبة من أهل الصلاح، وتعيش معهم، وتتعلم منهم، وتستفيد منهم، وتسأل عما يشكل عليك، ويكون لك صلة بأهل العلم وأهل الفضل، وبخاصة في مشكلاتك الإسلامية سواء التي تتعلق بالأحكام أو تتعلق بقضايا خاصة، فهذه تنفع بإذن الله، وتجعل لك وقتاً خاصاً ولو يسيراً، دقائق تقرأ فيها كتاب الله عز وجل بتدبر، وتجتهد في الاطلاع على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى بعض الأحاديث، وتحافظ على الفرائض ولا تضيع منها شيئاً، وتجتهد في ترك النواهي، وتجتهد في الرفقة الصالحة واختيار القرناء الأخيار، فهؤلاء يعينونك بإذن الله.(9/17)
الجمع بين الرياضة والأعمال الخيرة
السؤال
للأسف من المشاهد أن الكثير من المفسدين للنوادي -وخاصة الرياضية- تغلب عليهم الميول إلى الرياضة أكثر من ميلهم إلى طرق الخير من صلاة واختلاط مع أهل الخير، فلعلك تلقي كلمة تجمع بين الأمرين! جزاكم الله خيراً!
الجواب
هذا قد يكون ملحوظاً، ولكن يبدو لي إلى حدٍ ما أن الأمر بدأ يظهر فيه تحسن ظاهر، من حيث أنه بدأ يظهر في المنتسبين لهذه الأندية من فيهم خير وصلاح، وفيهم مظاهر الصلاح، كذلك من خير ما يفيد في ذلك الدخول معهم، وبخاصة من قبل الشباب الصالحين ممن هم في سنهم، أما الإنسان بنفسه، وإذا كان مع قرناء -على نحو ما يذكر السائل- يميلون إلى الرياضة أكثر من ميلهم إلى طرق الخير من صلاة وغيرها فقد يزل، أما هذا إذا دخل فيهم الصالحون من أقرانهم وأمثالهم، فإنهم يصلحون فيهم كثيراً.
ثم أيضاً المحافظة على الفرائض لا بد منها ولا بد من التأكيد عليها، أما نوافل العبادات فهذه أنواعها كثيرة، قد يكون منها الصلاة مثلاً، سواء من الليل أو من النهار، وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار، وبخاصة المحافظة على الوتر، سواء بعد العشاء، أو في آخر الليل، وإن كان قبل الفجر وآخر الليل فهو أفضل، ومن أداها بعد أو العشاء أو قبل النوم فهو خير كثير، ولكن هناك نوافل وعبادات كثيرة يقوم بها الرياضيون، وصلاة النافلة هي مظهر الاستمساك بالحق، وإنما الكلمة الطيبة، الاطلاع على الكتب النافعة، الزيارات بين الأحبة إذا كان المقصود منها التناصح وشغل الوقت بما ينفع.
وأيضاً استغلال أوقات اللهو البريء في التوجيه ونحو ذلك، فهذه كلها طرق خير، ولهذا لا يعدم الإنسان أنه يستفيد من كل فعل ومن كل حركة ومن كل قول، وكل ذلك وجه من وجوه الإصلاح بإذن الله.(9/18)
حكم حب اللاعبين الكفرة
السؤال
بعض الشباب يحبون كثيراً من اللاعبين الكفرة، وهذا لا يتفق مع الإيمان بالحب في الله والبغض في الله، فما توجيهكم نحو ذلك؟
الجواب
لا شك أن هذا واقع وموجود، وهذا لا يمكن القضاء عليه إلا بالاهتمام بقوة الإيمان والعقيدة، بقدر ما يقوى إيمان العبد وحبه لله ولرسوله وحبه لهذا الدين ورغبته في أن ترتفع رايته وأن يعز الله أهله، إذا ازداد هذا عند المسلم تعمق بغضه للكافرين، والبغض للكافرين ليس لأشخاصهم ولا لذواتهم، إنما المسلم يبغض الكفار لكفرهم لا لأشخاصهم، ويبغض الكفار لما يعلمه من عداواتهم لهذا الدين، ويبغضهم لما يعلمه من كيدهم لهذا الدين، فإذا وجد هذا المعنى في قلب كل مسلم أبغضه، فحينما يستقر في عقيدة المؤمن أن هذا عدو له وأن هذا يريد الكيد له، وأن هذا سبب في انحطاط المسلمين وسبب في عدم قيام دولة الإسلام وتعثر دولة الإسلام، إذا عرف هذا فحينئذٍ يتولد البغض، لأنك تبغضه لسيئ أعماله لا لذاته، كما أنك حين تدعوه ينبغي أن يرى منك ليناً وحكمة ورأفة، ومثله العاصي، العاصي تبغضه لمعصيته وتحبه لما فيه من الخير.
وحينما تتولد هذه المعاني عندنا، وننقلها لأصحاب الغفلة من الشباب الذين يتعلقون باللاعبين من الكفرة فإنهم سوف يبغضونهم.
على سبيل المثال: لو أن واحداً من هؤلاء اللاعبين الكفرة صفعه وأعطاه كفاً مثلاً فإنه يبغضه ولن يحبه أبداً، فحينما نجعله يتحسس كيف أن كفر هذا الكافر وكفر من حوله من بني جلدته وجنسه والدولة التي تقوم عليه التي تكيد للإسلام فحينئذ نكون قد حققنا المطلوب.
ثم من جانب آخر نسعى في الدعوة إلى الله عز وجل، وحينما نكون في باب الدعوة يختلف الموقف.(9/19)
الجلوس مع الشباب الطيب
السؤال
أنا شاب وأجد في نفسي وحشة من الجلوس مع بعض الشباب الطيب؛ لما أسمع منهم أنهم متشددون وأن فيهم كذا وكذا، ما هو توجيهكم لنا؟ جزاكم الله خيراً!
الجواب
أما فيما يتعلق بالجلوس مع الطيبين فاحرص عليه، وأنت تقول: إنك تسمع، والسماع شيء والإحساس شيء، فلا تعتمد على السماع وأنت لم تر شيئاً، مجرد أن تسمع أنهم متشددون هذا لا يكفي، إنما إذا لمست شيئاً من الشدة، فيمكن أن تفاتحهم؛ فقد تكون مخطئاً في فهمك فيما سمعت أو نقل إليك، وقد لا يكون هناك شدة، إنما سوء فهم منك، أو أنه خطأ وقع فعلاً منهم، أو أنها شدة في محلها لأن الموقف كان يستدعي مثل هذا أو نحو ذلك.
فلا تكتف بالسماع وإنما تحرص على مجالسة الطيبين، وكل ما تراه من سلوك عليك فيه استفهام أو استشكال فإنك تسأل عنه.(9/20)
الجلوس مع أهل المخالفات
السؤال
إنني أجلس مع شباب فيهم بعض المخالفات ولا أحد منهم ينكر على بعض، فما هي نصيحتكم؟ جزاكم الله خيراً!
الجواب
هذا ملحظ جيد، وهذا ينبغي أن ينتبه له المسلمون وبخاصة الشباب الصالحون، فأحياناً بعض الشباب عنده خير، وفيه صلاح، وفيه استقامة ظاهرة، ولكنه حينما يجلس مع إخوانه أو مع أقرانه أو مع أحبابه، يسمح لنفسه أن يخوض في هذا وهذا وأن يقع في عرض هذا وذاك، وأن يتحدث بما لا يجوز الحديث عنه، لكنه يغفل ولا أظنه يستبيح مثل هذا، وهذه القضية يجب على الإخوة الشباب أن يفتشوا في أنفسهم وأن يهتموا بهذا، فإن هذا قد يلحظ من غيبة أو نميمة أو أن يستبيح لنفسه فعلاً لا يستبيحه لغيره، أو أنه يجيز لصاحبه الذي هو من مجموعته ما لا يجيزه للآخرين، أو يتهاون في معاملته لفلان ويتشدد في معاملته للآخرين، فهذا لا يجوز، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء:135] والآية الأخرى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
تجب نظرة القصد ونظرة العدل مع كل أحد.
وما ذكرته قد يكون من الأخطاء التي قد تلحظ في بعض الإخوة الصالحين.(9/21)
كلمة للمسئولين عن الأندية
السؤال
نرجو توجيه كلمة للمسئولين عن الأندية لحثهم على إعطاء الغذاء الروحي والفكري اهتماماً يوازي ذلك الاهتمام المعطى للجسم، خصوصاً توفير المجلات الإسلامية والرسائل المفيدة لمرتادي النادي، جزاك الله خيراً!
الجواب
لا شك أن هذا تنبيه طيب، وكما قلت: قد يكون عندي قصور أنني ليس عندي اطلاع كافٍ على هذا الأمر، وإن كانت هذه اللوحات التي لمستها والتي هي موجودة في قاعتنا هذه تدل على توجيه حسن، وتدل على نوع من الاهتمام من إدارة النادي، ولكن إن كان ثمة قصور في هذا الباب، وبخاصة ما يتعلق بالمجلات والكتب والأشرطة الإسلامية، فإنني من هذا المقام أرجو من المسئولين في الأندية الرياضية، وعلى رأسهم صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن فهد بن عبد العزيز الرئيس العام لرعاية الشباب ووكلاءه ومساعديه أن يوجههم ويهتم بهذا الأمر -وهو مهتم به إن شاء الله- خصوصاً هذه الملاحظة التي ذكرها الأخ السائل الفاضل وهي ما يتعلق بالمجلات والكتب والصحف والأشرطة الإسلامية، وأرجو أيضاً أن تهتم الجمعية العربية للثقافة والفنون لأن لديها مطبوعات بمثل هذا النوع، وأن تستكتب أو تنشر وتطبع ما هو صالح للطبع والنشر، وتوزعه على فروعها ومكاتبها، وهي فاعلة ذلك إن شاء الله، على أن ما لمسته في هذه القاعة يدل على توجه جيد وتوجه حسن، وحقهم أن نشكرهم عليه، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك في جهودهم وأن يزيد في جهودهم الخيرة، وأن يرزق الجميع الصلاح والإصلاح.(9/22)
كيفية حفظ القرآن
السؤال
أنا شاب ملتزم والحمد لله، وأريد حفظ القرآن الكريم، ولكن لا أعرف الطريقة السليمة والجيدة والسهلة لحفظ القرآن، أرجو من فضيلتكم أن توصيني بالطريقة السليمة، والله يحفظكم!
الجواب
لا يبدو لي أن هناك طريقة خاصة لحفظ القرآن، وإنما هو -بعد توفيق الله عز وجل- صدق في العزيمة وقوة في الإرادة، إذا رزقك الله عز وجل عزيمة صادقة وإرادة قوية، ولازمت ولا بد من الملازمة، أما أن يكون هناك شيء من التهاون أو التساهل، فهذا لا يكون، وبخاصة طبيعة كتاب الله عز وجل، فإنه قد يكون سهل الحفظ ابتداءً، ولكنه يحتاج إلى مراجعة وإلى عناية، فهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها كما قال عليه الصلاة والسلام، ولعلَّ مما يفيد في ذلك أن تخصص وقتاً تحفظ فيه، وتختار الأوقات التي يكون فيها الذهن أكثر صفاءً كبعد صلاة الفجر أو قبلها، فغالباً يكون الذهن قد استعاد نشاطه بعد النوم، ويكون أسرع في الحفظ وأقدر على الاستمساك، فتحفظ ما تيسر، ثم تردد هذا الحفظ، ثم إذا حفظت بعده درساً آخر تقرؤه وتقرأ الدرس الذي قبله، وهكذا إلى أن تصل ما يقارب جزءاً أو جزء ونصف، الجزء والجزء والنصف هذا تردده يومياً، فإذا ما تجاوزت الجزأين، تقرأ نصف الجزء أو الجزء الذي بجانب درسك الجديد، ثم تراجع.
وأستحب لك أن يكون لك صاحب أو أستاذ تحفظ عليه، لأنك غالباً إذا حفظت بنفسك تكسل، لكن إذا كان لك أستاذ تراجع معه، ويسألك عن حفظك، فهذا غالباً يكون أكثر اهتماماً ولتشعر بالمسئولية أكثر، فهذا يعين كثيراً، وعليك بصدق العزيمة وكثرة التكرار، والتوفيق بيد الله عز وجل.(9/23)
حكم من ترك الصلاة فترة من الزمن
السؤال
ما حكم من ترك الصلاة لعدة أيام أو أشهر، ثم بعد ذلك واظب عليها، هل يعيد كل ما فاته أم لا، وماذا يجب عليه فعله؟ وجزاكم الله خيراً!
الجواب
لا يتصور عذر تترك فيه الصلاة ما دام العقل موجوداً إلا عذر الحائض والنفساء، وإلا فهو الكفر نسأل الله السلامة!
أما ما عدا ذلك فما دام العقل موجوداً، فإنه يجب على المكلف أن يصلي الصلاة في وقتها قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنبه، فإن لم يستطع فيومئ إيماءً، فإن كان قد تركها مغمىً عليه مثلاً، فإنه يقضي ولا شيء عليه، أما إن كان تركها تهاوناً وكسلاً، فمعلوم خلاف أهل العلم في ذلك، فهناك من يرى أنه كافر وخارج من الملة، وعليه أن يعود إلى الإسلام بالشهادتين وبإتيان ما كفر بسببه، وهو الصلاة، وهذا هو الذي عليه طوائف من أهل العلم والحديث، وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله، ويفتي به علماء أجلاء من علماء عصرنا حفظهم الله، وهناك قول آخر بأنه لا يكفر من تركها تهاوناً وكسلاً، وإن كانوا متفقين على أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، القائلون بأنه كافر يقتل ردة، ومن قال: إنه لا يكفر فإنه يقتل حداً.
والذي يبدو لي أن هذا الذي تركها أياماً وشهوراً كأنه كان يصلي قبلها، وعاد يصلي بعدها، أرجو أن يقضي هذه الصلوات، ولعل الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنه ويسامحه.(9/24)
حكم رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة
السؤال
ما حكم رفع الصوت بالتسبيح بعد الصلاة؟ هل هو جائز أم مكروه؟ وقد ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنا نعرف انتهاء صلاتهم بالتسبيح والتكبير أو كما قالت، هل هذا الحديث يحمله على الجواز أو يحمله على السنة أم لا؟
الجواب
من السنة أن يرفع صوته بالتكبير والتسبيح والتهليل بعد الصلاة، ولا يقال: إن في هذا رياءً؛ لأن كثيراً من الأعمال الشرعية والعبادات الشرعية جاءت معلنة كصلاة الجماعة مثلاً، والتكبير في العيدين يكون بصوت مسموع، فهذه شعيرة شرعت معلنة، فإذاً ينبغي إحياء هذه الشعيرة، ولا يقال: إن المقصود منها الرياء؛ لأن الإنسان يسبح علانية في مواطن الإعلان، ويسبح ويهلل ويستغفر إسراراً في مواطن الإسرار.(9/25)
حكم الجماعة في غير المسجد
السؤال
نحن مجموعة من الشباب قمنا باستئجار أرض مسورة (حوش) نجتمع فيها في أوقات فراغنا على اختلافها فيما بيننا، عصراً أحياناً، وبعد صلاة العشاء أحياناً أخرى، ونسمع الأذان، لكن المكان هذا ليس في وسط البلد، بل في أحد أطرافه، ولا بد من السيارة للذهاب إلى المسجد، فهل نصلي في هذا المكان أم نذهب إلى المسجد؟ جزاكم الله خيراً!
الجواب
الأولى في حقكم أن تذهبوا إلى المسجد، واجتماعكم طيب ومحمود ما دام أنه على خير، لكن ينبغي أن يكون قائداً لكم إلى أن تذهبوا إلى بيوت الله، فإنها ما أنشئت إلا لأجل هذا، وبخاصة أن ذهابكم إلى هذا المكان مستمر، أو على شكل منتظم أو شبه منتظم بعد العصر أو بعد العشاء، فينبغي أن تذهبوا إلى المساجد، وإن كانت إقامتكم للجماعة تكون جماعة، ولكن حيث أن وجودكم منتظم في هذا المكان، فتذهبون إلى المسجد.(9/26)
الاستمساك بالدين
إن الدين الإسلامي هو عزة كل مسلم يعيش على هذه الأرض سواء كان بين أهله أو في بلاد غريبة بعيدة عن أهله ووطنه، ولكن إن رأى المسلم في نفسه ضعفاً أو عدم استطاعة تطبيق شعائر دينه، فعليه أن يهاجر من البلاد التي هو فيها إلى بلاد يستطيع المحافظة فيها على دينه وإظهار شعائره.(10/1)
الهجرة دروس وعبر
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ رسالة ربه، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تبارك وتعالى، وعظِّموا أمره، واحذروا زواجره، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، الاستمساك بالدين هو الهدف الأسمى لكل مسلم، وهو السياج الحامي لكل حق، إذا حفظ الدين فقد حفظت الأنفس والأموال، وصينت الحريات والكرامات، والتفريط بالدين مآله هلاك النفوس، وخراب الديار، وضياع الحقوق.
إن من سنن الله الثابتة أن القُوى المعنوية هي الحافظة للقُوى المادية، فالعقيدة والأخلاق ومناهج التربية هي الوسيلة للحفاظ على أي مكسب مادي، وإذا حصل تفريط أو تساهل فلا يُغني مالٌ ولا تنفع قوة، يقال ذلك -أيها المسلمون- والناس تتحدث عن الهجرة وعبرها، وهو حديث يتجدد ولا ينقضي إذا أراد المسلمون صدق التأسي لصاحب الهجرة محمد صلى الله عليه وسلم.
معاشر الإخوة! ينحصر معنى الدين عند غير المسلمين في عبادات وطقوس محدودة، ذات أوقات معلومة، وأماكن معينة؛ يزاولها أصحابها حين يجتمعون عليها في معابدهم، وذلك غاية ما يريدون أن يؤدون تلك الطقوس والشعائر، ولكن الإسلام دين الله غير ذلك، إنه الدين الذي رضيه ربنا، وأتم به علينا نعمته وأكمله، فهو كامل متكامل عقيدة وعبادة، وآداباً وأخلاقاً، وأحكاماً شاملة، تنتظم العلاقات بين العبد ونفسه، وبينه وبين ربه، وبينه وبين الخلق أجمعين، إخواناً وأقارب وأبعدين.
تتسع دائرة الإسلام لتحيط بكل ذلك وما وراء ذلك، ولا يتحقق الإسلام على وجهه إلا إذا ساد البقعة كلها؛ تقوم فيها أحكامه، وتشيع فيها آدابه، إضافة إلى قيام الشعائر ورسوخ العقائد، وإذا تعذَّر على المسلم إقامة دينه، والالتزام بآدابه، فإنه ينتقل إلى بلد يتحقق فيه ذلك، تكثيراً لسواد المسلمين، ونصرةً لدين الله في العالمين، ولأجل هذا عاتب القرآن أقواماً استكانوا وضعفوا من غير عذر، فلبثوا في أرضٍ كانوا فيها غير قادرين على إقامة الدين على وجهه، ولم ينهضوا لتأييد إخوانهم في بلاد الله الواسعة، ذلك أنهم باستضعافهم غير المعذور، يَجرُّون على أهل الإسلام ضعفاً حين يرضون بالإقامة في ديار الكفر، متخلفين عن تقوية الإسلام في دياره: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:97].
واليسر في مبادئ الإسلام غير منكور، فيقدر العذر الشرعي لأهله {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُورا} [النساء:98 - 99].(10/2)
حقيقة الهجرة
إن الهجرة في حقيقتها -أيها المسلمون- معرفة الحق، والانتقال إليه، والاستمساك به، ثم الانتقال به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى فيه، تلك هي طريقة رسل الله والسائرين على دروبهم، وفي القرآن الكريم حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26].
استمساك بالإسلام، وانتقال به من موقع إلى موقع، فالهجرة حركة ودعوة وجهاد، والمهاجر لا يزال في ساحة الدعوة والجهاد ليس بخارجٍ عنها، إذا ضعف في موطن انتقل إلى موطن يكون فيه أكثر نفعاً وعزاً، تحرف لقتال، أو تحيز إلى فئة من غير تول للدبر.
ولئن وقفنا عند هجرة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم وقفة تأمل وتدبر! ثم عمل وتأسٍ، فإننا واجدون من ذلك أموراً كثيرة ذات دلالات عميقة، فحين قامت الدولة في دار الهجرة، ووجد المؤمنون عند أهل طيبة النصرة، ثارت ثائرة كفار قريش، وأجمعوا أمرهم على اتخاذ مواقف حاسمة، وكان من ذلك أن تمالئوا على قتل صاحب الدعوة ورئيسها محمد صلى الله عليه وسلم.
يبتغون من ذلك إيقاف مدَّ الإسلام، وذلك دأب المبطلين في كل زمان ومكان.
نعم! حين يئسوا من أن تُجدي محاولاتهم الأولى، وحين لحظوا المؤمنين يتفلتون من أيديهم منتقلين إلى مواقع أقوى وأماكن أرحب، لجئوا إلى قتل المصلح والنيل منه، ظناً منهم أن في ذلك قضاء على الدعوة أو سداً لطريقها، ألا ساء ما يظنون.
يقابل هذا درس آخر عجيب! فمحمد صلى الله عليه وسلم حين أراد الهجرة استخلف علياً رضي الله عنه، ليرد الودائع والأمانات إلى أهلها، إنه محمد صلى الله عليه وسلم لم يزل أميناً عندهم قبل البعثة وبعدها.
عجباً أيها الإخوة! يودعونه أماناتهم، ويأمنونه على ممتلكاتهم، ثم يسعون في قتله.
إن أعداء الإسلام يوقنون في قرارات أنفسهم باستقامة المؤمن وأمانته ونزاهته، فهو في سيرته أتقى، وفي سريرته أنقى، ولكنَّ العمى والهوى والإصرار على الباطل هو الحامل للمحاربة ونصب المكائد، وصدق الله العظيم: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].
وفي موقف آخر يمر عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل بن هشام على دار عمر بن ربيعة وقد خلت من أهلها، فقد هاجر رب الدار وزوجه وأخوه، فنظروا إلى الدار مع دور أخرى.
تخفق أبوابها ليس بها ساكن، كلٌ قد هاجر إلى الله ورسوله، ثم قال عتبة: أصبحت الدور خلاءً من أهلها، فقال أبو جهل للعباس: هذا من عمل ابن أخيك، فرَّق جماعتنا، وشتَّت أمرنا، وقطع بيننا.
سبحان الله! هذا هو شأن أبي جهل وأتباع أبي جهل، يجرمون ويفسدون ثم يرمون بالوزر غيرهم، يريدون قهر المؤمنين، فإذا أظهر المؤمن العزة وأبى الذلة جعل عزته مشكلة المشكلات، ورفضه الذلة مصدر المنغصات، وقد علم عدو الله أنهم لا ينازعونه في عقار ولا قمار، ولا ثمة تجارة يخشون كسادها، ولا مساكن يرضونها، ولكنها الهجرة إلى الله ورسوله.
من أجل هذا وأمثاله -أيها الإخوة في الله- مدح الله المهاجرين في القرآن الكريم، وجعل بعضهم أولياء بعض، وقرن الهجرة بالإيمان والجهاد، واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم هجرة أصحابه عبادة مستمرة، وسأل ربه أن يمضي لأصحابه هجرتهم، واستيقن المهاجرون ذلك، فكانوا يتحرجون من المقام في مكة بعد الحج مخافة أن يعودوا في هجرتهم، وأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث ليالٍ بعد النسك، وكثير منهم يأبى أن ينزل في داره التي خرج منها مهاجراً إلى الله ورسوله، واتفقوا أن يبدأ تاريخ الإسلام من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي حدثٌ عظيم تجلَّى فيه الفرقان بين الحق والباطل، فالهجرة تعبدٌ عند المهاجرين الأولين، وتحول في تاريخ المسلمين.
فاتقوا الله رحمكم الله! واعلموا أن الهجرة عند داعيتها ضربٌ من الضروب الشاقة، يتحملها المؤمن في سبيل دينه، إنها تضحية بالمال والأرض في سبيل العقيدة والدين، حينما يقتضي الأمر ذلك، ذلك أن الحفاظ على الدين ضمان للحياة الكريمة، والنفس العزيزة.
تلك بعضٌ من عبر، وهذا شيء من اعتبار، فلا يجوز للمسلمين أن يتخذوا من السيرة قشوراً لا تحرك قلوباً، ولا تستثير همماً، ولا أن يكون الأمر عندهم مجرد إعجاب أشبه بتقليد موروث، ومعرفة سطحية مع تخلف في النهج والعمل.
سدد الله الخطى، ووفق للصواب، وأعز دينه، وأعلى كلمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم، وهدانا صراطه المستقيم، ووقانا طريق أصحاب الجحيم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(10/3)
دوافع الهجرة
الحمد لله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله؛ بعثه بالهدى ودين الحق، صبر وصابر، وجاهد وهاجر حتى ارتفعت أعلام الدين، وحق القول على الكافرين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.
أما بعد:
أيها الناس إذا كانت الهجرة في معناها العام هي مجرد الانتقال من بلدٍ إلى بلد، فكثيرون هم المهاجرون، والمنتقلون في بلاد الله الواسعة لغايةٍ وأهداف متنوعة، طلباً للرزق أو الزيادة فيه، أو مزيداً من الراحة والمتعة، وعربي الجاهلية الأولى كثيراً ما ينتقل من أجل الكلأ والعشب، ومساقط المياه، ومفاتن الجاهلية، يبكي على الأطلال، ويخوض معارك دامية مدافعاً عن عنصريةٍ منتنة، أو عادات قبلية بالية.
تلك هي دوافع الهجرة عند كثيرٍ من الأمم والشعوب.
ولكن الهجرة في أوسع مدلولاتها عند المسلم تعني انتقال الجسم والروح والمشاعر والنزعات؛ مما يكرهه الله ويمقته من معاصيه وأسباب غضبه؛ إلى ما يحبه ويرضاه من الطاعات والقرب، ووسائل الزلفى لديه، يعرض المسلم سلوكه وتصرفاته على سنة صاحب الهجرة محمد صلى الله عليه وسلم، إنها هجرٌ لكل ما حرَّم الله في الأنفس والأهل والبيوت، يعود إلى بيوت المسلمين صدقها واستقامتها ونبلها وغيرتها تعاون على الخير، وحفظ لحقوق الأسرة والجيران.
فالبيت المسلم! هو اللبنة في الوطن المسلم، حيث تشع الآداب والمحبة من هذه البيوت إلى السوق والمجتمع، ودواوين العمل.
فاتقوا الله -يرحمكم الله- واهجروا الذنوب والخطايا، وابتعدوا عن السفاسف والثنايا، من أجل تطهير النفوس وتزكية القلوب.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم نبي الرحمة والملحمة، فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأزواجه وذريته، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بفضلك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأحم حوزة الدين، واخذل أعداء الملة، واجعل اللهم هذا البلد أمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمام المسلمين، ووفقه لما تحبه وترضاه، اللهم أيده بتأييدك، وانصره بنصرك، واجمع به كلمة المسلمين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك؛ لإعزاز دينك وإعلاء كلمتك، اللهم وانصرهم في فلسطين وأفغانستان وفي كل مكان، اللهم قوِّ عزائمهم، واجمع كلمتهم، وسدد سهامهم وآراءهم، واجعل الدائرة على أعدائهم يا قوي يا عزيز.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ، فاذكروا لله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(10/4)
من أحكام الجنائز
الإنسان روح وجسد، والموت ليس إلا مفارقة تلك الروح لهذا الجسد؛ فهو ليس نهاية الإنسان بل خطوة تلحقها خطوات، وفي آخرها يجد نتيجة عمله قبل الموت.
والموت حقيقة مرة لم تغفلها الشريعة، بل ورد من الأحكام الشرعية في الاحتضار والغسل والدفن وصلاة الجنازة ما فيه الكفاية، وأوردت ضوابط في الحزن على الميت لا غنى عنها.(11/1)
الموت والقبر دروس وعبر
الحمد لله المتفرد بالبقاء، ذي العزة والكبرياء، كتب مقادير الخلائق وأقسامها، وقدَّر أمراضها وأسقامها، سبحانه وبحمده له ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، رحمة من لدنه وفضلاً، وحكمة منه وعدلا.
أحمده سبحانه وأشكره على حلو القضاء ومره، وأعوذ به من سطوته ومكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مستزيداً من إحسانه وبره.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أحاطه ربه بتأييده ونصره، وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون! الدور ثلاث:
أولاً: دار الدنيا.
ثانياً: دار البرزخ.
ثالثاً: دار الآخرة.
وابن آدم: روح وجسد، والدار الآخرة هي دار القرار التي يقوم فيها الناس لرب العالمين.
والنعيم المقيم، والعذاب الأليم، على الأرواح والأجساد، والقبر آخر منازل الدنيا وأول منازل الآخرة، وهو: {إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار} وشدته أمارة للشدائد كلها، وما يراه العبد فيه عنوان ما يصل إليه.(11/2)
حقيقة الموت
والموت ليس عدماً محضاً، ولا فناءً صلفاً؛ ولكنه تبدل حال، وانتقال من دار إلى دار، وقد قال عزَّ وجلَّ: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2]، قال بعض أهل العلم: قدَّم ذكر الموت على الحياة تنبيه إلى أنه يتوصل به إلى الحياة الحقيقية، وقد قال عز شأنه: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64].(11/3)
المصائب وتذكر الموت
إن حقاً على العاقل اللبيب النظر والتفكر، والمحاسبة والتدبر، فكأس المنايا تذوقها حتمٌ على كل حي، فهل ينتظر الصحيح إلا السقم، والكبير إلا الهرم، والموجود إلا العدم، على هذا مضت الخلائق، وعلى هذا جُبِلَت الدنيا اجتماع وفرقة، محيا وممات {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر:11].
والمصائب خطبٌ موجع، والمنايا حولٌ مفجع، والغنيمة بالصبر والرضا وحسن الظن والاستعداد؛ حتى قال بعض السلف: "لولا المصائب لضربنا القيامة مفاليس".
والمرء إذا مات سلا عنه أحبابه، ونسيه أصحابه، وذهل عنه من أنفق عمره في محبته، وأتعب نفسه في ملاطفته.
فإذا تذكر الموت متذكر فليكن تذكره لا من أجل فراق الأحباب والأصحاب؛ ولكن من أجل فراق العمل لدار القرار، والزاد للمنقلب والمصير، فمن نظر نظرة استعداد وعمل زاد في الجد والعمل، ومن نظر نظرة فراق وحزن ساءت حاله وزادت حسراته.
أيها الإخوة! وهذه وقفة تذكرٌ وتذكير بحال المسلم وهو يودِّع دار الدنيا ويُقبِل على ربه، فهذه الجنائز تمر على الأسماع والأشخاص وقليل من يدكر، وقفة مع أحكامها وآدابها وحكمها وعبرها؛ فدينكم دين الإسلام لم يترك شاذة ولا فاذة إلا وضحها وبينَّها في حكمها وأحكامها وعبرها وأسرارها.
وفي هذا المقام يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا أفضل الهدي، فهو يشتمل على الإحسان إلى الميت، ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده، وعلى الإحسان إلى أهله وأقاربه، وعلى إقامة الحي العبودية لله وحده فيما يُعامل به الميت، وتجهيز المنتقل إلى الله على أحسن أحواله؛ فالمسلمون يقفون صفوفاً يحمدون الله ويستغفرونه لميتهم، ويسألون الله له الرحمة والمغفرة والتجاوز عنه، ثم المشي بين يديه إلى أن يودعوه قبره، ثم يسألون له التثبيت، فهو أحوج ما يكون إليه، ثم يتعاهدوه له بالزيارة في قبره، بالسلام عليه، والدعاء له، كما يتعاهد الحي صاحبه في دار الدنيا" أ.
هـ(11/4)
آداب وأحكام الاحتضار
ومن أجل مزيد تفصيل في ذلك أيها المسلمون! فإن أول ما يُنبه إليه من الآداب والأحكام: أن يتعاهد المريض في مرضه؛ فيُؤمر بالصبر على ما أصابه، والرضا بقدر الله وإحسان الظن بربه، فذلك حال المؤمن {فأمره كله له خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن} ويكون على حال من الخوف والرجاء يخاف عقاب الله بسبب ذنبه وتقصيره، ويرجو رحمته بما يعلم من سعة رحمة ربه.
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على شابٍ وهو في مرض الموت، فقال: {كيف تجدك؟ قال: والله يا رسول الله إني لأرجو الله وإني لأخاف ذنوبي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنَّه مما يخاف}.
وليؤدِّ الحقوق إلى أصحابها إذا تيسر ذلك وإلا فليوص بها، وتوشك المنايا أن تسبق الوصايا، وإذا كان عنده فضل مال فليوص بالثلث فأقل للأقربين من غير الوارثين، ولمن أحب من المسلمين ووجوه الخير، وكم هو جميل أن يحتاط المرء لنفسه فيجعل من وصيته أن يجهز ويدفن على السنة؟ وقد قال حذيفة رضي الله عنه: [[إذا أنا مت فلا تؤذنوا بي أحداً فإني أخاف أن يكون نعيا، وأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي]] وقال الإمام النووي -رحمه الله-: ويستحب له استحباباً مؤكداً أن يُوصيهم باجتناب ما جرت به العادة من البدع في الجنائز.
ويؤكد العهد بذلك: وإذا حضره الموت فعلى من حضره من أهله أو غيرهم تذكيره بالآخرة وأمره بالتوبة برفق وتلطف ويلقنه الشهادة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: {لقنوا موتاكم لا إله إلا الله}، {} ويدعون له ولا يقولون إلا خيراً، فقد جاء في الخبر: {إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً، فإن الملائكة يُؤمنون على ما تقولون}.(11/5)
آداب التعامل مع الميت
فإذا قضى وأسلم الروح؛ فتُغمَّض عيناه، ويغطى بدنه ووجهه، ويُدعى له، تقول أم سلمة رضي الله عنها: {دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه ثم قال: إن الروح إذا قُبِضَ تبعه البصر؛ فضج ناس من أهله، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يُؤمنون على ما تقولون، ثم قال: اللهم اغفر لـ أبي سلمة وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا ولهم يا رب العالمين، وافتح له في قبره ونوّر له فيه}.
ولا مانع من تقبيله لمن أحب ذلك من أقاربه أو معارفه.
ومن السنة الإسراع في تجهيزه ودفنه بعد تيقن وفاته؛ ففي الحديث الصحيح: {أسرعوا بالجنازة! فإن تكٌ صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكن سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم}، وعند الطبراني بإسناد حسن: {إذا مات أحدكم فلا تحبسوه، وأسرعوا به إلى قبره} وعند أبي داود: {لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله} ولا مانع من التأخير لمصلحة تتعلق بذلك؛ كانتظار قريب يحضر قريباً، أو للتعرف على سبب الوفاة إذا كانت بجناية أو جريمة، ثم يقوم بتغسيله من يحسن ذلك من المسلمين العدول ذوي الثقة والديانة من أقاربه أو غيرهم.(11/6)
غسل الميت والصلاة عليه
وفي صفة التغسيل تقول أم عطية رضي الله عنها: {دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته زينب رضي الله عنها، فقال: اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعا أو أكثر من ذلك إذا رأيتن ذلك، قالت: قلت: وتراً؟ قال: نعم! واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، قالت: فلما فرغنا آذناه، فألقى إلينا حقوة -أي: إزاره- فقال: أشعرنها إياه -أي: اجعلنه يلي جسدها- قالت أم عطية: فمشطنها ثلاثة قرون}، وفي رواية: {نقضنه ثم غسلنه وظفرن شعرها ثلاث ظفائر، قرنيها وناصيتها وألقينه خلفها، قالت: وقال لنا: ابدأن بميامينها ومواضع الوضوء منها} ويُطيب في بدنه وكفنه، والرجل يغسله الرجال، والمرأة يغسلنها النساء، والزوجان يغسل أحدهما الآخر، ومن كان دون سبع سنين يغسله الرجال والنساء.
ومن الآداب في حق الغاسل أن يستر ما يُرى ولا يحدث فيما قد يطلع عليه من مكروه، ولا يحضر الميت إلا الغاسل ومن يعينه، ثم يُكفنَّ بكفن ساتر لجميع البدن، ويكون الكفن حسناً أبيضاً نظيفاً أو جديداً من غير سرف ولا مغالاة، وإذا تيسر فيكون للرجل ثلاثة أثواب؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كُفِنَّ في ثلاثة أثواب سحولية من كرسف -أي: من قطن- ليس فيها قميص ولا عمامة، أُدرج فيها إدراجا، والمرأة تُكَّفن في خمسة أثواب إذا تيسر، إزار وخمار وقميص ولفافتين، ثم يُصلى عليها، وكُلمَّا كثر المصلون كان أفضل للميت وأنفع، ويُستحب أن تكثر الصفوف خلف الإمام ثلاثة صفوف فصاعداً، وفي الحديث: {ما من ميت يُصلي عليه أمةٌ من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه}، وفي حديث آخر: {إلا غفر له}، وفي الحديث أيضاً: {ما من رجل مسلم يموت ويقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يُشركون بالله شيئاً إلا شفعوا فيه}.
وصفة الصلاة: أن يكبر أربعاً، يقرأ بعد الأولى سورة الفاتحة، وبعد الثانية يُصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد الثالثة يخلص الدعاء للميت، وبعد الرابعة يُسلم تسليمة واحدة، ولو سلم تسليمتين فلا بأس.
ومن الدعاء المأثور في ذلك: {اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وأدخله الجنة، وقه فتنة القبر وعذاب النار}.(11/7)
اتباع الجنازة
واتباع الجنازة حق من حقوق المسلم، وفي الصحيحين: {من شهد الجنازة حتى يُصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تُدفن فله قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين -وفي لفظ مسلم - أصغرهما مثل أحد} قال أبو هريرة رضي الله عنه وهو راوي الحديث: [[لقد فرطنا في قراريط كثيرة]] ويُسنَّ الإسراع بها.
يقول أبو بكرة رضي الله عنه: [[لقد رأيتنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نرمل رملاً]] وهو إسراع من غير شدة يخاف منها ضرر على الميت، أو مشقة على المشيعين، ويمشي أمامها وخلفها، وعن يمينها وعن يسارها، والراكب يسير خلفها.
يقول أنس رضي الله عنه: [[كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنهما يمشون أمام الجنازة وخلفها]]
والنساء لا تتبع الجنائز ولا تزور المقابر؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولا يجوز أن يتبع الجنازة ما يخالف الشرع.
يقول الإمام النووي رحمه الله: " واعلم أن الصواب والمختار ما كان عليه السلف -رضوان الله عليهم- من السكون والسكوت في حال السير مع الجنازة؛ فلا ترفع أصوات بقراءة ولا بذكر ولا غير ذلك ".
قال رحمه الله: " والحكمة في ذلك ظاهرة، وهي أنه أسكن للخاطر، وأجمع للفكر، قال: ولا تغتر بكثرة المخالفين".(11/8)
أحكام القبر وفضل تذكر الموت
والدفن في القبر من إكرام الله لابن آدم، قال جلَّ شأنه: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] ويوسع القبر، ويعمَّق ويُلحَّد، يقول عليه الصلاة والسلام: {احفروا، وأوسعوا، وأعمقوا، وأحسنوا} ويدخل الميت القبر من قبل رجليه، يقول ابن سيرين: كنت مع أنس -رضي الله عنه- في جنازة فأمر بالميت فَشُلَّ من قِبْلَ رجله في القبر، ويوضع على جنبه الأيمن، ووجهه نحو القبلة، ثم يُسدَّ اللحد ويدفن، ويرفع القبر عن الأرض قليلاً ويجعل مسلما، فإذا فرغوا من الدفن استحب أن يدعوا للميت ويستغفروا؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: {استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل}.
والقبور محترمة لا تُهان، ولا تُوطأ، ولا يُجلس عليها، ولا يُتكأ، ولم يكن من هديه عليه الصلاة والسلام ولا سنته تعلية القبور، ولا تشييدها، ولا البناء عليها، وكل هذه بدعٌ منكرة مخالفة لهديه عليه الصلاة والسلام.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله- وزوروا القبور؛ فإنها تذكر الآخرة، وأكثروا من ذكر هادم اللذات -الموت- فمن أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء:
أولاً: تعجيل التوبة.
ثانياً: قناعة القلب.
ثالثاً: نشاط العبادة.
ومن نسي الموت عوقب بثلاث:
أولاً: تسويف التوبة.
ثانياً: ترك الرضا بالكفاف.
ثالثاً: الكسل في العبادة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(11/9)
أحكام التعزية والنياحة
الحمد لله خلق فسوى، وقدَّر فهدى، وأسقم وعافى، وأمات وأحيا، وأنَّ عليه النشأة الأخرى.
أحمده سبحانه وأشكره، يُجزي كلُّ نفس بما تسعى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، هدى من الضلالة، وبصَّر من العمى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، هم المعالم على الهدى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى.
أما بعد:
فلتعلموا -رحمكم الله- أن من آداب الجنائز: الحمد والاسترجاع والرضا، قال سبحانه: {وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157]، وليقل: {اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها} وحزن القلب، وبكاء العين من طبع النفس وجبلتها لاحرج فيه ولا مآخذه، فقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، وذرفت عيناه، وقال: {إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون}.
وتحرم النياحة: وهي شيء زائد عن البكاء، من رفع الصوت، وضرب الوجه، وشق الجيب، وجذب الشعر ونشره، وفي الحديث: {ليس مِنَّا من لطم الخدود، وشقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية}
وقد برأ الرسول صلى الله عليه وسلم من الصالقة: وهي التي ترفع صوتها عند المصيبة.
ومن الحالقة: وهي التي تحلق شعر رأسها جزعاً.
ومن الشاقة: التي تشق جيبها تسخطاً.
يقول عبيد بن عمير: " ليس الجزع أن تدمع العين، ويحزن القلب؛ ولكن الجزع القول السيئ والظن السيئ ".
ومن الآداب الشرعية المرعية: تعزية أهل الميت؛ فقد جاء في خبر مرفوع: {من عزَّى أخاه المؤمن في مصيبته كساه الله حلة خضراء يحظر بها يوم القيامة، قيل: يا رسول الله! ما يحظر بها؟ قال: يغضب} فيعزيهم بما يسليهم، ويكف أحزانهم، ويحملهم على الرضا والصبر، ويأتي من الدعاء والألفاظ ما ظهر في السنة، وما لا يخالف الشرع، كأن يقول: إن لله ما أخذ، ولله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب، فأحسن الله عزاءك، وجبر مصابك، وأعظم أجرك، وغفر لميتك، وأخلفك خيراً منه، وألهمك الصبر، ورزقك الشكر، والمحروم من حرم الثواب، والمألوم من جزع لأليم المصاب.
إن لله عزاءً من كل مصيبة، وخلفاً من كل هالك، ودركاً من كل بائس، فبالله فثق، وإياه فارجُ، فإن المصاب من حرم الثواب، وإياك أن يحبط جزعك أجرك، فتندم على ما فات من ثواب مصيبتك، وإنك لو اطلعت على عظمة ما أعد الله لفضل المصابين لعرفت أن المصيبة قد قصرت عن الثواب.
يقول الحسن البصري رحمه الله: [[ما من جزعتين أحب إلى الله من جزعة مصيبة موجعة محرقة ردها صاحبها بحسن عزاء وصبر وجزعة غيظ رده صاحبها بحلم]].
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله- وتذكروا واعتبروا، ثم صلوا وسلموا على من خاطبه ربه بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] نبيكم محمد رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربكم؛ فقال عز قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة وأعداء الملة والدين، اللهم انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وعبادك الصالحين.
اللهم عافنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وأيده بالحق وأيد الحق به، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم واجمعهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك، وإعزاز دينك، اللهم انصرهم في فلسطين، وفي كشمير وفي كل مكان يا رب العالمين.
اللهم اجعل الدائرة على أعدائهم يا قوي يا عزيز.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(11/10)
ميزان السلام
إن الأمة الإسلامية عندما تركت منهج الله، وتخلت عن نصرة دين الله سلط الله عليها الأعداء، فداسوا كرامتها، وكسروا عزتها، واستضعفوها، وهذا جزاء من أعرض عن دين الله، والجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان.(12/1)
دعوة لقادة العالم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأؤمن به وأتوكل عليه، وأساله من فضله المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو على كل شيء شهيد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، شرَّفه بالعبودية والرسالة، فهو أكرم الرسل وأشرف العبيد، منصور برب العزة قبل العدد والسلاح العتيد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
حُجاج بيت الله أيها المسلمون! أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فتقوى الله أعظم ما تزودتم، وأكرم ما أسررتم، وأجمل ما أظهرتم، وأفضل ما ادخرتم، فاتقوا الله -رحمكم الله- وأعاننا الله على لزومها وكتب لنا ثوابها.
أيها الناس! من هنا من بيت الله الحرام من البقاع المقدسة بلاد الأمن والإيمان والسلام والإسلام، حيث نزل الوحي على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
من بلاد الحرمين الشريفين حيث انطلقت مبادئ حقوق الإنسان قبل أن يعرف عالم اليوم حقوق الإنسان، بل انطلقت مع حقوق الإنسان حقوق الشجر والحيوان.
من الحرم الحرام، والبلد الحرام، وفي الشهر الحرام من مواقع الصلح وحقن الدماء، من مواطن التضحية والفداء، من بلاد العفو والتسامح، حيث أطلق نبينا صلى الله عليه وسلم الطلقاء في هذا البلد الطاهر، ومن أجل كل هذه المعاني هذه دعوة لسكان العالم جميعاً ندعوهم بدعوة قرآننا وبنداء كتاب ربنا: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].
إن قادة العالم يُحدثوننا عن نظام يحفظ للعالم أمنه واستقراره وخيره وخيراته، ويمنوننا بعالم سلم وسلام، تجتنب فيه ويلات الحروب والصراعات، هذه الحروب الشمطاء، والصراعات الكريهة، الذي لا ينتصر فيها غالب، ولا يستسلم فيها مغلوب، يبشروننا بعالم يحفه السلام، ويسوده الحب والصفاء والوئام، ندعوكم دعوةً إلى ديننا، فهو إيمان وعمل، وعلم وأمان، ندعوكم للقراءة المنصفة، والاطلاع المتجرد؛ لتروا {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] ندعوكم لنظر عادل {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ:26].(12/2)
مفهوم السلام بين الزيف والحقيقة
أيها القادة أصحاب القرار أيها الناس! دعوة مخلصة وأنتم ترون الصراع في هذا العالم يتفاقم، والاستغلال يتعاظم، والمطامع لا حدود لها، والموازين لا ضابط لها، دعوة صادقة والبصير يرى أن من بيده القرار ورعاية الحقوق يسلك التعسف بالقوة ومد الذراع القوية لتنال كل من لا يوافق على المشروعات المطروحة.
إن هذا مسلك خاطئ، وظنٌ جائر، فالتعسف في استعمال القوة لن يجلب سلاماً، ولن يسكت مظلوماً، ولكنَّه تفجير لمخزون من الحقد لا يقتصر على منظمة أو حزب أو هيئة أو جهة؛ بل سينال كرامة الإنسان كرامة العربي وكرامة المسلم، بل الكرامة كلها وعزة أهل الإسلام في كل الأرجاء.
دعوةٌ من مُنطلق ديننا الحق، ومن بدهيات العقل ومسلَّماته، فمن حق المظلوم أن يدافع عن نفسه إذا سُدَّت أمامه محاولة استعادة الحقوق، لا يُلام مظلوم إذا شك في نوايا خصمه إذا كان الوسيط غير منصف لماذا يَصِلُون به إلى نقطة اليأس فيتساوى عنده الموت والحياة، وحينئذٍ لا يبقى عند هذا المسكين شيء يخشى فقدانه؟
مشاهد مُرعبة من الدماء والأشلاء والتشريد والتقتيل يستحيل أن تمحوها الأيام، بل إنه ليشب عليها الولدان، وترضعها الأمهات مع الألبان، إرهاب عسكري وسياسي واقتصادي يجري تنفيذه ويجري التخطيط لآخر مثله.
إنها دعوة مشفقة وأنتم تُكافحون الإرهاب، وتستنكرون العنف، وتدعون إلى السلم والسلام.
دعوة إلى مشاهدة استئصال الأطفال والنساء وهم في الملآجئ الآمنة، وملاذات الحمايات الدولية، من رحم هذه المآسي تتولد كل ألوان العنف والسفك وتفجير الأنفس، منها وفيها تنبت تنظيمات انتقامية التوجه، ومجموعات عدوانية النزعة، كيف تستبعدون أن يتولد من ركم الجثث إرهابيون؟
ولماذا لا يخرج من بين أنقاض البيوت متطرفون؟
معانات وتسخُّط وجورٌ وتأسف والقسوة لا يُقابلها إلا قسوة، حرب الحجارة، وتفجير الأجساد، وانتفاضة الأطفال والليالي حبالى مشحونة بالغضب والرفض والإباء، إنها حبالى غضب مكتوم، وقهر محبوس، عناقيد غضب يصبها المعتدون وحقيقتها بذور حقد لا تنبت إلا حقدًا، ولا تزرع إلا نقماً وانتقاماً، غزوٌ واجتياح، وتعديات ومظالم لا تدفع إلا إلى الإحباط وفقدان الثقة في المجتمع الدولي كله بنُظمه ومنظماته، فأي عاقلٍ متجرد يُشاهد المناظر الدامية ثم يرى أصحاب القرار وهم يُدافعون عن المعتدي، ويتلمَّسون المصوغات لتصرفاته، ويُحرمون أصحاب الحق من المقاومة ودفع العدوان؟
دعوةٌ صادقةٌ للنظر في مفهوم الأمن الذي يسعى إليه الجميع، والسلام الذي يُحبه الجميع، ويؤمن به الجميع، ويدعو إليه الجميع، هل هو يا ترى أمن طرف واحد وسلام شعب واحد؟
وهل هو حق لجهة دون أخرى؟
أي سلام لا يكون الحديث فيه إلا عن التفوق العسكري لطرف على حساب آخر؟!
أي سلام يلتزم فيه قائم على رعاية السلام بتفوق طرف على آخر؟!
هل هو سلام بمواصفات خاصة وشروط خاصة؟!
أهو سلام الغلبة والتسلط والتهديد ضد كل من لا يرضى بهذا النوع من السلام؟!
سلام يَهدم البيوت، ويُشرِّد من في الديار، ويُحاصر الشعوب، ويعتقل المئات، ويجعل رد ظلم من طرف إرهاباً ومن طرف آخر حقاً مشروعاً!
سلامٌ تكون فيه الدماء رخيصة، والحقوق مهدرة، والأرض مستباحة، والبيوت غير محترمة!
سلامٌ يتخذ العقوبات الجماعية منهجاً!
سلامٌ ينتقض السيادة، ويلغي الكرامة، ويهين العزة!
أي سلام يحول فيه المنطقة إلى منجم عمالة رخيصة وإلى سوق استهلاكية مسلوبة الإرادة؟!
سلام المراوغة، واقتناص المكاسب الاقتصادية!
سلام يثمر عنصرية وفقراً، وجوراً منظماً!
سلام من طرف لا يرضيه سوى فناء الآخر وهدِّه، وهدم اقتصاده، وتقطيع أوصاله!
إنهم يبنون سلاماً على أعواد من القصب تهتز وتتساقط كما لعبت بها رياح الغضب!
إنها دعوة إلى توضيح مفهوم السلام.
وثمة دعوة أخرى مرتبطة بها وقرينتها: إنها دعوة لأن تقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان، أين ميزان الحق؟!
إذا كان عدوان المعتدي دفاعاً على النفس، وحفظاً على أمنه وأمن شعبه، ومقاومة الشعوب للظلم والاحتلال إرهاباً وعدواناً، وتهديد لأمن الآخر وشعبه.
كيف ينقطع الظلم؟ ومتى يتوقف العدوان؟ إذا كان حقد العدو غضباً مشروعاً وغضب المظلوم إرهاباً ممنوعاً؟!(12/3)
مجزرة قانا والصمت العالمي
يغضب العالم حينما تطلق رصاصة أو تلقى قذيفة على محتل، ويتداعى العالم بصغاره وكباره إلى مؤتمرٍ عالمي للتنسيق من أجل صنع السلام ومكافحة الإرهاب والتطرف، أما مجزرة قانا والمجازر قبلها فتجري على سمع العالم وبصره، ولا أحد من ذوي القرار يدين، ولا يدعو لمؤتمر يزجرها، فبأي ميزان أجيزت مجزرة قانا؟! وبأي قانون استبيحت دماء أهل قانا؟! وبأي دستور يمنع أهل قانا ومن حول قانا من مقاومة الاحتلال؟!
ما حدث في قانا لم تفد فيه مناوشات، ولم توقفه الالتماسات، ولم تقلل من آثاره التأسفات.
أربعون ألف قذيفة وأكثر من ستمائة غارة في حربٍ شرسةٍ وعناقيد حقدٍ من أجل كسب أصوات انتخابية، يكسبون من أصوات بقدر ما يقدمون من جثث وأشلاء، يسترضون الناخب بنشر المآسي بكثرة الدماء؛ بل بدماء الأبرياء!
ميزان هذا العالم المتحضر يغرق في المساعدات في طرف بلا حدود، وفي طرف آخر إغماض وإجحاف وتجاهل بلا حدود، ازدواجية مقيتة، ومظالم سافرة، في توجهاتهم السياسية، ومسالكهم الأخلاقية، ومصطلحاتهم الإنسانية.
ميزان كفة القاتل منهم تمتلئ بالأعذار، وكفة القاتل من غيرهم إرهابي يهدم بيته، ويشرد أهله، وتُحاصر بلدته، ناهيك بميزان الضغط والتعاطف، فالضغط منصب على الضعفاء، والتعاطف يمنح للمعتدين.
أين مجلس الأمن وهيئة الأمم من شكوى الشاكين، وأنين الأرامل ماذا يقول الضمير العالمي؟!
وأين هي المقاطعة الاقتصادية على كل من ظلم وامتنع من تطبيق القرارات؟
يا قادة العالم! ويا أصحاب الرأي! إن مواجهة التطرف تتطلب تعاملاً بعدلٍ وإنصاف، وتجاهل العدل والسكوت على الظلم يُولِّد المزيد من التوتر والعنف والحروب برغم الهدوء الظاهر الممتلئ باليأس والغبن.
إن التحدي الحقيقي في البطالة والفقر والتجويع وفقدان الأمل، إن سياسات الحرمان والتجريف، والعزل والخنق، والقهر والاستغلال الممتدة على مدى السنين هي التي تُغذي التطرف وحب الانتقام وسلوك مسلك الإرهاب.
وليعلم أن المؤتمرات الدولية والقوة العسكرية غير قادرة على كبح جماح العنف، وإيقاف توريد الإرهاب، وإنبات التطرف، ولكن الحلَّ -كل الحل- في إعطاء الحقوق، ونشر العدل، وسلوك مسالك الإنصاف والتسامح، وحفظ الكرامة الإنسانية.
وإذا كان ذلك كذلك فكيف يُمكن الإقناع والاقتناع بجدوى مشروعات الصلح وضمان استمرارها إذا كانت الموازين بهذا التقلب والمصطلحات بهذا التلاعب.
هذا هو النداء، وتلكم هي الدعوة، والله من وراء القصد، والأمر لله من قبل ومن بعد، وهو سبحانه غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:60 - 64].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(12/4)
إلى متى الذل والهوان
الحمد لله ذو القدرة والملكوت، والقوة والجبروت، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو حي لا يموت، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، العزة والمجد والمنعة لمن أطاعه واتبعه، والذلة والصغار والشنار لمن عصاه وخالف أمره، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس جميعاً- ونفسي بتقوى الله عز وجل والعمل الصالح، فاتقوا الله ربكم واعملوا صالحاً إنه بما تعملون خبير.
أيها الناس! سكوت الشعوب إلى أمد، وصمت المظلوم إلى حين، وما يجري في الساحة لم يبق داراً ولا جداراً، ولم يدع لأصحاب النوايا الحسنة مقالاً، استوى الراضون والرافضون.
إن عناقيد الحقد والغضب التي انصبت على الديار أثارت تساؤلات واستفهامات:
هل الناس قد غفلوا أكثر مما ينبغي؟!
وهل القوم استسلموا لوعود معسولة أكثر مما يجب؟!
وهل تنازلوا أكثر مما يلزم؟!
وهل استمرءوا التضليل والمخادعات أكثر مما يسوء؟!
عناقيد الحقد والغضب رفعت عن المظلوم العتب لينجلي الغبار وتتقشع السحب الظلماء عن رجال يقاومون الضلال بجلد ويرفعون المظالم بمجاهدة، لا يستوحشون جو التخذيل، ولا يتخاذلون لغربة الحق، فهم لا يزالون يُؤدون ما عليهم لربهم ودينهم وأمتهم إلى أن تنقشع الغمة ويحفظ الحق المشروع، ويخرج الإسلام من محنته ناصع الصفحة، بل لعله أن يستأنف زحفه الطهور ليضم إلى قومه قوماً، وإلى رجاله رجالاً، وإلى أرضه أوطاناً.
إنهم رجالٌ يتأبون على الهزائم النازلة، ويتوكلون على الله في دفعها ومدافعتها حتى تضمحل وتتلاشى.
إن في حكمهم المأثورة، وآدابهم المسطورة: الجزع لا يُغني من القدر، والصبر من أبواب الظفر، والمنية ولا الدنية، واستقبال الموت خير من استدباره، وهالك معذور خير من ناجي فئور، والأيام حُبلى، والتأريخ له ألف عودة وعودة طالما هناك خصومٌ لا يتعظون ولعبر التاريخ لا يدركون.
ومن سنن الله المعلومة: أن الشهر -طال أم قصر- سوف يُحاسب الذين يستهترون بالدماء، ويهينون القضايا، إنهم يُساهمون في إحياء تيارات الرفض ونمائها.
لقد قال قومنا: نعم للسلام! ولم يقولوا: نعم للاستسلام والتنكيل والإهانة والانتقام، وإذا استرخص العدو الدماء فهي عند أهلها غير رخيصة، ولقد علم قومنا كما يعلم غيرهم أن الأمة التي تقبل الخنوع والذلة وتعطي من نفسها الدنية أمةٌ ماتت فيها المواهب الإنسانية العليا، وارتكست فيها الملكات اليقظة.
أي حياة تعيشها إذا هي عاشت خادمة تابعة ذليلة مهانة؟!
كل أمة تنتكس عن حمل أعباء الحياة الأبية وتضعف عن الإقدام في ساحة الفداء، وتخشى عواقب المخاطرة والجرأة، فقد حكم عليها بالذلة والموت والهوان، اسمعوا إلى قرآنكم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا} [البقرة:243].
لقد ماتوا في الديار التي عجزوا عن الدفاع عنها، وعلى الأمم النائمة أن تتحمل أوزار ما تُقاسي وتُعاني، والذي يقبل الذلة يغري الآخرين بالبغي والعدوان، وفي ذلة المظلوم عذر الظالم، وقلَّ ما يقع العدوان على ذي أنفة أو حمية.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله- واستمسكوا بعزة أهل الإيمان {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].
ثم صلوا على نبي الرحمة نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واخذل الطغاة والملاحدة، وكل أعداء الدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تُحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، اللهم أيده بتأييدك وأعزه بطاعتك، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!
اللهم ووفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمات لرعاياهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين!!
اللهم وأَبرم لأمة الإسلام أمر رُشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر إنك على كل شيء قدير.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(12/5)
نداء القدس ودروس التاريخ
أسلافنا وأجدادنا دخلوا الأمصار فاتحين، وعبروا البحار مجاهدين، وحرروا القدس من بين أيدي الصليبية الحاقدة.
أما نحن فالأندلس ضيعناها، والقدس بعناها؛ وذلك لأنا تركنا ما كان عليه سلفنا من التمسك بالدين، وذهبنا وراء الشهوات والنزوات، وكانت العاقبة أن ضيعنا أرضنا، وليس لنا سبيل إلى تحرير القدس إلا التمسك بديننا الإسلامي، وإن اليهود يحاربوننا عن دين فلا بد أن نحاربهم عن دين، لا عن قومية أو وطنية أو علمانية.(13/1)
دروس من التاريخ
الحمد لله لم يزل بالإنعام منعماً، وبالإحسان محسناً، أحمده سبحانه وأشكره يغفر ذنبنا، ويجبر كسرنا، ويغيث لهفنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو ربنا ومولانا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله بعثه منا فضلاً منه ومَنَّا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه فأبدل خوفهم أمناً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ فاتقوا الله ربكم حق تقاته، واحذروا بطشه ومقته فهو معكم أينما كنتم.
أيها المسلمون: إن التاريخ يعيد نفسه، وما أشبه الليلة بالبارحة، وما أكثر العبر وأقل الاعتبار!
إن الأمة التي لا تقرأ تاريخها ولا تستفيد من ماضيها، ولا تستفيد من ماضيها لحاضرها ومستقبلها لهي أمة مقطوعة بتة، فالماضي والتاريخ ليس مفتاحاً لفهم الحاضر فحسب، بل هو أساسٌ من أسس إعادة صيغة الحاضر وبناء المستقبل، وكتاب ربنا قد بسط لنا في أحوال الماضين، وقص علينا من قصص الغابرين؛ لأخذ الدروس واستلهام العبر {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111] {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُون} [يونس:14].
أيها الإخوة: إن سجل التاريخ هو المنار المرشد الذي يهدي -بإذن الله- ربان السفينة فيجنبه الصخور المدمرة في قاع البحار، ويقيه الأمواج العاتية فوق سطح المياه.
إن واقع الأمة اليوم في كثير من بقاعها وأصقاعها وأحوالها وأوضاعها يستدعي النظر والاعتبار، والتفكر والادكار، ولو أن المسلمين استوعبوا دروس الماضي لما أخطئوا في كثيرٍ مما أخطئوا فيه، والذي ينظر في تغيرات الأمم في مللها وأخلاقها، ويتأمل في تقلبات الدول في سياساتها واقتصادها هو أقدر على تفهم الحوادث الماضية، والتي هي صورة مشابهة لكثيرٍ من الوقائع المعاصرة.(13/2)
درس من سقوط الأندلس
أيها الإخوة: ويسهل الدرس، وتتضح العبرة، وتتجلى الصورة حين تنظر الأمة في ماضي تاريخها، لا في تاريخ غيرها، وحين تكون التجربة قد مرت بها لا بغيرها.
ومن أجل هذا فهذه دروس ووقفات مع تاريخ عجيب ودرس ثقيل، وتجربة مرة في فردوس مفقود؛ في أرض بقي فيها المسلمون ثمانية قرون، ثم خرجوا منها بل أخرجوا، وكأن لا أثر لهم فيها ولا عين ما الذي أدخلهم؟ وما الذي أخرجهم؟
ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار! وتوشك أن تشبه الليلة البارحة، إنهم أسلافنا وأجدادنا في بلاد الأندلس دخلوها بالإسلام فاتحين، وبالعقيدة مستمسكين، ومن عالي الأخلاق متمكنين لأوامر ربهم متبعين، وعن مناهيه ومساخطه متباعدين كيف دخلوا؟ يقول أحد النصارى في رسالة بعث بها إلى ملكه يصف فيها جيش المسلمين الذين عبروا إلى بر الأندلس بقيادة طارق بن زياد: لقد نزل بأرضنا قومٌ لا ندري أهبطوا من السماء، أم نبعوا من الأرض؟
إنهم القادة والملوك: موسى بن نصير، وطارق بن زياد، والسمح بن مالك، وعبد الرحمن بن حكم، وعبد الرحمن الغافقي في كوكبة من القادة والسادة.
فهاهو عبد الرحمن الداخل صقر قريش، ينزل من البحر فتهدى إليه جارية بارعة الجمال، فينظر إليها ويقول: إن هذه لمن القلب والعين بمكان، وأنا إن لهوت عنها بهمتي وبمهمتي ظلمتها، وإن لهوت بها عما أطلبه ظلمت همتي ومهمتي، ثم قال: والله لا حاجة لي بها.
لقد سار المسلمون في الأندلس في عزة وقوة ومنعة ووحدة وتماسك على هذا النهج.
يذكر ابن تغري بردي: أن المنصور بن أبي عامر كان يسهر على مصالح رعيته، وكانت متابعته لأمور رعيته تستنفذ كل وقته، حتى أنه كان لا ينام إلا سويعات متفرقات، فقيل له: لقد أفرطت في السهر وبدنك يحتاج إلى نومٍ أكثر من هذا.
فأجاب: إن الراعي لا ينام إلا إذا نامت الرعية، ولو استوفيت نومي لما كان في بيوت هذا البلد العظيم عينٌ نائمة.
هذه هي صورة القوة، وحسن الرعاية، وصدق الحماية، وحفظ البلاد، ولقد بقوا على ذلك قروناً طوالاً محافظين على دينهم، معتزين بإسلامهم، متوحدين في كلمتهم، يجسد ذلك قول بعض المؤرخين من المسلمين: بقينا في الأندلس ما بقينا مع الله، وضاعت الأندلس منا لما أضعنا دين الله.(13/3)
سبب ضياع الأندلس
لقد بدت وبدأت عوامل الضعف، وانحلت الدولة الأموية الواحدة الكبرى إلى دويلات وملوك وطوائف تنافس فيها أصحابها على السلطة، وتناحروا من أجل كراسي الحكم؛ فانتشر بينهم الغدر المستحكم، والخصام الدائم، والكيد المستمر؛ فلا همَّ لأحدهم إلا تحقيق مصالحه الذاتية، وإشباع أنانيته المفرطة، وكأن الأندلس إنما وجدت لمصلحته الخاصة مهما كان ذليل المكانة مهزوز القواعد.
إن كل تقدم حضاري، وسموٍ فكري، وثقل سياسي، وارتفاع معنوي، وعز سلطاني، إنما مرده إلى التمسك بدين الله، وهو مرهون بمقدار الالتزام بشرع الله والبعد عن الحياة اللاهية والمجون السافر والحقوق المهدرة يقول ابن خلدون: إذا تأذن الله بانقراض الملك في أمة حملهم على ارتكاب المذمومات، وانتحال الرذائل، وهذا ما حدث في الأندلس وأدَّى إلى ضياعها.
بل قد أدرك ذلك كاتبٌ من الخصوم يدون لذلك العصر فهو يقول: العرب هووا وسقطوا عندما نسوا فضائلهم التي جاءوا بها، أصبحوا على قلبٍ متقلب يميل إلى الخفة والمرح والاسترسال بالشهوات.
ألا ما أكثر العبر وأقل الاعتبار! وماذا عملت كثيرٌ من وسائل الإعلام الإسلامية اليوم؟ وكتاب ربكم يقول: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16].
أيها الإخوة: إن سنن الله في الأمم لا تتخلف، بل لقد ذكر ابن حزم شيئاً خطيراً في بيان الحال التي وصل إليها حكام دويلات الأندلس في سبيل مصالحهم الذاتية، وما يقدمونه للأعداء من تنازلات خطيرة، حتى قال: والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون الأعداء فيمكنوهم من حرم المسلمين وأبنائهم، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، فلا حول ولا قوة إلا بالله!
أيها الإخوة: إن التاريخ دروس وعبر، لقد انحرف هؤلاء الأسلاف عن دين الله، ووالوا أعداء الله، وتركوا الجهاد في سبيل الله، وقعدوا عن الدفاع عن حرمات المسلمين، وابتعدوا عن أسباب التآلف والاتحاد، وحلت الأثرة محل الإيثار؛ ثم من بعد ذلك تكالبت عليهم القوى المعادية، فتمكنت منهم ومزقتهم شر ممزق.(13/4)
الإسلام سبيل العزة
أيها الإخوة: إن نصوص الشرع ودروس التاريخ تقول: إن العرب والمسلمين بغير الإسلام لا قيام لهم، وإنهم بغير الدين لا عز لهم، فإن الإسلام وحده ولا شيء غيره هو الذي يربي ويبني ويزكي ويقوي ويزرع العزة والمسئولية {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8] ولقد جسد ذلك عمر رضي الله عنه في مقولته المشهورة: [[لقد كنا أذل قومٍ فأعزنا الله بهذا الدين، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]]
يا قومنا! لقد ابتغى طوائف من قومنا العزة والنصر والوحدة بغير دين الله؛ ابتغوها في القوميات والوطنيات، وفي البائد الفاسد من الأحزاب والانتماءات، فماذا كانت النتيجة؟ إنها الذل -ولا أبلغ من كلمة الذل- وواقع الذل في كثير من الأنحاء والجنبات.
إن قضايانا في قدسنا وفلسطيننا وكشميرنا ومواقع أخرى اختزنت الذل في ظل نداءات غير إسلامية، وما واقع هذه القضايا إلا شاهدٌ عليه أبواقٌ كانت تنفخ كاذبة، وتتاجر بهذه القضايا خاطئة ترعد وتزبد، وتحذر وتخبر بالوعود الوهمية حينما كانوا يقولون ويتنادون: تحرير كل شبر من الأرض، وتحرير كل حبة من الرمل، والنضال حتى آخر قطرة من الدم في نداءات وادعاءات صرخوا بها ونفخوا فما رأيت إلا هباءً ورماداً.
إن العرب والمسلمين حين ينبذون الإسلام وراءهم ظهرياً؛ فإنهم -والله الذي لا إله غيره- لينتحرون انتحاراً، ويطرحون سعدهم ومجدهم وطاقتهم وقوتهم.
ومن أجل استيعاب الدرس والوقفة الصادقة من أجل انطلاقة مثمرة فلنتأمل: إن كثيراً من الكتاب والمفكرين والمحللين والإخباريين الذين يتحدثون عن قضايانا في قدسنا وفلسطيننا وكشميرنا وكل حقوقنا ومغتصباتنا هل سمعتم أحداً منهم يتحدث عن الله وعن رسول الله محمدٍ صلى الله عليه وسلم؟!
هل تحدث أحدٌ منهم عن أن عمر بن الخطاب دخل بيت المقدس، وتسلم مفتاح المدينة من النصارى وليس من اليهود؟!
ما تحدث متحدثٌ منهم عن أصلنا الديني وتاريخنا الإسلامي لا يتحدثون إلا عن كنعان وميراث كنعان ألا بعداً لـ كنعان كما بعدت ثمود.
إن خصومنا هم بنو إسرائيل وأتباع التوراة! وأما بنو قومنا هؤلاء فيا ترى هم بنو من؟!
إن كثيرا ًمن بني قومنا لا يتنادون إلا باسم الأرض وحق كنعان، وبالله الذي لا يحلف بغيره إن إدارة المعركة على هذا النحو ما هو إلا ضلال استعماري مرسوم وقع فيه من وقع، في محنة نفسية وعسكرية وسياسية، لن ينالوا -والله- من ورائها خيراً.(13/5)
الحرب مع اليهود حرب عقيدة
إن بني إسرائيل يديرون المعركة ويعقدون ويبرمون باسم الدين، وباسم التوراة، وباسم التلمود، ويتنادون إلى أرض الميعاد، وثلة من بني قومنا يتنادون بـ علمانية وكنعانية إنهم لا يذكرون محمداً صلى الله عليه وسلم، ولا عمر الفاروق، ولا صلاح الدين، ولا شيخ الإسلام ابن تيمية، ولا محمداً الفاتح، ولا التاريخ المجيد كله مسحورون بالاستعمار العالمي الذي ألغى الدين وجعل الشعوب تتنادى بـ القومية والوطنية، وما جنوا من ورائها نقيراً ولا قطميراً يخرجون الإسلام من الميدان، ويبقى الذين يتنادون بالتوراة وحدود التوراة وآمالها ووعودها.
نظرة إلى الواقع الأليم في كثيرٍ من أجزاء الأمة وبقاعها، وفي رءوس كثيرٍ من مفكريها ومثقفيها وساستها ومنظريها، تكشف كم بعدت الشقة بين هؤلاء وبين شريعة ربهم، ومناهج التربية تفرض عليهم من وراء حدود، ويتحكم فيها أعداء الإسلام كما يشاءون، وإعلامهم لا يهتم إلا بإثارة الغرائز، وبث الفرقة، ونقل كفاءات الغرب ومجونه فهل على الفيلم الخليع، والغناء الوضيع، والرقص الماجن تربى أمة محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟!
إنهم مفكرون ومثقفون ومنظرون لا يعتمدون على الدين في تربية، ولا يتبنونه بتشريع، ولا يوثقون به رباطاً، ولا ينطلقون منه في تضحية.(13/6)
صور من تجني اليهود
ودرس آخر ثقيل، وموقف من الذلة شديد -أيها الإخوة- فلقد أصابنا يهود في ديننا، ونبينا، وقرآننا، ومقدساتنا، وأنفسنا وديارنا، فكلما تقدم المفاوضون معهم خطوة باتجاه السلام المرفوع زاد منهم توجيه الإهانات، وألوان الاحتقارات، وصور الإذلال للمشاعر والشعائر والمقدسات لقد حرقوا المسجد الأقصى، وحفروا من تحته الأنفاق، وصادروا الأراضي، وبنوا مغتصبات سموها مستوطنات، ثم تطاولوا وتطاولوا حتى داسوا القرآن ومزقوه تحت أقدامهم، وأهانوا نبينا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بصورهم ورسومهم إنه درس التاريخ القديم والحديث، وإن نصوص شرعنا الذي تزيدنا تمسكاً بكتاب ربنا وصحة طريقنا وإيقاناً بوعد القرآن ووعيده {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً} [النساء:45].
هؤلاء هم اليهود بطبعهم وخلقهم، وهم شاهدون على أنفسهم في الماضي والحاضر، ولا يقال هذا تجنياً، ولا تزيداً ولا ادعاءً، ولا استعداءً، فلقد آذوا موسى عليه السلام من قبل، ورموا مريم البتول عليها السلام بالإفك والبهتان، وقتلوا الأنبياء، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس، وحاولوا قتل نبينا محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتآمروا عليه، وما انفكوا طوال تاريخهم يكيدون للشعوب، فقد أحلوا الربا، وروجوا الفسوق، وأكلوا أموال الناس بالباطل، واسمعوا إلى كتاب ربكم وهو يحدثكم عنهم: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:155 - 157] إلى قوله سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:160 - 161].(13/7)
إلى أصحاب المماطلات والمفاوضات
نعم، لقد أصابونا في ديننا، ونبينا، وقرآننا، ومقدساتنا، وأنفسنا، وديارنا وإن العقل والمنطق والحكمة يقتضي أن يراجع ذوو الشأن من قومنا هذه المماطلات والمماحكات في المفاوضات، ويعلنوا موقفاً واضحاً من السلام الشامل العادل الذي يعيد المغتصب ويخرج المحتل ويرد المشردين ويخرج المعتقلين لا بد من ربط السلام بالإسلام، فبالله نحلف أنه لن يقوم سلامٌ ما لم يحترم الإسلام ويعرف له قدره في الماضي والحاضر والمستقبل، أما أن يستمر اليهود المحتلون، يحرثون ويزرعون ويمتدون، ويغتصبون تحت وابل القذائف اللفظية العربية الثقيلة التي لا تحرر أرضاً، ولا تعيد حقاً، ولا تحمي طفلاً، ولا تبني بيتاً، ومجلس الأمن الذي يضرب بحق النقض كل ما يعارض مصالح المحتلين، فهذا مالا يمكن أن يحقق سلاماً.
ومن جانب آخر فإن الإنصاف يقتضي القول الجازم العاقل أنه لا يمكن أن يكون القتل العشوائي طريقاً للسلام، ولا يكون الاعتداء على غير الغاصبين المحتلين طريقاً للسلام، لكن لابد أن يعلم أن الكبت لابد أن يولد انفجاراً، وأن طمس الحقائق لابد أن يولد عنفاً يجب أن يعي كل عاقل أن هناك حدوداً للقهر والظلم فلا يضيعوا فرص السلام الحقيقي العادل وإن الأمة لتغار على دينها، وتثأر لكرامتها، ولا يمكن أن تكون القضية نهباً لعمليات الطرح والقسمة على موائد الطامعين واللئام!
إنها ليست ورقة باهتة يلقى بها على موائد المفاوضات، إنها قضية كبرى تتمرد على الوقت الذي تحصره كتابة سياسية أو تحليل آلي، إنها بقعة مباركة من أرض الله وديار المسلمين تمتد في تاريخ الأمة الإسلامية جمعاء، وتتصل بجذورها وضمائر أجيالها إنْ قصَّر مسئول أو تقاعس جيل فإن القضية أكبر من ذلك وأكبر، إنه نداء متصل من أجل إنصاف القضية وإقرار العدل على الأرض والشعب والقضية {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:138 - 141].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إن ربي قريب مجيب.(13/8)
المستقبل للإسلام
الحمد لله وحده، لا شيء قبله ولا شيء بعده، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة! رغم مظاهر القساوة والعتاوة التي توحي بها مشاهد الحاضر المهزوم، والمستقبل الغامض المأزوم، ورغم تكدُّس معالم الفشل في كثيرٍ من الأنحاء، وفي ظل الانحراف الفكري المنهزم رغم كل هذا فإن المسلم المتعلق بربه، المؤمن بوعيده ووعده، والمتبصر بالسنن ونواميس الكون، يرى من وراء ذلك كله فتحاً قريباً، وليس هذا تحدثاً من سياسة قاصرة، ولا من منطق وهمٍ زائل، ولا هو من معطيات واقع مرير، ولكنها روح الأمل الدافع، والفأل الدافق الذي تغرسه في أهل الإسلام حقائق الوحي، وهداية النبوة المحمدية الخاتمة، وشواهد التاريخ فلن تضيع بإذن الله قدسنا، ولا فلسطيننا، ولن تضيع قضايانا، ولن تضيع قضايا وراءها مسلمون مؤمنون.
إن القرآن الكريم والسنة المطهرة والتاريخ المحفوظ، يحدثوننا وينبئوننا أن أمة الإسلام أمةٌ متجددة وعودة، كالغيث لا يدرى الخير في أولِّه أو في آخره، إنها أمة غير منقطعة بل متصلة مستمرة بإذن الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها يقول صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى} فلا تضعف في جانب إلا وتقوى في جانب، ولا تنهزم في ناحية إلا وتنتصر في أخرى، واستقراء التاريخ يؤيد ذلك؛ من خلافة الراشدة، ثم دولة أموية وعباسية، وبعدها دول، من بعدها دول والهجوم على ديار الإسلام، ويقيض الله له من يرده على أعقابه من التتار والصليبيين، وظهر الغزنويون في الهند وأفغانستان، واستعصت القسطنطينية على الأمويين، ولكنها فتحت للعثمانيين بعدما يزيد على سبعة قرون، فتحققت بشارة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وحينما خرج المسلمون من الأندلس كان الإسلام قد توغل في أقطار أفريقيا، وشرق أوروبا، وفي جنوب شرق آسيا، وفي جزر أندونيسيا.
عباد الله: هذا هو التاريخ، وهذه دروسه، وتلك هي سنن الله في الغابرين والحاضرين، فأبشروا وأملوا، وبدينكم فاستمسكوا، وربكم غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ثم صلوا وسلموا على نبي الرحمة والملحمة، فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عزَّ قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين،
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، ودمر أعداء الملة وجميع أعداء الدين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم انصر إخواننا المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كشمير وفي كل مكان يا قوي يا عزيز، اللهم واجعل الدائرة على أعدائهم، يا قوي يا عزيز!
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(13/9)
نظرات في الوقف
الوقف صورة من صور الإحسان الكبرى، وقد كان للوقف أهمية عظمى في حياة الصحابة رضوان الله عليهم، وقد كان الصحابة يوقفون أحب الأموال إليهم، والأوقاف لا تقتصر على سد حاجة الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام فقط، بل يتعدى الوقف إلى بناء المساجد والمستشفيات والمشاريع الإنمائية، وكفالة طلاب العلم.
ويجب على من أراد أن يوقف مالاً في سبيل الله أن يحذر أن يوقف شيئاً لأمور لا ترضي الله جلَّ وعلا، وعلى من تولوا أمور الوقف أن يتقوا الله، ويحفظوا الأمانة المنوطة بأعناقهم.(14/1)
الوقف صورة كبرى من صور البر والإحسان
الحمد لله، الحمد لله على عظيم بره وجزيل إحسانه، أحمده -سبحانه- حمداً يليق بكماله وجلاله وسلطانه، وأشكره على فضله وجوده وامتنانه، شكراً لا يحصيه متحدثٌ بلسانه، ولا بليغٌ ببيانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تبلغ الفردوس من جِنانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله الداعي إلى سبيل الله ورضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأنصاره وأعوانه، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ، فاتقوا الله -رحمكم الله- فتقواه سبحانه هي الذُّخر الباقي، والدرع الواقي، من اتقى الله وقاه، ومن اعتمد عليه كفاه، ومن لاذ به حفظه وحماه.
أيها المسلمون: الإسلام دين الكمال والشمول، كمال وشمول يُساير متطلبات الفرد، وحاجات الأمة، ويُحقق العزة والكرامة لأهل الإسلام في دارهم الدنيا والآخرة، دينُ حقٍّ جاء بكل ما يُوثِّق عُرى التواصل بين المسلمين، ويقوِّي آواصر التكافل بين المؤمنين، حوى كل سُبل الخير، وشمل جميع أنواع البر: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2].
لكي يتجسد هذا التعاون، وتتجلى صور البر والتكامل، فليتأمل المتأمل! فيما وضع الله في الناس من مواهب وقدرات، لقد قسَّم سبحانه بينهم تلك المواهب والقدرات: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32].
الناس بحكمة الله ورحمته وعدله يختلفون في مواهبهم وطاقاتهم وعقولهم وجهودهم وهِمَمهم وأعمالهم، منهم من يفتح الله على يديه: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:3] يوسع عليه رزقه، ويبسط له في ماله، وفئات أخرى قد قُدِّر عليها رزقُها، وقلَّت مواردها، إما لنقصٍ في قُدراتها، وإما لعجزٍ في مدركاتها، وإما لإعاقاتٍ في أبدانها، فيها الصِّغار والقُصَّار، وفيها أصحاب العاهات والإعاقات، لا يقدرون على مباشرة حرف، ولا يحسنون صنائع.
إن التكافل في أجلى صوره، والتعاون في أوضح معانيه، يتجلَّى في رعاية أحوال أصحاب هذه الفئات العاجزة، والقدرات القاصرة، في أبدانها وعقولها عاجزة عن تحصيل المال، غير قادرة على موارد الكسب، إنَّ لهذه الفئات نصيباً في أيدي قادرين، وحقاً في هذه الأموال المتكاثرة والثروات المتنامية.
وإن الإحسان في الإسلام واسع الأبواب، متعدد الطرق، متنوع المسالك: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177].
أيها الإخوة: وهذه وقفة مع صورة كُبرى من صور البر والإحسان في الإسلام، صُورة تُغطِّي جانباً من جوانب التكافل، وتُعالج معالجةً حقيقةً كثيراً من حاجات المجتمع واحتياجاته.
صورة تبرز ما للمال من وظيفةٍ اجتماعية تحقق الحياة الكريمة، وتدفع وطأة الحاجة، وينعم المجتمع كله بنعمة الأُخوة الرحيمة، والألفة الكريمة.
صورة يجد فيها العاجز المحتاج في مجتمعه مَن يُشاطره آلامَه وهمومَه، ويفرج عنه أحزانَه وغمومَه.
تلكم هي -أيها الإخوة-: الأوقاف والأحباس.
الأوقاف تبرز التعاون بنوعَيه، وتجسد التكافل بمسلكَيه:
1 - التعاون بين عموم المسلمين.
2 - والتكافل بين الأسر والأقارب.
الوقف من أفضل الصدقات، وأجلَّ الأعمال، وأبرَّ الإنفاق، وكلما كان الوقف أقرب إلى رضوان الله، وأنفع لعباد الله، كان أكثر بركة وأعظم أجراً.
الوقف في الدنيا بر الأصحاب والأقارب، وفي الآخرة تحصيل الثواب وطلب الزلفى من رب الأرباب عز وجل.
الوقف انتفاع دارٌّ متواصل على طبقات المحتاجين، من الأقربين والأبعدين، من الأحياء والميتين إنه عمل صالح، ومسلك رابح.
الأوقاف تُجسِّد مسئولية القادرين على القيام بمسئولياتهم: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77] إحسانٌ بالقول والمال والعمل.
في الوقف ضمانٌ لحفظ المال، ودوام الانتفاع به، وتحقيق الاستفادة منه مُدَداً طويلة، وآماداً بعيدة.(14/2)
حرص الصحابة على وقف أموالهم قربة إلى الله
من أيام الإسلام الأولى بادر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقف نفيس أموالهم، وتحبيس عزيز دُورِهم وعقارهم.(14/3)
عمر بن الخطاب يوقف أنفس مالٍ له
هاهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في طرق الخير ووجوه البر قائلاً: {يا رسول الله! إني أصبتُ مالاً بـ خيبر، لم أُصِبْ مالاً أنفس عندي منه، فما تأمرني؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إن شئت حبَّسْتَ أصلها وتصدَّقت بها، غير ألا يُباع أصلُها ولا يُوهَب ولا يرد، فتصدق بها عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضعيف، لا جناح على من وَلِيَها أن يأكل منها بالمعروف، أو يُطْعِم صديقاً غير متمول فيه} متفق عليه.(14/4)
أبو طلحة ينفق أحب ماله على أقاربه
وهذا أبو طلحة رضي الله عنه كان أكثر أنصاريِّي المدينة مالاً من نخل، وكان أحب ماله إليه بَيْرُحاء، مستقبلة المسجد، وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: {لما نزل قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله! إن الله يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] وإن أحب أموالي إليَّ بَيْرُحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عنده، فضعها حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بَخٍ بَخٍ، ذاك مال رابح -أو رائح- وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، قال أبو طلحة: أفعل ذلك يا رسول الله؟ فقَسَّمَها أبو طلحة في أقاربه وفي بني عمه}.
ووقف أبو بكر رضي الله عنه رِباعاً له بـ مكة على الفقراء، والمساكين، وفي سبيل الله، وذوي الرحم القريب والبعيد.
ووقف عثمان، وعلي، والزبير رضي الله عنهم أجمعين.
ووقف من أمهات المؤمنين: عائشة، وأم سلمة، وصفية، وأم حبيبة رضي الله عنهن.
وخالد رضي الله عنه احتبس أدْرُعَه وعتاده في سبيل الله.
يقول جابر رضي الله عنه: [[ما بقي أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له مقدرة إلا وقف]].
ويقول الإمام الشافعي رحمه الله: "لقد حفظنا الصدقات من كثير من المهاجرين والأنصار، لقد حَكَى لي عدد كثير من أولادهم وأهليهم أنهم لم يزالوا يلُون صدقاتهم حتى ماتوا، ينقل العامة منهم عن العامة، لا يختلفون فيه".
وسار من بعدهم الأغنياء والموسرون من المسلمين، فأوقفوا الأوقاف، وأشادوا الصروح، بنوا المساجد، وأنشئوا المدارس، وأقاموا الأربطة.(14/5)
دوافع الوقف
ولو تأملتَ دقيق التأمل! لرأيت أن هؤلاء القادرين الأخيار، والأغنياء الأبرار، لم يدفعهم إلى التبرع بأنْفَس ما يجدون، وأحب ما يملكون، ولم يتنازلوا عن هذه الأموال الضخمة والثروات الهائلة إلا لِعِِظَم ما يرجون من ربهم، ويُؤمِّلون من عظيم ثواب مولاهم، ثم الشعور بالمسئولية تجاه الجماعة والأقربين، يدفعهم كل ذلك إلى أن يرصدوا الجزيل من أموالهم ليستفيد إخوانهم أفراداً وجماعات، جمعيات وهيئات، أقرباء وغرباء.
وثمة دافع آخر وهو: الدافع الأسري العائلي؛ إذ تتحرك عنده مشاعر القُربى، وعواطف الرحمة، فيندفع ليؤمِّن لذريته مورداً ثابتاً يعينهم على نوائب الدهر، وتقلبات الزمن، فيحميهم -بإذن الله- من الفاقة، أخذاً من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: {إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس} بل إن من هؤلاء الأغنياء الحكماء قد يتوجسون خيفة من أن بعض الذرية لا يحسن التصرف في الثروة، أو يخشى عليهم الخلاف والنزاع والفرقة، فمن أجل مصلحتهم ومصلحة ذرياتهم وأقاربهم يُوقفون بعض الأعيان والأصول ليحفظ الثروة من الضياع، ويكف الأيدي من التلاعب، وبهذا يكون النفع مستمراً، والفائدة متصلة غير منقطعة.
قال بعض أهل العلم: الوقف شُرِع لمصالح لا توجد في سائر الصدقات، فإن الإنسان رُبَّما صرف مالاً كثيراً ثم يُفنى هذا المال، ثم يحتاج الفقراء مرة أخرى، أو يأتي فقراء آخرون فيبقون محرومين، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيءٌ حبساً للفقراء وأبناء السبيل، يُصْرَف عليهم من منافعه ويبقى أصله.
في الوقف تطويل لمدة الانتفاع من المال، فقد تُهَيَّأ السبل لجيلٍ من الأجيال لجمع ثروةٍ طائلة، ولكنها قد لا تتهيأ للأجيال التي بعده؛ فبالوقف يمكن إفادة الأجيال اللاحقة بما لا يضر الأجيال السابقة.(14/6)
الوقف مجالاته واسعة وميادينه متعددة
أيها الإخوة: والأوقاف والأحباس ليست مقصورة ولا محصورة في الفقراء والأقربين، ولكنها أوسع من ذلك وأشمل.
لقد كان للوقف أثراً عظيماً في نشر الدين، وحمل رسالة الإسلام، ونشاط المدارس، والحركة العلمية في أقطار المسلمين وأقاليمهم، في حركة منقطعة النظير غير متأثرة بالأحداث السياسية والتقلبات الاجتماعية، فوفَّرت للمسلمين نتاجاً علمياً ضخماً، وتراثاً إسلامياً خالداً، وفحولاً من العلماء برزوا في تاريخ الإسلام؛ بل في تاريخ العالم كله.
في الوقف: تحقيق مصالح للأمة، وتوفير لكثير من احتياجاتها، ودعم لتطورها ورقيها وصناعة حضارتها.
إنه يوفر الدعم المادي للمشروعات الإنمائية والأبحاث العلمية.
إنه يمتد ليشمل كثيراً من الميادين والمشروعات التي تخدم في مجالات واسعة وميادين متعددة ومتجردة.
إن المساجد ما كانت لتُعْمَّر وتنتشر هذا الانتشار في تاريخ الإسلام كله إلا بطريق الأوقاف أوقاف يُصْرَف ريعها من أجل حفظ كتاب الله وكتابته وطباعته ونشره، ويُصْرَف في الدراسات القرآنية, وخدمة علوم السنة وسائر فروع علوم الشريعة.
الأوقاف دعامة من الدعامات الكُبرى للنهوض بالمجتمع، ورعاية أفراده، وتوفير الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية.
بالأوقاف تُبْنَى مَصَحَّات ومستشفيات، يُراعى فيها أحوال الفقراء وذوي الدخول المتدنية.
تُشاد بها دور وملاجئ وأربطة تحفظ اليتامى، وتؤوي الأرامل، وتقي الأحداث مصارع الضياع، نُزُلٌُ وفنادق تؤوي المنقطعين والمحتاجين من الغرباء وأبناء السبيل، مؤسسات إغاثية ترعى المنكوبين من المسلمين في كل مكان، صناديق أوقاف لإعانة المعسرين وتزويج غير القادرين.
تقوم على الأوقاف مدارس وجامعات، وعلوم وأبحاث، ذوو اليسار والغنى، يمدون المؤسسات والصناديق الوقفية بأموالهم، والخبراء والمتخصصون والمتفرغون الموثوقون يديرون هذه المؤسسات والصناديق بشروط دقيقة، وأنظمة شاملة، على ما يقتضيه الشرع المطهر.
أيها المسلمون: إن الإسلام بتاريخه وحضارته قد تميزَّ فيما تميز بما أبرزه المسلمون من أوقاف على مساجدهم ومدارسهم وطلبة العلم فيهم، وذوي الحوائج منهم، مما كان له الأثر البالغ في نشر الإسلام، وتنشئة المسلمين على العلم والصلاح، وحفظ كرامة المحتاجين، ورعاية الأقربين، وحفظ أصول الأملاك، فأغنت -بإذن الله- وأغاثت وأعفَّت وعاشوا أعزة لا يمدون يداً للئيم.
وبعد أيها الإخوة: ففي نظرة عاقلة متبصرة يتبين أن مال الإنسان ما قدَّمه لنفسه ذخراً عند ربه: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94].
وفي الحديث الصحيح: {يقول ابن آدم: مالي مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدَّقت فأبقيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس}.
وفي الحديث الآخر: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به بعده، أو ولد صالح يدعو له} والإنسان ينتقل من دنياه غنياً عما خلف، فقيراً إلى ما قدم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة:272].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(14/7)
نصائح تتعلق بالوقف
الحمد لله على ما هدى، والشكر له على ما أنعم وأولى، أستغفره وأتوب إليه، يعلم السر وأخفى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تُقرب لديه الزلفى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأصفياء، وأصحابه النجباء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ومن سار على نهجهم واقتفى.
أما بعد:(14/8)
الوقف بين القُرب والبدع
فاتقوا الله -عباد الله- وليتقِ الله الواقفون ونُظَّار الأوقاف، وليتحرَّ الواقف في وقفه أن يكون مما يُتَقَرَّب به إلى الله عز وجل، مبتعداً عن المبتدَعات والمحرَّمات، وإقامة مواسم البدع، مبتغياً في وقفه مرضاة الله، متبعاً سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، معظِّماً حرمات الله.
وليحذر مما يفعله بعض الواقفين من المقاصد السيئة الذين يجعلون من الوقف ذريعةً لحرمان بعض الذرية، فيحرِمون البنات، أو يجعلون القسمة ضيزى بين الذكور والإناث: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9].
لقد كثرت هذه المآثم حتى شوَّهت الأوقاف، وأخفت في بعض الأحيان خيراتها ومنافعها، ولقد ظهر شيء من هذا الانحراف في أواخر عهد الصحابة رضوان الله عليهم حتى قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها منكرة على هؤلاء فعلتهم قالت: [[ما وجدت للناس مثلاً اليوم في صدقاتهم إلا كما قال الله عز وجل: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام:139] والله إنه ليتصدق الرجل بالصدقة العظيمة على ابنته فتُرَى غَبارَة -أي: نضارة- صدقته عليها، وتُرَى ابنته الأخرى، وإنه لتُعْرَف عيها الخصاصة -أي: المجاعة وشدة الحاجة- لِما أبوها أخرجها من صهرته]].(14/9)
يا نظار الوقف! الزموا الأمانة واحذروا الخيانة
أما نُظَّار الأوقاف والمتولُّون عليها فقد سلَّطهم الله على هذه الأوقاف ومكَّنهم منها، فليتقوا الله في ما عَهُد إليهم وما ائتمنوا عليه من أموال المسلمين، وليحذروا غضب الله وسخطه {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} [الشعراء:88]، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52].
يا نظراء الأوقاف! إن في أعناقكم صِغاراً وقُصَّاراً، وعجزة وأرامل، لا يحسنون التصرف في الأموال، ولا يقدرون على الإحسان بالأعمال، بل لعلهم لا يعرفون ما الذي لهم، إن في أماناتكم فقراء في أشد الحاجة إلى سد العَوَز.
أيها الإخوة: إن الخونة من النُّظَّار ومتولي الأوقاف أشد جُرماً من اللصوص وقطَّاع الطريق.
إن اللص يحتال ويسلب من غيره؛ ولكنَّ هذا الخائن يسلب مما هو مؤتَمَن عليه، اللص ضرره على الأحياء، أما هذا الخائن فضرره على الأحياء والأموات، اللص لا يسطو في الغالب إلا على مَن هم مظنة الغنى والثراء، أما هذا المجرم الأثيم فيسطو على حقوق الأرامل واليتامى والمساكين، يقطع ما أمر الله به أن يوصل.
ما أعظم ذنب الخونة هؤلاء! وما أشد وزرهم! جعلوا غلات الأوقاف نهباً لهم ولمن حام حولهم؛ فنُهِبَت الأراضي، وخُرِّبت الدور، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
وعلى قضاة المسلمين -وفقهم الله وأعانهم- أن يولوا الأوقاف مزيد العناية في أهلها ومستحقيها وأصولها ونُظَّارها ومتوليها.
والمسلمون كلهم في الحق متضامنون ومتعاونون، وعلى دفع الظلم والإثم متآزرون، والجميع غداً بين يدي الله موقوفون، وبأعمالهم مجزيون، وعلى تفريطهم نادمون: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
هذا وصلوا وسلموا على المبعوث رحمةً للعالمين، النبي الصادق الأمين، فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عز قائلٍ عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، والخلق الأكمل، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، وانصر عبادك المؤمنين.
اللهم انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وعبادك المؤمنين.
اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، وأصلح له بطانته، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد، يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُذَلُّ فيه أهل معصيتك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم وأصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم انصر المجاهدين الذين يُجاهدون في سبيلك، ولإعلاء كلمتك، وإعزاز دينك.
اللهم انصرهم في فلسطين، وكشمير، وكوسوفا وفي كل مكان يا رب العالمين.
اللهم انصرهم وأيدهم وأعنهم ولا تعن عليهم، واجعل لهم من لدنك ولياً ونصيراً ومعيناً وظهيراً.
اللهم واخذل أعداءهم، واجعل الدائرة عليهم، واجعل كيدهم في نحورهم يا قوي يا عزيز.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(14/10)
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه
لقد حذر الشارع الحكيم من الهوى واتباعه، وبين أن بعض المتبعين للهوى قد اتخذوه إلهاً، وعلَّق سبحانه وتعالى فساد السماوات والأرض باتباع الأهواء، ومن القضايا التي قام الشيخ بتوضيحها، بيان أن حق الاختيار والتشريع لله، وأن الاستجابة لا تكون إلا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.(15/1)
آيات منذرة من اتباع الهوى
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله بعثه بالهدى، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجعلنا على المحجة البيضاء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأصفياء، وأصحابه الأتقياء، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وسار على نهجهم واقتفى.
أما بعد:
فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
أيها الإخوة: أحييكم بتحية الإسلام، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
إن هذا التقديم الذي قدم به فضيلة الشيخ مرحباً ومبدياً التحايا والترحيبات -وقبل ذلك لقيت ترحيباً حاراً غمرني وأخجلني- من أهل هذا البلد المضياف الطيب الكريم، وهو غير مستغرب منهم ولا فيهم، فهم أهل الكرم والخير والفضل، فشكر الله لهم، وأجزل لهم المثوبة، وأخص بالذكر-: {ومن لا يشكر الناس، لا يشكر الله} كما جاء في الحديث- نادي مرخ الرياضي، فقد كنا باستضافته الليلة الماضية ولا زلنا، ورأينا فيه أموراً طيبةً ومشجعة، فحق على أهل العلم، وعلى أهل الدعوة أن يشاركوا بتوجيههم في مسيرته الطيبة الخيرة، ليكون على النحو المرضي الذي يسر أهل الخير، فلهم مني خالص الشكر وجميل الثناء.
أيها الإخوة: الحديث الذي رُغب مني أن أتقدم به إليكم، وهي كلمات في هذا البيت من بيوت الله، حول الهوى - ونعوذ بالله من اتباع الهوى- وقد قدم فضيلة الشيخ، وأشار إلى عظم هذه المسألة، وأهمية هذا الأمر، وقد سمى الله عز وجل بعض المتبعين للهوى أنهم قد اتخذوه إلهاً في آيات كثيرة.
ومن هنا فإن هذا الحديث سوف يكون مشتملاً على عدة أمور لعل فيها جمعاً لهذا الموضوع، وإلا فهو واسع، ومن هذه الأمور التي سوف تعرض في هذا اللقاء استعراض بعض الآيات في الهوى، واتباعه والتحذير منه ولا سيما أهله، ومنه كذلك تقرير أن حق الاختيار، وحق الأمر والنهي هو لله وحده.
فإذا تقرر هذا وعلم المسلم أن الله وحده له حق الخلق، فليعلم أن الله وحده له حق الاختيار، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68].
وهذا الأمر إذا استقر في النفوس، واستيقنته القلوب، حينئذٍ يتبين كيف يصيب الشطط أصحاب الهوى، وأتباع الهوى، ثم بعد ذلك نتكلم عن الاستجابة لله ولرسوله، وأنه لا تتحقق الاستجابة إلا بالتجرد من الهوى، وأن من انقاد إلى الهوى فقد جانب الاستجابة لله ولرسوله بمقتضى قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50].
ثم بعد ذلك نشير إلى شيء من الشهوات والشبهات الصادة عن سبيل الله عز وجل، والقائدة إلى الهوى، ثم نبين مواطن يتبين فيها امتحان الهوى، وكيف يتحسس المسلم هل هو متبع لهواه أم ليس متبعاً لهواه، ثم النقطة الأخيرة لصور من اتباع الهوى، بحيث إنه حينما يشعر بها المسلم ويراها يكون عنده ميزان، هل هو متبعٌ لرغبات نفسه، أم متبع لقول الله وقول رسوله في أمور قد تشتبه، لكن حينما أنقلها لكم -كما صورها العلماء- فإني لا آتي بجديد، وأنا حريص على أن أكون متصلاً بكتب أهل العلم، فأغلب ما سوف تسمعونه هو من كلام السلف رحمهم الله، وأخص شيخ الإسلام والإمام شمس الدين ابن القيم رحمه الله، وقبله الإمام ابن الجوزي.
من الآيات التي فيها ذكر الهوى وسوء اتباعه وصفة متبعيه ومصيرهم قوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23] وسوف تأتي إشارة إلى منهج المصطفى صلى الله عليه وسلم، والسر في قوله تعالى في أول السورة: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2] وجاء في ثناياها: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم:23] ومن ذلك قوله تعالى: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:135].
إذاً: فإن مقابل الحق القسط والحكم بالعدل: الهوى؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:135].
ومن ذلك قوله تعالى مبيناً حال الفريقين -فريق الجنة وفريق السعير-: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 41].
إذاً: إيثار الحياة الدنيا، والطغيان المادي نتيجة الثرى مظهر من مظاهر اتباع الهوى، أما من خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى، وهذا أيضاً في مسلك من مسالك أهل العلم -نسأل الله السلامة- {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف:175 - 176].
فإذاً قد يكون من مسالك أهل العلم- نسأل الله السلامة- ما يقود إلى الهوى، وسوف نشير إلى ذلك في ثنايا الحديث، ومن ذلك أيضاً قوله تعالى في خطابه لنبيه موسى: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:16].
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:43 - 44] وهذا شأن الكافرين مهما كان عندهم من العلوم، ومهما كان عندهم من المعارف، وكذلك المنافقون؛ بل حتى العصاة أثناء مزاولة المعاصي، فهم متبعون أهواءهم، مغلقون عقولهم، بل عقولهم مطبوع عليها أثناء الإتيان للمشتهيات، حتى قال صلى الله عليه وسلم: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن(15/2)
تقرير أن حق التشريع لله
إذا كان الأمر كذلك، وإذا كان هذا هو شأن اتباع الهوى، وما يؤدي إليه الهوى؛ فعلينا أن نقرر حقيقة لا بد أن ننطلق منها، وعلى ضوئها يكون بعدنا وقربنا من الحق، يقول الله عز وجل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68] ومن إعجاز القرآن الذي يدل على أنه حق من عند الله، ولا تنقضي عجائبه أن هذه الآية هي في نفس السورة التي يقول الله فيها: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50].
فما هي المناسبة بينهما عندما قال الله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50] وقال بعد السياق: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] ثم بعد آيات تأتي قصة قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أشَدُّ قُوَةً وَأكْثَرُ جَمْعاً} [القصص:78]؟ فتفسيرات وتبريرات كل فيها مخالف للحق، ومتبع فيها الهوى والرغبات والشهوات، وخاصة شهوة المال، وكذلك شهوة الحكم والاستعلاء عند فرعون، فالآيات التي في سورة القصص كلها تتكلم عن سلطان الحكم، وسلطان المال ممثلاً في سلطان قارون، فالسورة هذه فيها عجائب، وفيها هاتان القاعدتان: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50] وفيها: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68].
عند تقرير حق الاختيار لله يتبين لنا مسالك أهل البدع، ومسالك أهل الأهواء، وذلك أن الله عز وجل يقول: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] ولاحظ أن الله قرن الخلق بالاختيار.
إذاً: الخلق مسلَّم، والناس يعلمون أن الخالق هو الله وحده، ولم يدع أحدٌ أنه يخلق أو يرزق، والمشركون مقرون لله عز وجل بتوحيد الربوبية، وأنه هو الخالق الرازق، المحيي المميت، منزل الغيث إلى آخره كما أن له حق الخلق، ولهذا قال: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] ليس لأحد من خلق الله مهما كانت منزلته، ومهما كان مقامه الخيرة من أمره، سواء كان ملكاً أو نبيناً أو ولياً، فكيف بمن دونه من أهل علم أو دونهم؟!
فالاختيار لله في أمر التشريع بأمر التوجيه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] ثم قال: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68].
إذاً: من أعطى الاختيار لغير الله، أو أعطى لغير الله حق الاختيار فهو مشرك كمن أعطى حق الخلق لغير الله.
وأكثر ما ينصب هذا الأمر على العبادة التي هي محض حق لله وحده، أما في أمور الدنيا فقد جعل الله عز وجل للناس فيها نوع اختيار، والأصل فيها الإباحة، لكن في العبادات، الأيام أيام الله، والبلاد بلاد الله، فاختار الله عز وجل أماكن وجعلها أشرف البقاع، فليس لنا أن نضفي على أي بقعة قداسة، ولا نعتقد فيها أي بركة إلا بمقتضى النص، ومن ذلك أن الله عز وجل خص مكة وشرفها، وبين ذلك في كتابه، وبينه لنا رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:96 - 97].
والمدينة شرفها الله، وأخبر نبينا صلى الله عليه وسلم ما فيها من الفضل، وبيت المقدس الله عز وجل أخبر عن فضله، فقال سبحانه وتعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1].
فالبركات لا نعرفها إلا بمقتضى ما أخبرنا الله عز وجل ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فحق الاختيار، أن يختار هذا المكان ليكون أطهر البقاع، وذلك المكان ليكون فيه مزيد فضل، وليس لنا أن نقول: إن تلك البقعة مباركة أو مقدسة، أو فيها فضل أو حسنات، هذا فيما يتعلق بالأماكن.
أما الذي يتعلق بالأيام والشهور والساعات فالأصل أن الأيام أيام الله، وأنها متساوية إلا إذا جاء خبرٌ من الله عز وجل في كتابه، أو خبرٌ عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم يقول فيه: إن هذا فيه مزية، وقد جاءت أيام لها مزايا، وشهور لها فضائل، تختلف عن الأشهر الأخرى، فشهر رمضان له فضل، فمن أدى فيه نافلة كان كمن أدى في غيره فريضة، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهذا فضل عظيم، ولا نستطيع أن نقول: إن هذا في شوال، أو صفر، أو ربيع، ثم في نفس رمضان هناك أيام تفضل، فالأيام العشر الأخيرة أفضل من بقية أيام رمضان، وليلة القدر أفضل الليالي كلها.
إذاً: هذه كلها لا نعرفها بالاجتهاد، ولا نعرفها بالعقل، إن فعلنا هذا سلكنا جانب البدع، وحينئذٍ البدع هي بمستحسنات عقولنا، أي: بأهوائنا، وهذا اتباع للهوى ولا محالة.
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أخبرنا، أن ليومي الإثنين والخميس مزيد فضل بالصيام خاصة، وليس فيه مزيد فضل الصدقة.
ويوم الجمعة له مزيد فضل -لكن لا يصام- وفضله في ساعة الإجابة التي فيه، وفي كثرة الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى حسب ما ورد في النصوص، إذاً: لا نجتهد فنقول: يوم الجمعة فاضل فنحن نتصدق فيه ونصوم، لا.
فالفضل إنما يتأتى بمقتضى النص.
فيوم الإثنين فضله في الصيام، ولهذا لا يمكن أن يحتج علينا أحد ويقول: يوم الإثنين هو يوم ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، إذاً: فكل أيام المولد له صلى الله عليه وسلم نحتج بها، نقول: لا.
الفضل في يوم الإثنين هو للصيام، ولا نضع ولائم، ولا احتفالات، ولا زيادة صدقات.
إنما نقتصر في التعبد على النص، وليس لنا أن نختار.
ومثل هذا حفل يوم الخميس ويوم الجمعة، وصيام ست من شوال هذا خاص، ولا نصو(15/3)
الاستجابة لله ولرسوله
قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50] إذاً الأمر مقسوم إلى طريقين: إما الاستجابة لله ولرسوله، وإما اتباع الهوى لا محالة: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50].
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] وكما ورد في الحديث: {لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به} والحديث فيه مقال.(15/4)
علاقة المحبة بالاتباع
ولا مانع أن نقف قليلاً عند موضوع المحبة لأنها تقيد موضوع الهوى، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في حديث أنس في البخاري: {ثلاثٌ من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار}.
إذاً: قضية المحبة لا شك أن للنفس فيها مدخل، والله عز وجل وضع في فطر الناس أن يحبوا أشياء، والله سبحانه وتعالى حينما استخلفهم في هذه الدنيا وسخر لهم ما سخر، واستعمرهم فيها -أي: طلب منهم عمارتها- هيأ لهم الوسائل والأسباب، وغرس في فطرهم محبة الدنيا والأموال والأولاد والأزواج والبيوت والبلاد والمساكن، فالإنسان يحب وطنه ومسكنه، ويحب أشياء كثيرة.
إذاً: هذه الأمور فطرية، ونحن نعلم أن الإسلام لا يعارض الفطرة، وأن الأشياء الغريزية مقرة في الدين، ولهذا حينما حرم الزنا أباح النكاح، ولم يلم على محبة المال والأهل، إنما يتبين الهوى -كما سنذكر في صور اتباع الهوى- حينما يكون ثَم ابتلاء، ولهذا في قوله صلى الله عليه وسلم: {أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما} هذا معناه: أنه يحب، فالإنسان في فطرته أنه يحب ولده ومن أحسن إليه، ويحب صديقه وجاره، ويحب ابن بلده أكثر من الغريب، فهذه قضايا معروفة.
ويبين هذا ويقرره آية أخرى، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:23 - 24].
إذاً: أغلب هذه الأشياء المذكورة هي المحاب، وهي التي يحبها الإنسان، ويميل إليها بطبعه، ويفضلها على كثير مما يراه: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} [التوبة:24] فالإنسان يحب أهله وقبيلته وأبناء بلده، {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} [التوبة:24] وكذلك يحب المال، وكل تلك المحبة إنما هي لعمارة الأرض؛ لأنه مكلف بعمارتها على ما أمر الله عز وجل به، لكن حينما يتعارض عنده أمران: شهوة نفسه وزوجه وماله، مع أمر النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر الله عز وجل، فإن قدم شهواته ومحابَّه على مراضي الله وأوامره؛ حينئذٍ يكون قد اتبع الهوى، وهذا هو الابتلاء، أما حينما لا يكون هناك تعارض لا يكون هناك ابتلاء كما سنرى في صور اتباع الهوى، ولهذا قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11].
والهوى أخشى ما يكون في حال الابتلاء والافتتان، ولهذا بعض الناس قبل أن تهيأ له سبل المعاصي واتباع الهوى يؤدي الصلوات الخمس ويستمر في الطاعة، لكن حينما تلوح لائحة هوى، كأن ينفتح له باب تجارة أو باب شهوة من زنا ونحوه؛ فإنه يسقط على وجهه، وبعض الناس قد يحافظ على الصلاة ولكنه يغش في تجارته، أو يرابي أو يرتشي، وهنا الخطورة! يصلي ويتعبد وهو منحرف في اتجاه آخر، هنا يكون محك اتباع الهوى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23].
إذاً: بهذا التقرير يتبين معنى قوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50].(15/5)
كلام ابن القيم في الاستجابة لله ولرسوله
ولـ ابن القيم رحمه الله كلامٌ جميلٌ في الاستجابه لله ولرسوله قال: افترض الله سبحانه وتعالى على عباده طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعزيره وتوقيره ومحبته، والقيام بحقوقه، وسد دون جنته الطرق، فلن تفتح لأحد إلا من طريقه عليه الصلاة والسلام، فشرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، ففي المسند من حديث أبي منيب الجرشي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم}.
وجانب التشبه اتباع للهوى، وكما أن الذلة مضروبة على من خالف أمره؛ فالعزة لأهل طاعته ومتابعته، قال سبحانه وتعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].
وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8] وقال تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35] ويقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64].
قال: وبحسب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم تكون العزة والكفاية والنصرة، كما أنه بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنجاح، فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدنيا والآخرة في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن، والفلاح والعزة والكفاية والنصرة والولاية والتأييد وطيب العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذلة، والصغار والخوف والضلال والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة.
وقد أقسم صلى الله عليه وسلم بأنه لا يؤمن أحدكم حتى يكون أحب إليه -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- من ولده ووالده والناس أجمعين، رواه أحمد والبخاري والنسائي.
وأقسم الله سبحانه وتعالى بأنه لا يؤمن من لا يحكِّمه في كل ما تنازع فيه، ثم يرضى بحكمه، ولا يجد في نفسه حرجاً مما حكم به، ثم يسلِّم له تسليماً، وينقاد له انقياداً، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله، فليس لمؤمن أن يختار شيئاً بعد أمره وأمر رسوله، بل إذا أمر فأمره حتمٌ، وإنما في قول غيره إذا خفي أمره.
يعني: إذا لم تكن هناك دلالة واضحة من نص حديث النبي صلى الله عليه وسلم أو حتى في القرآن وإنما تبين في قول غيره كقول العلماء به وبسنته، فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الاتباع، لكنه ليس واجباً، فلا يجب اتباع قول أحدٍ سواه، بل غايته أن يسوغ له اتباعه، ولو ترك الأخذ بقول غيره لم يكن عاصياً لله ورسوله، وهذه قضية مهمة في التقليد، وفي اتباع الهوى، وفي اتباع العلماء وتقديرهم واحترامهم، وهناك فرق بين احترامهم وبين النظر أنهم لا يخطئون، أو التعصب لهم، أو نحو ذلك.
"ولو ترك الأخذ بقول غيره لم يكن عاصياً لله ولا لرسوله، فأين هذا ممن يجب -وهو النبي صلى الله عليه وسلم- على جميع المكلفين اتباعه، ويحرم عليهم مخالفته؟
فلا يمكن أن يُنْصَبَ قول أحد من أهل العلم مقابلاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم، ويجب عليهم ترك قولهم لقوله صلى الله عليه وسلم، فلا حكم لأحدٍ معه، ولا قول لأحدٍ معه، كما لا تشريع لأحدٍ معه، وكل من سواه فإنما يجب اتباعه على قوله إذا أمر بما أمر به، ونهى عما نهى عنه، فكان مبلغاً محَضاً ومخبراً، لا منشئاً ومؤسساً.
فمن أنشأ أقوالاً، وأسس قواعد بحسب فهمه وتأويله، لم يجب على الأمة اتباعها، ولا التحاكم إليها حتى تعرض على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن طابقته ووافقته، وشهد لها بالصحة قبلت حينئذٍ، وإن خالفته وجب ردها واطراحها، فإن لم يتبين فيها أحد الأمرين جعلت موقوفةً، وكان أحسن أحوالها أن يجوز الحكم والإفتاء بها وتركه، وأما أنه يجب ويتعين، فكلا".
إذاً: هذا فيما يتعلق بالاستجابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يسع أحداً ألبتة أن يسمع كلام أحدٍ غير كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبخاصة إذا كان معارضاً ومشتبهاً، وهذا يظهر كما قلنا في قضية التقليد، وفيما يدور أحياناً في الساحة بين أهل العلم، والمشتغلين بالدعوة في بعض أنواع التوجهات، أو التعصب نحو عالم من العلماء وبخاصة بعض العلماء المعاصرين، فهؤلاء ينبغي أن يعرف فضلهم وعلمهم وباعهم في الدعوة، ولكن الحق أحب إلينا منهم.
وهذا هو الذي يجب أن يتقرر وإلا فكثيرٌ من الذين يقل فقههم أو من الذين لهم أغراض يظن أو يتظاهر بأنه ينتصر للحق، بينما هو ينتصر لنفسه أو لشيخه، وقد قرر ذلك ابن رجب رحمه الله تقريراً بديعاً في جامع العلوم والحكم.
يقول: "المجتهد قد أدى ما عليه واجتهد، وتوصل إلى ما توصل إليه، لكن المقلد -وخاصة يقصد طلبة العلم المقلدة- تجده ينتصر لقول هذا الإمام سواء كان حنبلياً، أو شافعياً، أو حنفياً، أو حتى معاصراً وهو في قرارة نفسه لم يتمثل أنه الحق، وإنما يريد أن ينصر إمامه".
فالأئمة المجتهدون أو غيرهم براء مما يفعله هذا المقلد لهم، فكثير منهم يقول: إما أنه ينتصر لنفسه، أو ينتصر لشيخه، ويلبس ذلك بأنه ينتصر للحق، فهنا مداخل دقيقة جداً ينبغي أن يتحراها أهل العلم، ويتحراها أهل الدعوة، نسأل الله السلامة.
إذاً: بعد أن تبين وتقرر المقصود بأن حق الاختيار هو لله وحده، كما أن له حق الخلق في قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] ثم تبين لنا كذلك الاستجابة لله ولرسوله، وأن من لم يستجب، فإنه متبعٌ هواه شاء أم أبى، ولو لبس ذلك بلباس الحق، وهذه قضايا كثيراً ما يكون مدخلها قلبي، على معنى لا تستطيع أن تستكشفه.
فحينما يكون هناك ردود بين العلماء -وبخاصة المعاصرين- فالذي يخشاه المطلع أو القارئ أنه يتلمس من ثنايا هذه الردود أن هناك هوى في النفس وتشهياً، وهو لا يريد الحق لمحض الحق، وإنما يريد الانتصار والعلو، ويريد دحر كلام صاحبه، وأحياناً قد يكون من المعالم على هذا والدلائل عليه: اللجوء إلى التجريح الشخصي، فتجده ينال من عرضه، بينما القضية لا تحتمل، ولا يحتاج إلى أنك تتكلم فيه، أو في شخصه، أو في حاله، وإنما يكون الكلام في الباطل الذي أتى به إن أتى باطلاً، أو شبهةً إن كان اشتبه عليه أمر، أو لَبْس إن حصل عليه لَبْس.
أما أن يميل المرء أو يجنح في عباراته إلى النيل الشديد من غير داع، أو استطال في أعراض المسلمين، فهذا لا شك أنه قد يباح عرضه كما ذكر بعض العلماء: أ(15/6)
كيفية تبين اتباع الهوى
متى يفحص الإنسان نفسه، ويعلم هل هو متبع لهواه أو لا؟
وهذا قد أشرت إليه قبل قليل في الابتلاء، حينما يبتلى الإنسان إما بالخير، أو بالشر، قد يبتلى بثراء، أو بمال، أو يبتلى بجاه، أو بصحة، أو يبتلى بزوجة يحبها وأولاد، فيتعلق بهذه الأمور، فتكون صوارف عن اتباع الحق، أما في حال الاعتدال فليس هناك ابتلاء.(15/7)
تقرير ابن تيمية لحديث الأقرع والأبرص والأعمى
قرر شيخ الإسلام ابن تيمية مسألة الابتلاء تقريراً عجيباً في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} [الحج:11].
فالابتلاء هو قصة الأعمى والأبرص والأقرع من بني إسرائيل الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة المعروف بحديث الابتلاء، فكانوا في حالٍ يبدو عليهم الهدوء والصلاح، فلما ابتلاهم الله عز وجل بالمال انتكسوا، ولهذا قيل: (إن من العصمة ألا تقدر)، فبعض الناس أحياناً قد يبتلى بأسفار، فيفسد ويمرج، بينما كان هادئاً لا يتطلع، وليس هناك مغريات ومعاصي، وقد تجده ينبذ أهل المعاصي، لكن حينما يقدر يغلبه هواه، فهذا اتباع الهوى، ومثله أيضاً عندما يكون فقيراً بلا مال، فإذا جاءه مال كان كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة:75 - 76].
فإذاً يتبين امتحان الهوى عند الابتلاء فيقول ابن الجوزي رحمه الله: تأملت أمراً عجيباً، وأصلاً ظريفاً، وهو انهيال الابتلاء على المؤمن -والمؤمن مبتلى- وعرض صور اللذات عليه مع قدرته على نيلها، وخصوصاً ما كان في غير كلفة من تحصيل كمحبوب موافق في خلوة حصينة إلى آخره، ثم ساق قصة يوسف عليه السلام، فقال: والله ما صعد يوسف عليه السلام، ولا ساد إلا في مثل ذلك المقام -يعني: مقام الابتلاء- ابتلي وكان الجو مهيأً للمعصية، فحماه الله عز وجل.
فيقول ابن الجوزي: فبالله عليكم تأملوا حاله لو كان وافق هواه من كان سيكون.
ثم أيضاً أطال في هذا، وبين عاقبة الصبر، وقارن ذلك بين ذل إخوانه يقول: ومن تأمل ذلة إخوة يوسف عليه السلام يوم قالوا: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف:88] عرف شؤم الزلل إلى آخره.
فالهوى اختباره ومحكه هو عند الابتلاء بالخير، أو بالشر.(15/8)
صور من اتباع الهوى
منها: أن بعض الناس يتعاطى العبادات وكأنها عادات، فتجده في بلده يصلي، لكن إذا سافر تقاعس كثيراً -نسأل الله السلامة- وأخرجها عن وقتها، أو تركها بالكلية ونحو ذلك وهذا انتكاس، يقول تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} [الحج:11] ولم يقل خيراً أو شراً، لأنها قد تكون في ظاهرها خيراً أو سروراً {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} [الحج:11] فهذه صورة.
ولهذا قال ابن الجوزي: ترى كثيراً من الناس يتحرزون من رشاش النجاسة، ولا يتحاشون من غيبة.
وهذه قضية مهمة في التفاوت بين العبادات، تجده فعلاً يتهجد في الليل أو يصلي؛ لكن يقع في أعراض الناس وأشياء كثيرة؛ لأنه اتخذها عادة، ولم يأت على القضايا الإسلامية والعبادة على أنها عبادة وتقرب إلى الله عز وجل، بينما ما يأتيه من أمور يتساهلها قد تكون محبطة لعمله.
قال: أو يتهجدون بالليل ويؤخرون الفريضة عن الوقت؛ في أشياء يطول عددها من حفظ فروع وتضييع أصول.
يقول: بحثت عن ذلك، فوجدته في شيئين:
أحدهما: العادة.
والثاني: غلبة الهوى في تحصيل المطلوب، فإنه قد يغلب فلا يترك سمعاً ولا بصراً.
ومن الناس: من يطيع في صغار الأمور دون كبارها، وفيما كلفته عليه خفية، وفيما لا ينقصه شيئاً من عادته في مطعم وملبس، ونرى أقواماً يوسوسون في الطهارة، ويستعملون ماءً كثيراً، ولا يتحاشون من الغيبة.
قال: هناك أقوام يستعملون التأويلات الفاسدة في تحصيل أغراضهم مع علمهم أنها لا تجوز، وهذا أحياناً كما قلنا في الردود: يأخذ تأويلات ويتعسف فيها وهو يعلم في قرارة نفسه غير ذلك؛ لكن من أجل أن ينتصر لرأيه أو أن ينتصر لشيخه إلى آخره.
قال: ونرى أقواماً يتركون الذنوب لبعدهم عنها، فقد ألفوا الترك، وإذا قربوا منها لم يتمالكوا أنفسهم.
كما قلنا: بعض الناس قد يترك المعصية لأن الجو لا يساعد عليها، لكن إذا رأى جواً يساعد على المعصية وقع فيها.
هذه قضايا خطيرة وأرجو ألا أطيل، هذا وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأختمها بعبارة: (إن متبع الهوى يرى ذليلاً، ضعيف الإرادة، عبداً لهواه ومشتهياته، فحقيقته مقهورٌ مستكين، بخلاف غالب الهوى، فإننا نراه ذا عزيمة وهمة تعلوه العزة والمهابة، وقارن ذلك بين وصف الله للمؤمنين والمنافقين: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]).
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على خير خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(15/9)
الأسئلة
.(15/10)
الحكم على شخص بأنه متبع لهواه
السؤال
متى يحكم على الشخص بأنه قد اتخذ إلهه هواه؟ أو ما التعريف الشامل للهوى؟
الجواب
لعله فُهم من عموم ما سبق أن الهوى يطلق بإطلاقات، الحكم بغير الحق هو حكم بالهوى، والشهادة بغير الحق مهما كانت هي شهادة بالهوى حتى لو كانت لصالح فلان أو فلان، وعموم اتباع الهوى هو مخالفة ما جاء عن الله وعن رسوله، فمن خالفها فهو متبع لهواه، لكن فيما يتعلق باجتهاد المجتهدين فيما للاجتهاد فيه مسار، فهذا ليس اتباعاً للهوى، لأن هناك أموراً تركها الشارع لاجتهاد المجتهدين، وجعلها مجالاً للاجتهاد، فما كان من هذا النوع، أو من هذا الباب، فإن الاجتهاد فيه من أهله لا يعتبر اتباعاً للهوى.
أما ما عدا ذلك وكان مخالفةً بينةً، أو أن إنساناً سلك مسلكاً خطأً من غير تحر، فهذا اتباعٌ للهوى، وهو يختلف، فمنه ما هو في حدود المعاصي، وقد يكون صغيرة وقد يكون كبيرة، ومنها ما هو مخرجٌ من الملة.
أما من اتخذ إلهه هواه فهذا هو الذي لم ينقد لكتاب الله ولا لسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما اتبع رغباته، وانقاد إلى مشتهيات نفسه، فالحلال عنده ما حل في اليد، والحرام عنده ما حرم منه.
فهذا هو من اتخذ إلهه هواه، سواء في أموره الخاصة أو البيتية أو السوقية أو العامة إلى آخره.(15/11)
التعامل مع من لا يقبل النصح
السؤال
بعض الناس إذا بينت له الحق في أمر ما، رد عليك بأن ذلك من خصوصياته، أو قال لك: ذنبي على جنبي، هل يعتبر ذلك من اتباع الهوى، وهل يكون كمن عبد مع الله غيره، أفيدونا مأجورين؟
الجواب
أما أنه يقول: ذنبي على جنبي، أو نحو ذلك، هذا لا شك أنه خطأ، لأن من المعلوم في هذا الدين أن التناصح بين المسلمين حق من حقوقهم، وأن حق المسلم أن ينصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ثم أيضاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل أحد بقدر استطاعته؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه}.
فإذا رأيت أخاك على منكرٍ، فحقٌ عليك أن تنهاه بالطريقة التي ترى أنها مجدية، فإن كنت قادراً على التغيير باليد كما لو كان المنكر في بيتك، أو مع من لك عليه يد مثل أبنائك أو الذين تحت سلطتك وسلطانك، كما لو كنت رئيس مصلحة، أو وجيهاً في قوم تستطيع ما لا يستطيعه من دونك، فإذاً الأمر في حقك أعظم وهكذا، فهذه الكلمة لا شك أنها غير مقبولة، ولا يمكن أنها تكون مسوغاً لمن رأى منكراً أن يمتنع عن إنكاره وهو قادر على إنكاره.
أما أنه يكون عابداً مع الله غيره، فهذا كما قلنا يختلف على حسب مواقع المخالفة قد تكون صغيرة، وهذا لا يكون مشركاً، وقد تكون كبيرةً، فالذنب فيها أعظم، وقد تصل إلى حد الشرك كما قال الله عز وجل في أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] لأنهم أطاعوهم في تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله، وكذلك قال الله عز وجل في حق المشركين في سورة الأنعام: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121].
إذاً: هذا النوع من الطاعة يكون شركاً وكما يسميه العلماء شرك الطاعة.(15/12)
معنى مقولة: إكرام النفس هواها
السؤال
أرجو إيضاح بدعة من يقول: "إكرام النفس هواها"، كما هو دارجٌ على ألسنة الناس، وما هو البديل لذلك أثابكم الله؟
الجواب
الأرجح أن هذه ليست بدعة، ويبدو أن التعبير بها له مساغ، وله وجه فمعنى: إكرام النفس هواها، ليس المقصود طبعاً إكرام النفس هواها في مخالفة الشريعة، وإنما في الأمور المعتادة من الناس، على معنى مثلاً: رغبت منه أن يدخل بيتك، وكان ظرفه لا يسمح، وألححت قليلاً، ثم رأيت عنده تمنع، فقلت: إكرام النفس هواها، هذا معناه أني لا أريد أن أشق عليك، كأنه يقول: أنا قدرت ظرفك، وأنا أردت إكرامك، وحيث إنني لم أكرمك في استضافتك في بيتي، فأنا أكرمك بأن لا يكون في نفسي حرج، وأن أتركك على هواك، هذا هو المقصود، وليس المقصود مخالفة الشريعة، لا.
هذه عادةً يتحدث بها الناس فيما أعلم في الأمور المعتادة في العادات، ليس في حدود الشريعة، تقول له: صلِّ، يقول: لا.
تقول: إكرام النفس هواها! هذا لا يقال، إنما الكلام غالباً في المعتاد كما قلنا في الاستضافة، في نحو طلب أشياء لم يتمكن من تحقيقها، سواء من ممتلكاته أو غيرها، فألححت عليه، فوجدت عنده تمنعاً، فقلت: إذاً إكرام النفس هواها، فهذا لا شيء فيها، أما أنها في أوامر الشريعة أو نواهيها، ثم تقول: إكرام النفس هواها، هذا لا يجوز، وليس هذا هو المقصود فيما أعلم من معتاد العبارة بين الناس.(15/13)
معنى آية: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ)
السؤال
ما معنى القاسطون في قوله تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن:15]؟
الجواب
القاسطون غير المقسطين، المقسطون هم العادلون، أما القاسطون فهم الظالمون.(15/14)
حكم متابعة الرياضة بكثرة والحب والبغض فيها
السؤال
هل عليّ حرجٌ في متابعة الرياضة، لا سيما أنها تشغل وقتي كله لأشاهدها، وإن قرأت أقرأ لها، وإن سمعت أسمع لها، وأحب من أجلها، وأبغض من أجلها، هل في هذا متابعة للهوى؟
الجواب
إذا كان على هذا النحو الذي صورت فنعم، هذا متابعة للهوى تشغل كل وقتك، وتحب فيها، وتعادي فيها -نسأل الله السلامة- وأخشى أن يرقى بك هذا إلى أن تخرج من الملة، إذا كنت تحب فيها وتبغض وتشغل كل وقتك، ولا شك أننا نحب الأشياء المباحة، فالإنسان يحب أهله وأولاده وكتبه وممتلكاته، وهواياته وبعض الناس يحب السباحة أو الصيد.
ولا شك في أن المسلمين من العصور القديمة والحديثة يهوون الصيد ويذهبون إليه، ويحبون التنزه والتمشية والسباحة والرماية والجري وأنواع من الرياضات المشروعة، فهوايتها ومشاهدتها كذلك من الأمر المباح بالضوابط الشرعية ولا مانع، لكن لا يجوز أن يشغل عن واجب، أو أن يؤدي إلى الوقوع في محرم، أو حتى المكروه، فإذا كان كذلك، فحينئذٍ يصل إلى دائرة المحرم، وقد يترقى إلى دائرة اتباع الهوى المذموم ذماً كلياً، فإذا كان على هذا النحو الذي وصفت أنها تشغل الوقت كله، وتحب وتوالي فيها، إنما المحبة العادية، فمثلاً حينما تتنافس مع إنسان في محبة صيدٍ أو سباحةٍ، أو حتى محبة من الألعاب المباحة والهوايات المباحة، فيقع بينكم تنافس، هذا تنافس مقبول، وعادة يكون في الفطرة البشرية من أجل الاستزادة إلى حد مقبول، لكن إذا تجاوز إلى أن يشغل عن واجب، أو يوقع في محرم أو قطيعة رحم أو نحو ذلك، فهذا لا يجوز، لأنه حسب ما يؤدي إليه.(15/15)
نصيحة لبائعي المجلات
السؤال
نرجو منكم نصيحة لبعض أصحاب المحلات التي تقوم ببيع المجلات التي بغلافها وبداخلها صور للنساء، ودعاية للدخان التي تهدف إلى نشر الفساد بين الشباب والشابات، وهدم الأخلاق والانحلال، ونشر الفواحش، وإفساد شباب وشابات هذه الديار الطاهرة حماها الله، وكذلك فيها استلاب لأموال المسلمين، وتدمير أخلاقهم، وأن أهل هذه المحلات مسئولون أمام الله عز وجل؛ لأنهم يعينون على نشر الفساد في الأرض؟
الجواب
جزاك الله خيراً وأفادك، لا كلام بعد كلامك هذا، هو كلامٌ جامعٌ مانعٌ، ولا شك أن التناصح والتذكير مطلوب، وكثير من أصحاب المحلات قد يسمعون مثل هذا، ولكن ليعلموا أنهم إذا لم يجدوا في أنفسهم استجابة لمثل هذا الكلام الطيب، والذي يذكر بالله عز وجل، ويخوف من عذابه، ويخوف كذلك أولاً من وقوع البلاء بالمسلمين عموماً إذا فشت المعاصي، ولم يحدث تذكير ولا تناصح، لأن الله عز وجل ذكر أنه لم ينجح إلا الذين كانوا ينهون عن السوء: فـ {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف:165] فلا شك أن حقنا وحق الأخ السائل أن نناصح وأن نبين، وأن صاحب المحل إذا لم يستجب، فعليه أن يفتش في نفسه.
فيخشى عقوبة الله عز وجل عليه في نفسه، وأن تنزع بركات ماله، وأن يرى سوءاً في أهله، لأني أخشى أن يكون علم، أو لم يعلم أنه ممن يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، لأنه إذا كانت المجلات على النحو التي وصفها صفه الأخ الفاضل تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فإن الله عز وجل توعد الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدنيا والآخرة، فقدر هذا العذاب الأليم في الدنيا في نفسه؛ إما بسلب أرزاقه، وإما في نزع بركاته، وإما أن يرى الخبث والفحشاء في أهله، هذه القضايا كلها على المسلم أن يتبصر فيها، وأن يفتح قلبه للناصحين، وقد قال الله عز وجل في نبي من الأنبياء حينما قال: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79] فاخش على نفسك إذا كنت لا تحب أن تكون من الناصحين، أو تستثقل الواعظين.(15/16)
كتافات الأسفنج في لباس المرأة
السؤال
إن بعض النساء تقوم بوضع كتافات السفنج على الكتف في بعض الملابس، فهل هذا الأمر جائز شرعاً؟ وهل يعتبر هذا داخلٌ في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لعن الله الواصلة والمستوصلة} نرجو شرح الحديث أثابكم الله؟
الجواب
لا يبدو أن هذه داخلة في الواصلة والمستوصلة، لأن هذه متعلقة بوصل الشعر بآخر، وهذا ما يظهر لي والله أعلم، أما فيما يتعلق بوضع الكتافات كما قالت، إن كان ليس فيها تلبيس أو تدليس، فأرجو أن لا بأس به، لأن المرأة قد تلبس أشياء فيها شِعار، أو قصد به التشبه بأعداء الله عز وجل، فهذا ينهى عنه، وإلا الأصل في مثل هذا إن لم يكن فيه تزوير ولا تدليس ولا غش، ولا فيه دعوة إلى فسوق، أو يكون شعاراً للفساق أو للفاسقات، فالأصل أنه لا مانع منه، على أن المرأة ينبغي أن تلبس الحشمة، بل يجب عليها أن تلبس لباس الحشمة، وأن تبتعد عن كل ما يجلب ريبة، أو يورث شيئاً مما يقع في النفس منه شيء من شبهةٍ أو حرام.(15/17)
حكم استخدام سحر المحبة
السؤال
بعض النساء يأخذها اتباع الهوى والغيرة، فتعمل هذا العمل: وهو أنها تضع لزوجها شيئاً كي يحبها، ويلزم من ذلك أن يكره بقية أزواجه، ما هذا العمل التي تعمله، هل هو حلال أو حرام؟ وأرجو أن تنصح النساء، فإنه منتشر.
الجواب
إذا كان مثل هذا فهذا لا يجوز بأي حال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {لا تسأل إحداكن طلاق ضرتها لتكفأ ما في إنائها} فإنه لا يجوز بأي حال، وحينما حاول نساء النبي صلى الله عليه وسلم أن يمنعنه من شرب العسل في بيت مارية في القصة المعروفة، قال الله عز وجل: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ} [التحريم:5] فلا يجوز للنساء أن يسلكن مثل هذا المسلك، وإنما تكون المرأة عادلة، إن لم تكن محسنة، لأن هناك درجتين:
درجة العدل.
درجة الإحسان.
العدل هو: أخذ الحق، وإعطاء الحق، أما الإحسان، فهو التفضل وإعطاء أكثر من الحق، لكن لا يجوز أن ينقص الأمر عن العدل، فيجب عليها أن تعدل، والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
فالتي تريد أن تنحرف عن جانب العدل والاستقامة هو انحرافٌ عن التقوى وبعدٌ عنها.
ومعلوم أن هذا لا يجوز، ويحرم تعاطي مثل هذا؛ فإن كانت تقوم بالسحر من نفسها؛ فبعض العلماء يرى أن الساحر كافر، وأنه يكفر الساحر المتعلم السحر، أما إن كانت تذهب إلى سحرة وكهان- نسأل الله السلامة- فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {من أتى كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد} ويقول: {لم تقبل له صلاة أربعين يوماً} فإذا كان من هذا النحو، ومن هذا الباب، فنعوذ بالله، ونعيذكم بالله أن يكون في هذه البلاد الطاهرة والمعروفة بالتوحيد وبالدين والاستقامة، وهي نموذج يضرب مثلا للاستقامة والبعد عن مثل هذه الشعوذات والكهانة، فنعيذكم بالله من ذلك.(15/18)
نصيحة للذين يتغيبون عن المحاضرات
السؤال
تقام محاضرات بين الحين والآخر في النادي، ولكن نلاحظ إحجام البعض، وخاصةً كبار السن عن الحضور، مما يوقع المسئولين في حرج، نرجو توجيه كلمةٍ بهذه المناسبة، وإبداء الصورة الحقيقية للنادي؟
الجواب
على كل حال جلب المستمعين يكون بعدة أمور:
منها الحرص على ألا يكون إلا مع من يرضاه الناس، والحمد لله الناس في هذه البلاد -أقصد بلادنا كلها- هم على خير، ولا يحبون إلا الخير، ويكرهون السوء، والدعوة إلى السوء.
وحقٌ على النادي أن يجتهد في أن يكون ما يدعو إليه يحقق رغبات هؤلاء المشايخ والآباء، ثم أيضاً قد تكون هناك ظروف وأشياء تحول دون هذا، وخاصة قد يكون بعد المكان، أو موعد المحاضرة أو الندوة غير مناسب، ونحو ذلك، لكن على كل حال لا شك أن الأصل هو أن المسلمين يتكاتفون في هذا، ويعلموا أنهم إن لم يشغل مثل هذا أهل الحق، فإنه سوف يشغله أهل الباطل، وكما قيل: إن العقل -ومثله النادي- كالإناء إن لم تشغله بالماء شغله الهواء، فلا بد من شغله، ولهذا أنصح كل من عنده وقت، وكل من عنده حسن توجيه ونفع ويريد الاستفادة أن يقصد مثل هذه التجمعات ليكثر سواد أهل الحق، ويكثر سواد أهل الخير، ويغيض إن كان فيهم أهل باطل، وبهذه النظرة، وهذه النفس إن شاء الله مع لباقة وانفتاح في النفس وانشراح، ولا يأتي إنسان منغلق ناقم؛ فهذا أيضاً لا يفيد ولا يجدي، ولا يحقق الغرض المطلوب.(15/19)
وجوب التوبة
السؤال
أنا شاب منَّ الله عليَّ بالهداية، وقد كنت قبل هذا ألعب الورقة، وكنت أطلق كثيراً بسبب هذه اللعبة، وقد تبت الآن منها، فهل عليَّ كفارة، أم تجزئ التوبة؟
الجواب
التوبة من المعاصي واجبة كما يقول العلماء؛ وعلى المسلم حال ما يفعل معصية أن يتوب، وأن يبادر وألا يسوف، فالله سبحانه وتعالى يتوب على الذين يتوبون من قريب: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17] فليبادر بالتوبة من أي معصية، ولعل الله سبحانه وتعالى وفقك للتوبة النصوح، وهأنت تشكر الله عز وجل على ما منَّ به عليك من حسن استقامة، أما ما يتعلق بالطلاق، فهذا يحتاج إلى أن أسمع الصيغة، أو الصيغ التي كنت تتلفظ بها، لأنه بموجبها أو بحسب اللفظ يكون الحكم.(15/20)
الاحتجاج على المعاصي بالقدر
السؤال
كثيرٌ من الناس إذا دعوا إلى الله وإلى خشيته، يقولون: إن الله قدر المقادير، ويحتجون بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها الحديث} فماذا يكون الرد على مثل هؤلاء جزاكم الله خيراً؟
الجواب
الأمر الأول: لا أدري هل أنت تعد نفسك من أصحاب النار، أو من أصحاب الجنة، لأنك تقول: فيسبق عليه الكتاب، ما أدري أعددت نفسك من أيهما، معلوم أنك لا تدري ولا تعلم.
ثم أيضاً الاحتجاج بالقدر لا شك أنه إما احتجاج عاجز وإما متبع للهوى، لأن الله عز وجل حينما كلف المكلف إنما كلفه بأشياء في حدود استطاعته البدنية، والفكرية وتحت قدرته، فالأمور التي لا تقدر عليها، وليس لك فيها اختيار، ليست محل تكليف، وهذا أمر معلوم، فحينما تسقط من السطح أو حينما يصيبك مرض، فالله عز وجل لا يسألك عن المرض، ولا يسألك عن السقوط، وإنما يسألك عما هو في حدود قدرتك، وهو الصبر مثلاً؛ لكن لا تقول لماذا مرضت؟ ولماذا جرحت؟ وإنما هل صبرت أم لا؟ فالله يبتلي بالخير ويبتلي بالشر، فبالشر يكون الصبر، وعلى الخير يكون الشكر، ونحو ذلك هذه واحدة.
والأمر الثاني: أن القدْر نوعٌ من القدَر ليس مجبراً، وهو بمعنى علم الله عز وجل بما هو كائن، والمقصود هنا -والله أعلم- هو علم الله بما هو كائن، ولا يترتب عليه إجبار، تعالى الله عن التشبيه والتمثيل، لو أن عندك ولدين، فتقول لأحدهما: أنت سوف تنجح هذا العام، وتقول للآخر: أنت لن تنجح، وأنت قصدت بهذا الذي ينجح، لأنك رأيته مجتهداً، ورأيته مقبلاً على دروسه، ورأيته مذاكراً ومهتماً بأعماله المدرسية يومياً، ونحو ذلك مما يكون مؤدياً إلى النجاح، ورأيت في الآخر إهمالاً وكسلاً، فقلت للمجد: أنت ناجح، وقلت للكسول: أنت غير ناجح، ثم جاء الامتحان، ونجح فعلاً من قلت إنه سوف ينجح، ورسب من قلت إنه لن ينجح، هل ممكن أن الذي رسب سوف يحتج عليك، ويقول: يا أبي! أنت قلت كذا وكذا؟ وهل كان علمك مجبراً؟ فإذا كان بحق البشر وهم يعلمون بمجرد بعض الظواهر، فكيف بالله تعالى المحيط بكل شيء علماً، فهذا نوع من القدر هو بمعنى علم الله تعالى، وهذا هو المقصود والله أعلم.(15/21)
الحث على دعم المجاهدين
السؤال
يعيش إخواننا المجاهدون الأفغان أياماً عصيبة بمناسبة حلول موسم الشتاء والثلوج عليهم، وحاجتهم تضاعفت، وقلّ الدعم من إخوانهم المسلمين، لأنهم تصوروا أنهم قد انسحبوا، ولكنهم في الواقع لا زالوا يدعمون عملاءهم من الشيوعيين، أرجو حث الموجودين بالتبرع لإخوانهم، وحث النساء على ذلك أيضاً، لأنه سيقف على الأبواب بعض الإخوة لجمع التبرعات، وسيقف على باب النساء امرأة لجمع التبرعات من النساء أيضاً؟
الجواب
لا شك أن هذا الأمر من الأمور التي يُنبه عليها، وإخوانكم المجاهدون في أفغانستان هم على ثغر من ثغور الإسلام، وسنوات عديدة وهم يقفون هذا الموقف، وإخوانهم أمدوهم بما يسر الله عز وجل، وقد كان لمددهم بعد توفيق الله عز وجل الأثر الكبير، وتحقق شيء كثير، وعجزت دولة تعتبر من أعظم دول العالم، بل إحدى دولتين عظيمتين عن أن تحقق مآربها، وقيض الله للمجاهدين القوة والصمود، وأجبروا الكفرة الشيوعيين على الخروج من الديار، ولكنهم أبقوا لهم، ورتبوا مع إخوانهم في الغي من دول أخرى مما جعل أعوانهم يصمدون هذا الصمود، وكان حقاً، ولا زال على كل مسلم عنده نجدة، وعنده مقدرة أن يعين إخوانه؛ وبخاصة في مثل هذه الظروف العصيبة، وجو الشتاء القارس، فإن طبيعة بلادهم يأتيها شتاء شديد جداً، ويصعب على إخوانكم التحرك والتنقل وتحقيق ما يريدون من قهر العدو، وتوالي الضربات عليه مع أنهم- ولله الحمد- لهم تمكنهم ولهم سيطرتهم، ولكن أولاً تبتغون بذلك وجه الله، ويكون لكم أجر المجاهد، وأنتم ردءهم، وأنتم الصفوف الخلفية لهم، فأوصيكم وأوصي نفسي بالاهتمام والاجتهاد في هذا الأمر؛ لعل الله سبحانه وتعالى أن يعز أوليائه ويعلي دينه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على خير خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(15/22)
خطبة عيد الأضحى المبارك 1407هـ[1]
إن الله سبحانه وتعالى بعث إبراهيم عليه السلام بالحنيفية السمحة، وأمره أن يعلن الحج إلى بيت الله الحرام بعد بنائه له، ثم بعث محمداً صلى الله عليه وسلم على هذه الملة، وحول القبلة إلى الكعبة، فهذا شرف لهذا البيت الحرام، وشرف لأهله، وأمر داع إلى أن يعتصم الناس بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالدين واحد، والقبلة واحدة، والرسول واحد، والتفرق مذموم، والركون إلى أعداء الله من نواقض هذا الدين.(16/1)
مكانة بيت الله وميزاته في الإسلام
الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر! خلق الخلق وأحصاهم عدداً، وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً.
الله أكبر! عنت الوجوه لعظمته، عز سلطانه، وعم إحسانه.
الله أكبر! كلما ذكره الذاكرون، الله أكبر! عدد ما هلل المهللون، وكبَّر المكبرون، وسبح المسبحون.
الله أكبر! كلما أحرموا بالحج ملبين، وقصدوا البيت الأمين، فطافوا وسعوا، وشربوا من زمزم، وصلوا خلف المقام، والتزموا الملتزم.
الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده سبحانه وأشكره، فتح أبوابه للتائبين، ورحمته قريبٌ من المحسنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بعثه رحمةً للعالمين، أدَّى الرسالة، ونصح الأمة، وبلَّغ البلاغ المبين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته أجمعين، ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أما بعد:
فيقول الله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26] بيت الله المعظم هو رمز الحنيفية السمحة ملة إبراهيم إمام الحنفاء، جعل الله به الأسوة بالدين، وبه الاقتداء في البراءة من الشرك وأهله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} [الممتحنة:4] وأمر نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم باتِّباع هذه الملة، والسير على هذه الطريقة، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123] فجدد المصطفى هذه الملة، وأنار السبيل، ودعا إلى عبادة الله وحده، وإخلاص الدين له، فالعبادات بأنواعها محض حق الله، فلا معبود بحقٍ إلا الله، الواحد الأحد الفرد الصمد، فالدعاء لله وحده، والخوف والرجاء من الله وحده، والشفاعة لله جميعاً، هذا هو أصل الدين وقاعدته، وهو منطلق هذه البيت المشرف، وأخص خصائصه، فيطهر من الشرك ورجس الأوثان، وتلتقي عليه جموع المؤمنين الموحدين، وتتوجه إليه الأبدان والأفئدة، تلك خصيصة ظاهرة.(16/2)
الأمان والحرمة للبيت الحرام وأهله
وخصيصة أخرى وميزة عظمى لهذا البيت ولأهله ووفوده تلك الخصيصة المتمثلة في قول الحق تبارك وتعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة:125] فما برح بحفظ الله وكنفه يطاول الزمان في منعة من الله وأمان، يتطلع إليه المسلمون، ويتنافس في تفيؤ ظلاله المتنافسون، يعيشون في أمنه وأمانه، وتوافر أرزاقه، وتكاثر خيراته قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا} [القصص:57].(16/3)
حرمة زعزعة أمن الحرم
تلك نعمة يفيض بها الله على هذا البيت وأهله وقاصديه يمتن بها عليهم.
وإن مما يتنافى مع حرمة هذا البيت، ومع أمن هذا البيت: السعي في زعزعة أمن آمنيه، وبث القلاقل فيهم، وإحداث الفتن بينهم، وإثارة الشغب حولهم.
كيف وقد خاطب الله أهل الإيمان، وناداهم بنداء الإيمان؛ لتجنب امتهان حرمة شعائر هذا البيت، زماناً ومكاناً، فقال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة:2]؟! فكيف يكون حال من لم يُعظِّم شعائر الله ولا الشهر الحرام؟!(16/4)
واجب المسلمين نحو بيت الله الحرام
إن واجب كل مسلم أن يسهم في تهيئة الجو الآمن المطمئن؛ ليؤدي حجاج هذا البيت مناسكهم، ويقفوا بين يدي مولاهم، قائمين وعاكفين، وركعاً وسجوداً بخشوعٍ وأمان، منقطعين عن الشواغل، متبتلين إلى الله بصدق التوجه.
بل لقد نهى الله -سبحانه وتعالى- عن مجرد الجدال تعظيماً لحرمة الزمان والمكان، وانصرافاً للتزود بالتقوى حيث يكمل جلال الموقف، وجو السكينة الذي يجب أن يتهيأ لوفد الله، ولضيوف الرحمن، فمن خالف ذلك وأراد بهذا البيت سوءاً فقد توعده الله بقوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].
وإن ما أقدم عليه بعض الحجاج من إثارة الشغب، وإحداث القلاقل والفتن، وترويع الآمنين في جوار هذا البيت وما تسبب عن ذلك من قتل نفوسٍ بريئة لا يرتضيه مؤمنٌ يقدر لهذا البيت حرمته، ويعرف له قدسيته؛ مهما كانت المقاصد والغايات فكيف إذا كانت أهدافاً مشبوهة، وغاياتٍ مدخولة؟!
فحقٌ على كل مؤمنٍ قصد هذه البقاع الطاهرة، يرجو الرحمة، ويؤمل في مغفرة الله له ويتطلع إلى حجٍ مبرور؛ حقٌ عليه أن يتجنب كل ما يشوش على الآمنين أمنهم، وعلى المتعبدين عباداتهم؛ من صخبٍ ومجادلات ورفع أصواتٍ بما لا يليق، فلا تحلّوا شعائر الله ولا الشهر الحرام إن كنتم مؤمنين.(16/5)
ضرورة تقوية الروابط بين المسلمين
إن حق بيت الله المطهر، وحرمه الآمن، وجمعه العظيم، أن تتأكد به الصلات، وتتوثق عنده العلاقات على تقوى من الله ورضوان، إذ لم يشهد التاريخ أمتن ولا أطهر ولا أعمق من أخوة الدين ورابطة الإيمان، اسألوا الأوس والخزرج! اسألوا المهاجرين والأنصار! {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103] كيف انطوت تلك القبائل المتناحرة بالأمس تحت راية المثنى، وسعد بن أبي وقاص، وخالد بن الوليد، وعقبة بن نافع، وموسى بن نصير، وقتيبة بن مسلم، ومحمد بن القاسم، كيف جاهدت تلك الأمة تحت راية صلاح الدين؟
خاطب النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من أصحابه بقوله: {ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟ وأعداءً فألف بين قلوبكم بي؟} ولقد أجابوا وقالوا وصدقوا: لله ورسوله المن والفضل، وقال تاريخ الإسلام من بعدهم: لله ولرسوله المن والفضل.
أيها المؤمنون حجاج بيت الله! ألم تكن هذه الأمة قبل الإسلام على ضلال؟ وأي ضلال أعظم من عبادة الأوثان والطواغيت، وعبادة الشهوات؟
كان يمزقها القتل والقتال، ويسودها الفقر والذل والتشتت، بأسهم بينهم شديد، وما هي إلا أن هبت ريح الإيمان؛ فأصبح الذين كانوا بالأمس ضلالاً لا يعرفون ديناً، ولا يحملون علماً، أصبحوا أعلام هدى، وأئمةً راشدين، حملوا مشاعل الهداية إلى مشارق الأرض ومغاربها، يدعون إلى الهدى، ويصبرون على الأذى، ويبصرون أهل العمى، فما أعظم أثرهم على الناس.
أيها المؤمنون: ما أعظم أثرهم في العقائد والأخلاق، وفي الآداب والاجتماع؛ بهم قامت دولة التوحيد والإيمان، وعمرت سوق الجنة.(16/6)
ضعف الروابط الجاهلية في تجميع شمل الأمة
أمة الإسلام: هذه حقائق وعلاماتٍ شامخة لا يشك فيها مؤرخ، ولا ينكرها منصف.
يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم!
لماذا يتعلق أقوامٌ بحبالٍ أوهى من خيوط العنكبوت؟! يستبدلون بحبل الله وحبل رسوله عصبياتٍ وقوميات وجنسيات لم تزدهم إلا ضلالاً، ولم يجدوا من ورائها إلا تفرقاً؟!
ضلالاتٌ في الاعتقاد، وفوضى في الفكر، وتفسقٌ في الأخلاق، وتفككٌ في الروابط الاجتماعية، أشبه ما يكونون حالاً بالجاهلية الأولى.
أيها الإخوة في الله: لقد ثبت ضعف أي رابطة عن القدرة على جمع الصفوف، أو قهر الشهوات العارمة، أو محو الأنانيات المستحكمة، إذا تجردت عن العقيدة الصحيحة، والإيمان الصادق، والتربية الصالحة، ومن أجل تبيين هذا الأمر ليوازن مريد الإصلاح بين ربح الأمة وخسارتها، بين دخلها وخرجها، يوازن بين الربح لما كان الاستمساك بالعروة الوثقى، والاعتصام بحبل الله، والتألق بركاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم وركبه، يقارن بين ذلك وبين خسارتها حين انفصلت عن هذا الركب الميمون، وانطوت كل فئة على نفسها، وعاشت في عزلة عن شقيقاتها، وتمسكت بعصبيات، ودعت إلى نعرات لم تزدها إلا تباراً، فتمكن أعداؤها، وأكل الذئاب كل قاصية، فاستبيح الحمى، ونهبت الديار، وسلبت الخيرات، وتداعت على الأمة السباع المسعورة، وفرقتهم السياسات الممقوتة، ثم أقبل بعضهم على بعضٍ يتلاومون.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد!
إن المجرم في حق أمة الإسلام من يسعى لإضعاف صلتها بالدين، أو يسعى في أن يزعزع من نفوسها اليقين، ومن يحول بينها وبين نبيها محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وإنها الرزية كل الرزية في أمة شرّفها الله بالإسلام، وأعزها بهذا الدين، فتخلع عنها ثوبه، وتأبى السير تحت لوائه، وترضى أن تقاتل ذليلة تحت ألوية الجاهلية، والنعرات العنصرية، والشعارات الحزبية.(16/7)
الاعتصام بالدين والاجتماع عليه
أيها المؤمنون: إن الواقع لشاهدٌ على أن هذه الأمة إن لم تجتمع على الدين فلن تجتمع على غيره، وإن لم تعتصم بحبل الله فرقها أعداء الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران:149 - 150] فليس إلا الإسلام جامعاً، وليس غير الدين مؤلفاً.
إن الانفصال عن دوحة الدين المباركة، والانقطاع عن الموكب المحمدي، والإعراض عن الإسلام الميمون؛ خسارة لا تعوض؛ بل هلاكٌ ما بعده هلاك، مهما ظهر البريق، ومهما عظم السراب، إنها لا تعوض بلباقة أو كياسة، ولا تعوض ببراعة أو حسن سياسة، لا يغني عنها مظاهر ولا حسن أزياء.
إن المظاهر والقشور لا تغني فتيلاً عن الحقيقة والجوهر، إن العبرة والمعول على ما يعمر القلوب من إيمانٍ ويقين، وليس بما يكسوا الأجساد من فاخر الثياب وأنواع المياثر.
لقد خرج الفاتحون من المسلمين إلى العالم بثيابٍ مرقعة، ونعالٍ مخصوفة، يروي الحافظ ابن كثير في تاريخه، فيقول: لما قدم عمر رضي الله عنه الشام عرضت له مخاضة، فنزل عن بعيره، ونزع نوقيه -يعني: خفيه- فأمسكهما بيده، وخاض الماء ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة منتقداً: قد صنعت اليوم صنعاً عظيماً لأهل الأرض، صنعت كذا وكذا، فضربه عمر على صدره، وقال: [[أو غيرك يقولها يا أبا عبيده؟! إنكم كنتم أذل الناس، وأحقر الناس، وأقل الناس، فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبون العزة بغيره يذلكم الله]].
هذا هو واقع التاريخ يا أمة محمد!
الله أكبر الله أكبر لا إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد!
إن الاستقلال المنشود، والعز المبتغى هو الاعتزاز بالإسلام والعمل به، والمذلة والمهانة والتبعية بالتطلع إلى السير في ركاب الحضارات الخاوية، والإصرار على تطبيق نظم غير إسلامية في بلاد الإسلام وفي بيوت المسلمين.
إن الله قد اختار هذه الأمة لحمل أمانة الوحي، فإن استهانة بهذا الاصطفاء، وتركت العمل بدينها، وهدرت الدعوة إليه، ورضيت بأن تكون ذليلة وراء هذا أو ذاك، فما أهونها على الله، وإن الله لها لبالمرصاد: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك:20].(16/8)
العودة إلى الله من أسباب النصر
فاتقوا الله يا أمة الإسلام! وعودوا إلى دينكم فبه المعتصم، وإلى الله وحده الملجأ، أسلموا وجوهكم لله رب العالمين، وأخلصوا دينكم لله، فلن يكون النصر واسترداد الحق حتى يعود رهبان الليل وفرسان النهار وما ذلك على الله بعزيز.
فلا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خلافهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى.
وإن أمة الإسلام -بإذن الله- ستأخذ من دهرها دروساً، ومن مواسمها ومناسباتها عظاتٍ وعبراً، وتأخذ من الحج اجتماع الكلمة، ومن عيد الأضحى التضحية، وستنفض الغبار المتراكم عليها وتنفي عنها كل متطفلٍ من غير طبيعتها، والأمل بالله يفوق كل أمل، والرجاء به فوق كل رجاء، والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.(16/9)
وصية إلى ولاة الأمور والعلماء
الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر!
أوجد الكائنات بقدرته، فأتقن ما صنع.
الله أكبر! شرع الشرائع فأحكم ما شرع.
الله أكبر! لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع.
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى، وعلى آله الأصفياء، وأصحابه النجباء، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن ضعف حال المسلمين، واضطراب أمورهم لم يكن إلا من عند أنفسهم، وإن تسلط الأعداء لم يكن إلا بسبب أعمالهم والتقصير في مسئولياتهم وإسناد الأمور إلى غير أهلها.
فيا حكام الإسلام! ويا ولاة أمور المسلمين! اتقوا الله فيما وليتم، أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، ارفعوا راية الكتاب والسنة، ولوا أعمالكم من يخاف الله ويتقيه، وتتحقق فيه الكفاية للعمل، اتق الله في توجيه الرعية، لا يكن في أجهزة الإعلام إلا ما فيه إصلاحٌ وصلاح، وتوجيهٌ وترسيخ إيمان، وحب إسلام.
مناهج التعليم يجب أن تنتج رجالاً أوفياء لدينهم وإخوانهم المسلمين، تنتج أهل صلاحٍ وإصلاح، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، ولاؤهم لله ولرسوله وللمؤمنين.
علماء الإسلام يا دعاة الخير والصلاح! أنتم ورثة الأنبياء، اتقوا الله فيما علمكم الله، ضاعفوا الجهود في الدعوة إلى الله، أرشدوا عامة المسلمين إلى الحق، بينوا للناس ما نزل إليهم، فقد أخذ الله عليكم الميثاق لتبيننه للناس ولا تكتمونه، ادعوا إلى تحكيم شرع الله، وتطبيق أحكامه في جميع شئون الحياة، أقيموا واجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وخذوا على أيدي السفهاء: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] {وَافْعَلُوا الْخَيْر َ) [الحج:77] {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78].
واعلموا أنكم في أيام فاضلة، ومواسم كريمة، فاشغلوها بذكر الله، واعمروها بالتكبير والتهليل، وعظموا شعائر الله وحرماته.(16/10)
الأضحية وأحكامها
وإن من أعظم ما يتقرب به من الله عز وجل في هذه الأيام الأضاحي، فهي سنة الخليلين إبراهيم ومحمد عليهم الصلاة والسلام، جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما عمل ابن آدم يوم النحر من عملٍ أحب إلى الله من إراقة دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً}.
ولتعلموا -وفقني الله وإياكم لصالح العمل- أن وقت الذبح يبدأ من بعد صلاة العيد إلى غروب الشمس في آخر أيام التشريق، ولا يجزئ في الأضاحي المريضة البيَّن مرضها، ولا العوراء البين عورها، ولا العرجاء التي لا تطيق المشي مع الصحيحة، ولا الهزيلة التي لا مخ فيها، ولا الهتماء التي ذهبت ثناياها من أصلها، ولا العضباء التي ذهب قرنها أو قطعت أذنها، ولا الجدباء التي نشف ضرعها ويبس من الكبر.
ولا يجزئ من الإبل إلا ما تم له خمس سنين، ومن البقر ما تم له سنتان، ومن المعز ما تم له سنة، ومن الضأن ما تم له ستة أشهر، وتجزئ البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة، والشاة تجزئ عن الرجل وأهل بيته، ولا يبيع منها شيئاً، ولا يعطي الجزار أجرته منها.
فاتقوا الله عباد الله! وانبذوا عن أنفسكم الشح والبخل، وأنفقوا من مال الله الذي آتاكم، وأكثروا من ذكر الله، وصلوا الأرحام، وبروا بوالديكم، وأكرموا اليتامى والمساكين، وتصافحوا وتناصحوا وتسامحوا، وأزيلوا الغل والشحناء من قلوبكم، وتزاوروا وتهادوا، واحذروا الكبر والغيبة والنميمة، وكونوا عباد الله إخواناً.
ثم صلوا وسلموا على المبعوث رحمةً للعالمين؛ فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه أجمعين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، ودمر اليهود ومن شايعهم وسائر الكفرة والملحدين، اللهم جنبنا الفتن والقلاقل والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين، اللهم من أرادنا وأراد المسلمين بسوء فاشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيدهم بالحق، وأيد الحق بهم، واجعلهم هداةً مهتدين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين! اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
اللهم وفق حجاج بيتك لحجٍ مبرور، وسعيٍ مشكور، وذنبٍ مغفور، واكتب لهم الصحة والسلامة ولسائر المسلمين في برك وبحرك أجمعين.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك؛ لإعلاء كلمتك، وإعزاز دينك، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم، اللهم أيدهم بتأييدك، وانصرهم بنصرك، واجعل الدائرة على أعدائهم يا قوي يا عزيز!
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.(16/11)
خطبة عيد الأضحى [2]
لبيت الله العظيم عدة مزايا، منها استتباب الأمن، وأنه تجبى إليه الأرزاق من كل مكان.
والشيخ قد تحدث في هذه الخطبة عن ذلك، كما دعا إلى الوحدة الإسلامية، وأوصى المسلمين باغتنام مواسم الحج، كما حث على مراجعة الأمة حساباتها، وإصلاح ما اضطرب من شئونها حتى تكون أمة واحدة قاهرة لعدوها.(17/1)
بعض مزايا البيت الحرام
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره، جعل هذا البيت مثابة للناس وأمناً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، خير من صام وصلى، وطاف وسعى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأصفياء، وأصحابه النجباء، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الجزاء.
أما بعد:
يقول الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:96 - 97].
أيها المسلمون: بيت الله المعظم هو ملتقى جموع المسلمين، وقبلة أهل الإسلام، تتوجه إليه القلوب والأبدان، ويفد إليه الحجاج والعمار رجالاً ونساءً: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:27 - 28] مجيبين ملبين: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك!
وما برح هذا البيت المُشرف بحفظ الله وكنفه يطاول الزمان؛ شامخ البنيان، في مناعة من الله وأمان، يتطلع إليه المسلمون، ويتنافس في بلوغ رحابه المتنافسون، يعيشون في أمنه وأمانه، وتوافر أرزاقه، وتكاثر خيراته، قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:57] وقال عز من قائل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67] لقد جمع الله لهذا البيت وأهله مزيتين بهما تحصل السعادة بتمامها، والطمأنينة بكمالها: ضمان الأرزاق، والأمان من الخوف: {لْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3 - 4] إنها إجابة دعوة إبراهيم الخليل عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة:126].
أيها المؤمنون: وإن من التحدث بنعم الله الإشارة إلى جلائها بين المزيتين، وظهورهما واقعاً معاشاً، وأثراً ملموساً، فلله الحمد والمنة، رغدٌ في العيش، واستتبابٌ في الأمن، وتوفرٌ في المطاعم والمشارب، ورخصٌ في الأسعار، ويسرٌ في الحصول عليها، مما يشهده الحاضر والباد.
ولقد أعان الله القائمين على أمر هذه البلاد، وهيأ لهم خدمة الحرمين الشريفين على وجه يستبشر به أهل الإيمان، وقبل ذلك وبعده حكَّموا الكتاب والسنة، وأظهروا أمر الشريعة، فراية الدين مرفوعة، وأهل الحق ظاهرون، فزادهم الله صلاحاً وإصلاحاً وإعانة وسداداً.
وإن هذا الخير المشهود مع ما يرجى من أملٍ في المزيد المنشود، عائدٌ إلى الاستقامة على الحق، والقيام بواجب الشكر، ومعرفة نعم الله وقدرها حق قدرها: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37].
إنهم يأكلون ويطعمون ويشربون ويستمتعون؛ ولكن: {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37] فهدف السكنى بجوار البيت الحرام هو: إقامة الصلاة على أصولها، وأداؤها على وجهها، والشكر على نعم الله المتوافرة ورزقه الكريم.(17/2)
من أسرار الحج
أيها الإخوة في الله ضيوف بيت الله! هذه بعض خصائص هذا البيت المعظم، وتلك بعض مزاياه، فلا يسع مؤمناً قصد هذه البقاع الطاهرة يرجو الرحمة ويأمل في المغفرة ويتطلع إلى حجٍ مبرور؛ لا يسعه إلا البعد عن كل ما يشوش على الآمنين أمنهم، والمتنسكين نسكهم، من صخبٍ ومجادلات ورفع أصواتٍ بما لا يليق، فلا تحلّوا شعائر الله ولا الشهر الحرام.
وإن من أسرار هذه الشعائر والمشاعر: وقوعها بعد شهر رمضان وفي الأشهر الحرم؛ أما شهر رمضان فالشأن أن يخرج منه الصائم القائم، وقد تطَّهر من الأرجاس والأنجاس، ولا سيما رجس الشحناء ودغل القلوب، أما الأشهر الحرم فقد قال الله فيها: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36] مما يشعر بالكف عن كافة وسائل الظلم، والمجاوزات، والتزام الاستقامة والأدب مع هذا البيت وأهله وضيوفه، يؤيد هذه الأسرار الدقيقة والأهداف السامية النبيلة الآية الكريمة: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197].(17/3)
دعوة للمسلمين إلى الوحدة والاعتصام بالكتاب والسنة
أمة الإسلام ضيوف الرحمن في بيت الله المطهر في جوار الكعبة المعظمة! يجب أن تتأكد الصلات بين المسلمين، وتتوثق الوشائج، وتتجلى الوحدة الإسلامية في أظهر معانيها، إذ ينضوي المسلمون تحت -شعار الإسلام- شعار التوحيد، تكبيرٌ وتهليل، وذكرٌ وتلبية، فلا مكان لأي لونٍ من ألوان العصبية، ولا مجال لأي مبدأ أو شعار.
إن أمة الإسلام تعيش في هذه الأعصار ليالٍ حالكة، وسراديب مظلمة، يسودها تفرقٌ واختلاف، وتناحرٌ وتطاحن، فمتحتمٌ عليها أن تفوق إلى نفسها، وتجمع صفوفها، وتأخذ من هذه المناسبة، وهذا التجمع الإسلامي العظيم فرصة التصحيح لروح الإخاء، واليقين لحقيقة الرابطة، والتجسيد لمنابع الحج، التي أهمها وأعظمها الوئام والتكاتف ضد أعداء الأمة المتربصين بها الدوائر.(17/4)
نداء لأولياء أمور المسلمين
يا زعماء الإسلام: ويا قادة المسلمين! يجب استشعار هذه الوحدة والبعد عن التنكر لها أو استبعادها، مهما كان على الديار الإسلامية من سحائب الشقاق، وغيوم التفرق، فكتاب ربنا محفوظ، وسنة نبينا بينة، وهما المرجع في كل خصام، والحكم في جميع ما اختلف فيه.
لماذا لا يكون ذلك ونبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم قد وضعنا على المحجة وقال في مثل هذا الموسم: {تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله}.
فالإيمان بهذه الحقيقة، واطمئنان القلب إليها، يُوقظ في أعماق النفس النداء النبوي الكريم في مثل هذه المناسبة أيضاً حيث قال عليه الصلاة والسلام: {ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض} فبمثل هذا التوجه، وعلى هذا النحو، تقتحم الصعاب، وتتحقق الآمال، وتكون للمسلمين عزة وقوة، قوة لا للتخريب والاستلاب، ولكن لدفع شر المعتدي، واسترداد الحق من المغتصب في أفغانستان وفلسطين، وسائر المغتصبات من ديار المسلمين.(17/5)
دعوة للاعتصام بحبل الله وجمع الكلمة
فاتقوا الله أيها المسلمون واتقوا الله يا ولاة أمور المسلمين! فإن الأمة الآن في أشد حاجة من أي وقتٍ مضى إلى جمع الكلمة، والتمسك بالدين، وتوحيد خط المسيرة في الأساليب والمناهج ووسائل التوجيه الاجتماعي، وشتّى مسارات الحياة، من أجل أن تتوثق الروابط، وتحمل أمةٌ من العبث والفوضى، والفساد والإلحاد، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وجمع كلمة المسلمين على الحق.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(17/6)
ضرورة اغتنام فرص الحج
الحمد لله، كتب العزة للمسلمين بالإسلام، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره على جزيل الفضل والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله جعل الذلة والصغار لمن خالف أمره، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون! واغتنموا فرصة هذه اللقاءات المباركة في هذه الرحاب الطاهرة الآمنة الوادعة، واعقدوا العزم على العمل الصالح لجماعة المسلمين، والدعوة لإحياء ما اندرس من معالم الحنيفية، والبعد عن كافة أشكال الوثنية وأرجاسها، فجمع الحجيج فرصة للأمة لتعيد فيه كل عامٍ ما تصدع من بنيانها، وتصلح ما اضطرب من شئونها، فهي أمة واحدة، وإن تناءت الديار، وتباعدت الأوطان، وهي جسدٌ واحد وإن اختلفت الألسن، وتعددت الألوان.
هذا وصلوا وسلموا على المصطفى من ولد عدنان، فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذِّل الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، ودمر اليهود ومن شايعهم، وسائر الطغاة والملحدين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين.
اللهم وفق قادة المسلمين للعمل بكتابك، والحكم بشريعتك، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم وفق قادة المسلمين للعمل بكتابك، والحكم بشريعتك، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ، يعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، الذين يجاهدون لإعلاء كلمتك، وإعزاز دينك.
اللهم أيدهم بتأييدك، وانصرهم بنصرك، وكن معهم ولا تكن عليهم، واجعل الدائرة على أعدائهم يا قوي يا عزيز.
اللهم تقَّبل من الحجاج حجهم، اللهم وفقهم لحجٍ مبرور، وسعيٍ مشكور، وذنبٍ مغفور، ويسر لهم جميع الأمور.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(17/7)
قضية البوسنة والهرسك المشكلة والحل
إن قضية البوسنة هي القضية الفاضحة لجريمة النظام الدولي الجديد، ومثال للتخاذل العالمي الصارخ عن نصرة الحق، وهي فاضحة للمبادئ المزورة لأدعياء حقوق الإنسان وحماة ديمقراطية التقدم، وينبغي أن يعرف المسلمون أن الحرب حرب عقيدة ودين بين المسلمين وأعدائهم من اليهود والنصارى وأذنابهم.(18/1)
القضية الفاضحة للسلام المكذوب والديمقراطية الزائفة
الحمد لله ذي العزة والقدرة والملكوت، والقهر والقوة والجبروت، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، لا إله إلا هو يحيي ويميت وهو حي لا يموت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، جعل رزقه تحت ظل رمحه، والعزة والمجد والمنعة لمن أطاعه واتبعه، والذلة والصغار والشنار لمن عصاه وخالف أمره، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل والعمل الصالح، فاتقوا الله ربكم: {وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:11].
أيها المسلمون: يضيق بعض المثقفين حينما يكون الحديث عن الأعداء -أعداء الدين والملة- ولا أدل على ضيقهم وتبرمهم من قولهم: إن الأحاديث عن الأعداء مبالغٌ فيها، إنها أحاديث عجزة، وتسميات فاشلة العجزة والفاشلون هم الذين يُعلِّقون أخطاءهم على أعدائهم، وينسبون فشلهم إلى غيرهم.
أمَّا الآن فلعل إخواننا -هداهم الله- قد استفاقوا، ولعلَّ صُبحهم قد استبان، فقد جاءت الفاضحة قولاً وعملاً، بالكلمة المسموعة، والصورة المشاهدة، جاءت الفاضحة بأبشع أشكال العنصرية، وأجلى مبارزة في عداء الإسلام وأهله، إنها قضية إخواننا في البوسنة والهرسك، ولقد كانت ولا تزال قضيتنا في فلسطين، وقضايانا في كشمير، والشيشان، وبورما، والفليبين ومواطن أخرى من العالم في دول وأقلياته ملتهبة تارة وصامدة أخرى، قضايانا مع اليهود والنصارى والمشركين.
ولكنها الفاضحة الماثلة والحية القائمة، إنها جريمة النظام الدولي الجديد، والتخاذل الصارخ، والتواطؤ الجلي.
إنها فاضحة النفاق الرسمي، والنفاق الدولي، فاضحة للمبادئ المزورة من حقوق الإنسان وديمقراطية التقدم، فاضحة لكنها بشعارات العدالة والحرية وحق تقرير المصير وسيادة الدول، والقانون، والشريعة الدولية.
وتذكر -يا أخي- ما شئت من هذه الألفاظ والمصطلحات التي يلوكها الإعلام بوسائله وقنواته ويروجها ليخدع بها الناس، ويُخدِّر الكثير من مغفليهم ومغفلينا.(18/2)
التفرقة الدينية والصليبية في الغرب
منطقة البوسنة ميدان الفصل بألوان الخداع السياسي والنفاق الدبلوماسي، فاضحة لأولئك الذين يتزعمون العالم الحر، ويدافعون عن حقوق الإنسان، ويرفعون المظالم عن البشرية، فاضحة للغرب وأهله بنصرانيته وصليبيته.
إنهم قوم لا يستطيعون العيش ولا يطيقونه إلا بالتفرقة الدينية والتمييز العنصري، فاضحة ثم فاضحة حين يرفضون أن تقوم دولة مسلمة من بني جلدتهم في أوروبا، لقد أثبتت قضية البوسنة أن النصارى لا يقبلون تعدد الأديان ولا تعدد المذاهب، فهذه هي البوسنة، وتلك هي الشيشان، وكم هو من حقك -أيها المسلم- أن تنظر في الأحزاب وتفسرها بعد ذلك وتعرف بواعثها وغاياتها.
إنها فاضحة لأعداء الإسلام، وهي فاضحة -في ذات الوقت- لفئات من أهل الإسلام، دولاً، وشعوباً، في تخاذلهم عن حقوق إخوانهم في سلامة أنفسهم، وأعراضهم، وحماية ديارهم وأوطانهم، والغيرة على عقيدتهم وأمتهم، وهي فاضحة للمهزومين في داخل نفوسهم، فالغرب -يا هؤلاء- لا يكفيه أن يلبس المهزومون من اللباس كما يلبسون، وأن يجروا كلاباً بقلائد الذهب كما يجرون، لا يكفيه أن يُردد الرقيع من فطرياته، والحقير من تقليعاته.
إن مقصدهم الأعظم، وهدفهم الأكبر هو التخلي عن الإسلام، والانتماء إلى المحفل الكنائسي: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217].(18/3)
المعايير الغربية والرؤية النصرانية هي الحكم في قضية البوسنة
لقد أضحى من الجلي البيَّن أن معايير المصالح الغربية والرؤية النصرانية هي الحاكمة في القضية، وهي التي تُحدِّد المسار وتقرر المصير.
ومن أجل مزيد من الإثبات لبعض من لا يزال في قلوبهم ريب وفي نفوسهم شك، هذا متحدث منهم ذو مقام رفيع يقول عن هذه الفاضحة وقد صدقكم فيما قال: إن الصرب هم حلفاء الغرب المخلصون في عملية التطهير التي تتم من أجل التخلص من الأقليات غير المرغوب فيها.
إن الغرب قد صنف الصرب كمعتدين، ولكنه يأبى أن يضعهم في مصاف الأعداء، والسبب -والكلام لا يزال لهذا المتحدث منهم- هو أننا نحن الغربيين ونحن الأوروبيين نحارب نفس العدو الذي يُحاربه الصرب، ذلكم هو الإسلام والمسلمون.
إن الغرب -ولا يزال يتحدث- قد يلقي بعض قنابل الدخان في مواجهة الصرب، ولكنه لن يتدخل بصورة حاسمة ضدهم؛ لأنهم يقومون بمهمة تحقق هدفاً تطلع إليه الغرب، ووجد في الصرب ضالته المنشودة بتنفيذ تلك العملية القذرة.
إنه إذا كان لابد -ولا يزال الحديث له- من تدخل غربي في البوسنة، فإن ذلك التدخل سيتم بالضرورة على حساب الضحية وهم مسلمو البوسنة، وإن قوة التدخل التي أنشئت ستكون مهيأة لمواجهة أي تحرك من جانب مسلمي البوسنة.
وختم كلامه بقوله: إنه لولا التحالف بين الغرب وبين الصرب لانتهت هذه الحرب منذ زمن طويل.
إن الغرب يواجه الصرب بليونة، وضحية تلك الحروب الشريرة هي الثقافة الإسلامية، التي يرى الغرب أنها تتعارض مع نظام دولي بلا قيم ولا مبادئ، يريد الغرب أن يفرضه على الجميع انتهى كلامه.
ويقول أحد وزراء خارجيتهم وقد سُئِلَ عن مسوغات وجود حلف الأطلسي وقد انهار الاتحاد السوفيتي يقول: إن المواجهة القادمة ستكون مع العالم الإسلامي!!
ويقول رئيس وزراء إحدى دولهم معلقاً على أحداث البوسنة: إننا لن نسمح بقيام دولة إسلامية في أوروبا.(18/4)
الواجب على المسلمين تجاه العداء النصراني
أيها المسلمون: إنه كلام واضح فاضح، وحال القضية أوضح وأفظع، وهذه هي الحقيقة! فيا ليت قومي يعلمون.
يجب الكف عن المبررات المتهالكة، وصرف النظر عن الوعود والاجتماعات المخدرة، كلهم متواطئون وكلهم أفّاكون يتلاعبون بالضعاف، تارة يتشاورون، وأخرى يتلاومون، وهذا يتمهل، وهذا يستنكر، وهذا عنده خُطة، وذلك يطرح خيارات في كلام ملَّ العالم ترداده، ودعاوى أصم الأسماع دويها، وكرهتها وتفطرت لها القلوب، وأسفر أصحابها عن وجه كالح وعنصرية شوهاء، وحقد دفين، وحيف قاتل.
من يُصدِّق أن الأمم المتحدة بأعضائها، ومجلس أمنها، لا تستطيع حماية الملاذات الآمنة، وقد جردت أهلها من السلاح، أم أنها أسد على قوم نعامة على آخرين؟! معايير ومكاييل متباينة في معاجلة المشكلات والأزمات!(18/5)
حقيقة العداء بين المسلمين والصرب
إن ما يحدث هو حرب عقيدة، وإبادة شعب، وإلغاء وطن، إنما هو اجتثاث جذور الإسلام من أوروبا، من أجل هذا! لم يسمع الغرب صراخ الأطفال، وأنين الثكلى، لم يأبه بانتهاك الأعراض، ولم يكترث بجثث الشيوخ وسحق الأبرياء، أين أنتِ يا منظمات العصر الدولية؟
وأين أنتِ يا لجان حقوق الإنسان؟
أين هي الأعراف الدولية؟ وأين هي المواثيق الدولية؟
هل يحتاج أن يَذكر التاريخ أو يُذَكِّر أن الغرب لا يزال يدفع لليهود ثمن ما فعلته النازية في بضع مئات من اليهود، ولكن ما يفعله مجرمو الصرب بمئات الآلاف من المسلمين لا يثير أي شفقة ولا يدر أي دمعة! سقطت الملاذات الآمنة، وكان على رأس الساقطين معها: الأمم المتحدة بقواتها وقراراتها ووعيدها وتهديدها.
وعلى رأس الساقطين أيضاً: حلف الأطلسي، وقوة التدخل السريع، ومع هذا السقوط تجسد الانفراط الدولي والفوضى العالمية في نظامها الجديد، فوضى على مستوى كبريات دول العالم لم يسبق لها مثيل، كثرة الهرج والمرج وربك أعلم بمصيرها ومصير أهلها، تدهور مجلس الأمن، وضاعت الأمم المتحدة، وذابت المبادئ، صورة حية، وشاهدة من حياة وحوش الغاب، وفوضى السباع، لا يريدون سلماً ولا سلاماً ولا إسلاماً، ليس إلا المصالح السياسية الضيقة، والاحتكار الاقتصادي الخانق، وديكتاتورية تفسير المصطلحات والمبادئ.(18/6)
آثار ونتائج الحرب العقدية بين المسلمين والصرب
إذا كان ما يحدث هو حرب عقيدة وإبادة شعب وإلغاء وطن؛ فإنه من جانب آخر استثارة لعوامل العنف وتوليد لبؤر الإرهاب، وتنمية لكوامن الرفض.
أي إرهاب أعظم من هذا الإرهاب الذي يمارسه الصرب الصليبي الحاقد؟!
إذا لم يكن هذا هو الإرهاب الدولي فما هو الإرهاب إذاً؟!
وإذا لم يكن هذا هو التطرف الدولي فما هو التطرف إذاً؟!
ولماذا لا يولد في مثل هذه الأجواء كل ألوان التطرف وأصناف الإرهاب؟!
ماذا على شعب البوسنة لو تحوَّل إلى شعب ينتقم لنفسه، وينتصر لحقه، في عمليات ثأر لدينه وأهله وكرامته؟
إن في داخل النفس البشرية نزعات تدميرية، ورغبات جامحة بالانتقام والتدمير والهدم، ماذا على شعب البوسنة ومن ورائه أمة الإسلام أن ينتقموا لأنفسهم ويجاهدوا في سبيل ربهم، وقد رأوا ما لحق ديارهم من دمار، ومساجدهم من هدم، وأهلهم من تقتيل وتشريد، وقضاياهم من خذلان، دمار وأشلاء، وجوع وفقر، واغتصاب وتشريد هذه هي القضية بصورها ومجرياتها، وبواعثها وغاياتها.
إنها بلاء ومحنة لمن كان له قلب من أهل الإسلام، ولقد آن الأوان أن يخرج المسلمون عن صمتهم، وينطقوا من بعد طول سكوتهم، هؤلاء هم الأعداء، وهذه هي الفاضحة: {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ * إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:1 - 2] {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:9].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(18/7)
بيان شناعة الجريمة الدولية في البوسنة والهرسك
الحمد لله أعطى فأجزل، ومنَّ فأفضل، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، صاحب الخلق الأفضل، والنعت الأكمل، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان وسار على نهج صبر الأولين.
أما بعد:
أيها الإخوة: في ذاكرة التاريخ ليست هذه هي المذبحة الأولى التي يتعرض لها المسلمون من قبل أعدائهم من اليهود والنصارى والمشركين، مع التتار مذابح وفي الأندلس وبلاد الشام مع الصليبيين مذابح وفي بلاد البلقان مع الشيوعيين والنصارى مذابح وفي الهند وكشمير مذابح وفي فلسطين وصبرا وشاتيلا مع اليهود مذابح وفي بورما والفليبين مذابح، ولكن مذبحة البوسنة تزداد شناعتها، وتعظم فضاعتها، بجلاء موقف عالم اليهود والنصارى المستحكم، وتخاذل المسلمين أنفسهم، وهوانهم على أنفسهم وعلى الناس.
إنها مأساة عميقة الأثر جسيمة الخطب! في عبث دولي قذر، وتصرفات ساخطة مزرية، ولن يكون الحلَّ ولن يتم الخروج من المأساة إلا حين تتولد القناعات، بأن حماية الأديان، والحفاظ على الأوطان، لا يكون ولن يكون من خلال مفاوضات كاذبة، والتماسات هزيلة، ووعود مضللة، وكلمات معسولة، ولكنها العقيدة الإيمانية، والتربية الصارمة، والقوة الضاربة، والتخطيط السليم، والصبر الجميل، وقذيفة من حديد خير من ألف قذيفة من كلام، وإننا لن نمل مناشدة دولنا الإسلامية، وشعوبنا المسلمة؛ لتقف مع قضاياها وقوفاً صادقاً مع وضوح في الرؤية وتمييز للأعداء: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً} [النساء:45].(18/8)
مواقف الدول الإسلامية تجاه قضية البوسنة
يجب أن تعي الدول الإسلامية دورها وقوتها وإمكانياتها، تعي ذلك من خلال مواقف واضحة في سياستها، واقتصادها، وسلاحها، وجندها، في هيئاتها ومنظماتها، تنطلق من عقيدتها في قرآنها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:57]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1] {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36] {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة:39].
لابد من غضبة لله، وغيرة على دينه وحرماته، شعب مسلم يقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، يُسفك دمه، ويُنتهك عرضه، ويُشرد من دياره، ويُذبح ذبح النعاج! لقد علَّمكم قرآنكم أن المصائب والمصاعب والابتلاءات والمحن هي طريق الوحدة والقوة، وهي طريق النصر والفرج: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141] {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5 - 6].(18/9)
آمال ومبشرات تجاه القضية البوسنية
أيها الإخوة: وعلى الرغم من هذا الظلام الدامس، والإجرام المتكالب، فلا يزال في الأمة أمل وآمال، وإن من مبشرات الأمل ومن المنطلقات الصحيحة، ما يُسمع من نداء هنا ونداء هناك في التنادي على الحق من أصوات مسلمة، وحناجر مؤمنة، ويأتي في مقدمتها ما تتطلع به بلاد الحرمين الشريفين -حماها الله وحرسها- حكومة وشعباً من مواقف واضحة نحو قضايا الأمة بعامة وقضية إخواننا في البوسنة والهرسك خاصة، في مواقف رسمية، ومحافل دولية، وتحركات شعبية، وهيئات إغاثية، ولجان خيرية.
وإنها لمنطلقات صحيحة، ومواقف داعمة، يجب تأييدها وبذل المستطاع لها مادياً ومعنوياً ودعاءً ونصرة، كما يجب أن تنضم معها وتعاضدها جهود الأمة في أطرافها الأخرى، حكومات وشعوباً ومنظمات وهيئات، وإعادة للنظر، وتقويم لمسار الأمة ومواقفها من أعدائها، فمن المؤكد كل التأكيد أنه لن يحفظ لأهل البوسنة حقهم، ولن يحفظ لأمة الإسلام حقها في قضاياها، إلا دينها وعقيدتها وقوتها الذاتية بإذن الله وتوفيقه، مع الصمود والإصرار، والجهاد في سبيل الله، ومعرفة العدو ومنازلته، من أجل عيش كريم، ووجود شامخ، وعزة مؤمنة: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد، نبي الرحمة والمرحمة، فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر الكفرة والطغاة والملحدين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تُحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة، وأعنه على أمور دينه ودنياه، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين.
اللهم وانصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين، اللهم لا حول ولا قوة إلا بك، أنت رب المستضعفين، وناصر المستغيثين، اللهم لا يُعجزك تجبر المتجبرين، ولا كيد الكائدين، اللهم مُنَّ على إخواننا في البوسنة والهرسك بالنصر والتأييد، اللهم اكتب لهم نصراً من عندك، وأيدهم بجند من عندك، اللهم وأنزل عذابك ورجزك على الصرب الظالمين وأعوانهم.
اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزم الصرب الظالمين، وانصر إخواننا عليهم، اللهم لا يُخلف وعدك، ولا يُهزم جندك، انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم إن الأعداء قد طغوا وبغوا وعاثوا في الأرض فساداً، اللهم أنزل عليهم بأسك ورجزك يا قوي يا عزيز.
سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت، أنت حسبنا ونعم الوكيل.
اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُأمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(18/10)
الماء سر الحياة
آيات الله في الآفاق والأرض والسماوات كثيرة، من هذه الآيات نعمة عظيمة وجليلة، إنها نعمة الماء، أعظم النعم، عليه تقوم الحياة، وهو أساس الحضارة والرقي، وعماد الاقتصاد ومصدر الرخاء، فالواجب علينا معرفة عظم هذه النعمة، واستغلالها، وتجنب التبذير والإسراف فيها.(19/1)
الماء آية من آيات الله الكونية
الحمد لله بارئ البريات وعالم الخفيات، المطلع على الضمائر والنيات، أحمده سبحانه وأشكره، أحاط بكل شيء علماً، ووسع كل شيء رحمة وحلماً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وكل شيء عنده بمقدار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، خاتم الأنبياء، وأكرم من مشى تحت أديم السماء.
اللهم صلِ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد نبي الرحمة، وعلى آله وأصحابه خير صحب وآل من خير أمة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تجددت نعمة بعد نعمة.
أما بعد:
أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله -رحمكم الله- وبادروا آجالكم بأعمالكم، واستعدوا للرحيل فقد جد بكم، فربكم لم يخلقكم عبثاً، ولم يترككم سدىً، فتزودوا من دنياكم ما تحرزون به أنفسكم غداً، فرحم الله عبداً اتقى ربه، ونصح نفسه، وقدم توبته، وغلب شهوته، فالأجل مستور، والأمل خادع.
أيها المسلمون: آيات الله في الآفاق وفي الأنفس، وفي السماوات وفي الأرض كثيرة يمر عليها الناس وهم عنها معرضون، نعم وآلاء تتوجه إليها البصائر والأبصار في مكنونات هذا الكون، والظواهر والأحوال في تأملات واسعة الآماد، ممتدة من المنشأ حتى المعاد.
فالأرض فراش ومهاد، والسماء سقف محفوظ ومرفوع بغير عماد، ظواهر عجيبة في تقلب الليل والنهار، والفلك الدوار، والرياح المرسلة، والأمواج الهادئة والهادرة.
سَبْحٌ من التفكر عظيم في هذا الكون الواسع الفسيح.
تفكر وتأمل يحيي القلوب، ونظر وتبصر يستجيش العقول في بدائع صنع الله الذي أتقن كل شيء؛ لينظر في آثار الربوبية وليكون التوحيد كله لله.(19/2)
بيان أهمية الماء في الحياة
عباد الله: وهذه وقفة مع نعمة واحدة من هذه النعم وآية كبرى من هذه الآيات، أنعم الله بها على خلقه، منها خلقهم، وعليها أقام حياتهم، وقسم أرزاقهم، وهي بإذن الله سر الحياة.
ورد لفظها بمشتقاتها في كتاب الله أكثر من مائة وستين مرة.
تنزل من السماء، وتخرج من الأرض، وتتشقق منها الجبال، وتتصدع منها الحجارة.
طالما تلذذ بذكرها الأدباء، وتغنى بسلسبيل نظمها الشعراء.
تصورها يرطب القلوب، وذكرها يهز النفوس، بل إنها -بإذن الله- حياة الروح والبدن.
تلكم هي: هذا السائل المبارك الطهور، إنه الماء، واقرءوا إن شئتم في كتاب الله: {وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور:45].(19/3)
الماء من أعظم النعم
الماء من أعظم ما امتن الله به على عباده: {أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} [الواقعة:68 - 70].
وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [عبس:24 - 32].
إن ذكر الماء في كتاب الله بمفرداته ومكوناته من البحار والأنهار والسحاب يدل على عظم أثره في حياة البشرية.
هذا السائل المبارك هو أغلى ما تملك الإنسانية لاستمرار حياتها بإذن الله، أدرك ذلك الناس كلهم كبيرهم وصغيرهم عالمهم وجاهلهم، حاضرهم وباديهم، عرفوه في استعمالاتهم وتجاربهم وعلومهم، إن خف كان سحاباً، وإن ثقل كان غيثاً ثجاجاً، وإن سخن كان بخاراً، وإن برد كان ندى وثلجاً وبرداً.
تجري به الجداول والأنهار، وتتفجر منه العيون والآبار، وتختزنه تجاويف الأرض والبحار: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر:22] وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ} [المؤمنون:18].(19/4)
الحكمة من خلق الماء
هو ماء الحياة لكل الأحياء على هذه الأرض بقدرة الله، ماء فرات وماء ثجاجٌ، تحيون به أنفسكم، وتروون به عطشكم، وتطهرون أجسادكم، وتصنعون طعامكم، وتغسلون متاعكم، ماء مبارك طهور، يسقي الحرث، وينبت الزرع، ويشرب منه أنعام وأناس كثير: {وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} [الفرقان:48 - 50].
قال الله: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:10 - 11] ماء طهور، أغنى الله به بني آدم عن الحرام، والنجس في المطعوم والمشروب والدواء، فسبحان الله!
عباد الله: الماء أصل المعاش وسبيل الرزق، يقول عمر رضي الله عنه: [[أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة]].(19/5)
الماء وسيلة لحسن الثواب ووسيلة للعذاب
عباد الله: عجباً لهذا الماء! جعله الله وسيلة لحسن الثواب في الدنيا، ففي التنزيل العزيز يقول الله: {وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجن:16] كما إنه وسيلة عقاب على المذنبين المكذبين: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:11 - 12].
وفي الآية الأخرى يقول الله: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40].
بل إنه من أعظم أنواع النعيم في الجنة للمتقين كما يقول المولى جل في علاه: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد:15] {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة:30 - 31].
كما أنه في صور أخرى وسيلة لعذاب أهل النار عياذاً بالله من النار: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29] وكما قال الله: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15].
أيها المسلمون: إن السعي في حصر خصائصه ووظائفه ومنافعه وفوائده تعجز الحاصرين، فلا شراب إلا بماء، ولا طعام إلا بالماء، ولا دواء إلا بالماء ولا نظافة إلا بالماء، ثم لا زراعة إلا بالماء، بل ولا صناعة إلا بالماء.
لم تنقص قيمته لا بتقدم الإنسانية ولا بتخلفها، بل لقد زادت أهميته ثم زادت، حتى صاروا يتحدثون عن الأمن المائي والصراع على موارد المياه ومصادرها ومنابعها.
الماء هو عماد اقتصاد الدول، ومصدر رخائها بإذن الله، بتوافره تتقدم وتزدهر، وبنضوبه وغوره وشح موارده تحل الكوارث والنكبات: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30] {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18].(19/6)
التحذير من الإسراف في الماء
أيها المسلمون: إن الإنسان المعاصر قد وصل استهلاكه للماء إلى أرقام من الإسراف مخيفة، وبخاصة ما يصرف في الاستحمام والمراحيض والسباحة، وسقي الحدائق وأمثالها، فأما المستعمل في الشرب والطهي فلا يتجاوز نسبة (2%).
إن توفير المياه وحماية مصادرها ورعاية محطات تنقيتها أهداف سامية لكل دولة، فالمساس بها والعبث بها، وإهمالها يشكل خطراً على أمنها وحياة رعاياها.
أيها الإخوة الأحبة: وإن عقيدتنا بربنا سبحانه وتعالى، واعتمادنا عليه كبير، فهو سبحانه يصرف الماء بين الناس ليذكّروا، ولكن الأخذ بالأسباب، والسلوك على نهج محمد صلى الله عليه وسلم في التوسط والقصد والبعد عن الإسراف هو المنهج الحق، لا فضل للأمة في أن تبدد خيراتها بيديها، ولكن الفضل كل الفضل أن تكون قوية مسيطرة على أمورها، متحكمة في نظمها، حازمة في تدبير شئونها.
إن الأمة تملك عزها، وتحفظ مجدها، بالحفاظ على ثرواتها ومواردها، والتحكم بما في يديها.
إن الأمة إذا وقعت في عسر بعد يسر، تجرعت مرارة الهوان المصحوبة بحسرات الندم، فالإسراف يفضي إلى الفاقة، وبالإسراف تهدر الثروات، وتقوض البيوتات، وفي عواقبه البؤس والإملاق، يقول الله: {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء:151 - 152].
المسرف همته الوصول إلى متعته ولذته، ولا يبالي بمصيره ولا بمصير أمته، كما حكى القرآن عنهم: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16].(19/7)
الهدي النبوي في استعمال الماء
عباد الله: إن الماء مورد عظيم، بل إنه من أكبر الموارد التي تحتاج إليها كل أمة في كثير من ميادين حياتها ومعاشها، ولقد ورد في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم الحث على المحافظة عليه، والاقتصاد في استعماله، وتجنب الإسراف في استخدامه واستهلاكه في وجوه الاستخدامات كافة، شرباً وطهياً، واغتسالاً وغسلاً، وغير ذلك.
وتأملوا في سنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم: {فقد كان يغتسل بالصاع، ويتوضأ بالمد} رواه أحمد ومسلم وغيرهما.
وفي رواية الصحيحين: {كان يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد} بل جاء عند مسلم من حديث عائشة رضي الله عنه: {أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم في إناء واحد يسع ثلاثة أمداد أو قريباً من ذلك}.
وفي رواية عند أبي داود من حديث أم عمار: {أنه عليه الصلاة والسلام توضأ بماء في إناء قدر ثلثي مد}.
ولقد شدد أهل العلم رحمهم الله في المنع من الإسراف بالماء ولو كان على شاطئ النهر أو البحر.
يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: [[اقتصد في الوضوء ولو كنت على شاطئ نهر]].
وقال محارب بن دثار: [[كان يقال: من ضعف علم الرجل ولوعه بالماء في الطهور]].
وجاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فقال: {يـ ابن عباس كم يكفيني من الوضوء؟ قال: مد، قال: كم يكفيني لغسلي؟ قال: صاع، فقال الرجل: لا يكفيني، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا أم لك! قد كفى من هو خير منك، رسول الله صلى الله عليه وسلم} رواه أحمد والبزار والطبراني بسند رجاله ثقات.
أيها المسلمون: لا بد من الأخذ بالحزم في هذا الشأن، فالله سبحانه وتعالى لا يحب المسرفين، والمبذرون هم إخوان الشياطين، وإن عدم الشعور بالمسئولية، ونزعة الاتكالية، وإلقاء التبعة على الآخرين، مصيبة قاتلة، وسبيل لانهيار المجتمع، وضياع لحقوقه ومرافقه، فإذا تنصل المرء من مسئوليته، وتفلت من التزاماته؛ أصبح عضواً فاسداً وكلاً على مجتمعه، وعبئاً على أمته، ولو تعلل كل مؤمن بتقصير غيره؛ لما بقي في الدنيا حوافز للخير؛ لأن وجود الإهمال في بعض الأفراد أمر لا بد من وقوعه بصورة ما، في كل زمان ومكان، والعقلاء والجادون يتخذون من وقوع الأخطاء عند الآخرين مواطن عظة واعتبار، فيحاولون ما استطاعوا إصلاح الخطأ، وتغيير المنكر، والتعاون على البر والتقوى.
إن من الخطأ المدمر، والهلاك المرضي: أن يتهاون بعض الناس فيقول: هذا من مسئولية فلان، وتلك من مسئولية الجهة الفلانية، والحق قوله صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته}.
أيها المسلمون: وما يتحدث به بعض المهتمين من ذوي الشأن في أنحاء كثيرة من العالم من ظهور نقص في المياه، وتخوف من الشح في مصادرها، أمر ينبغي أن يؤخذ مأخذ الجد، وإن كان اعتماد المسلم على ربه سبحانه، فيضرع إليه ويلجأ إلى رحمته، فيستقيم على الطريقة، فيسقيه ماء غدقاً، ويتأخر الغيث عن موعده، فيتوجه المسلمون إلى ربهم دعاءً وصلاةً واستسقاءً.
ومع كل ذلك لا بد أن يُؤخذ بالأسباب، فحسن الاستعمال، والاقتصاد في الاستهلاك، مسلك إسلامي رشيد، وما يتحدث عنه هؤلاء من مؤشرات نذر، وما يتحدثون عنه من الأمن المائي، وحروب المياه، ومعارك التعطيش، فإن الذي يجب أن يعلم، أن قضايا المياه قضايا إنسانية، وضرورات حياتية، يجب أن ينأى بها عن دائرة الصراعات والحروب، والابتزاز والمتاجرات والمزايدات، ولكنهم مع الأسف يؤذون البشرية، ويخوفونها بحروبهم الباردة والساخنة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:32 - 34].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(19/8)
الآداب الإسلامية في المحافظة على الماء
الحمد لله المتفرد بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، القائم على كل النفوس بآجالها، العالِم بتقلبها وأحوالها، أحمده سبحانه وأشكره، نفذت في خلقه مشيئته، ومضت فيهم إرادته، فهم على أقدارهم يمشون، وبما تيسر لهم من الأعمال يعملون.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أكمل به الدين وأظهره على جميع الأديان، صلى الله وسلم وبارك عليه ما تعاقب الجديدان، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
أيها المسلمون: من قضايا الإصلاح الاجتماعي: النظر في المرافق العامة، والالتفات إلى تحمل المسئولية فيها ورعايتها، والمحافظة عليها، حتى تحقق غايتها في منافعها، وحسن الاستفادة منها، ودعوة الإسلام في ذلك واسعة دقيقة، من رعاية الطرق، وصيانة المياه، والمحافظة على الظل، ومنع الأذى بكل صوره، وكف الشرور بأنواعها، مما يؤدي إلى صلاح المجتمع وعمارة مرافقه، وحسن استعمالها، والاستفادة منها؛ مما يجسد التحضر بأرقى صوره في الفرد والجماعة.
أيها الأحبة: وهذه صورة من صور المحافظة على الماء في ديننا، ولا سيما في حفظها من التلوث، ذلك الأمر الذي لم تعرفه البشرية إلا في وقتها الحاضر، واعتبرته سمة من سمات تقدمها وتحضرها.
لقد كانت وصايا نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته في ذلك واضحة، في حفظ الماء، والمحافظة عليه، واستعماله طهوراً نقياً، نظيفاً خالياً من التلوث وأسباب التلوث.(19/9)
النهي عن إدخال اليد في الإناء عند الاستيقاظ من النوم
عباد الله: تأملوا حفظكم الله بعض هذه الوصايا: لقد نهى عليه الصلاة والسلام من استيقظ من منامه أن يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، وقال: {فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده}.
فلعله مس سوءته، أو حك شيئاً متقرحاً من جسده، أو لعل هناك حِكَماً لم تتبين بعد.
ومن هذه التوجيهات النبوية: التخصيص في وظائف اليدين، فاليد اليمنى تبعد عن مجالات التلوث والأقذار، وكل أمر يستدعي زيادة في الطهارة والتحرز.
فتناول الطعام والشراب والمصافحة مخصوص باليمين، ومن أجل هذا نهى الإسلام أن تمس العورة باليمين، أو مواطن النجاسات والمستقذرات، تقول عائشة رضي الله عنها: {كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى} أخرجه أبو داود بسند حسن.
وفي الحديث الصحيح: {إذا بال أحدكم فلا يأخذنَّ ذكره بيمينه، ولا يستنجي بيمينه، ولا يتنفس في الإناء} أخرجه البخاري.(19/10)
النهي عن التنفس في الإناء
ومن ذلك النهي عن التنفس في الإناء أو النفخ فيه، ففي الحديث: {إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، فإذا أراد أن يعود فلينح الإناء، ثم ليعد إن كان يريد} رواه ابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(19/11)
الأمر بتغطية الأواني وربط الأسقية
ومن الآداب: الأمر بتغطية الأواني وربط الأسقية حتى لا يصل إليها غبار أو هوام، يقول عليه الصلاة والسلام: {أطفئوا المصابيح إذا رقدتم، وأغلقوا الأبواب، وأوكوا الأسقية، وخمرِّوا الطعام والشراب ولوا بعود تعرض عليه} أخرجه البخاري.(19/12)
النهي عن الاغتسال في الماء الراكد
ونهى عليه الصلاة والسلام عن الاغتسال في الماء الراكد الساكن الذي لا يجري وقال: {ولكن يتناوله تناولاً}، ونهى عن التبول في الماء الدائم، بل لقد نهى عليه الصلاة والسلام عن التبول قرب الماء، فقال صلى الله عليه وسلم: {اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل}.
هذه بعض الآداب والتوجيهات، ولكن مع الأسف الشديد ما لوث الأنهار والبحار على سعتها وكبرها إلا ما جلبه أصحاب التقدم في صناعاتهم ومخترعاتهم ومعداتهم وآلاتهم.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31].
ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم في محكم تنزيله، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واخذل الطغاة والملاحدة وأعداء الملة والدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً، سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك، يا رب العالمين!
اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا بتوفيقك، وأعلِ به كلمتك، وأعز به دينك، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، اللهم وارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، اللهم واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك المؤمنين، اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك ولإعلاء كلمتك وإعزاز دينك، اللهم انصرهم في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين، اللهم انصرهم في كشمير، اللهم انصرهم في كوسوفا، اللهم انصرهم على اليهود الغاصبين وعلى الصرب الظالمين، وعلى الوثنيين المعتدين.
اللهم فرق جمع هؤلاء المعتدين من اليهود والصرب والوثنيين، اللهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، وخالف بين قلوبهم، واجعل بأسهم بينهم، وأنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم واجعل الدائرة عليهم يا قوي يا عزيز!
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرفنا في أمرنا وثبت أقدمانا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ، وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ؛ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ، واذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(19/13)
العزة في دروس الهجرة (التقويم الهجري)
إن العزة والكرامة من أبرز الخلال التي نادى بها الإسلام، وغرسها في نفوس أفراده، وتعهد نماءها بأحكامه وشرائعه وآدابه، ومما ينبغي أن يذكر في ذكرى الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ضرورة التزام التاريخ الهجري، وأنه لا ينبغي لأمة الإسلام أن تتخذ تواريخ أعدائها من اليهود والنصارى تاريخاً لها، وتدع ما سنه لها الخلفاء الراشدون.(20/1)
لمن تكون العزة
الحمد لله خلق كل شيءٍ فقدره تقديراً، أبدع ما خلق، وأتقن ما صنع حكمةً وتدبيراً، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كان على كل شيءٍ قديراً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله إلى الخلق بالحق بشيراً ونذيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله -رحمكم الله- حيثما كنتم، فهو سبحانه يعلم ما أخفيتم وما أعلنتم، فزكوا نفوسكم بالتوبة وطهروها، وأيقظوها من سِنَة الغفلة وذكّروها أن لكم موعداً لن تُخلَفوه، وموقفاً بين يدي ربكم لا بد أن تقفوه، ولسوف تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، ثم توفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون.
أيها المسلمون: إن العزة والكرامة من أبرز الخلال التي نادى بها الإسلام، وغرسها في نفوس المسلمين، وتعهَّد نماءها بما شرع من عقائد، وسن من أحكام، ووجَّه من آداب؛ فالمؤمن عزيزٌ بما أعزه الله، وبما منحه من كرامة، قال الله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] له الكرامة والعلو: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141].
وكيف لا يكون عزيزاً وهو في معية الله وكنفه ورعايته؟!
أي تكريمٍ وإعزاز أعظم وأعلى من مخلوقٍ استخلفه الله في أرضه، وسخر له مخلوقاته في أرضه وسماواته، وكلفه بإقامة الحق، ونشر العدل، وإشاعة الخير، وبسط الفضيلة؟!
ربه في معيته، والملائكة الكرام في حفظه، ويطمع ويطمح بإيمانه أن يكون رفيقاً للَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً!
هل بعد هذه المعاني الكبيرة، والمشاعر العالية من تكريمٍ وعزة؟!
إنها إذا سرت في كيان فرد، جعلت منه إنساناً كريماً، كبير الآمال، واثق الخطى، لا يحني رأسه لمخلوق، ولا تخضع رقبته لجبار، أبِيَّاً على الضيم، عصيَّاً على الذل والهوان.
إن المسلم بإيمانه وتوحيده، وحسن ظنه بربه، ينقل أقدامه على هذه الأرض مكيناً كريماً في عزة وخضوعٍ لله وخشوعٍ وخشيةٍ وتقوى ومراقبةٍ لله في السراء والضراء.
ومن هذا الخضوع ترتفع الجباه، ومن هذه الخشية يصمد المؤمن ويصد كل ما يأباه، ومن هذه المراقبة لا يتطلع إلا إلى رضا مولاه.
يقال ذلك -أيها الإخوة- والمتحدثون يتحدثون هذه الأيام عن الهجرة وحَدَثها، وتاريخها، وعبرها، ولكنه مع الأسف في كثيرٍ من أحواله حديث ذكريات وسرد لأحداثٍ مضت وانقضت، من غير توجهٍ جاد نحو الاستفادة الحقة والتأسي الصادق واقتران الأقوال بالأعمال.(20/2)
مواقف العزة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم
وإن من أهم الوقفات التي تستوقف المتأمل، ويتوجه إليها الحديث -وهو حديث المناسبة- موقف العزة الذي تجلى من خلال هذه الهجرة النبوية الشريفة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ورضي الله عن المهاجرين والأنصار وأرضاهم.
وإن درس العزة تحتاجه الأمة في حوالك أيامها، ومظاهر تسلط أعدائها، وصور الذلة والخنوع في كثيرٍ من جنباتها.
إن درس العزة والثقة يتجلى في ثقة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم بربه، ويقينه بحفظه ونصره، قال الله تعالى: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40] ثم يقول عليه الصلاة والسلام لصاحبه: {ما ظنك باثنين الله ثالثهما}.
ليكن العدو من يكون وما يكون، في شدته وبطشه وقوة سلاحه وكثرة جنده، فالله أقوى، والمسلم بربه أعز، ولن يُغْلَب صفٌ يكون رب العزة معه بالنصر والتأييد.(20/3)
أهمية التاريخ العمري في حياة الأمة الإسلامية
أيها الإخوة: وهذه وقفةٌ معاصرة، يستبينها درس الهجرة، تبين مدى ما أصاب المسلمين من غفلةٍ واستكانة وانهزام، ومدى ما بلغه الأعداء من تمكنٍ وهيمنة.
حساب السنين بتاريخ الهجرة سُنَّةٌ عُمَرية، هدى الله عز وجل إليها أمير المؤمنين المُحَدَّث عمر بن الخطاب وإخوانه من الصحابة، رضوان الله عليهم، حين تشاوروا في وضع تاريخ يبدأ منه حساب المسلمين، لقد اتفقوا على حدث الهجرة، لأنه الحدث الذي قامت به دولة الإسلام، وصارت به للمسلمين دار، ونشأ لهم به كيان، وشهر الله المحرم جاء بعد شهر الحج، والحج هو آخر الفرائض الكبرى تشريعاً.
فاليوم في الإسلام يبدأ من غروب الشمس، والشهر يبدأ من ظهور الهلال، والسنة تبدأ من شهر الله المحرم، هذا هو تاريخ المسلمين، وهذا ما جرى عليه عملهم، وتعاملوا به في كتبهم ومكاتباتهم، ومواعيدهم وآجال حقوقهم وديونهم، إنه تاريخٌ في ذاكرة كل مسلم، عند إشراقة شمس كل يوم، وإطلالة كل شهر، وحلول كل عام.
وظل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، يؤرخون به أحداثهم، ويسجلون به وقائعهم، ويكتبون به مكاتباتهم، ويثبتون به مواعيدهم، ويقدِّرون به أعمارهم، بل تقوم جملةٌ من الأحكام على هذا التاريخ المجيد.
لقد صار هذا التاريخ مترسخاً في نفوس كل المسلمين، عامتهم وعلمائهم، منذ الطفولة المميزة وحتى الشيخوخة المتأخرة، فهو مرتبط بهم ارتباط الأحكام بمواقيتها: في الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وفي جزئيات الأحكام: في العيدين، وأيام البيض، وستٍ من شوال، وعشرٍ من ذي الحجة، وأيام التشريق، وعاشوراء، في أحكامٍ وأيام لا تقع تحت حصر، يضاف إلى ذلك أيام الإسلام المجيدة المرتبطة بأحداث التاريخ، من مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسيرته، وأيامه، ثم فتوحات الإسلام من بعده في القادسية، واليرموك، وفتح الأندلس، وحطين، والقسطنطينية، وكل انتصارات المسلمين، وتاريخ أئمة الإسلام وأعلام الأمة.(20/4)
تخلي الأمة عن تاريخها سبب من أسباب انهزامها
وماذا حدث أيها الإخوة؟!
لقد جاءت عهود الاحتلال من قِبَل الأعداء، فاحتُلَّت كثيرٌ من ديار المسلمين، وتنبه هؤلاء الأعداء المحتلون لدور هذا التاريخ وأثره في ربط المسلمين بدينهم ومجدهم، في يومهم وشهرهم وعامهم.
لقد أدركوا دور هذا في الدين والتاريخ، فخططوا للفصل بين ذاكرة الأمة وتاريخها، فأدخلوا تاريخاً لا يمت لشعائر الإسلام بصلة، ولا تذكّرها أيامه وشهوره وأعوامه بدينها وأحكامها ومجدها، بل إنه تاريخٌ يُشَوِّش الأذهان، ويخلط الأزمان، تاريخٌ يُشْعِر المسلمين بالذلة والتبعية والدونية.
لقد عمل الأعداء ودأبوا حتى استطاعوا اقتلاع التاريخ الهجري الإسلامي العُمَري الراشدي من جميع بلاد المسلمين، ما عدا بلاد الحرمين الشريفين، صانها الله وحماها، وستظل بإذن الله حافظةً للعهد، قائمة بالحق، صامدةً ثابتة، مع علمنا وإدراكنا لمحاولة الأعداء التي لا تنثني -مما يؤكد ضرورة اليقظة- ولكنها ثابتةٌ بإذن الله، وكيف لا يكون ذلك، وهي البلاد التي تُحَكِّم شرع الله، وانطلقت منها البعثة والهجرة، وانبعثت منها أفواج الفتوح ورايات الحق؟!
أيها الإخوة: إن موقف الدرس والعبرة، وحديث العزة والهجرة، ليستوقف المتأمل، كيف ألغت غالبية المسلمين من ذاكرتها الشهور الهلالية، والسنين الهجرية، والقرون الإسلامية، وأحلت محلها تاريخ الأعداء وقرون المحتلين؟!
الله أكبر! ما هذه الذلة؟! وما هذه المهانة؟!
لقد جعلوا التاريخ الذي وضعه يوليوس قيصر بدلاً من التاريخ الذي وضعه عمر إمامهم وخليفتهم وصاحب نبيهم صلى الله عليه وسلم؛ ورضي الله عن عمر وعن الصحابة أجمعين.
لقد رحل المحتل بعسكره، ولكنه مع الأسف قد غرس البذور في رءوس المنهزمين والمهازيل والأذلاء، فحصلت الاختراقات المطلوبة، فعندما رحل الأعداء كان الطمس قد عم، والانحلال قد حل، وإن شئتم مزيداً من المآسي؛ فانظروا كم تتحدث الصحف ووسائل الإعلام عن الاستعداد والتخطيط لدخول القرن الحادي والعشرين.
إنها أمورٌ تُحْشَر حشراً، وإصرارٌ على حشو الأذهان بها قسراً، وكأن دورة الكون والتقدم الحضاري للبشرية، مرتبطة بهذه القرون وحدها.
إنكم لتعلمون، ويعلم كل منصفٍ عزيزٍ مستقل، أن التقدم الإنساني ليس مرتبطاً بقرنٍ دون قرن، فالمسيرة الإنسانية قد بدأت فيما مضى، وسوف تستمر بإذن الله وما شاء الله، ولا علاقة لها بحساب السنين من أي نوعٍ كان، شمسياً أو قمرياً أو غيرها.
أيها الإخوة: إنه لمن المحزن والمخزي، وإنه لمن الذلة والهوان أن ترى دول الإسلام تؤرِّخ وتحتفل وتبتهج بتاريخ الذين طمسوا دينها، وألغوا تاريخها، وامتهنوا موروثاتها.
كيف ترضى أمةٌ هي خير أمةٍ أخرجت للناس، بمن يمحو ذاكرتها، وذاكرة شعوبها، ويلغي تاريخها ويطمس مجدها؟!
وإن مما يسوء أن ترى أقلاماً في الأمة، وعقولاً في الناس، قد جدَّت في سلوك مسالك السخرية بتراث الأمة، والتشكيك في ثوابتها، ليتجلى فيها ومن خلالها إهدار الكرامات، واستباحة الحرمات، وتَرْهَقَ الوجوهَ الذلةُ، ويروجَ الباطلُ، وينزوي الحق، ويسود المنكر، ويتلاشى المعروف.
إنها زرافاتٌ من حملة الأقلام، ووجوه الإعلام، قد صُنِعَت رءوسهم خارج ديار الإسلام.
إن تصورَهم لكثيرٍ من حقائق الإسلام، وحكمَهم في كثيرٍ من القضايا لا صلة له -والله- بدين الله، ولا ارتباط له البتة بشرع الله، بل مع الأسف كل الأسف أن آخر ما يهتمون به هو الإسلام وحاضره وتاريخه ومستقبله ومصيره.
لقد كان المخلصون يظنون أن زوال الاحتلال وانكشاف خطط الأعداء كفيلٌ بإعادة هؤلاء إلى صوابهم، ولقد ازداد الأمر وضوحاً وجلاءً في معركة أهل الإسلام هذه الأيام مع اليهود المحتلين ومَن شايعهم!
أما كان هذا كافياً في مراجعة الحسابات وتصحيح الأخطاء؟!
ولكن مع شديد الأسى لقد كان كثيرٌ من ذلك وهماً، مع علمهم الجازم أنهم هاجت في دمائهم أصول ديانتهم المحرفة ولوثات تعصبهم المقيت، فهجموا على بلاد الإسلام، يبغون محو الأمة والدين والحضارة، وفي ملاقاة هذا العدوان لا تسمع إلا أحاديث الكُتَّاب والمثقفين عن اللهو والغناء، والتسابق المحموم في قنوات الرقص والمجون، فضلاً عن المنكر الصارخ في الإلحاد والتنكر للدين والتاريخ والتراث.(20/5)
من سنن الله في الأمم
أيها الإخوة: إن لله سنناً لا تتخلف، تجري على الأفراد كما تجري على الأمم، فيصيبهم الذل والهوان جزاء ما اقترفوا ولقاء ما قدموا، يسلطُ الله عليهم ما لم يكونوا يحتسبون، قال الله: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً} [يونس:27].
كيف ترجى عزة أو يؤمَّل النصر، وقد اهتزت العقيدة، وفُقِد المثل الأعلى، وطمس التاريخ؟!
بل لا تكاد ترى في مناهجهم وإعلامهم إلا ما يصور الذلة والخنوع والتبعية، وما يُجَرِّد الأمة بأفرادها من كل معاني العزة والعفة والغيرة، وتماسك الشخصية، والبعد عن مواطن الطهر النفسي والجسدي.(20/6)
النصر على الأعداء بطلب العزة من مظانها
أيها الإخوة: ولن تستعيد الأمة حقوقها، ولن تنتصر على أعدائها إلا حين تطلب العزة من مظانها، والعزة لا تطلب من الكافرين، فالعزة تطلب من رب العزة وحده لا شريك له، قال الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} [فاطر:10].
وعلق على هذه الآية الإمام القرطبي رحمه الله، وهو ممن عاش أيام سقوط الأندلس وأفول شمس المسلمين هناك.
يقول رحمه الله: "هذا تنبيهٌ لذوي الأقدار والهمم من أين تنال العزة ومن أين تستحق؛ فمن طلب العزة من الله وحده، وصدق في طلبها في افتقارٍ لربه وذلة وسكونٍ وخضوع، وجدها عند الله -إن شاء الله- غير ممنوعة ولا محجوبة عنه، وفي الحديث: {مَن تواضع لله رفعه}.
قال: ومن طلبها من غيره وكله إلى من طلبها عنده.
وقد ذكر الله أقواماً طلبوا العزة عند من سواه، فقال: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً * وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء:139 - 140].
قال رحمه الله: فأنبأك صريحاً لا إشكال فيه أن العزة لله سبحانه، يُعِزُّ بها من يشاء، ويُذِلُّ من يشاء، ومن اعتز بالله أعزه الله، ومن اعتز بغيره أذله الله.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، فالحق أبلج، والمحجة بيضاء، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، والعزة لله وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(20/7)
اعتزاز السلف الصالح بإيمانهم
الحمد لله الكبير المتعال، المتنزه عن الشركاء والأنداد والأمثال، أحمده سبحانه وأشكره بلسان الحال والمقال، فهو ذو الجود والإفضال.
وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، ذو العزة والجلال، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، شامخ العزة وكريم الخلق وشريف الخصال، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه خير صحب وآل، والتابعين لهم ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم المآل.
أما بعد:
فاتقوا لله عباد الله، واستقيموا على طاعته؛ فقد قال: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:14].
أيها المسلمون: في ماضي تاريخ المسلمين مرت فتراتٍ حوالَيه، مستهم فيها البأساء والضراء وزلزلوا، فاجتاح التتار ديار المسلمين، فضج منهم السهل والجبل، وأريقت دماء، وسجل التاريخ هول المناظر، وبشاعة الأحوال، وقد وُقِّف زحفُهم، ولكن لم يوقفه إلا العودة إلى الأصل والمنبع، إنه الإسلام ولا شيء غير الإسلام الذي تردد في بطاح عين جالوت، ولم يوقف تيار التتار سوى هذا النداء، نداء الإسلام: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].
أيها الإخوة: إن العزة الحقة حقيقةٌ تستقر في القلب، فيستعلي بها المرء على كل أسباب الذلة والانحناء لغير الله، عزةٌ يستعلي بها على الشهوات المذلة، والرغائب القاهرة، وحين تتحقق العزة لمؤمن، فلن يملك أحدٌ إذلاله وإخضاعه، وإنما تذل الناسَ شهواتهم ورغباتُهم، ومطامعُهم ومخاوفهم.
أيها الإخوة: ليست العزة عناداً جامحاً، يستكبر على الحق، ويتشامخ بالباطل، وليست طغياناً فاجراً، يضرب في عتوٍ وتجبر، وليست اندفاعاً، يخضع لنزوة، ويذل لشهوة، لكنه استعلاءٌ على الذلة والمهانة، واستعلاءٌ على الخضوع لغير الله.
هاهو ربعي بن عامر، ابن الصحراء الجافة القاحلة، يباشر الإيمانُ قلبَه، ويستبطن القرآن بين جنبيه، فيقف أمام قائد الفرس، فيسأله رستم، بأبهته وعسكره: من أنتم؟ فيجيب ربعي بن عامر في عزة المؤمن إجابةً خلدها التاريخ: [[نحن قومٌ ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]] إنها عزة النفس، وعلو العقيدة، وشموخ الراية التي يقف تحتها المؤمن في مواجهة أعداء الله.
إنها الثقة بالحق الذي معه، والخير الذي يحمله، عزةٌ تجعله يحمل الآخرين على الحق، لا أن يذوب معهم في الباطل، وهي قبل ذلك وبعده الثقة بالله، والثقة بغلبة الحق وأهله، مهما أصابه من قرحٍ في مسيرة الحياة الطويلة، كما قال عز وجل: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:139 - 141].
فهل يفقه هذا أهل الإسلام؟! وهل يعي المسلمون تاريخهم ومسيرة دينهم؟!
هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عز قائلاً عليما: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأزواجه وذريته، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، المهاجرين منهم والأنصار، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة، وسائر أعداء الدين.
اللهم انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك، وعبادك الصالحين.
اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وأعزه بالحق، وأعز الحق به، وأعز الحق به، واجعله نصرة للإسلام وللمسلمين، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم كتابك وسنة نبيك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ، وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ؛ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(20/8)
نظرة ومراجعة لمبادئ الحضارة المعاصرة
الفتن والمحن وغيرها من الأحداث منبهات تدعو إلى مراجعة الموروث الحضاري، ثقافة وعلماً وعملاً.
وإذا كان هذا الموروث عظيماً، فإن تركيب الحضارة القادمة سيتضمن فيما يتضمن البقايا المشرقة من الحضارة السابقة.
ومن الظواهر المعاصرة التي ينبغي مراجعتها: التعلق بالماديات، الحروب البشعة وغيرها.
وفي هذا المادة بيان لما يلحظه المستقرئ للتاريخ الإسلامي مما قدمه الإسلام للبشرية خلال مراحله المختلفة.(21/1)
الأحداث الكبرى دعوة إلى مراجعة الماضي
الحمد لله حمد الشاكرين، والشكر له شكر الحامدين، تبارك ربنا وتقدس، له جميع المحامد، وتعالى وتكرم، منه جزيل الفضل وجميع العوائد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تمت كلمته، وعمت رحمته، وفاضت نعمته، وهو الإله الواحد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، فهو البشير والنذير والشاهد؛ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، السادة الأماجد، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فمن اتقى الله وقاه، ومن أناب إليه تاب عليه وهداه، ومن رضي عن الله رضي الله عنه وأرضاه، ومن أذل نفسه في طاعة الله أعزه وأعلاه، من تاجر مع الله ربحت تجارته، ومن هاجر إلى الله صحت هجرته، تأملوا في حوادث الدهر وقوارع العبر، فإنهن صوادق الخبر، حوادث فيها مزدجر، ومتغيرات فيها معتبر، تعير مرة، وتسلب أخرى، وتفسد عامراً، وتعمر قفراً.
أيها المسلمون! الفتن والبلايا منبهات وموقظات، تحمل الأمم الحية على العودة إلى نفسها والقيام بهمة إلى مراجعة مواريثها العلمية، ومواقفها العملية، ومسيرتها الحضارية بجدٍ ومصداقية، وصراحة وشفافية.
مراجعة تفحص فيها مواريثها، وتقوم عملها، وتمحص ثقافتها، تلك المواريث والثقافات التي تؤثر في حياة الناس، وتوجه سلوكهم، وتصنع اهتماماتهم في محاولة جادة صادقة، لتحديد أسباب القصور ومواطن التقصير.
التحديات الكبرى والأزمات المتأزمة، توقظ الأمم، وتنبه الدول، وتشكل التحولات الكبرى في مسيرة الحياة، وتمحو الصور المشوهة، والعناصر الهرمة، والكيانات الرخوة في حياة الشعوب، وتحفزها للانطلاق من جديد.
إن إحباطات الماضي، وخيبات الأمل عند الأمم الحية لا تقضي على إمكانات المستقبل، ولكنها تنبه إليها؛ بل تؤكدها وتظهر فاعليتها، ولقد قال الله عز شأنه في ابتلاء يوم أحد: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141].
إن الأحداث الكبرى حين تقع لا تخص أمة بعينها، أو دولة بمفردها، ولكنها تشمل رقعة واسعة من الدنيا، إن لم تشمل العالم بأسره، أفراداً وجماعات، وشعوباً ودولاً.
أحداثٌ كبرى، تتولد عنها تحولات، وتنتج منها مواقف في الشأن كله، في الاعتقاد والاقتصاد، والسياسة والاجتماع، والتربية والتعليم، وفي ميادين الحياة كلها.
وفي ظل هذه الأحداث والابتلاءات يجدر بالعقلاء إعادة قراءة المبادئ، واستعادة النظر في المقررات، كما تراجع النظم وأنماط الحياة، إنه لجميل أن تراجع المبادئ والمقررات، وأجمل منه مراجعة آثار هذه المبادئ، وما صنعته تلك النظم، وما أورثته من نتائج على الأمم والأفراد.
وإن من أولى ما يستحق المراجعة وإعادة النظر مبادئ هذا العصر ونظمه ومقرراته وسياساته.(21/2)
آثار المبادئ المادية
وبادئ ذي بدء، فثمة إيجابيات ومحاسن يحسن التمسك بها، والاستزادة منها في ميدان الماديات والمكتشفات والمخترعات والمنتجات السلمية والعلمية، زراعةً وصناعةً، وتجارةً واتصالاتٍ، وطباً وأدويةً، وتقنياتٍ ومواصلاتٍ.
ولكن ما أثر هذه المبادئ والمقررات في تكوين الرجال وصناعة الأجيال، واحترام الحقوق، وعدالة التطبيق؟
إن كثيراً من رجال هذه المبادئ أشبه بآلاتٍ طاحنة، وكأن صفة الإنسانية قد نزعت منها نزعاً، ترفع شعارات، ثم توظف توظيفاً ضيقاً، بل تقصر على فئات دون فئات، وأقاليم دون أقاليم؛ من مبادئ الديمقراطية، ومفاهيم الحرية، ومقررات حقوق الإنسان، وما أشبه ذلك، يجب التوقف المتأني عند التناقض الظاهر بين هذه المثل وبين الممارسات.
التاريخ المعاصر معتمٌ وقاتم، فيه استعلاء واستكبار وإذلال وإهانة، وفيه استبداد وقهرٌ للشعوب والدول، وفيه سيطرة واحتكار.
إن من الأمانة والإنصاف والسلوك العاقل الجدُّ في طلب الحق، وتلمس الخير للبشرية جمعاء، ومراجعة المواقف، والتفكير بشكلٍ جاد في الدوافع الأساسية التي ملأت كثيراً من الشعوب كراهيةً، وولدت عنفاً.
أي مبادئ هذه التي تولد الكره؟! وأي مناهج هذه التي تسمح بإذلال الآخرين، وتقبل فيهم الدونية؟! أي مقررات هذه التي تغرس الغطرسة والاستعلاء؟! أي قيمٍ تخرجها هذه المبادئ؟! وأي سياسات ترسمها هذه النظم؟!
في مراجعة صادقة يحصل التأمل في هذا العنف الذي يغطي العالم شرقاً وغرباً بأشكاله وأساليبه.
إن العنف والتسلط غالباً ما يعبر عنه بأساليب عدوانية؛ كالكراهية والسيطرة على الضعفاء، واستغلالهم المادي والمعنوي، والاتهام بالباطل والاضطهاد.
وإذا ساد العنف والتسلط بدل الحوار والتفاهم، فحينئذٍ لا يبقى للضعيف صوتٌ ولا مكان، ولا يبقى للعدالة محلٌ ولا مقام، والأشنع والأفظع حين يكتسي التسلط والعنف بلباس الشرعية، فيأخذ شكلاً مبرمجاً وممنهجاً، تجب اليقظة من أجل إيقاف المد العدواني في العالم، وانتشار بذور الكراهية ومظاهر العنصرية والاستعلاء والتمييز.(21/3)
الأضرار الفادحة للحروب المعاصرة
وإن مما يستدعي المراجعة والنظر هذه الحروب التي تنشب في هذا العصر بين الحين والآخر، كم حصدت من الملايين، وأزهقت من الأرواح، وألقت بأنواع القنابل، واستخدمت من صنوف السلاح أسلحة فتاكة مدمرة لا يقتصر ضررها على قتل من أصابته، ولا ينحسر أثرها في ميدان المعركة، ولكنها الأضرار والأمراض على الأحياء كل الأحياء؛ من إنسانٍ وحيوانٍ وشجرٍ وبيئة، بجرثوميتها، وكيميائيتها، ونوويتها.
في رمادها وغبارها وإشعاعاتها قتل وحرق وتدمير وخراب لمساحات هائلة طولاً وعرضاً وعمقاً، مما يهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد.
أي مبادئ؟! وأي سياسات تخرج منها الصانعون والمخترعون والمستعمرون؟!
سجلات حروبٍ مثقلة بالغضب، والظلم، والتعدي، والقسوة، والغلظة، لا تخضع لقانون، ولا يقرها عدل، وكتاب ربنا نحن المسلمين يحدثنا عن القتال في غايته وآدابه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190].
حروب وأسلحة لا تعرف إلا الإبادات الجماعية، قتلاها بالمئات والألوف والملايين، ودمارها يلف المساكن والمزارع والمساجد والمعابد والأسواق والطرقات.
كوارث وحروب هي الأكثر تسميماً في التأريخ، والمستقبل في هذه الحروب مظلمٌ، إن استمر الحال على ما هو عليه.
إن الإحصاءات لتئن من الأعداد الهائلة لحصاد هذه الحروب، في قارات الدنيا كلها، إنهم بعشرات الملايين في وحشية مسعورة، وتقنيات مخيفة.(21/4)
أثر النظرة المادية في الثقافة المعاصرة
أيها الناس! وبمراجعة متأنية ونظرة فاحصة، فإن للنظرة المادية السائدة في تلك المناهج وتفسير الأحداث وبناء الغايات ورسم الأهداف أثراً في ذلك عظيماً.
لقد بنيت فلسفات هذا العصر ومبادئه وثقافته وسياساته على مادية جافة، فالإيمان مقصورٌ على المحسوسات، لا أثر للغيبيات وما وراء الحس إنما هو التعلق بالدنيا، والإغراق في الاستكثار منها، وقصر العلوم والمعارف والمكتشفات في حدودها.
تأملوا هذه اللفتة العظيمة في هذه الآية الكريمة من سورة الروم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
ليس لأعمال القلوب مكان إنما هو اهتمامٌ باللذائذ، وإغراقٌ واستغراق في الشهوات والمستلذات.
ولهذا يتجلى الغلو في العناية بالرياضات البدنية، والألعاب الرياضية، والرقص، والغناء، والتمثيل، واللهو، والطرب، والنحت، والرسم، وما كان على هذه الجادة.
ليس للدين أي أثرٍ في الأخلاق والسياسات والفلسفات والمبادئ.
الدين عندهم تقليدٌ من التقاليد؛ ليس له أثرٌ في النفوس أو سلطانٌ على القلوب؛ خصامٌ نكد بين العلم والدين والروح والجسد، ليس في تلك الأنظمة الفكرية مكانٌ لله -تعالى الله وتقدس- ولا يشعرون بالحاجة إليه -تنزه وتعاظم- بل الإله في تلك الثقافات والتاريخ يُجَسَّد في آلهة متعددة، تنحت لها التماثيل، وتبنى لها المعابد والهياكل، حتى الأعمال القلبية والمعاني المجردة صنعوا لها آلهة في أجسامٍ وأصنام وأشكال وتماثيل، فللحب عندهم إله، وللجمال عندهم إله.
والدين طقوسٌ وترانيم جافة؛ فإذا أديت فتقليد ووراثة.
من أجل هذا كله، ظهرت القسوة، وساد العنف، وحل التظالم، واختلطت المبادئ، بل انتكست وانقلبت، إن كثيراً منهم لا يرجون لله وقاراً، وهم عن الآخرة هم غافلون.(21/5)
المراجعة من أجل العدالة والإنصاف
أيها الإخوة في الله! تجب المراجعة الصادقة والجادة من أجل أن يسود العدل والإنصاف، ويحق الحق، ويزهق الباطل.
إن العالم بحاجة إلى صياغة سياسة رحيمة، تقطر أخلاقاً وإنصافاً وعدلاً وتديناً، سياسة تلغي هذه الأسلحة الجرثومية، التي تزرع الدمار في الديار، والدمار في الضمائر.
سياسة ترعى العدالة في حقوق الإنسان، وحق تقرير المصير، والحرية، والكرامة، والرحمة، والطمأنينة.
سياسة تنهي الاستعمار والهيمنة بكافة أشكالها الاقتصادية والفكرية والثقافية.
سياسة تقف بصدقٍ إلى جانب الضعيف والمظلوم، حتى ترفع مظلمته، فالعدل لا يحقق بالظلم، والأمن لا يستجلب بالخوف، يجب استبعاد منطق الثأر والانتقام إلى رحاب الحوار وهدوء النقاش.
العالم بدوله الصغيرة والكبيرة بحاجة إلى الترابط والتوافق والعيش بسلمٍ وسلام.
هذا هو الذي يجب أن يتنادى إليه العقلاء، ويأخذ به المخلصون الذين يقصدون إلى خير البشرية كلها، ولا يحسن بهؤلاء العقلاء والمخلصين أن يغالطوا التاريخ، ويخالفوا السنن، إنهم إن لم يفعلوا ذلك، فإن الضعيف لن يبقى ضعيفاً، والتاريخ حافلٌ بالأمثلة على صعود أمم وهبوط أخرى، وعلو حضارات وانحسار أخرى، وهو حافلٌ كذلك بمشاهد قدرة الشعوب على الصبر والصمود والمصابرة وطول الكفاح والمقاومة، والأيام دول، والزمن قلب، والأمر كله لله، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227]، {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف:26].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(21/6)
استقراء التاريخ الإسلامي
الحمد لله الذي أوجد الكائنات بقدرته، وقهرها بقوته، وفاوت بينها بحكمته، أحمده سبحانه وأشكره على كريم فضله وجزيل نعمته.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نصب الدلائل على وحدانيته.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، اصطفاه لرسالته، ورحم العالمين ببعثته، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه وأزواجه وذريته، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على هديه والتزم بسنته.
أما بعد:
فإن المستقرئ لتأريخ أمة الإسلام، ولا سيما تأريخ الفتن الداخلية، والنكبات الخارجية، ابتداءً بفتنة الردة، ومروراً بالإعصار المغولي، ثم الغزو الصليبي، حتى الاستعمار الحديث والحقبة اليهودية القائمة.
إن هذا التأريخ الإسلامي العظيم بقدر ما حمل من الحضارة والإضاءة والعدل والإنصاف مع نفسه ومع الأمم والشعوب التي انضوت تحت حكمه، وانطوت تحت لوائه؛ فلقد أثرت هذه الفتن والأزمات وهناً حضارياً، وصوراً من الغثاء الاجتماعي، حتى ضعضع الدهر كثيراً من جوانب الأمة، وأشمت بها الأعداء، بل أصبح من سلوة النفس الشماتة بالذات، ولكن هذه الفتن وهذه الأزمات في الوقت ذاته شكلت تحديات، وأثارت استفزازات، وجددت عزائم، وشحذت همماً، وحرضت على استئناف الشئون الحضارية.(21/7)
بصائر الحاضر وبشائر المستقبل
إن ما يلحق الأمة من إصاباتٍ وجراحات، إنما هو في الحقيقة منبهات ومحرضات حضارية، تحمل بصائر الحاضر وبشائر المستقبل، وهذه آية أخرى في ابتلاء يوم أحد، يقول الله عز وجل: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:172 - 175]
ومع التسليم بأن ما يصيب الأمة هو بسبب نفسها وأعمالها، فإن من اليقين بأنها -بفضل الله- تمتلك قيم الوحي الثابتة والخالدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، تؤمن بها وتقوم عليها، وهي المقياس والنبراس الذي يكشف الخلل، ويحدد زاوية الانحراف، وبه -بإذن الله- تكون الأمة قادرة على التصويب والترشيد والنهوض والتجريب.(21/8)
جهاز المناعة الفكرية
إن أصول الشريعة وثوابتها هي -بإذن الله- جهاز المناعة لأزمات الفكر وإصابات العقل وانحرافات المادة، هذا من جانب.
ومن جانبٍ آخر فإن من غير المنكور أن التيارات الوافدة المعاصرة حققت نجاحات من الغزو والاحتواء واسعة النطاق في مختلف أنحاء العالم، ولكن الإسلام والمجتمع الإسلامي رغم كل ما يعاني ظل وسيظل -بإذن الله- متماسكاً في مواجهة رياح التغيير، فالإيمان بالإسلام دين الحق راسخ الجذور لدى الشعوب المسلمة كافة، والمسلمون لا يرفضون الجديد المفيد، ولكن المشكلة في أصحاب التيارات الوافدة؛ حين يصرون على أنهم هم الأنموذج الأوحد الذي يجب أن يسود مع التوظيف السيئ للإعلام في التزييف، وقلب الأحداث، وتحليل المواقف، وتفسير الوقائع، والمغالطة في المفاهيم.
انحيازٌ وتلفيق، ومغالطة وانتقائية، وهجومٌ وتسفيهٌ واستنقاص.
إن المسلم متفتح متجاوب، لا يقف في وجه التقدم النافع، ولا يدعو إلى عزلة علمية أو مادية، ولا يعادي المفيد في الحضارات، ولكنه يرفض التبعية والدونية والاستفزاز، الإسلام عصيٌ عن الاحتواء أو الذوبان، فكثيرٌ من الديانات والمبادئ ذابت واضمحلت وحرفت، أما الإسلام فهو دين الله المحفوظ الخالد الخاتم، فلله الحمد والمنة.(21/9)
كيفية خروج المسلمين من مشكلاتهم
وبعد:
فإن الإسلام -وبكل فخرٍ واعتزازٍ وقوة- قد قدم بعقائده وأحكامه وحضارته ومبادئه للبشرية ما لم تقدمه حضارة أخرى، والمسلمون قادرون -بإذن الله- على الخروج من مشكلاتهم، حين ينبذون الفرقة، ويرفضون التمزق، ويكون ذلك -بعون الله- بالإحساس التام بمسئوليتهم، ليس نحو أنفسهم فحسب، بل نحو الإنسانية كلها، إنهم بذلك ينقذون أنفسهم، ويصلحون البشرية، لا بد أن يعرفوا حقيقة دينهم، وطبيعة رسالتهم، ومن ثم يفقهون سنن الله في التغيير وبناء الأمم ومسالك الإصلاح {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وأقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه، الله يجتبي إليه من يشاء، ويهدي إليه من ينيب.
ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم في محكم تنزيله، فقال جل شأنه وهو الصادق في قيله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملة والدين.
اللهم وانصر عبادك المؤمنين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك المؤمنين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم أيد بالحق والتوفيق والتسديد إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه.
اللهم أعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك، اللهم انصرهم في فلسطين، وفي كشمير، وفي الشيشان، وفي كل مكان يا رب العالمين.
اللهم إن اليهود المحتلين الغاصبين قد طغوا وبغوا، وآذوا وأفسدوا، وقتلوا ودمروا، اللهم فأرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم واجعل بأسهم بينهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، واجعل الدائرة عليهم، يا قوي يا عزيز.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(21/10)
الغيرة على الأعراض
إن مقومات الأمم والشعوب هي الأخلاق، والغيرة على الأعراض مقياس دقيق من مقاييس الأخلاق، ومعيار جلي من معايير السلوك، وهناك مؤامرة على هذا الخلق العظيم تتولى كبرها المدنية الغربية الداعية إلى انتهاك الأعراض، وتدنيس حمى حرماتها.(22/1)
الأخلاق هي مقومات الأمم والحضارات
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، أحمده سبحانه وأشكره، شرع الشرائع لتهدي إلى الخير والرشاد والفضيلة، وسَدَّ الذرائع لتحول عن الشر والفساد والرذيلة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعد بالثواب كما توعد بالعقاب، فقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30].
وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، جاء بالحق من عند ربه، فأنار القلوب وهداها، وطهر النفوس من فجورها وزكاها، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل وخشيته، وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52].
أيها المسلمون: لا ترجع هزائم الأمم، ولا انتكاسات الشعوب إلى الضعف في قواها المادية، ولا إلى النقص في معداتها الحربية، ومن يظن هذا الظن، ففكره قاصر، ونظره سقيم.
إن الأمم لا تعلوا إلا بعد إذن الله، إلا بضمانات الأخلاق الصلبة في سير الرجال، بل إن رسالات الله ما جاءت إلا بالأخلاق وإتمام الأخلاق بعد توحيد الله عز وجل وعبادته، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إنما بُعثت لأُتمم صالح الأخلاق}.(22/2)
أهمية اكتساب الأخلاق
إن الأخلاق الفاضلة يضعف أمامها العدو، وينهار أمامها أهل الشهوات، حينما يكون المجتمع صارماً في نظام أخلاقه وضوابط سلوكه، غيوراً على كرامة فرده وأمته، مؤثراً رضا الله على نوازع شهواته؛ حينئذٍ يستقيم مساره في طريق الحق والصلاح والرفعة والإصلاح.
أيها الإخوة: إن الأخلاق ليست شيئاً يُكتسب من القراءة والكتابة، ولا بالمواعظ والخطابة، ولكنها درجة، بل درجات، لا تُنال -بعد توفيق الله ورحمته- إلا بالتربية والتهذيب، والصرامة والحزم، وقوة الإرادة والعزم.
أيها الإخوة: وهذا حديث عن مقياسٍ دقيق من مقاييس الأخلاق، ومعيارٍ جلي من معايير ضبط السلوك، إنه الغيرة على الأعراض، وحماية حمى الحرمات.(22/3)
منزلة الغيرة على الأعراض
أيها الأحبة الغيورون: كل امرئ عاقل، بل كل شهم فاضل لا يرضى إلا أن يكون عرضه محل الثناء والتمجيد، ويسعى ثم يسعى ليبقى عرضه حرماً مصوناً، لا يرتع فيه اللامزون، ولا يدوس حماه العابثون.
إن كريم العرض ليبذل الغالي والنفيس للدفاع عن شرفه، وإن ذا المروءة الشهم يقدم ثروته ليسد أفواهاً تتطاول عليه بألسنتها، أو تناله ببذيء ألفاظها، نعم! ويصون العرض بالمال، فلا بارك الله بمال لا يصون عرضاً.
بل لا يقف الحد عند هذا، فإن صاحب الغيرة ليخاطر بحياته، ويبذل مهجته، ويعرض نفسه لسهام المنايا عندما يرجم بشتيمة تلوث كرامته، فيهون على الكرام أن تُصاب الأجسام لتسلم العقول والأعراض، وقد بلغ دينكم في ذلك الغاية حين أعلن نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم قائلاً: {من قُتِلَ دون عرضه فهو شهيد}.
أيها الإخوة والأخوات: بصيانة العرض وكرامته يتجلى صفاء الدين، وجمال الإنسانية، وبتدنسه وهوانه ينزل الإنسان إلى أرذل الحيوانات بهيمية.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: " إذا رحلت الغيرة من القلب، ترحل الدين كله ".
ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشد الناس غيرةً على أعراضهم، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوماً لأصحابه: {إن دخل أحدكم على أهله ووجد ما يريبه، يشهد أربعاً، فقام سعد بن معاذ متأثراً، فقال: يا رسول الله! أأدخل على أهلي، فأجد ما يريبني فأنتظر حتى أشهد أربعاً!! لا والذي بعثك بالحق إن رأيت ما يريبني في أهلي لأطيحن بالرأس عن الجسد، ولأضربن بالسيف غير مصفح، وليفعل الله بي بعد ذلك ما يشاء، فقال عليه الصلاة والسلام: أتعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل ذلك حرَّم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن إلى آخر الحديث} وأصل الحديث في الصحيحين.(22/4)
من حرم الغيرة حرم طهر الحياة
من حُرم الغيرة حُرم طهر الحياة، ومن حرم طهر الحياة، فهو أحط من بهيمة الأنعام، ولا يمتدح بالغيرة إلا كرام الرجال، وكرائم النساء.
إن الحياة الطاهرة تحتاج إلى عزائم الأخيار، وأما عيشة الدعارة، فطريقها سهل، وهو الانحلال والانهيار، وبالمكاره حفت الجنة، وبالشهوات حفت النار.(22/5)
مدنية العصر دعوة صارخة لهتك الأعراض
أيها الإخوة: إن الأسف كل الأسف والأسى كل الأسى! فيما جلبته مدنية هذا العصر من ذبح صارخ للأعراض، ووأد كريه للغيرة، فتجد تفاصيل الفحشاء تعرض من خلال وسائل النشر والإعلام المختلفة، بل إنه ليرى الرجل والمرأة يأتيان الفاحشة وبواعثها ومثيراتها ويشاهدان وهما يعانقان الرذيلة غير مستورين عن أعين المشاهدين والناظرين، لقد انقلب الحال عند كثير من الأقوام، بل الأفراد والأسر، حتى صار الساقطون الماجنون يُمثلون الأسوة والقدوة، ويجعلون من منكرهم وسام افتخار وعنوان رجولة.
تصوروا -رعاكم الله وحماكم- خبيثاً وخبيثةً يقفان على قارعة الطريق ليمارسا الفاحشة علانية كما تفعل البهائم من الحمير والخنازير أعز الله مقامكم ونزَّه أسماعكم!
هل خلت النفوس من الغيرة؟ وهل غاض ماؤها؟ وهل انطفأ بهاؤها؟ هل في الناس دياثة؟ هل فيهم من يقر الخبث في أهله؟
لا يدري الغيور من يخاطب، هل يخاطب الزواني والبغايا؟ أم الكرام والحرائر؟
إن المدينة المعاصرة هي: إعلان للفحشاء بوقاحة، وإغراق في المجون بتبجح، أغاني ساقطة، وأفلام آثمة، وسهرات فاضحة، وقصص داعرة، وملابس خالعة، وعبارات مثيرة، وحركات فاجرة، ما بين مسموع ومقروء ومشاهد، في صور وأوضاع يُندى لها الجبين في كثير من البلاد والأصقاع إلا من رحم الله على الشواطئ والمنتزهات، وفي الأسواق والطرقات، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
حسبنا الله من أُناسٍ يهشون للمنكر، ويودون لو نبت الجيل كله في حمأة الرذيلة، وحسبنا الله من فئاتٍ تود لو انهال التراب على الفطرة المستقيمة والحشمة الرفيعة.
ما هذا البلاء؟ كيف يستسيغ هذا ذوو الشهامة من الرجال، والعفة من النساء؟
كيف يستسيغون لأنفسهم ولأطفالهم ولفتيانهم ولفتياتهم هذا الغثاء المدمر من ابتكارات البث المباشر، وقنوات الفضاء المباشر؟! أين ذهب الحياء؟! وأين ضاعت المروءة؟!
أين الغيرة من بيوت هيأت لناشئتها أدواء الفتنة، وجرتها إلى مستنقعات التفسخ جراً، وجلبت لها محرضات المنكر، تدفعها إلى الإثم دفعاً، وتدعها إلى الفحشاء دعاً؟!
اطلعت امرأة شريفة على الخمر، ثم سألت: هل تشرب هذا نساؤكم هذا؟ قالوا: نعم، قالت: زنين ورب الكعبة.
أيها الإخوة والأخوات: إن طريق السلامة لمن يريد السلامة بعد الإيمان بالله ورحمته وعصمته، ينبع من البيت والبيئة، فهناك بيئات تنبت الذل، وأخرى تنبت العز، وثمة بيوتات تظللها العفة والحشمة، وأخرى ملؤها الفحشاء والمنكر.(22/6)
الإسلام والمحافظة على الأعراض
أيها الأحبة: لا تحفظ المروءة، ولا يسلم العرض إلا حين يعيش الفتى وتعيش الفتاة في بيت محتشم محفوف بتعاليم الإسلام، وآداب القرآن، ملتزم بالستر والحياء، تختفي فيه المثيرات وآلات اللهو والمنكر، ويتطهر من الاختلاط المحرم.
عباد الله: الغيرة الغيرة احذروا الحمو فإنه الموت، واحذروا السائق والخادم، وصديق العائلة وابن الجيران، ناهيك بالطبيب المريب، والممرض المريض، واحذروا الخلوة بالبائع والمدرس في البيت!
حذار أن يظهر هؤلاء وأشباههم على عورات النساء.
فذلكم اختلاط يتسع فيه الخرق على الراقع، وتصبح فيه الديار من الأخلاق بلاقع!
هل تأملتم -وفقكم الله وحماكم- لماذا توصف المؤمنات المحصنات بالغافلات؟
الغافلات وصف لطيف محمود، وصف يجسد المجتمع البريء والبيت الطاهر الذي تشب فتياته زهرات ناصعات لا يعرفن الإثم.
إنهن غافلات عن لوثات الطباع السافلة، وإذا كان الأمر كذلك، فتأملوا! كيف تتعاون الأقلام الساقطة، والأفلام الهابطة، لتمزق حجاب الغفلة هذا، ثم تتسابق وتتنافس في شرح المعاصي، وفضح الأسرار، وهتك الأستار، وفتح عيون الصغار قبل الكبار: {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:31].
أيها الإخوة والأخوات: الغيرة الغيرة! إن لم تغاروا فاعلموا أن ربكم يغار، فلا أحد أغير من الله، ومن أجل ذلك حرَّم الفواحش.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: {يا أمة محمد! ما من أحدٍ أغير من الله، أن يزني عبده، أو تزني أمته}.
وربكم يمهل ولا يهمل، وإذا ضيع أمر الله، فكيف تستنكر الخيانات البيتية، والشذوذات الجنسية، وحالات الاغتصاب، وجرائم القتل، وألوان الاعتداء؟
إذا ضيع أمر الله طفح المجتمع بنوازع الشر، وامتلأ بدوافع الأثرة، وتولدت فيه مشاعر الحسد والبغضاء، ومن ثم قلما ينجو من فساد وفوضى وسفك دماء، وقد قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:22 - 24].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(22/7)
حث الإسلام على المحافظة على كيان الأسرة
الحمد لله ذي الجلال والعزة، يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، يتولى أهل التقى والعفة بلطفه ورحمته، ويأخذ أهل الفسق والمجون ببأسه ونقمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، جاء بكريم الخصال، ومجامع الأخلاق، فحفظ الأمانة، وصان الأعراض، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: كم للفضيلة من حصنٍ امتنع به أولو النخوة، فكانوا بذلك محسنين، وكم للرذيلة من صرعى أوردتهم المهالك، فكانوا هم الخاسرين.
في ظلال الفضيلة منعة وأمان، وفي مهاوي الرذيلة ذلة وهوان، والرجل هو صاحب القوامة في الأسرة، وإذا ضعف القوام فسد الأقوام، وإذا فسد الأقوام، خسروا الفضيلة، وفقدوا العفة، وتاجروا بالأعراض، وأصبحوا كالمياه في المفازات، يلغ فيها كل كلب، ويكدر ماءها كل وارد.
{جاء شاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ائذن لي في الزنا؟ فأقبل عليه الناس يزجرونه، وأدناه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجلسه، ثم قال له: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟، قال: لا، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يقول للفتى: أتحبه لأختك؟ أتحبه لعمتك؟ أتحبه لخالتك؟ كل ذلك والفتى يقول: لا والله! جعلني الله فداك، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصِّن فرجه، فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء} أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي أمامة رضي الله عنه وأرضاه.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله- وغاروا على حرمات الله؛ يسلم لكم دينكم وعرضكم، ويبارك لكم في أهلكم وذرياتكم، ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلكم ربكم عز في علاه، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، والخلق الأكمل، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك المؤمنين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، وأعزه بطاعتك، وأعز به دينك، ووفقه لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمةً لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء، والوباء، والربا، والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها فإنه لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب، ولا هدم، ولا بلاء، ولا غرق.
اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً غدقاً سحَّاً مجللاً، عاجلاً غير آجل، نافعاً غير ضار، اللهم غيثاً تسقي به العباد، وتحيي به البلاد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد، اللهم اسق عبادك وبهائمك والبلد الميت، وانشر رحمتك يا أرحم الراحمين.
على الله توكلنا، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان، ِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ؛ يَعِظُكُمْ؛ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(22/8)
أدب الحوار في الإسلام
إن الحوار في الإسلام له آداب وأصول ومبادئ وغايات، والغاية المقصودة من الحوار هي إقامة الحجة، والحوار والجدل كلمتان لهما معناهما في اللغة، ويقوم أحدهما مقام الآخر، والخلاف عادة لا يكون إلا في مسائل مختلف فيها؛ لأن القطعيات لا حوار فيها وكذلك المسَلَّمَات.(23/1)
المراد بالحوار والجدال
أحمد الله تبارك وتعالى، وأصلي وأسلم على رسوله وخيرته من خلقه، ومصطفاه من رسله، سيدنا ونبينا محمد رسول الله، بعثه بالحق بشيراً ونذيراً، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجعلنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة! أشكر الله -عز وجل- على هذا اللقاء الطيب المبارك، ثم أشكر من كان سبباً لحضوري ومثولي بين يديكم لألقي هذه الورقة في مهرجان الجنادرية وأشكر القائمين عليه واللجنة المنظمة لهذا النشاط الثقافي الذي أرجو أن يعدلوا فيه عن كلمةٍ على هامش المهرجان، فأرجو أن يُعتبر النشاط الثقافي زميلاً للمهرجان، فإن الفكر وتربية الفكر، وغذاء الفكر أظنها مقصودٌ أعظمٌ من مقصود المهرجان، فأرجو أن تستبدل هذه العبارة لأني سمعتها هذه الليلة كما سمعتها ليلة أمس، فأرجو أنهم لا يعتبرون أنها على تهميشٍ حقيقيٍ، وإنما هي عبارة دارجة، قد يكون من لفظها لم يقصد المعنى الذي قد يتبادر إلى بعض الذين لا يعرفون مقاصد هذا المهرجان الطيب المبارك الموفق، فهو تراثٌ شعبيٌ نابعٌ من فكر أصيل، ويقصد -أيضاً- تثبيت الفكر الأصيل فكر هذه البلاد النابع من دينها، ومنطلق من رسالة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة! كما سمعتم الموضوع هو "أدب الحوار" وهذا موضوع اختاره المنظمون ورغبوا من محدثكم أن يتكلم فيه، فسوف يكون الحديث عن تعريفٍ للحوار، وبيانٍ لغايته، ثم إشارة إلى بعض أصول الحوار، ومبادئه، ثم كلام في بعض آداب الحوار.
أقول: إن الذي سوف تسمعونه ليس حصراً للأصول، ولا للآداب؛ لأن هذا الأمر وبخاصة من يطلع ويقرأ؛ فإنه سوف يجد فيما يسمع أموراً لم تُذكر، أو لعله لم يسمعها، لأن الأمر فيه سعة، والإحاطة به في مثل هذا المقام متعذرة، ولكن لعلَّ في بعض الأصول والمبادئ التي ذكرت ما يغني عما لم يُذكَر.
أيها الإخوة! الحوار والجدال كلمتان لهما معناهما في اللغة ويقوم أحدهما مقام الآخر.
الحوار من المحاورة وهي: المراجعة في الكلام، والجدال من: جدل الحبل إذا فتله، الجدال في أصله كان ينبغي أن يكون ممنوعاً، وفي أصل اللغة كان يستعمل لمن خاصم بما يشغل عن ظهور الحق، ووضوح الصواب، ثم استغني في مقابلة الأدلة بظهور أرجحها؛ بمعنى أن تقابل فيما بينها حتى يتبين الأرجح منها.
والحوار والجدال كلمتان ذواتا دلالة واحدة، وقد اجتمع اللفظان في قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1].
ويراد بالحوار والجدال في مصطلح الناس مناقشةٌ بين طرفين، أو أطرافٍ يُقصدُ بها تصحيح كلامٍ، وإظهار حجةٍ، وإثبات حقٍ، ودفع شبهةٍ، ورد الفاسد من القول والرأي، وسوف يتبين هذا من غاية الحوار إن شاء الله، وقد يكون من الوسائل المستخدمة في الحوار، أو في الجدال الطرق المنطقية والقياسات الجدلية من المقدمات والمسلمات مما هو مبسوطٌ في كتب المنطق، وعلم الكلام، وآداب البحث والمناظرة، وأصول الفقه.(23/2)
غاية الحوار
إن الغاية من الحوار -ولعل ذلك كان ظاهراً من التعريف- إقامة الحجة، ودفع الشبهة والفاسد من القول والرأي.
إذاً: هو تعاون بين المتناظرين على معرفة الحقيقة والتوصل إليها؛ ليكشف كل طرف ما خفي على صاحبه منها، والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق.
يقول الحافظ الذهبي: إنما وُضعت المناظرة لكشف الحق، وإفادة العالم الأذكى في العلم لمن دونه، وتنبيه الأغفل الأضعف.
هذه هي الغاية الأصلية، وهي جلية بيِّنة كما تلاحظون، وثمت غايات وأهداف فرعية، أو ممهدة لهذه الغاية منها:
1/ إيجاد حل وسط يرضي الأطراف: أحياناً قد تحس أن الحوار لا يمكن أن يصل إلى نتيجة قطعية، وهذا سوف نشير إليه في أصول الحوار.
إذاً: قد يحتاج الحوار ليس إلى نتيجة قطعية وإنما لتقريب وجهات النظر، وهذا هدف تمهيدي، ولكنه قد يكون نهائياً في مرحلة.
2/ التعرف على وجهات نظر الطرف الآخر، أو الأطراف الأخرى أيضاً هو هدفٌ تمهيدي هام.
3/ وهو التنقيب والبحث من أجل الاستقصاء والاستقراء في تنويع الرؤى والتصورات المتاحة من أجل الوصول إلى نتائج أفضل وأمكن، ولو في حوارات تالية، لأنه أحياناً بالغايات التمهيدية نعرف وجهة نظر الأطراف، وليس بالضرورة أن نصل إلى نهاية في أول جلسة، أو في أول مجلس حوار، ويبدو لي أنه إذا وصلنا إلى هذه الغاية في بعض ما يتطلبه فهذا جيد.
إذاً: هذا هو الحوار في تعريفه وغايته.(23/3)
الخلاف
قبل أن نأتي إلى أصول الحوار، لا بد من الكلام عن الخلاف، ما معنى ذلك؟
يعني: أن الخلافَ عادةً لا يكون إلا في مسائل مختلف فيها، لأن القطعيات والمسلمات لا حوار فيها، وسوف نذكر هذا في أصل من الأصول، إنما الحوار يكون في الأمور المختلف فيها.
إذا كان كذلك، فلا بد أن نشير إشارة إلى أن الخلاف لا بد أن يقع في الناس، ولو يتصور أننا حينما نقيم ندوات أو جلسات حوارية بين مثقفين ومفكرين ومتخصصين أننا نقضي على الخلاف أبد الدنيا، هذا لا يمكن.
ومما أحببت أن أُنبه كذلك إلى قضية تتعلق في وقوع الخلاف بين الناس، فنقول: الخلاف واقع يبن الناس في مختلف العصور والأمصار، وهو سنة الله في خلقه، فهم مختلفون في ألوانهم وألسنتهم وطبائعهم ومدركاتهم ومعارفهم وعقولهم، وكل ذلك آية من آيات الله نبَّه عليه القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22] هذا في الاختلاف الظاهر، وهذا الاختلاف الظاهري دال على الاختلاف في الآراء والاتجاهات والأغراض، وكتاب الله العزيز يُقرر هذا في غير ما آية مثل قوله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119].
يقول الفخر الرازي: والمراد اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال، ومن معنى الآية: لو شاء الله، لجعل الناس على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة لا رأي لهم فيه، ولا اختيار، وإذاً لما كانوا هذا النوع من الخلق المُسمَّى البشر، يعني: لو لم يختلفوا لما كانوا بشراً، بل لكانوا في حياتهم الاجتماعية كالنحل، أو كالنمل، ولكان في الروح كالملائكة مفطورين على اعتقاد الحق والطاعة {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] لا يقع بينهم اختلاف ولا تنازع، ولكن الله خلقهم بمقتضى حكمته كاسبين للعلم لا ملهمين عاملين بالاختيار وترجيح بعض الممكنات المتعارضات على بعضها، ولا مجبورين، ولا مضطرين، بل وجعلهم متفاوتين في الاستعداد وكسب العلم واختلاف الاختيار.
أما قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119] اللام هنا في "لذلك" يقول أكثر المفسرين: ليست للغاية أي: ما خلقهم ليختلفوا، نحن نعلم أنه خلقهم لطاعته وعبادته، فهو لم يخلقهم للاختلاف، إذاً ما هو هذا الحرف؟
معلوم أنَّ اللام لها أغراض ولها معانٍ في اللغة، قالوا: إن اللام هنا للعاقبة والصيرورة، أي: من ثمرة خلقهم الاختلاف بمعنى: أن يكونوا فريقين {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] وطبعاً اللام يسمونها لام العاقبة كما يستشهد بالبيت المعروف:
له ملكٌ ينادي في كل يومٍ لدوا للموت وابنوا للخراب
ابنوا للخراب، ولدوا للموت ليس معناها لدوا من أجل الموت، إنما لدوا وعاقبة ما تلدون للموت، وابنوا ولكن ما تبنونه عاقبته للخراب، لا علته الخراب، فاللام هنا للعاقبة، وليست للتعليل، وقد تُحمل على التعليل من وجهٍ آخر، أي: خلقهم ليستعد كلُّ منهم لشأنٍ وعملٍ، ولذلك خلقهم، أي: يستعدوا حينما كانت عندهم اختلافات.
إذاً: ليستعدوا ويتهيئوا فكل مُيَسرٌ لما خلق له، أي: خلقهم ليستعد كلٌ منهم بشأنه وعمله، ويختار بطبعه أمراً وصنعةً مما يستتب به نظام العالم، ويستقيم به أمر المعاش، فالناس محامل لأمر الله، ويتخذ بعضهم بعضاً سُخرياً، خُلِقُوا مُستعدين للاختلاف والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم ومشاعرهم وما يتبع ذلك من إرادتهم واختيارهم في أعمالهم ومن ذلك الإيمان والطاعة والمعصية.
هذا الخلاف متقرر وأمرٌ معروف، لكن هنا نقطة لا بد من التنبيه إليها وهي؟
وضوح الحق وجلاؤه، أي: أنه على الرغم من حقيقة وجود هذا التباين بين الناس في عقولهم ومدركاتهم وقابليتهم للاختلاف إلا أن الله وضع على الحق معالم، وجعل على الصراط المستقيم منائر، وعليه حُمِل الاستثناء في قوله: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:119] وهو المنصوص عليه في آية أخرى في قوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:213] وذلك أن النفوس هناك جردت من أهوائها، وجدَّت في تلمس الحق، فإنها مهدية إليه، بل إن في فطرتها ما يهديها، وتأمل ذلك في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]، قال بعدها: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31 - 32] وفي مثل هذا يقول الله عز وجل: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] فهو أصل الفطرة، ولهذا جاء في الحديث النبوي: {ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه} وقال عليه الصلاة والسلام: {كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء- أي: مستوفية الخلق- هل تحسون فيها من جدعاء؟ -أي: مقطوعة الأذن- حتى أنتم تجدعونها} كذلك الإنسان مخلوق على الفطرة ومهدي إلى الحق، لكن تأتي الأهواء، وتستهويه الشياطين، وقرناء السوء، فيتأثر وقد لا يهدى إلى الحق بسبب هذه العوامل.
يوضح جلاء الحق ووضوحه أن أصول الدين، وأمهات الفضائل، وأمهات الرذائل، مما يتفق العالم الرشيد العاقل على حسن محموده وحمده، والاعتراف بعظيم نفعه، وتقبيح سيئه وذمه، كلُّ ذلك جاء في عبارات جلية واضحة ونصوص بينة لا تقبل صرفاً ولا تأويلاً ولا جدلاً ولا مراءً، وجعلها أم الكتاب الذي يدور عليها وحولها، فكل ما جاء في دين الأحكام، ولم يعذر أحد في الخروج عليها -وسوف نُشير إلى هذا في أحد أصول الحوار- وحذَّر من التلاعب بها، وتطويعها للأهواء والشهوات والشبهات، بتعسف التأويلات والمصوغات مما سنذكره كأصل من أصول الحوار، أما ما دون ذلك فقد عُوجِلَ الخلف إذا ما اختلفوا في غيرها، ورفع الحرج عنهم، بل جعل للمخطئ أجر، وللمصيب أجران تشجيعاً لنظره، وتلمس الحق، واستهداء المصالحة الرابحة للأفراد وللجماعات، ولربك في ذلك الحكمة البالغة، والمشيئة النافذة.
إذاً: هذا بما يتعلق بالخلاف ووجوده ووقوعه ووضوح الحق فيما بين ذ(23/4)
أصول الحوار(23/5)
الأصل الأول: سلوك الطرق العلمية والتزامها
عندما يدخل المتحاوران في الحوار فإنهما يلتزمان بالطرق العلمية، من هذه الطرق مثلاً: تقديم الأدلة المثبتة، بمعنى: أن كل طرف يُقدِّم أدلته المثبتة أو المرجحة للدعوى، أما أن يكون كلاماً في هواء، وكلاماً هباءً، فهذا معلوم أنه بعيد عن الحوار، فمن أصول الحوار أن تأتي بأمر واضح بيِّن في نفسك إما بجلاء عباراته، أو بجلاء دليله.
ثانياً: صحة النقل في الأمور المنقولة لا بد منها، وفي هذين الطريقين جاءت القاعدة الحوارية المشهورة: إن كنت ناقلاً فالصحة، وإن كنت مُدَّعياً فالدليل.
هذه قضية لا يجوز أن يدخل المتحاوران إلا وقد تسلحا بها، لأن المادة التي معهما أو يريدان أن يطرحاها فيما بينهما لا بد أن تكون مُدعمة بدليل إن كانت قضايا عقلية، وإذا كانت أخباراً لا بد أن تكون مثبتة، وفي التنزيل جاء قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] وقد جاء ذلك في أكثر من آية، وجاء قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} [الأنبياء:24] وجاء في آية أخرى في بني إسرائيل: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93] هذا هو الأصل الأول.(23/6)
الأصل الثاني: سلامة كلام المناظر ودليله من التناقض
لا بد في المتناظرين أن يكون كلامهما وأدلتهما سالمةً من التناقض، فالمتناقض ساقطٌ بداهةً، ومن أمثلة ذلك: وصف فرعون لموسى عليه السلام بقوله: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:38 - 39] وهو وصف قاله الكفار لكثير من الأنبياء بما فيه كفار الجاهلية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فوصفوه بالوصفين: ساحر ومجنون، وهذان الوصفان السحر والجنون لا يجتمعان؛ لأن الشأن في الساحر العقل والفطنة والذكاء، أما المجنون فلا عقل معه البتة، وهذا منه تهافتٌ ظاهر، وتناقض بيِّن، ومثله أيضاً فيما ذكر بعض المفسرين، وقد تكون مسألة تحتاج إلى نظر، لكني سآتي بها للتمثيل فقط، نعت كفار قريش لآيات محمد صلى الله عليه وسلم بأنها سحر مستمر في قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:1 - 2].
قال بعض المفسرين: وهو تناقض، فالسحر لا يكون مستمراً، والمستمر لا يكون سحراً.(23/7)
الأصل الثالث: ألا يكون الدليل هو عين الدعوى
لأنه إذا كان كذلك لم يكن دليلاً، ولكنه إعادة للدعوة بألفاظ وصيغ أخرى، وعند بعض المحاورين من البراعة في تزيين الألفاظ وزخرفتها ما يوهم بأنه يُورد دليلاً، وواقع الحال أنه إعادة للدعوى بلفظ مغاير، وهذا تحايل في أصول الحوار باطل، بل هو حيدةٌ عن طلب الحق وسبيلٌ لإطالة النقاش من غير فائدة.
ولعلي أنقلكم إلى بعض الأمثلة التي تشتمل على شيء من التناقض، أحياناً قد يريده المحاور، وهذه الأمثلة متدرجة أحدها بسيط جداً، والثاني إلى حدٍ ما أعمق، والثالث أكثر عمقاً.
الأول مثلاً: لو أن أحداً عنده ولدان سعد وسعيد، فأعطى سعداً ولم يُعطِ سعيداً، فقيل له: لماذا أعطيت سعداً؟ قال: لأنه ولدي، وهذا تعليل ساقط؛ لأنه سيقال له: وسعيد أيضاً ولدك، فمثل هذا التعليل غير مقبول.
صورة أخرى في الخلاف بين أهل العلم من الفقهاء: بعضهم يرى أن بين الماء الطهور والطاهر فرق يقول: الماء طاهر، وطهور بمعنى يتوضأ به، لماذا طهور؟ قال: لأنه مائع -سائل- فيُقال له: الدهن أيضاً سائل، وأنت لا تقول بأنه طهور.
إذاً: هذا التعليل لا يصلح؛ لأنه ينقض الدعوى.
مثال ثالث وهو أعمق قليلاً: هو أن بعض طوائف الكفار ينكرون أن تدرك القطعيات بغير الحواس، يقولون: ليس هناك قطعي إلا عن طريق السمع والبصر واللمس، فالمحسوسات هي التي نقطع بها، أما العقليات فلا نقطع بها، فيقولون مثلاً: لا قطع إلا عن طريق الحواس، يقال لهم: هذه قاعدة: لا قطع إلا عن طريق الحواس.
حسية أو معنوية؟
يقولون: لا تدرك القطعيات إلا عن طريق الحواس، هذه القضية حسية، أو فكرية؟ فيقولون: فكرية! إذاً، إذا قالوا هذا فقد نقضوا منهجهم، وهناك ردود أخرى منها: أن الجزء أقل من الكبير, والواحد أقل من الألف إلى آخره، لكن هذه فقط من الردود عليهم والتناقض الظاهر.(23/8)
الأصل الرابع: الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مسلمة
وهذا الأصل مهم جداً، وهو الذي أشرت إليه في مقدمة الحديث: وهو الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مُسَلَّمة، أو بعبارة أصح: لا يجوز الخوض في المسلمات، نقول: هذه المسلمات والثوابت قد يكون مرجعها العقل، أي: أنها عقلية بحتة لا تقبل البحث عند العقلاء متجلية، مثلاً: حسن الصدق، أن يكون الصدق حسناً متفقٌ عليه، قبح الكذب، شكر المحسن، معاقبة المذنب، هذه قضايا لا يختلف عليها أحد.
فمثل هذا المسلمات لا يجوز النقاش فيها عند العقلاء، أو تكون مُسلمات دينية لا يختلف عليها المعتنقون لهذه الديانة أو تلك، ونحن مسلمون نضرب بأمثلة إسلامية، فبالوقوف عند الثوابت والمسلمات والانطلاق منها يتحدد مريد الحق ممن لا يريد إلا المراء والجدال والسفسطة، فإذا كانوا من ديانة واحدة وهناك قضايا دينية مُسلَّمة، فلا يجوز النقاش فيها، كذلك إذا كانت قضايا عقلية.
إذا كان غير مسلم فإنه يناقش في إثبات أصل الإسلام عنده، ولهذا نقول مثلاً: في الإسلام الإيمان بربوبية الله وعبوديته، واتصافه بصفات الكمال، وتنزهه عن صفات النقص، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم، والحكم بما أنزل الله؛ هذه قضايا مُسلمة لا يجوز أبداً للمسلمين أن يتناقشوا فيها، إذا كانوا مسلمين، إذا كنت مسلماً هل يتصور أن مسلماً يناقش: هل يُطَّبق شرع الله، أو لا يطبق؟ إلا إذا كان غير مسلم، وإذا كان في نفسه حرج من تطبيق شرع الله فعليه أن يراجع دينه، لأن هذه قضايا مُسلَّمة في الدين، فالقضايا المسلمة لا يجوز أن تكون محل نقاش، ففي قضايا الإسلام وربوبية الله سبحانه وتعالى وعبوديته، واتصافه بصفات الكمال وتنزهه عن صفات النقص، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم، فهذه عند المسلمين قضايا قطعية لا تقبل النقاش، ولا يجوز أن يتناقش فيها مسلم، لأنها أصل الإيمان، وكذلك الحكم بما أنزل الله، وتطبيق الشريعة، لا يجوز أبداً أن يكون محل نقاش.
قل مثل ذلك: في الربا، فالربا محسوم؛ والزنا، وتعدد الزوجات قضية محسومة لا يجوز النقاش فيها من حيث إثباتها أبداً، ومثل: عموم الحجاب، لا يجوز النقاش في أصله لأنه محسوم في الكتاب والسنة، لكن قد يكون في جزئيات من المسائل غير مسلمة.
نعم.
قضية كشف الوجه -مثلاً- قضية تقبل النقاش، لكن حجاب المرأة كحجاب لا يجوز أبداً في أي حال، وكذلك قضية الربا لا يجوز، لكن بعض الصور في مسائل الربا يمكن أن تقبل النقاش، أما مبدأ الربا فإنه لا يجوز بأي حال أن يتناقش فيه.
ولهذا نقول: إذا كان الأمر كذلك، فلا يجوز أن تكون هذه محل حوار أو نقاش مع مؤمن بالإسلام، لأنها محسومة، فقضية الحكم بما أنزل الله منصوص عليها في مثل قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [النساء:60]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، وكذلك حجاب المرأة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]، وآيات النور، وآيات الأحزاب، وآيات كثيرة.
ومن هنا: فلا يمكن لمسلم أن يقف على مائدة حوار مع شيوعيٍ أو ملحدٍ في مثل هذه القضايا؛ لأن النقاش معه لا يبتدئ من هنا، لأن هذه القضايا ليست عند الشيوعي والملحد مُسلَّمة، ولكن قد يكون النقاش معه في أصل الديانة: هل يؤمن بالله؟ هل هو مؤمن بالقرآن؟ هل هو مؤمن بمحمد؟
إذا آمن بمحمد، نقول: افتح القرآن، لأن القضايا ليست عنده مُسلَّمة، ولكن يكون النقاش معه في أصل الديانة في ربوبية الله، وعبوديته، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق القرآن الكريم وإعجازه.
ولهذا فإننا نقول: من الخطأ غير المقصود عند بعض المثقفين والكاتبين إثارة هذه القضايا، أعني: تطبيق الشريعة؛ الحجاب، وتعدد الزوجات وأمثالها في وسائل الإعلام من صحافة وإذاعة على شكل مقالات أو ندوات بقصد إثابتها أو صلاحيتها، إذا أُثيرت بهذا القصد فهذا لا يجوز، أما إذا كان المقصود النظر في حكمها وأسرارها، وليس في صلاحيتها وملاءمتها، فهذا لا حرج فيه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
وأخيراً فينبني على هذا الأصل: أن الإصرار على إنكار المسلمات، والثوابت مكابرة قبيحة، ومماراة منحرفة عن أصول الحوار والمناظرة، وليس ذلك شأن طالبي الحق.(23/9)
الأصل الخامس: التجرد وقصد الحق والبعد عن التعصب والالتزام بأدب الحوار
إن اتباع الحق والسعي للوصول إليه، والحرص على الالتزام به هو الذي يقود الحوار إلى طريق مستقيم لا عوج فيه ولا التواء، ويحول دون الانسياق وراء الهوى سواء كان هوى النفس، أو هوى الجمهور، أو هوى الأتباع، والعاقل -فضلاً عن المسلم الصادق- طالب حق، باحث عن الحقيقة ينشد الصواب، ويتجنب الخطأ، يقول أبو حامد الغزالي: التعاون على طلب الحق من الدين، ولكن له شروط وعلامات:
منها: أن يكون في طلب الحق كناشد ضالة لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده، أو على يد معاونه، ويرى رفيقه معيناً لا خصماً، ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهره له.
ومن مقولات الإمام الشافعي رحمه الله المحفوظة: ما كلَّمتُ أحداً قط إلا أحببت أن يُوفق ويُسدد ويُعان وتكون عليه رعاية الله وحفظه، وما ناظرني فباليت أظهرت الحجة على لساني أو على لسانه.
وفي ذم التعصب يقول الغزالي أيضاً: إن التعصب من آفات علماء السوء، فإنهم يُبالغون في التعصب للحق، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة، بمعنى: أنهم يتناظرون على أنهم متساوون، وأن كل واحدٍ يُحاول أن يرى أنه يدلي الآخر أو نحو ذلك مما كان ينبغي أن يكون متواضعاً، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة، وتتوفر بواعثهم على طلب نصرة الباطل، ويقوى غرضهم بالتمسك فيما نسبوا إليه ولو كان باطلاً، ولو جاءوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة لا في معرض التعصب والتحقير لأنجحوا فيه، ولكن لما كان الجاه -أي: أنهم أصحاب هوى وجاه- لا يقوم إلا بالاستتباع، ولا يستنير الأتباع مثل: التعصب، واللعن، والتهم للخصوم، فاتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم.
انتهى كلامه.
والمقصود من كل ذلك: أن يكون الحوار بريئاً من التعصب، خالصاً لطلب الحق، خالياً من العنف والانفعال، بعيداً عن المشاحنات الأنانية والمغالطات البيانية مما يفسد القلوب ويهيج النفوس، ويُولد النفرة، ويُوغل الصدور، وينتهي إلى القطيعة، وهذا الموضوع سوف يزداد بسطاً في الحديث عن آداب الحوار.(23/10)
الأصل السادس: أهلية المحاور
إذا كان من الحق ألا يمنع صاحب الحق عن حقه، فمن الحق ألا يُعطى هذا الحق لمن لا يستحق، كما أن من الحكمة والعقل والأدب في الرجل ألا يعترض على ما ليس له أهلاً، ولا يدخل فيما ليس هو فيه كفواً.
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من كان على الباطل، وهذا ما يفعله كثيرٌ من المستشرقين، يظنون أنفسهم أنهم مدافعون عن الإسلام، ومن هنا جاءت الزلات من المستغربين حينما تبعوا آثار المستشرقين، ولهذا نقول: من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من كان على الباطل، ومن الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يعرف الحق، وهذا قد يقع فيه بعض من يقع، ومن الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يدرك مسالك الباطل.
إذاً، فليس كل أحد مؤهلاً للدخول في حوار صحي صحيح يؤتي ثماراً يانعة ونتائج طيبة، والذي يجمع لك ذلك كله العلم، فلا بد من التأهيل العلمي للمحاور، ويقصد بذلك التأهيل العلمي المتخصص.
إن الجاهل بالشيء ليس كُفُؤاً للعالم به، ومن لا يعلم لا يجوز أن يجادل من يعلم، وقد قرر هذه الحقيقة إبراهيم عليه السلام في محاجته لأبيه حين قال بما حكى الله عنه: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً) [مريم:43].
وإن من البلاء أن يكون غير مختص ليعترض على مختص ويخطئه ويغلطه، وإن حق من لا يعلم أن يسأل ويتفهم لئلا يعترض ويجادل بغير علم، وقد قال موسى -عليه السلام- للعبد الصالح: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66] فالمستحسن من غير المختص أن يسأل ويستفسر ويفكر ويتعلم ويتتلمذ ويقف موقف موسى مع العبد الصالح، وكثيرٌ من الحوارات غير المنتجة مردها إلى عدم التكافؤ بين المتحاورين، ولقد قال الشافعي رحمه الله: ما جادلت عالماً إلا وغلبته، وما جادلني جاهلٌ إلا وغلبني.
وهذا التهكم من الشافعي رحمه الله يشير إلى الجدال العقيم الذي يجري بين غير المتكافئين.(23/11)
الأصل السابع: قطعية النتائج ونسبيتها
هذا أصل مبني على غايات الحوار قطعية النتائج ونسبيتها.
ومن المهم في هذا الأصل إدراك أن الرأي الفكري نسبي الدلالة على الصواب أو الخطأ، والذي لا يجوز عليهم الخطأ هم الأنبياء عليهم السلام فيما يُبلغون عن ربهم سبحانه وتعالى، وما عدا ذلك فيندرج تحت المقولة المشهورة: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب.
وبناءً عليه: فليس من شرط الحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف الآخر، فإن تحقق هذا واتفقا على رأي فنعم المقصود وهو منتهى الغاية، وإن لم يكن فالحوار ناجحٌ إذا توصل المتحاوران بقناعة إلى قبول كل من منهجيهما، يسوغ لكل واحد منهما التمسك به ما دام أنه في دائرة الخلاف السائغ، وما تقدم من حديث عن غاية الحوار يزيد هذا الأصل إيضاحاً، وفي تقرير ذلك يقول ابن قدامة رحمه الله: وكان بعضهم يعذر كل من خالفه في المسائل الاجتهادية ولا يكلفه أن يوافقه فهمه.
انتهى من مقدمة المغني.
ولكن يكون الحوار فاشلاً إذا انتهى إلى نزاع وقطيعة وتدابر ومكايدة وتجهيلٍ وتخطئة.(23/12)
الأصل الثامن: الرضا والقبول بالنتائج
الأخير: الرضا والقبول بالنتائج التي يتوصل إليها المتحاورون، والالتزام الجاد بها وبما يترتب عليها، فهذا الأصل لا بد أن يكون متفقاً عليه بينهما وهو الرضا والقبول بالنتائج، وإذا لم يتحقق هذا الأصل كانت المناظرة ضرباً من العبث الذي يتنزه عنه العقلاء.
يقول ابن عقيل الحنبلي في كتابه فن الجدل وليقبل كل واحد منهما من صاحبه الحجة، فإنه أنبل لقدره، وأعون على إدراك الحق، وسلوك سبيل الصدق.
قال الشافعي رضي الله عنه وأرضاه: ما ناظرت أحداً فقبل مني الحجة إلا عظمُ في عيني، ولا ردها إلا سقط من عيني.
هذه إلمامة وإلماحة إلى أصول الحوار دخل بعضها في بعض، وإلا فإن المتتبع لكتب آداب البحث وأنواره سوف يجد أموراً أخرى لم توجد هنا، ولكن ذكرت ما يسمح به المقام، وما أرجو أن ما في إشاراته ما يغني عن كثير من العبارات.(23/13)
آداب الحوار
هذه آداب الحوار وهي ليست أصولاً تقدم بمعنى قواعد، لكنها آداب إذا لم يتسلح بها المتحاورون، فغالباً يطول نقاشهم، وتسوء صدورهم، وتضيق قلوبهم.(23/14)
الأول: التزام القول الحسن وتجنب منهج التحدي والإفحام
إن من أهم ما يتوجه إليه المحاور في حواره هو التزام الحسنى في القول والمجادلة، ففي محكم التنزيل: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53]، وقوله سبحانه وتعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، وقوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83].
فحق العاقل اللبيب الطالب للحق أن ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح والتهزئة والسخرية وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز.
ومن لطائف التوجيهات الإلهية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الباب: الانصراف عن التعنيف في الرد على أهل الباطل حيث قال الله لنبيه: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج:68 - 69] كأن هذا نوع من المنهج؛ لأن الجدل في بعض الأحيان يجعلك تنصرف وتقف، فإن جادلوك في مقام آخر جادلهم في مقام آخر مبدأ {فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحج:68]، وآية أخرى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]، مع أن بطلانهم ظاهر، وحجتهم ظاهرة، والقضية قضية مقام الربوبية {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]، هذا نوعٌ من القول الحسن في بعض مواطن الجدال.
ويلحق بهذا الأصل: تجنب أسلوب التحدي والتعسف في الحديث، وتعمد إيقاع الخصم في الإحراج ولو كانت الحجة بينة، والدليل دامغاً، فإن كسب القلوب مقدَّمٌ على كسب المواقف، يا حبذا لو يحسن هذا العلماء والدعاة -كسب القلوب مقدم على كسب المواقف- وقد تفحم الخصم ولكنك لا تقنعه، وقد تسكته بحجة ولكنك لا تكسب تسليمه وإذعانه، وأسلوب التحدي يمنع التسليم، ولو وجدت القناعة العقلية {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] والحرص على القلوب واستلال السخائم أهم وأولى عند المنصف العاقل من استكثار الأعداء واستكفاء الإناء.
وإنك لتعلم أن إغلاظ القول، ورفع الصوت، وانتفاخ الأوداج لا يُولِّد إلا غيظاً وحقداً وحنقاًُ، ومن أجل هذا فليحرص المحاور ألا يرفع صوته أكثر من الحاجة، فهذه رعونةٌ وإيذاءٌ للنفس وللغير، ورفع الصوت لا يقوي حجةً، ولا يجلب دليلاً، ولا يقيم بُرهاناً، بل إن صاحب الصوت العالي لا يعلو صوته في الغالب إلا لضعف حجته وقلة بضاعته، فيستر عجزه بالصراخ، ويواري ضعفه بالعويل، وهدوء الصوت عنوان العقل والاتزان والفكر المنظم والنقد الموضوعي والثقة الواثقة.
على أن الإنسان قد يحتاج إلى التغير من نبرات صوته حسب استدعاء المقام، ونوع الأسلوب لينسجم الصوت مع المقام والأسلوب استفهامياًً كان، أو تقريرياً، أو إنكارياً، أو تعجبياً أو غير ذلك مما يدفع الملل والسآمة، ويعين على إيصال الفكرة، ويجدد التنبيه لدى المشاركين والمتابعين.
على أن هناك بعض الحالات الاستثنائية التي يسوء فيها اللجوء إلى الإفحام، وإسكات الطرف الآخر، وذلك فيما إذا استطال وتجاوز الحد، وظلم وطغى وبغى، وعادى الحق، وكابر مكابرة بينة، وفي مثل هذا جاءت الآية الكريمة: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46]، وفي قوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] ففي حالات الظلم والبغي والتجاوز قد يسمح بالهجوم الحاد المركز على الخصم وإحراجه وتسفيه رأيه؛ لأنه يُمثل الباطل، وحسنٌ أن يرى الناس الباطل مهزوماً مدحوراً.
وقبل مغادرة هذه الفقرة من الآداب لا بد من الإشارة إلى ما ينبغي من البعد من استخدام ضمير المتكلم إفراداً أو جمعاً، فلا يحسن أن يقول: فعلت، وقلت، وفي رأيي، ودرسنا، وفي تجربتنا، فهذا ثقيل في نفوس المتابعين، وهو عنوان على الإعجاب بالنفس، وقد يؤثر على الإخلاص وحسن القصد، والناس تشمئز من المتعالم المتعالي، ومن اللائق أن يبدأها بضمير الغيبة، فيقول: يبدو للدارس، وتدل تجارب العاملين، ويقوم المختصون، وفي رأي أهل العلم والشأن ونحو ذلك، وإن كان قد لا يكاد الإنسان أن ينفك عن هذا، ولكن قدر الاستطاعة أن يقلل.(23/15)
الثاني: توضيح عبارات المحاور
من غاية الأدب واللباقة بالقول، وعبارة الحوار: ألاَّ يفترض في صاحبه الذكاء المفرط، فيكلمه بعبارات مختزلة، أو إشارات بعيدة، ومِنْ ثمَّ فلا يفهم، كما لا يظن فيه الغباء والسذاجة، أو الجهل المطبق، فيبالغ في شرح ما لا يحتاج إلى شرح، وتبسيط ما لا يحتاج إلى تبسيط، ولا شك أن الناس بين ذلك درجات في عقولهم وفهمهم، فهذا عقله متسعٌ بنفسٍ رحبة، وهذا ضيِّق العقل، وآخر يميل إلى الأحوط في جانب التضييق، وآخر يميل إلى التوسع، وهذه العقليات والمدارك تُؤثر في فهم ما يُقال، فذو العقل اللماح يستوعب ويفهم حرفية النص وفحواه ومراد المتكلم وما بين السطور، وآخر دون ذلك بمسافات، ولقد قال أبو جعفر المنصور للإمام مالك لما أراد تصنيف الموطأ: تجنب شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.(23/16)
الثالث: الالتزام بموقف محدد في الكلام
ومن الآداب: الالتزام بموقف محدد في الكلام فينبغي أن يستقر في ذهن المحاور ألا يستأثر بالكلام، ويستطيل في الحديث، ويسترسل بما يخرج عن حدود اللباقة والأدب والذوق الرفيع، يقول ابن عقيل في كتابه فن الجدل: وليتناوبا الكلام مناوبةً لا مناهبةً بحيث ينصت المعترض للمستدل حتى يفرغ من تقريره للدليل، ثم المستدل للمعترض حتى يُقرر اعتراضه، ولا يقطع أحدٌ منهما على الآخر كلامه، وإن فهما مقصوده من بعضه.
قال ابن عقيل: وبعض الناس يفعل هذا - أي: يقطع الكلام - تنبيهاً للحاضرين على فطنته وذكائه.
قال ابن عقيل: وهذا ليس فضيلة، إذ المعاني بعضها مرتبطٌ ببعض.
ليس شطارة منك أن تفهم ماذا قال؟ المعاني يدل بعضها على بعض، إذ المعاني بعضها مرتبط ببعض، وبعضها دليل على بعض، وليس ذلك علم غيب، أو زجر صادق، أو استخراج ضمير حتى يفتخر به، والطول والاعتدال في الحديث يختلف من ظرف إلى ظرف، ومن حال إلى حال، فالندوات والمؤتمرات تحدد فيها فرص الكلام من قبل رئيس الجلسة، أو مدير الندوة، فينبغي الالتزام بذلك، والندوات واللقاءات في المعسكرات والمتنزهات قد تقبل الإطالة أكثر من غيرها لتهيؤ المستمعين، وقد يختلف ظرف المسجد عن الجامعة والمدرسة وعن دور التعليم الأخرى.
ومن المفيد أن تعلم أن أغلب أسباب الإطالة في الكلام، ومقاطعة أحاديث الرجال يرجع إلى ما يلي:
أولاً: إعجاب المرء بنفسه.
الثاني: حب الشهرة والثناء.
الثالث: ظن المتحدث أن ما يأتي به جديدٌ على الناس.
رابعاً: قلة اللامبالاة بالناس في علمهم ووقتهم وظرفهم.
والذي يبدو أن واحداً من هذه الأربعة إذا استقر في نفوس السامعين، كافٍ في صرفهم وصدودهم ومللهم واستثقالهم لمحدثيهم.
إذاً: من آداب الحوار:-
1 - حسن الاستماع، وأدب الإنصات، وتجنب المقاطعة.
2 - تقدير الخصم واحترامه.
3 - حصر المناظرات في مكان محدود، وقد ذكر أهل العلم أن المحاورات والجدل ينبغي أن يكون في خلوات محدودة الحضور، قالوا: وذلك أجمع للفكر والفهم، وأقرب لصفاء الذهن، وأسلم لحسن القصد، وإن في حضور الجمع الغفير ما يُحرِّك دواعي الرياء والحرص على الغلبة بالحق والباطل، ومن أطرف الاستدلالات! أنهم استدلوا بمثل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} [سبأ:46] أما حينما يكون الحديث مثنى وفرادى، وأعداداً متقاربة، فيكون أدعى إلى استجماع الفكر والرأي، كما أنه أقرب إلى أن يرجع المخطئ عن الحق، ويتنازل عما هو فيه من الباطل أو المشتبه، بخلاف الحال أمام الناس، فقد يعز عليه التسليم والاعتراف بالخطأ أمام مؤيديه، أو مخالفيه.(23/17)
الرابع: الإخلاص
الأدب الأخير هو الإخلاص:
هذه الخصلة من الأدب متممة لما ذُكِرَ، من أصل التجرد في طلب الحق إلى آخره، ومن أجلى المظاهر في ذلك أن يُدافع المناظر والمتحاور عن نفسه حب الظهور، والتميز على الأقران، وإظهار البراعة، وعمق الثقافة والتعالي عن النظراء والأنداد.
إن قصد انتزاع الإعجاب والثناء واستجلاب المديح مفسدٌ للأمر، صارف عن الغاية، وسوف يكون فحص النفس ناجحاً ودقيقاً لو أن المحاور توجَّه إلى نفسه بهذه الأسئلة:
هل ثمت مصلحة ظاهرةٌ تُرجى من هذا النقاش، وهذه المشاركة؟
هل يقصد تحقيق الشهرة، أو إشباع الشهوة في الحديث والمشاركة؟
هل يتوقع أن يتمخض هذا الحوار عن نزاع وفتنة وفتح أبواب من هذه الأبواب التي حقها أن تُسدَّ؟
ومن التحسس الصادق والنصح الصادق للنفس: أن يحذر بعض التلبيسات النفسية والشيطانية، فقد تتوهم بعض النفوس أنها تقصد إحقاق الحق، وواقع دخيلتها أنها تقف مواقف انتصار ذات هوى، ويدخل في هذا الباب: توطين النفس على الرضا والارتياح إذا ظهر الحق على لسان الآخر ورأيه.
ومن الجميل وغاية النبل والصدق مع النفس وقوة الإرادة وعميق الإخلاص: أن توقف الحوار إذا وجدت نفسك قد تغيرَّ مسارها ودخلت في مسارب اللجج والخصام ومدخولات النوايا.
وأكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(23/18)
رهبان الليل رجال الدنيا والآخرة
إن الصلاة هي أعظم صلة بين العبد وربه كما جاء في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهي مفتاح لكل خير، ومفرجة لكل هم، وكاشفة لكل غم، إنها مفزع الخائفين وقربى للوجلين، وبرهان ونور للعاصين التائبين.
وقيام الليل فضله عظيم فأين المشمرون؟!(24/1)
مكانة الصلاة في الدين
الحمد لله أوجد الكائنات فأبدعها صنعاً، وأحكمها خلقاً، وهدى عباده النجدين، فأسعد فريقاً وفريقاً أشقى، أحمده سبحانه وأشكره، وأثني عليه بما هو أهله، لم يزل للشكر مستحقاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعبداً ورقاً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله هو الأخشى لربه والأتقى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه المقدمين فضلاً وسبقاً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ومن نصر دين الله حقاً وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل فاتقوا الله رحمكم الله، وتقربوا إليه بطاعته، والإكثار من ذكره وشكره، وحسن عبادته، توددوا إليه بالتحدث بنعمه، والإحسان إلى خلقه، تعرفوا إليه في الرخاء يعرفكم في الشدة، إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدىً، ومن خاف اليوم أمن غداً، والربح لمن باع الفاني بالباقي، والخسران لمن سدت مسامعه الشهوات، وآثر الحياة الدنيا.
أيها المسلمون: القارئون للتاريخ والناظرون في أحوال الأمم يرون أن هذا العصر هو أعنف عصور البشرية، وأغزرها دماً، وأشدها دماراً.
إن من المفارقات العجيبة والمقارنات اللافتة أن يكون ذلك في وقتٍ وصلت فيه الثقافة والعلوم والتعليم والمخترعات والمكتشفات إلى قوةٍ غير مسبوقة، فمن غير المنكور ما يعيشه العالم كله من تقدم مادي له منجزاتٌ خيرة، وآثار نافعة، في الاتصالات والمواصلات والآلات والتقنيات، والصحة والتعليم، وأسباب المعيشة في آثارٍ إيجابية مشهودة في حياة الناس، ولكن ومع كل هذا النفع المشهود يصبح هذا العصر أعظم العصور قسوة ووحشية، غريب وعجيب أن يكون التنوير سبيل التدمير! ولكن يزول العجب وترتفع الغرابة إذا استرجع المسلم قول الله عز وجل: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] غفلوا عن الآخرة فنسوا ربهم، وجهلوا حقيقة مهمتهم، شرعوا لأنفسهم واستبدوا في أحكامهم وعتوا عتواً كبيراً، لقد كدوا ذكاءهم وسخروا علومهم ووظفوا مخترعاتهم في أسلحة الدمار، والصراع على موارد الخيرات، والتنافس غير الشريف.
إن الذي يستحق التوقف والتأمل أن هذا الجهد وهذا التنافس والتصارع الذي يبذل على وجه هذه الأرض في هذه الميادين لو بذل أقل من نصفه في الأدب مع الله وتوقيره، وابتغاء مرضاته، لكسب الناس الدنيا والآخرة جميعاً، ولأظلهم الأمن الوارف، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكن كثيراً منهم كذبوا وظلموا وآذوا وأفسدوا وأوقدوا حروباً، وأشعلوا صراعات، وأثاروا مشكلاتٍ اقتصادية وسياسية، واستضعفوا أمماً، واستنقصوا حقوقاً، فأُخذوا بما كانوا يكسبون، ولا يزالون تصيبهم بما صنعوا قوارع.
إن أهل الإسلام وهم في هذا الشهر المبارك ليعلنون أن باب الصلاح والإصلاح يكمن في صلاح القلوب، وارتباطها بعلام الغيوب، طريق الإصلاح والصلاح لا يكون ولن يكون إلا بالخضوع التام لله الواحد القهار؛ عبادةً، وتذللاً، وانقياداً، وتسليماً.
العبادة في الإسلام ذات مدلولٍ واسع، إيمانٌ صادق، وعمل صالح: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163] {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
ثم بعد ذلك امتلاك الحياة، والأخذ بالأسباب مع الاعتماد على الله، وحسن التوكل عليه، وتسخير ذلك في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله، وليكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة.
أيها الإخوة المسلمون: الإنسان ضعيف لا قوة له إلا حين يتصل بربه، الإنسان تواجهه قوى الشر، وتثقل عليه المقاومة بين دفع الشهوات، وإغراءات مطامع يثقل عليه مجاهدة الطغيان، وتطول به الجادة، وتبعد عليه الشقة، ليس له في هذه الأمواج العاتية، ولا مفزع من التيارات الجارفة، إلا الاعتصام بالله واللياذ بجنابه.
أيها المسلمون: إن مناسبة الزمان الشريف الذي يعيشه المسلمون هذه الأيام تستدعي الحديث عن أهم العبادات في الإسلام، وأعظمها اعتصاماً بالله سبحانه، تلكم هي العبادة التي يفزع إليها نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر، وقرة عينه إذا ضاقت عليه المسالك.
الصلاة مورد النبع الذي لا يغيب، والكنز الذي يغري ويقني ويفيض، حين تستحكم الأمور، ويشتد هدير الحياة: {يا بلال! أقم الصلاة أرحنا بها}.
الصلاة: هي عمود الإسلام، وهي بإذن الله مفزع التائبين، وملجأ الخائفين، ونور المتعبدين، وبضاعة المتاجرين، تجلو صدأ القلوب بأنوارها، وتزيل حجب الغفلات بأبكارها، وتنير الوجوه بأسرارها وآثارها، ومن كان أقوى إيماناً كان أحسن صلاةً، وأقبل قنوتاً، وأعظم يقيناً.
جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال: {الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر منها فليستكثر} أخرجه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن.(24/2)
فضل صلاة الليل
عباد الله: وتأتي صلاة الليل والتهجد في الأسحار ليتجلى هذا الاتصال بالله العلي الأعلى في صورة من التعبد بهية بهيجة، فقد صح في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أفضل الصلاة بعد الصلاة المفروضة صلاة الليل} أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولقد حكى الإجماع على ذلك غير واحدٍ من أهل العلم، والقدوة الأولى والأسوة العظمى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {كان يقوم من الليل حتى تفطرت قدماه الشريفتان} مخرجٌ في الصحيحين.
أما في رمضان فكان يجتهد فيه ما لا يجتهد في غيره، وإذا دخل العشر أحيا ليله وأيقظ أهله وشد المئزر: {ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه} وربنا ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل فيقول: {أنا الملك من الذي يدعوني فأستجيب له؟ من الذي يسألني فأعطيه؟ من الذي يستغفرني فأغفر له؟}، وفي حديث عمرو بن عنبسة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن} بل إن في الليل ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة في صلاة الليل يحيى بها بإذن الله ميت القلوب، وتشحن بها فاتر الهمم، قربة إلى الله، ومنهاة عن الإثم، وتكفيراً للسيئات، ومطردة للداء عن الحسد، وفي الحديث: {عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم}.(24/3)
كلام السلف في قيام الليل
يقول وهب بن منبه رحمه الله: [[قيام الليل يشرف به الوضيع، ويعز به الذليل، وصيام النهار يقطع عن صاحبه الشهوات، وليس للمؤمن راحة دون الجنة]].
ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[من أحب أن يهون الله عليه طول الوقوف يوم القيامة، فليره الله في ظلمة الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه]].
إنهم عباد الرحمن: {يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان:64] انتزعوا نفوسهم من وثر الفرش، وهدوء المساكن، وسكون الليل، وسكون الكون غالبوا هواتف النوم، وآثروا الأنس بالله، والرجاء في وعد الله، والخوف من وعيده: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] عبادٌ لله قانتون متقون: {قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] لصلاة الليل عندهم أسرارها، وللأذكار في نفوسهم حلاوتها، وللمناجاة عندهم لذتها.
يقول أبو سليمان الداراني رحمه الله: [[أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل لما أحببت البقاء في الدنيا]].
ولما حضرت ابن عمر رضي الله عنهما الوفاة قال: [[ما آسى على شيءٍ من الدنيا إلا على ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل]] قيام الليل انقطاعٌ عن صخب الحياة، واتصال بالكريم الأكرم جل وعلا، وتلقي خيوطه ومنحه، والأنس به، والتعرض لنفحاته، والخلوة إليه، الله أكبر! ما طاب لهم المنام، لأنهم تذكروا وحشة القبور، وهول المطلع يوم النشور، يوم يبعث ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، ولهذا قال قتادة رحمه الله: [[ما سهر الليل بالطاعة منافق]].
عباد لله صالحون: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17] لقد تعددت مقاصدهم، واختلفت مطالبهم، وتنوعت غاياتهم، والليل هو منهلهم وموردهم: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] فهذا محبٌ يتنعم بالمناجاة، وذلك محسنٌ يزداد في الدرجات، ويسارع في الخيرات، ويجد في المنافسات، وآخر خائف يتضرع في طلب العفو، ويبكي على الخطيئة والذنب، وراجٍ يلح في سؤاله ويصر على مطلوبه، وعاصٍ مقصر يطلب النجاة، ويعتذر عن التقصير وسوء العمل، كلهم يدعون ربهم، ويرجونه خوفاً وطمعاً، فأنعم عليهم مولاهم فأعطاهم واستخلصهم واصطفاهم، وقليلٌ ما هم، اكتفوا من الليل بيسير النوم، مشتغلين بالصلاة والقرآن والذكر والصوم، تلكم هي همم القوم، وتأملوا هذه الآية العظيمة: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً * إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان:26 - 27].
الليل ميدان ذوي الهمم العالية من أصحاب العبادات والدعوات، هو الزاد الصالح لرحلة الحياة، أما الذين يحبون العاجلة فصغار الهمم، صغيرو المطالب، يغرقون في العاجلة: {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان:27] وفي هذا يقول بعض السلف: [[كيف يرجو النجاة من سوء الحساب من ينام الليل، ويلهو بالنهار]] أما كثيرٌ من أبناء هذا العصر فلهوهم قد استغرق الليل والنهار، نعوذ بالله من الخذلان.(24/4)
طاعة الله بالنهار تعين على القيام له بالليل
أيها الإخوة والأحبة: بضعف النفوس عن قيام الليل تقسو القلوب، وتجف الدموع، وتستحكم الغفلة.
ذكر رجلٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: مازال نائماً حتى أصبح، فقال عليه الصلاة والسلام: {ذاك رجل بال الشيطان في أذنه} متفق عليه.
إذا أظلم الليل نامت قلوب الغافلين، وماتت أرواح اللاهين، من لم يكن له وردٌ من الليل فقد فرط في حق نفسه تفريطاً كبيراً، وأهمل إهمالاً عظيماً، أي حرمانٍ أعظم ممن تتهيأ له مناجاة مولاه، والخلوة به ثم لا يبادر ولا يبالي؟! ما منعه إلا التهاون والكسل، وما حرمه إلا النوم وضعف الهمة، ناهيك بأقوامٍ يسهرون على ما حرم الله، ويقطعون ليلهم في معاصي الله، ويهلكون ساعاتهم بانتهاك حرمات الله، فشتان بين أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان.
روى البيهقي في سننه الكبرى بسندٍ صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله يبغض كل جعظري جواض، سخاب في الأسواق، جيفة في الليل، حمارٍ بالنهار، عالمٍ بأمر الدنيا، جاهلٍ بأمر الآخرة} لقد عشتم حتى رأيتم أجيالاً من المسلمين تقطع ليلها وتسهر على العبث واللهو في قنواتٍ ماجنة، وغناءٍ ساقط، وتمتعٍ هابط، لماذا تشكو بعض البيوت من ضعف الهمم عن قيام الليل؟ وتخلو منازل من المتهجدين المتعبدين؟
قيل لـ ابن مسعود رضي الله عنه: [[ما نستطيع قيام الليل، قال: أقعدتكم ذنوبكم]] وقال رجل لأحد الصالحين: لا أستطيع قيام الليل فصف لي في ذلك دواء؟ فقال: لا تعصه بالنهار وهو يقيمك بين يديه في الليل.
فاجتهد حفظك الله أن تصلي ما تيسر من الليل؛ اجتهد أن تصلي التراويح، تصلي ما تيسر من الليل، والقليل من صلاة الليل كثير، واصبر على ذلك وداوم عليه، فبالصبر والمداومة والإخلاص تنل من ربك التثبيت والمعونة، واعلم أن دقائق الليل غالية فلا ترخصها بالغفلة والتواني والتسويف، ومن أرخص الدقائق الغالية ثقلت عليه المغارم وضاقت عليه المسالك: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] ولا تنس -حفظك الله- أهلك فأيقظهم لا ليلتقوا حول مسلسلٍ هابط، أو منظرٍ خالع، ولكن ليقفوا بين يدي خالقهم تائبين منيبين يغسلون خطيئاتهم بدموعٍ نادمة، وقلوبٍ باكية، لعلها أن تمحو الذنوب، ففي الحديث: {رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأةً قامت من الليل فصلت ثم أيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء}.
{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:15 - 17].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(24/5)
الأمور التي تعين على قيام الليل
الحمد لله لا تغيض ينابيع فضله، فليس لإحسانه حد، ولا غنى لعباده عن كرمه وإنعامه، فليس لآلائه عد، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد الأحد الفرد الصمد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أفضل رسول، وأشرف عبد صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه سارعوا في الخيرات وشمروا عن سواعد الجد، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاعلم رحمك الله وأرشدك لطاعته أن من الأسباب الميسرة لقيام الليل، والمعينة عليه؛ الإقبال على الله، وصدق التعلق به مع حسن الظن به سبحانه، وعظم الرجاء فيما عنده، والحرص على الابتعاد عن الذنوب؛ فالذنوب تقسي القلوب، وتقعد الهمم، وحسبك من طعامك لقيمات، فمن أكثر من الطعام ثقلت نفسه، وغلبه نومه، وقد قال وهب بن منبه رحمه الله: [[ليس أحب إلى الشيطان من الأكول النوام]].
واحرص وفقك الله على سلامة القلب من الحقد والحسد، واجتناب البدع، ولزوم السنة والحرص عليها، وامتلاء القلب من الخوف من الله، مع قصر الأمل، ولتعلم أن أشرف البواعث وأعظمها حب الله ومناجاته، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وحب كتابه.(24/6)
وقت صلاة الليل وكيفيتها
أما وقت صلاة الليل فهو ممتدٌ من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، ومن كل الليل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستقر ورده في السحر، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود؛ كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه.
وفي المأثور من أحوال السلف منهم من يصلي الليل كله، ومنهم من يصلي نصفه، ومنهم ثلثه، ومنهم خمسه، ومنهم سدسه، ومنهم من يصلي ركعاتٍ معدوداتٍ ومن أيقظ أهله فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
ومن الآداب التي ينبغي رعايتها في صلاة الليل وقيامه، أن يستفتح بركعتين خفيفتين، ثم يصلي ما كتب له مثنى مثنى يسلم بعد كل ركعتين، ويستحب أن يطيل القراءة والركوع والسجود، ويقرأ ويتدبر ويجتهد في الذكر والدعاء، ويكثر ولا يشق على نفسه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {عليكم بما تطيقون فوالله! لا يمل الله حتى تملوا، وسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدلجة}.
وإن مما يحث الهمة ويبعث القوة أن تعلم أنك في أيامٍ فاضلة وأوقاتٍ شريفة في شهرٍ مبارك، المغبون من فرط فيه، والخاسر من لم ينافس فيه، هو ميدان التسابق لقيام الليل، وساحات التنافس للركع السجود، هذه الأيام من أرجى الأيام، فليست قيمة الأيام بساعاتها، ولا قدر الليالي بطولها وعددها، وإنما قيمة الأوقات بما تحمله من خيرٍ للبشر، وسعادة للنفوس.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله واغتنموا أوقاتكم وأروا الله من أنفسكم خيراً، وتعرضوا لنفحات ربكم: {أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام}.
ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمدٍٍ رسول الله فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل حكيماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الدين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم أيد بالحق والتوفيق والتسديد والتأييد إمامنا وولي أمرنا ووفقه لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، اللهم أعز به دينك، وأعل به كلمتك، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك، وإعزاز دينك، اللهم انصرهم في فلسطين، وفي كشمير، وفي الشيشان، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين!
اللهم ربنا سبحانك وبحمدك لا يخلف وعدك، ولا يهزم جندك، نسألك أن تنصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، اللهم أيدهم وسددهم وثبت أقدامهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم وعراة فاكسهم وجياع فأطعمهم، اللهم إنهم مظلومون فانصرهم، اللهم واجعل الذلة والصغار والهزيمة على أعدائهم، اللهم أنزل بهم بأسك ورجزك إله الحق!
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت؛ أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، اللهم واجعل ما أنزلته قوةً لنا على طاعتك وبلاغاً إلى حين.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك.
اللهم ارفع عن الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين!
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(24/7)
إمام دار الهجرة والنصرة الإمام مالك رحمه الله
إن التاريخ الإسلامي حافل بالأبطال الأفذاذ والأئمة الأخيار الذين شيدوا للأمة مجدها، وحفظوا ثقافتها، ورفعوا رايتها، وأنفوا المذلة والهوان، وفعلوا ما يعزها، وكان من هؤلاء الرجال الإمام مالك رحمه الله المعروف بعلمه وورعه وزهده وذكائه واطلاعه، فقد تتلمذ في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم على يد الجيل والرعيل الأول من التابعين رضوان الله عليهم.(25/1)
فجر الإسلام ورجالاته
الحمد لله ذي الألطاف والنعم، أحمده سبحانه وأشكره هو ذو الجود والإحسان والكرم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فأبدع، وصنع فأحكم، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله المبعوث إلى جميع الأمم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، وأحبوه من كل قلوبكم، فمن امتلأ قلبه بمحبة ربه كمل أنسه، وطاب عيشه، وخف تعلقه بالشهوات، وزاد إقباله على الطاعات، والقلب لا يغنيه ولا يلم شعثه إلا محبة الله وحسن عبادته، ومن أحب الله أحب الله لقاءه، ومن أحب الله استعد للقائه ولم يتعلق قلبه بالدنيا ومطالبها، وعكفت همته على الله ومحبته وإيثار مرضاته، ومن تفكر في عواقب الدنيا أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر.
أيها المسلمون! الناظر في تاريخ الأمم والديانات لا يجد أمة حفلت بالرجال وصنعت بإذن الله الأبطال، وقيادات الأمم وصناع الحضارات عبر الأجيال كما يجد في أمة الإسلام التي تأدبت بأدب القرآن، وتربت في مدرسة النبوة المحمدية: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
لقد كانت دعوة الإسلام المباركة مفتاحاً للطاقات الكامنة في الإنسان، وإعمالاً للعقل بعد أن زكاه الإسلام، وأشرقت جوانبه بنور القرآن، وسارع في العمل المثمر على هدي محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، انطلق الأميون في كل بقاع الدنيا، وفي شتى ميادين المعرفة والحياة يقودون الناس بدين الله، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين، هم حفظة القرآن الكريم وحملته، وأوعية السنة، بسبب وقائعهم وأحوالهم وأحداثهم تنزلت آيات التشريع والأحكام، ومن أجل تعليمهم وردت السنة المطهرة، وعن طريقهم انتشرت الدعوة، وأضاءت بأنوارها مشارق الأرض ومغاربها.
لقد كان منهم من تعجز الأجيال أن تأتي بمثله، أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذو النورين وعلي أبو السبطين وأبو عبيدة أمين الأمة وخالد سيف الله، في قضايا ولا أبا حسنٍ لها، رضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضاهم أجمعين.
ثم جاء من بعدهم أجيال، ولدوا في الإسلام، ورضعوا من المهد معارفه، ثم تحولت هذه العلوم والمعارف في مجتمع الإسلام إلى مدارس ومناهج في كل المجالات، إيذاناً ببدء مرحلة التخصص في العلوم والفنون، في الحديث والرواية، والفقه والدراية، والجرح والتعديل، وعلوم القرآن والتفسير، والأصول والاستنباط، ولكل مدرسة رجالها الذين لا يجارون، وعلماؤها الذين لا يبارون، انقضت عصورهم وحفظت علومهم، وانتهت أجيالهم بعد آجالهم، وما زالوا عمالقة يقودون الدنيا بعلمهم، ويتتلمذ التاريخ كما يتتلمذ الباحثون وطلاب العلم على تراثهم.
بليت أجسادهم وبقيت آثارهم في نتاج عقولهم، وأضاءت الدنيا بثمرات علومهم، مدارس ومناهج أخرجت للأمة أمثال الحسن البصري، وسفيان الثوري، وعطاء بن أبي رباح، والليث بن سعد، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والأوزاعي، وربيعة الرأي، وجعفر الصادق، وابن شهاب الزهري، والأئمة الأربعة، والبخاري ومسلم، وغيرهم كثيرٌ وكثير، مما لا يحصيه عد، ولا يقع تحت حصر.
تلقت الأمة بالقبول من هذه المذاهب والمدارس ما وصل إليها، وما كان لها من حواريين دونوا مسائلها، وصنفوا نفائسها، وحفظوا أقوالها، وأصلوا أصولها، وبسطوا فروعها، رجالات حملوا الفقه والدين، وأرسوا مدارس الاجتهاد والفتوى.
وما كانت هذه المذاهب بأئمتها رحمهم الله يوماً، تسلك منهجاً غير الكتاب والسنة، وما كانت يوماً تدعو إلى العمل بخلافهما، إذا تبينت لها الدلالة من النص وصح عندها السند من السنة، وإنهم برآء مما يذكر من تعصب أو خلاف مذموم، لقد كان هؤلاء الأئمة الأعلام وتلاميذهم المخلصون أشد الناس تحذيراً من الانحرافات باسم المذهبية، أو التقليد المتعصب، وأقوالهم في ذلك موفورة مشهورة، كلهم يقول: لا يجوز لأحد أن يقول قولنا من غير أن يعرف دليلنا، وما صح من الحديث فهو المذهب، لا خلاف بين أحدٍ منهم على تقديم الكتاب والسنة على كل ما عداهما، وكلهم يجلون الصحابة رضوان الله عليهم ويأخذون بأقوالهم وفتاويهم واجتهاداتهم، كما يحترمون السلف ويقدرون آراءهم ويجلون استنباطاتهم.
أئمة كرام وعلماء أعلام اتبعوا السنن، وسلكوا المسالك الصحيحة في الاجتهاد، فيهم من كثر عنده حملة السنن ورواة الأثر، ومنهم من كان يميل إلى الرأي لبعد داره عن متنزل الوحي، لقد بذلوا أقصى ما بوسعهم في تعريف الناس بدين الله ودعوتهم إليه.(25/2)
ترجمة الإمام مالك رحمه الله
أيها الأحبة! ومن أجل الإيمان بهذه المثل الرائعة، والنماذج الفائقة، نتوقف عند إمامٍ من هؤلاء الأئمة، وأحد رجالات هذه الشريعة المحفوظة، ذلكم هو إمام دار الهجرة والنصرة والمؤاخاة والصحبة الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي رحمه الله.(25/3)
مولده ونشأته
ولد في المدينة المنورة متنزل الوحي ومهد العلم ومنهل المعرفة، سنة ثلاثٍ وتسعين للهجرة، بها نشأ وترعرع واستقر، شب مالك رحمه الله في بيت علم، ولا سيما علوم الحديث والأثر، واستطلاع الآثار وأخبار الصحابة وفتاويهم، فأسرته رحمه الله من بيوت العلم المشهورة، والناشئ في العادة تتغذى مواهبه ومنازعه من منزع بيته وما يتجه إليه أهله، فشبت تحت ظلها المواهب، بل كان معاشه في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أضلته سماؤها، وأقلته أرضها، موطن الشرع، ومبعث الهدى، ومعقد الحكم الإسلامي الأول، وقصبة الإسلام في عهد الخلافة الراشدة، اجتمع به الرعيل الأول من علماء الصحابة، ثم تلاميذهم، حتى جاء مالك رحمه الله فوجد هذه التركة الثرية من العلم والحديث والفتوى، فنمت مواهبه في كنفها، وجنى من ثمرتها، وتلقى عن رجالها.
كان رضي الله عنه من أعقل أهل زمانه، وأعظمهم مروءة، كثير الصمت، قليل الكلام، متحفظ اللسان، وكان يقول: من أحب أن يفتح على قلبه، وينجو من أهوال يوم القيامة، فليكن عمله في السر أكثر منه في العلانية.
كما كان حسن الخلق بين أهله وولده، ويقول: إن في ذلك مرضاة لربك، ومثراة في مالك، ومنسأة في أجلك، وقد بلغني ذلك عن بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وفي الحديث: {من أحب أن ينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه؛ فليصل رحمه}.
ولقد حرص مالكٌ رحمه الله أن يتمثل حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من كريم السجايا وجميل الشمائل وصفاء السرائر، فكانت حياته نبراساً مضيئاً للمتأسي، في مبتدأ حياته، مسه عسر في المعيشة، حتى إن ابنته لتبكي من شدة الجوع لا تجد ما تأكله، وحتى قال تلميذه ابن القاسم: أدى بـ مالك طلب العلم إلى أن ينقض سقف بيته ليبيع خشبه، ثم بسط الله له في رزقه، ورفع عنه الضيق فاتسعت حاله، فكان عند انبساطه معترفاً بفضل الله عليه، حتى إنه ليقول: ما أحب لامرئ أنعم الله عليه ألا يرى أثر نعمته عليه، ويقول: أحب للقارئ أن يكون أبيض الثياب، ولقد كان أثر النعمة عليه بادياً؛ في طعامه وشرابه، وملبسه ومركبه، وكان يعتني بذلك من نفسه في ثيابه وأثاثه، ويستعمل الطيب الجيد.(25/4)
سيرته
أما في سيرته رضي الله عنه:
فكان لين الجانب، سهلاً منبسطاً مع أصحابه، مع الحفاظ على حال الهيبة والوقار، يقول بعض تلاميذه: كان مالك إذا جلس معنا كأنه واحدٌ منا، ينبسط في الحديث وهو أشد تواضعاً منا له، فإذا أخذ في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تهيبنا كلامه كأننا ما عرفناه ولا عرفنا.(25/5)
طلبه للعلم
أما طلبه للعلم:
فكان دءوباً جاداً قد صرف نفسه إليه في همة وصبر، فهو ذو الحافظة الواعية، والقلب العقول، والذكاء المتقد، مع الصلاح والتقى، متحفزاً إلى مجالسة الرجال، ومذاكرة الأفذاذ، ومزاحمة الفحول، من أهل العلم الأعلام، لم تمنعه شدة الحر اللاهب، ولا الجو اللافح من أن يخرج من منزله يترقب أوقات خروج العلماء، يقول رحمه الله: كنت آتي نافعاً مولى ابن عمر نصف النهار، وما تظلني شجرة من الشمس، أتحيل خروجه فإذا خرج أدعه ساعة حتى إذا دخل قلت له: كيف قال ابن عمر في كذا وكذا؟ ثم أحبس عنه -أي أتوقف عن السؤال- لأنه كان فيه حدة.
ويقول أيضاً: صليت يوم العيد فقلت هذا يومٌ يخلو فيه ابن شهاب الزهري فانصرفت من المصلى، حتى جلست على بابه فسمعته يقول لجاريته: انظري من بالباب، فنظرت فسمعتها تقول: مولاك الأشقر مالك، فقال: أدخليه، فدخلت، فقال: ما أراك انصرفت بعد إلى منزلك؟
فقلت: لا.
قال: هل أكلت شيئاً؟
قلت: لا.
قال: اطعم.
فقلت: لا حاجة لي فيه.
قال: فما تريد؟
قلت: تحدثني.
قال: هات، فأخرجت ألواحي، فحدثني بأربعين حديثاً.
فقلت: زدني.
فقال: حسبك إن كنت رويت هذه الأحاديث فأنت من الحفاظ.
فقلت: قد رويتها -أي حفظتها-.
قال: فجذب الزهري الألواح من يدي ثم قال: حدث، فحدثته بها، فردها إليَّ، وقال: قم فأنت من أوعية العلم.
أيها الشباب! يا طلبة العلم! هكذا هو الحرص، وهذا هو الجد، هذا الإمام يتحين أوقات الخلوة والفراغ ليحصل على طلبته من العلم وحاجته من الرواية، ناهيكم بما وهبه الله من قوة الحافظة واستيعاب الرواية، أربعون حديثاً بأسانيدها ما أن يفرغ من كتابتها حتى يعيدها عن ظهر قلب، والألواح في يد شيخه، ثم نال هذه الشهادة العالية الغالية (قم فأنت من أوعية العلم).
جديرٌ بطلاب العلم، وشباب الإسلام أن ترتفع هممهم، وتعلوا تطلعاتهم، ولا يكتفوا بفتات الموائد، ويعيشوا عالة على أمجاد الماضي، وجهود الأسلاف مع الحرص على الصلاح والتقوى والإخلاص.
يقول مالك رحمه الله: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العلم نورٌ يضعه الله في القلب، والعلم لا يأنس إلا بقلب تقيٍ خاشع.
لقد نضج الإمام مالك رحمه الله في العلم مبكراً، ونبغ في التحصيل على الأقران سابقاً، فتصدر للفتيا وهو فتى، لكنه لم يجلس للإفتاء إلا بعد أن شهد له العلماء بالأهلية.
ومن مأثور كلامه في ذلك هذه البليغة الرائعة: لا خير فيمن يرى نفسه في حالٍ لا يراه الناس لها أهلاً، ويقول: ما جلست للفتيا حتى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم أني موضعٌ لذلك.
وكان ورعاً في دين الله، متحرياً في الفتيا، شديد الحذر، ينهى عن التعجل ويقول: ربما وردت عليَّ المسألة فأسهر فيها عامة ليلتي، ويقول: إني لأفكر في المسألة منذ بضع عشرة فما اتفق لي فيها رأيٌ حتى اليوم.
وكان رحمه الله حين يكثر عليه طلاب المسألة، يكف ويقول: حسبكم من أكثر أخطأ، وكان يعيب كثرة ذلك، ويقول: من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب، وسئل عن ثمانٍ وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين لا أدري.
ذلكم هو الإمام مالكٌ رحمه الله، أمد الله في عمره، حتى أوفى على التسعين عاماً، ولازمه المرض آخر أيامه فانقطع عن الخروج للناس ولكنه لم ينقطع عن الدرس والعلم والحديث والفتيا رحمه الله.
أيها المسلمون! أبناء الإسلام! هذه قبساتٌ من سيرته في الحياة، وشذرات من مسيرته في العلم، فلينظر في ذلك ناشئة الإسلام، تأملاً في سير هؤلاء الأعلام، وتتبعاً لحياتهم وهم نشأٌ يتدرجون في مدارج الحياة وشببة يتلقون العلم ويجدون في التحصيل والطلب، وكهولٌ قد برزت مواهبهم، واستقامت مناهجهم، ثم شيوخ قد فاضت علومهم على من حولهم، وضربت إليهم أكباد الإبل، وشدت إليهم الرحال من أقاصي الدنيا، وزخرت مجالسهم بالطلاب، وعمرت حلقاتهم بالتلاميذ وافدين من كل صقع، واردين من كل فجاج، علمٌ وإيمانٌ وتقى.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(25/6)
قبسات وحكم من نصائح الإمام مالك
الحمد لله، شرح صدور الموفقين بألطاف بره وواسع نعمه، أحمده سبحانه وأشكره على عظيم فضله وجزيل كرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، النبي الأمي علمه ربه ما لم يكن يعلم وأفاض عليه من أسرار حكمه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أنوار العلم ومصابيح الهدى، بلغوا في العلم رسوخ قدمه، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون! هؤلاء هم علماؤنا وأئمتنا، كل له شرفه وفضله، ندرس سيرهم، وننظر في آثارهم، ونتلقى علومهم في غير تعصب ولا تحامل، فليس فضل الواحد منهم مشتقاً من نقص غيره، ولا في بخسه حقه حاشا وكلا، إنما فضله نابعٌ من فضل الله عليه، في مواهبه ودراساته، وصلاحه وإخلاصه، واجتهاده في طلب الحق والوصول إليه، ولكل إمام حظه الوافر في ذلك، وحرصه على طلب الحق وتحريه واحتساب النية في ذلك، استمع إلى هذه الحكمة من البصيرة النيرة من مالك رحمه الله حين يقول: وأدركت ناساً بـ المدينة لم تكن لهم عيوب، فتكلموا في عيوب الناس؛ فأحدث الله لهم عيوباً، وأدركت أناساً كانت لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس، فسكت الناس عن عيوبهم.
وعن يحيى بن يحيى الليثي قال: آخر ما اجتمعت بـ مالك، قال: أذكر لك شيئاً تبلغ به حكمة الحكماء: إذا حضرت في مجلس فاستعمل الصمت، فإن أصابوا استفدت، وإن أخطئوا سلمت، وشيئاً تبلغ به علم العلماء: إذا سئلت عما لا تعلم فقل لا أعلم.
ولهذا كان من أعظم ما أثر عن مالك رحمه الله أنه كان يحذر من المراء في العلم وكثرة الجدال فيه إلا لضرورة ماسة، ويقول: المراء في الدين يذهب بنور العلم، ويقسي القلب، ويورث الضغائن.
تلكم هي قبساتٌ وإلماحات، فاتقوا الله رحمكم الله، وحصلوا من العلم ما استطعتم، واعملوا صالحاً، واعبدوا الله على بصيرة: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9].
ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة نبيكم محمداً رسول الله فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز وجل من قائلٍ عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، والخلق الأكمل، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، والأئمة المهديين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الدين، اللهم وانصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعبادك المؤمنين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق والتوفيق والتأييد والتسديد إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وأعز به دينك، وأعل به كلمتك، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كشمير وفي الشيشان، وفي كل مكان يا رب العالمين!
اللهم انصرهم، وأيدهم وسدد سهامهم وآراءهم، اللهم ووحد صفوفهم، وأنزل عليهم نصرك، اللهم واجعل الدائرة على أعدائهم وفرق جمعهم، وشتت شملهم، واجعلهم عبرة للمعتبرين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، اللهم ارفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين!
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(25/7)
حق الطريق وآداب المرور
الأمن قاعدة هامة تقوم عليها سعادة الحياة ورغد العيش واستقرار المجتمع.
والحفاظ على الأمن من أول الواجبات في السير والمرور، ومن مظاهر اختلال الأمن حوادث المرور، ولا يخفى مالها من آثار سيئة على الأفراد والمجتمعات.
وإماطة الأذى عن الطريق شعبة من الإيمان، وقد غفر الله لرجل بإماطته أذى عن الطريق، وقد أولى الإسلام الطريق رعاية عظيمة، ومما يدل على ذلك الآداب الكثيرة المتفرقة في ثنايا هذه الخطبة.(26/1)
ضرورة الأمن والحفاظ على الأرواح
الحمد لله تفرد بكل كمال، تفضل على عباده بجزيل النوال، بيده الخير؛ ومنه الخير فله الحمد على كل حالٍ، وفي كل حال، في الحال وفي المآل، أحمده سبحانه على ما منح من النعماء، وأشكره على واسع العطاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تقدس في الذات والصفات والأسماء، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله سيد المرسلين، وخاتم الأنبياء، وإمام الحنفاء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأوفياء، وأصحابه النجباء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسماء.
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، استيقظوا بقوارع العبر، وتفكروا في حوادث الغير، ففي تقلبات الدهر معتبر، وفي طوارق الجديدين مزدجر، وتدبروا مواعظ السنة والكتاب فإنهن صوادق الخبر، فتزودوا بزاد التقوى، وخذوا أهبة التحول وانتبهوا من الغفلة فرحم الله امرأً أحيا سنة مأثورة، وقدم لنفسه أعمالاً صالحةً مبرورة، وراقب مولاه فمولاه على كل شيءٍ شهيد، وحاسب نفسه حذراً من العذاب الشديد.
أيها المسلمون: الحياة السعيدة والعيش الرغيد قوامها ظلال الأمن الوارفة بعد الإيمان بالله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] بالأمن على الأنفس، والأمن في الأوطان تتفتح دروب الإنتاج، وتتفتق مهارات الإبداع، ويتحقق بإذن الله النماء.
الأمن هو الركيزة التي يقوم عليها استقرار المجتمعات ورخاء الشعوب: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3 - 4].
وفي نظرة فاحصة يدرك المتأمل أن الأمم تتعرض في حياتها لمتاعب ومشقات بعضها هينٌ يسير وبعضها ثقيلٌ عسير، ولكن الكيان يتزلزل، والرشاد يتخلخل، حين تسترخص الدماء، وتزهق الأرواح.(26/2)
السلامة بين المبدأ والتطبيق
أيها الإخوة المسلمون: الحفاظ على المهج من أغلى المطالب إن لم يكن أغلاها، والإنسان أكرم المخلوقات على الله، خلقه وكرمه وفضله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] والنفس الإنسانية ليست ملكاً لصاحبها وليست ملكاً لأحدٍ من الناس وإنما هي ملكٌ لله وحده، ومن أجل ذلك حرم سبحانه الاعتداء عليها حتى من قبل صاحبها: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ * وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:28 - 29]، {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة:32] {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93] ومع وضوح ذلك وجلائه في أصول الديانة، وثباته ورسوخه في فقه الشريعة، إلا أنه مع الأسف، وفي خضم الغفلة والإهمال وقلة المبالاة من المرء نفسه وممن حوله من أهله ومن له سلطانٌ عليه، ترى من يجازف ثم يمارس أفعالاً وسلوكيات تلقي بالنفس إلى التهلكة، وتوقع الغير في الهلكة، ترى أرواحاً تزهق، ونساءً تترمل، وأسراً تفنى، وأطفالاً تيتم، وأمراضاً مزمنة، وإعاقاتٍ مستديمة، ترى منشآتٍ تهدم، ومنجزاتٍ تتلف، وآلاف الملايين من الدراهم والدنانير تهدر، فواجع تصل إلى حد الهلع، وخسائر تصل إلى حد الإفلاس، أطفال في مقتبل الحياة، وشباب في نضرة العمر، ما حال البيت وقد فقد عائله؟
وما حال المرأة وقد فقدت من يرعاها وأطفالها؟
وما حال الوالدين وقد زهقت روح شابهم اليافع وصبيهم الأمل؟
ما حال الأسرة وقد حل بها معاقٌ علاجه مكلف، والكد عليه مرهق؟ أصبح مقعداً عاجزاً عالة على أهله ومجتمعه ودولته، حسرة في القلوب، وعبء في الكاهل بسبب ماذا كل هذا؟ ومن أجل ماذا كل هذه المعاناة؟ بسبب فعلٍ متهور، وتصرفٍ طائش، وعملٍ غير مسئول، ماذا يبقى إذا هانت الأرواح، واسترخصت الدماء؟ وإلى أي هاوية هؤلاء ينحدرون؟ لقد فاضت نفوسٌ زكية، ودماء بريئة، فمتى تفيض دوافع العقلانية؟ ومتى تستيقظ مشاعر الإحساس بالمسئولية؟ ومتى يهتدي الضالون؟ ومتى يستفيق الغافلون؟ كل هذه المصائب وجل هذه المآسي راجعة إلى الإخلال بحق الطريق، والتفريط في آداب المسير، والإهمال في قواعد المرور.(26/3)
حقيقة الطريق ورعاية الدين لآدابها
يخيل لفئة من الناس عن رعونة وجهلٍ واستهتار وإهمال أن الطريق هو المكان الذي يتحرر فيه من الضوابط وقواعد التعامل، يتحلل من الآداب والمسئوليات ليعطي نفسه حق التصرف كما يريد والفعل كما يشاء، متجاوزاً الخلق الحسن ومبتعداً عن الذوق الرفيع، الطرق هي مسالك الناس إلى شئونهم، ومعابرهم إلى قضاء حوائجهم، وهي دروبهم في تحركاتهم وتحصيل منافعهم، هي سبيلهم إلى أسواق التجارة وكسب المعاش، وهي منافذهم إلى المعاهد والمدارس ودور العلم والمساجد والمتنزهات، في الأسفار والرحلات، وكل أنواع الحركة والتنقلات.
أيها الإخوة المسلمون: إن رعاية الطريق وأداء حقه والالتزام بآدابه من أوضح ما اعتنى به ديننا الحنيف، في مظهرٍ حضاري، وسلوكٍ متحضر، وأدب عالٍ وخلقٍ سامٍ، جاء ليرقى بالمسلمين ويهذب مسالكهم ويحملهم إلى مستوى من الحضارة من قبل أربعة عشر قرناً.
استمعوا حفظكم الله إلى هذا القبس من مشكاة النبوة، ترغب به القلوب، وتشنف به الأسماع، يقول عليه الصلاة والسلام: {عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها، الأذى يماط عن الطريق، ووجدت من مساوئها النخاعة في المسجد لا تدفن}.
ويقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: {خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله، وعزل حجراً عن طريق الناس، أو شوكة أو عظماً عن طريق الناس، أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر، عدد الستين والثلاثمائة، فإنه يمسي يومئذ وقد زحزح عن النار} أخرجه مسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: {الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان} متفق عليه.
وفي خبرٍ عند مسلم رحمه الله من قوله عليه الصلاة والسلام: {لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين}.
وفي رواية في الصحيحين: {بينما رجلٌ يمشي في طريق، وجد غصن شوك على الطريق، فأخره فشكر الله له فغفر له}.
آداب ديننا في هذا عالية، والأخلاق في الإسلام فاضلة، جاءت لتهذب مسالك المسلمين وتحملهم إلى مستوى من المسئولية والشعور نحو الآخرين ورعاية حقوقهم ومصالحهم، وإنك لتعجب أن تكون مثل هذه الآداب والتوجيهات في منهج أهل الإسلام ثم لا ترى التزاماً، بل ترى في كثيرٍ من المواقع إهمالاً وتقصيراً، فمدن المسلمين وقراهم وطرقهم ومسالكهم مع الأسف تزخر بالمعوقات، وتمتلئ بالمؤذيات والمزعجات؛ من مركباتٍ عاطلة، وأتربة متراكمة، وبقايا ومخلفات، مع حفرٍ مهملة، وأحجار ملقاة، لا يكلف المسلم نفسه أن يضع الشيء في موضعه، ويبعد الأذى عن طريق إخوانه، قياماً بالمسئولية وابتغاء الثواب العظيم من الرب الكريم، وتأملوا قول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رحمه الله: [[لو عثرت دابة بشاطئ الفرات لظننت أني مسئول عنها لم لم أعبد لها الطريق] هذا في تعبيد الطريق للدواب فما بالك بحقوق المسلمين!
إن حقوق الطريق وآداب المسير في ديننا كثيرة ودقيقة من غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر الله كثيراً، وإرشاد الضال، وهداية الأعمى، وإسماع الأصم، وإغاثة المظلوم، ومساعدة العاجز في حمل متاعه، والمشي على الأرض هوناً، والقصد في السير، وخفض الصوت، والكلمة الطيبة، والماشي يسلم على القاعد والراكب على الراجل والصغير على الكبير: {واتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل، وإذا أتيتم الصلاة فأتوها وعليكم السكينة} وكثرة الالتفات في الطريق يخل بالمروءة، واجتنبوا السخرية بالمارة، والاستهزاء بالعابرين، لا بعبارة ولا بإشارة، واسعَ رحمك الله بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، واحمل بقوة ساعديك مع العاجز الضعيف، وعليك بمراعاة أدب السير مع الأصحاب، فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه خرج من المسجد بعد الصلاة فسار الناس خلفه، فالتفت إليهم وقال: [[لا تفعلوا، إن السير خلفي ذلة للتابع، وفتنة للمتبوع]].(26/4)
آداب وحقوق أخرى للطريق
أيها المسلمون: والأمر في الإسلام لا يقتصر على إماطة الأذى وإزالة العوائق في أعمال فردية، ولكنها ترقى إلى المطالبة بإصلاح وتحسين المرافق، وهو مطلوبٌ من كل قادرٍ عليه وحسب مسئوليته، قياماً بالمسئولية وابتغاء للمثوبة، من المسئولين من ولاة أمور المسلمين ومن دونهم من الأثرياء والموسرين والقادرين، فالدعوة في الإسلام عالية في إنشاء المرافق وبنائها ورعايتها وصيانتها وتحصينها، وهذه سمة من سمات الدين بارزة، وغاية في الأوقاف وسياساتها، أكثر ما تتجلى في إنشاء المرافق وصيانتها: {إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به بعده، أو ولد صالح يدعو له}.
ولقد قرر أهل العلم رحمهم الله أن من الصدقة الجارية: حفر الآبار، وشق الأنهار، وغرس الأشجار، وتوسيع الطرق، وبناء الجسور والقناطر، وإنشاء المظلات، وإقامة دور العلاج والاستشفاء، وكل ما تدعو إليه الحاجة وظروف الحياة ومتغيراتها ومستجداتها مما يوافق الشرع وينفع الناس.
معاشر الأحبة: ومن إعطاء الطريق حقه ومراعاة آدابه: بذل المزيد من التنبه والحذر وتوقع المفاجآت، وصيانة الطرق والمركبات، والسير في الجانب المخصص من أرصفة المارة، وجسور المشاة، والانتباه من السيارات المسرعة، والاهتمام بوسائل السلامة في الحل والترحال، والسفر والإقامة في النفس والمركبة والراكبين، وتفقد المركبة بأجهزتها وآلاتها وأجزائها وزيادة أحمالها وأوزانها، وحفظ البهائم من التسيب.
ومن إعطاء الطريق حقه: تجنب قيادة المركبات في حالات التعب والإعياء والظروف النفسية العصيبة، ولزوم السيطرة على النفس أمام نزواتها الجامحة وغفلتها السادرة.(26/5)
المسئول الحقيقي عن الأرواح والممتلكات
معاشر المسلمين: إن الحفاظ على الأرواح وأمن الجماعة وصيانة الممتلكات مسئولية مشتركة، أساسها الدين وصحة المعتقد، ويقظة الضمير، ثم الوعي الصادق بالمسئولية والتعاون على مستوى الفرد والجماعة، كل مطالب بالقيام بمسئوليته؛ رجل الأمن، ورجل التربية، ورجل الأعمال، ورجل الإعلام، ورب الأسرة، وربة البيت؛ رجل الأمن ينفذ بوعيٍ وفقه وعدالة، ورب الأسرة يرعى بحزم ويراقب بصرامة، ورجل التربية يعلم بإخلاص ويربي بتفانٍ، ورجل الأعمال يدعم ويساند ويبذل، ورجل الإعلام يكتب ويثقف وينشر بمصداقية وتوازن، الأمن غاية الجميع، والسلامة هدف الجميع، ولن يتم ذلك على وجهه إلا بالتعاون بين كل فئات المجتمع وطبقاته في رفع مستوى الوعي وتنمية الحس الأمني، وحفز الهمم من أجل بناء جسورٍ من التعاون والثقة بين فئات المجتمع.
لم يكن الخلل ولم تحدث المآسي المفجعة إلا بسب الإهمال والإتكالية وعدم المبالاة، فهذا قد قصر في تبليغ الجهات المسئولة، ومسئول قد قصر في التفاعل مع التبليغ، ومبلغٌ يخشى من تبعات التبليغ، والروتين يصدق ذلك أو يكذبه، وما أدى إلى هذه النتائج الوخيمة إلا التقاعس في أخذ الحيطة، والتهاون في لزوم طريق الحذر، وعدم الأخذ بالحزم في الأمر والعزم على الرشد.
ومما لا يمكن إغفاله في هذا الصدد رعاية الأنظمة وتطبيقها بصرامةٍ وعدالة، عقوباتٍ وزواجر جزاءً لمن يخالف وردعاً لمن يريد أن يجازف، حزمٌ شديد يقارنه وعيٌ شديد تتولد من خلالهما رقابة ذاتية، وبمجازاة أفراد ترتدع أمم.
لا بد من الحزم في تنفيذ الجزاءات الرادعة، ولا سيما في حق المتهورين وغير المبالين وأصحاب السوابق.
لا بد من الاطمئنان على حسن القيادة وفقه الأنظمة وإدراك التعليمات وحسن تطبيقها ودقة الالتزام بها.
{وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:18 - 19].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العزيز وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(26/6)
الآثار السيئة لحوادث الطريق
الحمد لله ولي الحمد، أحمده سبحانه وأثني عليه بما ينبغي لجلاله من الثناء والتمجيد، وأشكره على سوابغ نعمه وقد وعد الشاكرين بالمزيد، فقال في كتابه المجيد: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو على كل شيء شهيد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله صاحب الملة الحنيفية ورافع لواء التوحيد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ذوي الرأي الرشيد والحكم السديد، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
معاشر المسلمين: حوادث الطرق حربٌ مدمرة بمعداتٍ ثقيلة، تنزف فيها الدماء، وتستنزف فيها الثروات، حرب معلنة ليس فيها إلا كاسب واحد هو الإهمال، وضعف التربية، ونقص الوعي، والتخلي عن المسئولية، ولن يكون فيها الانتصار بإذن الله إلا إذا أعلن الجميع حالة النفير، ما تستقبله المستشفيات والمقابر، وما تحتضنه مراكز التأهيل وملاجئ الأيتام ودور الرعاية الاجتماعية كل ذلك أو جله ضحايا التهور وعدم المسئولية، قطع للأيدي، وبتر للأرجل، وكسر للعظام، موتى، ومشلولون، ومقعدون في صورٍ مأساوية تصحبها دموعٌ وآهات، وتقلبات وأنات، مركباتٍ متنوعة ووسائل نقل متعددة، يساء استخدامها ويقودها من لا يقدرها حق قدرها، فتحصد الأرواح وتهدر الممتلكات، نتاجها هلكى ومعاقون وعجزة، يهلكون أنفسهم ويرهقون اقتصادهم، ويبقون عالة على مجتمعهم ودولتهم.
لا بد من التربية والتوجيه من أجل بناء إرادة قوية ومسلكٍ صحيح، لوقف النزوات الطائشة في فعل حضاري ذي أبعادٍ إنسانية نبيلة، يمتزج فيه الرفق مع الصرامة، والعقاب مع التوجيه، والتربية مع المحاسبة، جدية من خلال احترام النظام والدقة في تطبيقه، والعدالة في تنفيذه، والقدوة في التزامه، يكون فيه الأب لأبنائه قدوة، والأخ الأكبر لإخوانه قدوة، والمعلم لتلاميذه قدوة، والمسئول لمن تحته قدوة، لا بد مع معالجات السلوكيات الخاطئة، والمفاهيم المغلوطة، وممارسات المراهقين والأحداث وتهورات الشباب.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، والتزموا آداب دينكم، فالسير الآمن مقصدٌ من مقاصد الشريعة ووصفٌ بارز من صفات عباد الرحمن: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] وأدب رفيع من آداب القرآن الكريم: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء:37].
ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمد، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، فقد أمركم بذلك ربكم في محكم تنزيله، فقال قولاً كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأزواجه وذريته، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك المؤمنين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الدين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق والتوفيق والتأييد والتسديد إمامنا وولي أمرنا ووفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وارزقه البطانة الصالحة، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين، للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمةً لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك، اللهم انصرهم في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كشمير وفي الشيشان، اللهم قوِّ عزائمهم، واجمع كلمتهم، وسدد سهامهم وآراءهم.
اللهم وأنزل عليهم نصراً من عندك، واجعل اللهم الدائرة على أعدائهم، وشتت شملهم، وفرق جمعهم، واهزمهم وزلزلهم وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وفك أسرانا، وأصلح لنا شأننا كله، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(26/7)
فضل الصحابة رضوان الله عليهم
الصحابة رضوان الله عليهم أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، ولا يعرف قدر لأمة إلا بمعرفة قدر عظمائها، وعظماء هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أصحابه، وقد ذكر الشيخ عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة، ودلل على ذلك من القرآن والسنة، وبيَّن أن الصحابة يتفاوتون في الفضل، ونحن أهل السنة لا ندعي العصمة لأحد من الصحابة، وقد حذر الله جل وعلا ورسوله من سبهم وأنه يوصل إلى الكفر وإلى الخروج من الملة.(27/1)
كل أمة تقدر بقدر عظمائها
الحمد لله أحصى كل شيءٍ عدداً، خلق الخلق ورفع بعضهم فوق بعضٍ درجات فكانوا طرائق قِدداً، أحمده سبحانه وأشكره، تكاثر إنعامه وإفضاله فلا نحصي له حداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا أشرك به أحداً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله أكرم به عبداً، وأعظم به سيداً، صلى الله وسلم وبارك عليه، زكى أصلاً وشرف محتداً، وعلى آله نجوم الاهتداء، وأصحابه أئمة الاقتداء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان صلاة وسلاماً دائمين أبداً.
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فالدنيا غرارة هلك فيها هالكون، فاجعل سفينة النجاة فيها -يا عبد الله- تقوى الله! وعدتك التوكل على الله، وزادك الإيمان والعمل الصالح، فإن نجوت فبرحمة الله، الدنيا قنطرة فاعبرها ولا تعمرها، واعلم أنك لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك، وليس لك من دنياك إلا ما أصلحت به آخرتك، وأعظم الحسرات غداً أن ترى مالك في ميزان غيرك، فيالها من عثرة لا تقال! وشر المصائب معاصي الله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص:60].
أيها المسلمون: إن الأسباب التي تحط من أقدار الرجال، وتنتقص وقار العظماء لم تزل تتكاثر، وهي في هذه العصور المتأخرة أكثر تكاثراً، مع أن حاجة الأمم إلى هؤلاء الرجال أمس وألزم، وهؤلاء العظماء كانوا في خدمة أممهم أقدر وأعظم، فكثر التطاول على كل عظمةٍ إنسانية، وفشت بدعة الاستخفاف والزراية باسم العلم والعقلانية، والتجرد في مناهج يزعم أصحابها الموضوعية العلمية والتفكير الحر، يخوضون في هذه القضايا بالباطل بل بالتشهي واتباع مسالك أهل الأهواء، دون الاسترشاد أو الاعتبار بأقوال أهل العلم والتحقيق والصدق والتجرد، حتى أوشك التوقير لمن يستحق التوقير أن يعاب، وتكاثرت أسباب الحط من أقدار ذوي المنازل، والأمة لا يثبت لها حق إن هي لم تعرف حق رجالها، بل الإنسانية ليست بشيء إذا كان عظماء الرجال ليسو بشيء.
أيها المسلمون: إن تاريخ الأديان والعقائد تاريخ قيمٍ ومبادئ وليس بتاريخ وقائع وأحداث، ذلك أن الوقائع والأحداث على اختلاف الأعصار متشابهة في ظاهرها وظواهرها، ولكنها تختلف في القيم النفيسة التي تكمن وراءها، هذا التاريخ مليء بالعظات البالغات، والمواقف الرائعات، والأحداث العظام، والمواقف الجسام، سير عطرة، وتاريخ زكي تستضاء به مشاعل الإيمان، وتوقد به مجامر القلوب، ما كان حديثاً يفترى، ولا أساطير تردد، ذلك التاريخ الذي روى وحفظ أنباء أعظم ثلة ظهرت في تواريخ العقائد والديانات، تاريخٌ وحقائق تدون ما كان لأصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم وأرضاهم أجمعين من حياة وبذل وفداء وإيمان وعبادة وزهد.
إن التاريخ لم يشهد رجالاً عقدوا عزمهم وانطوت نواياهم على غاياتٍ تناهت في العدالة والسمو ثم نذروا لها حياتهم على نسقٍ تناهى في الجسارة والشجاعة والتضحية والبذل كما شهد التاريخ في صحب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، أنجز هؤلاء الكرام ما أنجزوه في بضع سنين، أشادوا بكتاب الله وكلماته عالماً جديداً يهتز نبرة، ويتألق عظمة، ويتفوق اقتداراً، صبرٌ وشجاعة، وعلم ومثابرة، وبطولاتٌ تفيض رحمة بالناس وزهداً في الدنيا، وتبتلاً لله وخشوعاً بين يديه، استطاعوا في مثل سرعة الضوء -بإذن الله- أن يضيئوا الدنيا بحقيقة التوحيد ويطهروها من وثنية القرون، أي بذلٍ بذلوا؟ وأي حملٍ تحملوا؟! وأي فوزٍ أحرزوا؟
تحريرٌ -بإذن الله وقوته- من وثنية الضمير وضياع المصير، الظلام يتحول إلى نور، والفوضى تنقلب إلى نظام، والضعف يتبدل إلى قوة، والضياع يصير منعة، والمهانة تصبح عظمة، والجهل يضحى علماً ومعرفة، والعيلة تكون غنى، لقد ورثوا البشرية خير ميراثٍ وأعظم تراث.(27/2)
عقيدة أهل السنة في الصحابة
معاشر المسلمين: من العقائد المقررة، ومن أصول الدين المتقررة في مذهب أهل السنة والجماعة: حب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، والتدين لله بالإقرار بفضلهم من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان.
إن الصحابي هو: كل مسلمٍ لقي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورآه مؤمناً به ومات على ذلك، ومن يكتب له شرف الصحبة لا يتطلب له سوق التعديل، فكفى بشرف الصحبة تعديلاً.
يقول الإمام النووي رحمه الله: وفضيلة الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عملٌ ولا تنال درجتها بشيء، والفضائل لا تؤخذ بقياس، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
والإمام أحمد رحمه الله يقول: فأدناهم صحبةً هو أفضل من القرن الذين لم يروه -أي: النبي صلى الله عليه وسلم- ولو لقوا الله بجميع الأعمال.
أولئك هم صحب محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء أو استنقصهم في مقام فهو من المؤمنين على غير سبيل، هم خير الناس للناس، وأفضل تابع لأفضل متبوع، فتحوا القلوب والبلاد بالصدق والإيمان قبل الرمح والسنان، لم يعرف التاريخ البشري تاريخاً أعظم من تاريخهم، ولا رجالاً دون الأنبياء أفضل منهم ولا أصدق، تأمل سيرهم بعين إنصاف في كتاب الله وفي الصحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والثابت من آثارهم وأحوالهم، فترى أمراً عجباً من حال القوم وعظيم ما آتاهم الله من الإيمان والحكمة والشجاعة والقوة، حين بخل غيرهم بالنفس والمال، وحين قعد غيرهم عن مفارقة الأهل والولدان؛ استرخصوها في سبيل الله وإقامة دين الحق ونصرة محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، استرخصوها حتى تمكنت الأمم والشعوب من العيش في أمنٍ وعدل ورغدٍ ورحمة تحت حكم الإسلام، فارقوا الأوطان، وهجروا الخلان، وقتلوا في سبيل الله الأبناء والآباء والإخوان، بذلوا النفوس صابرين، وأنفقوا الأموال محتسبين، وناصبوا من ناوأهم متوكلين، فآثروا رضا الله على الغنى، والذل في سبيل الله على العز، والغربة على الوطن.
هم المهاجرون قال الله تعالى عنهم: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8].
وهم الأنصار أهل المواساة والإيثار الذين تبوءوا الدار والإيمان: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].
وهم التابعون لهؤلاء السابقين: {بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [التوبة:100].
الله عزّ شأنه وتقدست أسماؤه عدلهم وأثنى عليهم في آيات من كتابه يطول سردها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أثنى عليهم في أحاديث يعسر حصرها مما يكون القطع بتعديلهم، ولا يحتاج أحدٌ منهم مع تعديل الله إلى تعديل أحدٍ من الخلق: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} [الفتح:18]، فحاشاك -رحمك الله- أن تتوقف في شأن أحدٍ منهم، أو تشك في واحدٍ منهم، فلقد رضي الله عنهم، وعلم ما في قلوبهم، وعفا عنهم، وأنزل السكينة عليهم.(27/3)
أحاديث تؤكد عقيدة أهل السنة في الصحابة
أخرج الترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن المغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الله الله في أصحابي! لا تتخذوهم غرضاً، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه}.
هم خير القرون وخير الناس وخير الأمم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] وفي الحديث الصحيح: {خير القرون قرني وخير الناس قرني}.
هم أمنةٌ للأمة فإذا ذهب قرنهم وانقرض جيلهم حلت بمن بعدهم الفتن، وظهرت البدع، وبرز الجور والفساد.
جاء في صحيح مسلم رحمه الله عن أبي بردة عن أبيه قال: {صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء؟ قال: فجلسنا فخرج علينا، فقال: مازلتم ههنا؟ قلنا: يا رسول الله! صلينا معك المغرب، ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء، قال: أحسنتم أو أصبتم، قال: فرفع رأسه إلى السماء، وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء، فقال: النجوم أمنةٌ للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنةٌ لأصحابي فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون}.
ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [[إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب الصحابة خير قلوب العباد، فجعلهم الله وزراء نبيه يقاتلون على دينه]].
فهم أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قومٌ اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم، شهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا التفسير والتأويل، اختارهم الله لنبيه أصحاباً، وجعلهم لنا قدوةً وأعلاماً، فحفظوا عن نبيهم ما بلغهم عن ربهم، وما سن وما شرع، وحكم وقضى وندب، وأمر ونهى وأدب، وعوه وأتقنوه، ففقهوا في دين الله وعلموا أمر الله ونهيه ومراده بمعاينة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتلقيهم عنه، وفهمهم المباشر منه، فشرفهم عزَّ وجلَّ بما منَّ عليهم وأكرمهم، إذ جعلهم موضع القدوة فنفى عنهم الشك والكذب، والغلط والريبة، وسماهم عدول الأمة وأوساطها بمقتضى قوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]، فهم عدول الأمة وأئمة الهدى، وحجج الدين، ونقلة الكتاب والسنة، وحملة الشريعة، وقد ندب إلى التمسك بهديهم والسير على منهجهم وسلوك سبيلهم فقال سبحانه: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115].
أيها المسلم -حفظك الله- اليهود يفاخرون بأصحاب موسى عليه السلام، ولا يرضون انتقاصهم أو الحط من قدرهم، والنصارى يفاخرون بأصحاب عيسى عليه السلام حواريه، ولا يقبلون الغض من شأنهم وانتقاص منازلهم، وأنت يا تابع محمدٍ صلى الله عليه وسلم أولى بالغيرة على أصحاب نبيك ومعرفة فضلهم وحفظ مكانتهم! بل إن ربنا جعلهم مثلاً لأهل الكتابين -التوراة والإنجيل- فهم خير الأمم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [آل عمران:110] أمر نبيه بمشاورتهم لما علمه من صدقهم، وصحة إيمانهم، وخالص مودتهم، ووفور عقولهم، ونبالة رأيهم، وكمال نصحهم: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
إن كل خيرٍ فيه المسلمون إلى يوم القيامة من الإيمان والإسلام والقرآن والعلم ودخول الجنة والنجاة من النار وانتصار الدين وعلو كلمة الله فإنما هو ببركة ما فعله الصحابة الأكرمون، الذين بلغوا الدين وأحسنوا في الاتباع، وكل مؤمنٍ آمن بالله ولرسوله فللصحابة رضي الله عنهم فضلٌ عليه إلى يوم القيامة، فالقرآن حق، والنبي حق، والسنة حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(27/4)
الصحابة متفاوتون في الفضل
أيها المسلمون: ومع هذا المقام الرفيع الذي قد بلغوه، والقدر العالي الذي حازوه، فإنهم متفاوتون في الفضل، متمايزون في الدرجات، بعضهم أرفع من بعض، ومنازل فئة منهم فوق منازل آخرين من الخلفاء الأربعة الراشدين، وبقية العشرة المبشرين، والسابقين الأولين، وأصحاب بدر، وأهل بيعة الرضوان: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] هذا جانب.(27/5)
لا ندعي عصمة الصحابة
وجانب آخر: فإنهم مع هذا المقام الرفيع الذي بلغه جميعهم، والقدر العالي الذي حازوه كلهم، فإنهم غير معصومين، فالخطأ عليهم جائز، والغلط منهم واقع، غير أن هذا بابٌ له ضوابط ومدخل له مزالق، فهم تجوز عليهم الذنوب في الجملة الصغائر منها والكبائر، ولكن لهم من السبق في الإسلام، والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونشر العلم، وتبليغ الدين، وطمس معالم الشرك وإذلال أهله، والذب عن حرمات الدين بنفوسٍ زكية وأرواحٍ طاهرة ما يكفر الله به عن سيئاتهم، ويرفع درجاتهم، فلقد رضي الله عنهم ورضوا عنه وعفا عنهم.
يقول الذهبي رحمه الله: فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفرة لما وقع منهم، وجهاد محاء، وعبادة ممحصة، ولسنا ممن يغلو في أحدٍ منهم ولا يدعي فيهم العصمة، وما شجر بينهم نسكت عنه، وهم فيه مجتهدون إما مصيبون فلهم أجران وإما مخطئون فلهم أجرٌ واحد، والخطأ -بإذن الله وفضله- مغفور، والثناء عليهم من الله سابق، وما صدر عنهم من الخطأ والاجتهاد لاحق، محتمل التأويل، والمشكوك الموهوم لا يبطل المحقق المعلوم.
ويقول ابن معين رحمه الله: والإمساك عن ذكر الصحابة وذكر زللهم، ونشر محاسنهم ومناقبهم، وصرف أمورهم إلى أجمل الوجوه من أمارات المؤمنين المتبعين لهم بإحسان الذي مدحهم الله عزَّ وجلَّ بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
وبعد: فهؤلاء هم صحب محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ فاحفظوا لهم حقهم وتقربوا إلى الله بحبهم، ورطبوا ألسنتكم بذكر محاسنهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح:29].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأقول هذا القول وأستغفر الله لكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(27/6)
تحريم سب الصحابة
الحمد لله القديم في سلطانه، العظيم في إحسانه، أحمده سبحانه وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوان الله وجنانه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن من سمات أهل الحق والإنصاف، وعلامات أهل الأثر والاتباع، ومقاصد الراغبين في السنة، سلامة قلوبهم، وحفظ ألسنتهم للصحابة الأخيار، وحملة الشريعة الأبرار، والذب عن حرماتهم وأعراضهم من لمز الجراحين، وغمز العابثين، وألسنة الحاقدين، واعتقاد فضيلتهم، وصدق خبرهم، وعدالة مسلكهم، والترضي عنهم والترحم عليهم.
فاحذر -رحمك الله- أن تكون ممن يغمس لسانه في البهت؛ فيسلب العدالة من الصحب الأطهار، ويلغ في الحرمات، وإياك أن تكون ممن جد وشد وتكلف في جمع المساوئ والعثرات، وجرأ السفهاء والغوغاء على الوقيعة بهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق عليه: {لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه}.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: [[لا تسبوا أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وصبحه وسلم، فلمقام أحدهم ساعة خيرٌ من عمل أحدكم عمره]] وسمع ابن عباس رضي الله عنهما رجلاً يثلب من الصحابة، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: [[أمن المهاجرين الأولين أنت؟ قال: لا.
قال: أمن الأنصار أنت؟ قال: لا.
قال: فأنا أشهد بأنك لست من التابعين لهم بإحسان]]، وقال بعض السلف: لم يشغلك ذنبك، أما لو شغلك ذنبك لخفت ربك، لقد كان في ذنبك شغلٌ عن المسيئين، فكيف لم يشغلك عن المحسنين؟ أما لو كنت من المحسنين لما تناولت المسيئين، ولرجوت لهم أرحم الراحمين، ولكنك من المسيئين فمن ثم عِبت الشهداء والصالحين.
فاحفظ -حفظك الله- ثناء الله عليهم وعفوه عنهم ورضاه عليهم، ولا يكن في قلبك غلٌ على أحدٍ منهم، واستوص بهم خيراً، ففي سبيل ذلك تهون الأرواح، ولا تكن ممن يحترف الطعن وسوء الظن؛ فتتعب نفسك وتؤذي غيرك وتركض وراء السراب بشبهة أحاديث ضعيفة أو مكذوبة وقد تكون أخباراً لها محامل حميدة فتقلبها هفواتٍ ومثالب، وأعيذك بالله أن تقول: إن نبيك محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يصحبه أصحاب السوء، وقد علمت أن من انطوت سريرته على محبتهم وسلم صدره من الغل عليهم فقد فاز بالمدح المدلول عليه بقول الحق سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
ولينظمك الله في سلك من يكشف زوبعات المتعالين، وتبرئة الصحابة المتقين، ومناصرتهم من أقلام الحاقدين، وجهلة الأدباء والمؤرخين، وأهل الأهواء والمبتدعين، فمن خاض في هذه الميادين بجهلٍ أو هوى فَسَوَّد وحرَّف وقلب الحقائق، فأوغل الصدور بسوء الظن، وفرض احتمالاتٍ وخبط في تكهنات ليس لها أصل في الشرع، ولا مكانة في منصف العقل.
ألا فاتقوا الله جميعاً -رحمكم الله- واحفظوا إيمانكم وصونوا ألسنتكم، وأحبوا سلفكم، ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة نبيكم محمد رسول الله فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز قائلاً عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن بقية العشرة المبشرين، وعن أهل بدر والشجرة وعن جميع الصحب رضي الله عنهم أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وإحسانك وجودك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الدين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا ووفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته إلى البر والتقوى، وأصلح له بطانته، وأيده بالحق، وأيد الحق به، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعزاز دينك وإعلاء كلمتك، اللهم انصرهم في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وكشمير والشيشان وكل مكان يا رب العالمين!
اللهم سدد سهامهم وآراءهم، واكتب لهم النصر المؤزر.
اللهم واجعل الدائرة على أعدائهم.
اللهم فرِّق شمل أعدائهم، وشتت جمعهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ؛ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(27/7)
من أسس العمل الصالح
لقد امتن الله علينا بدين الإسلام، ويسره لنا وضاعف أجر العاملين، ولكن للعمل أسس وضوابط لا بد من اتصافه بها حتى يقبل عند الله، ويؤتي ثماره، وفي هذه المادة يذكر الشيخ ضوابط العمل الصالح وأسسه، وهي تهم كل مسلم.(28/1)
الأعمال الصالحة ومنزلتها
الحمد لله الحليم الغفار، النافذ قضاؤه بما يجري من الأقدار، يدني ويبعد ويشقي ويسعد وربك يخلق ما يشاء ويختار، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل إنعامه، وعطائه المدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يكور النهار على الليل ويكور الليل على النهار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله البشير النذير والمصطفى المختار، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأبرار، وأصحابه الأخيار من المهاجرين والأنصار، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، وارغبوا فيما عنده، ولا تغرنكم الحياة الدنيا فطالبها مكدود، والمتعلق بها متعبٌ مجهود، والزاهد فيها محمود، واستعيذوا بالله من هوىً مطاع، وعمرٍ مباع، ورحم الله عبداً أُعطي قوةً وعمل بها في طاعة الله، أو قَصُر به ضعفٌ فكف عن محارم الله.
أيها المسلمون! للمسلم في كل ساعةٍ من عمره وظيفة لربه عليه أن يقوم بها حسب الاستطاعة، وعلى قدر الطاقة: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] إنها وظائف ومطلوبات تستغرق الحياة كلها: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163].
ناهيكم أيها المسلمون! بما امتنَّ الله به على عباده من مواسم الفضل ونفحات الدهر في شهر رمضان كله، ثم في عشره الأخيرة، وفي عشر ذي الحجة، وفي يوم عرفة، ثم في الحج ومناسكه، في كل هذه المواسم والنفحات مزيد الفضل ومضاعفات الأجر، إن هذه الوظائف والمرغوبات تستدعي من المسلم الحصيف أن يتلمس الأعمال الصالحات ويتحراها في حقيقتها وأثرها وسعتها وثمارها.
أيها المسلمون حجاج بيت الله! الأعمال الصالحات منزلتها في الدين عظيمة ومرتبتها في الإسلام عالية، فهي قرين الإيمان في كتاب الله وأثره وثمرته وجزاؤه: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} [طه:112] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} [الكهف:107] {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] وكتاب الله العزيز وسنة محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قد قضى في بيان حقيقة ذلك ومتطلباته، وأثره وثماره، وسعة دائرته، وعلامة صحته، وأسباب قبوله.
أيها الإخوة! إن الإيمان بالله ومعرفته وتوحيده، ومعرفة الحق وإخلاص العمل، ولزوم السنة، وأكل الحلال، والمداومة والقصد والتوسط، وإتباع السيئة الحسنة، والتوبة والاستغفار، والبكاء على الخطيئة؛ كل أولئك علائم ومنارات، وضوابط ومتطلبات لتحقيق العمل الصالح، فمن عرف الله ولم يعرف الحق لم ينتفع، ومن عرف الحق ولم يعرف الله لم ينتفع، ومن عرف الله وعرف الحق ولم يخلص العمل لم ينتفع، ومن عرف الله وعرف الحق وأخلص العمل ولم يكن على السنة لم ينتفع، وإن تم له ذلك ولم يأكل الحلال ويجتنب الحرام وأكب على الذنوب لم ينتفع.(28/2)
شروط العمل الصالح
عباد الله! لا يرجو القبول إلا مؤمنٌ بربه وبآياته، عابد مخلص، وجه مشفق يستصغر عباداته، ويستغل طاعاته، مدركٌ لجلال الله وعظمته، وعلمه وإحاطته، رقيبٌ له في شعائره ومشاعره.(28/3)
خلوه من الشرك
أيها المسلمون حجاج بيت الله! العمل الصالح لا بد أن يكون سليماً من الشرك كبيره وصغيره، دقيقه وجليله، خفيه وجليه {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] وفي الحديث الصحيح يقول الله عز وجل: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه}(28/4)
المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم
ولا بد في العمل الصالح: أن يكون سليماً من البدع ومحدثات الأمور، يقول عليه الصلاة والسلام: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} وفي رواية: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} ويقول: {وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة} فلا بد من لزوم متابعة المصطفى محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فلا يعبد الله إلا بما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي التنزيل العزيز: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] بالمتابعة يتحصن المسلم من البدع كلها، فخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها.(28/5)
الإخلاص فيه لله تعالى
والعمل الصالح أيها الإخوة المسلمون! لا بد فيه من الإخلاص، فإن من أشد المفسدات ومانعات القبول ومبعدات التوفيق عدم الإخلاص، والإشراك في النية والمقاصد، وفي الحديث: {إياكم وشرك السرائر، يقوم رجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر رجل إليه فذلك شرك الصغائر} رواه ابن خزيمة في صحيحه.
وإذا كان الرياء هو العمل لأجل الناس، فإن هناك نوعاً خطيراً ذلك هو العمل لأجل النفس وحظوظها، لا لأجل الله وابتغاء مرضاته والأمل فيما عنده، إن من عدم التوفيق أن يعمل العبد ليرضي نفسه ويبتغي حظوظ دنياه، يصوم ويتصدق ويتزهد ويتورع لما يرجو من الدنيا وغايتها.
الإخلاص حفظك الله: أن يستوي حال الظاهر والباطن، فإن المخلص يعمل عمله لله سواء رآه الناس أو لم يروه، وسواء كان له حظ من حظوظ الدنيا أو لم يكن، فليس له توجه إلا لله، وليس له طمعٌ إلا في جنة الله، وليس له غاية إلا في رضوان الله، وليس له هربٌ إلا من سخط الله، وليس له حذر إلا من عذاب الله، المخلص لن يزيد عمله لأجل حظوظ عاجلة ولا ينقص بنقصها، إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة، إذا حضر لم يعرف وإذا غاب لم يثقل.
أيها المسلمون حجاج بيت الله! إن موضوع النيات ومعالجاتها موضوعٌ خطيرٌ ودقيق، هو أساس القبول والرد، وهو سبيل الفوز والخسران، يقول سفيان الثوري رحمه الله: ما عالجت شيئاً أشد من نيتي فإنها تنقلب عليَّ.
وعن يوسف بن أسباط: تخليص النية وفسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.
وما أتي كثيرٌ من الناس إلا من ضياع نياتهم وضعف إخلاصهم.
الله الله في أنفسكم عباد الله، إن المطلوب في الأعمال الصالحة رعاية القلوب وإخلاصها؛ فبالإخلاص -بإذن الله- يورث القوة في الحق والصبر والمصابرة والمداومة، وبالإخلاص يتضاعف أجر العمل ويعظم وثوابه، بل الإخلاص يجعل المباحات طاعات وعبادات وقربات، ومن ثم تكون حياة العبد كلها لله {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163].(28/6)
طيب المأكل والملبس
أيها الإخوة! ويقترن بالإخلاص تحري الطيبات، فالله طيب لا يقبل إلا طيباً، والطيب ما طيبه الشرع لا ما طيبه الذوق، والطيب توصف به الأعمال والأقوال والاعتقادات {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:100].
ومن صفات نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم أنه يحل الطيبات ويحرم الخبائث، والمؤمن طيب كله؛ قلبه ولسانه وجسده، فقلبه طيب لما وقر فيه من الإيمان، ولسانه طيب لما يقوم به من الذكر، وجسده طيب لما تقوم به الجوارح من كل عملٍ صالح.
ومن أعظم ما يحصل به طيب العمل: طيب المطعم وحل المأكل، فالعمل الصالح لا يزكو إلا بأكل الحلال، وقد أمر الله به المؤمنين كما أمر به المرسلين، فقال آمراً رسله عليهم السلام: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون:51] وقال آمراً عباده المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].
يقول بعض السلف: لو قمت قيام السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل في بطنك، {وكل لحمٍ نبت من سحت فالنار أولى به}.(28/7)
الاعتدال والمداومة على العمل
ولا تنس -رعاك الله- وأنت تتحرى الأعمال الصالحة المداومة عليها، ففي الخبر الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: {سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل} وقد كان عمله عليه الصلاة والسلام ديمة.
يقول الإمام النووي رحمه الله: بدوام القليل تستمر بالذكر والمراقبة والإخلاص والإقبال على الله، فينمو القليل الدائم حتى يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة.
ويقول ابن الجوزي رحمه الله: مداوم الخير ملازم لخدمة مولاه، وليس من لازم الباب في وقتٍ ما كمن لا زم يوماً كاملاً ثم انقطع.
ويقترن بالمداومة تحري القصد، والاعتدال، والتوسط، ومراعاة الحقوق والواجبات، والموازنة بين المسئوليات {فإن لنفسك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍ حقه} فلا ينبغي للعبد أن يجتهد في جانب ليفرط في جوانب {فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا} {وإن الله لا يمل حتى تملوا} {واكلفوا من العمل ما تطيقون}.
أيها الإخوة! هذا هو العمل الصالح، وهذه هي مقتضياته ومتطلباته، ومع هذا فإن العبد محل التقصير، ومحط الخطايا، {وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون} الموقفون للعمل الصالح ذوو قلوبٍ مخلصة، وتوحيدٍ خالص، وهممٍ جادة، موفون بتكاليف الشرع، بعيدون عن الغفلة والأثرة، يسلكون مسالك الإيثار: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء:57].
{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُون َ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:57 - 61].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(28/8)
المبادرة بالأعمال الصالحة قبل الفوات
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مستيقنٍ بها في جنانه ومقرٍ بها بلسانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله المبلغ للوحيين سنته وقرآنه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون! الغفلة رأس الخطايا، يقول الحسن رحمه الله: [[الحسنة نور في القلب وقوة في البدن، والسيئة ظلمة في القلب ووهن في البدن، وظلم المعصية يطفئ نور الطاعة]] فاجتهدوا رحمكم الله في المبادرة للخيرات، والمسارعة في الطاعات، والمسابقة إلى الصالحات {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11] {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون} [المطففين:26] {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61].
فاستبقوا الخيرات وفقكم الله، فإن الآفات تعرض، والموانع تمنع، والموت يأتي بغتة، والتسويف من مداخل الشيطان، والمبادرة أخلص للذمة، وأحزم في الأمر، وأبعد عن المطل، وأربى للرب، وأمحى للذنب، ولقد استوقف الصالحين قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] فكان فيها خوف السلف، بكى عامر بن عبد الله حين حضرته الوفاة فقيل له: [[ما يبكيك وقد كنت وكنت؟ قال: إني أسمع الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [لمائدة:27]]]، ويقول أبو الدرداء رضي الله عنه: [[لئن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاةً واحدة أحب إليَّ من الدنيا وما فيها، إن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [لمائدة:27]]].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله واحذروا وحاسبوا.
كيف بمن عرف الله فلم يؤد حقه؟!
وكيف بمن يدعي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعمل بسنته؟!
وكيف بمن يقرأ القرآن ولم يعمل به؟!
تقلب في نعمة الله فلم يشكرها، لم يتخذ الشيطان عدواً، لم يعمل للجنة، ولم يهرب من النار، لم يستعد للموت، اشتغل بعيوب الناس وغفل عن عيوب نفسه، هذا وأمثاله في غمرة ساهون، تستدرجهم النعم ويطغيهم الغنى ويلهيهم الأمل {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة:19] ولسوف يندمون إن لم يتوبوا، ولات ساعة ندم.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله! وجدوا واجتهدوا، وسددوا وقاربوا، والقصد القصد تبلغوا، ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عز من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين؛ الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة وأعداء الملة والدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا ووفقه لما تحب وترضى، اللهم وأصلح له بطانته وأيده بالحق، وأيد الحق به، وأعلِ به كلمة الدين، واجعله نصرة لعبادك المؤمنين، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين!
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعزاز دينك وإعلاء كلمتك، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كشمير وفي كل مكان يا رب العالمين!
اللهم سدد سهامهم وآراءهم، واجمع كلمتهم على الحق، وكن لهم، اللهم أيدهم وسددهم، اللهم واجعل الذلة على أعدائهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد على القوم المجرمين.
سبحانك ربنا، عزَّ جاهك وجل ثناؤك وتقدست أسماؤك، سبحانك وبحمدك لا يهزم جندك ولا يخلف وعدك، اللهم إن هؤلاء اليهود المحتلين الغاصبين قد طغوا وبغوا، وآذوا وأفسدوا، وقتلوا وشردوا، وأحرقوا ودمروا، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم اهزمهم وزلزلهم واجعل الدائرة عليهم، اللهم انصر إخواننا في فلسطين عليهم يا قوي يا عزيز!
اللهم من أرادنا وأراد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميره يا رب العالمين!
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهم ارفع عنهم الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلادنا هذا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين!
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ؛ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(28/9)
ولا تتداووا بحرام
بين المادية البحتة والشعوذة والدجل تتوسط الحقيقة التي يدركها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ويختلف الناس في تعاملهم مع الشيطان وشره ووسواسه، ولكن من تمسك بالسنة فقد نجا بإذن الله.
وفي هذه المادة بيان لذلك ولما ينبغي أن يكون عليه الإنسان من إيمان بالمادة وإيمان بالغيب وبيان لأهمية الاعتصام بالله والتوكل عليه.(29/1)
صلاح الأجساد وصلاح الاعتقاد
الحمد لله أهل الحمد والثناء، يضل بعدله ويهدي بفضله، من اهتدى من عباده فلنفسه سعى، ومن عذاب الله نجا، ومن أعرض وأبى فعلى نفسه جنى، وإن الجحيم هي المأوى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أنقذ به من الضلالة، وهدى به من العمى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وعلى طريقهم اقتفى.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله ربكم؛ فهو سبحانه أحق أن يُطاع فلا يُعصَى، ويذكر فلا يُنسَى، ويُشكَر فلا يُكفَر.
أيها المسلمون: ربنا الذي في السماء تقدس اسمه لا إله غيره، من اعتصم به هُدِي إلى صراطٍ مستقيم، ومن استعان به واستعاذ أوى إلى ركنٍ شديد، نَزَّل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين، أعظم ما تتعلق به القلوب رجاؤه، وأعذب ما تلهج به الألسن ذكره ودعاؤه، سبحانه وتقدس وتبارك، لا شفاء إلا شفاؤه، خلق الأجساد وعللها، والأرواح وأسقامها، والقلوب وأدواءها، والصدور ووسواسها.(29/2)
ضياع الحق بين طرفي نقيض
أيها الإخوة: صلاح الجسد مرتبط بصحة المعتقد، بل متى يصلح الجسد إذا لم يصلح المعتقد؟!
حين يضعف وازع الإيمان، ويختل ميزان الاعتقاد، تختلط الحقائق بالخرافة، وتنتشر الخزعبلات والأوهام، ويفشو الدجل والشعوذة، ويضيع الحق بين فريقَين:
ضُلاَّلٌ ماديون: ينكرون الغيب وعالمه، ويكفرون بما جاء به رسل الله من الحق، وكل ما عدا المادة فهو عندهم أساطير الأولين؛ أوهام ومعتقدات من معتقدات المجتمعات البدائية؛ أساطير تخطاها الإنسان المتحضر، الإيمان بالغيب عندهم رِدَّةٌ حضارية إلى عصور الظلام.
يقابلهم فريقٌ آخر: عشعشت الخرافات في رءوسهم، وامتلأت بالخزعبلات صدورُهم، تعلقت قلوبهم بالسحر والكهانة، وارتبطت بصائرهم بالتنجيم والعِرافة، والضرب بالكف والرمل، والنظر في الوَدَع والخرز، والاستسقاء بالأنواء.
وكلا الفريقين قد سلك مسالك الجاهلية.
أما الأولون: فجاهليتهم الإعراض عن العلم المتنزل على رسل الله، ورفض ما جاء به المرسلون، وقبول ما جاء عن الفلاسفة والملاحدة والزنادقة، قد قال الله عنهم وعن أمثالهم: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر:83].
وأما الآخَرون: فاعتمدوا التقاليد الفاسدة، وبنوا حياتهم على الظنون والتخرصات، وتعلقوا بأهل الكهانة والسحر والتنجيم، فهم في لون آخر من الجاهلية الجهلاء: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].(29/3)
وسوسة الشيطان
أيها المسلمون: إن الإنسان جسدٌ وروح؛ فكما يتأثر بالمادة وأسبابها؛ من طعامٍ وشراب، وحَرٍّ وقَرٍّ، وغذاءٍ ودواء، فإنه يتأثر بالمؤثرات الروحية بإذن الله.
فالشيطان وجنوده جعل الله لهم تسلطاً على بني آدم: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [الإسراء:64]، {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17].
وأخبرنا نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم أنه: {ما من أحدٍ من بني آدم إلا قد وُكِّل به قرينه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي؛ إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير} أخرجه مسلم.
وفي خبر عند مسلم أيضاً: {إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه}.
بل إن هذا التأثير -أيها الإخوة- منه ما هو وسوسة وإيحاء، ومنه ما هو محسوس وملموس.
وتظهر الوسوسات والإيحاءات في صورٍ وأحوال من الدوافع والانفعالات؛ ففي هاجس الفقر، وحب المال، ومسالك الفحشاء: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268].
وفي حب الأولاد والعواطف: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الإسراء:64] {النظرة سهم من سهام إبليس}.
وفي انفعالات الغضب يتغلغل الشيطان ليخرج المرء عن طوره المعتدل، فيسب ويشتم ويقطع الرحم ويطلِّق، وفي الحديث: {إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم} متفق عليه.
حتى انفعالات الغيرة النسائية -أيتها الأخوات المسلمات- للشيطان فيها نصيب، فحينما افتقدت عائشة رضي الله عنها حبيبها محمداً صلى الله عليه وسلم ذات ليلة أدركتها الغيرة، فقال عليه الصلاة والسلام لها: {أوقد جاءك شيطانك؟! فقالت: أوَمعي شيطان؟! قال: نعم، قالت: ومع كل إنسان؟ قال: نعم} رواه مسلم.
بل إن الشيطان قد يبث المخاوف في النفس ويهز القلوب بالقلق والحزن: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة:10].
ويترقى ذلك إلى بث النزعات العدوانية: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53].
وفي الخبر عند الشيخين: {إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن لم ييئس من التحريش بينهم}.(29/4)
تأثير الشيطان المحسوس
أما التأثير المحسوس والملموس فقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن: {أن كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه بإصبعه حين يولد} رواه البخاري.
وقال أيضاً: {إن عدو الله إبليس جاء بشهابٍ من نار ليجعله في وجهي} أخرجه مسلم.(29/5)
الوقاية والعلاج من أمراض الأرواح والأجسام
وهذه الآثار أيها الأحبة معنويُّها وحسيُّها لها وقايتها وعلاجها، إذا رزق العبد إرادة قوية مؤمنة متعلقة بربها واثقة به: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99 - 100].
{جيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصبيٍ به مَسٌ من الشيطان، فنفث عليه الصلاة والسلام في فيه ثلاثاً وقال: بسم الله، أنا عبد الله، اخسأ عدوا الله} رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
واشتكى ابن أبي العاص إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً يأتيه يصرفه عن صلاته، فقال صلى الله عليه وسلم: {ذاك شيطان، ثم ضرب على صدر ابن أبي العاص وقال: خذ عدو الله ثلاثا} رواه ابن ماجة بسند صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: {إذا تثاءب أحدُكم فليمسك بيده على فيه؛ فإن الشيطان يدخل}، وقال: {إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاثاً فإن الشيطان يبيت على خيشومه}.(29/6)
اختلاف الناس في ضعف النفوس وقوتها
إذا كان الأمر كذلك أيها المسلمون، فلتعلموا أن الناس تختلف في ضعف نفوسها، وقوة إرادتها، وصدق يقينها، وتعلقها بربها، وقوة تأثير الوساوس عليها.
فأهل الإيمان والتقوى: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] تذكروا ورجعوا إلى ربهم موقنين أنه النافع الضار، الحكيم المدبر، {فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]، {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس:9] فيعتدل حالهم، ويستقيم مزاجهم، اتقوا ربهم فجعل لهم نوراً يمشون به، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:2 - 3] إنهم مؤمنون غير متذبذبين، متزنون غير مترددين، إيمان راسخ، ومعتقد ثابت، لا تقعدهم الضغوط، ولا تستفزهم الأوهام، شيطانهم في وسواسه خناس، نفوس طيبة، بذكر الله مطمئنة، ترضى بربها، وتؤمن بما جاء من عنده، متطهرة من الغل، صادقة في التعامل.
وثمة نفوس -أيها الإخوة- ذات تردد وتعجل، وقلة صبر وقلق، متسرعة في مواقفها، متقلبة في انفعالاتها، تتعرض للمزعجات النفسية، والمقلقات الداخلية، يتلبسها الخوف والاضطراب، والعدوان والغضب، ضعيفة الإبصار، مهتزة الجنان، {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:202] سرعان ما ينساقون وراء الأوهام، بل ينجرون إلى ألوان من الانحرافات والمعاصي، فيكثر وسواسهم، ويعظم بغير الله تعلقهم، ويشتد بالخزعبلات اهتمامهم: فيما يسمعون، وفيما يرون، وفيما يعطون.(29/7)
بعض الحقائق في العلاج الشرعي
أيها الأحبة: إن عقيدة المسلم في كتاب الله واضحة، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بينة، القرآن لهذه الأدواء هو الشفاء، ولكنه لأهل الإيمان خاصة: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} [فصلت:44].
علاج أدوائكم في قرآنكم وفي سنة نبيكم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وطلب العلاج مشروع، والأخذ بالأسباب المباحة مطلوب، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لكل داءٍ دواء، فإذا أصاب الدواء الداء برئ بإذن الله} وقال أيضاً: {ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاءً} هذا لفظ البخاري وزاد أحمد: {عَلِمَه مَن عَلِمَه، وجَهِلَه مَن جَهِلَه}.
وهذا الدواء لا يكون ولن يكون فيما حرم الله ورسوله: {فتداووا -عباد الله- ولا تتداووا بحرام} و {ليس منا مَن تَطَيَّر أو تُطِيِّر له، أو تَكَهَّن أو تُكُهِّن له، أو سَحَر أو سُحِر له} و {من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم}.
وحصول البرء والشفاء بيد الله وإذنه، فلا يأْس من روح الله، ولا استبعاد لفرج الله: {عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر؛ فكان خيراً له، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن}.
هذه هي العقيدة وهذا هو المنهج؛ ولكن أين العقيدة من أناس خفافيش القلوب، ضعاف النفوس، تعلقوا بالدجالين، ولحقوا بركاب المشعوذين وضلوا في متاهات الكذب والكهانة؟! فسادُ معتقد، وضياعُ مال، ودوامُ مرض.
إنكم تعلمون -والمرضى يعلمون- أنهم قلما يجدون عند هؤلاء الدجالين شفاءً ونفعاً، قد يجدون عندهم راحة نفسية لفترة قصيرة، ثم لا يلبثون أن ينتكسوا إلى حالٍ أشد، فلا شُفِي لهم مريض، ولا ارتفعت عنهم حيرة، أضاع نفسه وخسر ماله، وهل سلم له دينه يا ترى؟!
غرقوا في دجل، وشعوذات، وعُقَدٍ، وهمهمات، وعزائم، وطلاسم، وتلطخ بالنجاسات في المقابر والخَرِبات وبيوت الخلاء؛ يعقدون الخيوط، وينفثون العقد، ويوقدون المباخر، نعوذ بالله من شر النفاثات في العقد.
وكثيرٌ من هؤلاء المعالجين ذوو قلة في الديانة، وخبثٍ في النفس، وشر في العمل، وفتنة للذين في قلوبهم مرض، ناهيك عما يظهر عليهم من مخالفات في الدين بينة؛ تكاسلٌ عن الصلاة، وخلل في السلوك، وجُرأة على المحرمات، وأكلٌ لأموال الناس بالباطل، وخلوات بالأجنبيات؛ بل قد يباشر ما لا يحل له من نظرٍ ومس وجس.
إن ضررَ هؤلاء يتعاظم، وخطبَهم يشتد؛ فحق على أهل العلم والإيمان أن يشتد نكيرهم: [[إن الله لَيَزَعُ بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن]].
فعلى ولاة أمور المسلمين أن يخلِّصوا هؤلاء الضعاف العامة من أشباه الرجال والنساء والصبيان، عليهم أن يخلصوهم من براثن الأفَّاكين الأكَّالين لأموال الناس بالباطل، عبدة الدرهم والدينار، الذين ينازعون الله رب العالمين ما اختص به من الربوبية وعلم الغيب؛ ويجب أن يُنْقَض ذلك ويُنَظَّم بضوابط الشرع وما ينفع الناس.
ولقد حمد كل صاحب سنة ودين ما قام به ولاة أمور هذه البلاد -وفقهم الله- من متابعة لهؤلاء المشعوذين والدجالين وإنزال العقاب الرادع بهم بما يقضي به الشرع المطهر.
سدد الله الخطا، وبارك في الجهود، وزادهم إحساناً وتوفيقاً، وحفظ الله على أمة الإسلام دينها وحسن معتقدها، وأصلح بالها؛ إنه سميع مجيب.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(29/8)
فضل التعلق بالله والاعتصام به
الحمد لله؛ كفى وشفى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أهل البر والوفا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على هديهم واقتفى.
أما بعد:
فيا أيها الناس: {مَن تعلق شيئاً وُكِل إليه}.
مَن تعلق بربه ومولاه ربِّ كل شيء ومليكِه، كفاه ووقاه، وحفظه وتولاه؛ فهو نعم المولى ونعم النصير.
ومَن تعلق بالكهنة والسحرة والشياطين والمشعوذين وغيرهم من أفَّاكي المخلوقين، وَكَلَه الله إلى مَن تعلق به؛ والتعلق يكون بالقلب وبالفعل، ويكون بهما جميعاً.
فالمتعلقون بربهم، المنزلون به حوائجهم، المفوِّضون إليه أمورهم، يكفيهم ويحميهم؛ يقرِّب لهم البعيد، وييسر لهم العسير.
ومَن تعلق بغير ربه وسَكَن إلى رأيه وعقله، واعتمد على دوائه وتمائمه، وَكَلَه ربه إلى ما تعلق به وخَذَلَه.
يقول عطاء الخراساني: [[لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت، فقلت: حدثني حديثاً أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز، قال: نعم، أوحى الله تبارك وتعالى إلى نبيه داوُد عليه السلام: يا داوُد! أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبدٌ من عبادي دون خلقي، أعرف ذلك من نيته، فتكيده السماوات السبع ومن فيهن، والأراضون السبع ومن فيهن، إلا جعلتُ له من بينهن مخرجاً، أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبدٌ من عبادي بمخلوقٍ دوني، أعرف ذلك من نيته، إلا قطعتُ أسباب السماء من يده، وأسخت الأرض من تحت قدمه، ثم لا أبالي بأي أوديتها هلك]].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وأحسنوا الظن بربكم، وأحسنوا العمل؛ فربكم سبحانه رب الأرباب، ومسبب الأسباب، و {تداووا ولا تتداووا بالحرام}.
هذا وصلوا وسلموا على المبعوث رحمةً للعالمين، فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وجودك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، ودمر الطغاة والملحدين.
اللهم وانصر عبادك المؤمنين.
اللهم وانصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وعبادك الصالحين.
اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة.
اللهم وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد؛ يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُذَلُّ فيه أهل معصيتك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر؛ إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك.
اللهم انصرهم في فلسطين، والشيشان، وفي كشمير، والبوسنة، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين!
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ، وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ؛ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(29/9)
رؤية الهلال
لقد كان لديننا من حساب الزمن موقف واضح، إذ ربط كثيراً من أحكامه وشرائعه بالهلال والأشهر الهلالية، مما يبين أهمية الزمن وأهمية استغلاله في الطاعات والقربات.(30/1)
الحث على استغلال الأعمار قبل الندم
الحمد لله أوجد الكائنات بقدرته، وفاوت بينها بحكمته، أحاط بها علماً، ووسعها حكماً، أحمده سبحانه وأشكره، عمَّنا فضلاًَ وإنعاماً، وأولانا عقولاً وأفهاماً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جلَّ عن الشريك والنظير، وتنزه عن الوزير والظهير، وكل الخلق إليه فقير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، الرسول الأمين، ورحمة الله للعالمين أجمعين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وذريته، ومن اقتفى أثره، وسار على طريقه وسنته، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله رحمكم الله، فالأيام قلائل، والأهواء قواتل، فليعتبر الأواخر بالأوائل.
مَن كان الموت طالبه، كيف يلذ له قرار؟!
ومَن كان رحيله إلى الآخرة فليست له الدنيا بدار!
بنو آدم فرائس الأحداث، وغرائس الأجداد، لقد صدق الزمان في تصريفه وما كذب، وأرى الناس في تقلباته العجب.
فبادروا -رحمكم الله- أيامكم قبل هجوم الفاقرة، واستعدوا للقدوم إلى الآخرة: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات:13 - 14].(30/2)
مسيرة الزمن
أيها المسلمون: الوقت هو ظرف الزمان الذي يعيش فيه الأحياء، وتسير فيه الحياة من المولد حتى الممات في كل لحظة من لحظات هذا الزمن تخلع الموجودات قديمها، وفي كل آن من آنائه تلبس جديداً: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور:44].
الزمن يسير في اتجاه واحد لا يتوقف، الذاهب منه لا يُرد، والقادم منه لا يُوقف ولا يُدفع، والإنسان هو المخلوق من بين المخلوقات الذي يشعر بالزمن، ويدرك حركته، ويبصر آثاره، ويلحظ مسيره.
والناس في مدرسة الزمن بين غافل لا يرى للحياة لوناً، ولا يذوق لها طعماً، لا يختلف أمسه عن يومه، ولا يومه عن غده، وآخر حي يقظ، يشهد آثار الزمن في نفسه، وفي كل مظهر من مظاهر الحياة والأحياء: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:61 - 62].
القلوب اليقظة تتجدد فيها الحياة كلما دارت الأفلاك، وتتوثب فيها المنافسة كلما سارت الكواكب.
معاشر المسلمين: يقول الله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] يجريان بدقة بالغة، ويسيران بانتظام مستمر، وقد هدى الله الإنسان لإدراك مسيرهما، لينظم أوقاته، ويعرف اتجاهاته، فعرف الأفلاك في دورانها، والنجوم في سيرها ومنازلها، وتقلب الأيام في فصولها، صيفها وشتائها، وخريفها وربيعها: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء:12].
في تعاقب الشهور والأهلة مشهد الفناء على رءوس الأحياء، تمضي الأيام، وتمضي معها أشطار العمر وأجزاؤه في تقلب الزمن، وتجدد الأيام، ذكرى للقلب، وموعظة للنفس، ومزدجر للبشر.(30/3)
موقف الإسلام من الزمن
أيها المسلمون: لقد كان لديننا من حساب الزمن موقف واضح؛ إذ ربط ذلك بالهلال والأشهر الهلالية، فربط به حسابها، وتقدير أوقاتها في أمور الدين والدنيا والتشريع: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس:5].
لقد قدر الله بمنه ولطفه القمر منازل، وجعل له أحوالاًَ من الإهلال والإبدار؛ لنعلم عدد السنين والحساب، فجاءت كثير من الأحكام والتشريعات مرتبطة بالأوقات:
قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103].
- {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185].
- {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189].
- {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141].
- {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف:15].
- {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4].
عبادات وأحكام موقوتة بمواقيت محدودة، مرتبطة بالزمن، وموقظة للشعور بالمحاسبة مع طلوع كل هلال تتجدد المشاعر، وتتجاوب النفوس مع مواقيت الأهلة، ودورات الزمن كلما أطل هلال سرت في نفوس المتعبدين المتفكرين تأملات تبعث على تجديد الصلة بالله، وقوة دفّاقة تقود إلى سلوك أقوم، ربي وربك الله يا هلال، هلال رشد وخير.
معاشر الإخوة: إن ارتباط حساب الزمن بالأهلة تيسيراً على العباد، فقد أقيم لأوقات العبادات علامات واضحة، لا يختص بمعرفتها فئة دون فئة، بل يشترك في إدراكها والعلم بها العامة والخاصة.
فلم ترتبط بوسائل غامضة، ولا بحسابات دقيقة، بل أنيطت بأمور محسوسة، وعلامات مشاهَدة، وكواكب سيارة يعرفها المتعلم والأمي، والحاضر والبادي، ويهتدي بطلوعها وغروبها المكلفون أجمعون، من رؤية، وطلوع، وغروب، وظل، وزوال.(30/4)
طريقة الشارع في تعليق الأحكام الشرعية على الأهلة
لقد أنيط ضبط كثير من الأمور الموقوتة المتعلقة بالعبادات والمعاملات بما تدركه فهومهم من مكلفين، وما جرت عليه عاداتهم، ولم يكلفوا في شئونهم العامة قوانين دقيقة، ولا مقاييس لا يدركها إلا مختصون، أو قلة من المختصين، والسر في ذلك أن الضبط بالمواقيت مقياس تحضر الأمم؛ ولكن مزيد التدقيق في التوقيت تضييق وحرج، فإذا ما دققت وسائل التوقيتات ضاق الحال على المكلفين.
من أجل هذا -أيها المسلمون- كان مدار الأحكام والتعاملات على أمور ميسرة يعرفها العامة والخاصة، وبناءً على ذلك فقد علق الشارع الأحكام المرتبطة بالأشهر على الأهلة، بإحدى طريقتين:
- إما رؤية الهلال.
- وإما إكمال العدة ثلاثين.
وهما طريقتان ميسرتان، يعرفهما عموم الخلق فهو ربط بأمر محسوس يستوي في إدراكه جميع البشر.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له} أخرجاه في الصحيحين.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين} رواه مالك وأبو داود والترمذي والنسائي.
والشهر الهلالي يكون تارة ثلاثين يوماً، وتارة تسعةً وعشرين يوماً، ففي الحديث الصحيح: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الشهر يكون تسعاً وعشرين، ويكون ثلاثين، فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين} أخرجه الشيخان وغيرهما.
وأصح المعلومات ما شوهد بالبصر، وسُمي الهلال هلالاًَ لظهوره وبيانه، والحكم مبني على رؤية الهلال بالبصر، لا على ولادته ولا على وجوده في السماء، فإن لَمْ يُرَ بالبصر أكمل الناس عدة الشهر ثلاثين يوماً، ففي الحديث الصحيح: {فإن حال دونه غمامة فأتموا العدة ثلاثين} وهو توجيه جلي؛ لأن الهلال إذا لَمْ يُرَ بسبب حائل من غمام أو غبار فإن المطلوب إكمال ثلاثين يوماً، ولا يتكلف المسلمون أكثر من ذلك.
والرؤية شيء حسي عملي، وليست فكراً ولا حساباً، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ألا يدخل في صوم إلا برؤية محققة أو بشهادة شاهد واحد، فإن لم يكن رؤية ولا شهادة أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً.
وقد تواترت الأحاديث بالأمر بصيام رمضان إذا رئي هلال رمضان، والفطر إذا رئي هلال شوال، وإتمام العدة ثلاثين إذا لَمْ يُرَ الهلال، فالحكم متعلق برؤية.
على أن من المعلوم المتقرر لدى أهل العلم خاصة، ولدى أهل الإسلام عامة أن النص الصحيح لا يعارض العقل الصريح، وأن حقائق الدين لا تتعارض مع الثابت من حقائق العلم، حتى قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "كل معنى لا يستقيم مع الأصول الشرعية أو القواعد العقلية القطعية لا يعتمد عليه".
كما أن الشهادة إذا اقترن بها ما يكذبها من المنافاة لبداهة العقل أو حقائق العلم فإنها تُرَد.
ومع وضوح هذا وجلائه؛ لكن يجب أن يُعْلَم ويتقرر أن الحكم بأن هذا مصادم للعقل أو معارض للمقطوع به من الحقائق أمر دقيق، ولا يُقبل من كل أحد، ولا سيما بعض العقلانيين الذين يسارعون إلى مثل هذه الأحكام، فلا يؤخذ منهم في مثل هذا رأي أو قول، بل لا يقبل هذا إلا من أهل علم وبصيرة، من الذين جمع الله لهم بين العلم الراسخ، والفقه العميق، والعقل الراجح مع الورع والتقوى، وحسن التدين.
وبعد أيها المسلمون: ففي حسابنا أهل الإسلام، وفي تقويمنا الهلالي لا يكاد شهر رجب يقبل ومن ورائه شهر شعبان حتى يتنسم المسلمون عبق شهر القرآن الكريم، ولا يكاد يطل على الناس هلاله حتى يغمر حياة أهل الإيمان نور الخشية والذكر الجميل.
هلال رمضان طلعة الوليد، وبشير الخير، ومشرق أنوار القرآن، وشذا نفحات الجنان، وواحة الاسترواح في صحراء الضعف والتقصير، وراح الأرواح بالصلاة والصيام والقيام والقرآن والذكر الحكيم.
من أجل هذا تربى المسلم أن يقول إذا رأى الهلال: {هلال رشد وخير، هلال رشد وخير، هلال رشد وخير، آمنت بالذي خلقك، الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا، ربي وربك الله، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام}.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:37 - 40].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(30/5)
اختلاف مطالع الأهلة بين البلدان والأقاليم
الحمد لله، الحمد لله بنى السماء فأحكم ما بنى، أحمده سبحانه وأشكره أجزل العطاء لمن كان محسناً، وغفر الذنب لمن أساء وجنى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مسراً ومعلناً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، دعا إلى الله فما ضعف وما وَنَى، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أهل العز والسنا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
إن اختلاف مطالع الأهلة بين البلدان والأقاليم أمر متقرر عند أهل الشأن، ولكن أهل العلم رحمهم الله اختلفوا إذا رئي الهلال في بلد أو إقليم فهل يلزم جميع البلدان الصيام؟
فذهب جمهور أهل العلم إلى أن لكل قوم رؤيتهم.
وذهبت طوائف من أهل العلم إلى القول بلزوم الصوم على الجميع.
والأمر في هذه المسألة واسع، والاجتهاد فيها فسيح، غير أنه لا ينبغي التهويل ولا الإرجاف في أن اختلاف الأقطار الإسلامية في يومي الصوم والإفطار مدعاة للتفكك والنزاع.
فالدعوة إلى وحدة المسلمين واتحادهم أمر غير مختلف عليه، بل هو من أعظم المطالب الشرعية، وينبغي على أهل العلم والدين والفقه والرأي تكريس الجهد وتكثيف العمل من أجل هذه الوحدة العظيمة؛ ولكن اختلاف المسلمين في يوم صومهم ويوم فطرهم، لا أثر له في هذا المطلب السامي؛ لأن المسلمين كانوا متحدين مع اختلافهم في وقت دخول الشهر وخروجه، فهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوافق معاوية رضي الله عنه في الشام في يوم الدخول، ولا في يوم الخروج، ولم تتفرق القلوب، ولم يتشتت شمل الأمة الموحدة.
والوحدة الإسلامية لا تتم بارتجالية الفكر، ولا بعاطفة الشعور، إن من الجميل والأولى الاشتغال بما يجمع الكلمة من الحكم بشرع الله، ورسم طريق الإصلاح، وسلامة القلوب، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتربية أبناء المسلمين على منهج الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة.
وهناك -أيها المسلمون- أمر آخر مرتبط بهذه المسألة، ذلكم أن أعياد المسلمين ليست مهرجانات لمظاهر الأفراح، ولكنها إلى جانب ذلك هي أعياد يُراعى فيها الانقياد والطاعة، فهي فرحة وعبادة، يؤديها المسلمون ويمارسونها طاعة لله: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] لا حسب الأهواء والرغبات والمصالح، فالتوجيه الشرعي صريح: {لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروا الهلال، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين}.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واستقيموا على الطاعات، وتأملوا في حكم التشريع.
ثم صلوا وسلموا على البشير النذير، والسراج المنير، نبيكم محمد المصطفى ورسولكم المجتبى، فقد أمركم بذلك ربكم جلَّ وعَلا فقال في محكم كتابه قولاً كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، نبيه الرحمة والملحمة، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، وانصر عبادك المؤمنين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الدين.
اللهم آمِنا في أوطاننا، اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، وارزقه البطانة الصالحة، وأصلح له شأنه، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رُشد، يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُهْدَى فيه أهل معصيتك، ويُؤْمَرُ فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان.
اللهم انصرهم في فلسطين، وفي كشمير، وفي الشيشان.
اللهم واجعل الدائرة على أعدائهم يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود المحتلين.
اللهم عليك باليهود المحتلين الغاصبين.
اللهم إنهم قد طغَوا وبغَوا وآذَوا وأفسدوا وقتَّلوا ودمَّروا.
اللهم وأنزل بهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين.
اللهم وارحم موتانا، واشف مرضانا، وفك أسرانا، وأصلح لنا شأننا كله يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، واجعل ما أنزلته قوة لنا على طاعتك، وبلاغاً إلى حين.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من القوم الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(30/6)
من جوامع المواعظ في فقد العلماء
ذكر الشيخ جملة من الوصايا والتوجيهات والتحذيرات، فوصية بالتقوى، وتحذير من الموت، ووصية بالسكوت عما لا يعني، وتحذير من خطر اللسان في كثرة الكلام، وتحذير من الشهوات والشبهات، وأمر بكثرة الطاعات.
ثم تحدث الشيخ عن العلماء ومنزلتهم، وأنهم هم الهداة الذين ينيرون للناس الطريق، فإذا فقدوا أظلمت الدنيا وتخبط الناس في ظلمات الجهالة، وذكر أنه لابد من معرفة حق العلماء وإنزالهم منزلتهم التي أنزلهم الله إياها(31/1)
فائدة المواعظ والوصايا
الحمد لله وسعت رحمته ذنوب المسرفين، وأعجزت آلاؤه عد العادين، أحمده سبحانه لا تحجب عنه دعوة، ولا تخيب لديه طلبة، ولا يضل عنده سعي، وأشكره وأثني عليه، رضي من عظيم النعم بقليل الشكر، وغفر بالندم كبير الذنب، ومحا بتوبة ساعة خطايا سنين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبلغ الآمال، وتهدي من الضلال، وتحفظ النعم من الزوال.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله ربه هدىً ورحمة، وسراجاً منيراً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وعلى أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم وأعد لهم مغفرة وأجراً كبيراً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: التاريخ ديوان البشرية، والتراث سجل الأمم، يدون فيه حلو الأيام ومرها، ويحفظ فيه تجارب الناس خيرها وشرها، وفي مدونات التاريخ وسجلات الأمم تأتي وصايا الحكماء، ونصائح العقلاء، ومواعظ الواعظين، وآداب المتأدبين تأتي خلاصة لهذه التجارب، ونتيجة لهذه المدونات، كأنها الثمار ودرر البحار، وما زالت الأقوال المأثورة، والأمثال الجارية، والحكم المحفوظة، والوصايا السائرة، تملأ أحاديث الناس، فتؤدب الناشئة، وتصقل التجربة، وتزكي الخبرة، وتزين المجالس.
ونحن أمة الإسلام قد جاءنا الوحي من كتاب ربنَّا عز شأنه، وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مرشداً للأمة في مسيرتها، وهادياً لها في طريقها، ثم من بعد ذلك تجيء رجالات هذه الأمة في خلفائها وأئمتها، وعلمائها وصلحائها، وناصحيها وواعظيها، من الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، والعلماء الربانيين، والصالحين المصلحين، والذين يأمرون بالقسط من الناس.
وشرائع الدين وتوجيهات الشرع كلها دالة على معالي الأمور، مرشدة لكريم الأخلاق، زاجرة عن الدنايا، ناهية عن القبائح، باعثة على صواب التدبير، قائدة إلى حسن التقدير.
وطرق الخير -بفضل الله- كثيرة، وأبواب البر واسعة، وصلاح الدين بصلاح الزمان، وصلاح الزمان بصلاح الناس، وصلاح الناس -بعد توفيق الله- بالإرشاد وحسن التوجيه والتفصيل.(31/2)
جملة من الوصايا والتوجيهات
أيها المسلمون: وهذه جملة من الوصايا والتوجيهات، دونها الأقدمون ووعظ بها الواعظون مأخوذة من كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وكلام أهل العلم والصلاح والحكمة.(31/3)
الوصية بالتقوى والاستعداد للموت
فأول الوصايا، وصية الله للأولين والآخرين، في قوله سبحانه: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:13].
فعليكم بتقوى الله، عليكم -رحمكم الله- بتقوى الله وحده لا شريك له، وخشيته ومراقبته، والحذر من سخطه واعتصموا بحبله، واعمروا قلوبكم بذكره، أحيوا قلوبكم بالمواعظ، وثبتوها باليقين، وذللوها بذكر الموت، وبصروها بفجائع الدنيا، وحذروها تقلبات الدهر، ونوروها بالحكمة، وانظروا في أخبار الماضين وسير الأولين، وخافوا إن عصيتم ربكم عذاب يوم عظيم.
الحذر الحذر -يا عباد الله- أن تكونوا ممن لا تنفعه المواعظ، وممن لا يحبون الناصحين، فلقد ذم الله أقواماً وسجل عليهم سوء مقالتهم: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:136 - 138]، وقال في قوم آخرين: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79].
انظر -يا عبد الله- أي رجل تكون إذا وقفت بين يدي الله عز وجل فسألك عن نعمه عليك كيف رعيتها، الزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعاده، وما أنت صائر إليه، وموقوف عليه، ومسئول عنه، واعمل بما يحفظك الله به، وما ينجيك من عذابه وأليم عقابه، فإن الله قد أحسن إليك وأتم نعمته عليك.
واعلم أن الدنيا دار بلغة، وطريق إلى الآخرة، وأن المرد إلى الله، وأن الإنسان طريد الموت لا ينجو هاربه، ولا يفلت طالبه، فهو مدركه لا محاله، فكن منه على حذر، ولمقدمه على استعداد: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8] {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78].
واعلم يقيناً أنك لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك، فأجمل في الطلب، واقتصد في المكسب، وتحرى طيب المطعم والمشرب، فبئس الطعام الحرام، وارض بما قسم الله تكن غنياً، وما أطال عبدٌ الأمل إلا أساء العمل {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].
فاحتط لنفسك واستقل من عثرتك، فلست في دار المقام، فلقد نادى المنادي بالرحيل، فما بقاء المرء بعد ذهاب أقرانه! وطوبى لمن كان من الدنيا على وجل! ويا بؤس من يموت وتبقى من بعده ذنوبه.
دع الغفلة فإنك لم تزل في هدم عمرك وتناقص أيامك منذ أن خرجت من بطن أمك، فحاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء كان مرجعه إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الحسرة والندامة.
أصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك، وليكن أول ما تلزم به نفسك -يا عبد الله- وتنظر فيه لشأنك صلاح دينك، وصحة معتقدك، وصدق إخلاصك، ولزوم ما افترض الله عليك.(31/4)
المحافظة على الصلوات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
حافظ على الصلوات الخمس في الجماعة في مواقيتها، فقد قال الله في محكم تنزيله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] وصلِّ من الليل ما تيسر واعط كل ركعة حقها مر بطاعة الله وأحبب إليها، وانه عن معاصي الله وأبغض إليها، فذلك سبيل المؤمنين: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71].(31/5)
التحذير من الشبهات والشهوات
واحذر من الشبهات والشهوات والأمور المبتدعة، يسلم لك دينك، وتستقم لك مروءتك، واتق كل شيء تخاف فيه تهمة في دينك أو دنياك.(31/6)
البر بالوالدين وصلة الأرحام
بر والديك، وخصهما منك بالدعاء، وأكثر لهما من الاستغفار، ففي التنزيل العزيز: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح:28] ويقول سبحانه: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24].
صل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك، وعف عن المحارم تكن عابداً، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً ارحم المسكين، وأكرم الغريب، واسع على الأرامل، ففي الحديث الصحيح: {الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو قال: كالصائم لا يفطر والقائم لا يفتر مخرَّج في الصحيحين.(31/7)
التحذير من الظلم
وظلم الضعيف أفحش الظلم، وكل معروف صدقة، ولا تقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وقد علمت قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10].
وإذا وعدت الخير فأنجزه، واقبل الحسنة وادفع بها، وغض الطرف عن عيوب الناس، فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، واجعل من نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، ولا تظلم كما تحب ألا تُظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس ما ترضاه لهم من نفسك، يجمع لك ذلك كله قول نبيك محمد صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه مخرَّج في الصحيحين.(31/8)
التحذير من خطر اللسان
اترك من أعمال السر ما لا يحسن بك أن تعمله في العلانية، واحفظ لسانك من الكذب وقول الزور وأبغض أهله، فأول فساد الأمور الجرأة على الكذب وتقليد المنافق والكذوب، والكذب رأس المأثم، ففي الحديث الصحيح: وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً.
فتكلَّم -رحمك الله- بخير وإلا فاسكت، واجتنب فضول الكلام، واسمع قول نبيك محمد صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت فلا تقل ما لا تعلم، وإن قلَّ ما تعلم، وخير القول ما نفع، والقول على الله بغير علم قرين الشرك بالله، وسبيل من سبل الشيطان العريضة، ولقد قال سبحانه: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:168 - 169].
فدع -رحمك الله- القول فيما لا تعرف، والخوض فيما لم تكلف وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم}.(31/9)
الحث على الصبر والمصابرة
املك نفسك عند الغضب، والزم الوقار والحلم، واحذر الحدة والطيش والغرور والتكبر، فالحلم بالتحلَّم، والصبر بالتصُّبر، واطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر، وحسن اليقين، فالصبر عز والفشل عجز، وفي الحديث: واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسر وإنك لن تنال ما تحب إلا بترك ما تشتهي، ولا تدرك ما تأمل إلا بالصبر على ما تكره وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها، فالقصد داعية الرشد، والرشد دليل التوفيق، والتوفيق طريق السعادة وقوام الدين، والقصد في شأن الدنيا يورث العز، ويحصِّن من الذنوب وأحسن الظن بربك تستقم حالك، فبحسن الظن تحصل القوة والطمأنينة، ولا تحمل على يومك هم غدك، فكل يوم مرهون بوظيفته، ولا تؤخر عمل اليوم إلى الغد فتزدحم عليك الأعمال فتضيع، وإن لغدٍ أموراً وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت، واليوم إذا مضى ذهب بما فيه، وإذا أخرت عمله اجتمع عليك أمر يومين، فشغلك ذلك وثقل عليك حتى تعرض عنه وتفرط فيه.(31/10)
عزة النفس
احفظ نفسك عن كل دنية، ولا تكن عبداً لغيرك وقد جعلك الله حراً، واليسير من الله أعظم وأكرم من الكثير من خلقه، وَكُلْ من عند الله، واؤمر بالمعروف تكن من أهله، واصحب الأخيار تكن منهم، ويعينونك على أمر الله، ولقد قال عزّ وجلَّ شأنه: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].(31/11)
الدعاء وأثره
ثم قبل ذلك وبعده، اعلم أن الذي بيده خزائن السموات والأرض قد أذن لك بالدعاء وتكفل لك بالإجابة، وأمرك أن تسأله ليعطيك، وتسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبه عنك، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه، ولم يمنعك إن أسأت من التوبة، ولم يعاجلك بالنقمة، ولم يقنطك من الرحمة، بل جعل التوبة من الذنب حسنة، وحسب سيئتك واحدة وحسنتك عشراً، بل ضاعفها أضعافاً كثيرة.
وإذا ناديته سمع نداءك، وإذا ناجيته علم بنجواك، تفضي إليه بحوائجك، وتشكو إليه همومك، وتسأله كشف كربك، وتستعين به على إنجاز أمورك، فاستفتح بالدعاء أبواب نعمته، واستمطر بالسؤال شآبيب رحمته، ولا تستبطئ الإجابة، فإن العطية على قدر النية، وربما أخر عنك الإجابة ليكن أعظم للأجر وأجزل للعطاء، وربما صرف عنك من الشر بدعائك ما لا تعلمه، وساق لك ما هو خير لك مما لا تعلمه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1 - 11].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(31/12)
منزلة العلماء والصالحين
الحمد لله خلق الخلق وأنشأهم فأحسن الإنشاء، وأعطى وأنعم فأجزل في العطاء، أحمده سبحانه وأشكره، له الخلق والأمر وبيده التقدير والتدبير، يعلي قدر من يشاء ويخفض ويؤخر كما يشاء، اصطفى المرسلين والأنبياء، ورفع درجات أهل الإيمان والعلماء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بالربوبية والألوهية والصفات والأسماء، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله خير من وطئ الحصى، وأشرف من نزل البيداء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله السادة الأولياء، وأصحابه الكرام النجباء، نالوا بصحبته المنازل العلى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على طريق الحق واهتدى.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: العلماء بعلومهم، والحكماء بحكَمِهم، والصالحون بوصاياهم، هم -بإذن الله- نجوم هادية لمن سار في الليالي المظلمة، ودفة محكمة لمن خاض عباب البحار الموحشة، وغيث مدرار يأتي على الأرض الهامدة، فتهتز وتربو ثم تنبت من كل زوج بهيج ومن أجل هذا فما كان حديثاً يفترى، ولا فتوناً يتردد، تلك السير الرائعة والتراجم الماتعة، التي تبين وتنبئ عن حياة أهل العلم والفضل من أئمة الهدى وأعلام السلف علماء ربانيون، وأئمة متقون ينفع الله بهم ويبارك في علومهم يبلغون الدين أحسن بلاغ، ويحفظون الأمة -بإذن الله- من الضياع هم المرجع في العلوم والحكم، وحسن المواعظ، ولزوم السنة والسير على نهج السلف الصالح، فهم هداة ينيرون السبيل للسالكين تنقضي أعمارهم، وتمر حياتهم على هذه الدنيا مرور الغيث الهامع، فتخضر الأرض وتنبت وتثمر، فيحمد الوارد والصادر، ويسجل التاريخ حديثهم للرواة، ويحفظ أيامهم وسيرهم نبراساً للدعاة فهم -بتوفيق الله- الحديث الحسن لمن وعاه اشتغلوا بالعلم وتحصيله وتحقيقه وتفصيله الواحد منهم أمة لما جمع الله فيهم من خصال الرجال، وضم من محاسن الأقوال والأفعال، فكانوا مضرب المثال ومحط الرحال.
العلماء هم منائر الأرض ومنابرها، وهم نجومها وزينتها نجوم إذا انطمست ضل السائرون طريقهم، وكواكب إذا تهاوت التبست على الحيارى مسالكهم.
أثنى الله عليهم ورفع مقامهم ونوه بذكره فقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
وخصهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالفضل الأسنى في أحاديث شتى، في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير حديث صحيح أخرجه الترمذي وغيره من حديث أبي أمامة رضي الله عنه والحافظ ابن القيم رحمه الله يقول: هم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والماء، وطاعتهم أفرض من طاعة الأمهات والآباء، بنص الكتاب العزيز كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] وأولوا الأمر: هم الأمراء والعلماء.
وبموتهم وانطفاء أنوارهم تنتقص الأرض من أطرافها، كما ذكر ذلك حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال: [[خراب الأرض بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير فيها]].
فرفع الله في عليين منازلهم، وأحسن في الدارين مثوبتهم، وأجزل لهم أجرهم، وحفظ أثرهم وآثارهم، وعوض المسلمين بفقدهم خيراً.(31/13)
حفظ الله تعالى لدينه بالعلماء
ولكن مما يعزي نفوس أهل الإسلام في فقد علمائهم والأسى على فراقهم؛ أن الله سبحانه بفضله ورحمته قد حفظ على هذه الأمة دينها، وحفظ لها كتابها، فالفضل الإلهي والفيض الرباني ليس مقصوراً على بعض العباد دون بعض، ولا محصوراً في زمن دون زمن، فلا يخلو زمن وعصر من علماء يقيمهم في كل فترة من الزمن، أئمة عدولاً من كل خلف، أمناء مخلصين، علماء مصلحين، بصراء ناصحين ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، يدعون إلى الهدى، ويذبون عن الحمى، ويصبرون على الأذى فليس حفظ دين الله مقصوراً على حفظه في بطون الصحف والكتب، ولكنه بإيجاد من يبين للناس في كل وقت وعند كل حاجة، فالله سبحانه له المنة والفضل، يتفضل على الخلف كما تفضل على السلف.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واعرفوا للعلماء فضلهم، واقدروهم قدرهم، واحفظوا لهم مكانتهم.
ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمد إمام الحنفاء وسيد الأنبياء، فقد أمركم بذلك ربكم فقال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطبيين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الدين اللهم وانصر عبادك المؤمنين اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق والتوفيق والتأييد والتسديد إمامنا وولي أمرنا، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، ووفقه لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(31/14)
البيت العتيق ووفود الرحمن
إن الله سبحانه وتعالى فضل بعض الأيام والشهور على بعض، وكذلك فضل بعض الأماكن على بعض، وإن من هذه البقاع المفضلة بيت الله الحرام الذي جعله الله قبلة المسلمين، وشرفه ببناء إسماعيل وإبراهيم، وخروج محمد صلى الله عليه وسلم داعية فيه إلى الناس أجمعين، وأكرم الله بيته بمضاعفة الحسنات والأجور وثقل المعصية والفجور.(32/1)
فضل مكة وبيت الله الحرام
الحمد لله الذي جعل البيت الحرام مثابة للناس وأمناً، وخصه بأول بيت وضع للناس مباركاً للعالمين وهدىً ويُمناً، حرَّمه وعظَّمه يوم خلق السماوات والأرض، وجعله لطالبي خيري الدارَين كفايةً ومغنى، أحمده سبحانه وأشكره وأستعينه وأستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رضي لنا الإسلام ديناً، فضلاً منه ومَنَّاً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله وحبيبه وخليله بعثه مِنَّا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوه رحمكم الله، فقد فاز من أطاعه واتقاه، وخاب -والله- وخسر من كفر به وعصاه، وويل لمن زلت به قدماه، يوم يُكشَف الغطاء والبصر حديد، وينظر المرء ما قدمت يداه.
أيها الإخوة المسلمون: إن ما يكتبه الكاتبون، ويؤلفه المؤلفون، ويبحثه الباحثون، في فضل مكة وفي شرف البيت وفي تعظيم المشاعر، لا يعدو أن يكون عيضاً من فيض، فليس شرف هذه البقاع الطاهرة بالذي يُسْتَوعَب، وحسب الراغب، بل حسب العاشق الإلماع دون الإشباع، وتكفيه الإشارة عن طويل العبارة.
اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً ومهابةً وبراً، وزد من شرَّفه وعظَّمه ممن حجَّه واعتمره، وسكن فيه وجاوره تشريفاً وتعظيماً وتكريماً، ومهابةً وبراً.
أيها الإخوة: لقد اقتضت حكمة الله أن يجمع أهل الإسلام على قبلة واحدة، كما شاء سبحانه أن يحفظ هذا البيت ليبقى قياماً للناس، ومثابة وأمناً، ومبعثاً للوحي، ومصدراً للإيمان.
رفع الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام قواعد البيت، وخُتِمَت النبوَّات والديانات بمحمد صلى الله عليه وسلم، لتكون لأمته -أمةِ التوحيد- قيادة ركب البشرية وهدايتها: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج:78].
البيت الحرام قبلة المسلمين، رمز التوحيد، ومظهر الإيمان، تشرئب إليه القلوب، وتتطاول إليه الأعناق، فهو مظهر وحدتهم، وسر اجتماعهم، ومحور شعائرهم قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] {من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم}.
من هذا التاريخ تصدَّرت مكة، وشرفت الكعبة، وتقدس البيت، يدينون لله بزيارته، ويتقربون لله بحَجِّه، وأمم الإسلام تولِّيه شطرها، فلا تمر ساعة أو لحظة من ليل أو نهار إلا وهم متوجهون إلى هذا البيت، ما بين قائم وقاعد، وراكع وساجد، وقانت وخاشع.
هو أول البيوت وضعاً، بنته الأنبياء الكرام بأيديها؛ إبراهيم وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام، فله شرف الأولوية، ودوام الحرمة، ومباشرة الأنبياء.(32/2)
مضاعفة الأجور في البيت الحرام
قال أهل العلم: إن مواضع العبادات لا تتفاضل فيما بينها من جهة العبادة، ولكنها تتفاضل بما تختص به من طول الزمان، وقِدَم البنيان، والنسبة إلى الباني وحسن المقصد، وقد جمع الله ذلك كله لهذا البيت المحرم.
فهو أول بيت وُضِع للناس، وقد نسبه الله عز وجل لنفسه تشريفاً وتكريماً: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ} [الحج:26] وقد باشر بناءه إبراهيم وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام.
ثم الحظوا هذا السر: فإن الله سبحانه وتعالى لَمَّا أراد أن يفرض على عباده حج بيته، قدم بذكر محاسن البيت، وعِظَم شأنه، وكبير شرفه، تشويقاً وإغراءً وتمجيداً وتشريفاً، فقال عز شأنه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:96 - 97].
بيت الله مبارك، الصلاة فيه بمائة ألف صلاة، والحسنات فيه مضاعفة، أفاض الله عليه من بركات الأرض، وثمرات كل شيء في وادٍ غيرِ ذي زرع، فيه من الأقوات أكثرها، ومن الثمار أجودها، ومن الأثمان أقلها، ثمرات تُجْبَى إليه من حيث تكون، فتُساق إلى مكة سَوقاً، تهوي إليه أفئدةٌ من الناس من أشراف الأمم، وأعيانها، وعلمائها، وصلحائها، ومن كل طبقاتها، رجالاً وركباناً، يأتون من كل فج عميق، شدوا الرحال إلى بيت الله فرضٌ وحتمٌ على كل مسلم مستطيع.
وقصد البيت مكفر للذنوب {مَن حج فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه} والمتابعة بين الحج والعمرة تنفي الفقر والذنوب.(32/3)
مهوى الأفئدة إلى بيت الله
الله أكبر! الأفئدة تهوي إلى هذا البيت وتأوي في رقرقة ورفرفة، تهوي إلى أهله في هذا الوادي الجديب.
من الناس من بلَّغهم الله بيته، فذاقوا وارتشفوا، وعرفوا واغترفوا، فمهما ترددوا عليه لا يبغون عنه حِولاً، ولا يقضون منه وطراً، إذا ذكروا بيت الله حنُّوا، وإذا تذكروا بُعدهم عنه أنُّوا، ثم لا يزالون يجأرون إلى مولاهم بقلوب مشفقة ودموع مغرورقة، ونفوس متحرقة، أن يعيدهم إليه مرة بعد مرة، وكرة بعد كرة.
ومنهم من فاته القُرب والدُّنو، فهو يؤمُّه بقلبه في كل حين وآن، ويولِّي إليه وجهه حيث ما كان، لم يُكتب له الوصول إلى البيت، لكن قلبه موصولٌ برب البيت، أعاقته المعاذير، ولم تسعفه المقادير، كلما أذن مؤذن الحج تولوا وأعينهم تفيض من الدمع، فنَصَبوا موائد اللهف، وأراقوا دموع الأسف، حنين أفئدتهم لا ينقطع، ومُنى نفوسهم لا ينقضي.(32/4)
البيت الحرام مدار لقيام أمر الدنيا والدين
وكما جعله الله مهوى الأفئدة، فقد جعله للناس قياماً، فهو مدار لقيام أمر دينهم ودنياهم، باجتماع أمرهم عليه، وتوجُّهِهم في الصلاة من كل مكان إليه، يحتاجون إليه في تمدنهم الذي به كمال معاشهم، وحسن معادهم.
وكم هو جميلٌ لذي الفقه والبصر، أن يقارن بين المال والكعبة في هاتين الآيتين الكريمتين:
{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء:5].
وبين قوله سبحانه: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} [المائدة:97].
يوضح ذلك الإمام القرطبي رحمه الله، رابطاً بين وظيفة الملوك والولاة، ووظيفة هذا البيت المعظم، فهو يقول رحمه الله: قال العلماء: إن الله خلق الخلق، وفيهم طبع من التحاسد والتنافس، والتقاطع والتدابر، والسلب والنهب، والقتل والثأر، فكان من حكمة الله الإلهية، ومشيئته الأزلية أن هيأ لهم وازعاً يدوم معه الحال، ورادعاً يُحمد معه المآل، فجعل لهم من أنفسهم ولاة وسلاطين يمنعونهم من التنازع، ويحملونهم على التآلف، ويردون الظالم عن المظلوم، ويحفظون لكل ذي حق حقه، فتجري على رأيهم الأمور، ويكف الله بهم عاديات الجمهور.
ثم قال: وكذلك بيت الله سبحانه عظَّمه في قلوبهم، وأوقع هيبته في نفوسهم، وعظَّم فيهم حرمته، فقال عز من قائل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67] فكان موضعاً مخصوصاً، لا يدركه ظلوم، ولا يناله غشوم، يحجز قويهم عن ضعيفهم، ومسيئهم عن محسنهم، وظالمهم عن مظلومهم، يقيمون بجواره، ويحجون إلى عرصاته، فتقوم بهذا المصالح والمنافع، جذب إليه الأفئدة، وجلب إليه الأرزاق، وهو قيام لهم في أمر دينهم، يهذب أخلاقهم، ويزكي نفوسهم، يجمع كلمتهم، ويقطع دابر أعدائهم، قياماً للناس.
فالكعبة المشرفة ليست نصَباً تذكارياً، يُتَعَلَّق به تَعَلُّق الآثار، ولكنها دين وعقيدة وعبادة، لا تقوم للمسلمين قائمة بدونها، ولا تكتمل للمسلمين شخصيتهم الشرعية ما لم يجتمعوا حولها ويعظِّموا حرمتها، وإذا أذن الله بخراب الدنيا سلط الله على هذا البيت من يهدمه، فقيام البيت قيام الناس, والله غالب على أمره.(32/5)
البيت الحرام مثابة وأمنا
أيها الإخوة: ولَمَّا جعله الله قياماً للناس، جعله مثابة أمن ومباءة سلام: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] بل لقد امتد رواق هذا الأمر المكي حتى نال الوحش والطير والشجر.
ما أحوج البشرية المُفَزَّعَة الوَجِلَة المتطاحنة المتصارعة إلى منقطة الأمان التي جعلها الله في هذا المكان، وجعلها في هذا الدين، وبيَّنها للناس في هذا الكتاب، الأمن لا يكون إلا في جوار الله، والخوف لا يكون إلا في البُعد عن هدى الله.
نعمة الأمن شديدة المساس بالإنسان، عظيمة الوقع في حسه، متعلقة بحرصه على نفسه.
تأملوا قول كفار قريش لمحمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57].
إن كثيراً من ضعاف الإيمان يسلكون هذا المسلك الجاهلي، يشفقون من اتباع شرع الله، ويخشون من السير على هدي الله، وَجِلُون من عداوة أعداء الله ومكرهم، يرهبون من تألُّب الخصوم عليهم، يشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية.
{إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57] ماذا كان جوابه؟ وماذا كان الرد؟
لقد جاء الرد القرآني واضحاً: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:57] من الذي وهبهم الأمن في ديارهم؟!
ومن الذي جعل لهم البيت أمناً حراماً؟!
ومن الذي جعل القلوب تأوي إليه، تحمل من ثمرات الأرض وأرزاقها، تتجمع في حرم الله من كل صقع بعد أن تفرقت في مواطنها ومواسمها؟!
فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس لو اتبعوا هدى الله؟!
أفمن أمَّنهم وهم عصاة يَدَع الناس يتخطفونهم وهم تقاة؟!
بل ماذا حصل لَمَّا اتبعوا الهدى مع محمد صلى الله عليه وسلم؟!
ألم تُفْتَح لهم مشارق الأرض ومغاربها؟!
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:57] لا يعلمون أين يكون الأمن، ولا يعلمون أين تكون المخافة، لا يعلمون أن الأمر كله لله.
إن بيت الله هو دار الهدى، رحابه الأمن، وجواره البركة، من قلب الحرم الأطهر انطلقت القصة الكبرى والخطب الجلل، في الحرم ولد الهدى وتنزل الوحي: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:1 - 5].
من الحرم بدأت كتائب الإسلام زحفها لاستئصال الجاهلية، تبدد الظلام، وتوقظ النيام، وتنشر الإسلام، وتبسط السلام.
الارتباط بالبيت العتيق ارتباط بأهداب الرسالة وجذور الديانة.
من الأميين التائهين في الصحراء أُخْرِجَت للناس خير أمة، انتشروا وانبثوا كما تُرْسِل الشمس أشعتها حياةً للأرض المَيْتَة، وضياءً للقلوب المظلمة.
تدوِّي بطاحُ مكة لتحكي التاريخ، وسيرة العدل، ومسيرة الحق، وميزان القيم، وسوق الفضيلة.
على رمالها عُفِّر الشرك، وعلى جبالها تحطَّمت الأصنام، وفي شعابها أُزْهِقَ الباطل.
أيها الإخوة: هذا هو بيت الله، وتلكم هي بعض خصائص حرمه ومزايا كعبته.
وإن شئتم مزيداً من النظر والتأمل فتفكروا وتدبروا: ما الذي أتى بضيوف الرحمن؟!
وما الذي حبب للمجاورين الجوار؟!
ترى القلب الساكن يتحرك ويتحرك حتى يرحل إلى أطهر الأماكن! الانتقال إليه أجمل ساعات العمر! وشهوده أعز وقائع الدهر!
فلِلَّه كم لهذه الديار من حبيب وسليب؟!
وكم أُنْفِق في حبها وبلوغها وخدمتها من الأموال والأرواح؟!
كم نفوس طاهرات قد أحرمت؟! وكم أرواح زاكيات قد هتفت؟!
وكم شفاه نقيات كبرت وهللت؟! وكم أيْدٍ كريمات رمت واستلمت؟! وكم أقدام شريفات طافت وسعت؟!
هنا يتجلى الشرف والتقديس، حين تنتقل الخطى بين المشاعر، وتهتف مع الملأ الطاهر في مظاهر من التقوى، ورسوم من الخشوع، ورقة المشاعر، لا لباس أنصع من لباس الحجاج والمعتمرين، ولا عبير أزكى من شعث المحرمين والمجاهدين.
فيا لَشَرف رَكْب الملبِّين والطائفين! ويا لكرامة رءوس المحلِّقين والمقصِّرين! وناهيك ثم ناهيك بأنَّات التائبين وتأوُّهات الخاشعين، ومناجاة المنكسرين! هل أُتْعِبَت النفوس، وهل أُنْفِقَت الدراهم إلا في طاعة الله؟! وهل تُرِك الأهلون وعُطِّلَت الأعمال إلا طمعاً في جنة الله؟!
الإسلام هو الداعي، والإيمان هو الحادي.
لبيك لبيك لبيك، لا شريك لك، لبيك لبيك وسعديك، والخير كله بيديك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:26 - 28].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا.
وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(32/6)
مضاعفة الأوزار والآثام في بيت الله
الحمد لله أسكن من ذرية إبراهيم بواد غير ذي زرع فطابوا مقيلاً، وجعل أفئدةً من الناس تهوي إليهم فتطير بأجنحة الشوق بكرةً وأصيلاً، أحمده سبحانه وأشكره، قوله الحق: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله اتخذه خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ساروا على النهج، وحافظوا على العهد، وما بدلوا تبديلاً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس؛ فتقوى الله وقاية من عذابه، واحذروا المعاصي؛ فإنها موجبات غضبه وأليم عقابه، وهُبُّوا من الغفلات: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [لقمان:33] فلسوف يفاجئ الغافل ما ليس في ظنه ولا حسابه.
أيها المسلمون! هذا هو بيت الله، وهذا هو حرمه وفضله، فحقه أن يُعظَّم ويُكرَّم، ويُقدَّس ويطهر.
ألا فليتقِ الله المجترئون على حرمات الله، وليتق الله من لم يعظِّم شعائر الله، إن الذنب ليعظُم في حرم الله وجوار بيته، عليهم أن يطهروا نفوسهم من موبقات الذنوب، ويطهروا بيت الله من رجس الأعمال.
ليتقِ الله الغارقون في الملاهي، وأسبابها ووسائلها، وليتقِ الله أَكَلَةُ الربا، ومقترفو الزنا، ومتعاطو الخمور والمخدرات، أين أدب الجوار؟!
وأين وازع الإيمان؟! وأين شكر النعمة؟!
متى يتوب من لم يتب وهو في حرم الله؟!
أما علم هذا أن الله قد جعل قصد بيته مكفِّراً لما سلف من الذنوب؟!
{فمن حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه}.
يا هذا! إن الهَمَّ بالسيئة -وإن لم تُفْعَل- مُتَوَعَّد عليها بالعذاب والعقاب: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].
والإلحاد -وقاك الله-: كل ما خالف الشرع من ترك المأمورات أو فعل المنهيات، حتى عد بعض أهل العلم احتكار الطعام بـ مكة من الإلحاد في الحرم.
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [[لو أن رجلاً هَمَّ فيه بإلحاد وهو بـ عدن أبين لأذاقه الله عذاباً أليماً]].
أما علمت أن الله قد قَصَم عدوان المعتدين! ودَحَر جيش الغازي! ونُكِّسَت أعلام الباغي؟!
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1].
وهل ترى أعظم خسارةً وأقل نصيباً ممن أنعم الله عليه بزيارة بيته أو جوار حرمه، ثم كَرَّ على أعماله فهدم ما بنى، وشتت ما جمع، انتكس بعد هدى، وارتكس بعد الصفاء، وسوَّد صفحاته بأعمالٍ شوهاء؟!
وإن لضيوف الرحمن حقاً، فاعرفوا حقهم يا أهل الحرم.
أيها المجاورون في الحرمين الشريفين! اعرفوا لضيوف الرحمن حقهم، ولوفود بيت الله واجبهم من التكريم، وحفظ الحقوق، والصدق في معاملاتهم، وإرشاد ضالهم، والنصح في توجيههم، فأدوا لهم حقهم، واشكروا فضل الله عليكم، يا أهل الحرم!
وولاة الأمر في الحرمين الشريفين -وفقهم الله- قد بذلوا وأنفقوا، ووسعوا وجددوا، قياماً بحق الولاية، وشكراً للنعمة، وإكراماً لوفود الله، فشكر الله مساعيهم، وبارك في جهودهم، وتقبل منا ومنهم، فأروا الله من أنفسكم خيراً، واشكروا نعمة الجوار، واعرفوا حق هذه الديار.
ثم صلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين، المبعوث من هذه البقاع نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز قائلاً عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واخذل الطغاة والملاحدة وجميع أعداء الدين.
اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين.
اللهم أيد بالحق إمامنا وولي أمرنا ووفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، وأعز به دينك وأعلِ به كلمتك، وارزقه البطانة الصالحة، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك.
اللهم انصرهم في فلسطين، وفي كشمير، وفي كل مكان، اللهم أيدهم، وأعنهم، ولا تعن عليهم، اللهم قهم شر أعدائهم إنك سميع مجيب.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ، وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ؛ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(32/7)
الصائمون وتهذيب السلوك
نزول القرآن هو إذن من الخالق بهداية المخلوقين، بعد رحلة مريرة في أرجاء الظلام الحالك والضلال المريب، فكان شهر رمضان فاتحة لهداية الإنسان، وهو شهر لا يخفى أثره في حياة الأمة وتهذيب أخلاق المسلمين، وقد بينت هذه الخطبة بعض آداب الصائم وبعض المخالفات التي قد يقع فيها، بالإضافة إلى بيان موجز لبعض الطاعات التي ينبغي استغلال دقائق رمضان وساعاته الذهبية فيها.(33/1)
رمضان شهر الصيام والقرآن
الحمد لله، الحمد لله مصرف الأمور بأمره، ومعز الدين بنصره، ومذل الكفر بقهره، أحمده سبحانه وأشكره، أظهر دينه على الدين كله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مَن طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى بحسن العبادة ربه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، جاء بالصدق، وتأيد بالحق، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله البررة الأطهار، وأصحابه الأئمة الأخيار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله -رحمكم الله- وتقربوا إليه بطاعته وحسن عبادته، تعرفوا إليه في الرخاء يعرفكم في الشدة، توددوا إليه بذكره وشكره، والتحدث بنعمه، والإحسان إلى خلقه، فهو سبحانه معكم أين ما كنتم، من حاسب نفسه وألزمها طاعة ربه وجد ذلك عند الله مُدَّخراً، ومن ضيع وأهمل فسوف يجده محضراً: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30].
أيها المسلمون! شهر رمضان المبارك شهر أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، تنزل عليها فيه كتابها: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185] شهر حقق الله لها فيه كثيراً من انتصاراتها: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123] شهر فتح الله فيه مكة البلد الحرام، فقطع دابر الوثنية، وقوَّض بُنيانها: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] شهر رمضان شهر جهادٍ وجلاد، وجدٍّ واجتهاد، عبادةٌ ومجاهدة، يعيشه المسلمون في حركةٍ مستمرة، ليس شهر رهبانية ولا بطالة، شهر صيامٍ وقيام، وذكر وشكر، ودعاء وتبتل.
المسلمون بالصيام والقيام لا يعرفون الكسل ولا الملل، ولا يرضَون أن يعيشوا في ذيل القافلة، ولا في مؤخرة الركب، فربهم سبحانه يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها.(33/2)
أثر القرآن في حياة هذه الأمة
المسلمون هم أهل القرآن، والقرآن روحٌ من أمر الله، يُحيي رميم الأمم والهمم، ونورٌ يهدي إلى السبيل الأقوم: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
لقد قاد القرآن العزيز خُطَى هذه الأمة فجعلها خير أُمةٍ أخرجت إلى الناس، وجعلها الشاهدة على الأمم، والأمينة على القيم، فاستنقذت البشرية بإذن ربها من الظُلَم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143]، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
ولا يزال هذا الكتاب غضاً طرياً كما نَزَل، ولا يزال قادراً على تجديد شأن الأمة في أفرادها وجماعتها، يبعث فيها روح الحياة كلما خبت جذوتُها، أو ضعفت همَّتها.
ورمضان المعظم مطلع فجر الرسالة التي حررت الإنسانية من رق العبودية لغير الله.
في رمضان تنزل القرآن، فتقشع بنور الوحي ظلام الجهل، وقضى نهج الهدى على مسالك الضلال.
والارتباط بين شهر رمضان وتنزل القرآن شيءٌ عجيب!(33/3)
فضل الصيام وآدابه
إنَّ في النفوس نوازع شهوةٍ وهوى، وفي الصدور دوافع غضبٍ وانتقام، وفي دروب العمر خطوباً ومشاق، والصوم شهر الصبر والمصابرة، والقرآن شفاءٌ لما في الصدور.
الصوم ترويضٌ للغرائز، وضبطٌ لما في النفس من نوازع، الموفَّقون هم الذين يتجاوزون الصعاب، ويأخذون بالعزائم، ويفطِمون نفوسهم عن كثيرٍ من الرغائب، والطريق إلى المجد العالي لا يكون إلا بركوب المصاعب.
في الصوم تربيةٌ للإرادة الإنسانية، وبناءٌ لقوتها في الخير ومسالكه، وصرفٌ لها عن الشر ونوازعه، إرادةٌ تُهَذَّب بها الغرائز، وقوةٌ ينبثق عنها خلق المراقبة والمحاسبة؛ إن قوة الإرادة وصدق المحاسبة ينبت في النفس خُلُقاً يُمسك بزمامها عن الاستسلام للشهوات العابرة، والرغبات الجامحة، والأهواء الدنيئة، والإنسان لا يكون سوياً ما لم يملك إرادةً تضبط سلوكه، فتجعله صارماً يقظاً.
ومن أجل هذا فإن الصائم يجوع وهو على الطعام قادر، ويدع الماء وهو إلى الشراب محتاج، ولا رقيب عليه إلا الله، بل لا يخاف ولا يرجو إلا الله، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجل الله.
في الصيام الحق الألسنة صائمة عن الرفث والجهل والصخب، والآذان معرضة عن السماع المحرم، والأعين مصونة عن النظر المحظور، القلوب كافة لا تعزم على إثمٍ أو خطيئة، في النهار عملٌ وحركة، وفي الليل تهجدٌ وتلاوة، يُصاحب ذلك إيقاظ لمشاعر الرحمة، ودُرْبَة على المصابرة، وطاعة لله رب العالمين.
وفي المقابل! فإن ضعيف الإرادة وقليل المحاسبة يقع أسير شهواته، وعبد مشتهياته، لا تنتهي مطامعه، ولا تنقضي مطالبه، يجرُّه الشيطان إلى كل منحدر، وتهيم به النفس الأمارة بالسوء في كل وادٍ، ويتمزق كل مُمَزَّق، يتردى في التهلكة، ويعيش في دروب الشقاء إن لم تتداركه رحمة الله: {تعس عبد الدينار! تعس عبد الدرهم! تعس عبد الخميلة! تعس عبد القطيفة}.
أيها الإخوة! إن الصيام جُنَّة، وغاية الصيام عند الصائمين أن تصوم الجوارح كلها، لم يكن الصيام -يا أصحاب الإرادات- منعاً من المفطرات الحسية من الطعام والشراب والشهوة، ولكنه إلى جانب ذلك كفٌ عن مساوئ الأخلاق، وترفعٌ عن سفاسف الأمور: {الصيام جُنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم}.
كيف يكون صيام المغتاب والنمام؟!
أم كيف يتم صيامٌ عند شاهد الزور! وآكل أموال الناس بالباطل؟!
ومَن لم يكف عن هذه القبائح وأضرابها فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه.
وكيف يكون الصيام عند من يزيدهم الصيام ضيقاً في الصدور، وطيشاً في السلوك، وغضباً في التعامل، وما هذبت له العبادة عادة؟!(33/4)
جماع مخالفات الصائمين
أيها الصائمون والصائمات! ومن أجل مزيدٍ من الإيضاح، وفي مزيدٍ من النظر والتأمل ذكر أهل العلم أن جِماع المخالفات ومواطن ضعف الإرادات يتأكد في أمورٍ أربعة:
1 - فضول الكلام.
2 - وفضول النظر.
3 - وفضول المخالطة.
4 - وفضول الطعام.
وحظ الصائم من صيامه بمقدار ضبطه في ذلك وانضباطه.(33/5)
فضول الكلام
أما الكلام: فميزانه التوجيه النبوي الكريم:
{مَن كان يؤمن بالله واليوم والآخر فليقل خيراً أو ليصمت}.
و {مَن ضمن ما بين لحييه وما بين رجليه ضمنتُ له الجنة}.
و {إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب}.
ولقد قال بعض السلف: "ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه".
ومعلوم أن الكذب، والغيبة، والنميمة، والنفاق، والفحش، والمراء، وتزكية النفس، والخوض في اللغو، والكلام فيما لا يعني، والتحريف في القول، كله من طريق اللسان، ومن علامة إعراض الله عن العبد أن يُشْغِلَه فيما لا يعنيه.
ومن أجل هذا كان السلف إذا صاموا جلسوا في المساجد، يقولون: نحفظ صيامنا.(33/6)
فضول النظر
أما فضول النظر: فإنه يُوقع في غفلة، واتباع الهوى، ويورث حسرة وحُرقة، ويُذهب نور البصيرة، ويجلب الذل والمهانة، بل إنه يوجب استحكام الغفلة عن الله والدار الآخرة، حتى قيل في قوم لوط: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72].
فحق على المؤمنين والمؤمنات، والصائمين والصائمات أن يغضوا أبصارهم، ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم، ناهيكم -عباد الله- بمن ابتُلِي بالساقط من الفضائيات والقنوات، وشبكات المعلومات.(33/7)
فضول الخلطة
أما فضول الخلطة: فلا تكون السلامة منها إلا باجتناب من إذا تكلم لا يفيد، وإذا تكلمت إليه لا يُحسن الإنصات، كلامه ثقيل لا تطيقه الصدور، وإن سكت فأثقل من الرحى لا يُطاق حمله، ولا يُستطاع دفعه، لا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها، ولا يعرف غيره فيلزم أدبه، والخلطاء عند الحكماء ثلاثة:
1 - مَن خُلطته كالغذاء: لا يستغنى عنهم، وهم العلماء العاملون، والصالحون الناصحون.
2 - وخلطاء كالدواء: يخالَطون عند الحاجة في أمور المعاش والمشاركات، وأنواع المعاملات المباحات.
3 - وأما الثالث: فداءٌ سُقام: والداء درجات! منه ما هو عضال قتَّال، ومنه ما هو دون ذلك.(33/8)
فضول الطعام
أما فضول الطعام: فالقائد إليه شهوة البطن، وما أخرج الأبوَين من الجنة إلا الرغبة في الأكل من الشجرة، فغلبتهما شهوتهما فأكلا، فبدت لهما سوءاتهما، والبطن ينبوع الشهوات، والمعدة منبت الأدواء والآفات، وما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطن.
والاعتدال في الطعام يُورث الاعتدال في الطبع، والهدوء في القلب، وضعف الهوى، وقلة الغضب.
وقد أُثر عن بعض الحكماء: لا تأكلواً كثيراً، فتشربوا كثيراً، فتخسروا كثيراً.
ومن حكمة لقمان: إذا امتلأت المعدة، نامت الفكرة، وقلّت الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة.
ويكفي وعيداً على الاسترسال في الشهوات قول الحق تبارك وتعالى في أقوامٍ يومَ القيامة: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف:20].
أيها الإخوة! إن فضول هذه الأشياء إما أن تكون معاصي أو بريداً إلى المعاصي، وإن الصيام بحِكَمه وأسراره، والقرآن بهديه وآياته طريق جليٌ لتهذيبها، وسبيلٌ مستبينٌ لضبطها، توجيهاتٌ لإحكام لجام اللسان، وتقلبات البصر، وآداب في ضبط شهوة البطن والفرج، ذلكم هو الصوم في شيءٍ من حكمه وأسراره، يشعر العبد بضعفه وعجزه.
إنه الصيام! إنه منع مشروع من أجل تمام الخضوع والخشوع، إنه أستاذ الأمانة، ومعلم الصدق والمحاسبة، ومورث المراقبة لله رب العالمين، إنه السر بين العبد وربه.
فاتقوا الله -رحمكم الله- واعرفوا لهذا الشهر فضله، واحفظوا صومكم، وتعرضوا لنفحات ربكم، وأروا الله من أنفسكم خيراً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:185 - 186].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وأقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(33/9)
بعض مجالات المسابقة في الطاعة
الحمد لله جعل الصيام كفارةً للآثام، أحمده سبحانه وأشكره، فتح أبواب رحمته وضاعف الإنعام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أفضل من صلَّى وصام، وقام بالليل والناس نيام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله البررة وأصحابه الكرام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون! لئن كان الصيام كفاً عن المحرمات، وحجباً للنفس عن بعض المشتهيات، فإنه بجانب آخر ميدان للمسابقات في الأعمال الصالحات ذكرٌ لله، وتلاوةٌ لكتابه، واستغفارٌ، ودعاءٌ، وقيامٌ، وقنوتٌ، فاشتغلوا رحمكم الله بأنواع الطاعات.(33/10)
فضل الذكر والاستغفار
فالذكر قوتُ القلوب، به -بإذن الله- تُسْتَدفع الآفات، وتُكْشَف الكُرُبات، وتهون المصيبات، رياض جنة المتعبدين، ورءوس أموال المتاجرين، حتى قال بعض الصالحين: "عجباً من الناس! يبكون على من مات جسده، ولا يبكون على من مات قلبه! ".
وأرشد الحسن البصري -رحمه الله- رجلاً شكا إليه قسوة قلبه، فقال: أذِبْه بالذكر.
وأكثروا من الاستغفار، فإنه قليل الذكر، والعبد لو بلغت ذنوبه عنان السماء ثم استغفر ربه لوجد ربه تواباً رحيماً {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:110].
ولقد قال علي رضي الله عنه: [[ما ألْهَمَ الله عبداً الاستغفار وهو يريد أن يعذبه]].(33/11)
تلاوة القرآن وقيام الليل
وأكثروا من تلاوة كتاب ربكم، فإن شهركم هو شهر القرآن {شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57] وإن الله ليرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين، فكونوا من أهل القرآن (أهل الله وخاصته).
قوموا من الليل ففي الحديث: {نعم الرجل عبد الله! لو كان يصلي من الليل} وأفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل، كما في الخبر الصحيح.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍِ.
وترصدوا الأوقات الشريفة، وتحرَّوا ساعات الإجابة.
تقبَّل الله صيامكم وقيامكم وأصلح أعمالكم.
ألا فاتقوا الله ربكم، وأحسنوا أعمالكم، وصلوا وسلموا على محمدٍ النبي الأمي، فقد أمركم بذلك ربكم فقال عزَّ مِن قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأزواجه وذريته.
وارضَ اللهم عن الخفاء الأربعة الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى.
اللهم وفقه بتوفيقك، وأعزه بطاعتك، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!
اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُذَلُّ فيه أهل معصيتك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك.
اللهم انصرهم في كل مكان.
اللهم انصرهم في فلسطين، وكشمير، والشيشان اللهم أيدهم بتأييدك، وأعزهم بنصرك.
اللهم سدد سهامهم وآراءهم، واجمع كلمتهم، ووحد صفوفهم، وارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وقَوِّ عزائمهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم.
اللهم واخذل اليهود ومن شايعهم، اللهم عليك بهم، فإنهم لا يعجزونك.
إلهنا! إن هؤلاء اليهود قد طغوا وبغوا وظلموا وأفسدوا، اللهم فأرنا فيهم عجائب قدرتك.
اللهم وأنزل عليهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين.
اللهم من أرادنا وأراد المسلمين بسوءٍ فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره يا قوي يا عزيز!
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ؛ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(33/12)
القوة سِرُّ عز الأمة
إن القوة في الحق هي سر عز الأمة الإسلامية، ولا يعرف فضل القوة المؤيدة للحق إلا من شقي تحت وطأة الطغيان، وقد أمر الإسلام بالقوة التي تقيم بين الناس موازين القسط، وتبسط بينهم العدل، وقد أدرك أعداء الدين هذا السر، فعملوا على بث الوهن في نفوس المسلمين مما أدى بهم إلى حب الدنيا وكراهية الموت.(34/1)
القوة في الحق
الحمد لله؛ خلق الخلق فأتقن وأحكم، وفضَّل بني آدم على كثير ممن خلق وكرَّم، أحمده سبحانه حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، يليق بجلاله الأعظم، وأشكره وأثني عليه على ما تفضل وأنعم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأعزُّ الأكرم، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله المبعوث بالشرع المطهر والدِّين الأقوم، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فمن اتقى ربه فاز وسعد، ونال يوم الجزاء جميل ما وُعد، أخلصوا لربكم في العبادة والطاعة، والزموا الجمعة والجماعة، وبادروا الأعمار بصالح الأعمال، وأعدوا العدة ليوم لا بيع فيه ولا خلال، اعتبروا بما طوت الأيام من صحائف السالفين، واتعظوا بما أذهبت المنايا من أماني المسرفين.
أيها المسلمون! ما أجمل القوة في الحق حين تندفع برداً وسلاماً، فترفع المظالم النازلة على الأفئدة الكسيرة، وتطفئ الآلام المبرحة التي تحل بالمظلومين والمستضعفين، ولا يعرف فضل القوة المؤيدة للحق إلا من شقي تحت وطأة الطغيان دهراً طويلاً، إن الضعيف والمظلوم كليهما يستقبلان طلائع القوة وزمجرتها كبوارق صبح تشق دامس الظلام، ما أجمل القوة العادلة عندما تحق الحق وتبطل الباطل.(34/2)
فضل القوة في الحق
إن القوة التي تقيم بين الناس موازين القسط، وتبسط بينهم العدل، هي ما أمر به الإسلام، وربى عليه أتباعه؛ بل حضَّ على بذل النفس والنفيس من أجله، وفي الحديث الصحيح: {المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير} وفي التنزيل العزيز: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60].
الحق المسلوب لن يستطيع رده إلا رجال، لهم جرأة في الحق تربو على جرأة عدوهم في الباطل، وعندهم حرص على التضحية في سبيل الله أشد من حرص عدوهم على المؤامرة والسطو والاحتفاظ بمكاسب الحرام.
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].(34/3)
سر هزائم الأمة الإسلامية
إن ما ظفر به أعداء الأمة من سطو واستيلاء لا يرجع إلى خصائص القوة في أنفسهم بقدر ما يعود إلى آثار الوهن في صفوف أصحاب الحق.
ومع طغيان الأثرة، واستبداد الظلم، وانفلات موازين الحق والعدل؛ يبقى العالم محتاجاً إلى القوة التي تعرف العدل والنظام مثل حاجته إلى الطعام والشراب أو أشدّ، بل لا لذة لطعام ولا شراب إذا ساد الخوف وفشا الظلم.
أيها الإخوة المسلمون! لقد تغير الزمن على المسلمين، فانكمشوا بعد امتداد، ووهنوا من بعد قوة، وما ذلك إلا لسر؛ ولكنه ليس بسر، لقد كشفه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: {يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت}.
هذا هو مبعث الوهن الحقيقي، وذلكم هو سر الضعف المهين، أن تخرج الأمة إلى دنياها ومتاعها، فتعيش أسيرة لأوضاعها الرتيبة، متعلقة بشهواتها، لا هم لها إلا الرغائب المادية.
حب الدنيا يجعل الهمام ضعيفاً رخواً خواراً، يضعف أمام امرأة يحبها، أو شهوة يطلبها، أو لذة عارضة ينشدها.
وكراهية الموت تجعل الأفراد والجماعات يؤثرون حياة ذليلة على موت كريم، يؤثرون حياة يموتون فيها كل يوم موتاً من بعد موت، وذلاً من بعد ذل، على موتٍ كريم يحيون بعده حياة الخالدين.(34/4)
حياة الغثاء
حياة الغثاء لها سمتان:
أولاهما: خفة الوزن.
وثانيهما: التفكك والتحلل.
وكل ذلك يولد نتيجة مخيفة، إنها فقد السير على الصراط المستقيم، فالغثاء يساق مساق الزبد الجفاء على الأطراف والهوامش.
وفي أجواء الوهن والغثاء يتولد الخفافيش؛ ثرثرتهم أكثر من إنتاجهم، ودعاواهم أكثر من حقائقهم، وشهواتهم أملك لأزمتهم.
الأمة تعيش أزمات وهزائم، وهؤلاء خفافيش سامدون يضحكون ولا يبكون، وفي الأندية يتسامرون، وفي أجواء من الجدل العقيم يتفيقهون؛ بل هم في خوض يلعبون، ديدن كثير منهم التلاسن في القنوات والمحطات والكتابات، مما ولد موت الشعور، وعدم الاكتراث بأحداث الأمة وهمومها.(34/5)
آثار الوهن
في أحوال الضعف، وحياة الهوان، وهجواء الغثاء، ترى نفوساً تحللت من المعاصي، وشعوباً انحلت بالإسراف، وأقواماً تهدمت لحب الدنيا وكراهية الموت؛ وحينئذٍ ينتصر الكافرون، وينتفش المبطلون.
حين تضعف الأمة، يطمع فيها من لا يستطيع الدفاع عن نفسه، والقطيع السائب تفترسه الكلاب قبل الذئاب، المعارك يربحها أصحاب العقائد والمبادئ والتضحيات، ولا يربحها المهازيل عباد الشهوات، وأسارى الدنيا.
أي ذل وأي إهانة وأي وهن أكبر من أن يقتل فئام من العرب والمسلمين ولا يسمى ذلك إرهاباً، ويقيدون ويؤسرون ولا يعد ذلك ذلاً؟!
أما غيرهم من أبناء الأمم الأخرى، فإن اعتراض طريقهم، أو تهديد أمنهم، أو الوقوف في مصالحهم يعد جريمة كبرى، وينشئ أزمة عالمية، ويشغل المحافل الدولية، وتتردى أصداؤه في وسائل الإعلام الكبرى.
أوضاع حلت بالأمة في كثير من ديارها وأصقاعها، دكت كيانها، ومزقت شملها، وأغرت أعداءها بالانقضاض عليها.
أيها المسلمون! إن المسلم لا يقيم العزاء على شيء فاته، ولا يندب حظه لأمر نزل به، ولكنه ينظر ويتأمل، ويذكر سنن الله، فهو يفقه كل الفقه أن الانتصار والهزيمة ليست حظوظاً عمياء ولا هي خبط عشواء كلا ثم كلا! بل إن الأمور تسير إلى نهايتها وفق سنن الله ومقاديره، ولا مبدل لحكمه، وعند النظر والتحقيق والحساب الدقيق، تدرك أن الضعيف هو الذي فعل ذلك بنفسه، والمنتحر لا يتهم أحد بقتله، فهو قاتل نفسه.(34/6)
خطر أعداء الدين
إن الأعداء لم ينتصروا بقواهم الخاصة قدر ما انتصروا بضعف كثيرٍ من القلوب في إيمانها، وافتقار الصفوف إلى الوحدة والتراص.(34/7)
أسلحة أعداء الدين
أيها المسلمون! ليست أثقال القوة العسكرية، ولا القنابل الذرية، ولا أسلحته الجرثومية أخطر أسلحة عدونا.
إن أخطر أسلحة وأمضاها: زيوف الأفكار التي تسوق المسلمين إلى الدمار، وإطلاق الأهواء، والغرائز والشهوات، والأنانيات، وفشو المظالم، وهضم الحقوق، بعد اهتزاز ثوابت الإيمان، وضوابط الأخلاق، وبث روح اليأس والتيئيس في النفوس.
أيها الإخوة المسلمون! إن المتأمل في هزائم الأمة، وصراعها مع أعدائها، يدرك أن الجهود الماكرة للأعداء في ميادين التربية والتعليم والإعلام قد آتت كثيراً من أكلها، والمر من ثمارها.
من عشرات السنين وخطط الأعداء جادة في ذود الأجيال عن القرآن الكريم ذوداً، وتجهيلهم بدينهم تجهيلاً.
قوى كافرة ماكرة إذا احتاج الأمر إلى اللين لانت، وإذا احتاج إلى القسوة بطشت.
في لينها تدس السموم، وفي شدتها تقتحم الهمجية والجبروت، يخفرون كل ذمة، ويخادعون في كل قضية، الغاية عندهم تبرر الوسيلة، يجيدون العبث والتحريف والتجسس والإفساد.(34/8)
واجب المسلمين تجاه خطط أعداء الدين
أيها المسلمون! في هذه الأجواء كان ينبغي أن تكون الجباه مقطبة، والنفوس جادة غير هازلة، كان ينبغي أن يطير النوم من عيون الهاجعين.
أيها الإخوة الأحبة! ومع كل هذا فإن العدو الخطير أهون مما يتصور المتشائمون والمذعورون واليائسون والانهزاميون.
إن الانتصار على الأعداء ولو طال الزمن لا يتطلب إلا سلاحاً واحداً يستخدم بصدق وإخلاص وجد وعزيمة، إنه سلاح محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ سلاح الإيمان بالله، وإخلاص التوحيد والعبادة، والعمل بالإسلام، والسير على نهج محمد صلى الله عليه وسلم في السلم وفي الحرب.
يجب أن يعي المسلمون أن الإسلام وحده هو مصدر الطاقة الذي تضيء به مصابيحهم، وتنير به مشاعلهم، وبدون الإسلام ليسوا إلا زجاجات وقوارير فارغة لا يوقدها زيت، ولا يشعلها ثقاب.
ليس للمسلمين عز ولا شرف ولا حق ولا كرامة إلا بالإسلام، إنهم إن أنكروا ذلك، أو تنكروا له، فلن يجدوا من دون الله ولياً ولا نصيراً.
إنهم بغير الإسلام أقوام متناحرة، وقطعان مشتتة، بل سقط متاع، وأصفار من غير أرقام.
يجب أن تربى الأمة على الإقبال على المخاطر لتسلم لها الحياة؛ في دعائم موطدة من الدين القويم والخلق المستقيم، وفي دعاء صادق تنطلق به الحناجر: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147].
يجب تأصيل التعامل مع المستجدات والأحداث بنظرة إسلامية، واعتماد أجهزة الإعلام بالنظرة الإيمانية، وتوحيد مصدر التثبت في الأنباء على منهج القرآن المدلول عليه بقوله سبحانه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83].
أما اليأس والتيئيس فليعلم أن اليهود تحملوا العيش في الشتات آلاف السنين، ولم ينسوا مزاعمهم في أرضهم الموعودة، فهل يضطرب أهل الحق المسلمون لمتاعب عشرات السنين، تبلغ الخمسين أو الستين أو ما فوق ذلك، ويفرطون في حقوقهم؟! كلا ثم كلا.
إن الأمة بحاجة إلى تربية جادة، تصب الأجيال في قوالب الإيمان، وترصهم في ميادين الجهاد والمثابرة وطول الكفاح.
ولنا من حديث اليأس ما نحذر به الخصوم والأعداء، فحذار من دفع خصمك نحو اليأس.
إن غلق الأبواب، ومحاولة التضييق على الخصم في ركن أو زاوية، وسد فرص الاختيار يفجر طاقات الغضب والكبت، والانتقام والآلام.
إن هذا المسلك يدفع نحو مواقف متطرفة، يغذيها الحقد والتشفي والقمع الطويل.
وبعد -أيها المسلمون- فلنا من كتاب ربنا ما يربينا ويهدينا، ويدلنا ويرشدنا، فقد سرد لنا أنواع القصص، وضرب لنا روائع الأمثال، ثم قال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان:20]، وبالتربية القرآنية سوف تنبعث الهمة في الأمة، وينبت فيها الطموح والتطلع العالي، وهمك على قدر ما أهمك، وعلى قدر أهل العزم تكون العزائم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] نفعني الله وإياكم بالقرآن العزيز، وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(34/9)
القوة الإيمانية
الحمد لله؛ بلطفه تنكشف الشدائد، وبصدق التوكل عليه يندفع كيد كل كائد، ويتقى شر كل حاسد، أحمده سبحانه وأشكره على جميع العوائد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له في كل شيء آية تدل على أنه الأحد الواحد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، جاء بالحق وأقام الحجة على كل معاند، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه السادة الأماجد، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون! إن العظمة الإنسانية والقوة الإيمانية لا تعرف في الرخاء قدر ما تعرف في الشدة، والنفوس الكبار هي التي تملك أمرها عند بروز التحدي، ألا ما أسعد المجتمع بالأقوياء الراسخين من أبنائه، وما أشقاه بالضعاف المهازيل الذين لا ينصرون صديقاً، ولا يخيفون عدوا، ً ولا تقوم بهم نهضة، ولا ترفع بهم راية.
لقد ابيضت عين الدهر، ولم ترَ مثل المؤمن في قوته وبذله وفدائه.
المؤمن لا تخيفه قوة المادة ولا لغة الأرقام؛ فهو يقدم من ألوان التضحية، وضروب الفداء، وأنواع البذل، ما لا يصدقه الأعداء.
المؤمن لا يصرفه عن حقه وعد، ولا يثنيه عن همته وعيد، ولا ينحرف به الطمع، ولا يضله هواه، ولا تغلبه شهوة؛ فهو دائماً داع إلى الخير، مقاوم للشر، آمرٌ بالمعروف، ناه عن المنكر، هادٍ إلى الحق، فاضح للباطل؛ لئن كسر المدفع سيفه، فلن يكسر الباطل حقه.
المؤمن قوي؛ لأنه على عقيدة التوحيد وعلى طريق الحق، لا يعمل لعصبية جاهلية ولا من أجل البغي على أحد، إنه قوي بإيمانه، مستمسك بالعروة الوثقى، يأوي إلى ركن شديد: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:25].
المؤمن بإيمانه ليس مخلوقاً ضائعاً، ولا رقماً هملاً، ولو تظاهر عليه أهل الأرض أجمعون: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم:12].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واستمسكوا بدينكم، وتمسكوا بحقكم، وأحسنوا الظن بربكم و {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمد النبي الأمي، نبي الرحمة والملحمة، فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عز وجل قائلاً عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الدين، اللهم وانصر عبادك المؤمنين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم أيد بالتوفيق والتسديد إمامنا وولي أمرنا.
اللهم احفظه بحفظك، وأعزه بدينك، وأعل به كلمتك، وارزقه البطانة الصالحة، وأيده بالحق، وأيد الحق به، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم اغفر للمجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك.
اللهم انصرهم في فلسطين، وفي كشمير، وفي الشيشان، وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم اخذل أعداءهم، واجعل الدائرة عليهم يا رب العالمين!
اللهم إن اليهود المحتلين قد طغوا وبغوا، وآذوا وأفسدوا، وقتلوا وشردوا، اللهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم وأرنا فيهم عجائب قدرتك، واكفناهم بما شئت يا رب العالمين!
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلادنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين!
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(34/10)
الربا هو الدمار
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك خيراً إلا ودلنا عليه، ولا شراً إلا حذرنا منه، وإن الربا من أعظم الكبائر والشرور التي توقع الأمة في الدمار والخراب، وتسبب إنزال الوباء والغلاء والأمراض والأسقام.
وقد حذر الله منه وتوعد من حاربه به بالحرب في الدنيا قبل الآخرة.(35/1)
جريمة الربا وخطرها الديني والمادي
الحمد لله الواجب حمده، المتعالي جده، أحمده سبحانه وأشكره على آلائه العظام، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على الدوام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عظم حلمه فعفا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله النبي المصطفى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الشرفاء، وأصحابه الحنفاء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى، أثبت ما أثبت ونفى ما نفى.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله -رحمكم الله- واحذروا الدنيا فإنها حلوة خضرة حُفت بالشهوات، وتحببت بالعاجلة، وتحلَّت بالآمال، وتزينت بالغرور، لا يدوم نعيمها، ولا تُؤمن غوائلها، غرارة ضرّارة، وصفها ربكم عز شأنه بقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف:45] لا زاد فيها مُدَّخر إلا زاد التقوى، ألا فاتقوا الله رحمكم الله!
أيها المسلمون! إن الأمة لتبلغ الأفق الأعلى من العز والمجد؛ حين تحفظ دينها، وتصون أخلاقها، وتحمي أوطانها، وترسخ سيادتها، وتحسن التدبير في مالها واقتصادها.
هذه المقاصد الكبرى، لا تتحقق ولا تحفظ ولا تُحمى إلا بعنصرين عظيمين: عزة النفس وقوتها، وتنمية المال وحسن إنفاقه، تعز النفس وتقوى بالمجاهدة والجهاد، مع صحة المعتقد والاستقامة على الحق وإعداد القوة، أما المال وكسبه وإنفاقه فهو السلاح المضَّاء، والعصب العاصب، يحرك الأمم، ويهدد الدول، ويفجر الحروب.
لا يمكن للأمة أن تبني مجدها وتواجه أعداءها بعد سلاح العقيدة وزاد الإيمان؛ إلا بسلاح المال، وقوة الاقتصاد، وحسن التدبير والمسارعة في العطاء والبذل، ومن ملك المال ملك النفوذ، وذهب أهل الدثور بالأجور، والجهاد بالمال قرين الجهاد بالنفس.
أيها الإخوة المسلمون! إن أجزاءً كثيرةً من هذا العالم في حالٍ من التدهور، سريع أو بطيء، ظاهر أو خفي، وإن كثرة كافرة من أمم الأرض تعمل ويكسب غيرها، وتتعب ويستريح غيرها، وتشقى ويسعد غيرها، وتبأس وينعم غيرها.
أيها المسلمون! لم يحدث أن شاع الفساد وعمّ الاضطراب مثلما شاع في هذه الأزمان المتأخرة، ومع هذه الحضارات المعاصرة؛ سادت الفاحشة، وفشا الخمر، وانتشر القمار والميسر فسادٌ يدخل من كل باب -إلا ما رحم ربي- في هذا العالم المادي المكفهر، والذي تتطور فيه تقنيات التصنيع والإنتاج، فلا ترى إلا التضخم والبطالة وكساد سوق العمل.(35/2)
الربا من أعظم أسباب الفساد
أيها الإخوة! وهذه وقفة مع سببٍ من أعظم أسباب هذا الفساد -إن لم يكن أعظمها وأكبرها وأفحشها- ذلكم هو الربا والمرابون وأكلة الربا، صورة كُبرى من أكل أموال الناس بالباطل، لقد جُرَّت كثيرٌ من الأمم رويداً رويداً إلى التورط في التعامل بالربا، ووقعت في لهيبه الحارق وشباكه الملتوية؛ مما جعل كثيراً من العقلاء والمستبصرين يرون أن هذا التوريط من أكبر الجرائم الأخلاقية والاقتصادية والسياسية ناهيك عن المخالفة الشرعية.
ما أضعف كثيراً من الأمم إلا أكل الربا والتعامل به، وإذا كان الدَّيْنَ في حق الأفراد هماً بالليل وذلاً بالنهار؛ فإنه في حق الأمم ذلٌ وفقر وانتقاص لكرامة الأمة، ونيلٌ من مصالحها الوطنية، عقلية ربوية قاسية جعلت بلداناً كثيرة مدينة بمئات الملايين والمليارات في أرقامٍ فلكية لا يكاد يُحصى عدها، وما زادها ولا ضاعفها ولا أعجز أصحابها عن سدادها إلا ما يسمونه بمصاريف وخدمات وفوائد الديون، شعوبٌ عصف بها الفقر بسبب الديون الربوية، وبيوتٌ اجتاحها الخراب بسبب أكلها الربا.
أيها المسلمون! المرابي أنانيٌ متسلط، واسع الحيلة ماكر التصرف ناعم الملمس كاشر الأنياب دينه حب المال، ومتعته ابتزاز المحتاجين.(35/3)
آثار الربا على الأفراد والأمم
الربا استعباد للأمم والأفراد، واستغلالٌ للجهود والعرق، تحت ضغط الحاجة، والعوز في ساعات الضيق والأزمات.
الربا معاملة شرسة لا تعرف الرحمة ولا الإنسانية.
الربا يقوم على نهب أموال الكادحين، وابتزاز خيرات الدول، وسرقة جهد المجتهدين بأبخس الأثمان وأقل التكاليف.
المرابون لا تزيد ثرواتهم إلا إذا كثرت مصائب الناس، وعظمت حاجاتهم، في الأزمات والحروب ترتفع نسب فوائد الربا وعوائد التأمين، إنها أحكامٌ وتشريعات حسب الأهواء والأطماع لا بحسب المصالح الحقيقية للناس والشعوب.
إن فشو الربا يعني خلق الأزمات الاقتصادية، وحلول الكوارث المالية والجوائح المعيشية.
الربا ظلام على الإنسانية في إيمانها وأخلاقها واقتصادها ومعيشتها وصميم حياتها، يمحق سعادة البشرية، ويعطل نموها المتوازن.
بالربا تصبح المجتمعات مرتعاً للكراهية والحقد والبغضاء والشحناء، وميداناً للتنافس غير الشريف الذي تغتال فيه القيم، وتتضاءل معه محاسن الأخلاق.
فشو الربا نذيرٌ بضياع الثروات ومحق البركات، ما التضخم والبطالة والكساد إلا آثارٌ من آثار الربا، الأموال كثيرة، والسيولة متوفرة؛ ولكنها في خزائن المرابين من الأفراد والمصارف والدول.
المصانع تستغني عن عمالها، والشركات تسرح أعداداً هائلاً من موظفيها، والمرابون يقبضون أيديهم، الناس بحاجةٍ إلى السلع والخدمات ولكنهم لا يجدون المال، فتحدث حينئذٍ الهزات الاقتصادية، وتتنزل الكوارث المالية، وتنهار الأسعار، وتضطرب الدورات التجارية، وتفقد العملات قيمتها.
إن الشح في الموارد، والاختناقات في الخدمات، ما هي إلا آثارٌ من آثار الربا الكالح.
فشو الربا يضعف الإنتاج، فالمرابي يكنز ماله ويدخره للحصول على عائدٍ مضمون، ولا يعرضه للمخاطرة، ومن المعلوم لدى المرابي أنه كلما نقص سعر الفائدة زاد الإنتاج، وحينئذٍ تزداد فرص العمل وميادين التشغيل في المعاملات الربوية، الدائن المرابي رابحٌ دائماً، والمديون المكافح هو وحده المعرض للربح والخسارة، ومن المعلوم جزماً أن المال سيئول كله للذي يربح دائماً وهذا ما عليه حال كثير من المصارف الربوية والدول الربوية.
فمعظم المال على وجه الأرض عند فئات محدودة من المصارف وبيوت التجارة، ومن عداهم من الملاك وأصحاب الأعمال والاستثمارات ليسوا سوى أُجراء أو شبه أُجراء يعملون لحساب هذه الفئة المحدودة من أكلة الربا الذين يجنون ثمرات كد الآخرين، وعرق جبين الكادحين.
معاملات ربوية محرمة قاتلة مهلكة تفرزها المصارف الربوية والتعاملات المحرمة، بعيدة عن أخلاقيات التعامل، وضوابط التعايش، وتبادل المصالح.
معاملاتٌ محكومة بمرض التنافس على تكديس الأموال والتهامها، وامتصاص ثروات الشعوب وانتهابها واستلاب جيوب الناس وابتزازها، تحت دعوى النظام العالمي والتجارة العالمية، وما حقيقتها وما مآلاتها إلا حصر للأموال في البطون الواسعة؛ لرهطٍ من المرابين، وتضييق سبل البيع الحلال، وإضعاف طرق الاكتساب المستطاب.
إن ارتفاع الفوائد الربوية يعني ارتفاعاً مبالغاً في الأسعار دون أن يقابل هذا الارتفاع في الأسعار إنتاجٌ أو جهدٌ إنتاجي، وهذا يزيد من مديونات العالم دون زيادة مماثلة في الإنتاج.
إن هذه الفوائد يصعب سدادها، وهي تزداد يوماً بعد يوم من مئات الملايين إلى ملياراتها، وهذا هو التضخم القاتل.
إن عملات العالم تنتحر وتتدهور وتنهار، إنها بالونات لا تزال تمتلئ بالهواء الفاسد حتى تنفجر، ولسوف يعقب ذلك كسادٌ ما بعده كساد.
إن الفوائد الربوية تهدر قيمة النقود، وتهبط بقيم العملات، وتنسف النظام النقدي.(35/4)
السعادة الحقيقية في ترك الربا والتعامل الحلال
أيها الإخوة في الإسلام! لا سعادة لأهل الأرض كلهم ولا خير ولا بركة إلا بترك الربا، وإسقاطه من المعاملات والتعاملات، إن المخرج هو بناء نظام اقتصادي جديد، خالٍ من الربا والفوائد الربوية قليلها وكثيرها.
إن من المسلمات في عقيدة كل مسلم أن الله -سبحانه وتعالى- لا يمكن أن يحرم شيئاً وتكون البشرية بحاجة إليه، بل لا يمكن أن تصلح به الحياة، إن المصدر المشروع للكسب وسبيل الاستقرار في الاقتصاد هو العمل والجهد والعقل والتخطيط.
وكل إنسانٍ إذا استخدم قوته البدنية، وعقله المفكر، فإنه سوف يكسب حاجته وفوق حاجته بإذن الله، وسواءٌ في ذلك الأفراد أو الأمم.
إن الغنى الحقيقي ليس في تكديس الأموال وكنزها واحتكارها، ولكن الغنى الحقيقي في الاستغناء بالكسب وفتح سبله.
أيها الإخوة! العمل في ديننا قرين الجهاد في سبيل الله: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل:20] وكل نبيٍ كان له عملٌ وحرفة، وما من نبيٍ إلا رعى الغنم، وما أكل نبي الله داود إلا من عمل يده، وعمر بن الخطاب اشتغل بالصفق في الأسواق، وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف مع جملة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا من أصحاب رءوس الأموال الكبيرة في كسبٍ شريف وعملٍ منتج جهزوا بها جيوش الجهاد، وفكوا بها بوائق الأمة ليس فيها درهم ربا.
إن ثروة الأمم الحقيقية هو عمل أبنائها وجد أهلها وعمل الأمة المباركة في إنتاجها لحاجاتها في غذائها وكسائها ودوائها وسائر مطالبها، ونظامنا أهل الإسلام نظامٌ عدل في معاملاته وطرق كسبه لا يطغى فيه قويٌ على ضعيف، ولا غنيٌ على فقير، ولا يكون فيه المال دولة بين الأغنياء، من أجلَّ هذا أحل الله البيع وحرَّم الربا، فالنقود لا تلد نقوداً، ولكن المال ينتج بالعمل والتبادلات التجارية والتعرض للربح والخسارة من قبل الجميع.
تبادلٌ في المنافع، قد جعل الناس بعضهم لبعضٍ سخرياً، ولم يجعل الله لأحدٍ حقاً بغير عمل، أو بدون مقابل.
أحلَّ الله البيع؛ لأن فيه عوضاً وتعاوضاً، وحرم الربا؛ لأن فيه زيادة لا مقابل لها، نظام الأخلاق ونظام الاقتصاد مترابطان فلا يقوم اقتصادٌ صحيح بغير خُلقٍ حسن.
إن منع الربا يحمي المجدين العاملين الشرفاء، الذين يتعاطون الأعمال الشريفة، والمشروعات المنتجة، ويضرب على أيدي مصاصي دماء الشعوب وكدها، لقد زعموا -وبئس ما زعموا- أن الربا حاجة ملحة وضرورة عصرية، لا غنى للاقتصاد عنها، ولا قيام للمصارف بدونها، وهذا محض افتراء! فالربا هو الدمار والخراب، ولكن بعض المهزومين، المتعلقين بالأعداء لا يستطيعون أن ينظروا بغير منظارهم.
الربا هو أحد المنافذ التي تمكن منها الأعداء من ثروات كثيرٍ من الأمم ولو كانت هذه الدعوى صحيحة، فها هو الربا قد انتشر في الأرض انتشار السرطان، وهاهي قلاع الربا قد نبتت وبنيت في كل صقعٍ من أصقاع الدنيا صغيرها وكبيرها غنيها وفقيرها والصغير والفقير لا يزال يُعاني من التخلف والقهر والاستعباد والفقر، فهل أغنتكم قلاع الربا؟
وبعد أيها الإخوة! فإن العالم يسير بسرعة مخيفة نحو كارثة اقتصادية بلا حدود، وإن هذه الكارثة لا ترجع إلى أن موارد الخير والرزق في الأرض قد تناقصت، فالموارد للإنسان والحيوان لا تزال في ازدياد، وتقنيات التصنيع في إنتاج الغذاء الكساء والدواء وغيرها ماثلة للعيان.
بل إن بعض الدول تلقي بفائض إنتاجها في البحر حتى لا تنخفض الأسعار، وما يصرف في سباق التسلح يكفي عشر معشاره لرفاه البشرية كلها: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة:10] ولكنها آثار ومحق الربا، وآثار إعلان الحرب من الله ورسوله، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:278 - 281].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(35/5)
الأدلة على تحريم الربا
الحمد لله على ما أخذ وأعطى، وعلى ما ابتلى وأبلى، أحمده سبحانه وأشكره، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، نبي الهدى، وخاتم الأنبياء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون! كتاب ربنا قد جاء بالقول الفصل في أمر الربا، في خبرٍ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولكن ومع كل هذا فلا يزال الناس بحاجة إلى التذكير به، وبيان حرمته، وشدة خطره، وعظيم أثره وآثاره.
إن كثيراً من بقاع العالم غارقة في أوحال الربا، وتحيق بها نذر لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحيط بها الإعلام والإعلان والإيذان بحرب الله ورسوله، إنها تلاحق العالم وتزلزل أركانه: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27].
تحريم الربا من المعلوم من الدين بالضرورة في نصوص قطعية من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:271 - 276].
وفي الحديث الصحيح: {لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء} وهو أحد الموبقات السبع الغامسات في الإثم، وهو قرين للشرك والسحر وقتل النفس بغير حق، وفي الحديث: {درهم ربا أشد من ستة وثلاثين زنية في الإسلام} رواه أحمد والدارقطني، ورجال أحمد ثقات، {وإن أربى الربا أن يستطيل المسلم في عرض أخيه} والأحاديث في ذلك كثيرة في عقوبات الدنيا والآخرة.
الربا كسبٌ خبيثٌ محرم مشئومٌ، وسحتٌ لا خير فيه ولا بركة، الربا محاربة لله ورسوله، وكفى في ذلك خطراً ونذراً، ومن ذا الذي يطيق مواجهة حربٍ مع الله ورسوله؟!
وإن آثار هذه الحرب لمخيفة -نسأل الله العفو والسلامة- نقصٌ في الأموال والثمرات، وجدبٌ وغرق وأوجاعٌ مستديمة، وأمراضٌ مستعصية، وحرمانٌ من اللذائذ والطيبات والمتع المباحات، مع ما يصيب الناس من الهم والحزن والعجز والكسل والشح وأسباب القلق، وموجبات الأرق، وعصابات الإجرام، وأنظمة الجور على الأنفس والممتلكات! ألم تقرءوا: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:160 - 161].
وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما ظهر في قومٍ الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله} رواه أبو يعلى والهيثمي، وإسناده جيد.
أيها الإخوة! إن على أهل الإسلام أن يُطهروا عقولهم ونفوسهم، ويوقنوا بأن الطريق المستقيمة واضحة المعالم، ولكن السير فيها لا يتيسر إلا لذوي الاستقامة، فإن الظل لا يستقيم إذا كان العود أعوج.
فاتقوا الله -رحمكم الله- وتأملوا في أنفسكم وحاسبوها، ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أمركم، بذلك ربكم، فقال عز من قائلٍ عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، والخلق الأكمل، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، الذين قضوا بالعدل وبه كانوا يعدلون: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
وعنَّا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واخذل الطغاة وأعداء الملة والدين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم أيد بالحق والتوفيق إمامنا وولي أمرنا، اللهم انصر به دينك، وأعل به كلمتك، وأعز به أهل الحق، وارزقه البطانة الصالحة، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم ارفع عنا الغلاء، والوباء، والربا، والزنا، والزلازل، والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين!
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك، لإعزاز دينك، وإعلاء كلمتك، اللهم انصرهم في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وكشمير وكوسوفا وفي كل مكان يا رب العالمين!
اللهم انصرهم وأيدهم، اللهم انصرهم على الصهاينة الغاصبين، والصرب الحاقدين، والوثنيين الظالمين.
اللهم كن لهم، وسدد سهامهم وآراءهم، اللهم واجعل الدائرة على أعدائهم، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا و(35/6)
اللغة عنوان سيادة الأمة
لغة الأمة ميزان دقيق ومعيار أساس في حفظ الهوية وتحديد الذات، فهي شريان الأمة، وأداة الحضارة.
والمسلمون اليوم قد أصيبوا بانهزامية في لغتهم وفي أخلاقهم ومظاهرهم، فمن مظاهر الانهزامية في اللغة عند المسلمين: تعميم اللغة الأجنبية، وانتشارها في أسماء المحلات والسلع والأطعمة، وكذلك التحدث بها لغير حاجة.(36/1)
اللغة العربية وأهميتها
الحمد لله؛ وهو الأحق أن يحمد، سبحانه وبحمده هو الواحد الأحد الفرد الصمد، أستغفره وأتوب إليه، وأشكره وأثني عليه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه، عطاؤه جزيل، وفضله عميم، وخزائنه لا تنفد، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، نبيٌ لا يكذَّب، ورسول لا يعبد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ساروا على هدي محمد، فكانوا بالخير أسعد، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وأخلص لربه وتعبد.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله؛ فتقوى الله هي الوصية الجامعة، والذخيرة النافعة، واستعدوا للمنايا فهي لا بد واقعة، واحذروا زخارف الدنيا المضلة، فمن استكثر منها فما ازداد إلا قلة، وليكن استكثاركم وازديادكم من التقوى فهي خير زاد.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]
أيها المسلمون: من أحب الله أحب رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، ومن أحب رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أحب لغة القرآن الكريم، فهي لغة كريمة نزل بها أفضل كتاب، ونطق بها أفضل مخلوق صلى الله عليه وسلم.
هي وعاء علوم الدين، وذخائر التراث، لا تكون معرفة القرآن والسنة إلا بها، ولا يتم فهم علومهما ومقاصدهما بدونها، تعلمها وإتقانها من الديانة، فهي أداة علم الشريعة ومفتاح الفقه في الدين.
أيها الإخوة المسلمون: إن لغة الأمة ميزانٌ دقيق ومعيارٌ أساس في حفظ الهوية وتحديد الذات، فهي شريان الأمة، وأقنوم الحضارة، ومصدرٌ عظيمٌ من مصادر القوة، وإذا أضاعت أمة لسانها أضاعت تاريخها وحضارتها، كما تضيع حاضرها ومستقبلها.
إن اللغة من أهم ملامح الشخصية الإنسانية إن لم تكن أهمها، وهي التي تربط المرء بأهله وأمته ودينه وثقافته، فهي التاريخ، وهي الجغرافيا.
اللغة مظهرٌ من مظاهر قوة الابتكار في الأمة، فإذا ضعفت قوة الابتكار توقفت اللغة، وإذا توقفت اللغة تقهقرت الأمة، وإذا تقهقرت الأمة فذلكم هو الموت والاضمحلال والاندثار.
إن شواهد التاريخ قديمها وحديثها تظهر بجلاء: أنه لم تتقدم دولة ولم تشيد حضارة ما لم تكن العلوم والتعليم بلغة الأمة نفسها لا بلغة أجنبية عنها.(36/2)
منزلة اللغة العربية وقوتها
أيها المسلمون: وفي شواهد التاريخ -أيضاً- استطاعت لغة القرآن الكريم أن تحقق متطلبات المجتمع التاريخية عبر الأحقاب المختلفة، بكل المستويات الدينية والعلمية، والاقتصادية والاجتماعية، والسياسية والعسكرية في عصر النبوة، ثم في عصر الخلافة الراشدة، ثم في حكم بني أمية، وما رافقه من تعريب الدواوين، ونظم الإدارة للمجتمعات المختلفة، والأقاليم والجيوش والحياة العامة، كما استجابت اللغة لحاجات الحضارة أيام بني العباس وما واكبها من حركة الترجمة، بل هي لا غيرها كانت لغة العلم والبحث العلمي في الطب والعلوم والرياضيات والفلك والهندسة وغيرها.
إن الدولة الإسلامية على مر عصورها لم تأخذ من الأمم في احتكاكها معها إلا بمقدار الحاجة الماسة للتعبير عن بعض المعاني التي لم تكن موجودة في لغتها، ولم تفتنهم لغات هذه الأمم رغم حضاراتها العريقة، كفارس والروم واليونان، بل زادهم ذلك تمسكاً وحرصاً.
والعجيب في هذا التاريخ الإسلامي العظيم، وهذا الدين الأخاذ: أن أبناء الأمم الأخرى هم الذين كانوا يتسابقون إلى تعلم لغة القرآن، لغة الدين والعلم! بل هم الذين نبغوا فيها، وشاركوا على نحوٍ مدهش في وضع قواعدها، وجمع معاجمها، انطلاقاً من الشعور الإسلامي الرائع الذي أحلَّ لغة القرآن أرفع المنازل؛ لأنها لغة الدين والتنزيل، وفي كل أرجاء الأمة وأصقاعها تتردد أصداء هذا الحديث النبوي فيما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن العربية ليست لأحدكم بأبٍ ولا أم، إنما هي اللسان فمن تكلم العربية فهو عربي} والحديث ضعيفٌ في إسناده، ولكنه صحيحٌ في معناه، كما يقرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.(36/3)
استهداف اللغة العربية من قبل أعدائها
أيها الإخوة في الله: وإذا كانت لغة القرآن ولغة الإسلام بهذه القوة، وبهذه المقدرة، وبهذه المنزلة؛ فلا غرابة أن تكون مستهدفة من أعدائها، فلقد علم المشتغلون بدراسات التاريخ المعاصر، والمتابعون لمسيرة الاستعمار وسياساته أن التهجم على اللغة والتهوين من شأنها، والسخرية من المشتغلين بها، والتهكم بها في وسائل الإعلام والقصص والروايات والمسرحيات، في سياساتٍ مرسومة وحملات مكثفة، ثم تلقف ذلك من بعدهم وعلى طريقهم أبناءٌ وأجراء وعملاء نعم.
ليس من المستغرب أن تتعرض لغة شعبٍ من الشعوب في مرحلة الغزو والاحتلال إلى الإذابة والمحو؛ لأن اللغة معلمٌ بارز في تحديد الهوية، وإثبات الذات، فكيف إذا كانت اللغة هي لغة القرآن ولسان الإسلام؟!
وقد يكون من غير الحصيف -أيها الإخوة- أن نلوم أعداءنا فيما يقومون به من أجل مصالحهم، وتحقيق أهدافهم، وسعيهم في تحكيم غيرهم، ولكن الأسف والأسى أن يصدر ذلك ويتبناه فئات من بني قومنا، تعلقوا بالأجنبي وولوا وجوههم شطره ثقافياً وفكرياً، وأصبحوا ينظرون إلى ثقافة الإسلام بازدراء، وإلى لغة القرآن باحتقار، والأجنبي لم يضمن ولاءهم اللغوي فحسب، ولكنه ضمن ولاءهم الفكري والسياسي.(36/4)
ترك اللغة من مظاهر الانهزامية
لماذا هانت علينا أنفسنا؟
ولماذا هانت علينا بلادنا؟
ولماذا هانت علينا لغتنا -لغة ديننا ولغة قرآننا-؟
إنما أصاب الأمة من ظروفٍ سياسية واقتصادية، وضعفٍ في الديانة، أدى إلى ركود الفكر، وضعف الثقافة، حتى آل الأمر إلى هذه التبعية المشينة، إن الأزمة أزمة عزة لا أزمة لغة، وأزمة ناطقين لا أزمة كلمات.
إن اللغة لم تضعف ولم تعجز، ولكن ضعف أبناؤها، وقصَّر حماتها، وإن من الظلم والحيف أن يتهم هؤلاء الأبناء العاقون الكسالى لغتهم من غير حجةٍ ولا برهان، ضعافٍ في أنفسهم، مهابيل في طموحاتهم، يرهبون أنفسهم بثورة المعلومات، وترتجف قلوبهم بتقدم التقنيات مسكينٌ هذا المثقف الذي ضعف وتخاذل، فشرَّق وغرَّب يفتش لعله يجد ميداناً أو مدخلاً ما الذي يريده هؤلاء المساكين؟
هل يريدون أن ينسلخوا من هويتهم؛ فيهاجروا بألسنتهم وعقولهم إلى أعدائهم، ويتحولوا إلى مخلوقاتٍ تفكر بعقولٍ غير عقولها، وترطن بلسانٍ غير لسانها؟!
هل يتخلون عن هويتهم ودينهم وعزهم بسبب نظرة ضيقة، ومنفعة آلية؟ هي في مآلها ومصيرها ضررٌ ماحق، وخطرٌ داهم، وبلاءٌ مغدق؟
أيها المسلمون: ويزداد الضعف ويتجلى الهوان عند هؤلاء المشككين حين يتفوهون بقولهم: إن استخدام لغة الأمة قد يسبب عزوف الطلاب عن إتقان اللغة الأجنبية؛ مما يؤدي إلى ابتعادهم عن الأبحاث الجديدة والتطور السريع!
ويحدثك آخرون عن سوق العمل: فترى مخذولين، مبهورين، يفاخرون في بعض كلياتهم وأقسامهم بأنهم يدرسون جميع العلوم لديهم بلغة أجنبية؛ بحجة أن سوق العمل يتطلب ذلك، وهي حججٌ يعلم الله ويعلم المؤمنون، ويعلم العقلاء أنها واهية، بل هي -والله- أوهى من بيت العنكبوت لو كانوا يعلمون.
ولكنها أحوال تذكر بعبودية التسلط والاستعمار في بعض البلدان في الماضي، وما أشبه الأجواء الثقافية لعهد العولمة الحاضر بالأجواء الثقافية بعهد الاستعمار الغابر، من حيث جعل الاستلاب الديني عن طريق الهجوم الشرس على اللغة وزعزعتها في حياة الأمة، وإحلال اللغة الأجنبية بمسوغات بالية.
وحين يحدثونك عن اللغة وسوق العمل ليتهم يحدثونك عن مصطلحاتٍ علمية، وتقنيات متقدمة، واتصالٍ بالجديد من العلم والتقنية، ولكنه -مع الأسف- ليس سوى إتاحة لعمالة وافدة متوسطة التأهيل ومتدنية الكفاءة، تتربع على مواقع العمل في المؤسسات والشركات، والأسواق والتجارة، مهمتهم عرض البضائع، وترويج السلع، وترتيب المستودعات، وقيد السجلات، وضبط المراسلات سوق عملٍ مخزي، تحولت به المستشفيات والفنادق وبعض أقسام الجامعات وبعض الأسواق ومعارض البضائع والتجارات، واللوحات الإعلامية والتجارية، تحول كل ذلك إلى بيئات أجنبية، يتبادل فيها أبناء الأمة لغة أو لغات أجنبية، حتى تحولت قوائم الأطعمة والسلع والأسعار إلى اللغة الأجنبية، وفرضت وجودها وأنماطها على شرائح واسعة من أجيال الأمة؛ فاضطربت لغة التفاضل، وفسدت الألسن، وزادوا تخلفاً إلى تخلفهم، وضعفاً إلى ضعفهم، وامتلأت سوق العمل بالوافدين من غير حاجة حقيقية، ويريدون من أبناء الأمة أن يتحدثوا اللغة الأجنبية من أجل هؤلاء، زاعمين أنهم بهذا يهيئون لأبنائهم فرص العمل.(36/5)
وجود الوافدين ليس مسوغاً لترك اللغة العربية
أيها المسلون: أيها المخلصون: إن وجود وافدين -مهما كان عددهم، ومهما كانت الحاجة إليهم، بل مهما كان مستواهم العلمي والفني- لا يجوز أن يكون سبيلاً للتفريط في السيادة على أرضنا.
وقد علم العقلاء والاجتماعيون -فضلاً عن العلماء والمربين- أن اللغة من أهم مظاهر السيادة، وكم تمزقت بلاد حين تعددت لغاتها، بل لقد ظهرت مبادئ انشقاقٍ وطني في بعض الشعوب، وتصدعت صفوفها، وتسببت في إثارة الفتن والنعرات من أبناء البلد الواحد، مما تشاهد آثاره المدمرة ماثلة أمام العيان والأعداء لنارها يوقدون.
إن من الغفلة الشنيعة الزعم بأن مصلحة السوق ودواعي الاستثمار تتطلب لغة أجنبية، فكل بلاد العالم -ولا سيما المتصدرة منها قائمة التقدمية- لا يمكن أن تؤثر شيئاً على لغتها مهما كانت الأسباب والدواعي والدوافع أما كان الأجدر بهؤلاء -إن كانوا وطنيين مخلصين- أن يجعلوا التحدث بلغتنا شرطاً في العمالة الوافدة بدلاً من إجبار أبنائنا أن يتحدثوا لغة أجنبية من أجل هؤلاء الوافدين؟! إن هذا -والله- لانتكاسة عجيبة.
وبعد: أيها الإخوة! وفي محاسبة جادة، ومساءلة صادقة: إن كثيراً من الشعوب الموصوفة بالنامية قد انزلقت في تعليم أو تعميم اللغة الأجنبية في أبنائها، فماذا أفادت؟ وماذا استفادت؟ هل خرجت من فوق النامية هذه؟
إن أعداءكم اليهود قد أحيوا لغة لهم مندثرة، لا حضارة لها ولا تاريخ؛ فأصبحت هي لغة العلم والأدب والحياة، إن أي أمة تروم التقدم والقوة والعزة والاعتماد بعد الله على نفسها؛ لا يمكن أن تمتلك زمام العلم والتقنية إلا حين تعلم ذلك كلها بلغتها.
{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ * أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء:192 - 197].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(36/6)
حاجة الأمة إلى سياسة لغوية
الحمد لله على توفيقه وهدايته، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه لا منتهى لغايته، وأستغفر الله وأستهديه، وأسأله الإعانة على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أسمائه وصفاته وربوبيته ووحدانيته، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، اجتباه من خلقه واصطفاه لرسالته، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- في كل حال، وأخلصوا له في الأقوال والأعمال، والزموا الطاعات والامتثال.
أيها الإخوة المسلمون: لقد ظهرت دعواتٌ تطالب بتعليم اللغة الأجنبية للأطفال الصغار من الصفوف الأولى، وعلت نداءات تدعو إلى تدريس لغة الأجنبي في جميع العلوم، وتعالت أصواتٌ تريد جعل اللغة الأجنبية شرطاً لتحصيل الوظيفة أو العمل!
أيها الإخوة المخلصون: لا بد في الأمة من شموخٍ لا يحني هامته لإغراءات وضع اقتصادي طارئ، أو آليات سوق عابر، أو مكاسب وقتية عاقبتها الهلاك والدمار والذوبان والاندثار.
إن من التناقض الصارخ والغفلة القاتلة: أن يتحدث رواد الفقه والمثقفون عن توطين التقنيات واستنبات العلوم في أرض الوطن، وهم في الوقت نفسه يصرون على الدعوة إلى تدريس العلوم والتقنيات باللغة الأجنبية، والتي لم يتقنها المتعلمون من غير أهلها، ولو أتقنوها -عياذاً بالله- كما يتقنها أهلها فقل على الأمة وعلى لغتها بل على وجودها السلام.
أيها المسلمون: إن الحل والسلامة والحصانة والمشاركة الحقيقية في البناء وسلوك مسالك التقدم الصحيح والنظيف هو بالتصدي لخطر الإذابة للعمل المنظم الجاد بعيداً عن الشعارات الجوفاء، والكتابات الخرساء عملٌ جاد يكسب المناعة ضد محاولة الإذابة وطمس الهوية، ومن ثَم المشاركة في البناء ومعطيات الحضارة الصالحة النافعة؛ إن كان في الأمة غيرة، وإن كان ثَمة صدقٌ وجد في خدمة الدين والأمة واللغة، فالطريق واضح، والمحجة بينة.
إن الأمة تحتاج إلى سياسة لغوية، فليست المشكلة ولا القضية في معرفة النظرية لقواعد اللغة وأصولها؛ بل الذي يحتاجه عموم الناس والمتكلمون هو الكفاءة اللغوية في النطق والكتابة والتعبير نحتاج إلى سياسة لغوية تنسق عمل المؤسسات المعنية باللغة وخطاب الناس، ولا سيما الإعلام بوسائله، والتعليم بمناهجه وطرائقه؛ فتكون الفسحة الميسرة هي الهدف المنشود التحقيق، وحينئذٍ لا تكون لغة مادة دراسية مجردة مفردة معزولة محصورة بين حيطان قاعات الدراسة في ساعات محدودة، بل يجب أن تكون هي لغة الحياة في كل ميادينها، مطلوبٌ الاهتمام الخاص باللغة في التعليم العالي في الأقسام العلمية والنظرية، وإلزام الالتزام بها تدريساً وتحدثاً وكتابة.
مطلوبٌ الغيرة الصادقة على اللغة في الوقفة الصارمة أمام هذه الأسماء التجارية والصناعية الوافدة، التي لا تعكس سوى الانهزام والتبعية والشعور بالذلة والدونية.
وبعد أيها الأحبة في الله: فإن قوة اللغة واستمرارها -بإذن الله- يعتمد بالدرجة الأولى على وعي الأمة وحرصها على رعايتها وحمايتها وانتشارها، واليقين الجازم بأنها صالحةٌ لمقتضيات الحال، قادرة على متطلبات الوقت، ومعطيات التحضر، ومستجدات التطور، وتلك أهدافٌ كبرى تخطط لها الدولة المحترمة والأمة العظيمة، فتقيم المؤسسات المتخصصة، وتبني مراكز البحوث المتقدمة، وتؤسس الهيئات الفنية لتعليم اللغة وتطوير أساليب تدريسها، وترجمة المصطلحات الأجنبية.
لا بد أن يبقى للغتنا سلوكها، ولا بد من تطويق المناعة الذاتية في جسم أبناء الأمة، والاعتزاز بالدين والدار، والتعامل مع اللغة الأجنبية ببصيرة وحسن استفادة من غير ذوبان.
يجب أن نعلن ونلقن، ونرسم أننا بحاجة إلى الأمن اللغوي، كما أننا بحاجة إلى الأمن الفكري والغذائي والمائي، فكل أولئك من ضروريات الحياة والعيش الكريم هذا هو الطريق، وذلكم هو المسار، وعلى الله قصد السبيل، وكفى بربك هادياً ونصيراً.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى، والنبي المجتبى، فقد أمكركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال عز من قائلٍ عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد نبي الرحمة والملحمة، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك المؤمنين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق والتوفيق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، وارزقه البطانة الصالحة، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم أبرم لأمة الإسلام أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كشمير، وفي الشيشان، وانصرهم في كل مكان يا رب العالمين، اللهم سدد سهامهم وآراءهم، واجمع كلمتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم.
اللهم إن اليهود المحتلين قد طغوا وبغوا وآذوا وأفسدوا وقتلوا وشردوا وهدموا وخربوا، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم وكن للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلادنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(36/7)
الوسطية في منهج أهل السنة والجماعة
إن الله سبحانه وتعالى جعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم، لذلك يقول: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} ثم جعلها الله عز وجل أمة وسطاً شاهدة على الناس والأمم السابقة ولذلك يقول: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً}.
فهم وسط في أمور الدين والحياة جميعاً.(37/1)
سبب الحديث عن الوسطية
أحمد الله تبارك وتعالى وأثني عليه بما هو أهله، وأستغفره وأستهديه وأتوب إليه وأؤمن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدٌ عبدُ الله ورسولُه الداعي إلى سبيل ربه صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فسلام الله عليكم جميعاً ورحمته وبركاته.
الموضوع -كما في ضمن هذه السلسلة التي يعقدها هذا المسجد المبارك في منهج أهل السنة والجماعة - هو ما رغب الإخوة المنظمون أن يكون تحت عنوان الوسطية في منهج أهل السنة والجماعة.
وعناصر الموضوع -حسب الوقت المتاح- كالتالي:
لماذا الحديث عن الوسطية؟
تعريف بـ أهل السنة والجماعة.
عرض لأهم خصائصهم ومعالم منهجهم.
حديث عن الوسطية ومظاهرها.
أما لماذا الحديث عن الوسطية؟:
فذلك لأن الأمة الإسلامية -ولا سيما في حالها المعاصر- تعيش ضَعفاً ظاهراً في كثير من ديارها وأحوالها، ومن أظهر مظاهر الضعف: ظهور طرفي الإفراط والتفريط والغلو والجفاء {بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45] ومع الأسف- أن هذا كما هو حال كثير من عموم المسلمين، فهو موجود في بعض من ينتسبون إلى الدعوة والعلم والإصلاح، ففيهم من غلا وأفرط، فنشأت فيهم جماعات تكفير وهجرة، وهناك من فرط وجفا، وأضاع معالم الدين والعقيدة، بقصد جمع الناس ووحدة الصف، ففشى الإرجاء، وانطمس عندهم معالم التوحيد وحقيقة العبادة، والمسلك الوسط في ذلك هو اقتفاء الأثر، وتبين الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين، سلوك هذا المسلك حتى يتبين غلو الغالين، وانتحال المبطلين، وتفريط الكسالى والمرجئين، ودعاوى المنهزمين والمرجفين على حد قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].(37/2)
معنى الوسطية في اللغة والشرع
أما الوسط والوسطية من حيث المعنى:
فلا يبدو لي أن هناك حاجة إلى بيان معنى الوسطية بشكل مفصل، ولكن يكفي أن نشير إلى أن الوسط في لغة العرب، وفي مختار القرآن الكريم في الوسط والأوسط والوسطى، وأوسطهم هو: معنىً يجمع بين العدل والفضل والخيرية والجودة والرفعة والمكانة العلية والنَّصَف، كما أنه: توسطٌ بين طرفين، أي: بين رغيدتين، كما قالوا: خير الأمور أوسطها، والفضيلة وسط بين رغيدتين.
ولقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه الأمة وسطاً في كل أمور الدين، فلها من الدين أكمله، ومن الأخلاق أجلها، ومن الأعمال أفضلها على ما سوف يأتي لهذا من مزيد تفصيل إن شاء الله.(37/3)
تعريف بأهل السنة والجماعة
أما ما يتعلق بتعريف أهل السنة والجماعة:-
فأهل السنة والجماعة يُطلَق بإطلاقين:
إطلاق عام.
إطلاق خاص.
الإطلاق العام: يطلق على أهل السنة والجماعة مقابل الشيعة والخوارج.
ويطلق بإطلاق خاص: وهو مقابل جميع المخالفين من أهل الأهواء.
وهذا هو المراد هنا، فالمراد به السلف، وأهل السنة والجماعة، وأهل الحديث ممن برز مذهبهم ومنهجهم وبخاصة في إثبات الصفات لله عزَّ وجلَّ، وقولهم في القرآن بأنه غير مخلوق، وإثبات رؤية الله عزَّ وجلَّ في الآخرة، وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل السنة والجماعة.(37/4)
المراد بالسنة والجماعة
والسنة هي: الطريقة المسلوكة في الدين الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون على حد قوله صلى الله عليه وسلم في الفرقة الناجية: {مَن كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي}.
والمراد بالجماعة: الاجتماع الذي هو ضد الافتراق، فتَسَمَّى أهلُ السنة والجماعة بهذا الاسم؛ لأنهم أهل سنة تمسكوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه، واقتفوا طريقته باطناً وظاهراً في الاعتقادات والأقوال والأعمال، وهم الجماعة؛ لأنهم جدُّوا في الاجتماع على الحق والأخذ به، واجتمعوا على أئمتهم، وعلى الجهاد، وعلى السنة والاتباع، وترك الابتداع والأهواء.(37/5)
مسميات أخرى لأهل السنة والجماعة
كما أنهم هم أهل الحديث والأثر لشدة عنايتهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم روايةً ودرايةً واتباعاً، فهم يقدمون الأثر على النظر.
وهم السلف إذ المراد بـ السلف: الصحابة رضي الله عنهم وتابعوهم وأتباعهم إلى يوم الدين، وقد يراد بـ السلف: القرون المفضلة الثلاثة الأولى.
ومن هنا فإن منهج أهل السنة والجماعة ومذهبم على جهة الإجمال: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وأعيان التابعين لهم بإحسان وأتباعهم وأئمة الدين ممن شُهِدَ له بالإمامة وعُرِفَ عِظَمُ شأنِه في الدين، وتلقى الناس كلامَهم خلفاً عن سلف دون مَن رُمِي ببدعةٍ، أو شُهِر بتوجهٍ غير مرضٍ، من أمثال: القدرية، والمرجئة، والجبرية، والجهمية، والمعتزلة، وغيرهم.(37/6)
معالم أهل السنة والجماعة
قبل أن ندخل إلى صلب الموضوع، لا مانع أن نذكر أهمية منهج أهل السنة والجماعة:
تنبع أهمية هذا المنهج من أهمية الدين نفسه والعقيدة نفسها، وضرورة العمل الجاد الدءوب لأخذ الناس بالحق وأخذهم بدين الله عزَّ وجلَّ، وذلك لأمور منها:(37/7)
من معالم أهل السنة تعظيم الكتاب والسنة والاعتصام بهما
تعظيم الكتاب والسنة والاعتصام بهما عامل مهم لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم، فلا تجتمع كلمة المسلمين إلا على كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى نهج الجيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما التجمع على غير ذلك فمصيره الفشل والتفرق.
هذا المنهج يجعل المسلم يُعَظِّم نصوص الكتاب والسنة، وتعصمه -بإذن الله- مِن رَدِّ معانيها، أو التلاعب في تفسيرها فيما يوافق الهوى.
وهذا المنهج يربط المسلم بـ السلف من الصحابة ومَن تبعهم، فتزيده عزة وإيماناً وافتخاراً، فهؤلاء السلف من الصحابة ومَن سار على نهجهم هم سادة الأولياء وأئمة الأتقياء.
وهذا المنهج يتميز بوضوح، حيث إنه يتخذ من الكتاب والسنة منطلقاً في التصور والفَهم، بعيداً عن التأويل والتعطيل والتشبيه، وينجي -بإذن الله- المتمسك به من هلكة الخوض في ذات الله، ورَدِّ النصوص من كتاب الله وسنة نبيه محمدٍِ صلى الله عليه وسلم، ومِن ثَمَّ تُكسِب صاحبَها الرضا والاطمئنان لدين الله وأمره وقدره وتقديره، ولا يكلف العقل التفكير فيما لا طاقة له به من الغيبيات، فهذا المنهج سهل ميسر بعيد عن التعقيد والتعجيز، ولهذا جاء الأثر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: [[من كان مستناً، فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمة وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونَقْل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على هدىً مستقيم ورب الكعبة]] ومن ضمن ذلك مقالة ابن مسعود رضي الله عنه المحفوظة في قوله: [[إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئاً، فهو عند الله سيئ]].(37/8)
عدم التعصب لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومن معالم هذا المنهج أيضاً: البُعد عن التعصب إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهل هذا المنهج هم أعلم الناس بأقواله عليه الصلاة والسلام وأحواله وأعظمُهم تمييزاً بين صحيحها وسقيمها.
هذا المنهجٌ يجعل الكتاب والسنة هو الإمام، ويجعل طلب الدين مِن قِبَلِهِما، أي: مِن قِبَل الكتاب والسنة، وما وقع في العقول والخواطر والآراء، فإنه يُعرَض على الكتاب والسنة، فإن كان موافقاً قُبِل، وإن وُجِدَ مخالفاً تُرِك، وليس إقبالٌ إلا على كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ومِن ثَمَّ صاحب هذا المنهج إذا وَجَد في نفسه حرجاً، فإنه يرجع بالتهمة على نفسه، فإن الكتاب والسنة لا يهديان إلا إلى الحق، وإلى التي هي أقوم، ورأي الإنسان قد يكون حقاً وقد يكون باطلاً.(37/9)
أهل السنة ليس لهم انتساب خاص
كذلك ليس لهم اسمٌ خاصٌ ينتسبون إليه، كما قال بعض أهل العلم وقد سئل عن السنة، فقال: السنة ما لا اسم له سوى السنة.
وأما غيرهم فينتسبون إلى المقالة تارة، أي: إلى المبدأ، أو إلى القائد تارة، أما أهل السنة فإنما نسبتهم إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه ومأثوره وسلف الأمة.
جميعُ كتبهم المصنفة مِن أولها إلى آخرها في باب الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد، يَجْرُون فيه على طريقة لا يحيدون عنها، بل لو أنك جمعت ما كتبوه وما نقلوه عن سلفهم، لوجدته وكأنه قد جاء عن قلب رجل واحد، وجرى على لسان رجل واحد، ولهذا قال أبو المظفر السمعاني: وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل، فأورثهم الاجتماع والائتلاف، فإن النقل والرواية من الثقاة المتقنين قَلَّما تختلف، وإن اختلفت في لفظة أو كلمة، فذلك الاختلاف لا يضر الدين ولا يقدح فيه، وأما المعقولات والآراء والخواطر فقَلَّما تتفق، فعقل كل واحد ورأيه وخاطره، يُرِي صاحبه غير ما يُرِي الآخر.(37/10)
من خصائص أهل السنة تبنيهم للتوحيد والدعوة إليه
من خصائص هذا المنهج، أو من معالمه الكبرى كممارسة، أو كمَعْلَم بارز: قضية التوحيد، بمعنى: الحديث عن التوحيد، والدعوة إليه، والالتزام به.
وقضية التوحيد وضدها الشرك، تحتاج إلى وقفة حقيقية لأنها فعلاً ميزة، وهي -مع الأسف- محل تردد عند بعض الناس.
إن من المعلوم تميز هذه البلاد بخاصة -ولله الحمد- بتبنيها لقضية التوحيد والدعوة إليه، وبروز ذلك بروزاً بيناً مما دعا بعضَ الناس والمفكرين وبعض الذين لم يتبينوا المنهج ولم يميزوا، أو بعض المخالفين، لما رأى إصرارَنا على الحديث عن التوحيد والالتزام به والدعوة إليه وتعليمه وتربية الناس عليه ما كان من أمثال هؤلاء إلا أن قالوا: إن هذا المنهج كأنه يشير بأننا نَتَّهِم الناس في عقائدهم، وحقيقةً هذا يحتاج إلى وقفة كبيرة.
فالدعوة إلى التوحيد هي طريق القرآن، والدعوة إلى التوحيد ليست للمشركين فقط ومن قال: إنه لا يُدْعى إلى التوحيد، ولا يُذَكَّر بالتوحيد إلا المشركون فهذا غير صحيح، والقرآن كله حديث عن التوحيد وعن ضده، كما وصف ذلك ابن القيم رحمه الله.
فالله عزَّ وجلَّ حينما ذكر عباد الرحمن وذكر صفاتهم، ومعلوم أن عباد الرحمن مؤمنون، بل إنهم هم الصفوة الذين يُقتَدى بهم، قال سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:63 - 67] هذه كلها صفات لا تلفت النظر من حيث أنها فعلاً صفات سلوكية، وصفات عبادات وتعبد، لكن قال بعدها: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان:68] مع أن الله سبحانه وتعالى سماهم عباد الرحمن، ولا شك أن كلمة عباد الرحمن تعني: أنهم مستقيمون على الطريقة، لكن من صفاتهم: أنهم لا يدعون مع الله إلهاً آخر، مما يدل على أن قضية التوحيد قضية دقيقة.
وفي قوله سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36] العلماء رحمهم الله وقفوا عند هذه الآية وقفة عجيبة ودقيقة، فكلمة (شيئاً) نكرة وفي سياق النهي تفيد العموم، وقد ذكر العلماء التقدير المحذوف، فقالوا: إن التقدير: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً من الأشياء، فإذا حاولت أن تفهم هذا الفهم الدقيق من المعنى، لا تشركوا به شيئاً من الأشياء، مهما قل، أي: أدنى تعلق بغير الله عزَّ وجلَّ، فهو صورة من صور الشرك المحذوف.
فالتقدير الأول: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً من الأشياء.
والتقدير الثاني: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً من الشرك.
فشيئاً من الأشياء، أي: شيئاً من المعبودات سواء أكان ذباباً أو أقل من ذباب.
وشيئاً من الشرك، أي: شيئاًَ من أدنى تعلُّق بقلبك، فأنت على خطر؛ لأن الله عزَّ وجلَّ يقول: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106].
إذاً حينما نقول: إن من منهجهم الدعوة إلى توحيد الله عزَّ وجلَّ، فلأنها هي طريقة القرآن.
وإن شئتم مزيد إيضاح، فالله عزَّ وجلَّ حذر من الشرك حتى في خطابه الأنبياء، وحاشاهم أن يشركوا، وذكر من سيرهم أنهم يحذرون أبناءهم، وأبناؤهم على الحق، فالله عزَّ وجلَّ يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] وحاشاه أن يشرك، فهل هذا كان اتهاماً للنبي صلى الله عليه وسلم في عقيدته أو في توحيده؟!
إنما هي طريقة القرآن، فالله عزَّ وجلَّ قال لإبراهيم، وإبراهيم هو صاحب الملة الحنيفية، والذي أُمِر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم باتباعه، قال له: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج:26] حاشا إبراهيم عليه االسلام أن يشرك، وهو صاحب الملة الحنيفية، وهو الذي قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] ولهذا قال إبراهيم النخعي: "ومَن يأمن الفتنة بعد إبراهيم؟ " وهو الذي قال: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] وكذلك في آيات كثيرة منها قول الله عزَّ وجلَّ لنبيه: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} [الإسراء:22] {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} [الإسراء:39] وحاشاه عليه السلام أن يُشرك.
إذاً مِن أصول أهل السنة والجماعة، ومن منهجهم: الدعوة إلى التوحيد.
يأتي ولهذا لو فكرت -فعلاً- كيف لو أن الناس تُرِكُوا من التعاهد بتوحيد الله عزَّ وجلَّ! لا شك أنهم سينحرفون، ولهذا كثرت صور الشرك الموجودة في كثير من بلاد المسلمين من التعلق بالقبور، ودعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله، وأشياء كثيرة مما هو شرك أكبر يخرج من الملة، فالناس تضعُف، ولعلك تلاحظ -مع الأسف- حتى في بلادنا لما ضعُف تركيز علمائنا رحمهم الله في التربية والتعليم، بدأ يظهر قبول الشعوذات والسحر، والكهانة، وشيء ما كنا نعهده، مما يدل على أن النفوس ضعيفة.
إن النفوس ولو كانت مؤمنة، ولو كانت تشهد أن لا إله إلا الله وتشهد أن محمداًَ رسول الله، وتؤمن بالله عزَّ وجلَّ، وتؤمن بتوحيد الربوبية، وتؤمن بحق الله عزَّ وجلَّ وقوته وقدرته وتدبيره، لكن فيها ضعفاً، فتحتاج دائماً أن تعاهَد بالتوحيد، وتعاهَد بالإخلاص إلى الله عزَّ وجلَّ، والتعلق به، وتجريد العبادة له سبحانه وتعالى، وإفراده بالعبادة بأنواعها.
إذاً فمن المنهج: الدعوة إلى توحيد الله عزَّ وجلَّ، والتحذير من ضده الذي هو الشرك بشتى ضروبه وصنوفه مهما دَقَّ، كيف والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {الشرك أخفى من دبيب النملة السوداء في ليلةٍ ظلماء على صخرةٍ سوداء} أخفى؛ لأنه لا يُرَى مما يدل على عِظَم الأمر، وشدة خطره وضرورة التذكير به والدعوة إليه، وتحذير الناس من الشرك، وبيان التوحيد.(37/11)
من منهج أهل السنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
كذلك ومن منهجهم أيضاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي قضية مهمة جداً في الدين، فهناك بعض الفرق السابقة تقول بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن إما بطريقة خارجة عن سلطة الأئمة وولاة الأمور، أو غير ذلك، لكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منهجٌ من منهاج أهل السنة والجماعة، وليس الحديث طبعاً عن الإفاضة في دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الحفاظ على الدين، والحفاظ على الأمة؛ لكن يكفي أن نقارن بين آيتين:
الآية الأولى: في حق المنافقين، قول الله عزَّ وجلَّ: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67].
والآية الأخرى: في حق المؤمنين، قوله سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].
وبالمقارنة بين هاتين الآيتين يتبين الفرق الكبير، والمقصود فعلاً بحياة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منهجاً.
الآية الأولى: {} [التوبة:67] (مِنْ) هنا جنسية، يعني كما تقول: هذا مِن هذا، أو هذا البيض مِن هذا البيض، بمعنى: هم متجانسون في الطباع، كأنك تقول: هذا من هذا {} [التوبة:67] جنس واحد، كما تقول العامة أحياناً في بعض الأقاليم: البيض الفاسد يتدحرج مع بعضه، هذه معنى {مِنْ بَعْضٍِ} [التوبة:67] أجناس مِن بعض.
أما أهل الإيمان، فـ {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] بمعنى أن بينهم نصرة، بينما المنافقين لا نصرة بينهم، لأن أصلَ النفاق تَلَوُّنٌ، والنفاق سَيْر على حسب المصالح لا على حسب المصلحة الحقيقية ولا على حسب الحق، وإنما على حسب الهوى، ولهذا فإن المنافق يسير على هواه، أو على هوى مَن يخافه، فمن هنا كان بعضهم من بعض.
أما أهل الإيمان المؤمنون {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] متناصرون، فما هي مظاهر النصرة؟
ليست المجاملة، ولا النفاق، وإنما: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] مع أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لو أقيم على وجهه فإنه ثقيل، لكن نظراً لأن الذين بينهم ولاء، ونصرة وتعاقد على الحق كان مظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فاشياً، بل مسلكاً مِن مسالكهم، لأنك لو تأملتَ في طبائع النفوس، فإن الأمر بالمعروف شاق، والنهي عن المنكر كذلك شاق، فإذا رأيت أخاك على منكر، ثم نهيته عنه، فإن هذا ثقيل على النفس؛ لكن لِمَا وقر في النفس من إيمان، وفي القلب من يقين والتزام أصبح هذا منهجاً ومقبولاً، بل أصبح هذا هو مظهر من مظاهر المؤمنين: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71].(37/12)
من منهج أهل السنة ضبط العلاقة بين التوكل والأسباب
وهناك قضية مهمة جداً في بيان هذا المنهج هي: قضية ضبط العلاقة بين التوكل والأسباب:-
تنبع هذه القضية من صفاء المنهج وصفاء العقيدة، وهي أنه لا تختلط عليه ما يتعلق بالإيمان بالله عزَّ وجلَّ، والإيمان بقضائه وقدره، والتوكل عليه، وتسليم الأمر له، وأنه سبحانه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا خافض لما رفع، ولا رافع لما خفض، هذه كلها قضايا راسخة في قلب المؤمن، وهذا لا يعني إنكار الأسباب، فالمؤمن الحق يعلم أن الله سبحانه وتعالى وضع في هذه الدنيا سنناً، وأن هذه السنن إذا أخذ بها العبد بإذن الله، فإنها تنتج آثارها، فيأخذ بالسبب، ويقوم بمهمة الاستخلاف؛ لأن الله سبحانه وتعالى استخلفه في هذه الأرض ليعمرها {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61] فهو يربط بين الأسباب، فيأخذ بها، ويحتاط لنفسه، وبين الإيمان بالله عزَّ وجلَّ، بمعنى أن السبب إذا لم ينتج، فإنه لا ينتكس،؛ لأنه يعلم أن من وراء الأسباب رب الأرباب، ولهذا يكون على عقيدة مطمئنة، يأخذ بالسبب، فإنه إذا تزوج، والزواج سبب للإنجاب بإذن الله، فإذا لم يأته ولدٌ، رضي وسلَّم، فهو قد أخذ بالسبب، لكنه لم يضطرب، ولم ينتكس حينما لم ينتج السبب؛ لأنه يعلم أن الله سبحانه وتعالى من وراء الأسباب، وأن الكون كونه، والتدبير تدبيره سبحانه وتعالى.
إذاً هناك ربطٌ وثيقٌ وضبطٌ بين التوكل على الله سبحانه وتعالى والأخذ بالأسباب، وهذا لا يحتاج إلى توقف كثير.
نأتي إلى قضية الوسطية، مع أن ما سبق كله إشارة للوسطية، فكل ما سبق من مبادئ ومعالم هي لا شك أنها وسط خاصة في مقابل الفرق المخالفة سواء أكانت من غير المسلمين، أو من الفرق المنتسبة إلى الإسلام.(37/13)
الوسطية والاعتدال في الإسلام
الوسط والمسلك الوسط هو مسلك الإسلام، والله عزَّ وجلَّ يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] فالوسط هو الخيار، والوسط هو ما يكون بين الطرفين طرفي الإفراط والتفريط، والغلو والجفاء، فقد اختلفت فيها الحوادث حتى أصبحت طرفاً.
فالإسلام دين الوسط، وسوف نأتي إلى وسطية الإسلام عموماً، ثم نأتي إلى وسطية أهل السنة والجماعة على وجه الخصوص، لكن لا شك أن ما نذكره لا يقيم الإسلام على وجهه إلا مَن فَقِهَ هذه الوسطية.(37/14)
وسطية الإسلام بين الديانات الأخرى
فالإسلام وسطٌ بين طريق المغضوب عليهم أمثال: اليهود الذين قتلوا أنبياء الله، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس، وأسرفوا في التحريم، وحرموا كثيراً مما رزقهم الله، وبين الضالين أمثال: النصارى الذين اتخذوا الأنبياء آلهة واتخذوا الأحبار والرهبان معبودات من دون الله، وأسرفوا في التحليل حتى قالوا: كلُّ شيءٍ طيبٍ للطيبين.
أما أهل الحق، فصراطهم صراط مَن أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
والإسلام وسط في الاعتقاد بين خرافيين يصدقون بكل شيء، ويتعلقون بكل شيء، ويؤمنون بغير برهان حتى عبدوا آلهة من دون الله، فعبدوا الأبقار وقدَّسوا الأحجار والأوثان، وبين مَن يُنْكر كل شيء، ولا يتعلقون إلا بالماديات المحضة، ويتنكرون من رداء الفطرة والعقل وبراهين المعجزات؛ ولكن القرآن يقول لهؤلاء وهؤلاء: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].
إن الحديث عن الوسطية في الاعتقاد ملح وبخاصة في عصرنا الحاضر، فتجد حتى في الوقت الحاضر غلواً في الماديات، حتى أنكروا وجود الله عزَّ وجلَّ وعبدوا المادة، بل وأصبحوا دُهْرِيين، وغلوا في المعبودات حتى عُبد الشيطان، أي: وصل بهم الفراغ الروحي، وهو الشطط والإفراط إلى أن عبدوا الشيطان، في الوقت الحاضر الذي يسمونه عصر التنوُّر، مع أن الشيطان عُبِد من قديم، لكن ظهرت عبادة الشيطان حتى في أبناء هذا الجيل.
فوسطية الإسلام في هذا: الإيمان بالله وحده، إلهاً واحداً {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4] وكل مَن سواه مخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراًَ، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.(37/15)
وسطية الإسلام في الأنبياء
والإسلام وسط بين الذين عظَّموا الأنبياء وقدَّسوهم ورفعوهم فوق منزلتهم حتى جعلوهم آلهة، أو أبناء لله، وبين الجفاة الذين كذبوهم وأهانوهم، بل عذبوهم وقتلوهم، بل في الوقت الحاضر بعضهم يقولون: إنهم مجرد مصلحين اجتماعيين، أو هم مصلحون في أوقاتهم فحسب، أما الآن فما أتوا به غير مناسب لهذا الوقت!(37/16)
وسطية الإسلام في العقل
كذلك الإسلام وسط بين الغلاة في العقل الذين جعلوه مصدر المعارف والحقائق في الوجود وما وراء الوجود، وبين الجفاة الذين تنكروا له وانزلقوا وتعلقوا بالإلهامات، وعَمَت أبصارُهم.
فمع الأسف جمع الماديون بين التعلق بالمادة، والتعلق بالعقل، فما أوصلتهم إليه عقولُهم قبلوه، وما لم تقبله عقولهم ردُّوه، كما أنه يقابلهم طرف آخر أفرطوا، فألغوا عقولهم بالكلية، فتعلقوا بالأوهام، وتعلقوا بالخرافات، فالإسلام وسط من ذلك، فهناك أمور غيبية لا يدركها العقل فيُسَلِّم بها بضوابطها، وأمور معقولات، وقد جعل الله عزَّ وجلَّ لنا عقولاً، وجعلها هي محطة التكليف.
إذاً نحن أهل الإسلام ديننا دين وسط في ذلك، فالعقل له منزلته، بل العقل هو محطة تكليف، وفي المقابل نحن لا نغلو بحيث ما لم تصدقه عقولنا لا نقبله؛ لأننا نعلم أن العقل محدود، كما أن طاقاتنا كلها محدودة، فقوة اليد، والبصر، والسمع كلها محدودة، كذلك قوة العقل محدودة، لكنها قوة نعترف بها في حدودها.
كذلك ديننا وسط في الأحكام والعبادات، فالتكاليف في حدود الاستطاعة، لم يكلفنا الله عزَّ وجلَّ إلا في حدود قدرتنا {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] في الصلوات، في الزكاة، في الصيام، في الحج، في سائر المطلوبات الشرعية، بل الذين أرادوا أن يشددوا على أنفسهم في العبادة، نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف منهم موقفاً شديداً، كما في قصة الثلاثة الذين جاءوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عن عبادته: {فكأنهم تقالُّوها، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال الآخر: أصوم ولا أفطر، وقال الثالث: لا أتزوج النساء، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما أنا فأصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس مني}.
إذاً هو وسط في التكاليف، بل -في التكاليف- إذا طرأ عليك ظرف خَفَّفَ الله عليك، فإذا جاء ظرف سواء أكان شاقاً أو في الأسباب التي قررها الشرع كالسفر مثلاً، قد لا يكون شاقاً، لكن لو حصل ظرف شاق فإنه يأتي التخفيف.
فإذاً التكاليف وسط، ولهذا المداومة على العبادة تكون في حدود ما تطيق {عليكم من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا} {وأحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه، وإن قل} ولهذا ابن الجوزي رحمه الله يعلق على قضية المداومة، فيقول: إنما أحب الله الدائم لمعنيين:
أحدهما: أن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمعرض بعد الوصل، فهو متعرض للذم، ولهذا ورد الوعيد في حق من حفظ آية، ثم نسيها، وإن كان من قبل حفظها لا يتعين عليه.
ثانيهما: أن مداوم الخير ملازمٌ للخدمة، وليس من لازم الباب في كل يومٍ وقتاً كمن لازم يوماً كاملاً، ثم انقطع.(37/17)
وسطية الإسلام في الأخلاق
والوسطية في الأخلاق:
دين الله وسط بين الغالي الذي جعل الإنسان مثالياً، فأراده في هذه الدنيا مَلَكاً مُبَرَّئاً من كل عيب، سليماً من كل نقص، فطَلَبَ من معالي القيم والآداب ما لم يمكن أن يبلغه إلا بالعصمة لو كان معصوماً، وبين الجفاة الذين جعلوه حيواناً بهيمياً، فلم يعيبوا عليه أن ينحط في السلوك إلى أسفل الدركات، ومع الأسف- أن عصرنا الحاضر شاهد على هذا الانحطاط البهيمي في الشهوات.
إذاً مسلك الإسلام في الأخلاق وسط بين المثالية والواقعية، بمعنى أنه لا شك أن الإسلام وضع لنا نماذج مثالية أَحَبَّ منا أن نرقى إليها، لكنه لم ينكر واقعيتنا وضعفنا كبشر، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} [الأنفال:66] {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28] بل حتى في الجهاد فرض علينا في أول التشريع أن يقف المسلم مقابل عشرة من الكفار، ثم خفف فقال تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفَاً} [الأنفال:66].
فالإسلام وسط بين المثالية النموذج المحلق، وبين الواقعية، مثلاً: في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل:90] عدل وإحسان، فالعدل الذي هو إعطاء حق وأخذ حق، كل واحد يطيقه والإحسان فضل، فالإحسان هو الذي تتنافس فيه النفوس الكريمة، وأيضاً- في قوله تعالى مثلاً: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] لكنه قال في مقام آخر: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126] إذاً {فََمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة:194] واقعية {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ} [النحل:126] مثالية.
إذاً ديننا ذو وسطية في منهج الصدق والأخلاقيات، لا يريدنا أن نكون -فعلاً- كما يقول النصارى: من ضربك على خدك الأيمن فأعطه خدك الأيسر، لا.
هذا خنوع، إنما الغاية التي لا تنقص عنها أن تعطي حقاً وتأخذ حقاً.
والشرف يكون في الإحسان، أما الممنوع فهو الظلم والتعدي، ولهذا حتى في الحرب قال الله عزَّ وجلَّ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190] حتى في الحرب، وهي مقاتلة في سبيل نصرة الحق، لكن لا تعتدي، فلا تمثيل، ولا قطع آذان، ولا أنوف.
فالإسلام وسط يعترف بواقعية البشر كبشر، فهو يعطي حقاً ويأخذ حقاً، ويرفعه إلى السمو في المثالية.(37/18)
وسطية الإسلام في الاستمتاع بالزينة
وقضية الاستمتاع بالزينة، وهي وسطية ظاهرة في الإسلام، فقد أباح الله عزَّ وجلّ لنا الزينة، بل امتن علينا بإباحة الزينة: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:5 - 8].
إذاً هذا مسلك في الإسلام وسط، لَمْ ينكِر، ولم يمنعنا مما وضعه فينا من طبع حب زينة، وحب استمتاع وتمتع، فلم يجعلنا كالذين شددوا على أنفسهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فهؤلاء بقاياهم في الصوامع} أو كما في بعض العبادات الوثنية كما عند بعض الهندوكية والروحانيات المغرقة، لا هذه، ولا هذه.
فالزينة مباح لنا أن نستمتع بها، وتأملوا قول الله عزَّ وجلَّ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} [النحل:5 - 6] الثلاث الأولى أساسيات في وظيفة الأنعام {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} [النحل:5 - 6] فجعل هذا مما امتن الله عزَّ وجلَّ به علينا.
ولو تتأملون المعنى -يا إخواني- أعني إدراك الجمال في الأنعام، والأنعام هي: الإبل، والبقر، والغنم، وقد يكون غيرها من الحيوانات حسب الأقاليم، وليس كل أحد يدرك جمال الأنعام، إلا بعض الهواة، فأنت ربما لا تشاهد غنماً ولا تفكر فيها، ولا تشاهد بقراً؛ لكن بعض الناس مفتون بالغنم، ومفتون حتى بالإبل، فبعض الناس يشتري الإبل بمئات الآلاف، إذاً لا شك أن الجمال في الإبل، أو في الأنعام فإن كان بعضنا لا يدركه، لكن هناك من يدركه، وأظن الشباب الآن يدركون جمال السيارات، وموديلاتها، وألوانها.
فعلى كل حال المقصود: أن هذا لا حرج فيه في حدود ضوابط، فاستمتاعك بالجمال، بل حتى اقتناؤك للجمال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الخيل: {هي لرجلٍ سِتر} فالرجل الذي يعطي حقها ويستمتع بها، ليس عليه شيء، ما دام أن يعطي حقها، فشعورك وإحساسك بالجمال في هذه الأشياء، أو في غيرها مما امتن الله عزَّ وجلَّ به جائز حتى في الحمير {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8] أي: تتخذها لغير الركوب، تتخذها للزينة، فالخيل والبغال والحمير ربما لا تتخذها للركوب، وتتخذها للزينة، فالآية لا تمنع من ذلك ما دام في حدود وضوابط الشرع.
وإن شئتم آية أخرى فاقرءوا قول الله عزَّ وجلَّ: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل:60] ما معنى: (ذَاتَ بَهْجَةٍ)؟ معناه: أننا من حقنا أن نبتهج بألوان الزهور، وروائحها، وأشكالها؛ لأن الله ما قال: (ذَاتَ بَهْجَةٍ) إلا من باب الامتنان، والله سبحانه وتعالى لا يمتن علينا إلا بمباح.
إذاً هذا له حدوده وضوابطه، لكن أن تستمتع، وأن تجد لذة، وأن تمارس لذتك المباحة في الاستمتاع كالاستمتاع مثلاً بالشم فلا بأس، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {حُبِّب إليَّ من دنياكم الطيب} فالطيب متعة وكمالي، وليس بضروري، بل الطيب من الكماليات، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بنفسه وبزينته وجماله في حدود ما يَجِد، وكان يلبس للضيوف عليه الصلاة والسلام، ويوم الجمعة له حُلَّة، والعيدان لهما حُلَّة، والضيوف لهم حُلَّة، والحُلَّة هي: البدلة المتكاملة، وهي: الطقم الكامل بكامل اللبس، إزاراً ورداءًَ، أو قميصاً وسراويل، على حسب لباس كل بلد، فتسمى حلة، بمعنى: لباس كامل، فالمقصود أن دينَنا وسط: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف:31 - 32] لكن لا إسراف، ولا غلو، ولا تصرف على الأساسيات، بل لها ضوابطها.(37/19)
وسطية أهل السنة والجماعة
أهل السنة والجماعة وسط، أي: عدول خيار متوسطون بين طرفي الإفراط والتفريط، فهم وسط بين الفرق المنتسبة للإسلام كما أن أمة الإسلام وسط بين الأمم.(37/20)
وسطية أهل السنة في باب الأسماء والصفات
فهم في باب أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته وسطٌ بين المعطلة من الجهمية ومَن على شاكلتهم، وبين أهل التمثيل المشبهة، ويخطئ بعض الذين يكتبون عن منهج السلف في باب الأسماء والصفات، فيظنون أن السلف مفوِّضة، وهذا أمر يجب أن يُجَلَّى كثيراً، فـ أهل السنة والجماعة يثبتون لله أسماءه وصفاته التي سمى بها نفسه، وسماه بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ووصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، يثبتونها على الحقيقة، لكنهم يفوضون في الكيفية، فيثبتون أن لله يداً، وأن له عيناً، سبحانه وتعالى، حقيقة كما يليق بجلال الله عزَّ وجلَّ وعظمته، ولا يلزم أبداً من إثبات الحقيقة التشبيه البتة، والأمر ظاهر؛ لأن المخالفين لمنهج أهل السنة والجماعة يثبتون لله صفاتاً، حتى المعتزلة يثبتون صفة العلم والحياة، والقدرة، والإرادة -على اختلاف في حقائق هذه الصفات بيننا وبينهم- بل الجميع يثبتون أن لله ذاتاً حقيقةً، فنقول لهؤلاء المثبتين: كما أن لله ذاتاً حقيقةً وتقولون -وهذا حق- إنها لا تشبه الذوات، فكذلك له صفات لا تشبه الصفات، فإثباتها على حقيقتها لا يلزم منه التشبيه، فكما أن هناك من أثبت الكلام وهو حق، وأثبت الإرادة، وقال إن الإرادة لا تشبه الإرادات.
فكذلك -أيضاً- الرحمة؛ لأن الذين أثبتوا الإرادة نفوا الرحمة، فما دام أنك أثبت الإرادة لله فأثبت له الرحمة، وما دام أنك قلت: إن الإرادة لا يلزم منها التشبيه، فكذلك إثبات الرحمة لا يلزم منها التشبيه، وهكذا، فالأمر في هذا جلي ولله الحمد.(37/21)
وسطية أهل السنة في أفعال العباد
كذلك هم وسط فيما يتعلق بأفعال العباد:
بمعنى: أن أهل السنة قالوا: إن للعبد اختياراً ومشيئة وفعلاً يصدر منه، وهو محاسب عليه؛ لكنه لا يفعل إلا بمشيئة الله عزَّ وجلَّ، وهناك من أنكر مشيئة الله عزَّ وجلَّ، وقال: إن العبد يفعل، وأنكر مشيئة الله، وهناك من ألغى فعل العبد ومشيئته، فتوسط أهل السنة والجماعة على حد قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29] وهذا -أيضاً- جليٌ وبخاصة إذا تبينا أن العبد لا يحاسب من أفعاله إلا على ما كان داخلاً تحت قدرته واختياره، والشيء الذي يفعله بغير اختياره لا يُحاسَب عليه، ولهذا فإن النائم، والمغمى عليه، والعاجز، وإذا سقط الإنسان بنفسه سقوطاً على الخطأ فإنه لا يُحاسبه الله عزَّ وجلَّ، وإن كان يحاسَب فيما يتعلق بحقوق الآدميين على تفصيل ليس هذا مكانه، لكن المقصود أن العبد لا يحاسَب إلا على اختياره، فمثلاً: إذا مرض العبد، فإن الله عزَّ وجلَّ لا يحاسبه لماذا مرضتَ؟ أو لماذا أصاب يدك جرح؟ إنما يحاسبه هل صبر أم لا! لماذا؟ لأن الصبر اختيار، فأنت تحاسَب في المرض على الصبر، ولا تحاسب على ذات المرض، لأن المرض ليس بيدك، بل وقع عليك مرض ليس من اختيارك، وإنما الذي هو داخل تحت اختيارك هو الصبر.
لعل ما قدمتُ فيه شيء من الفائدة، وأكتفي بهذا القدر.
أقول هذا القول، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(37/22)
الأسئلة(37/23)
الرد على من قال: إن أهل السنة متزمتون
السؤال
بعض الناس يقول عن أهل السنة والجماعة أنهم جماعة متزمتة لا يؤمنون بالتطور، وأن قضايا العصر تحتاج إلى مسايرتها، فما هو رد فضيلتكم على هذا الإشكال؟
الجواب
على كل حال مثل هذا يقال فيهم وفي غيرهم، فهذا يقول: متزمت، وذاك يقول: متساهل، لكن العبرة بالمواقع، والعبرة بالشيء المعاش، أما مثل هذه التهم ماذا تقول فيها؟ وفيما يتعلق بالدين وثوابته وضوابطه وقواعده فأمره جلي، هذا حلال وهذا حرام؛ لأن الإسلام له في كل حادثة فتوى، وله في كل نازلة خطب، لا شك في ذلك، وإذا رجع المسلمون في أمورهم إلى أهل العلم، فإن الأمر يكون جلياً، ويكون منضبطاً؛ لكن -مع الأسف- وبخاصة في وقتنا الحاضر تغيَّرت كثير من الأوضاع، ولا سيما فيما يتعلق بتواصل الناس، وتواصل العالَم، بمعنى أنه كما يقال: أصبح العالَم شبه قرية واحدة، أو مكاناً واحداً، ولهذا فيما يتعلق بوسائل الإعلام المتعددة سواءً، أكان فيما يتعلق بالقنوات الفضائية، أم ما يتعلق بشبكة المعلومات العالمية وغيرها أصبح التواصل بشكل واضح، ومن هنا تأتي البلبلات، ومن هنا لا تستطيع أن تقول القول الفصل، فأنا لا أزعم أنني إذا قلت قولاً سيكون قولي فصلاً، أو حينما يقول فلان لهذا السائل -جزاه الله خيراً- قد تأخذ بما أقول مثلاً، لكن غيرك لن يأخذ بما أقول، فمثل هذا لا أظنه يُحْسَم بمثل أن يثار هذا السؤال، إنما قد يكون متعيَّنٌ على العلماء خاصة أن ينظروا -فعلاً- في المتغيرات، وكيفية بيان الحق للناس، لأنه -مع الأسف- في وسائل الإعلام هذه كلٌّ أو كثير منهم يهرف بما لا يعرف، ويتحدث أناسٌ غير متخصصين البتة، لا يفقهون في دين الله شيئاً، بعضهم قد يكون عنده عاطفة إسلامية، أو يكون -كما يقولون- مفكراً إسلامياً، أو عنده ثقافة إسلامية، وهذا لا يكفي، فيتحدثون بأحاديث خطيرة، ناهيك عن أنهم يأتون به بمقابل واحد منحرف، يعني: شيوعي صرف، أو له مواقف مناوئة صرفة للدين وأهله، وهذا كله لا يمكن، أولاً: لأن مثل هؤلاء لا يعول عليهم، لكن ينبغي على أهل العلم الراسخين والربانيين أن يكون لهم نظر في توعية الناس وتنبيههم وردهم إلى الحق ووقايتهم من كثير من هذه البلبلات.(37/24)
بذل الوسع في الأسباب لا ينافي التوكل
السؤال
سؤالان متشابهان: يقول الأول منهما: فيما يتعلق بالأسباب يأخذ بعض الناس بعض الأسباب، بل أدنى الأسباب، ويترك أعلاها، وخاصة في بعض الأمور التي يمكن اتخاذ أسباب عدة لها فلو اتخذ أسباباً أعلى يضمنها الشرع؟
السؤال الآخر يقول: هل بذل سبب واحد يكفي إذا لم ينفع، أم بذل أسباب أخرى من الواجب مع فشل السبب الأول؟
الجواب
هذا السؤال غير واضح، لكن فيما يتعلق بالأسباب: الإنسان هو حاكم نفسه ومعلِّم نفسه، بل إذا كان الإنسان كسولاً، فغالباً أنه يُرْجِع الأمور إلى الآخرين، أو يجعل التبعات على الآخرين، وإذا كان ذا همة وعزيمة، فغالباً أن يطرق كل ما يرد في خاطره من أسباب، فالقضية ترجع إلى همة الإنسان، وإلا فالمطلوب منه أن يطرق كل ذلك، وأن يبذل كل سبب، ولا أظن أن هناك سبباً واحداً، في كل أمور الدنيا إنما إذا وجدتَ أن هذا السبب قد استغلق عليك، فانتقل إلى شيء آخر، أو حتى هذا الطريق إذا استغلق عليك فاذهب إلى غيره، أو هذا الباب الذي توجهت إليه سواءً أكان عملاً أو كان زواجاًً أو كان صنعةً، إذا كان هذا الباب ما أفلحت فيه، وقد بذلت جميع الأسباب الموصلة إليه، ثم لم تصل، فانتقل إلى سبب آخر، وهذا معروف، فالناس في حياتهم ومعاشهم يستطيعون أن يتصرفوا، أما الكسول، أو الاتكالي، فهذا هو الذي غالباً يقول: حاولتُ فما استطعتُ، ولهذا يقول البيت المعروف:
أخْلِقْ بذي الصبر أن يظفر بحاجته ومُدْمِنِ القَرْعِ للأبواب أن يَلجا
فلا شك أن الإنسان لا بد أن يدمن القرع ويكثر، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم-: {إن الله يحب الملحِّين في الدعاء} والله عزَّ وجلَّ لو شاء لأعطاك مباشرة؛ لكن لا بد من إلحاح وبذل سبب، ومن ذلك -أيضاً- ما ذكره أهل العلم فيما يتعلق بمريم عليها السلام حينما أمرها الله عزَّ وجلَّ أن تهز جذع النخلة حتى يتساقط، فقال أهل العلم:
ألم تر أن الله قال لمريم وهزي بجذع النخل يساقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزه جَنَتْه ولكن كل شيء له سبب
فالله عزَّ وجلَّ كان بإمكانه أن يسقطها عليها بدون هز، لكنه تعليم بالأسباب، فالمقصود أن التوجه نحو بذل ما تستطيع من أسباب، وطرق ما تستطيع من أبواب هذا هو الذي يفعله أصحاب الهمم العالية.(37/25)
إمكانية توحد المسلمين مع اختلاف توجهاتهم
السؤال
هناك من يذهب إلى أن المسلمين بحاجة إلى توحيد الصفوف وإن اختلفت توجهاتهم، ويقول: بأن تقسيم المسلمين إلى فرق من شأنه أن يضعف وحدتهم، فلا يتمكنوا من الوقوف في وجه أعدائهم من أهل الكفر، فما الموقف من هذه الدعوى؟
الجواب
لا شك أن تحري الحق مطلوب من كل أحد، ويلزم الإنسان أن يتحرى الحق، وأن يسأل الله عزَّ وجلَّ أن يبصره بالحق، وأن يجعله على الحق وعلى هدى مستقيم، وأيضاً- قضية أن يتصور أن يجتمع الناس على طريق واحد فهذا مما لا يُتَصَوَّر تحقُّقه، فالاختلاف موجود، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، حتى إن بعض العلماء قال: إن هذه هي الفرق الكبار، وإلاَّ فلو أردتَ أن تعدد فرقها ومشتقاتها، لوجدتها أكثر من ذلك، فوجود الاختلاف هذا وارد، ولكن حق المسلم أن يتحرى الحق، وأن يسأل، وإذا اجتهد وتحرى، فالله سبحانه وتعالى لا يحاسبه إلا على جهده وبذله وتحريه، وخاصة فيما يتعلق بالعامة، أما العلماء، فشأنهم أكبر، وقضية تصور أن يجتمع الناس -كما قلتُ- هذا بعيد، لكن يمكن ما يسمى بالتعايش، فالتعايش شيء، لكن مع هذا لا بد أن تبقى دعوة الحق، وعلى أهل الحق مسئوليتهم أن يدعوا إلى الحق، وإلى دين الله على بصيرة.(37/26)
هل تطلب الوسطية في طلب العلم
السؤال
ما هو الضابط في الوسطية عند أهل السنة والجماعة في طلب العلم وتحصيله؟
الجواب
هناك بعض أمور -كما قلنا- في الإحسان، الإحسان مثالي بمعنى: لا يكاد ينتهي الوصول إليه، وهنا تأتي قضية أصحاب الهمم العالية، أين يتنافس الناس؟ وأين يتنافس الشرفاء؟ بل أين يتنافس المؤمنون؟ {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:10] {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] فالعلم شيء عالٍ، ولا أظن أن هناك وسطية في طلب العلم من حيث التحصيل والقوة وبذل الجهد، أما التحري في العلماء الثقات، فنعم، هذا معروف، أن يتحرى الحق والعلماء الثقات، وعمن تأخذ؛ لكن العلم تطلبه حتى تلقى الله عزَّ وجلَّ، ولا ينتهي العلم أبداً، وهذا معروف ومن ظن أنه قد علم، فقد جهل وإنما كما قالوا: أعط العلم كلك يُعْطِك بعضَه، فهذا تنافس شريف، وأرجو ألا أكون مغالياً إذا قلت: إنه لا وسطية في العلم، إنما ترقى، ترقى إلى ما شاء الله سبحانه وتعالى من حيث ما تريد، سواء العلم الشرعي، والعلم الصحيح، والعلم المباح، والمباح كثير سواء أكان من علوم الدنيا بألوانها مما هو مباح شرعاً، أو كان من العلم الشرعي.
ونسيت أن أقول في قضية العبادة في الإسلام: إن العادة بالنية تصبح عبادة، وهذا -أيضاً- مسلك من مسالك الإسلام واسع، وهو أن العادة بالنية تصبح عبادة، فحتى علوم الدنيا مثل: الطب، والهندسة، وغيرها، فهذه لا شك أنها محمودة وطيبة، وعلوم شريفة، لكنها دنيوية، لكن إذا كان لك نية صالحة لخدمة المسلمين وعلاجهم فتؤجر إن شاء الله، وأيضاً- كذلك فيما يتعلق بالصيدلة مثلاً، أو غيرها من المصنوعات بحيث تأتي بأمور مباحة، وتجنب المسلمين المشتبهات، فهذا شيء يتحول إلى عبادة، ويصبح من أشرف العلوم ديناً ودنيا.
والمقصود هو أن طلب العلم فيما يتعلق بالوصول إلى المنتهى لا وسط فيه، بل حتى قال العلماء: إن العلم لا يبقى على حال، إن تركته ينقص، ليس إذا تعلمت يبقى على مستواه، لا، بل إما أن يزيد بالتعلم، وإما أن ينقص، ولا يمكن أن يبقى على مستوى ثابت.(37/27)
حكم الدعاء على كفار معينين
السؤال
البعض عندما يسمع عن حدوث زلازل أو فيضانات في بلاد الكفار، فإنه يدعو عليهم بالمزيد، وإذا قلنا له: لماذا تتمنى لهم المزيد؟ قال: لأنهم كفار، فما رأيكم في هذا؟
الجواب
والله لا يبدو أن هذا متعسف، والدعاء على الكفار على غير جهة التعيين لا مانع منها مثل: لعنة الله على الظالمين، لعنة الله على الكافرين، لكن أن يُدْعَى على معينين فلا، والمسلم ليس باللعان، فلا تدعُ على معين سواء أكان قطراً معيناً أو جهةً معينة، إنما تدعو على عموم الكفار، وعلى الظالمين، لكن لا يُلعن معين، ولا يدعى على معين.(37/28)
التوبة فعل العبد والتوفيق من الله
السؤال
هل التوبة تكون معتمدة على توفيق الله فقط، أم على مشيئة العبد بعد مشيئة الله جل وعلا؟
الجواب
لا شك أن توفيق الله عزَّ وجلَّ هو الذي يؤمله العبد، لكنك لو تأملت في شروط التوبة التي ذكرها العلماء لوجدت أن عمل العبد فيها بيِّن، وهي:
الإقلاع عن الذنب.
وهذا فعلك.
والعزم على أن لا تعود.
هذا فعلك.
والندم على ما فعلت.
هذا فعلك.
هذه كلها أفعالك أنت، فلا تكون التوبة إلا بهذه الشروط، وهذه الشروط هي أفعالك، ولا شك أن التوفيق بإذن الله عزَّ وجلَّ، وهذا معنى قولنا: أنهم يجمعون بين الأسباب والتوكل، ويربطون ويضبطون بين الأسباب والتوكل، فأنت تفعل السبب، فتُقْلِع وتندم وتعزم على ألا تعود، ولو وقعتَ، تعود مرة أخرى وتتوب وتستغفر، وهكذا.(37/29)
ضعف التوجيه إلى التوحيد والعقيدة
السؤال
ذكرتم أن منهج السلف أهل السنة والجماعة أنهم دائماً يدعون ويذكِّر بعضهم بعضاً بالعقيدة، لكننا نلحظ في هذا الزمن ضعف هذا الجانب، حيث ضعفت التربية المنزلية، وحصل في بعض المناهج الدراسية ما يضعف جانب التوحيد إضافةً إلى تسلط الإعلانات بنشر ما يفسد العقيدة من أفلام وغيرها، فما توجيهكم للدعاة ولغيرهم في هذا؟
الجواب
غالباً هذه هي مهمة الدعاة، والعلماء، وكذلك المناهج -أيضاً- وكذلك البيوت إذا كان فيها طلبة علم، أو أناس على مستوى من التعليم، فهذا جيد؛ لكن قضية التذكير بالتوحيد، وتعليمه، وتربية الناس عليه، هذا الذي يتعاهدها العلماء ومَن في حكمهم من المعلمين وأصحاب المناهج، لأن العامة قد لا يفقهون أحياناً، فيقع أحدهم في الخطأ وهو لا يدري، وإنما مهمة العلماء، ومَن في حكمهم من المعلمين، وأصحاب التوجيه والتربية، والذين لهم تأثير هي توجيه المجتمع، فهذه مسئوليتهم، ولا شك كما أشار السائل الفاضل أن المؤثرات الأخرى الخارجية لها أثر سواء أكان فيما يتعلق بالأفلام أو بالبرامج، وخاصة فيما يتعلق بالإذاعات الأخرى، والوسائل الإعلامية الأخرى، والصحافة، والقنوات، والإذاعات، وغيرها، لا شك أن لها تأثير كبير، ولهذا ينبغي -كما قلت قبل قليل- أن ينظر أهل العلم والتعليم في كيفية مراجعة كثير من الأمور في سبيل وقاية الناس قدر المستطاع من الآثار السلبية لمثل هذه الوسائل.(37/30)
اختيار الرفقة الصالحة
السؤال
يواجه كثير من الشباب الذين منَّ الله عليهم بالهداية بمشكلة، وهي الصحبة، فإن استمر مع صحبته السابقة، فقد يعود وينتكس، وإذا صاحب صحبة صالحة أخياراً، فإنه قد يواجه مشكلة أخرى، وهي ممانعة الوالدين من الاستمرار في هذه الصحبة خوفاً من الغلو كما يزعمون، فيعيش الشاب في فراغ وصراع نفسي كبير، أفيدونا بما منَّ الله عليكم من علم كيف الخروج من هذه الحيرة؟
الجواب
أما أن تترك قرناء السوء، فهذا لا بد منه، وقد تتركهم تركاً كلياً، وقد يكون فيه نوع -إلى حدٍ ما- من التلطف، ولكن لابد أن تتركهم، ولا بد أن تتجنب كل ما هم فيه من سوء، ولا شك أن الحق في أن تصحب أخياراً، وأن يكون لك أصدقاء فضلاء، والذي يبدو لي: أنه ينبغي أن يكون لك أنت تأثير على والديك، كيف؟
لقد كنت في حال سيء كُنت مع أصدقاء السوء، ولا شك أنهم لاحظوا عليك الآن تغيرات، وهذا أمر حسن، لكن ينبغي أن يلحظوا عليك تغيراً فيما يتعلق بعلاقتك بهم بمعنى أن يزيد إحسانك لهم، وأن يزيد برك، وحسن تعاملك، وأن يظهر عليك مزيدُ صلاحٍ وبرٍّ فيما يتعلق بحقهم، في أمك وأبيك وإخوانك بحيث أنت الذي تسعى في أمور البيت إذا تيسر لك، مثل: حوائج البيت فتأتي بها معك، وملاحظة إخوانك فيما يتعلق بشئونهم الدراسية، بمعنى أن يلحظوا عليك تغيراً إيجابياً فيما يتعلق بأمور البيت وسلوكياتهم، وحينها تأكد أنهم سوف يفرحون كثيراً، أما أن يكون التغير هو أنك كنت قديماً مباسطاً لهم وتتحدث معهم، ثم لما التزمت -كما يقال- أصبحت رجلاً لا تتكلم ولا تتحدث وتنزوي في زاوية من البيت، فهذا غير صحيح، إنما حقهم أن يروا فيك تغيراً إيجابياً نحو حسن العلاقة معهم، وصلاح، وأدب، واحترام، وخدمة، وبر، قدر ما تستطيع باللحظ، وباللفظ، وبتقديم -ما تسميه- خدمات وهدايا إذا كنت تستطيع، وبتحسين علاقتك بإخوانك فتمازحهم، وتجلس معهم، ويكون أكثر أوقاتك وساعاتك مع أهلك، فيرون تغيراً إيجابياً، فبهذا تستطيع أن تؤثر.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(37/31)
إن خير دينكم أيسره
الإسلام دين يسر وسماحة، وقد تكلم الشيخ عن تميز الإسلام باليسر والتيسير على الناس، وهناك مظاهر لليسر في هذا الدين وفي هذه الشريعة السمحاء، يسر في العقائد ويسر في كتاب الله، ويسر في الأحكام الشرعية، كما أن هناك يسراً في المعاملات والتعاملات.
وقد حذر الشيخ من التشدد والتنطع في الدين، مستدلاً بأحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.(38/1)
تميز الإسلام باليسر والسماحة
الحمد لله مصرف الأوقات، وميسر الأقوات، فاطر الأرض والسماوات، أحمده سبحانه وأشكره؛ والى علينا نعمه وإحسانه، فهو أهل الفضل والمكرمات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ خلقنا لعبادته، ويسر لنا سبل الطاعات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، جاء بالحنيفية السمحة ويسير التشريعات، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد أفضل المخلوقات، وأكرم البريات، وعلى آله السادات، وأصحابه ذوي المقامات، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، واحذروا الغفلة؛ فإن الموت على جميع الخلائق قد كتب، والحساب عليهم قد وجب تشيعون الأموات وتودعونهم قبورهم، وتأكلون تراثهم وكأنكم مخلدون بعدهم خذوا بالمواعظ، وتيقظوا للحوادث إن بعد العز ذلاً، وبعد الحياة موتاً، وبعد الدنيا أخرى، وإن لكل شيءٍ حساباً، ولكل أجلٍ كتاباً، ولكل حسنة ثواباً، ولكل سيئة عقاباً فاستعدوا لملمات الممات، واستدركوا هفوات الفوات {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].
أيها المسلمون: شريعة الإسلام خاتمة الشرائع، أنزلها الله للناس كافة في مشارق أرض الله ومغاربها، للذكر والأنثى، والقوي والضعيف، والغني والفقير، والعالم والجاهل، والصحيح والمريض، ومن أجل هذا جاءت بفضل الله ولطفه وحكمته ميسوراً فهمها، سهلاً العمل بها، تسع الناس أجمعين، ويطيقها كل المكلفين.
دين الإسلام رخصة بعد عزيمة، ولين من غير شدة، ويسرٌ من غير عسر، ورفعٌ للحرج عن الأمة والتيسير مقصد من مقاصد هذا الدين، وصفة عامة للشريعة في أحكامها وعقائدها، وأخلاقها ومعاملاتها، وأصولها وفروعها؛ فربنا بمنه وكرمه لم يكلف عباده بالمشاق، ولم يردعنا كالناس، بل أنزل دينه على قصد الرفق والتيسير.
شريعة الله حنيفية في التوحيد، سمحة في العمل، فلله الحمد والمنة {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28]، {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج:78].
أحكام الشرع تطبع في نفس المسلم السماحة والبعد عن التكلف والمشقة، والتعلق الوثيق برحمة الله وعفوه وصفحه وغفرانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق:7].(38/2)
مفهوم اليسر والعسر
واليسر يا عباد الله: كل عملٍ لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم، والعسر: كل ما أجهد النفس وأضر بالجسم.
جاء في الحديث الصحيح: {إن هذا الدين متين؛ فأوغلوا فيه برفق} وعن محجن بن الأذرع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره} وفي لفظٍ: {إنكم أمة أريد بكم اليسر} رواه الإمام أحمد بسندٍ صحيح.(38/3)
معالم اليسر في الشريعة
أيها المسلمون: وهذا شيء من بيان معالم اليسر ومظاهر التيسير، تتجلى في كتاب ربنا وفي شخص نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وفي أصول الدين وفروعه.(38/4)
اليسر في كتاب الله
أما الكتاب العزيز فقد أنزله الله ميسر التلاوة، وميسر الفهم، وميسر التدبر والذكر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} [مريم:97] فكتاب الله ميسر الفهم، تدركه العقول، وترق له القلوب، يلذ استماعه ولا يمل سماعه، وإن كان فيه من الأسرار ودقائق العلوم ما يختص به الراسخون من أهل الذكر.(38/5)
الرسول صلى الله عليه وسلم والتيسير
أما محمدٌ صلى الله عليه وسلم فقد بعثه الله رحمة للعالمين أجمعين، وهو بالمؤمنين رءوف رحيم، حريص عليهم، عزيز عليه ما يعنتهم ويشق عليهم، يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، يقول عليه الصلاة والسلام: {إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً} حديث متفق على صحته واللفظ لـ مسلم، وهو الذي يقول عن نفسه عليه الصلاة والسلام: {أما إني أصوم وأفطر، وأقوم وأرقد، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني}، وتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يخفف على الناس}.(38/6)
اليسر في العقائد
أما أصول الدين وعقائده فقد جاءت ميسرةً في مطلوباتها، واضحةً في أدلتها؛ من الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وكماله، والإيمان بالملائكة، والكتب، والنبيين، والإيمان باليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.
والدلائل على ذلك ظاهرة من النظر في السماوات وفي الأرض وسائر المخلوقات، والسير في الأرض والاعتبار بآثار الأمم، ويأتي ذلك مسلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم من السلف التابعين لهم لم يكونوا أهل تكلف ولا كثرة سؤال أو اختلاف، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [[إياكم والتنطع، إياكم والتعمق، وعليكم بالعتيق]] أي: الأمر القديم الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو يسر، والبعد عن التنطع والتكلف والتشدد والتعمق.(38/7)
اليسر في الأحكام الشرعية
أما أحكام الشرع فقد راعت أحوال المكلفين وظروفهم؛ من الصحة والمرض، والحضر والسفر، وأحوال الاضطرار، فأعظم العبادات وأجلها بعد توحيد الله هذه الصلاة المفروضة، فقد ربطت أوقاتها بطلوع الفجر وزوال الشمس وظلها وغروبها: {ما بين المشرق والمغرب قبلة} وفي الطهارة: {إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث} وإذا شق استعمال الماء انتقل إلى التيمم، ويصلي المسلم قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنبه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
ويجمع بين الصلاتين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء عند الحاجة، والمسافر يقصر الرباعية إلى ركعتين، وذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم امرأةٌ تكثر من النوافل، فقال عليه الصلاة والسلام: {مه!! عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا} وقال صلى الله عليه وسلم: {من أم بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والمريض وذا الحاجة}.
والصيام مطلوب من الصحيح المقيم، وقد رخص فيه الإفطار من المسافر والمريض {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ولا زكاة ولا حج ولا جهاد إلا على القادر المستطيع: {والحج يوم تحجون، والأضحى يوم تضحون، والفطر يوم تفطرون}.
والمرأة لها أحكام تناسبها وتراعي أحوالها، والقلم مرفوع عن المجنون والصبي والنائم، ورفع عن الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
والأصل في الأشياء الحل والطهارة، والمشقة تجلب التيسير: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173].
والسيئة بمثلها أو يغفرها الله، والحسنة بعشر أمثالها ويضاعفها الله.
والمقصود من العبادات والطاعات استقامة النفس، والمحافظة عليها من الانحراف والاعوجاج، وليس المقصود الاستقصاء ولا الإحصاء، ولكن {سددوا وقاربوا واستقيموا ولن تحصوا} {وائتوا من الأعمال ما تطيقون}.
والاستقامة تحصل بمقدار سهل ينبه النفس فتتلذذ بالعبادة، وإذا دخل العبد في المشقة والملل فقد لذة العبادة، وابتعد عن بواعث الخشوع، بل لقد شرع لنا ديننا من الطاعات ما تقبل عليه النفوس بطبعها، بل مما تنشرح به صدورها وتتباهى به، من العيدين والجمعة وأخذ الزينة والتجمل باللباس والطيب في النفوس والمساجد، والاغتسال، والتغني بالقرآن، وحسن الصوت بالأذان، قال الله: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:31 - 32].(38/8)
تحري الرفق في الأمر كله
أيها المسلمون: حقٌ على أهل الإسلام أن يسلكوا مسالك الرفق واللين والتيسير في الأمر كله، بلا مداهنة ولا مجاملة ولا مجافاةٍ للحق والطريق المستقيم.
عليكم بالتيسير في التربية والتعليم والدعوة إلى الله والرفق بالطلاب والمدعوين، ولقد قال موسى عليه السلام للعبد الصالح: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66] {لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} [الكهف:73] خذوا الناس باليسير من الأمر لا تجشموهم المصاعب، ولا تكلفوهم عسراً: {بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا}، و {ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه}.
أخرج الترمذي بإسنادٍ حسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {حرم على النار كل هينٍ لينٍ سهلٍ قريبٍ من الناس}.
وعلى أهل العلم -وفقهم الله- ملاحظة التيسير في الفتوى، ومراعاة أحوال المستفتين، وإبعادهم عن مواقف الحرج، مع ما يلزم من تحري الحق والصواب يقول سفيان الثوري رحمه الله: إنما العلم الرخصة عن ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد.
ويقول إبراهيم النخعي رحمه الله: إذا تخالجك أمران، فإن أحبهما إلى الله أيسرهما.
ويقول الشعبي رحمه الله: إذا اختلف عليك أمران، فإن أيسرهما أقربهما إلى الله، يقول سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].
ومن رقى المنابر، وتبوأ صدور المجالس، فحسنٌ منه أن يقول برفق، ويعظ بلين، وأن يعين الموعوظين على حسن الظن بربهم، فخير دينكم أيسره، وحين بال الأعرابي في المسجد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم: {لا تزرموه -أي لا تقطعوا عليه بوله- إنما بعثتم ميسرين} حكمة في الدعوة، وسلامة في الحجة، وإخلاص في النصيحة، وإحسان في الموعظة.(38/9)
اليسر في المعاملات والتعاملات
أيها المسلمون: شريعة الله كلها يسر وسماحة، وميادين اليسر لا تقع تحت حصر، والتيسير في باب المعاملات والتعاملات من أوسع الأبواب وأهم المطلوبات، فيسروا -رحمكم الله- في الحقوق المالية؛ من المهر، والنفقة، والمطالبة بالدين، والحقوق، ولا تشددوا على المعسر {من يسر على معسرٍ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن نفس عن مسلمٍ كربةً نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة}.
يسروا -وفقكم الله- على العمال والأجراء والموظفين والخدم، فلا تكلفوهم ما لا يطيقون، وإذا كلفتموهم فأعينوهم.
وعلى الولاة والأمراء والآباء والأمهات والأزواج وكل ذي مسئولية أن يرفق بمن تحت يده، ولا يأخذ إلا بحق، وليعف وليصفح {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22]؟
ادفعوا بالحسنى، وإذا أردت أن تطاع فاؤمر بما يستطاع، ولا تنفر ولا تشدد {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران:159].
فاحملوا الزلات، واقبلوا الأعذار، وأعيدوا النظر، واحملوا الناس على السلامة.
ألا فسددوا -رحمكم الله- وقاربوا وأبشروا: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(38/10)
التحذير من التشدد والتنطع
الحمد لله يقول الحق وهو يهدي السبيل، أحمده سبحانه وهو حسبنا ونعم الوكيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا مثيل، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله جاء باليسر والرفق والتسهيل، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ذوي الهدى والتقى والتفضيل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن العسر والتشدد والتنطع كثيراً ما يدعو إليه قلة الفقه في الدين، والجهل بمقاصد الشرع وأصول الملة وضعف العلم، وقد يدعو إليه دوافع من هوى النفوس، وفي الحديث الصحيح: {ولن يشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه، فأوغلوا فيه برفق} يقول ابن نمير: وفي هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوة؛ فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطعٍ في الدين ينقطع، وليس المراد من قام بالأكمل في الدين والعبادة، فإن هذا من الأمور المحمودة، بل المراد منع الإفراط المؤدي إلى الملل، والمبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل.
ومن قلة الفقه في هذا الباب: أن يسلك بعض الناس مسالك التشدد في بعض الظواهر، من الأحكام الفرعية والعبادات والطاعات، ولكنه يتهاون في كبائر معلوم مراتبها من الدين، كالغيبة، والنميمة، والقذف، والحسد، والتماس العيوب للبرآء، وتدبير المكائد لمن خالفه من إخوانه، والوشاية، وأكل أموال الناس بالباطل.(38/11)
الفرق بين التيسير والتساهل
أيها المسلمون: ولا ينبغي أن يفهم من القول بالتيسير والتحذير من التشديد الدعوة إلى التساهل في أمور الدين، عقيدةً وأحكاماً وأخلاقاً، أو التنصل من أحكام الإسلام، أو الضعف في نصرة الدين والحق.
وليس من التيسير الإهمال في تربية البنين والبنات، وتركهم نهباً لزيغ العقائد وتيارات الإلحاد، والبعد عن الالتزام بأحكام الإسلام، والحفاظ عليهم من دواعي الفجور واللهو المحرم بحجة التحضر والبعد عن التعقيد وتغير الزمان.
وليس من التيسير ما يسلكه بعض من ينتمون إلى الثقافة حين يدَّعون سماحة الدين أمام أعداء الإسلام، ويتنصلون من أحكام الدين وتعاليمه، ثم هم من أشد الناس على الصلحاء والأخيار، بل قد يوظفون دعوى التيسير أداةً لقمع الدعوة إلى الإسلام، وكبت الحق وتكبيله بحجة مساوقة العصر ومتغيرات الزمن.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله- ويسروا ولا تعسروا، فإنما بعثتم ميسرين، وسددوا وقاربوا، والقصد القصد تبلغوا.
ثم صلوا وسلموا على البشير النذير، والسراج المنير، الرحمة المهداة للعالمين أجمعين، نبيكم محمدٍ سيد المرسلين، فقد أمركم بذلك ربكم فقال في محكم تنزيله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمدٍ صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، والخلق الأكمل، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الدين، وانصر عبادك المؤمنين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وارزقه البطانة الصالحة، وألبسه لباس الصحة والعافية، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين اللهم أعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه من أطاعك، ويهدى فيه من عصاك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كشمير وفي الشيشان وفي كل مكان يا رب العالمين!
اللهم عليك باليهود المحتلين الغاصبين، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم واجعل الدائرة عليهم يا رب العالمين!
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ؛ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(38/12)
التشبه وروح الانهزام في الأمة
شبابنا اليوم قد انجروا وراء الغرب تشبهاً بلبسهم وبكلامهم وبقصات شعرهم إلخ، والله جل وعلا قد ميز كل أمة عن غيرها بمميزات، وعزة الإسلام تكمن في تميز أهله عن غيرهم من أهل الباطل.
وقد ساق الشيخ في هذا الدرس أحاديث في تحريم التشبه بالكافرين، كما ذكر مجالات التشبه، وبين خطر التشبه على الأمة الإسلامية.
ونبه إلى ضرورة الاستفادة من الآخرين في الصناعات والتقدم التقني، وأنه ليس تشبهاً ولا يدخل ضمن مجالات التشبه.(39/1)
تميز الأمم بعضها عن بعض والحكمة من ذلك
الحمد لله الذي لم يزل بصفات الكمال متصفاً، جوادٌ كريم إذا وعد أنجز ووفى، تواب حليم إذا عصي تجاوز وعفا، أحمده سبحانه وأشكره على ما بسط من آلائه وأوفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو حسبي وكفى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أزكى البرية أصلاً، وأعلى الأنام شرفاً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأئمة الحنفاء السادة الخلفاء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله -رحمكم الله- فإن تقوى الله عروة ما لها انفصام، من استمسك بها حمته -بإذن الله- من محذور العاقبة، ومن اعتصم بها وقته من كل نائبة، فعليكم بتقوى الله فالزموها، وجدوا في الأعمال الصالحة واغتنموها، فالزمان يطوي مسافة الأعمار، وكل ابن أنثى راحل عن هذه الدار.
أيها المسلمون! قضت سنة الله -عز وجل- في هذه الدنيا أن يتصارع الحق والباطل، ويتدافع الهدى والضلال، ويتنازع الصلاح والفساد، وفي محكم التنزيل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:25]، ويقول سبحانه وتعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].
فالتدافع في هذه الدنيا قائم بلا انقطاع، والتنازع سِرٌّ من أسرار هذه الحياة، وناموس من نواميس الله في خلقه، يجري على قدر، وينتهي إلى غاية، تدبير من حكيم عليم، ولقد كان من مقتضى ذلك أن تتعدد المجتمعات في صفاتها، وتتنوع في سماتها، فتلتقي كل جماعة على صفات عامة تؤلف بينها، وتشد بنيانها، وتوثق تماسكها، وتوحد صفوفها، لتبدو كالجسد الواحد، وفي ذات الوقت تتميز كل جماعة أو مجموعة عن غيرها بخصائص وعوامل تجعلها ذات استقلال وانفراد، فتشابه أفراد المجموعة يحفظها من التشتت والتفكك، وأما مخالفتها لغيرها فيحميها من الذوبان والاضمحلال، ودين الإسلام -وهو دين الفطرة- يقرر هذه السنة الإلهية، والنظام الرباني، فقد جعل الله الناس أمماً، كما جعلهم شعوباً وقبائل، فقال سبحانه: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ * وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج:67 - 69].
ويقول سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة:48] وفي هذا الباب وبمقتضى هذه السنن حرص الإسلام على تميز المسلمين عن سائر الأمم بوصفهم أمة مسلمة، فلقد دلت الدلائل والنصوص على حفظ هذا الدين ورعاية تميزه واستقلاله، وخلوصه من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعته ومنهاجه أقوالاً وأفعالاً ومظاهر تباين سبيل المغضوب عليهم والضالين، وتخالف طريق الكفار والمشركين، والمجوس والوثنيين.(39/2)
التحذير من التشبه بالكفار
إن دين الإسلام مبني على الابتعاد عن مشابهة الكفار، ومن أعظم مقاصد الدين وأصوله تميز الحق وأهله عن الباطل وأهله، وبيان سبيل الهدى والسنة والدعوة إليه، وكشف سبيل الضلالة والتحذير منه، وقد أوضح ذلك نبينا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وفصَّله، وأمر أمته بمخالفة الكفار في جميع أحوالهم في العقائد والعبادات، والعادات والمعاملات، والآداب والسلوك.
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {بعثت بين يدي الساعة بالسيف، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم} رواه أحمد في مسنده، ,وأبو داود في سننه، وحسنه الحافظ ابن حجر، وصححه الحافظ العراقي.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، وفي الحديث الآخر: {ليس منا من تشبه بغيرنا} رواه الترمذي.
وقد تكاثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: {خالفوا المشركين} {خالفوا المجوس} {خالفوا اليهود} {خالفوا أهل الكتاب} {ومن تشبه بقوم حُشر معهم}.
وقد أورد أهل العلم على هذا أكثر من مائة دليل، قالوا: "حتى في الصلاة التي يحبها الله ورسوله شُرع لنا تجنب مشابهتهم حتى في مجرد الصورة، كالصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، فريضةً كان ذلك أو تطوعاً".
ويقرر جمعٌ من أهل العلم أن التشبه وجه من وجوه المودة والموالاة، مما يدخل في قوله سبحانه: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22].(39/3)
مجالات التشبه بالكافرين
أيها المسلمون! والتشبه يكون بفعل الشيء لأجل أن الأعداء فعلوه، ومن فعل شيئاً لأن غيره قد فعله فقد تشبه به، ومن تبع غيره في فعل منسوب إليه فقد تشبه به، والمتشبه محب لمن يتشبه به، ومحب لعاداته: {والمرء مع من أحب} والإنسان ميَّال بطبعه إلى نظيره وشبيهه، وهذه طبيعة الإنسان مفطورٌ عليها، وهذا يورث مودة وألفاً، فمن تشبه بقوم أو طائفة وجد في قلبه أنساً بهم وميلاً إليهم، كما يجد نفوراً وابتعاداً ممن يخالفه أو يعارضه، وقد شهد الحس والوجدان بأن النفوس مجبولة على حب من يتبعها، ومن تشبه بغيره في مظهره وعادته وسلوكه ولغته أو أي شيء من أشيائه، فإنه يولد إحساساً بالتقارب، وشعوراً بالتعاطف، والطيور على أشباهها تقع، فإذا كانت المشابهة في الأمور الدنيوية تورث مثل هذه المحبة والمودة والميول والمشاكلة؛ فكيف بأمور الدين والتربية والأخلاق والإعجاب بأحوال الأعداء ومبادئهم ونظمهم؟ فإنَّ إفضاءها إلى أنواع من الموالاة أكثر وأشد مما قد يقود الواقع فيها إلى الدخول في قضايا الإيمان ومسائل الاعتقاد.
أيها المسلمون! ومن أجل هذا فقد تكاثرت النصوص وتواترت في التحذير من التشبه بالكفار في جميع مللهم وعقائدهم، وفي كل ما له صلة بالعقائد والعبادات والعادات، ففي باب العقائد جاء النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وعن الغلو في الصالحين، واتخاذ القبور مشاهد ومزارات والبناء عليها، كما جاء النهي عن التفرق في الدين، وعن العصبيات والتحزبات والشعارات، وكذلك النياحة على الميت، والفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، وحمية الجاهلية.
وفي العبادات ورد النهي في مسائل كثيرة من أبواب الأذان والمساجد، والصلاة في أوقات صلاتهم أو هيئاتها، والصيام في أوقات صيامهم، والحج على طريقتهم، والنكاح والذبائح والأعياد.
وفي العادات والآداب من اللباس والزي والزينة، والطعام، وتوفير اللحى، وحف الشوارب، وتغيير الشيب، وطريقة إلقاء السلام، والجلوس، والاضطجاع، والأكل بالشمال، والتختم بالذهب، وإسبال الثياب، وحمل الصور، واصطحاب الكلاب، والفن الساقط، والطرب، ومزامر الشيطان.(39/4)
خطر التشبه بالكفار
إن التشبه بالكفار عقائدهم وعباداتهم إظهار لأديانهم الباطلة وعباداتهم الفاسدة ونشرٍ لها، والتشبه بالعادات والصفات إهانة للأمة، وشعور بالضعف والذلة، والتبعية والدونية.
وإن المخالفة فيما أمر المسلمون فيه بالمخالفة مصلحة في الدين، وإبقاء عليه، وحفظ له من أسباب الانحلال، كما أن الموافقة فيما نهي عن الموافقة فيه مضرة بالدين وموقعة في أسباب الانحلال.
ومع الأسف! فقد نبتت نابتة في العصور المتأخرة، وفي أعقاب الزمن ذليلة مستعبدة، ديدنها التشبه والاستخذاء، ووجد في بعض أهل الرأي وبعض الضعاف من المنتسبين إلى العلم من يهون أمر التشبه بالكفار في اللباس والهيئات والمظهر والخلق، حتى صاروا مسخاً في الأمة، فترى الاستئناس بأحوال الأعداء، والرضا عن مسالكهم، وازدراء المسلمين وتنقصهم، والتنكر للجميل من عوائدهم ومحافظتهم واحتشامهم في سلوكم ولباسهم، ومن انسلخ من عوائد أهل دينه فقد أبرز شأن أعدائه وقدم أمرهم على أمر المسلمين.
إن كثيراً منهم يعيشون تشبهاً يقود إلى الذوبان والانحلال والتهتك، بل يقود إلى الفسوق والفجور والحرية المتفلتة، والاختلاط المحرم، وقبول التبرج والسفور، وإبداء الزينة المحرمة، وبسبب الغفلة عن هذه القضية، ضعفت معنويات كثير من المسلمين، وتضعضعت أحوالهم، وتبلبلت أفكارهم، ونشأت فيهم النظريات الهدامة، والأفكار المنحرفة، في عقولهم وديارهم، وشب فيهم فئات لا تعرف للدين منزلة، ولا تعترف للفضيلة بوزن، مظاهر التغريب، وبواطن الانحراف في الأخلاق والعادات، والإفراط في أنواع من الفسوق والفجور، وانتشار الجرائم، مما لم يكن معهوداً في أوساط المسلمين، ترى ما الذي أصاب فئات من أبناء الأمة، فتساقطوا في أحضان الأعداء، خفة في الوزن، وضعة في القدر، فلا دين لله أقاموا، ولا أعداؤهم لهم صدقوا وأخلصوا، فمهما قدم هؤلاء الضعاف من تنازلات وذابوا في شخصيتهم ولاقوا رطانتهم فلن يجدوا ناصراً، ولن يكسبوا وداً: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} [الملك:20].
أيها المسلمون! إن التحذير من التشبه هو دعوة المصلحين الخُلَّص من حُرَّاس الملة، إنهم مُصلحون أبصروا بالعلل وأسباب الهزائم، وفقهوا طرق العزة وأسباب طمس الهوية ومسالك التبعية من مظاهر الشخصية، والحياة والتفكير مصلحون يدركون أن صحة الطريق بصفاء التميز وتأكيد الخصوصية.
فمن كان شحيحاً بدينه، راغباً في خلاص مهجته من عذاب الله فليتق الله، وليلزم هدي الإسلام، ويتبع سبيل المؤمنين، وليحذر طريق المشركين، والمغضوب عليهم والضالين.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:30 - 32].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(39/5)
الاستفادة من الآخرين في أمور الدنيا
الحمد لله خلق النفوس فألهمها فجورها وتقواها، وأرشدها إلى هداها، وحذرها من رداها، أحمده سبحانه وأشكره، شكر من عرف نعمه فرعاها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رضيت به رباً وإلهاً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرفع الخلق قدراً، وأعظمهم جاهاً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله! لقد أكمل الله هذا الدين ورضيه، وأتم به على المسلمين نعمته {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]، فكانت هذه الأمة بالإسلام خير الأمم، ومن المعلوم قطعاً وجزماً أن هذه الخيرية نابعة من كمال دينها، وصفاء عقيدتها، ووفاء شريعتها، لا تكون العزة ولا يتحقق السمو إلا به، بل لا تكون النجاة في الدارين إلا بطريقه، والبشر محتاجون إليه حاجتهم إلى الغذاء والهواء، ومن كمال الدين واكتمال الصورة التفريق البين في ديننا بين منع المشابهة في العقائد والأحكام والأخلاق وبين مشروعية الإفادة مما عند الآخرين من علوم ومعارف وصناعات وأساليب تجارة، ووسائل تقانة، فهذا غير تشبه؛ لأن العلوم والصناعات ترجع -بإذن الله وتوفيقه- إلى الجهود البشرية البحتة من المعلومات والمعقولات والتجارب، كما أن باب البر والصلة، والإحسان والعدل شيء غير الموالاة والمودة: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
إن الإسلام لم يُحفظ كيانه، ولم يحتفظ بقوته إلا بالاستقلال في شريعته، وانفراده بأخلاقه ومبادئه، وبعده عن التشبه القائد إلى الذوبان، والمروق والانحلال.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله- واعرفوا فضل الله ومنته، وعظموا أمر دينكم، وقدروه قدره، فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكنَّ المنافقين لا يعلمون.
ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أُمرتم بذلك في كتاب الله، فقال ربكم جل في علاه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضِ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وفضلك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك المؤمنين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الدين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وعبادك الصالحين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق والتوفيق والتأييد والتسديد إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وخذه بناصيته للبر والتقوى، وأيده بالحق وأيد الحق به، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نصرة لأوليائك، وارزقه البطانة الصالحة، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، واتباع سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين، واجمعهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك، لإعلاء كلمتك، وإعزاز دينك، اللهم انصرهم في فلسطين وكشمير والشيشان، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم سدد سهامهم وآراءهم، وأنزل عليهم نصراً من عندك، اللهم واخذل اليهود ومن شايعهم، اللهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، واجعل بأسهم بينهم.
اللهم وأرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب! اهزم اليهود واخذلهم، وزلزل الأرض من تحتهم، اللهم واجعل بأسهم بينهم فإنهم لا يعجزونك.
اللهم إنهم قد طغوا وبغوا وآذوا وأفسدوا وعتوا في الأرض فساداً، وعتوا في عباد الله تقتيلاً وتنكيلاً وهدماً وتشريداً، اللهم عليك بهم، واكفناهم بما شئت يا رب العالمين.
اللهم وارفع عنا الغلاء والوباء والربى والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(39/6)
تفسير سور الفاتحة
إن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن على رسولنا صلى الله عليه وسلم على الأحداث والوقائع -أي: مفرقاً- وجعل سوره متفاضلة، فبعضها أفضل من بعض، ومن هذه السور سورة الفاتحة التي جعلها الله أم القرآن الكريم، وركناً من أركان الصلاة، ومفتاحاً للخير والبركات، وجعلها الله شفاء للأرواح والأبدان، وضاعف الأجر والمثوبة لمن اهتدى بهديها.(40/1)
فضل سورة الفاتحة
الحمد لله علَّم القرآن وعلم بالقلم، أخرجنا بهدي كتابه وسنة نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم من حوالك الظلم، أحمده سبحانه وأشكره على عظيم ما تفضَّل وجزيل ما أنعم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأعز الأكرم، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أنزل عليه الكتاب والحكمة وعلَّمه ما لم يكن يعلم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وسار على النهج الأقوم.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فإن ما توعدون لآت، وتزودوا بزاد التُقى قبل الفوات، فلقد علمتم أن أهل هذه الدار مُعرَّضون للآفات، فحاسبوا أنفسكم رحمكم الله، وبادروا بالأعمال الصالحات، قبل أن يفاجأكم هادم اللذات، وارجعوا إلى ربكم فربكم يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.
أيها المسلمون! القرآن هو هداية الله العظمى، صلح باتباعه من لم يعرف قبله صلاحاً، وأفلح بهديه من لم يجد من دونه فلاحاً، وما فقد كثيرٌ من المسلمين اليوم مجد الصالحين من أسلافهم والعزة في الأولين من آبائهم؛ إلا لأنهم لم يهتدوا بالقرآن كهدايتهم، ولم يأخذوا كتاب ربهم بقوة مثل أخذهم، وغفلوا غفلة جسيمة عن القاعدة العظيمة: {لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها} وإذا حصل الضلال -عياذاً بالله- واتباع الهوى، وتجاوز الحق؛ اختلفت قوى الإدراك في الناس، وحينئذٍ تضطرب الأعمال، وتموت العهود، وتفسد الأخلاق، ويحل الشقاء، وتفشو الفرقة، ويسلط الله على الأمة من يستذلها، ويستأثر بشئونها، ويعبث بمقدراتها، ثم يحيق الهلاك، وتمحى الآثار والديار -عياذاً بالله- ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
أيها الإخوة المسلمون: وبين يدي الأمة سورة عظيمة ترسم طريق الهداية وسبيل النجاة، بل تحوي مجمل مقاصد القرآن العظيمة، ومعانيه العالية، من الحكم العلمية، والأحكام العملية، فلئن كان مجمل مقاصد القرآن ومعانيه الثناء على الله ثناءً جامعاً، ووصفه بجميع المحامد، وتنزيهه عن جميع النقائص، وتفرده بالربوبية والألوهية، ثم الأمر والنهي والوعد والوعيد وبيان العاقبة والبعث والجزاء، وسبيل المؤمنين، وطريق الضالين، والنبوات والمواعظ، والأمثال والقصص والعبادات والمعاملات، وتهذيب الأخلاق، وآداب الشرع من أعمال القلوب والجوارح لئن كانت كل هذه المعاني الجليلة هي المقاصد؛ فلقد حوت كل ذلك هذه السورة العظيمة.
سورة يقرؤها المسلمون ويرددونها، يحفظونها ويتلونها الصغير منهم والكبير الذكر والأنثى، المتعلم وغير المتعلم إنها فاتحة الكتاب أم القرآن والسبع المثاني الشفاء التام، والدواء الناجع، والرقية النافعة مفتاح الغنى والفلاح، ودافعة الهم والغم والخوف والحزن لمن عرف قدرها، وأعطاها حقها، وأحسن تلاوتها وتدبرها سماها ابن عباس رضي الله عنهما أساس القرآن، وقال سفيان بن عيينة رحمه الله: إنها الوافية، ونعتها يحيى بن كثير رحمه الله: "بالكافية".
أعظم سورة في كتاب الله، يقرؤها المسلم والمسلمة في الصلوات كلها فرضها ونافلتها، فكان من المتعين فهم معناها، وتدبر المراد منها، فالتدبر طريق الخشوع، والفهم معينٌ على حسن العمل، والمسلم في أمس الحاجة إلى معرفة معانيها وإدراك مراميها.
أخرج الإمامان: أحمد والبخاري رضي الله عنهما وغيرهما عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: {كنت أُصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، فقلت: يا رسول الله! إني كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال:24] ثم قال عليه الصلاة والسلام: لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن نخرج من المسجد، ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته}.
وروى الإمام مسلم والنسائي وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {بينما جبريل عليه السلام قاعدٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ سمع نقيضاً من فوق فرفع رأسه، وقال: هذا بابٌ من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيٌ قبلك "فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة" لم تقرأ بحرفٍ منهما إلا أعطيته}.
وعند البخاري وأحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم}.
وعند الدارمي والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الحمد لله أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني} قال الترمذي: هذا حديثٌ حسن صحيح.(40/2)
توضيح معاني سورة الفاتحة
معاشر الأحبة المسلمين: من ساعده التوفيق، ونظر بنور البصيرة، تأمل معاني هذه السورة العظيمة، ووقف على أسرارها وما اشتملت عليه من أُمهات المطالب العالية، ودقائق التوجيهات السامية، والحكم والأحكام.
أول السورة رحمة، وأوسطها هداية، وآخرها نعمة، وحظ العبد من النعمة على قدر حظه من الهداية، وحظه من الهداية على قدر حظه من الرحمة، فعاد الأمر كله إلى نعمة الله ورحمته وفضله وهدايته، فمن حقق معاني سورة الفاتحة عِلماً ومعرفةً وعملاً وحالاً فقد فاز من الكمال بأوفر نصيب، وصارت عبوديته مع التوفيق والإخلاص عبودية الذين ارتفعت درجتهم إلى مراتب الكمال والإصابة.(40/3)
مدلول البسملة والحمدلة
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:1] {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] أدب الله هذه الأمة فعلَّمها الابتداء بذكر أسمائه الحسنى، وحمده على آلائه العظمى، أمام كل ذي بالٍ من أفعالهم وأقوالهم، وقبل المهم من شئونهم وحاجاتهم، وجعل ذلك سنة يستنون بها وسبيلاً ينتهجونها، فباسمه وحمده افتتاح كلامهم، وصدور رسائلهم، وكتبهم وحاجاتهم، والحمد أوسع الصفات، وأعم المدائح، وجميع أسماء ربنا حمد، وكل صفاته حمد، وأفعاله حمد، وأحكامه حمد، وعدله حمد، ورحمته حمد، وفضله حمد، وإحسانه حمد، وكل صفة عليا واسمٍ حسن وثناءٍ جميل فلربنا جل وعلا أحسنه وأعلاه وأجمله، وكل حمدٍ ومدحٍ وتسبيح وتنزيهٍ وتقديسٍ وجلالٍ وإكرام فلربنا عز وتبارك أكمله وأتمه وأدومه، وهو رب العالمين المالك المتصرف في الخلائق أجمعين، وكل ما سوى الله عالمَ.(40/4)
(مالك يوم الدين)
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]
الملك والحمد في حق ربنا متلازمان، فكل ما شمله ملكه وقدرته شمله حمده وتمجيده، فهو سبحانه محمودٌ في ملكه، وله الحمد والقدرة مع حمده وثنائه، ويوم الدين يوم الجزاء والحساب، وقد تفرد الرب سبحانه بالحكم بين العباد {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:16 - 17].(40/5)
لزوم العبادة والاستعانة
ثم قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
إقرارٌ من العبد وإعلانٌ والتزام بإفراد الله بالعبادة والتوحيد، والبراءة من الشرك وأهله، دقيقه وجليله، وإعلانٌ والتزامٌ بالاعتماد عليه، وتفويض جميع الأمور إليه، فله سبحانه نخشع ونذل ونستكين، إعلانٌ بما صدع به الإسلام من تحرير الأنفس لله، وتخليصها لعبادته وحده لا شريك له، فلا يشرك معه أحد، لا في ربوبيته وألوهيته، ولا في محبته وخوفه، ولا في رجائه والتوكل عليه، فالخضوع والتذلل والتعظيم والسجود والتقرب كل ذلك له وحده فاطر السماوات لا إله إلا هو.
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) تجمع الديانة والشريعة، (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) تجمع الإخلاص والتوكل والتفويض، قال بعض أهل العلم: " من أقر بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وحققها فقد برأ من الجبر والقدر ".
وقال بعض السلف: "الفاتحة سر القرآن" وسر الفاتحة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فالأولى تبرؤ من الشرك، والثانية تبرؤ من الحول والقوة مع التفويض إليه سبحانه، على حد قوله سبحانه في الآية الأخرى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123]، وقوله سبحانه: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [المزمل:9].(40/6)
طلب العبد الهداية والتوفيق
ثم قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6].
الهداية إلى الصراط المستقيم من أجل المطالب، ونيل ذلك أشرف المواهب، وتحصيله أنجح الرغائب، فقد علَّم الله عباده كيف يسألونه، فأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده وثناءه وتمجيده، والإقرار بتوحيده، والخضوع له، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم، توسلٌ إليه بأسمائه وصفاته وتوسلٌ إليه بعبوديته، وهما وسيلتان لا يكاد يرد معهما دعاء، فنصف السورة الأول: مجمع الحمد والثناء، ونصفها الثاني: مجمع الحاجات والمطلوبات، فأمرنا سبحانه أن نسأله هداية الصراط المستقيم كل يومٍ وليلة، في صلواتنا الفرائض منها والنوافل، بل في كل ركعةٍ من صلواتنا، فالعبد محتاج إلى معرفة الحق في كل حركة ظاهرة وباطنة، ثم إذا عُرِفَ الحق فهو بحاجةٍ إلى معرفة من يلهمه قصد الحق فيخلص لذلك من قلبه، ثم هو محتاجٌ إلى أن يكون قادراً على فعل الحق، ومن عرف هذه المراتب أدرك أنه محتاجٌ إلى هدايةٍ متجددة في كل وقت، ولهذا فإننا نكرر هذا الطلب والدعاء في كل صلاة وفي كل ركعة.
إنه سبيل السعادة والاستقامة على الصراط المستقيم، ولن تكون الاستقامة إلا بالهداية من الله سبحانه؛ فمن لم يجعله ربه عالماً بالحق لم يكن له سبيل إلى الاهتداء، ومن أجاب الله دعاءه أوقفه على الهداية بمراتبها من العلم والقدرة والتوفيق والتثبيت وصرف الموانع والعوارض؛ فيتبين له الرشد من الغي، وطريق المنعم عليهم وطريق ضدهم، فالصراط المستقيم واحد، عليه جميع أنبياء الله ورسله وأتباعهم من الذين أنعم الله عليهم من الصديقين والشهداء الصالحين، ذلكم: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].(40/7)
المنحرفون عن الصراط المستقيم
ثم قال تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7].
هذا بيانٌ لطرفي الانحراف عن الصراط الحق المستقيم، فأحدهما طريق أهل الغضب الذين عدلوا عن الحق قصداً وعناداً، فعندهم فساد في القصد والعمل، والثاني طريق أهل الضلال الذين عدلوا عنه جهلاً وضلالاً، فعندهم فساد في العلم والاعتقاد، فالعالم بالحق المتبع لهواه من المغضوب عليهم، والجاهل بالحق من الضالين، فالمغضوب عليهم ضد المرحومين، والضالون ضد المهتدين.
واليهود أنموذج للمغضوب عليهم؛ لأنهم ممن عرف الحق واستبان له؛ فكفر به وجحده، يقول سبحانه: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة:90]، وقال سبحانه: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة:60].
والنصارى أنموذج لأهل الضلال، يقول سبحانه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77].
وفي الترمذي وصحيح ابن حبان من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {اليهود مغضوبٌ عليهم، والنصارى ضالون} قال الترمذي: حسنٌ غريب.
أيها المسلمون: وكل عبدٍ محتاج دائماً إلى هذا الدعاء: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] فإنه لا نجاة في الدارين إلا بهذه الهداية، ولا وصول إلى السعادة في الحياتين إلا في ذلك، ومن فاته الهدى فهو إما من المغضوب عليهم وإما من الضالين، فالصراط المستقيم يجمع أحوال الإنسان كلها من العقائد والعبادات والمعاملات والآداب.
قال الله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] من الأفراد الأتقياء، والأمم الفاضلة الذين بهم الاقتداء والتأسي {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] يجمع أحوال أهل الفساد والأهواء أفراداً وجماعاتٍ، وأحزاباً وطوائف؛ لاجتناب طريقهم والحذر من مسالكهم.
وبعد يا عبد الله! فلا جرم! فقد حصل من معاني هذه السورة العظيمة أم القرآن علمٌ إجمالي بما حواه القرآن الكريم من المقاصد والمعاني والأغراض، فلا غرو أن تكون فاتحة الكتاب وأم القرآن والسبع المثاني.
رزقنا الله حسن تلاوة كتابه والعمل به، وجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:85 - 87].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(40/8)
فاتحة الكتاب شافية للأرواح والأبدان
الحمد لله الذي أنزل كتابه مفصل الأحكام، ومحكم الآيات، أحمده سبحانه عمَّت نعماؤه وتوالت منه المنح والمكرمات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تقَّدس في الذات وفي الأسماء والصفات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، ختمت بنبوته النبوات، وكملت برسالته الرسالات، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته أفضل الصلوات، وأتم التسليمات، وأزكى البركات، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسماوات.
أما بعد:
أيها المسلمون: إن فاتحة الكتاب شافية بإذن الله للداء، كافية للهم، واقية من السوء، رقية لكل مسلم، اشتملت على شفاء القلوب والأبدان.
أما القلوب فمدار أمراضها وأسقامها على أمرين:
الأول: فساد العلم.
الثاني: فساد القصد.
ويترتب على ذلك داءان قاتلان:
داء الضلال وداء الغضب.
فداء الضلال نتيجة لفساد العلم، وداء الغضب نتيجة لفساد القصد، وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها، وهداية الصراط المستقيم تتضمن الشفاء من مرض الضلال، وتحقيق (إياك نعبد وإياك نستعين) علماً وعملاً، يتضمن الشفاء من مرض فساد القلب والقصد.
وأما تضمنها شفاء الأبدان فهذا خبر أبي سعيد الخدري رضي الله عنه كما في صحيح البخاري وغيره: {أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتوا على حي من أحياء العرب فلم يقروهم، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك القوم فقالوا: هل معكم من دواء أو راق؟ فقالوا: إنكم لم تقرونا، ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الشاة، فجعل يقرأ بأم القرآن ويجمع بزاقه ويتفل فبرأ، فأتوا بالشاة، فقالوا: لا نأخذه حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه فضحك وقال: وما أدراك أنها رقيه؟! خذوها واضربوا لي بسهم} وفي رواية: {فجعل الصحابي يقرأ على الملدوغ بفاتحة الكتاب، فقام اللديغ كأن لم يكن به قلبة}.(40/9)
فضل تدبر سورة الفاتحة
أيها المسلم: وينبغي قراءة الفاتحة على مكثٍ وحسن ترتيل وتمهل بخشوع وتدبر، يقف على رءوس الآي، ويعطي القراءة حقها اتقاناً وتجويداً، بعيداً عن التكلف، مع إخلاصٍ يطرد الغفلة، ويجلب الخشية، ويعين على الفهم، ويستفيض ما غاص من الدمع، ففي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب}، وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من صلى صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج} بل إن الله عز شأنه في الحديث القدسي سمَّى الفاتحة صلاة؛ بياناً لعظم شأنها، وكبر منزلتها، فقد أخرج الإمامان مالك ومسلم رحمهما الله وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إليَّ عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل} واللفظ لـ مسلم.
ثم بعد الفراغ من الفاتحة يُشرع التأمين، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: آمين، يمد بها صوته.
معاشر المسلمين: هذه هي سورة الفاتحة أم القرآن سبع آيات محكمات، فيها حمد الله وتمجيده، وذكر المعاد، والجزاء، وتوحيد الله، وإخلاص العبادة له، والتضرع إليه بسؤال الهداية إلى صراطه المستقيم، والثبات عليه، فالصراط المستقيم هو القائد إلى الصراط الممدود يوم القيامة، المفضي لمن سلكه إلى جنات النعيم، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
والحذر ثم الحذر من مسالك الباطل وأهله ممن غضب الله عليه ولعنه وأضله، وتجنب طريقهم لئلا يحشر معهم.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وأحسنوا القراءة لكتاب ربكم والتدبر والعمل، فقد أنزله ربكم تذكرةً لمن يخشى، ويسره للذكر فهل من مدكر.
ثم صلوا وسلموا على نبي الرحمة والملحمة نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم فقال في محكم تنزيله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، والخلق الأكمل، وعلى آله وأزواجه وذريته، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، الأئمة المهديين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الدين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق والتوفيق والتأييد والتسديد إمامنا وولي أمرنا، واكتب له الصحة والسلامة والعافية، وأعز به دينك، وأعل به كلمتك، وارزقه البطانة الصالحة، التي تدله على الخير وتعينه عليه، اللهم وأيده بالحق وأيد الحق به، واجمع به كلمة الحق يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشدٍ، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لنصرة دينك، وإعلاء كلمتك، اللهم انصرهم في فلسطين وكشمير وفي الشيشان وفي كل مكان يا رب العالمين!
اللهم أيدهم وسددهم، اللهم سدد سهامهم وآراءهم، واجمع كلمتهم، ووحد صفوفهم، اللهم واجعل الدائرة على أعدائهم، اللهم وشتت شملهم، وفرِّق جمعهم، واجعل بأسهم بينهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يُرَّد عن القوم المجرمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(40/10)
خطبة الاستسقاء
إن هذه الحياة مدبر مقبلها، مائل معتدلها، كثير عللها، إن أضحكت بزخرفها قليلاً، فلقد أبكت بأكدارها طويلاً، ولا مخرج لنا من أكدارها إلا بالتزام شرع الله وطاعته، والابتعاد عن معصيته؛ لأن المعاصي والذنوب سبب كل بلاء وعقوبة، فإلى متى الغفلة وقد فشا الفساد في المجتمعات؟! إنه لا مخرج من سخط الله وعقابه إلا بالتوبة والرجوع إلى الله.(41/1)
خطر المعاصي والذنوب
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، سبحانه وبحمده، أوجد الكون ودبَّره، وخلق الإنسان من نطفة فقدره، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ، ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ.
والشكر لربنا على جميل لطفه، وجزيل ثوابه، وواسع فضله، عَظُم حِلْمُه فستر، واستغفره المذنبون فغفر، وبسط يده بالعطاء فأكثر، قصَدَتْه الخلائق بحاجاتها فأعطاها، وتوجهت إليه القلوب بلهفاتها فهداها.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تكفَّل برزق جميع الخلائق، وتعرَّف إلى خلقه بالدلائل والحقائق، له الحكمة فيما قدَّر وقضى، وإليه وحده تُرفَع الشكوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرفعُ عباد الله قدراً، وأكثرهم لمولاه شكراً، وأعظمهم لربه ذكراً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، صفوة الله من خلقه، وخيرته من عباده، والتابعين ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه، نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه، سبحانك ربنا، أنت إلهنا، ونحن عبيدك، أنت الملك، لا إله إلا أنت، ظلمنا أنفسنا، واعترفنا بذنوبنا، فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت.
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله -رحمكم الله- فتقوى الله طريق النجاة والسلامة، وسبيل الفوز والكرامة، بالتقوى تزداد النعم، وتتنزل البركات، وبها تُصْرَف النقم، وتستدفع الآفات.
عباد الله: تأملوا في هذه الحياة، مُدْبِرٌ مُقْبِلُها، ومائلٌ مُعْتَدِلُها، كثيرةٌ عللها، إن أضحكت بزخرفها قليلاً، فلقد أبكت بأكدارها طويلاً.
تفكروا في حال مَن جَمَعَها ثم مُنِعَها، انتقلت إلى غيره، وحَمَل إثمها ومغرمها، فيا لحسرة من فرط في جنب الله! ويا لندامة من اجترأ على محارم الله! أقوام غافلون، جاءتهم المواعظ فاستقلوها، وتوالت عليهم النصائح فرفضوها، توالت عليهم نعم الله فما شكروها، ثم جاءهم ريب المنون، فأصبحوا بأعمالهم مرتهَنين، وعلى ما قدمت أيديهم نادمين: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207].(41/2)
المعاصي والذنوب سبب كل عقوبة وبلاء
عباد الله: ما حل بسالف الأمم من شديد العقوبات، ولا أُخِذوا مِن غِيَرٍ بفظيع المَثُلات، إلا بسبب التقصير في التوحيد والتقوى، وإيثار الشهوات، وغلبة الأهواء: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96].
إن كل نقص يصيب الناس في علومهم وأعمالهم، وقلوبهم وأبدانهم، وتدبيرهم وأحوالهم، وأشيائهم وممتلكاتهم، سببه -والله- الذنوب والمعاصي: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].
إنَّ ما تُبْتَلى به الديار، من قلة الغيث، وغور الآبار، وما يصيب المواشي والزروع من نقصٍ وأضرار، ليس ذلك لعمر الله من نقص في جود الباري جل شأنه وعَظُم فضله، كلا ثم كلا!
ولكن سبب ذلك كله إضاعة أمر الله، والتقصير في جنب الله.
إن المعاصي تفسد الديار العامرة، وتسلب النعم الباطنة والظاهرة، كيف يطمع العبد في الحصول من ربه على ما يحب، وهو مقصر فيما يجب، ذنوب ومعاصٍ إلى الله منها المشتكى، وإليه وحده المفر، وبه سبحانه المعتصَم.
اضطراب عقدي، وتحلل فكري، وتدهور أخلاقي، جَلََبَته قنواتٌ فضائية، ووسائلُ إعلامية، وشبكاتٌ معلوماتية، رِباً وَزِناً، وضعفٌ في العفة والحشمة، فتنٌ ومحنٌ بألوانها وأوصافها، ألوان من الجرائم والفسوق والفجور والانحراف، بل إلحاد وكفريات، من خلال كثير من القنوات، ثم تظالُمٌ بين العباد، وأكلٌ للحقوق، ونهبٌ لأموال الناس بالباطل، كيف يُرجَى حصول الغيث وفي الناس مقيمون على الغش، ومصرُّون على الخيانات، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد برئ من الغش والكذب، والمكاسب الخبيثة تستدرج صاحبها، حتى تمحقه محقاً، وتنزع البركة منه نزعاً.
نعم، لولا الذنوب وآثارها، والمظالم وشؤمها، لصبت السماء أمطارها، ولبادرت غيثها ومدرارها.(41/3)
صور المجاهرة بالمعاصي
عباد الله: إن من البلاء ألا يحس المذنب بالعقوبة، وأشد منه أن يقع السرور بما هو بلاء وعقوبة، فيفرح بالمال الحرام، ويبتهج بالتمكن من الذنب، ويُسَر بالاستكثار من المعاصي، ألا ترون المجاهرة بالمعاصي وإعلانها؟! كيف تُرْجَى السلامة والعافية مع المجاهرة؟! وقد قال نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم: {كل أمتي معافىً إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة: أن يعمل العبد بالليل عملاً، ثم يصبح قد ستره ربه، فيقول: يا فلان، قد عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، فيصبح يكشف ستر الله عليه}.
ومن المجاهرة: أن يذكر الماجن مجونه، وينشر الفاسق فسقه في خمور ومعازف، وآلات غناء محرم.
يا أصحاب الإعلام والأقلام! اتقوا الله فيما تكتبون وتنشرون.
إذا اشتدت ملابسة الذنوب للقلوب، أفقدتها الغيرة على الأهل والمحارم؛ فلا تستقبح قبيحاً، ولا تُنكر منكراً.
أيها المسلمون: لقد فشا في كثير من المجتمعات الربا والزنا، وشُرِبت الخمور والمسكرات، وأدمنت المخدرات، وكَثُر أكل الحرام، وتنوعت فيه الحيل، شهاداتٌ باطلة، وأيمانٌ فاجرة، وخصومات ظالمة، ارتفعت أصوات المعازف والمزامير، وفشت رذائل الأخلاق ومستقبح العادات، في البنين والبنات، فإلى متى الغفلة عن سنن الله؟! ونعوذ بالله من الأمن من مكر الله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53].(41/4)
الحث على التوبة والعودة إلى الله تعالى
أيها الإخوة في الله: إن ربكم يخوفكم بالآيات والنذر، والشدة والنكال، زلازل وبراكين، ورياح وأعاصير، وحروب وفيضانات، يصيب بها من يشاء، ويصرفها عمَّن يشاء، وهو شديد المحال.
عباد الله: تفكروا رحمكم الله في حُكْم المولى وحِكْمته في تصريف الأمور، وتدبير الأحوال، ما أصاب العباد فبما كسبت أيديهم؛ ولكنه بفضله يعفو عن كثير: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45].
ومن أجل هذا: فارجعوا إلى ربكم، وتوبوا إليه، واستغفروه، وأحسنوا الظن به، واجعلوا الرجاء في مولاكم نصب أعينكم، ومحط قلوبكم، فربكم نعم المولى ونعم المرتجى، يغفر الذنوب، ويكشف الكروب، ولا يملأنّ قلوبكم اليأس من رَوح الله وفضله وإفضاله، فتظنون به ما لا يليق بجلاله وكماله، أليس هو الذي رزق الأجنة في بطون أمهاتها، رباها صغاراً، وغمرها بفضله كباراً؟! تراكمت الكروب فكشفها، وحلَّت الجدوب فرفعها، أطعم وأسقى، وكفى وآوى، وأغنى وأقنى، نعمه لا تُحصى، وإحسانه لا يستقصى، كم قصَدَتْه النفوس بحوائجها فقضاها؟! وانطرحت بين يديه ففرَّج كربها وأرضاها؟! سبحانه وبحمده! لا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، هو ربنا ومولانا، وهو أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.
فراجعوا أنفسكم -رحمكم الله- بالاعتراف بتقصيركم وعيوبكم، وتوبوا إلى ربكم مِن جميع ذنوبكم، ووجِّهوا قلوبكم إلى مَن بيده خزائن الرحمة والأرزاق، وأمِّلوا الفرَج من الرحيم الخلاق، فأفضل العبادة انتظار الفرج، واحذروا اليأس والقنوط، واجتنبوا التسخط والضجر، توبوا إلى ربكم من ذنوب تمنع نزول الغيث، وأقلعوا عن مظالم تحجب أبواب البركة، تعطَّفوا على فقرائكم بالرحمة والإحسان، أدُّوا الحقوق إلى أصحابها، وردُّوا المظالم إلى أهلها، قوموا بمسئولياتكم على وجهها، أحسنوا إلى الخدم والعاملين، واليتامى والمستضعفين، أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تأكلوا أجرهم ومرتباتهم، مرُوا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وأصلحوا ذات بينكم، وأحسنوا تربية بناتكم وأبنائكم وبَرُّوا والدِيكم، وصِلُوا أرحامكم، أدُّوا زكاة أموالكم طيبةًَ بها نفوسكم، وتصدقوا من فضول أموالكم، واتقوا النار ولو بشق تمرة.
عباد الله: هأنتم قد حضرتم بين يدي ربكم، تبسطون إليه حاجتكم، وتشكون جدب دياركم، وذلكم بلاء من ربكم، فلعلكم إليه ترجعون، ومن ذنوبكم تستغفرون، فأقبلوا عليه وتقربوا بصالح الأعمال لديه، ابتهلوا وتضرعوا وادعوا واستغفروا، فقد ربط سبحانه في كتابه بين الاستغفار وحصول الغيث المدرار.
اقرءوا وصية نبي الله نوح عليه السلام لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10 - 12].
ووصية هود عليه السلام لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود:52].
ولازموا الثناء على ربكم، وأكثروا من الصلاة والسلام على نبيكم، الهادي البشير، سيدنا وإمامنا وقدوتنا، فالدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى يُصَلَّى على النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الأثر.
اللهم صلَّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم صل على محمد وعلى آله وأزواجه وأصحابه.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
اللهم اسقنا غيثاً، مغيثاً، هنيئاً، مريئاً، طبقاً، سحاً، مجللاً عاماً، نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل.
اللهم تحيي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد.
اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب، ولا هدم، ولا بلاء، ولا غرق.
اللهم اسقِ عبادك وبلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحيِ بلدك الميت.
اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، وأنزل علينا من بركاتك، واجعل ما أنزلته قوةً لنا على طاعتك، وبلاغاً إلى حين.
اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تَمْنَعَنَّا بذنوبنا فضلك، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تَمْنَعَنَّا بذنوبنا فضلك، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تَمْنَعَنَّا بذنوبنا فضلك.
سبحان الله، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا، رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
اللهم ارفع عنا من الجوع والجهد والعري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه إلا أنت.
اللهم إن نستغفرك، إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً.
اللهم اسقنا الغيث، وآمِنا من الخوف، ولا تجعلنا آيسين، ولا تهلكنا بالسنين.
اللهم ارحم الأطفال الرُّضَّع، والشيوخ الرُّكَّع، والبهائم الرُّتَّع، وارحم الخلائق أجمعين.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام، يا بديع السموات والأرض، يا حي يا قيوم!
لا تكلنا إلى أنفسنا، ولا إلى حولنا، ولا إلى قوتنا، فإننا فقراء إليك، محتاجون إليك، اللهم فارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، وأغث قلوبنا وديارنا.
اللهم أغدق علينا من كرمك العميم، واصبغ علينا من فضلك العظيم.
اللهم إنا نسألك البركة في أعمالنا وأعمارنا، وأولادنا وبلادنا، وأموالنا وأوقاتنا، وحروثنا وزروعنا، وتجاراتنا وصناعاتنا.
رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا، رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
اللهم انصر دينك وكتابك، وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين!
اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق والتوفيق والتأييد والتسديد إمامنا وولي أمرنا، وارزقه البطانة الصالحة، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين.
اللهم رد عنا كيد الكائدين، اللهم رد عنا كيد الكائدين، وعدوان المعتدين، واقطع دابر الفساد والمفسدين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: اقلبوا أرديتكم تأسياً بنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، واجتهدوا في الدعاء، وألِحُّوا في المسألة، وأخلصوا، وأحسنوا، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، عسى ربكم أن يرحمكم؛ فيغيث القلوب بالرجوع إليه، والبلد بإنزال الغيث عليه.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.(41/5)
التفقه في الدين فضله ووسائله
لقد فشا فينا الجهل وعم وطم، وذلك لقلة اهتمامنا بالعلم الشرعي، وفي هذا الدرس يتحدث الشيخ حول التفقه في الدين، فذكر تعريفه في اللغة، كما توقف عند حديث: {من يرد الله به خيراً يفقه في الدين} وذكر عدة فوائد من هذا الحديث.
وهناك وسائل للتفقه في الدين منها: الإخلاص، والتلقي عن المشايخ، والتحلي بآداب طالب العلم والتواضع وعدم التكبر إلخ، وقد ذكر الشيخ كلاماً جميلا لابن القيم يتعلق بارتباط العلم بالخشية، وأن هناك علماً لا يورث خشية، فهذا يسمى علماً ولكنه لا ينفع، وأما العلم النافع فهو الذي يورث خشية الله.(42/1)
معنى التفقه في الدين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله.
أشكره ولا أكفره، وأسأله المزيد من فضله وكرمه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ الملكُ الحقُّ المبينُ، إله الأولين والآخرين.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله؛ بعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين؛ تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة: أحييكم بتحية الإسلام، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
ثم بعد حمد الله والثناء عليه بما هو أهله، والصلاة والسلام على رسوله، فلا بد من شكر من كان له فضلٌ في ترتيب هذا اللقاء وتنظيم هذا الاجتماع في هذا البيت من بيوت الله.
ومن أخص من يخص بالذكر فضيلة إمام المسجد الشيخ حمد المطوع، والشيخ تركي بن قعود، وآخرين من ورائهم لا تعلمونهم الله يعلمهم!
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزي كل محسن بإحسانه ويثيبه، ويجعل هذا الاجتماع مقرباً إلى رضوانه، وأن يكتب لنا ذلك في ميزان حسناتنا؛ ما كان منه من صواب، وما كان سوى ذلك، فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يعفو ويسامح.
أيها الإخوة: الموضوع الذي اختير لهذا اللقاء، وقد اختاره الإخوة هنا، اختاروه بعنوان: التفقه في الدين فضله ووسائله.
وهو موضوع لا شك جدير بالاهتمام، وجدير بالنظر، وجدير بالتذاكر فيه، ولا شك أنهم ما اختاروا هذا إلا لما لهم من خبرة، ولما يعرفونه من حاجة الناس إلى مثل هذا.
ويكفي لجاذبيته وبيان أهميته: عنوانه (التفقه في الدين) فهو متضمن لكلمتين عظيمتين التفقه والدين، التفقه مضافاً إلى الدين، ولهذا سوف يأتي معنا في ثنايا الحديث إشارات كثيرة، وبخاصة عند قوله صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين}؛ فإن هذه الكلمة من النبي صلى الله عليه وسلم -وقد أوتي جوامع الكلم- على وجازتها وعلى قلة ألفاظها، فإنها مليئة بالمعاني كما سوف نشير ولا نستبق الأحداث.
أرجو أن يتسع الوقت للحديث عن جملة من العناصر؛ أذكرها تذكيراً بها: منها التفقه في الدين من حيث معناه، ثم بيان ما كان منه فرض عين وما كان فرض كفاية، ثم إِشارة إلى طبيعة العلم النافع وآثار هذا العلم، وقد يكون فرصة لأن يختبر الإنسان نفسه في هذا الباب، ثم إشارة إلى صفات طالب العلم والفقه؛ صفات على جهة الإجمال، ثم صفات على جهة التفصيل تتضمن الوسائل.
وقبل ذلك فضل العلم وشرف مرتبته؛ لأن العنوان -كما تعرفون- متعلق بالفضائل والوسائل، ثم وسائل عملية، وهي فيها إشارة إلى الصفات ولكنها في الواقع وسائل، منها ما هو وسائل معنوية لا يكاد يتحقق الفقه الحقيقي إلا بها، من الإخلاص والخشية والعمل بالعلم، ثم التلقي عن المشايخ، وسوف يكون لنا فيه وقفة، ثم التواضع وعدم الاستنكاف من تلقي العلم في أي زمن من العمر ومن أي عالم مهما صغر سنه أو لم تكن لك به معرفة من قبل.
ثم مبادرة الشباب، وفرص العمر، والبعد عن الشواغل والتسويف، ثم الأدب لتلقي العلم، ثم عدم التعجل في التصدر، ثم قول لا أدري، ثم عدم الاستنكاف عن السؤال مهما بلغ الإنسان من مراحل علمه وتعلمه.
وهذا إجمال لما سوف يكون الحديث عنه، ولعل الوقت يتسع لكل ذلك، وإن لم يكن فأرجو أن آتي عليه ولو على شيء من الإجمال.(42/2)
تعريف التفقه
التفقه مأخوذ من الفقه، والتفقه ذاته جاء في خبر الله عز وجل وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، أما خبر الله فقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122].
فجاء النص على التفقه في الدين بذاته.
أما خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله عليه الصلاة والسلام: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين}.
ولاحظوا أن الآية والحديث كلها ربطت الفقه بالدين، فلا يكون الفقه نافعاً ولا مفيداً إلا حينما يكون مرتبطاً بالدين، وسوف يكون لنا -كما قلت- وقفات عند هذا.
والتفقه مأخوذ من الفقه، والفقه هو الفهم، ولهذا يقول الله عز وجل في المنافقين: {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء:78].
وسوف يأتي معنا كلام جميل لـ ابن القيم في الفرق بين العلم النافع وغير النافع، بين علم منفي وعلم مثبت.
وصف الله تعالى المنافقين بأنهم لا يفقهون حديثاً، مع أنهم يفقهون ولهم عقول ويفهمون، لكن ما هو الفقه الذي لا يفقهونه؟
يقول الله عز وجل في سحرة اليهود: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102].
في أول الآية أثبت لهم العلم، وفي آخرها نفاه عنهم فما هو الفقه المثبت والمنفي؟(42/3)
الفقه أخص من الفهم
حينما نقول: الفقه، فإنما نقصد به نوعاً خاصاً من الفهم، فهو فهم مرتبط بالدين، فالتفقه في الدين مقصود به فهم مسائل الدين؛ من صلاة وصوم ومعاملة ونكاح، وكل ما يجب على المكلف معرفته من أمر عباداته ومعاملاته، بل حتى ما يتعلق بعلمه بالله سبحانه وتعالى، وصفاته وما يجب من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص، وهذا كله لا يكون إلا بالعلوم الشرعية المعروفة؛ من التفسير والحديث والفقه والعلوم الخادمة لذلك؛ من المصطلح والأصول ونحو ذلك.(42/4)
مسائل في حديث: (من يرد الله به خيراً)
ويتبين ذلك أيضاً من قوله صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين}.
فعندنا جملة أمور تضمنها هذا الحديث:
أولاً: قوله: (من يرد الله) كأن الأمر راجع إلى إرادة الله سبحانه وتعالى، وإن كان لا شك في أن كل شيء تحت قدرة الله سبحانه وتعالى وإرادته وتصرفه وتدبيره سبحانه وتعالى، لكن لماذا خص الفقه في الدين بارتباطه بإرادة الله سبحانه وتعالى في قوله صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين}.
فلنا جملة وقفات على هذا الحديث (من يرد الله) ثم (خيراً) ثم (يفقهه في الدين) ثم المفهوم المخالف لهذا الحديث.(42/5)
وقفة مع (من يرد الله)
من يرد الله: يدل على أن الفقه أحياناً لا ينفع فيه الكسب، وإنما هو راجع إلى ما يفتح الله عز وجل به على طالب العلم من الحق والخير، ولهذا يتنافس الناس في طلب العلم، ولكنَّ هناك أناساً يفتح الله عز وجل عليهم بالعلم وبالورع وبالتقوى وبالصلاح {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [الكهف:65].(42/6)
وقفة مع لفظ (خيراً)
(خيراً) قال العلماء: إنها مُنَكَّرة، والتنكير هنا للتعظيم، من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، فالخيرية في الفقه في الدين وليست في أي فقه، وإنما أن تفقه دينك وأن تفقه أمر دينك، ومفهومه: أن من لم يرد الله به خيراً لا يفقهه في الدين، وورد حديث عند أبي يعلى قال: {ومن لم يفقهه لم يبالِ الله به}، قال الحافظ ابن حجر: هذه الزيادة ضعيفة، لكن معناها صحيح؛ لأن من لم يتفقه في الدين ويعرف أمور دينه كان على جهل، وإذا كان جاهلاً بأمور دينه، وبما طلب الله عز وجل منه باعتباره مكلفاً، فلا شك أنه لم يرد الله به خيراً، وأنه على خطر كبير.(42/7)
الفقه منه ما هو فرض عين وما هو فرض كفاية
تثور أمامنا قضية: هل التفقه في الدين مطلوب من جميع المكلفين؟
الفقه المذكور في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122] مقصور على طائفة، وسوف يكون لنا معها أيضاً وقفة إن شاء الله، لكن قوله صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين}، إذا كان مفهومه أن من لم يفقهه الله في دينه لم يرد به خيراً، فالأمر خطير.(42/8)
الفقه الواجب
هناك نوعان من الفقه: النوع الأول مطلوب من الجميع، والنوع الآخر مطلوب من بعضهم.
العلم الذي هو مطلوب من الجميع هو ما يسميه العلماء: فرض العين، وفرض العين مطلوب من كل مكلف؛ لأن كل المسلمين مطالبون بأحكام الشرع ما كان منها فرض عين، وفروض الأعيان معروفة، فمنها ما يتعلق بتحقيق التوحيد، وشهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومعرفة ذلك؛ بحيث يعبد كل مكلف ربه على بصيرة، ولهذا قال الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19].
فهناك نوعٌ من العلم لا بد من التفقه فيه، وهو فروض الأعيان: من تحقيق التوحيد، ومعرفة معنى لا إله إلا الله والعمل بمقتضاها ومعرفة معناها، وما أثبتت وما نفت -فلا بد أن يعرف ذلك كل مكلف- ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله وتحقيقها ومقتضى الطاعة والتسليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا من المقتضيات المهمة، ولا بد أن يعرفها كل مكلف، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، وكما قال الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
فمقتضى الشهادة: أن يخضعوا لله عز وجل ولرسوله وأن يستسلموا وأن ينقادوا، وكل ما جاءهم عن الله وعن رسوله فعلى العين والرأس.
هذه قضية كبرى لا بد أن يفقهها كل مكلف، ولهذا كان من دقائق دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ما بثه من معلومات في كتبه الصغيرة للعامة: كـ الأصول الثلاثة والقواعد الأربعة ونحو ذلك، فلا بد أن يفقهوها وأن يعرفوها، وكان هذا من فقهه رحمه الله، أنه بث مثل هذا، ولا يكاد يوجد عامي في كثير من الأعصار السابقة إلا كان يفقهها ويكاد يحفظها عن ظهر قلب؛ لأنه يعرف معانيها، فهي من الأمور الهامة جداً التي تتعلق بجميع الناس.
ومن ذلك الصلاة والصيام والحج لمن قصد الحج، والزكاة لمن كان ذا مال، فلا بد أن يعرف ويفقه هذه الأحكام.
فالصلاة غير الصحيحة مردودة على صاحبها، والرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى المسيء صلاته قال: {ارجع فصل فإنك لم تصل}.
فهذا فقه لا بد منه لكل الناس، وهو فقه في الدين، وفي فروض الأعيان من الصلاة والصيام والزكاة لمن عنده مال، وكذلك أيضاً ما يتعلق بالحج لمن يحج.
وكذلك الأمور التي تتعلق بخاصته: إذا كان تاجراً فلا بد أن يعرف أحكام التجارة، حتى لا يقع في المحرم، ليس الواجب أن يعرف كل الواجبات والسنن، إنما يعرف المحرم ليتقيه، من الربا والغش والتدليس، والمعاملات المشتبهة لا بد أن يفقهها التاجر، وهي في حقه فرض عين.
الزارع لا بد أن يفقه الزراعة، ويعرف الأمور التي تتعلق بأحكام زكاة الزروع، وكذلك أصحاب المواشي، وأصحاب السائمة والرعاة، كل هؤلاء لا بد أن يعرفوا الأحكام المتعلقة بأمورهم؛ لأنها أمور مطالبون بها، وهم مكلفون بحدود ما اهتموا به.(42/9)
وقفة مع قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً)
النوع الثاني: فرض كفاية، وهذا هو الذي قصدته الآية في قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122].
سوف نقف عند هذه الآية لنتبين نوعاً من الفقه في هذه الآية.
الآية كما تعلمون في سورة التوبة، وسورة التوبة تسمى سورة براءة، وتسمى الفاضحة، وتسمى المقشقشة؛ لأن حديثها عن الجهاد وعن القتال عجيب، وحديثها عن فضح القاعدين والمنافقين شيء كبير، وقال الله عز وجل فيها: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41]، وقال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36].
فكان القتال فيها صريحاً، والأمر فيها يكاد يكون لجميع الناس.
في هذا الحديث العظيم، وفي هذا التهييج الكبير للقتال وبيان أهميته للأمة، وبيان أثره عليها قوة وضعفاً وعزة وانتكاساً، وجاءت قضية المخلفين وقضية الثلاثة الذين خلفوا، وآيات تهتز وتقشعر منها الأبدان في ثنايا ذلك يقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122].
فبعد هذا الحث العظيم على الجهاد ومنزلته من فروض الأمة ومن موقفها ومن حياتها وتاريخها، كأنه يفهم أن الأمة لا بد أن تنفر كلها للجهاد، فتأتي هذه الآية لتبين المطلوب الحقيقي، {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:122]، مع أن فيها تفسيرات كثيرة، ولكن الأظهر وهو الذي يراه جمهور العلماء هو ما ستسمعونه إن شاء الله.
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:122]، أي: ليس للمؤمنين أن ينفروا كافة للقتال؛ لأن هذا يترتب عليه أمور أخرى.
يقول القرطبي في تفسيره: يتبين أن الجهاد ليس على الأعيان، فلو نفر الكل لضاع من وراءهم من العيال، ولكن ليخرج فريق منهم للجهاد، وليقم فريق منهم يتفقهون في الدين، ويحفظون الحريم، حتى إذا عاد النافرون أعلمهم المقيمون ما تعلموه من أحكام الشرع.
ثم قال: وهذه الآية أصل في وجوب طلب العلم.
ففي الآية إيجاب التفقه بالكتاب والسنة وأنه على الكفاية دون الأعيان.
وجاء هذا بعد الأمر الكبير بالجهاد لبيان منزلة التفقه في الدين، وأن على طائفة من الأمة أن تتفقه في دين الله، بمعنى: تعرف دقائق الأحكام وما كان من فروض الكفاية، فجميع أمور الدين عقيدة وشريعة وأخلاقاً وسائر ما يعرف بالأحكام من تحصيل الحقوق وإقامة الحدود والفصل بين الخصوم، هذه كلها علوم لا يتفرغ الناس لها كلهم، ولا يستطيعون أن يقومون بها كلهم، ولكن تتخصص فئة تقوم نيابة عن المسلمين بهذه العلوم، حتى تحفظ على الناس دينهم، وحتى تكون هي المرجع لحفظ هذا الدين.
ففرض الكفاية هذا هو الذي غالباً سيكون حديثنا عنه، وهو الذي سنتكلم عن فضله ووسائله، أما الفقه الذي يعم الناس كلهم فهو أمر واجب، وأشرنا أن بعض فروض الأعيان يتعلق بكل مكلف حسب طبيعة عمله، وأن هناك فروض أعيان على المسلمين كلهم كما يتعلق بالصلاة والزكاة والحج والصيام الخ، وهناك أمور تتعلق بكل مكلف بخصوصه على حسب تخصصه ومهمته، إذا كان غنياً، ففي الزكاة وإذا كان حاجاً، ففي الحج، حتى في النكاح يعرف أحكام النكاح وحقوق أهله عليه، وحقوق أهله نحوه الخ.
إذا كان هذا هو العلم بنوعيه الكفائي والعيني، فإن التفقه في الدين يظهر طلبه وشدة طلبه من هذه الآية: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122]، ثم قوله صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين}، ولا شك أن هذا من أظهر الأمور على الحث على التفقه؛ لأن كل عاقل -فضلاً عن كل مسلم- يفقه عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم يريد الخيرية، ويرجو أن تناله هذه الخيرية.(42/10)
فضل طلب العلم
أما فضل الفقه والتفقه فمعلوم أن لطلب العلم فضيلة عظيمة، ومرتبة شريفة، ونبيكم محمد صلى الله عليه وسلم يقول: {من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر}.
والأحاديث في فضل العلم كثيرة ومتواترة عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والآثار عن السلف الصالح شيء كثير، ولا يكاد يقع تحتها حصر، ولا أريد أن أسرد النصوص أمامكم سرداً، فإن أمامي حشداً منها، ولكني أجتزئ منها حسب المقام.(42/11)
آثار عن السلف في فضل العلم
منها: أن علياً الأزدي جاء إلى ابن عباس وقال: يـ ابن عباس ما أفضل الجهاد؟ فقال ابن عباس: أقلت الجهاد؟ فقال: نعم.
فقال ابن عباس: [[ألا أدلك على ما هو خير لك من الجهاد؟! تأتي مسجداً فتقرأ فيه القرآن وتتعلم فيه الفقه]].
الذي يبدو أن ابن عباس رضي الله عنه ورحمه بفقهه وهو حبر الأمة، وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} يبدو أنه أدرك من الرجل أن غناءه في العلم والتحصيل والإفادة أكثر من غنائه في الجهاد، ولهذا نصحه بهذا، وهذا هو الذي ينبغي أن يعرفه طلبة العلم أو عموم المتطلعين إلى وجوه الخير الكثيرة؛ لأن أبواب الخير كثيرة وكبيرة، والإنسان لا يستطيع في عمره أن يأتي عليها كلها؛ فعليه أن يتوجه إلى ما يرى أن فيه فائدة، ويستطيع أن يغني فيه كثيراً.
فكأن ابن عباس رضي الله عنهما لاحظ ذلك على هذا الرجل وهو يريد الجهاد فقال: ألا أدلك على خير من ذلك؟! أن تأتي مسجداً فتقرأ فيه القرآن، فيبدو أن عنده قدرة على التعليم والتعلم وعلى تربية الناس، فمن هنا قال له: هذا خيرٌ لك من الجهاد، والجهاد في هذه الحالة فرض كفاية.
ويقول الشافعي رحمه الله: طلب العلم أوجب من صلاة النافلة وأوجب هنا بمعنى: أولى، فطلب العلم أولى من صلاة النافلة، وهذا في حق من يستفيد من العلم.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في المدينة، فجاءه عامله على مكة نافع بن الحارث الخزاعي فقال: من استخلفت في مكة؟ فقال: استخلفت فيها مولى لنا، قال عمر: استخلفت مولى؟! فقال: إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، فقال عمر: أما إن نبيكم محمداً صلى الله عليه وسلم قد قال: {إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين}.
وكأنه يشير إلى قوله تعالى أيضاً: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].(42/12)
العلماء أكثر الناس خشية لله
والآيات في هذا كثيرة مثل قوله سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وقوله سبحانه وتعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]، فجعل الله أهل العلم شهداء على وحدانيته، بعد شهادته وشهادة ملائكته على ذلك، لم يستشهد من سائر المخلوقات بعد الملائكة إلا أولي العلم، وكفى بهذا شرفاً وفضلاً! فقد استشهدهم على أعظم شيء مستشهد عليه، وهو التوحيد.
والله عز وجل يقول: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:83]، قال فيها زيد بن أسلم: هو بالعلم، ولا شك أن يوسف عليه السلام ارتفع بأمور كثيرة، وكان مما ارتفع به يوسف العلم ولا شك.
والله عز وجل لم يأمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يتزود من شيء إلا من العلم فقط، فقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114].
وهناك نصوص كثيرة في الحث على العلم.
لكن نقف عند قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]؛ فإن لـ ابن القيم فيها كلاماً جميلاً.
ابن القيم يلحظ أن في الآية حصراً، فمعناها: أن من لم يخش الله فليس بعالم، وأنه لا يخشى الله إلا عالم {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8 - 9]، فتكون النتيجة أن العلماء هم خير البرية، لأن خير البرية من خشي الله، ولا يخشى الله إلا العلماء، فيكون العلماء خير البرية، وهذا استنتاج لطيف وهو ظاهر أيضاً.
يقول ابن القيم: قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] يقتضي الحصر من طرفين بمعنى: لا يخشاه إلا العلماء، ولا يكون عالماً إلا من يخشاه، فلا يخشاه إلا عالم، وما من عالم إلا وهو يخشاه، أي: إذا انتفى العلم انتفت الخشية، وإذا انتفت الخشية دلت على انتفاء العلم.
لكن وقع غلط في مسمى العلم اللازم للخشية كأنه يقول: هناك علماء نسب الله عز وجل إليهم علماً، كما في قوله تعالى {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102] أي: يعلمون هم على حسب ما جاء في كتبهم أن من فعل السحر واشتراه ليس له في الآخرة من خلاق، فعندهم هذا العلم.
يقول ابن القيم: وإبليس من أعلم الناس، وفرعون من أعلم الناس، حتى قال موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102]، وقال الله عز وجل في قوم ثمود: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]، وقال في عاد وثمود: {وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت:38]، وقال في عموم قوم فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14]، فأنفسهم مستيقنة لما جاء به موسى عليه السلام.
وسنة الله عز وجل في عموم البشر أنه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة:115].
إذاً: إن عندهم علم عن الآخرة وعما جاءت به الرسل كما دلت عليه هذه الآية، ولكن بالمقابل سماهم الله عز وجل جاهلين، كما يقول ابن القيم، يقول: وهؤلاء -أي: الذين عندهم هذه العلوم- هم الذين قد حكم الله عليهم في مقام آخر أنهم جاهلون، في مثل قوله سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، أي: الكفار، وقال: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63]، فالجاهلون هنا هم الكفار الذين علموا أنه رسول الله وقامت عليهم الحجة وعلموا صدقه.
فهذا العلم الذي علموه لا ينافي الحكم على صاحبه بالجهل، فهو جاهلٌ باعتبارٍ عالمٌ باعتبارٍ آخر، يثبت الله له العلم في موضع، وينفيه عنه في موضع آخر؛ فالمثبت لهم هو العلم الذي تقوم به عليهم الحجة، والمنفي عنهم هو العلم النافع الموجب للخشية.
إذاً: في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، علم خاص، فإذا لم يورثك علمك خشية فعليك أن تفتش نفسك، وقد ذكر الله في آية السحر علمين: أثبت أحدهما لهم، ونفى الآخر عنهم، {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102]، فوصفهم مرة بأنهم يعلمون، ووصفهم مرة بأنهم يجهلون.
ولهذا قال(42/13)
صفات إجمالية لطالب العلم
نذكر الصفات الإجمالية لطالب العلم، ثم بعض الصفات التفصيلية.
من أهم ما يظهر على طالب العلم من صفات: أنه يعمل بعلمه؛ يأتمر بالأوامر، وينزجر عن النواهي، ويتذكر إذا ذكر، ويخشى الله ويتقيه، إذا قيل له: اتق الله خشي وخضع، ويراقب ربه ويستحييه؛ لماذا؟ لأنه يحس أنه قد حمل أعباء الرسل، وصار شهيداً في القيامة على من خالف أهل الملل، يقول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143].
ويقول العلماء: إن الحجة على من علم العلم فأغفله آكد منها على من قصر عنه وجهله، ومن أوتي العلم فلم ينتفع، وعن الزواجر لم يرتدع، وارتكب من المآثم قبيحاً، ومن الجرائم فضيحاً، كان علمه حجة عليه.
صاحب العلم الذي انتفع بعلمه يظهر عليه السمت والصلاح، لربه ذاكر، ولنعمه شاكر، وعليه متوكل، أهم أموره عنده الورع في دينه، واستعمال تقوى الله ومراقبته فيما أمره به ونهاه عنه، يأخذ نفسه بالبعد عن المشتبهات، مستمسكاً بالحلم والوقار، مجتنباً الكبر والإعجاب، متواضعاً لأهل الفضل والعلم، يدع الجدال والمراء، آخذاً بعرى الرشد والأدب، يرجى خيره، ويؤمن شره، ويسلم من ضره، ولا يسمع نميمة، ولا يرضى بغيبة.
والكلام في هذه الصفات يطول، ثم مثل هذا موته خسارة على الأمة في بنيانها، فهو كوكب غاب من سمائها.(42/14)
وسائل طلب العلم
أما الوسائل التي يحقق بها بإذن الله العلم النافع والفقه في الدين، فقد ذكر بعضها في الأبيات المعروفة، المنسوبة للإمام الشافعي:
أخي لن تنال العلم إلا بستةٍ سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاءٌ وحرصٌ واجتهادٌ وبلغةٌ وإرشادُ أستاذٍ وطولُ زمانِ
وسيأتي هذا معنا فيما يتعلق بالمشايخ، لكن هناك أيضاً أموراً أدق من هذه، وهي التي حريٌ أن يفتش عنها طالب العلم، وهي أيضاً في أبيات منسوبة للشافعي حينما قال:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي(42/15)
الإخلاص
ومما ينبغي أن يتصف به طالب العلم: الإخلاص: فمهم جداً أن يقف طالب العلم وطالب الفقه عند الإخلاص، ولا شك أنكم سمعتم بهذا كثيراً، فالحديث عن الإخلاص كثير جداً، ولا يكاد واعظ يعظ إلا ويذكر الإخلاص، سواء ما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو ما يتعلق بطلب العلم، أو في أي عمل تأتيه، بل حتى في عملك وفي وظيفتك؛ فهو المحك وعليه المدار، ولا نعيد ما قاله أهل العلم، لكن نشير إلى بعض ذلك إشارة ونحن نتكلم عن العلم.
لعلكم تلاحظون أن كثيراً من أهل العلم يحاول أن يبدأ مؤلفه بحديث: (إنما الأعمال بالنيات)؛ لأنه يستشعر أن هذه القضية ينبغي أن تكون هي الشغل الشاغل لطالب العلم؛ فعليه أن يهتم بفحص قلبه، وملاحظته، والعناية به، ورعايته، كيف لا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو يجادل به العلماء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار}؟!
وأول من تسعر بهم النار -كما تعلمون- عالم لم يعمل بعلمه؛ تعلم العلم لغير الله، وفي حديث آخر: {من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة}.
وحري أن نقف عند هذا دائماً، ونحاسب عليه أنفسنا، لكن هناك دائماً سؤال يثور على طلبة العلم، وبخاصة حينما يبتدئون، لأن طالب العلم وهو ناشئ صغير، لم يتضلع بالعلم، ولم يفقه ما عليه السلف والعلماء السابقون، حينما يبدأ غالباً يجد في نفسه منازعة.
فلا ينبغي أن تصرفه هذه المنازعة عن السير في طلب العلم، ما دام الله عز وجل قد فتح عليه، وأحس بانتفاع واندفاع، وأحس برغبة، فعليه أن يستمر؛ لأن العلماء رحمهم الله يقولون: طلبنا العلم للدنيا فأبى إلا أن يكون لله.
فلا ينبغي أن يكون هذا الهاجس صارفاً لك عن طلب العلم، لكن ينبغي أن يكون حافزاً لك؛ لا شك أنه يجب عليك أن تراجع قلبك دائماً، وتحاول أن تخلص نيتك؛ لكن إذا وفقك الله سبحانه وتعالى وازددت من العلم، وحرصت على العمل ونوافل العبادات، فسوف تخلص نيتك بإذن الله، وبخاصة إذا وفقك الله، وقرأت كثيراً من تراجم العلماء وسيرهم، وسمعت كلامهم وحضهم، فإن هذا سوف ينير قلبك ويشفيه بإذن الله.
وقد ورد في ذم الرياء بعض الزواجر كقول حماد بن سلمة حيث يقول: من طلب الحديث لغير الله مكر به.
فينبغي أن يجد طالب العلم في تطهير قلبه من كل غش ودنس.
ويقول سهل: حرام على قلب أن يدخله النور وفيه شيء مما يكرهه الله عز وجل.
أي: إذا استمر.
ويقول سفيان الثوري: ما عالجت شيئاً أشد من نيتي.
فيحتاج القلب إلى علاج، ولا ينبغي أن يكون ذلك سبيلاً للتقاعس، ينبغي أن تكون دافعاً لا داعياً للتقاعس، وأبو يوسف رحمه الله يقول: يا قوم! أريدوا بعلمكم وجه الله، فإني لم أجلس مجلساً قط أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلوهم، ولم أجلس مجلساً قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى أفتضح.
فينبغي أن يكون هذا بين العينين، لأن العلم عند أهل الإسلام عبادة وقربى إلى الله عز وجل، فإن خلصت النية قُبل وزكا ونما، وإن قصد به غير وجه الله حبط وضاع وخسرت الصفقة.(42/16)
الخشية
الخشية من أهم وسائل طلب العلم المعنوية، وإذا انغرس الإخلاص في القلب ظهرت الخشية، والله عز وجل يقول في أهل الكتاب: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44]، لاحظ هذا الارتباط العجيب! فهذه مسئولية كلف الله بها هؤلاء؛ إذ طلب منهم أن يحفظوا كتاب الله الذي هو التوراة، فقال: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44].
فأهم ما ينبغي أن يعالج طالب العلم نفسه خشية الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
وسبق أن وقفنا عند هذه الآية، وبينا توضيح ابن القيم رحمه الله فيها، وعليها يقول الربيع بن أنس: من لم يخش الله تعالى فليس بعالم.
ويقول مجاهد: إنما العالم من خشي الله عز وجل.
وساق الدارمي الحديث بسنده عن كعب الأحبار، قال: [[إني لأجد نعت قومٍ يتعلمون لغير العمل، ويتفقهون لغير العبادة، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة، ويلبسون جلود الضأن، قلوبهم أمر من الصبر، أبي يغترون؟! وإياي يخادعون؟! فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران]].
حينما تقع الفتن، فكثيراً ما تلتبس الأشياء، لكن إذا جعل الله عز وجل في قلب العبد نوراً -وبخاصة طالب العلم؛ لأنه هو كاشف المدلهمات والظلمات- إذا جعل الله في قلبه نوراً ونبراساً، كان هذا النبراس متولداً من إخلاصه ومن خشيته لله عز وجل، فإنه سوف ينجو من هذه الظلم، وسوف يخرج من هذه الفتن.(42/17)
التلقي عن المشايخ والعلماء
من وسائل العلم المعروفة التلقي عن المشايخ، وعدم تعجل التصدر، وهذان الأمران مهمان جداً في أن يحقق الإنسان حقيقة الفقه في دين الله عز وجل، أما التلقي عن المشايخ، فهو أصل من أصول العلم الصحيحة، ومن البدايات الصحيحة لطالب العلم، والطريق المأمون بإذن الله وتوفيقه، ويخطئ من يظن أنه يبلغ في العلم مبلغه من غير تلقٍ عن أهل العلم.
ولهذا قيل:
إذا رمت العلوم بغير شيخ ضللت عن الطريق المستقيم
لا بد للإنسان أن يتلقى العلم عن شيخ، وهناك استثناءت نذكرها.
وهناك فوائد من التلقي عن المشايخ:
منها: أن الشيخ يختصر لك الطريق، في إرشادك وفي تعريفك بالكتب، وفي تخير الكتب لك على حسب مستواك وإدراكك الذهني، وعلى حسب طموحك واجتهادك، لأنكم تعرفون أنه قد يدرس مجموعة من الطلاب، ثم بعد فترة إذا هذا قد نبغ وهذا لم ينبغ، ولكن في النهاية يخرجون كلهم محصلين، فالشيخ يستطيع أن يعرف كيف يعطي هذا الكتاب الفلاني، ثم ينقله إلى الكتاب الآخر وهكذا.
فالشيخ يختصر لك الطريق لأنه يعرفك وهو بك أبصر من حيث كسلك وإدراكك العقلي، ثم إن الشيخ قرأ كثيراً وقطع مراحل، وله خبرات عشرات السنوات، فهو يعرف الضعيف والصحيح والراجح والمرجوح، ويعرف المصطلحات ويبين لك، فإذا قرأت أنت بنفسك فإنك تحتاج إلى سنين وتتعثر، أما مع شيخك فسوف تجد أنك قطعت سنين كثيرة قد لا تصل إلى نفس المرحلة التي سوف تصلها وأنت تتلقى من شيخ، وربما قضيت فيها عشرين سنة، بينما كان يكفيك لتبلغ هذه المرحلة خمس سنوات أمام الشيخ.
ومنها: أن الشيخ يقرأ أحسن ما يجد، ويحفظ أحسن ما يقرأ، ويبث لتلاميذه أحسن ما يحفظ؛ فهو يعطيك خلاصات، لبناً خالصاً سائغاً للشاربين من بين فرث ودم.
ومنها: أن هناك ارتباطاً بين التلميذ والشيخ، وهو ارتباط عجيب، أحياناً تقرأ شيئاً بنفسك فلا تفهمه، وإذا قرأته على الشيخ فهمته بسرعة، وهذا شيء ملحوظ، ولهذا يقول الشاطبي: كم من مسألة يقرؤها المتعلم بنفسه ويحفظها ويرددها، فلا يفهمها، وتبقى مستغلقة عليه، فإذا ما ألقاها إليه معلمه وشيخه فهمها بغتة -أي: مباشرة من غير أي واسطة- وحصَّل معرفتها في الحال.
ويحكى أن الإمام النووي رحمه الله كان يحفظ كتاب التنبيه لـ أبي إسحاق الشيرازي، والإمام النووي معروف بعلمه وفضله وعظم قدره، وكان أيضاً يتلقى العلم عن المشايخ، لكنه أثناء قراءته فهم أن الغسل يجب بخروج الريح، فكان كلما خرج منه ريح ذهب فاغتسل، حتى اكتشفه فيما بعد، لأن الإنسان قد يقرأ ويفهم خطأً، وهذا كله في وقت التلقي، فلن يقضي الإنسان عمره كله في الجلوس عند المشايخ، لكنك تفرغ مرحلة الطلب للمشايخ، وبعد ذلك لا شك أنه ستكون قد عرفت الطرق، وقد تكون لك صلة بالمشايخ بطريقة أو بأخرى، تعرف من خلالهم الوسائل والكتب والمراجع والمصادر، لكن المشايخ في فترة الطلب يوفرون لك الوقت، ويختصرون لك الطريق.
رابعاً: من ثمار التلقي التأثر بالشيخ، ولهذا ينبغي للإنسان أن يتحرى الشيوخ الذين يتلقى عنهم، بل -كما تعلمون- ما كانت الرحلة في طلب العلم إلا لتحصيل العلم من شيوخ بأعيانهم أيضاً، والتفتيش عن أمثال هؤلاء الشيوخ؛ ومن فوائد ذلك التأثر بحسن الاقتداء، فالطالب يجالس شيخه ويلحظه، ويستفيد من حركاته وسكناته، قال الأعمش: إننا نستفيد من الشيخ حتى في لبس نعله، وقد تصحبه إلى بيته أيضاً، وتلحظ شيئاً من تصرفاته البيتية.
يقول عمرو بن الحكم تلميذ الإمام مالك: دعانا الإمام مالك مع جملة من الطلبة إلى بيته للغداء، فلما دخلنا أرانا بيت الخلاء، وأرانا مكان الشرب، ثم دخل قليلاً ثم عاد إلينا، فقلنا له: لماذا فعلت هذا؟ قال: أما بيت الخلاء ومكان الشرب فأخشى أن يحتاجه بعضكم، وأما أني دخلت قليلاً فحتى تأخذوا أماكنكم؛ لأني قد لا أعرف مجالسكم، يقول: دخلت حتى تأخذوا مجالسكم بأنفسكم ثم أتيت حتى يرتفع الحرج فهو يقول: لا أعرفكم كلكم، ولعل بعضكم يستحق التقديم، وأخطئ في حقه، فيكون ذلك على نفسي، فآثرت السلامة.
إذا كان الأمر كذلك، فينبغي لطالب العلم أن يتحرى الشيوخ من أهل العلم والفضل والورع والتقى وسلامة المعتقد؛ لأن أثر الشيخ على تلاميذه عظيم، يقول أحد السلف: [[العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم]] لكن الشيوخ بشر، وقد تجد عندهم نقصاً، لكن هذا النقص لا ينبغي أن يمنعك من أن تتلقى منه فَنَّه، إذا كان لا يوجد من هو أصلح منه؛ لأن بعض الفنون يتقنها بعض الناس، وقد لا يكون هو بالحال المرتضى في كل شأنه، فلا مانع أن تتلقى علمه الذي اختص به؛ إن وجدت خيراً منه وأتقى وأورع فلا وإلا أخذت عنه، ولهذا يقول: خذ العلم ولا تنظر إلى عملي، لكن على كل حال هذا في الأحوال المستثناة.(42/18)
الرحلة في طلب العلم
قد يقول قائل: أنا في بلد ناءٍ ليس عندنا شيخ -في قرية أو إقليم فيه جهل- نقول: إما أن ترحل، فالعلماء كانوا يرحلون، فإذا كانت ظروفك لا تسمح، من حيث وضعك المادي فحاول أن تتواصل مع العلماء بأي وسيلة.
والعلم غالباً يرتبط بالفقر، ويجب أن يعرف الناس هذا، لأن طالبه مشغول، وعليه أن يتحمل ويصبر، وقد قالوا: إن الفقيه هو فقير، وإنما راء الفقير عكفت أطرافها، ويقول أحد الشعراء:
سألت الفقر أين أنت مقيم قال تحت عمائم الفقهاء
فالعلم قد لا يورث غنىً، فينبغي أن يوطن طالب العلم نفسه على الفقر؛ وقد يكون غنياً؛ لكن الأصل هو عدم ارتباط العلم مع الغنى، ومن طلب العلم للمال فيا خسارته!
على كل حال قد يقول قائل: أنا لا يتوفر عندي شيخ، وفي بلدنا جهل أو نحن في قرية نائية أو في بادية، نقول: إما أن ترحل إذا كنت تستطيع، ونحن نعرف كيف كان علماؤنا رحمهم الله يرحلون، وإلا فلا مانع أن تقرأ بنفسك، وتحاول قدر ما تستطيع أن تكون على اتصال مع العلماء بأي وسيلة من وسائل الاتصال.(42/19)
سماع الأشرطة
لكن -أيها الإخوة- عصرنا الحاضر فيه مزايا أكثر مما عند المتقدمين؛ مثلاً قضية الأشرطة؛ فهي نعمة من الله عز وجل ولا شك، وهي تمثل مرحلة وسطاً بين فقد العالم وبين الحضور الشخصي، الحضور الشخصي هو الأول، لكن إذا لم يمكن فاستمع إلى أشرطة، لكن ما هي الأشرطة التي نقصدها؟ نحن نتكلم عن العلم، علم العقيدة، والفقه، والحديث، ومصطلح الحديث، والنحو، فإذا كانت تلك المواد مسجلة لعلماء فهذا الذي نقصده، لا نقصد المواعظ العامة فهي شيء آخر.
شيخنا الشيخ ابن عثيمين حفظه الله له تعليق على زاد المستقنع يستطيع أن يقتنيه من كان في منطقة لا يستطيع الحضور على شيخ في بلده، فيمكن أن يستفيد منه.
كيفية الاستفادة من الشريط:
ينبغي أن تحضر الشريط أولاً، وتحضر الكتاب، وتفتح الكتاب، وتسمع الشيخ وتعلق على كتابك، هذا هو التلقي، بل قد يكون فيه ميزة للشريط، وهي: أنك قد تجعل الشيخ يرجع كل فترة إذا لم تفهم، بدلاً من أن تسأل الشيخ، يمكن أن تسأله مرةً ومرتين ثم تستحي، لكن الشريط تعيده عشرين مرة وتسمع، لكن ينبغي أن تعرف أن هذا يتطلب منك صبراً، الشريط الواحد يتطلب خمس ساعات في جلسة واحدة، ولا أظنها تكفيك، إذا كنت تفتح الكتاب وتسمع الشيخ وتقف وتعلق، لماذا؟ لأن هذه هي الفائدة، يكون عندك كتاب -مثلاً- الروض المربع أو زاد المستقنع وحده أو كلاهما معاً، كلما قال الشيخ: هذه المسألة الراجح فيها كذا، هذه معناها كذا، هذه المفردة كذا، تكتب، أما أن تضعه في السيارة وتسمع فهذا لا يفيد، بعض الناس يسمعه في السيارة فمثله كمثل الماء في الغربال.
لكن تقفل على نفسك الغرفة، وتجلس خمس ساعات إلى ست ساعات، وتثني ركبتك، وتكتب وتعلق، فحينئذ تستفيد، فهذه مرحلة وسط بين قلة الشيوخ وما بين الحضور على الشيخ، والحضور على الشيخ لا شك أنه أكثر بركة وفيه خير كثير.(42/20)
التواضع وعدم التكبر
ومنها: التواضع وعدم الاستنكاف من الأخذ عن الأصاغر.
وطالب العلم ينبغي أن يتواضع في عدة أمور:
يتواضع مع العامة، ويتواضع مع زملائه، ويتواضع مع المشايخ، ولا يحتاج لأن نطيل في الوقفة عند هذه النقطة، فعلى الإنسان أن يحاسب نفسه.
تواضع مع العامة، ولا تظن -يا أخي- أن التواضع يفقدك مهابة، ولا تظن أن التواضع يفقدك منزلة؛ بل إنه يرفعك، وهذا معروف، الناس تعرف المتكبر، لكن المشكلة أن المتكبر لا يعرف من نفسه أنه متكبر، وهذا من الضلال، والمتواضع تعرف أنه متواضع، وهو كبير عند الله وعند الناس، ومن تواضع لله رفعه.
فمن فضل الله لطالب العلم وعنايته به أن يرزقه التواضع، والبعد عن احتقار الناس، وبخاصة أهل العلم من الأقران وأمثالهم، وهمه الحرص على التحصيل والازدياد من طلب العلم في كل مراحله، ولو كان شيخاً حوله الحلق وحوله العمائم، وكذلك لا يستنكف عن الأخذ عن الأصاغر.
وقد قال عمر رضي الله عنه: [[تعلموا قبل أن تسودوا]]، وللعلماء فيه تفسيرات، بمعنى قبل أن تكونوا كباراً لكم مقام اجتماعي، وحينئذ الإنسان إذا كبر قد لا يتعلم، إما كبراً، وإما احتشاماً، وإما لكثرة المشاغل، وقيل: (قبل أن تسودوا) أي: قبل أن تخرج اللحية السوداء، الطلب في زمن الصغر، وقيل (قبل أن تسودوا) أي: قبل أن تتجاوزوا الكهولة ويبدأ الشيب وينتهي سواد اللحية، وقيل (قبل أن تسودوا) أي: قبل أن تتزوجوا؛ لأن من تزوج صار سيد أهله، وانشغل بأهله وخاصةً إذا ولد له.
ولهذا عقبها أبو عبد الله البخاري رحمه الله في صحيحه؛ لأنه أورده في صحيحه مقولة عمر: [[تفقهوا قبل أن تسودوا]] قال: وبعد أن تسودوا.
بمعنى: أن العلم لا ينتهي، ولهذا نقول: لا يستنكف الإنسان من أن يأخذ العلم حتى عن الأصاغر وأن يسأل، ولهذا قالوا:
وليس العمى طول السؤال وإنما تمام العمى طول السكوت على جهل
وكان جماعة من السلف يستفيدون من طلبتهم، حتى أن أبا بكر الحميدي -وهو تلميذ الشافعي - يقول: صحبت الشافعي من مكة إلى مصر، فكنت أستفيد منه المسائل، وكان يستفيد مني الحديث.
فـ الشافعي يستفيد من تلميذه الحديث؛ لأنه كان يرى أن تلميذه متميز في الحديث، وكذلك أيضاً كان الإمام الشافعي يقول لـ أحمد وكان أحمد من تلاميذه، يقول: إذا صح عندكم الحديث فأعلمونا نأخذ به.
وصح أن جماعة من الصحابة كانوا يأخذون عن التابعين.
فلا ينبغي للإنسان أن يستنكف من ذلك، وقد يكون مما يهدينا إلى هذا توجيه ربنا سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وأمره له بأن يقرأ على أبي بن كعب، ولهذا قال العلماء: إن هذا دليل على أنه لا يمتنع الفاضل من الأخذ عن المفضول.(42/21)
الحرص على الطلب في سن الشباب
كذلك أيضاً من الوسائل: أن الإنسان يبادر الشباب وزهرة العمر -كما أشرنا في خبر عمر - ومعروف أن العلم في الصغر كالنقش على الحجر، وينبغي للإنسان أن يبتعد عن الشواغل قدر ما يستطيع، وأن ينصرف عن الشواغل وكذلك التسويف، فقد قال السلف: اجتنبوا سوف فإنها مهلكة، وعليه قدر ما يستطيع أن يتخلص من العلائق والشواغل والعوائق، ويحاول قدر ما يمكن ألا يستسلم لشيء منها.
أما الذين يستسلمون للأجواء، يقول: اليوم حر واليوم صيف، وهذا وقت ربيع وهو وقت التنزهات، فهذا من الملهيات، ولهذا قال -أظنه الزمخشري -:
إذا كان يؤذيك حر المصيف وقر الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لي متى؟(42/22)
الأدب مع العلماء
كذلك أيضاً من أهم ما ينبغي: الالتزام بالأدب، والحرص عليه، ونقصد بالأدب أن تتعلم الأدب من الشيوخ، يقول ابن سيرين: كانوا يتعلمون الهدى أو الهدي كما يتعلمون العلم.
والهدى والهدي كلاهما صحيح، وهما بمعنى: السمت والاستقامة والشيء الذي يؤخذ به في السلوك، ويقول الحسن: إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين.
ويقول سفيان بن عيينة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الميزان الأكبر، وتعرض الأشياء على خلقه وسيرته وهديه، فما وافقها فهو الحق، وما خالفها فهو الباطل.
ويقول حبيب بن الشهيد التجيبي: يا بني! اصحب الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم؛ فإن ذلك أحب إليَّ من كثير من الحديث.
ويقول مخلد بن حسن لـ ابن المبارك: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث.
والأعمش يقول: كانوا يتعلمون من الفقيه كل شيء حتى لباس نعليه.
فالأدب مهم جداً، وأحياناً قد تلاحظون نقصاً في الأدب من بعض طلبة العلم مع أنفسهم ومع زملائهم ومع مشايخهم، ومن حُرم الأدب فإنه يحرم خيراً كثيراً.(42/23)
عدم حب التصدر
كذلك أيضاً: عدم تعجل التصدر بمعنى: ألا ينتصب للتدريس إذا لم يكن أهلاً، أو يذكر دروساً لا يعرفها، عليه أن يقول: لا أدري، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {المتشبع بما لم يعطَ كلابس ثوبي زور}.
ويقول أبو بكر الشبلي: من تصدر قبل أوانه فقد تصدى لهوانه.
ويقول أبو حنيفة رحمه الله: من طلب الرئاسة في غير حينه لم يزل في ذل ما بقي، واللبيب من صان نفسه عن تعرضها لما يعد فيها ناقصاً، وبتعاطيه إياها ظالماً.
قول: لا أدري أمر معروف أيضاً، والله عز وجل يقول: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116]، كذلك لا ينبغي له أن يستنكف عن السؤال وأن يسأل، فإنما شفاء العي السؤال.
إذا كنت لا تدري ولم تك بالذي يسائل من يدري فيكف إذاً تدري؟
وقالوا: إن حسن السؤال هو نصف العلم، والمراد بالسؤال ما قصد به الطالب الفائدة، أما سؤال التعنت، أو سؤال البروز على الأقران، أو سؤال إظهار التعالم فإن هذا من قلة الأدب، بل من قلة التوفيق، ولهذا ينبغي لطالب العلم -في أي مكان حتى ولو كان في حلقات- ألا يوجه سؤالاً لأي واعظ أو دارس أو طالب علم إلا إذا كان يريد حقاً أو فائدةً، أما أن يسأل ليختبر أو ليظهر علمه أو ينافس زملاءه، فهذا ليس من الأدب، بل لعله من علامات الحرمان.(42/24)
العمل بالعلم
ونختم بما بدأنا به فيما يتعلق بالإخلاص في الخشية، ومن أعظم آثارها العمل، أي: أن يكون علمكم حافزاً للعمل، فإن معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول: [[اعلموا ما شئتم أن تعلموا، فلن يأجركم الله بعلم حتى تعملوا]].
وهذا باب من الفقه عظيم، وهو الحرص على أخذ العلم من أجل العمل، بل لا ينبغي لطالب العلم أن يجاوز شيئاً من العلم حتى يقوم بحقه من العمل، والكلام في هذا معروف، ويكفي قول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:66 - 68].
فهذه المواعظ كلها يترتب عليها العمل؛ فعلمك خير واعظ لك، وليس بعد علمك واعظ، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:66 - 68].
أكتفي بهذا القدر، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(42/25)
الأسئلة(42/26)
قول بعض الناس (لا أتعلم العلم حتى لا يكون حجة علي)
السؤال
إنني لا أريد التفقه في الدين، وذلك لئلا يكون حجة عليَّ، فهل هذا صحيح؟
الجواب
أظن هذا من مداخل الشيطان، فإذا كان الله عز وجل قد وهبك ذكاءً وفقهاً وفهماً ورغبة وتحس أن عندك ميولاً نحو طلب العلم وتحصيله والتزود منه، فعليك أن تقدم وألا تجعل للشيطان عليك مدخلاً، ومعالجة النية هي شأن العلماء كما قال سفيان، والله عز وجل سوف يعينك، ولو أن الناس أخذوا بمثل ما أخذت لما ظهر لنا البخاري ولا مسلم ولا من قبلهم ولا من بعدهم، ولا شك أن ورعهم وعلمهم وفضلهم كان وراء ما نشر الله عز وجل لهم من ذكر.
ولكن عليك أن تدافع هاجس قلة الإخلاص أو الرياء أو الغايات الدنيوية من طلب العلم أو الشهادات أو الوظائف أو نحو ذلك، تدافعها قدر ما تستطيع، ولكنها لا تكون مانعاً لك من التحصيل، فاستعن بالله عز وجل، ما دامت الوسائل عندك والله يعينك.(42/27)
الشكوى من الملل في طلب العلم
السؤال
أنا أحاول باستمرار طلب العلم -ولله الحمد والفضل والمنة- ولكنني في بعض الأحيان أحس بالملل، فما هي الطريقة والوسيلة التي أسلكها لذهاب هذا الملل؟
الجواب
أولاً: كان هناك أمور لم يكن هناك متسع من الوقت للحديث عنها، وخاصة فيما يتعلق بالصبر، فإن من أهم وسائل التحصيل الصبر، فلا أبد أن تصبر، ويبدو لي غالباً أن الصبر يكون في السنوات الأولى، بعدها حينما تستلهم العلم وتتلذذ، فإنك تجد أن العلم حياتك، حتى قال ابن المبارك: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
أي: في طلب العلم.
فإن فيه لذائذ عجيبة! وخاصة حينما تستعصي على طالب العلم مسألة ثم يبذل أياماً في استكشافها والبحث عنها، فهذه تساوي عنده مئات الألوف والملايين، ويعود مرة أخرى ليبحث فيجد أن نشاطه يتجدد.
أخي! عليك بالصبر، ولا ينال العلم إلا بالصبر، لكن هذا لا يعني ألا يكون لك وقت تتسلى فيه، وبخاصة في بعض العلوم، وبعض العلوم ثقيلة وجامدة، ولا شك أن معاناتها ومعالجتها تحتاج إلى وقت، لكن لا مانع أن تجعل لك فسحة في بعض كتب الأدب المباح والشعر، والحديث مع الزملاء، وقراءة الأشياء الخفيفة والقراءات السريعة، وقد يكون ذلك عن طريق سماع الأشرطة أو عن طريق الحضور للمشايخ، وهذا فيه فائدة وفيه مسلاة لكن وأنت قد وضعت لنفسك البرنامج المعين، ووضعت لنفسك الخطة المعينة في إنهاء هذا الكتاب، وإنهاء هذا الفن، ولا شك أن كل النفوس تمل، وروحوا القلوب ساعة، لكن على أن تكون متوجهاً للعلم طول حياتك، والله سبحانه وتعالى يعينك.(42/28)
الانتقال من دراسة الهندسة إلى العلوم الشرعية
السؤال
سائل يقول: إنه طالب في كلية الهندسة، وهو متردد في إكمال الدراسة في هذه الكلية، ويرغب في التحويل لكي يدرس العلوم الشرعية، فما توجيه فضيلتكم؟
الجواب
أنا إذا جاءني أمثال هؤلاء أوصيهم أن يستمروا في تخصصهم، وبخاصة إذا كانوا من أهل الفضل والصلاح، وفي سيماهم الخير، فالذي أراه -وخاصة إذا كنت قد قطعت شوطاً طويلاً- أن تستمر في الذي أنت فيه، فالذي أنت فيه من فروض الكفاية، وإذا تولاه صلحاء وأخيار، كانوا خيراً لهذه الأمة وسبيلاً لاستقلالها الحقيقي؛ لأن هذه العلوم -كما تعلمون- الأمة تحتاجها، وبخاصة في عصرنا الحاضر، فقد تنوعت العلوم وتشعبت، وصارت الحاجة إليها أكبر من ذي قبل، من حيث طبيعة حاجات الناس، وطبيعة أوضاعهم؛ في معاشهم ومساكنهم وملابسهم.
فالذي أراه أن تستمر على ما أنت عليه، وهذا لا يتعارض مع طلبك للعلم الشرعي على قدر ما عندك من وقت، وتقرأ وتحضر على المشايخ في الأوقات التي تراها مناسبة، حتى ولو كانت في الصيف، فتخصصه وتقرأ فيه، وإن كان حفظاً تحفظ، وإن كان فهماً وتعليقاً وشرحاً تكتب وتعلق مع المشايخ، فهذا الذي يبدو لي، إلا إذا كنت لست ناجحاً في تخصصك، ولك عوائق كثيرة، أما إذا كنت ناجحاً في التخصص وصالحاً في نفسك -وأتوسم أنك من أهل الصلاح- فإذا كنت من أهل الصلاح متفوقاً في هذا الفن، فنحن بحاجة إلى أن يدخله الصالحون، أما إذا كنت ترى أنك متعثرٌ لأي ظرف من الظروف وتريد أن تنتقل، فهذا شيء آخر.(42/29)
حكم من توفي وعليه دين مقسط
السؤال
سائل يقول: إن والده توفي وعليه دين لصندوق التنمية العقاري، ولديه سيولة كافية لتسديد الدين دفعة واحدة.
هل الأفضل الوفاء بالدين حالاً، أو الوفاء بالدين حسب الأقساط المتبعة؟
الجواب
الأصل أن الميت إذا مات تحل آجال الديون، ويبقى الحق متعلقاً بالتركة، لكن ما دام أن الدائنين -وهم الدولة جزاهم الله خيراً- يتركون الموضوع على ما هو عليه، بمعنى: أنه ما دام القسط مستمراً، فإذا كنت أنت قد يسر الله لك، وتريد أن تقضي دين والدك من حقك فهذا جيد، وكذلك تخلص البيت ليكون لكم جميعاً أو لإخوانك أو للورثة، وغالباً -كذلك- إذا عجلت الأقساط يكون هناك إسقاط لجزء من المبلغ كما هو معلوم، من دفعها جميعاً فإن الدولة تتنازل عن جزء من المال، فإذا كان هذا مقصودك فهذا جيد، ولعل المسارعة يكون فيها خير كثير.(42/30)
معنى أخذ الأدب من المشايخ
السؤال
فضيلة الشيخ! ذكرتم خلال المحاضرة بأنه ينبغي لطالب العلم الاستفادة من شيخه وهذا كلام صحيح، ولكنكم ذكرتم أنه يأخذ من شيخه حتى حركاته وسكناته، هل هذا على الإطلاق أم لا؟
الجواب
أنا لا أقول: يأخذ، إنما أقول: طبيعة التلميذ أنه يتأثر بشيخه حتى في حركاته، لكن لا يأخذ كل شيء، فإذا كان حركات النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إنها حركات وأعمال جبلية، وقال بعضهم: لا يتأسى بها، وكان ابن عمر رضي الله عنه يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء حتى في مشيه، فمن شدة التعلق أن الإنسان يتأثر، لا أنه يأخذ، فإذا كنت قلت: يأخذ، فقد أخطأت في التعبير، إنما مقصودي: دقة التأثر بحيث أن طالب العلم يتأثر بحركات وسكنات شيخه.(42/31)
مستأجرون لا يشهدون الصلاة في المسجد
السؤال
ما رأي فضيلتكم في رجل يسمح بتركيب الدش للمستأجرين في بيته، وهم أيضاً لا يشهدون الصلاة مع المسلمين في المساجد؟ وهل يجوز له تجديد عقودهم وهم لا يشهدون الصلاة مع المسلمين في المساجد؟
الجواب
لا شك أن هذا من البلاء والامتحان، وعلى الناس أن يتواصوا بالحق والخير والصبر، وينشروا فيما بينهم خوف الله عز وجل وخشيته، وإلا فهذا من البلاء، والذي أرجوه من هذا وأمثاله إذا كان باستطاعته أن يوجههم ويبصرهم وينصحهم، وبخاصة إذا كان يستطيع في قوة تأثيره وفي شخصيته أن يردعهم بحيث يهديهم إلى الحق، ويبعد عنهم هذه الأشياء التي تضرهم وتضر أسرهم، فإن عليه أن يفعل ذلك، وكذلك إذا استطاع أيضاً فيما يتعلق بتجديد العقود أن يأتي بخير منهم؛ يأتي بأناس أفاضل وأخيار، فهذا هو الأحسن.(42/32)
حكم التسمي بـ (ملاك، هدى، بيان)
السؤال
كثر السؤال حول مسألة بعض الأسماء المنتشرة؛ مثل اسم ملاك للبنات وبيان وهدى وغيرها من الأسماء، فما رأي فضيلتكم في هذه الأسماء؟ هل هي أسماء محرمة أم لا؟
الجواب
يبدو لي أن مثل هذه الأسماء لا شيء فيها، ما لم يظهر مانع شرعي يمنع، فمجرد كون هذه اللفظة ترد في نص شرعي فلا يمنع من جواز استعمالها كبيان مثلاً، بل حتى فيما علمت أنه يسمى بها الرجال والنساء، وقد رأيت رجالاً يسمون باسم بيان، وخاصة في بلاد غير السعودية فلا يبدو لي أن في هذه الأسماء شيئاً، ولا يظهر لي أن هناك محظوراً شرعياً فيها.(42/33)
انتفاضة الأقصى ومصير الأمة
إن الناظر في حال الأمة يأسى لها، ويتألم حزناً وكمداً لما يجري من انتهاك الحرمات، وسفك الدماء، وانتهاك الأعراض، وتدنيس المقدسات في مسرى رسولنا عليه الصلاة والسلام، والعالم الإسلامي مخدر لا يرفع رأساً، ولا يشهر سيفاً، مع أن إنقاذ بيت المقدس من أيدي الصهاينة فريضة شرعية (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ).(43/1)
فضل بيت المقدس
الحمد لله خلق الجن والإنس ليعبدوه، وأسبغ عليهم آلاءه ونعمه ليشكروه، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه ليعرفوه، أحمده سبحانه وأشكره حمد عبدٍ يخاف ربه ويرجوه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يُسأل عما يفعل وخلقه مسئولون عما فعلوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله؛ دعا أمته إلى التوحيد، وحذَّرهم من الشرك، وأوصاهم أن يخافوا الله ويتقوه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، آمنوا به وعزروه وآزروه ونصروه، والتابعين وتابعيهم بإحسان، الذين عرفوا الحق ولزموه، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فالتقوى بالتوقِّي، ومن يتقِ الله يَقِه، واعلموا أن الأجل دون الأمل، فبادروا الأجل بالعمل، وإنه لا عمل بعد الأجل، والآخرة باقية، والدنيا فانية، فقدموا أمر الآخرة على أمر الدنيا، ولا تأخذكم في الله لومةُ لائم، واحذروا فإن الحذر محله القلب.
أيها المسلمون: منذ أن ظهرت الحضارات الإنسانية وميزان القوى لا يستقر على حال، أممٌ تكون في الصدارة، ثم تمسي فإذا هي في غير القافلة، وأخرى لم تكن شيئاً مذكوراً، فإذا هي تترقى في أوج العظمة وقمم المجد، إنها أيام الله يداولها بين الناس، هذا التداول بإذن الله وأمره يخضع لسُننٍ من الله شتى: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62].
إن حركة التاريخ في السنن والنواميس تعطي أفُقاً واسعاً للنظر والتأمل والتدبر، أسبابٌ تجتمع بإذن الله، فيكون باجتماعها انتصار وقوة، ثم تجتمع بطريقة أخرى ليكون بها التشرذم والانحسار والضعف، لا مفر من سنن الله العاملة في التاريخ، فهي لن تحابي أحداً: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165].
ومن منظور هذه السنن، وبتأمل هذه النواميس، شاء الله سبحانه أن يجعل بيت المقدس مسرى نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ومنطَلَق المعراج إلى السماء في رحلة النبي الأكرم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولأمرٍ حكيمٍِ شاء سبحانه أن يجعل بيت المقدس قِبلة المسلمين الأولى منذ فُرضت الصلاة في العهد المكي وثمانية عشر شهراً من العهد المدني، وهو ما يزيد على نصف سِنِيِّ البعثة المحمدية.
ثم لأمرٍ حكيم وحكمة عظيمة تسلَّم العبقري الملهم الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه مفاتيح بيت المقدس من دون سائر المدائن التي فتحها الله على المسلمين، إنه التمييز الواضح، والخصوصية الخاصة، والإعلان الصريح لهذه المدينة المقدسة، لما لهذه المدينة المقدسة من منزلة كبرى في دين الإسلام وتاريخ المسلمين.
للمسجد الأقصى وقصة الإسراء خبرٌ خاص، وسورة كاملة في قلب مصحفنا ودستورنا، إنها سورة الإسراء، سورة بني إسرائيل في آياتها ودلالاتها وكنوزها.
بسم الله الرحمن الرحيم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1] رباطٌ قرآني محكم بين هاتين المدينتين المقدستين، واتصالٌ ديني وثيق بين مكة المكرمة والقدس الشريف، ورباطٌ مقدس بين أقدس بقعتين فيهما الكعبة المشرفة والمسجد الأقصى، رباطٌ إلهي وثيق وما وصله الله لا ينقطع.
بيت المقدس ربوة مباركة ذات قرار ومعين، أرضٌ مقدسة، قبلة الأمة، وبوابة السماء، وميراث الأجداد، ومسئولية الأحفاد، معراج محمدي، وعهدٌ عمري، دار الإسلام، بها يُجَسَّد تراث الأمة، ويُحَدَّد مستقبلها، ويثبت وجودها.
إلى مسجدها تُشَدُّ الرحال، ومن قبله تشد الأبدان والنفوس والأفئدة.
فتحه المسلمون بعد وفاته عليه الصلاة والسلام بست سنوات، وحكموه قروناً طويلة، ثم احتله الصليبيون تسعين عاماً، فأخرجهم صلاح الدين رحمه الله.
وهذه الأيام يحتله يهود، ولن يخرجوا والله إلا بـ صلاح الدين.(43/2)
العهد العمري لعباد الصليب
حَكَم المسلمون هذه المدينة المباركة هذه الأحقاب الطويلة، فما هدموا بيتاً لساكن، ولا معبداً لمتعبد، التزموا بتعاليم دينهم، احترموا كل ذي عهدٍ وعقدٍ وذمة، وفاءً للعهد العمري، استمعوا رعاكم الله إلى هذا النص من هذا العهد العمري:
[[بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبانهم، سقيمها وبريئها، وسائر ملتها ألا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا مِن حيزها، ولا مِن صليبهم، ولا مِن شيءٍ مِن أموالهم، ولا يُكرَهون على دينهم، ولا يضارَّ أحدٌ منهم، على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم، شهد على ذلك: خالد بن الوليد، عمرو بن العاص، عبد الرحمن بن عوف، معاوية بن أبي سفيان، عمر بن الخطاب، سنة خمس عشرة من الهجرة، شهد على ذلك وكتب وحضر]].
رضي الله عنهم جميعاً وأرضاهم، ورضي عن جميع صحب محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد تضمن العهد العمري حرية المعتقَد، وحرية السكنى، وحرية التنقل، وهو عهدٌ منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، لم يكن متأثراً بشعارات حقوق الإنسان المنافقة في عصرنا، ولكنها كانت تطبيقاً لمنهج الإسلام في التعامل الراقي المقسط مع أهل الأديان الأخرى.
لقد أصبحت القدس الشريفة وسكانها من مختلف الديانات في حماية المسلمين، يحافظون عليها، ويدافعون عنها وعمن فيها، هذا حديث أهل الإسلام، وحكمهم، وتاريخهم، هذا حديثنا، وحكمنا، وتاريخنا.(43/3)
القدس وما تواجهه من تخريب في عصرنا
أما اليوم فـ بيت المقدس يجري فيه ما لم يحدث على أيدي أي غزاة في تاريخ البشرية كلها، ولم يجرِ ذلك في تاريخ بيت المقدس الممتد آلاف السنين، لم يفعل غازٍ أو محتل مثلما فعله ويفعله اليهود اليوم، وليس بعد شهادة التاريخ من شهادة، وليس مَن رأى كمَن سمع على ما تشاهدون في هذه الأيام، بل في هذه الساعات.
احتلوا القدس الشريف منذ أكثر من ثلاثين عاماً، فأحرقوا المسجد الأقصى، ونسبوا ذلك إلى معتوه مختل العقل، وكأن المجانين لا يخرجون إلا على مقدسات المسلمين.
أما أعمال الحفر والهدم والتخريب حول المسجد فهي متواصلة منذ أن وطئت أقدامُهم قدسَنا ولا تزال.
انبعث باعثٌ منهم ليحصد المصلين من المسلمين وهم يصلون في مسجد الخليل، فقتلهم وهم ركعٌ سجود.
ومنذ أيام والمسلمون في صلاة الجمعة أُطْلِقَت النار على المصلين وهم في رحاب المسجد الأقصى؛ ليسقط العديد من القتلى والجرحى.
هُدِّمت الأبنية والآثار الإسلامية في سعي دائمٍ وحثيث لإزالة المعالم وتغيير الهوية.
وفي هذه الأيام يخطر تصرفٌ استفزازي يُوصَف بأنه شاذ، مع أنه مدعومٌ من جهاتهم الرسمية، تصرفٌ أسال الدماء، وفجَّر الحرب، وأزهق الأرواح، إنه ليس تصرفاً من مختل العقل، وليس تصرفاً فردياً، ولكنه تصرف من رئيس حزبٍ من أحزابهم، اقتحامٌ لحرمة المقدسات، محاطٌ بحراسة آلاف الجنود مسلحين بالعتاد والحراب والقنابل، تصرفات عدوانية أسالت الدماء، ورسَّخت الكراهية، وبعثت الأحقاد، وأعادت أجواء الحرب، زرعٌ للحقد الأسود في مدينة الإيمان والسلام والأرض المباركة، اعتداءاتٌ وانتهاكاتٌ في صورٍ فظيعة، تجعل من حق المظلوم أن يستخدم كل سلاحٍ ممكن لحماية نفسه، مظلومٌ احتلت أرضه يقابل جيشاً مدججاً بكل أنواع الأسلحة والآليات الفتاكة، يقابله أطفال وشباب أحداث، ليس لهم حيلة إلا العصي والحجارة والصراخ؛ ليدافعوا عن أنفسهم ومقدساتهم وأرضهم ومنازلهم.
كلٌّ يدعي التسامح، وكلٌّ يزعم الديمقراطية، وكلٌّ يتشبث بحقوق الإنسان في هذا القرن، قرن التحضر، وقرن المدنية، قرن المواثيق الدولية والقرارات الأممية؛ ولكن العمل والواقع والأرض والتاريخ هو الذي يصدِّق ذلك أو يكذِّبه.
دماءٌ تراق، وحصدٌ للأرواح من المدنيين العزل في أماكن العبادة والشوارع والطرقات والساحات العامة، بل صواريخ وقنابل داخل المنازل والشقق وحربٌ من الأرض والبحر والسماء.
يتحدثون عن السلام بألسنتهم، ويباشرون في خططهم واستعداداتهم وأفعالهم أفعالاً شنيعة، وتجاوزاتٍ رهيبة، لا تثير لدى الجهات الدولية القائمة على رعاية المواثيق الدولية، والقيِّمة على حقوق الإنسان، وحاملة لواء الديمقراطية، والمسئولة عن الأمن الدولي والاستقرار العالمي، لا تثير لديها أي تحركٍ أو تصرفٍ منصف.
بل إن هؤلاء اليهود الصهاينة لم يُسألوا عن جريمة ارتكبوها، ولم تُحجَب عنهم مساعدة طلبوها، ولم يتأخر عنهم مددٌ سألوه، ولم يُوجَّه إليهم لومٌ ولا عتاب في جرمٍ اقترفوه.
بل لقد توافد كبار ساسة العالم من أجل أسراهم، وبُعِثت التعازي من أجل قتلاهم، أما إخواننا في فلسطين فلا بواكي لهم، بل لقد قال أحد هؤلاء الساسة: لن نتغاضى مطلقاً عن قتل الجنود اليهود مهما كانت معاناة الشعب الفلسطيني.
أين العدل؟! وأين الإنصاف؟! وأين حقوق الإنسان مِن شعبٍ يعيش منذ سبعين عاماً في احتلال وفي مخيمات، وفي ملاجئ، والملايين منه يعيشون في التشريد والشتات؟!
شعب فلسطين حياته كلها خوف وتعذيب واعتقال وطرد، تُهَدَّم البيوت، وتُغْلَق المدارس، بل تُغْلَق المخازن والمتاجر لتُسَدَّ عنهم أبواب الرزق القليلة، تجويعٌ وبطالة، استيلاءٌ على الأرض، وتَحَكُّمٌ في مصادر المياه، بل تحكم في فرص الحياة، محتلٌ يلاحق من يشاء، ويتهم من يشاء، ويقتل من يشاء، ويعتقل من يشاء، ينشئ المستوطنات، ويقيم الحواجز، ويبني الأسوار، ويغلق المدن والقرى، ثم يزعم أنه يريد السلام!(43/4)
مفهوم السلام عند اليهود والغرب
أيها المسلمون! عندما تنعدم الخيارات أمام المظلوم، وتضيق البدائل بشعبٍ مقهور، فإن كل سلوكٍ متوقَّع، وكل سياسات يمكن فهمها، وإن صعب تبريرها.
غزارةُ دمٍ يسيل، وحرارةُ دمٍ يغلي، ليسوا طرفين متكافئين، جيشُ احتلال مسلح ضد شعبٍ أعزل، القتلى والضحايا في طرف، والقاتل والجلاد الذي يطلق النار في طرفٍ آخر، قاتلٌ ومقتولٌ وجلادٌ وضحية.
إن مشاهدة هذه المناظر ومتابعة الأحداث تقطع الأمل للرغبة الجادة في السلام، إن من بدهيات الأمور وأبجديات التفكير: أن السلام الذي يُبْنَى على أساليب القهر والإذلال والتعسف والإملاء والابتزاز غير السلام الذي يُبْنَى على الحق والعدل والمساواة والتكافؤ والنِّدِّيَّة.
إن القوة والقهر والظلم لا يمكن لها أن تنشئ حقاً، أو تقيم سلاماً.
إن العدوان لا يولِّد إلا العدوان.
وإن مشاعر الشعوب هي معيار الضغط النفسي، وهي مقياس بواعث الانفجار.
أيها المسلمون! إن ما يجري في بيت المقدس وفلسطين المحتلة امتحان شديد لأمة الإسلام.
أمة الإسلام أمة معطاءة تجود ولا تبخل في تاريخها المشرق الطويل، قدَّمت ما يشبه المعجزات، وهي اليوم تعيش مفترق طرقٍ خطير يحيط بها، وبقدسها، وبأجزاء محتلة من ديارها، إنها لن تعجز عن إيجاد آلية عاقلة منصفة، قوية متزنة، تعيد الحق إلى نصابه، وترد المغتصب إلى صوابه.
أمةُ محمد صلى الله عليه وسلم، أمةُ الإسلام، وأمةُ الجهاد، وأمةُ العزة لا تعجز بإذن الله أن تجد لنفسها بتوفيق الله وعونه مخرجاً من أزمتها وعطلها الحضاري، والقدس والأرض المباركة أغلى وأثمن وأكبر من أن تُتْرَك لمتاجرات أو مساومات.(43/5)
أهمية الاعتصام بحبل الله
أيها الإخوة! إن قضية بيت المقدس، وقضية فلسطين لا تنفصل ألبتة عن قضية الإسلام كله، إنها ليست أرضاً فلسطينيةً أو عربيةً فحسب، بل إنها قبل ذلك وبعده أرض المسلمين أجمعين، تُفْدَى بالأرواح والمُهَج، وإذا ضعف الإسلام في نفوس الأتباع ضعفت معه روابط الحقوق والحماس والفداء في قضاياه كلها، ويوم يترسخ الإيمان، ويصفو المعتقد، وتسود الشريعة، وتعلو الشعائر، ستحيا كل القضايا، وسيتحقق كل مطلوب.
وبعد فيجب أن يعي المسلمون ويعلنوا أنه لا سبيل لاسترداد الحقوق واستنقاذ المغتصبات في أي مكان، وعلى أي أرض، إلا حين يعتصمون بحبل الله، ويكونون جميعاً ولا يتفرقون، ويصطفون عباداً لله إخواناً، يجمعهم نداءٌ واحد لا نداءَ غيرُه: {يا مسلم، يا عبد الله} {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:138 - 141].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(43/6)
إنقاذ بيت المقدس فريضة شرعية
الحمد لله؛ الحمد لله الذي نصب الكائنات على ربوبيته دليلاًَ: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [المزمل:9] أحمده سبحانه وأشكره، أولانا من فضله وكرمه عطاءً جزيلاً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند ولا شبيه ولا مثيلٍ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، قام في عبادة ربه حتى تفطرت قدماه، وتبتل تبتيلاً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، حازوا بصحبته وأتباعه والجهاد معه فوزاً عظيماً، وذكراً جميلاً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله رحمكم الله، واعلموا أن بيت المقدس والأرض المباركة في خطرٍ عظيم، والعمل من أجل إنقاذها وتطهيرها، فريضة شرعية وواجبٌ ديني، يستنهض عزم أبناء الأمة، وبذل كل الجهود والوسائل لإحقاق الحق ونصرة القضية.
في نصوص الكتاب والسنة، ربطٌ متين صريح للأرض المقدسة والأرض المباركة بأصلها الأصيل وهو الإسلام، فهو مستقبلها وبه حياتها، ولن يتم لها أمر أو يعلو لها شأن إلا من خلال دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
إن هذا الربط يعطي لقضية القدس والأرض المحتلة ولكل قضايا الأمة إطاراً رحباً، وعمقاً عميقاً، لا يتحقق من خلال نظرة إقليمية، أو دعوة قومية، إن مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وبيت المقدس، هي سر القوة التي جابت خيولها العالم.
أيها المسلمون! إن الذي ينظر إلى القضية بمنظار القرآن فلن يُخدَع أبداً، فالقرآن الكريم يقول: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100].
ويقول: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64].
ومن يتزود بزاد القرآن فلن يضعف أبداً: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة:14 - 15].
ومن يتعامل مع قضاياه على هدي القرآن فلن يضل أبداً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217].
ومَن صدَّق بما في القرآن فلن يتنازل عن حقٍ أبداً: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} [الإسراء:7].
ولكن مع الأسف -أيها المسلمون- إذا كان الإسلام ذاته في عقول بعض المسلمين وكتاباتهم وإعلامهم لا يستحق أن يحظى منهم بتفكير أو اهتمام، بل إذا كانت العقيدة عند بعضهم أهون من الأرض، والشريعة أرخص من التراب، فهيهات أن تنتصر القضية، أو يتنزل نصر.
يا هؤلاء! لا عودة للحق قبل العودة الصحيحة إلى الإسلام.(43/7)
الدين منصور إلى قيام الساعة ونصرته واجبة
إن من سنن الله أن العاقبة للمتقين، وأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون، ولكن من سننه أيضاً إذا تخلى أهل الإيمان عن إيمانهم فإنه يستبدل قوماً غيرهم ويَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ.
أيها المسلمون! النصر قادمٌ لا محالة بكم أو بغيركم: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].
ودين الله منصورٌ بكم أو بغيركم: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة:39].
والحق سيعلو على أيديكم أو أيدي غيركم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].
والباطل سيزهق بجهودكم أو جهود غيركم: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
ولكن لماذا لا يطلب المسلم الخير لنفسه، لماذا لا يكون لَبِنَة في طريق النصر، وسهماً من سهام الحق، وأداة لزهق الباطل؟!
أيها المسلمون! مطلوبٌ من أمة الإسلام بقياداتها وشعوبها وهي على أبواب قمة تجمع قادتها وقد تبين لها من الأحداث ما تبين، مطلوبٌ فعاليات مؤثرة، ترفع الذلة، وتثبت العزة، وتجمع الكلمة، وتعيد الحقوق، وتعرف العدو من الصديق، وتقف صفاً واحداً في مصالح أمتها، وما يحاك من مؤامرات.
إن الأمة التي لا تحمي مقدساتها بأغلى ما تملك من أنفسٍ ونفيس لن تجد ما تحميه وتدافع عنه، وستبقى مستباحة الكرامة والحقوق والديار.
أيها المسلمون! إن من البشائر ومما يبعث الأمل ويقوي العزائم: هذا التفاعل الذي شهده المسلمون، وقرت به الأعين، هذا التفاعل من الأمة كلها في الأقطار الإسلامية كافة -شعوباً وقادة- لقاء هذه الاعتداءات الآثمة من هذا العدو الصهيوني المحتل الغاشم، والمآسي التي يتعرض لها إخواننا في فلسطين، لقد أبدت الأمة بقادتها وساستها وعلمائها ومثقفيها أبدوا مواقف مشرفة من الاستنكار ورفع الأصوات عالية مسموعة بالتنديد وفضح الأعداء، وعدم الوقوف مكتوفي الأيدي في نداءات وكتابات وتحليلات وإعلام ومواقف سياسية، ثم ذلك التفاعل في تقديم المساعدات والإمدادات المادية والعينية والإسعافية، وتأتي بلاد أمِّ المقدسات، بلاد الحرمين الشريفين لتكون في مقدمة الصفوف مع أشقائها البلاد العربية والإسلامية للقيام بواجب العون والدعم، ومهما قُدِّم ويُقَدَّم فليس بكثير ولا مستكثر على مقدساتنا وإخواننا.
ثم قبل ذلك وبعده ما يبذله المسلمون من الدعاء لإخوانهم، والصالحون في الأمة كثيرٌ إن شاء الله.
سبحانك ربنا، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، سبحانك وبحمدك، لا يُهْزَم جندُك، ولا يُخْلَف وعدُك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم إن هؤلاء اليهود قد طغوا وبغوا، وظلموا وأفسدوا، اللهم أنزل عليهم رجزك وبأسك وغضبك وعذابك إله الحق.
اللهم إن هؤلاء اليهود قد طغوا وبغوا، وظلموا وأفسدوا، اللهم أنزل عليهم رجزك وبأسك وغضبك وعذابك إله الحق.
اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزم اليهود الغاصبين المحتلين وزلزلهم.
اللهم خالف بين قلوبهم، وفرق جمعهم، وشتت شملهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يُرَد عن القوم المجرمين.
اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم انصر إخواننا في فلسطين.
اللهم كن لهم مؤيداً ونصيراً، ومعيناً وظهيراً.
اللهم إنهم حُفاةٌ فاحملهم، وضَعَفَةٌ فقوهم.
اللهم ارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وقوِّ عزائمهم، واحفظ عليهم دينهم، واجمع كلمتهم، ووحد صفوفهم.
اللهم أنت المرتجى، لا ملجأ إلا إليك، اللهم إنا نسألك لهم فرجاً عاجلاً، ونصراً مؤزراً.
اللهم لقد مسهم الضر، اللهم لقد مسهم الضر، اللهم فاكشف عنهم هذه الغمة، واكشف الغمة عن إخواننا المسلمين في كل مكان.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان.
اللهم انصرهم في كشمير، وفي الشيشان، وفي كل مكان يا رب العالمين!
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.
اللهم من أرادنا بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(43/8)
في رحاب رحمة الله الواسعة
آفاق رحمة الله الواسعة تفهم من قوله سبحانه: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فيسمع الإنسان هذا المفهوم فيسعى للرحمة وينشر أنوارها بين الخلق، وبينما هو كذلك إذ يستجلب الرحمة من الله لتمده رحمة الله برحمة خلقه، فيستجلبها بطاعة الله ورسوله، بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والرحمة بالعباد، وإحسان معاملة الخدم، وصلة الأرحام، ثم يقسو أحياناً على من يرحم؛ ليكون حزماً في رحمة مسداة، فيكون ممن شملهم قول الله: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ).(44/1)
حاجة الناس إلى الرحمة
الحمد لله وسع كل شيء برحمته، وعمَّ كل حي بنعمته، لا إله إلا هو خضعت الخلائق لعظمته، سبحانه يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ آلائه وجلائل منِّته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، خيرته من بريته، ومصطفاه لرسالته، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وعترته، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وسار على نهجه وطريقته.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، واعتبروا بمن مضى من قبلكم، فقد عاجلهم ريب المنون، وجاءهم ما كانوا يوعدون هم السابقون وأنتم اللاحقون، سبقوكم بمضي الآجال، وأنتم على آثارهم تشد بكم الرحال {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
أيها المسلمون: الناس في حاجة إلى كنف رحيم، ورعاية حانية، وبشاشة سمحة.
هم بحاجة إلى ودٍ يسعهم، وحلمٍ لا يضيق بجهلهم، ولا ينفر من ضعفهم.
في حاجة إلى قلبٍ كبير يمنحهم ويعطيهم، ولا يتطلع إلى ما في أيديهم، يحمل همومهم ولا يثقلهم بهمومه.
إن تبلد الحس يهوي بالإنسان إلى منزلة بهيمية أو أحط، والإنسان بغير قلبٍ رحيم أشبه بالآلة الصماء، وهو بغير روحٍ ودود أشبه بالحجر الصلد.
إن الإنسان لا يتميز في إنسانيته إلا بقلبه وروحه، لا في أكوام لحمه وعظامه، فبالروح والقلب يحس ويشعر، وينفعل ويتأثر، ويرحم ويتألم.
الرحمة -أيها الإخوة في الله- كمالٌ في الطبيعة البشرية، تجعل المرء يرق لآلام الخلق، فيسعى لإزالتها كما يسعى في مواساتهم، كما يأسى لأخطائهم فيتمنى هدايتهم ويتلمس أعذارهم.
الرحمة صورة من كمال الفطرة وجمال الخلق، تحمل صاحبها على البر، وتهب عليه في الأزمات نسيماً عليلاً تترطب معه الحياة وتأنس له الأفئدة.(44/2)
سعة رحمة الله
جاء في الحديث الصحيح: {جعل الله الرحمة مائة جزءاً، أنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه}.
وربنا سبحانه متصف بالرحمة صفةً لا تشبه صفات المخلوقين، فهو أرحم الراحمين، وخير الراحمين، وسعت رحمته كل شيء، وعم بها كل حي، وملائكة الرحمة وهي تدعو للمؤمنين أثنت على ربها وتقربت إليه بهذه الصفة العظيمة: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7] وفي الحديث القدسي: {إن رحمتي تغلب غضبي} مخرَّج في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي التنزيل الحكيم: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:118]، {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: {قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي، فإذا امرأة من السبي تسعى قد تحلَّب ثديها، إذ وجدت صبياً في السبي أخذته فألزقته ببطنها فأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا والله وهي تقدر على ألاَّ تطرحه.
قال: فالله تعالى أرحم بعباده من هذه بولدها} أخرجه البخاري.(44/3)
رحمة الله سبب واصل بين الله وعباده
أيها المسلمون: إن رحمة الله سببٌ واصل بين الله وعباده، بها أرسل رسله إليهم، وأنزل كتبه عليهم، وبها هداهم، وبها يسكنهم دار ثوابه، وبها يرزقهم ويعافيهم وينعم عليهم، فبينهم وبينه سبب العبودية، وبينهم وبينه سبب الرحمة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:57 - 58].
والرحمة تحصل للمؤمنين المهتدين بحسب هداهم؛ فكلما كان نصيب العبد من الهدى أتم كان حظه من الرحمة أوفر، فبرحمته سبحانه شرع لهم شرائع الأوامر والنواهي، بل برحمته جعل في الدنيا ما جعل من الأكدار حتى لا يركنوا إليها فيرغبوا عن نعيم الآخرة، وأرسل رسوله محمداًَ صلى الله عليه وسلم بالرحمة؛ فهو نبي الرحمة للعالمين أجمعين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الإسراء:105] بعثه ربه فسكب في قلبه من العلم والحلم، وفي خلقه من الإيناس والبر، وفي طبعه من السهولة والرفق، وفي يده من السخاوة والنداء ما جعله أزكى عباد الرحمن رحمة، وأوسعهم عاطفة، وأرحبهم صدراً: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].(44/4)
عموم الرحمة للخلق كافة
الإسلام رسالة خير وسلام ورحمة للبشرية كلها؛ دعا إلى التراحم، وجعل الرحمة من دلائل كمال الإيمان، فالمسلم يلقى الناس وفي قلبه عطف حنون، وبرٌ مكنون، يوسع لهم ويخفف عنهم ويواسيهم، فعن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لن تؤمنوا حتى تراحموا، قالوا: يا رسول الله! كلنا رحيم.
قال: إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة} رواه الطبراني ورجاله ثقات.
فليس المطلوب قصر الرحمة على من تعرف من قريبٍ أو صديق، ولكنها رحمة عامة تسع العامة كلهم، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرز هذا العموم في إفشاء الرحمة، والحث على انتشارها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يرحم الله من لا يرحم الناس} متفق عليه وفي الحديث الآخر: {من لا يرحم لا يرحم} يقول ابن بطال رحمه الله: في هذا الحديث الحض على استعمال الرحمة للخلق فيدخل المؤمن والكافر، والبهائم المملوك فيها وغير المملوك، ويدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام، والمساعدة في الحمل، وترك التعدي بالضرب.(44/5)
مستجلبات رحمة الله
عباد الله: ورحمة الله تستجلب بطاعته وطاعة رسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم، والاستقامة على أمر الإسلام: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:132] كما تُستجلَب بتقوى الله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28].
ومن جالبات رحمة الله: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71] والعبد بذنوبه وتقصيره فقير إلى رحمة الله: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:46].
ومن أعظم ما تُستجلَب به رحمة الله عباد الله: الرحمة بعباده، ففي الحديث الصحيح: {الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء} رواه أبو داود والترمذي.
ومن أجل هذا، فإن المؤمن قوي الإيمان، يتميز بقلبٍ حي مرهف لين رحيم، يرق للضعيف، ويألم للحزين، ويحنو على المسكين، ويمد يده إلى الملهوف، وينفر من الإيذاء، ويكره الجريمة، فهو مصدر خيرٍ وبرٍ وسلامٍ لما حوله ومن حوله.(44/6)
مواطن الرحمة
أيها المسلمون: وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن من أولى الناس وأحقهم بالرحمة وأولاهم بها الوالدين، فببرهما تُستجلَب الرحمة، وبالإحسان إليهما تكون السعادة: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24].
ثم من بعد ذلك الأولاد فلذات الأكباد، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثم يضمهما ثم يقول: اللهم ارحمهما فإني أرحمهما} أخرجه البخاري.
والمشاهد أن في الناس أجلافاً تخلو قلوبهم من الرقة والحنو، في مسالكهم فظاظة، وفي ألفاظهم غلظة، فقد قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين رضي الله عنهما وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {من لا يرحم لا يرحم} وفي رواية: {أوأملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟} مخرَّج في الصحيحين من حديث عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما.
ويرتبط بالوالدين والأولاد حق أولي الأرحام، فالرحم مشتقة من الرحمة في مبناها، فحريٌّ أن تستقيم معها في معناها، وفي الحديث: {الرحم شجنة من الرحمة، من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله} فليس للمسلم أن يوصد قلبه وبيته دون أقاربه، أو يقطع علائقهم، فلا يسدي لهم عوناً، ولا يواسيهم في ألم، ولا يبادرهم في معروف.
إن الغلظة والجفاء والقطيعة والصدود في حق ذوي الرحم تحرم العبد بركة الله وفضله، وتعرضه لسخط الله ومقته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {الرحم شجنة من الرحمة تقول: يا رب إني قُطعت، يا رب إني ظُلمت، يا رب إني أسيء إليَّ فيجيبها: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك} أخرجه أحمد.
ومن مواطن الرحمة: إحسان معاملة الخدم والترفق بهم فيما يكلَّفون به من أعمال، والتجاوز عن هفواتهم، وليحذر المرء من سطوة التصرف، فيسخّرهم ويسخر منهم، فإن الله إذا ملّكَ أحداً شيئاً فاستبد به وأساء سلبه ما ملّك، ويخشى عليه من سوء المنقلب.
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: {خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أفٍ قط، وما قال لشيءٍ صنعته: لم صنعته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟} رواه مسلم، وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: {كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً خلفي: اعلم أبا مسعود، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام.
فقلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله.
فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار}، وجاءه عليه الصلاة والسلام رجل يسأله: كم أعفو عن الخادم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: كل يومٍ سبعين مرة أخرجه أبو داود.
وفي الناس أقوام شداد قساة ينتهزون ضعف الخدم؛ فيوقعون بهم ألوان الأذى، وقد شدد الإسلام في ذلك وغلظ، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من ضرب سوطاً ظلماً اقتص منه يوم القيامة}.
وممن تتطلب حالتهم الرحمة: المرضى، وذوو العاهات والإعاقات وهم يعيشون في الحياة بوسائل منقوصة تعوق مسيرهم، وتحول دون تحقيق كل مقاصدهم، وتضيق بها صدورهم، وتحرج نفوسهم، فلقد قيدتهم عللهم، واجتمع عليهم حر الداء مع مر الدواء، فيجب الترفق بهم، والحذر من الإساءة إليهم، أو الاستهانة بمتطلبات راحتهم، فإن القسوة معهم جرمٌ عظيم: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61].
أما الصغار والأطفال فإنهم محتاجون إلى عناية خاصة، ورحمة راحمة،،فليس منَّا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، وللنفوس ذات الفطر السليمة تعلق بالصغير حتى يكبر، وبالمريض حتى يُشفى، وبالغائب حتى يحضر، وفي الحديث: {ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا} أخرجه أحمد والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.(44/7)
امتداد الرحمة إلى كل شيء
أيها الإخوة المسلمون: وتعاليم الإسلام وآداب الدين في هذا الباب تتجاوز الإنسان الناطق إلى الحيوان الأعجم، فجنات عدن تفتح أبوابها لامرأة بغيٍّ سقت كلباً فغفر الله لها، ونار جهنَّمٍ فَتَحت أبوابها لامرأة حَبَست هرة حتى ماتت، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض فإذا كانت الرحمة بكلبٍ تغفر ذنوب البرايا؛ فإن الرحمة بالبشر تصنع العجائب، وفي المقابل فإذا كان حَبسُ هرة أوجب النار، فكيف بحبس البرآء من البشر.
وتترقى تعاليم ديننا في الرحمة بالبهائم حتى في حال ذبحها والمشروع من قتلها يقول عليه الصلاة والسلام: {إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدَّ أحدكم شفرته، وليُرح ذبيحته}.
وبعد -أيها الناس- فبالرحمة تجتمع القلوب، وبالرفق تتألف النفوس، والقلب يتبلد مع اللهو الطويل والمرح الدائم، لا يشعر بحاجة محتاج، ولا يحس بألم متألم، ولا يشاطر في بؤس بائس، ولا حزن محزون.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو قسوة قلبه فقال له: {أتحب أن يلين قلبك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك يلن قلبك} والرحمة لا تنزع إلا من شقي عياذاً الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(44/8)
الرحمة خُلُق يرعى الحقوق كلها
الحمد لله يعلم مكنونات الصدور ومخفيات الضمائر، أحمده سبحانه وأشكره على ما أولى من وافر النعم والفضل المتكاثر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول والآخر والباطن والظاهر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله المطهر الطاهر كريم الأصل زكي المنافذ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والمفاخر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ومن على درب الحق سائر.
أما بعد:
فيا عباد الله: إن الرحمة ليست حناناً لا عقل معه، وليست شفقة تتنكر للعدل والنظام.
كلا! بل إنها خُلُق يرعى الحقوق كلها، فقد تأخذ الرحمة صورة الحزم حين يُؤخذ الصغير إلى المدرسة من أجل التربية وطلب العلم، فيلزم بذلك إلزاماً، ويكف عن اللعب كفاً، ولو تُرِكوا وما أرادوا لم يُحسنوا صنعاً ولم يبنوا مجداً، والطبيب يُمزق اللحم ويَهشم العظم ويبتر العضو؛ وما فعل ذلك -أحسن الله إليه- إلا رحمة بالمريض وعلاجه، ناهيكم بإقامة الحدود والأخذ على أيدي السفهاء وأطرهم على الحق أطراً، فهي الرحمة في مآلاتها، والحياة في كمالاتها: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179].
والشفقة على المجرمين تظهر أشد أنواع القسوة على الجماعة، إنها تشجع الشواذ على الإجرام.
والشفقة على المجرمين سماها القرآن رأفة ولم يسمها رحمة، فقال في عقاب الزناة والزواني: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، إن القسوة التي استنكرها الإسلام جفاف في النفس لا ترتبط بتحقيق عدل، ولا بمسلك صعب، ولكنها شدة وانحراف في دائرة مجردة وهوىً مضل.
أيها المسلمون: وقد يستوقف المتأمل معنى الشدة على الكافرين في مقابل الرحمة بالمؤمنين في قول الله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] والحق أن الإسلام قد جاء بالرحمة العامة لا يستثنى منها إنسانٌ، ولا دابة، ولا طير، بيد أن هناك من الناس والدواب من يكون مصدر خطرٍ ومسار رعبٍ، فيكون من رعاية مصلحة الجماعة كلها أن يحبس شره، ويكف ضرره، بل إن الشدة معه رحمة به وبغيره، فالإسلام رسالة خيرٍ وسلام، ورحمة للبشرية كلها بل للدنيا كلها، ولكن ذئاب البشر أبوا إلا اعتراض الرحمة المرسلة ووضع العوائق في طريقها؛ حتى لا تصل إلى الناس فيهلكوا في أودية الحيرات والجهالات، فلم يكُ بد من إزالة هذه العوائق والإغلاظ لأصحابها، ويوم ينقطع تعرضهم وتحديهم تشملهم هذه الرحمة العامة، فليس في الرحمة قصور، ولكنَّ القصور في من حرم نفسه متنزلاتها، اقرءوا قول الله عز وجل: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف:156 - 157].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة.
ثم صلوا وسلموا على نبيكم نبي الرحمة المهداة، والنعمة المسداة محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم جلَّ في علاه فقال في محكم تنزيله، وهو الصادق في قيله قولاً كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن بقية الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وإحسانك يا أكرم الأكرمين!
اللهم أعزَ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملة والدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، وأيدَّ بالحق والتوفيق والتأييد والتسديد إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة، وأعلِ به كلمتك، وأعز به دينك، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، وألبسه لباس الصحة والعافية، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين!
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين، وفي كشمير، وفي الشيشان، اللهم سدد سهامهم وآراءهم، وقوِّ عزائمهم، وأمدهم بنصرٍ من عندك يا قوي يا عزيز!
اللهم إن هؤلاء اليهود المحتلين الغاصبين قد بغوا وطغوا، وآذوا وأفسدوا، وقتلوا وشردوا، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم واجعل الدائرة عليهم يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلادنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين!
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(44/9)
دعوى تحرير المرأة
إن ضعف الأمم وعجزها ليس له سبب إلا تلك الأخلاقيات المفضوحة، من إضاعة للأمانات، وتحلل من المسئوليات، وعدم إتقان للعمل، والتفاف حول المآرب الشخصية، وتضييع للواجبات، ونسيان للمبادئ الكبرى، ودعوة إلى انحلال الأمة عن أخلاقها ودينها، وتفسخ نسائها بدعوى تحرير المرأة.(45/1)
الأسباب الحقيقية لضعف الأمم
الحمد لله المستحق للحمد والثناء؛ أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأسأله السعادة في الدارين، وأعوذ به من حال أهل الشقاء؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن سيدنا ونبينا عبد الله ورسوله، أفضل الرسل وخاتم الأنبياء؛ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأتقياء؛ والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس! أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله -رحمكم الله- ما استطعتم، واستدركوا بالتوبة والأعمال الصالحة ما أضعتم؛ فربكم سبحانه خلقكم لتعبدوه، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لتشكروه.
أيها المسلمون! يظن بعض الناس أن بعض الأمم وعجزها يرجع إلى ضعفها الصناعي أو عجزها العسكري أو نقصها الاقتصادي وأن الأمة الضعيفة لو ملكت هذا أو ذاك سادت ثم صادت!
وهذا عند النظر والتفكر فكر فيه عوج، ونظر فيه خلل، يعشى بصر صاحبه أن يبصر الشلل العضوي في أجهزة تلك الأمة الخلقية، وملكاتها النفسية، وانهزامها الداخلي في فكرها وعقلها وتبعيتها وفغرها أفواهها إعجاباً وبلاهة.
ولقد يروعك إن كنت مخلصاً ناصحاً ذا بصيرة نافذة، وأنت تتلمس العيوب والأخطاء وأسباب الضعف والتخلف، يروعك انتشار أخلاقيات بين الناس دون مبالاة، بل يصحبها إغماض شديد ممن ينصبون أنفسهم مفكرين في المجتمع، ومثقفين في أوساطه، إغماض منهم عن هذه الأخلاقيات المفضوحة، من إضاعة الأمانات، والتحلل من المسئوليات، وعدم إتقان العمل، والالتفاف حول المآرب الشخصية، ونسيان المبادئ الكبرى والحقوق العامة، وانتشار اللغو واللغط والكسل والإهمال، وتضييع الأوقات في غير المجدي والمفيد، واستقصاء المرء في طلب ما يرى أنه من حقوقه، واستهتاره وإهماله في أداء ما لزمه ووجب عليه، وتقاعسه عن الكمال كالعامة وهو من القادرين، ينضم إلى ذلك فقدان الرفق في القول والعمل، وشيوع القسوة في التعامل، والمبالغة في الخصام والعداء، والتحاكم إلى قشورٍ يطل من ورائها الرياء والمجاملات الكاذبة، ويدركك العجز وأنت تُعدد هذا الكم الهائل من النقائص والمثالب.
أيها الإخوة! إن كثيراً مما يتحاور فيه أبناء الأمم الضعيفة، من المنتسبين إلى الفكر والثقافة والرأي، والخوض في أمور المجتمع من النساء والرجال، كاتبين وكاتبات، ومتحدثين ومتحدثات إن كثيراً من حواراتهم لا يُساعد على تقييم خلق أو تهذيب سلوك، إن كثيراً من القراءات المتاحة للناس بلاءٌ تختنق الفضائل في ضجته، وتذوب الأخلاق في أزمته.
ماذا تقول لأناس يهشون لمنكر، ويودون لو نبت الجيل في حمأته؟
وماذا تقول لأناس تمتلئ سطورهم مقتاً للأصيل من أصولهم والمجيد من تراثهم؟! اتباع الهوى أرجح عندهم من اتباع العقل، وبريق التقدم الكاذب أقوى من سلطان الدين والشرائع.
ولهؤلاء قدرة عجيبة في إلباس أهوائهم وشهواتهم ثوب الحق والعمومية، وتحقيق مآربهم باسم الوطنية والمصلحة الاجتماعية.
أيها الإخوة! لا يقال هذا الكلام جزافاً، وإن من الأمثلة الماثلة والشواهد الحية على هذه الطروحات والتناولات في بعض المؤلفات والكتابات، وفي بعض البلدان الإسلامية حديثهم الذي لا يكل عن المرأة وشئونها، وحقها وحقوقها، والمصارعة من أجلها كما يقولون أو كما يصورون.
والموضوع -أيها الإخوة- يحتاج إلى تجلية، ويحتاج إلى النظر في بواعث الموضوع في كثير من أقطار الدنيا بزعم تحرير المرأة وإعادة حقوقها إليها.(45/2)
تاريخ الحركة النسوية
أيها الإخوة! وفي عودةٍ إلى أصول الموضوع وجذوره وبواعثه ومثيراته؛ لا بد من التذكير بالتاريخ الذي تنبعث منه دعوة هؤلاء.
إن تاريخ الحركة النسوية، أو الحركة الأنثوية -كما يُعبرون- مذهب جيء به لكي يفرض ويسود العالم كله، ويحل محل العقائد والأديان والمذاهب، سماوية أو غير سماوية، إن هذا المذهب النسوي جارٍ على النهج الذي اختطه الغرب العلماني لنفسه حينما تخلَّى عن الدين، وابتدع عقائد ومذاهب من الوجودية، والعقلانية، والشيوعية، والاشتراكية، والتنويرية، والنفعية ونحوها، وكلها مذاهب تنطلق من رفض الوحي، وإنكار الله جل في عُلاه، وتجعل الإنسان إله نفسه ومُشرِّع حياته، وأغلب هذه الحركات قد تساقطت واندثرت، وأصبحت حديثاً في الغابرين.
إن الحركة النسوية حركة قامت على أنقاض تلك الحركات، مستخدمة في ذلك مبادئها، قامت على ما يسمونه تحطيم المنطلق، ويريدون به هز الأسس الفكرية، والمبادئ الأساسية، التي يقوم عليها المجتمع، ونسفها من أجل إقامة ما يُريدون من أفكار هدَّامة، قامت على الشعور بالذاتية المنعزلة المتمردة، والتي تتخذ من معاداة الرجل حرباً مستعرةً، وتعاملُه كجنس شيطاني شرِّير، قامت على أن بناء المجتمع على الفرد وليس على الأسرة والعائلة؛ ولهذا فإن الحديث والخطب والسياسات التي ترسم للمجتمعات عندهم والأمم هناك تُبنى على الفرد، ولم يعد للعائلة ولا للأسرة شأنٌ يُذكر في خضم دراستهم، فالفرد بفرديته هو المقصود، رجلاً كان أو امرأة، وهكذا تبدَّلت المفاهيم والقيم، وشاعت هذه الحرية التي يزعمونها وينادون بها ويتبنونها، فصارت المرأة لا تعني زوجة ولا أماً لا أختاً ولا بنتاً، ولم يعد الرجل أخاً أو أباً أو ابناً، ليس هناك انتشار وثيق لهذا الكيان العائلي، بل أصبح وأصبحت زملاء دراسة، وأصدقاء عمل، وخلائل وأخدان، ولم يعد ينظر في الحساب إلى الزواج، وإقامة البيوت، فغرائزهم ملباة دون مسئوليات تُلقى على العواتق والكواهل، وكلٌ حر في التناقل بين أحضان من يشاء.(45/3)
مبادئ ومقومات الحركة النسوية
إن هذه الحركة النسوية نشطت في قلب القيم، وعكس المفاهيم، وارتبطت بمصالح مادية وإعلامية وتيارات اجتماعية؛ تُعادي الدين والعقائد، وتُروج للإلحاد والإباحية والشذوذ الجنسي وهكذا يتجسد مفهوم تحرير المرأة في منهجهم عبر صنع امرأة مشاكسة عدوانية محاربة لجنس الرجال، قد تقبل من التعاليم السائدة ما تراه يُكرس لها حقوقها، ولكنها ترفض ما ترى أنه واجبات أو مسئوليات، إنها ليست دعوة إلى تحرير المرأة كما يزعمون؛ ولكنها دعوة إلى تحرير الوصول إلى المرأة.
انعتقوا من كل الروابط والقيم، والمسئوليات الأسرية، والحقوق الاجتماعية، وحولوا العلاقات العائلية إلى وظيفة رتيبة أشبه بمحاضن تفريخ، عزف الرجال عن الزواج لوجود السبل المحرمة، يشبعون من خلالها غرائزهم دون تحمل لما يترتب على الزواج الشريف من أعباء ومسئوليات.
أيها الإخوة: لقد أصبحت الحركة النسوية مذهباً ومبدأً يُكافح عنه أناس، يعقدون له المؤتمرات والندوات، ويمتطون من أجله صهوات المنظمات والهيئات من حقوق الإنسان وغيرها.
ومع الأسف -أيها الإخوة- فإن هذه المبادئ لا يُناجي بها، ولا يُدافع عنها، ولا يتحمس لها في كثير من بلاد المسلمين إلا النُّخب العلمانية ذات الهيمنة على مجريات الفكر في بلادها.
إن المعشش في عقول هؤلاء: أن التقدم العلمي، والسباق التقني، لن يتحقق إلا على أنقاض الفضيلة والإيمان، والالتزام بأحكام الإسلام، وإنها الهزيمة النفسية، والانكسار الداخلي، وحينما يُبتلى المرء بذلك؛ فإنه يفقد القُدرة على التمييز بين الحق والباطل.
إن الداعين والداعيات إلى تحرير المرأة على الطريقة العلمانية في أوطان المسلمين إنما ينشدون محالاً من الأمر، فهم وهن في عناء مستمر في سبيل الوصول إلى مركب يجمع لهم الخير والشر والحق والباطل في آن واحد.
إن الإسلام الذي جاء من عند الله شاملاً كاملاً كما جاء واضحاً جلياً لا يمكن أن يمتطى بمثل هذه الأساليب، إنهم يحاولون بأيدي مرتعشة التوفيق بين أهوائهم وانهزامهم، وتطويع بعض النصوص الشرعية.(45/4)
المرأة بين الشريعة الإسلامية والتبعية المنهزمة
والحق أن المسألة دائرة بين أمرين لا ثالث لهما: إما الإسلام كله، أو التبعية المنهزمة، إنهم في نظرتهم يريدون أن تكون المرأة نداً للرجل، ومماثلاً له، ومناوئاً له، ومتصارعاً معه، وفي نظر ديننا هي: شقيقة الرجل ووشقه ومتممه، وهو متممها، هو رجل محتفظ برجولته، وهي امرأة متميزة بأنوثتها، المرأة في مسلكهم آلت إلى سلعة في سوق النخاسين، في دُور الأزياء وعروضها، وغانية في سوق الملذات والشهوات، يستعبدها الرجل الذي يزعم تحريرها، يستمتع بها؛ لأنه لا يريد حريتها، ولكنه يريد حرية الوصول إليها، وفي نظر ديننا لا يجوز أن يكون تأمين العيش ومكافحة الفقر ومحاربة الجهل على حساب العرض والشرف، وفي ضياع الشرف ضياع العالم لو كانوا يعقلون: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة:103].
ليس من حقوق المرأة في ديننا حق الزنا، وحق الحمل من سفاح، وحق الشذوذ والسحاق، وليس من حقها أن ترفض الدين وأحكامه، وتقول: إنه متخلف ومعادٍ للمرأة وقيد على حريتها، حقوق المرأة مقرونة بمسئوليتها في الأمومة ورعاية الأسرة.
حقوق المرأة تُؤخذ وتُمارس من خلال الحشمة والأدب، محوطة بسياج الإيمان بالله في أمة واحدة متكاتفة متآلفة، وليست متنازعة متصارعة: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195]، وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97].
أما المرأة عندهم ذات الحقوق: فهي المتمردة على بيتها وأطفالها وشئون منزلها؛ لأنهم يقولون: إن ربة البيت داخل بيتها ذات عمل لا مردود له.
ويقولون: إن خدمتها في بيتها مجانية وعملها في بيتها عمل غير منتج؛ فالتحرير لا يتم إلا بالتدمير: تدمير الأسرة وتدمير القيم؛ ألا شاهت الوجوه وسُدت الأفواه!
تربية النشء وحفظ الكرامة والاستقرار العائلي والهدوء النفسي ليس له مردود وغير منتج! هكذا قاس قائسهم وقدر مقدرهم ألا: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر:19] {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر:20].
أيها الإخوة! وإنكم لتعلمون ويعلم كل عاقل منصف أن المرأة التي أخرجوها من خدرها وقرارها المكين مهما تحدثوا عنها، وأعطوها ومنحوها، ودافعوا عنها؛ فقد جعلوها في الصفوف الخلفية في الأهمية والقدرة والمرتب والطاقة، مهما أبلت وبذلت من جهد وعرق وساعات عمل، لماذا فعلوا ذلك؟ لأن موازينهم مادية بحتة، وأصحاب رءوس الأموال وأرباب المصانع والمتاجر لا يؤمنون إلا بالنفعية، وما دام أن المرأة خرجت من بيتها، واحتاجت إلى العمل، فلماذا لا تستغل ويحقق فائض الربح من خلالها؟ ومن ثم كان لزاماً على المرأة المسكينة أن تواجه وحدها وبمفردها جفاف هذا المجتمع وغلظة هذا التعامل، أصبحت الضحية الأولى التي تنعكس عليها تناقضات ذلك المجتمع وعلومه، فهي راكضة بائسة تركض في مبدأ حياتها لتتعلم، ثم تركض لتعمل وتكسب وتعيش، ثم تركض وراء الأزياء ولفت الأنظار لعلها تجد من يلتفت إليها بلا عقد ولا ميثاق غليظ، وهكذا تعيش حاضراً لا طعم له، ومستقبلاً مكشراً تلقي بنفسها بين فكيه وحيدة منبوذة، وما هي إلا إفرازات البيوت الخربة، والمسئوليات الضائعة حين ألقاها الرجال عن كواهلهم، فهل ينبه لذلك الغافلون؟! ويا ليت فئات من القوم يعلمون! {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(45/5)
نداء الفطرة وتعارضه مع نداء دعاة تحرير المرأة
الحمد لله الذي يقول الحق وهو يهدي السبيل، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأعوذ به من الزيغ والتبديل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وأشهد أن سيدنا ونبينا عبد الله ورسوله أمر بالصدق والعفاف وكل خلق جميل، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه كل بكرة وأصيل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:-
أيها الإخوة! هذا هو نداء التحرير عندهم، مبادئ علمانية مادية، أغرقت الإنسانية في الضياع والرذيلة والعبثية، وأَدَّت إلى فقد الإنسان المعاصر للقيمة والهدف والغاية، لقد أصبح تائهاً ضائعاً بين مبادئ وأفكار، ونظريات وفلسفات، كلها تصب في بوتقة المادية والشهوانية بكل صورها وأبعادها وألوانها، وليعلم من لا يعلم أن الباقي هو نداء الفطرة التي فطر الله الناس عليها، إنه نداء الفطرة الذي يقول: إن الرجل يبحث عن المرأة التي تعمر البيت بوجودها وحركتها وعملها، وليست المرأة التي تملأ المعامل والمصانع والمكاتب والشوارع، وتخلف وراءها بيتاً يفترسه الفراغ والخراب.
إنه نداء الفطرة الذي يقول: إن المرأة تبحث عن الرجل الكريم الشريف الذي يقف إلى جانبها في مسار حياتها، شابة وامرأة وسيدة محترمة، هو سكنٌ لها وهي سكن له، {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، إنها أم بنيه وبناته، يرعاها ويرعى أولادها ويصل رحمها، وليس هو الرجل الذي يعجب بها لحظة خاطفة، ومتعة عابرة، ثم ينبذها إلى غير رجعة، هذا هو النداء، وما عدا ذلك فزيف وتصنُّع وجهلٌ وعمى وظلم وإفك مبين.(45/6)
بلاد الحرمين وتعليم المرأة
وبعد -أيها الإخوة- فمن أراد مثالاً حياً، وطريقة تُحتذى، جمعت بين تعاليم الإسلام وآداب الدين، واستوعبت المفيد من القديم والجديد؛ فلينظر إلى النموذج الذي تتبعه بلاد الحرمين الشريفين من الحفاظ على المرأة بحشمتها، مع توفير كل الإمكانات الممكنة، تعليماً وعملاً في طريق المنظمة المنتظمة، فلهن ميادينهن ومجالاتهن في التعليم والعمل والإدارة، ميادين تتمكن منها المرأة أن تُعطي العطاء المطلوب، مجتنبةً الويلات التي يُعاني منها المستسلمون والمتخاذلون والمخذولون بصرخات التحريم الكاذبة الكافرة الماكرة، لم يكن ذلك هنا لولا توفيق الله سبحانه، ثم التوجه المخلص والصادق والمدروس من القيادة حفظها الله، والقائمين على شئون المرأة -وفقهم الله- تعليماً وعملاً، منطلقاً من هدي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إنه التنظيم والترتيب الذي يحفظ البلاد وأهلها من الانزلاق في أوحال الاختلاط وأخطاره المريضة، ولا نزال -ولله الحمد- نرى آثاره الخيرة طهراً وعفةً ونقاءً، ولن ترضى هذه البلاد بغير هذا المنهاج بديلاً، مهما نعق الناعقون، واستبطن المستبطنون.
بارك الله في الجهود، وسدد الخُطى، وهدى إلى الحق والطريق المستقيم.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله- واستمسكوا بآداب دينكم، ثم صلوا وسلموا على نبي الرحمة والهدى، نبيكم محمد المصطفى، فقد أمركم بذلك ربكم جلّ وعلا، فقال عز قائلاً عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، واخذل أعداء الملة والدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة، وأيده بتأييدك، وأعزه بنصرك، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمةً لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً غدقاً سحاً مجللاً تغيث به العباد، وتسقي به البلاد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد، واجعل اللهم ما أنزلت لنا قوةً على طاعتك وبلاغاً إلى حين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(45/7)
بين السلام وإباء الضيم
إن الله سبحانه وتعالى اقتضت حكمته قدراً وكوناً أن يكون هناك حق وباطل، وخير وشر، وإصلاح وفساد، يدال هذا مرة وهذا مرة، وإن مما نشاهده في عصرنا هذا الحرب العالمية الكبرى من قوى الشر ضد الإسلام وأهله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.(46/1)
العرب قبل الإسلام
الحمد لله واسع الفضل، مجزل الثواب، يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من أناب، أحمده سبحانه وأشكره، يفيض فوائض النعم، ويسبغ سوابغ الكرم، ويعطي بغير حساب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكريم الوهاب، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله ختم به الأنبياء، وأنزل عليه أشرف كتاب، صلى الله وسلم وبارك عليه، أوضح العقائد وفصَّل الأحكام، وسَنَّ مكارم الأخلاق والآداب، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار خير آل وأكرم أصحاب، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فبتقواه تُنال الدرجات، وتزكو الأعمال، وتزودوا من ممركم لمقركم، فأنتم في فترة الإمهال، فالدنيا غرارة مكارة، والموت آتٍ لا محالة، والأجل قريب والأحمال ثقال، فاغتنموا رحمني الله وإياكم سويعات أعمالكم فالأيام فانية، ولسوف يندم أصحاب القلوب القاسية، وطهروا درن الذنوب بفيض العبرات، واستثيروا رقة القلوب بذكر يوم الحسرات، فالناس فيه سكارى من طول الوقوف، حيارى من هول يوم مخوف: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].(46/2)
بزوغ فجر الإسلام
أيها المسلمون! جاء الإسلام وأمم الأرض تشتبك في حروب لا تحصى، ولأغراض من المطامع شتى، دول في القديم كبرى، كان القتال بينها سجالاً، فنيت فيها جيوشها، وناءت بمغارمها شعوبها، ولم يكن وقود تلك الحروب إلا مطامع الكبار، ولم يشعل فتيلها إلا شهوة التوسع، والمباهات في الاستبداد.
لقد جاء الإسلام وجاءت حضارته والعالم تحكمه قوانين الغاب، وتسوده شريعة الوحوش، القوي يقتل الضعيف، والمسلح ينهب الأعزل، والحرب تنشب من غير قيد أو حد، فكل من ملك قوة امتطى صهوة جواده، وشهر سلاحه، ليستذل الأمة الضعيفة على أرضها، ويغلبها على قوتها، ويكرهها على عقيدتها، فيشعلها حرباً آثمة، ويوقدها على الضعفاء ناراً تلظى.
وأما العرب أنفسهم في تلك الأحقاب فقد أكلتهم غاراتهم، فكان الاقتتال لهم طبعاً، والقتل بينهم عادة، حتى إذا لم يجدوا غارة على البعيد أغاروا على القريب، فهم على بكرٍ أخيهم إن لم يجدوا إلا أخاهم.
وفي هذه العصور المظلمة، والظروف الكالحة تفجر ينبوع الإسلام؛ فلانت القلوب الصلبة؛ وترطبت الغصون الجافة، وأقبل فيه العالم على دين جعل الإيمان صنو الأمان، والإسلام قرين السلام، فانحسرت مطامع النفوس، وتجافت وساوس الشيطان، تقاصر العدوان على الحقوق.
ثم كان النداء لأهل الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:20].
بهذه الروح وبهذه المبادئ انتشر الإسلام في سنواته الأولى، حتى بلغ مشارق الأرض المعمورة ومغاربها، في أقل من قرن من الزمان، ومن المعلوم قطعاً أن المسلمين لم يكن لهم في ذلك الوقت من القوة العددية، ولا من الآلة العسكرية، ولا من تقنية الاتصالات، ولا من وسائل المواصلات ما يُمكِّنهم من قهر الشعوب على ترك دينها، ولا فرض الحكم على الديار التي دخلوها، لولا أنه دين حق، وحضارة سلام، وسياسة عدل، فالشعوب المفتوحة لم تدن بالإسلام، ولم تتعلم لغة القرآن، ولم تخضع للمسلمين إلا لما ظهر لها فيه من الحق والرحمة والعدل الموصل لسعادة الدنيا والآخرة.
إن الإسلام دين الفطرة، سمته البارزة وعلامته المسجلة نشر الحق، وفعل الخير، وهداية الخلق: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77] تلكم هي حقيقة الإسلام ووظيفته التي يجب أن تعرف في أروقة الأمم، ومحافل الدول، ومجامع العالم.(46/3)
الإسلام ليس نظريات ضيقة
أيها المسلمون! والإسلام في غايته والدين في مبادئه لا ينظر إلى مصلحة أمة دون أمة، ولا يقصد إلى نهوض شعب على حساب آخر، ولا يهمه في قليل أو كثير تملك أرض، أو سيادة سلطان هذا أو ذاك، ولكن مقصوده وغايته سعادة البشرية وفلاحها، وبسط الحق والعدل فيها، فكل توجه غير هذا، وكل هدف سوى هذا لا اعتبار له في الإسلام؛ بل إذا كانت التوجهات تتضمن ظلماً أو تقود إلى غمط حق، فلا بد حينئذٍ من مقاومتها حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله، فالأرض كلها لله، ويرثها الصالحون من عباد الله.(46/4)
الإسلام دين القوة والإعداد
أمة الإسلام! لئن كان الإسلام دين رحمة وعدل وسلام، فإنه في الوقت نفسه، دين قوة وإباء وضيم، لأنه دين عملي يأخذ الحياة من واقعها، ويعامل الخلائق من طبائعها، وفي الحياة والطبائع ميل إلى المشاحنات، وتوجه نحو المنازعات , ودخول في المنافسات، من أجل ذلك وبجانب عدله ورحمته أمر بإعداد القوة التي تحمي الحق، وتبسط العدل، وتزرع الخير وتنشر السلام، بل إن القوة العادلة، أقوى ضمان لتحقيق السلام، وحذر من أن يفهم الناس أن السلام معناه القعود عن الاستعداد مادام في الدنيا أقوام لا تعرف قيمة السلام، ولا تحترم حرية غيرها في أن تعيش آمنة مطمئنة في بلادها، ومن أجل ذلك كله أُمِر المسلمون بإعداد القوة، وأخذ الأهبة، والقوة المأمور بها قوة شاملة، تحشد فيها كل مصادر القوة الاقتصادية منها والسياسية والاجتماعية والعسكرية، والأخلاقية والمعنوية، وقبل ذلك وبعده، قوة الإيمان، والاستمساك بالشرع المتين: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60].
والأمة القوية والدولة القوية تحفظ مهابتها ما دامت صفة القوة ملازمة لها، وتلكم سنة إلهية من السنن التي تبنى عليها الحياة، فلا خير في حق لا نفاذ له، ولا يقوم حق ما لم تحط به قوة تحفظه وتسنده، وما فتئت أمم الأرض ودولها، تعد نفسها بالقوة بمختلف الأنواع والأساليب، حسب مقتضيات العصر، ومتطلبات الظروف في الزمان والمكان.(46/5)
القوة والإعداد المعنوي
أيها المسلمون! ولعل من المناسب الوقوف عند صورة من صور القوة، تلكم هي قوة الروح المعنوية.
إن من يقلب النظر في تاريخ الأمم التي تتمتع بالعز والسيادة، يجدها لم تبلغ ما بلغت إلا بما تربت عليه من قوة الروح قبل البناء العسكري، فبقوة الروح، وارتفاع المعنويات -بإذن الله- تسلم من خطر يمتد إليها من الخارج، ويستتب لها الأمن من الداخل، وتكون ذات شوكة ومهابة.
ولا عجب أن يولي القرآن الكريم ذلك ما يستحق من عناية، فتنزلت الآيات التي تربي النفوس على خلق البطولة، وتحفز الدواعي لإعداد الوسائل، واتباع النظم، فالظفر بعيد عن الجبناء، وبعيد عن المهازيل، ولقد توجهت الآية الكريمة إلى النفوس تنقيها من رذيلة الجبن والإحجام، وتنذرها من سوء عاقبة الجبناء، اقرءوا وتدبروا قول الله عز وجل: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8].
إن الآية صريحة في أن الجبان يبتلى بذي قوة، لا يعرف للعهد رحمة، ولا يقيم للعدل وزناً، ولا يعرف للحق طريقاً، ولقد سجل الشجعان وصدقت الحكماء: أن الموت في مواطن البطولة أشرف من حياة يكسوها الذل، ويغمرها الهوان، والحر يلاقي المنايا، ولا يلاقي الهوان.
ومن العجز أن يموت الفتى جباناً.
وآية أخرى في كتاب الله تفضح فئات من الجبناء الخوارين، أنكروا رجولتهم، ودفنوا كرامتهم، وقعدوا مع فئات لم تخلق للضرب ولا للطعان: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} [التوبة:87] ولا يتوارى عن هواتف الشرف ودواعي البطولة إلا من كان حظه من الرجولة ضئيلاً، ومن الكرامة منقوصاً.
أيها المسلمون: إن بث القوة الروحية ورفع المعنويات يكون بتربية النشء على خلق الشجاعة، وصرامة العزم، والاستهانة بالموت، وإخواننا وأولادنا في فلسطين المحتلة قد ضربوا من ذلك بسهم وافر أعلى الله قدرهم، ورحم شهداءهم، وشفى مرضاهم، وعوضهم ما فقدوا، وحقق لهم النصر على عدونا وعدوهم.
إن الأمة التي تأبى الضيم بحق هي الأمة التي تلد أبطالاً وتبذل كل مجهود في إعداد وسائل الدفاع، لا يقعد بها بخل، ولا يلهيها ترف، إن تفاضل الأمم في التمتع بالحرية، والسلامة من أرجاس الضيم لا يتبين إلا بقدر ما فيها من شهامة الرجال، وما تدخره من أدوات الرمي والطعان، فإذا ما اجتمع للأمة رأي وسيف وعزة؛ تجافت عنها المظالم.
إن العزة وإباء الضيم خلق عظيم، ومركب عزيز، أول ما يقع في نفوس الرجال الموكول إليهم تدبير شئون الأمة، وتنفيذ آمالها، وتحقيق طموحاتها، ورسم خططها.
إن إباء الضيم يدفعها إلى أن تذود عن حياضها وتدافع عن حماها، ولو كان خصمها أعز نفراً، وأقوى جنداً، وأكثر نفيراً، بل تقف موقف الرجولة والاحتفاظ بالكرامة، ولو غلب على ظنها أنها ستغلب على أمرها، تفعل هذا إيثاراً لحياة العزة على حياة المهانة، وتجافياً عن خزي وعار تتناقله الأجيال، الخصوم يبغون الفتنة وهم يبغون السلام.
بإباء الضيم تكون الأمة قوية القنا، جليلة الجاه، وفيرة السناء، تزحزح سحائب الظلم والاستعباد، لا تستكين لقوة، ولا ترهب لسطوة.(46/6)
القوة والإعداد المادي
أمة الإسلام: ذلكم شيء مما يتعلق بالقوة المعنوية، والعزة النفسية، أما القوة المادية، فلا تحتاج إلى مزيد حديث، إنها إعداد ما يتطلبه الدفاع من وسائل الانتصار على العدو، ولقد تفتقت أذهان أبناء العصر عن مكتشفات ومخترعات في أنواع من القوى، وأساليب من الاستعداد والإنذار فاقت كل تصور.
أيها المسلمون: إن الاستعداد بالقوة، يمنع الحرب من أن يتقد نارها، ويجعل الأمة المستعدة في منعة من أن تهضم حقوقها، إعداداً واستعداداً من أجل اتقاء بأس العدو وهجومه، ولقد جاء هذا الغرض جلياً واضحاً في قول الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60].
إنه استعداد ليكون سبباً في منع الحرب قبل أن يكون استعداداً عند نشوبها وإشعالها.
نعم.
إنه السلام المسلح، ذلكم أن الضعف يغري الأقوى بالتعدي على الضعفاء، إن القوي المستعد للمقاومة قلما يعتدى عليه، وإن اعتدي عليه قلما يظفر به عدوه أو ينال منه، إن ترك الاستعداد يغري بالعدوان ويسرع بالاستسلام.
وإن أخطر ما تتعرض له الأمة هو الغفلة عن الخطر المحدق بها، والتقاعس عن إعداد القوة القادرة على الدفاع، إن على الأمة الأبية أن تعد ذلك مسألة حياة أو موت، اقرءوا قول ربكم في محكم كتابه: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء:10].
ومن دقائق تعاليم ديننا وآدابه وشريف غاياته: أن العدو إذا عدل عن العدوان، وأرهبه السلام المسلح كان التوجه حينئذٍ نحو السلم والحرص عليه وقبوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61].
وإن أبى العدو إلا الحرب والقوة! فالقوة لا تدفع إلا بالقوة، والعدوان لا يرد إلا بمثله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190] ففي آداب القتال عندنا لا يقاتل غير المقاتل، ولا يحاسب إلا المعتدي.
عباد الله: إنما تسقط الأمم في هاوية الذلة إذا صغرت همة رجالها، فلا يحسون بظلم، ولا يأنفون لعزة، ولا يثأرون لكرامة، يساقون بذلتهم ومهانتهم إلى جهل ونفرة وشقاق، العاجز لا يرجى لدفع مُلمة ولا يؤمل في النهوض بهمة، كما أنه ليس من العقل ولا من الحكمة الوقوف مع الهزائم، واستعادة الأحزان والتعثر في عقباتها، وتبادل كلمات اللوم وآهات التحسر: (ليت، ولو أن) فما كان ذلك من أخلاق الأقوياء، ولا من مسالك ذوي العزة والأنفة، وأباة الضيم.
وفي التنزيل العزيز حث لأهل الإيمان أن لا يكونوا مثل أصحاب هذه المسالك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آل عمران:156 - 158].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(46/7)
الاستعداد المطلوب والقوة الممدوحة
الحمد لله الإله الحق، لا تحصى دلائل وحدانيته ولا تعد، أحمده سبحانه وأشكره لا ينتهي كرمه ولا يحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تنزه عن الصاحبة والولد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أكرم رسول وأشرف عبد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان وسلك مسالك الرشد.
أما بعد:
فإن القوة ممتدحة حين تكون بطرق الخير، ووجوه المنافع للنفس والأهل والناس أجمعين، قوة تحق الحق وتبطل الباطل، تسير في المسار الصحيح والغايات الشريفة، أما حينما توظف القوة في سبيل الشر والأنانية، والمصالح الضيقة، وإيذاء الناس، وبسط النفوذ المستكبر، تكون وبالاً على البشرية، بل إنها في المآل وبال حتى على أصحابها، ولقد قالت قوم عاد الأولى: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15] وقال لهم نبيهم هود عليه السلام محذراً ومنذراً: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:130 - 131].
وفي مراجعة للقوة في العصور الراهنة، تلك القوة المتسلطة التي صحبت عهود الاستعمار، إنها قوى شر تسلطت على أمم ضعيفة، جاسوا خلال الديار يفتشون عن الثروات، ويقطعون طرق التجارات، ويستأثرون بالمنافع في قلوب ملئت بالجشع، ونفوس مفتوحة بالشره، تتقدمها معدات مجنزرة، وتظللها طائرات مزمجرة في عساكر مدربة، وإرساليات ماكرة، يقطعون على أهل البلاد أرزاقهم، ويكدرون على الوادعين أمنهم، لم تكن تلك القوى في سبيل الله، ولم تكن لإعلاء كلمة الله، بل كانت للشهوات والمصالح الضيقة، ولقد علم من استقرأ التاريخ أن الحروب المعاصرة أشد حروب البشر ضراوة وأقساها معاناة.
ولا تزال كثير من الدول الكبيرة منها والصغيرة تنفق على الاستعداد للحروب فوق ما تنفق على المصالح الأخرى الضرورية للدولة وللأمة، بل إن فيها من يرهق شعوبه بالضرائب لأجلها، ولولا سوء النية وفساد الطوية في بعض النفوس، وقلة الثقة المتبادلة بين كثير من الدول لأمكن الاتفاق سراً وجهراً على ما ينادي به الفضلاء، ويقترحه العقلاء؛ من تقليل الاستعداد لهذه الحروب المدمرة، والتي كثرت أسبابها، واتسعت اختراعاتها، وتنوعت تقنياتها، فصارت خطراً على غير المقاتلين تهلك الحرث والنسل، بل تقضي على كل آثار الحضارة والعمران، ولكن مع الأسف! إذا ساد قانون الغاب فلا يسمع لضعيف قول، ولا يعترف له بحق، ولو أقام كل البراهين، وأدلى بكل الصحيح من الحجج، وحينما يكون الفصل لشريعة الاستبداد فالقول قول القوي، والنافذ فعل الظالم، يأخذ وينهب وليس معنياً بحجة، ولا سائلاً عن برهان.
ألا فاتقوا الله -أيها المسلمون- ما استطعتم، وأعدوا من قوة الخير والحق ما استطعتم، ثم صلوا وسلموا على نبيكم نبي الرحمة والملحمة، فقد أمركم بذلك ربكم، فقال في محكم تنزيله وهو الصادق في قيله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، والخلق الأكمل، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك المؤمنين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملة والدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق والتوفيق والتأييد والتسديد إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحبه وترضاه، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وارزقه البطانة الصالحة، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، وألبسه لباس الصحة والعافية، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك، وإعزاز دينك، اللهم انصرهم في فلسطين، وفي كشمير، وفي الشيشان، وفي كل مكان يا رب العالمين!
اللهم إن هؤلاء اليهود المحتلين قد طغوا وبغوا، وآذوا وأفسدوا، وقتلوا ودمروا، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، واجعل بأسهم بينهم، واجعل الدائرة عليهم، اللهم وأنزل نصرك وتأييدك وعونك لإخواننا في فلسطين، اللهم سدد سهامهم وآراءهم، واجمع كلمتهم يا رب العالمين!
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلادنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين!
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ؛ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(46/8)
حقوق الإنسان نظرة متوازنة
إن الإنسان السوي يتطلع بفطرته إلى مرجعية تنظم حقوقه، وتضبط موازينه، وترتب حياته، وتنتزعه من دوامات الضياع، وتبسط له أمنه ودينه وماله وعرضه، ومرد هذا كله إلى فطرة الله ودينه، فالإسلام أول من كرم الإنسان واعترف بحقوقه، أما هذه المنظمات والهيئات فهي تحمل شعاراً زائفاً، بل اتخدت هذا الشعار سلاحاً تشهره على الأمم من أجل أغراض سياسية واقتصادية.(47/1)
حاجة الإنسان إلى مرجعية تحفظ حقوقه
الحمد لله خلق الإنسان فسواه فعدَّله، في أي صورة ما شاء ركبه، هدى البشرية النجدين، فكان منهم برٌ تقي همته طلب الخيرات، وبغيته الزلفى وحسن المآب، ومنهم فاجرٌ شقي منصرفٌ إلى المتع واللذائذ، اتبع هواه، وتقطعت به الأسباب.
أحمد ربي سبحانه وأشكره، له الحكمة البالغة، وإليه يُرجع الأمر كله وهو الكريم الوهاب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تُنجي قائلها يوم الحساب، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، خُتِم به النبيين، وأنزل عليه أشرف كتاب، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه خيرُ آلٍ وأكرم أصحاب، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله -رحمكم الله- وأذلوا الدنيا بالزهد فيها، وأعزوا الآخرة بالإقبال عليها، واحذروا المعاصي وكفر النعم، فقلَّما كفر قومٌ بنعمة ولم يرجعوا إلى التوبة؛ إلا سُلِبوا عزهم، وسُلط عليهم عدوهم، ومن خاف اليوم أمن غداً، والربح المضمون لمن باع قليلاً بكثير، وفائتاً بباقي: {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:94].
أيها المسلمون: الإنسان السوي يتطلع بفطرته إلى مرجعية تُنظِّم أموره، وتضبط موازينه، وترتب حياته، وتنتشله من دوامات الضياع، وتحفظ له حقوقه، وتبسط له أمنه في دينه ودمه وماله وعرضه، في شمولية متماسكة متناسقة، هذه الحقوق المحفوظة، والأمن المبسوط مردها إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها حقٌ في الحياة وحقٌ في الحرية وحقٌ في العدل وحقٌ في العيش الكريم، حقهم في أن يحُفظوا في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وعقائدهم، كل ذلك منحٌ من الله عز وجل، فالناس قد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.
إن حقوق الإنسان لا تستورد ولا تقرض، ولكنها تنمو نمواً، وتولد ولادة طبيعية، رحمها المجتمع، ورأسها الدين الذي يرتضيه الله للناس، وركناها القائمان عليها: الدولة والأمة، يُسيرها عقدٌ مُبرم بين ولي الأمر ورعيته.
أيها المسلمون: وإذا كان الأمر كذلك؛ فلا يتصور أن يكون أحدٌ ضد حقوق الإنسان، ولا ضد من يقوم على حراستها وحمايتها والدفاع عنها، وإذا كان من الشنيع والفظيع أن يكون أحدٌ ضدها، فإنَّ من الأشنع والأفظع أن يضطرب في تحديدها، وبيان حقائقها، وضبط معاييرها وموازينها، والأشد شناعة والأكثر فظاعة أن تكون ميداناً للمساومة والمزايدة.
إنَّ كل من يحترم نفسه هو مع حقوق الإنسان بلا حدود وبلا تحفظات ما دامت منضبطة بضوابط النظام واضحة المعالم، فالحرية لا تعني التفلت من المسئولية، وحرية القول لا تعني حرية السب والشتم، وحرية الفكر لا تعني حرية الكفر والهدم، وحرية الانتقال لا تعني حرية الاستيلاء والاحتلال.
نعم! إنَّ مما يجب تأكيده: أن هذه الحقوق يجب أن تُحفظ وتُصان، وما يقع من ممارسات يُهضم فيها حقوق الإنسان فيجب أن يُحاسب مرتكبها والمقصر فيها، كما يجب أن يتقرر أن هناك اختلافاً وتبايناً بين الأمم في ديانتها ومعتقداتها، ويجب احترام عقيدة كل أمة ومستلزمات هذه العقيدة، وإنَّ من الإنصاف التوجه إلى معرفة ما لدى الآخرين بحيادية، ومن حق كل أحدٍ أن يسأل ويستفسر، وعلى من سُئِلَ أن يُوضح ويبين، غير أنَّ من دواعي الاستغراب أن يُوجد إعراض لدى بعض الجهات أو الهيئات والمنظمات في إدراك حقوق الإنسان في الإسلام، وإصرارها على عدم تفهم خصوصيات المجتمعات الإسلامية.
إنَّ عدم فهم هذه المنظمات والهيئات للإسلام وأحكامه، أو عدم استعدادها لسماع الإيضاحات لا يُعطيها الحق في تشويه صورته أو الطعن في مبادئه، وهي مبادئ وقيم من المؤكد وبكل ثقة وإصرار أن غايتها رُقي الإنسان والحفاظ على كرامته وحقوقه.(47/2)
خصوصيات المجتمع الإسلامي في المنطلقات والمفاهيم
أيها المسلمون: أيها الناس! وتنبع الخصوصية في المجتمعات الإسلامية من اختلافها عن غيرها من المجتمعات في المنطلقات والمفاهيم، وفي التكوين الفكري والثقافي المميز لأهل الإسلام، فالإسلام هو الذي صاغ الشخصية المسلمة والإنسان المسلم على امتداد القرون، ومستند ذلك: الوحي الرباني كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بينما مع الأسف! لا يمثل الوحي الإلهي جانباً ذا بال في الفكر المعاصر، بل الذي يجري عندهم هو إبعاد الدين عن الحياة، فقامت أنظمتهم على فصل الدين عن الحياة والحكم للدولة، وفي مقابل ذلك فإن المسلم يعتبر الدين والمحافظة عليه، والالتزام به، هو أول الحقوق وأولاها وأهمها، فالدين أول الضروريات، بل هو منطلق الحقوق كلها، ومنه تنبثق ضوابط الأخلاق وقيم السلوك الاجتماعي عند المسلمين، كما أن أصول الشريعة ونصوصها هي النظام التشريعي للمجتمع المسلم في علاقاته وحقوقه كلها.
أيها الناس: وإن شئتم قبسات من قبسات ديننا فتأملوا قصة تكريم الإنسان في قرآننا، عندما أذن الله -سبحانه وتعالى- أن يخلقه ويستخلفه في هذه الأرض.
إن كرامة الجنس الإنساني في ديننا ثابتة مقررة، لا تسقط ولا تنتقص بسبب أخطاء إنسان، أو تقصيره وذنوبه؛ فلقد سأل الملائكة الكرام ربهم عز شأنه: أيستحق هذا المخلوق كرامة الوجود والتفضيل والتكريم مع ما يشوب تاريخه الطويل من آثام؟ اقرءوا قول الله عزَّ وجل: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] فكان الجواب الرباني: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]
فالجنس الإنساني جديرٌ بالحياة والتكريم، وإن زيغ أفرادٍ منه أو جماعات لا يسلب أبناء آدم المكانة التي بوأهم الله إياها: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70]
وهكذا يرسم ديننا قافلة البشرية وقد بدأت تشق طريقها في الحياة، وقد استخلفها الله في أرضه، لتعمرها وتصلح فيها وتبني: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61].
ومن أجل هذا! فإن أهل الإسلام يُقررون -وبكل ثقة- أن الإسلام هو أول من قرَّر مبادئ حقوق الإنسان في أكمل صورة وأوسع نطاق، كما يُقررون كذلك أنهم هم الذين صدروها للناس، ثم هاهو يعاد تصديرها على أنها كشفٌ إنساني كأننا ما عرفناها يوماً، ولا عشنا بها دهراً، وإنَّ مثلنا ومثلهم كماءِ المطر ينزل من السماء فيمكث في الأرض ليظهر بعد حين نبعاً جيَّاشاً أو عيناً جارية، كَمُنْتَ آثارنا ثم انبجست بهذا الري العظيم.
كما يُؤكد أهل الإسلام أن الضمان الحقيقي لحقوق الإنسان وحسن تطبيقها هو الحكم بشريعة الله على عباد الله، والتزام الهيئات الإسلامية والدول والأفراد بالإسلام، وهذا ليس انغلاقاً ولا تقوقعاً على الذات، بل انفتاحٌ عن الحضارة الإنسانية في تراثها النافع، وتوجهاتها الراشدة.(47/3)
ضرورة تصحيح ميثاق منظمة حقوق الإنسان
وعلى هذا؛ فإنَّ ما صدر من إعلانٍ عالمي لميثاق حقوق الإنسان فيه إيجابياتٌ كثيرة، وقد مضى عليه أكثر من خمسين عاماً، لكنه ميثاقٌ لم يُطَّبق تطبيقاً عادلاً، ولم يمنع وقوع مظالم واعتداءات على شعوب كثيرة في مختلف أنحاء العالم، وإن المسلمين قد نالهم من ذلك الظلم النصيب الكبير.
ومما يستحق المراجعة في هذا الميثاق: أنه لم يُراعِ الخصوصيات الدينية والثقافية المختلفة، والأعراف الصحيحة للمجتمعات الإنسانية، مما يستدعي مراجعته، والعمل على إغنائه، وتطويره ليستطيب لتطلعات الشعوب، وينسجم مع معتقداتها الصحيحة وثوابت دينها؛ ليكون صالحاً للتطبيق مع التأكيد على مبادئ العدل والحرية والإخاء.
ومن الحقوق التي نأسى على فواتها، والتي لا تزال جماهير غفيرة من البشر محرومة منها، وهي حقوقٌ لا يستقيم الوجود الإنساني إلا بها: إنها الحقوق التي دعا إليها الأنبياء، والمصلحون، وجاهدوا من أجل تقريرها وتثبيتها، ألا ترى مئات الملايين من البشر يُكرهون على الكفر بربهم إكراهاً، ويُجبرون على الانتظام في تعليمٍ يزدري الديانات، وينال نيلاً أنكى من المقدسات، هناك في قارات الدنيا استعمارٌ كالح متعصب كما يسرق الأقوات فإنه يسرق العقائد، ويسلب الأفكار، ويسعى في فك الأمم عن إيمانها، وتضليلها عن أهدافها.
إن العالم يتطلع إلى تقرير هذه الحقوق التي يتطابق فيها العقل السليم مع الوحي الإلهي، ومن ثمَّ توكيدها واحترامها.
إن المطلوب من المنظمات والهيئات الدولية والأهلية التي ترفع شعارات إنسانية أن تراجع دعواتها ومواقفها؛ وبخاصة موقفها من الدين، وعلاقة الإنسان الفطرية بربه، وما يترتب على هذه العلاقة من استجابةٍ وطاعة، وخضوعٍ لله رب العالمين لا شريك له، كما يجب عليها أن ترصد النتائج الوخيمة على الإنسانية بسبب تمييع الحياة وذوبانها بعد أن تمَّ تجريدها في كثيرٍ من المجتمعات البشرية من التوجيه الديني.
يجب عليها أن تُحصي المآسي الإنسانية التي نتجت عن المروق والتفلت، وأن تراجع مواقفها من عمليات القتل الجماعي التي أوقعت مئات الألوف من الأرواح البشرية، وهاهي الدماء الإسلامية تُهراق أودية وأنهاراً في القوقاز بعد الدماء التي أريقت في البلقان، ولا تزال تراق في فلسطين المحتلة، وجنوب لبنان، وكشمير، وبورما، والفلبين، وبقاع أخرى من الدنيا.
ماذا عن مآسي التجارة بالنساء والأطفال؟
هل من حقوق الإنسان أن يكون اقتصاد الشر والجريمة والمخدرات نصف حجم الاقتصاد العالمي؟!
أليست إهانة بشرية مريعة أشكال الدعارة وأرقامها المتعاظمة؟
ماذا عن الأسرة وتماسكها ورعاية الأطفال في أحضانها؟
وماذا عن ملايين الأجنة التي يتم إجهاضها؟!
وماذا عن الإباحية باسم الحرية، حتى بلغ ما يقرب من ثلث المواليد من علاقات سفاح وزنا؟!
انحطت الأخلاق، وعُدم الحياء، حتى أباحوا اللواط والسحاق، وأصبح للوطية جمعيات وأحزاباً، وسنت من أجلهم القوانين، ووضعت التشريعات، مخالفة لسنن الله وسنن الفطرة، حتى أقروا شريعة زواج الرجال بالرجال، والنساء بالنساء: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:166].
والمسلمون -بحمد الله- محفوظون بدينهم من حرية العهر والسفاح ومن أن ينحدروا في هذا المجون المشين.
لقد عاش المسلمون آمنين وهم يُطبقون شريعة ربهم التي عرفوا عدالتها، وكفلت جميع حقوق أفرادها، رحمت المجتمع المسلم من التفلت والانهيار والتفكك، نظمت حياة الأسرة، وحضنت الطفل برعاية مناسبة، وسنت أحكاماً بحراسة الحقوق، وضمان الواجبات المترتبة عليها من أحكام العقوبات، والتعازيز، وإقامة الحدود، مما يبسط الأمن، ويُوفر الحياة الهانئة المحفوفة بالأخلاق الحميدة، وطهارة العلاقات الاجتماعية.(47/4)
البراءة من المنظمات والهيئات الزائفة
إننا نبرأ بهذه المنظمات والهيئات أن تُستغل ضد دين الله، وأحكامه وشرعه، أو ضد مجتمعٍ مسلمٍ آمن من خلال مفاهيم مغلوطة، أو قصور في التصور، أو نقص في الفهم، وإن من المرفوض توظيف دعاوى حقوق الإنسان على نحو يستهدف قيم الإسلام، وأحكام الشريعة، والعدوان على العقيدة الإسلامية ومعتنقيها.
لقد جعلوا قضية حقوق الإنسان بمفهومهم الخاص أحد الأسلحة التي يُشهرونها في وجه من شاءوا، جعلوها من مفهومهم وحدهم معياراً في تقديم مساعدات لمن يحتاج المساعدات، وجعلوها باباً واسعاً للتدخل غير المبرر في الشئون الداخلية للدول وانتهاك سيادتها، ومن ثمَّ الجرأة على دينها ومعتقداتها وأعرافها الصحيحة، كل ذلك تحت شعار حقوق الإنسان.
ومع الأسف كل الأسف! أن إثارة مثل هذه القضايا مرهونٌ بأحداثٍ سياسية، أو إملاء لمواقف معينة، نحو هذه الدولة أو تلك، فتتهم دول ويغض الطرف عن دولٍ أُخرى حسب المصالح والمواقف.
ومن غير المبالغ فيه إذا قيل: إنها ممارسة لإرهابٍ سياسي من أجل أغراضٍ سياسية، ومصالح اقتصادية، بتحريضٍ من بعض القوى ذات النفوذ والهيمنة، إنه هجومٌ مبطن من أجل الهجوم على الشريعة وأحكامها، وإن أهل الإسلام ليُؤكدون أنهم يُقدمون صورتهم الحقيقية، وإن لم تحز على رضا دعاة حقوق الإنسان حسب النموذج الذي يُريدون فرضه.
إنك لتعجب كل العجب حينما يتباكون على مجرمٍ نفذ فيه حكم الله وأقيم عليه القصاص؛ لأنه قتل نفساً بغير حق، أو لأنه أفسد في الأرض، أو حارب الله ورسوله، ولا يقولون كلمة حق، ولا يظهرون تعاطف صدق مع مسلمين أبرياء ضعفاء يقتلون بالآلاف بل بالملايين تزهق أرواحهم، وتهدم منازلهم، ويخرجون من ديارهم، وتشرد نساءهم وأطفالهم، بل لا يمكنون من الدفاع عن أنفسهم، والشيشان خير شاهد، بل الجرائم التي تقترف في حق هؤلاء العزل لا تدخل في قاموس هؤلاء؛ لأن هذا شأنٌ داخلي، بينما تنتهك سيادات دول باسم هذه الحقوق.
وبعد: أيها الناس! ما قيمة الإنسان بلا أخلاق؟
وما معنى الحرية إذا ضاعت المسئولية؟
وما معنى الحق إذا ضيع الواجب؟
{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:1 - 8].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(47/5)
حقوق الإنسان في بلاد الحرمين
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاًً فيه كما يُحب ربنا ويرضى، والشكر لله على ما أولى من نِعمٍ سابغة وأسدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تُقرب لديه زلفى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، كَرُمَ رسولاً، وشرف عبداً، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه نجوم الدجى، ومصابيح الهدى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجم فاهتدى.
أما بعد:
أيها المسلمون: حقوق الإنسان شعارٌ باهر، ذو جمالية في العبارة، وبريقٍ أخاذ، إلا أن رصيده لدى الشعوب ضعيفٌ للغاية، ومرد ذلك إلى غلبة الهوى، واضطراب المصالح، واختلاف المعايير، وسلوك مسلك الانتقائية والتشهي، مما ينفي حالة الثبات والاستقرار على مبادئ واضحة، فهي مع الأسف شعارات وقتية متغيرة متقلبة، تجري حسب الأهواء والمصالح، وحسب أحوال الرضا والغضب، خاضعة لنسبية الزمان والمكان والظروف والأحوال، ومن أجل هذا فإن من المتحتم رعاية الخصوصيات الدينية والثقافية، والأعراف الصحيحة، والتقاليد الحسنة.
وبلاد الحرمين الشريفين - المملكة العربية السعودية - نموذجٌ للخصوصية الإسلامية في الالتزام بالدين والتمسك بالعقيدة وتطبيق الشريعة، وفي التميز الفكري، والاجتماعي، والأخلاقي.
المملكة تضم أهم مقدسات المسلمين، مكة المكرمة، والكعبة المشرفة، أول بيتٍ وضع للناس، والمدينة المنورة - طيبة الطيبة- ومسجد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
بلاد الحرمين: هي منطلق الإسلام ومنبعه، ومبعثه، فيها تكونت أول أمة أُخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.
بلاد الحرمين ملتزمةٌ بدين الله، مستمسكة بشرعه حاكماً وموجهاً وضابطاً في كل شأنٍ من شئونها، يدخل في ذلك ما تحدثه من أنظمة تتطلبها حركة النمو والتطور، وهذا الالتزام يظهر الخصوصية الإسلامية بكل وضوح تعلنه الدولة في المحافل الدولية وفي كل مناسبة، ويُشرفها أن تكون النموذج الذي ينظر إليه في العلاقات الدولية بين العالم الإسلامي والعوالم الأخرى، ولقد نصَّ نظامها الأساسي الإسلامي على أن الدول تحمي حقوق الإنسان وفق الشريعة الإسلامية.
ومما ينبغي أن يُعلم، أن ميزة حقوق الإنسان التي نصَّ عليها هذا النظام أنها قواعد شرعية، وأحكامٌ دينية واضحةٌ المعالم، محددة المفاهيم، وليست شعاراتٌ تُردد، أو مبادئ باهتة تدخلها الإدِّعاءات الفارغة، مما يضيعها ويذيبها؛ بل قد يجعلها ضارة بالفرد والمجتمع.
ومن أجل هذا كله فليعلم أن أهل هذه البلاد أصحاب رسالة تنزلت من السماء، يحاكمون إلى تعاليمها كل شأنٍ من شئونهم، فما وافقها ولو كان مجلوباً إلى أرضنا فهو حق، وما خالفها ولو كان عُرفاً مقرراً لدينا فهو باطل، ولقد قال مسئول كبير في هذه البلاد كلمة فاصلة حين قال: إذا كانت هذه المنظمات تجادلنا في مدى تطبيقنا للشريعة كما هي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما سار عليها الخلفاء الراشدون والتابعون لهم بإحسان، فمن حقهم المناقشة والمسائلة، أما إذا كان اعتراضهم على الإسلام عقيدة وشريعة فذلك ما نرفضه كل الرفض، ونأباه كل الإباء، ولسوف نستمسك بالإسلام، ونعيش على الإسلام، ولسوف يعيش عليه حاضرنا إن شاء الله، وتعيش عليه أجيالنا إن شاء الله حتى يرثَ الله الأرض ومن عليها، أحبَّ من أحب، وكره من كره؛ لأنه لا عز لنا إلا بالإسلام، فعلينا أن نعض عليه بالنواجذ.
إن على هذه الهيئات -والكلام لا يزال للمسئول- أن تعلن مواقفها: هل تطبيق الحدود الشرعية ضد حقوق الإنسان؟
وهل التعزيزات الشرعية لحفظ الأمن وسلامة المجتمع ضد حقوق الإنسان؟
وهل يرحم المجرم ليضيع حق المعتدى عليه؟
ولكن الذي يبدو أنه ليس هذا الوطن هو المستهدف، بل عقيدة هذا الوطن هي المستهدفة، ومن هنا فلا مكان للحوار حول عقيدتنا وشريعتنا التي رضيها لنا ربنا وارتضيناها شاكرين لربنا حامدين.
وبعد: فمرةً أُخرى رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وعلى الله توكلنا، وكفى به هادياً ونصيراً.
ألا فاتقوا الله -أيها المسلمون- ثم صلوا وسلموا على الرحمة المسداة، والنعمة المهداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز قائلٍ عليم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك ومنِّك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الدين، اللهم انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم وأيد بالحق والتوفيق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وأصلح بطانته، واجعله نصرةً لأوليائك، وحرباً على أعدائك، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمةً لرعاياهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك؛ لإعلاء كلمتك، وإعزاز دينك، اللهم انصرهم في فلسطين وكشمير والشيشان وفي كل مكان يا رب العالمين!
اللهم سدد سهامهم وآراءهم، وثبت أقدامهم، وأنزل السكينة عليهم، واجعل الدائرة على أعدائهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين.
اللهم أنت الله لا إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، واجعل اللهم ما أنزلته قوة لنا على طاعتك وبلاغاً إلى حين، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا ذِينَ سَبَقُ(47/6)
في الخلطة والعزلة
لقد شرع الإسلام الصلاة في جماعة ليجتمع المسلمون بعضهم ببعض، فتحصل بذلك الخلطة النافعة حيث يكون فيها التناصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الفوائد التي هي نتيجة للخلطة، وليس معنى ذلك ترك العزلة، فلابد للمرء من وقت يختلي فيه بنفسه فيحاسبها، كما قال عمر رضي الله عنه: خذوا حظكم من العزلة.(48/1)
الحث على الخلطة النافعة
الحمد الله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، فصَّل وبيَّن وأوضح الصراط المستقيم، ونصب عليه براهين وحججاً، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له، جعل من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، وضع برسالته آصاراً وأغلالاً، ورفع مشقة وحرجاً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه، أعدل الأنام طريقة، وأقومهم منهجاً، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله وعظموا أمره وحرماته، والزموا الإخلاص في الطاعة، وتمسكوا بطريق أهل السنة والجماعة، وحافظوا على الجمع والجماعة، تفوزوا بأربح بضاعة، وإن امرأً تنقضي بالجهالة ساعاته، وتذهب بالتقصير أوقاته، لخليقٌ أن تجري دموعه وحقيقٌ أن يقل في الدجى هجوعه.
أيها المسلمون: جرت سنة الله عز وجل في خلقه أن لا يقوم لهم معاش ولا تستقيم لهم الحياة إلا بالاجتماع والتآلف، والإسلام وهو دين الفطرة أرشد إلى التعارف من أجل التآلف: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
إن نزعة التعرف إلى الناس، والاختلاط بهم، نزعة أصيلة في التوجيهات الإسلامية بالعيش مع الجماعة والانتظام وحسن العلاقة؛ فتستقر النفوس، وتصح العلوم، وتنتشر المعارف، وتبلغ المدينة الفاضلة أشدها، فيعبد الله على بصيرة، وتتضح معالم الدين، ويسود المعروف ويقل المنكر.
إن إيثار الإسلام للاجتماع يظهر في كثيرٍ من أحكامه وآدابه، وإن العبادات -وهي من أشرف المطلوبات- ليست انقطاعاً في بيت أو تعبداً في صومعة، فلماذا شرعت الجماعات في الصلوات؟ ولمن فرضت الجمعات؟ وما الحكمة في العيدين والاستسقاء والكسوف والجنائز؟ ثم إجابة الدعوات في الولائم والمناسبات، والاجتماع في أوقات السرور والمباهج، وفي أوقات الشدائد والمكاره، وفي الأعياد والتعازي، وعيادة المرضى، وتشييع الجنائز، إن ذلك كله لا يتحقق على وجهه إن لم تتوثق في الأمة العلاقات، وتحفظ حقوق الأخوة والجماعة.
إن أهل الإسلام إذا كثر عددهم، واجتمع شملهم، كان أمرهم أزكى وعملهم أتقى، جاء في الحديث: {صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وكلما كثر كان أحب إلى الله} أخرجه ابن ماجة وابن حبان وغيرهما، وصححه غير واحدٍ من أهل العلم.
ومن الذي لا يرغب في تكثير سواد المسلمين، ورؤيتهم جموعاً متراصة لا فرادى متقطعين؟!
يقال هذا -أيها الإخوة- والمراقب يلحظ أن في بعض الناس وبخاصة بعض المنتسبين إلى العلم والفضل والصلاح عزوفاً عن الاجتماع والخلطة، وميلاً إلى الانفراد والعزلة، وقد يظهر منهم نحو إخوانهم جفاء ونفرة.
فكيف تتحقق الأخوة الإيمانية في غير الاجتماع والله يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]؟
وكيف تتحقق الشورى إذا اعتزل المسلم الجماعة والله يقول: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]؟
وحينما يدعو العبد من عباد الرحمن {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] متى يكون المنعزل عن إخوانه مثلاً إماماً في الدعوة والهداية، يشهد الناس سيرته، ويتأسون بالحميد من فعاله، ويقتدون بالحسن من لحظه ولفظه.
أيها الإخوة في الله: من أجل المحافظة على الجماعة شرعت في الإسلام أحكامٌ وآداب، فشرع إلقاء السلام وإفشاؤه، وجعل رده واجباً، وشرعت المصافحة والتبسم وطلاقة الوجه، وأُمر بإظهار المحبة والتودد، وندب المؤمنون إلى تبادل الهدايا والإحسان لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وحُرم عليهم أسباب النزاع وجالبات العداوة والبغضاء، ومقتضيات التقاطع والتدابر من الخمر والميسر، والغش في المعاملات، والهجر في القول، والخصومات الفاجرة.
إن معظم خصال الشرف ومحاسن الأخلاق لا تكون إلا لصاحب الخلطة وحسن العشرة، كيف يكون السخاء لمن لم يمد يده شفقة وإحساناً؟
وكيف يقع الإحسان موقعه إن لم يسبق ذلك معرفة بأحوال الناس؟
وهل يظهر الحلم والأناة إلا حين يقابل به صاحبه أصحاب الألسن الحداد والقلوب الغلاظ، في العيش مع الناس؟
يقول أهل الحق للمبطلين في موعظة وحكمة: الصواب في غير ما نطقتم، والحق في غير ما رأيتم، والخير في غير ما سلكتم.
فكيف يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة، والجهاد، والإصلاح، من أجل أن تكون أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس، ومن ثم فإنك ترى الأخيار من أهل العلم والفضل يغشون المجامع ويحضرون المنتديات، فيقولون طيباً، ويعملون صالحاً، وفي الحديث: {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم} ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[خالط الناس ودينك لا تقلمنه]].
أيها الأحبة: قد يتذرع بعض الأخيار بفساد الزمان، وكثرة سبل الضلال، ونشاط دعاة السوء، أما علموا وفقهم الله أن العزلة تزيد صولات الضلال، وتتسع بها ظلمات المجتمع، فلماذا لا يكون التوجه في مقاومة أصحاب الضلالات وذوي الأهواء؟
ومن وضع يده مع الجماعة وشد أزر إخوانه فقد قام بنصيبه من الخير، وإذا اعتذر فضلاء آخرون بالرغبة في العزلة من أجل قضاء الوقت في العبادة والنظر في حظوظ النفس من الخير؛ فليعلموا -رعاهم الله- أن حضور مجالس العلم إفادة واستفادة هي من العبادة، وعيادة المريض عبادة، والقيام بحقوق الإخوان عبادة، وإرشاد الناس عبادة، ومد يد العون والمساعدة لتقوى الشوكة، ويتحقق المزيد من الألفة والقوة كل ذلك عبادة.
ولئن كان في العزلة تخلصٌ من الوقوع في الأعراض، والسعي في النميمة والغيبة، والتنابز بالألقاب، وفساد الطبع في الأخلاق الرديئة، فإن في مخالطة الصالحين ما يزجر عن هذه المعايب، ويبصر بتلك المثالب، وإن لم تجدِ النصيحة في موقع فإنها مجدية في موقعٍ آخر، وإن لم ينفع التوجيه في وقتٍ فإنه نافعٌ في وقتٍ آخر، والمهمة بالبلاغ والهداية بيد الله، ولكن ليبلو بعضكم ببعض، وإن ما ينقل من الرغبة في العزلة عن بعض من سلف فإنما هي أحوالٌ خاصة، تعرض لمن تعرض له فتجعل الاعتزال عنده أرجح، ولا يمكن أن تكون العزلة مذهباً يسع الناس كلهم.(48/2)
الجمع بين الخلطة والعزلة
حينما يكون الحث على الجماعة والاجتماع فليس المقصود من ذلك صرف جميع الأوقات في التردد على البيوت، وغشيان جميع المجالس، فالحق أن كل إنسانٍ محتاج لأوقات يخلو فيها بنفسه ليقوم بواجبٍ خاص، أو يتقرب بنافلة، أو يقضي مصلحة، وفي مثل هذا يقول عمر رضي الله عنه: [[خذوا حظكم من العزلة]]، فالمسلك العدل، والمنهج الوسط في تقسيم المسلم وقته بين خلطة حسنة، وخلوة نافعة، ليخرج من الحالين بما يصلح به الشأن كله.
وفي الخلطة يتخير المؤمن إخواناً يصطفيهم لنفسه، يعيش في أكنافهم من أهل الصدق والصلاح والوفاء، فإنهم زينة في الرخاء، وعدة في البلاء، وقد قيل في الحكمة: مِن أعجز الناس مَن قصر عن طلب الإخوان، وأعجز منه من ظفر بذلك منهم فأضاع مودتهم، وإنما يحسن الاختيار لغيره من أحسن الاختيار لنفسه.
ويقول علي رضي الله عنه: [[شرط الصحبة: إقالة العثرة، ومسامحة العشرة، والمواساة في العسرة]]
وعلى الإخوة في علاقاتهم: الابتعاد عن التكلف، وتجنب التصنع الثقيل، فإشاعة اليسر في المسالك، والبعد عن المواقف الحرجة والمداهنات البغيضة مما يوثق العرى، ويجلب المودة {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:18 - 19].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(48/3)
من آداب الإسلام في الصداقة والخلطة
الحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأكبره تكبيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بعثه بالحق بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الإخوة: إن من أدب الإسلام في التعارف وحسن العشرة: أن يكون التواصل على وضوحٍ وبينة، حيث لا مانع أن يذكر الأخ لأخيه ما يكنه له من محبة وتقدير، وفي الحديث: {إذا أحب أحدكم أخاه فليخبره أنه يحبه} أخرجه أحمد والترمذي وإسناده حسن.
وعن أنس رضي الله عنه قال: {كان رجلٌ عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فمر رجلٌ فقال: يا رسول الله! إني أحب هذا، قال: أعلمته؟ قال: لا، قال: فأعلمه، فلحقه فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبك الله الذي أحببتني له} أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
ومن سنن الصداقة: التزاور الخالي من الأغراض، ففي الخبر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم {أن رجلاً زار أخاً له في قرية، فأرصد الله على مدرجته ملكاً فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل له عليك من نعمة تردها؟ قال: لا، غير أني أحبه في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه} أخرجه مسلم، وفي خبر آخر: {من عاد مريضاً، أو زار أخاً له في الله، نادى منادٍ أن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً} أخرجه الترمذي وقال: حديثٌ حسن.
فاتقوا الله رحمكم الله، وأصلحوا ذات بينكم، واحفظوا حقوق إخوانكم، واحرصوا على الجماعة والألفة، ولا تتجشموا التكلف، وأخلصوا في الود، واحفظوا العهد، فلقد قال الفضيل رحمه الله: إنما تقاطع الناس بالتكلف؛ يزور أحدهم أخاه فيتكلف له فيقطعه ذلك عنه.
واحفظوا كلمة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: [[لا تظن بكلمة خرجت من مسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً]].
هذا وصلوا وسلموا على خير البرية نبيكم محمد رسول الله فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وجودك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة وكل أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة، اللهم أعز به دينك، وأعلِ بهم كلمتك، واجمع به كلمة المسلمين يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين!
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم سدد سهامهم وآراءهم، واجمع كلمتهم، واجعل الدائرة على أعدائهم يا قوي يا عزيز!
اللهم إن هؤلاء اليهود الصهاينة المحتلين الغاصبين قد طغوا وبغوا، وآذوا وأفسدوا، اللهم وأرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه واجعل تدبيره تدميره يا رب العالمين!
اللهم ارحم موتى المسلمين، واشف مرضاهم، وفك أسراهم، وأصلح لهم شأنهم كله يا رب العالمين!
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(48/4)
من آثار الحج
يغادر الحجاج مكة قافلين إلى ديارهم بعد أن زاروا البلد الحرام، ولكن عودتهم هذه لا تعني انقطاع علاقتهم بالكعبة، فهم يتوجهون إليها خمس مرات في اليوم والليلة على أقل تقدير.
وهذا التوجه يقتضي أموراً يجب أن يدركها المسلمون، فهي مظهر من مظاهر وحدة المسلمين الذي يتجلى في هذا التوجه مرة، وفي موسم الحج مرة أخرى.(49/1)
علاقة المسلمين بالبيت الحرام
الحمد لله، خلق خلقه أطواراً، وصرفهم كيف شاء سبحانه عزةً واقتداراً، أنزل عليهم كتبه، وأرسل إليهم رسله إعذاراً وإنذاراً، أحمد ربي وأستغفره إنه كان غفاراً، وأثني عليه بما هو أهله وأشكره، أسبغ علينا نعمه مدراراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من يرجو لله وقاراً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، نصب به الدليل، وأنار به السبيل، فتبدلت الظلمات أنواراً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، كانوا على الهدى أعلاماً، وعلى الحق مناراً، رضي الله عنهم وأرضاهم مهاجرين وأنصاراً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما أعقب ليل نهاراً.
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ، فعليكم بتقوى الله فالزموها، وبادروا بالأعمال الصالحة والتزموها، الزمان يطوي مديد الأعمار، وكل مَنْ عليها راحل عن هذه الدار، التسويف لا يورث إلا حسرة وندماً، وطول العمر لا يُعْقِب إلا هرماً وسقماً، فواعجباً لنفوس طال على الدنيا إقبالها، وغلب عن الآخرة إعراضها وإدبارها! {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
أيها المسلمون: لقد ولى الحجاج وجوههم شطر ديارهم، تقبل الله منا ومنهم، وجعل حجهم مبروراً، وسعيهم مشكوراً، وذنبهم مغفوراً، وبلغهم أهلهم وديارهم سالمين غانمين، وأعاذهم من سوء المنقلب في المال والأهل؛ ولكن حين ولوا وجوههم شطر بلادهم هل انقطع ارتباطهم بالبيت الحرام؟! إنهم لن يزالوا -مع إخوانهم المسلمين أجمعين- يولون وجوههم شطر المسجد الحرام: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144].
معاشر المسلمين: جعل الله البيت الحرام مثابةً للناس وأمناً، وجعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس، فارتباط المسلم ببيت الله وبالقبلة ليس مقصوراً على أشهر معلومات، ولا محصوراً في أيام معدودات، ولكنه ارتباط دائم، ووشائج لا تنقطع.
المسلم يبدأ يومه ويستفتح عمله -كما يختم نشاطه- بالتوجه إلى البيت الحرام، حين يقف بين يدي ربه قائماً، يؤدي الصلوات الخمس موزعة بانتظام في يومه وليلته، ينتظم مع إخوانه المسلمين حيثما كانت مواقعهم وأينما كانت ديارهم، ناهيكم عن النوافل والأدعية والأذكار التي يُشرع فيها استقبال البيت الحرام.
فهذه صورٌ وهيئات لا حصر لها، يتفاوت فيها المسلمون، ويتنافس فيها الصالحون.
بيت الله المحرم هو الوجهة الدائمة التي ترافق العبد المؤمن في كل حياته، ليس مرتبطاً بموسم، ولا محصوراً في فريضة، بل حتى حين يُوَسَّد في قبره دفيناً، فإنه يُوجَّه إلى البيت الحرام، فهي قبلتكم أحياءً وأمواتاً.
تأملوا حفظكم الله هذه الآيات الثلاث، قول الله عزَّ وجلَّ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة:144]، وتأملوا قوله سبحانه: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:149]، وقوله سبحانه: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة:150].
يا ترى ما هو السر في التكرار لمعظم هذه الكلمات في هذه الآيات؟!
أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم باستقبال البيت في هذه الآيات ثلاث مرات وأُمِر المسلمون مرتين، وتكرر قوله سبحانه: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة:149] ثلاث مرات، وتكرر تعميم الجهة ثلاث مرات، ما ذلك كله إلا لتأكيد عِظَم هذا التوجه والتنويه بشأن استقبال الكعبة المعظمة، والتحذير من تطرق التساهل في ذلك، تقريراً للحق في نفوس المسلمين، {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة:147].(49/2)
مقتضيات التوجه للكعبة
أيها المسلمون: إن أبعاداً كثيرة لهذا التوجه قد غابت عن حياة كثير من المسلمين اليوم، فأصبح الأمر عندهم أقرب للعادة منه للعبادة.
إن تولية الوجوه نحو البيت تقتضي الحضور الدائم لمعاني الولاء والموالاة، ومعاني الصلاة والحج وأسرارهما، وكل عبادة مرتبطة باستقبال هذا البيت المعظم.
يولي المسلم وجهه شطر المسجد الحرام ليسير مع التاريخ بماضيه، ويستصحبه في حاضره؛ ليتذكر تاريخ البيت وبناء البيت على التوحيد الخالص والملة الإبراهيمية الحنيفية.
يولي وجهه شطر البيت ليرى كيف هدم الإسلام بنيان الجاهلية وقواعدها، يولي وجهه شطر الكعبة المشرفة ليتذكر ألوان العذاب التي لقيها المسلمون المستضعفون في ظلها وعلى جنباتها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم مطمئناً ومثبتاً ومؤكداً: {والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون}.
إنه النصر الذي لا بد أن يتم بإذن الله من خلال صحيح الإيمان وعَزَمات البشر، والخضوع للسنن الإلهية في النصر والهزيمة، ولكن قوماً يستعجلون.
إن الجالس قِبل بيت الله يدرك حكمة الدعوة وتربية الناس في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: {إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه} مُخَرَّج في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي مثل قوله صلى الله عليه وسلم: {لولا أن قومك حدثاء عهد بالكفر لنقضت البيت ثم بنيته على قواعد إبراهيم} أخرجه البخاري وغيره.
كل هذه الاستحضارات والتأملات من أجل ألا يكذَّب الله ورسوله، ومن أجل أن تُسلك مسالك الحكمة في الدعوة والفقه والتعليم والتربية.
أيها المسلمون: وحكمة أخرى تتجلى حين التأمل في التوجه نحو بيت الله المحرم واستقباله؛ ذلكم أن المقصود بالعبادات كلها تمام الخضوع لله: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش:3].
وبمقدار استحضار المعبود وعظمته وجلاله يقرب العبد من مرتبة الإحسان، فالإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فكان التوجه إلى المسجد الحرام وإلى القبلة مساعداً على هذا الاستحضار العظيم.
إن العبادات والشعائر لا تؤدَّى بالنية المجردة ولا بالتوجه القلبي والروحي وحدهما، ولكن هذه العبادات لها صفاتها وهيئاتها: من القيام والقعود، والركوع والسجود، والأقوال والأفعال، والاتجاه نحو القبلة، وكذلك الإحرام والطواف، والحركة والسعي، والدعاء والتلبية، والنحر والرمي، والحلق والتقصير، وهكذا في كل عبادة حركة، وفي كل حركة عبادة، عبادات تجمع بين الماديات والمعنويات ليتأكد الارتباط بين ظاهر النفس وباطنها.
إن ثمة رغبة فطرية بشرية للربط بين الأشكال الظاهرة والقوى الباطنة، فانحرفت فئات من البشر؛ فعبدوا الأحجار، والأشجار، والحيوان، والشمس، والقمر، والأفلاك، وجاء الإسلام ليلبي دواعي الفطرة، فشرع العبادات من الأقوال والأفعال والحركات مع تجريد كل ذلك لله وحده، فيتوجه العبد بجسده إلى القبلة والكعبة، ويولي وجهه شطر المسجد الحرام؛ ولكنه في ذات الوقت يتوجه إلى الله بكليته، بقلبه وجوارحه: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:115]، {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142].(49/3)
القبلة رمزٌ للوحدة
إن المسلمين حين يتجهون إلى القبلة فإنما يتوجهون نحو التميز والاختصاص، فالقبلة رمز للوحدة والتوحيد، ورمز لتميز الشخص المسلم.
وَحَّدَ اللهُ هذه الأمةَ في ربها، ونبيها، ودينها، وقبلتها، وحدها على اختلاف أوطانها وأجناسها وألوانها ولغتها، وحدة قوامها العقيدة والقبلة؛ عقيدة القلب وقبلة العبادة، ولقد جاء في الحديث الصحيح: {من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، فذلك المسلم} مُخَرَّج في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه.
أمة وسط في الدين والاعتقاد، لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي، ولكنها الفطرة في روح متلبسة بجسد، وجسد تتلبس به روح، وتطلق كل نشاط في تهذيب بلا إفراط ولا تفريط، قصد وتناسق واعتدال، ومن أجل هذا جاء في هذا السياق كله قوله الله سبحانه: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة:147]، ما جاءنا من ربنا هو الحق، والدين الذي نحن عليه هو الحق، فلا نستفتي أحداً في ديننا، ولا نتبع غير أهل ملتنا في شأننا، ولا نقبل من أعدائنا القول في تاريخنا وتراثنا، ولا نسمع إليهم في دراساتهم عن قرآننا وحديث نبينا، إنه الجِد الصارم والحق الجلي الذي تضمحل أمامه الأقاويل والأباطيل.
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة:150] * {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:151] * {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(49/4)
مظاهر الوحدة في صلاة الجماعة والحج
الحمد لله، أعطى فأجزل، ومنَّ فأفضل، أحمده سبحانه وأشكره، أتم علينا النعمة ورضي لنا الدين وأكمل، وأتوب إليه وأستغفره من التقصير فيما أقول وأعمل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الظاهر والباطن، والآخر والأول، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، والخلق الأفضل، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما ليل أدبر وصبح أقبل، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: يُولي المسلمون وجوههم شطر المسجد الحرام؛ لتبرز من خلال ذلك وحدة المسلمين وجماعتهم، التفاف حول هذا البيت، من خلال -عمود الإسلام- الصلاة المفروضة؛ والتي تبدأ بأهل الحي، وتنتهي بالتجمع الأعظم يوم الحج الأكبر.
صلاة الجماعة قاعدة وأساس، وصلاة الفرد فذ واستثناء، جاء في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: {صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وكلما كثر فهو أحب إلى الله} أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة بإسناد حسن.
والمؤذن للصلاة هو داعي الجماعة: {أتسمع النداء؟ قال: نعم، قال: أجب، لا أجد لك رخصة}.
وصلاة الجمعة صورة ليس لها نظير في تجمع يجمع على الصلاة والموعظة والنصيحة ومعالجة القضايا؛ ليتأكد استمرار الجماعة على الجادة الراشدة.
وشعائر العيدين تجمعٌ مشهود، يحضره الرجال والنساء حتى ربات الخدور جماعةً وبهجة في ظل الالتزام بخلق الإسلام.
ويأتي التجمع الأخطر والاحتفاء الأكبر، حين يؤذَّن في الناس بالحج: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27].
تجمعٌ عظيم، لا يعوقه اختلاف الألسنة والألوان، ولا تشعب الأعراق وتباعد الأوطان، فعقيدة الإسلام في سهولتها وفطرتها وحنيفيتها وقبلة المسلمين في قداستها تؤكد هذا الرباط الوثيق من الأخوة والوُد، لينطقوا جمعياً بلسان عربي مبين: (لبيك اللهم لبيك).
إنهم جميعاً في موقف العبودية لله وحده: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واعرفوا نعمة الله عليكم في دينكم وعباداتكم، وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ.
ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائلاً عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وإحسانك وجودك يا أكرم الأكرمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الدين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين.
اللهم آمِنا في أوطاننا، واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق والتوفيق والتسديد إمامنا وولي أمرنا، وارزقه البطانة الصالحة، ووفقه لما تحب وترضى، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نصرةً للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم وفق ولاة أمور المسلمين، للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رُشد، يُعَزُّ فيه أهل طاعتك ويُذَلُّ فيه أهل معصيتك، ويُؤْمَرُ فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعزاز دينك وإعلاء كلمتك، اللهم انصرهم في فلسطين، وفي كشمير، وفي الشيشان، وفي كل مكان يا رب العالمين!
اللهم عليك باليهود فإنهم لا يعجزونك، اللهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، واجعل بأسهم بينهم، وأنزل عليهم رجزك وغضبك إله الحق، اللهم انصر إخواننا عليهم، اللهم سدد سهامهم وآراءهم، وأنزل عليهم نصرك وتأييدك، اللهم واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، اللهم واجعل ما أنزلته قوةً لنا على طاعتك، وبلاغاً إلى حين، اللهم وأنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، وأنزل علينا من بركاتك يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلادنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين!
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(49/5)
وسائل الإعلام والاتصال بين النقد الهادف والنقد الهادم
تحتل وسائل الإعلام والاتصال مكانة بارزة في عصرنا الحاضر، لما لها من الأهمية في تقريب البعيد واختصار الوقت وغير ذلك من المنافع، وإذا بهذه النعمة تنقلب إلى نقمة عند كثير من الناس ممن لا يحسن الاستفادة من هذه الوسائل، فيتخذونها وسيلة لنشر الشر وإعلان الكذب في الآفاق، فيهدمون الخير من حيث لا يشعرون، ولا يقبلون النقد الهادف، وينتقدون كيفما يشاءون بلا تثبت، وإن التزام القول السديد في هذه الوسائل كفيل بالوصول إلى أهداف الخير والإحسان.(50/1)
وسائل الاتصال سلاح ذو حدين
الحمد لله الذي نصب على وحدانيته من آياته ومخلوقاته دليلاً، ووعَدَ العاملين المحسنين رحمةً منه وفضلاً، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأتوكل عليه وكفى به وكيلاً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً خالصة تورث صاحبها ظلاً ظليلاً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله اصطفاه رسولاً، واجتباه نبياً واتخذه خليلاً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، وتابعيهم بإحسان، صلاةً وسلاماً دائمَين بكرةً وأصيلاً.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، وجدوا في الطاعات، واحترسوا من الشهوات، واحذروا الغفلات؛ فإن الغفلات قواتل، واغتنموا بالصالحات أيامكم، وأصلحوا بالإخلاص أحوالكم، فالأيام قلائل هلاَّ عقلتم حالكم، وذكرتم ارتحالكم، وأصلحتم أعمالكم، واعتبر الأواخر بالأوائل؟! ولقد علمتم أن كل مَن كان على وجه هذه البسيطة راحل، فأين المتبصر وأين العاقل؟! {يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:13] * {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] * {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:15].
أيها المسلمون: خلق الله السماوات والأرض بالحق، وأرسل رُسَله وأنزل عليهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأمور الناس وشئونهم لا تصلح ولا تستقيم إلا بالحق، وحَيرة البشرية وشِقْوتها ترجع إلى تفريطها في الحق، وإخلالها بموازين العدل، وغفلتها عن سريان الباطل وفشُوِّ الظلم وشيوع الأكاذيب وانتشار الأوهام، وسلوك مسالك الزور والتزوير في أنفسهم وعلومهم وأنبائهم.
إن نجاح الأمم وصلاح البشر يعود إلى جملة ما يقوم عليه الناس، ويقدمونه من فعل الحق، وقول الصدق، وفشُوِّ العدل؛ فإن كانت ثروتها من الحق والصدق والعدل كبيرة سبقت سبقاً بعيداً، وإن كانت غير ذلك سقطت في هُوَّة لا قرار لها من التهريج والخبط، والادعاء والهزل، مما لا يغني فتيلاً، ولا يهدي سبيلاً.
إن المجتمع الصالح لا يُبْنَى إلا بمحاربة الظنون، وطرح الرَّيب، ورفض الشائعات.
وإن الحقائق وحدها هي التي يجب أن تظهر وتغلب وتسود.
يقال ذلك -أيها الإخوة المسلمون- وقد يسَّر الله لأبناء هذا العصر ما يسَّر من اكتشافات، واختراعات في وسائل الاتصال وتقنياته، من أنواع الهواتف، وشبكات المعلومات، وقنوات البث، وغيرها من وسائل الاتصال والإعلام، من مسموعها، ومقروئها ومرئيها.
إنها وسائل خيرٍ لأهل الخير توفر الأوقات، وتقصِّر المسافات، وتصِل بجميع الجهات والاتجاهات، وتُستخدم في الصالحات والنافعات؛ من سؤال أهل الذكر، والفقه في الدين، وتعلم النافع المفيد، وصلة الرحم، والاتصال بالأخيار، وبذل النصح والتوجيه، والإفتاء والاستفتاء، والتثقيف والمتعة المباحة، ومواعيد الخير، وإنجاز الأعمال، وحسن استغلال الأوقات.
إن فضلها وخيرها غير منكورٍ لمن وُفِّق في حسن استخدامها والإفادة منها، يتوفر فيها الجهد، ويُحفظ بها الوقت، ويُلَبَّى بها المطلوب، وترفع مشقة الذهاب والإياب فلله الحمد والمنة.
ومع كل هذا الخير؛ فقد أساء بعض الناس استعمالها، فكانت شراً لأهل الشر؛ في جلب الشقاء، وزرع البغضاء، وإيغار الصدور، وغرس الشحناء، ونشر الأكاذيب، وضياع الأوقات، وإشاعة الفتن بين طبقات الناس وفئاتها، من حكامٍ ومحكومين، وعلماءَ وعامة، ورجالٍ ونساء.
ولقد أنتجت بعض هذه الوسائل مواقع للناس يرتادونها، وأحاديث يتداولونها، وصفحات يتجاذبون فيها أحاديث ومعلومات، وشاشات وقنوات ينتدون فيها ويتحاورون.
وإن المتأمل فيها ليلحظ خللاً كبيراً، وقصوراً كثيراًَ، من الهذر الضار، واللغو الباطل، {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114].
فما أعظم الخلاف في تلك المنتديات والقنوات! وما أكثر الشائعات في تلك المواقع والصفحات! كم حصلت من أمور كان عاقبتها خُسراً! وقد يكون بعض الحق فيضيف إليه بعضُ الناس من الأكاذيب والأوهام وسوء التأويل ما يضيع معه الحق ويسوء به الظن تتبعٌ للعثرات، وتضخيمٌ للهفوات، وحيف في القول، وجفاءٌ عن العدل، فالزلة عندهم تدفِن وافر الفضائل وكثير الحق.(50/2)
قلب الحقائق في هذه الوسائل
إن الملاحَظ في هذا الشأن أن أناساً يطلقون العنان لأخْيِلَتِهم في تلفيق التُّهَم، وتفسير الأحداث، وتأويل الألفاظ، لا يُحسون حرجاً في إدارة أحاديث مفتراة على ألسنة خصومهم وأصدقائهم على حدٍ سواء، يتندرون ويسخرون، وكم أدى التلهِّي بمثل هذا إلى عداواتٍ وأضرار، وفتنٍ وأحزان، بل إلى مصارع السوء!
إن الحريَّ بأصحاب القلوب الوجلة من أصحاب المواقع والصفحات في شبكات المعلومات وروَّادِها، وبأصحاب القنوات والإذاعات؛ في ندواتها وبرامجها ومشاهديها، وبأصحاب الهواتف؛ في رسائلها ومهاتفاتها، ورجال الصحافة؛ في كُتَّابها ومحلليها حريٌّ بنا وبهم جميعاً -حفظنا الله وإياهم من كل سوء ومكروه- حريٌّ بالجميع تذكر قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {رأيت الليلة رجلين أتياني فقالا لي: الذي رأيتَه يشرشر شدقه هو الرجل يَكذب الكذبة فتُحْمَل عنه حتى تبلغ الآفاق} فيُصْنع به هكذا إلى يوم القيامة.
وكم يدرك أبناء هذا الوقت من معاني الآفاق وسعتها ما لم يتجلَّ تفسيره إلا في هذا الوقت!
ثم ناهيكم برجل الإعلام الذي ينشر على الألوف بل الملايين خبراً باطلاً، والسياسي الذي يُعطي الناس صوراً مقلوبةً أو مزيفةً في قضايا الأمة، ومشكلاتها، ومسائلها، وصاحب الهوى من ذوي الرأي والفكر الذي يحسن تسويق التهم بأساليب مباشِرة وغير مباشِرة، وكلما اتسع نطاق الضرر إثر كذبة رائجة، أو إشاعة سارية، أو تحليلٍ أفَّاك كان الوزر أعظم، والخطر على الأمة ورجالها أشد.
وفي الحديث الصحيح: {يكون في آخر أمتي أناسٌ دجالون كذابون، يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم! لا يضلونكم ولا يفتنونكم}.
أيها المسلمون: إن وسائل الاتصال هذه تجسد صورة المستخدِم، وتظهر حسن الأدب وضده، ورقة النفس وغِلَظها، وسلامة القلب وظلامته، وقوة الإيمان وضعفه، ولطف التعامل وخشونته في أدبٍ من الكلام والاستئذان، وحسن الظن، وحب الخير، وسلامة الطوية، ورعاية الأمانة، وتقدير المصالح والمفاسد.
أمة الإسلام: وإن مما يوصَى به في هذا المقام ألاَّ تُعطَى العامةُ فوق ما لها من الحقوق، فليس للجماهير أن تتحكَّم في تقرير الحق، أو تحبيب الفضيلة، بل تؤخذ الحقائق والفضائل من ينابيعها، دون مبالاةٍ بالجاهلين بها أو الخارجين عليها، ولو كانوا بالآلاف أو بالملايين.(50/3)
عدم الاكتراث بالنقد الهادم
معاشر المسلمين: وثَمَّةَ خطابٌ تقتضيه المناسبة، إنه خطابٌ لأولئك الرجال الكبار؛ ليَبْلُوا سلوكَهم ومواقفَهم على الحق والصدق والعدل والإيمان، فلا يتبرَّموا من النقد المثار، أو يقلقوا لكثرة الهجَّامين والشتَّامين والشامتين.
إن أصحاب الحساسية الشديدة لِمَا يقول الناس، الذين يغترون بالمديح فيطيرون به فرحاً، أو يغتمُّون للذم فيختفون جزعاً، هم بحاجة إلى مقادير كبيرة من البرود والهدوء، وعدم المبالاة؛ لتهدأ أعصابُهم وتطمئن قلوبُهم.
إن العاقل الرزين، والمؤمن الواثق لا يكترث بتعليقات تطْلِقُها أفواهُ أقوامٍ دَيْدَنُهم التسلِّي بشئون الآخرين، ومن ذا الذي يملك حبس ألسنة الناس وكسر أقلامها حتى لا يطلقوها ظلماً وعدواناً وإفكاً وبهتاناً؟!
ولقد قيل: إن العظيم من الرجال من انقسم الناس فيه إلى قادحٍ ومادح!
وكم يفرح هؤلاء العظام بعيوبهم تُهدَى إليهم، فيجتنبوها، ويدعون بالرحمة والصفح لمن أهداها!
إن وحيد دهره مَن يزن ما يقال، فما كان باطلاً أهمله، وما كان حقاً أخذ به وقَبِله، وما لم يستبن فيه يتروَّى ويتمهَّل حتى يتبين له الحق.
وإن من الحق -معاشر المسلمين- التمييز بين النقد الهادف والنقد الهادم.
فالنقد الهادف: نصيحة مخلصة، وأمرٌ بالمعروف، ونهيٌ عن المنكر، وعونٌ على محاسبة النفس وهو نقدٌ بنَّاء يقوم الخطأ، ويقيَّم المعوج، ويقصد إلى الإصلاح؛ ليَحِق الحق ويَبْطُل الباطل، ويَهْدِي إلى الرشد، ويَهْدف إليه نقد يتعالى عن التجريح، وتتبع الزلات، وتضخيم الهفوات.
أما النقد الهادم: فهو ما دخله الهوى، فتوجَّه إلى التجريح، وامتطى صاحبُه الجورَ والزورَ والبهتان، واتهم النيات، ودخل إلى المقاصد من غير حجة ولا برهان، فهو تشويه سمعة، وطعن في الذوات إنه -عياذاً بالله- مشغلةٌ تفسد العمل، وتهدر الطاقات، وصرفٌ للأمة عن مهماتها، وإشغالٌ للمجتمع عن غايته الكبرى، وما هو إلا تَشَفٍّ، ونفثُ سموم، وانبعاثُ أحقاد وغيض، وتفكُّهٌ في المجالس بالغمز واللمز.
وإن مشاعر الرغبة والرهبة ودوافع المنفعة والحرمان؛ ما تزال هي السر الدفين وراء كثيرٍ من النقد والرضى، والنقمة والتأييد.
وبعدُ عباد الله:
فإن خير ما يزن به العبدُ نفسَه في هذه الأمواج: الحذر من الانتصار للنفس، والتذرع بالصبر والاحتساب، والحرص على تحري الحق، ولزوم الصواب، والبعد عما لا يعني، وألا يقع فيما ينتقد فيه غيره، مع الحرص الشديد على صلاح النية، وطرد باعث الحسد والهوى، وسوء الظن {لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعرضه}.
بذلك أوصاكم نبيكم وحبيبكم محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
والناس أصناف في التعقل والتأدب والذوق وحسن التصرف، والسعيد من إذا بُصِّر تبصَّر، وإذا ذُكِّر تذكَّر، ولكل مقامٍ مقال، ولكل مقالٍ مقدار.
فلا تكن -يا عبد الله- ممن قل أدبه، وضعف إحساسه, وغلظ طبعه، وكل الناس تتحدث عن الإصلاح وتسعى إليه، وما كان الإصلاح في شائعات تثار، أو كلماتٍ في رموزٍ من التوقيعات على مواقع الشبكات والصفحات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:16 - 18].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(50/4)
صدق اللهجة
الحمد لله الذي أظل بعدله وبفضله هدى، خلق الخلق ولم يتركهم سُدى، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، كرُم رسولاً وشرُف عبداً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، نجوم الدجى، ومصابيح الهدى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن من أهم ما تحتاج إليه الجماعة في سعادتها، والأمة في جمع كلمتها، وإدارة شأنها صدقَ اللهجة.
وإن الجماعة لتسعد، وإن شأنها لينتظم على قدر التزامها بفضيلة الصدق، فالأقوال والأعمال والتعاملات لا يستقيم سيرها، ولا ينضبط مسارها، إلا أن تديرها لهجةٌ صادقة، والعلاقات والصداقات لا يشتد رباطها إلا بقدر ما تكون ملتزمةً بصدق اللهجة، وقد يكون للكاذب صديقُ منفعة، ولكنه لن يجد في إخوان الفضيلة صديقاً حميماً.
وإنه يجب أن توزَن الكلمة، ويُتَحَرى الحق، ويُلْتَزم الصدق، فالكذب والبهتان خرقٌ للمصالح، وإضرارٌ بالناس، وتقطيع للأواصر.
وإن من المجزوم المحقق أن صدق الأقوال بريدٌ لصدق الأعمال وصلاح الأحوال، فالحرص على الحق والتزام الصدق يقود إلى كل جوامع الخير، وفي الحديث الصحيح: {عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدُق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً}.
فلا تكن -يا عبد الله- ممن إذا سمع خبراً طار به كل مطار، وسعى إلى نشره في الأقطار، من غير أن يتثبت في صحته، أو ينظر في جدوى نشره أفاك أثيم، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ لا تردعه تقوى، ولا يرده دين، ولا تحجزه مروءة إذا حضر مجلساً أطلق الأكاذيب، وإذا دخل موقعاً أتى بالأعاجيب يسوق ما لا يخطر على بال، ويعلِّق بما يشبه الخيال أو الخبال، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
واللبيب لا يتكلم إلا بعد التثبت، ناهيكم بالمؤمن التقي، فـ {كفى بالمرء إثماً أن يحدِّث بكل ما سمع}، ومن حدَّث بكل ما سمع فقد أزرى رأيَه، وأفسد صدقَه، وقد قيل في الحكمة: من غلب لسانَه أمَّره قومُه، ولا يُسارع في الحديث إلا من هانت عليه نفسه، ومن اشتغل بما لا يعلم اتهم فيما يعلم.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله- {وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال في محكم تنزيله قولاً كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين،
وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن بقية الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الدين، وانصر عبادك المؤمنين.
اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيّد بالحق والتوفيق والهدى والتسديد إمامنا وولي أمرنا، وارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه اللهم أعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين!
اللهم أبرم لأمة الإسلام أمر رشدٍ يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُهْدَى فيه أهل معصيتك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر إنك على كل شيء قدير.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم انصر المجاهدين، اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك، وإعزاز دينك.
اللهم انصرهم في فلسطين، وفي كل مكان.
اللهم سدد سهامهم وآراءهم، واجمع كلمتهم، واكتب نصرهم، واجعل الدائرة على أعدائهم يا قوي يا عزيز!
اللهم عليك باليهود الصهاينة، اللهم عليك باليهود الصهاينة المعتدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره، يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، واجعل اللهم ما أنزلته قوة لنا على طاعتك، وبلاغاً إلى حين، اللهم إنا خلق من خلقك فلا تَمْنَعَنا بذنوبنا فضلك.
عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ،
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكر الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(50/5)
النظافة والزينة والتجمل
إن تطهير العقيدة وتنقيتها من شوائب الشرك والمعاصي والبدع مقرون بتطهير ظاهر الإنسان وثوبه ورقعته، أناقة من غير سرف، وتجمل من غير تكلف.
ولهذا جاءت هذه المادة لتبين دعوة الإسلام لتطهير الظاهر والباطن، ولتوضح بعض مظاهر الطهر والنقاء في توجيهات الإسلام، فحين يجمل الدين البواطن بالهداية إلى الصراط المستقيم، فإنه يجعل الظواهر في أحسن تقويم.(51/1)
شمولية الدين الإسلامي
الحمد لله المحمود بكل لسان، واسع الفضل والإحسان، أحمده سبحانه وأشكره، حمداً وشكراً تنال به نواهل الرضوان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله المبعوث للثقلين؛ الإنس والجان، بلغ الرسالة وأوضح المحجة، حث على منار الحق وأبان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ذوي التقى والإيمان، والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس ونفسي- بتقوى الله، فالسعيد من اتقى ربه، وتدبر أمره، وأخذ حذره، واستعد ليومٍ لا تقال فيه عثرة، ولا تنفع فيه عبرة.
أيها المسلمون: الإسلام دين الفطرة، تصلح له وتصلح به كل الأزمنة وكل الأمكنة، فهو دين العقيدة والشريعة، يعالج شئون الحياة كلها في سلفية لا تتوقف عند عصر، بل تتجدد لتعالج أوضاع كل عصر، وتفتي في كل شأن، وتقضي في كل أمر.
دين يجمع البشاشة في حياة، وحسن الخلق في ابتسامة.
دين يعترف ما للبشر من أشواقٍ قلبية، وحظوظ نفسية، وطبائع إنسانية.
لقد أقر الدين ما تتطلبه الفطرة من سرور وفرح، ولباسٍ وزينة، محاطٌ بسياج من الأدب الرفيع، يبلغ بالمتعة كمالها ونقاءها، وبالسرور غايته، بعيداً عن الخنى والحرام، والظلم والعدوان والغل وإيغال الصدور، ومتطلبات الفطرة هذه جاءت في دين الإسلام، مصاحبة ومرتبطة وملازمة لإصلاح المعتقد وسلامة الباطن: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:1 - 5].
فتطهير العقيدة وتنقيتها من شوائب الشرك والبدع والمعاصي مقرون بتطهير الظاهر في بدن الإنسان وثوبه ورقعته، يجمع المسلم بين النظافتين، ويحافظ على الطهارتين، وحين يجمل الدين بواطنهم بالهداية إلى الصراط المستقيم، فإنه يجمل ظواهرهم في أحسن تقويم.
إذا كان ذلك كذلك -أيها الإخوة- فإن الأخذ بالزينة والقصد إلى التجمل، والعناية بالمظهر، والحرص على التنظف والتطهر من أصول الإصلاح الدينية والمدنية التي جاء بها ديننا، وتميز بها أتباعه.(51/2)
دعوة الإسلام لنظافة الحس مع نظافة النفس
إن حب الزينة والتزين من أقوى غرائز البشر الدافعة لهم إلى إظهار سنن الله في الخليقة، ولقد امتن الله على بني آدم كلهم بلباس الزينة حين قال عز شأنه: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26] يقول أهل العلم: خص سبحانه الريش بالذكر لأنه ليس في أجناس الحيوان كالطير في كثرة أنواع ريشها، وبهجة مناظرها، وتعدد ألوانها، فهي جامعة لجميع أنواع المنافع والزينة، ويقول الحافظ ابن القيم رحمه الله: ولمحبته سبحانه للجمال أنزل على عباده الجمالين؛ اللباس والزينة تجمل ظواهرهم، والتقوى تجمل بواطنهم، وقال في أهل الجنة: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:11 - 12] فجمل وجوههم بالنضرة، وبواطنهم بالسرور، وأبدانهم بالحرير.
وفي خبر نبينا محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم: {خمس من الفطرة: الاستحداد، والختان، وقص الشارب، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر} إنها الفطرة، وسنن المرسلين اتفقت عليها الشرائع، ودعت إليها الديانات، وترك ذلك وإهماله مضر بالجسم وتشبه بالوحوش والسباع، بل تشبه بالكفار المبتعدين عن صحيح الفطرة وهدي المرسلين.
ومن أجل هذا -أيها الإخوة- فإن الإسلام حريص على أخذ أبنائه بنظافة الحس مع نظافة النفس، وصفاء القلب مع نقاء البدن، وسلامة الصدر مع سلامة الجسد، فالله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
أيها الإخوة: المسلمون هم الذين نشروا النظافة والتنظف في أصقاع الدنيا حيثما حلوا وأينما وجدوا مما لم تعرفه الأمم السابقة قبلهم.
إن من يقرأ تاريخ الأمم والملل يعلم أن أكثر البشر يعيشون كما تعيش الوحوش في جزائر البحار وكهوف الجبال وأكواخ الأدغال، كلهم أو جلهم يعيشون عراةً أو شبه عراة، الرجال منهم والنساء، وما دخل الإسلام بيئة ولا بيتاً إلا وعلمهم حسن اللباس، وجمال الستر، ونظافة البدن، وطهارة المسكن، بالإيجاب تارة وبالاستحباب أخرى، نقلهم من الوحشية الفاحشة إلى الحضارة الراقية، وهذا الحديث لا يخص العصور الغابرة، بل إنك بكل ثقة وأسى لا ترى أمكنة أو أزمنة انطمست فيها آثار النبوة إلا ويتجلى فيها صور الجهل والظلم، والكفر بالخالق، والشرك بالمخلوق، واستحسان القبائح، وفساد العقائد، وانحراف السلوك، وما خليت ديار من هدي النبوة إلا وكان أهلها أشبه بالبهائم؛ يتهارجون في الطرقات، ويتعاملون كالعجماوات، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً ولا يتورعون عن قبيح، ولا يهتدون إلى سبيل، وشواهد ذلك في عصركم هذا تجلو الحق والعدل.
إن المسلمين نماذج رائعة للطهر والجمال عندما ينفذون تعاليم دينهم في أبدانهم وبيوتهم، وطرقهم ومدنهم، ومساكين بعض المنتسبين للإسلام ممن يولون وجوههم شطر نظم وتقاليد وعادات يعجبون بها وهي لغيرهم، ويتشبثون بها وعندهم خيرٌ منها في دينهم، وعند الله ما هو أزكى وأتقى وأغنى وأنقى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138].(51/3)
بعض مظاهر الطهر والنقاء في توجيهات الإسلام
أيها الإخوة: وهذا استعراض لبعض مظاهر الطهر والنقاء والجمال والزينة في توجيهات الإسلام وسلوك المسلمين المستمسكين.
الطهور شطر الإيمان، والصلاة أهم فرائض الإسلام بعد الشهادتين، شرع لها التطهر من الحدث والتنظف من القذر والنجس، والمسلم يتوضأ في يومه عدة مرات غالباً، ويغتسل في كثيرٍ من المناسبات المشروعات، والوضوء على الوضوء نورٌ على نور، مع مستحبات من الوضوء أخرى للنوم والعبادة، وصلاة الجنازة والعيدين، والخسوف والكسوف، وسجود التلاوة وغيرها، إنها الصلوات الخمس تنظف الباطن وتنهى عن الفحشاء والمنكر، فوضوءها ينظف الظاهر: {أرأيتم لو كان باب أحدكم على نهرٍ جار يغتسل منه خمس مرات، أيبقى من درنه شيء}.
وغسل الجمعة واجب على كل محتلم: {لا يغتسل رجلٌ يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهرٍ ويدهن من دهنه ويمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى} بهذا جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والتطهر المأمور به ليس مقصوراً على المجامع ومجالس الناس، ولكنه مطلوبٌ في جميع الأحوال حتى إذا قعد المرء في بيته، أو ذهب إلى فراشه، فقد جاء في الخبر مرفوعاً: {طهروا الأجساد طهركم الله، فإنه ليس عبدٌ يبيت طاهراً إلا بات معه في شعاره -أي: في لحافه- ملك لا ينقلب في ساعة من الليل إلا قال: اللهم اغفر لعبدك فإنه بات طاهراً} رواه الطبراني يسند جيد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفي خبر ثان عند أبي داود: {ما من مسلم يبيت طاهراً فيتعار من الليل -أي: يستيقظ- فيسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه}.
وأمة محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم تُعرف يوم القيامة بين الأمم بغرتها وتحجيلها من آثار الوضوء.
والسواك مطهرة للفم، مرضاة للرب، وقص الشارب وحفه من التجمل، ومن كان له شعرٌ فليكرمه بالغسل والدهن والترجيل والتطييب، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً شعثاً رأسه قد تفرق شعره فقال: {أما كان هذا يجد ما يسكن به شعره}.
وقص الأظافر، وغسل البراجم وهي: مفاصل الأصابع، ونتف شعر الإبط، وحلق العانة، واجتناب الروائح الكريهة؛ من الثوم والكراث والبصل، كل ذلك من التوجيهات المتأكدة رعايتها، والإنسان قد يحتمل من غيره ألواناً من الأذى ولكنه لا يصبر على الرائحة المنتنة تنبعث من فمٍ أو عرقٍ أو غيرهما، ويتأكد ذلك في المساجد التي يؤمها المسلمون للطاعة وذكر الله والصلاة، وكيف تخشع نفسٌ مهتاجة مضطربة تعرضت للأذى، وتعكر عليها صفو مناجاة الرب تعالى، وانقطعت من لذة التضرع والتذلل.
ومن المستكره فتح الفم عند التثائب لما في ذلك من قبح المنظر، وقلة الذوق، وإيذاء الجليس، وسرور الشيطان.
وفي مقابل ذلك جاء الحرص على الطيب والحث على التطيب، ونبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحب الطيب ويكثر من التطيب.
وغطوا الإناء، وأوكئوا السقاء، واجتنبوا الجشاء، ولا تشربوا من فم السقاء، ولا تتنفسوا في الإناء، ولا تنفخوا فيه، والتنظف من بقايا الطعام وفضلاته، في الأيدي والأفواه والأسنان كل ذلك مندوبٌ إليه، وشرب نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم لبناً، ثم تمضمض، وقال: {إن له دسماً}
والتطهر والتنظف يمتد من الأبدان إلى البيوت والطرقات، والمساجد ومجامع الناس: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] {وإماطة الأذى عن الطريق صدقة}
ومن الدقة في التعاليم رعاية سبل وقاية المجتمع في آداب قضاء الحاجة، لا يتلوث بها ماء، ولا يتنجس بها طريق أو مستظل، فقد جاء النهي عن البول في الماء الدائم، وقال عليه الصلاة والسلام: {اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل}.(51/4)
الاهتمام بجمال الهندام
أما حسن الملبس وجمال الهندام فمطلوب قدر الاستطاعة وحسب الوجد، عن الأخبص الخشمي قال: {رآني النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي أطمار -أي: ثياب بالية- فقال: هل لك من مال؟ قلت: نعم.
قال: ومن أي المال؟ قلت: من كل ما آتى الله من الإبل والشاة، قال: فلتُر نعمته وكرامته عليك} فهو سبحانه يحب ظهور أثر نعمته على عبده.
ولما قال عليه الصلاة والسلام: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجلٌ: يا رسول الله! إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله جميلٌ يجب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس}.
وفي الناس أجلاف يظنون أن قصد الزينة تصنع، فيرد عليهم ابن الجوزي رحمه الله بقوله: "وهذا ليس بشيء، فإن الله تعالى زيننا لما خلقنا؛ لأن للعين حظاً من النظر، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنظف الناس وأطيبهم، وكان لا يفارقه السواك، ويكره أن تشم منه ريحٌ ليست طيبة" فهو عليه الصلاة والسلام كاملٌ في العلم والعمل، فيه يكون الاقتداء، وهو الحجة على الخلق، بل إن بعض محترفي التدين يحسبون فوضى اللباس وإهمال الهيئة والتبذذ المستكره ضرباً من العبادة، وربما ارتدوا المرقعات والثياب المهملات، وهم على خيرٍ منها قادرون، ليظهروا زهدهم في الدنيا وحبهم للأخرى، وهذا جهلٌ وخروجٌ عن الجادة.
إنه لا يطيق الروائح الكريهة والأقذار المستنكرة إلا ناقص الفطرة وجمال الأدب، وإنما لبس المرقع من لبسه من السلف الصالحين لاستدامة الانتفاع بها، يوضح ذلك ويجليه الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله حين يقول: وما حكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أنه كان يرقع ثيابه إنما يفعله لاستدامة الانتفاع به وذلك شعار الصالحين، حتى اتخذه المتصوفة شعاراً فجعلته في الجديد وليس بسنة، بل هو بدعة عظيمة، وإنما المقصود من الرقع هو الانتفاع بالثوب.(51/5)
علاقة طهارة الظاهر بطهارة الباطن
أيها الإخوة: ومن دقق النظر في طبائع النفوس وأخلاق البشر رأى بين طهارة الظاهر وطهارة الباطن، وطهارة الجسد واللباس، وطهارة النفس وكرامتها ارتباطاً وثيقاً وتلازماً بيناً.
نعم إن هناك تلازماً بين شرع الله في اللباس والستر والزينة، وبين تقوى الله عز وجل في النفوس، فكلاهما لباس، فالتقوى لباسٌ يستر عورات القلوب ويزينها، والثياب تستر عورات الجسم وتزينها.
من تقوى الله ينبع الحياء الذي ينبت الشعور باستقباح عري الجسد والحياء منه، ومن لا يستحي من الله ولا يتقيه لا يكترث أن يتعرى أو يدعو إلى التعري.
ومن أجل هذا -أيها الإخوة- فإن ستر الجسد ليس مجرد أعراف وتقاليد كما يزعم الماديون الهادمون لأسوار العفة والفضيلة، ولكنها فطرة الله التي فطر الخلق عليها، وشريعته التي أنزلها وكرم بها بني آدم.
وبعد أيها الإخوة: فعناية الإسلام بالنظافة والتجمل والصحة والتطهر جزء من العناية بقوة المسلمين، إن المطلوب أجسامٌ تجري في عروقها دماء العافية، وتمتلئ أبدان أصحابها قوة وفتوة، فالأجسام المهزولة لا تطيق حملاً، والأيدي القذرة غير المتوضئة لا تقدم خيراً، ورسالة الإسلام أوسع في أهدافها، وأصلب في كيانها من أن تحيا في أمة مريضة موبوءة عاجزة: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:31 - 32].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه، وكما تغسلون أدرانكم بالماء فاغسلوا ذنوبكم بالتوبة، توبوا إلى ربكم واستغفروه إنه هو التواب الرحيم.(51/6)
حقيقة الزينة في الإسلام
الحمد لله المتفرد بالعزة والجلال، والمتنزه عن الأنداد والأمثال، أحمده سبحانه وأشكره فهو جميل يحب الجمال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، جاء بالشريعة السمحة، ورفع عنا ربه ببعثته الآصار والأغلال، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه خير صحبٍ وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان في الأقوال والأعمال.
أما بعد:
أيها المسلمون: إن الأناقة من غير سرف، والتجمل من غير تكلف من آداب الإسلام وتوجيهاته، إنه الإسلام الذي ينشد لبنيه علو المنزلة، وجمال الهيئة ليكونوا في الناس كالشامة البيضاء، غير أنه ليس من الإسلام الركض إلى أسباب الزينة بغير عنان، وملء اليد منها بغير ميزان.
إن من يطلق يده في الإنفاق في الزينة ولذائذ النفس ويتجاوز بالإنفاق المعتاد من أمثاله يقل نصيبه من البذل في وجوه الخير؛ ذلك أن النفوس المبتلاة بحب الزينة المفرطة، ولذائذ الأجسام المغالى فيها لا تقف عند حد، وكلما أدركت منزلة تشوفت إلى ما فوقها كما جاء في الخبر الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: {إن هذا المال حلو، من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة، وإن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع} وسأل رجل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: [[ما ألبس من الثياب؟ قال: مالا يزدريك به السفهاء ولا يعيبك به الحكماء]].
إذا كان الأمر كذلك -أيها الإخوة- فليس من زينة الرجال حلق اللحى، ولبس الحرير، والتختم بالذهب، وإسبال الثياب، فما أسفل من الكعبين ففي النار.
وليس من المقبول تبرج النساء بزينة: {كاسيات عاريات، مائلات مميلات} وفي الجملة فإن السلف كانوا يكرهون الشهرة من الثياب، العالي منها والمنخفض؛ وثوب الشهرة العالي: ما قصد به الاختيال والتعالي والفخر والمباهاة، والمنخفض: ما قصد إلى الرديء والمبتذل مع القدرة على ما هو خيرٌ منه امتناعاً عما أباح الله بزعم التزهد والتعبد، ودين الله الوسط، والرفيع من اللباس ممدوح إذا كان تجملاً وإظهاراً للنعمة.
وبعد أيها الإخوة: فحسب الناس من القذر الكدر هذا التدخين الذي ابتليت به طوائف من الناس، فيسيء هذا المبتلى ويؤذي بما ينفخ من دخان وينفث من رائحة تخنق الأنفاس وتفسد الأجواء وتلوث المجالس، وهو بلاء ماحق في المكاتب والمتاجر والمراكز، وإنه لشاهدٌ على أن الفرد والأمة حين تبتعد عن آثار النبوة تفقد الأدب الرفيع والذوق السليم، والإحساس الرقيق والتصرف المهذب.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله والزموا هدي نبيكم، واسلكوا مسلك العدل والوسط، ثم صلوا وسلموا على صاحب الخلق الأكمل والأدب الأرفع والريح الأطيب، نبيكم محمدٍ رسول الله فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة وكل أعداء الدين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم أيد بالحق إمامنا وولي أمرنا ووفقه لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة، وأعز به دينك، وأعل به كلمتك، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمتهم يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين بالعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمةً لرعاياهم، اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(51/7)
الأمة الأمل والعمل
الأمة الإسلامية بحاجة إلى استلهام الدروس وأخذ العبر من القرآن الكريم، والله سبحانه وتعالى قد بيَّن للأمة في القرآن أحوالها مع مخالفيها.
وهي في حالتها الراهنة تمر بمرحلة ضعف وتشتت وظلام، ومع ذلك فإن المؤمن كلما ازداد الباطل بطشاً وطغياناً ازداد إيمانه بأن هذا هو بداية النهاية لهذا الباطل.(52/1)
حاجة المسلمين إلى استلهام الدروس من القرآن
الحمد لله أرشد وهدى، ووفق من شاء من عباده إلى طريق الهدى، ومن أضل فلن تجد له ولياً مرشداً، أحمده سبحانه وأشكره، لا تحصى آلاؤه عدداً، ولا تنقطع فضائله مدداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا أشرك به أحداً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، كرم رسولاً، وشرف محتداً، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه، وعلى آله أنوار الدجى، وأصحابه مصابيح الهدى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان صلاةً وسلاماً وبركاتٍ دائمات أبداً سرمداً.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، واحذروا ضياع العمر في غير طاعة، وخافوا من التسويف، فالتسويف بئست البضاعة، فكم من مؤملٍ لم يبلغ ما أمله، وحيل بينه وبين ما كان يرجو عمله، دارت عليه رحى المنون، كم منصوح وهو معرض بات على تفريطه نادما، يتمنى الرجوع فلا يقدر: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100].
أيها المسلمون: شهر رمضان المعظم هو شهر القرآن الكريم، في نزوله ومدارسته وملازمته، وهو شهر انتصارات الأمة، وقوتها وعزتها، انتصارها على شهواتها وأهوائها.
إن أمة الإسلام في أوضاعها المعاصرة، بحاجة إلى استلهام الدروس، وأخذ العبر، ومواقف المحاسبة، من أجل هذا كان التذكير بالقرآن: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [قّ:45] وكان الإنذار بالقرآن {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] وكان الجهاد بالقرآن {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52].
ومن أجل ذلك كان هذا القرآن شرف الأمة، وذكرها وعزها: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10] {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:43 - 44].
أمة الإسلام: والمسلمون يعيشون هذا الشهر الكريم في صيامه وقرآنه، هذه مراجعات قرآنية لأوضاع الأمة، ومعالجات لمشكلاتها وأزماتها.(52/2)
أحوال الأمة مع مخالفيها في القرآن
اقرءوا وتأملوا في حديث القرآن عن أحوال الأمة مع مخالفيها: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:137 - 139] {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:104].
أيها المسلمون: إن الأمة تمر في حالها الراهنة بأوضاع من الضعف والتشتت، وظلام الطريق، بينما يمر آخرون بموجات من الاستعلاء والقوة، ونزعات التفرد، إن كل ذلك على ظلامه وبأسائه يشير إلى أفقٍ مضيء، وسبيل عامرٍ بالأمل بإذن الله.
نعم.
لئن كان الباطل يزداد بطشاً وطغيانا وغدراً، وصورة ذلك جلية في عدوان اليهود في فلسطين المحتلة، في القتل والهدم والتشريد والصلف والاستكبار، لئن كان الباطل يزداد بطشاً وطغياناً وغدراً بهذه الصورة، فإن ذلك عند المؤمن في إيمانه، وبمعرفته بسنن الله، هو بداية النهاية بإذن الله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110] {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر:2].
إن المسلم لا يسرف في التعلق بالأماني، وسراب التمنيات، ولكنه في الوقت ذاته، لا يكون منكس الرأس في مستنقعات الهزائم، ومواطن الذل والمهانة.(52/3)
أهمية الأمل في حياة المسلم
إن أمل المسلم ليس مكابرة ولا قفزاً على الواقع والوقائع، ولكنه عقيدة راسخة يؤمن بها ويعمل في إطارها، سندها كتاب الله عز وجل: {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56].
إن اليأس حيلة العاجز الذي يؤثر الانسحاب والعزلة.
إن البلاء يحتمل بعظم الرجاء، والفرج طريقه الثقة بالله العلي الأعلى، المؤمن الحق لا تزلزله المحن، ولا تهده المتاعب، بل يزيده ذلك عطاءً وبذلاً وتضحية: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:146 - 148].
معاشر المسلمين: إن من أعظم مهمات أهل العلم والرأي والدعاة والمصلحين أن يشيعوا الأمل الصادق في نفوس الأمة؛ الأمل الذي يدعو إلى الثبات على الدين، والعض عليه بالنواجذ، والعمل على نصرته، والذب عن حياضه، واليقين، لأن نصر الله لن ينزل على أوليائه بمعجزة خارقة، ولكن بسنة جارية، يمتحن فيها العباد ليبلوهم ربهم أيهم أحسن عملا.
وهذا لا يتحقق بموعظة تتلى، أو خطبة تلقى فحسب، ولكن بقدواتٍ صالحة قوية بإذن الله، ذاقت حلاوة الإيمان، وصدقت بموعود الله لأوليائه المتقين.(52/4)
غربة الإسلام بين الأمم
أيها المسلمون: أمة الإسلام تعيش غربة حقيقية بين الأمم وتنبع غربتها في تميزها وتمنعها عن السير في ركاب الظلم والاستسلام، وقد جر عليها هذا ضغوطا ًكبيرة، وأحمالاً ثقالاً، مادية وأدبية، لا تكاد تدركها، مستها فيها البأساء والضراء وزلزلت.
أيها المسلمون: طغيان القوة وغرورها يجعل صاحبه لا يبالي بمواقف الآخرين، ولا بحقوقهم، بل إنه ليستهين بالأعراف وقواعد التعامل، ويستكثر على غيره أن ينظر في مصالحه، أو يتمسك بحقوقه، أو يعتز بهويته وقيمه.
فالضعفاء في ميزان الظلم لا حق لهم إلا الخضوع والاستسلام، وحين تضعف الأمم يتفجر الحقد المكبوت، ويظهر الخصوم يناوشون من مكان بعيد.
إن الإنسانية كلها مدعوة إلى التأمل في الأخطار الرهيبة، التي تنتظرها إذا تجاهلت النذر المتصاعدة من الصدور الحاقدة التي تبث نيران العداوات والصراعات المدمرة، وازدراء الأمم في معتقدها وفكرها وديانتها.
الظلم هو وقود الصراعات، والعنف لا يولد إلا العنف، وعقلاء البشر وقراء التاريخ يدركون أن قوة الظلم ما هي إلا كضوء شهاب، سرعان ما ينطفئ.
إن الأمة الحية، ولو كانت مستضعفة، فإنها لن تقبل الظلم، بل قد تكون هذه الضغوط والمتغيرات سبباً من أسباب يقظتها، وحيويتها، فلا تهون عليها عزتها وكرامتها.
الأمة الكريمة الضعيفة، وإن كانت لا تقوى على المواجهة في مرحلة من المراحل، لكنها لا ترضى بالدنية في عزتها ومبادئها، ولن ترضى أن تنظر للآخرين باستجداءٍِ أو استخذاء.(52/5)
ضرورة العمل على إحياء الأمة
أيها المسلمون: إن من دلائل الرشد والفقه استيعاب الأزمة وتوظيف دروسها لإحياء الأمة، وبنائها بنفسية عزيزة وثابة من غير ضعف أو خور.
إن من الحق والحكمة الاعتراف بأن الهزائم قد تكون لازماً من لوازم بناء الأمم، من أجل القضاء على سور الاسترخاء، ومظاهر الترف والفسق، ومن أجل الدربة على تحمل الظروف القاسية، وزوال الطبقات الهشة، من أجل الوصول إلى القواعد الصلبة.
وقد تكون الهزائم أكثر ملازمة عندما تسود في الأمة الأمراض الاجتماعية، ويحكمها الظلم، وتشتد المظالم، وتهمل الحقوق، ويفسق المترفون، ويكثر الخبث، فتكون الهزيمة عقوبة.
وتسلط الأعداء بلاء لتستيقظ الأمة وتتوجه نحو العلاج فيكون التمحيص، وتكون التنشئة على الفكر والمسيرة مبصرة، وحينئذٍ يستقيم المسار بإذن الله.
أيها المسلمون: الأمة لا شك بحاجة إلى إعادة ترتيب أمورها، ودراسة أوضاعها بعمق، دراسةً تتفهم المتغيرات، وإنها لمتغيرات كبيرة، طغت على ساحاتها السياسية والاقتصادية والفكرية وغيرها، مدركةً إمكاناتها، مكتشفةً مكامن قوتها وتأثيرها.(52/6)
الطريق لتصحيح أوضاع الأمة
ومن أجل تلمس طريق المعالجة -معاشر المسلمين- لا بد من التأكيد على أن أولى الأوليات أن تعلم الأمة علم اليقين أنها لن ترتفع لها راية، أو يعلو لها شأن إلا بصدق الإيمان، ونقاء التوحيد، وصفاء الإخلاص، إيمانٌ يستنير به القلب، وتستقيم به الجوارح، وهذا لا يكون إلا بتربية جادة، وإنك لتحزن حينما لا ترى إلا آثار تربية هشة، وأن طاقات الأمة تستنزف في أمور تذهب بحلاوة الإيمان، وتضعف جذوته، وكيف يتصور التطلع إلى النصر بنفوسٍ لم تذق حلاوة الإيمان: {ذاق حلاوة الإيمان من رضي بالله رباً وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولاً، وبالإسلام ديناً}.
كما يجب التأكيد: أن الطريق الصحيح ومنهج التصحيح، في مواجهة ضغوط الخارج وتحدياته، ليس بالاشتغال بالرد عليها؛ مما قد يجر أو جر إلى معارك خاسرة، ولكن الإصلاح الحقيقي، والتصحيح الجاد، يتمثل في التوجه نحو الداخل وتصفيته وتنقيته: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120].
ولا ريب أن التصحيح من الداخل شاقٌ على النفس، وثقيلٌ في الممارسة؛ لأن الإنسان في هذه الحالة سوف ينقد نفسه، وسوف يصلحها، أي أنه: يجعل من نفسه الحجر والنحات في آنٍ واحد.
وإن أصحاب الطريق المسدود والمتأزمين، هم الذين يسلطون سياط نقدهم دائماً نحو الخارج.
{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] آية كريمة، ومعلمٌ بارز، وراية مرفوعة، في رسم الطريق لهذا الإصلاح الداخلي، ويقترن بهذه الآية آية أخرى توجه إلى مواجهة الخارج بالنقد الداخلي والإصلاح والتحسين، واقرءوا في خبر غزوة أحد: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
إنه ليس من الحكمة تضخيم شأن العدو إلى الحد الذي يجعل تصور هزيمته شيئاً بعيداً، فالعدو بشر له حساباته، وله موازناته، وله مشكلاته وإمكاناته: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104].
إن النصر العام لا بد أن يسبقه نصر خاص.
إن الأمة المنتصرة على أعدائها؛ هي أمة قد حققت قبل ذلك نصراً داخليا.
ومما يجب التأكيد عليه أخيراً: سلاح الصبر، والمراد بالصبر هنا: احتمال المشاق والديمومة في تأدية التكاليف مهما كانت قسوة الظروف.
إن الصبر لا يعني الاستسلام للأحوال السيئة والظروف القاسية، ولكنه يعني عدم اللجوء إلى الحلول السريعة.
إن الجري وراء الحلول السريعة لمشكلات مستعصية مآله الإحباط واليأس، أو الاندفاع والتهور، مما يزيد المشكلات تعقيداً ويجعل الحل الحقيقي بعيد المنال.
إن الصبر توظيفٌ صحيح للوقت والزمن؛ لحل أوضاعٍ لا يُستطاع حلها في الوقت القريب.
وبعد أيها المسلمون: {فإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرا} وإن في رحم كل ضائقة أجنة انفراجها، ومفتاح حلها، وطريق ذلك -بإذن الله- دينٌ صحيح، وعقلٌ مستنير، ومبضع جراح، وحرقة والدة، وعلى الله قصد السبيل، وهو الغالب على أمره: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(52/7)
أهمية المراجعة والاعتراف بالأخطاء
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، أحمده سبحانه وأشكره، ليس لفضله منتهى، ولا لإحسانه حد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إرغاماً لمن كفر به وجحد، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بالفضائل تشرف، وبالكمالات انفرد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، كانوا للدين أعظم مستند، والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
فإن من صعاب الأمور قيادة الأمم أعقاب الهزائم، وإحياء الأمل بعد الانكسارات، ولكن الرجال يستسهلون الصعب، ويصابرون الأيام حتى يجتازوا الأزمات.
نعم.
إن الأمة الحية اليقظة لا تكف عن مراجعة أمرها، وقياس أدائها في أصولها وأساليبها، كما لا تمل البحث عن المعوقات والحلول.
إن الأمة بحاجة إلى امتلاك الشجاعة الكافية للاعتراف بالأخطاء، والتقصير في مسيرتها، وهي بحاجة إلى التفريق الدقيق بين الأعراض والأمراض، حتى لا تعالج المظاهر والأعراف، وتهمل الحقائق والأدوار.
لقد كشفت الأحداث المتوالية على الأمة اضطراباً في الفهم، واهتزازاً في قراءات الأحداث، واستسلام كثير للتضليل الإعلامي الذي يدير آلته العدو، مما أثار اللبس، وأشاع الشبهات، فأنتج -مع الأسف- استسلاماً في بعض المواطن لأهواء الأقوياء، ولضغوطٍ إعلامية على صوتها.
أيها المسلمون: الإصلاح يبدأ بالنفس، وليس بضجيج الإعلام، ولا هتاف الجماهير، ولا اندفاع الجمهور: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
إن الإصلاح يكمن في صلاح القلوب، وارتباطها بعلام الغيوب.
خضوعٌ تامٌ لله الواحد القهار، عبادةً وتذللاً، وانقياداً وتسليماً.
إن أهل الإسلام -وهم يعيشون أيام هذا الشهر المبارك- أولى ما يكونون في التوجه نحو الإصلاح، وأولى الأولويات البدء بإصلاح النفس، فلتكن -يا عباد الله- هذه الأيام المباركة مواقف صدق، ولا سيما هذه العشر الأخيرة، إنها من أرجى الأوقات، وأحرى ما يؤمل المسلم من خيرٍ وفضلٍ وصلاحٍ وإصلاح، وإن لكم في نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم لأسوة حسنة؛ فقد كان يخلط العشرين بصلاة وصوم، فإذا كان العشر شمر وشد المئزر، وحسبها فضلاً ما يرجى فيها من ليلة القدر: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:2 - 3] {من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه} حديثٌ مخرج في الصحيحين.
أيها المسلمون: إن شهركم قرب رحيله، وأزف تحويله، وقوضت خيامه، فبادروا بالتوجه، واجتهدوا في حسن الختام، ودعوا شهركم بالتوبة إلى الله، والإنابة إليه: {وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون} ومن خير أعمالكم: إخراج زكاة الفطر: فهي طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل صلاة العيد فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات، فأخرجوها رحمكم الله طيبة بها أنفسكم.
عباد الله: هذا شهركم قد أذن بالرحيل، وفي بقيته للعابدين الجادين مستمتع، فهل من قلبٍ يخشع، وعينٍ تدمع، وعملٍ صالح يرفع؟
ويا ويح قلوبٍ خراب بلقع، تراكمت عليها الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع!!
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وسارعوا إلى مغفرة من ربكم، ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمدٍ رسول الله فقد أمركم بذلك ربكم فقال في محكم تنزيله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة أعداء الملة والدين، وانصر اللهم عبادك المؤمنين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفق إمامنا وولي أمرنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، وارزقه البطانة الصالحة، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويهدى فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم اجعلنا ممن صام هذا الشهر وقامه إيماناً واحتسابا، اللهم تقبل صيامنا وقيامنا، اللهم وفقنا لقيام ليلة القدر، واكتب لنا فيها عظيم الثواب، وجزيل الأجر يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك، وإعزاز دينك، اللهم انصرهم في كل مكان، يا رب العالمين! اللهم انصرهم في فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم سدد سهامهم، وآراءهم، واجمع كلمتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم.
اللهم عليك باليهود الغاصبين المحتلين فإنهم لا يعجزونك، اللهم وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم إن بالبلاد والعباد من البلاء واللأواء ما لا يكشفه إلا أنت، اللهم إنا خلقٌ من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(52/8)
حديث في التربية
إن الرجال تُصنع صنعاً، ولكن صناعتهم أشق من صنع الآلات وأخطر، وبحسن صناعتهم تنال الريادة في الأرض، والقيادة في الأمم، والصدارة في الشعوب، ولكي يكون هذا الصنع وهذه التربية ناجحة فلابد من معرفة أسس هذه التربية والصناعة ومعالمها.(53/1)
مفهوم التربية
الحمد لله المنعم على خلقه، المتكفل لكل حي برزقه، أحمده سبحانه وأشكره على إنعامه الجزيل، وأستغفره وأستهديه وهو حسبنا ونعم الوكيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من وحد ربه، وملأ باليقين والإخلاص قلبه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، المبعوث بالهدى، والمنقذ بإذن ربه من الردى، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار من المهاجرين والأنصار، ما تعاقب الليل والنهار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: -
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، حيثما كنتم، واحذروا سخطه وغضبه، فهو سبحانه يعلم ما أخفيتم وما أعلنتم، وشؤم الذنوب عظيم، وعقبى المعاصي وخيم، فاتقوا الله ربكم واحذروها، وزكوا أنفسكم بالتوبة وطهروها.
أيها المسلمون: خص الله بني آدم بالخلافة في أرضه، لما خصهم به من الإدراك والمعرفة، وعلّم آدم الأسماء كلها، كما خصهم سبحانه بأدواتها ووسائلها من السمع والبصر والفؤاد: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].
فالسمع وسيلة لمعرفة ما اكتسبه الآخرون، والبصر وسيلة للإضافة والتنمية والتطوير، أما الفؤاد فأداة التنقية من الأدران، والتخليص من الشوائب، واستخلاص العبر والنتائج، وهذه القوى الثلاث إذا ما تضافرت أنتجت بإذن الله المعارف الحقة، والعلوم النافعة: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الاسراء:36] ومن أجل هذه فإن الريادة في الأرض، والقيادة في الأمم، والصدارة في الشعوب، فازت بها فئات من الرجال، وطبقات من الناس استطاعت التفوق على غيرها، وإحراز قصب السبق في ميادين العلم والمعرفة، والأخلاق والآداب، والرجال في هذا الباب تصنع صنعاً، في صناعة أشق من صنع الآلآت وأخطر.
وإن في قول الحق سبحانه وتعالى في شأن نبيه وكليمه موسى عليه السلام: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] إشارة بديعة إلى ما تحتاجه تلك الصناعة من لطف إلهي، وعناية ربانية.
إن الرجال يصنعون صناعة أي صناعة! إن لكل أمة محترمة، ولكل شعب متحضر مبادئ وأعرافاً، وأحكاماً ونظماً ترتب علاقاته بين أفراده، وعلاقاته مع الآخرين، كل أمة محترمة تضع الخطط والمناهج لإيجاد مناخ سليم لإعداد الأجيال الناشئة، لتلقي تلك المبادئ والنظم، والإيمان بها، والغيرة عليها، والدفاع عنها.
أيها الإخوة: إن ذلك كله لا يكون إلا بالتربية، إن التربية -أيها الإخوة- هي التكامل، وهي التطور، وهي الاستمرار، وهي التغير.
التربية بإذن الله تحدد طريق السعادة كما تحدد طريق الشقاء، إنها صورة مجتمع في قيمه وأعرافه، ومثله وأخلاقه.
التربية هي الإعداد للحياة، وصقل العقول، وتهذيب السلوك، وتنمية الذوق الرفيع، والتدرج في مراقي الكمال الإنساني، إنها غرس ودرس، وغاية ورعاية، وعطاء ونماء، تربية دقيقة جادة تقوم على بناء المجتمع، وتصحيح الخاطئ من مفاهيمه، وإقامة المعوج في سلوكه.
تربية تجمع بين سلامة المعتقد وتأديب النفس وتهذيب العقل وبناء الجسم.
التربية هي التي تعمل على تماسك البناء الاجتماعي، وتحقق أمن الفرد، وتشبع حاجاته.
التربية وسيلة توحيد الأمة، وربط أفرادها بغايات عليا، ومصير مشترك، تحفظ الماضي المجيد، وترسم المستقبل المأمول، إنها العقيدة والنظام، والقيم التي تميز الأمة وتأكد استقلالها، بل هي سبيل تميزها وتفوقها.
إنها عملية تبدأ من قبل الولادة لتنشئ جيلاً هم محاضن التربية، وهم عناصر الثبات والتغير في الأمة، إيجاباً كان ذلك أو سلباً: {ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه} ومهمة التغير والثبات التي تراد للأجيال ليس لها أداة إلا التربية، بكل معانيها ووسائلها، وميادينها وساحاتها، في البيت وفي السوق، في المدرسة وفي المسجد، في المكتب والمتجر، في الكتاب والمذياع، في المقروء والمسموع والمشاهد.
ومقوماتها وأسسها منهج في الدين والعقيدة، وقدوة حسنة في الوالدين والأقربين والأصدقاء والمعلمين، علوم ومعارف متجددة تتوافق مع الطبيعة وتتماشى مع الحاجة.(53/2)