فوائد التوبة(21/8)
تحقيق رغبات التائب في الدنيا
كذلك من فوائدها: أنها مقتضية لنيل ما يرغب فيه الإنسان في حياته الدنيا، فهي سبب للتوسعة في الرزق، وللبرء من الأسقام، وللحصول على الأموال والأولاد، كما قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:10 - 14].(21/9)
حصول السعادة
كذلك من فوائد هذه التوبة أن التائبين قد نالوا حظهم، وأخذوا بعض ما يرغبون فيه، فوفقوا بعد ذلك للتوبة فكانوا سعداء بهذا؛ لأن العبرة بالخواتيم لا بالمبادئ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، فلذلك العبرة هنا بالخواتيم، ولو لم يبق من عمر الإنسان إلا ما هو بمثابة الذراع من الثوب فإذا وفقه الله سبحانه وتعالى فيه للإحسان، كان ذلك خيراً من كل ما مضى من أيام حياته، وفي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقد حضره العدو، فقال: يا رسول الله! أسلم وأقاتل أم أقاتل ثم أسلم؟ قال: أسلم ثم قاتل.
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
فجرد سيفه فقاتل فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد عمل هذا قليلاً وأجر كثيراً) عمل عملاً يسيراً لكنه كان ختام حياته، وأجر كثيراً بسبب ذلك، فقد أصبح في الدرجات العلى لأنه أصبح من الشهداء، وهم الذين يلون الصديقين والأنبياء، ومن حسن عمله بعد أن كان فرط فهو من السعداء بذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد اختار له أن يكون من أهل الجنة، فتأتي اللحظات الأخيرة فتكون مغيرة لما قبلها، كما قال ابن الطثرية: ألا قل لأرباب المخائض أهلموا فقد تاب مما تعلمون يزيد وإن امرأ ينجو من النار بعدما تزود من أعمالها لسعيد فيسعد الله سبحانه وتعالى من شاء في هذه اللحظات الأخيرة.(21/10)
التوبة سبب للإحسان بقية عمر التائب
كذلك من فوائد التوبة أنها مقتضية للإحسان في بقية العمر، فإن كل إنسان يعلم أنه قد فرط في جنب الله في كثير مما مضى من حياته، وهو محتاج إلى أن يتدارك هذا العمر الذي ضيع أوله، ولذلك جاء في الأثر (إن عمراً ضيع أوله لجدير أن يحفظ آخره)، فكثير منا ضيعوا ما مضى من أعمارهم، فبقية العمر جديرة أن تحفظ، يقول أحد العلماء: بقية العمر عندي ما لها ثمن ولو غدا غير مرغوب من الزمن يستدرك المرء فيه كل فائتة من الزمان ويمحو السوء بالحسن والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)، والإنسان محتاج إلى أن يتبع سيئاته الماضية بما يكفرها من الحسنات، وأولئك الذين تابوا توبة نصوحاً هم الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات، بمعنى أنه يوثقهم بأن يصرفوا الوقت الذي كانوا يصرفونه بالمعصية في الطاعة، فتكون تلك الحسنات بدلاً عن السيئات التي كانوا يعملونها فيما مضى من أعمارهم.(21/11)
إعانة التائب على الطاعة
كذلك من فوائد التوبة أنها تعين الإنسان على الطاعة، فكثير من الناس اليوم مقتنع بأن عليه أن يكون من العابدين الطائعين لله المبادرين إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ولكنه عاجز عن ذلك لا يستطيعه، والذي حال بينه وبينه هي الذنوب، فهو مكبل بذنوبه، وهذه الذنوب قيد عظيم تحول بين الإنسان وبين الطاعة، فإذا تاب الإنسان منها كسر كبلاً، وإذا كسر كبله أسرع في الخطو، وإذا أتى الله مشياً أتاه هرولة، ومن هنا فإن ما نشكوه من قسوة القلوب وتكاسل الجوارح عن الطاعات من علاجه التوبة والاستغفار.
ولهذا فالحسنات تنقسم إلى قسمين: حسنات أصلية، وحسنات جزاء، والسيئات كذلك تنقسم إلى قسمين: سيئات أصلية، وسيئات جزاء.
فالحسنات الأصلية هي ما يقبل العبد به على الله سبحانه وتعالى طائعاً يريد وجه الله والتقرب إليه.
وحسنات الجزاء هي ما يوفقه الله له بعد ذلك من الطاعات، فيعمل العبد حسنة صغيرة جداً هي من أقل درجات شعب الإيمان، كأن يميط الأذى عن الطريق، لكنه فعل ذلك مخلصاً لله، فيوفقه الله لحجة مبرورة، أو يوفقه لجهاد في سبيل الله بالمال، أو يوفقه لشهود صلاة في المسجد قد كتب الله أن كل من شهدها في المسجد يغفر له، أو يوفقه لعمل صالح من الأعمال المستمرة التي تبقى بعد الموت كالوقف، أو الولد الصالح الذي يدعو له، أو النفقة الجارية بسبب عمل يسير جداً كان قد عمله، كإماطة الأذى عن الطريق أو نحوها، فالله سبحانه وتعالى يجزي على الحسنات جزاءً مضاعفاً أنواعاً منوعة، ومنه جزاء دنيوي وجزاء أخروي، وأعظم الجزاء الدنيوي أن يوفق الإنسان للازدياد من الخير.
لذلك فالحسنات يتبع بعضها بعضاً، فمن تجرأ على أن هزم الشيطان وهزم نفسه فترك المعصية وبادر للطاعة فإن ذلك معين له للاستمرار على هذا الطريق، ومن كانت عقده منكوثة كلما عقد العزم على الاستمرار على الطاعة والهداية وجد هذا العزم منتكثاً رجع أدراجه فهو متصف بصفة من صفات المنافقين: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:143].(21/12)
التوبة سبب للانكسار بين يدي الله
كذلك من فوائد هذه التوبة أنها مقتضية للانكسار والأدب بين يدي الله، فالمؤمن محتاج إلى حسن معاملة الله سبحانه وتعالى، أن يعامل الله معاملة صحيحة، ولا يتم ذلك إلا بالتوبة؛ لأنها مفتاح باب المعاملة، فمن لم يدخل من هذا الباب لا يمكن أن يوفق للشكر -مثلاً- ولا للصبر ولا لتحقيق الخوف والرجاء، بل لا يتم هذا إلا من طريق الباب الذي هو التوبة؛ لأنه بمثابة الطهارة للصلاة، فالصلاة أعظم ما فيها السجود بين يدي الله، والقراءة في حال القيام، لكنها ما لم يتنظف الإنسان قبلها ويتطهر لغو ومردودة على صاحبها.
فكذلك هذه الأعمال إذا لم تسبقها هذه التوبة التي هي طهارتها، فالتوبة طهارة القلب، كما أن الوضوء طهارة الجوارح، إذا لم تسبقها هذه التوبة فهي مثل الصلاة الباطلة التي لم يسبقها وضوء.(21/13)
اقتضاء التوبة تقصير الأمل
كذلك من فوائد هذه التوبة أنها مقتضية من الإنسان تقصير الأمل، والإقبال على الله سبحانه وتعالى بوجل؛ لأن التائب يريد أن يختم له بالحسنى، فيتذكر أن كل وقت بالإمكان أن يكون خاتمته، وكل ساعة تنتهي فيها آجال عدد كبير من الناس، ويأتي فيها الموت فجأة لكثير من الناس، وليس لدى كل واحد ضمان من الله أن لا يأتيه الموت في ساعته هذه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]، ومن هنا فكل ساعة تمر علينا من المحتمل أن تكون خاتمة بعضنا، فمما يعين على تذكر هذا وتقصير الأمل أن يكون الإنسان من التوابين، ولهذا افتتح الله سبحانه وتعالى وصف عباده المرضيين بذكر هذه التوبة، فقال تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:112].(21/14)
اقتضاء التوبة حسن الخلق مع الناس
كذلك فإن من فوائد هذه التوبة أنها مقتضية من الإنسان حسن الخلق حتى مع الناس، فالتائب منكسر، والمنكسر نادم على ما مضى، ومغير لبعض سلوكه وتصرفاته، وهذا التغيير مقتضٍ لتغيير حاله؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد:11]، فيغير الله حاله بتوبته.(21/15)
تثبيت الإيمان
هذه التوبة لها فوائد كثيرة جداً يحتاج إليها ابن آدم، وأعظم هذه الفوائد أنها تثبيت للإيمان؛ لأن الإنسان الذي يجاهر الله بالمعصية ثم لا يتوب بعد ذلك عرضة لأن يختم له بخاتمة السوء، ولهذا فمن أصر على الذنب إلى وقت الموت فقد عمل بعمل أهل النار، ومن عمل بعمل أهل النار فهو ميسر لها: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، ومن تاب تاب الله عليه.(21/16)
العوائق التي تحول بين العبد والتوبة(21/17)
قتل النفس التي حرم الله بغير حق
كذلك مما يقتضي عدم التوبة قتل النفس التي حرم الله بغير حق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، والله تعالى يقول في كتابه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، والخلود يقتضي من الإنسان الموت على الكفر وسوء الخاتمة، فمعناه أن من تجاسر على قتل مؤمن دون حق فهو -نسأل الله السلامة والعافية- سيوفق للموت على خاتمة السوء ويقاد لها، ومن هنا لا يوفق للتوبة.
إذاً فهذه عوائق تحول دون التوبة، وينبغي أن نعلم أن التوبة يمكن أن تتم مع التكرار، كمن وقع في ذنب استزله الشيطان إليه فبادر بالتوبة وأحسن توبته، ثم بعد فترة استزله الشيطان ثانية للوقوع في ذلك الذنب من غير أن يكون عازماً على مراجعته فتاب وأحسن، فتوبته مقبولة، ولذلك أخرج البخاري في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد يذنب فيقول: يا رب! أذنبت وعلمت أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وقد استغفرتك وتبت إليك فاغفر لي.
فيقول الله: قد فعلت.
ثم يمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يذنب، فيقول: يا رب! أذنبت وعلمت أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وقد استغفرتك وتبت إليك فاغفر لي.
فيقول الله: قد فعلت.
ثم يمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يذنب، فيقول: يا رب! أذنبت وعلمت أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وقد استغفرتك وتبت إليك فاغفر لي.
فيقول الله: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، لا يضر عبدي ما فعل بعدها أبداً)، فيحل الله عليه رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده.(21/18)
هجران المساجد
كذلك مما يمنع من التوبة هجران المسجد، فالذي لا يشهد الجماعة في المساجد لا يوفق للتوبة من كثير من معاصيه؛ لأن عدم شهود الصلاة في المساجد مدعاة لسوء الخاتمة، كما أخرج مسلم في الصحيح عن ابن مسعود: (من سره أن يلقى الله مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن؛ فإنهن من سنن الهدى، وإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى).(21/19)
كون الإنسان من أعوان الباطل
كذلك مما يحول دون التوبة ويقتضي من الإنسان الإصرار والاستمرار أن يكون الإنسان من أعوان الباطل، فالذي هو من أعوان الباطل سيفتن بالاستمرار على ذلك حتى يندم حيث لا ينفع الندم، ولهذا أخرج عبد الرزاق وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سيستعمل عليكم أمراء يظلمون الناس ويؤخرون الصلاة عن أوقاتها، فمن صدقهم في كذبهم أو أعانهم على ظلمهم فلن يرد عليّ الحوض) هؤلاء يطردون عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تطرد غرائب الإبل.(21/20)
البدعة
كذلك مما يحول دون التوبة البدعة، فالمبتدع قلما يتوب من بدعته، وإنما يتوب من بدعته من كان مغروراً بها وكان صادق التوجه من قبل.
فغر بالوقوع في البدعة، أما من جاءها بقلب مستسلم فإنه سيعجب بتلك البدعة، ولا يمكن أن يراجع نفسه فيها، ولا يستطيع أن يتحمل نقداً لها ولا كلاماً فيها، ومن هنا لن يتوب منها أبداً، حتى لو كان من أهل الصلاح والالتزام؛ لأن نفسه لا تقبل مناقشة في ذلك المجال، ولو رجع هذا إلى إيمانه لوجد أن الله سبحانه وتعالى أثنى على أهل الصلاح فقال: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18]، وليس له أن يصر على الإنكار، ولا على عدم المناقشة، بل إذا كان ما معه من الحق البين الذي عليه برهان من الله فإنه لا يخاف المناقشة فيه؛ لأنه صاحب حجة وبيان، أما إذا كان داحضاً باطلاً فهو الذي يتهرب صاحبه من المناقشة فيه، ولا يجرؤ على ذلك؛ لعلمه أنه يمسك بحبائل العنكبوت، فيخاف أن يتخرق عليه.(21/21)
عقوق الوالدين
كذلك مما يحول دون التوبة ويمنعها عقوق الوالدين، فإن من عق والديه متوعدٌ بأن يموت على خاتمة السوء، حتى لو كان ساعياً للخير وعاملاً به فقد فرط في حق أكبر الناس عليه وأولاهم به، ومن هنا فإنه يحال بينه وبين التوبة في آخر عمره، نسأل الله السلامة والعافية.(21/22)
المن والنميمة
ومثل ذلك المنان والنمام الذي يحمل النميمة، فإنهما لا يتوبان كذلك؛ لأنهما متوعدان بالنار على وجه الخلود، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم من حديث معاذ بن جبل -: لا يدخل الجنة قتات)، والقتات: هو النمام الذي يحمل النميمة.
وكذلك قال: (لا يدخل الجنة عاق لوالديه ولا منان ولا نمام).
فهؤلاء الذين لا يدخلون الجنة لا يوفقون للتوبة؛ لأن هذه التوبة بحد ذاتها ليست كفراً أكبر مخرجاً من الملة، ولكن معنى النصوص أنها مقتضية لسوء الخاتمة، نسأل الله السلامة والعافية.(21/23)
أكل الحرام
كذلك مما يحول دون التوفيق للتوبة أكل الحرام، فالذي يعيش من حرام لا يستجاب دعاؤه، ومن دعائه الاستغفار، ولذلك كُلْ ما شئت فمثله تعامل، واصحب من شئت فإنك على دينه، فالذي يعيش من حرام كيف يوفق لتوبة الله ولأن يكون من أهل الجنة وزاده كله حرام؟! ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب.
ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك!)؟ فكل لحم نبت من حرام فالنار أولى به، ومن عاش بالحرام فإن معاشه أول ما يصل إلى جوفه منه سيكون ناراً على قلبه يحجبه عن مشاهدة أنوار التوبة، وبذلك لا يتوب ما دام الحرام في بطنه.(21/24)
قرناء السوء
كذلك مما يحول بين الإنسان وبين التوبة أن كثيراً من الناس يسلط الله عليه قرناء السوء فيحولون بينه وبين الخير، فيشجعونه على المعصية والاستمرار عليها، بل إذا رأوه منكسراً تائباً حاولوا تعييره ليتجلد على معصيته، نسأل الله السلامة والعافية، وهؤلاء ستقام العداوة بينهم يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27 - 29]، وقال تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
وكثير من الناس يأخذ هؤلاء القرناء جل وقته وجل اهتمامه، ولا يكاد يوفق لطاعة في حضرتهم، بل لا يوفق له من الطاعات إلا ما استرقه استراقاً من هؤلاء.
واختلسه اختلاساً.(21/25)
الجهل
كذلك مما يحول دون التوبة الجهل، فإن كثيراً من الناس يجهل ما أوجب الله عليه وما حرم، ولذلك إذا وقع في الذنب لم يستشعر أنه وقع في معصيته؛ لأنه لم يعرف أن هذا محرم، وإذا أهمل طاعة لم يتب من ذلك؛ لأنه لم يستشعر أنه ترك واجباً، ومما يعين على الجهل قادة الفتنة، وعلماء السوء الذين يبيحون للإنسان ما حرم الله عليه فيطيعهم بذلك اتباعاً للهوى.
وعلى الإنسان حينئذ أن يراقب هواه؛ فإنه إن مال وراءه كان إلهاً: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص:50]، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23]، فالذي إذا قال له ناصح: هذا حرمه الله عليك، وهو طريق من طرق النار.
وقال له آخر: بل هذا من الأمور الجائزة.
أو: يمكن أن أجد لك فيه رخصة.
أو: قال فلان وفلان بإباحته فرأى نفسه مائلة إلى المبيح لا إلى المحرم فقد اتبع هواه بغير هدى من الله.(21/26)
طول الأمل
كذلك فإن مما يحول بين الإنسان وبين التوبة طول الأمل، فكثير من الناس يسوف ويعقد الشيطان على قافية رأسه عقدة، ولا تزال هذه العقد تزداد، ففي كل نومة يعقد الشيطان ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: إن عليك ليلاً طويلاً فنم.
فيستيقظ الإنسان وهذه العقد موجودة، فإذا لم يحلها ونام نومة أخرى عقد الشيطان ثلاث عقد أخرى، وهكذا حتى يكون على الإنسان شبكة من عقد الشيطان، فتكبله هذه الشبكة، وتحيط به من كل جانب، وإنما تحل العقد العقدة الأولى بذكر الله، والثانية بالوضوء، والثالثة بالصلاة، فإذا حل الإنسان العقد تخلص من شراك الشيطان وحبائله، وأصبح طيب النفس مقبلاً على الطاعة، وإذا استمر زادت عقد الشيطان وأخلد إلى الأرض ودعاه هذا إلى ترك طاعة الله سبحانه وتعالى، ولا يزال الشيطان يغرَّه حتى يأتيه الموت وهو على حالة لم يكن يرضى أن يموت عليها.
ولذلك فإن كثيراً من الذين عرفت أحوالهم عند الموت حصلت لهم عجائب جداً، فأذكر أن شاباً خرج مسافراً في سفر معصية، وقد أطال له الشيطان أمله، وأخبره أنه شاب في مقتبل عمره، وأنه ما زال أمامه عمر طويل يمكنه أن يحسن وأن يتوب وأن يرجع بعد هذا، فسافر ذلك السفر، وكان على موعد فيه مع ملك الموت وهو لا يشعر، فلما جاءه الموت انكسر انكساراً شديداً وحصل له رعب شديد، وقال: أين الأمان الذي كنت أتمناه؟! وأين المشاريع التي كنت أخطط لها؟! وأين كل الآمال التي كنت أعلقها؟! قد ذهبت خلال لحظات يسيرة! ومثل هذا يحصل لمن كان يؤمل آمالاً كبيرة فيفاجئه الموت دون ذلك.(21/27)
تأخير التوبة
ومما يحول دون هذه التوبة أن كثيراً من الناس إذا اقترف الذنب حاول تأخير التوبة لغده لملذة ذلك الذنب، أو لتطويل أمل عارض، أو لانشغال عن التوبة بأمر من الأمور، فكثير من الناس ينشغلون، فينشغل تفكيرهم بانشغال أبدانهم وتعطل طاقاتهم بذلك الانشغال، ومن هنا لا يجدون وقتاً للرجوع، ولا للتوبة، ولا للتفكير؛ لأن التوبة لا تكون إلا بعد تفكر وإدراكٍ للمخاطر المترتبة على عدمها، وإدراك لعظمة من عصيت وخالفت، فكثير من الناس منشغلون عن التفكير في هذا أصلاً، كما قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:105 - 106].(21/28)
الجرأة على الذنب
كذلك من هذه الأمور التي تحول دون التوبة الجرأة على الذنب، فإن لله سبحانه وتعالى برهاناً في قلوب عباده المؤمنين، هو النور الرباني الذي يحول بين الإنسان وبين اقتراف معصية الله، فيتذكر إذا مسه طائف من الشيطان، وإذا عرضت عليه النفس الأمارة بالسوء سوء ذكر الله، وإذا عرض عليه أي ذنب من الذنوب ذكر الله ففر منه وتركه.
وأحوال الناس في هذا البرهان متفاوتة، فمنهم من يقوى البرهان الرباني في نفسه فلا يقارف المعصية ولا يسمع لها صوتاً ولا يرى لها حركة ولا يشم لها رائحة، وهؤلاء محفوظون من الوقوع في المعاصي، ومنهم من يستزله الشيطان ولكنه يتذكر فيتوب ويرجع، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]، ومنهم من تعجبه المعصية يسمعها من غيره، وتكون مشاركته حينئذ الإقرار والسكوت، ولكن من رضي وتابع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من يشارك فيها ولا يكون رأساً، ولكنه يكون ذنباً في المعصية، ومنهم رؤساء المعصية وقادتها، نسأل الله السلامة والعافية.
وكل هؤلاء درجاتهم متباينة في هذا البرهان الرباني الذي يحول دون المعصية، فلذلك قد ينزع هذا البرهان بالكلية من قلب الإنسان وهو أمانته، فينام الرجل النومة فيسرى على الأمانة فتنزع من قلبه، فيبقى أثرها كالوكت كجمر دحرجته على رجلك فنفط وانتفخ فتراه منتبراً وليس فيه شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، نومة واحدة ينامها الإنسان فيسرى على الأمانة فتنزع من قلبه.
ويكثر هذا في آخر الزمان، فمن فتن آخر الزمان أن تنزع الأمانة، ولذلك قال حذيفة: (اثنتان حدثنا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أحدهما فقد رأيناه، وأما الآخر فنحن ننتظره، ولقد مضى عليّ زمان وما أبالي من بايعت منكم، لئن كان مؤمناً رده عليّ إيمانه، وإن كان ذمياً رده عليه ساعيه، وأما اليوم فقد أصبحت لا أبايع إلا فلاناً وفلاناً)، وذلك بنزع الأمانة حتى في المعاملات في أمور الدنيا، ومن هنا فعلى كل منا أن يحاسب نفسه، وأن يتذكر أوقاتاً كان فيها يجد حاجزاً يحول بينه وبين المعصية، ويتذكر أوقاتاً أخرى يخف فيها ذلك الحاجز فيتجرأ فيها، وحينئذ سيعلم أن إيمانه يخلق ويجد فيراقب ذلك، ويسعى لتقوية إيمانه وتجديده، ومحاولة الانقطاع عن كل ما يقتضي ضعفاً في الإيمان وخرقاً له؛ لأن المشكلة أن هذا الإيمان إذا انخرق اتسع الخرق على الراقع، وصعب على الإنسان إعادته كما كان، كما قال الحكيم: فهل تهاب العفو عن كل زلة فأين مقام العفو من منزل الرضا فمعدن ترجو زوال سواده كثوب جديد لم يزل قط أبيضا ولهذا مثل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الطريق بطريق بين سورين، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور، وفوق الستور داعٍ يقول: يا عبد الله! لا تلج الباب؛ فإنك إن تلجه لم تخرج منه.
هذه الأبواب المفتحة هي الذنوب، والستور التي عليها ستر الله الذي يحول بين الإنسان وبين الوقوع فيها، فمن ولج الباب لم يستطع الخروج منه، فتزل به قدمه إلى ما وراء ذلك، نسأل الله السلامة والعافية والثبات، ومذكر الله وداعيه يذكر أهل الإيمان بهذا.(21/29)
المجاهرة بالذنوب
كذلك من هذه العقبات التي تحول دون التوبة الجهر بالذنب، فالمجاهرة بالذنوب يعتبرها بعض الناس شجاعة، وبذلك يجاهر أمام الناس بذنبه ليبدي لهم شجاعته وأنه لا يخاف أحداً ولا يستطيع أحد أن يغير عليه وليس لأحد عليه يد، لكنه يجهل في هذا الوقت ربه، ولا يتذكر قدرة الله الذي السماوات السبع والأرضون السبع في قبضة يمينه، والقلوب كلها بين أصبعين من أصابعه، وأنفس العباد كلها بيده متى شاء أخذها، ولهذا تجرأ عليه وتجاسر.
والإعلان بالذنب دعوة إليه، والدعوة إليه محادة لله تعالى، فالذي في قلبه فطرة الإيمان يشمئز ويقشعر من الذنوب، فإذا رأى ذنباً من الذنوب اشمأز منه واقشعر، لكنه سرعان ما تزول هذه القشعريرة بكثرة رؤية الإنسان للذنب وتكرره عليه؛ لأن كثرة المساس تزيل الإحساس.
وقد كان الناس إذا ذكر اليهود اقشعرت الأجساد واشمأزت القلوب، وتذكروا أنهم إخوان القردة والخنازير، لكن لم يزل الأمر بالتدريج يخف حتى أصبح كثير من الناس يشتري بضاعة اليهود ويأتي بها، وحتى أصبح كثير من الناس يعامل أفرادهم الذين يأتون، حتى أصبح بعضهم يتنفس فوق هذه الأرض الطاهرة التي ما عرفت من قبل أنفاس اليهود إخوان القردة والخنازير، فتزول هذه القشعريرة والاشمئزاز الذي كان في النفوس بكثرة المساس؛ لأن كثرة المساس تزيل الإحساس.
وإنك لتقشعر وتشمئز إذا رأيت امرأة تكشف عن رأسها في الشارع إذا كنت في بلد ما زال أهلها بخير، لكنه يأتي بالتدريج والتقسيط، فتنزع حجابها عن مقدمة رأسها، فإذا سكت الناس تجاوزت ذلك إلى ما وراءه حتى تنزعه بالكلية، وبذلك يتعود الناس على هذا الذنب، ويزول عنهم ما كانوا يجدونه في نفوسهم من كراهيته والاشمئزاز منه.
ومثل هذا ما كان حاصلاً عند الناس من كراهية الربا والتعامل به، والحرص على طهارة الكسب، فقد أدركنا الناس قديماً يتحدثون عن فترة مضت من حياة أهل بلاد كان الناس فيها يشمئزون من الذين يبيعون اللبن وهو في الضروع؛ لأنهم يعتبرون هذا رباً، وكان الهجاء يحصل به بين الناس، لكن اليوم أصبح الربا منتشراً، وأصبح القوي الشجاع هو الذي يتجرأ على الربا، ولم يعد أمراً يهجى به ولا منقصة لدى الناس؛ لأنهم قد تعودوا عليه وتجاسروا عليه، وأصبح معاش الناس منه، نسأل الله السلامة والعافية! ومن لم ينل منه ناله من غباره، وهكذا البدع كلها، فإنها تنشأ ضعيفة ملتوية كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم لا تزال تقوى إذا سكت الناس عنها ولم تجد رادعاً ولا منكراً، وكثير من المنكرات اليوم من تعرض لإنكارها اعتبر مجنوناً أو مخالفاً؛ لأن الناس أصبحت هذه المنكرات لديهم معروفة ولم تعد منكرات بسبب ترسخها ومضي الزمان عليها.
وهكذا في كل الأمور، فأي ذنب أعلن به الإنسان وجاهر فهذا مدعاة لئلا يتوب منه أبداً، نسأل الله السلامة والعافية، ومن هذا الجانب ينبغي التنبيه إلى الفتن، فهذه الفتن التي نعيش فيها لا يستشعرها كثير من الناس، فكثير من الناس يظن أن عقله محل ثقة، وأنه لا يمكن التلبيس عليه أبداً، وأنه سيتضح له الحق إذا رآه واضحاً، ويتضح له الباطل إذا رآه واضحاً، ولا يدع مكاناً للفتنة، لكن أهل الإيمان يخافون الكفر والنفاق ويخافون الفتنة، ويعلمون أنها حاصلة في الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم! إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)، لكن المفتونين اليوم إذا نبه أحدهم على شرك وقع فيه، أو على أمر مخالف لعقيدة النبي صلى الله عليه وسلم التي جاء بها قال: أنا لا أخاف على نفسي من الكفر، ولا من الشرك.
ونزه نفسه عن هذا، كأن لديه أماناً من الله من الفتنة.
إن هذه العقول لا يوثق بها أمام الفتن، فكم رأينا من إنسان يقدم على ما يخالف مقتضى العقل عندما يفتن؛ لأنه ينفذ فيه القدر، وإذا جاء القدر عمي السمع والبصر، والله تعالى يقول في كتابه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:109 - 111]، فلهذا يفتن صاحب المعصية المجاهر بها الذي يجاهر بها في البداية شهوة أو حباً للشجاعة والذكر، أو معاكسة للناس ومخالفة لهم، ويظن أنه سيعود ويرجع، ولكن الفتنة تأتي، وسيستمر على معصيته من حيث لا يشعر.(21/30)
الإصرار على الذنب
ثم من هذه العوائق كذلك التي تحول دون التوبة الإصرار على الذنب، وهو من أعظم العوائق وأشدها فتنة، فكثير من الناس لا يحول بينهم وبين التوبة إلا لذتهم التي تدعوهم إلى الإصرار على الذنب الذي هم فيه، وهذه اللذة يستشعرها الإنسان حال مقارفة ذنب، ثم تزول وتبقى التبعة، وهو لا يستشعر ذلك.
ولهذا فإن مما يزعج الإنسان يوم القيامة أن يرى في كفة سيئاته ذنوباً كثيرة قد ذهبت لذاتها وبقيت تبعاتها، يريد أن يخرج من مال محرم فيحول بينه وبينه أن نفسه تدعوه لجمع المال، ولديه شهوة للمال، فلا يستطيع ذلك، ويسوف ويؤخر، ويريد أن يترك عادة من العادات السيئة التي كان مصراً عليها ولكن نفسه لا تطاوعه لذلك؛ لأن هذه العادة قد صادفت هوى لديه، فيميل وراء هذا الهوى، ويريد أن يترك الغيبة أو النميمة وقد أصبحت عادة وخلقاً لديه، فلا تطاوعه نفسه لذلك؛ لأنه أصبح يشتهيها ويتلذذ بها.
فإذاً هذا الإصرار سبب للطمس على القلب والختم عليه؛ لأن الملائكة يرتفعون بالأعمال إلى الله سبحانه وتعالى فيقولون: يا رب! عبدك فلان اقترف الذنب الفلاني.
ثم يعودون في وقت آخر فيقولون: يا رب! عبدك فلان ما زال مصراً على الذنب الذي اقترفه في الصباح.
ثم في الصباح الآخر، وهكذا حتى تتراكم ذنوبه عند الله، وإذا تراكمت فمعناه أن العبد لا يستحي من الله، فيختم على قلبه ويمنع من الرجوع على أثره، فلا يتذكر ذنبه حتى يسقط من الهاوية، والله تعالى يمهل ولا يهمل، يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.(21/31)
استصغار الذنب
إن هذه التوبة التي لها هذا العدد وغيره من المزايا العظيمة التي الإنسان بحاجة إليها لا بد أن تكون دونها فتنة، ولا بد أن لا تكون أمراً سهلاً لا يشق على الناس، بل كل الأعمال التي يترتب عليها الأجر الكثير لا بد أن يكون دونها كثير من العوائق: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)، فلهذا لا بد أن نتعرف على العوائق التي تحول دون التوبة وإن من العوائق الكبرى التي تحول دون التوبة، استصغار الذنب، فكثير من الناس يستصغر ذنبه، فيرى أنه لا يستحق التوبة، وأنه ليس من المفرطين، وهذا دليل على نفاق في قلبه؛ لأن ذنب المؤمن كجبل فوق رأسه يخاف أن يقع عليه، وذنب المنافق كذباب نزل على أنفه فنفاه بيده هكذا.
ومن هنا فالمؤمن يستعظم ذنبه ولو كان يسيراً؛ لاستشعاره للن خالفه ومن وقع في معصيته، والمنافق يستصغر ذنبه ولو كان عظيما؛ لعدم استشعاره لهيبة الله سبحانه وتعالى.(21/32)
استكبار الذنب
كذلك من هذه العوائق التي تحول دون التوبة استكبار الذنب، فكثير من الناس ما يحول بينه وبين أن يتوب إلا أنه يستعظم ذنبه، فيرى أنه قد أوجب النار، وحينئذٍ يعد نفسه من أهل النار وأنه لا تنفعه توبة، نسأل الله السلامة والعافية، وهؤلاء أيضاً قد ذهب بهم الشيطان ذات الشمال فصدهم عن التوبة والطريق المستقيم؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، والله سبحانه وتعالى يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ومهما عظم الذنب فلن يكون أعظم من رحمة الله ومغفرته.(21/33)
التغيير والتحسن في الطاعة مطلوب من العبد
وكذلك ينبغي أن يعلم أن التذبذب في الأعمال كلها ممقوت شرعاً، وهو مقتضٍ لعدم القدرة على الاستمرار في الطريق، ولهذا فالتطور إلى الأحسن، وتغيير ما في النفس أمر مطلوب شرعاً، والله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ومن هنا فالإنسان الذي يتعود على عادة معينة ولا يستطيع مخالفة تلك العادة ولا خرقها فهو مأسور بها، فينبغي أن يتهم نفسه، وأن يتهم تلك العادة لعل فيها ما يلجئه إلى التوبة وهو لا يشعر به.
والإنسان الذي يستطيع تطوير نفسه وعلاج أخطائه ويعلم أنه غير معصوم، وأنه قابل للخطأ والصواب، هو الذي يوفق للتوبة.
ومن هذا المنطلق على الإنسان أن يحاول في كل فترة تمضي عليه من الزمن أن يكون عامه الجديد خيراً من عامه الماضي؛ لأنه ما زال في فسحة، فيمكن أن نكون في مثل هذا الوقت من العام الماضي قد سمعنا كلاماً مثل هذا، ولكن ما الذي أحدثناه؟! وهل عامنا هذا كان خيراً من عامنا الماضي؟! لا بد أن يحاول الإنسان الذي يريد أن يكون تائباً توبة نصوحاً أن يكون لاحقه خيراً من سابقه، وأن تكون سريرته خيراً من علانيته، وأن يزداد في الإيمان والعمل والتضحية وفي البذل في سبيل الله، فإذا قارن الإنسان بين سابقه وبين لاحقه فوجد سابقه خيراً من لاحقه فهذا مؤشر بسوء الخاتمة، وعليه أن يبادر بالتوبة منه والاستغفار.
فإذا كان الإنسان في عامه الماضي أنفق مبلغاً معيناً في سبيل الله، فراجع نفسه وحساباته في هذا العام فوجد إنفاقه في سبيل الله أقل من إنفاقه في العام الماضي فهذا مؤشر يقتضي منه أن يبادر بالتوبة، وأن يتدارك الوضع قبل أن يزداد سوءً.
كذلك إذا كان الإنسان في عامه الماضي قد وفق لطلب العلم، وحضر عدداً كبيراً من الدروس، وحفظ بعض الأحاديث والآيات، ووجد نفسه في هذا العام قد تراجع، وكان سيره أقل من سيره في العام الماضي، فهذا مؤشر، وعليه أن يبادر إلى التوبة قبل أن يختم له بالسوء.
وهكذا في كل الأمور، ومن هنا أوجه نداءً للأخوات المسلمات أن يطورن أنفسهن، وأن لا يرضين باليسير، وأن لا يكون هذا الكلام للتشهي ولا يصحبه عمل، ولهذا فينبغي أن يكون عامنا خيراً من سابقه، وأن تكون كل جلسة لنا مقتضية للإحسان فيما بعدها، وأن يكون ذلك خيراً مما سبق.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعل أعمالنا وأقوالنا ونياتنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يجعلنا أجمعين من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يرزقنا توبة نصوحاً، وأن يرزقنا عملاً صالحاً، وأن يحسن خواتمنا أجمعين.
اللهم! اختم بالصالحات أعمالنا، واختم بالحسنات آجالنا، واجعل خير أعمالنا آخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.
وصلى الله وسلم على نبينا وعلى آله وأصحابه أجمعين.(21/34)
نماذج من تضحيات علماء الشناقطة
العلماء ورثة الأنبياء، يختارهم الله لحمل دينه وتبليغه للناس، ومن هؤلاء العلماء الذين ضحوا كثيراً وجاهدوا في نشر العلم ورفع علم الدين علماء الشناقطة، إلا أنهم لم يشتهروا بين الناس، ولم يكن لهم في الدنيا ذكر كثير، بالرغم من شدة عنائهم وتحملهم الظروف القاسية في سبيل العلم منذ القرن الخامس، بل قبله.
وقد ذكر الشيخ في هذه المادة نماذج تدل على غيرها، وتنبئ عن جهود الشناقطة وتضحياتهم في حفظ العلم وإقامة الدين(22/1)
العلماء صفوة الله وورثة الأنبياء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى أقام الحجة على الناس بالرسل الذين أرسلهم مبشرين ومنذرين ليدلوا الناس على الطريق الذي يرتضي منهم خالقهم سبحانه وتعالى، فما من أمة إلا وفرط فيها رسول دعاها إلى ما يرتضيه منها خالقها سبحانه وتعالى.
وعندما ختم الله رسالات الرسل إلى أهل الأرض جعل العلماء ورثة الأنبياء، فجعلهم الحاملين لمشعل الحق والرافعين للوائه، يجاهدون في سبيله ويعلون كلمة الله سبحانه وتعالى بما يبذلون ويضحون، وقد يسرهم الله سبحانه وتعالى لذلك وأعانهم عليه، واختارهم اختياراً من بين خلقه، فقد قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، وقال تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51].
وقد اختار من خلقه أمناءه على الوحي الذين هم خلفاء الأنبياء وحملة هذا الوحي وأمناء الله عليه، وهم الموقعون عن رب العالمين، تقوم بهم الحجة لله على الناس، وقد قال فيهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: ما أحسن أثرهم على الناس، وما أسوأ أثر الناس عليهم!(22/2)
اختيار الله للأمناء على دينه وإعدادهم
إن أولئك الذين ائتمنهم الله سبحانه وتعالى على الوحي واختارهم من بين الخلق لإقامة الحجة هم أمناء الله سبحانه وتعالى، قد ارتضاهم لهذه الأمانة، فلم يكن ليجعل وحيه بدار هوان، إنما يختار لوحيه من يصلح لأن يؤتمن عليه.
ويعدهم الله سبحانه وتعالى لذلك إعداداً عظيماً قبل أن يكلفهم بهذه المهمات، وقد انتبه لهذا الإعداد أحد شعراء شنقيط وهو الحسني رحمه الله في قصيدته التي يصف بها الشيخ سديه ابن المختار رحمهم الله أجمعين حيث يقول: ما للمشيب وفعل الفتية الشببه وللبيب يواصي في الصبا خببه آلت لذي شمط الخدين رجعته إن القتير ليحمي ذو النهى طربه لما تأوب لي من طول ما جمحت نفسي هموم رمت صدري بما سلبه ناجيت فكري وقد أمعنت من نظري ثم استمر بي الرأي الذي اكتسبه أن يممت شرف الدين الكمال بنا علياء تعتسف الآكام والهضبة حتى وضعت عصا سيري بباب فتىً يؤوي الطريد ويولي الراغب الرغبة من نبعة طيب الباري أرومتها بيتاً أحل ذرى المجد العلا نسبه حارت أناس بجدوى حاتم ولقد نرى سخاء كمال الدين قد غلبه أحنى على الشعث والأيتام من نصب على صغير لها قد أكبرت عطبه أشد عند تمادي أزمة فرحاً بالمعتفين من العافي بكل هبة يلقى العفاة بوجه من سماحته كالهندوان تجلو متنه الجلبه وإن ألم به ضيف فمرتحل يثني وكان حميد الظن إذ رغبه ولى يفرق مدح الشيخ في فرق شتى ويكثر مما قد رأى عجبه رأى هنالك أخلاق الكرام إلى زي الملوك وزي السادة النخبة رأى مصرعة الأنعام قد قسمت بين الصفيف وبين الجونة الرحبه رأى الضيوف على باب الكمال كما يرى العفاة على عدّ حمت قلبه من معتفٍ وأخي حوجا وملتمس فصل القضا ومريد كشف ما حجبه أو كشف مسألة والكل قد وسعت جفانه ولكل منه ما طلبه فالله بارك في نفس الكمال وفي ما الله موليه من قصوى ومقتربة إن تستبق حلبات المجد راكضة نحو المعالي تراه سابق الحلبة لا يضمر الضغن من جار أساء ولا من المصاحب يوهي صبر من صحبه وكم ذءاً بينما حيي أصلحه خرز الصناع لمسنى أجرة قربه أما الرقاع فأعناق يجود بها والسير نصح بليغ يبتغي القربة رآه ذو العرش علام الغيوب لذا أهلاً فساق إليه قبله سببه فهنا انتبه إلى الاختيار الرباني للذين يأتمنهم الله على الوحي ويجعلهم أساطين الأرض يقومون بالحجة لله فيقولون كلمة الحق مدوية لا يخافون في الله لومة لائم، ويقومون لله بالقسط في عباده، فيؤدون الحق الذي عليهم بعد أن تحملوه، فأخذوه من حله ووضعوه في محله، وجاهدوا في سبيله، فلذلك قال: رآه ذو العرش علام الغيوب لذا أهلاً فساق إليه قبله سببه علماً وفهماً يصيد المشكلات به درك الطيرة من سرب المها عطبة(22/3)
تفريق الله للعلماء على البلاد المختلفة
إن أولئك الذين اختارهم الله سبحانه وتعالى لابد أن يتفرقوا في الأرض ضرورة؛ لأن الناس تفرقوا فيها وشغلوا، فلذلك لابد أن يكون في كل بلاد من بلاد الله من يحملون لواء الحق ويضحون في سبيله، ويبذلون كل ما يبذله الناس في أمور الدنيا في سبيل الله عز وجل وإقامة دينه.
ومن هؤلاء حملة العلم الذين آثروه على كل ما سواه، وبذلوا في سبيله أوقاتهم النفيسة، فكما ضحى المجاهدون بدمائهم في سبيل الله كذلك ضحى العلماء بمدادهم في سبيل الله، وكان لهم الدور البارز في تكوين المجاهدين والباذلين بمختلف أنواع البذل، فكم من عالم كتب له أجر الآلاف من المجاهدين والمضحين، وكم من عالم كذلك كتب لدعوته البقاء فاستجاب لها الملايين بعد موته، واستمرت خالدة في هذه الأرض ببركة إخلاصه لله عز وجل وقناعته بصدق ما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
إن هؤلاء الذين تفرقوا في الأرض لا يمكن أن يكون لبلد منهم ما هو أوفر من نصيب غيرهم من البلدان؛ لأن عدل الله سابق، لكن إنما تتفاوت حظوظهم باعتبار اعتراف الناس لهم بالجميل أو عدم اعتراف الناس لهم بذلك.
ومن هنا فعلماء قطر شنقيط الميامين الذين خاضوا مشارق الأرض ومغاربها حاملين هذا العلم ومبلغيه إلى كل من يمكن أن يؤتمن عليه، ومربين الأجيال على ما حملوه منه ثم يكن لهم في الماضي من الحظ لدى الناس ما ينقص أجرهم، فلم يشتهروا في حياتهم بالذكر والشكر في أغلب الأحيان، وإنما عاشوا في أغلب الأحيان مغمورين لا يعرفهم إلا أهل بلادهم.
واليوم في هذا الزمان الذي أصبح العالم فيه بمثابة قرية واحدة، وأصبحت الأنباء فيه تتناقل بما يسوء في أكثر الأحيان من مشارق الأرض إلى مغاربها ومن جنوبها إلى شمالها وبالعكس، كان جديراً بهؤلاء أن يذكر ما قدموه لعدة أمور: أولاً: اعترافاً بالجميل وشكراً للنعمة.
فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)، وفي رواية (لا يشكر الله من لم يشكر الناس)، فلابد أن يشكر الناس بما معهم من الحق.
وقد أمر الله بشكر ذوي النعم كالوالدين في قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14].
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك بالاعتراف بالجميل لأهله، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أمره بإنزال الناس منازلهم، ففي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (أُمرنا أن ننزل الناس منازلهم)، ومن المعلوم أن الصحابي الكبير إذا قال: (أمرنا) فالمقصود بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: أن هؤلاء العلماء قد اختارهم الله للائتمان على وحيه، فمن الثناء على الله ومن إعلاء كلمته ومن إعزاز دينه تشريفهم وتكريمهم، فهم أمناء الرسل وخلفاؤهم، فجدير بهم أن يذكروا وأن يبين فضلهم للأمة، وبالأخص في الأوقات التي تتعالى فيها صيحات المدعين الذين هم من الأدعياء الذين لا يبلغ أحدهم شسع نعل أحد من أولئك، ولا يمكن أن يصل إلى أقل شيء من تضحياته وبذله.
وفي الوقت الذي أصبح الخلف فيه يتنكرون للسلف فأصبحوا يظنون أنهم في غنى عما كان لدى أسلافهم، بل أصبح كثير من الناس يهرع في سباق محموم إلى حضارات أعدائه وثقافاتهم متنكراً لحضارات الأسلاف الذين هم -لا شك- أعقل وأزكى وأقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
كذلك فإن هؤلاء الأئمة رحمهم الله قد خلفوا مجداً عريقاً ينبغي أن يحيا في أذهان الجيل الصاعد ليعلموا أنهم ورثة لذلك الجيل، وليساهموا في إحياء ما أبقوه، وليسلكوا طريقهم، فقد كانوا مُثُلاً يحتذى بها ويقتدى بها في طريق الحق.
وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من كان مقتدياً فليقتد بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن فتنته.
فأولئك الأسلاف الذين شهد لهم بالاستقامة حتى ماتوا على طريق الحق جدير بهم أن تبين سيرهم للناس ليقتدوا بهم وليسلكوا طريقهم.
كذلك لاشك أن البلدان الإسلامية -وبالأخص البلدان الفقيرة- تشهد في زماننا هذا كثيراً من المؤامرات الدنيئة الخسيسة من قبل أعداء الله ورسوله، فهم يشوهون تاريخها ويحاولون قطع الشعوب عن ماضيها، ويحاولون شغلهم بما لا خير فيه، فإذا راجعت المقررات الدراسية التي يقرها المعهد التربوي المحترم في موريتانيا ستجد فيها كثيراً من أدبيات الفرنسيين وغيرهم وقليلاً من تراث المسلمين، وبالأخص التراث العلمي لهذا البلد العريق.
كذلك مما يحدو إلى بيان حال هؤلاء والتنويه بأمرهم أن آثارهم أيضاً في هذه الأمة مشهودة محمودة، فقد سافر عدد منهم، فكانت لهم الصولات والجولات في مشارق الأرض ومغاربها، وأبقوا الأثر المحمود الذي ينبغي أن يشتهروا عليه وأن يذكروا به.
كذلك مما لا شك فيه أن هؤلاء أيضاً من حقهم علينا أن نبين بعض مآثرهم وبعض كتبهم التي تركوها لعلها تجد من يهتم بها فيبحث عنها ويفتش عنها بين مكتبات أهل البادية، لعلها تخرج فيستفيد منها الجيل الصاعد، فكم من إنسان عثر على مخطوطة نادرة ولم يكن هو من أهل العلم فاختزنها في خزانة وبقيت حبيسة طيلة عمره حتى إذا مات اكتشفت وعرفت قيمتها.
ومع الأسف فإن هذا المجال سبق فيه أعداء الله عز وجل من المستشرقين من المنصرين واليهود، فهم الذين سبقوا للتنقيب عن المخطوطات ونشرها، لكن من الواضح أنهم في ذلك لا يقصدون إشهار العلم وإحياءه، وإنما يقصدون إذاعة المنكر وإشاعته بين الناس.
ولهذا فإنهم يبحثون عن الكتب المنحرفة، فيفرحون كثيراً إذا وجدوا كتاباً في الخمريات، أو في أشعار الغزل المنحرف، أو في الفلسفات المترجمة الدخيلة على الإسلام، أو بعض كتب الذين اندسوا في التاريخ ولم يكن لهم ذكر في تاريخ هذه الأمة، فيحاولون نشر هذه الكتب.
وإذا تجرد بعضهم فاطلع على مخطوطة نادرة من التراث المهم لهذه الأمة في مثل مكتبة (الإسكوريال) أو (دبلن) أو غيرهما من المكتبات الغربية الكبرى يحاول إخراجها محرفة، والأمثلة على هذا كثيرة، وبين يدي كتاب المصاحف لـ أبي بكر بن أبي داود السجستاني رحمه الله، وهذا الكتاب قد نشره أحد المستشرقين عن نسخة مخطوطة، لكنه تعمد التحريف فيه والتبديل بما لا يدع مجالاً للشك من أنه قاصد لذلك متعمد له، ونظير هذا كثير جداً.
ولذلك فإن الأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله عندما ألف كتابه المهم (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) فضح بعض سرائر هؤلاء المستشرقين، فناقش أحد المشاهير منهم وهو يوسف شخت عندما أراد أن يطعن في الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله فذكر أن مسلماً طعن فيه في مقدمة الصحيح، وأنه قال: كان عبد الله بن المبارك ثقة يأخذ عن كل من هب ودب.
وهذا المستشرق تعمد تحريف النص، فالنص في مقدمة صحيح مسلم هو كالتالي: قال عبد الله بن المبارك: كان بقية يأخذ عن كل من هب ودب.
وهذا تجريح من عبد الله لـ بقية، وبقية من الضعفاء، فغير هو الكلمة فقال: ثقة.
وجعل الكلام موجهاً إلى ابن المبارك فقال: وكان ثقة يأخذ عن كل من هب ودب.
بدل: وكان بقية يأخذ عن كل من هب ودب.
لكن الله فضحه أولاً بالتناقض، حيث لا يعلم أن من كان ثقة لا يمكن أن يأخذ عن كل من هب ودب، ثم بعد ذلك بما بينه الأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله.(22/4)
جهود عبد الله بن ياسين الجزولي في تجديد الدين ونشر العلم في المغرب
إن علماء بلاد المغرب العربي قد اشتهروا منذ القرن الخامس الهجري في بداياته عندما قدم إلى هذه البلاد عبد الله بن ياسين الجزولي رحمه الله داعياً إلى منهج الحق مجدداً للإسلام في هذه البلاد، فأقام أول حركة إسلامية عرفت في هذا البلد وهي حركة المرابطين، أقامها على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الوحيين الكتاب والسنة، وأخذ الناس بالعزائم وضحى التضحية الجميلة العجيبة، فإنه قد خرج مهاجراً من بلده لم يصحب أهلاً ولا مالاً، وما أخذ معه من بلاده إلا سيفه وكتابه.
ولما جاء إلى موريتانيا اعترضه أمراء القبائل، ووجد مضايقة من الملأ والكبار كعادتهم في استقبال كل دعوة وافدة، فمن المعلوم أن كبار كل أهل بلد يقفون دائماً في وجه الدعوات، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} [الأنعام:123]، فهم الذين يقفون في وجه الدعوات ويناصبون الأنبياء العداء ويناصبون كل من دعا إلى الله العداء، وهم الملأ الذين يريدون الحفاظ على الواقع المنحرف الذي تربعوا على عرشه فلا يريدون تغييره.
لكن الدعاة من سنة الله أن يستجيب لهم الضعفاء، وأن تستجيب لهم الطبقات المسحوقة، وأن يستجيب لهم الشباب، كما قال تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس:83].
وعندما سأل هرقل أبا سفيان بن حرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أضعفاء الناس اتبعوه أم أقوياؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم.
فقال: هم أتباع الرسل.
فأتباع الرسل في كل زمان ومكان والمستجيبون والمبادرون لهذه الدعوة في الغالب هم المسحوقون في أمور الدنيا يعوضهم الله عنها خيراً منها.
فإن الملأ يريدون الحفاظ على الواقع؛ لأن مصالحهم مرتبطة به، أما الشباب والمستضعفون فليست لهم مصالح واقعية يحافظون عليها، فلذلك يرغبون في الاستجابة للدعوة، وإذا رأوا الحق واضحاً لم يحل بينهم وبين اتباعه والاستجابة له بعض المكاسب أو الآمال الدنيوية.
عندما جاء ابن ياسين إلى بلاد موريتانيا هذه ووقف في وجهه الملأ استجاب له الشباب، فاختار منهم مجموعة قليلة رأى أنها أهل الجلد والصبر، وذكر أن هؤلاء الفئة القليلة يصدق عليهم قول الله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].(22/5)
طريقة ابن ياسين في التربية والسلوك
وقد أسكن أولئك الشباب في جزيرة شمال نواكشوط، وهي جزيرة (تيدرا)، و (تيدرا) بالعجمية البربرية معناها (المقبرة)، وذلك أنه يدفنها الماء في بعض فصول السنة فتختفي، وفي بعض الفصول يخف دونها الماء، فأسكنهم في هذه الجزيرة وفصلهم عن المجتمع المنحرف ورباهم تربية عميقة، فكان يجلد من تأخر عن ركعة من الصلاة عشرة أسواط، ومن تأخر عن ركعتين عشرين سوطاً، ومن تأخر عن ثلاث ركعات ثلاثين سوطاً، ومن تأخر عن الرباعية كلها أربعين سوطاً، حتى كونهم رجالاً أهل صلابة وقوة.
وهذا الجلد قد ظنه بعض الناس تطرفاً وتشدداً وتحجراً، ولكن الواقع خلاف ذلك، كما قالت صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها عندما كانت تضرب حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام في صغره فكان عمه يتهمها فيقول: ما ضربته إلا لبغضك إياه.
فقالت: من خالني أبغضه فقد كذب وإنما أضربه لكي يلب ويهزم الجيش ويأتي بالسلب ولذلك رأى أحد حكماء هذه البلاد وأمرائها وهو الأمير العادل محمد احبيب بن أعمر بن مختار رحمهم الله أجمعين، رأى أحد أولاده يبكي والناس يسترضونه فغضب، فقال: دعوه حتى يشبع من البكاء، فمن لا يبكي لا يُنكي.
إنها كلمة حكيمة قالها هذا الرجل الحكيم، فبقيت أثراً خالداً في تربيته لأولاده، فكانوا في السكينة والقوة والصبر على المكان المعروف لهم.
كذلك فإن ابن ياسين رحمه الله أخذ هؤلاء جميعاً بتعلم العلم، فجعل النهار كله للعلم والليل كله للعبادة والدعاء والضراعة إلى الله سبحانه وتعالى، فكان أولئك الذين صحبوه مُثُلاً عالية لهذا الشعب.(22/6)
إقامة ابن ياسين لدولة المرابطين
ولما رأى منهم ما يسره من الإقبال على الله سبحانه وتعالى وإحسان عبادته والمستوى العلمي الذي وصلوا إليه.
قال: الآن امتثلنا أمر ربنا في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60].
ثم جعلهم بينه وبين القبلة، فمد يديه إلى الله عز وجل قائلاً: يا رب! هذه عدتي أعددتها للجهاد في سبيلك.
وخرج بهم يزجيهم إلى الجهاد في سبيل الله.
فجاهد لإقامة دولة الإسلام وجاهد الكفار والمنافقين فلم تقف أمامه أي دولة، ولم يهزم له لواء، واستمر الفتح في البلاد الإفريقية، وكان هو لفضله وحكمته لا يحب الرئاسة ولا الشهرة ولا الذكر بين الناس، فأمر على أولئك المرابطين المجاهدين خيرهم، وهو يحيى بن عمر اللمتوني، وكان خيرهم علماً وورعاً وشجاعة وعبادة وتضحية فكان قرة عين له، ومع ذلك عندما قاتلوا في إحدى الوقائع فتقدم يحيى حتى اخترق صفوف المشركين غضب عبد الله بن ياسين، فأمر بالأمير بعد انتهاء المعركة فجلد عشرين سوطاً، فقيل: علام تجلد الأمير وقد رجع ظافراً منتصراً على أعداء الله؟! فقال: لأنه خاطر، ما ينبغي للأمير أن يدخل المخاطرة إلا عندما يكون الجيش في خطر! ومن هنا تدرك ذكاء ابن ياسين وملكته القتالية الجهادية بالإضافة إلى ملكاته العلمية العبادية.(22/7)
ذكر العلماء الذين خلفوا ابن ياسين بعد مقتله
في ذلك الوقت ظهر رجل في جنوب المغرب ادعى النبوة، فخرج إليه ابن ياسين لجهاده فقتله وصلبه وقتل أصحابه، لكن اغتالته هو قبيلة (برقواطة) وهي قبيلة من البربر، فكانت كارثة بالنسبة للدعوة في هذا البلد فقد فقدت مربيها الأول وعالمها وقائدها ومرشدها، فاحتاج الناس إلى خلف يخلفه فأتوا بالإمام الحضرمي، وكان من كبار طلاب أبي الحجاج الضرير، وهو من أئمة المالكية المحدثين والفقهاء، فاستوفدوه إلى هذه البلاد قاضياً ومرشداً ومعلماً، فقام بالأمر بعد ابن ياسين خير قيام.
ولم يتحفنا التاريخ بكثير من قصصه إلا أنه رحمه الله ترك كتاباً يدل على نبل وعلو منزلة، وهو كتاب (الإشارة في تدبير الإمارة)، وقد طبع هذا الكتاب عدة طبعات، وهو يدل أيضاً على مكانة الرجل وذكائه ومهاراته وخبرته وتضحيته في إعلاء كلمة الله.
وقد رزقه الله الشهادة في سبيله -نحسبه كذلك- في (أثوقي) قرب مدينة (أطار)، ودفن في ذلك المكان وما زال قبره فيه معروفاً إلى اليوم.
وعندما قتل كانت الكارثة الثانية على المرابطين أيضاً، فبحثوا عن بديل، فأتوا بـ إبراهيم الأموي من الأندلس، وكان من العلماء الزهاد العباد، وهو من ذرية عمر بن عبد العزيز، وكان في بقايا بني أمية الذين كانوا يحكمون الأندلس، فأخرجوه من الأندلس وحاكموه إلى قاض فحكم لصالحهم، فترك كتبه وماله وجاء بأهله حتى نزل بمجلس يحيى بن عمر اللمتوني فكان قاضي المجلس، وهو الذي اشتهرت ذريته بقبيلة المجلس، أي: مجلس العلم أو مجلس القضاء.
لأنه كان قاضي ذلك المجلس وعالمه.
وقد عاش فيه زماناً حتى قتل يحيى وخلفه أخوه أبو بكر الذي يشتهر لدى العامة بـ أبي بكر بن عامر، وهو أبو بكر بن عمر اللمتوني، وكان أبو بكر كذلك يجمع بين العلم والقيادة والصلاح، فقد بذل كذلك جهوداً كثيرة في الجهاد في سبيل الله حتى قتل رحمه الله تعالى، وقبره معروف إلى اليوم.
ثم بعد ذلك العصر اشتهر عدد من المضحين الباذلين في عصور متفاوتة، ومن أولئك الذين صحبوا يوسف بن تاشفين إلى المغرب ثم إلى الأندلس وشهدوا معه موقعة الزلاقة، وكان فيهم ثلاثون ألفاً من الملثمين، أي: من سكان هذه البلاد، وفيهم يقول الداني الأندلسي: قوم لهم شرف العلا من حمير وإذا انتموا صنهاجة فهم هم لما حووا علياء كل فضيلة غلب الحياء عليهم فتلثموا وبقي أولاد المرابطين محافظين على هذا النهج، حتى إن كثيراً من كتب التاريخ تذكر أن مدينة (تنيقي) -وكانت تسكنها قبيلة تجاكانك- كانت قبل إحدى المعارك المعروفة فيها تخرج ثلاثمائة طفل في التاسعة أو العاشرة يحفظون الموطأ والمدونة.(22/8)
جهود العلماء في أواسط القرن السادس حتى القرن الثامن(22/9)
دور الحجاج الثلاثة والشريف مولاي عبد المؤمن
ذكر المختار بن حامد رحمه الله أن قبيلة المجلس كان فيهم إذ ذاك في أيام مرابط المجلس المشهور عدد كبير من الفتيات اللواتي يحفظن المدونة.
وهكذا حافظ أحفاد المرابطين على هذا العلم زماناً طويلاً، فلما كان في أواسط القرن السادس الهجري جاء الحجاج الثلاثة المشهورون فنزلوا مدينة (شنقيط) وبنوها، فكان أحد هؤلاء الثلاثة كفيلاً بالهندسة المعمارية، وكان الآخر كفيلاً بالتجارة، وكان الثالث كفيلاً بالعلم والإمامة والقضاء، واشتهرت ذريتهم بذوي الحاج، أي: بذرية هؤلاء الحُجاج الثلاثة، وكان لهم أثر بالغ في تجديد العلم بعد دولة المرابطين، وقد نشروه فاشتهرت مدينة شنقيط من ذلك العهد بالعلم، فكان الناس يفدون إليها من مشارق الأرض ومغاربها ليتعلموا فيها، واشتهر من الذين يفدون إليها كثير من الأفارقة الذين اشتهروا بالعلم والصلاح في البلدان الأفريقية.
ولم يستقر أولئك الحجاج الثلاثة في مدينة شنقيط حتى جاء الشريف مولاي عبد المؤمن فبنى مدينة (تشيد)، وجاء يحمل مكتبة ضخمة عظيمة ما زالت آثارها إلى الآن خالدة من المخطوطات التي لا يعرف أحد اليوم أسماءها ولا فنونها فيما أعلم.
وهي إلى الآن ما زالت موجودة قائمة في مكتبة الشريف مولاي عبد المؤمن في (تشيد) يسرق منها النصارى وينهبون، ومع ذلك بقيت آثارها إلى وقتنا هذا.(22/10)
دور قبيلة البدوكل وسيدي محمد الكنتي
كذلك عندما قامت قبيلة (بدوكل) فأعلنوا الجهاد في سبيل الله من جديد وجددوا دعوة المرابطين وفد إليهم الشيخ سيدي محمد الكنتي من (توات) من جنوب الجزائر، وهو من ذرية عقبة بن نافع الفاتح لهذه البلاد رضي الله عنه، فجاء بعلم جم وسكن في بدوكل، ورباهم على العلم وحببه إليهم، فكان الناس يفدون إليه في طلب العلم.
وخرج من ذريته الشيخ سيدي أحمد البكاي الذي اتجه إلى الحج فنزل بمدينة (ولاته) فرافعه أهلها فقالوا: يجب عليك المقام بين أظهرنا حتى تعلمنا ما معك من العلم.
ورافعوه عند القاضي فحكم لهم القاضي، وكان أهل (ولاته) من ذلك العهد إلى زماننا هذا محبين للعلم يجتمع عليه سوادهم الأعظم.
فلم تكن مدينة من مدن هذه البلاد يجتمع سوادها الأعظم من العامة والتجار وغيرهم في حلقات العلم مثلما كان موجوداً في (ولاته)، ولذلك استمر الحال فيهم إلى هذا الزمان، فهم يختمون صحيح البخاري في شهر شوال بعد أن يقرءوا غالبه في شهر رمضان، ويختمون كتاب الشفا للقاضي عياض كذلك في شهر ربيع الأول، ويجتمع على قراءة هذين الكتابين جماهيرهم وعوامهم إلى وقتنا هذا.(22/11)
دور تحالف قبائل تشمشة في نشر العلم وإحياء الدين
اشتهر في القرن السابع والثامن عدد من الذين وفدوا إلى هذه البلاد من خارجها، ومنهم الخمسة المشاهير الذين كونوا تحالف قبائل (تشمشة)، وهم: يعقوب جد قبيلة (بني يعقوب) وهو من ذرية جعفر بن أبي طالب، وقد كان من العلماء العاملين، وكذلك منهم ضمغر جد قبيلة (أولاد ديمان)، ومنهم كذلك دبيال يعقوب، وهو جد قبيلة (إدات شغا)، وكذلك يدال، وهو جد قبيلة (اليداليين)، ويدمسه، وهو جد قبيلة (دقبهني)، وقد وفد هؤلاء إلى هذه البلاد فتحالفوا فيها على تجديد الدين، وانطلقوا من قول الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63].
وأرادوا إقامة دولة الإسلام، فوجدوا إذ ذاك هذه المنطقة يسيطر عليها قبائل (أولاد رزق) فلم يجدوا لديهم تحمساً لإقامة دولة الإسلام، فلما جاء المغافرة قدم عليهم أحمد بن دامان، وكان أصغر أخوته لكنه كان سيداً مطاعاً، فأعجبه هديهم ودلهم وسمتهم وأعجب بهم غاية الإعجاب، فلما جاء من الشمال من أراد مقاتلتهم منعه أحمد بن دامان ذلك وقاتل دونهم، فجعلهم قضاة هذه البلاد وعهد إليهم بالتدريس فيها، وقد نصبوا قاضياً مشهوراً فيها.(22/12)
جهود العلماء من نهاية القرن التاسع وبدايات العاشر
ثم بعد ذلك اشتهرت كذلك بعض المحاضر العلمية، وهي من أولى المحاضر التي قامت بعد القرن السابع والثامن، فقد بدأت تقريباً في نهايات القرن التاسع وبدايات العاشر محضرة (بارتيل) التي تخرج منها عدد من الأعلام المشاهير فيما بعد، وكان لهم أثر بالغ كذلك في مشارق الأرض ومغاربها.
فمنهم أبو بكر البارتيلي الذي أقام بـ (ولاته)، وهو مؤلف كتاب (فتح الشكور في تراجم علماء تكرور)، وقد طبع الكتاب مراراً، ومنهم عدد من الجهابذة الذين اشتهروا في بلاد الحوضين، وكذلك في منطقة الساحل.
كذلك اشتهر في الجنوب في نهايات القرن التاسع وبدايات القرن العاشر عدد من الأعلام من الأفارقة الذين حملوا هذا العلم وكان لهم الأثر البارز في نشره ونصره، ومن محضرة أولئك تخرج الساموري الذي نشر الإسلام في (السنغال) و (جامبي)، وقاتل البرتغاليين الذين هم أول المستعمرين وفوداً إلى أفريقيا.
ومنهم كذلك عدد من الأعلام الذين اشتهروا بمحاولتهم لإقامة دولة الإسلام فيما بعد، ومنهم، وهو من (الفلان)، وكان في (فوتا)، وقد اشتهر بالعلم واستجابة الدعاء.
ومنهم كذلك قي من التكارير الذي كان يسكن في المكان المعروف اليوم (بكي هيدي)، وكان أيضاً من العباد الزهاد وكان مستجاب الدعاء، ويقال: إن أصل كلمة (كي هيدي) (قي هيجا) بلغة التكارير ومعناها: يا رب! قي جاع، يشكو إلى الله جوعه، فأرسل الله الأرزاق في ذلك البلد، ونحن ندرك أنه في العقدين الماضيين من الزمن لم يكن أهل نواكشوط يستعملون من اللحوم إلا ما جاء من (كي هيدي)، فكان ذلك استجابة من الله سبحانه وتعالى لدعاء هذا العبد الصالح.(22/13)
جهود العلماء في القرن العاشر
كذلك اشتهر عدد من كبار العلماء في القرن العاشر الهجري، ومنهم أبو بكر اللمتوني الذي كتب إلى السيوطي يكاتبه في القدوم على هذه البلاد، وقد انتقل السيوطي من مصر حتى قدم (ولاته)، وتحدث عن ذلك في كتابه (الحاوي للفتاوي)، وسمى (ولاته) إذ ذاك بولاتم، ولعله اسم دريس من البربرية يطلق على هذه المدينة.
ومن المعلوم أن السيوطي توفي سنة تسعمائة وإحدى عشرة من الهجرة، وإنما وصل إلى هذه البلاد في أخريات عمره، وقد رجع بعد أن ترك بها علماً جماً كما قال هو، فقد روى الناس عنه الحديث والفقه واللغة وغير ذلك، وكان يعقد مجالس للإملاء بإملاء الحديث من حفظه دون الرجوع إلى الكتب، وقد لامه على ذلك بعض معاصريه من العلماء فرد عليهم بقوله: لام إملائي الحديث رجال قد سعوا في الظلال سعياً حثيثاً إنما ينكر الأمالي قوم لا يكادون يفقهون حديثاً كذلك جاء بعده الشيخ سيدي أحمد المغيلي قادماً من الجزائر بعد أن أفتى فتواه المشهورة في وجوب تحطيم كنائس اليهود والنصارى التي بنوها في الجزائر وهي دار إسلام لا يحل بناء كنيسة فيها، وهذه الفتوى موافقة للإجماع، فمن المعلوم أن دار الإسلام لا يحل إحداث أي كنيسة فيها ولا معبد لأي ديانة أخرى، والذين يتذرعون فيقولون: نتركهم يقيمون الكنائس هنا في بلادنا ليتركوا المسلمين يقيمون المساجد في بلادهم تذرعوا بأمر باطل لا حجة لهم فيه شرعاً، فلا يحل إقرار الكنائس في بلاد المسلمين ولا إقامتها.
وعندما أفتى الشيخ بهذه الفتوى في الجزائر وقد هاجر إليها تجار اليهود من الأندلس بعد سقوطها فإن الأسبانيين عندما غلبوا عليها أقاموا محاكم التفتيش للمسلمين واليهود، فساووا بينهم فقتلوا اليهود كما يقتلون المسلمين.
فخرج اليهود هرباً ولم يجدوا من يؤويهم في بلاد أوروبا، فدخلوا بلاد المغرب فآواهم الناس، وكانوا يقدمون الجزية إلى المسلمين، لكنهم غلبوا على المال فاشتهروا بالتجارة في (تلمسان) و (وهران) وغيرهما من بلاد الجزائر، فبنوا بعض الكنائس، فلما وصلت كنائسهم إلى الصحراء في جنوب الجزائر وبنو كنيسة في (بسكرة) وكنيسة أخرى في (المنيعة) قام عليهم الشيخ سيدي أحمد المغيلي فأفتى بتحطيم كنائسهم وباشر ذلك هو بطلابه، فحطم كنائس اليهود وأخرجهم من تلك البلاد، فوجد بعض المضايقة من بعض أمراء الزمان فخرج مهاجراً بدينه إلى هذه البلاد، فجاء بعلم جم وجاء معه عدد من الطلبة من الجزائريين فاشتهروا في هذه البلاد، وقد أخذ عنه عدد كبير من العلماء المشاهير.(22/14)
جهود العلماء في القرن الحادي عشر(22/15)
دعوة الإمام ناصر الدين
ثم في القرن الحادي عشر اشتهرت دعوة الإمام ناصر الدين لإقامة دولة الإسلام، وقد اتفق عليها في بدايتها سكان هذه البلد جميعاً، فقد كانت قبائل بني حسان وقبائل الزوايا يداً واحدة متفقين على إقامة دولة الإسلام، وجاهدوا تحت لواء واحد، وقتلت أعداد هائلة منهم في الجهاد في سبيل الله وفي نشر الإسلام في أفريقيا، لكن المستعمرين أحسوا بالخطر فنقلوا هذه الحرب بعد أن كانت جهاداً في سبيل الله لتصبح حرباً داخلية بما ألبوا به بعض الناس على الخليفة الذي نصبه المسلمون في هذه البلاد جميعاً واتفقوا عليه، فاغتالوه فكان ذلك سبباً لحرب ضروس دامت خمساً وثلاثين سنة.(22/16)
تضحيات ابن بو الفاضلي
كذلك في هذا القرن -وهو القرن الحادي عشر- خرج عدد من كبار العلماء من هذه البلاد فقطعوا المسافات الشاسعة على أرجلهم بحثاً عن العلم وتلمساً له بعد النكبة التي حصلت في تلك الحرب، ومن هؤلاء شيخ الشيوخ ابن بوالفاضلي الحسني الذي خرج من منطقة (العقل) من هذه البلاد على رجليه حتى وصل مصر فدرس فيها أربع سنوات، ثم ذهب إلى الحج، ثم ذهب إلى العراق والشام، ثم رجع إلى مصر واستقر فيها زماناً.
ثم رجع إلى هذه البلاد حاملاً لعلم جم، وأسس مدرسة عظيمة اشتهرت فيما بعد، وهذه المدرسة هي التي بقيت أسانيدها في هذه البلاد، فعنه أخذت الأسانيد جميعاً، فقد أخذ هو عن علي الأجهوري وتلامذته مثل عبد الباقي بن يوسف الزرقاني ومثل العلامة القرشي والشبرخيتي وغيرهم.
وقد قدم إلى هذه البلاد بكتب الحديث بأسانيده هو بعد أن رواها عن علي الأجهوري الذي يروي أكثر مروياته العلمية عن البرهان العلقمي عن جلال الدين السيوطي عن زكريا الأنصاري عن الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني بثبت ابن حجر المشهور في كل الكتب.(22/17)
جهود ابن إعلممو والفقيه الخطاط
وقد اشتهرت محضرة شيخ الشيوخ الحسني وتوافد الناس إليها من شرق هذه البلاد وغربها، وكان من الوافدين إليها الذين أخذوا أسانيد الشيخ ونشروا علمه القاضي ابن اعلممو السباعي من قبيلة (أولاد السباع)، ولزم الشيخ عشرين سنة انقطع فيها عن أهله بالكلية، ولازم الشيخ وقال: لن أتركك حتى تخرج إلي المكنون من علمك.
فلزمه حتى أخذ كل ما عنده، ثم خرج واستقر في منطقة (أدرار) فنشر العلم بها.
وكان من طلابه الفقيه الخطاط المشهور الذي أصبح مرجعاً لهذه البلاد لشرقها وغربها جميعاً، وقد بذل الفقيه الخطاط جهوداً مضنية في طلب العلم، فقد كان فقيراً لا يملك إلا ناقة جرباء، فركبها حتى بلغته حضرة الشيخ القاضي ابن اعلممو السباعي، فلما بلغ حضرة القاضي باع ناقته فأراد أن يشتري بها كتاباً، ثم احتاج إلى الملابس فاشترى ملابس يلبسها بثمن ناقته، وجلس زماناً طويلاً في طلب العلم، وكان بعد ذلك إذا رأى من يجد في طلب العلم من طلابه يتذكر هو الحالة التي وصل بها إلى القاضي ابن اعلممو السباعي.
وقد حدثني بعض الثقات بالإسناد المتصل إلى المختار بن عبد الله الحاج بن المبارك -وقد كان من طلاب الفقيه الخطاط والملازمين له- أنه كان في عام شديد الجدب ولم يكن لهم أي غذاء في المحضرة، فكان هو يخرج في الصباح الباكر بعد أن يدرس درسه لمراجعته وحفظه فيذهب إلى كهف في جبل يجلس فيه طيلة اليوم، وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع، فبينما هو على ذلك الحال يوماً من الأيام إذ رأى نبتة من نبات الأرض تعرف لدى أهل هذه البلاد بـ (أبيلة)، وهي نبات من الكمأة يشبه الموز النحيف الرقيق، فيقول: صنتها عن نفسي، فكنت آخذ منها كل يوم أصبعاً واحداً.
فكان بعد ذلك يصف حاله والدروس التي درسها وتغذيته بهذه النبتة.
وقد ذكر الفقيه الخطاط رحمه الله في معرض ثنائه على طلابه أن أولئك الذين كانوا معه في وقت الشدة يوزن أحدهم بمائة من الطلاب الآخرين، فكان يقدمهم عليهم في وقت التدريس، ومنهم حامد بن عمر الذي هو شيخ العلامة محمد بن محمد سالم المجلسي، ومنهم كذلك أحمد محمود بن الفقيه الخطاط، وكان ابن والده في الجد والتشمير وحفظ المتون والعلم.(22/18)
جهود ابن رزاقة وتضحياته
ومن هؤلاء الذين خرجوا لالتماس العلم في القرن الحادي عشر العلامة سيدي عبد الله المشهور بـ ابن رازقة، وقد درس العلم في بلاده، وقد كان جده الأعلى الذي اشتهر بالقاضي من مشاهير العلماء في هذه المنطقة، فدرس هو العلم الموجود هنا ثم رحل إلى المغرب فدرس على كبار علمائه حتى شهدوا له بالتقدم عليهم، وكان إذا ناظر علماء المغاربة يقولون: أنت تغلبنا في الليل لأنك تحفظ المتون ولا نحفظها، ونغلبك في النهار لأن لدينا الكتب وليست لديك.
وهذا يمثل طريقة العالم الشنقيطي، فإنه يستطيع أن يتمثل بقول الشافعي رحمه الله: علمي معي حيثما يممت يتبعني قلبي وعاء له لا جوف صندوق إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق أو بقول ابن حزم رحمه الله: فإن يحرقوا القرطاس لا يحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري يسير معي حيث استقلت ركائبي ويمكث إن أمكث ويدفن في قبري(22/19)
جهود العلامة مسكة بن بارك الله
كذلك من هؤلاء الذين خرجوا لطلب العلم في القرن الحادي عشر فاشتهروا بالتضحية والبذل فيه العلامة مسك بن بارك الله بن بارك الله فيه، وقد اشتهر بجلده وصبره، وقد كان من مشاهير الناس في الصبر والحلم، وقد كان يضرب به المثل في الحلم.
بل قد حصلت له قصة غريبة، فعندما ذكر له أن قوماً توعدوه أن يضربوه وأنهم سيقدمون على ذلك -وهو يعلم أنهم لن يصلوا إليه في منعة قومه- خرج مسافراً إليهم، وكتم سفره عن قومه ولم يصحبه إلا غلام صغير، فلما وصل إلى المنطقة التي فيها أولئك القوم أرسل الغلام إليهم فقال: اذهب إلى ذلك الفريق فقل لهم: مسك بن بارك الله يريد ماءً لطهارته ووضوئه.
وهو لا يقصد الماء لكنه يريد أن يعلمهم بنفسه حتى يحققوا ما أرادوا، فلما أتاه رجالهم الذين كانوا يتوعدونه بالضرب ابتسم في وجوههم فهابوه واسترضوه، فخرج مسافراً راجعاً قافلاً إلى بلاده وقال لغلامه: قد تحقق مرادنا.
والغلام ما سمع إلا كلاماً من أعدائه فتعجب كيف تحقق مرادنا وما سمعنا خيراً؟! فلما وصل إلى أهله جاء أولئك القوم يريدون استرضاءه فأنكر أن يكونوا قد وصلوا إليه بشر، وهذا من رجاحة عقله ووفور حلمه.
وكان مسكة رحمه الله قد لازم محمد بن ناصر الدرعي في جنوب المغرب زماناً طويلاً حتى أخذ عنه كل ما عنده من العلم، حتى كتب الإجازة المشهورة، وهي من أقدم الإجازات المعروفة في بلادنا، وما زالت إلى الآن موجودة بخط العلامة محمد بن ناصر الدرعي.(22/20)
جهود العلامة محمد اليدالي وتضحياته
وكذلك من الذين سافروا لطلب العلم في القرن الحادي عشر فبذلوا جهوداً مضنية فيه العلامة محمد اليدالي الذي خرج لبلدان شتى في طلب هذا العلم وكان فقيراً، وكانت أمه امرأة صالحة، فسألت الله سبحانه وتعالى أن يغنيه عن كسب المال؛ لأنه إذا اشتغل بالتجارة وكسب المال فسينقص ذلك جهده في طلب العلم، فاستجاب الله دعاءها فرزقه إبلاً جاءت فلزمت بيتهم وليس عليها أية علامة ولا يعرف لها متملك، فأخذها فانتفع بها وكانت رأس غناه، واشتهرت فيما بعد، وكان هذا العلامة رحمه الله بعد أن تخرج وأصبح ممن يشار إليه بالعلم مرجع أهل بلاده في التأليف والتدريس وغير ذلك.
وقد ألف في تفسير كتاب الله العزيز كتاباً كبيراً حافلاً، وكذلك شرح صحيح مسلم، وله كتب كثيرة غير ذلك.(22/21)
جهود العلماء في القرن الثاني عشر وتضحياتهم(22/22)
جهود سيدي محمد الكنتي ومحضرته
وكذلك من الذين اشتهروا في القرن الثاني عشر الهجري العلامة الشيخ سيدي مختار الكنتي الذي توفي أبوه وهو طفل صغير فتركه يتيماً فقيراً، فقام عليه أخوه وكان من الرشداء، فرأى فيه نبلاً وذكاءً فمنعه من الاشتغال بالتجارة ونصحه بالذهاب إلى (تمبكتو) لدراسة العلم، فلزم المكتبات والعلماء حتى أصبح المشار إليه بالبنان في تلك المنطقة.
ويقول عن نفسه: لم تزل أفضال الله عليّ وافرة، فمن أفضال الله عليّ التي أعدها أن توفى الله أبي فتركني يتيماً فقيراً، فمن الله عليّ بهذا العلم فكان خيراً من الدنيا وما فيها.
وقد اشتهر عندما استقر ببلده، فكان الناس يفدون عليه فكان موئلاً للعلماء يجتمعون عليه، فما لم يكن لديه هو من العلم يجد من يدرسه من الوافدين إليه من مختلف البلدان.
وفي محضرته درس العلامة عثمان فودي الذي أقام سلطنة (سوكوتو) في نيجيريا، وهو الذي أقام سلطنة (آل فودي) التي اشتهرت فيما بعد وأقامت الجهاد وطبقت الحدود وإلى الآن ما زالت آثارها قائمة، والشيخ عثمان فودي رحمه الله اشتهر كذلك بدعوته السلفية، وبمنهجه المعتدل، وباهتمامه بالمقاصد في أصول الفقه، واشتهر ولده كذلك محمد بيلو بعلمه فيما تختلف به الأحكام، وقد ألف في ذلك عدداً من الكتب، فذكر أن الأحكام تختلف بخمسة أمور هي: باختلاف الأشخاص، والأحوال، والمقاصد، والأزمنة، والأمكنة.
وألف في ذلك عدداً كبيراً من الكتب.(22/23)
جهود المختار بن الفقيه موسى اليعقوبي
ومن المشتهرين كذلك بالعلم والاشتغال به والتضحية في سبيله العلامة المختار بن الفقيه موسى اليعقوبي الذي كان مثالاً في ذلك العصر للتضحية والبذل في سبيل هذا العلم وسافر الأسفار البعيدة في جمع الكتب، وكان ابنه محمد من المشاهير كذلك فيه، وقد قال لأولاده: لن تدركوا العلم حتى تفقدوا أظافركم في طلبه.
فلم يدركوا معنى ذلك حتى جاء الفقيه الأمين العتروسي، فنزل عليهم فكانوا يحملونه على أتان له ويقودونها به فتطأ أرجلهم فأسقطت أظافرهم وصبروا على ذلك في طلب العلم، فكان هذا مصداقاً لما أخبرهم به والدهم من أن طلب العلم لا يمكن أن يتم إلا بعد جهد وعناء.(22/24)
جهود المجيدري وقوة حفظه
ومنهم كذلك بعد هذا العلامة محمد بن الفاضل بن الفقيه موسى الذي اشتهر بـ المجيدري، وقد خرج من هذه البلاد بعد أن استوعب علمها إلى المغرب وعمره خمس عشرة سنة، واستقر بالمغرب فلم يجد كفؤاً له ولا مناظراً فيه، وكان السلطان يجلسه بين يديه ويجمع له العلماء ليستخرجوا مكنون علمه، وكان في بداية شبابه صموتاً لا يتكلم إلا إذا سئل، وكان السلطان لا يعرف من العلم ما يستطيع به استخراج ما لدى هذا الشيخ الشاب، فكان يأتي بالعلماء فيقول: مالكم مهمة إلا سؤاله في كل علم من العلوم حتى تستخرجوا الكنوز التي لديه.
وقد أقام بالمغرب زماناً ثم خرج إلى المشرق حاجاً فمر بمصر، وعندما أراد الخروج من المغرب أرسل رسالته المشهورة إلى أمه وأعطاها تاجر كتب، فأعطاه سلهاماً وعبداً وتسعين درهماً وزربيةً -وهي البساط المعروف-، وكتب له ورقة صغيرة كتب فيها: سلام بزيادة لامِ ماءٍ إلى لامِه، وإحدى خبر كأن في قوله: ترديت إلى آخر كلامه، وإياك نعبد وإياك نستعين.
فقرأ التاجر الورقة فلم يفهم شيئاً مما فيها، فناولها العجوز فقالت: هات الزربية والسلهام والعبد والتسعين.
فقال: من أين أخذتِ هذا؟ فقالت: لامُ ماءٍ هاءٌ؛ لأنه يجمع على (أمواه) ويصغر على (مويه)، وإذا أضيفت الهاء إلى لام سلام كانت سلهاماً.
وأما قوله: وإحدى خبر كأن في قوله: ترديت إلى آخر كلامه فتقول: راجعت ما أحفظ من الشعر فلم أجد بيتاً بدئ بقوله: (ترديت) وفيه كأن إلا قول غيلان: ترديت من أعلام نور كأنها زرابي وانهلت عليك الرواعد وواحدة الزرابي زربية.
وأما إياك نعبد وإياك نستعين فتقول: لم أفهمها، فعرفت أنها مصحفة، فانتزعت نقاطها فقرأتها فإذا هي: أتاك بعبد وأتاك بتسعين.
وقد اشتهر أنه حين وفد على مصر جمع له محمد علي باشا عشرة من كبار علمائها، فلما أرادوا مناظرته سألهم التعريف، فعرفه كل واحد بنفسه وعد لنفسه عشرة آباء، وعد هو عشرة آباء لنفسه، فلما كان من الغد واجتمعوا لديه سلم على كل واحد منهم باسمه ونسبه إلى حيث انتهى، ولم يتذكروا هم اسمه هو، لكن كان مما يعينه على ذلك صعوبة النطق باسمه، أما هو فقد حفظ أسماءهم وأعادها عليهم.
فلذلك قال لهم الملك: هذا الذي حفظ أسماءكم وتذكر كل ما قلتموه وأنتم لم تتذكروا اسمه لا يمكن أن تناظروه.
فاستسلموا له، فسأله عن جائزته فقال: أن تخرج عني كل الزوار والقراء في دار الكتب المصرية لمدة أسبوع كامل.
فأخرج عنه القراء لمدة أسبوع كامل فحفظ ما لم يكن يحفظه من مخطوطات دار الكتب المصرية خلال أسبوع.
وقد امتحنوه في ذلك فكانوا يأخذون أسفل كتاب من الرف -وكانت الرفوف إذ ذاك غير منظمة- فيمسكونه عليه فيقرؤه عليهم من حفظه.(22/25)
تأثر الشيخ محمد بن عبد الوهاب بدعوة المجيدري
وعندما خرج إلى الحج بدأ بالمدينة المشرفة فلقي فيها عدداً كبيراً من طلبة العلم، ومن الذين لقيهم في المدينة محمد بن عبد الوهاب بن سليمان النجدي، وقد صحبه في المدينة، وتأثر محمد بن عبد الوهاب بدعوة المجيدري، فكان يعد محمد بن عبد الوهاب من تلامذة المجيدري، ثم رجع المجيدري إلى هذه البلاد ومر بالقيروان فدرس في الزيتونة ورجع إلى بلاده ودعا بدعوته السلفية المشهورة، وقد وجد أمامه شيخه العلامة المختار بن بونة الجكني، وكان المختار بن بونة شيخاً لكثير من أهل هذه البلاد إذ ذاك، فهو عالم هذه البلاد قبل مجيء المجيدري.
وقد حصلت بينهما نفرة؛ لأن العلامة المختار رحمه الله كان يرى مذهب الأشاعرة في بعض الأمر، وكان العلامة المجيدري سلفياً، وقد تشدد في النكير على المختار في بداية مجيئه.(22/26)
جهود تلاميذ المجيدري
وتتلمذ على المجيدري عدد كبير من العلماء المشاهير، منهم العلامة المأمون بن محمد الصوفي بن عبد الله المجاور اليعقوبي، وكان أبرز تلامذته، وحدثني الثقات عن بعض كبار العلماء أن المأمون كان يحفظ الكتب الستة كما يحفظ القرآن، ولذلك يرثيه الشيخ محمد المامي رحمه الله بقوله: ريع تقاصر دونه لبنان ويهون دون ترابه المرجان يا ريع لو نبت الحديث ببلدة نبت الحديث عليك والقرآن فقد جعله بمثابة بذور القرآن والسنة، فلما دفن في هذا المكان كأنما بذر فيه الكتاب والسنة.
يا ريع لو نبت الحديث ببلدة نبت الحديث عليك والقرآن وكذلك من تلامذة هذه المحضرة ومشاهير النابغين فيها العلامة البخاري بن الفلالي بن مسك بن بارك الله بن بارك الله فيه.
ومنهم كذلك العلامة مولود بن أحمد الجواد اليعقوبي، وقد كان هؤلاء في بداية الدعوة السلفية في حياة المجيدري يجدون بعض المضايقة من بعض الناس، فكانوا يسمونهم بالبدعية، لكن المجيدري رحمه الله قال: لو كنت بدعياً لما كان الصواب عندي الأحاديث الصحاح والكتاب وتجد أن تضحية هذا الرجل وسفره الطويل في طلب العلم لم يأخذ كثيراً من وقته، فقد توفي وهو في الثالثة والثلاثين من عمره.
وكذلك من المتأثرين بهذه المحضرة العلامة محمد بن محمد الأمين المشهور بـ محمد بن الطربة اليعقوبي، وقد تربى في هذه المحضرة فتعلم فيها، وقد اشتهر لدى الناس بعلوم العربية، لكنه كان مبرزاً أيضاً في علوم الشريعة، وكان من المشتهرين بالعناية بأصول الفقه والقواعد الفقهية في هذه البلاد، مع أن العلامة سيدي سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم في العصور اللاحقة يذكر أن أصول الفقه في هذه البلاد قد قل أهله وندر الاشتغال به.(22/27)
نماذج من الجد في الحفظ للحاق برتبة الأذكياء(22/28)
ابن الأعمش العلوي
كذلك من الذين اشتهروا بتضحياتهم في العلم العلامة ابن الأعمش العلوي، وقد كان رحمه الله صاحب جد وتشمير، ولم يكن صاحب ذكاء، لكن الله عوض له الذكاء بالهمة العالية، ولذلك خرج ليأخذ الملح من السباخ في منطقة الغرب ليبيعه في بلاد (مالي) -وقد كانت تجارة رائدة إذ ذاك- فجاءه رجل وهو يعمل في قطع الملح في السباخ فقال: أريد أن أقرأ.
فقال: مشي.
بمعنى: اقرأ، فظن الشاب أنه يعتذر له في ذلك الوقت، فمكث وقتاً ثم قال له أريد أن أقرأ فقال: مشي.
فشرح له الدرس على أبلغ ما يكون وأحسنه وأجوده وهو مشتغل بعمله لم يقطعه، فبهر الطالب بذلك فقال له: بأي شيء نلت هذا العلم يا شيخ؟ قال: وهو في انشغاله ألف غبابٍ ومائة تكريرة.
معناه أنه كان يقرأ الدرس ألف مرة، وكان يراجع الشرح مائة مرة.(22/29)
ابن قيقكو
ولا تنكر مثل هذا، فهذا ابن قيقكو لم يكن أيضاً صاحب ذكاء لكنه كان صاحب همة عجيبة، وقد دعته أمه إلى حفظ كتاب الله ورغبته فيه فكان يكتب كلمة واحدة في اليوم، ولا يزال يكررها حتى تغرب الشمس، ثم يكتب كلمة أخرى، ومكث بهذا سنة أو أكثر، ولكنه بذلك استطاع أن يكون ملكة الحفظ لديه، فكان بعد هذا لا يسمع شيئاً إلا حفظه، بعد أن صبر سنة على ثلاثمائة وستين كلمة فقط من القرآن كان بعد هذا لا يسمع شيئاً إلا حفظه، لكنه الجد والتشمير.(22/30)
المختار بن بونة
وكذلك من العناء الذي لقيه المختار بن بونة رحمه الله في فهم النحو أيضاً مثال من أمثلة التضحية في سبيل العلم.
فإن المختار رحمه الله درس الآجرومية فلم يفهمها، ثم درسها فلم يفهمها، فخرج مغموماً مهموماً فجلس تحت ظل شجرة، فرأى نملة تصعد تريد قطعة شحم صغيرة على رأس قضيب فإذا توسطت في القضيب سقطت، ثم عادت من جديد تصعد فإذا توسطت في القضيب سقطت، حتى أعادت سبعاً فوصلت النملة، فقال المختار: لن تكون هذه النملة أقوى مني همة.
فرجع فقرأ الكتاب سبع مرات ففتح له في النحو وكان إماماً فيه.
ولكنه مع ذلك عود طلابه وأصحابه أيضاً على التضحية في سبيل العلم، وقد كانوا يشكون من عناء أسفاره، وكان رجلاً مولعاً بالسفر لا يستقر يومين متواليين في مكان إلا أراد الانتقال منه والسفر.
ولذلك يقول أحد طلابه: لك الله من شيخ إذا تيممت تلاميذه مأوى لنصب المدارس يفزع نون البحر طوراً وتارة يدهده جحر الضب في رأس مادس فتارة يذهب إلى (تيرس) وتارة يقطع نهر السنغال إلى أفريقيا، وكثير من هؤلاء قد لقوا عناءً كبيراً في هذه الأسفار، فكان المختار رحمه الله دائماً في سفر والطلاب يصحبونه في سفره، ولذلك يصف نفسه وطلابه بقوله: قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة فيها نبين دين الله تبيانا والعيس هي الإبل.
وكذلك فإن العلامة مولود بن أحمد الجواد رحمه الله سافر أيضاً إلى بلاد السودان، ولم يكن يحسن السباحة، فكان مع قوم يحسنونها، فدخلوا في النهر وكان عليه أن يغامر كما غامروا فخاض البحر ليصل إلى منتهاه لقوة همته، ولم يكن له أية خلفية في السباحة قبل ذلك.(22/31)
جهود العلامة زياد اليكودي
وكذلك من المضحين التضحيات الجسام في طلب هذا العلم ونشره العلامة زياد، وكان قد لزم العلامة محمد بن محمد سالم وأولاده زماناً طويلاً، فلم يستفد حفظاً للعلم ولا فهماً له، فدله بعض الناصحين على أن يلتمس دعوة الشيخ، وكان الشيخ مجاب الدعوات في كثير من الأحيان، فقال: لن ألتمس منه هذه الدعوة حتى يكون هو الذي يدعو لي من تلقاء نفسه.
فبحث عما يرضي الشيخ من الخدمة فكان يمارسه، حتى إن الشيخ في عام مجدب جربت إبله واشتهر فيها الجرب، فوضعوا طلاء في قدر لهم لطلاء الإبل، وكانوا في (تيرس) فاشتد عليهم الجدب، فارتحلوا إلى (أقان) -وهذه مسافة طويلة جداً- فأخذا زياد القدر الذي فيه طلاء الإبل الشديد الرائحة المنتن وحمله على رأسه من (تيرس) إلى نهاية (أقان)، فكان محمد بن محمد سالم كلما راح وكلما أصبح يدعو لـ زياد بالفتح والعلم النافع، فما وصلوا (أقان) حتى أصبح أذكى الطلاب وأنبههم.
ويذكر مثل هذا عن خليل بن إسحاق رحمه الله عندما دعا له المنوفي رحمه الله فاستجاب الله دعاءه، والله سبحانه وتعالى لا يعجزه أن يستجيب دعوات عباده، ومن أخلص لله سبحانه وكان صادقاً في التعامل معه يستجيب دعاءه، وقد كان من هذه الأمة عدد من الذين لا ترد لهم دعوة.
وقد كان محمد بن محمد سالم رحمه الله من المعروفين باستجابة الدعوة، ولهذا تحدثني امرأة أدركتها وقد عاشت مائة سنة، وهي ابنة الشيخ حبيب الله بن البيتور القناني، تحدث عن والدها حبيب الله بن البيتورة وكان من طلاب محمد بن محمد سالم المجلسي.
فحدثتني أن والدها أخبرها أن محمد بن محمد سالم في آخر عمره كان يصوم أغلب الأيام، فكان يذهب بعد صلاة الفجر إلى الخلاء فلا يزال يقرأ كتاب الله ويتدبر العلم ويكتب في صحف عنده مؤلفاته، فإذا حان وقت الإفطار كان بعيداً جداً عن الحي، فيأتيه حبيب الله بن البيتور هذا يحمل له ماءً يفطر عليه، فأتاه ذات يوم وقد اشتد به العطش فأتاه بماء أفطر عليه فقال له: عمرك الله طائعاً.
فلما انصرف دعاه فقال: أنا قد دعوت لك، فاستجاب الله هذه الدعوة، وعاش حبيب الله مائة سنة وابنته التي حدثتني أيضاً عاشت مائة سنة، أو أكثر.
وعرف عن حبيب الله هذا أنه ما صلى قط بغير وضوء، فلم يحتج إلى التيمم قط، ولم يفطر قط في السفر ولا في الحضر، أي: في رمضان لم يحتج إلى الإفطار في سفر ولا في حضر.(22/32)
نماذج أخرى من جهود العلماء وتضحياتهم في بلاد المغرب من القرن الثاني عشر وما بعده(22/33)
جهود العلامة عمرطال
كذلك من هؤلاء المضحين في جمع هذا العلم العلامة الحاج عمر طال الذي خرج من بلاده وكان من رعاة البقر، فخرج لطلب العلم فنزل على عثمان فودي، فرأى إقبال الناس على العلم فأعجب بذلك، فجلس يطلب العلم ويدرسه حتى أصبح من أنبه طلاب العلم، ثم خرج إلى مصر فدرس منها ثم حج ورجع، فلما مر بـ عثمان فودي رأى الجهاد على قوته، فخرج هو وأراد أن يقيم الجهاد في السنغال وزانبي وجنوب موريتانيا.(22/34)
تضحيات العلامة عبد الوهاب بن الرشيد
وكذلك من هؤلاء المضحين في جمع هذا العلم العلامة عبد الوهاب بن الرشيد الناصري من أولاد الناصر، وقد كان رحمه الله مثالاً للجد في طلب العلم، فقد كان في سفر مع عدد من بني عمه، وكانوا يحملون السلاح في وقت الفتن والمعارك الداخلية بين القبائل، فرأى شيخاً في بادية له صاحب علم تأتيه الأطراف المتنازعة تتنافس على محبته وخدمته، فسأل فقال: لماذا يخدم أولاد الناصر فلاناً هذا؟ هل له عليهم دالة؟ هل قدم لهم خدمة؟ فقيل: لا.
إلا أنه صاحب علم وتقوى.
فقال: إذاً هذا الذي نال به ما نال، فلم ينله بالسلاح ولا بالقوة.
فخرج هو مما كان فيه من السلاح وذهب لطلب العلم حتى برز فيه، وقد بذل في سبيله كثيراً من العناء، ويكفي من ذلك العناء الاجتماعي، فمن كان من حملة السلاح ونشأ فيه يشق عليه الخروج منه والذهاب إلى طلب العلم في المحاضر.(22/35)
تضحيات العلامة محمد العاقل الديواني
وكذلك من المضحين في طلب هذا العلم الذين بذلوا فيه الشيء الكثير العلامة محمد العاقل الديواني، وقد كان رحل في طلب العلم فخاض البلاد شرقاً وغرباً حتى جمعه وسافر على رجليه إلى (تمبكتو) ورجع واشتهر بتنوع المعلومات، حتى إن النابغة الغلاوي رحمه الله حين جاء إلى هذه المنطقة يطلب العلم -وقد كان شيخاً إذ ذاك- قال: لا أدرس على شيخ حتى امتحنه.
وكان لديه امتحان واحد، وهو أنه إذا جلس بين يدي الشيخ يقول له: سأدرس.
فإن قال له: (مشي).
قبل منه، وإن قال له: أي كتاب تدرس تركه، فهذا هو الامتحان الذي يمتحن به الناس.
فيقول: مر بعدد من الناس كلما أتى شيخاً قال له: سأدرس.
فيقول له: وماذا تدرس؟ فيقول: لست صاحبي.
ويتركه، حتى جاء إلى أحمد بن العاقل -وهو ابن هذا الرجل الذي ذكرنا- فقال له: أريد أن أدرس.
فقال: مشي.
فقال: أنت صاحبي.
فلزمه فترة، وقد درس عند أحمد بن العاقل عدد من كبار العلماء منهم أخته خديجة ابنة العاقل التي هي شيخة المختار بن بونة الجكني.(22/36)
العلامة ابن عبيد الديواني وتقسيمه العجيب لوقته
منهم كذلك العلامة ابن عبيد الديواني الذي اشتهر كذلك بالجد والتشمير في طلب العلم، وقد كان صاحب ذكاء مفرط ندر مثله في هذه البلاد، وقد كان فيما بعد يقسم وقته قسمة عجيبة، فقد حدثني جدي محمد علي بن عبد الودود عن العلامة يحظيه بن عبد الودود عن العلامة المختار بن ألما الديواني: أنه كان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم يخرج فيقوم على رعاية بقر عنده حتى تحلب ويخرجها من مراحها إلى مرعاها ويخرج أولادها، ثم يجلس للتدريس حتى يقترب من وقت الزوال، ثم ينام قليلاً ثم يستيقظ فيصلي الظهر، ثم يبدأ في وقت التأليف، ثم بعد العصر يراجع بعض ما لديه من المؤلفات وبعض ما أملاه على الناس، ثم ينصرف للعناية بالمواشي والبهائم، وربما اعتنى كذلك بالبئر، فقد كان القيم على شأن الحي كله، ثم بعد صلاة المغرب يراجع للطلاب ويصححون عليه المتون، وكان عمره مشغولاً هكذا طيلة الوقت كله، فليس له وقت فراغ.
وقد أخذ عنه هذا الهدي العلامة المختار بن ألما، ثم أخذ عن العلامة المختار بن ألما عدد من تلامذته هذا الهدي، ومنهم ابنه العلامة محمد سالم بن ألما فلم يكن له وقت فراغ قط ولا رئي فارغاً قط، إما أن يشتغل بعلم وإما أن يشتغل بكسب دنيوي وإما أن يشتغل بعبادة.(22/37)
جهود العلامة يحظيه بن عبد الودود
كذلك من هؤلاء المضحين العلامة يحظيه بن عبد الودود رحمه الله، وقد بذل الكثير في سبيل هذا العلم، فقد كان خرج إلى آل محمد سالم للدراسة، وكان آل محمد سالم إذ ذاك يأتيهم الطلاب والغرباء فيعلمونهم ويدفعون إليهم زكاة أموالهم، فيخرج الطالب من محضرتهم غنياً عالماً، فكان يحظيه من الذين أتوا للدراسة من الفقراء، فرأوا فيه الجد والتشمير، قال: وكان في مجلس محمد وجوه الناس وأبناء الأسر الكريمة يتنافسون في السبق في التدريس، وكان ذات يوم وهم في (تجريت)، فأراد الشيخ السفر وقد سافر أهله في آخر الليل وانتقلوا من مكانهم إلى مكان ناء، فتنافس الناس في السبق في الدراسة تنافساً عظيماً، قال: فأتيت الشيخ فقلت له: إذا بدأت اليوم بالتدريس آخذ عنك طلاب النحو جميعاً، فقال: (أبين ها الله)، وهي كلمة عامية معناها: وددت ذلك.
قال: فبدأ بي ولم يدرس أحداً قبلي.
فكان هذا مزية إذ ذاك عظيمة، مثلما يقول الأقدمون: كان من زينة الدنيا أن يقول الرجل: أخبرنا مالك.
فكذلك كان البدء بالتدريس في أيام محمد بن محمد سالم مزية عظيمة.
فلما درسه دَرْسَهُ من الفقه انتقل إليه طلاب النحو، فجعل يدرسهم حتى أكمل الدرس في وقت الظهيرة وليس معه ماء، فخرج يشتد عدواً في أثر الذين ركبوا في الصباح الإبل، وجاءت الرياح على آثارهم فطمست الأثر، ولم يزل يشتد في عدوه حتى لقي بعد العصر إبلاً تساق لـ (بني دليم)، فظن أنها من إبل المشايخ، فخرج فيها فتعب تعباً شديداً، فلما كان من الليل أناخوا، فاضطجع في جانب هذه الإبل وقد دميت أظفاره وتفطرت رجلاه من المشي في الحجارة وليس له نعلان، ومن الجوع والعطش.
فيقول عن نفسه: فنظرت فإذا أنا بتلك الحال، فقلت بالعامية قولاً معناه أن كل ما كان من المصائب في سبيل الحصول على هذا العلم لن يصرفه ولن يصده عن وجهته، وهكذا شأن كل صبور جلد إذا جاءت المصائب والنكبات تذكر ما وراءها فصمد وصبر.
فاستمر في طريقه أياماً وليالي صبر فيها على الجوع والعطش والألم والسهر حتى وصل إلى الشيخ، قال: فلقيت الشيخ يشرح الدرس، فلما سمعت صوته من بعيد وهو يشرح ذهب عني كل ما كان بي من العناء.
وهكذا شأن الطلاب الأوفياء، فإن أحدهم إذا سمع شرح الشيخ من بعيد زال عنه كل عناء وتعب، فهذا الحسن بن زين القناني رحمه الله كان من طلاب العلامة عبد الودود بن عبد الله الألفغي، وكان عبد الودود شديداً جداً على طلابه؛ لأنه يريد تكوين الرجال، كما كان هو يقول: أنا أريد تعليم الرجال ولا أريد تعليم الدجاج.
ولذلك يقول: لقد مزقت قلبي بضعف جفونها كما مزقت عمداً كتابيا وذلك من تشدده على طلابه، وكان الحسن بن زين صاحب ذكاء وجد، فكان عبد الودود يحبه ويقدمه على غيره من الطلاب، قال الحسن رحمه الله: سافر عبد الودود في سفر له فخرجت أنا إلى شيخه بُلاّ الشقروي، فأتيته من الليل فإذا صوته من بعيد -وهو يشرح قول ابن مالك رحمه الله-: وبعد فا جواب نفي أو طلب محضين أن وحذفها حتمٌ نصب قال فسمعته يقول: وبعد فا جواب نفي أو طلب محضين أن وحذفها حتم نصب وهذا هو النطق الفصيح بالفاء، وكان الناس ينسبونه لـ (بني حسن)، وهو نطق الفاء الفصيح، قال: فسمعته يقول هذا البيت فزال عني كل ما كان معي من النصب والتعب، فتركت بقرتي لم أربط ولدها.
وليس له إذ ذاك مذاق ولا غذاء إلا من لبن بقرته، فلم ينتبه لها عندما سمع صوت الشيخ وأقبل على طلب العلم وجلس بمجلس الشيخ للطلب.(22/38)
جهود العلامة أحمد بن سليمان الديواني
وكذلك من الذين بذلوا كثيراً وضحوا في سبيل جمع هذا العلم من أهل ذلك العصر العلامة الشيخ أحمد بن سليمان الديواني، وقد رحل إلى الشيخ سديه في طلب العلم، ومكث عنده زماناً حتى توفي الشيخ سديه فتركه مكانه للتدريس.
حدثت أنه كان يختم على أولاده القرآن، يقرأ على كل عضو منهم ختمة يريد بذلك شغلهم بكتاب الله وتحبيبه إليهم، وكذلك كان أولاده من بعده، فهذا الشيخ سيدي محمد بن الشيخ أحمد يصف حال المحضرة الموريتانية ومنافسة الناس في طلب العلم فيها فيقول: فمن لي بأصحاب كرام أعزة يكونون أصحابي وأصحبهم دهرا يخوضون في كل العلوم بفهمهم فهذا بذا أدرى وذاك بذا أدرى فمن منشد بانت سعاد ومنشد خليلي غضا أو تذكرت والذكرى ومن منشد بان الخليط ومنشد ألا عم صباحاً أو قفا نبك من ذكرى إلى آخر القصيدة التي يقول في آخرها: ومن جائبٍ عيشاً كبيراً لقومه ومن جائب لحماً ومن جائب تمرا وهذا أيضاً من ثقافة المحضرة، فقد كان بينهم من التعاون في الغذاء ما كان بينهم من التعاون في العلم أيضاً، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أثنى على الأشعريين أنهم كانوا إذا أرملوا جمعوا أزوادهم في ثوب فاقتسموها بإناء، قال: فهم مني وأنا منهم.
وقد كان طلاب المحضرة يتحلون بذلك.
ولهذا فإن الشيخ محمد بن الأمين بن الددو رحمه الله كان ذات يوم في طلاب العلامة يحظيه بن عبد الودود، فكان وقت الظهيرة وهم يبنون عريشاً لهم في أوج الحر والصيف، فقال: كسا الله يا أهل العريش عريشكم بشرب لدى وقت الظهيرة سلسل وعيش يرى وسط الإدام كأنه كبير وناس في بجاد مزمل فرآهم يحظيه يضحكون فسأل عن السبب، فأنشدوه الأبيات فأمر لهم بذلك.
هذا الحال قد اشتهر في كثير من طلاب المحضرة، فقد كانوا يتعودون على الجوع والنصب ويسهرون الليالي ذوات العدد، ولذلك يصف العلامة أممو زكني طلاب العلامة يحظيه بن عبد الودود رحمهم الله أجمعين بقوله: من بكر وضاح لهم مثابرة لفني دهمان العشاء الآخرة أي أنهم من صلاة الفجر إلى صلاة العشاء وهم يثابرون في الدرس لا يقطعونه إلا للفريضة، وهذا ما أخذوه عن يحظيه بنفسه، فقد كان في أيام الطلب عند محمد بن محمد سالم يقول: مكثت تلك الفترة لا أكمل التسبيح بعد الصلاة انشغالاً بالعلم، فكان يقول: (السلام عليكم ورحمة الله) من الفريضة فيقول لزميله عبد اللطيف -وكان عبد اللطيف زميله في الدرس- فيقول له: هذا درس من مختصر خليل.
وكذلك فقد خرج يحظيه ذات ليلة حين أرسله الحسن بن زين للإتيان بعدة يسقي غنمه، فقال: حان وقت صلاة المغرب فجلست لأصلي المغرب عند نار قد أوقدت في شجرة، فلما صليت المغرب أعجبني ضوء النار، ففتحت كتابي -وقد كان إذ ذاك يدرس باب الإضافة من الألفية- فما زلت أقلبها وأراجعها حتى انتشر ضوء الفجر، ولم أشعر بصلاة العشاء ولا بخروج وقتها ولا بأي انشغال آخر استغراقاً في الدرس وقد وصف العلامة محمد علي بن عبد الودود رحمه الله طلاب العلامة يحظيه إذ ذاك بقوله: لي جيرة كنجوم الصحو غران شم طهارا ثياباً أينما كانوا من كل قطر تؤاخي بينهم كرماً هماتهم وغروم القوم شذان يزدان بالعلم أهل العلم كلهم والعلم من جيرة يسم ويزدان لا أستلذ مقاماً بينهم فرقاً من الفراق ولا آسى إذا بانوا وقد وصف الشيخ محمد علي أيضاً طلاب المحضرة بقوله: فهذا وقير آمن في ثغائه وقار بأمن من حزمِّ كلال وأقصاص طلاب العلوم أمامهم موقرة من هيبة وجلال وأكثر طلاب المدارس همه بيان حرام أو بيان حلال وعمارها من كل ضنأ كريمة كريم كلال من كريم خلال أغرك مصباح الظلام بل إنه كمثل كلال العارض المتلالي يظلون لا يألون حتى كأنهم وليس بهم داع مراض سلال يقيمون فرض الخمس عند ندائها نداءً للأعمى أو نداء بلال(22/39)
جهود العلامة سديه
كذلك من الذين اشتهروا بهذه التضحية من النماذج المشهورة العلامة الشيخ سديه، فقد خرج من أهله وهو في الحادية والأربعين من عمره، وخرج لطلب علم الحديث والقرآن، فخرج على رجليه إلى (تشيد)، وأقام فيها فترة طويلة ولم يرجع إلى هذه البلاد إلا بعد أن جاوز الستين من عمره، وجاء بعلم جم، وبدأ التعليم والتدريس، وكان يقول لطلابه: ما ابيض وجه باكتساب كريمة حتى يسوده شحوب المطلب وكان كثيراً ما يتمثل بأبيات سيدي أحمد بن عبد العزيز الهلالي إذ يقول: تصدر للتدريس كل مهوس بليد تسمى بالفقيه المدرس فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ببيت قديم شاع في كل مجلس لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامها كل مفلس(22/40)
انحسار العلم والعلماء والدعوة إلى إحيائه
كذلك فإن حال المحضرة استمر إلى هذا الوقت حتى أدركنا الناس وهم هكذا يصنعون، وأدركت كذلك كثيراً من كبار السن الذين فنيت أعمارهم في المحاضر يطلبون العلم فيها، ومنهم الشيخ الراجل بن عبدولي رحمه الله فقد عاش فوق التسعين، وما عرفت أنه عاش إلا في محضرة، ولم يستحل مقاماً قط إلا في محضرة، فكل وقته كان في طلب العلم حتى لقي الله.
وقد كان يدرس معي وأنا صغير جداً وهو فوق الثمانين من عمره، كان زميلاً لي في الدراسة، وهكذا عدد كبير من كبار السن الذين ضحوا وبذلوا في سبيل بقاء هذا العلم وانتشاره، أما اليوم فقد بدأ التراجع وبدأ الحال على ما نرى، فقد أتيت مرة من المرات مدينة (قرو) -وقد كانت معقلاً من معاقل العلم- فاجتمع عليَّ كبار السن فيها فسألتهم: أيها الشيوخ! قبل ثلاث سنوات كم كان هنا في هذه المدينة من العلماء؟ قالوا: عدد كبير.
وبدؤوا يحصونهم.
فقلت: لكن كم تعدون الليلة فيها من العلماء؟ فبكوا ولم يتذكروا ممن يشيرون إليه إلا شخصاً واحداً أو شخصين.
هذا الحال ليس مختصاً بتلك المدينة بل هو في كل المدن، بل أعرف بعض الولايات التي كان الناس يضربون إليها آباط الإبل في طلب العلم وقد انتقل منها هذا العلم بالكلية، ولم يبق فيها من يدرس الآن.
إن هذا يقتضي منا أن نعيد إلى المحضرة دورها في حياتنا، وأن نخرج من أبنائنا وأجيالنا الصاعدة قوماً يضحون مثل تلك التضحية ليعيدوا لنا هذا العلم الضائع المسلوب المنهوب، وليعيدوا إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم مكانتها، وإني لأرى وجوهاً حبست أنفسها في الحر وفي العرق وهي تطلع على هذا الكلام الذي كثيراً ما يعرف هو وأمثاله؛ أرى فيها إن شاء الله تعالى من سيهتمون بهذا الأمر وينافسون فيه ولا يدعون مكانهم لغيرهم.
وأرى في الوجوه المتوقدة التي تنظر إلى هذا الكلام بعناية أقواماً سيكونون ممن يشار إليهم -إن شاء الله تعالى- بالبنان في العلم والعمل، وأرى أن من يطلعون على كلامي يعلمون أن هذا العلم كنز لا ينفد، وأنه خير من التنافس فيما يتنافس فيه الناس من حطام هذه الدنيا الفانية، وأن من عرف سيبلغ من وراءه، وأن النساء كذلك سيسعين لتربية الأولاد العلماء العاملين الذين يعيدون لهذه الأمة مجدها ويستردون لها تراثها، ولا شك أن فيهن أيضاً من تسعى لأن تكون عالمة ولأن تكون مدرسة قائمة بهذا الأمر كما كان عدد من الشيخات في هذه البلاد وغيرها.
نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا قرة عين لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يلزمنا التمسك بسنته عند فساد أمته، وأن يجعلنا أجمعين من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(22/41)
العدالة الاجتماعية
خلق الله الأرض وما فيها لمصلحة بني آدم، فهيأ لهم وسائل العيش، وجمع فيها أنواع الأرزاق، وسخر فيها لنبي آدم أربعة أمور هي أصول المنافع: المطعم، والمشرب، والمسكن، والملبس، فيجب على المسلم أن يتعامل مع المال بالاعتدال، وعدم الإسراف، وأن يستقر المال في يده لا في قلبه، فيسخره في طاعة الله ولا يكون هو مسخراً يعبد المال.(23/1)
تدبير الله سبحانه للخلق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإن الله عز وجل خلق هذه الأرض وما فيها لمصلحة بني آدم، فهيأ لهم وسائل العيش، وجعلها كفاتاً أحياء وأمواتاً، وجمع فيها من أنواع الأرزاق وما تحتاج إليه البشرية، ما لا يمكن أن ينفد حتى تنفد البشرية: (وإن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها).
ومن أجل هذا: فإن من بدائع لطف الله سبحانه وتعالى حين نشر البشرية في هذه الأرض، وعلم بأعداد البشرية الهائلة التي تزداد على الزمن وتتضاعف، أن خلق الموت ليعين به على نقص هذه الأعداد حتى تتسع الأرض لأهلها، ولو لم يخلق الله الموت لامتلأت الأرض ببني آدم، ولأخذوا ما فيها من الخيرات، واستوعبوا ما فيها من الطاقات، ولم يستطيعوا بذلك الاشتراك في العيش في هذه الحياة الدنيا، ولكن الله خلق الموت لهذه الحكمة البالغة.
ثم لو أنه أعلمهم بالموت ولم يخلق لهم الأمل لضاقت عليهم الأرض بما رحبت، حتى لو اتسعت وكثرت الأرزاق فيها؛ لأن من علم أن الموت وراءه يرصده، لا يمكن أن يطيب له عيش؛ لكنه خلق لهم الأمل، فلا يزال الإنسان يؤمل الحياة حتى وهو في السياق والنزع، فيؤمل أن يعيش؛ ولذلك يكتسب، ويقدم شيئاً للذين يعيشون على هذه الأرض من بعده.(23/2)
الناس ثلاثة أنواع
وقد جعل الله الناس ثلاثة أنواع: النوع الأول: من لا يستطيعون اكتساب أرزاقهم، فهم عاجزون إما عجزاً كاملاً وإما عجزاً ناقصاً، فليس لديهم من الطاقات ما يتحملون به اكتساب أرزاقهم وحاجياتهم.
النوع الثاني: من ساوى الله تعالى بين ما آتاهم من الطاقات وبين حاجاتهم، فلديهم من الطاقات ما يستوعب حاجاتهم ولا يزيد عليها شيئاً.
النوع الثالث: من آتاه الله من الطاقات أكثر من حاجاته، فهو ينتج لغيره، وجعل الله سبحانه وتعالى بتدبيره هذا الصنف محتاجاً إلى الأصناف الأخرى، لا يستطيع أن يمنّ عليها، وجعله -بأمله- يفكر التفكير الذي يعيش فيه القرون وراء القرون، فالمنتج لا ينتج لعمره فقط، ولو كان كذلك لما أنتج المبدعون الذين أتوا بإبداعات كان لها ما وراءها في تاريخ البشرية، ولو كانوا كذلك لانتخبوا حسب حاجاتهم فقط؛ ولكن لتدبير الله تعالى خلق الأمل فيهم، فصار هؤلاء يفكرون لزمن غير محدد، ومن هنا ينتجون إنتاجاً غير منقطع.(23/3)
ضروريات البشر
إن الله سبحانه وتعالى ضمن لآدم في الجنة أربعة أمور، وهي أصول المنافع فقال تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه:118 - 119]، وهذه أربعة أمور من ضروريات البشر.
فأولاً قال: (إن لك أن لا تجوع فيها)، فهذا يسد ضرورة الطعام، وثانياً قال: (ولا تعرى)، وهذا يسد ضرورة اللباس، وثالثاً قال: (وإنك لا تظمأ فيها)، وهذا يسد ضرورة المشرب، ورابعاً قال: (ولا تضحى) أي: لا تبرز للشمس، فهذا يسد ضرورة السكن، وهذه الأربع هي أمهات ضروريات البشر مطلقاً.
وبعد هبوط آدم إلى هذه الأرض وخروجه من الجنة هو وحواء، بعد أن بدت لهما سوآتهما، {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف:22] أضيف إليها حاجة الإنسان إلى جنسه؛ ليكون ذلك مدعاة لاستمرار النسل، فكانت ضرورة خامسة لأهل الأرض.
هذه هي الضرورات، وما وراءها ينقسم إلى قسمين: حاجيات وتحسينيات (تكميليات)، وكل ذلك يحتاج إليه البشر؛ لكن حاجتهم إلى الضروريات أعظم من حاجتهم إلى الحاجيات، وحاجتهم إلى الحاجيات أعظم من حاجتهم إلى التكميليات.
ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى جعل الضروريات ميسرة مهيأة في جميع الأزمنة منذ عهد آدم إلى زماننا هذا، فالهواء -الأوكسجين- الذي يتنفسه الناس على الأرض ميسر سهل، ولو أنه كان مثل المعادن النفيسة التي تحتاج إليها البشرية، لكان محتاجاً إلى طاقة وبذل وجهد، فيموت عدد كبير من الناس ممن لا يستطيعون الوصول إلى تلك الطاقة ولا إلى ذلك الضروري، ولكن الله علم حاجة الجميع إليه فيسره لهم فوق الأرض.
وكذلك الحاجة إلى الماء، جعل الله على الأرض مسطحات مائية تكفي لسقي الناس، وجعل في الصحاري طبقات من الأرض تمسك المياه التي تدخل في أجواف الأرض وتصفيها، وجعل الجبال ذات طاقة لتصفية المياه، وإخراج أملاحها، وإخراج ما فيها من المضار؛ لتكون مهيأة لشرب البشرية، وكذلك أنبت على هذه الأرض من أنواع الأشجار والثمرات والخيرات ما جعل البشرية وغيرها من الحيوانات التي تعيش على هذه الأرض مستغنية بذلك حتى قبل الاختراعات الحديثة، فهذه الضروريات لم تكن محتاجة إلى كبير تفكير ولا إلى كبير اختراع، منذ بدأت البشرية وهي تعرف كيف تبني من الحجارة بيتاً يكنها من الحر والبرد، وهي تعرف كيف تحرث الأرض وتزرع فيها، وهي تعرف كيف تتناول الماء وتستخرجه من الأرض.
فهذه ضرورات يسرها الله، ولا شك أن كثيراً منكم قد يتعجب إذا علم أن الماء مصنف في جنس المعادن، وهو كغيره من المعادن النفيسة؛ لكنه ما وجد في مكان في أعماق الأرض إلا وقد اكتشفته البشرية فيما مضى، والمعادن الأخرى تحيط به من كل جانب لا ينظر إليها أحد ولا يكتشفها، فكثير من آبائنا وأسلافنا، كانوا يكتشفون المياه في أعماق الأرض، ويعرفون أماكن وجودها، وكان يحيط بهذه المياه أنواع المعادن النفيسة ولا يطلعون عليها، ولا يستطيعون الوصول إليها.
وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى حين علم حاجة الناس إلى اللحوم وإلى الألبان ومشتقاتها، أنزل ثمانية أزواج من الأنعام من الجنة، فكانت أصول الأنعام في هذه الأرض، ثم أنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، فكان أصل الصناعات كلها، وعلم آدم الزراعة فكان ذلك أصل الفلاحة والزراعة كلها، فكانت هذه الأمور كفيلة بضمان البقاء والعيش على سطح هذه الأرض، ولله تعالى من الكواكب الأخرى -في مجموعتنا الشمسية وفي غيرها- ما هو أضعاف الأرض، ولم يجعل عليها هذه الأرزاق، ولم يضع فيها هذه البركات.(23/4)
الكلام على قوله تعالى: (فقضاهن سبع سماوات في يومين)
قال الله سبحانه وتعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:12]، وقال قبلها: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:9 - 10].
فلاحظوا أنه ذكر أربعة أنواع من الخلق في العالم السفلي، تقابلها أربعة أنواع من الخلق في العالم العلوي؛ وذلك للتوازن بين هذين السقفين: السقف الوطائي، والسقف الغطائي، فجعل بينهما توازناً بديعاً عجيباً، فقال: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت:9]، فهذا خلق لقشرة الأرض وما فيها، ثم قال: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} [فصلت:10] وهذه هي الجبال، وفيها من الفوائد للبشرية، والأشياء العجيبة جداً، فهي تمنع الأرض أن تميد بكم، وهي التي يستدل بها الناس ويهتدون بها، وهي التي تخزن المياه وتصفيها، وهي التي تحتوي على المعادن النفيسة في قلوبها، وهي تمنع من العدو، ويستتر بها عن أعين الحيوانات المفترسة، فكل هذا من فوائد هذه الجبال.
ثم قال بعد هذا: {وَبَارَكَ فِيهَا} [فصلت:10]، وهذه البركة التي في الأرض هي التي أخرجت ثمراتها، وأنبتت أشجارها، وجعلت فيها المعادن النفيسة والثمار الطيبة.
{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت:10]، وهذا النوع الرابع من أنواع الخلق في العالم السفلي، وهو أنه قدر فيها أقواتها، فهيأ في كل أرض من الأقوات ما يحتاج إليه سكانها، فالصحاري التي يقل سكانها تقل الثمرات فيها والزروع، والأراضي المكتظة بالسكان تكثر فيها الأنهار، وتكثر فيها الأشجار، وتكثر فيها الزروع، وهذا تدبير العزيز العليم الذي يعلم الأماكن التي تصلح لاستقرار البشرية، ويجلب إليها النفوس التي تناسب تلك الأرض، فبعض البيئات شديدة الحرارة يجلب لها أقواماً يصلحون لهذه البيئة، وبعض البيئات شديدة البرودة يجلب لها أقواماً آخرين يصلحون لتلك البيئة، وبين هذا وهذا أماكن متنوعة، يجلب لكل بيئة ما يصلح لها من أنواع البشر، ويكون ذلك مؤثراً حتى في أخلاقهم وطباعهم وألوانهم ولغاتهم.
ومن أجل هذا قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:22]، فربط بين اختلاف الألسنة والألوان، وبين خلق السماوات والأرض؛ مما يدل على أن اختلاف الألسنة والألوان يتأثر بالبيئات وبنمط العيش، وبطريقة السكن، فمن أجل هذا ترون تغير الألوان والألسنة في الأجيال بسبب تغير السكن والبيئة والمعاش، وقد يكون ذلك بالتغير الكامل كما يحصل في الانتقال من اللغات، فأصل اللغات لغات محصورة، قال ابن عباس: هي خمس وسبعون لغة؛ ولكنها تتنوع إلى ما لا يعلمه إلا الله، فشبه الجزيرة الهندية وحدها فيها أربعمائة وثمانون لغة يتكلم بها الهنود في منطقة محصورة في دولة واحدة! وكذلك في البلدان الأوروبية -التي هي من أضيق البلدان وأكثرها اكتظاظاً بالناس- عدد كبير من اللغات واللهجات المتباينة، ففي فرنسا وحدها: ثلاث لهجات من هذه اللغة، وفي إنجلترا أربع لهجات متباينة وهكذا، وهذا من التطور الحضاري الذي يقتضي تغير اللغات بالكلية، وعليه تجد الفرق بين العبرية والعربية واضحاً جداً، وكذلك الفرق بين الفارسية والتركية مثلاً، وتأثر بعض اللغات ببعض واضح؛ لاختلاط البيئات، كتأثر اللغة الأردية والتركية باللغة العربية، وتأثر اللغة الفارسية باللغة العربية أيضاً وهكذا.
وهذه اللغات لها حركات بطيئة عجيبة تسير مع الزمن، فلو أن أية لغة من اللغات أخذ أهلها قاموساً قديماً كان قبل ألف سنة متداولاً، وأرادوا التفاهم بما فيه من المفردات فيما بينهم، لوجدوا في ذلك أمراً شاقاً عسراً جداً، ومن هنا فإن الأشعار قبل ألف سنة لا يفهما طلاب المدارس اليوم في بلادنا؛ لأن اللغة تطورت بتطور المجازات وتنوع الدلالات، وبذلك لا تفهم تلك الأشعار.
وأركد اللغات اللغة العربية؛ فإن أولاد العرب إلى اليوم إذا سمع أحدهم قول امرئ القيس: (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) فإنه يفهم معنى هذا الشطر بسليقته، وإن لم يفهم معنى التركيب بكامله، لكنه يفهم الكلمات، وهذا البيت قد قيل قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بمائة سنة على الأقل.
ولركود اللغة العربية اختارها الله سبحانه وتعالى لكتابه القرآن، الذي تقوم به الحجة على من بلغ، فلو أن القرآن نزل بلغة غير اللغة العربية لم يعد اليوم صالحاً للفهم، ولأصبح محتاجاً إلى كثير من الشروح في كل زمان؛ لكن نظراً لركود هذه اللغة ولثباتها وندرة التغير في مدلولاتها، اختيرت أن تكون لغة هذا القرآن.(23/5)
الكلام على قوله سبحانه: (ثم استوى إلى السماء)
الأنواع الأربعة من أنواع الخلائق في الأرض قابلها الله سبحانه وتعالى بأربعة أنواع من أنواع الخلائق في العالم العلوي، حيث قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:11 - 12]، وهذا يقابل قوله: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:9]، إذاً: هذه السماوات السبع في العالم العلوي تقابلها الأرضون السبع في العالم السفلي.
{وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت:12]، وهذا يقابل قوله: {وَبَارَكَ فِيهَا} [فصلت:10]، وهذا الأمر الذي في السماء محجوب عنا ونحن لا نعلمه؛ لأنه ليس مهيئاً لنا، فالسماء ليست مهيأة لأن يسكنها البشر، ومن أجل هذا لم يكتشفوا ما يقابل هذه البركة التي يكتشفونها في الأرض.
ثم قال: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [فصلت:12]، وهذه تقابل الجبال في الأرض في قوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} [فصلت:10]، فالنجوم في السماء بمثابة الجبال في الأرض.
ثم قال: {وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:12]، وهذا الحفظ هو المقابل لقوله: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت:10]، فهذا الحفظ الذي في السماء، يقابل الأقوات التي في الأرض، ومن هنا يستغني الملائكة بالحفظ عن الأرزاق، فهم عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وبحفظ الله لهم يستغنون عن الأرزاق، فليسوا مثل أهل الأرض وسكانها يحتاجون إلى هذه الأرزاق.
ومن تدبير الله سبحانه وتعالى أن هذه الخيرات المحجوبة في الأرض، وبالأخص ما يتعلق بالحاجيات والتكميليات لا يمكن أن يكتشف في عصر واحد، ولا أن تستخرج فيه، إذ لو استخرجت فيه لنفذت احتياجات الناس، والبشرية لا تزال تتمدد وتكثر احتياجاتها، فجعل الله تعالى اكتشاف هذه الخيرات بالتدريج، فنحن في هذه البلاد اكتشفنا معدن الحديد، فعاش الناس زماناً على هذا المعدن، ثم بعده اكتشفت معادن أخرى، فيمكن أن يكتشف من المعادن ما هو أيسر وأسهل منه كالنفط مثلاً أو غيره من المعادن الأخرى التي يحتاج الناس إليها، وهكذا في كل البلدان، وهذا تدبير العزيز العليم.(23/6)
تأمين الله الأرزاق في الأرض
إن من تدبير الله سبحانه وتعالى أن أمّن الأرزاق في هذه الأرض، ولم يجعلها ملكاً فردياً لمكتشفها، وإنما جعلها للبشرية، فجعل المال الذي في الأرض ملكاً لله سبحانه وتعالى، والبشر مستخلفون فيه فقط، وهذا يقتضي منهم ألا يبذروا فيه وألا يسرفوا، وألا يحجروه على أنفسهم، وألا يمنعوا الآخرين من الانتفاع به؛ لأنه مال الله، والإنسان فيه مستخلف فقط، فهو بمثابة الوكيل ينتظر العزل في كل حين.
وعزله يكون بالموت، فينتقل ويترك ما وراءه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94]، أو يكون عزله بالحجر عليه، فلا يستطيع التصرف في ماله بقهره وسجنه، أو بمرضه مرضاً يمنعه من التصرف، أو بنقص عقله بكبره وهرمه، أو غير ذلك من أنواع العزل التي يعزل الله بها من شاء عن التصرف فيما جعل تحت يده من المال.
والله سبحانه وتعالى بين لنا أن هذا المال الذي جعل في هذه الأرض، ملك له سبحانه وتعالى، وليس ملكاً لنا، وأنه استخلفنا فيه فقط، فقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]؛ ولهذا خاطب الملائكة بقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] أي: مستخلفاً فيما في الأرض من أنواع الخيرات والأملاك، وبين أنه خلق لنا هذا بقوله: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29].
وهذا ينقسم إلى ثلاثة أنواع: ما خلق انتفاعاً، وما خلق اعتباراً، وما خلق اختباراً: فما خلق انتفاعاً مثل: أنواع الأرزاق التي في هذه الأرض وينتفع الناس بها.
وما خلق اعتباراً، مثل: ما في هذه الأرض مما لا ينفع ولا يضر، وإنما نراه فنتعظ، كأنواع الحشرات غير السامة وغير الضارة التي إذا حفرنا في الأرض أمتاراً، نجد فيها أنواع الدود وغيرها من أنواع الحيوانات التي تعيش في جوف الأرض، ويتعظ الإنسان فيها فيقول: من أين يأتيها الهواء؟ ومن أين يأتيها الماء؟ وكيف تعيش؟ وكذلك ما نراه في الصحاري من أنواع الغزلان والوحوش وغيرها، يقول الإنسان: من أين يأتيها الماء؟ وكيف تعيش؟ وما غذاؤها؟ فيتذكر قول الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6]، وحينئذ سيكون الإنسان متعظاً مستفيداً من هذه الحيوانات وغيرها مما خلق الله في الأرض، فلم يخلق الله شيئاً عبثاً، بل كل ما في الأرض لحكمة بالغة: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء:16].
النوع الثالث: هو ما خلق اختباراً، وهو ما يسلطه الله على الإنسان من أنواع الجراثيم، ومن أنواع الميكروبات، وأنواع الأوبئة الفتاكة، وحتى أنواع الأسلحة الفتاكة التي ييسر الله من يكتشفها ويستغلها، فهي خلقت اختباراً للبشرية، فالإنسان يمرض، ويصاب بالمصائب، ويموت، وكل ذلك اختبار له: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، فكلها من الاختبارات والابتلاءات العجيبة.
إن هذه الأرزاق إذا علمنا أنها مملوكة لله سبحانه وتعالى فإن علينا ألا نبذر فيها، وأن نعدل في توزيعها، ولا نحتكرها، وألا ندخرها لأنفسنا دون من سوانا، وهذه هي الأسس التي قام عليها الاقتصاد الإسلامي، فكل مشروع حضاري أياً كان، لا بد أن تظهر ثمرته للموضوعات الحساسة التي يعيشها الناس، وإن من الموضوعات الحساسة التي يعيشها الناس موضوع الاقتصاد، وإن النظرة الإسلامية للعالم كله مشروع حضاري متكامل، فمن أجل ذلك اقتضى بيان أوجهه المختلفة، وبالأخص الكلام في الموضوعات الحساسة منه كموضوع الاقتصاد البشري؛ فلذلك لا بد أن يظهر للمسلمين رأي بارز ونظرة موضوعية حيال هذا الاقتصاد، وحيال اكتسابه، وحيال توزيعه، فإن الطاقة التي في الأرض، والنفع الذي فيها ملك للجميع، يدخل فيه المؤمن والكافر، فليس للمؤمن أن يحتكر الخيرات ويمنع الكافر منها.
ولهذا نص العلماء على أنه لا يجوز للمؤمن إذا لم يجد من الماء إلا ما يكفي لوضوئه أو لشرب كافر أو كلب عقور أو حيوان غير محترم، لا يحل له أن يميته بالعطش ويتوضأ بذلك الماء، بل إما أن يسقيه ويتيمم، أو أن يقتله ويتوضأ بالماء بعد قتله، وذلك أنه مشارك له في هذا الماء وله حق فيه، وهذا يشمل جميع الحيوانات، وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن بغياً من اليهود غفر الله لها ذنبها؛ بسبب كلب مرت به عند بئر وهو يلهث ويأكل الثرى من العطش، فنزلت ونزعت موقها فاغترفت به من الماء، وأمسكت بفيها حتى صعدت وسقت الكلب، فغفر الله لها).
وكذلك ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (دخلت امرأة النار في هرة ربطتها لا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض)، فهذا يقتضي اشتراك كل أنواع الحيوانات في هذه الأرزاق التي خلقها الله في هذه الأرض، وانتفاع الجميع بها.(23/7)
مفاتيح الخير ومفاتيح الشر من الناس
من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، ومنهم -نسأل الله السلامة والعافية- مغاليق للخير مفاتيح للشر، فالذين هم مفاتيح الخير: يفتحون أبواباً لأنواع الأرزاق والانتفاعات، ينتفع بها المؤمن والكافر والحيوان البهيمي، وغير ذلك.
ومنهم مغاليق للشر: يغلقون أبواباً فيها مضرة تهلك الحرث والنسل، وتقضي على أنواع الكائنات الحية، سواء كانت من الحيوان أو من النبات.
ومنهم عكس ذلك: مغاليق للخير، يجدون باباً واسعاً يعيش منه الناس فيفعلون ذنباً يزول به ذلك الباب، وكم من قوم كانت أمورهم مستقيمة، وكانت حياتهم طيبة، فجاء أصحاب الذنوب فأذنبوا وأسرفوا؛ فأغلق الله باب ذلك الخير الذي كانوا يعيشون منه، وأنتم تقرءون في سورة سبأ قصة أصحاب سبأ الذين فتح الله لهم أنواع الأرزاق في هذه الأرض، ويسر لهم سبل الانتفاع بها، وهوّن عليهم الانتقال، ويسر لهم السبل، ولكنهم بغوا وطغوا؛ فبدل الله ذلك، وأهلكهم على يد أضعف خلق الله، على يد فأرة، فأهلكهم الله بذلك، ومزقهم كل ممزق، وجعلهم خبراً بعد عين.
وكذلك الحال في الأمم التي طغت في البلدان كلها، فعاد الذين بسط الله لهم أنواع الأرزاق، وزادهم بسطة في أجسامهم على قوم نوح، وأطال أعمارهم، ومع ذلك بغوا وطغوا، فأرسل الله عليهم الريح ثمانية أيام حسوماً، فقضت على الأخضر واليابس في بلادهم، وما زالت بلادهم إلى اليوم لا يستطيع أحد السير فيها، وإذا سارت فيها سيارة وأرادت المنقلب في نفس الساعة يضيع أثرها، ولا تهتدي إلى المكان الذي خرجت منه، وبلادهم اليوم بلاد الأحقاف، وهي معروفة بالربع الخالي في جزيرة العرب، وما زالت الريح مستمرة فيها على أثر تلك الريح التي سخرها الله ثمانية أيام حسوماً.
وكذلك ثمود الذين يسر الله لهم أنواع الأرزاق، وجعل لهم الجبال بيوتاً، بغوا وطغوا فأرسل الله عليهم الصيحة التي أهلكتهم، وشقت شغاف قلوبهم، فلم يستطع أحد منهم أن يصمد أمامها، فهلكوا جميعاً في لحظة واحدة.
وكذلك قوم لوط ومن سواهم من الأمم الذين كانوا يعيشون في نقطة التوازن في العالم بمكة -شرفها الله وحرسها- كانوا إذا بغوا في الحرم يسلط الله عليهم ما يهلكهم ويبيدهم، فعندما يسر الله تعالى لإبراهيم مكان البيت وبوأه له وأمره أن ينزل عنده أمته وولده، وأراه مكانه؛ أخرج الله بهذا الوادي الموحش الذي لا زرع فيه -بواد غير ذي زرع- هذا الماء الطيب، الذي لم يزل إلى يومنا هذا يسقي الحجيج، وهو ماء زمزم، فساكن هاجر في ذلك المكان العمالقة، ولكنهم حين بغوا فيه سلط الله عليهم جُرهم، فقتلوهم قتل عاد وإرم وأخرجوهم منه، ثم حين بغى جُرهم أهلكهم الله أيضاً، وسلط عليهم الذين جاءوا من سد مأرب كخزاعة وغيرهم، ثم لما بغى خزاعة بالحرم سلط الله عليهم قصياً فأخرجهم، واستمر ذلك في زمان الجاهلية كله؛ ولهذا تقول امرأة من قريش لولدها: أبني لا تظلم بمكة لا الكبير ولا الصغير أبني قد جربتها فوجدت ظالمها يبور الله آمنها وما بنيت بساحتها القصور ولقد غزاها تبع فكسا بنيتها الحرير يمشي إليها حافياً بفنائها ألفا بعير والله آمن طيرها والعصم تأمن في ثبير وكان الحكم في الجاهلية والردع عن طريق القوة الباطنية، فلما جاء الإسلام ظهرت القوة الحسية الواقعية، فرفع ذلك العقاب، كما قال ابن عباس: إن العقاب الذي كان يأتي إلى الجاهلية في جاهليتهم كان عقاباً باطنياً، فلما جاء العقاب الظاهري بشرع الله عز وجل رفع الله العقاب الباطني، فكان الذئب في الجاهلية يطرد الأرنب حتى تدخل الحرم فيرجع ويتركها! واليوم أصبح الناس يتجرءون على معاصي الله في حرمه ويقتلون، ويقومون بأنواع الجرائم، فلا يرون بعض تلك الآيات التي كان يراها أهل الجاهلية؛ وذلك حينما ردع الله بهذا الدين، وبما شرع في كتابه المبين من أنواع الزواجر التي تكفي أهل الإيمان، وتردهم عن الطغيان.(23/8)
النظرة الموضوعية للاقتصاد تقتضي الاعتدال في التعامل مع المال
إن النظرة الموضوعية للاقتصاد تقتضي الاعتدال في التعامل مع هذا المال، فإذا كان الإنسان ينظر إليه وهو يعلم أنه لا غنى له عنه، وأنه عصب الحياة، ولكنه ليس ملكاً له، ولن ينال منه أكثر من رزقه، فإنه سيحاول أن يجعله في يده لا في قلبه.
فمستقر المال في النظرة الإسلامية اليد، ومستقره في النظرات الأخرى القلب؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس)، فتجد الفقير الذي لا يملك ديناراً ولا درهماً غنياً مرتاحاً راضياً بما أوتي، ويتصرف على وفق ما آتاه الله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وتجد الغني في المال -إذا كان المال في قلبه- إذا فقد منه درهماً واحداً ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وينشغل في عمرة تنمية ماله حتى يكون خادماً للدنيا، وكان المفروض أن تكون الدنيا خادمة له، فكثير من الناس هم عباد للدنيا يخدمونها، والدنيا ليست خادمة لهم، إذا جعل الله تحت أيديهم بعض هذه الدنيا كان أذىً عليهم ونكالاً ووبالاً، فهم يعملون لها ليل نهار، ويقضون أوقاتهم الثمينة لخدمتها.
وفي المقابل نجد آخرين لم يؤتهم منها إلا القليل، ولكنهم استغلوه لخدمة أنفسهم، فقدموه لآخرتهم، واستعانوا به، واستعفوا به في دنياهم؛ وبذلك سيروه وفق ما أمر الله به، ومن هنا كان جوابهم يوم القيامة جواباً مجدياً، وجواب الأولين جواباً مخزياً، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن علمه فيما عمل به)، فالمرء سيسأل عن ماله بسؤالين يوم القيامة: من أين اكتسبته؟ هل أخذته من حله؟ ثم بعد ذلك: هل وضعته في محله؟ وهذان السؤالان لا بد أن يجعلهما الإنسان نصب عينيه، وهو يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، فالناس جميعاً تجار، وهم مفطورون على حب المال، ولكن تفاوتهم في ذلك أن منهم من لا يأخذه إلا من حله، ولا يضعه إلا في محله، ولا يطغى إذا تكاثر عليه، ولا يجزع على ما فاته منه، كما قال تعالى: {لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [آل عمران:153]، {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23]، فلا ينبغي للإنسان أن يحزن على ما فاته منه؛ لأن ذلك سلبي، ويجعله يتحسر، ويتقطع حسرات على أمر غير مقدور، ولا يمكن أن يناله، فيقتطع جزءاً من وقته وتفكيره دون أن يفيده شيئاً، وليس له كذلك أن يفرح بما نال منه؛ لأن ذلك مدعاة للطغيان؛ ولهذا كان قوم قارون ناصحون له حين قالوا له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]، فهذا قانون متكامل، يشتمل على أربعة مواد، ينبغي لكل ساع لجمع المال أن يجعلها نصب عينيه: أولاً: أن يبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة.
ثانياً: ألا ينسى نصيبه من هذه الدنيا، وحظه منها.
ثالثاً: أن يحسن كما أحسن الله إليه، وأن يستشعر مسئوليته تجاه الفقراء حين أغناه الله.
الرابعة: (ولا تبغ الفساد في الأرض) فلا يبغي الفساد في الأرض.
وهذا إذا حاولنا شرحه فسيطول بنا الحديث، ولن نأتي إلى حقائق يسيرة من معنى هذه الآية القليلة الألفاظ، الكثيرة المعاني.
قال الله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77] ولم يقل فيها: (وابتغ بما آتاك الله الدار الآخرة) لأن هذا مستوى من الإيمان رفيع جداً، وهو أن يخرج الإنسان كل ما لديه في سبيل الله، وهذا لا يصل إليه إلا الصديقون، ولا يمكن أن يكون قانوناً عاماً لكل الناس، بل قال: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77]، و (في) للظرفية المقتضية للوسط، فالظرفية تقتضي الوسط، فليس مطالباً بأن ينفق خير ماله، وليس مطالباً كذلك بأن يتيمم أدناه: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267].
وقوله: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، هذا يقتضي من الإنسان أيضاً أن يعلم أن له نصيباً محصوراً قليلاً في هذه الدنيا، حتى لو عاش عمراً طويلاً، فإنه عندما يوضع في قبره سينسى ذلك العمر كله، ويظن أنه ما عاش فيها إلا يوماً أو بعض يوم: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه:104]، ومن أجل هذا فإن على الإنسان أن يعرف حظه من هذه الدنيا، وأن يعلم أنها ليست له وحده، وأن عليه أن يصلحها ويدعها لمن وراءه، فهو بمثابة الراكب الذي استظل بظل شجرة، فلا ينبغي أن يقطعها ولا أن يفسدها حين ينهي غرضه منها، بل يتركها لمن يستظل، وإذا رجع مرة أخرى استفاد منها.
وهذا المثال النبوي عجيب جداً أيضاً، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب لنا المثل فقال: (ما لي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة)، الراكب إذا رأى الشجر ينبغي أن يختار خيره، وأبلغه ظلاً، وأنظفه مكاناً؛ لأنه يختار لنفسه المكان الملائم المناسب، ولكنه مع ذلك لا يتعب تعباً شديداً في استصلاح هذا الظل، ولا الاستقرار فيه، فهو يعلم أن الظل سريعاً ما يتحول وينقلب، ويعود الفيء إلى المشرق، ثم تغرب الشمس، وحينئذ يزول الظل: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان:45 - 46]، كذلك فإن الراكب إذا استظل بظل شجرة، فكثيراً ما تكون بعد ذلك ذات ظل دائم لمن يأتي بعده؛ لأن العرب يقولون: ولن تُصادفَ مَرْعىً ممْرِعاً أبداً إِلا وَجَدْتَ به آثارَ مُنْتَجِعِ فالمكان الذي يستظل الناس به عادةً سيكون مطروقاً ويستظل الناس به، وإذا رحلت عنه قافلة عادت إليه أخرى؛ وقد جاء في الحديث: (لعن الله من غير منار الأرض) والمقصود بذلك: أن من يقطع الأشجار التي هي معالم في الأرض، أو يغير الطرق والسبل، يؤدي بعمله ذلك إلى إتلاف وإفساد في الأرض، فهو ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.(23/9)
واجب الأغنياء نحو الفقراء
قال الله: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]، إن على الأغنياء أن يستشعروا أن الله عز وجل هو الذي قسم هذه الأرزاق، ولم يقسمها على أساس عقل، ولا على أساس علم، ولا على أساس جاه، ولا على أساس قوة بدن، وإنما قسمها لحكمة، وجعلها امتحاناً ومسئولية، فمن آتاه الله هذا المال فعليه مسئولية عظيمة تجاه الفقراء، خاصة إذا جعل الله أرزاقهم تحت يديه، وولاه عليهم، واستخلفه على أرزاقهم، فهو سبيل من سبل الخير، وطريق من طرقه، إما أن يستكثر وإما أن يستقل.
ولهذا فإن الذين جعل الله أرزاق الناس تحت أيديهم إن أحسنوا نالوا أجور كل من انتفع بما تحت أيديهم من المال، وإن أساءوا فإنه سيكتب عليهم أوزار أولئك الذين منعوهم ما يستحقون، وحالوا بينهم وبين ما خلق الله لهم، وهذا يبين أصلاً شرعياً كبيراً ينبغي أن يدخل فيه كثير من القواعد، فمن أجله حرم الله الربا، ومن أجله حرم الله الاحتكار، ومن أجله حرم الله الإسراف، ومن أجله حرم الله الغش والخيانة، ومن أجله حرم الله سبحانه وتعالى الجهالة في البيع، ومن أجله حرم الله سبحانه وتعالى المكوس وغير ذلك من أنواع الإفساد في الأرض.
فهذه الأصول ما حرمت إلا من أجل المسئولية التي هي على الأغنياء تجاه الفقراء، وإذا استشعروها فإنهم سيستصلحون المال لا لأنفسهم، بل سينفقون على عدد كبير من الناس، وسيزداد التكافل بذلك بين الناس، ومن أجل هذا شرع الله سبحانه وتعالى الزكاة في المال، وجعلها واجبة على الأغنياء، تؤخذ منهم وترد على فقرائهم، وهي حق في المال نفسه، وشرع كذلك حقوقاً أخرى في المال، ففي المال حق غير الزكاة كما صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وذكر من تلك الحقوق: أن يحتلب الناس من ضروع مواشيه إذا أوردها على المياه، ومن هذه الحقوق: الصدقة من الزرع إذا بدا صلاحه كقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141]، وهذا الحق الذي يجب يوم الحِصاد، قال أكثر المفسرين: هو غير الزكاة الواجبة؛ لأن الزكاة ليست واجبة في يوم الحصاد بعينه، وهذا حق زائد عليها، وهو صدقة شكر على ما أخرج الله لنا من الثمرات.(23/10)
التكافل الاجتماعي في المجتمع المسلم
هذا وإن مشروعية الصدقات الأخرى والتكافل الاجتماعي المطلق، به يتم الاتصال بين البشرية، وترتبط الوشائج كالصداق بين الرجل والمرأة، وكالنفقة الواجبة بين الوالد وولده، والزوج وزوجته، والمملوك ومالكه، فهذه النفقات كلها تدخل في إطار هذا التكافل الاجتماعي الذي هو من المسئولية المالية.
وكذلك الحق العام في المال؛ فإن في المال حقاً عاماً للأمة كلها، يؤخذ إما بطريق التبرع، وإما بطريق التقويم والتقدير، كذلك فإن من موارد التكافل الاجتماعي ومن أوجهه المطلوبة، ما بينه الشارع في أن الأغنياء عليهم أن يشاركوا بأموالهم في إعلاء كلمة الله تعالى، وإعزاز دينه، وهذا يشمل إنفاقهم في الجهاد في سبيل الله وغزو العدو، وإنفاقهم كذلك في تعلم العلم وفروض الكفايات، وإقامة الجسور والمساجد والمستشفيات وغير ذلك من أنواع المصالح التي يحتاج الناس إليها، وكانت هذه المشاريع في صدر الإسلام فردية، يقوم بها بعض الأفراد، فيقيمون المدارس من تلقاء أنفسهم، ويجعلونها أوقافاً، ويقفون عليها الحوانيت والمزارع، فيضمن ذلك بقاءها واستمرارها وحريتها، وبهذا الوقف خرج العلماء الأفذاذ الكبار؛ لأنها عاشت -أي: الأوقاف- في جو من الحرية، يضمن لها الاستمرار، وعدم التدخل في قراراتها.
أما حين أخذت أوقاف المدارس، وأصبحت مؤسسات تابعة للدول، فإنها عاشت في أحضان العبودية، وفقدت أنفاس الحرية، ومن أجل هذا لم تخرج العلماء، وإنما أصبحت مؤسسة من مؤسسات النظام الفاسد، فالأزهر كان مؤسسة حرة، ينفق عليه من الأوقاف التي وقفها عليه تجار المسلمين في قرون طويلة، وقد أخرج عدداً كبيراً من العلماء، واستفادت منه أمة محمد صلى الله عليه وسلم عدة قرون؛ وحين جاء عبد الناصر أمم أوقافه وأخذها لصالح الدولة، أصبح الأزهر ينفق عليه من ميزانية الدولة، وأصبحت الدولة هي التي تعين فيه وتعزل، وتضع له المناهج والبرامج؛ فتوقف دوره، وتوقف عطاؤه، ولم يخرج ما كان يخرجه من العلماء، وكذلك في البلدان الأخرى المختلفة.
وهكذا المستشفيات كان الأفراد والتجار يقومون ببنائها، ويتطوعون بها لصالح الأمة، ويوقفون عليها الأوقاف ذات الريع المستمر، فتستفيد الأمة من ذلك، واستمر هذا زماناً طويلاً في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعاش الناس فيه بخير، حتى حصل تعميمها، ورجعت إلى مؤسسات مملوكة للقطاع العام، ليس وراءها عناية ولا صيانة، ولا يرصد لها مال مخصص، أو أصبحت أملاكاً للقطاع الخاص، وفي مجال التنافس لم يعد يسيرها روح الإنسانية والتكافل، فأصبحت مكاناً لكسب المال والتنافس في جمعه.
وقد كان الناس قديماً يجتهد أحدهم في أن يبني مسجداً أو مدرسة أو مارستاناً -والمارستان هو المستشفى- وفي ذلك يقول أحد الشعراء يمدح أحد العلماء: أنشأت مدرسة ومارستاناً لتصحح الأديان والأبدانا فالمدرسة لتصحيح الأديان، والمارستان لتصحيح الأبدان.
وكذلك من أوجه التكافل الديات التي تدفعها العواقل، فإن الخطأ ليس من كسب الإنسان، وليس من طاقته التخلص منه، ولو حمل عليه لنقص إنتاجه، وقصرت به أفكاره عما ينتج لصالح هذه الأمة.
فلو كان الإنسان يسوق سيارته فحصل حادث من غير قصد منه، فمات به عدد من الناس، وكلف هو بدياتهم أجمعين؛ لترك الناس قيادة السيارات، وتوقفت الكثير من المشاريع النافعة، وكذلك لو أن الإنسان كان يعلم أنه إذا بنى مبنىً، وانهدم في أثناء بنائه من غير قصد منه، ودفع ديات المتأثرين به؛ لتوقف الناس عن البناء، وتعطلت منافع كثيرة للبشرية، وكذلك في الحفر، وكذلك في استخراج المعادن، وغير ذلك من أنواع المشاريع النافعة.
فلتشجيع الناس على هذا، جعلت هذه العواقل هي التي تتحمل ديات الخطأ سواء كان ذلك في الأنفس أو في المنافع أو في العظام والشجاج.
وكذلك الدواوين التي تقوم مقام العواقل، فالحضارة منافية للقبلية التي هي نظام بدوي في الأصل، والحضارة تجتمع فيها القبائل، وتختلط فيها الأعراق، وتقف فيها العصبية القبلية، فمن أجل هذا احتيج فيها إلى بديل عن العواقل، فأنشأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإجماع من الصحابة الدواوين، التي أصبح أهل كل مهنة يدفعون فيها الدية تكافلاً فيما بينهم، فالشرطة يدي بعضهم عن بعض، والجيش يدي بعضهم عن بعض، والمعلمون يدي بعضهم عن بعض، والأطباء يدي بعضهم عن بعض وهكذا، فهذا عندما يزول النظام القبلي، وتختلط الحضارة، وتنتفي العصبيات.
هذه الأوجه للتكافل والتكامل بين البشرية ينبغي ألا يغفل عنها، وأن تدعم وتقوى في حياة البشرية؛ حتى يعرف من أين يؤتى بهذا المال؟ وفيما ينفق؟(23/11)
الإسراف وخطورته
ثم إن على الإنسان ألا يسرف؛ ولهذا قال: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص:77]، فالفساد في الأرض يتناول الإسراف في النفقات؛ لأن الإنسان له طاقة وله حاجة، فعليه أن يقارب بين حاجته وبين ما يستغله، فما يحتاج إليه لا ينبغي أن يكون أكثر مما ينتجه، وإذا كان ينتج الكثير، فإن عليه ألا يزيد في احتياجاته، وأن يرشد تلك الاحتياجات؛ لأن من البشرية قوماً لا ينتجون أصلاً، وهو يقوم عليهم بمقابل ذلك.
ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى أخبر عن نفسه أنه لا يحب المسرفين؛ ولذلك يقول الناظم: والسرف السرف إن السرفا عنه نهى الله تعالى وكفى ولا يحب المسرفين كافي في كف كفك عن الإسراف(23/12)
دخول الإسراف في أعمال البر
وقد اختلف العلماء في الإسراف هل يدخل في أعمال البر أو لا؟ وأجمعوا أنه يدخل في أمور الدنيا كلها، فذهبت طائفة منهم إلى أن السرف يدخل حتى في أعمال البر، فالذي يتصدق بكل ماله، إذا كان يعلم حاجته إليه ولم يكن له تدبير يعوض به ما أنفقه فهو مسرف، واستدلوا على هذا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن ثابت بن قيس بن شماس جذ نخله فتصدق بثمرته كلها، ولم يستبق منها تمرة واحدة يفطر عليها، غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً عند ذلك، فهذا دليل على أن الإسراف في مثل هذه الأمور غير محمود شرعاً.
فعلى الإنسان أن يترك ما ينفق به على أهله، وقد ثبت في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه مرض بمكة، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده فقال: (يا رسول الله! إني ذو مال ولا يرثني إلا بنية لي، أفأتصدق بمالي كله في سبيل الله؟ قال: لا، أمسك عليك بعض مالك، فقال: أفأتصدق بثلثيه؟ قال: لا، قال: أفأتصدق بشطره؟ قال: لا، قال: أفأتصدق بثلثه؟ قال: نعم، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون، فقلت: يا رسول الله! أخلف بعد أصحابي، فقال: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فيّ امرأتك)، فعاش سعد بعد هذا زماناً، وورثه اثنا عشر ولداً لصلبه، وخرج من ثلث ماله في سبيل الله عدة مرات بعد ذلك.
وهذا يقتضي منا ألا نتعجل في تصدقنا، وأن يكون تصدقنا متزناً، فالإنسان آتاه الله تعالى ثلث ماله عند حضور أجله يمكن أن يوصي به، حتى في حال مرض الموت، ففي الحديث: (إن الله قد أعطاكم ثلث أموالكم عند موتكم تتصدقون به)، وهذا هو الوصية، والوصية لا تزيد عن الثلث، فلا يجوز للإنسان أن يوصي بأكثر من ثلث ماله.(23/13)
أضرار الإسراف في المطاعم والمشارب
السرف يكون أيضاً في المطاعم والمشارب ونحوها مما يقتضي مضرة بالبدن، وهذه المضرة أنواع، فما من شيء فيه منفعة وإلا وفيه نوع آخر من أنواع الضرر، فالماء فيه منافع لا تحصى، ومع ذلك فيه مضار؛ فإنه يقتضي نقصاً لبعض إفرازات المعدة التي يحتاج إليها الإنسان في هضم غذائه؛ وكذلك غيره من أنواع المشروبات، وأنواع ما يستعمله الإنسان في نفسه، فإذا زاد عن الحاجة أو تمحض وحده أضر.
ومن هنا؛ فإن كثيراً من الأمراض المعروفة اليوم سببها الغذاء: كالمرض السكري، فهو ناشئ عن الإسراف في النشويات، وكمرض القلب فهو ناشئ عن الإسراف في الدهنيات، وكمرض الكلى فهو ناشئ عن الإسراف في المآكل ونقص المشارب، وكذلك أنواع الأمراض الأخرى كبعض الأمراض الجلدية فهي ناشئة عن الإسراف في استعمال السكر مثل البرص والبهق وغيرها، وكذلك بعض الأمراض تنشأ عن الإسراف في استعمال الأملاح، وبعضها ينشأ عن الإسراف في استعمال السوائل كالترهل، وهو السمنة الزائدة، فإنها تنشأ من استعمال السوائل والإسراف فيها أكثر من الحاجة، فتقتضي الاتساع في البطن، فإذا أكثر الإنسان وأسرف فيها تضخم بدنه، فكان ذلك مرضاً من الأمراض؛ لأنه يضعف قواه، ويؤدي إلى احتكاك مفاصله، وتوقف أماكن النمو في بدنه، وكثيراً ما يؤدي إلى أمراض كثيرة.
كذلك الحركات: فالإسراف فيها يقتضي بعض الأمراض، فالإسراف في الرياضات يقتضي المرض في الغضروف الذي يحول بين فقرات الظهر، فيتمطط ويتمدد.
وكذلك الإسراف في المشي يقتضي أمراضاً في الركب، كالاحتكاك والاحتقان وغيره.
فالإسراف مضرة أياً كان هذا الإسراف.
وكذلك الإسراف في الملابس، فإنه أيضاً يقتضي مضرة، فزيادة ثقلها فيه ثقل دائم على الإنسان، ووزن زائد على وزنه، والإنسان ذو طاقة محددة، عليه ألا يزيد وزنه عليها، وألا تزيد حمولته الدائمة عليها.
ومن هنا فإن كثيراً من الأمراض ينشأ عن عدم الاعتدال في النعلين، فيكون الإنسان يسير سيراً غير مستقيم، إحدى رجليه أرفع من الأخرى، فيصاب بمرض ونقص للتوازن بسبب ذلك؛ لأن سرعة الدم في أحد الشقين ستكون أبلغ من سرعته في الشق الآخر، فيؤدي هذا كثيراً إلى بعض السرطانات، وبالأخص سرطان الدم وغيره، وقد حصل في إحدى الشركات التي كانت تصنع النعال في الولايات المتحدة الأمريكية أن أقيمت عليها دعوة في المحاكم، بسبب أن نعالها لم يكن مبالغاً في وزنها من ناحية المقاس، فرفعت عليها دعوى أدت إلى إفلاسها، وأخذ أموالها.
إذاً هذا يقتضي منا عدم الإسراف مطلقاً، ويذكر العلماء أن الإسراف في القراءة مقتض لأمراض بدنية، واختلال في القوة العقلية.
والقوة العقلية وغيرها من القوى وزنها الله على حسب بدن الإنسان، وعلى حسب روحه، فإذا زادت اختل توازنه، فكثير من الناس يريد زيادة العقل ويتمنى ذلك، لكنه لا يعلم أنه لو زيد عقله لاقتضى ذلك اختلالاً فيه؛ لأن الله وزنه على هذا الميزان، وقدره على هذا التقدير؛ ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:1 - 2]، فهذا التقدير العجيب تقتضيه حكمة الله سبحانه وتعالى، وهو الاعتدال العجيب في خلقة الإنسان، فلا بد أن يكون الذراعان على حجم واحد، واليدان على حجم واحد، والأذنان كذلك، والعينان كذلك، والرجلان، والساقان، والفخذان وهكذا، حتى يتم قوام الإنسان، وما شذ عن هذا كان عيباً في الخلقة وضعفاً.(23/14)
أركان الإيمان
لقد أوجب الله عز وجل على عباده أركان الإيمان الظاهرة والباطنة، ولا يقبل من العبد الإسلام بدون العمل بالإيمان وأركانه كما بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه والنبي صلى الله عليه وسلم في سنته، فيجب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، فتلازمه مع مراتب الدين الأخرى عظيم، وأثره كبير في قلب المؤمن وجوارحه وحياته كلها.(24/1)
تعريف الإيمان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين, وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن موضوعنا عن الإيمان الذي شرطه الله تعالى على عباده، وأرسل الرسل من أجله، فقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] , ومن أجله يعرف الله عز وجل، وتعرف كتبه ورسله، ومن أجله يؤمن الشخص بقضاء الله وقدره النافذ، ومن أجله يؤمن باليوم الآخر والبعث بعد الموت.(24/2)
تعريف الإيمان لغة
إن الإيمان في اللغة يطلق على إطلاقين: أحدهما: معدى بالباء.
والآخر: معدى باللام.
أما المعدى بالباء فمعناه: التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك والذي يحض على العمل.
فالتصديق غير الجازم لا يسمى إيماناً، والتصديق الجازم الذي يقبل الشك لا يسمى إيماناً، والتصديق الجازم الذي لا يقبل الشك إذا لم يترتب عليه عمل لا يسمى إيماناً.
الإطلاق الثاني: المعدى باللام، وهو التصديق الجازم، فالتصديق الجازم فقط يقال له: الإيمان لكذا.
وأما التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك ويقتضي العمل فهو الذي يعدى بالباء فيقال: الإيمان بكذا.
فمن الأول قول الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285] , فالرسول صلى الله عليه وسلم آمن بما أنزل إليه من ربه، فصدق تصديقاً جازماً لا يقبل الشك، ويحض على العمل بما أنزل إليه من ربه؛ لأنه لا يمكنه أن يتردد لحظة في صدق ما جاءه؛ لأن الوحي ليس كالخبر وليس كالمشاهدة، فقد يشاهد الإنسان أمراً بعينه ثم يشك فيه بعد ذلك للتقادم، أو لطول الزمن، أو لقصور في النظر، أو لوجود عدد كبير من الناس يخبر بخلاف ما رأى فيتراجع عما رآه ببصره، وكذلك قد يسمع الشيء بأذنه ويجزم به في وقت معين، ثم يتزلزل ذلك الجزم بسبب طول الزمان، أو بسبب النسيان، أو بسبب مناقشة أدت به إلى أن يقلد الآخرين ويقدم سماعهم على سماع نفسه.
وسبب ذلك القصور في الجوارح، فالبصر جارحة من جوارح ابن آدم الحادث المخلوق، وهي جارحة قاصرة، ومن أجل هذا القصور فإنك ترى الشيء القريب منك في حجم معين، وكلما ابتعد صغر عنك، ترى الإنسان القادم من بعيد وهو صغير في حجمه، وكلما اقترب ازداد حجمه حتى يصل إلى مستواه الذي يجزم به البصر، وإن كان هذا المستوى غير مقطوع به، فيدك هذه إذا اقتربت من عينك غطت عن الرؤية، وإذا ابتعدت صغرت، وكلما ابتعدت ازدادت في الصغر، وهذا يقتضي منك الشك في المرئيات؛ لأنك لا يمكن أن تجزم جزماً حقيقياً بأن الحجم الحقيقي للأشياء هو ما تراه لحصول التذبذب حسب المسافة.
ومن هنا فنحن نرى الشمس قرصاً صغيراً يتصور الإنسان أنه بالإمكان أن يضعها في يده، والواقع أن الأرض كلها أقل من ربع مساحة الشمس، وكذلك نرى الكواكب السيارة الكبيرة في هذا الحجم الصغير في حجم شعلة النار أو في حجم المقباس، والواقع أن حجمها أضعاف حجم الأرض، فكل هذا يدلنا أن المرئيات المحسوسة بعلم الحادث كلها قابلة للشك، فلا يمكن أن يقول الإنسان: آمنت بأن فلاناً جالس بين يدي؛ لأن الإيمان لا بد أن يكون يقيناً لا يقبل الشك ولا يتزلزل، وينبنني عليه عمل.
وكذلك الحقائق العلمية لا يمكن أن يؤمن بها الإنسان، بمعنى: أن يجزم بها جزماً لا يقتضي الشك، بإمكان التذبذب فيها والزوال، لا يمكن أن يقول الإنسان الآن: آمنت بكروية الأرض -مثلاً-؛ لأن هذا لم ينزل به الوحي، وإنما هو راجع إلى مشاهدات قد تكون خطأً وقد تكون صواباً، فلذلك تقيد الإيمان المعدى بالباء بهذا اليقين.
الوحي ليس مأخوذاً عن طريق السماع ولا عن طريق البصر، وإنما: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193 - 195] , فلا يمكن أن يتشكك الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يوحى إليه من ربه، فأنت يمكن أن تشك فيما حدثك به إنسان أو رأيته أو سمعته، لكن ما نزل به الوحي لا يمكن أن يقع فيه الشك، ومن هنا قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285].
أما الإطلاق الثاني -وهو تعدية الإيمان بالله باللام بمعنى التصديق الجازم الذي يقبل الشك- فمنه قول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] , فإخوة يوسف عليه السلام وعليهم عندما قدموا بالمكيدة إلى أبيهم يعقوب عليه السلام وأتوه بدم كذب وزعموا أن الذئب قد أكل يوسف عليه السلام قالوا: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] , فلو كنت تجزم بصدقها فإنك لا تصدقنا بذلك، ومعنى الإيمان هنا التصديق الجازم الذي يقبل الشك؛ لأنه عدي باللام ولم يعد بالباء، فلم يقولوا: وما أنت بمؤمن بنا ولو كنا صادقين.
بل قالوا: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17].
ومثل هذا قول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:61] , فـ (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) هذا التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك ويقتضي العمل، (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) معناه: يصدقهم فيما يقولون.
وهذا هو التصديق الجازم، لكنه مع ذلك يقبل الشك؛ لأن شهادة العدل -مثلاً- الأصل فيها أنها تفيد علماً، ولكن هذا العلم غير يقيني، ومن هنا اختلف أهل الحديث في الحديث الصحيح الذي رواه العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه دون انقطاع ولا شذوذ ولا علة، هل هو يقتضي اليقين الجازم أو لا يقتضيه؟ فجمهورهم على أنه لا يقتضي القطع، وهذا الذي عليه أهل المصطلح وجمهور أهل الحديث، وخالف في ذلك بعض الأصوليين فزعموا أن ما صح إسناده لزم الجزم به، سواءٌ أكان من أخبار الآحاد أو كان من المستفيض المشهور.(24/3)
تعريف الإيمان في الاصطلاح الشرعي
ومن هنا نصل إلى تحديد مفهوم الإيمان في الاصطلاح بعد أن حددناه في اللغة، فنقول: إن الإيمان في اصطلاح المتشرعين من المسلمين يطلق على إطلاقين: فيطلق على الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى الذي ينجي صاحبه من عذاب النار، ويكون وسيلة لدخول الجنة، هذا هو تعريف الإيمان بمعناه العام الذي يشمل عمل القلب وعمل الجوارح، ويمكن أن نعرفه تعريفاً إحصائياً فنقول: هو التصديق بالجنان، والنطق باللسان، والعمل بالأركان، الذي يزيد بالطاعات وينقص بالعصيان.
فـ (التصديق بالجنان) معناه: بالقلب.
و (النطق باللسان) أي: بالشهادتين، و (العمل بالأركان) معناه: بالجوارح، وهو الصلاة والزكاة والصوم والحج.
(الذي يزيد بالطاعات) فالإيمان يزيد بالطاعات، فكلما ازدادت طاعته ازداد الإيمان، (وينقص بالعصيان)، فكلما وقع الشخص في معصية نقص إيمانه بقسط تلك المعصية، وهذا التعريف هو الذي عليه جمهور سلف هذه الأمة.
وقد خالف فيه بعض التابعين من أهل العراق، منهم حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة رحمهم الله، وكذلك أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي التيمي، وكذلك عدد من الذين يلونهم، ومنهم: أبو الحسن الأشعري علي بن إسماعيل رحمه الله، وكذلك منهم أبو منصور الماتريدي رحمه الله، فكل هؤلاء يرون أن الإيمان إنما يطلق على عمل الجنان فقط، على الاعتقاد بالقلب فقط، وأن الأعمال لا تدخل في مسماه، وهذا هو الإطلاق الثاني للإيمان.(24/4)
حقيقة الخلاف في دخول العلم في مسمى الإيمان وما ينبني عليها
واختلف هل هذا الخلاف حقيقي أو صوري؟ على قولين لأهل العلم: القول الأول: أنه خلاف حقيقي؛ لأنه ينبني عليه مسائل عقدية، منها قضية الإرجاء، فمن مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولكنه لم يصل ولم يزك وباشر الفواحش فما مصيره؟ هل هو إلى جنة أو إلى نار؟ فمذهب جمهور أهل العلم أنه صائر إلى الجنة بإيمانه؛ لأن كل من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله فمصيره الجنة، سواءٌ عذب في القبر أو دخل النار، فإن مكث ملايين السنين في النار لا بد أن يخرج منها بإيمانه ويدخل الجنة، فالله تعالى يدخل النار من شاء بسبب معصيته، ويخرجه منها بإيمانه، لكن من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله لا يخلد في النار أبداً، وهنا يعلم أن الأعمال مكملة لهذا الإيمان وزائدة في مفهومه، ومرسخة له.
كذلك من المسائل المبنية على هذا الخلاف مسألة زيادة الإيمان ونقصه، وقد اختلف فيها أهل العلم على ثلاثة أقوال: القول الأول: الإيمان يزيد وينقص مطلقاً.
وهذا المذهب هو الذي عليه جمهور أهل العلم، وهو الذي عقد له البخاري كتاب الإيمان في صحيحه، فذكر أنه يزيد وينقص، واستدل لذلك بالآيات الواردة في زيادة الإيمان في القرآن، مثل قول الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] , وكذلك قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] , وكذلك قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] , وكذلك قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] , وغيرها من الآيات التي فيها التصريح بزيادة الإيمان، وزيادته تقتضي نقصه؛ لأن الشيء الذي يزيد معناه أنه يقبل النقص أيضاً.
القول الثاني: الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
وهذا القول يقول به طائفة من الفقهاء يسمون (مرجئة الفقهاء)، وهو مخالف لما عليه جمهور أهل السنة والجماعة من لدن التابعين إلى زماننا هذا، فهؤلاء يرون أن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، وإنما هو الجزم بالقلب، فما كان يقبل الزيادة والنقصان فإنه متذبذب لم يصل إلى حد الثبات المطلوب في الإيمان، وهؤلاء الطائفة يؤولون هذه الآيات التي فيها زيادة الإيمان فيقولون: المقصود بها زيادة ما يؤمن الإنسان به، فعندما أنزلت سورة العلق مثلاً: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5] أول ما نزل من القرآن هذه الآيات من سورة العلق، ففي وقتها لم يكن يشترط على أهل الأرض إلا الإيمان بهذه الآيات فقط، فما لم ينزل من القرآن لا يجب عليهم الإيمان به، وكلما ازدادت سورة ونزلت سورة جديدة تزداد أفراد ما يلزم الإيمان به، حتى اكتمل القرآن فاكتمل الإيمان به، واكتملت السنة فاكتمل الإيمان بها، وهكذا.
ومن هنا فإن الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية الإيمان وماتوا قبل أن تكتمل الواجبات، كـ خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فهي أول من صدق برسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء ومن الناس عموماً، ومع ذلك ماتت قبل فرض الصلاة، فلم تصل ولم تصم ولم تزك، هذه الفرائض تجددت بعدها، لكن لا يقتضي هذا نقصاً في إيمانها؛ لأن الإيمان الموجود هو ما قامت به، والذي كان موجوداً قد حققته وأتمته على أكمل الوجوه.
وكذلك الذين ماتوا بالمدينة قبل الهجرة ودفنوا إلى غير القبلة، فبعد الهجرة بسبعة عشر شهراً ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى الشام، هؤلاء الذين ماتوا إذ ذاك دفنوا إلى غير جهة القبلة؛ لأنهم دفنوا إلى الشام، فلذلك تشكك الناس فيهم كما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه في الصحيحين، لكن الواقع أنهم ماتوا على الإيمان وقد استكملوا ما نزل من الإيمان إذ ذاك، وما تجدد منه لم يكن تكليفاً لهم؛ لأنهم قد ماتوا قبل أن ينزل.
فهذا قول هذه الطائفة.
ولهم قول آخر في تأويل زيادة الإيمان المذكورة في الآيات، فقالوا: المقصود بزيادة الإيمان زيادة لازم الإيمان لا زيادته.
ولازمه هو شرطه وهو العمل، فالعمل شرط في الإيمان وليس شطراً فيه عندهم، لكن هذه التأويلات لا يحتاج إليها، فالأصل أن تبقى الآيات على فهمها الصحيح، وأن هذه الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأنه يزيد وينقص.
القول الثالث في زيادة الإيمان ونقصه قول مروي عن الإمام مالك رحمه الله تعالى، وهو أن الإيمان يزيد ولا ينقص، قول بالتفصيل، ونحن ذكرنا القول الأول أن الإيمان يزيد وينقص.
وهذا القول يرى قائله أن الإيمان يزيد ولا ينقص, وسبب هذا القول أن الله تعالى ذكر في القرآن زيادة الإيمان ولم يذكر فيه نقصه، فلم يرد في القرآن ذكر لنقص الإيمان، وجاء فيه التصريح بزيادة الإيمان في عدد من الآيات، ومبنى الاعتقاد على التسليم المطلق، اعتقاد لا يرجع فيه إلى العقول المحضة؛ لما ذكرناه من أن الإيمان لا بد أن يكون جازماً لا يقبل الشك، وما أخذ عن طريق الجوارح يقبل الشك، فلذلك قال مالك رحمه الله: إن زيادة الإيمان ثابتة بالنص، ونقص الإيمان مفهوم بالعقل، وما كان وارداً بالنص فهو الاعتقاد، وما كان مأخوذاً بالعقل لا يجعل عقيدة يلزم بها الناس، فهذه رواية عنه، وإن كانت الرواية التي اشتهرت عن الإمام مالك رحمه الله موافقة لمذهب جمهور العلماء من أن الإيمان يزيد وينقص، وهي الراجح إن شاء الله تعالى.
والقول الراجح من هذه الأقوال الثلاثة هو أن الإيمان يزيد وينقص؛ لأن الزيادة مقتضية للنقص.(24/5)
الإيمان بالله
أما أركان هذا الإيمان فهي ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل حين سأله فقال: (أخبرني عن الإيمان؟ فقال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره)، وفي رواية: (بالله، ولقائه، وكتابه، والبعث بعد الموت)، ولقاؤه هو الموت، والبعث بعد الموت من اليوم الآخر، لكن لقاؤه والبعث بعد الموت كلاهما داخل في مسمى اليوم الآخر؛ لأن الموت من أمور الآخرة وليس من أمور الدنيا؛ لأنه انتقال من حال إلى حال، وتحول من دار إلى دار: (وإذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته).
وكذلك لقاء الله، وهو العرض عليه الذي بينه الله تعالى في كثير من الآيات، ومنها قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} [الأنعام:30] , وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] , فهذا العرض داخل في اليوم الآخر.
فهذه الأركان الستة تقتضي منا تفصيلاً، وهو ما سنحاول الإلمام بما تيسر منه فيما يأتي.
الركن الأول من أركان الإيمان: الإيمان بالله.
والإيمان بالله هو الذي يسمى توحيداً، والتوحيد يغلط فيه كثير من الناس، فيظنون أنه من التفعيل بمعنى: التصيير؛ لأن (فَعَّل) ترد في اللغة بمعنى: (صَيَّر)، مثل: (كَبَّرتََ الشيء) أي: جعلته كبيراً.
و (ضَخَّمتهُ) معناه: جعلته ضخماً.
و (صَغَّرته) معناه: جعلته صغيراً.
و (صَغَّرتْ هذا الاسم) معناه: نطقت به على هيئة تصغير، ولكن التوحيد مخالف لهذا، فمعناه: اعتقاد أنه واحد.
وليس معناه تصييره واحداً، فهو واحد، والتوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد لله في ربوبيته.
وتوحيد له في إلاهيته.
وتوحيد له في أسمائه وصفاته، فهذه ثلاثة أقسام هي معنى الإيمان بالله.(24/6)
توحيد الله في أسمائه وصفاته
أما التوحيد الثالث فهو توحيد الله تعالى في أسمائه وصفاته، فإن الله سبحانه وتعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] , ولا يمكن أن يشبه شيئاً ولا أن يشبهه شيء، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] , فلا يمكن أن يعرف بالعيان ولا بالمثال، فلم يبق إلا معرفته بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، والاستدلال عليه بمخلوقاته، وفي هذا يقول العلامة محمد بن فارع المتالي رحمه الله تعالى: وطرق المعرفة الكبار عيان أو مثال أو آثار فأول منعه الجبار إذ قال لا تدركه الأبصار والثاني أيضاً منعه في النقل لأنه ليس له من مثل لم يبق بعد ذا سوى آثار صنعته في العالم السيار فهذا الدليل الباقي على معرفته، فالله سبحانه وتعالى أثنى على نفسه بكثير من الصفات، وأثنى عليه رسوله صلى الله عليه وسلم كذلك بكثير منها، ولا أحد أعلم بالله من الله، وبعد ذلك لا أحد أعلم به من رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أعلمكم بالله وأخشاكم لله أنا) , فإذا أخبر عن نفسه بصفة وجب الإيمان بذلك وتصديقه ومعرفة أن تلك الصفة واجبة لله، وإذا أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم بشيء وجب الإيمان بذلك، وتصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من ذلك.
ومع هذا يجب أن نعلم أنه لا يمكن أن يكون لصفات الله أي مثال في عالم الحوادث، فشتان بين الخالق والمخلوق، لكن لا يخفى علينا أيضاً أن الأسماء قد تشترك، فقد تكون الصفة التي يتصف بها الله عز وجل يستمي بها المخلوق، فيتسمى بهذه الصفة المخلوق، لكن لا علاقة بين الصفتين إلا في الاسم فقط، فعلم الله يطلق عليه لفظة العلم، وعلم المخلوق يطلق عليه لفظة العلم، لكن شتان بين العلمين، فعلم المخلوق قال الله تعالى عنه: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85] , والله هو علام الغيوب: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].
كذلك وجه الله يطلق عليه هذا اللفظ (الوجه)، ووجه المخلوق يطلق عليه (وجه)، لكن شتان بين الأمرين، شتان بين الخالق والمخلوق، ومثل ذلك ما نسميه ذاتاً، فنحن نقول: ذات الله، وذات المخلوق.
لكن شتان بين الأمرين، فنحن لا نعرف من الذوات إلا ذوات المخلوقين، وذات الله عز وجل هي نفس الله التي سماها في القرآن (نفساً) في قوله حكاية عن عيسى عليه السلام: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] , وفي قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، في آيتين من سورة آل عمران، وغير ذلك من لفظ النفس في القرآن.
فإن لفظ الذات لم يرد فيه، وليست في اللغة بهذا المعنى، ولكنها مصطلح للمتكلمين، فنحن ننطق بها على هذا المصطلح، ولا ننطق بها إلزاماً لأن تكون من ألفاظ الاعتقاد الواردة في الكتاب أو السنة فليست كذلك.
وهذه النفس مخالفة لنفس المخلوق، وإنما تشترك معها في الاسم فقط، فنحن لا نعرف من الأنفس إلا نفس المخلوق، ولا يمكن أن نقيس عليها نفس الخالق أبداً، وشتان بينهما.
ومن هنا لزم أن نطرد هذا التفريق في كل الأمور، فلله نفس تخالف أنفس المخلوقين، فلا أحد يزعم أن ذات الله مثل ذوات المخلوقين أبداً، لكن كذلك لله صفات تنافي صفات المخلوقين، وإذا كان كذلك فلا فرق بين الكلام في النفس والكلام في الصفات، فالقول في الصفات كالقول في الذات مطلقاً، وهذا ما يغفل عنه كثير من الناس، فلا يرى ضرراً في إطلاق الذات على الله كما تطلق على ذات المخلوق مع الفرق الشاسع بينهما، لكن إذا جاء إلى الصفات تأثر من إطلاق بعض الصفات على الله؛ لأنه يفهمها على منوال صفات المخلوقين، وهذا غلط، فلماذا تميز بين الذات والصفات؟ فالقول في الذات كالقول في الصفات، وبعد هذا فالقول في بعض الصفات كالقول في بعضه، فما الفرق بين العلم واليد والعين ونحوها؟ فكلها صفات أثبتها الله لنفسه لا يمكن أن تكون مشابهةً لصفات المخلوقين، وكلها تدل على التمام والكمال، وكلها تقتضي محبته وتمام الإيمان به والتوكل عليه، وليس شيء منها يقتضي نقصاً فيه ولا عجزاً ولا تشبهاً بالمخلوق أبداً، واشتراكها في الاسم مع صفات المخلوق لا يقتضي نقصاً لها، فالمخلوق قد يشترك مع المخلوق بالاسم وشتان بينهما، فللإنسان عين وللفيل عين، لكن شتان بين عين الفيل وعين الإنسان، وقد قال ابن عباس: (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء)، فالجنة فيها اللبن والدنيا فيها اللبن، فهل هذا اللبن مثل اللبن الذي في الجنة؟ شتان بينهما.
والجنة فيها خمر والدنيا فيها خمر، لكن شتان بين خمر الجنة وخمر الدنيا، والجنة فيها ماء والدنيا فيها ماء، لكن شتان بين الماء الذي في الدنيا والماء الذي في الجنة.
كذلك مثال آخر، فأقرب شيء إلى الإنسان نفسه التي بين جنبيه، وهو يعلم أن له روحاً يؤمن بها، وأنها تصعد وتعرج وتنزل وتذهب وتستقر، وترضى وتغضب، ومع ذلك لا ينكر شيئاً من هذه الصفات؛ لأنه يحس بها في داخله ولا يمكن أن يصورها بوجه من الوجوه، ولا يدرك لها حقيقة، وكثير من الناس اليوم يقولون: نحن نطبق المنهاج التجريبي على كل شيء.
فينكرون الإيمان بالله؛ لأنهم يقولون: الحقائق كلها أصبحت علمية تجريبية.
لكن يقال لهم: ألا تؤمنون أن لكم أرواحاً وعقولاً؟ فإذا قالوا: ليس لنا أرواح وعقول قلنا: أنتم إذاً أحجار أو أشجار فلا نتكلم معكم.
وإذا قالوا: لنا أرواح وعقول فنقول: صفوها لنا! فما صفة عقلك أنت وما صفة روحك؟ فإذا شهد على ذلك وسلم وقال: أنا أؤمن بأن لي روحاً وعقلاً لكن لا أستطيع وصفها نقول: كيف تنكر هذا عن رب العالمين وتقر به لمخلوق ضعيف؟ فآمن بالله، واعلم أنك عاجز عن معرفته، فكما عجزت عن معرفة روحك التي هي أقرب شيء إليك فأنت معذور إذا عجزت عن معرفة الله عز وجل.
ومن هنا فإن صفات الله عز وجل التي أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم من عنده التي وصف بها نفسه في القرآن ووصفه بها الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: الصفات الإيجابية.
القسم الثاني: الصفات السلبية.
فالصفات الإيجابية جاءت على وجه التفصيل، والصفات السلبية جاءت على وجه الإجمال، فالصفات السلبية مثل قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4] , وهي نافية للنقص عنه، والصفات الإيجابية مثل العلم، والحياة، والقدرة، وغيرها من الصفات التي أثبتها الله عز وجل لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويمكن أن نفصله تفصيلاً آخر فنقول: تنقسم إلى: صفات ذاتية.
وصفات فعلية.
فالصفات الذاتية مثل الوجود الذي يمكن أن نقول فيه: (الحق) بدل الموجود، ومثل الأولية التي يقول فيها المتكلمون: (القدم)، ومثل البقاء والدوام، ومثل الغنى ونحو ذلك، فهذه صفات ذات، ومنها أيضاً الوجه، والعين، واليدان، والساق، والقدم، فهذه صفات ذاتية.
أما الصفات الفعلية فهي تنقسم إلى قسمين: صفات اختيارية، وصفات دائمة.
فالصفات الاختيارية هي مثل الكلام بمعنى التكلم، والنزول، وكذلك الخلق والرزق والإماتة والإحياء، وغير ذلك من الأفعال كالغضب والرضا والرحمة والمحبة والسخط ونحوها، فهذه صفات اختيارية.
والصفات الدائمة من الصفات الفعلية كصفة الاستواء؛ فإنه قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] , بصيغة الماضي، فليس ذلك مثل غيره من الأفعال التي تكون بصيغة المضارع، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا).
فهذه الصفات يجب الإيمان بها، والإيمان بها يقتضي الإيمان بكمال الله عز وجل وجلاله وجماله وتمام التعلق به ومحبته، وكذلك يقتضي التوكل عليه وحده وعدم منازعته في شيء من أمره، فهو الذي يقول: (الكبرياء ردائي، ومن نازعني ردائي قصمته) , (قصمته) ومعناه: أهلكته وقطعت دابره.
فهذه الصفات يجب الإيمان بها بالإجمال، ولا يجب التفصيل، ولهذا لم يعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل الناس، وكثير منها إنما جاء في أحاديث آحاد، كثير من صفات الله جاءت في أحاديث يرويها آحاد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعلمها لكل الناس، فلا يجب أن نمتحن الناس عموماً بصفات الله، بل لا يجب على كل الناس أن يتعلموا ذلك.
كذلك أسماء الله، فقد سمى الله تعالى نفسه بكثير من الأسماء في كثير من اللغات، وهذه الأسماء كلها كذلك تدل على صفات، وتدل على كمال وجلال، وكلها تقتضي محبته ودعاءه والتوكل عليه، وهي تنقسم إلى أسماء للتعلق والتخلق، وأسماء للتعلق فقط.
فالأسماء التي هي للتعلق والتخلق مثل: الرحمن الرحيم، والعفو الرؤوف، والحليم الكريم، ونحو ذلك.
والأسماء التي هي للتعلق -فقط- مثل: الله، الجبار، المنتقم، ذي الجلال والإكرام، القيوم.(24/7)
توحيد الله في ربوبيته
توحيد الله في ربوبيته معناه: الجزم بأنه هو الواحد الأحد الذي خلق هذا العالم، وليس للعالم رب سواه، وهذا التوحيد هو أصل الإيمان؛ لأنه ينبني عليه كل ما بعده، فما بعده كله تابع له، فمن اعتقد تعدد الآلهة أو أن للعالم خالقاً غير الله لا ينفعه أي توحيد آخر بعد هذا.
ولهذا فإن المشركين الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كثير منهم يؤمن بتوحيد الربوبية، فكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك.
أنت تملكه وما ملك.
وكذلك فإن الله تعالى أثبت عليهم هذا التوحيد في القرآن في كثير من الآيات، كما في قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:63] , فلم يكونوا يخالفون في هذا التوحيد إلا نادراً.
والذين يخالفون في هذا التوحيد أجناس، منهم الدهرية، والطبيعيون الذين نسميهم في زماننا هذا بالشيوعيين، الذين ينكرون وجود إله أصلاً، ويزعمون أن هذه الحياة مادة، وأن طبيعة العالم تفرز الطفرات، وأن الطفرة الكبيرة التي اقتضت الانقسام بين السماء والأرض، واقتضت توزع الكائنات هي منشأ هذا العالم، ومنها تغيرت الأمور وكانت بطبيعتها تتولد وتحتك، والاحتكاك الدائم الذي فيها يقتضي حصول تنوع شديد، وهذا الذي قالوه رد الله عز وجل عليه في كتابه بآية هي أبلغ دليل على هذا، وأبلغ دليل على إنكار تأثير الطبيعة هي قول الله سبحانه وتعالى: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} [الرعد:4].
لو كانت الطبيعة مؤثرة فما الفرق بين هذه البقعة في هذا المتر الواحد يخرج فيه أجناس من النبات متفاوتة متباينة الألوان، ومتباينة الطعوم، ومتباينة الرائحة، وقد نبتت في تربة واحدة، وسقيت بماء واحد؟! {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} [الرعد:4] طعمها مختلف، فالمكان الواحد تخرج فيه نخلة، وتخرج علقمة، وتخرج وردة، وتخرج ثمرة أخرى مباينة لها، فتجد الشبر الواحد من الأرض فيه ألوان متلونة، فلو كانت الطبيعة هي التي أثرت فيها لجاءت جميعاً على شكل واحد وطعم واحد وفائدة واحدة، فعلم أن هذا بإرادة الله وتقديره، وأنه لا يمكن أن تقع طفرة دون مؤثر؛ لأن كل فعل لا يقبل العقل حصوله دون تأثير ودون مؤثر، وهذا المؤثر لا يمكن أن يكون جاهلاً به؛ إذ لو كان جاهلاً به لاختلطت الأشياء واختل نظامها.
ولا يمكن أن يكون قد خفي عليه، لتمام تناسقه وانسجامه، فعلم بطلان اعتقاد الطبائعيين، علم بطلانه عقلاً بهذه الآية، وعلم بطلانه لما يترتب عليه من فساد العالم كله، فلو كانت الطفرة التي يزعمونها صحيحة فلماذا تأخرت ولم تقع طفرة أخرى في آلاف السنين التي تأتي؟ ومن الذي حدد وقت تلك الطفرة؟ وما هي العوامل التي عملت على وقت تلك الطفرة ولم تعمل على ذلك في زماننا هذا؟ لماذا لا يقع انفجار كبير كما يزعمون في آلاف السنين التي جاءت بعد ذلك؟ إن هذا رد واضح وصريح على هذه الطائفة التي تنكر الإلهية؛ وطائفة الدهرية نسبةً إلى الدهر، وهذه من النسبة الشاذة، ولغة العرب فيها شواذ النسب، مثل الدهريين، ومثل الطبعيين، ومثل الخرفيين، وغيرها من النسب الشاذة.
كذلك من الذين ينكرون توحيد الربوبية الذين يزعمون أن لهذا العالم خالقين وهما: النور، والظلمة.
وهؤلاء يسمون بالمانوية، وهم يزعمون أن النور هو إله الخير، وأن الظلمة هي إله الشر، وأنه لا خالق لهذا العالم سوى هذين الإلهين، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وجوابهم العقلي أن يقال: زعمتم أمرين موجودين في هذا العالم مؤثرين فيه، فمن خلقهما؟ هل خلقا أنفسهما أو خلقهما إله ثالث؟ وهنا لا بد أن نصل بهم إلى الدور أو التسلسل، فالدور أن يرجعوا من حيث بدؤوا، فيقال: النور خلقته الظلمة والظلمة خلقها النور.
فيأتي الدور المستحيل؛ لأنه يتوقف كل واحد منهما على وجود الآخر فينعدمان ولا يكونان أبداً.
أو نذهب إلى التسلسل، فيقولون: النور والظلمة خلقهما إله ثالث، وذلك الإله الثالث خلقه إله آخر، وهكذا حتى يصلوا إلى حوادث لا أول لها، وهذا يمنعه العقل.
ولذلك يقول أبو الطيب المتنبي: وكم لظلام الليل عندي من يد تخبر أن المانوية تكذب فظلام الليل استفاد منه كثيراً في مغامراته وهروبه، فقال: إن ظلام الليل يخبر أن المانوية تكذب، فليس هو إله الشر؛ لأنه أتى بالخير.
كذلك الذين يزعمون أن هذا الكون إلهه فرعون -مثلاً- من عباده، حيث زعم هو أنه لا إله لهم سواه، وأنه هو الذي خلق السماوات والأرض، وقد كذب نفسه؛ لأنه حكم على نفسه بجهله بالسماوات وما فوقها بقوله: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ} [غافر:36 - 37] , فكيف تخلقها وأنت تجهلها وتجهل ما فوقها؟ فقد رد على نفسه.
إذاً: فالمخالفون في توحيد الربوبية قلة، والموجود منهم في زماننا هذا هم الشيوعيون وبعض عبدة الأوثان في الديانات الهندية فقط.(24/8)
توحيد الله في إلاهيته
أما توحيد الإلهية فمعناه: توحيد الله بالعبادة بحيث لا يعبد إلا هو، ولا يدعى إلا هو، ولا تعلق الحوائج إلا به، ولا يشرع إلا هو، وهذا التوحيد يخطئ فيه أكثر الناس، فلذلك احتاج إلى بيانه أكثر مما سواه.
فمثلاً: في مجال العبادة لا يمكن أن يستحق العبادة إلا الخالق الرازق المدبر الحي القيوم الدائم الذي لا تخفى عليه طرفة عين، ولا يغفل، ولا تأخذه سنة ولا نوم، فهو وحده المستحق للعبادة، ولا يمكن أن يعبد من سواه أبداً.
ويدخل في العبادة السجود له، ولا يخالفه في ذلك إلا الذين يعبدون الأصنام أو يسجدون لها، وهؤلاء لا يلحدون في توحيد الربوبية؛ لأنهم يزعمون أن هذه الأصنام مملوكات لله، وإنما يتقربون بها إلى الله فقط، ولذلك قال الله تعالى حكاية عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] , فهم لا يعبدون هذه الأصنام لأنهم يزعمون أنها خالقة، ولكنهم يعبدونها تقرباً إلى الخالق فقط، فهؤلاء يخالفون في توحيد الألوهية ولا يخالفون في توحيد الربوبية، ومثل هذا الذين يعبدون غير الله ببعض العبادات المخصوصة، فلا يصلون لغير الله ولا يصومون لغير الله، ولكن يذبحون لغير الله، مثل الذبح للأصنام، والذبح للقبور ونحوها، فهذا عبادة لغير الله؛ لأن الذبح عبادة مختصة لله، ولذلك قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163].
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي جحيفة السوائي رضي الله عنه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن في صحيفة رسول الله صلى الله عليه سلم التي أعطاه: (لعن الله من ذبح لغير الله).
كذلك من العبادات النذر، فكثير من الناس لا يصلي إلا لله، ولا يصوم إلا لله، ولا يحج إلا لله، ولكنه ينذر لغير الله.
والنذر عبادة؛ لقول الله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] , ولقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان:7] , فمن نذر لغير الله فقد أشرك؛ لأن النذر عبادة مختصة لا تحل إلا لله، فهي مثل الصلاة والصوم والزكاة وغير ذلك.
ومن هنا احتيج إلى بيان معنى النذر الذي يجهله كثير من الناس، فالنذر معناه: إيجاب ما ندب تقرباً لله تعالى وشكراً له أن يتقرب الإنسان إلى الله بأن يلزم نفسه بطاعة مندوبة، فما ليس مندوباً من المباحات لا يمكن أن يكون نذراً، كمن نذر أن يشرب كأساً من الشاي، أو أن يشرب كأساً من الماء، فهذا لا يسمى نذراً؛ لأنه مباح وليس عبادة.
ومن نذر واجباً فقد كان واجباً قبل هذا ولم يستفد من النذر شيئاً، ومن نذر مندوباً فقد تأكد حكمه وازداد أجره بسبب نذره، ولكن هذا النذر ينبغي أن لا يكون مشروطاً، وأن لا يكون مكرراً، فالنذر المشروط هو الذي يقول صاحبه: إن نجحت في الامتحان فسأصلي ركعتين شكراً لله.
وينذر بذلك، أو: أتصدق بكذا.
أو: أحج.
أو: أصوم.
أو نحو ذلك، فهذا النذر المشروط أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا يرد من قدر الله شيئاً، وإنما ينتزع الله به من يد البخيل) , فالذي يفعله بخيل في تعامله مع الله، حيث يشرط على رب العالمين، فجعل نفسه بخيلاً بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، ولذلك لا يصدر من أهل الإيمان الكامل.
والنذر المكرر قد يوقع الشخص في حرج، كمن نذر أن يصوم يوم الإثنين دائماً، أو يوم الخميس دائماً، فربما أتاه ذلك اليوم وهو عاجز عن صيامه، أو مشغول بأمر لا يستطيع التخلص منه، فلذلك كره هذا النذر المكرر، وإنما يطلب النذر إذا أقبل الشخص على عبادة مندوبة، فأراد أداءها وتيسرت له أسبابها، فينذرها ليكون ذلك زيادة في الأجر، كمن يجلس في مصلاه وينتظر صلاة المغرب، ويعلم أنه ليس لديه شغل سيقيمه من هذا المسجد.
وقبل النذر قد كان الفعل مندوباً فصار واجباً يثاب عليه ثواب الواجب.
كذلك من العبادات التي يشرك فيها الناس الحلف، فالحلف عبادة، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت).
وكان الناس يحلفون بآبائهم في الجاهلية، فسمع رسول الله صلى عليه وسلم عمر بن الخطاب يحلف بأبيه فدعاه فقال: (لا تحلفوا بآبائكم! من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) , وكانوا يحلفون بأصنامهم في الجاهلية، فدأب بعض الناس على ذلك في الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا باللات ولا بالعزى، فمن قال ذلك فليقل: آمنت بالله) , فالحلف بغير الله عبادة لمن حلف به.
كذلك الشرك في التشريع فهو شرك في الإلهية، فالله وحده هو الذي يشرع لعباده ما شاء، وسبب ذلك أنه وحده العالم بحياتهم ومماتهم ومصالحهم الدنيوية والأخروية، ولا يعلم أحد منهم متى يموت، ولا في أي أرض يموت، ولا ما يكسب غداً، ولا يمكن أن يطلع على مصالحه هو، بل تخفى عنه، ولذلك نرى كثيراً من الناس يجتهد في أمر فيه له مضرة، يجتهد أن يسافر سفراً هو فيه على موعد مع ملك الموت، ويتحرك حركة معينة فينكسر منه عضو بسبب تلك الحركة، ويخرج لحاجة غير مهمة فيصادفه قدر من قدر الله يصيبه بمصيبة عظيمة، كل هذا يدل على أن الإنسان جاهل بمصالحه، ومن كان جاهلاً بالمصالح والمفاسد لا يمكن أن يشرع شيئاً؛ لأن التشريع أصله على معرفة المصالح والمفاسد، ولذلك قال الله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] , فالذي هو اللطيف الخبير بالناس هو الذي يستطيع أن يشرع لهم ويعرف مصلحتهم.
فإذا شرع شيئاً فأباح أو حرم أو أوجب فذلك لمصلحة بني آدم لا لمصلحته هو، فلا يصل إليه نفع ولا ضرر من ذلك، ولهذا قال الله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} [الحج:36 - 37] , فهذه الأنعام لا ينال الله لحومها ولا دماؤها، ولا يمكن أن يصل إليه نفع منها، ولا أن يوصل إليه المخلوق نفعاً ولا ضرراً، ولذلك جاء في الحديث القدسي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
فالتشريع من اختصاصات رب العالمين لا يمكن أن ينازعه فيها أحد، فمن شرع فقد أشرك، ولهذا قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] , فكل من سن قانوناً أو وضع تشريعاً مما لم يأت به محمد صلى الله عليه وسلم فقد أشرك مع الله عز وجل من شرع لهم.
ومن هنا فإن اليهود والنصارى الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مشركين، يشركون أحبارهم ورهبانهم في الإلهية؛ لأنهم يحلون لهم الحرام فيستبيحونه، ويحرمون عليهم الحلال فيتركونه، وهذا مقتض لعبادتهم، ولهذا قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} [التوبة:31] , وفي حديث عدي بن حاتم رضي الله أنه قال: (يا رسول الله! ما عبدناهم من دون الله! قال: ألم يحلوا لكم الحرام فتستحلوه؟ قال: بلى.
قال: ألم يحرموا عليكم الحلال فتتركوه؟ قال: بلى.
قال: فقد عبدتموهم) , وهذه عبادته، ولهذا جعل الله تعالى القوانين ديانة، فيسمى القانون ديناً، كما في قوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76] , معناه: في قانون الملك {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف:76]، فكل قانون غير شرع الله فهو دين أراد به صاحبه نسخ دين الإسلام وتغييره، فهو إشراك بالله العظيم عز وجل.
كذلك من الإشراك في الإلهية الإشراك في محبة الله عز وجل ومسألته، فإن الله وحده هو الصمد الكريم الغني الحميد الذي يستحق أن ترفع إليه الحوائج كلها، وأن ترفع إليه الأيدي في كل المطالب، فمن تعلق قلبه بمخلوق فأصبح يعلق به حوائجه ويخافه ويطمع فيه ويسأله فقد أشرك هذا الشرك، فدعوة غير الله مثل الاستغاثة بمخلوق أو مسألته أمراً لا يقدر عليه شرك بالله، كمن سأل مخلوقاً أن ينزل المطر، أو أن يكفر عنه ذنبه، أو أن يدخله الجنة، أو أن يجيب عنه الملكين، أو أن ينور له قبره، فهذه أمور لا يقدر عليها المخلوق، أو أن يرزقه ولداً أو مالاً أو نحو ذلك، فهذه أمور لا يقدر عليها المخلوق، فالخلق والرزق من عند الله وحده.
ومن هنا فإن دعوة المخلوق شرك بالله، ولهذا قال الله تعالى: {ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13 - 14] , وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان:68] , وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْ(24/9)
الإيمان بالملائكة
الركن الثاني من أركان الإيمان الإيمان بالملائكة.
إن لله تعالى جنوداً لا نعلمها: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر:31] , وهذه الجنود منها جند الملائكة، وهم من أكثر جنود الله تعالى عدداً ومن أقواهم، وقد خلقوا من نور، وهم عباد مكرمون: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] , {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] , وهؤلاء منهم المقربون -وهم أفضلهم- كجبريل روح القدس الأمين عليه السلام، وميكائيل، وإسرافيل، ومالك خازن النار، وملك الموت، فهؤلاء من الملائكة المقربين، ومنهم حملة العرش الذين شرفهم الله تعالى بحمل عرشه عز وجل، وهم أربعة في الدنيا وثمانية يوم القيامة: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17].
وهؤلاء الملائكة يجب الإيمان بوجودهم، وبكونهم معصومين من المعصية، وبأنهم: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] , والإيمان بهم مؤثر في الإنسان؛ لأنه مطالب بأن يحاكيهم ويضاهيهم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟!).
وكذلك في الصوم، فإن الإنسان يصوم ليباهي الملائكة، وكذلك في الحج، فإن الناس يقفون بعرفة لمباهاة الملائكة، فالإيمان بهم مقتض من الإنسان المبالغة في التعبد لله واجتناب معاصيه؛ لأن الإنسان الذي يعلم أن لله عباداً آخرين يطيعونه غاية الطاعة وهو يريد الانتساب إلى الله ويريد أن يكون عبداً لله فسيحاول أن ينافس هؤلاء في طاعة الله، ويحاول أن يبتعد عن المعصية، فكلما زينت له نفسه أو شيطانه الوقوع في المعصية تذكر أن لله عباداً آخرين في حضرته لا يعصون أمراً ولا يخالفونه، ولا يقعون في أية معصية، فكف عن ذلك، ومن هنا كان المثال في هذا الباب مهماً جداً، حيث قال الله تعالى بعد سرده لأسماء ثمانية عشر من الأنبياء عليهم السلام في سورة الأنعام قال بعده: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89].
والمقصود بقوله: (هؤلاء) الذين يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين، وقوله تعالى: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} [الأنعام:89 - 90] , هؤلاء هم الذين هداهم الله عز وجل وجعلهم قدوة للناس، بين سبحانه وتعالى أن معصية الآخرين له لا تقتضي نقصاً في طاعته، فله جنود آخرون يطيعونه ولا يعصون له أمراً.(24/10)
الإيمان بكتب الله السماوية
الركن الثالث من أركان الإيمان: الإيمان بكتب الله.
والمقصود بكتب الله الإيمان بكلامه، فالله سبحانه وتعالى يتكلم متى شاء بما شاء، ويشرع لعباده ما شاء، وكلامه نوعان: كلمات خلقية.
وكلمات تشريعية.
فالكلمات الخلقية هي الكلمات القدرية، مثل قوله لهذا: (كن فيكون)، وقوله لهذا: (مت)، وقوله لهذا: (اذهب) وقوله لهذا: (اجلس)، وهذه الكلمات يقف عندها البر والفاجر، لا يتعداها بر ولا فاجر، فإذا قال لأحد: (مت) لا يستطيع أن يتأخر لحظة واحدة، حتى لو كان أشد وأعتى أعداء الله، ولما قال لـ أبي جهل: (مت) هل استطاع أن يتأخر؟ ما استطاع أن يتأخر.
إذاً هذه هي الكلمات الكونية، وهي كثيرة جداً غير محصورة في عدد محدد، ولا ينزل بها الملائكة، ولا تنزل وحياً، وإنما يخاطب الله بها من شاء في كل اللحظات، وهي المذكورة في قول الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] , وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] , وهي المذكورة في قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [الكهف:109] , وفي قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27].
أما الكلمات التشريعية فهي التي يشرع الله بها ما شاء لعباده، ويفصل فيها ما شاء من الأحكام، وهذه محصورة العدد لا تنزل إلا على الأنبياء، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51] , وهذه هي الكتب المنزلة يقف عندها البر ويتعداها الفاجر، قال لـ أبي جهل: (آمن)، فلم يؤمن ولم يقبل، فإذا قال للكافر: (صل) فيمكن أن يمتنع من ذلك، وإذا قالها للبر المؤمن بادر إلى ذلك، إذا سمع المنادي ينادي: (حي على الصلاة.
حي على الفلاح) توضأ وجاء مقبلاً إلى المسجد ليصلي، فهذه الكلمات التشريعية يقف عندها البر، ويتعداها الفاجر، وهي محصورة العدد، وهي الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ونزل بها جبريل عليه السلام، وهو أمين الوحي عليهم، وهذه يقع فيها النسخ والتأخير والإنساء، ولا يقع ذلك في الكلمات القدرية، والكلمات القدرية يقع فيها تجاذب إرادتين، مثل قول الله تعالى -فيما رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم-: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه) , هذا تجاذب الإرادتين، لكن لا يمكن أن يقع فيها النسخ ولا التغيير، قال تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39].
أما الكلمات التشريعية فنزلت الشرائع على الأنبياء، ونسخ منها ما لا يتلاءم مع الوقت الذي يأتي فيه أنبياء جدد، حتى استكمل ذلك بهذا الكتاب الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فنسخ كل ما سبقه وكان مهيمناً عليه، وهذا الكتاب الذي بين أيدينا لا يمكن الزيادة فيه اليوم ولا النقص منه، فهو محفوظ: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].(24/11)
الإيمان بالكتب السماوية إجمالاً وتفصيلاً
والإيمان بكتب الله عز وجل يقتضي الإيمان بها إجمالاً، أن الله أنزل على رسله كتباً من عنده لم يكذبوا فيها ولم يفتروها: {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف:111] , وأن هذه الكتب فيها تشريع يتلاءم مع القول الذي أنزلت فيه، وفيها ذكر لله، وكلها مجمعة على توحيده ومحبته والإيمان به.
ويجب الإيمان تفصيلاً بأربعة منها، وهي: التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن.
فهذه الكتب الأربعة يجب الإيمان بها تفصيلاً، فالتوراة هي: الكتاب المنزل على موسى، والإنجيل هو الكتاب المنزل على عيسى، والزبور هو الكتاب المنزل على داود، والقرآن هو الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان الإيمان بها يدخل في الإجمال؛ لأن القرآن لا يجب أن يحفظه الإنسان كاملاً عن ظهر قلب، ولكن يجب عليه أن يصدق أن الله أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا سمع شيئاً لا يعرف هل هو من القرآن أو لا لا يقتضي ذلك كفراً؛ لأنه غير ملزم بحفظ القرآن بكامله.
ومن هنا فإن كثيراً من الصحابة رضوان الله عليهم شغلوا بالجهاد ونشر الدعوة عن حفظ القرآن، فكان كثير منهم لا يحفظ القرآن بكامله، فكان خالد بن الوليد رضي الله عنه لا يحفظ القرآن كاملاً، وكان في أكثر أوقاته أميراً، والأمير يلزمه أن يصلي بالناس فهو إمامهم، والإمامة الصغرى فرع عن الإمامة الكبرى، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الأئمة في آخر الزمان لما سئل عن الخروج عليهم ومقاتلتهم قال: (لا.
ما أقاموا فيكم الصلاة) , والحديث في صحيح مسلم.
فقوله: (ما أقاموا فيكم الصلاة) معناها: ماداموا يصلون لكم أئمة ويخطبونكم على المنابر ويؤمونكم في المساجد فلا تخرجوا عليهم ولا تقاتلوهم، أما إذا تركوا ذلك فلا، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا.
ما أقاموا فيكم الصلاة).
فـ خالد بن الوليد ما ترك الإمامة؛ لأنه مسئول عنها شرعاً، لكن لم يكن يحفظ القرآن بكامله، فكان إذا صلى صلاة من ذوات الطول يقرأ فيها من آيات معينة، ثم يأتي بسورة أخرى، ثم إذا سلم التفت إلى الناس فقال: (شغلنا بالغزو عن حفظ القرآن فقرأنا لكم ما تيسر منه) يقرأ تارة من البقرة، وتارة من النساء، وتارة من آل عمران.
كذلك لا يجب الإيمان تفصيلاً بما في التوراة وما في الإنجيل وما في الزبور، فما ورد في القرآن من ذلك فيلزم التصديق به، مثل التصديق بالقرآن، مثل قول الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] , وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] , وأما ما لم يرد في القرآن تصريح بنسبته إلى أحد هذه الكتب فلا يجب الإيمان به، ولا تصديق اليهود والنصارى فيه، بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد).
ولا شك أنهم قد حرفوا وبدلوا وغيروا، وشهد عليهم القرآن بذلك، ومن تمام تغييرهم أن الله أخذ عليهم العهد باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وقد عرفوه كما يعرفون أبناءهم، فلم يتبعوه ولم يصدقوه، وهذا غاية التغيير والإخلال بالعهد، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك لم يصدقوه ولم يتبعوه، فهذا غاية التحريف والتبديل؛ لأن الله أخذ عليهم العهد المؤكد إذا أتاهم أن يؤمنوا به ويصدقوه.(24/12)
تعظيم كتب الله واعتقاد أن القرآن هو الصالح للتشريع
ثم من الإيمان بهذه الكتب الإيمان بأنها الصالحة وحدها، فالقرآن وحده هو الصالح للتلقي والتشريع، الصالح صلاحاً مستمراً إلى أن يرفعه الله تعالى، وهو المرجع في كل الأمور، وإذا جاء الكلام فيه لابد أن يتوقف الإنسان عنده، وكان عمر وقافاً عند القرآن، يناقش في كل الأمور فإذا جاءت آية من كتاب الله وقف، فالقرآن هو الحاكم، ولا بد أن يستسلم له الناس، وإذا جاء فيه كلام من عند الله فلابد أن ينظر إليه الإنسان بنظرة أنه خطاب من عند الله له هو، فهو عبد لله، وهذا بيان من عند الله إليه: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ} [إبراهيم:52].
ومن هنا وجب أن يحب الناس هذا القرآن، ووجب أن يتدبروه وأن يتعلموه، وتدبرهم له مستويان: المستوى الأول: تدبر أهل العلم، وهم الذين يستطيعون الاستنباط والتفهم فيه، ولا يختص هذا بالعلماء، بل كل من يفهم شيئاً من العربية يمكن أن يحصل على قسط من هذا التدبر، فإذا قرأ المصحف حاول أن يتفهم في كل آية، فإذا جاءت موعظة وإذا جاءت حكمة وإذا جاء تذكير بادر إلى الإيمان بذلك وأحبه حباً شديداً.
المستوى الثاني من التدبر: تدبر الجهال، وهو حصول المحبة له، فمن لا يفهم العربية إذا قرأ القرآن غير ملزم بأن يتدبر شيئاً لا يفهم معناه بمعنى: التفكر في ألفاظه ومعانيه، لكنه ملزم بمحبته، أن يقول: كل من عند ربنا.
وأن يحبه حباً شديداً، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون، فهذا عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه عندما أتاه الموت وهو في سكرات الموت أخذ المصحف وجعل يضعه على خديه ويقبله ويقول: كلام ربي.
كتاب ربي.
من حبه للقرآن، فلابد أن يكون الإنسان محباً له بهذا المستوى من المحبة، وهذا القدر من التدبر مشروط على كل الناس، أما التدبر في تفهم المعاني فهو مختص بمن يستطيعه.(24/13)
تمام الإيمان بالقرآن
من تمام الإيمان بالقرآن التصديق بما فيه من الخبر، سواءٌ أكان خبراً عما مضى أم خبراً عما يأتي في المستقبل، وكذلك معرفة ما فيه من الآيات، وعدم ضرب بعضه ببعض، وعدم اتباع ما تشابه منه، وأن يحكم محكمه وأن يؤمن بمتشابهه، وأن لا يعرض عنه الإنسان.
كذلك من تمام الإيمان به قراءته وعدم الإعراض عنه، فالذي ليس في قلبه منه شيء كالبيت الخالي، ومن هنا كان على المؤمنين جميعاً أن يعلموا أولادهم هذا القرآن في صباهم، وأن يحببوه إليهم، وأن لا يجعلوهم ينفرون منه، وكثير من الذين يعلمون القرآن مع الأسف ينفرون الصبيان من القرآن، فيجعلونه وقتاً للمشقة والإهانة والضرب والتعذيب والتحقير، فينشأ الصبي مبغضاً للقرآن غاية البغض، وهذا -نعوذ بالله- سوء تربية، بل على الذين يعلمون الناس القرآن أن يعلموا أنهم ذووا مسئولية عظيمة، وأنهم أفضل هذه الأمة وخيرها؛ لما أخرجه البخاري في الصحيح عن عثمان بن عفان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) , وهو يعلم أنه وكيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليم القرآن، وأنه أمين من عند الله على كتابه، فيتشرف بهذه المسئولية، ويحرص عليها تمام الحرص، ويحاول أن يحبب هذه المادة إلى قلوب الصبيان، وأن يجعلهم يتنافسون فيها بأنفس رفيعة، ويعلمون أن مستوى فضلهم هو المستوى الذي وصلوا إليه وحصلوا عليه من القرآن، فإنه يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: (اقرأ وأرق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها).
ومن هنا ينبغي أن نغير النظرة في تعليمنا لأولادنا القرآن، وأن نحاول أن نحببه إليهم بمختلف الوسائل، وأن نجعله مكاناً للتنافس في الخير، وأن نحبب إليهم تدبره وتفهمه، وأن لا نجعلهم يحفظون حروفه دون حدوده، وكثير من الناس -مع الأسف- لا يعتني بحروفه ولا بحدوده، فالصبيان يحفظونه هذرمة ولا يتقنون تجويد آية منه، والذين يدرسونه أيضاً لا يهتمون بتفسيره، تمر عليهم الآية عدة مرات وهم لا يفقهون كلمةً فيها، ولا يسألون عنها، ولا يبحثون عنها في أي تفسير، وهذا من رفعه؛ لأن الإعراض عنه وعدم تحكيمه بالنهار وعدم القيام به في الليل من رفعه.
فإن من الإيمان بالكتب المنزلة الإيمان بأن هذا القرآن سيرفع، يسرى عليه فيمحى من الصدور والمصاحف، وذلك إذا جاء أمر الله كما قال تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء:86] , وقد جاء في الأحاديث: (أنه سيسرى عليه في ليلة من الليالي، فيمحى من الصدور والمصاحف)، فهذا هو الركن الثالث من أركان الإيمان.(24/14)
الإيمان بالرسل
أما الركن الرابع من أركان الإيمان فهو الإيمان برسل الله، والرسل: جمع رسول.
والرسول في اللغة يطلق على الرسالة التي يحملها الإنسان إلى غيره، ومنه قول الشاعر: لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بليلى وما أرسلتهم برسولي أي: برسالتي.
وحامل تلك الرسالة يسمى رسولاً أيضاً؛ لأنه مرسل بالرسالة, والرسل: هم الذين أرسلهم الله لبيان شرعه، وهم من الملائكة ومن البشر، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ} [الحج:75] , ولا يكون اصطفاؤهم إلا على أساس الاختيار والاجتباء الرباني، كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] , فهو: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68].
وقد بدأ الرسل بآدم عليه السلام، فقد أرسل إلى ذريته، لكنه أرسل قبل اهباطه إلى الأرض، فلذلك ليس من رسل أهل الأرض، فأول رسل أهل الأرض هو نوح عليه السلام.
وأما آدم فقد أرسل في الجنة إلى حواء وإلى ما بعد ذلك من ذريته، لكن لم يرسل إلى البشرية كافة، ونوح هو أول رسول إلى أهل الأرض كافة، ثم ختم الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم، فهو آخر الأنبياء وآخر المرسلين، كما قال تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] , فهو خاتم النبيين لا نبي بعده.
وهؤلاء الرسل لا يكونون إلا أنبياء لله، واختلف في تحديد معنى النبي والرسول، وأرجح الأقوال في ذلك أن النبي هو الذي أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بدعوة الناس إليه وإدخالهم فيه، والرسول هو الذي أوحي إليه بشرع وأمر بدعوة الناس إليه وإدخالهم فيه، ولكن رسالاتهم متفاوتة، فمن الرسالات ما يكون تجديداً لرسالة سابقة، كرسالة يحيى مجددةً لرسالة زكريا، وكذلك رسالة عيسى مجددةً لرسالة موسى، وإن كانت مخففةً في بعض أحكامها، كما قال تعالى حكاية عنه: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ} [آل عمران:48 - 49].
وكذلك بين أنه يخفف عنهم بعض ما حرم عليهم: {وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50] , فهذا تخفيف ونسخ من شريعة موسى بشريعة عيسى، لكن ليست ناسخة لكامل شريعة موسى.
ومنهم من تكون رسالته لإصلاح خلل وقعت فيه البشرية، كشعيب عليه السلام، فإنه أرسل لعلاج الظلم الذي حصل في المكيال والميزان، ولوط عليه السلام الذي أرسل لإصلاح الخلل الذي وقعت فيه البشرية من الشذوذ الجنسي وغيره.(24/15)
ما يختص به محمد صلى الله عليه وسلم عن بقية الرسل
ومنهم من تكون رسالته عامة شاملة، ولهذا قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48] , ومحمد صلى الله عليه وسلم هو أعمهم رسالة، ويختص عنهم بكثير من الخصائص، منها: أن الأنبياء قبله كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة، وأرسل صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة.
ومنها: أنه خاتمهم، وأنه المختص بالشفاعة الكبرى والصغرى دونهم يوم القيامة.
ومنها: أنه أحلت له الغنائم، وجعلت له الأرض مسجداً وطهوراً، وكذلك الحوض المورود الذي خص به يوم القيامة ترده أمته، فيذاد عنه من غير وبدل، ويطردون كما تطرد غرائب الإبل، ويرده الذين تبيض وجوههم يوم القيامة، ويطرد عنه الذي تسود وجوههم، وهم الكاذبون على الله المغيرون المبدلون، وكذلك يطرد عنه الذين يعينون أهل الظلم، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح أنه قال: (سيستعمل عليكم في آخر الزمان أمراء يظلمون الناس ويؤخرون الصلاة عن أوقاتها، فمن صدقهم في كذبهم أو أعانهم على ظلمهم فلن يرد علي الحوض) , فهذا ثمن الحوض، وممالأة الظالمين ومساعدتهم مانعة من الشرب من حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
كذلك يختص عنهم فيما يتعلق بالإيمان، أن يؤمن الإنسان بأن شرعه ناسخ لما سبق، وأنه لا يقبل الله من أحد إلا ما جاء به بعد مجيئه، وأن كل خير اليوم ليس من طريق محمد صلى الله عليه وسلم فهو مردود، وليس خيراً، فالخير كله ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يأتي أحد بتكميل لما جاء به، فقد أكمله الله في قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3].
وكذلك الإيمان بصفات الأنبياء المشروطة فيهم، وهي العصمة، والأمانة، والتبليغ، وعلو المنزلة، فهذه صفات الأنبياء جميعاً، كلهم يتصفون بالصدق والأمانة والتبليغ والعصمة.
وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تمام الإيمان به أن يؤمن الإنسان بأنه صلى الله عليه وسلم قد ترك أمته على المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وأن خير هذه الأمة القرن الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وأن خير هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة، ثم بقية أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وأحل الله عليهم رضوانهم الأكبر الذي لا سخط بعده وأنزل فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} [الفتح:18] , وفيهم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لن يلج النار أحد بايع تحت الشجرة).
وكذلك من تمام ما يتعلق بهؤلاء الصحابة أن نعرض عما شجر بينهم، وأن نلتمس لهم العذر فيما وقع منهم من الخطأ، وأن نعلم أنهم بشر غير معصومين يخطئون ويصيبون، ولكنهم أولى الناس بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، وأولى الناس بأن يلتمس لهم أحسن المخارج، وأن يظن بهم أحسن الظنون، وأن لا يعادى أحد منهم، فهم أولياء الله، ومن عادى لله ولياً فقد آذنه بالحرب, فلا يعلن العداء على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يذكرون إلا بخير، ويلتمس لهم أحسن المخارج، ويظن بهم أحسن المظان، وهم خيرة هذه الأمة الذين اختارهم الله لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأولى الناس بشفاعته؛ لأنه يعرفهم، وجاهدوا معه وصحبوه، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم -فيما أخرج عنه البخاري في الصحيح-: (يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقال: نعم.
فيفتح لهم, ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم.
فيفتح لهم, ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم.
فيفتح لهم) , فهذه القرون الثلاثة المزكاة التي زكاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي خير هذه الأمة وأفضلها.(24/16)
الإيمان باليوم الآخر
الركن الخامس من أركان الإيمان: الإيمان باليوم الآخر.
والمقصود بذلك الإيمان بالدار الآخرة المقابلة لدار الدنيا، فدار الدنيا معناها: دار العاجلة، وهي مختلف في وصفها هذا هل هو مشتق من الدناءة؛ لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تساوي عنده جناح بعوضة لما أطعم منها كافراً شربة ماء، أو مشتقة من الدنو لقربها؛ لأنها قبل الآخرة؟ والآخرة هي التي بعد هذه الدار الدنيا، والآخرة عبارة عما بعد نهاية هذه الدنيا، وليست منتهية إلى زمان، بل هي مستمرة إما إلى جنة وإما إلى نار، وأهل الجنة في نعيم دائم لا ينقطع، وأهل النار في عذاب مستمر دائم لا ينقطع، لكن قبل ذلك تقع مشاهد وأحداث وأهوال هي أهوال القيامة، وهذه الأهوال تنقسم إلى قسمين: أهوال تسمى علامات، وهي أشراط للساعة وعلامات لها سابقة عليها، وهذه من أعظمها الموت، فالموت علامة على القيامة؛ لأنه انتقال من هذه الدار إلى الدار الآخرة، وإذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته، ولذلك فالقبر أول منازل الآخرة، وهو أعظم من كل ما قبله، وأعظم منه كل ما بعده.
وكذلك منها الأشراط الكبرى، مثل طلوع الشمس من مغربها، وقرنها مع القمر، وكذلك خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وكذلك الدخان، والنار التي تسوق الناس من قعر عدن إلى المحشر إلى الشام، وكذلك الدابة التي تخرج في مكة في المسجد الحرام فتكلم الناس، وكذلك رفع القرآن فهو من أشراط الساعة، وكذلك خروج المسيح الدجال الكذاب الذي ما من نبي إلا وحذره قومه، وما بعد خلق آدم إلى قيام الساعة فتنة أعظم منه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطانا فيه علامة لم يعطها نبي قوماً قط، فأخبرنا أنه أعور وأن ربنا ليس بأعور.
وجاء في حديث أنه: (أعور العين اليمنى)، وفي الحديث الآخر: (أعور العين اليسرى)، ولا تعارض بين الحديثين؛ لأن (أعور العين اليمنى) معناه أنها غائرة لا ترى، وهي طافئة، أي أنها مشقوقة مستترة، والحديث الآخر: (أعور العين اليسرى) معناه أنها عنبة طافية، فهي قبيحة وقبحها هو عورها، خارجة من محلها، بمعنى أنها جاحظة كبيرة جداً ومع ذلك هي كالعنبة الطافية، ومعناه: التي تبرز فوق الماء.
فإحداهما طافية والأخرى طافئة، فالطافية معناه: الخارجة من محلها.
والطافئة معناه: المشقوقة الداخلة في محلها.
ومكتوب بين عينيه: (ك ف ر) كفر، أو (كافر)، وهذه علامة بارزة يراها أهل الإيمان، فكل من أراد الله به أن يجتنب المسيح الدجال رأى مكتوباً بين عينيه: (ك ف ر)، فهذه علامات تختص بهذه الأمة بينها لنا الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد بالغ في التحذير منه، فقد جاء عنه فيه كثير من الأحاديث الصحيحة، ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم -عندما ذكرهم بـ المسيح الدجال وفتنته- وأن معه نهراً يزعم أنه الجنة ومعه آخر يزعم أنه النار، فجنته هي النار وناره هي الجنة، وأنه يمر بالخربة فيأمرها فتتبعه كنوزها، ويمر على قوم فيتبعونه وهم في قحط وجذب -أي: مقحلون- فيأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض فتنبت، فتروح عليهم ماشيتهم أطول ما كانت ضروعاً وأسمنها، ويمر على آخرين فيكذبونه فيأمر الأرض فتقحط، ويأمر السماء فتمسك، وتروح عليهم ماشيتهم أضمر ما كانت ضروعاً وأقلها لبناً.
وكذلك فإن فتنته عظيمة جداً، يأتي المدينة بمسالحه، وهو يخرج بين العراق والشام فيعيث يميناً وشمالاً، ويمكث في هذه الأرض أربعين يوماً، فيوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، وسائر أيامه كأيامكم، ويتبعه اليهود، ويكون في مقدمة جيشه سبعون ألفاً من يهود أصبهان عليهم الطيالسة، والطيالسة: جمع طيلسان، وهو: العمامة الخضراء التي تكون مسبلة على الرأس والكتفين.
ويأتي المدينة ومكة فيحرم منهما ولا يدخلهما، وعلى أنقابهما الملائكة، كلما أراد الدخول ضربوه، وللمدينة يومئذ سبعة مداخل أو سبعة أبواب، فإذا أراد الدخول من واحد وجد عليه ملكين فيطردانه فتنزل مسالحهم على جيوشه وسلاحه بإحدى السباخ في المدينة، وينزل هو على جبل من جبالها فيطل عليها فيرى المسجد فيقول: ذلك القصر الأبيض قصر محمد.
فيأتيه أهل المدينة وفيهم رجل هو من خير الشهداء فيقول: والله إنك للمسيح الدجال الذي أخبرنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيأمر به فيفلق فلقتين فيمشي بينهما، ثم يدعوه فيقوم فيناديه فيقول: ألست ربك؟ فيقول: والله ما ازددت فيك إلا يقيناً، ولأنت المسيح الدجال عدو الله الذي أخبرنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيقصد أن يذبحه فلا يسلط عليه، ويجعل الله بين ترقوته وذقنه نحاساً فلا يستطيع أن يذبحه.
وكذلك من هذه الأشراط الكبرى نزول المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، ينزل بمدينة دمشق عند المنارة البيضاء شرقي المسجد، ينزل بين ملكين، وإذا طأطأ رأسه تحدر منه مثل الجمان، وإذا رفعه سال مع عنقه كأنما خرج من ديماس، وينزل وقد أذن للفجر، فيأتي المسجد والناس يصلون وإمامهم منهم، فيقول: يا نبي الله! تقدم فصل.
فيقول: ما أقيمت لي.
ويصلي مأموماً، ويقاتل المسيح الدجال ويتبعه المؤمنون، ويلتقي به عند باب لد فيقتله، ولا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا ذاب كما يذوب الملح في الماء، ونزوله شرط من أشراط الساعة وعلامة من علاماتها.
وكذلك حشر اليهود إلى بيت المقدس وإلى الشام عموماً، فهو أول الحشر، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر:2] , وكذلك في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} [الإسراء:104] , فسيجتمع بنو إسرائيل كلهم في الشام، وقد بدأ هذا وشاهدناه وحصل منه في زماننا هجرات كثيرة لليهود، فقد جاء يهود الاتحاد السوفيتي، ثم جاء بعدهم يهود الفلاشا من أفريقيا، وما زالوا يجتمعون، والآن يخططون لجلاء اليهود من أوروبا وأمريكا ليجتمعوا في هذا المكان بعد أن اجتمع فيه اليهود من المغرب واليهود من المشرق.
وكذلك من هذه الأشراط الأشراط الصغرى، ومنها انتشار الفواحش، وكثرة النساء وقلة الرجال، ورفع العلم، وكثرة الجهل، وأن يقود الناس جهالهم، وأن يقود القبيلة غاويها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاء يتطاولون في البنيان، وأن يكون المال في أيدي البخلاء، وأن يرفع من أيدي الأغنياء، وكذلك أن يكثر النساء ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد، وكذلك كثرة الهرج وهو القتل، فلا يبقى الشخص قادماً، ولا يسمع خبراً إلا وفيه قتل في بلد من البلدان، وأنت اليوم تسمع أية إذاعة أو تقرأ أية جريدة ستجد القتل في كل خبر.
وكذلك فشو الربا، فلا يكاد الإنسان ينجو منه، فمن لم ينل منه نال من رائحته ووصل إليه من غباره، وهذا ما نشاهده اليوم، فأرزاق الناس كلها متأثرة بالربا، وكذلك منها العقوق، فيكون الولد سلطاناً على والده لا يستطيع أن يأمره بشيء ولا أن ينهاه عن شيء، ويسعى أن يجعل بينه وبينه وسيطاً ليبلغه أمراً من عنده أو أن ينهاه عن شيء.
وكذلك من هذه الأشراط الصغرى تقارب الزمان، حيث تكون السنة منزوعة البركة حتى تكون كالشهر، ويكون الشهر كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاشتعال السعفة -أي: سعفة النخلة- من قلة بركة الزمان، وكذلك من تقارب الزمان كثرة الاتصالات ووسائل النقل وتسهيلها.
وكذلك من هذه الأشراط الصغرى ما يحصل من تفشي الكذب، فيحدث الرجل عن شخص يعرف وجهه ولا يعرف اسمه، فينتشر الكذب بهذه الطريقة، وهو الذي يسميه الناس اليوم (رجل الشارع)، فيقولون: رجل الشارع يحدث بكذا.
و (رجل الشارع) معناه الشخص المجهول الاسم المعلوم للعين، والحديث وارد فيه، فيقول الرجل: حدثني رجل أعرف وجهه ولا أعرف اسمه.
وينتشر الكذب، فهذه كلها من أشراط الساعة وعلاماتها.(24/17)
مشاهد يوم القيامة(24/18)
النفخ في الصور
أما مشاهد القيامة فمن أعظمها النفخ في الصور، ونفخ الصور ثلاث نفخات: نفخة هي نفخة الخروج والبعث التي تخرج الأموات من قبورهم، ويجتمع إليها الناس بالساهرة، ويناَدْون: هلم إلى ربكم.
فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون.
ونفخة الفزع، وهي النفخة التي يفزع لها كل الناس.
ونفخة الصعق، ونفخة الصعق هذه يموت منها الجميع، يصعق لها كل الناس القدماء والجدد الذين ماتوا وحشروا، والذين جمعوا من أطراف الأرض، ثم نفخة الفزع بعدها يحيون من أجلها.(24/19)
حشر الناس في الساهرة
ثم بعد ذلك الحشر، وهو جمع الناس في الساهرة، فتبدل الأرض غير الأرض، وتطوى هذه الأرض وتشقق وتمزق، وتطوى السماء، ويأخذ الجبار الأرض والسماوات فيجعلهن بقبضته، كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] , فيهزهن فيقول: أنا الملك، أين الجبارون؟! أين المتكبرون؟! وكذلك يأخذ الله الأرض فيتكفؤها كما يتكفأ أحدكم خبزةً، فتكون الأرض خبزة يتكفؤها الجبار بيمينه كما يتكفأ أحدكم خبزته يجعلها نزلاً لأهل الجنة: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].(24/20)
اجتماع الناس للحساب
وكذلك بعد هذا اجتماع الناس في الساهرة، فيجتمع فيها أولهم وآخرهم، يرى الشخص أطرافهم، فالشخص الواحد القائم يرى أطراف الخلائق من لدن آدم إلى قيام الساعة ببصره العادي، يجتمع الخلائق كلهم حفاة عراة غرلا، حفاة لا ينتعل أحد منهم، وعراة لا يلبس أحد منهم، وغرلاً لم يختتن أحد منهم، على هيئتهم الأصلية الرجال والنساء، ثم يطول بهم الموقف ويحبسون ذلك الحبس الطويل الذي تدنو فيه الشمس حتى تكون كالميل فوق رؤوسهم، ويشتد العرق حتى يلجم كثيراً منهم، ويصل ببعضهم إلى الثديين، وبعضهم إلى الترقوتين، وبعضهم دون ذلك، ويؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف ملك، فتحيط بالناس من كل جانب، ويؤتى بالملائكة صفاً صفاً، ويتجلى الباري سبحانه وتعالى فوق عرشه، قال تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، وقال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:22 - 24].
ثم إذا طال هذا الموقف بالناس فمن مشاهد القيامة أنهم يدوكون فيما بينهم ويسألون عن الرأي، فيقولون: قد طال بنا موقفنا، وإن ربنا قد غضب علينا، وإنه لم يكن ملجؤنا في الدنيا إلا العلماء فلنذهب إليهم.
فيذهبون إلى العلماء فيقولون: ليس اليوم لنا، وإنما هو للأنبياء: (فيذهبون إلى آدم عليه السلام فيقولون: أنت أبونا، خلقك الله بيمينه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول آدم: نفسي نفسي رب! لا أسألك إلا نفسي.
إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت الله في أكل الشجرة، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتونه فيقولون: يا إبراهيم! أنت خليل الله، اصطفاك لخلته واختارك من بين خلقه، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار.
فيقول إبراهيم: نفسي نفسي رب! لا أسألك إلا نفسي.
إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كذبت ثلاث كذبات، ولكن اذهبوا إلى موسى.
فيأتونه فيقولون: يا موسى! أنت كليم الله اصطفاك برسالاته وبكلامه، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار.
فيقول موسى: نفسي نفسي رب! لا أسألك إلا نفسي.
إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم يؤذن لي بقتلها، ولكن اذهبوا إلى عيسى.
فيأتونه فيقولون: يا عيسى! أنت روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار.
فيقول: نفسي نفسي رب! لا أسألك إلا نفسي.
إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني عبدت من دون الله، ولكن اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
فيأتونه فيقول: أنا لها.
فيخر ساجداً تحت العرش، فيلهمه الله تعالى ثناءً لم يثن به أحد على الله، فيقال له: يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعطه) فيرفع رأسه ويشفع للناس.
فحينئذ يؤذن لهم في الانصراف، فينصب الصراط على متن جهنم، ويتجلى الباري لفصل الخصام بينهم، حتى يقتاد للشاة الجماء من الشاة القرناء.
وأول من يكسى إبراهيم عليه السلام، يكسوه الله تعالى من الديباج الأبيض من الجنة، ثم يكون الأنبياء على منابر من نور، وتقام المنابر للمقسطين -وهم العادلون من المؤمنين- فيكونون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، يشهدون على الناس، ويستشهد الشهداء، في ذلك الوقت كل إنسان يأتي معه سائق وشهيد، فالسائق: الملك الذي كان يكتب أعماله، والشهيد: الرسول الذي أرسل إليه وقامت عليه الحجة به، وكل أمة يرفع لها لواء باسم زعيمها وقائدها: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [الإسراء:71].
فيعطى الناس كتبهم، فمنهم من يعطى كتابه بيمينه تلقاء وجهه، وهؤلاء هم الذين يقولون حين يدخل عليهم السرور: {هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] , ومنهم من يعطى كتابه بشماله وراء ظهره بإهانة وإيذاء، فهؤلاء -نعوذ بالله تعالى- يشكون من حالهم ويدعون بالويل والثبور.
ثم بعد ذلك يبيض الله وجوه الذين يصطفيهم للجنة ويسود وجوه الكاذبين عليه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر:60].
ثم بعد هذا ينادي الله تعالى آدم بصوته فيقول: (أخرج بعث النار.
فيقول: يا رب! من كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذلك: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]).
وحينئذ يؤتى بالنار، وتزلف الجنة لأهلها، وينصب الصراط على النار، وهو جسر منصوب على متن جهنم أدق من الشعرة وأحد من السيف، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يمر الناس عليه فيتفاوتون بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يمر كالرجل يزحف على مقعدته، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم.
ثم إذا مروا دخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة، ويضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ويستفتح أهل الجنة الجنة، وأول من يستفتح محمد صلى الله عليه وسلم، فيحرك حلقة الباب فتفتح أبواب الجنة كلها، ويؤذن للناس بدخولها بحسب أعمالهم، ففيها باب الصلاة، وباب البر، وباب الجهاد، وباب الصدقة، وباب اسمه الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق فلم يلج منه أحد، ويدخل أهل النار النار، وأدناهم منزلة فيها المنافقون الذين هم أخفضهم في قعر جهنم، نعوذ بالله، وقعرها يهوي فيه الحجر الصلب الثقيل سبعين خريفاً لا يصل إلى قعرها، يرمى به من أعلاها فيمكث سبعين سنة يهوي حتى يصل إلى قعرها.(24/21)
زيارة الله لأهل الجنة
بعد هذا يزور الله عز وجل عباده المؤمنين بعد أن استقروا في منازلهم في الجنة، فيقال لهم: إن ربكم يستزيركم.
فيزينون لذلك، فيخرجون إلى كثبان من الجنة رملها من الذهب، وتناويرها من العقيق الأحمر، وكل بللها من الكافور والمسك، فيأتون فيرون ربهم سبحانه وتعالى كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته، وأقواهم رؤية له أشدهم حباً له، وأشدهم تعلقاً به ومعرفةً له، فيتفاوت الناس في رؤية الله على حسب خشوعهم في الصلاة ومحبتهم لله وتعلقهم به، فبينما هم في نعيمهم إذ تجلى لهم ربهم من فوقهم، فيرون نوراً من فوقهم فينظرون إليه فلا ينظرون إلى شيء مما هم فيه من النعيم، فيقول: سلام قولاً من رب رحيم.
وهذا هو سلام الله عليهم.
هذه هي مشاهد القيامة، ويجب الإيمان بها إجمالاً ويجب الإيمان تفصيلاً منها بما جاء في القرآن والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي كلها خبرية لا يمكن أن تصل إليها العقول ولا أن تعرف إلا من الوحي.(24/22)
الإيمان بالقضاء والقدر(24/23)
الفرق بين القدر والشرع
القدر سر الله المكتوب، وهو يختلف عن الشرع، فالشرع به التكليف، والقدر لا تكليف به، فالإنسان مأمور اليوم بأن يصوم رمضان القادم، لكنه قد يكون في علم الله أنه لا يبلغه ويموت قبله، فهو في التشريع متعبد بأن يعزم على صوم رمضان، وفي القدر لا يمكن أن يصومه ولا أن يبلغه، فيا رب صائمه لن يصومه ويا رب قائمه لن يقومه.
فهنا الفرق بين القدر والشرع، وهو الذي خفي على إبليس، فاستدل بالقدر وترك الشرع، فحلت عليه اللعنة بسبب ذلك، ونجد كثيراً من الناس يستدل بالقدر ويترك الشرع، وهؤلاء هم الزنادقة مثلما حكى الله تعالى عنهم في كتابه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47] , فهذا هو الاستدلال بالقدر في مقابل الشرع، فهم مأمورون شرعاً بأن ينفقوا على الفقراء، وهم يستدلون بالقدر ويقولون: لو أراد الله إغناءهم لأغناهم وأعطاهم مثلما أعطانا.
وهذه الشبهة ردها الله عليهم فقال: أنتم مكلفون بشرعي لا بقدري، فأنا أحكم ما أشاء، وأكتب ما أشاء، فمن هنا أنتم مأمورون باتباع ما آمر به شرعاً ومحجوبون عما أفعله قدراً، ولو شئت لسخرتكم لهم ولأخذت ما في أيديكم وأعطيته لهم.
فهذا الفرق بين القدر والشرع هو الذي خفي على كثير من الناس.
ومن قدر الله تعالى أن جميع أفعال العباد وتصرفاته كلها من خلق الله ومن فعل العبد، فالعبد فيها مسير بالقدر مخير بالشرع، فهو مخير بالخطاب الشرعي إن شاء فعله وإن شاء ترك، إن شاء صام وإن شاء أفطر، إن شاء صلى وإن شاء ترك الصلاة، هذا في الشرع، لكن في القدر مجزوم بما سيفعله، ففي التكليف يقال له: افعل.
لكنه غير مجبر، فإن شاء صلى وإن شاء لم يفعل، وفي القدر لا يمكن أن يخالف ما كتب الله له.
ولذلك فإن هذه المسألة -وهي مسألة التخيير والتسيير- يغلط فيها كثير من الناس، فيظنون إشكالاً بين التخيير والتسيير أو تعارضاً بينهما، والواقع أن الإنسان مخير في الخطاب الشرعي، بمعنى أنه غير مجبر على فعل الواجبات وعلى ترك المحرمات، فهو مأمور بذلك لكنه غير مجبر عليه، فلم يوضع سيف على رأسه ولا رشاش بين كتفيه فيقال له: افعل -مثلاً- أو اترك.
لكنه في القدر مجبراً إجباراً كاملاً، وهذا الإجبار الفرق بينه وبين الجبر الدنيوي أن جبر المخلوق يكون بمخالفة هوى الإنسان، وجبر الله عز وجل يكون بموافقة هوى الإنسان، فالإنسان مجبر بالاختيار، فيفعل الفعل وهو يريده ويهواه ويحبه وفيه مهلكته، يسافر في طائرة فيشتري التذكرة بثمن باهظ، ويسعى من أجل الحجز ويتعب في الحصول عليه وهو سيموت في تلك الطائرة، وستدمر به وستسقط في المحيط -مثلاً- وتتحطم، فلهذا حجب القدر عن الناس وأمروا بالشرع.
والذين يستدلون بالقدر فيما يتعلق بالجهاد والدعوة هم من قبيل هؤلاء الذين اتبعوا إبليس وتركوا ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكثير من الناس يقولون: دعوا العمل، واتركوا الدعوة، واتركوا الجهاد؛ فإن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: (لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه)! ويجاب عن هؤلاء بأن هذا من قدر الله، ونحن مأمورون بالشرع لا بالقدر، فأنت مأمور أن تصلي لكن لا تدري هل صلاتك مقبولة أو غير مقبولة، فلا يمكن أن تقول: لا أصلي حتى أعلم هل صلاتي هنا مقبولة أو غير مقبولة.
فالقبول من القدر، وأداء الصلاة من الشرع، وأنت مخاطب بالشرع لا بالقدر.(24/24)
مراتب القدر
الركن السادس من أركان الإيمان: الإيمان بقدر الله النافذ، فالله عز وجل متصف بصفة هي صفة القدر.
والقدر معناه: تقدير الأشياء قبل خلقها.
والقدر أربع مراتب: فالمرتبة الأولى منه: علم الله تعالى بجميع الأشياء قبل وجودها على وجه التفصيل والإجمال.
المرتبة الثانية: كتابته لكل ما هو كائن في صحف عنده فوق عرشه، وهاتان المرتبتان هما المذكورتان في قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].
المرتبة الثالثة من مراتب القدر: هي توزيع ما هو كائن على الزمن، ففي كل سنة ليلة ينزل الله فيها ما هو كائن في تلك السنة، كما قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان:4 - 5] , وكذلك مع كل مولود يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.
المرتبة الرابعة من مراتب القدر: تنفيذ ما هو كائن على وفق علم الله في الأزل، فكتابتنا هذه كتبت قبل خلق السماوات والأرض، ثم كتب في هذه السنة أنها تكون في يومها وفي وقتها، ثم بعد ذلك نفذت على وفق العلم السابق، وهذا سار على كل الأشياء، فلا يخفى عن الله عز وجل أي شيء من حركة أو سكون أو فكر أو حركة طرف، كل ذلك يمر بهذه المراتب الأربع وهي مراتب القدر.(24/25)
الفرق بين الخلق والفعل
وهنا أيضاً أمر آخر يغلط فيه الناس، وهو الفرق بين الخلق والفعل، فالله خالق كل شيء، خلق العبد، وخلق فعل العبد، والفعل يصدر من الله ومن المخلوق، فالله يفعل ما يشاء، والعبد يفعل ما يشاء أيضاً، لكن العبد لا يخلق، والله يخلق، فكل أفعال العبد من خلق الله، وكل أفعال الله من خلق الله، ولكن أفعال العبد من فعل العبد وليست من فعل الله، فإذا زنى العبد فهذا الفعل فعل العبد لا فعل الله، وإذا سرق فهذا فعل العبد لا فعل الله، لكنه خلق الله، وهنا الفرق بين الخلق والفعل، فالخلق لا تكليف به ولا يستطيع المكلف التدخل فيه، والفعل مباشرة المكلف لتنفيذ ما كتب عليه، فالمكلف يثاب ويعاقب على حسب الفعل لا على حسب الخلق، فهو لا يملك شيئاً من الخلق وإنما يملك الفعل.
وهنا ينبغي أن نعلم أن أفعال المكلف عموماً منها ما يكون فعلاً للمكلف وخلقاً لله، مثل الزنا من المكلف -مثلاً- أو السرقة، فهذا فعل صادر من المكلف وخلق من خلق الله، ومنها ما يكون فعلاً لله وخلقاً لله، كإنزال المطر، فهو فعل الله وخلق الله، ليس للمكلف فيه دخل، فالمكلف هل يستطيع إنزال المطر؟! لا يستطيع إنزاله، فإنزال المطر من خلق الله ومن فعل الله، لكن يستطيع الزنا أو السرقة، فهذا من فعل المخلوق ومن خلق الله، فلذلك لا تنسب أفعال المخلوق إلى الله على أنها فعل الله، لكنها تنسب إليه على أنها خلق الله.
ومن هنا نعلم أن لله نوعين من أنواع الإرادة: إرادة كونية، وإرادة تشريعية.
فالإرادة الكونية هي المتعلقة بالخطاب القدري.
والإرادة التشريعية هي المتعلقة بالخطاب الشرعي.
فالإرادة الكونية اسمها المشيئة وتختص بذلك، والإرادة الشرعية اسمها الأمر، وهنا يفترق الحال، فقد يأمر الله بشيء ولا يريد وقوعه، وقد يشاء شيئاً وهو لا يأمر به.
ومن هنا نعلم أن أفعال المكلف فيما يتعلق بالإرادتين أربعة أقسام: القسم الأول: ما تعلقت به الإرادتان معاً، وهو الأعمال الصالحة من رسول الله عليه وسلم مثلاً ومن المحسنين، فهذه الأعمال الصالحة أرادها الله إرادة كونية؛ لأنها وقعت، وأرادها إرادة تشريعية؛ لأنه أمر بها وشرعها، فصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم يأمر الله بها؟ لقد أمره بها.
ألم يردها ويشأها؟ بلى؛ لأنها وقعت، إذاً فهذا القسم الأول.
القسم الثاني: ما لم تتعلق به واحدة من الإرادتين، فلم تتعلق به الإرادة الكونية ولم تتعلق به الإرادة الشرعية، وهو مثل الأعمال السيئة من الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه الأعمال ما أرادها الله إرادة شرعية؛ لأنه لا يأمر بالفحشاء، ولم يردها إرادة كونية؛ لأنها لم تقع، فإذاً هذا القسم الثاني.
القسم الثالث: الأعمال الصالحة من أبي جهل مثلاً، فهذه تعلقت بها الإرادة الشرعية دون الكونية، أرادها الله إرادة شرعية؛ لأنه أمره بها، ولم يرد بها إرادة كونية؛ لأنها لم تقع.
القسم الرابع: الأعمال السيئة من أبي جهل مثلاً، فهذه أرادها الله إرادة كونية؛ لأنها وقعت، ولم يردها إرادة شرعية؛ لأنه لا يأمر بالفحشاء.
ومن هنا أصبح من تمام الإيمان بالقدر أن نفرق بين الإرادة الكونية والإرادة التشريعية، وأن نحسن كذلك التفريق بين متعلق هاتين الإرادتين.(24/26)
أقسام القدر
القدر ينقسم إلى قسمين: حلو ومر.
وينقسم كذلك إلى: خير وشر.
فيمكن أن نقسمه إلى أربعة أقسام: القسم الأول: قدر خير حلو، مثل الأعمال الصالحة السهلة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) , فإذا استيقظ الإنسان في جوف الليل فقال: (سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) وهو مؤمن فهذا قدر له هذا الأمر، وهو خير قطعاً؛ لأن له ثواباً في الآخرة، وهو حلو لأنه لا يخالف هواه.
القسم الثاني: قدر خير مر: مثل الإنسان الذي تصيبه مصيبة فيكفر الله عنه بها خطيئة، مؤمن أصابته مصيبة فكفرت عنه خطيئة، فهذا من قدر الله وهو خير له؛ لأنه كفر عنه خطيئة، ولكنه مر؛ لأنه يكره المصائب.
القسم الثالث من أقسام القدر: قدر شر مر -نعوذ بالله- مثل أن يصيب الله الكافر بغضبه وسخطه، فتحل عليه صاعقة من السماء فتحرقه، فهذا قدر الله المر، فهو يكرهه وهو شر له.
الرابع: قدر شر حلو: مثل الاستدراج، يستدرج الله الكفار بما يعطيهم من الأموال والأولاد، وهذا من قدر الله، وهو شر لهم؛ لأنه يزيد في عقوبتهم ويزيد في إغوائهم وبعدهم عن الله، ولكنه حلو؛ لأنه موافق لأهوائهم، فهذه هي أقسام القدر الأربعة، خيره وشره حلوه ومره، فهي أربع صور.
إذاً فهذه هي أركان الإيمان الستة، وبقي كثير من متعلقاتها، فأقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يرزقنا تمام الإيمان به وتمام الإنابة والإخبات إليه، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم! نور بالإيمان قلوبنا، ونور بالهداية صدورنا، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وبيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، اللهم! حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر أو الفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم! استعملنا في طاعتك، واجعلنا هداة مهتدين يا أرحم الراحمين، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.(24/27)
مقومات الداعية
الدعوة إلى الله من أعظم القربات، وأعظم الواجبات، وبها يهدي الله أقواماً ضلوا سواء السبيل.
وللدعوة وسائل لابد من توافرها لنجاحها، كما لابد من وجود صفات مهمة في الداعي إلى الله؛ ليكون ناجحاً وموفقاً في عمله.(25/1)
فضل الدعوة والدعاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فموضوعنا هذا بعنوان: (مقومات الداعية) وسنتكلم فيه إن شاء الله على العناصر التالية: فضل الدعوة والدعاة.
فائدة الدعوة.
أهداف الدعوة.
وسائل الدعوة.
صفات الداعية الناجح.
إن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالدعوة فقال: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25]، ووصف رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بالدعوة فقال: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46]، وأمره بالدعوة فقال: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [القصص:87]، وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، وأمره أن يخبر عن نفسه وعن أتباعه بأن سبيلهم الدعوة فقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، وأخبر كذلك أنها أحسن الأقوال وأرضاها عنده فقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، وقد رتب الله عليها من الفضل العظيم، والأجر الجزيل الشيء الكثير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين أعطاه الراية يوم خيبر: (فوالذي نفسي بيده! لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، فجعل هداية شخص واحد على يديه خيراً له من أن يملك حمر النعم، أي: خير من أن يملك ما في الأرض من الإبل، والمقصود بذلك: أن يتصدق بها في سبيل الله مثلاً.
ويكفي في بيان فضل الدعوة أنها وظيفة الأنبياء، فقد أختارهم الله لها: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، ومن المعلوم أن رسل الله هم أفضل خلقه، وقد اختارهم من ملائكته، ومن البشر، فقال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، فالذين اصطفاهم الله اختار لهم وظيفة يقومون بها وتلك الوظيفة هي أفضل الوظائف وأسماها عند الله سبحانه وتعالى، وأعلاها.
ومن فضل الدعوة أن القائم بها قائم بالحجة لله في الأرض، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8]، وقد افترض الله ذلك على هذه الأمة فقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:104 - 105]، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71].(25/2)
فائدة الدعوة
أما فائدة الدعوة فهي: مدافعة الباطل، فإن الله جعل الدار الدنيا مسرحاً للتدافع بين الحق والباطل، ورتبها على هذا الصراع الأبدي المستمر الذي لا ينقضي حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فقد جعل الله سبحانه وتعالى في هذه الأرض مصلحين وهم: حزب الله، ومفسدين وهم: حزب الشيطان، وجعل الصراع مستمراً ودائراً بين هذين الحزبين، لكن الله سبحانه وتعالى حكم بالعاقبة للمتقين، وجعل حزب الله أعلى منزلة وأسمى قدراً، فقال: {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22]، وقال تعالى: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56]، وفي المقابل قال: {إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19].
وقد حكم الله سبحانه وتعالى بالغلبة لحزبه، فقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105 - 106]، وقال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]، وقال تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]، وقال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:40 - 41]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
وقد جعل الله هذا التدافع مصلحة للأرض، فلو توقف لحظة لفسدت الأرض، كما قال الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ} [البقرة:251]؛ وذلك أن هذه الدنيا دار عملٍ ولا جزاء، وقد جعل الله فيها هذا الصراع فلو تغلب الحق على الباطل لم يكن للدنيا معنىً؛ لأن أهلها قد نجحوا في الامتحان فينبغي أن ينقلوا إلى الجنة، ولو تغلب أهل الباطل على الأرض فلم يبقَ للحق صولة ولا صوت، لحلَّ على أهل الأرض سخط الله ومقته، كما يحل في آخر الزمان إذا لم يبقَ في الأرض إلا حثالة كحثالة الشعير لا يباليهم الله باله، فعليهم تقوم الساعة، وفي ذلك يقول الأنبياء في حديث الشفاعة: (إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله).
فلذلك مصلحة هذه الأرض في وجود هذا الصراع، ولا شك أن هذا الصراع من طبيعته أن الأيام يداولها الله بين الناس، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141].
وتلك المداولة تقتضي أن تكون للباطل صولة، ولكنه سرعان ما يضمحل ويتراجع فلا تدوم صولته، لكنها قد تطول بحسب ما هو مصلحة لأهل الأرض في ذلك الطور، ولا يعلم ذلك إلا الله سبحانه وتعالى وحده بحكمته البالغة، وقد طالت صولة الباطل في أيام نوح عليه السلام ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولا تزال صولات الباطل بعد ذلك في مدٍّ وتراجع: تطول أحياناً وتقصر بحسب حكمة الله تعالى، وما علمه في أزله وأراده لخلقه، لكن من المعلوم أن النتيجة محسومة بعلم الله السابق، وأن العاقبة للمتقين على كل حال.(25/3)
أهداف الدعوة
أما أهداف الدعوة: فلها هدفان كبيران:(25/4)
المعذرة إلى الله تعالى
أولهما: المعذرة إلى الله سبحانه وتعالى بفعل ما أمر به؛ لأننا مكلفون متعبدون بهذه الدعوة، وهي من صميم تكليفنا وعبادتنا لله، حتى لو أيقنَّا أنه لا يستجاب لدعوتنا، فإن ذلك لا يمنع القيام بها، بل لابد أن نؤديها كما أمر الله سبحانه وتعالى، ونتعبد الله سبحانه وتعالى بها؛ ولهذا فإن نوحاً عليه السلام مع طول المدة لم ييئس ولم يقنط، ولم يتراجع، بل استمر على منهجه يغير من أساليب الدعوة بحسب الأحوال، فلذلك قال فيما حكى الله عنه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح:5 - 14].
فنوَّع الأساليب باعتبار أحوال قومه، وصبر على أذاهم، واستمر في دعوته، ومع هذا قال الله تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود:40]، وليس ذلك راجعاً إلى أنه فشل في دعوته، أو لم ينوع الأساليب أو قصر بل قد نجح غاية النجاح، وبذل قصارى جهده، وشهد الله له بذلك، وسيشهد له به محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته يوم القيامة، لكن أراد الله ألا يستجاب لدعوته على مستوى واسع في ذلك الزمان، ثم يرفع الله قدره بأن يجعله أباً للبشر، فلو استجاب له الناس إذاً لم يكن نوحٌ أبا البشر؛ لأن البشر قد انتشروا وكثروا إذ ذاك من سلالات متنوعة، فلا يمكن أن يكون أبا البشر إلا بذلك الطوفان المهلك للجميع، ولا يأتي الطوفان مهلكاً للجميع إلا إذا قلَّ أتباع نوحٍ من الناس.(25/5)
رجاء استجابة الناس للدعوة ونصرتها
الهدف الثاني: لعل الناس يستجيبون لهذه الدعوة فيخرج الله منهم من ينصر دينه، ويعلي كلمته ويلتزم بأوامره، ويتقيد بحكمة إنزاله إلى الأرض، إنما خلق الله الإنس والجن؛ لعبادته، وإنما أنزل الله آدم وذريته إلى هذه الأرض؛ لتحقيق الاستخلاف فيها، ولا شك أن بعض الناس أوتي ملكة التأثير في بعض، وأن كثيراً من الذين انحرفوا عن الطريق إنما انحرفوا بتأثير غيرهم عليهم، ولهذا فإن الذين استكبروا والذين استضعفوا يختصمون يوم القيامة في النار، {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ:31]؛ لأنهم اتبعوهم في غوايتهم.
وهذان الهدفان جاء التصريح بهما في سورة الأعراف في قول الله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:163 - 164]، (معذرة إلى ربكم) هذا الهدف الأول، (ولعلهم يتقون) هذا الهدف الثاني.(25/6)
أقسام الهداية
ومع هذا لابد أن يعلم الذين يسعون إلى تحقيق هذا الهدف أن الهداية تنقسم إلى قسمين: هداية إرشاد، وهداية توفيق.
فهداية الإرشاد يمكن أن يقوم بها البشر، وهداية التوفيق لا يمكن أن تقع إلا بأمر الله سبحانه وتعالى وحده.
والله سبحانه وتعالى نفى القدرة على هداية التوفيق عن محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، وأثبت له القدرة على هداية الإرشاد، فقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53].
وهداية التوفيق هي المذكورة في الفاتحة في قول الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، وهداية الإرشاد هي المذكورة في قصة ثمود، في سورة فصلت، في قول الله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]، (فهديناهم) أي: هداية الإرشاد، ببعثة رسول إليهم، وإقامة الحجة عليهم، (فاستحبوا العمى على الهدى) فلم ينتفعوا بتلك الهداية، فمن شاء الله هدايته لابد أن يهتدي ولو لم يبذل معه الكثير من الأسباب، ومن لم يرد الله له الهداية لا يمكن أن يهتدي، ولو بذلت له كل الأسباب، ولهذا قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [يونس:99 - 100]، وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:109 - 111].
ولهذا جعل الله الهداية نوراً يقذفه في قلب من شاء من عباده، كما قال في وصف الإيمان: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52].(25/7)
وسائل الدعوة
أما وسائل الدعوة: فهي كما رأينا في قصة نوح تتنوع باجتهاد الداعية، وبأحوال المدعوين، وليست توقيفية ولا محصورة في نماذج معينة، وإنما يجتهد الإنسان في تبليغ رسالات الله، وفيما ائتمنه عليه من الوحي بتبليغه بأي وسيلة تؤثر في الناس وتوصل الحق إليهم، وَلْيسْعَ للأجدى والأنفع، وليأخذ بالأسهل فالأسهل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً ولا قطيعة رحم، ويمكن أن يستعين بالوسائل المستوردة من خارج بيئته، حتى لو كانت مستوردة من الكفار، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يدع وسيلة تؤدي إلى إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه إلا أعملها، حتى لو كانت مستوردة من خارج البيئة العربية: فالخندق فكرة مستوردة من فارس، والخاتم فكرة مستوردة من الروم، والمنبر فكرة مستوردة من الحبشة.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى سبع وسائل للدعوة: أربع منها في آية، وثلاث في آية، فقال في الآية الأولى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، وقد تضمنت هذه الآية أربع وسائل من وسائل الدعوة.(25/8)
البصيرة
أول وسيلة منها: البصيرة، فلابد أن يكون الداعي إلى الله سبحانه وتعالى بصيراً بمن يدعوه، وبما يدعو إليه، وبأصول التأثير على من يدعوه، فالمعرفة قبل الدعوة، ومعرفة الإنسان ببيئته من بصيرته بها؛ لأنه قد ينشغل بالجزئيات والأمور اليسيرة مع أن بيئته تحتاج أموراً أكبر منها وأهم، فإذا لم يكن ذا بصيرة ببيئته فإن دعوته ستنحرف عن مدارها، وتقدم ما ليس أولى بها على ما هو الأولى بها، وهذه البصيرة بعضها مكتسب، وبعضها موهوب من عند الله سبحانه وتعالى: فالمكتسب منها: ما يتعلمه الإنسان من العلم النافع، ومن الاطلاع على أحوال الناس وأساليب عيشهم، والأساليب المؤثرة فيهم، وما يكتسبه من المهارات، وما يبدعه هو من التجارب الجديدة التي تثبت جدارتها وأحقيتها فيأخذ بها.
وأما الموهوب من عند الله سبحانه وتعالى، فهو من آثار التقوى والالتزام والورع، فمن كان صادقاً مع الله سبحانه وتعالى لم ينبُ حديثه عن القلوب، بل استمع الناس إليه بإنصات في أغلب الأحيان، ومحل ذلك الناس الذين ليس في قلوبهم مرض، أما الذين في قلوبهم مرض فإنهم لا يمكن أن يستمعوا إلى كلام المخلص أصلاً، بل يفرون منه كما يفرون من الأسد!!(25/9)
أقسام الناس بالنسبة للدعوة
ومن هنا فإن الناس في الدعوة على أربعة أقسام: القسم الأول: الذين لا يتحملون سماعها، ولا يطيقونها، ويفرون منها كما يفرون من الأسد، وهم المشركون الذين قال الله فيهم: {فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:49 - 51].
القسم الثاني: الذين يطيقون سماعها بآذانهم، ولكن آذانهم غير أمينة فلا توصلها إلى القلوب، وهم المنافقون الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد:16].
القسم الثالث: الذين يفصلون فيها، فيقبلونها من بعض الناس دون بعض، فإذا سمعوا من يدعو إلى الله ممن يعجبهم شكله أو نسبه أو حسبه أو يعرفونه، استمعوا إليه، وأصاخوا له، وإن قام مجهول لديهم، أو من لا ينزلونه هذه المنزلة في أمور دنياهم لم يستمعوا إليه، وهؤلاء هم مرضى القلوب الذين اتصفوا بصفة من صفات بني إسرائيل حين قالوا: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ} [البقرة:247]، واتصفوا كذلك بصفة من صفات أهل مكة وأهل الطائف من المشركين، عند بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، عندما قالوا: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31].
وهؤلاء أنواع وأجناس: فمنهم من لا يحمله على ذلك إلا الحسد، كحال اليهود الذين حسدوا محمداً صلى الله عليه وسلم حسداً من عند أنفسهم، فمنعهم ذلك من اتباعه وطاعته، مع علمهم علم اليقين، أنه الرسول الذي أخذ عليه موسى وغيره من أنبيائهم العهد إذا بعث أن يؤمنوا به ويتبعوه.
ومنهم من يحول بين الالتزام بالدعوة والانتفاع بها التقليد لما كان يجده في مجتمعه أو لطريقة آبائه، فهو مقلد تقليداً أعمى، فلا يمكن أن ينتفع من أي شيء جديد، وهؤلاء في تقليدهم قد سلكوا طريقة من طرائق المشركين، وقد وصف الله المشركين المعرضين بقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:22 - 23].
أما النوع الرابع: فهم الذين يسمعون الدعوة من كل أحد، ولا يفصلون فيها، فيأخذون بالحق، ويردون الباطل، وهؤلاء هم الذين أثنى الله عليهم في كتابه، وقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:17 - 18]، وقال تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:11]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} [الفرقان:73]، وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:9 - 13]، وقال: {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، فأولئك هم الذين ينتفعون بالذكرى، وهم أهل الإيمان المستجيبون للدعوة.(25/10)
وجود الأنصار
أما الوسيلة الثانية: فهي ما أشار الله إليه بقوله سبحانه وتعالى: {أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، فلا يمكن أن تنجح الدعوة إلا إذا وجدت أنصاراً وأعواناً، فدعوة الإنسان وحده لا تؤثر، وإذا أثرت يكون تأثيرها محدوداً ضيقاً؛ ولهذا فإن الله جعل لأنبياء الله أنصاراً وحواريين، يأخذون بسنتهم، وينشرون دعوتهم، ويجاهدون في سبيلها، وهذا ما بيَّنه الله في ثنائه على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في عدد كبير من الآيات، فمنها قول الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ} [الفتح:29].
فلابد للدعوة من مجموعة من الناس تتبنى القيام بها، وتتحمل أعباءها، وتتعاون فيها؛ وذلك أن الله تعالى جعل الناس شرائح متنوعة، وجعل مستوياتهم متفاوتة متباينة، وكل شريحة في العادة إنما تتأثر بمن كان منها، كما أن كل أهل مستوىً انتفاعهم الغالب إنما يكون ممن هو في مستواهم، أو ممن نزل إلى مستواهم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر حين سأله في بداية الإسلام: (من تابعك على هذا الأمر، فقال: رجل وامرأة وعبد وصبي)، فكل شريحة من شرائح المجتمع قد دخلتها الدعوة بممثل عنها: فالرجل أبو بكر الصديق، والمرأة خديجة بنت خويلد، والعبد بلال، والصبي علي بن أبي طالب.
ولا تأخذ الدعوة أبعادها إلا إذا دخلت كل الشرائح؛ لأن كل شريحة إذا كان فيها ممثل، وكان فيها أسوة وقدوة لأهلها فذلك أكمل للاستجابة إلى الدعوة، ثم إن المستويات متباينة متنوعة، ومن كان مستواه ضعيفاً لا يمكن أن يستوعب دعوة ذي المستوى الرفيع إلا إذا تنزل له صاحب المستوى الرفيع، ومن كان مستواه رفيعاً لا يمكن أن ينتفع غالباً من دعوة المستوى الضعيف وهكذا، فاحتيج -إذاً- إلى جماعة لهذه الدعوة، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أهمية الجماعة لهذه الأمة، وقد صرح الله بذلك في كتابه بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104]، بعد قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103].
والنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ حذيفة: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)، وقال: (من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)، وقال: (من فارق الجماعة قيد شبر مات ميتة جاهلية)، وقال: (يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذّ في النا) وقال: (يد الله على الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)، وقال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة).
والدين كله لا يستقيم إلا بجماعة، ولهذا فالصلاة مثال للدين كله، فيحتاج فيها إلى إمام يتقدم على الناس فلا يُحرمون قبل إحرامه، ولا يركعون قبل ركوعه، ولا يرفعون قبل رفعه، ولا يسلمون قبل سلامه.
ووراءه مما يليه أولو الأحلام والنهى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، وتأتي الصفوف بعد ذلك تباعاً، الساق بالساق والمنكب بالمنكب، حتى لا تبقى للشيطان فُرجة، فذلك مثال لأمور الدين كلها.(25/11)
الربانية
أما الوسيلة الثالثة: فهي الربانية، أي: الاتصال بالله سبحانه وتعالى، وقصد وجهه الكريم بالدعوة، والاتكال عليه سبحانه وتعالى وحده، والبراءة إليه من الحول والقوة، وذلك يقتضي أن ينظر الإنسان إلى الأسباب على أنها تكليف يؤديه، وعمل بمقتضى الشرع، ومع ذلك لا يتَّكل عليها، ولا يثق إلا بوعد الله سبحانه وتعالى ونصره، فالتوكل على الأسباب شرك، وتركها معصية، وهذه الربانية هي المشار إليها في الآية بقول الله تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} [يوسف:108].
فالداعية لابد أن يكون منزهاً لله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق به، وأن يكون ذاكراً له شاكراً حتى يستجاب لدعوته.(25/12)
التميُّز
الوسيلة الرابعة: هي التميُّز؛ فإن الله تعالى يقول: {وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، فإذا كان الداعية يفعل ما يدعو الناس إلى تركه، ويترك ما يدعوهم إلى فعله، فلا يمكن أن يستجاب لدعوته، ولا أن يطاع لأمره؛ ولذلك فإن الله تعالى حكى عن خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام أنه قال: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].
وأبو الأسود الدؤلي رحمه الله يقول: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليمُ تصف الدواء لذي السقام فذي الضَّنَا كيما يصح به وأنت سقيمُ وأراك تلقح بالرشاد عقولنا أبداً وأنت من الرشاد عقيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ فهناك يُقبل ما تقول ويشتفى بالقول منك وينفع التعليمُ لا تنه عن خلقٍ وتأتِيَ مثلهُ عار عليك إذا فعلت عظيمُ ويقول الآخر: فإنك إذ ما تأتِ ما أنت آمر به تلفِ من إياه تأمرُ آتيَا وفي رواية: فإنك إذ ما تأبى ما أنت آمر به تلف من إياه تأمرُ آبيا والتميز يقتضي من الإنسان الذي يدعو إلى طريق الحق ألا ينساق مع الناس فيما هم فيه، فإذا تنافسوا على أمور الدنيا تذكر قول الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:131 - 132].
وإذا جزعوا أو حزنوا لأمرٍ دنيوي فاتهم، أو فرحوا بأمر دنيوي أحرزوه، تذكر قول الله تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23]، وهكذا.
فهذه الوسائل الأربع تضمنتها هذه الآية الكريمة {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
أما الوسائل الثلاث الأخر فقد تضمنتها آية النحل، وهي قول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].(25/13)
الحكمة
فأول وسيلة منها الحكمة، وهي وضع الشيء في موضعه: بوضع اللين في موضعه، والشدة في موضعها، والسيف في موضعه، والعطاء في موضعه، وقديماً قال أبو الطيب المتنبي: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى فالحكمة إذاً هي وضع كل شيء في موضعه، وهي مأمور بها لا محالةَ، ومزية عظيمة رفيعة، وهي وسيلة من وسائل الدعوة، فلابد أن يكون الداعية حكيماً في تصرفاته؛ حتى لا يكون من قطاع الطرق المنفرين عن الله سبحانه وتعالى، فليس قطاع الطرق بالذين يرعبون المارَّة، ويأخذون أموالهم، بل قطاع الطرق على الحقيقة هم الذين يمنعون الناس من الاهتداء إلى منهج الله، وسلوك طريقه، وهم المنفِّرون، وقد حذر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أيها الناس إن منكم منفرين).
والحكمة تقتضي من الإنسان أن ينوع الأساليب باعتبار المدعوين، وأن يجامل في موضع المجاملة، وأن يجدَّ في موضع الجد، ولا يقول إلا الحق في كل ذلك.(25/14)
الموعظة الحسنة
الوسيلة السادسة من هذه الوسائل: وهي ثانية من الثلاث في هذه الآية، قوله: {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، والموعظة خطاب للعاطفة، وتنبيه للإنسان على ما كان غافلاً عنه بإحياء ضميره، ونفض الغبار عنه.
والإنسان فطره الله في الأصل على فطرة الخير، ولا تزال كوامن الخير فيه ما لم يمت قلبه، فتحريك تلك الكوامن الخيرية فيه إنما يتم بالموعظة الحسنة، ولا تكون الموعظة حسنة إلا إذا اختير لها الزمان والمكان والموضوع والأسلوب واللغة، فكل ذلك هو الذي تكون به الموعظة حسنة، فإذا كان الإنسان في أوجِ شهوته وإقباله على المعصية، فليس ذلك الوقت مناسباً لوعظه في الانزجار عنها، بل وعظه حينئذٍ يقتضي أن تأخذه العزة بالإثم، ولهذا أمر الله بالإعراض عن أصحاب المعصية في ذلك الحال فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
فلابد من الذكرى لكن لا تكون في وقت الخوض، ثم بعدها إذا أعرضوا عن الذكرى ولم يستمعوا ولم يستجيبوا يهجرهم الإنسان بعد الذكرى، {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
والموعظة هي إقناع للإنسان عن طريق عاطفته، والعاطفة مؤثرة في الناس تأثيراً بالغاً، لكن بعض الناس قد لا يتأثر عاطفياً فيحتاج إلى الإقناع عن طريق المجادلة.(25/15)
الجدال بالتي هي أحسن
فكانت الوسيلة السابعة: وهي الثالثة مما في هذه الآية، {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
فالجدال هو الإقناع عن طريق العقل بقرع الحجة بالحجة، ولكنه ينقسم إلى قسمين: إلى جدال حسنٍ وجدال قبيح.
فالجدال القبيح ما كان فيه تنكر للحق، وعدم استماع للخصم، وسوء أدب أو رفع صوت، فذلك كله من الجدال القبيح، وقد قال الله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46]، وقال تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148]، {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، فهذه هي الوسيلة السابعة.(25/16)
صفات الداعية الناجح
نصل بعد هذا إلى صفات الداعية الناجح: فالداعية الناجح لابد أن يتصف بعدد من الصفات، بعضها كسبي وبعضها وهبي: فالكسبي منها: الذي يكتسبه الإنسان ويمكن أن يزيد فيه، والوهبي منها: ما يمنحه الله سبحانه وتعالى للذين يأتمنهم على وحيه، ويبعث في أنفسهم حب التضحية في سبيله، والسعي لإعلاء كلمته.(25/17)
الرحمة
فأول صفة من هذه الصفات: هي الرحمة، وهي خُلُقُ هذا الدين، فلكل دين خلق، وخلق الإسلام الرحمة، وقد كتبها الله على نفسه، وتَسمى بها، وقال سبحانه وتعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، وقال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22].
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فادخر عنده تسعاً وتسعين رحمة لعباده المؤمنين في الجنة، وأنزل رحمة واحدة في الدنيا، فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها).
فلابد أن يكون الداعية رحيماً بالمدعوين؛ لأن حرصه عليهم ورأفته بهم ستكون سر إصراره في دعوته، واستمراره فيها، وتذكره أن هؤلاء عرضة لأن يكبهم الله على وجوههم في النار، فهو يرحمهم، ويسعى للحيلولة بينهم وبين ذلك، وقد قال الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159].
والرحمة صفة مطلوبة في كل مؤمن، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء)، وفي الحديث المسلسل بالأولوية، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن؛ ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال أمتي بخير ما دام كبيرها يرحم صغيرها، وصغيرها يوقر كبيرها).
وقد وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الرحمة في عدد من الآيات، فقد سبق قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159]، وقال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
والرحمة تقتضي من الداعية ألا يخاطب الناس من منطلق الترفع والتعالي، بل يخاطبهم من واقع الحرص عليهم؛ لإنجائهم من عذاب الله، يقول أحد العلماء: ارحم بنيي جميع الخلق كلهمُ وانظر إليهم بعين الرفق والشفقة وقِّر كبيرهمُ وارحم صغيرهمُ وراعِ في كل خلق حق من خلقه(25/18)
الاحتساب
الصفة الثانية: الاحتساب، فلا ينجح الداعية إلا إذا كان محتسباً في دعوته لله تعالى، لا يطلب عليها جزاء ولا شكوراً، ولهذا فما من نبيٍّ من الأنبياء إلا قال لقومه: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [ص:86]، و {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً} [هود:29]، وهكذا، فما من نبي من الأنبياء إلا تبرأ من ذلك.
فالداعية إذا كان يطلب غير وجه الله بدعوته فإنما يدعو إلى نفسه، أو إلى ذلك الذي يطلبه، ومن هنا فلا بد من التوحيد في الدعوة، أي: أن تكون الدعوة خالصةً لوجه الله؛ لأنها عبادة يبتغى بها وجه الله ويتقرب بها إليه.
وقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك: فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه).
والاحتساب يقتضي من الداعية: أن يجتهد في أن يكون قدوة حسنةً، ومثالاً صالحاً يهتدي به الآخرون، فيحاول أن يكون أبلغ الناس تضحية، وأكثرهم عبادة، وأكثرهم تأثراً بما يقول.
ولذلك فإن ابن الجوزي رحمه الله كان خطيباً مفوهاً، وكان إذا خطب في أمر استجاب الناس لخطبته، فأتاه الأرقاء في الشام فقالوا: لو خطبت عن العتق فلعل موالينا يعتقوننا، فوعدهم خيراً، فانتظروا الخطبة فخطب، ولم يذكر الرقَّ، ثم الخطبة الأخرى ولم يتعرض للعتق، ثم الثالثة فخطب عن العتق، وحظ الناس عليه، فأعتق الناس أرقاءهم، فأتوه فقالوا: رحمك الله تأخرت عن وعدك، فقال: (إني لا يمكن أن آمر الناس بأمر قبل أن أبدأ فيه بنفسي، ولم يكن لي رقيق أعتقه، فأخرت ذلك حتى أحرزت مالاً فاشتريت به رقيقاً فأعتقته، وحينئذ أمرت الناس بالعتق فبادروا إليه؛ لأنني بدأت بنفسي)!(25/19)
المعرفة
الصفة الثالثة: المعرفة، فلابد أن يكون الداعية عارفاً بما يدعو إليه، وبمن يدعوه، وبأساليب الدعوة، وبمعاش الناس وما هم فيه، وبلغتهم كذلك، فالله تعالى يقول في كتابه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4].
فإذا كان الداعية لا يستطيع البيان لقومه بلسانهم، فلا يمكن أن يبلغ رسالات الله وأن يبينها، وكذلك إذا كان غير عارف بهم، وبمكان التأثير فيهم، أو بأولويات حياتهم، وأنماط معاشهم، فلا يمكن أن يؤثر فيهم، ومن هنا احتيج الداعية إلى أن يتعرف على المدعوين بأوجه المعرفة المختلفة، وقد سبق أن من قواعد الدعوة: أن المعرفة سابقة على الدعوة.(25/20)
الثقة
الصفة الرابعة: الثقة، فلابد أن يكون الداعية واثقاً من نفسه، واثقاً من منهجه، وأن يكون من يدعى واثقاً به، ولابد أن يبني ثقة الناس به هو، فإذاً لابد أن يبني ثقته أولاً هو بنفسه، وبمنهجه، وبالناس، ثم يبني ثقة الناس به، فالذي لا يثق بنفسه لا يمكن أن يضحي.
ولهذا فإن بني إسرائيل حين فرض الله عليهم دخول (أريحا)، قالوا {إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة:22]، ففرض الله عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض، حتى مات كبارهم الذين تعودوا على المذلة لفرعون وجنوده، ونشأ جيل عاشوا في الشغف والتنقل والتيه، فكانوا هم الذين يستطيعون الجهاد في سبيل الله.
وإنما وثق من بني إسرائيل رجلان فقط، حكى الله كلامهما فقال: {قَالَ رَجُلانِ مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ} أي: من بني إسرائيل الذين هم أهل الخوف والذلة والمسكنة، أو من الذين يخافون الله، {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} بتوفيقهما لذلك {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23].
ومثل ذلك أن يثق بمنهجه، فإذا كان الداعي إلى منهج أو على منهج لا يثق به، ويتردد فيه، ولا يدري هل غيره أقوم من منهجه، فإنه لا يمكن أن ينجح في دعوته؛ لذلك التردد الحاصل لديه، ولهذا قال الزبيري رحمه الله عندما جادله بعض الجهمية: أأرجع بعدما رجِفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني إلى أن قال: فما عوض لنا منهاج جهم بمنهاج ابن آمنة الأمين صلى الله عليه وسلم فلابد أن يثق الداعية بمنهجه وأن يعلم أنه أحسن الموجود وأقومه، ولو كان اجتهاداً، فهو يعلم أنه هو أصح الموجودين لو علم أن غيره أصح منه وأحسن لتبعه بالضرورة؛ لأن اتباع الحق واجب، وقد قال عمر رضي الله عنه في كتابه لـ أبي موسى الأشعري: (ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه بالأمس فراجعت فيه نفسك فهديت إلى رشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل).
وكذلك ثقته بالمدعوين، فقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين لا يدعو إلا من يثق به.
ثم بعد هذا بناء ثقة الآخرين به هو، فالداعية عرضة للعداوة، كما قال ورقة بن نوفل: (إنه لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً) وقد قال الشاعر: ومن دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق وبالباطل والداعية قد دعا الناس إلى ذمه بسلوكه طريق الحق، فلابد أن يجد عليه أعداءً يدافعون عن الباطل، ولا يرضون طريق الحق أبداً، وهم خصوم الرسل، وما من نبي إلا وقال فيه بعضهم: كذاب مجنون ساحر إلى غير ذلك من أنواع التُّهمِ والشبهات، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى أن ذلك ماضٍ مسلسل، فقال: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53].
ومن هنا فلن يضيق الداعية ذرعاً بما يوجه إليه من الشبهات؛ لعلمه أنها وجهت إلى من هو خير منه، لكن مع هذا يسعى لقطعها عن نفسه ما استطاع، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع الشبهات عن نفسه، فقد كان في معتكفه في رمضان فأتت أم المؤمنين صفية بنت حيي تزوره في معتكفه، وكان ذلك في ليلة مظلمة فأراد أن يرجعها إلى غرفتها؛ حتى لا تخرج وحدها في الليل، فخرج يقلبها، فرآه رجلان من الأنصار، فلما رأيا المرأة معه أسرعا، فقال: (على رسلكما إنها صفية بنت حيي، فقالا سبحان الله!! أنتهمك؟ قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم).
فلابد أن يكون الداعية بعيداً عن مواقع التهم، وقد كان مالك يعتذر عن نفسه إذا حصل منه أمر ظن أن الناس سينقدونه، وبين وجهه فيه.
وهذا ما حصل للخضر مع موسى، فإن موسى انتقد عليه ثلاثة أمور: الأمر الأول: خرقه للسفينة وقد حمل فيها بغير أجرٍ وهي في عرض الماء، والثاني: قتله للولد الصغير الذي لم يبلغ الحلم والتكليف بعد، والثالث: إصلاحه لجدار أهل القرية الذين امتنعوا من ضيافتهم، ولم يأخذ عليه أجراً، فأجابه عن ذلك جميعاً بما بيَّنه الله في كتابه.
ومما يذكره أهل التفسير في هذا الأمر أن ذلك كان دروساً أخرى لموسى من وجه آخر، فموسى عندما أنكر على الخضر خرق السفينة في الماء كان يظن أن السفينة إذا خرقت ودخلها الماء ستغرق، وقد نبه بذلك إلى أنه هو قد رمته أمه في التابوت في البحر ولم يغرق وهو صغير.
كذلك إنكاره عليه قتل الغلام فيه تنبيه لقتله هو للرجل الذي وكزه فقضى عليه.
وكذلك في إصلاحه للجدار لولدي الرجل الصالح، فيه تنبيه لقصة حصلت له هو عندما ورد ماء مدين كما قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]، فسقى لهما، ولم يأخذ على ذلك أجراً، فكان ذلك تنبيهاً له على فضل الله عليه ونعمته به.(25/21)
الحلم
الصفة الخامسة: الحِلم، فلابد أن يكون الداعية حليماً، فمن كان عجولاً لا يمكن أن يحصل على مآربه الدنيوية فضلاً عن أموره الأخروية، والحلم يقتضي من الإنسان أن يكون وقوراً، وأن يكون صاحب سكينة، وأن يكون صاحب ثبات، والحلم والأناة صفتان يحبهما الله ورسوله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أشج عبد القيس.
وحاجة الداعية إلى الحلم عظيمة جداً، فبالحلم يعرض عن الجاهلين، وبالحلم كذلك يتغلب على كثير من العقبات التي تعرض له من مخالطة الناس، ولهذا قال الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63].(25/22)
الصبر
الصفة السادسة من هذه الصفات: الصبر، فلابد أن يكون الداعية صبوراً على الأذى، وأن يعلم أن هذا الطريق طريق محفوف بالمكاره، وأن الأذى فيه مضمون، لكن الأذى معلمة من معالم الطريق يعرف به أنه سلك طريق الحق.
والأذى للسالكين لطريق الحق لله فيه حِكم عظيمة، فمنها: أولاً: أن الله سبحانه وتعالى يصرف به الذين لا يرتضي خدمتهم للدين، كما قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:146]، وقال تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46]، وقال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]، فهذه الحكمة الأولى.
ثانياً: أن هذا الأذى يعرف به السالكون لطريق الحق أنهم ما ضيعوا، وأنهم سلكوا طريق الأنبياء، فمن سلك طريق الأنبياء ولم يؤذَ، ولم يجد ما وجده الأنبياء على هذا الطريق، فليعلم أنه قد ضيع الطريق وسلك فجاً آخر؛ لأنه لم يسلكه نبي قط إلا أوذي، كما بينَّا في حديث ورقة بن نوفل، وكما نص الله عليه في كتابه: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3].
ثالثاً: من حكم الله في الأذى الذي يلحق الدعاة على طريق الحق: أنه رفع لمستواهم ولمكانتهم، فقد يكتب الله المنزلة للداعية فلا يبلغها بعمله، فيقيض الله إليه من يتنقصه ويؤذيه؛ فيرفع الله بذلك منزلته وقدره، وقد يكون ذلك بعد موته، فتتلقى ذلك الألسنة، فيرفع الله قدره بذلك ومنزلته، ويهبُ له أولئك المتنقصون حسناتهم إن كانوا من أهل الإيمان.
رابعاً: من حكم الله في ذلك: أن هذه الدعوة ليس لديها من الوسائل ما تصل به كثيراً من البيئات والملأ فتحتاج إلى الوسائل؛ للوصول إلى هنالك.
ومن الوسائل: أن يتكلم الناس فيها، وينتقدونها، فيكون ذلك وسيلة لتقصي أخبارها والبحث عنها، وقديماً قال الشاعر: وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود فإذا تكلم فيها الناس اقتضى ذلك أن يبحث عنها الباحثون عن الحق، وأن يتلمسوا أمورها حتى يطلعوا على جليِّ الأمر وحقيقته، فتصل الدعوة إلى أماكن لم تكن لتصلها من قبل، لولا تنقُّص الناس لها.
خامساً: ومن حكم الله فيها: أنها مقتضية لتوحيد جهد الدعاة واتفاقهم، قال الشاعر: لما أتاني عن عيينة أنه عان عليه تضاعف الأقياد بذلت له نفسي النصيحة إنه عند الشدائد تذهب الأحقاد نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، والإخلاص في القول والعمل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(25/23)
أهمية الخشوع
ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل، ولا يعقل المرء صلاته إلا إذا خشع فيها، ومن هنا كان للخشوع أهمية عظيمة، فعلى المسلم أن يحرص على الخشوع، وأن يعمل بأسبابه ما استطاع، فإن الخشوع أول علم يرفع من هذه الأمة، ولهذا لما كان سلف الأمة أهل خشية وخشوع مكن الله لهم، ورفع قدرهم، وأعلى مكانتهم، وخلد ذكرهم.(26/1)
أحوال الناس في عبادة الله عز وجل
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنس والجن لعبادته، وجعلهم متفاوتين في أداء هذا الحق الذي من أجله خلقوا، فمنهم من يوفق بتوفيق الله سبحانه وتعالى إلى استغلال ما أنعم الله به عليه من العمر والوقت فيما خلق من أجله، وأولئك هم الشاكرون، وقليل ما هم كما قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13].
ومنهم من يستغل ما أنعم الله به عليه من النعم في عداوته ومعصيته، وأولئك هم المخذولون الذين لا يباليهم الله باله، ولا يضرون الله سبحانه وتعالى شيئاً، وإنما يضرون أنفسهم، ومنهم من يستغل نعم الله عليه في اللغو المباح فهذه النعم لا له ولا عليه منها، ولكن أولئك قد خسروا وفاتتهم الصفقات المربحة، وكثير من الذين يظهرون في صورة العابدين تكون عباداتهم جثثاً ميتة ليس فيها روح، وذلك أن روح العبادة هو الخشوع لله سبحانه وتعالى، والتأدب بأدبه، والخضوع بين يديه، والمذلة لوجهه العظيم الذي تعنو له الوجوه يوم القيامة كما قال تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:111].
فيحتاج المؤمن إلى التخلق بهذا الأدب العظيم مع الله سبحانه وتعالى، وأن يكون من الخاشعين لله، وأولئك الخاشعون هم المخبتون الذين بشرهم الله بالبشارة العظيمة في كتابه، فقد قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج:34 - 35]، فأولئك قد اتصفوا بهذا الأدب مع الله سبحانه وتعالى فعرفوه ولذلك أحسنوا عبادته، وعرفوا أن مدة بقائهم في هذه الحياة مدة محصورة يسيرة، وأن فائدتها القرب منه سبحانه وتعالى، فتنافسوا في التقرب إليه، وبادروا قبل أن تفجأهم الملهيات والشواغل التي تحول بينهم وبين ذلك، فقد علموا أن لهم أوقاتاً لا يستطيعون فيها عبادة الله، وعرفوا أن شواغل هذه الدنيا كثيرة، وأن الأوقات التي تخلص للإنسان ليعبد الله فيها ويصدق معه يسيرة، فبادروا فقطعوا المراحل، وسبقوا الشيطان، فلم يبق له على آثارهم إلا الندم، وأولئك قد عرفوا هذا الطريق فلزموه، فهم في سباق مع الزمن، وأيامهم ولياليهم مشغولة بالتقرب إلى الله سبحانه وتعالى وقطع المسافات الشاسعة في القرب إليه، والله سبحانه وتعالى يتقرب إليهم بأبلغ من ذلك، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (أنا عند ظن عبدي بي، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب ألي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)، فسبحان ربنا ما أحلمه وما أكرمه!.
إن الله سبحانه وتعالى غني عن العبادات التي يؤديها أصحابها بقلوب غافلة لاهية، وإنه سبحانه وتعالى إذا أقبل عليه العبد بخشوع أقبل عليه الباري سبحانه وتعالى، ويكفي ذلك شرفاً ومكانة، ولذلك جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يزال الله مقبلاً على العبد -وهو في صلاته- ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه).(26/2)
أقسام أعمال القلب
إن عمل القلب ينقسم إلى ثلاثة أقسام:(26/3)
القسم الثالث: الخشوع في العبادة
القسم الثالث من أعمال القلب: الخشوع، وقد عرفه ابن أسد بأنه الخوف باستشعار الوقوف بين يدي الخالق، والخوف أي: ما يعتري الإنسان من الخوف والمذلة عندما يستشعر الوقوف بين يدي الخالق، وأنه يكلم الله كفاحاً دون ترجمان، وأن الله يجيبه في كلامه، فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] تذكر أن الله يجيبه فيقول: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] تذكر أن الله يجيبه فيقول: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] تذكر أن الله يجيبه فيقول: مجدني عبدي، وفي رواية: فوض إلي عبدي، هؤلاء لي ولعبدي ما سأل.
وهكذا حتى تنتهي الصلاة، فكل لفظ يعلم أن الله سبحانه وتعالى يسمعه، وكل خطرة تخطر في القلب يعلم أن الله سبحانه وتعالى مطلع عليها، وهو: {أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، وأنه: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7]، ومن هنا فهو يخاف الخوف الشديد بهيبة هذا المقام، فأنتم تعلمون أن أحدكم لو كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسلم عليه ويكلمه، فلا شك أنه سيحضر ويخاف، كما وصف ذلك كعب بن زهير رضي الله عنه عندما وضع يمينه في كف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: وقال كل خليل كنت آمله لا ألهينك إني عنك مشغول فقلت خلوا سبيلي لا أبا لكم فكل ما قدر الرحمن مفعول كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول وقد أتيت رسول الله معتذراً والعذر عند رسول الله مقبول مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل لا تأخذني بأقوال الوشاة فلم أذنب وإن كثرت فيَّ الأقاويل إلى أن يقول: حتى وضعت يميني لا أنازعه في كف ذي نقمات قيله القيل لذاك أهيب عندي إذ أكلمه وقيل إنك مأخوذ ومسئول من ضيغم من ليوث الأسد مسكنه من بطن عثر غيل دونه غيل يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما لحم من القوم معفور الخراديل فهيبته للنبي صلى الله عليه وسلم أشد من هيبة الإنسان لأسد يقابله، وقد عرف مكانه من قبل، وعرف أنه لا يجرؤ أحد أن يدخل مكانه، وتخاف منه السباع، فكيف بمن دونها؟! منه وتظل سباع الجو ضامدة ولا تمشى بواديه الأراجيل فإذا كان الإنسان هكذا بهيبته للنبي صلى الله عليه وسلم، فكيف ستكون هيبته لديان السماوات والأرض الذي خلق النبي صلى الله عليه وسلم وشرفه وكرمه، وهو الذي أرسله؟! فلابد أن يحضر في بال الإنسان أنه يكلم الله كفاحاً دون ترجمان، وما يعتريه حينئذ من قشعريرة الجسم والارتعاشة في البدن، وسيلان الدموع، وحركة في القلب، هو الذي يمثل بالخشوع، فالخشوع إذاً يعرف بهذه الأمور كلها، فيظهر على البدن بقشعريرته وانتفاضته وبالدموع، وكذلك بالخوف الشديد، وبارتعاش القلب، فكل هذه آثار من آثار الخشوع، وإنما يحصل ذلك للإنسان عند تمام إيمانه، فمن لم يكن مؤمناً بأنه يكلم الله كفاحاً، وأنه معه، وأن الله سبحانه وتعالى ينظر إليه وهو في صلاته، لم يكن لينال هذه المنزلة، ولم يكن ليحضر هذا التشريف، بل هو محجوب حينئذ مطرود عن جناب الله سبحانه وتعالى، فإنما ينظر الله سبحانه وتعالى إلى من كان متحلياً بما أمره به، متخلياً عما نهاه عنه، فأولئك هم الذين يستحقون هذا المكان الرفيع.(26/4)
القسم الأول: النية
القسم الأول: النية: والنية هي توجه القلب إلى الشيء وقصده، وهي التي يمتاز بها الفعل عن غيره مما يشابهه ويحاكيه، فتتميز بها العبادة عن العادة، ويتميز بها الفرض عن النفل، فلا يقع ذلك إلا بالنية، ولذلك كانت شرطاً لأداء العبادة وصحتها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وبهذه النية يتفاوت العمل تفاوتاً عظيماً؛ فهي تفسير الأعمال، ويضاعف العمل اليسير بهذه النية إذا صدق فيها صاحبها وأخلص، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قاتل فقتل: (لقد عمل هذا قليلاً وأجر كثيراً).
وهذه النية يكتب في ميزان حسنات الإنسان بها ما لم يعمله إذا نواه، فمن نوى الخير متى ما قدر عليه كتب له ولو لم يفعله؛ ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان فيمن قبلنا مر على كثيب أهيل من رمل، فقال: لو أن لي مثله سويقاً فأنفقه في سبيل الله، فلما مات عرضت عليه صحائف أعماله فإذا فيها كثيب أهيل من سويق، فقال: يا رب! من أين لي هذا وما رأته عيناي قط قال: أتذكر يوم كذا عند أن مررت على كثيب أهيل من رمل فقلت: لو أن لي مثله سويقاً فأنفقه في سبيل الله؛ فقد تقبلته منك).
ولذلك فنية المؤمن هي من عمله، فيثاب الإنسان إذا نوى صيام رمضان ولو مات قبل أن يبلغ رمضان، ويثاب بأجر الشهادة في سبيل الله إذا سأل الشهادة صادقاً ولو مات على فراشه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سأل الله الشهادة في سبيله صادقاً بلغه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه)، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100].
وكذلك ينال الإنسان ثواب شيء لم يقع أصلاً ولم يخلق، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بين أحوال الناس في الدنيا فذكر أربعة أحوال فقال: (إنما الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله فقهاً ومالاً فهو ينفق ماله فيما يقرب إلى الله، فهو بأعلى المنازل.
ورجل أتاه الله فقهاً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو أن لي مالاً لفعلت فيه ما فعل هذا، فهما في الأجر سواء.
ورجل أتاه الله مالاً ولم يؤته فقهاً فهو يضرب فيه يميناً وشمالاً في معصية الله، فهو بشر المنازل.
ورجل لم يؤته الله مالاً ولم يؤته فقهاً فهو يقول: لو أن لي مالاً لفعلت فيه مثلما فعل هذا، فهما في الوزر سوا).
فلذلك يثاب الإنسان على أمر لم يخلق إذا أحسن النية فيه لله سبحانه وتعالى، وقد كان كثير من سلفنا الصالح يستعد لرمضان قبله، وللعبادات كلها بنيته، فيحاول مع نفسه حتى يخلص النية ويصدق، ويتأهب بذلك للعبادة قبل أن يأتي وقت أدائها؛ فإن مات قبلها مات في طريقها؛ وهو في صلاة منذ خروجه إليها، وإن بلغ إليها جاءها مستعداً قد تخلص من كل الشواغل والملهيات، وأقبل عليها بقلب سليم.(26/5)
القسم الثاني: حضور القلب في العبادة
القسم الثاني من أعمال القلب هو الحضور: وهو أن يحضر الإنسان ما يفعل وما يقول، فإن قلب الإنسان عرضة لأن يذهب به الشيطان، فإذا فعل كثيراً من أنواع العبادات ولم يكن حاضراً لها كانت جوارحه خيراً من قلبه؛ فكان معكوساً منكوس الفطرة، فالأصل أن القلب إذا صلح صلحت الجوارح، وإذا فسد فسدت، كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
ولذلك جاء النهي عن خشوع النفاق، قيل: وما هو؟ قال: أن ترى الأعضاء خاشعة والقلب غير خاشع، فإذا كانت الأعضاء خاشعة والقلب غير خاشع فهذا هو خشوع النفاق، ولا يكتب للإنسان من عمله إلا ما حضر، فقد يؤدي الإنسان الصلاة وما كتب له نصفها ثلثها ربعها حتى انتهى إلى العشر، فلا يكتب للإنسان من عمله إلا ما حضره، وذلك أن الإنسان إذا كبَّر وهو لا ينوي التكبير أو لا يقصده وإنما جرى على لسانه فهو بمثابة النائم الذي يهذي، والعقل مناط التكليف، وإذا ذهب العقل فاشتغل بأمر آخر كانت العبادة مؤداة في غير موقعها، كالذي يحلم في النوم أنه يفعل فعلاً ولم يفعله، فلذلك نجد أن كثيراً من المصلين والعابدين في غير الصلاة من أنواع العبادة يشتغلون بقلوبهم بأمر وتنشغل جوارحهم بأمر آخر! ولذلك قال العلامة محمد المودودي رحمه الله: إن من دواهي شيطان الصلاة أنه يشغل الإنسان بشيء مهم من أمور الدنيا أو من أمور الآخرة عن صلاته، فلا هو أدى ذلك الأمر، ولا هو أدى صلاته! قال: من أربى مثلث الوترين تذكيره أمراً من الدارين عند دخولك الصلاة فاشتغل به فلا تصلحه ولا تصل وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ما يشغل عن الحضور في الصلاة، فقال: (لا صلاة بحضرة الطعام)، وذلك أن قلوب كثير من الناس تشتغل بالطعام، وبالأخص عند الحاجة إليه، فلا تحضر في الصلاة، فلذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بحضرة الطعام، فقال: (إذا حضر العَشاء والعِشاء فابدءوا بالعَشاء قبل العِشاء)، فلذلك يبدأ الإنسان بالطعام قبل أداء صلاة العشاء، ليخلص لصلاته، ويتأهب لها.
وكذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي المرء حاقناً وهو يدافع الأخبثين، بل قال: (لا صلاة للمرء وهو يدافع الأخبثين)، فإذا كان الإنسان حاقناً يحس بغلبة البول فإنه لا يصلي في ذلك الوقت، بل يبدأ بالاستفراغ، ثم بعد ذلك يتأهب للصلاة ويتهيأ لها؛ لأن كل ما يشغله عن الصلاة سيذهب ببعض حضوره، فلا يؤديها كما شرعت.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك عن المرور بين يدي المصلي لما فيه من شغله عن الصلاة، فاللحظة التي يمر فيها المار بين يدي المصلي يقطع نور صلاته؛ لانشغاله بالمار بين يديه؛ لذا قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم في صلاته فليجعل بين يديه مثل مؤخرة الرحل، وليدن منها، فإن أراد أحد أن يمر بين يديه فليدرأه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله؛ فإنما هو شيطان).
وكذلك جاء من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ذات يوم في المسجد فجاءت شاة تريد المرور بين يديه فزجرها -معناه: أشار إليها فلم تزدجر- فتقدم حتى ألصق بطنه بالجدار؛ حتى يمنع تلك الشاة من المرور بين يديه.
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب له أعلام -والأعلام هي الخطوط الحمر- فلما سلم خلعه وقال: (احملوا هذه إلى أبي الجهم، وائتوني بإنبجانيته، فإنني نظرت إلى علمها فكاد يفتنني عن صلاتي).
فلذلك لابد أن يتأهب الإنسان للانشغال بالصلاة، وعدم الانشغال بأي شيء سواها، حتى النظر إلى الخطوط في ثياب تشغل الإنسان عن صلاته؛ ولذلك خلع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الثوب، وأمر أن يحمل إلى أبي الجهم، وأن يؤتى بإنبجانية كان يلبسها أبو الجهم، فجمع بذلك بين الحسنيين؛ فـ أبو الجهم من فقراء المسلمين فتصدق عليه بهذا الثوب الجميل، والنبي صلى الله عليه وسلم زينته في ذاته؛ فلا تزيده الثياب زينة ولا رفعة، كما قال السموءل: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل ولذلك أراد أن يلبس إنبجانية هذا الفقير من فقراء المسلمين، فيلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزدان الإنبجانية برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك يتخلص من كل ما يشغل عن الصلاة ويلهي عنها.
إن كثيراً من الناس إذا دخل الصلاة اشتغل بأمور مضت كان فيها، فكأنه لم ينقطع عما مضى، ولم يقبل على الله، ولم يدخل في الصلاة أصلاً، فما زال منشغلاً فيما كان منشغلاً به قبل الصلاة، وهؤلاء لم تنفعهم صلاتهم شيئاً، فلا هي تنهاهم عن الفحشاء ولا المنكر، ولا هي تقطع أعمالهم التي كانوا فيها، ومنهم من يبدأ الصلاة خاشعاً حاضراً، لكنه سرعان ما ينصرف وراء الأهواء والملهيات، فيدبر شئون حياته وأموره، ومع ذلك لا يقضي منها شيئاً.
وقد ذكر بعض الفضلاء أنه كان يصلي مع الشيخ الحسن فلما سلم تردد الشيخ في الصلاة، هل نقصت أو هي تمام، فقال له الرجل: بل نقصت فقال: وما يدريك؟ فقال: كنت إذا دخلت الصلاة اشتغلت بقافلة من هنا إلى مكان كذا، وإلى مكان الزرع، فلا تسلم حتى آتي بالأحمال وأدخلها في مكانها، والآن سلمت وأنا في مكان كذا قبل أن آتي بالأحمال وأدخلها في مكانها!! فأصبح يعرف قدر الصلاة بقدر انشغاله، وما تتجارى به نفسه فيه من الأمور.(26/6)
الخشوع صفة أنبياء الله عز وجل وأوليائه
وإن الملك الديان سبحانه وتعالى يختار من عباده قوماً للخدمة، فيخلصهم لعبادته سبحانه وتعالى؛ وهم المخلَصون المخلِصون الذين اختيروا قبل خلق السماوات والأرض، وكتبوا في العباد الذين محضهم الله لطاعته، وأخلصهم لنفسه، وأولئك المخلصون هم الذين يستشعرون حلاوة المناجاة، ويستلذون بهذه العبادة؛ فيستريحون بالصلاة من هموم الدنيا ومشاغلها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحنا بها يا بلال!)، وكان يلجأ إليها في شأنه كله.
وكان إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة، وكثير من الساسة إذا حزبهم أمر، وتكاثرت عليهم العساكر، ودخلوا في الحروب أو المشكلات المادية الاقتصادية، أو اجتمع العمال في إضرابات آثارها سيئة، ولم يجدوا ما يدفعون به رواتبهم، فإنما يلجئون إلى المؤسسات والهيئات، والنبي صلى الله عليه وسلم في كل الأزمات إنما كان يلجأ إلى الصلاة، فإذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة، وهي التي جعلت فيها قرة عينه صلى الله عليه وسلم، كما قال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة).
وكذلك فإن المؤمن الصادق إذا تذكر هذه المناجاة، وأنه يكلم الله كفاحاً دون ترجمان تذكر هذا المقام العظيم، ونحن جميعاً نغبط موسى بن عمران إذا تذكرنا أن الله اتخذه كليماً وكلمه بكلامه، ولاشك أن كل واحد منا يتذكر أن موسى كان نبي الله، وأنه كلمه مباشرة بكلامه سبحانه وتعالى، وهذا المقام مقال عالٍ جداً يعترف به الأولون والآخرون يوم القيامة في مقام الشفاعة، فيأتون موسى فيقولون: أنت كليم الله اختارك لرسالاته ولكلامه.(26/7)
الخشوع مقام رفيع
فهذا المقام الرفيع يناله الخاشع لله سبحانه وتعالى إذا تذكر أن الله يخاطبه؛ فيقول: (حمدني عبدي أثنى علي عبدي مجدني عبدي هؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل هذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل).
فيشعر الإنسان حينئذ بهذا التقريب العظيم، وأنه صار كليماً لله سبحانه وتعالى حين أعلى منزلته، وخاطبه الرب سبحانه وتعالى الذي لا يشغله شيء عن شيء، ولا كائن عن كائن، ولا تختلط عليه اللغات، ولا تلتبس عليه، فهو سبحانه وتعالى يخاطبك بهذا الجواب، وأنت تقول في رفعك من الركوع: سمع الله لمن حمده، إقراراً بذلك وإيذاناً بهذه المناجاة العظيمة، فكأنما أوتيت صحيفتك بيمينك، فالفرح الذي يحصل عندما تنال صحيفتك بيمينك هو الذي تصيح به في الملأ الأعلى وتقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20].
فكذلك هنا إذا خشعت بين يدي الله في ركوعك ترفع صارخاً فتقول: سمع الله لمن حمده، فرحاً بهذا اللقاء للملك الديان سبحانه وتعالى، وسروراً بهذه المناجاة التي أخلصت فيها لله، إن كثيراً من الناس لا يتذوق هذا الطعم ولا يناله، فإذا قال: سمع الله لمن حمده لم تؤثر فيه، وإذا سمعها من إمام لم يفهمها أصلاً، وإذا سمع الرفع بالتكبير لم يؤثر ذلك فيه، وأولئك لا يمكن أن يعدوا من الخاشعين، بل وشتان بينهم وبين الخاشعين!(26/8)
حاجة الإنسان إلى الخشوع
إن حاجة الإنسان إلى هذا الخشوع هي حاجته إلى تغذية قلبه، فهذه القلوب إنما تتغذى بالخشوع والإقبال على الله سبحانه وتعالى، والأنس به، والقرب إليه، وكلما كان الإنسان أعلى منزلة في الإيمان كلما كان أكثر خشوعاً وإقبالاً على الله سبحانه وتعالى وتأثراً بعبادته ومناجاته له سبحانه وتعالى.
إن الله سبحانه وتعالى أثنى على الخاشعين في الصلاة في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2].
ولا يقتضي هذا أن الخشوع مختص بالصلاة، بل الخشوع في كل عبادة لله سبحانه وتعالى، سواء كانت قلبية أو بدنية أو مالية، وسواء كانت فعلية أو تركية؛ إذ لابد فيها من هذا الخشوع؛ فهو روحها، وبه حياتها، وهو معناها، وإذا خلت العبادة من هذا الخشوع كانت روتيناً يفعله الإنسان كما يفعل الطفل إذا رأى مصلياً، فإنه يقوم ويصلي ولا يفهم شيئاً من ذلك، وإنما يركع ويسجد ويقوم كما يفعل في تقاليده للأشخاص جميعاً، والإنسان لا يرضى أن يكون كالطفل الذي لا يفهم شيئاً من تصرفاته، فلذلك لابد أن يفهم معنى القيام، ومعنى الاستقبال، ومعنى رفع اليدين، وأن يجعل الدنيا وراء ظهره، ويفهم معنى التكبير إذا كبر، ويعلم أنه إذا كبر ملأت تكبيرته ما بين السماء والأرض، ويفهم معنى الفاتحة التي يقرؤها، ومعنى القرآن الذي يقرأ بعدها، ومعنى تكبيره للركوع، ومعنى تسبيحه وتعظيمه فيه، وهكذا في كل أجزاء صلاته.
وهكذا في عباداته الأخرى، فالصائم لابد أن يخشع أيضاً، ونحن ننتظر قبل رمضان قدوم هذا الشهر الكريم الذي هو شهر الصيام، فكثير من الناس يؤدي الصيام فيه من غير خشوع، فتجدهم في نهار الصيام وهم يعملون أعمالهم كما كانوا لا يحسون برغبة ولا رهبة، ولا يؤثر فيهم صومهم شيئاً، وتراهم كذلك في ليالي رمضان الفاضلة العظيمة التي يزداد فيها عمر الإنسان بما لا يعلم قدره إلا الله سبحانه وتعالى كما إذا وفق لقيام ليلة القدر، فإنه يزاد على الأقل بأربع وثمانين سنة في ليلة واحدة، ففائدة العمر للعبادة، وهذه الليلة خير من ألف شهر و (خير) أفعل تفضيل؛ ولا يقتضي ذلك حصرها في ألف شهر فإذاً: أقل الناس من كانت ليلة القدر في حقه بقدر ألف شهر، وألف شهر أربع وثمانون سنة وزيادة ستة أشهر تقريباً، فهذه المدة التي نحتاج إليها بزيادة أعمارنا، لا يستفيد منها أولئك الذين يشغلون ليالي رمضان بما لا خير فيه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن أحد سابه أو شاتمه فليقل: إني صائم)، وفي رواية: (إني امرؤ صائم)، فلابد أن يستشعر الإنسان أنه في حرمة الصيام.
فإذا كنت في صلاتك فخاطبك إنسان فهل ستجيبه؟ لن تجيبه؛ لأنك مشغول بحرمة الصلاة، فكذلك إذا كنت في حرمة الصيام، فاعلم أنك في حرمة عبادة عظيمة هي مثل الصلاة؛ فلذلك لابد أن تشتغل بصيامك.
(فإن أحد سابه أو شاتمه فليقل: إني صائم)، (فليقل) أي: في قلبه، أي: فليتذكر ذلك وليقل: إني صائم؛ لأن هذا الصيام يحجبه ويمنعه عن إجابة ذلك الإنسان بمثل قوله.
وهكذا في العبادات كلها، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقالت: (أهو الذي يسرق ويزني ويكذب وهو يخاف الله؟ قال: لا، بل هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف ألا يتقبل الله منه)، فهؤلاء يؤتون ما آتوا، فيقدمون الأعمال الصالحة لأنفسهم وهم يخافون خوفاً شديداً ألا يتقبل الله منهم، ولذا قال سبحانه: {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:60 - 61].(26/9)
فائدة الخشوع
إن الإنسان إذا أحس بطعم هذا الخشوع سهل عليه، واستطاع أن يتعود عليه في أموره كلها، فكثير من سلفنا الصالح كانوا خاشعين في كل أوقاتهم، وإذا نظر الإنسان إليهم تذكر الله سبحانه وتعالى؛ فهم دائماً مشتغلون بطاعته وعبادته، وبمجرد النظر إلى أحدهم تتذكر الله سبحانه وتعالى.
كان أهل الشام يقولون: إنا لتصدأ قلوبنا فنذهب إلى أبي الدرداء، فلا نكلمه كلمة واحدة، وإنما ننظر إليه في مصلاه فنرجع وقد تخلصنا من ذلك الصدأ؛ لأن أبا الدرداء كان في عبادته كأنما ينظر إلى الجنة والنار بين يديه.
وكذلك فإن كثيراً من الذين أتوا من بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -أيضاً- كانوا بهذا الحال في كل أوقاتهم، فقد كان أهل العراق يذهبون إلى الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله، فإذا رأوه ورآهم بكى هو لرؤيتهم، وبكوا هم لبكائه! وقد ذكر مالك رحمه الله أمثال ذلك عن أهل المدينة، وتعظيمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدل على تعظيمهم لله عز وجل، فقد قال مالك رحمه الله: (لو أدركتم ما أدركت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً؛ فقد أدركت جعفر بن محمد وكان ذا دعابة، فإذا ذكر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى كأنه ما عرفك ولا عرفته.
هذا هو الرجل الكريم الذي كان ينفق ماله كله على الناس، ويخدم الفقراء بيده، وهو قد جمع أشرف النسب، فأبوه محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمه عائشة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، فجمع الطرفين، وهو عالم أهل المدينة في ذلك الوقت وعابدهم، وهذا مع حسن خلقه ولباقته، ولكنه كان إذا ذكر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم، بكى حتى كأنه ما عرفك ولا عرفته.
قال مالك: (وأدركت محمد بن المنكدر وكان إذا حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتقع لونه وتغير، حتى رحمناه، وخرجنا عنه).
فأولئك القوم كانوا بهذا المستوى من الخشوع في كل أوقاتهم، ولم يزل الخشوع يتناقص في الناس عصراً بعد عصر، فاليوم تسمع من يسمع القرآن كاملاً أو يقرؤه كاملاً ولم تتحرك نفسه لآية واحدة منه! ولو نزل القرآن على جبل من الجبال لصار دكاً لجلال الله، كما قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21].
وتجد من يذكر عنده رسول الله صلى الله علي وسلم في المجلس كثيراً، ويسمع كثيراً من أحاديثه الصحيحة عنه، وكثيراً من أحواله، ومع ذلك لا ينتفض قلبه، ولا يتأثر، ولا يتذكر.
إن كثيراً من الذين لا يفهمون حرفاً واحداً من القرآن يتأثرون لسماعه تأثراً بليغاً، وكثيراً من الذين يفهمونه ويتعقلونه ويدرسون تفسيره لا يتأثرون به، وهذا عجب من العجائب! وآية من الآيات، بل هو من معجزات هذا الكتاب العظيم، وقد شاهدنا عدداً من الأعاجم الذين لا يعرفون القرآن، ولا يفهمون منه كلمة واحدة، ومع ذلك لا يسمعون قراءته حتى تسمع النشيج عن يمينك وشمالك، يبكون بكاءً صادقاً بحرقة عظيمة، وذلك أنهم يعرفون أن هذا كلام الله، فقدر مستواهم في العلم أن يعلموا أن هذا الكلام كلام الله، فأحبوه من أجل ذلك، فبكوا تأثراً به.
وقد كان عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه عند موته يقلب المصحف على خديه ويقول: كلام ربي، كتاب ربي! محبة للقرآن، حتى توفي على ذلك رضي الله عنه وأرضاه.(26/10)
خشوع النبي صلى الله عليه وسلم
إن الذي يعلم بعض أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سماعه للقرآن وبعض أحواله في عباداته الأخرى، يستشعر أنه صلى الله عليه وسلم مع ما امتن الله به عليه من البشارة العاجلة، ومع ما ادخر له من المقام المحمود العظيم الذي خصه الله به من بين الخلائق؛ كان يتأثر بهذا القرآن تأثراً عجيباً، ففي حديث ابن مسعود في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: اقرأ علي القرآن، فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟! فقال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال ابن مسعود: فقرأت سورة النساء حتى بلغت قول الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:41 - 42]، قال: حسبك! فنظرت فإذا عيناه تهملان).
(وخرج ذات ليلة في المدينة فمر على باب عجوز من الأنصار، فإذا هي تقرأ القرآن، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع، فقرأت العجوز: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أتاني، نعم أتاني، وجلس يبكي عند بابها).
وعندما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة فتح مكة، وقد وعده الله سبحانه وتعالى بفتحها عليه فقال: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} [الفتح:21]، مع ذلك يدخلها وهو في حال عجيب من الخشوع، يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ألصق ذقنه بصدره حياءً من الله أن يدخل حرمه في السلاح).
فهكذا كان حياؤه من الله، مع أن الله أحلها له، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (وإنما أحلت لي ساعة من نهار)، كما في حديث أبي شريح رضي الله في صحيح البخاري، ومع ذلك يخشع صلى الله عليه وسلم هذا الخشوع العظيم حياءً من الله سبحانه وتعالى، وأدباً معه، وتوقيراً لحرماته، وتعظيماً لها؛ لأن ذلك من التقوى، كما قال عز وجل: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
إن كثيراً من السابقين كانوا يخشعون في حلق العلم كما يخشعون في الصلاة، فهي عبادة لله سبحانه وتعالى؛ فيستعدون لها، ويتأهبون لها كما يتأهبون للصلاة، ويخشعون فيها كخشوعهم في الصلاة.(26/11)
أحوال الصحابة والسلف رضوان الله عليهم في الخشوع
ولذلك كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانوا عنده فتكلم كأنما على رءوسهم الطير، كما وصفهم عروة بن مسعود رضي الله عنه بقوله: (كأنما على رءوسهم الطير)، والطير إذا نزل على رءوس الإبل وجلت ووقفت ولم تتحرك من مكانها، فكذلك حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانوا عنده، فإنهم يكونون مطرقين يستمعون إلى ما يقول، وقد كانوا كذلك إذا سمعوا كلام الأئمة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يطرقون لسماع الخطب وسماع الدروس من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، حتى فيمن بعدهم.
فهذا مالك بن أنس رحمه الله كان إذا تكلم أطرق الناس لكلامه، ولم يراجعه أحد في كلمة منه، كما قال عبد الملك بن المعلل: يأبى الجواب فما يكلم هيبة والسائلون نواكس الأذقان شرف الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطان ولذلك عند أن كان هناك أسرة غنية في المدينة لها ولدان فقط، فحسد أحدهما الآخر فقتله غيلة، بأن ذهب به إلى بئر فرداه فيها، ومذهب أهل المدينة أن القتل غيلة ليس الحق فيه لولي الدم، بل الحق فيه للمسلمين عموماً، فالقاتل غيلة يقتل ولو عفا عنه أولياء الدم، وبه أخذ مالك رحمه الله.
فعفا والدا القتيل عن القاتل، وقالا: ليس لنا ولد سواه فنحن نعفو عنه، فوضعه أمير المدينة في السجن حتى يتبين له فيه، فجاء مالك فراجع الأمير في قتله، فقال: والداه شيخان كبيران، وقد أخبرا أنه ليس لهما ولد سواه، وهما يعفوان عنه، فقال مالك: (والله لا أتكلم في العلم حتى يقتل، فتحركت المدينة كلها حتى قتل الرجل.
وهذا إضراب من الإمام مالك رحمه الله احتجاجاً على تعطيل حد واحد من حدود الله في قضية واحدة، والناس اليوم يشهدون تعطيل الحدود كلها! ومع ذلك لا يتحرك أحد لهذا، ولا يضرب من أجله، ومالك رحمه الله يضرب عن تدريس العلم من أجل تعطيل حد واحد، ويقول: (والله! لا أتكلم في العلم حتى يقتل).
لذلك كان أولئك السلف رحمهم الله بهذا المستوى من الإيمان والخشوع والإقبال على الله سبحانه وتعالى، فكانت صلاتهم تزيدهم إيماناً ونوراً، وكانت زكاتهم تزيدهم زكاءً وقرباً، وكان صيامهم مدرسة تعودهم على التقوى كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، وكان حجهم كذلك تصفية وتطهيراً لهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، وكما قال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203] أي: تغفر له ذنوبه كلها فيرجع ولا إثم عليه، وإنما ذلك لمن اتقى فقط.
فلهذا كانوا في أدبار العبادات يتحلون بالصفاء المطلق؛ وتدعوهم العبادة إلى الزيادة منها، كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]، فكلما انتهوا من عبادة ازدادوا قوة ونشاطاً للعبادة الأخرى، بخلاف الذين يأتون الصلاة وهم كسالى، ولا يؤدون العبادة بإقبال كما كان أولئك، فستشق عليهم عبادتهم، وإذا انقضى رمضان لم يستطيعوا صيام ست من شوال، وإذا انقضى الحج وانتهى لم يستطيعوا العمرة، وقد ورد في متابعة الحج والعمرة الأجر الكثير؛ قال صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير صدأ الحديد).
وهكذا كانوا إذا سمعوا القرآن تأثروا به فازدادوا سخاءً وتواضعاً وإقبالاً، وإذا سمعوا أوامر الله سبحانه وتعالى فيه لم يتعدوها، ولم يتجاوزوها، كما كان عمر رضي الله عنه، ففي حديث الحر بن قيس في الصحيح قال: جاء عيينة بن حصن -وكان سيداً مطاعاً، ولكنه أحمق- فقال: إن لك وجهاً عند هذا الرجل؛ فاشفع لي عنده حتى أكلمه، فكلمه الحر، فدخل عليه عيينة فقال: أيه يا ابن الخطاب! فوالله! ما تحكم فينا بالعدل، ولا تعطينا الجزل، فغضب عمر للكذب، حتى هم به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى يقول في كتابه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما تعداها عمر حين سمعها؛ وكان عمر وقافاً عند كتاب الله.
ونحن اليوم إذا قرئ على الإنسان شيء من كتاب الله أو استدل له بآية يحفظها، وقد يكون حفظها قبل بلوغه، بل قبل إدراكه ولكنه لم يقف عندها، فتراه يريد المراجعة، ويريد معارضتها بكلام المخلوقين، وهي كلام الخالق سبحانه وتعالى، وإذا أخبر بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك لم يقف عنده، ويريد معارضته بكلام من دونه من أتباعه، فكل هذا من الخلل البين الذي هو بسبب نقص الخشوع والإقبال على الله سبحانه وتعالى.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس في كل الأوقات، ولكنه كان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة.(26/12)
أثر الخشوع في طلب الجنة والشهادة في سبيل الله
فإذا كان الحال كذلك فينبغي لنا بعد كل عبادة أن نتأثر بأثرها، فيتضح ذلك في أخلاقنا وتصرفاتنا وكلامنا، وينبغي أن نكون أهل إقبال على الله سبحانه وتعالى وتنزه عن هذه الدنيا وعن أعراضها كلها، وعلينا أن نتطهر من كل ذلك، فينبغي أن ترف قلوبنا إلى الجنات العلى، وأن نتأهب للفردوس الأعلى من الجنة تحت عرش الرحمن، وحينئذ يضحي الإنسان، وتستعد نفسه للتضحية والبذل في سبيل الله بما يستطيع.
ولذلك فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا سمعوا شيئاً من الوعد أو الوعيد رفت له قلوبهم، ففي حديث أبي بردة بن أبي موسى رضي الله عنه قال: حضرت أبي وقد حضر الصف، أي: التقى الصفان في حال المعركة فقام أبو موسى -وهو أبو أبي بردة -فقام خطيباً فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر، لم يكن بينه وبين الجنة إلا أن يموت)، فقال له رجل: يا أبا موسى! آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، فتقدم الرجل فقاتل حتى قتل.
فهكذا كان يؤثر فيهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوه؛ لأنهم صدقوا الله سبحانه وتعالى فأثر فيهم هذا الكلام تأثيراً بليغاً.
فهذا عامر بن فهيرة لما أحس بوقع السيف نضح الدم على وجهه وقال: (فزت ورب الكعبة!).
وكذلك فعل حرام بن ملحان رضي الله عنه؛ فإنه لما ضرب بالسيف حمد الله سبحانه وتعالى على أنه قتل في سبيل الله، وهذا الحال نجده عندما سأل ابن رواحة رضي الله عنه الله سبحانه وتعالى المغفرة والشهادة في سبيله عند توديع المسلمين له في غزوة مؤتة والناس يسألون لهم العودة بأمان، وهو يقول: لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع تقذف الزبدا فذكر أنه يريد الشهادة في سبيل الله، وألا يرجع أبداً بعد ذلك، فقد فهموا هذه النصوص وتأثروا بها، ولذلك فإن ابن رواحة عندما نزل للبراز في وقت المعركة قال: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها علي إن لاقيتها ضرابها فترجل وقاتل حتى قتل مقبلاً غير مدبر.
وكذلك عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنه في يوم أحد؛ عندما رجع عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الجيش عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليهم عبد الله بن عمرو بن حرام فقال: (أي أصحابي! لا تخونوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الموقف؛ وقد رأيتم العدو مقبلاً، فقالوا: لو كنا نعلم قتالاً لاتبعناكم، فقال: لعنكم الله، وأغنى عنكم المسلمين).
فرجع فانتزع بردة كانت عليه فوضعها أمامه، وقاتل حتى قتل، وتمنى أن يعود إلى الدنيا حتى يقاتل فيقتل، ثم يقاتل فيقتل.
وقد تمنى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ولولا أن أشق على أمتي ما تخلفت خلاف سرية تخرج في سبيل الله، ولوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل).
فالشهيد لا يتمنى شيئاً من الدنيا إلا الرجوع إليها ليقتل مرة أخرى في سبيل الله لما رأى من أجر الشهادة وفضلها، فإنه يغفر للشهيد عند أول قطرة تقطر من دمه، ويزوج بسبعين من الحور العين، فلذلك لما صدق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام كانت لهم التضحيات العظيمة، وكان لهذا التصديق والخشوع الأثر البالغ في نشر الإسلام والجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله، ولما تراجع الخشوع في الناس قل فيهم العمل بمقتضى ما يقرءون، فالناس الآن يصدقون هذا الكلام ويعلمون أنه الحق، لكنهم لا يعملون به كما عمل به أولئك، فلا يضحون في سبيل الله كما ضحى أولئك السابقون الأولون.
ولهذا فقد تراجع مد الإسلام، وأصاب كثيراً من المسلمين الوهن الذي هو حب الدنيا وكراهية الموت وانشغلوا بأمور دنياهم عن أمور هذا الدين، فأصبح كثير من الناس يؤثر السلامة العاجلة على أمور الدين، ولا يرضى أن يتمعر وجهه يوماً واحداً في ذات الله سبحانه وتعالى، فكل ذلك من نقص الخشوع لله سبحانه وتعالى وإحسان التعامل معه جل وعلا.
إن علينا -عباد الله- أن نحيي قلوبنا بالخشوع لله سبحانه وتعالى في أعمالنا كلها، وأن نتذكر أن هذا الخشوع هو روحها، وأنها إذا خلت منه كانت جثة ينبغي أن ترمى في القمامة، فلا يستطيع أحد أن يحمل جيفة قد أنتنت، وهذه الأعمال إذا خلت من الخشوع والخضوع كانت جيفة منتنة لا خير فيها؛ فلابد أن نستحضر هذا في أمورنا كلها.(26/13)
الأسباب المعينة على الخشوع في الصلاة
ولابد أن نعلم أن للخشوع أسباباً معينة عليه:(26/14)
استواء الصف من أسباب الخشوع
وكذلك مما يعين على الخشوع في الصلاة: استواء الصف؛ فالصف الذي يتخلله الشياطين لا يمكن أن يحضر أصحابه، ولا أن يخشعوا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مالي أرى الشياطين خلال صفوفكم كأنهم غنم عفر؟!)، وقال: (عباد الله! لتسوون بين صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم).
فلذلك لابد أن يجتهد الناس في تسوية الصفوف، وأن يلين الإنسان في يد إخوانه حتى يكون ذلك سبباً لخشوعه، وكم من إنسان لم يكن خاشعاً فأحس بقشعريرة جاره في الصف فأدى ذلك به إلى الخشوع! وكم من إنسان أيضاً كان مشتغلاً على الأقل بالحضور في الصلاة، فإذا بجاره يتثاءب، فاتصل به الشيطان فتثاءب هو بتثاؤب جاره، وكثيراً ما ترون الإنسان إذا تثاءب تثاءب جاره في الصلاة؛ لأن الشيطان يتوصل بالجار إلى جاره.(26/15)
دعاء الاستفتاح من أسباب الخشوع في الصلاة
كذلك من أسباب الخشوع في الصلاة: دعاء الاستفتاح الذي يقصر فيه كثير من الناس، فإن الإنسان إذا أقبل على الله وكبر تكبيرة الإحرام واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه استطاع بذلك أن يخشع؛ لأن الشيطان سيجتنبه.
فكثير من الناس لا يفتتح الصلاة أصلاً، فلذلك يجد الشيطان مدخلاً إليه في بداية صلاته، وقلما يحضر معنى التكبير في ذهنه، وقلما يحضر معنى الحمد في ذهنه عندما يقرأ إذا لم يستفتح، لكن إذا استفتح الصلاة بالدعاء الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، ونقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، واغسلني من الخطايا بالماء والثلج والبرد)، تباعدت عنه خطاياه، فاستطاع أن يحضر في الصلاة، واستطاع أن يخشع إذا قرأ الفاتحة أو غيرها، فكان ذهنه حاضراً؛ لأنه قد باعد الله بينه وبين خطاياه، وبينه وبين الشيطان، وغسل بالماء والثلج والبرد، وتهيأ لأن يكون من الخاشعين بين يدي الله سبحانه وتعالى.(26/16)
استحضار المصلي لعظمة الصلاة من أسباب الخشوع
كذلك من أسباب الخشوع في الصلاة: عظمة هذه الصلاة في ذهن الإنسان: فإذا كان الإنسان إذا سمع (حي على الصلاة) أو أدرك أن وقت الصلاة قد دخل، استطاع أن يتخلص من أعماله، وأن ينتفض قلبه منها، وكانت أكبر همه إذا حضر وقتها، وكان مقدماً لها على كل أشغاله الأخرى، فهذا هو الذي يستطيع الخشوع فيها.
أما إذا كانت الصلاة أمراً روتينياً في حياته وعادياً؛ فإنه إذا فاتته الصلاة لم يشعر بالمصيبة، وقد كان الصحابة يعزي بعضهم بعضاً إذا فاتتهم الصلاة، فمن فاتته الصلاة منهم يُعزى في تلك المصيبة التي حلت به.
فإذا كان الإنسان يعلم عظمة الصلاة وأهميتها ويبادر إليها بهذه المبادرة، فلابد أن يكون خاشعاً فيها؛ لأنه مستعد لها تمام الاستعداد؛ ولذلك فإن الذي يستحضر عظمة الصلاة والاهتمام بها سيكون من المحافظين عليها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خمس صلوات فرضهن الله على العباد في اليوم والليلة، فمن حفظهن وحافظ عليهن حفظ دينه، وكان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن ضيعهن لم يكن له عند الله عهد.
إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه).
وفي كتاب عمر بن الخطاب إلى عماله: (إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع وأضيع).
فلذلك لابد أن تكون الصلاة ذات أهمية في حياة المسلم، وأن يقدمها على شئونه الأخرى، فهذا مما يعينه على الخشوع فيها.(26/17)
الحضور إلى المسجد قبل الصلاة من أسباب الخشوع
وكذلك من أسباب الخشوع في الصلاة: الحضور قبلها إلى المسجد بوقت تستقر فيه النفس؛ حتى يؤدي الإنسان الرواتب، ويتطهر، ويذكر، وتحول بينه وبين الشيطان فترة حادثة لجوارحه في المسجد، فالذي لا يأتي إلا عند الإقامة أو بعد أن يحرم الإمام كيف يخشع وقد جاء من الدنيا مباشرة إلى الصلاة؟! وإنما يخشع الإنسان إذا جاء فجلس في المسجد بعد أن صلى الراتبة، وهيأ نفسه للصلاة، وذكر الله سبحانه وتعالى، فهذا الذي يستطيع الخشوع في الصلاة.(26/18)
استخدام السواك من أسباب الخشوع في الصلاة
كذلك فإن مما يعين على الخشوع في الصلاة: السواك، فهو مطهرة للفم مرضاة للرب، وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وحض عليه، وكان يبدأ به إذا دخل بيته وإذا خرج منه، وقال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، وفي رواية: (عند كل وضوء)، فالعناية بالسواك مما يعين على الحضور في الصلاة والخشوع فيها.(26/19)
الطهارة من أسباب الخشوع
فمن أسباب الخشوع في الصلاة: أن يستحضر الإنسان ذلك في وقت طهارته، وأن يحافظ على الطهارة تمام المحافظة، فكيف يخشع من لا يؤدي طهارته، ولا يستتر من البول، ولا يأتي الصلاة إلا في ثياب متسخة، ولا يأخذ زينته عند كل مسجد؟ وإذا ذهب إلى المدرسة أو إلى العمل اتخذ ثياب زينته، فإذا ذهب إلى المسجد خرج في ثوب نومه، فكيف يخشع من كان هكذا؟ وإن سبب نقص خشوع كثير من الناس في الصلاة هو عدم حفاظهم على الطهارة، فهذه الطهارة سواء كانت من حدث أو من خبث، إنما جعلها الله سبحانه وتعالى إعداداً للصلاة وتهيئة لها، فطهارة الخبث إذا تركها الإنسان كان عرضة لعذاب القبر، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مر بقبرين جديدين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى إنه لكبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة).
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (تنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه).
وإن كثيراً من الناس لا يستترون من البول، فترى بعضهم يبول في الطرق التي هي حق مشترك للعامة لا يحل استغلاله فيما يضر بالعامة، وهي من الملاعن التي يُلعن أصحابها، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللاعنين، وعن الملاعن كلها.
وكذلك تجد كثيراً من الناس لا يحافظ على أداء طهارة الحدث؛ فهو يتيمم وهو قادر على الغسل أو الوضوء، وإذا تيمم أيضاً لم يحسن التيمم، فتراه يأخذ حجراً صغيراً فيمرر يديه عليه، ويظن هذا مجزئاً في التيمم، وهذا بعيد كل البعد عن التيمم الذي شرعه الله، فقد قال الله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6]، وهو يمسح به هو على يديه، فهو لم يؤد ما أمره الله به؛ ولا يعتبر هذا تيمماً، ولا يجزئه.
وهكذا تجد كثيراً من الناس لا يبالي بنظافة ثيابه، مع أن الأصل أن يكون للإنسان ثوب للصلاة يعده لها، فهذه الصلاة هي أعظم أحوالك وشئونك، فأنت تعد ثوبك وتغسله وتنظفه إذا أردت الذهاب إلى العمل أو إلى المدرسة، فكيف لا تحضر ذلك للصلاة وللمسجد العظيم، وقد قال الله تعالى في كتابه: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]؟! فهذا مما يهمله كثير من الناس، وهو مما يكون سبباً لنقص الخشوع.(26/20)
الخشوع مطلوب في جميع العبادات
وكذلك على الإنسان أن يعلم أن هذه الأسباب المذكورة في الصلاة نظيرها في غير الصلاة من العبادات الأخرى، فإذا كان الإنسان يتأهب للعبادات الأخرى ويتهيأ لها، اشتياقاً إلى الله، ورغبة في مقابلته، ورغبة في الخير الذي سيقسمه بين عباده، وهو يعلم أنه الآن قد أذن له، وفتح له باب الملك الديان، وقد تنافس المتنافسون في الدخول فازدحموا عند الباب، فلذلك يريد أن يكون من الذين يتعرف عليهم الملائكة، وأن يكون من الذين يكتبونهم الأول فالأول، وأن يتعرف إلى الله في الرخاء ليعرفه في الشدة؛ فهذا لاشك أنه سيكون خاشعاً في أعماله كلها؛ لأنه يحس بالمنافسة، ويحس بأن الناس رعيل مقبل، وأن العباد منهم من يتنافسون في القرب؛ وهو لا يرضى أن يكون أحد سابقاً له حاجزاً بينه وبين القرب إلى الملك الديان سبحانه وتعالى.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الخشوع في عبادتنا كلها، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعلنا من الصادقين المخلصين المخلصين، وأن يجعلنا في قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.(26/21)
الأسئلة(26/22)
سبب صعوبة الزواج على كثير من الشباب
السؤال
لماذا أصبح الزواج صعباً على الشباب الراغبين فيه؟
الجواب
هذا من الأخطاء الاجتماعية، ومن الأمور التي ينبغي أن يتخلص منها المجتمع؛ فإن ذلك من الأمور التي أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بها، وأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم من صلح لها وقدر عليها، والتعاون على ذلك من التعاون على البر والتقوى، وهو من الأمور التي يسرها الشارع، وحض عليها.
ولم يكن غلاء المهور محموداً، ففي زمان النبي صلى الله عليه وسلم، كانت مهور أزواجه وبناته بأقل ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم يذكر نساء قريش بقلة التكاليف، فقد صح عنه أنه قال: (خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أرعاه لزوج في ذات يده، وأحناه على ولد في صغره، وأرضاه بالقليل).
وكذلك فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا بهذا المستوى، فقد ذهب بلال رضي الله عنه مع أخيه إلى قوم من الأنصار، فحمد بلال الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: فأنا بلال وهذا أخي، كنا عبدين فأعتقنا الله، وكنا كافرين فهدانا الله، وكنا فقيرين فأغنانا الله، فإن زوجتمونا فلكم الشكر، وإن رددتمونا فلكم العذر، فقالوا: والله لا نردكما، فزوجوهما.
فإذاً: كان الأمر ميسوراً على هذا الوجه، وإنما جاءت التعقيدات بأمر الجاهلية، وهي سبب لإشاعة كثير من الفحشاء والمنكر.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود بإسناد صحيح أنه قال: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).(26/23)
حكم صلاة حامل النجاسة
السؤال
إذا سقطت النجاسة على المصلي في الصلاة، فماذا يعمل؟
الجواب
النجاسة إذا أحس بها المصلي في الصلاة فعليه أن يقطع صلاته حتى يتطهر منها، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في الصلاة فأتاه جبريل فأخبره أن في إحدى نعليه قذراً فخلعهما.(26/24)
تفسير قوله تعالى: ((وماكنت ثاوياً في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا))
السؤال
ما هو تفسير قول الله تعالى: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [القصص:45]؟
الجواب
الله سبحانه وتعالى بين لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يقتدي به من هدي الأنبياء السابقين، فبين له ما لقي موسى من الأذى، وما لقي شيخ مدين كذلك من أهلها، وما لقي غيرهما من الأنبياء من الأذى من أصحابهم، وأنهم صبروا على ذلك وصابروا، وهذا تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له عما يلقى من إعراض قومه وأذاهم، ولذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر).
وقوله: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [القصص:45] أي: ما كنت مستقراً، والثواء: الاستقرار كما قال عنترة: طال الثواء على رسوم المنزل بين اللكيك وبين ذات الحرمل والمقصود بقوله: (وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا)، أنهم كانوا من أفجر الأمم وأشدهم إعراضاً عن الحق، فلذلك عزي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إعراض قومه بأنه قد نال ذلك من الذين سبقوه على هذا الدرب، فقد لقوا الأذى والإعراض وصبروا عليه: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، وهذا هو الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بكل شيء تحب أن تحمد به على كل شيء تحب أن تحمد عليه، لك الحمد في الأولى والآخرة، لك الحمد كثيراً كما تنعم كثيراً.
لك الحمد أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من قدر، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، أخذت بالنواصي، ونسخت الآثار، وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والعمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرءوف الرحيم، نسألك بعزك الذي لا يرام، وبنورك الذي أشرقت له السماوات والأرض، أن تهدي قلوبنا، وأن تستر عيوبنا، وأن تكشف كروبنا، وأن تجعل التقى زادنا، وأن تحقق مرادنا، وأن تصلح أولادنا.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا.
اللهم استعملنا في طاعتك، واجعلنا هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين، اللهم هؤلاء عبادك وإماؤك قد اجتمعوا في بيت من بيوتك يرفعون إليك أيدي الضراعة، فلا تردهم خائبين، ولا تجعلهم عن رحمتك من المطرودين، وهب المسيئين منهم للمحسنين يا أرحم الراحمين! اللهم ما أنت قاسمه من خيري الدنيا والآخرة فاجعل لنا منه أوفر حظ ونصيب، اللهم لا تخرج أحداً من هذا المكان إلا وقد غفرت له، اللهم لا تخرج أحداً منا من هذا المكان إلا وقد غفرت له، اللهم إنك أعلم بنا منا فاقض ما في علمك من حوائجنا، اللهم إنك أعلم بنا منا فاقض ما في علمك من حوائجنا.
اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين! اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن، وجميع الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا أرحم الراحمين! اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، واجعل المال عوناً لنا على طاعتك يا أرحم الراحمين! اللهم استرنا بسترك الجميل، اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض.
اللهم إن الأمور مرجعها إليك فلا تفضحنا بين يديك، اللهم خذ بنواصينا إلى الخير أجمعين، اللهم ملك علينا أنفسنا بخير، ولا تسلطها علينا بشر.
اللهم آت أنفسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اجعل سرائرنا خيراً من علانيتنا، واجعل علانياتنا صالحة، اللهم استرنا بسترك الجميل.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يجاهدون لإعلاء كلمتك في كل مكان، اللهم سدد أقلامهم، وسدد سهامهم، واجمع على الحق قلوبهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم أنزل بأسك ورجزك وسخطك وعذابك على كفرة أهل الكتاب الذين يحاربون أولياءك، ويصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وأنزل بهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين، وأنزل بهم المثلات والقوارع يا قوي يا عزيز! اللهم أخرجهم من بلاد المسلمين صاغرين يا قوي يا متين، اللهم أخرجهم من بلاد المسلمين صاغرين يا قوي يا متين.
اللهم طهر المسجد الأقصى من رجز اليهود.
اللهم كن للمستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، وفك أسرى المسلمين يا أرحم الراحمين، اللهم فك أسر المأسورين من المسلمين يا أرحم الراحمين! اللهم عجل فرجهم يا قوي يا عزيز، اللهم انصر دينك وأظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
اللهم اخلف نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم في أمته بخير، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وتقام فيه حدودك يا أرحم الراحمين! اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بك، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(26/25)
حكم قيام الابن بتطهير أمه
السؤال
امرأة لا تستطيع القيام بشئونها لمرض، وليست لها بنت تقوم بذلك، فهل يجوز لابنها أن يقوم بشئونها من تطهيرها وغير ذلك؟
الجواب
تطهير بدنها إذا كان مما يتعلق بالعورة بأن يكون ملوثاً بالنجس، فالأصل أنه لا يحل ذلك للرجال، لكن إذا لم توجد امرأة تقوم به فستكون هذه المرأة كالمتوفاة، ومن المعلوم أن المتوفى يباح غسل عورته، لكن يجعل الإنسان على يده خرقة حتى لا يباشر العورة بيده ولا ينظر، بل يغسل من تحت الثوب.
فابنها هذا إذا لم يجد من يزيل عنها ذلك الضرر والقذر فليجعل على يده سترة، وليغسلها من تحت ثوب، ولا يكشف عن شيء من ذلك، فيجعلها بمثابة المتوفاة، ويكون هذا من باب الضرورات كما قال خليل رحمه الله، إنما ذلك من أحكام الضرورات التي تبيح المحظورات.(26/26)
حكم صرف الكفارة في نفقة الأبناء
السؤال
هل صرف الكفارة في نفقة الأبناء مجزئ أم لا؟
الجواب
إذا كان الإنسان فقيراً معدماً لا يملك شيئاً، وكان من أشد الناس حاجة وفقراً، فيمكن أن يخرج كفارته على أهل بيته، بدليل حديث سلمة بن صخر رضي الله عنه، فإنه (أتى النبي صلى الله عليه وسلم يضرب صدره وينتف شعره، فقال: يا رسول الله! هلكت وأهلكت، فقال: ولم؟ قال: واقعت أهلي في نهار رمضان، فأمره أن يعتق رقبة، فضرب صفحة عنقه وقال: والذي بعثك بالحق لا أملك غير هذه، فأمره أن يصوم شهرين متتابعين، فقال: وهل وقعت فيما وقعت فيه إلا من الصيام؟ فأمره أن يطعم ستين مسكيناً، فقال: والذي بعثك بالحق ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا، فأمره أن يجلس، فجلس فجيء بعرق من تمر -وهو وعاء يتسع لستين مداً- فقال: أنفق هذا على أهلك)، فحمله فأنفقه على أهله، وهذا من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفقه بأمته.
فلعل الراجح إن شاء الله تعالى: أنه إذا كان الإنسان بهذا المستوى من الفقر والحاجة فله أن ينفق ذلك على أهله.(26/27)
وقت إخراج زكاة الفطر
السؤال
هل إخراج صدقة الفطر قبل الفطر جائز؟ وهل المطلوب إخراجها قبل الصلاة؟ وهل تجزئ نقداً؟
الجواب
من السنة أن تخرج زكاة الفطر إلى المساجد في الليالي الثلاث الأخيرة من رمضان، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبسط البسوط في مؤخرة المسجد، فيأتي الناس بصدقات الفطر، وكان يكلف أبا هريرة برعايتها، فكان يحرسها، فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح يوم العيد، جاء إليها فقسمها، ثم إذا انتهت خرج إلى المصلى.
فإذاً: ينبغي للناس أن يخرجوها إلى المساجد، وأن يجمعوها فيها في الليالي الأخيرة من رمضان، ثم توزع بعد صلاة الصبح قبل صلاة العيد.
أما إخراجها بالقيمة أو بغير الطعام: فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فرضها صاعاً من طعام كما في حديث ابن عمر، فالراجح أنه لا يجوز أداؤها من غير طعام، إلا إذا كان الإنسان في مكان لا يجد فيه من يحتاج إلى ذلك الطعام، كالموجودين في بعض البلدان الأوروبية أو الأمريكية من المسلمين الذين هم في جالية غنية في جمهورها، ويحتاج الفقراء إلى نقل زكاة الفطر إليهم، فحينئذ يمكن أن تنقل، وكذلك الحال في بعض البلدان الغنية يمكن أن تنقل نقداً فيشترى بها الطعام للفقراء في أماكن وجودهم.(26/28)
حكم العمليات الاستشهادية
السؤال
ما حكم من نفذ عملية استشهادية فقتل فيها مجموعة من اليهود؟
الجواب
إذا كان ذلك في فلسطين فهو من الجهاد في سبيل الله، وقد أوجب الله سبحانه وتعالى الجهاد في سبيله، وأوجب إرهاب العدو وإرعابهم، فقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، ولا يمكن اليوم جهاد اليهود بأي سلاح ولا بأي وسيلة لأفراد المسلمين إلا عن طريق هذه العمليات.
وهذا الجهاد في أهم جهة اليوم وأعظمها، ولا يوجد غير هذه العمليات، وعلى الإنسان حينئذ أن يكون صادقاً مخلصاً، وألا ينوي بذلك إزهاق نفسه والخروج من هذه الحياة، بل ينوي بذلك جهاد العدو وإعلاء كلمة الله وإرهاب العدو بذلك، وأن يكون مخلصاً لله صادقاً، فإنما حرم الله قتل الإنسان نفسه إذا كان ذلك عدواناً وظلماً، وهي علة منصوصة؛ فقد قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:29 - 30].
وأما بالنسبة للبلاد الأخرى التي ليست مثل فلسطين، فلا ينبغي فيها الإقدام على مثل هذا ما دامت الوسائل الأخرى موجودة.
والشهادة إنما تكون بالنية، فإذا كان الإنسان صادقاً مخلصاً فهو شهيد عند الله سبحانه وتعالى، ونحن لا نستطيع الحكم بذلك، فإنما الشهيد من صدق، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل فقيل له: (الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في عدد من الأحاديث أنه قال: (والله أعلم بمن يقتل في سبيله).(26/29)
حكم العمل الخاص في وقت الوظيفة العامة
السؤال
هل يجوز لموظف في الوظيفة العامة أن يعمل عملاً آخر مع وظيفته؟ الجوب: الوظيفة إذا كانت مباحة في أصلها، وكان الإنسان مأذوناً له شرعاً في أن يعملها، ووقع عقداً على أن يستغل الوقت المقرر في تلك الوظيفة، وكانت الوظيفة تأخذ ذلك الوقت كله، فلا يجوز له أخذ شيء من ذلك الوقت لأموره الخاصة، وإذا استغله فما يأخذ في مقابله هو من السحت.
أما إذا كانت الوظيفة أصلاً لا يجوز العمل فيها فيجوز حينئذ الخروج منها، بل يطلب الخروج والتوبة منها، وكذلك إذا كانت الوظيفة لا تشغل الوقت كله كساعات التدريس، فإذا كان الإنسان موظفاً-مثلاً- لتدريس حصص محددة فدرسها، فالوقت الآخر الذي ليس فيه تدريس وليس فيه جدول لعمله يمكن أن يصرفه فيما كان من شئونه.(26/30)
حكم العمل في دكان لا يصلي أصحابه صلاة الجماعة
السؤال
هل يجوز العمل في دكان لا يصلي أصحابه مع الجماعة ويباع فيه بعض البضائع الأمريكية؟
الجواب
إن الإنسان إذا كان ينصح، ويؤدي الحق الذي عليه، وإذا سمع النداء إلى الصلاة أقبل عليها، ولم يكن يبيع شيئاً من المحرمات، فيجوز له العمل مع النصح لمن يعمل معه أن يكون كذلك، وأن تكون الصلاة أهم عنده من التجارة، كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11].
فلابد أن يتذكر الإنسان أن ما عند الله خير وأبقى، وأن يقدم الصلاة على التجارة، وكذلك لابد أن ينصح من يعمل معه حتى يترك بيع ما حرم الله بيعه.(26/31)
موضع اليدين في الصلاة
السؤال
جاء في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر حتى يصير كل عظم في موضعه، أليس هذا دليلاً واضحاً لمن قال بإسبال اليدين في الصلاة؟
الجواب
لا؛ فموضع اليدين في الصلاة هو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم وعرف من فعله، وهو وضع اليدين على الصدر، فهذا استقرار كل عضو في موضعه، فموضع العضو لا يقصد به موضعه في حال القيام، ولا موضعه في حال الاضطجاع أو الجلوس؛ فذلك مختلف، إنما يقصد به موضعه في الصلاة، فموضع اليدين في الصلاة في حال القيام هو الصدر، فالإنسان يضع يساره على صدره، ثم يضع يمينه فوقها أو يقبضها بها، فهذا موضع اليدين في الصلاة.
والسائل يسأل عن حديث أبي حميد الساعدي في وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أقر أبا حميد على ذلك عشرة ممن شهدوا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فقد بين أبو حميد هيئة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما موضع اليدين في الصلاة فهو الصدر، لما ثبت في أحاديث أخرى كثيرة تقارب ثمانية أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي في موضع اليدين في الصلاة.(26/32)
تحريك السبابة في الصلاة
السؤال
ما حكم تحريك السبابة في الصلاة؟
الجواب
ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بالمسبحة، و (يشير) فعل مضارع، والفعل المضارع يقتضي التجدد، والجملة الحالية تقتضي التجدد والحدوث، والفعل المضارع أيضاً يقتضي التكرار، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بسبابته، ومعنى الإشارة بها: التحريك، وأيضاً جاء في حديث زائدة بن قدامة أنه كان يحركها، بلفظ التحريك، وهي زيادة ثقة.(26/33)
وقت تستر المرأة
السؤال
هل تجوز مصافحة البنت التي بلغت الخامسة من عمرها إذا أمنت الفتنة؟
الجواب
نعم؛ لأن البنت إنما يطلب سترها إذا دخلت التاسعة من عمرها وهذا أرجح شيء، فإن عائشة رضي الله عنها حدثت عن نفسها: أنها كانت تلعب مع بنات من الأنصار على المراجيح، فجاء نسوة من الأنصار فأخذنها، فغسلن رأسها وهيأنها، فلم تكن حينئذ تلبس ما يسترها في وقت أخذها وهي في التاسعة من عمرها، وذلك حين دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.(26/34)
الإيمان قبل العلم وما يستحيل في حق الله تعالى
لله تعالى الأسماء الحسنى والصفات العلا، وقد قسم العلماء ما يتعلق بالله من الصفات إلى مستحيلة وواجبة وجائزة بحسب أقسام الحكم العقلي، وفي هذه المادة يشرح الشيخ هذا التقسيم، وما يترتب عليه من الكلام.(27/1)
أقسام الحكم العقلي وتعلق الصفات بها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فهنا يلزمنا أن نعرف أن الحكم العقلي ثلاثة أقسام هي: - الوجوب.
- والاستحالة.
- والجواز.
فالوجوب هو: أن يحكم العقل بثبوت شيء بحيث لا يقبل ارتفاعه.
والاستحالة هي: أن يحكم العقل بنفي شيء بحيث لا يقبل ثبوته.
والجواز هو: أن يحكم العقل بتساوي الأمرين بحيث يجوز نفي هذا وإثباته.
ومجال صفات الله سبحانه وتعالى أحكام العقل ثلاثة كذلك: النوع الأول من الصفات ما يوجبه العقل لله بها، وهذا فيه الصفات المذكورة، حيث يوجبها العقل السليم ودل عليها النقل الصحيح وأيضاً.
النوع الثاني: ما يستحيل عقلاً في حق الله تعالى، وهو أضداد هذه، وكل نقص أياً كان.
النوع الثالث: ما يجوزه العقل تجويزاً مطلقاً، فما دل النص عليه أخذ من النص، وما لم يدل عليه كان باقياً على الجواز المطلق، كالأفعال كلها، فكل الأفعال يجيزها العقل في حق الله تعالى، فإنه يجيز في حقه سبحانه وتعالى المجيء والنزول والاستواء والخلق والرزق والإماتة والإحياء، فهذه الأفعال جائزة في حق الله تعالى، فهو سبحانه يمكن أن يحيي هذا الشخص الآن ويمكن أن يميته، ويمكن أن ينزل المطر الآن ويمكن ألا ينزله، وهكذا، فهذا يجيزه العقل إجازة مستوية الطرفين.
فبدأ بالنوع الأول وهو ما يوجب العقل لله تعالى من الصفات فقال: (منها فرداً) أي: واحداً، وقد جاء التعبير عن ذلك بهذا اللفظ، وهو لنفي الكم المتصل بالذات، ولنفي الكم المنفصل في الذات كذلك، ولنفي هذه الصفات عما سواها.
فنفي الكم المتصل بالذات معناه: نفي التعدد في الذات الذي يقتضي نفي وجود الجوارح والحواس؛ لأن ذلك نقص في حقه، فيقتضي توحيده نفي ذلك، بخلاف الإنسان، فهو الذي يحتاج إلى هذه الجوارح، ويحتاج إلى ما يتممها من أكل وشرب وراحة ونوم وغير ذلك، والله سبحانه وتعالى هو الغني الحميد، ولا يحتاج إلى شيء من هذا.
وكذلك نفي الكم المنفصل في الذات، بمعنى: نفي أن يكون للكون آلهة متعددة، كما قال سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22].
وكذلك في مجال الصفات نفي الكم المنفصل فيها، معناه: أنه لا يتصف أحد بمثل صفاته، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فهذا معنى الوحدانية، والوحدانية من صفات السلب، أي: التي معناها نفي؛ لأن الوحدانية معناها عدم التعدد، ونفي التعدد عدم.
ثم الصفة الثانية بعدها هي قوله: (غنياً)، وهذه الصفة هي صفة الغنى المطلق.
ومعنى الإطلاق فيه: الغنى عن المحل، والغنى عن المخصص.
فالغنى عن المخصص معناه: أنه قديم لا يحتاج إلى من يحدثه، والغنى عن المحل معناه: أنه ذو ذات لا يحتاج إلى ما يتعلق به.(27/2)
أقسام الأشياء من جهة افتقارها عن المخصص والمحل
والأشياء أربعة أقسام: القسم الأول: ما هو غني عن المحل والمخصص، وهذا ذات الله.
القسم الثاني: ما هو مفتقر إلى المحل والمخصص، وهو صفات المخلوق، فاللون الأبيض في الثوب مفتقر إلى المخصص؛ لأنه حادث ليس قديماً، فيحتاج إلى من يخلقه، وهو المخصص، ومفتقر كذلك إلى محل يقوم به؛ لأننا لا يمكن أن نرى بياضاً ليس في شيء، بل لابد أن يقوم بشيء؛ لأنه صفة لا ذات.
القسم الثالث: ما هو غني عن المحل، لكنه مفتقر إلى المخصص، وهو ذات المخلوق، فذاتك أنت مفتقرة إلى المخصص؛ لأنك حادث لم تكن مثلما كنت، وأنت محتاج إلى من يخلقك، لكنك بعد الخلق لا تحتاج إلى ذات أخرى تركب فيها؛ لأنك ذات لست صفة لغيرك.
القسم الرابع: ما هو غني عن المخصص قائم بالمحل، ولا يقال: مفتقر إلى المحل، وهو صفات الله سبحانه وتعالى، فهي قديمة، ولا تحتاج إلى المخصص، لكنها صفة لابد أن تقوم بذات.
فإذاً: هذه أربعة أقسام ونظمها أحد العلماء بقوله: الأشياء أربع فما منها غني عن المحل والمخصص الغني وعكسه وهو صفات الخلق وقام بالمحل وصف الحق وما إلى المخصص احتاج فقط فهو بذات حادث قد ارتبط ومعنى المخصص: أي الذي يخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه، والممكن معناه: كل ما لم يكن، ويمكن وجوده في المستقبل، وهذا يمكن في حقه ست من اثنتي عشرة، وهي التي تسمى بالممكنات المتقابلات، وهي: الوجود والعدم، فهذا الإنسان يولد له ولد، هذا الولد يبيح العقل بأنه لم يولد بعد، ويجوز في حقه الوجود، ويجوز في حقه العدم، فهاتان الصفتان متقابلتان.
ثم إذا خرج إلى الوجود لابد أن يتصف أيضاً بالبياض أو السواد؛ لأن الصفات المتقابلة لابد أن يتصف ببعضها دون بعض، فإما أن يكون أبيض أو أسود.
ثم بعد ذلك في الأمكنة، فكل مكان يقابله مكان آخر، فإما أن يكون في الرياض أو في مكة مثلاً.
ثم بعد هذا الأزمنة هل يولد في الليل أو في النهار؟ وكذلك الجهات هل يولد في الشرق أو في الغرب من المكان الذي خصص به؟ ثم المقادير هل يكون كبيراً أو يكون صغيراً؟ فكل مقدار يقابل مقداراً آخر، فهذه اثنتا عشرة هي الممكنات المتقابلات، والمخصص يخصص الممكن بست منها، ولا يمكن أن يخصصه بأكثر من ست؛ لأن كل واحدة تقابل واحدة تضادها.
ولذلك يقول أحد العلماء: الممكنات المتقابلات وجود العدم والصفات أمكنة أزمنة جهات ثم المقادير روى الثقاة قال: [فرداً غنياً أولاً وآخراً] والتفرد والغنى أيضاً من الصفات السلبية.(27/3)
إثبات صفة الأولية والآخرية والصفات السلبية لله تعالى
كذلك قوله: (أولاً وآخراً) صفتان أيضاً هما المعبر عنهما بالقدم والبقاء، لكنه اختار التعبير الشرعي؛ لأن الله تعالى يقول: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد:3]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء).
وأولية الله سبحانه وتعالى ليس لها ابتداء، وآخريته كذلك ليس لها انتهاء، ولكن الأولية والآخرية كلتاهما صفة سلب؛ لأن الأولية معناها: نفي العدم السابق للوجود، بمعنى: أن وجوده لم يسبقه عدم.
والآخرية معناها: نفي العدم اللاحق للوجود، ومعناه: لا يمكن أن يأتي زمان وهو غير موجود فيه، ولا يمكن أن يعدم، فهاتان أيضاً صفتان من الصفات السلبية، وبهذا تتم الصفات السلبية، وهي خمس: وقد بدأ بالوجود أولاً.
ثم الوحدانية.
ثم الغنى.
ثم القدم.
ثم البقاء.
والوجود خارج عنها، لكن الصفة السلبية الخامسة هي مخالفته للحوادث، وهذه قد أشرنا إليها.
والمخالفة للحوادث معناها: أنه لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء، كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وهذه الخمس هي المذكورة في سورة الإخلاص: فقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] هذه الوحدانية.
وقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2] هذا الغنى.
وقوله: {لَمْ يَلِدْ} [الإخلاص:3] هذا البقاء؛ لأن الذي يحتاج إلى الولد هو الذي يفنى فيحتاج إلى ما يكون خلفاً له.
وقوله: {وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] هذا القدم.
وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، هذا نفي المماثلة والمشابهة وهي المخالفة للحوادث، فجاءت الصفات الخمس في هذه السورة.(27/4)
الصفات الواجبة لله تعالى (صفات المعاني)
ثم ذكر المعاني التي يسميها أهل علم الكلام بصفات المعاني، وهذه تنقسم إلى قسمين: صفات تأثير.
وصفات كمال.(27/5)
صفات التأثير
فصفات التأثير معناها: أنه لا يمكن أن يؤثر مؤثر في شيء إلا إذا كان متصفاً بها.
وصفات الكمال هي: التي تقتضي كمالاً وتماماً، فقال: [حياً عليماً ومريداً قادراً ومتكلماً سميعاً ذا بصر منزهاً عن الحدوث والغير] فقوله: (حياً) هذا الاتصاف بصفة الحياة: فالله سبحانه وتعالى هو الحي القيوم، وحياته تقتضي ألا تأخذه سنة ولا نوم، ولا موت ولا غفلة؛ فهي حياة ليست كحياة المخلوق؛ لأنها حياة يستحيل في حقه معها النوم والغفلة، والموت والجلاء.
ثم بعد هذا ذكر صفة أخرى وهي العلم: والله سبحانه وتعالى علمه سابق على جميع الأشياء بالإجمال والتفصيل، كما قال سبحانه: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12].
ولذلك قال ابن عباس: (ما من عموم إلا وتحته خصوص، إلا قول الله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:231])، فهو عليم بذاته وصفاته وخلقه.
ثم ذكر بعد هذا الصفة الرابعة وهي الإرادة: فإنه سبحانه يريد ما شاء، وهذه الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية، وإرادة شرعية، وقد سبق بيانهما، وسيأتي أيضاً التحدث عنهما.
ثم ذكر بعد هذا القدرة: فإن الله سبحانه كما قال عن نفسه: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284].
وهذه الصفات الأربع هي التي تسمى صفات التأثير، فبها يرتبط خلقه كله وتدبيره للكون كله، وذلك بحياته وعلمه وإرادته وقدرته، وكذلك بكلامه الراجع للإرادة والكلمات الكونية، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وقال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40].(27/6)
صفات الكمال
وقوله: (ومتكلماً سميعاً ذا بصر): هذه الصفات الثلاث هي التي تسمى بصفات الكمال عندهم، وهي اتصافه بصفة الكلام، وكذلك اتصافه بصفة السمع، وكذلك اتصافه بصفة البصر، وهي صفات كمال.
فالكلام: أنه يتكلم متى شاء بما شاء، فما شاء أن يتكلم به تكلم، وهذا يشمل القسمين: الكلمات الكونية والكلمات التشريعية.
وكذلك السمع: فهو عز وجل يسمع، كما قال: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، وقال: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]، وقال: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1].
وكذلك البصر: فهو ذو بصر، كما قال سبحانه: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، وقال: {السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1].
فهذه سبع صفات هي: الحياة، والعلم، والإرادة، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، وهي التي تسمى بالمعاني؛ لأنها تجمع كثيراً من الصفات الأخرى التي تدخل فيها.(27/7)
الصفات الجامعة
وهناك نوع آخر من الصفات هي: الصفات الجامعة للكبرياء والعظمة والجلال والرحمة ونحوها، فهذه تسمى الصفات الجامعة، ولذا قال: [وصفة جامعة فلتعلمه من ذاك فاعدد فضله وكرمه] فالفضل والكرم والجود ونحو ذلك؛ كل هذه من الصفات الجامعة.
فهذه يوجبها العقل إيجاباً، ويستحيل ضدها على الله سبحانه وتعالى عقلاً، بالإضافة إلى ما أوجبه النقل من الصفات الأخرى.
والصفات التي أوجبها النقل كثيرة جداً لا حصر لها، لكن الصفات التي أوجبها العقل في حق موجد هذا الكون هي هذه الصفات.(27/8)
ذكر الصفات المستحيلة على الله عز وجل(27/9)
استحالة أضداد الصفات الواجبة لله تعالى
ثم بدأ بذكر الصفات المستحيلة فقال: [منزه عن الحدوث والغير] قوله: (منزه)، أي: تنزيهاً عقلياً، بمعنى: أنه يقتضي العقل تنزهه وتقدسه عن هذه الصفات، ويستحيل في حقه الاتصاف بها، وهي أضداد المذكورات، فصفة الوجود ضدها العدم، والوحدانية ضدها التعدد، والغنى ضده الفقر، والقدم ضده الحدوث، والبقاء ضده الفناء، والمخالفة ضدها المماثلة، والحياة ضدها الموت، والعلم ضده الجهل، والإرادة ضدها الإكراه أو عدم حصول الإرادة، والقدرة ضدها العجز، والتكلم ضده البكم، والسمع ضده الصمم، والبصر ضده العمى، وهذه الصفات مستحيلة عليه سبحانه وتعالى، ولذلك قال: (منزهاً عن الحدوث والغير) والغير بمعنى: أن تعرض له الحوادث والآفات، فالله سبحانه وتعالى لا تعترضه الحوادث والآفات، ولا تحل به سبحانه وتعالى، فهو مدبر هذا الكون، وهو محدث هذه الأمور.(27/10)
تنزيه الله عز وجل عن حدوث الصفات
[وعن حدوث العلم والإرادة وصفة الكلام عند الذادة] كذلك هذه الصفات قديمة غير محدثة، وهذا الفرق بينها وبين صفات الأفعال، فصفات الأفعال يجوز العقل حدوثها، فيجوز العقل أن يحدث الله ما شاء من خلقه، وأن يفعل ما شاء في أي وقت، لكن هذه الصفات السابقة من المستحيل أن تكون قد تجددت له؛ لأنه هو قديم وهذه صفاته.
فحياته وقدمه وبقاؤه وإرادته وعلمه لم يكتسبها من خلقه، فلم يكتسب من خلقه أي صفة؛ فهو الخالق ولا خلق، وهو الرازق ولا رزق، وهو المحيي وهو المميت قبل وجود الكون كله، فهو المتصف بهذه الصفات حتى قبل أن تظهر تجلياتها في عجائب خلقه.
ولهذا قال: وعن حدوث العلم والإرادة ومعناه: يستحيل في حقه أن يكون جاهلاً بشيء ثم يحدث له العلم، وكذلك يستحيل في حقه تجدد الإرادة، وهذا رد على اليهود الذين يزعمون البداءة على الله، فإنهم يقولون: إنه بدا له بداء، أي: ظهر له أمر كان قد خفي عنه، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
ولا ينافي هذا تجاذب الإرادتين، فالإرداة كما ذكرنا أنواع، فيمكن أن تتجاذب، مثل قوله سبحانه في الحديث القدسي: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن؛ يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه)، فهذا داخل في القدر، والقدر يرد الله بعضه ببعض.
وقوله: (وصفة الكلام عند الذادة)، أي: كذلك يستحيل في حقه حدوث صفة الكلام، فهو المتكلم قبل أن يتكلم بالقرآن، وقبل أن يتكلم بالتوراة، وقبل أن يتكلم بالإنجيل، فهو المتصف بصفة الكلام يتكلم متى شاء بما شاء.
وقوله: (عند الذادة) أي: عند المدافعين عن الشرع من العلماء.(27/11)
تنزيه الله عز وجل عن الآفات والنقائص
ثم قال: [فهو متقدس عن الآفات والنقص في النفس وفي الصفات] قوله: (فهو متقدس عن الآفات)، كذلك من صفاته التقدس عن الآفات، فهو منزه عنها، ولا يمكن أن تحل به الحوادث والآفات.
والآفات مثل: الأمراض والشيخوخة والعجز والفقر ونحو ذلك، فهذه تستحيل في حقه بالكلية عقلاً بالإضافة إلى امتناعها نقلاً أيضاً.
وقوله: (والنقص في النفس وفي الصفات)، كذلك يستحيل في حقه النقص، فأي صفة فيها نقص أو عيب فهي مستحيلة في حقه، سواء كانت من صفات الذات أو من صفات الأفعال، لذلك قال: (والنقص في النفس وفي الصفات).
وعبر بالنفس عن الذات؛ لأن هذا التعبير هو الشرعي، كما سبق بيانه.
ثم قال: [لا بصفات المحدثين يوصف] فلا يحل أن يوصف بصفات المحدثين وإن كان بعض صفاته يشترك مع بعض صفات المحدثين في الأسماء، لكن لا يحل أن تكيف تلك الصفات على ما يشترك معها في الاسم من صفات المحدثين كاليد والوجه والعين ونحو ذلك، فهذه تشترك مع صفات المحدثين، ومع أجزائه في بعض الأحيان في الاسم فقط.
فمن الاشتراك بالأسماء مع صفات المحدثين: العلم والحياة والإرادة، ومن الاشتراك مع بعض أجزاء المحدثين في الاسم: العين والوجه واليدين، ونحو ذلك، فهذه نظيرها في المخلوق جزء، وهي صفة لله سبحانه وتعالى، فلا يمكن أن يفسر شيء من صفاته على نظير ما في المخلوق؛ لأنه مخالف له، كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، لذلك قال: (لا بصفات المحدثين يوصف).
أي: لا يجوز ذلك في حقه.
والمحدثون هم المخلوقون.(27/12)
تنزيه الله عز وجل عن التشبيه
[وليس جائزاً لدى من أنصفوا عليه ما عليهم جاز ولا.
] بالنسبة لما يتعلق بالجواز -وهو القسم الثالث من أقسام الصفات- فيجوز في حقه فعل كل الأفعال وتركها، إلا ما ينافي ما ذكر من الكمال فالفعل الذي ينافي الكمال يستحيل في حقه، كاتخاذ الصاحبة والولد ونحو ذلك، فهذا فعل ينافي الكمال، فهو مستحيل في حقه، لكن ما عداه من الأفعال من إحداث أي شيء وإعدامه فهذا جائز في حقه.
لكن لا يجوز في حقه ما جاز في حق المحدثين من الصفات، والذي يجوز في حق المحدثين هو مثل الموت والفناء والافتقار والتأثر بالرضا، وكذلك الانشغال، والسرور بمعنى الفرح بحادث وعارض، أو الحزن بمعنى الألم والانقباض النفسي بسبب شيء، فهذا لا يجوز في حقه أن يوصف به.
بل يوصف به المخلوق فهو الذي يسر بما أوتي ويفرح به، ويحزن لما يصيبه، والله سبحانه وتعالى لا تحل به الحوادث والآفات فلذلك لا يوصف بمثل صفات المحدثين.
وقوله: (وليس جائز لدى من أنصفوا)، أي: أن المنصفين -وهم المثبتة الذين يثبتون صفات الله سبحانه وتعالى- ليس جائزاً عليه عندهم ما عليهم جاز، أي: ما على المحدثين جاز من الصفات.
ثم قال: [عليه ما عليهم جاز ولا يشبهه من خلقه شيء علا] كذلك لا يشبهه شيء من خلقه، وكما أنه لا يشبهه شيء فهو لا يشبه شيئاً من خلقه.
وقوله: (علا) بمعنى: تعالى، وهذا ثناء على الله سبحانه وتعالى بعد ذكر صفاته، وهو المستحق للثناء.
يقول: [وكن عمن يشبهه منزهه] كذلك يجب تنزيهه عن المشابهة حتى مع إثبات الصفات، فنثبت له ما أثبته لنفسه مع تنزيهه عن الشبه، فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] تقييد لقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فأثبت سبحانه لنفسه السمع والبصر، لكن ذلك لا يشابهه سمع المحدثين ولا أبصارهم، فكل صفة أثبتت لله سبحانه وتعالى يجب أن تنزه عن أن تكون مشابهة لصفات المخلوقين، وإن اشتركت معها بالاسم لكنها لا تشابهها بوجه من الوجوه.(27/13)
تنزيه الله عز وجل أن يحويه مكان أو جهة
يقول: [وكن عما يشبهه منزهه أو أن يضمه مكان أو جهه] كذلك مما يجب تنزيهه عنه: أن يضمه مكان؛ فهو العلي الكبير، والله أكبر من كل شيء، فلا يمكن أن يحويه مكان، فهو الذي أحدث المكان، وهو الذي خلقه، والمكان كله محصور بالجهات الست.
والمكان أياً كان له ست جهات: الفوق والتحت، واليمين والشمال، والأمام والخلف، أي ست جهات لكل مكان فهو محصور بجهاته، والله سبحانه وتعالى لا يحويه مكان، وإثبات صفة العلو والفوقية له لا ينافي ذلك؛ لأن العلو والفوقية غير محدودين، وليس لذلك حدود، ولذلك قال: أو أن يضمه مكان أو جهة.
كذلك الجهة إذا قصد بها أنها تضمه وتحده فهي مستحيلة، والجهة من الألفاظ التي يستفصل فيها؛ فإن جاءت على الإطلاق كجهة العلو مثلاً جاز إطلاقها عليه، وإن كانت بمعنى الحد وتقييده فليس كذلك، ولا يجوز إطلاقها عليه بهذا المعنى.(27/14)
ذكر بعض الصفات الجائزة لله تعالى(27/15)
صفة الرؤية وذكر درجات رؤية المؤمنين لربهم عز وجل
ثم قال: [وأنه جل يرى في الآخرة] وكذلك من الصفات الجائزة في حقه عقلاً وقد أثبتها الشرع: أنه يُرى في الآخرة؛ وذلك أن أهل الإيمان يرونه سبحانه وتعالى.
ورؤيتهم له درجات: الرؤية الأولى: الرؤية بالموقف؛ فإن أهل الإيمان يرونه، فيتجلى لهم في صورة، ثم يتجلى لهم في أخرى.
الرؤية الثانية: رؤيتهم له عندما يسلم عليهم وقت دخولهم الجنة، كما في الحديث: (بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور من فوقهم، يقول: سلام قولاً من رب رحيم).
الرؤية الثالثة: هي أنه يستزير أهل الجنة، فيأمرهم بزيارته تشريفاً وتكريماً لهم، ولا يراه إلا أهل الإيمان؛ لأن هذا غاية التشريف والإكرام، ومن رآه حصل له من التشريف ما لا يحصل له بأي شيء آخر، ولهذا لا ينظر أهل الجنة إلى شيء من نعيمهم ما داموا ينظرون إلى ديان السماوات والأرض سبحانه وتعالى.
ولهذا فإن أهل الإيمان هم الذين يرون ربهم، وإن كانت رؤيتهم متفاوتة بتفاوت درجاتهم في الإيمان، وعلى هذا يتفاوتون تفاوتاً بالغاً في مستوى الرؤية، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر أو هذا البدر لا تضامون في رؤيته، أو: لا تُضامون في رؤيته).
وقوله: (لا تضامون في رؤيته)، أي: لا يحول بعضهم دون بعض، ولا يؤثر عليه في الرؤية.
وقوله: (ولا تُضامون في رؤيته) معناه: لا يحال بينكم وبينه، فمن حيل بينه وبين رؤيته وحجب عنه فقد ضيم وأذل غاية المذلة، نسأل الله السلامة والعافية، قال عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين:15 - 16].
فالذين يحجبون عن رؤيته سبحانه وتعالى هم أهل المذلة الدائمة، وأهل الإيمان لا يضامون في رؤيته، ولذلك قال: [وأنه جل يُرى في الآخرة فاقرأ إذا شئت وجوه ناظرة] ومن أدلة هذا قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] * {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23].
وقد سبق الكلام في الرؤية، وذكرنا ما فيها من المسائل الاتفاقية والمسائل الخلافية، ومن المسائل الاتفاقية: أنه سبحانه وتعالى يُرى في الآخرة، وذكرنا أنواع الرؤية الثلاثة: الرؤية في الموقف، والرؤية عند دخول الجنة، والاستزارة.
وكذلك ذكرنا المسائل الخلافية في الرؤية: هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج؟ وهل يُرى الله سبحانه وتعالى في النوم؟ وهل يجيز العقل رؤيته في الدنيا؟ هذه ثلاثة أمور، وهي التي نظمها السيوطي رحمه الله في قوله: والخلف في الجواز في الدنيا وفي نوم وفي الوقوع للهادي اقتفى فهذه ثلاثة أمور وقع الخلف في جوازها في الدنيا: جواز العقل، ورؤيته في النوم، وفي الوقوع للهادي صلى الله عليه وسلم، وقد سبق بيانها، وسبق الترجيح فيها.
وقد ألف الدارقطني رحمه الله كتاباً مختصاً في الرؤية، جمع فيه أحاديثها وآثارها؛ لأن المعتزلة أنكروها، وهي من أوائل الصفات التي اشتهر إنكارها بينهم.
وهي من الصفات الجائزة عقلاً؛ لأنه سبحانه وتعالى موجود، وكل موجود يصح أن يُرى، وإلى هذا أشار بقوله: [الله موجود وما به امترا وكل موجود يصح أن يُرى](27/16)
صفة الكلام
ثم قال: وأن ذا القرآن قوله علا لا خلقه والحرف والصوت خلا] يقول: مما يوجب الإيمان به أن هذا القرآن كلامه سبحانه وتعالى، وقوله (علا) أي: تعالى، وقوله: (لا خلقه)، أي: أن القرآن غير مخلوق، وقد سبق دليل ذلك، وبيان الخلاف فيه وتفصيله.
وقوله: (والحرف والصوت خلا) كذلك الحرف والصوت قد سبق الكلام فيهما، والتفريق بين تكلم الله وتكلم خلقه، قد سبق بيان ذلك في نظم العقائد.(27/17)
وجوب الإيمان بالقضاء والقدر(27/18)
تقدير الله لكل حركة وسكنة تقع من الخلق
ثم قال: [ما فيهما وكل لحظة نظر أو فلتة من خاطر فيقدر ينظمها حكم القضا في سلكه في ملكوت ربنا أو ملكه] هنا ذكر بعض المسائل التفصيلية المتعلقة بالقدر، وقد سبق تلخيص جل مسائل القدر تقريباً فيما سبق، فقال: (وكل لحظة نظر) أي: كل نظرة ينظر بها ناظر أياً كان من البشر وممن سواهم.
وقوله: (أو فلتة من خاطر)، كذلك كل تذكر من خاطر فهو بقدر الله، سبق في علمه وفي كتابته، وهو عنده في أم الكتاب لا يفوته شيء من ذلك، ولا يقع شيء من ذلك إلا بقدره، وإذا كان هذا في مجرد لفتة الخاطر أو مجرد خطرة البصر فما سوى ذلك من الأفعال كذلك، فكله بقضاء الله وقدره.
وقوله: (وكل لحظة نظر) اللحظة هي النظرة السريعة الخاطفة، يقال: لحظه يلحظه، أي نظر إليه عن بعد.
وقوله: (أو فلتة من خاطر) الفلتة هي مجرد فكرة سنحت في الخاطر.
قوله: (فبالقدر) أي: كل ذلك بقدر الله.
وقوله: (ينظمها حكم القضاء في سلكه)، أي: يجمعها جميعاً حكم القضاء في سلكه، فهي موجودة في الكتاب الذي عند الله تعالى في أم الكتاب، وفي علمه السابق على خلقه، ولم تحصل إلا بإرادته وقدرته وأمره.
وقوله: (في ملكوت ربنا أو ملكه) سواء كان ذلك في عالم الملكوت أو في عالم الملك، فعالم الملكوت: الخفايا التي لا نطلع عليها، وعالم الملك: ما نراه من هذه الظواهر.
ثم قال: [فكل ما يكون من عباده فليس بالخارج عن مراده] كل ما يحصل من عباده من الأفعال يمكن أن يخرج عن مراده، وهذا رد على الجبرية والقدرية معاً، وقد سبق الكلام في هذا، فكل ما يكون من عباده -أي: من خلقه- فليس بالخارج عن مراده، بل لابد أن يكون موافقاً لما أراد.(27/19)
أنواع القدر خيراً وشراً
ثم بين أنواع القدر فقال: [نفع وضر وكذا خير وشر كفر وإيمان فكل بقدر] قد ذكرنا أن أنواع القدر أربعة؛ لأن القدر إما أن يكون خيراً، وإما أن يكون شراً، وإما أن يكون حلواً، وإما أن يكون مراً، فهي أربعة أقسام سبق الكلام في ذكرها أيضاً.
وقوله: (نفع وضر) أي: كلاهما بقدر الله، ووفق علمه، ووفق ما كتب.
قوله: (وكذا خير وشر) أي: كل ذلك وفق علم الله وبقدره.
وقوله: (كفر وإيمان) أي: كل ذلك بقدر الله وفق علمه، ولا يؤمن أحد إلا به، لذلك قال: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس:100]، فكل بقدر.(27/20)
أنواع الإرادة وتعلق أفعال العبد بها
ثم قال: [وإنما يعني ذوو التصنيف إرادة التكوين لا التكليف] هنا إذا تكلمنا عن الإرادة فنقول: كل ذلك بإرادة الله، والإرادة هنا المقصود بها الإرادة الكونية، وهي المرادفة للمشيئة، لا الإرادة التشريعية؛ لأن الإرادة التشريعية هي الأحكام التي شرعها الله لعباده، وهذه لا يكون فيها الأمر بما يخالف شرعه، بل هي بما شرعه وبما أحب، فالإرادة التشريعية موافقة للمحبة، والإرادة الكونية موافقة للأمر الكوني.
ولذلك فإن أفعال العباد تنقسم إلى أربعة أقسام أيضاً: الأول: ما تعلقت به الإرادتان معاً، كالعمل الصالح من الصالحين.
الثاني: ما لم تتعلق به واحدة من الإرادتين، كالعمل السيئ من المعصومين.
الثالث: ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط، كالعمل السيئ من السيئين.
الرابع: ما تعلقت به الإرادة الشرعية فقط، كالعمل الصالح من السيئين.
فهذه أربعة أقسام، وقد سبق بيانها وتفصيلها، فلذلك قال: (وإنما يعني ذوو التصنيف) أي: المصنفون المؤلفون، (إرادة التكوين لا التكليف).
أي: إنما يقصدون هنا في هذا الباب إرادة التكوين لا التكليف، وهي الإرادة التكوينية لا التشريعية.
ثم قال: [أي كلماته اللواتي لم يكن فاجر او بر مجاوزاً لهن] إنما يقصدون بذلك كلماته الكونية، لا كلماته التشريعية، فإرادته التشريعية متمثلة في كلماته التشريعية، وإرادته الكونية متمثلة في كلماته الكونية، وكلماته الكونية لا يتعداها بر ولا فاجر، وقد سبق شرحها، وكلماته التشريعية محصورة؛ لأنه لا يتنزل شيء بعد القرآن.(27/21)
الكلام على مسألة وجوب الأصلح على الله عند المعتزلة
ثم قال: [وليس واجباً عليه لأحد من خلقه شيء فما عليه يد] كذلك من مسائل القدر التي لم تسبق لنا مسألة مهمة؛ لأنها رد على المعتزلة والجهمية، وهي: أنه سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء، وقد زعم المعتزلة أنه يجب عليه الصلاح والأصلح في خلقه.
وهذه هي القضية التي رد فيها أبو الحسن الأشعري على أبي علي الجبائي، فسأله فقال: أرأيت الكبير الذي وفقه الله للهداية والعمل الصالح ومات على السعادة، هل فعل الله به الصلاح والأصلح؟ قال: نعم.
قال: فالصغير الذي أماته الله قبل البلوغ، هل فعل الله به الصلاح والأصلح؟ قال: نعم؛ لأنه علم أنه لو بلغ لفجر.
قال: إذاً: فسيقول الكبير الذي لم يوفق للطاعات ولا الإيمان: يا رب! لم تبلغ بي درجة الكبير الذي وفقته للطاعة، وقصرت بي دون الصغير الذي أمته قبل البلوغ؟ فلم يستطع جواب هذه، فقال: أبك جنون؟ قال: لا، ولكن وقف حمار شيخي في العقبة! فلا يجب على الله شيء، وهذا من عقيدة أهل السنة والجماعة، ومن ضروريات الإيمان بالقدر: أن الله لا يجب عليه شيء، فهو يفعل ما يشاء، ويخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، قال سبحانه: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51]، وقال: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] كل هذا يقتضي تنزيهه عن أن يجب عليه شيء، لكنه يكتب على نفسه ما شاء؛ كقوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، فهذا يكتبه على نفسه ويلتزمه لخلقه سبحانه وتعالى تفضلاً وعدلاً.
والإيجاب إنما يتم في حق من تستطيع أن تكرهه على شيء، والله تعالى لا يمكن أن يبلغ عباده ضره ولا نفعه، ولذلك قال: (فما عليه يد)، أي: لا يمكن أن يصله نفع ولا ضر من خلقه.
ثم قال: [بل إن يثب فذاك منه فضل وإن يعاقب فهو منه عدل] إذا أثاب بالحسنى فذلك من فضله ورحمته، وإذا عاقب فذلك بعدله، وقد نفى الله سبحانه الظلم عن نفسه، فقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وقال في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
وهذه المسألة حصل فيها الغلط لدى بعض الناس؛ فزعموا أن معنى نفي الظلم عنه أنه لا يمكن أن يقع منه عقلاً أصلاً، وأن معنى الظلم عندهم: مجازاة المحسن بالإساءة، ومجازاة المسيء بالإحسان، وهذا يبيحه العقل، فأخطئوا في هذه المسألة.
والفريق الآخر قالوا: بل كل ما فعله فهو عدل، ولو كان ظلماً في حق غيره؛ لأنه من تصرف المالك بملكه، فيمكن أن يعاقب المحسن، ويثيب المسيء، وهذا أيضاً غلط؛ لأنه سبحانه حرم الظلم على نفسه.
والصواب في مثل هذا: أن الظلم الذي حرمه الله عز وجل على نفسه هو بالتعدي بمجازاة المحسن بالإساءة، ومجازاة المسيء بالإحسان، وهذا لا يمكن أن يقع؛ لأنه قال: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، لكن لا يجب عليه مع ذلك أن يدخل أحداً الجنة، ولا يجب عليه شيء لأحد، بل الأعمال الصالحة التي يدخل بها العبد الجنة هي بفضله وتوفيقه، ويمكن أن يتقبلها، ويمكن أن يردها؛ بحسب ما يعلم من السرائر؛ فهو مطلع عليها لا يمكن أن يخفى عليه منها شيء.
فمن عاقبه الله عز وجل فإنه يستحق تلك العقوبة قطعاً، ومن أثابه فذلك فضل من الله تعالى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)؛ لأن هذه الأعمال تقابل النعم التي لا حصر لها، فالعبادات تقابل النعم، ومن هنا لا يمكن أن يستحق بها الإنسان الجنة، وإنما هي سبب لدخول الجنة، لكنها ليست ثمناً للجنة، فالباء في قوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] باء السببية لا البدلية.(27/22)
وجوب الإيمان بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به
وأن أحمد رسوله إلى الـ خلق أمينه على ما قد نزل من وحيه أي: مما يجب الإيمان به والتصديق: أن أحمد رسول الله إلى الخلق، وأحمد هو اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أفعل تفضيل من الحمد، وهو أحمد الخلق لله، وهذا الاسم هو اسمه في الإنجيل في بشارة عيسى به، كما قال عز وجل حاكياً عن عيسى عليه السلام: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6].
وقوله: (رسوله): هذه شهادة أن محمداً رسول الله.
وقوله: (إلى الخلق): معناه إلى الثقلين الإنس والجن، وهذا عموم رسالته، وهو من خصائصه صلى الله عليه وسلم بخلاف من سبقه من الرسل؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (كان الرسول يرسل إلى قومه خاصة وبعثت إلى الأحمر والأسود)، وفي رواية: (وبعثت إلى الناس كافة).
وقد دل الدليل كذلك على بعثه إلى الجن بآية الأحقاف، وسورة الجن، وغير ذلك.
وقوله: (أمينه على ما قد نزل من وحيه)، أي: قد اختاره الله تعالى فائتمنه على وحيه، وهذا أعلى درجات التفضل على العبد، فأعلى درجات التفضل على العبد أن يختاره الله أميناً على وحيه؛ فالرسالة هي أعظم مراتب التفضل والنعم، فنعمة الإيمان نعمة عظيمة، لكن فوقها نعمة الولاية لله تعالى، ثم نعمة الرسالة والنبوة هي أعظم النعم.
وقوله: (أمينه على ما قد نزل من وحيه)، أي: الذي أوحي إليه هو من القرآن، وهو أيضاً مصدق لما بين يديه، ومهيمن على جميع ما قد نزل من وحيه.
[من وحيه فكل ما عنه نطق من أمر دنيانا وأخرانا فحق] كل ما نطق به النبي صلى الله عليه وسلم سواء تعلق بأمر الدين أو بأمر الدنيا، فهو حق.
وقوله: (من أمر دنيانا): مثلما يقع من الفتن والحوادث وأشراط الساعة.
وقوله: (وأخرانا): مثل المحشر وما بعده.
وقوله: (فحق): يجب الإيمان به.
ثم مثل له فقال: [كالحشر والنشر وكالعذاب في القبر والتمييز للمرتاب] النشر هو: البعث بعد الموت.
وقوله: (وكالعذاب في القبر) هذا قد سبق شرحه في الدروس الماضية.
وقوله: (والتمييز للمرتاب) هذا يتعلق بالسؤال من نكير ومنكر، وهذه فتنة القبر، والسؤال من نكير ومنكر هو سؤال الملائكة.
وقوله: (والتمييز للمرتاب) أي: من الموقن، كما في الحديث: (قد علمنا إن كنت لموقناً).
(والوزن): كذلك وزن الأعمال، وقد سبق ذكر الموازين القسط.
والمسير على الصراط: كذلك المرور على الصراط والمسير عليه.
ومصير السالك جنة أو ناراً: كذلك مما يجب الإيمان به مما أخبر به الجنة والنار، وأنهما مصير السالك طريق الصراط، إذ لابد أن يكون مصيره إما إلى جنة وإما إلى نار.
وهكذا يجب الإيمان بغير ذلك مما أخبر به من أشراط الساعة ومشاهد القيامة، فكل هذا مما يجب الإيمان به، وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به من ذلك.
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم اجعل حبك أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا ومن الماء البارد.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا.
اللهم استعملنا في طاعتك، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
اللهم أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، ونسخت الآثار، وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، والحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرءوف الرحيم، نسألك بعزك الذي لا يُرام، وبنورك الذي أشرقت له السماوات والأرض، وبكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك؛ أن تقيلنا من العثرات، وأن تجيرنا من النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(27/23)
المسابقة إلى الخيرات
جعل الله هذه الدار دار ابتلاء وامتحان، وجعل الآخرة دار جزاء وثواب، وأمرنا في هذه الدار بالمبادرة إلى الطاعات والمسابقة إلى الخيرات، وأن نستغل أعمارنا بما يرضي الله سبحانه وتعالى حتى نثقل موازيننا بالأعمال الصالحة، وحذرنا سبحانه وتعالى من الشيطان ومشاغله ومكائده، فهو عدو لدود للمؤمنين، وأمرنا باتخاذه عدواً.(28/1)
ضرورة المبادرة إلى الطاعات واغتنام الأوقات
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الوقت هو الحياة، وإن عمر الإنسان قصير، وإن هذه الحياة هي دار الامتحان، فعلى الإنسان أن يبادر فيها للطاعات ما دامت الفرصة مواتية وسانحة، فإن هذه الدنيا دار انتقال، وبقاء الحال من المحال، ولذلك سرعان ما ينتقل عنها الإنسان ولم يشف منها غله، بل إن الذين انتقلوا من هذه الدار يتمنون الرجوع إليها ولو لحظة واحدة، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:9 - 11].
وقد أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالمبادرة إلى الطاعات والمسارعة فيها، فقال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، وقال تعالى: {سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:133 - 135]، وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد:21].
إن هذه الدنيا مجال للمسابقة، والناس فيها كل يوم في مسابقة جديدة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)، فيغدو الإنسان في صباحه بعمر جديد؛ لأنه عند نومه طويت صحائف أمسه، وختم عليها، ولا تنشر إلا عندما توضع الموازين بالقسط ليوم القيامة، في كل يوم ينادي المنادي: يا ابن آدم! أنا يوم جديد، عليك فيه لله خطاب أكيد، فلا تضيع الفرصة ثم إذا غربت شمس ذلك اليوم ذكر الموت الإنسان مرة أخرى بالليل: (فالله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها).
ولهذا فإن عمل الشيطان يتركز في هذه الحياة الدنيا على شغل الإنسان عن المبادرة إلى الطاعة، فيحاول معه تطويل الأمل، وهو الداء الأول للبشر، يقول له: إن أمامك عمراً طويلاً.
كما يقول للنائم عندما يعقد ثلاث عقد على قفاه: إن عليك ليلاً طويلاً فنم.
يضرب بذلك في كل عقدة، فكذلك يقول للإنسان: إن أمامك عمراً طويلاً، فما لم تفعله في هذا اليوم ستفعله غداً، وما لم تفعله في هذا الشهر ستفعله في الشهر القادم وما لم تفعله في الشهر القادم.
ستفعله في السنة القادمة، وهكذا فيطول الأمل، وقبل أن ينتبه يأتي الأجل، فالأمل أتى به الله سبحانه وتعالى ليعمل الناس في الدنيا، لا ليطيلوا الأمل فيغتروا به، وقد ورد في حديثٍ فيه ضعف (إن الله عز وجل لما أخرج ذرية آدم من ظهره رآهم فأعجبته كثرتهم، فقال: أي رب! كيف يعيش هؤلاء في هذه الأرض؟ فقال: إني خالق موتاً.
فقال: إذاً لا ينعم لهم بال عليها.
قال: إني خالقٌ أملاً).
فبالموت ينتقصون حتى تحملهم الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً، وبالأمل تهدأ قلوبهم في هذه الدنيا، ويطمئنون إليها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه: (أنه خط خطاً مربعاً، وخط في داخله خطاً، ثم أخرج منه خطاً طويلاً، ثم خط خطوطاً صغيرة في الأطراف، فوضع إصبعه على الخط الذي في داخل المربع فقال: هذا الإنسان، ثم وضع إصبعه على المربع فقال: وهذا أجله.
ثم وضع إصبعه على الخط الخامس فقال: وهذا أمله، ثم وضع إصبعه على الخطوط الصغيرة فقال: وهذه الأعراض إن أخطأه هذا أصابه هذا)، فما يعرض للإنسان من الأمراض والآفات هي مقدرة عند الله سبحانه وتعالى، فإن أخطأه هذا أصابه الذي يليه، وهكذا.(28/2)
حقيقة الأعمار التي تمر بالإنسان وكيفية استغلاله لها(28/3)
العمر الأول: عمر الدنيا نفسها
ومن هنا فإن للإنسان في هذه الدار ثلاثة أعمار: فهي دار عمل ولا جزاء، والناس بخروجهم منها سيندمون جميعاً، فالمحسن يندم على أن لا يكون زاد، والمسيء يندم على إساءته، وفي ذلك فما من إنسان إلا وهو يتمنى الرجوع إليها، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه في الصحيحين أنه قال: (ولوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل)، وكذلك فإن الشهداء يتمنون الرجوع إلى الدنيا ليقاتلوا فيقتلوا مرة أخرى في سبيل الله، وكذلك كل من أحسن في عمله يتمنى أن يرجع إلى الدنيا حتى يزيد من الطاعات؛ لما يراه من تفاوت أحوال أهل الآخرة، فأحوال أهل الدنيا متقاربة، وأحوال أهل الآخرة متباعدة، فأهل الجنة يتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء، وهذه الكواكب التي نراها يصل إلينا نورها وضوؤها وهو من ملايين السنين يتجه إلينا، فلا تظن أن الضوء الذي نراه هو ابن وقته، بل هو من ملايين السنين يتجه إلينا، فهذا الفرق الشاسع بين أحوال أهل الآخرة، وهذا في حق أهل الجنة فكيف بمن سواهم؟! أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حجراً صلباً ألقي في جهنم فمكث سبعين خريفاً يهوي حتى وصل إلى قعرها، فلذلك على الإنسان أن يعلم أن هذا العمر الأول الذي هو عمر هذه الدنيا منقضٍ لا محالة، وأن نهايته حتمية، فهذه الدنيا غير باقية، ولذلك فإن اسمها إما أن يكون مشتقاً من الدنو أو أن يكون مشتقاً من الدناءة، فالدنيا إما أن تكون من الدنوِ لقربها من الآخرة، أو أن تكون من الدناءة لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فلو كانت تساوي عنده جناح بعوضة، ما سقى منها كافراً شربة ماء، وهذه الدنيا نهايتها لا تأتي إلا بغتة، فإنما نهايتها بأن يأذن الله للملك بأن ينفخ في الصور، فينفخ فيه نفخة الفزع فيصعق الناس جميعاً لها، ويمكثون أربعين سنة، ثم ينفخ النفخة الأخرى فإذا هم قيام ينظرون، وتنبت أجسامهم من جديد، فيخرجون يلبون نداء الله عندما ينادي: هلموا إلى ربكم.
فيخرجون حفاة، عراة، غرلاً {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]، كما ولدتهم أمهاتهم يبعثون، فيحشرون إلى الساهرة يجتمعون فيها جميعاً مثلما يجتمعون في المقابر، فالذي مات اليوم ودفن في المقبرة تساوت المعلومات التي لدينا عنه مع المعلومات التي لدينا عمن دفن قبل ألف سنة، فإن من ورائهم ذلك البرزخ الذي لا يمكن أن يخترق {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:100 - 104].
فمن علم هذا الحال علم أن هذه الدنيا ينبغي أن تنتهز، وقد صح في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت، ولنعم صاحب المسلم هي إن أطعم منها الفقير، والمسكين وابن السبيل).
إنك تشاهد التقلب في هذه الدنيا، وهو مؤذنٌ بالزوال، فتشاهد الفقير ينتقل إلى غني، وتشاهد الغني ينتقل إلى فقير، وتشاهد الصغير ينتقل إلى كبير، وتشاهد الضعيف يصبح قوياً والقوي يصبح ضعيفاً، وكل هذا مؤذنٌ بانتقال هذه الدنيا كلها، فالتغير دليل الفناء، وما كان كذلك فعلينا فيه أن ننتهزه.
لاحظ أن العامل الحريص الذي وقته ضيق، فإنه إذا رأى الشمس تدنو للغروب وقد تضيفت له فإنه لا يفسد شيئاً من وقته، بل يكابد العمل غاية المكابدة ليتمه قبل أن تغرب الشمس.
فالآن لم يبق من هذه الدنيا التي هي دار العمل إلا مثلما يبقى من النهار عندما تتضيف الشمس للغروب، فنحن آخر الأمم، ونحن أيضاً في آخر هذه الأمة، ثم إن الذي ينتقل من هذه الدار سيرى الذين سبقوه في الأعمال، سيرى كل إنسان يستظل بظل صدقته يوم القيامة بين مستكثر أو مستقل، ويرى أولئك الذين ترجح كفة حسناتهم رجحاناً بيناً عظيماً فيفرحون عند لقاء الله فرحاً عجيباً، ويرى آخرين دون ذلك، حتى يرى ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: (من أن رجلاً أتى به، فلما عرض على الله عز وجل قال: هل لك من عمل صالح؟ قال: لا يا رب.
فأمر الله ملائكته فجاؤوا بصحائفه، فإذا سجلات قدر مد البصر تبلغ الأفق من السيئات، وإذا بطاقة قدر الظفر كتب فيها: (لا إله إلا الله)، فقال الرجل: يارب! ما تغني هذه البطاقة عن هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم شيئاً.
فوضعت السجلات في كفة السيئات، ووضعت البطاقة في كفة الحسنات، فرجحت (لا إله إلا الله) وطاشت السجلات)، وقد ذكر أحد الشعراء وصية النبي صلى الله عليه وسلم وتعليمه للناس فنظم ما قال فقال: أجِدك لم تسمع وصاة محمدٍ رسول الإله حين أوصى وأشهدا إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله فترصد للموت الذي كان أرصدا إن التقلبات التي نشاهدها في هذه الحياة تقتضي منا المبادرة، فما من إنسان منا إلا وقد كان يجد فراغاً وصحةً، وقد عدم ذلك إلى غير رجعة، وقد علم أنه لن يعود إلى قوته التي فقدها، ولن يعود إلى شبابه الذي فقده، ولن يعود إلى الفراغ الذي كان فيه، يعلم أن تلك النعمة قد ذهبت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، فالصحة نعمة عظيمة لا يقدرها إلا من ابتلي بالمرض، عندما تؤلمه عينه أو أذنه أو ضرسه أو أي عضو منه فيبيت يتقلب لا يستطيع النوم، يتذكر حال الصحة وما كان عليه من قبل، فيتذكر أنها النعمة العظيمة، وكذلك إذا رأى بلاء الآخرين، فرأى من فقد البصر، أو من فقد السمع، أو من فقد الحركة، أو من فقد العقل، نسأل الله السلامة والعافية.
وشرٌ من ذلك البلاء في الدين، فمن فقد دينه بالكلية فهو أعظم الناس بلاءً، ثم من فقد جزءاً من أجزاء دينه كذلك فهو أعظم بلاء من الذي فقد بعض بدنه.(28/4)
العمر الثاني: عمر الإنسان الشخصي
هذا العمر الذي بدأ بالنفخ فيه وهو جنين في بطن أمه، وينتهي بنزع الروح منه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد إذا كان في منقطع من الدنيا وإقبال من الآخرة أتاه ملك الموت، فجلس عند رأسه، فإن كانت نفسه طيبة قال لها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]، فتخرج نفسه كما تسل القطرة من في السقاء، فلا تمكث في يد ملك الموت طرفة، بل يتناولها ملائكةٌ كأن وجوههم الشموس قد جلسوا مد البصر وهم باسطو أيديهم، فيجعلونها في كفن من أكفان الجنة، ويطيبونها من طيب الجنة، ويرتفعون بها إلى السماء، فيستأذنون فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة، فيؤذن لها حتى تخر ساجدةً تحت العرش، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت لسؤال الملكين.
وإن كانت النفس الخبيثة قال لها ملك الموت: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعقوبة.
فتتفرق في البدن فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول -والسفود: مسمار فيه عوجٌ والتواء-، فينتزعها بشدة وقوة فلا تمكث في يده طرفة عين، بل يتناولها أولئك الملائكة الذين قال الله تعالى في حقهم: {والملائكة بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} [الأنعام:93] فيأخذون تلك النفس الخبيثة، فيجعلونها في سفط من أسفاط النار، ويغطونها من قطران النار، ويرتفعون بها فيستأذنون، فلا يؤذن لها، وقرأ صلى الله عليه وسلم: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]، فترد النفس من حيث أتت خائبةً خاسرة.
ومن علم أن نهايته هكذا وهو لا يدري إلى أي الحالين ٍيصير، وعلم كذلك أن انتقاله بعد الموت إلى القبر، وبه تقوم قيامته، فإذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته، يبدو له من الله ما لم يكن يحتسب، {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، ولهذا قال الله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22].
يتصور الإنسان المقابر عندما يقف عليها أمراً سهلاً، وأنها كما نرى ظاهرها، ولكن هناك فرق بين ظاهرها وباطنها، بل هناك أمر لا يمكن أن نتصوره، فالقبر أول منازل الآخرة، واعلم أنه أول شيء من الآخرة العظيمة التي وصفها الله بما نعلم من الأوصاف، فهي القارعة، وهي الصاخة، وهي الطامة، وهي الآزفة، إن أول منازلها لا بد أن يكون مفظعاً مروعاً، ولذلك فأول ما يلقاه الإنسان بعد تلك الضجعة ضمة القبر، التي تختلف منها الأضلاع، وتزول منها الحمائل، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في جنازة، فلما وضع الميت في لحده نظر إلى أصحابه، فقال: (أعدوا لمثل هذه الضجعة).
كذلك بعد هذا مجيء منكر ونكير اللذين يأتيان في أبشع صورة، يأتيان المرء فيقولان له بكل عنفٍ: (من ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيوفقه الله ويثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل الذي بعث إلينا هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد، هو محمد، هو محمد -ثلاثاً- جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه.
فيقولان له: صدقت وبررت، نم نومة عروس ويملآن عليه قبره خضراً ونوراً، وأما المنافق أو المرتاب فيقول: هاه هاه.
لا أدري! سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقولان له: لا دريت ولا تليت.
ويملآن عليه قبره بالثعابين والحيات والعقارب، وتفتح له نافذةٌ إلى مقعده من النار، ويضربانه بمرزبة معهما لو اجتمع عليها أهل منى ما أقلوها، فيصيح صيحة يسمعه من يليه إلا الإنس والجن، وبذلك تنقطع أخبار الإنسان الذي حل في القبر، فلا يصل إلينا شيء من أخباره: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
تختلط بالقبر الواحد عظام من هو في غاية النعيم، ومن هو في غاية العذاب، فلا هذا يحس بشيء من نعيم هذا، ولا هذا يحس شيئاً من عذاب هذا، وقد اختلطت عظامهما وتحللت أجسادهما في تربة واحدة، لكن ذلك الاختلاط لا يمكن أن يخفي شيئاً من حالهما على الله عز وجل، فلهذا لا يصل إلى أحدهما شيءٌ من حال الآخر، لا هذا يحس بنعيم الآخر، ولا الآخر يحس بعذاب هذا، فمن علم هذا الحال كذلك ولم يدر متى يموت، كما قال سبحانه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]، وهو يعلم أن كل يوم من الأيام ينطلق فيه وفدٌ من أهل الدنيا إلى الآخرة، ولا يشاور من سيخرج اليوم في وفد الآخرة، فلا يدري: {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف:185]، فيمكن أن ينتقل كل واحد إلى الآخرة اليوم أو غداً، وهكذا، فمن كان كذلك فعليه أن يجتهد في الفرصة الباقية، وهو يعلم هول ما أمامه وشدته.(28/5)
العمر الثالث: ما مكن الله الإنسان من النعم وكيفية استغلالها
ثم إن الفرصة الثالثة والعمر الثالث هو ما مكن الله للإنسان في هذه الدار من المنافع والخيرات والنعم الكثيرة، وهي امتحان له، ولكل نعمة منها أجل مسمى.
فهذا اللسان يمكن أن يقول الآن: (لا إله إلا الله)، وسيحال بينه وبين ذلك، وهذه الأرجل يمكن أن تحمل الإنسان الآن إلى طاعة الله، كالصلاة في المسجد، أو سماع درس أو غير ذلك، وسيحال بين الإنسان وبين ذلك، وكذلك السمع، وكذلك البصر، وهكذا كل النعم التي عند الإنسان لها آجال محددة في علم الله، فأهل الإنسان وماله وديعة، ولذلك قال لبيد بن ربيعة رضي الله عنه: وما المال والأهلون إلا وديعة ولا بد يوماً أن ترد الودائع فلا بد أن ترد تلك الودائع، وعلى هذا فتمتع الإنسان بها له أجل محدد في علم الله تعالى لا يمكن أن يتجاوزه، ومن كان هكذا فعليه أن ينتهز الفرصة وأن يبادر، فما هي إلا مثل عاريةٍ، فإذا أعارك إنسانٌ آلةً لتستخدمها لمدة محددة فإنك ستبادر لاستغلالها قبل فوات الأوان، من أعارك سيارته لتبلغ عليها مكاناً معيناً وتعلم أنه سيأخذها عند وقت محدد فإنك لن تتركها قائمةً واقفة، بل لا بد أن تستغلها قبل أن يأتي الأوان، ولذلك فكل ما عندك من النعم هو مثل السيارة المستعارة، أعارك الله هذه النعم ولها آجال محددة يقبضها ويأخذها.(28/6)
الحث على استغلال الأعمار الثلاثة للإنسان
فهذه الأعمار الثلاثة على الإنسان أن يجتهد في استغلالها، وأن يكون رشيداً، وأن لا يكون سفيهاً، فالسفيه هو المبذر الذي يجمع بالتعب ويفرق في غير طائل، فكذلك الذي لا يستغل هذه النعم ويبذرها في غير طائل فهو سفيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع -وذكر منها-: وعن شبابه فيما أبلاه)، إن كل من مضى عليه عمر الشباب ووقته فهو يتذكر ضياعاً كثيراً فيما مضى من عمره، ولذلك لا يسره أن تعرض عليه أعماله في شبابه، ولهذا قال الحسن البصري رحمه الله: إن عُمراً ضيع أوله لجدير أن يحفظ آخره.
السؤال الثاني: (وعن عمره فيما أفناه)، فإن كثيراً من الناس يقطع العمر بالحكايات التي لا طائل من ورائها، فيجلس مع مجموعة ساعةٍ كاملة تخلو غالباً من ذكر الله، وإن كثيراً من الناس يحسن الثناء على الناس ولا يحسن الثناء على الله، فلو عرضت عليه صحيفته لوجد فيها كثيرٌ من مدح الناس، لكن كم فيها من الثناء على الله؟! الشيء اليسير، ولا يحسن ذلك إلا إذا قرأ الفاتحة في الصلاة، وهكذا فالأوقات تمضي فيما لا طائل من ورائه.
السؤال الثالث: قال: (وعن علمه فيما عمل به)، فكل من بلغته كلمةٌ واحدةٌ مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فيسأل عنها، ولهذا قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (إن أخوف ما أخافه كتاب الله، أن لا تبقى آية آمرةٌ إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء! قد أتيتك آمرةً فلم تأتمر بي.
ولا آية زاجرةٌ إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء! قد أتيتك زاجرة فلم تنزجر بي).
إننا نحفظ القرآن كاملاً، ونسمعه ونقرؤه، لكن علينا أن نتذكر أن هذا القرآن يلعن أقواماً وهم يقرؤونه، فرب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه، فإذا كنت تخالف ما تقرأ فكنت تقرأ قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163]، وتخالف ذلك فلا تجعل حياتك لله، ولا صلاتك خالصةً لله، ولا عبادتك خالصةً لله، ولا تريد أن يكون موتك في سبيل الله، فكيف تكذب على الله وتشهده على ما ليس بحق وهو علام الغيوب؟ كذلك إذا قرأت قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].
فأنت تعلم أن هذه الآية ناطقةٌ عليك، وأن هذا القرآن ينطق يوم القيامة، فإما أن يشفع وإما أن يمحل، فهو شافعٌ لا يرد، أو ماحل مصدق، يقود أقواماً حتى يدخلهم الجنة، ويسوق آخرين حتى يكبهم على وجوههم في النار، ويأتي يوم القيامة تتقدمه البقرة وآل عمران في صورة غمامتين يحاجان عن صاحبهما، ثم إنك إذا تعلمت ولو جزءاً يسيراً فاعلم أن فيه لله سبحانه وتعالى كثيراً من الحقوق، منها حق العمل به، ومنها حق تدبره وتفهمه، ومنها حق الاتعاظ به.
السؤال الرابع: قال: (وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)، فيسأل في المال سؤالين: السؤال الأول: يقال له: من أين لك هذا؟ هل أخذته من حله أم لا؟ فإن كان أخذه من حله فإنه سيبارك له فيه، وإذا وفق لصرفه في محله فإنه سيكون ستراً له من النار، وإن أخذه من غير حله فإنه سيندم عليه، فيقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29].
السؤال الثاني في المال: هو قوله: (فيمَ أنفقه؟) بعد أن اكتسبه وجمعه، فهل يكفي مجرد الجمع؟ لا.
بل المال يجمعه الإنسان فيتعب فيه، ثم بعد ذلك ينفقه ويفرقه، ففيمَ أنفقه؟ هذا السؤال على كل إنسان أن يطرحه على نفسه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مكائد الشيطان في الحرص، فقال صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم: مالي مالي.
وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو قدمت لآخرتك).
وقال كذلك فيما صح عنه: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه.
قال: فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر).
فلذلك على الإنسان أن يستحضر هذه الأسئلة الأربعة، ويعلم أنه سيواجه بها بين يدي الله، (لن تزول قدما عبد) أي: لن تتحرك واحدةٌ منهما من مكانها حتى يجيب عن هذه الأسئلة.(28/7)
التحذير من غرور الشيطان ومشاغله وخدعه وأوهامه
إن غرور الشيطان في هذه الحياة الدنيا كثير، كما ذكرناه من الغرور في الوقت، إنما نشاهده بعد مضي الزمن، ينظر الإنسان فيما مضى من عمره فيجد السنة والسنتين والثلاث والأربع وتقدمه في الإيمان فيها بطيء، لكن إسراعه إلى الموت سريع.
فهو يسرع سرعة هائلة إلى الموت، يطوي المسافات، فكل يوم يقطع فيه مسافة طويلة إلى الموت، ومع ذلك فإن تقدمه في الإيمان والعمل الصالح يسير وقليل لا يرضاه إلا إذا كان منافقاً، فالمنافق يغتر بذلك، ويظن أن ما عمله كافٍ، والغرور ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق.
ثم من مشاغل الشيطان كذلك التي يشغل بها الإنسان في هذه الحياة الدنيا أن ينسى لماذا أتى إلى هذه الدار، وما هي مهمته فيها، فهل جاء من أجل تقوية بدنه وتحسين سمعته؟ وهل جاء من أجل جمع ماله؟ وهل جاء من أجل التمتع بالشهوات والملذات؟ لماذا جاء إلى هنا؟ لماذا خلقنا الله؟ فنحن ما خلقنا أنفسنا، ولا اُستشرنا بالخلق في الخلق: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:8] يخلقنا الله في أي صورة شاء، فمنا الطويل، ومنا القصير، ومنا الوسط، ومنا الأبيض، ومنا الأسود، ومنا الحسن، ومنا القبيح، فليس لنا مشورة في ذلك، وقد قال الله تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51]، فمن كان كذلك يعلم أنه ما استشير في خلقه عليه أن يسأل: لماذا خلقت؟ وجواب ذلك قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].
إن كل شيء قيمته هي ما من أجله خلق، وما من أجله صُنع، فمكبر الصوت ما قيمته ولماذا صنع؟ لقد صنع لتسميع الصوت وتكبيره، فإذا لم يكن فيه هذه المنفعة هل سيُشترى بأغلى الأثمان؟ وهل له قيمة؟ ما له قيمة، بل يرمى في القمامات؛ لأنه لا فائدة فيه، ولذلك فمشاغل الشيطان التي يشغل بها الإنسان في هذه الحياة الدنيا عن عبادة الله منها ما هو معصية لله، فهو يستغله تماماً على عكس الاتجاه، فالاتجاه السليم أن يتجه إلى العبادة، فإذا اشتغل في المعصية فقد عكس الاتجاه وانصرف إلى الخلف، نسأل الله السلامة والعافية.
ثم إذا لم يستجب له في ذلك حاول صرفه إلى الأطراف وبنيات الطريق، فيشتغل باللغو الذي لا ينفع، ويمضي العمر في ذلك اللغو دون طائل، فإذا لم يستجب له في ذلك حاول شغله بالمفضول عن الفاضل، يشتغل بعبادةٍ مفضولة عن عبادةٍ هي أفضل منها، فإن لم يستطع ذلك خيل له التعارض بين العبادات، وأنه لا يمكن أن يجمع بينها، فيقتصر على بعضها دون بعض، وهكذا فلا يزال مخادعاً له، فهو لصٌ يجوس حول الديار يريد ثغرةً يدخل منها، كاللص الذي يجوس حول الديار، يريد أي ثغرةٍ يدخل منها، ولهذا علينا أن ندرك مخاطره وغواياته، وأن نعلم أننا إذا لم نتخذه عدواً فلم نستجب ما أمرنا الله به، فقد قال الله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر:6]، وهذه الآية جمعت بين خبر وأمر، فالخبر صدق، والأمر لابد أن يحقق، الأمر يقتضي التصديق، والخبر يقتضي التصديق، فلذلك علينا بعد أن صدقنا الخبر أن نبادر لتصديق الأمر، ولا يمكن أن تعلم أن فلاناً من الناس عدواً لك، فتسالمه أنت ولا تفعل أي شيء يوصل إليه ضرراً، لن تطيعه فيما يأمر به وتنقاد له، فمن كان هكذا فهو في غاية المذلة والهوان، فلهذا علينا أن نتخذ الشيطان عدواً، وأن نعلم أنه يسعى لغواية الناس بحبائله المختلفة، فمنها ما يزينه للناس من بعض المكاسب المحرمة، فإن الله سبحانه وتعالى جعل في الأرض كثيراً من أنواع الحلال التي يمكن أن يعيش بها بنو آدم.
لكن يأتي الشيطان فيخيل للإنسان أنه لا يمكن أن يعيش في هذه الحياة الدنيا إلا بكسب خبيث، كالمشي بالنميمة، فيجعله قتاتاً يمشي بالنميمة بين الناس، وهذا شر كسب على الأرض، وقد صح في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل الجنة قتات)، والقتات: هو النمام المتجسس.
ثم يمكن أن يخيل إليه الشيطان أنه لن يرزق إلا من الربا، والربا يترتب عليه حرب الله ورسوله، يقول عز وجل: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]، ويمكن أن يخيل إليه أنه لن يُرزق إلا بأن يذل نفسه للبشر، وينسى رب البشر، الكريم الذي ينادي عباده فيقول: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32]، ويقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، ويقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، فهو الذي يعطي قبل المسألة، ويعطي إذا سئل، ويدخر بعد ذلك الكثير، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62]، فهو الذي يرضى لعباده أن يسألوه، وغيره ليس كذلك.
فالمذلة كل المذلة أن يذل الإنسان لعبد مثله فقير مسكين بخيل لا يملك لنفسه ولا لغيره حياةً ولا موتاً ولا نشوراً، {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، فالله سبحانه وتعالى أحق أن يرغب فيما عنده، وهو الذي يعطي وحده، وقديماً قال الحكيم: إذا عرضت لي في زماني حاجةٌ وقد أشكلت عليّ فيها المقاصد وقفت باب الله وقفة ضارع وقلت إلهي إني لك قاصدُ ولست تراني واقفاً عند باب من يقول فتاه سيدي اليوم راقد.
وكذلك يقول الآخر: لا تسألن بُني آدم حاجةً وسل الذي أبوابه التي لا تحجب فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يُسأل يغضب فلابد أن تبادر إلى مسألة الله عز وجل الذي رضي لك أن تسأله، وليس في مسألته مذلة، كل إنسان سألته حتى ولو كان أباك ففي مسألته مذلة، فإن السؤال في حد ذاته مذلة إلا مسألة الله فهي عز، فالعبد إذا تضرع لله بين يديه فهذا غاية عزه، غاية ما يصل إليه من العلم والضراعة إلى الله، {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43].
إنما ذكرناه فيما يتعلق بالتفريط في الأوقات، والمبادرة عامة في هذه الحياة كلها، لكن لكل زمان ومكان خصوصيات، فنحن الآن في نهاية هذه الدنيا، وقد خاطبنا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (بادروا بالأعمال ستاً: فهل تنتظرون إلا غنىً مطغياً، أو فقراً منسياً أو مرضاً مجهزاً، أو هرماً مفنداً، أو الدجال فالدجال شر غائبٍ ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر).
إن هذه الأمور الستة آتية، فعلينا أن نبادرها بالأعمال الصالحة قبل أن تهاجم وتدهم، ثم علينا أن نعلم كذلك أن أوقات المصائب في الدين والتكالب عليه الوقت فيها أشح وأضيق، فأنت تعلم الآن ما يشاهده دينك من كيد أعدائه، ففعل الجاهلية في داخل الأمة الإسلامية من حصول الشقاق والنفاق والعداوات والتمزق والتشرذم يكفي وحده لضعف الدين، فكيف بالهجوم الشرس القادم من الخارج من هذه الهجمة الصليبية واليهودية والإلحادية التي لا تريد خيراً للمسلمين، ولا تريد إلا غوايتهم، فهم من جنود إبليس الذين سيكثرون في النار يوم القيامة؟! فلذلك علينا أن نبادر هذه الأوقات وأن نستغلها في الحفاظ على ديننا، فإنه إذا ذهب فلا خير في العيش بعده، لا خير في العيش في هذه الأرض بعد ذهاب الدين، ولهذا علينا أن نتمسك به وأن نعض عليه بالنواجذ قبل أن يفارقنا، وأن نعلم أن حقوق أمتنا تقتضي منا كذلك المبادرة للقيام بها، فهذه الحقوق الضائعة التي هي لهذه الأمة المشرفة العظيمة عند الله عز وجل لابد من أدائها والحفاظ عليها، فإن الإنسان يكد لينفق على أهل بيته لترتب حقوقهم عليه، فليتذكر كذلك حقوق الأمة، وليكد من أجل أداء حقوق الأمة، وتذكر قول الشاعر الحكيم: فبعد بلوغي خمس عشرة ألعب وألهو بلذات الحياة وأطرب ولي نظر عال ونفسٌ أبيةُ مقام على هذه المجرة تطلب وعندي آمال أريد بلوغها تضيع إذا لاعبت دهري وتذهب ولي أمة منكودة الحظ لم تجد سبيلاً إلى العيش الذي تتطلب على أمرها أنفقت دهري تحسراً فما طاب لي طعمُ ولا لذ مشرب ولا راق لي نومُ وإن نمت ساعةً فإني على جمر الغضى تقلب نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يجنبنا غوايات الشيطان، وأن يجعلنا في قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم! إنا نعوذ بجلال وجهك أن تجدنا حيث نهيتنا، ونعوذ بجلال وجهك أن تفقدنا حيث أمرتنا، ونسألك أن تستعملنا في طاعتك، وأن تجعلنا أجمعين هداةً مهديين غير ضالين ولا مضلين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(28/8)
الأسئلة(28/9)
مسئولية المسلم وواجبه تجاه أهله
السؤال
ما مسئولية المسلم تجاه أهله؟ وهل الواجب عليه القيام بمصالحهم الدنيوية دون الأخروية؟
الجواب
الله تعالى يقول في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، فإذا كنت ترحم أهلك من المرض، وإذا مرضوا شق ذلك عليك وبذلت الأموال والأوقات في علاجهم فكيف لا ترحمهم من لواحة البشر عليها تسعة عشر؟! كيف لا ترحمهم من عذاب الله وسخطه؟! أنت لا تحب أن يعادي أهل الأرض أهلك وأولادك، فكيف تريد لهم أن يعاديهم من في السماء؟!! إن الرحمة تقتضي منك أن تحرص على مصالحهم الدينية قبل غيرها، ولذلك نص أهل العلم على أن المحافظ على أداء الصلاة في الجماعة إذا كان يفرط في أمر أهله بالصلاة فسيحشر في زمرة المضيعين يوم القيامة، قال محمد المودودي رحمه الله: محافظ تضييع أهله يذرُ في زمرة المضيعين يحشروا.
نسأل الله السلامة والعافية.
فلذلك على الإنسان أن يعلم أنهم أول من يخاطبونه بين يدي الله، فيمسكون بيده فيقولون: يا رب! وليت علينا عبدك هذا، فضيع الأمانة، رآنا على المنكر فلم ينهنا، ورآنا نقصر في المعروف فلم يأمرنا وهم خصومه؛ لأن النسب سينقطع بمجرد النفخ في الصور، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]، فلذلك قد رأينا وشاهدنا في هذه الحياة الدنيا المشاحة بين الأقارب على أساس الحقوق المالية التافهة، رأينا المشاحة بين الأقارب بين الإخوة الأشقاء والأخوات والأولاد وآبائهم في أمورٍ تافهةٍ من أمور الدنيا، رأينا المشاحة في أمور الدنيا بين الأقارب، فإذا كان الأمر كذلك فعرف الناس أن هذا الإنسان الذي يشاح في الدنيا، ويخاصم على حقٍ ضئيلٍ تافه فليعلم أنه سيخاصم يوم القيامة في حقوقه، فهو في حقوقه يوم القيامة بخيل محتاجٌ فقير إلى تلك الحقوق، فلا يمكن أن يسامح فيها.(28/10)
نماذج ممن طلبوا العلم بعد الكبر وانتفعوا به
السؤال
هل من نماذج من الذين أقبلوا على العلم بعد الكبر وانتفعوا بذلك من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
إن من أمة النبي صلى الله عليه وسلم رجالاً تعلموا في كبرهم، فكانوا من كبار العلماء والقادة، كـ العز ابن عبد السلام الذي ما طلب العلم إلا وقد تجاوز الأربعين، فكان سلطان العلماء، ومنهم كذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فما طلب جمهورهم العلم إلا في كبرهم، بل ما آمنوا أصلاً إلا في كبرهم، ومع ذلك انظر إلى المستوى الذي بلغوه من العلم، وكذلك من التابعين كـ طارق بن شهاب، جاء يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم وعمره إذ ذاك فوق الأربعين، فأصبح من أئمة التابعين وعلمائهم، وكذلك عددٌ كبيرٌ من مشاهير علماء الإسلام ما طلبوا العلم إلا في كبرهم، فأحرزوا هذا العلم ونفعهم الله بقدر نيتهم وإخلاصهم، ففتحت أمامهم أبواب العلم وأبواب الخير.(28/11)
نماذج ممن نصروا الدين
السؤال
اذكر لنا نماذج من الذين نصروا الدين؟
الجواب
منهم.
الذي أرسله شيخه مع يحيى بن إبراهيم إلى هذه البلاد معلماً وداعياً، فلما أتى وجد إعراض الناس عن الدعوة وانقطاعهم لجمع المال وتنميته، فاختار مجموعة من شبابهم وخرج بهم للتعليم في جزيرة في البحر في شمال نواكشوط، فكانت هذه الجزيرة مغلقةً، فلم يزل العدد يزداد حتى بلغوا ثلاثة آلاف، ورباهم بالشدة والقوة، فكان يضرب من تخلف عن ركعة واحدةٍ من الصلاة عشرة أسواط، ومن تخلف عن ركعتين عشرين سوطاً، ومن تخلف عن ثلاث ركعات ثلاثين سوطاً، ومن تخلف عن الصلاة الرباعية كلها جلده أربعين سوطاً، حتى أخذهم بالقوة والشدة، فلذلك لما خرجوا من جزيرتهم لم تستطع أمة أن تقف في وجوههم، وكانوا أشجع الناس وأقواهم في الحق، ومن أولئك الذين كانوا معه يحيى بن عمر اللبتوني وأخوه أبو بكر بن عمر اللبتوني الذي يشتهر على ألسنة العوام بـ أبي بكر بن عامر، وهو أبو بكر بن عمر وغيرهم من المشاهير، كـ يوسف بن تاشفين الذي فتح المغرب والأندلس، وهزم النصارى في يوم الزلاقة حين زأرت الخيل في وجهه وهو يخطب يوم الجمعة على المنبر، فكبر ونزل بسيفه، وما زال يجاهدهم حتى قتل منهم أكثر من مائة وعشرين ألفاً.
وغيرهم من الذين نصروا الله عز وجل في هذه البلاد وهم كُثر، وأهل هذه البلاد -ولله الحمد- من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أبناء الأنصار الذين تشملهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم اغفر للأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار)، وقد قال فيهم صلى الله عليه وسلم: (إنهم أدوا الذي عليهم وبقي الذي لهم)، وقال فيهم صلى الله عليه وسلم كذلك: (لو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار)، وكذلك هم الذين ضحوا في سبيل إعلاء كلمة الله بأنواع التضحية، فيوم أحدٍ قتل منهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أربعة وسبعون رجلاً من خيرتهم، وفي رجعةِ النبي صلى الله عليه وسلم من أُحد استقبله أهل المدينة رجالاً ونساءً وصبياناً، فكان الصحابة يردونهم عنه لأنه مجروح وقد تعب في المعركة، فرأى امرأة تقترب إليه فإذا هي فاطمة بنت يزيد بن السكن، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يردوها عنه؛ فإنه قتل بين يديه ذلك اليوم ثمانية من رجالها، قتل بين يديه زوجها وولداها وأبوها وأخواها وعمها وعم أبيها، فلما نظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (بأبي أنت وأمي -يا رسول الله- كل مصيبةٍ بعد رؤيتك جلل)، وانصرفت وقد تعزت عن كل ما أصابها.
وكذلك هم الذين حملوا الراية في معارك النبي صلى الله عليه وسلم كلها، فقتل منهم يوم بئر معونة ثلاثة وسبعون من حفظة كتاب الله القراء، وقتل منهم يوم اليمامة سبعون رجلاً من القراء، وقتل منهم يوم جسر أبي عبيد سبعون رجلاً من القراء، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس يكثرون والأنصار يقلون)، وعندما بايعوه في آخر عهده بهم قال عبادة بن الصامت -وهو من رجالهم الأقوياء- الذين كانوا يوزنون بألف -قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرةٍ علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً لكم فيه من الله برهان، وأن نقول الحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم)، فهذه بيعتكم لرسول صلى الله عليه وسلم أن تقوموا وأن تقولوا الحق حيثما كنتم لا تخافون في الله لومة لائم، ولن تنقلبوا على أعقابكم قطعاً، ولن تتركوا ما فعله أسلافكم وأجدادكم الذين كانوا خير الأمثلة، فعندما مات سعد بن معاذ اهتز له عرش الرحمن، ولم يهتز لأحد سواه.
وكذلك فإن الأنصار يكثرون عند الفزع ويقلون عند الطمع، إذا جاء الفزع على الأمة الإسلامية وعلى الدين كثر الأنصار، وإذا جاء الطمع أدبروا وقلوا، فلذلك لابد أن تتحقق هذه الصفات في ذراريهم من بعدهم، ومن العيب على الإنسان أن ينتسب للنسب الشريف والمحتد الرفيع فلا يكون كأسلافه وأجداده.
اللهم! لك الحمد خيراً مما ما نقول، ولك الحمد كالذي تقول، لك الحمد بكل شيء تحب أن تحمد به، لك الحمد أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأقرب من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سُئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، ونسخت الآثار، وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرؤوف الرحيم، نسألك بعزك الذي لا يرام، وبنورك الذي أشرقت له السماوات والأرض أن تهدي قلوبنا، وأن تستر عيوبنا، وأن تكشف كروبنا، وأن تجعل التقى زادنا، وأن تصلح أولادنا، وأن تحقق مرادنا، وأن تصلح أمرنا، وأن تصلح أحوالنا وأحوال المسلمين أجمعين.
اللهم! اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا، وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا.
اللهم! استعملنا في طاعتك، واجعلنا هداةً مهديين غير ضالين ولا مضلين، اللهم! إن عبادك وإماءك يرفعون إليك أيدي الضراعة، فلا تردهم خائبين، ولا تخرج أحداً منهم من الدنيا إلا وقد غفرت له، اللهم! كما جمعتنا في الدنيا فاجمعنا في الفردوس الأعلى من الجنة تحت عرشك، اللهم! لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا حاجةً من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً وفيها لنا صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين، اللهم! اغفر للمسلمين الميتين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم! إنهم أسارى ذنوبٍ لا يفكون، وأهل قرب لا يتزاورون، اللهم! نفس همهم، وفرج كربهم، وأدخل عليهم النور والسرور في قبورهم، والطف بنا وارفق بنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأوهن كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين، اللهم! أظهر دينك على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم! أظهر دينك على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم! أنزل مقتك وغضبك وسخطك وبأسك وعذابك على أعدائك من كفرة أهل الكتاب الذين يحاربون أولياءك ويصدون عن سبيلك، اللهم! أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، واجعل تدبيرهم تدميرهم، ورد كيدهم في نحورهم، واشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم! أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم! لا تحقق لهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، وأخرجهم من بلاد المسلمين يا أرحم الراحمين.
اللهم! اجمع على الحق قلوبنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم! ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا إلى سواء الصراط، اللهم! اجعلنا قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم! اسقنا من حوضه بيده الشريفة شربةً هنيئةً، لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم! بيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، اللهم! آتنا كتبنا بأيماننا يا أرحم الراحمين، اللهم! إنا نسألك الثبات عند النزع، والأمن تحت اللحد، والتوفيق عند السؤال، اللهم! ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم! أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوةً وبلاغاً إلى حين، اللهم! إن بالعباد والبلاد والخلائق، والبهائم، من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم! إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، اللهم! أنزل لنا من بركات السماء، وأخرج لنا من بركات الأرض، اللهم! أنزل لنا من بركات السماء، وأخرج لنا من بركات الأرض، اللهم! أنزل لنا من بركات السماء، وأخرج لنا من بركات الأرض، اللهم! صيباً نافعاً، اللهم! صيباً نافعاً، اللهم! صيباً نافعاً، اللهم! اسقنا، اللهم! اسقنا، اللهم! اسقنا، اللهم! اغفر ذنوبنا التي منعت بها القطر من السماء، اللهم! اغفر ذنوبنا التي منعت بها القطر من السماء، اللهم! لا تهلكنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك، اللهم! لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا، ولا تؤاخذنا بما جنينا على أنفسنا، اللهم! لا تحرمنا خير ما عندك بشر ما عندنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم استرنا بسترك الجميل، اللهم! استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، اللهم! إن الأمور مرجعها إليك فلا تفضحنا بين يديك، اللهم! إن الأمور مرجعها إليك فلا تفضحنا بين يديك، اللهم! ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن، وجميع الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامةً يا أرحم الراحمين، اللهم! بارك على المسلمين أجمعين، اللهم! لا ترفع عنهم عافيتك، اللهم! أسبغ عليهم نعمك، اللهم! أسبغ عليهم نعمتك ظاهرةً وباطنة، اللهم لا تنزع منهم البركة يا أرحم الراحمين، اللهم علم جهالهم، وأغن فقراءهم، واشف مرضاهم، وارحم موتاهم، واقض الدين عن المدينين منهم يا أرحم الراحمين، اللهم! ألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم! أسبغ عليهم نعمك يا أرحم الراحمين، اللهم! اجعلهم في قرة عين نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم! أصلح أولادهم، اللهم! حقق مرادهم يا ذا الجلال والإكر(28/12)
كيفية إقناع الوالدين بالسماح لأبنائهم بمزاولة الدعوة
السؤال
كيف نقنع والدينا بعدم منعنا عما نحن فيه من توجيه الناس ودعوتهم، مع علمنا أنه ليس لهم في ذلك نية سيئة؟
الجواب
الإقناع بهذا سهل جداً؛ لكثرة النصوص المتواترة فيه، ولأن الوالد دائماً شفيق، ويحب أن يكون ولده أفضل منه، فما من أحد يرضى أن يكون هناك أحد خير منه غير ولده، ولدك تريده أن يكون أعلم منك، وأن يكون أقوى منك وأحسن منك، لكن لا ترضى ذلك لأخيك، ولا لأحد آخر، فلذلك الوالد يرضى لولده دائماً أن يكون خيراً منه، ولهذا يريد له أن يتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وأن يفعل ما كان يفعله، فعليه أن يعرض على نفسه عمل النبي صلى الله عليه وسلم، فكم عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد بلوغ رسالات ربه إليه؟ عاش ثلاثاً وعشرين سنة، وعلينا أن ننظر إلى العمل الغالب فيها، فما العمل الغالب في هذه الفترة من عمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ إننا نجزم ونوقن بأن العمل الغالب فيها تبليغ رسالة ربه إلى الناس وحملها وتوجيه الناس إليها، هذا أغلب عمله، فلم يكن يشتغل بالتجارة، ولم يكن يشتغل باللعب، ولا بالبناء وتشييد المنازل.
بل قال: (ما أمرت بتشييد المساجد)، وكان يدخل في بيت فراشه حصير يبقى أثره في جنبه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وإذا وقف الواقف فيه مس سقفه، ولذلك عندما بنى المسجد قيل له: (ألست تريد أن نبني لك بيتاً من حجارة؟ قال: لا، ولكن عريش كعريش أخي موسى)، فكان يقول عليه الصلاة والسلام: (مالي وما للدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت ظل شجرة)، فلذلك علينا أن نصرف أوقاتنا فيما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصرف فيه وقته، وإقناع الوالد بذلك أمر ميسور، وبالأخص إذا عرف أن خير العمل ما اختاره الله لنبيه، فمن يختار لولده أن يكون تاجراً أو أن يكون منغمساً في أمرٍ من أمور الدنيا وهو ويعلم أن عمل النبي صلى الله عليه وسلم أشرف من ذلك؟ وليس هذا منعاً من التجارة، بل إنما تمنع التجارة إذا ألهت عن ذكر الله، وعن الصلاة في المسجد، كما قال الله تعالى: {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37]، أما غير ذلك فلا حرج فيه إذا أخذها الإنسان كلها ووضعها في محلها، ويمكن الجمع بينها وبين تجارة الآخرة، يمكن أن يجمع الإنسان بين تجارة الدنيا وتجارة الآخرة.(28/13)
ما يجب على المسلم معرفته وتعلمه من أمور الدين
السؤال
ما حد فرض العين الذي يجب على كل مسلم تعلمه؟
الجواب
على كل مسلم أن لا يعرض عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يزداد منه يومياً، فقد جاء في الحديث (أي يوم لا أزداد فيه علماً فلا بورك في طلوع شمس ذلك اليوم).
والله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، فما يعبد الإنسان به ربه، ويعرفه به، ويجتنب به نواهيه، ويمتثل به أوامره، ويحقق به الاستخلاف في الأرض، ويكون به من القوامين بالقسط لله فهذا هو فرض العين عليه، وما زاد على ذلك من علوم الدنيا أو من علوم الآلات فهو فرض كفايةٍ، لكن يكون فيه ممن قال الله عنهم: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، ولا يرضى الإنسان بالاقتصار فقط على أقل ما يمكن، فلذلك لا بد أن تعلو الهمم، وأن تتعلق بمعالي الأمور، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى من الجنة) هذا إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم لنا، فلا نسأل الله -فقط- وأن تكون من أصحاب اليمين، بل نسأله أن نكون من المقربين، أن نكون من أصحاب الفردوس الأعلى من الجنة تحت عرش الرحمن.(28/14)
حكم تعليم الأجنبي للنساء في المساجد أمور الدين
السؤال
هل يجوز تعليم الأجنبي النساء في المساجد؟
الجواب
ذلك واجب، وهو فرض كفاية، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعله، فقد صح: (أن وافدة النساء أتته فقالت: يا رسول الله! إن إخواننا من الرجال غلبونا عليك، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فأعطاهن يوم الخميس، فكن يجتمعن له فيعلمهن ويذكرهن)، وكذلك فإنه أمر بخروجهن إلى مصلى العيد، كما في حديث أم عطية رضي الله عنها: (كنا نؤمر بإخراج العواتق والحيض وربات الخدور ليشهدن الخير ويكثرن سواد المسلمين، غير أن لا تدخل الحائض المصلى)، ثم بعد ذلك في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما خطب الرجال ظن أنه لم يسمع النساء، فتوكأ على بلال حتى وقف على النساء، فوعظهن وذكرهن وقال: يا معشر النساء! تصدقن؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار.
فقامت امرأة من سطة النساء -أي: من أواسطهن- في وجهها سعفة -أي: تغير في لون ما تحت العينين- فقالت: لم يا رسول الله؟ أيكفرن بالله؟! قال: يكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط.
فبسط بلال ثوبه، فجعل النساء يرمين فيه بالخواتم والأخراص يهوين إلى حلوقهن وآذانهن فتصدقن، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم لتصدقهن) والمساجد هي مكان التعليم، فهي مدارس الدين عندنا معاشر المسلمين، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم تكن له مدرسةٌ إلا المسجد، وكان يعلم فيه، ولذلك فإن من تعطيله أن تُمنع أي فئة من فئات المجتمع من التعلم فيه، علينا أن نوزع الوقت في المسجد، فنجل وقتاً للرجال، ووقتاً للنساء، ووقتاً للصبيان، ووقتاً للأميين، فيستغل المسجد في كل ذلك، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح البخاري، من حديث ابن عمر-: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، بل يخرجن إذا خرجن تفلات، ومعنى تفلات: غير متعطرات ولا متزينات.
فهن أيضاً لهن الحق في استقبال الملائكة، وكتابة أسمائهن عند أبواب المساجد، ولهن الحق في دخول أشرف الأماكن والبقاع، فهذا المكان هو أشرف مكان في البلد، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البقاع إلى الله أسواقها).
والذي يذنب ذنباً عليه أن يبادر إلى أحب البقاع إلى الله، لعله يصادف رحمةً فيتعرض لنفحات الله فيغفر له، فلذلك لا يمكن أن يمنع أحدٌ جاء تائباً إلى المسجد، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا بني عبد المطلب -أو يا بني عبد مناف-! لا تمنعوا أحداً أراد أن يطوف بهذا البيت في أي ساعة شاء من ليل أو نهار)، وقد بين الله سبحانه وتعالى عموم المسجد، وأنه ليس بالكلمات، فقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18]، وقال تعالى في المسجد الحرام: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25]، فالمسجد للناس كلهم، فلذلك لا يمنع منه أحد.(28/15)
حكم تعاونيات النساء المتصلة بالمنظمات النصرانية
السؤال
ما حكم تعاونيات النساء التي ظهرت مؤخراً، وكثيراً ما تتصل بالمنظمات النصرانية وتتلقى منها المساعدة؟
الجواب
أما الاتصال بالمنظمات النصرانية فهو عداوة لله ورسوله، ومحادةٌ لله عز وجل، ومسارعةٌ ومبادرةٌ إلى أعداء الله الذين كتب الله عليهم الذلة والمسكنة والهوان، وجعلهم شر سكان الأرض، فجعلهم أخس من الكلاب والخنازير ومن القردة، فقال فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6].
فهم شر ما ذرأه الله من الخلائق، ومن كان هكذا لا يمكن أن يتصل به الإنسان، ولا أن يقترب منه، أيرضى الإنسان أن يدخل في لحافٍ واحد مع خنزير ملطخ بالأنجاس؟! فكيف يرضى بمخالطة من هو شر من الخنزير؟! إن أدواء الإيمان وأمراضه كذلك تعدي، فيصاب الإنسان بالعدوى عندما يميل بقلبه ولو يسيراً إلى السافلين، كما قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113].
وقد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:73 - 75].
فلذلك لابد أن لا يركن الإنسان إلى السافلين، وأن يخاف الركون إليهم، وأن يعلم أنه ضررٌ ماحق بالدين، أما التعاون على البر والتقوى، فلا حرج فيه، كأن يتعاون النساء على جمع صدقاتهن للإنفاق على بيتٍ فقيرٍ أو على يتامى، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين.
ورفع المسبحة والوسطى).
فالفرق بينهما في الجوار، فإن المسبحة والوسطى متجاورتان، فلذلك عليهن أن يسعين إلى الخير، وأن يعلمن أن عملهن المشترك خير من عمل كل واحدة منهن وحدها، ومع هذا (فلا تحقرن جارةٌ لجارتها أن تهدي إليها ولو ظلفاً محرقاً، ولو فرسن شاة)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.(28/16)
نصيحة للنساء في الزهد في الدنيا والجري وراء الموضات
السؤال
هل من نصيحة للنساء في تزهيدهن في اتباع الموضات ومتاع الدنيا؟
الجواب
على النساء أن يتذكرن انتقالهن من هذه الدار إلى الدار الآخرة، وأن تعلم كل واحدة منهن حالها الآن، وما هي عليه من شدة الفزع والضعف، فإذا سمعت صوت رعد مجلجل خافت خوفاً شديداً، وإذا رأت برقاً قاصفاً خافت خوفاً شديداً، وإذا سمعت نبأً مفاجئاً خافت خوفاً شديداً، فكيف لا تخاف من عذاب الله؟! يقول أحد الشعراء في مرثية زوجته بعد أن انتقلت إلى الدار الآخرة: امرر على الحِدث الذي حلت به أم العلاء فنادها لو تسمع أنى حللتِ وكنتِ جد فروقهًّ بلداً يمر به الشجاع فيفزع فلقد تركت صغيرة مرحومة لم تدر ما جزعٌ عليك فتجزع فإذا سمعت أنينها في ليلها طفقت عليك شئون عيني تدمع وقوله: جد فروقة أي: شديدة الخوف.
فلذلك عليهن أن يتذكرن ما هن منصرفات إليه، وأن يتذكرن قول النبي صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين عندما سألنه عن أول من تلحق به من نسائه إلى الدار الآخرة قال: (إن أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً)، فكن يتطاولن بأيديهن، لكن تبين أن المقصود بطول اليد الإنفاق، ففازت بذلك زينب بنت جحش فكانت أم المساكين، فهي أطولهن يداً في الإنفاق، وليست أطولهن يداً في الخلقة، فعلى من تريد الموضات أن تقدمها أمامها لتجدها في قبرها، من تريد البيت الوضيء والفراش الوطيء والسراج المضيء عليها أن تقدم ذلك لقبرها، فهي بحاجة إلى ذلك فيما أمامها، وقد قال: النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه القبور مظلمةٌ على أهلها، وإن الله ينورها بدعائي وصلاتي).(28/17)
بيان كون التذكرة والموعظة من وظائف المسجد
السؤال
هل التذكرة وظيفة من وظائف المسجد، يمنع منعها؟
الجواب
إن التذكرة من وظائف المسجد، ولذلك أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن مسعود: (أنه كان يذكر الناس كل يوم خميس في المسجد، فقال له أبو وائل -أو غيره-: يا أبا عبد الرحمن! وددنا لو ذكرتنا كل يوم.
فقال: أما إني لأتخولكم بالموعظة مخافة السآمة عليكم، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا) والسآمة: الملل.(28/18)
شروط جواز خروج النساء من البيوت
السؤال
هل من شرط في جواز خروج النساء؟
الجواب
لا بد أن يخرجن بثياب غير لافتةٍ للانتباه من ناحية الحسن، فلا يخرجن بأثواب الزينة، ولا يخرجن كذلك بالرائحة الطيبة، فقد أخرج مالك في الموطأ (أن عمر خرج إلى العيد فمر حول النساء، فشم رائحةً طيبةً من رأس إحداهن، فقال: من صاحبة هذا الطيب؟ فلو عرفتها لفعلت بها وفعلت.
فزعم النساء أنها قامت عن حدث لروعتها مما قال عمر)، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أيما امرأةٍ تعطرت فخرجت من بيتها فهي زانية).
فلذلك على النساء أن يتقين الله وأن لا يخرجن بثياب الزينة، ولا بشيءٍ منها، فقد حرم الله عليهن إبداء الزينة إلا لمن أذن لهن في إبداء الزينة له.(28/19)
الوسطية في الإسلام
دين الإسلام دين كامل لا تجوز فيه الزيادة ولا النقصان، وهو دين الوسطية، ولذلك فإن الإسلام أمر بالتوسط في باب العبادة ونهى عن الإفراط والتفريط فيها، وأمر بالتوسط في باب الدنيا وجمعها، فنهى عن الانشغال بها كل الشغل ونهى عن تركها، وأمر بالتوسط في باب الخلق، فنهى عن الإفراط والتفريط فيه، وهكذا فالإسلام دين الوسطية في الأمر كله.(29/1)
كمال الإسلام وعدم قبوله للزيادة والنقص
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى شرع لعباده خير الدين، وأرسل به أفضل الرسل وأنزل به أفضل الكتب، وارتضاه للناس وقال فيه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
وقد نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، العاشر من شهر ذي الحجة وهو واقف بعرفة بعد أن صلى الظهر والعصر جمعاً وقصراً ووقف في الموقف، وكان ذلك في العام العاشر من الهجرة، ولم يعش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها إلا اثنين وثمانين يوماً، وقد بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أنزلت هذه الآية، فقيل له: ما يبكيك؟! فقال: لم يتم شيء إلا نقص.
وقد صح عنه رضي الله عنه أن حبراً من اليهود أتاه فقال: (يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم لو علينا معاشر اليهود أنزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، فقال: وما هي؟ فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فقال عمر: أما إنها أنزلت يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة).
إن هذه الآية قد حددت أن الدين المرضي عند الله هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يمكن أن يزداد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن ينقص منه، ولذلك قال مالك رحمه الله: قد أنزل الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً.
ومن هنا: فكل ما يزيده الناس وكل ما ينقصونه من الدين فإنما هو إما إفراط وإما تفريط، فالإفراط بالزيادة في الدين والتفريط بالنقص منه والتقصير عما طلب فيه، وكلا الأمرين مقيت شرعاً، والتوسط بينهما هو العدل الذي به قامت السماوات والأرض، وهو الذي أنزل الله به الوحي على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ارتضى من عباده، فكل ما شرعه الله لعباده فهو المصلحة المتوسطة التي تراعي أمور الدنيا وأمور الآخرة، وتراعي حقوق الأفراد، وتراعي حقوق الجماعات، وتراعي حقوق الرب جل وعلا وحقوق العبد، وهذه الأمور لا يمكن أن يراعيها مشرع إلا العليم الخبير اللطيف الذي يعلم السر وأخفى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
من هنا فلا يمكن أن يأتي أحد بأعدل مما شرعه الله لعباده، ولا يمكن أن يأتي بما هو مصلحة إلا ما شرع الله لعباده، فكل ما شرعه الله لعباده فهو مصلحتهم، لكن قد يغيب عن الإنسان وجه المصلحة فيه؛ لأنه لا يخطر بباله ما يتعلق بالآخرة، فيظن أن المصلحة مقصورة على أمور الدنيا فقط.
ولذلك فمصائب المؤمنين وبلاياهم هي عين المصلحة عند الله، وذلك أنها تكفر من سيئاتهم، وترفع من درجاتهم، وتقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، وتلهمهم اللجوء إليه وتذكرهم به سبحانه وتعالى، فإن الغنى مدعاة للطغيان ومدعاة للنسيان، فإذا لم يمرض الإنسان ولم يشتك من أية شكوى؛ لم يتذكر حاجته إلى الباري سبحانه وتعالى، ولم يحسن الضراعة إليه والدعاء.
وكذلك فإن المصالح الأخروية لا يمكن أن تدرك بمقتضى العقول الدنيوية؛ لأن الإنسان إنما ينطلق من المعايير المادية التي يمكن أن تقاس بها أمور الدنيا، ولا يمكن أن تقاس بها أمور الآخرة، فالوزن باعتبار الدنيا إنما هو بالثقل والوزن في الآخرة إنما هو بما عند الله، ولذلك رجحت بطاقة قدر الكف فيها (لا إله إلا الله) على السجلات التي سدت الأفق، فطاشت السجلات، {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف:8].
ولذلك فالوزن الدنيوي هو وزن مادي تراعى فيه الظواهر فقط، والوزن يومئذ -أي: في يوم القيامة- هو الحق الذي لا يمكن أن يلتبس بغيره، ولا أن يخالطه باطل في وجه من الوجوه، إذا عرفنا هذا أدركنا أن كل ما شرعه لنا ربنا سبحانه وتعالى فهو عين المصلحة لنا وإن خفي علينا ذلك، وأن علينا أن نرضى بكل ما شرعه الباري سبحانه وتعالى بكل استسلام وطمأنينة، وأن نعلم أنه سبحانه وتعالى غني عنا وعما يصيبنا وعما يعطينا، فهو الغني الحميد لا يصل إليه نفع ولا ضر من عباده، (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني).
وقد بين سبحانه وتعالى أن الخلائق جميعاً لو كانوا على أتقى قلب رجل منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئاً، ولو كانوا على أفجر قلب رجل واحد منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئاً.(29/2)
العبادة لمصلحة العابد
ومن هنا يعلم أن العبادة إنما هي لمصلحة العابد لا لمصلحة المعبود، وأن المنتفع بها هو العابد وحده، وأن الله قادر على هداية الناس أجمعين وإلهامهم طريق الحق وأطرهم عليه أطراً، ولكنه يبلوهم بالخير والشر ويمتحنهم بذلك، ولهذا قال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} [يونس:99 - 102].
الأيام التي خلت فأخذ فيها الله السابقين أخذاً وبيلاً، يعيدها الله سبحانه وتعالى ويكررها؛ لأن من سنته التي هي مصلحة أهل الأرض بقاء الصراع الأبدي فيها بين الحق والباطل.(29/3)
الصراع بين الحق والباطل لا يتوقف
ومن هنا فلو توقف هذا الصراع لحظة واحدة، فخلص الحق على الأرض واستقام الناس، أو خلص الباطل على الأرض وكفر الناس، لم يكن لهذه الدنيا معنىً ولا فائدة، فالدنيا دار عمل ولا جزاء، والآخرة دار جزاء ولا عمل، فلذلك امتحننا الله بهذه الحياة الدنيا، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون؟)، فهذه الدنيا دار استخلاف وامتحان، يمتحننا الله سبحانه وتعالى فيها، فلو تمحض فيها الحق لنجح الناس جميعاً، واستحقوا الخروج من هذه الدنيا التي هي دار الأكدار إلى دار القرار، ولو كفروا جميعاً لرسبوا في الامتحان، وحل عليهم غضب الله الأكبر: (إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله).
فاحتيج إذاً إلى أن يبقى في هذه الأرض صراع مستمر بين الحق والباطل، وهذا الصراع لابد فيه من مروق وخروج على صراط الله ومنهجه، وهذا المروق والخروج منه ما يسير عن يمين الصراط ومنه ما يسير عن يساره، فما كان عن يمين الصراط فهو غلو وتجاوز للحدود التي حدها الله سبحانه وتعالى، وابتداع في الدين، وما كان عن شماله فهو تقصير عن الدين ونقص منه، وكلا الأمرين مذموم، وهذا الصراط الدنيوي الذي تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، هو تمثيل للصراط الأخروي الذي هو جسر منصوب على متن جهنم: أدق من الشعر، وأحد من السيف، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يزحف على مقعدته، فناجٍ مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم.(29/4)
بقدر استقامة الإنسان على الصراط الدنيوي تكون استقامته على الصراط الأخروي
وبقدر استقامة الإنسان على الصراط الدنيوي تكون استقامته على الصراط الأخروي، فيمكن أن يقوّم الإنسان نفسه الآن في طريقه: فإن كان سالكاً لهذا الطريق لا يميل ذات اليمين ولا ذات الشمال مع بنيات الطريق ويلتزم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى رجاء أن يثبت على ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، وإن كان يميل ذات اليمين أو ذات الشمال مع بنيات الطريق، فليخف على نفسه يوم القيامة، عندما يرتجف الصراط، أن يميل عنه يميناً أو شمالاً، نسأل الله السلامة والثبات، ودعاء الأنبياء يومئذ: اللهم سلم سلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على مقربة من الصراط يقول: (اللهم سلم سلم)، فلذلك لابد أن يحرص الإنسان على نجاته في سلوكه لهذا المنهج الرباني وهذا الصراط المستقيم؛ حتى يقيس بذلك نجاته على الصراط الأخروي يوم القيامة، ونحن نعلم أن الصراط الأخروي مزلة مدحضة كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الصراط الدنيوي كذلك صعب جداً وبالأخص في أيامنا هذه أيام الفتن التي هي كقطع الليل المظلم: يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا.
فلابد أن يحرص الإنسان كل الحرص على ألا يضع قدمه إلا في مكان معتدل في سواء الطريق، وأن يعلم أن على حافتي الطريق أبواباً مفتحة، وعلى الأبواب ستور، وفي كل باب داعٍ يدعو إليه: يا عبد الله! إلي إلي، وفوق السورين داعي الله ينادي: يا عبد الله! لا تلج الباب فإنك إن تلجه لم تخرج منه.(29/5)
وجوب الاعتدال في الأمر كله
ثم إن علينا أن نعلم أن الاعتدال على هذا الصراط منهج متكامل يكمل بعضه بعضاً ويصدقه، فلا يمكن أن يكون الإنسان معتدلاً في اعتقاده على الصراط المستقيم ومائلاً في عمله؛ لأن عقيدته تدعوه إلى العمل، إذا استقامت عقيدته دعته إلى الاستقامة على العمل، ولا يمكن أن يكون مستقيماً في عبادته غير مستقيم في معاملته؛ لأن العبادة تدعو إلى حسن المعاملة، ولا يمكن أن يستقيم في تعامله مع الله وينحرف في تعامله مع المخلوقين؛ لأن الاستقامة مع الله سبحانه وتعالى تقتضي لين الجانب لعباده والاستقامة في الخلق، ولا يمكن أن يكون الإنسان مؤدياً لحقوق الأقربين مقصراً في حقوق الأبعدين فيكون على الصراط المستقيم؛ لأن أداء حقوق الأقربين مقتضٍ منه للزيادة في أداء حقوق الآخرين حتى لا يكون مطففاً.
ومن هنا فهذا المنهج الرباني متكامل يكمل بعضه بعضاً، وإذا حصل الميل في جانب من جوانبه أدى ذلك إلى اختلال البنيان كله، ألا ترون أن حجراً واحداً في أساس البنيان إذا كان مائلاً فبنيت عليه الأسوار الطويلة والمباني الشاهقة، كان ذلك سبباً لتزحزح تلك المباني الطويلة، ولا يقول أحد: هذا الحجر مساحته يسيرة صغيرة، والبناء طويل جداً، لعلمه أن ذلك البناء الطويل مبني على ذلك الحجر الواحد، فإذا مال مال البنيان كله.
من هنا على الإنسان أن يحرص على الاعتدال في كل هذه الأمور على المنهج المستقيم، وأن يحرص على الانطلاق من هذا المنهج في كل صغيرة وكبيرة، وهو بالاستسلام لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد أن نرضى جميعاً بكل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء تعلق بالعقائد أو بالعبادات أو بالمعاملات أو بالأخلاق أو بأمور الدنيا، فلابد أن نستسلم؛ لأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الصراط، ومن زاد فيه أو نقص منه فإنما خرج عن ذلك الصراط وضل ضلالاً بعيداً، وسيستمر في غوايته؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين أن من ضل عن بداية الطريق لابد أن يفتن بأنواع الفتن التي تقصيه، ولا يزال في ابتعاد عن المحجة بعد ذلك، قال الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:110 - 111].
فلابد إذاً من الحرص على هذا الصراط المعتدل المستقيم، والغريب في الشأن أن هذا الصراط هو أيسر السبل وأقومها، وأن كثيراً من الناس لا يصبرون على الاستقامة، فهم يملون العافية، نسأل الله الاستقامة والثبات، ومن هنا فيريدون الزيادة أو النقص من دين الله كحال أهل سبأ، الذين أنعم الله عليهم بأنواع النعم في الأرض والأمن واستقامة الحرث وغير ذلك، فملوا هذا: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ:19].
فلنحذر من أن نمل العافية، ولنحرص على الاستقامة على هذا الدين وعلى وسطه وسوائه.(29/6)
خطورة الغلو في الدين
ثم علينا أن نتعلم أن الميل ذات اليمين أو ذات الشمال في أي جانب من جوانبه مقتض لاستمرار ذلك في الجوانب الأخرى من حيث لا يشعر الإنسان.
فمثلاً: في الجانب العقدي، إذا أخذ الإنسان بسواء الطريق، أدى ذلك منه لاستقامة عمله كله، ولانطلاقه من المبدأ الصحيح، فلا يكون غالياً مجاوزاً للحد في الاعتقاد، فذلك مدعاة لمسلسل من الأخطاء لا حصر له، وإذا بالغ الإنسان في إتباع ما تشابه من القرآن, أو في إتباع ما تشابه من السنة وغلا في ذلك لابد أن يصل إلى حد يكون به مبتدعاً آتياً بما لم يأت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما لم يقله أحد من قبله، ومن هنا يزداد ضلالاً بعيداً ولا يزال في ذلك الطريق المظلم الموحش، نسأل الله الثبات والاستقامة.
وهذا الذي يؤدي بالناس إلى تكفير المسلمين، ويؤدي بهم إلى الغلو في الدين، بأن يأخذوا جزئية واحدة ليست من المحكم البين فيجعلوها محكاً للناس ومعياراً لهم، يمتحنونهم على أساسها، فليس ذلك من المنهج الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإنما كان يأخذ الناس بمحكم الدين وبالأسهل والأخف، وعندما سأله جبريل عن الإيمان ذكر ستة أمور فقط، قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره).
وعندما أتاه رجل وقد حضر الصف فقال: (يا رسول الله! أسلم وأقاتل أو أقاتل ثم أسلم؟ قال: أسلم ثم قاتل، فقال: أشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله، وقاتل فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمل هذا قليلاً وأجر كثيراً).(29/7)
براءة الدين من التكلف
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المتكلفين، لذلك لا تجدون في أي حديث ولا في أيه آية مناظرة على الطريقة المنطقية، أو على الطريقة الفلسفية، مع أي حبر من أحبار أهل الكتاب، أو عالم من علماء ذلك الزمان، أو فيلسوف من فلاسفتهم، بل عندما جاء نصارى نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه فيهم الكتاب المحكم البين من سورة آل عمران حين قال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]، وعرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المباهلة التي أمره الله بها.
وكذلك في مجادلته للمشركين إنما كان يقرأ عليهم القرآن، فعندما أتاه عتبة بن ربيعة وهو ابن عمه، وكان شيخاً كبيراً محترماً في قريش، وأراد أن يجادله وذكر له حجج المشركين التي أوحتها إليهم الشياطين {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:121]، استمع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل أدب حتى أكمل ما معه من الحجج، فقال له: اسمع أبا الوليد، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم: {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:1 - 4]، حتى قرأ عليه صدر هذه السورة، فهذه مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي يقنع الناس، فما يظنه الناس سبباً للهداية أو سبباً للإقناع من النظر الفلسفي والمنطقي وتركيب الأشكال والجدل وغير ذلك، فإن أدى إلى إقناع شخص فليكن ذلك الشخص واحداً في المليون، وقد أسلم الملايين المملينة في أنحاء الأرض مشارقها ومغاربها من غير مجادلات فلسفية ولا تركيب أشكال منطقية.
وقرئ عليهم هذا القرآن، فمن هداه الله منهم رأى أنه عين الصواب والحق واستسلم له، ولذلك فإن رجلاً من أحبار اليهود من أهل اليمن كان في ديره يتعبد ذات ليلة، فمر راكب من حوله يقرأ سورة النساء، فاستمع إليه الراهب حتى بلغ قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء:47]، فلما سمع هذه الآية نزل مسرعاً من الدير وأقبل إلى المدينة مؤمناً وهو يلمس وجهه ويخاف أن يطمس على قفاه قبل أن يقبل الله إسلامه! وهكذا فإن أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير حين قدما المدينة وذهبا إلى بني عبد الأشهل وجاءهم أسيد بن حضير يريد طردهما من المدينة، وقد أرسله بذلك سعد بن معاذ، أقبلا إليه فرحبا به وأدنيا مجلسه، ثم قالا: هل لك في أن نعرض عليك بعض ما جئنا به من هذا الكتاب الذي أنزل على صاحبنا -أي: على رسول الله صلى الله عليه وسلم- فإن كان حقاً عندك قبلته، وإلا خرجنا وتركنا لك مكانك، فقال: قد أنصفتما، فجلس إليهما فقرآ عليه القرآن فبادر إلى الإيمان ولم يخالف في كلمة واحدة مما قرئ عليه.
ومثل هذا ما حصل لـ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه عندما أرسل المشركون عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى النجاشي بالهدايا، وهم يريدون إخراج المهاجرين من الحبشة، وأتيا التجار الكبار والملأ من أهل الحبشة فزينا لهم إخراج المهاجرين، وقالوا: هؤلاء يزعمون أن عيسى عبد مملوك -وأولئك يعبدون عيسى من دون الله! ويزعمونه ابناً لله- فشق ذلك على المهاجرين، فلما دعاهم الملك للمناظرة، وجمع حوله الملأ من قومه قام عمرو بن العاص فتكلم فقال: إن هؤلاء يزعمون أن عيسى عبد مملوك، فتقدم جعفر بن أبي طالب فبين لهم عقيدة المسلمين في عيسى وقرأ الآيات التي أنزلها الله في ذلك: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، وبين أنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فأخذ النجاشي عوداً فقال: والذي يحلف به النجاشي لم يزد عيسى على هذا شيئاً قدر هذا العود، فاقتنع النجاشي بذلك وأسلم وحسن إسلامه، ورجع وفد المشركين خائناً.(29/8)
النقص والتقصير في جانب الاعتقاد يؤدي إلى التفريط في أمور كثيرة
وفي المقابل أيضاً إذا حصل التقصير في جانب الاعتقاد والنقص فيه، أدى ذلك أيضاً إلى التفريط في كثير من الأمور التي عليها ينبني أمر هذا الدين، فلابد أن نعلم أن التفريط في هذا الجانب مقتض لأن يقبل غير المسلم في المسلمين، وأن يتغاضى عن الكفر الصريح، وأن يتغاضى عن التعدي على حدود الله، وأن يتغاضى عن الابتداع البين الذي هو هدم للدين، وأن يترك ركناً من أركان الدين، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يترك ما أخذ الله علينا العهد به من القيام بالقسط والعدل في الأرض، وهذا ما أكده الله في كتابه، فقد قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135]، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8].
ومن هنا فالذين يريدون التنازل والمحاباة والمسامحة لابد أن يصلوا إلى خروج ومروق عن الجادة بالكلية، فهذا الدين دين فرقان يميز بين الحق والباطل، ولا يمكن أبداً أن يلبس فيه الحق بالباطل، فلبس الحق بالباطل هو الفتنة بعينها، وقد قال الربيع بين أبي الحقيق: إنا إذا مالت دواعي الهوى وأنصت السامع للقائل واصطرع القوم بألبابهم نقضي بحكم عادل فاصل لا نجعل الباطل حقاً ولا نلط دون الحق بالباطل نخاف أن تسفه أحلامنا فنخمل الدهر مع الخامل(29/9)
خطورة التسامح والمحاباة على حساب الدين
فلذلك لا يجوز أن يصل الإنسان في محاباة الناس إلى حد التجاوز، فقد عرض على الرسول صلى الله عليه وسلم أقل من ذلك فلم يقبل، وعندما عرض عليه المشركون أن يسكت عن سب آلهتهم لم يفعل في البداية حتى أنزل عليه في ذلك الأمر المؤقت فقط: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108].
وعندما عرضوا عليه أن يعبد آلهتهم ويعبدوا إلهه أنزل الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:5] * {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1 - 6].
فعرفوا أنها المفاصلة، ولا يمكن أن يقع بعدها أي ميل ولا ركون، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، وقال تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:73 - 75].
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربي أصحابه على هذا المنهج، فهذا سعد بن أبي وقاص تضغط عليه أمه وهي أحب الناس إليه وأمنه عليه وتضرب عن الطعام! فلما كادت أن تموت أتاها سعد فهمس في أذنها فقال: يا أماه! لو كان لك مائة نفس فخرجت نفساً تلو أخرى على أن أرجع عن شيء من ديني ما رجعت فاحيي أو فموتي.
فلذلك لابد أن نعلم أن مسلسل التراجع والمسامحة سيصل بالناس إلى ما يعرف اليوم بالأنترفيت أي: الدين العالمي، وهو دين مشوه يجمع كل الأديان وكل الأيديولوجيات، وقد بدأ في الولايات المتحدة الأمريكية، وأراد به أصحابه أن يجمعوا -أولاً- الديانات الثلاث السماوية، ويأخذوا الأمور المتفق عليها بين المسلمين واليهود والنصارى فيجعلون من ذلك ديناً موحداً! وهذا ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، وهو غاية في التغيير والتبديل.
ومثل هذا ما حصل لدى بعض المسلمين -أيضاً- من السعي لمحاباة المبتدعة، حتى أرادوا أن يجعلوا مذهباً خامساً للمسلمين متفقاً عليه وهو المذهب الجعفري! وقد انعقد لذلك مؤتمر في الأزهر لإرضاء الشيعة، وأرادوا أن يتكلموا عن المذاهب الخمسة، وأن يجعلوا مع المذاهب الفقهية السنية المتبوعة مذهباً خامساً وهو مذهب الجعفرية لمجرد السياسة وإرضاء الشيعة الروافض.
وهذا لا يمكن أن يستقيم بحال من الأحوال، ولا أن يقره المسلمون، ولا أن يرضوا به، وقد حاول المستعمرون من قبل كثيراً من الطعن في الدين ومن محاولة التراجع عنه، فلم يستجب لهم المسلمون، والذين يستجيبون لمثل هذه الدعايات لابد أن يتركهم التاريخ على الأثر، ولهذا فقد قال الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله وهو في بيئة مليئة بالشيعة وأنواع المبتدعة: لقد حاولت في بداية الأمر في سوريا ولبنان الدعوة إلى التقريب بين أهل السنة والشيعة، حتى تبين لي أني أضرب في حديد بارد، وأن هذا الأمر لا يمكن أن يستقيم بحال من الأحوال، فما اتفق معهم على شيء إلا نقضوه، فعرف أن ذلك من المستحيلات وأنه لا يمكن أن يقع، ولهذا ذكر في كتابه السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، أن من أراد السعي للتقريب فلابد أن يكون مسعاه بتقريب المبتدعة إلى الصراط المستقيم، لا إلى تقريب الصراط المستقيم إلى المبتدعة، فالصراط المستقيم ثابت في مكانه.
فلذلك لا حرج في أن ندعو المبتدعة إلى ترك ما هم عليه من بدعهم وتقريبهم إلى الصراط المستقيم، لكن من المستحيل أن نحاول تقريب الصراط المستقيم إليهم وزحزحته عن مكانه.
فهذا في جانب الاعتقاد.(29/10)
وجوب إعطاء كل ذي حق حقه
أما في جانب العبادة فمن المعلوم كذلك أن الله سبحانه وتعالى أعطى للمخلوق حقوقاً، فلعينه حق، ولزوره حق، ولأهله حق ولعمله الدنيوي حق، ولغرمائه حق، ولذريته حق، ولجيرانه حق، ولدعوته حق، وهذه الحقوق لابد من أدائها، فمن أداء حق الله الحرص على أداء كل حق رتبه الله، والذين يتغافلون عن هذا أو ينسونه إنما يجعلون العباد نداً لله فيظنون أن تلك الحقوق ند لحق الله، وهذا غاية في الانحراف؛ لأن تلك الحقوق ما رتبت إلا بترتيب الله.
فمن حق الله عليك أن تنام عند حاجة بدنك إلى النوم، ومن حق الله عليك أن تأكل عند حاجة بدنك إلى الأكل، ومن حق الله عليك أن تشرب عند حاجة بدنك إلى الشرب، ولذلك أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنكار البالغ، على الرجل الذي كان قائماً في الشمس لا يستظل، وبين أن هذا من الغلو الشديد، وأن من رغب عن سنته فليس منه، وأنكر كذلك على الثلاثة الذين قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأما أنا فأقوم ولا أرقد، وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً حتى عرف الغضب في وجهه وقال: (أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
ونهى الذين أرادوا التبتل ومنهم عثمان بن مظعون رضي الله عنه، ونهى أيضاً الحولاء بنت تويت وكانت امرأة من بني تيم بن مرة، كان ينفق عليها أبو بكر، فكانت تقوم الليل كله ولا تنام، وكانت تصوم الدهر كله، فجاءت تزور عائشة رضي الله عنها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من هذه؟ فقالت: فلانة.
تذكر من صلاتها وصيامها -أي: تثني عليها عائشة بذلك- فقال رسول الله: (مه! اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، إن الله لا يمل حتى تملوا).
ومعناه: اجتهدوا أن تؤدوا من الأعمال الصالحة ما تطيقون فقط، ولا تكلفوا أنفسكم ما لا تطيق.
وقال لـ عبد الله بن عمرو بن العاص حين كان شاباً قوياً فكان يصوم النهار دائماً ويقوم أكثر الليل: (إن لعينك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه)، وأمره أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فقال: إني أستطيع أكثر من ذلك، فأمره أن يصوم يومين من الأسبوع: الإثنين والخميس، فقال: إني أستطيع أكثر من ذلك، فأمره أن يصوم صيام داود: أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فلما كبر عبد الله وضعفت سنه قال: ليتني أخذت برخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعندما دخل في اليوم العشرين من رمضان، والرسول يريد أن يدخل معتكفه فرأى الأخبية في المسجد قد كثرت فقال: (ما هذا؟ فقيل: أمهات المؤمنين يعتكفن فقال: آلبر ترون بهن؟).(29/11)
الاجتهاد الزائد في العبادة شر وضلال
فذلك لابد أن يعرف الإنسان أن الاجتهاد الزائد في أداء حق الله في مقابل التعطيل لحقوق الآدميين ليس من الاستقامة على المنهج الصحيح، ولا هو من سلوك سواء الطريق، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلاً من الأنصار يلزم المسجد فسأل: من يقوم عليه؟ فقيل: أخوه، فذكر أن أخاه الذي يعمل ويجاهد ويجمع المال من حله وينفق على أخيه هذا أفضل منه، وهذا يقتضي أن المؤمن المعتدل المتكسب الذي ينفق على من تلزمه نفقته أفضل من الذي ينقطع للعبادة فيكون كلاً على الآخرين وعالة عليهم.
من هنا علينا أن نعلم أن الإنسان إذا أراد المبالغة في العبادة وتجاوز الحد فحينئذ لا يمكن أن يشاد الدين إلا غلبه، ولابد أن يأتي وقت يضعف فيه أمام بدنه، أو أمام عقله، أو أمام نفسه، أو أمام شهوته، أو أمام المرض الذي يصيبه، ولابد كذلك أن يصاب بإحباط من كثرة ما يحصل، ولذلك حصل لبعض الذين دخلوا هذا الباب وبالغوا فيه أنه كان يظن أن مقامه عال جداً، فلما حضره الموت ندم غاية الندم وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب.(29/12)
يبتلى المبالغون في العبادة باحتقار المنهج المستقيم
فالذي يريد المبالغة في العبادة وتجاوز الحد فيها لابد أن يبتلى بأحد أمور: إما أن يحتقر المنهج المستقيم فيريد أن يزيد على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا غاية الضلال البعيد، ولذلك قال ابن مسعود: (كل عبادة لم يتعبدها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً).
وقاعدة أهل السنة والجماعة: لو كان خيراً لسبقونا إليه، وهي عكس قاعدة المشركين، فالمشركون يقولون: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11].
كل خير فهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به أصحابه رضوان الله عليهم، ولا يمكن أن يأتي الآخر بأفضل مما جاءوا به، ولهذا قال مالك رحمه الله: إن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها.(29/13)
يبتلى المبالغون في العبادة بالابتداع
أو أن يبتلى بأمر آخر وهو: الابتداع، بحيث يشرع ما لم يأذن به الله، فيظن أن الدين ناقص وأنه يكمله من عنده، وهذا شريك الأول في الضلال المبين؛ لأنه زعم أن الله تعالى لا يعلم ما يتمم به دينه ويكمله، فجاء هو ليكمله باجتهاد من عنده! وقد ذكر الشاطبي رحمه الله أن أعظم ما في البدع من المنكر: أن صاحبها يظن أنه يكمل الدين، وأن الدين كان ناقصاً قبل اجتهاده هو، وأنه جاء بجديد يكمل به الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهو يزعم أن قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] غير صحيح، نسأل الله السلامة والعافية.(29/14)
يبتلى المبالغون في العبادة بالغرور
أو أن يبتلى بالغرور، بأن يبالغ في العبادة فيظن نفسه وصل إلى مقام عالٍ، وقد يخيل إليه الشيطان أنه قد حطت عنه التكاليف، وأن له أن يقع في المناكر والمعاصي! ويظن بذلك أنه وصل إلى مقام لا يتضرر بالمعصية، كما زعم اليهود الذين قالوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80]، فهذا الحال هو من سلوك طريقهم، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لابد أن يكون في هذه الأمة من يسلك طريقهم، فقال: (لتتبعن سنن من قبلكم، شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذاً؟!).
فاليهود الذين قالوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [آل عمران:24] اتبع آثارهم غلاة الناس في العبادة من هذه الأمة الذين يزعمون أنهم وصلوا إلى مقام لا يعذبهم الله فيه، بل يصل الغرور ببعضهم إلى درجة كبيرة من الوقاحة فيقول: لو أن الله رماني في النار لانطفأت! نسأل الله السلام والعافية.
فهذا غاية في الانحراف والبعد عن الطريق المستقيم، وعن هذه المحجة.(29/15)
يبتلى المبالغون في العبادة بقولهم بوحدة الوجود وترك العمل
بل ربما ابتلي بأمر آخر وهو: أن يزعم أنه وصل إلى مقام يتحد فيه العابد بالمعبود، وهو الذي يسمونه بوحدة الوجود، أو بمقام الحلول، أو بوحدة الوحدة، أو بالاتحاد، أو بوحدة الشهود، وكلها اصطلاحات ترجع إلى هذه الفكرة من أصلها، وإن كانت بينها فروق دقيقة.
فيزعمون أن الإنسان إذا عرف أتاه اليقين ويتأولون قول الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] بهذا، وهذا غاية في الغلط وسوء الفهم، فاليقين الموت، (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) أي: حتى يأتيك الموت، والذين يزعمون أن المقصود باليقين هنا مقام معلوم يصلون إليه، قد انحرفوا غاية الانحراف وضلوا عن سواء السبيل وقادهم الشيطان بأزمتهم إلى الكفر البواح، نسأل الله السلامة والعافية.
وربما ابتلي المبالغ في العبادة أيضاً بأمر آخر وهو بالازدراء، فيسول له الشيطان أن كل عمله غير مقبول عند الله، وبالتالي فأداؤه للعمل وتركه له سواء، ومن هنا سيترك العمل من هذا الوجه، بل ربما ابتلي بالوسوسة في الإخلاص، فيظن كل عمل غير خالص، فلا يزال يعيد الصلاة أو يعيد الوضوء، كما ترون الموسوسين الذين إذا غسل أحدهم وجهه لم يكد ينتهي منه، والمبالغين في العبادات يصابون بأنواع من البلاء، وهكذا الذين يتجاوزون الحد المشروع يصابون بكثير من أنواع البلاء من هذا القبيل.(29/16)
التفريط سبب لسوء الخاتمة
وبالمقابل المقصرون أصحاب التفريط في العبادة هم الذين ابتلوا بالميل ذات الشمال عن هذا الصراط، فنسوا الحكمة التي من أجلها خلقوا، ونسوا أنهم ما خلقوا إلا لعبادة الله، ففرطوا في عبادته وقصروا فيها، وتمنوا على الله الأماني وتعلقوا بالظنون، ولذلك فإن الشيطان يستهويهم إلى الوقوع في معاصي الله، ولا يذكرهم إلا بآيات الوعد وأحاديثه وينسون الوعيد.
أولئك يتركون في البداية المندوبات، ثم يتركون السنن، ثم يوصلهم ذلك إلى ترك بعض الواجبات، ثم إلى ترك الأركان، ثم إلى سوء الخاتمة عند الموت، نسأل الله السلامة والعافية، فكل تقصير وترك للعبادة فهو مدعاة لأن يأخذ الإنسان نقصاً وتقصيراً من المقام الذي فوق ذلك الذي انتقص منه.(29/17)
التقصير في العبادة رضا بالدون ودناءة في الهمة
كذلك فإن التقصير في العبادة مقتضٍ من الإنسان ألا تكون همته عالية وأن يرضى بأقل المنازل، فمن كانت همته عالية أراد أن يزداد كل يوم بل كل ساعة قرباً إلى الله، وأن يكون من المنافسين في الدرجات العلى من الجنة، وأن يكون من الذين تتجافى جنوبهم عن مضاجعهم عند النوم يتذكرون السباق، وأن الله سبحانه وتعالى قد فتح المسابقة الآن لعباده، فمن لم يخذله الله كان من المتسابقين إليه بالطاعات في هذا الوقت الذي فتحت فيه أبواب العبادة، وأذن فيه الملك الديان للمناجين بالمناجاة له، ولم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أودية، ولا رفع شعاباً، فهم يتسابقون في التقرب إليه: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57]، {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].
والذي يقصر في العبادة في الرخاء، إذا جاء وقت الشدة لم يكن من الذين تستجاب دعواتهم في ذلك الوقت؛ لأنه لم يتعرف إلى الله في الرخاء، (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة).
والذين يقصرون في العبادة لا يكونون أئمة ولا سادة للمؤمنين، والله سبحانه وتعالى أرشدنا إلى الدعاء بهذا الدعاء {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74].(29/18)
التقصير في العبادة غلظ في الطبع وجفاء
والذين يقصرون في العبادة لا يمكن أن يتذوقوا طعم الخدمة الخاصة للجبار سبحانه وتعالى، ولا أن يستشعروا نعمة الانتساب إليه سبحانه وتعالى، فلذلك لابد أن يوجد فيهم من الجفاء وغلظ الطبع وسوء المعاملة وسوء الأدب مع الله سبحانه وتعالى ومع رسوله ومع شرعه الشيء الكثير، فهم لا يحترمون القرآن ولا يقدرون السنة، ولا يحترمون شعائر الله ولا يعظمونها: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
ولذلك لا يحبون الناس الحب في الله، فإذا رأوا من يعبد الله سبحانه وتعالى ويحبه ويدعو إليه لا يحبونه، ولا يجدون في أنفسهم حباً له؛ لأن الجانب العاطفي في التعامل مع الله لديهم قد انخرم، وبذلك لا يعرفون الحب في الله، فالحب في الله إنما يكون من الاستقامة على المنهج ولزوم عبادته، فإذا عرفت أنك مقصر في أداء حق الله الذي يستحقه من العبادة أحببت جبريل وميكائل؛ لأنهما يعبدان الله العبادة التي يستحق، وأحببت كل عابد لله؛ لأنه يؤدي الحق الذي تحب أنت أن تؤديه وأنت عاجز عنه.
وكذلك فإن الذين يقصرون في العبادة يصابون بأمراض أخرى، من أعظمها الجسارة على المعصية، فإن العابد لله سبحانه وتعالى تنهاه عبادته عن المعصية، قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]، والذي لا يجد هذا السور بينه وبين المعصية كان مع المعصية في لحاف واحد، يجد نفسه معها في كل أحيانه، بينما من كان في العبادة بينه وبين المعصية سور عظيم، ومن هنا فجوارحه لا تنقاد إلى المعصية وتستمر فيها حتى لو استزله الشيطان إليها، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201].(29/19)
التقصير في السنن خلل يتعدى إلى الفرض
إذا قصر الإنسان في رواتب الصلاة فلابد أن تقع في الصلاة خدوش، وما يشكوه الناس من جمود الدموع، فإذا قرئ القرآن لا يبكون، مع أنه لو قرئ على الجبال لتفجر منها الماء، {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21]؛ سببه التقصير في العبادة.
وما يشكوه الناس من عدم الخشوع في الصلاة سببه التقصير في النوافل، وأنتم تعرفون أن كثيراً من الناس يطمئنون في الفريضة ما لا يطمئنون في النافلة، وإذا أراد أحدهم أن يصلي النافلة نقرها نقراً ولم يبال بها، حتى في الاستقبال وفي الالتفات وفي عدم تسوية الظهر في الركوع وغير ذلك، وإذا أراد أن يؤدي الفريضة حاول إتقانها، لكن لا يمكن أن يتقن الفريضة ما دامت نافلته هكذا.
فالنفل هو سياج الفرض، وكل خدش فيه سيصل إلى الفرض، ولذلك مثل العلماء للنافلة -وبالأخص الرواتب للصلوات- بأنها كلحاء العود، وإذا انتزع اللحاء يبس العود -اللحاء: القشر- والذين يقصرون في عبادة الله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن يكونوا من أوليائه؛ لأن أولياءه هم الذين يأنسون به سبحانه وتعالى، فلا يحزنون عندما يحزن الناس، وإذا جاءت المصائب عرفوا أنها من عند الله، وأنها كانت مكتوبة قبل أن تكون، فرضوا بما قدره الله، وإذا جاء الرخاء والسراء لم يغتروا بذلك؛ لعلمهم أن ذلك كان مكتوباً وله أجل مسمى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:22 - 23].(29/20)
وجوب لزوم المنهج الوسطي في العبادة وهو المنهج النبوي
فلابد من لزوم المنهج الوسطي الذي ليس فيه إفراط ولا تفريط في جانب التعبد.
وليعلم الإنسان أن خير العبادة عبادة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تلك العبادة متنوعة بتنوع الحال، وأنها مترتبة على الأوقات والأزمنة، فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله في الصباح حاول أن تقوله في الصباح، وما كان يقوله في المساء حاول أن تقوله في المساء، وما كان يفعله إذا أوى إلى فراشه فحاول أن تفعله، وما كان يفعله في قيام الليل فحاول أن تفعله، وما كان يفعله من الرواتب، وما كان يفعله في الحضر والسفر من العبادات فحاول أن تؤديه، وبذلك تكون قد لزمت سواء الطريق، ولا تجد ما يتعب بدنك ولا ما يتعب عقلك ولا ما يتعب روحك، ولا تكون مقصراً، بل تكون من المزادين في القرب، الذين يسيرون سيراً وئيداً يؤدي إلى المقصود دون استعجال، وبكل تأنٍ وتؤدة.
وهذا ما يحبه الله ورسوله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أشج عبد قيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة).
فإذا كان الإنسان متأنياً في عبادته يؤديها بصدق وإخلاص وبحضور بال، ويكلف منها ما يستطيع وما يطيق، ولم يكن من الذين يريدون خرق المسافات وقطع الطريق في أسرع الأوقات، الذين لا يبقون ظهراً ولا يقطعون مسافة؛ فإنه بذلك سيصل إن شاء الله تعالى إلى المقام المرضي عند الله، ولا يزال في زيادة وترق طيلة حياته، فإذا عجز عن شيء كتب له كاملاً كما كان يفعله في صحته، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى لملائكته إذا مرض العبد أو سافر: انظروا ما كان يفعله عبدي في صحته وحضره فاكتبوه له).
فالله سبحانه وتعالى لا يمل حتى تملوا، وهو غني عنا وعن عبادتنا، ولا يمكن أن نتقرب إليه بما لم يشرع لنا، فالذي يمكن أن تضره ويمكن أن تنفعه يمكن أن تتقرب إليه بنفع لم يأمرك به، ويمكن أن ترفع عنه ضرراً لم يأمرك برفعه، لكن الذي لا يمكن أن تنفعه ولا أن تضره، لا يمكن أن تتقرب إليه إلا بما شرع لك وبين، ولا يمكن أن تتجاوز ذلك بحال من الأحوال.(29/21)
وجوب التوسط في جمع المال
كذلك في جانب المعاملة، لابد أن نعلم أن أكثر ما يفرق القلوب في المعاملات هو ما يتعلق بالمال، فجمع المال لابد فيه من التوسط بلا إفراط ولا تفريط، فالذين يفرطون في جمعه وينفقون أوقاتهم لجمعه سيفقدون أوقاتاً ثمينة وفرصاً نادرة للعبادات، الذي يظل طيلة يومه مشتغلاً بالصفق في الأسواق، ستفوته أوقات الإجابة، سيفوته وقت النزول، سينام عن الأوقات التي يحصل فيها السباق بين العابدين المتسابقين إلى الله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، سيفوته الصف الأول في كثير من الأحيان، سيفوته الرباط: (سبق المفردون)، سيفوته كثير من الخيرات.(29/22)
البلايا التي يصاب بها المفرطون في أمر الدنيا
والذين يفرطون في جانب جمع المال يصابون ببلايا، من أعظمها: العبودية للمخلوق، فإن الإنسان مفطور على الحاجة والفقر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15].
ومن هنا فإذا كان الإنسان عازفاً عن مزاولة الدنيا بالكلية، لا يعمل أي عمل يدر عليه نفقته فهو عبد لغيره، فالذي ينفق عليه له عليه كل الضغوط؛ لأنه يخافه ويحبه ويمكن أن يطيعه في كثير من المواقف، ولذلك لابد في تحقيق العبودية لله من الاستغناء عن المخلوقين، وأن يجد الإنسان نفسه وليس عليه لأحد أي ضغط، فلا خوف ولا طمع يصده عن قول الحق وعن العبودية لله سبحانه وتعالى، وبذلك يستطيع الإنسان التحرر من الأغيار، وما لم يفعل الإنسان ذلك فهو تبع لغيره، ومن عيال الغير، محتاج إلى من يقوم على شئونه في كل أوقاته.
كذلك مما يبتلى به المفرط في أمور الدنيا: أنه كثيراً ما تتعلق نفسه بها وقلبه بها فيبتلى بمحبتها من حيث لا يشعر، وإن كان يتصنع في الظاهر ويبدي للناس أنه لا يحبها، لكن قلبه مائل إليها، ومن هنا نشاهد اليوم أهل الكنيسة وهم يتظاهرون بالانقطاع عن الدنيا وهم أشد الناس ولوغاً فيها، بل لا تكاد تنصرم مدة يسيرة إلا وفضائحهم تعلن في الإعلام! وقد كانوا في الصدر الأول قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمعون الأموال ويكنزونها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم قصصاً من ذلك، والمنقطعون فيما يبدو للناس كثيراً ما يأتيهم الشيطان من قبل الشبهات ومن قبل الشهوات، وكثيراً ما يصابون بضعف في العقل يقتضي من الشيطان أن يستضعفهم فيوسوس لهم الوساوس، فيتخيل أحدهم المرائي في يقظته، فيرى أنه رأى كذا يقظة لا مناماً، وهي أحلام ورؤى، وهي أضعف من مرائي النوم.
مرائي اليقظة التي تحصل للإنسان إذا جاع أو مرض أو أجهد نفسه بالرياضات، يرى في اليقظة مثلما يرى في المنام، كالذي يصاب بحمى الملاريا، فإنه في حال يقظته يهذي كأنه يحلم وهو يقظان غير نائم، فكذلك الذي أجهد نفسه في العبادات ولم يسلك الطريق السوي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يصاب بهذا الهذيان، فيرى أحلاماً في اليقظة فيخيل إليه أنها صدق، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم أو جبريل أو اللوح المحفوظ أو غير ذلك من الأمور، وكلها من أحلام اليقظة، وذلك أنه عندما ضعف ضعفاً شديداً خيل له الشيطان ذلك.
وقد يكون بعضها من المرائي لكنها أضعف درجة من رؤيا النوم، فرؤيا النوم أقوى منها؛ لأنه في جسمه وعقله أقوى منه عند استضعافه في حال اليقظة.
كذلك فإن الذي يبالغ في الانقطاع عن الدنيا كثيراً ما يصاب بالتفريط في حقوق الآخرين، فهو مفرط في حقوق بدنه من الرعاية الصحية والنظافة، ومفرط في رعاية أهله، ومفرط في أداء ديونه وقضاء حقوقه، كل هذه الأمور يفرط فيها والشيطان يغره بأن الذي عليه هو الصواب، وهو كلما ازداد به العمر ازداد بعداً عن المحجة والصراط المستقيم.(29/23)
التقصير في جمع الدنيا ليس منهجاً نبوياً ولا فعله السلف
وفي المقابل لابد من أن نعرف أن التقصير في جمعها هو قصور من الإنسان، فالذي ينصرف عنها بالكلية، ولا يريد أن يدبر شيئاً من أمور الدنيا، ولا أن يكتسب شيئاً: خارج عن المنهج الصحيح، ولم يسلك طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بالأسباب وأعملها ولم يتركها، ولو كان الزهد المحمود شرعاً مقتضياً لترك الأسباب والانقطاع للعبادة والرهبانية، لعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما لم يعملوه، ووجدنا منهم التجار، ووجدنا منهم الأغنياء المنفقين في سبيل الله، ووجدنا أوقاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق منها على الآلاف من الأرامل واليتامى، ووجدنا أنه ادخر قوت سنة لأهل بيته، ووجدنا أنه صلى الله عليه وسلم أفاء الله عليه أرض بني النضير، فادخر بعضها لعياله، ووجدنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يغرس النخل بيده بأبي هو وأمي، وكان يحلب الماء بيده صلى الله عليه وسلم، وساعد في غراس نخل سلمان الذي كاتبه عليه أولياؤه، ورأيناه يذهب إلى الأسواق ويشتري ويمشي فيها، وهذا ما استنكره عليه المشركون، وأقره الله عليه في كتابه، ورأينا أصحابه وهم أفضل أهل الأرض بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، منهم التجار كـ أبي بكر رضي الله عنه الذي كان يعول كثيراً من الأسر وينفق عليهم من ربح تجارته، وكان رأس ماله أربعمائة درهم، فكان يبيع فيها في البز -أي: الملابس والزيت- فما ربح أنفقه على الذين ينفق عليهم.
ووجدنا كذلك عبد الرحمن بن عوف وكان تاجر الله في هذه الأرض، بارك الله له في صفقاته، فهو ينفق على كثير من اليتامى والمساكين، وقد أوصى بثلث ماله لبقية أهل بدر فكان غناهم جميعاً.
ووجدنا منهم الزبير بن العوام الذي كانت استثماراته في الأراضي الشاسعة والمزارع الكبيرة، وقد ترك مالاً كثيراً كان ثمنه الذي قسم بين زوجاته غنىً لهن! ومنهم أبو طلحة الأنصاري الذي كان له من المزارع الشيء الكثير، وكان يملك بيرحاء وهي أحسن مزرعة في المدينة، وكان يصلي تحت كل نخلة ركعتين.
ووجدنا منهم سعد بن عبادة بن دليم وكان من كبار التجار والأغنياء الذين إذا رجعوا من صلاة الضحى ذهبوا إلى مزارعهم، وإذا ارتفع النهار ذهبوا إلى تجاراتهم، فإذا حان وقت الزوال اشتغلوا بالصلاة، فإذا رجعوا منها قاموا بحق أهليهم، وهم يوزعون أوقاتهم هذا التوزيع، ولا يفوتهم شيء من الخير.
إذا عرفنا ذلك عرفنا أن المنهج المعتدل يقتضي عدم الإفراط وعدم التفريط.
فالذي يظن أن الزهد في الدنيا يقتضي منه ألا يشتغل بجمع الدنيا كاذب مخالف للمنهج الصحيح، وإنما سلك طريق اليهود والنصارى الذين ابتدعوا رهبانية من عند أنفسهم.
والذي يظن أن الله لا يرتضي لعباده جمع الدنيا من حلها كاذب، فإن الله تعالى خلق لنا ما في الأرض جميعاً وقال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15]، وجعلنا خلفاء في الأرض فقال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، وأمرنا بإصلاحها وعدم إفسادها بعد إصلاحها، فكل هذا يقتضي منا أن نعمل وأن نصلح في هذه الأرض، لكن مع ذلك لابد أن نعلم أن الإصلاح فيها، وأن جمعها لا يقتضي أن تكون في القلوب، بل تكون في الأيدي على وفق المنهج السابق.(29/24)
البلايا التي يصاب بها المبالغون في جمع الدنيا
والذي يبالغ في جمع المال وجمع حطام هذه الدنيا والاشتغال بها يصاب بعدد من البلايا: أولاً: أن تكبر هذه الدنيا في نفسه فتكون أكبر مبتغاه، وتكون غاية علمه، فيمتلئ بها قلبه ولو كانت يده صفراً منها، فالمشغولون في الدنيا ليسوا بالضرورة أغنياء، فكثير من الأغنياء الدنيا في أيديهم وليست في قلوبهم، وكثير من الفقراء الدنيا ليست في أيديهم ولكنها في قلوبهم! ولذلك فالمحذور شرعاً هو: تعلق القلب بها وأن يجعلها الإنسان أكبر همه ومبلغ علمه، وأن يكون عابداً لها، فخدمته وسعيه من أجلها، وهذا هو الخطر الماحق، وقد تضر بصاحبها ضرراً عظيماً فتؤدي به إلى حد التجاوز والطغيان، وقد قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] وقال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى:27].
فالبغي والطغيان وتجاوز الحد إنما يحصل بالمبالغة في جمع الدنيا.(29/25)
وجوب التوسط في الإنفاق
جانب آخر من هذه الجوانب يتعلق بالمال، فهذا الدين دين وسط بين الإفراط والتفريط، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]، فالذين يسرفون هم المفرطون الذين يبالغون في إنفاق المال فيضعونه في غير محله الشرعي وكأنه ملك لهم يتصرفون فيه حيث شاءوا وكيف شاءوا، والواقع أنه أمانة عندهم من الله سبحانه وتعالى استخلفهم فيها لينظر كيف يعملون.
ولهذا أدب الله رسوله صلى الله عليه وسلم على هذا المنهج القويم، فقال: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29]، فلابد أن يكون الإنسان متوسطاً في الصرف، وألا يكون مسرفاً وألا يكون مقصراً، فالحد الوسط هو المنهج الصحيح وهو الاعتدال في هذا الباب، الذين يفرطون في جانب الإنفاق يسرفون فيبالغون في الإنفاق، سواء كان ذلك في أمور الدنيا أو في أمور الآخرة، فيتجاوزون الحد المرضي شرعاً، ففي أمور الآخرة ينفقون أكثر مما حدده الشارع ويريدون بذلك المبالغة فيرجعون إلى الحد الذي ذكرناه في الإفراط في العبادة.
ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع أن ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه أنفق جذاذ نخله جميعاً في يوم واحد، غضب عليه غضباً شديداً، وعندما سمع أن رجلاً من الأنصار -وكان عليه دين- قد دبر ستة أعبُد، فعندما توفي جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد هذا التصرف وأقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة، وجعل له الثلث فقط.
وقد كان كثيراً ما يرد التصرفات في هذا الجانب إذا كان فيها غلو ومبالغة، فقد قال لـ كعب بن مالك عندما بشره بأن الله قد تاب عليه: (يا كعب بن مالك! أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، فقلت: يا رسول الله! أمن عند الله أم من عندك؟ فقال: بل من عند الله، فقلت: يا رسول الله! إن من تمام توبتي أن أخرج من مالي كله في سبيل الله، فقال: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك).
وكذلك عندما جاء يعود سعد بن أبي وقاص في حجة الوداع وهو مريض قال: (قلت له: يا رسول الله! إني ذو مال ولا يرثني إلا بنية لي، أفأتصدق بمالي كله في سبيل الله؟ قال: لا، قلت: أفأتصدق بثلثيه؟ قال: لا، قلت: أفأتصدق بثلثه؟ قال: فالثلث والثلث كثير -وفي رواية: كبير- إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، فقلت: يا رسول الله! أأخلف بعد أصحابي؟ قال: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليه حتى ما تجعل في فيِّ امرأتك، وعسى الله أن ينفع بك أقواماً ويضر بك آخرين)، فكان سعد آخر العشرة موتاً، وورثه اثنا عشر ولداً من أولاده لصلبه.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل من أولئك المبالغة في الإنفاق، وفي المقابل قد يقبل من بعض الناس ذلك؛ لعلمه بقوة إيمانه واستقامته على المنهج كـ أبي بكر، فقد خرج من ماله كله في سبيل الله وقبل ذلك منه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما جعل الله في قلبه من الإيمان والقناعة؛ ولأنه مكتسب عارف بأمور التجارات أيضاً؛ ولأنه -قطعاً- سيؤدي حقوق عياله ولا يمكن أن يظلمهم حقاً لهم، فلذلك قبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، أما من سواه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم ولا يقبل منهم هذا النوع من المبالغات.
وكذلك فإن الذي يبالغ في السرف فيما يتعلق بأمور الدنيا لابد أن يكون من المبذرين وهم إخوان الشياطين، وهذا النسب من شر الأنساب، نسأل الله السلامة والعافية.
وقد بين الله سبحانه وتعالى ضرر التبذير وأثره العظيم، وبين أنه سبحانه وتعالى لا يحب المسرفين، ولذلك قال العلامة محمد مولود بن أحمد رحمه الله: والسرف السرف إن السرفا عنه نهى الله تعالى وكفى ولا يحب المسرفين كافي في كف كفك عن الإسراف فيكفي في كف كفك عن الإسراف أن الله لا يحب المسرفين، فالسرف في أمور الدنيا يقتضي من الإنسان أن تكون الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه وأن يحبها حباً شديداً فهو يتتبع موضاتها ويشتغل بها غاية الاشتغال، فكلما ازداد حطبها ازداد لهبها، ويزداد الإنسان ولوعاً بها ويتعلق قلبه بها حتى يؤثرها على الآخرة نسأل الله السلامة والعافية، وقد قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20]، وقال تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:18 - 19].
كذلك في المقابل التقصير في مجال الإنفاق مقتضٍ للبخل، وأن لا يؤدي الإنسان الحقوق التي عليه، فالذي يمنع رفده ويأكل وحده ويضرب عبده شر الناس، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شر الناس من منع رفده وأكل وحده وضرب عبده).
قوله: (من منع رفده) معناه: منع الماعون ولم يعط خيره للآخرين، فلم ينفعهم مما آتاه الله، فقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن ننفق مما آتانا فقال: {امِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، وهذا يشمل الإنفاق على النفس، والأهل، والجيران، والإنفاق في أمور الدنيا، والإنفاق في أمور الدين، وتركه من التقصير والتقتير وهما مذمومان شرعاً.
فالمقترون مقصرون عن أداء الحقوق وهم متصفون بصفة البخل التي هي شر الصفات، والذي يتصف بها ويصاب بالشح لابد أن يبتلى بنقص الإيمان وتراجعه دائماً، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]، فالشحيح لا يفلح أبداً، فلذلك لابد من التوسط في هذا المنهج بين المبالغة بالإنفاق وبين التقتير والتقصير.(29/26)
الوسطية في الخلق
كذلك في جانب الخلق: من الأمور المهمة أن يعرف الإنسان أن المنهج المستقيم هو هذا الدين الوسطي الذي يقتضي من الإنسان تحسين الخلق للناس بألا يكون إمعة تابعاً، كل أموره يقضيها غيره، وألا يكون مستكبراً جواظاً لا يطيع في صغيرة ولا كبيرة، فالحد الوسط يقتضي من الإنسان أن يكون إيجابياً غير سلبي، كما قال الشاعر: لعمرك ما إن أبو مالك بواهٍ ولا بضعيف قواه ولا بألد له نازع يعادي أخاه إذا ما نهاه إذا سُدته سُدت مطواعة ومهما وكلت إليه كفاه وكما قال الآخر: إذا القوم أموا بيته فهو عامد لأحسن ما ظنوا به فهو فاعله يسرك مظلوماً ويرضيك ظالماً فكل الذي حملته فهو حامله فتىً قُدَّ قَدَّ السيف لا متضائل ولا رهل لباته وبآدله فهذا يقتضي من الإنسان تمام الشخصية، وألا يكون إمعة مقلداً في كل الأمر بحيث يقول: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، وبألا يكون أيضاً جافياً يتقيه الناس مخافة شره، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (شر الناس من تركه الناس اتقاء شره).
فلذلك لابد أن يحرص الإنسان على الاستقامة في الخلق، فلا يكون من الذين ينقادون لكل أحد فيقبلون البدع ويقبلون المنكر ويسكتون بمشاهدة المنكرات، ويظنون أن ذلك من الخلق والحياء، فهذا غلط، بل هو من الإفراط في الحياء حتى يتجاوز الإنسان الحد، وأنت ولو كنت صغيراً ضعيفاً فأنت مكلف من عند الله وجندي من جنود الله، ومن هنا فلابد أن تحرس الثغر التي تتولاه وألا يؤتي الإسلام من قبلك.
فلهذا لابد أن تكون يقظاً وأن تكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر كبيراً كنت أو صغيراً غنياً كنت أو فقيراً عالماً أو جاهلاً، لابد أن تقوم بالحق الذي عليك لله، وأن ترعى الدين فيما يليك وألا يدخل من هذا الثغر الذي أنت قائم عليه، فأنت حارس في الخدمة، ولا يغرك شيطان بدعوى الحياء، فإن الحياء الذي يمنع من تغيير المنكر أو الأمر بالمعروف أو السؤال عن أمر من الدين هو الحياء الذميم المقيت شرعاً، كما قال العلامة محمد مولود رحمه الله: أما الحيا الذميم فالمانع من تغيير منكر أو السؤال عن أمر من الدين ونحو ذلك وهو الذي عد من المهالك ولذلك فإن أم سليم رضي الله عنها عندما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة إذا احتلمت فرأت ما يراه الرجل هل عليها من غسل؟ قالت: إن الله لا يستحي من الحق.
وافتتحت كلامها بذلك.
فلابد أن يعلم الإنسان أن الاستحياء من الحق ذميم وليس من الخلق الطيب الحميد، وأن يعلم أن محاباة الناس والسير معهم في ما هم فيه، وحضور مجالسهم ولو كان فيها ما لا يرضي الله، والإغضاء عن ذلك ليس هو من الخلق الحميد، بل الخلق الحميد يقتضي من الإنسان أن يصبر على أذى الناس فيما يتعلق بشخصه هو، لكن لابد أن يغضب لغضب الله إذا انتهكت حرمات الله، فقد قالت عائشة رضي الله عنه: (ما انتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، وما غضب لنفسه، إنما كان يغضب لغضب الله إذا انتهكت حرمات الله)، فهذا الذي يغضب فيه المؤمن: يغضب إذا انتهكت حرمات الله، أما حقوقه هو فيتغاضى عنها ويسامح فيها، لكن حقوق الله لا يقبل فيها ذلك.
ومن هنا فالمبالغة في تحسين الخلق ولينه حتى لا يستطيع الإنسان أمراً بمعروف، ولا نهياً عن منكر، ولا قولاً للحق، ولا وقوفاً بموقف صواب، ويقتضي الخجل من قول الحق، ومن إنكار المنكر، كل هذا من الإفراط المذموم الذي لا خير فيه.
وفي المقابل أيضاً التفريط في الخلق بأن يكون الإنسان جافياً فظاً غليظاً في كل الأمر، حتى في أمر الله إذا أمر بمعروف أتى بفظاظة وغلظة، وإذا نهى عن منكر أتى بفظاظة وغلظة، وكأنه ملك قائم على رقاب العباد، فهذا النوع ليس مرضياً عند الله أيضاً، بل هو من التفريط في الخلق.
فلابد أن يكون الإنسان متأدباً بالخلق الذي اختاره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159].
إن التفريط في الخلق يقتضي من الإنسان أن يسوء أدبه مع والديه وهما أمن الناس عليه، وأن يسوء أدبه مع جيرانه المسلمين ولهم حقان: حق الجوار وحق الإسلام، وأن يسوء أدبه مع كبار السن من المسلمين، وقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم توقيرهم فقال: (لن تزال أمتي بخير ما دام كبيرها يرحم صغيرها، وصغيرها يوقر كبيرها).
ويقتضي سوء الأدب مع الملائكة الذين يشهدون على انتهاره للصغير واعتدائه على الحقوق، ويقتضي سوء الأدب مع الملك الديان سبحانه وتعالى، فلابد أن يتذكر الإنسان قدرة الله عليه، فهذا أبو مسعود البدري رضي الله عنه قال: (كنت أجلد غلاماً لي بالطريق فإذا صوت من ورائي يقول: اعلم أبا مسعود! فنظرت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، قال: قلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله، قال: أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار).
فلذلك كان التفريط في الخلق يقتضي من الإنسان أن يكون كالبهائم التي لا خير فيها، نسأل الله السلامة والعافية.
فلابد أن يحسن الإنسان خلقه وأن يهذب نفسه وأن يزكيها وأن يكون ذلك بالمنهج الصحيح وعلى وفق الخلق النبوي.(29/27)
شر الجمع بين الإفراط والتفريط في جانب الخلق
إن كثيراً من الناس اليوم في جانب الخلق يجمعون بين الإفراط والتفريط، ففي جانب لا يستطيعون إنكار المنكر ولا تغييره ويزعمون أن ذلك للحياء، وفي جانب التفريط لا يجالسون بعض الكبار كأصهارهم مثلاً ولا يؤاكلونهم، ويظنون أن ذلك من الحياء والخلق، وهذا إفراط والأول تفريط.
فكلا الأمرين مقيت شرعاً، فلو كان هذا من توقير الكبار؛ لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤاكل أبا بكر وعمر وعلياً وعثمان وهم جميعاً أصهاره، وكان يجالسهم في بيوتهم، (وأتى علياً وفاطمة وهما في فراشهما فقال: على مكانكما، حين أرادا القيام إليه، فجلس بينهما فجعل ظهره في بطن فاطمة ورجليه في بطن علي، قال علي: فأحسست برد رجليه في ظهري!).
فهذا من أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خلقه، ولا يمكن أن يرغب مؤمن عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يظن أن خلقاً أحسن من خلقه بحال من الأحوال، فالله تعالى يقول: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، فلا يمكن أن نأتي نحن بخلق من عند أنفسنا ويكون أعظم من خلق النبي صلى الله عليه وسلم أو أحسن منه، هذا من المستحيل.
فلذلك الذي يفعل مثل هذا النوع جمع بين الخصلتين، جمع بين الإفراط والتفريط، وهذا منتشر كثيراً، وقد علمت أن بعض البيئات عندنا هنا -مع الأسف- تجد الرجل فيها لا يصلي مع صهره في مسجد واحد، ولا يستطيع أن يليه في الصف، وهذا من الإفراط في الخلق والمبالغة فيه وهو غير مشروع، وليس له وجه من الناحية الشرعية أبداً، ولا يعوده إذا مرض ويقاطعه مقاطعة كاملة والله تعالى يقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21].
أين المودة والرحمة إذا كان الإنسان مقاطعاً لأهل زوجته: لا يشرب عندهم، ولا يأكل، ولا يعود لهم مريضاً، ولا يسلم عليهم، ويقاطعهم بالكلية؟! فإذاً هذا ليس من الخلق المحمود شرعاً، بل هو من الإفراط المقيت في الخلق.
إن علينا أن نعلم أن هذا الدين الذي ارتضاه الله لنا يدخل في كل شئون حياتنا، وأن المنهج المستقيم فيه مانع للتطرف، والتطرف يشمل الأمرين: يشمل الإفراط والتفريط، فكلاهما طرف، والتطرف مشتق من الطرف: (فكلا طرفي قصد الأمور ذميم).
واليوم يشتهر على ألسنة الإعلام إطلاق التطرف على جانب الإفراط فقط؛ وذلك أن الذين يطلقونه في الإعلام كلهم من المفرطين، فلذلك هم جميعاً متطرفون لكنهم يريدون نقل التطرف إلى الجانب الآخر فقط.
والواقع أن طرفي المنهج كلاهما تطرف، إن الذي يعرف هذا المنهج المرضي عند الله سبحانه وتعالى ويعلم أنه ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يمكن أن يرغب بنفسه عنها، فالله تعالى يقول: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130].(29/28)
وجوب التوسط في معاملة النساء
فلذلك لابد أن ننزل هذا المنهج إلى أعمالنا كلها، وأن نعرض عليه صغريات أمورنا وحياتنا وواقعنا، فمن هذه الأمور التي ينبغي أن تعرض على هذا المنهج الوسطي المستقيم ما يتعلق بمعاملة النساء وخلطتهن.
فهذا الجانب المنهج المستقيم فيه: أن المرأة أخت الرجل وأن بينهما من التعاون على البر والتقوى ما شرع لهما، وأن كل واحد منهما مكلف، حرم الله عليه أشياء وأوجب عليه أشياء، وحد له حدوداً لا يمكن تعديها، وأن كل واحد منهما مسئول عن رعاية هذا الدين ونصرته.
وأن الإفراط بتجاوز هذا المنهج مقيت، وأن التفريط في التقصير دونه مقيت شرعاً، والناس في هذا الباب في خلطة النساء يجمعون بين الأمرين: بين الإفراط والتفريط.
ففي مجال الإفراط نجد بعض الناس يزدري النساء ولا يحترمهن كبشر ولا يقدرهن هذا التقدير، ولا يشاور ولا يستفتي في أمور الدين النساء ولو كن أعلم وأعقل منه، مع أن الله أمرهن بتعليم الناس فقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، وإذا أفتته امرأة فتوى لم يثق بها، فهذا إنما هو إفراط لا خير فيه وتفريط في حق المرأة نفسها.
ومثل ذلك في المقابل: التفريط في حقوقهن، أقصد الإفراط بتجاوز الحد فيما يتعلق بالتعامل معهن؛ كالاختلاط المحرم والخلوة المحرمة وكلام الريبة والخضوع بالقول، وكل ذلك مما حرمه الله ومن الحدود الخارجة عن المنهج السوي المستقيم.
ونجد بعض الناس في التعامل مع النساء يفرط ويبالغ، فلا يظن أنه عليه أن يرد السلام على المرأة إذا سلمت عليه، ويظن أن النساء أيضاً لا يسلمن على الرجال ولا يشمتن عاطساً، فيتكلم مع المرأة في أمور الدنيا لكن إذا عطس لا تشمته ولا يشمتها، وإذا سلم لا ترد عليه ولا يرد عليها! فترك الأمر الواجب المأمور به شرعاً، الذي هو من الحقوق الشرعية، ومن حقوق الإخوة الإسلامية، وهو يخوض في الحديث وأطرافه، بل ربما كان الحديث الذي يخوضان بما لا يحل الخوض فيه أصلاً كالخضوع بالقول وأحاديث الريبة، يتكلمان في الريبة ولا يرد أحدهما السلام على الآخر ولا يشمته إذا عطس، ولاشك أن هذا جمع بين الإفراط والتفريط.
ونجد بعض الناس لا يدخل على النساء في بيت إذا أراد تدريسهن فيجعل بينه وبينهن حائلاً مثلاً، أو يأمرهن بمغادرة المسجد، أو بما يمنعهن من الذهاب إلى الدروس، أو يمنعهن من الذهاب إلى المحاضرات، وكل هذا مخالف للمنهج النبوي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، وكان يدرس النساء وكن يجلسن إليه، وقد قلن له: يا رسول الله! إن إخواننا من الرجال غلبونا عليك، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فجعل لهن يوم الخميس.
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل بينه وبين النساء حاجزاً، بل كن يصلين معه في المسجد فكان يقول: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولوها)، وكان يأمر الرجال ألا ينصرفوا حتى ينصرف النساء، وكان يأمر النساء ألا يرفعن أبصارهن حتى يجلس الرجال من السجود لئلا ينكشف عليهن شيء من عورات الرجال.
وكن يشهدن معه الفجر متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس، وكن يشهدن معه صلاة العيد والاستسقاء والجمع، وفي حديث أم عطية: (كنا نؤمر بإخراج العواتق والحيض وربات الخدور يشهدن الخير ويكثرن سواد المسلمين)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عليهن، ويرد عليهن السلام، ويعودهن إذا مرضن، وكان أصحابه يفعلون ذلك، وفي صحيح البخاري: أن أبا بكر قال لـ عمر بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعال بنا نزور أم أيمن كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما دخلا عليها بكت، فقالا لها: أما علمت أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا، فقالت: أما إني لا أبكي لأني لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا، ولكني أبكي لانقطاع الوحي من السماء، فهيجتهما على البكاء فبكيا، ثم قاما.
وكان عمر رضي الله عنه يزور العجائز من الأنصار ويخدمهن، فكان يحتلب الشاة لعجوز من الأنصار، وخرج ذات ليلة يعس، فسمع عجوزاً من الأنصار تضرب وبراً وهي تقول: على محمد صلاة الأبرار صلى عليك الطيبون الأخيار قد كنت قواماً بكى بالأسحار يا ليت شعري والمنايا أطوار هل تجمعني وحبيبي الدار فجلس عمر على بابها يبكي حتى طلع الفجر.
وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في زقاق من أزقة المدينة فمر على باب عجوز من الأنصار فإذا هي تقرأ القرآن، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع إلى قراءتها فقرأت قول الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم أتاني، نعم أتاني)، وجلس يبكي.
فلذلك لابد أن نعلم أن المنهج المستقيم في خلطة النساء يقتضي هذا، فلا إفراط فيه ولا تفريط.
ولا نتمكن من أن نتتبع جزئيات هذا الموضوع، لكن تكفي اللبيب الإشارة، وقد علم أن المنهج المستقيم منهج وسطي في كل الأمور صغائرها وجلائلها، وأن الإفراط في كل أمر مقيت شرعاً وأن التفريط مذموم، وأن كل فضيلة بين رذيلتين، وقد عرف ذلك بالأمثلة التي ذكرناها.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضى، وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(29/29)
الإيمان أساس تماسك الأمة
إن ما نراه اليوم من نكبات ومصائب وذل واستضعاف لنا إنما هو من عند أنفسنا، وذلك أننا ضيعنا أسباب النصر والعز والتمكين، فابتلانا الله بضدها.
فإذا أردنا أن يغير الله الحال فعلينا أن نغير ما بأنفسنا، وأن نأخذ بأسباب ذلك من تحقيق الإيمان، وتحقيق الأخوة الإيمانية، ونبذ الفرقة والخلاف؛ فإن في الجماعة قوة وعزة، وفي التفرق ضعفاً وهزيمة.(30/1)
الأمر بالائتلاف والنهي عن التفرق والاختلاف
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن سر اتحاد المسلمين والتئامهم وعدم فرقتهم هو إيمانهم الذي يدعوهم إلى ذلك؛ فإن الله سبحانه وتعالى جعل المبدأ العقدي أساساً للعمل كله، وجعل الاتحاد والالتئام جارياً على هذا المبدأ، فقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]، فالمبدأ الأول (أن أقيموا الدين) والمبدأ الثاني: (ولا تتفرقوا فيه).
وقد حذر الله سبحانه وتعالى المؤمنين من الفرقة، وبين ضررها، وأمرهم بالاجتماع على طاعته، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:103 - 105].
وبين براءة النبي صلى الله عليه وسلم من المختلفين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159].
وجعل الفرقة والخلاف مظهراً من مظاهر الشرك في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:30 - 32].
وجعل الفرقة نوعاً من أنواع العذاب، فقال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65].
وحذر من الأضرار الوخيمة المترتبة عليه فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:45 - 46].
وفي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أخرجها البخاري في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض).(30/2)
الحقوق المترتبة على الأخوة
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما يترتب على هذا التآخي في الله من الحقوق فقال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله ولا يكذبه، التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاثاً-، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على السلم حرام دمه وماله وعرضه).
وبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بعض الحقوق التي يغفل عنها كثير من الناس فقال: (المسلم، أخو المسلم لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله، ولا يكذبه) هذه الحقوق كلها منطلقة من هذا المبدأ العقدي، وهو قوامها وبه التئامها، ولا يمكن أن تتراجع هذه الحقوق إلا بنقص في المبدأ الذي هو الأصل.
فإذا انتقص الإيمان حصلت القطيعة بين الناس، ولهذا قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]، وأولى الأرحام بالصلة رحم الدين؛ لأنه الذي يقطع ما سواه وهو مستمر في الدنيا، مستمر يوم القيامة، فلا يقطعه في الدنيا الظلم والبغي؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:9 - 10].
وهو مستمر كذلك يوم القيامة؛ لقول الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]، فهذا الإخاء الديني مستمر يوم القيامة في جنات النعيم، لا يقطعه أي سبب من أسباب الدنيا، ولا ينقطع يوم القيامة عندما تنقطع الأنساب، ولذلك قال الله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]، ومع هذا قال: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:85 - 86].
فالمؤمنون يحشرون وفدا، ومن المعلوم أن الوفد كلمته على لسان رجل واحد، وأنه يتعاون في سيره ويشترك في رواحله وزاده، ومهمته واحدة.
أما الذين كفروا فإنهم يساقون إلى النار ورداً، نسأل الله السلامة والعافية.
والورد ليس بينه أي تآلف ولا تآخ ولا تراحم ولا ترابط، بل هو يساق سوقاً كما تساق غرائب الإبل.
إن هذا الإخاء له حقوق كثيرة يلزم الوفاء بها والحفاظ عليها، ومن أعظمها أن يتذكر المسلمون أنهم أمة واحدة، وذلك يقتضي منهم التناصر، وأن لا يخذل بعضهم بعضا، والتآخي مهما كانت الظروف.
وقد أخرج البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوما، قلنا يا رسول الله! أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالما؟ قال: تمنعه أو تحجزه عن ظلمه، فإن ذلك نصره).
إن هذه الأمة تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم مجتمعة القلوب متآلفة فيما بينها، ولذلك حققت المعجزات وفتحت أصقاع البلاد، واستمرت على النهج النبوي زماناً طويلا، ثم بعد ذلك بدأ الخلال، لكن بقي قوامها وأصل ما يجمعها، فاستمرت على ذلك النهج المجتمع زماناً طويلاً مع ما حصل من الخلل في بعض الجوانب الأخرى، إلى أن وصلت إلى الزمان الذي نحن فيه، وهو زمان القطيعة المطلقة، حيث أصبح كل صقع من المسلمين يظن أهله أنهم أمة مستقلة، وأن لهم ذمة خاصة، وأنهم يمكن أن يراعوا مصالحهم مع أعدائهم ويعلنوا الحرب والسلم دون الرجوع إلى بقية الأمة! وهذا مناف لثوابت الشرع؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والمسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم)، وقال: (وذمة المسلمين واحدة)، وقال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)، وقال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).
إن الجسد ما دام متماسكاً لابد أن يحافظ على هذه الخاصية التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أصيب أي إصبع من أصابعه بنكبة أو شوكة تألم لها القلب، وأحس بها الرأس والجوارح كلها.
لكن عندما تتقطع الآراب والأوصال فذلك مؤذن بالزوال؛ لأنه مقتض لموت الجسد، فإذا قطع الرأس وقطعت الأعضاء كلها فذلك مؤذن بموت الجسد كله، فلا يقع الإحساس بما يأتي بعد ذلك.(30/3)
بداية أدواء الأمة
من هنا كانت أدواء الأمة في غايتها ومبدأها منطلقة من التقاطع والتناحر، فكلما اجتمعت هذه الأمة واتفقت على مبدأ من المبادئ وأزالت ما بينها من عمل الشيطان وعمل أوليائه وجنوده كلما استقام دينها، ولذلك فإن من أعظم وظائف هذه الأمة وأهمها الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، ولا يمكن أن يتم الجهاد إلا باتفاق الكلمة؛ لأن الفرادى لا يمكن أن يقفوا في وجه الموج السائر الطاغي، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36]، فكما يقاتل المشركون كافة لابد أن نقاتلهم كافة، ولابد أن يهتم بذلك جميع أفراد الأمة.
وهذا الجهاد وحده هو الذي ضمن الله لمن التزم به الهداية إلى نهجه القويم، فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:4 - 6].
إن الأمة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت تعرف طريق الحق برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه معصوم، فما دام بين ظهرانيهم لن يضلوا {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات:7]، لكن بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتاج الأمة إلى علم للهداية، وإلى إرشاد على طريق الحق، وإلى مناصب تعرف بها المحجة التي تركها عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكل ذلك لا يتحقق إلا بالجهاد في سبيل الله، فإن حققت الأمة الجهاد في سبيل الله ضمن الله لها الهداية إلى طريقه المرضي عنده، وإن تركت الجهاد في سبيل الله وتخاذلت فيما بينها وتقاتلت سلط الله عليها أعداءها، وكان ذلك نقصاً في دينها وإيمانها بالله.
ولذلك أخرج أبو داود في السنن وأحمد في المسند وغيرهما من حديث عطاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).
وقد علم من منطوق الحديث أن الدين الذي يطلب الرجوع إليه حينئذ وبه ترفع الغمة عن الأمة هو الجهاد المتروك؛ لأنه قال: (وتركتم الجهاد).
والدين اسم يطلق على كل ما يدان الله به، ويطلق على بعضه أيضاً، فلذلك قال: (وتركتم الجهاد)، ثم قال بعدها: (حتى ترجعوا إلى دينكم) أي: إلى ما تركتم من دينكم، وهو الجهاد في سبيل الله، فهو دين يتعبد الله به.
إن وحدة هذه الأمة لا يمكن أن تقاس إلا عند حصول الأزمات والنكبات، وهذه الأزمات والنكبات قد تعهد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن لا تشمل الأمة كلها، فإنه صلى الله عليه وسلم (سأل الله لأمته ثلاثاً: سأل الله أن لا يأخذهم بالسنين فأجاب دعوته، وسأله أن لا يسلط عليهم عدواً يستأصل شأفتهم.
فأجابه لذلك، وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فلم يجبه لذلك).
فلا يمكن أن يتسلط عدو واحد على الأمة كلها حتى يستحوذ على بيضتها ويزيل كيانها، فهذا مستحيل قد تعهد الله بمنعه، لكن يمتحن الله هذه الأمة بتسليط الأعداء على أطرافها، فهذه الأرض تنقص من أطرافها، فالله سبحانه وتعالى بين أن ذلك من أشراط الساعة، وبين أنه يأتي الأرض ينقصها من أطرافها، وذلك امتحان للأمة، فإذا تحرك فيها روح الإيمان ونوره عادت إلى منهجها الرباني القويم، وتمسكت بدينها وتماسكت فيما بينها، ونصرت المظلوم منها على ظالمه، ووقفت في وجه الطغيان من أي جهة كان مصدره، وحينئذ لابد أن يكتب الله لها النصر والتمكين.
لكن من المؤسف أن هذا الحال المنشود المطلوب أحوج ما تكون إليه الأمة في مثل زماننا هذا عندما تكالب أعداء الله على هذه الأمة، فأتوا البلاد من أطرافها، واستضعفوا الشعوب وأذلوها، وكان ذلك بالكيد المدبر المبيت وكان أمراً قد أبرم بليل.(30/4)
تمزق الأمة سبب ضعفها
فأول ما بدأت به هذه الأمة من النقص والاستضعاف أن جُعلت أمماً وكيانات متباينة، ثم بعد ذلك جعل لكل قطعة منها من يقودها على غير منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعطل طاقتها أن توجه في خدمة الأمة، فكم هي الجيوش الإسلامية؟! كم يملك المسلمون من أنواع السلاح والأموال؟! كم هي وسائل الضغط التي يملكها المسلمون؟! إن هذا من الأمور التي لا تحصى.
ولو رجع إلى الناتج القومي في البلاد كلها لوجد أرفع مستوى للناس في النتاج القومي في بلاد المسلمين، ولو رجع إلى الثروات الطبيعية في الأرض لوجد أغلبها في بلاد المسلمين، فإذا نظرت إلى المعادن كالنفط والغاز والذهب والماس وغير ذلك من المعادن فغالبها وجمهورها في البلاد الإسلامية، وإذا رجعت إلى المياة الصالحة للشرب ستجد كثيراً منها في البلاد الإسلامية، وإذا رجعت إلى السهول الصالحة للزراعة ستجد جمهورها في البلاد الإسلامية، وإذا رجعت إلى الطاقات الحية والعوامل الشبابية التي تجيد مختلف التخصصات ستجد غالبها في البلاد الإسلامية، وإذا رجعت إلى الموقع الاستراتيجي في العالم تجارياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً ستجد الأمة الإسلامية في قلبه، ومع هذا هي آخر الأمم! وقد رضيت بالذل والهوان والتخلف، وما ذلك إلا بفعل ساستها وقادتها عندما تراجعوا عن مسئوليتهم ومهماتهم، وانشغلوا بالملاهي والطرب واللعب وضيعوا أمانة الله في أعناقهم، وعطلوا طاقات الأمة، وصرفوا الجيوش -التي كان من اللازم أن تصرف لنصرة دين الله- إلى تذليل شعوبهم وإهانة أبنائهم وإذلالهم، فحينئذ قبع هؤلاء على عروش الأمة، وأمسكوا بأزمتها، فتراجع أداء هذه الأمة وأصبحت في مؤخرة الأمم؛ لأن الأمم الأخرى تقاد بقيادات -على الأقل- تهتم بأمتها وتسعى للنبل فيها، وتجد مراقبة جادة فيها.(30/5)
سوء أحوال قادة الأمة
أقول بكل مرارة وأسف: إن الذين يقودون البلاد الإسلامية أغلبهم لا يراعون إلا بعض مصالحهم الخاصة، ولو كانوا يراعون مصالح أنفسهم لأصلحوا ما بهم، ولأحسنوا علاقتهم بالله سبحانه وتعالى، ولأدوا الحق الذي عليهم.
فالذين يظنون أنهم يرعون مصالحهم الخاصة كاذبون في تصورهم؛ إذ لو كانوا يرعون مصالحهم الخاصة لنأوا بأنفسهم عن نار الله وعذابه، لكنهم إنما يراعون بعض الأمور العاجلة في هذه الحياة الزائلة، ويظنون بذلك أنهم يراعون مصالحهم، وهذا غير الواقع تماماً.
والجيوش المدججة التي تدربت وتربت وتعلمت، واشتريت لها أنواع الأسلحة من أموال هذه الشعوب المسكينة لا تبذل قوتها وطاقتها وسلاحها إلا في ظهور الشعوب المسكينة المتخلفة الذليلة.
وحالها قريب من حال الذي يقول فيه الشاعر: أسد عليّ وفي الحروب نعامة ربداء تنفر من صفير الصافر هلا كررت على غزالة في الوغا أم كان قلبك بين جنبي طائر إن هذا الحال آن الأوان لزواله، فآن الأوان أن تراجع الأمة مسيرتها، وأن يهتم قادتها بتوحد المسلمين، وبإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، وأن يعلموا أنهم جميعاً أكلوا يوم أكل الثور الأبيض.
وأن كل ما يحافظون عليه من المصالح الزائلة قد ذهب جميعاً بذهاب مصالح أي صقع من أصقاع هذه الأرض الإسلامية.
ولذلك فإن الذين هم بمنأىً عن الحرب في فلسطين وفي أفغانستان وفي الشيشان وفي غيرها من الأماكن الملتهبة، وهم في أمن وأمان بحسب الظاهر، ويتصرفون في كثير من خيرات البلاد، ويملكون الأموال الطائلة قد رأوا أن أموالهم ومدخراتهم وكل ما كانوا يزمرونه من الأموال في بلاد الغرب قد أصبح نهبة لهذه الحروب، فما يقاتل به إخوانهم يحسب عليهم هم.
فالحرب في أفغانستان تكلف يومياً ملياراً ونصفاً -على الأقل- من الدولارات، وهذا كله محسوب على من؟ على ممتلكات البلاد الإسلامية وعلى مدخراتها لدى أمريكا، وعلى استثماراتها في تلك البلاد.
فإن الأمريكيين عقدوا من العهود مع عدد من البلدان الإسلامية ما يقتضي أن تشارك البلاد الإسلامية في تغطية نفقات الحروب التي تدخلها الولايات المتحدة الأمريكية.
ففي بعض بلدان الخليج وقع العهد مكتوماً، ولكنه انتشر وعرف فيما بعد على أن الحفاظ على أمن الخليج وعلى أمن تلك الدول بذاتها يقتضي أن تشارك تلك البلدان في نفقات كل حرب تدخلها أمريكا بمبلغ كبير، ولذلك تسمع الآن تذمر اليابان من الحصة التي جعلت عليها من تمويل الحرب في أفغانستان، ولا تجد تذمراً في كثير من البلدان الخليجية التي أصبحت مدينة بعد أن كانت دائنة، وأصبحت معدودة الآن في البلاد التي بدأ التأخر والتراجع في تطورها الاقتصادي، كل ذلك بسب تلك الاتفاقيات المجحفة التي أقدم عليها أصحابها وهم لا ينظرون إلى مصالح الأمة.
فالذي يوقع على مثل هذا العقد لا يمكن أن يكون ذلك الوقت مفكراً بمصالح أمته، بل إنما يفكر بمصلحة كرسيه العاجل في الدنيا فقط.
وهذا الحال ليس مختصاً ببعض بلدان الخليج، بل هو أيضاً في البلدان الأخرى كلها، فبلاد المغرب العربي كل يوم تقدم على كثير من الاتفاقيات المجحفة التي فيها استغلال لخيرات هذه البلاد ونهب لها في مقابل وعود بالتمويل أو قروض ربوية، أو مقابل ما يسمونه بالتعاون الأمني الذي لا يكون إلا عصاً على رؤوس الشعوب.
فالذي تقدمه أمريكا والبلدان الغربية لبلاد المغرب العربي أغلبه مجرد معلومات أمنية عن شعوبها المستضعفة الذليلة المهينة التي لا يخاف منها أن تفعل أي شيء، لكن تلك المعلومات تباع بأثمان غالية.(30/6)
موت ضمير الإحساس في كثير من الشعوب
كذلك فإن عدم شعور المسلمين شعوباً وجماعات بما يصيب إخوانهم مظهر سافر من مظهر هذا الانقطاع، إن أغلب المسلمين اليوم لا يشعرون بالحرب المقامة على المسلمين، ولا يحددون موقعهم من الإعراب، هل هم من العمد أو من الفضلات في هذه الحرب؟ وأين موقعهم منها؟ بل لا يهتمون أصلاً بحال إخوانهم الذين تجمعهم وإياهم رابطة (لا إله إلا الله)، ويتفقون معهم في المبادئ والمناهي، وما يصل إليهم لابد أن يتعداهم إلى من سواهم.
إن كثيراً من الشعوب المسلمة قد مات ضميرها، فلم تعد تتحرك ولا تحس بأي شيء، وهذا الحال يذكرنا بوقت التجهيل الذي ساد قبل الاستعمار، عندما شاع الجهل في البلاد الإسلامية وأقبلت على ظلمات الجهل، فكان ذلك سبب الوهن الذي أصابها، وسبب غزو المستعمر الذي جابها، فإنما كان ذلك نتيجة جهل الشعوب بحقائقها، وانفصام عراها فيما بينها، فقد كان الناس إذ ذاك في وقت مجيء الاستعمار لا يحس أهل دولة منهم أو أتباع السلطان منهم بآلام سكان البلدان الأخرى.
فعندما أراد الفرنسيون احتلال الجزائر ودخلوها بجيوشهم وقواتهم في عام ثلاثين وثمانمائة وألف من الميلاد كان (البايات) في تونس عوناً للفرنسيين، وكان السلطان عبد العزيز في المغرب عوناً للفرنسيين.
وقد استفتى الأمير عبد القادر علماء المسلمين إذ ذاك فيما يفعله ملك المغرب من إمداد النصارى بالمؤن والعتاد، ومن قطعه العون عن المجاهدين ومحاصرتهم، استفتى الأمير عبد القادر علماء المسلمين في هذا الفعل فأفتى كثير منهم بأنه ولاء صريح للكفار، وعليه فيعتبر ناقضاً من نواقض الإسلام.
إن ذلك الحال الذي عاشوه إذ ذاك بسبب الجهل حصل نظيره اليوم، لا بسبب الجهل فحسب، بل بسبب المؤامرة الإعلامية التي تروج بين الشعوب المسلمة، فالإعلام يبرر هذه الحروب، ويظهرها في صورة حروب مقدسة، وأنها رد لعدوان ومحاربة للإرهاب وقضاء على المتطرفين، وأن فيها خيراً لأهل الأرض، ويخدعون الشعوب المسكينة غير الواعية بهذه المبادئ الزائفة، فيتصور الناس صحتها ويطبلون وراءها ويصفقون لها، وأقلهم حالاً الذي يسكت فلا تكون له مشاركة.(30/7)
وجوب استيقاظ الأمة من سباتها
إن هذا الحال حال مزر بهذه الأمة، لا يليق بها بحال من الأحوال، ولا يمكن أن يستمر أبدا، فلابد أن تستيقظ الأمة من غفلتها، وأن تحس بأن كيانها مهدد، وأن مقدساتها قد داسها اليهود، وأن خيراتها قد نهبها النصارى، وأن الإعلام الماكر يروج لكل ذلك، وأن كثيراً من حكامها يواطئون أعداءها، وبقيتهم على الأقل هم في حياد بسبب السبات والغفلة، فليس لهم أية عناية بهذه الأمة ولا بمصالحها العامة، حتى يدخل عليهم في بيوتهم كحال ملوك الطوائف في الأندلس، فكان الفونسو ملك النصارى يستعين ببعض ملوك الطوائف على بعض، فاستعان بحاكم إشبيلية على حاكم طليطلة، فلما سقطت طليطلة استعان بحاكم قرطبة على حاكم إشبيلية، وهكذا بالتدريج حتى قضى عليهم بالكلية.
إن هذا الواقع يعيده التاريخ ويكرره، فاليوم قد أصبح كثير من حكام المسلمين حراساً لليهود ومصالحهم، فيمنعون حدودهم من أن يدخل إليها السلاح، ويمنعون الشعوب المتحمسة التي تريد الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله من الوصول إلى ذلك، بل يمنعون كل من عبر عن رفضه لهذا الظلم السافر، وأنت تسمع عن المسيرة الضخمة التي خرجت في باريس في قلب أوربا، والمسيرة التي سبقتها في ألمانيا تنديداً وإنكاراً لما يفعله اليهود المغتصبون في فلسطين، فهل سمعت أن أحداً ضرب فيها أو أوذي بأي نوع من الأذى؟! بينما لو سمعت عن أية مسيرة في البلاد الإسلامية العربية فستجد الكسر والطعن والنهب وأنواع الأذى، لا لأي سبب غير أن هذه الشعوب لا تستحق أن تعبر عن رأيها، ولا أن تباشر أي عمل تفهم منه أو تشم منه رائحة العزة والكرامة.
إن هذا النوع من التطرف هو الذي يولد التطرف، فالمسيرات السلمية التي لا تفسد البنى التحتية، ولا تكسر السيارات ولا البيوت، ولا تتعرض للمارة، ولا تفسد في الأرض بعد إصلاحها، وإنما تعبر عن إنكار المنكر بالوجه الذي يبلغ ويسمع هذه المسيرات مأذون بها، وهي حق للتعبير عن رفض ذلك الظلم وإنكاره، ولا يمكن أن ينكر المنكر العام الذي تقوم به الأمم بكاملها إلا إذا أنكرت الأمم بكاملها.
فإنكار الأفراد لمنكر الأمم لا يؤثر، وإنما يؤثر إنكار الأمم لمنكر الأمم، فإذا كان اليهود والنصارى قد فعلوا هذا المنكر الكبير فلابد أن يعبر المسلمون -أمة- عن إنكار هذا المنكر الكبير، وهذا مما لا يتم الواجب المطلق إلا به، فمن المعلوم أن إنكار المنكر واجب، وأنه لا يتم اليوم إنكار المنكر الجماعي إلا بالاستنكار الجماعي.
لكن مع ذلك نجد كثيراً من البلدان الإسلامية يقمع فيها مثل هذا النوع من التعبير والإنكار، وهم يعلمون أن تلك المسيرات والمظاهرات لن تمس الأمن ولن تخل به، ولن تتعرض للنظام، ولن تتعرض للمصالح، بل لا تخشى منها السفارات الغربية أو السفارات اليهودية أو غيرها، وليس من هدف المسيرات إزالة تلك السفارات، وإنما هدفها الإعلان عن إنكار المنكر فقط.
إن هذا النوع حصل في كثير من البلدان الإسلامية مع الأسف، وكان سبباً للفوضى ولإغلاق الطرق وتكسير زجاج المنازل والسيارات، والعبث الذي لا يليق بالشعوب المسلمة، وكل هذا الأمر مخالف للشرع ولا يقره أحد، لكن من أين جاء؟ وما هي بدايته؟! إنما كان من قبل الرفض للمسيرات السلمية، فبماذا تتضرر حكومة من الحكومات الإسلامية لو قاد رئيسها مسيرة للرفض، وخرج هو وأعضاء حكومته والشعب وراءهم يقودون مسيرة لتفيد المنكر، وللإعلان عن براءتهم -على الأقل- مما يفعله اليهود في فلسطين واستنكارهم له؟! بماذا تتأثر حكومة لو أقدمت على ذلك؟! أليس هذا سيزيدها عزة ومكانة؟! أليس سيزيدها محبة في نفوس شعبها وفي نفوس الشعوب المسلمة؟! لكن المشكلة هي أن التفكير مستورد.
فالحكومات تستورد التفكير، يأتيها الفكر مغلفاً من الخارج كما تستورد المواد الغذائية وغير ذلك.(30/8)
واجب الحكام تجاه قضايا الأمة
إن هذه الأمة لابد أن يأتي الوقت الذي تحس فيه بأنها أمة واحدة.
ولابد أن يأتي الوقت الذي تتحرك فيه لإزالة ظلم المظلومين من أفرادها، وإن أولى الناس بقيادة ذلك هم حكام الأمة، فهم أولى الناس بأن يتقدموا وأن لا يخافوا، فهم الذين بأيديهم السلاح، وبأيديهم المال، وتطيعهم الجيوش، وإن ذلك -والله- لا ينقص من أعمارهم ولا من أرزقاهم ولا من مكانتهم شيئا، بل إنه يزيدها.
فهل سمعت أن أحداً في التاريخ أعلن الجهاد في سبيل الله فندم على ذلك؟ لا يمكن أن يقع هذا أبداً، بل إن الله تعهد بالهداية لمن سلك هذا الطريق، أليس جديراً بحكامنا جميعاً عندما اجتمعوا في بيروت أن يعلنوا براءتهم من اليهود، وأن يقطعوا علاقتهم بهم جملة وتفصيلا، وأن يعلنوا الجهاد في سبيل لإعلاء كلمة الله، لا مثل الحروب السابقة التي كانت تحت رايات أخرى غير خالصة.
أليس جديراً بهم على الأقل أن يدعموا هذا الشعب الفقير؟ وأن يمدوا إخوانهم بالمال، وأن يمدوهم بالسلاح، وأن يتكفلوا بالأيتام والأيامى والعجزة.
أليسوا يشاهدون على شاشة التلفزيون الجرحى الذين تنزف دماؤهم حتى يموتوا في الشارع ولا أحد يرثي لهم؟! أليسوا يشاهدون الأسر التي تنطلق في سياراتها فتحطمها عليها الدبابات في الشوارع؟! أليسوا يشاهدون سيارة الإسعاف تستغل ويخرج طاقمها، وتستغل هي لحرب الشعب الأعزل؟! أليسوا يشاهدون إخوانهم وزملاءهم يحاصرون في بيوت ضيقة، ويرجمون بالقذائف والصواريخ؟! إن ذلك كله صحيح، لكن العجب أن لا تتحرج ضمائر هؤلاء؟! ومتى تتحرك؟! إن بيت المقدس الآن عرضة للتحطيم والهدم، واليهود قد خططوا لذلك، ولم يرد في الوحي ما يمنع حصول ذلك، ولاشك أن كثيراً من ضمائر المسلمين يحركها هدم بيت المقدس، لكن قتل امرئ واحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ظلماً عدواناً أعظم عند الله من هدم بيت المقدس.
إن ما يحصل كل يوم هو أعظم من هدم بيت المقدس، ولذلك يجب على المسلمين جمعياً أن يستشعروا مسئوليتهم عن مقدسات هذه الأمة وعن شعوبها المسكينة الضعيفة، وأن يقدموا ما يجدونه لله، فهم يقرؤون قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].
فهذه الآية من قرأها ولم يقم بحقها فإنها تلعنه على لسانه، (رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه).
إن الذي يقرأ آيات الجهاد، ويقرأ الأحاديث الحاضة على نصرة المسلمين، ولا يتحرك ضميره فهو ميت لم يعد به إيمان؛ لأن الإيمان نور رباني وروح من عند الله تحركه مثل هذه المشاهد، فإذا اختل شيء منه دل ذلك على إن الإنسان قد سلب منه إيمانه وفارقه، نسأل الله السلامة والعافية.(30/9)
المسلمون أسرة واحدة يجب عليها التناصر
إن ما كنا نقوله من النصح الموجه إلى حكام المسلمين نظيره أيضاً موجه إلى شعوب المسلمين، فإنهم جميعاً مخاطبون بهذا الخطاب، وعليهم أن يبذلوا ما يستطيعون لإخوانهم، وأقل ما يستطيعونه التوعية والإحساس بواقع إخوانهم، والشعور بذلك، فلاشك أن أي أحد لو كان والده أو أمه أو أخوه يعاني من أشد الألم ويصرخ في المستشفى لا يمكن أن يجد راحة بال ولا استقراراً وهو يسمع ذلك الصراخ من أحب الناس إليه وأقربهم إليه، أفلا نؤمن بأن الذين يصرخون الآن ويعانون هم من إخواننا؟ إننا جميعاً أسرة واحدة، وإن ما يشكوه فرد واحد من أفراد هذه الأسرة لابد أن يشكوه كل الأفراد، إن ذلك مقتضى الإيمان.
إن هذا الحال الحاصل لا يمكن أن يقر عليه بوجه من الوجوه، فلذلك لابد من العناية بتقصي الأخبار والعناية بالصدق في نقلها، والعناية بتوعية المسلمين بها، والعناية بأداء حقوق هذه الأمة، وأداء حقوق أولئك المستضعفين إليهم، وأن يقوم كل إنسان بما يستطيعه، فأين الذين يريدون أن يكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة في الجنة كهاتين -أي: الأصبع الوسطى والسبابة-؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين).
إنهم يتامى كثر ينتظرون من يؤويهم، وأيامى كثر كذلك ينتظرن من يقدم لهن أية مساعدة، وشيوخ ركع قد أذلوا وأهينوا، كل أولئك من إخواننا المؤمنين الذين نسمع صراخهم ونداءهم في كل الوسائل التي ندخرها في بيوتنا، وهم سيطالبون بين يدي الله بحقوقهم.
والمؤسف أن هذا إذا تجاوز هذا المدى فسيصل إلينا أيضاً، فهو سيل جارف امتحننا بحصوله في الآفاق، وإذا لم تنجح في الامتحان فسيصل إلينا في بيوتنا، فهل لدينا عهد من الله أن لا يصيبنا مثل ما أصاب أولئك القوم؟! إن كل بلد من البلدان الإسلامية هو عرضة لأن يصيبه ما أصاب أولئك، فإذا لم يقم أهله بالحق الذي عليهم حقت عليهم كلمة الله، وتحقق عليهم ذلك الوعد الذي لا يخلف.
إننا جميعاً إذا أحسسنا بمسئوليتنا فلابد أن يكون لنا أثر، فهذه الأعداد الهائلة من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إذا عبرت عن رفضها لهذا الواقع، وأدت ما تستطيعه ولو بقدر ضئيل، وإذا لم يقدم المسلمون إلا عشر معشار ما يملكونه ويستطيعونه فإن ذلك كاف لإنقاذ فلسطين ومن عليها.
وعلينا أن نعلم أن اليهود إنما كانوا شرذمة يسيرة قليلة قد كتب الله عليهم الذلة والهوان {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:61]، ومع ذلك اجتمعت كلمتهم فاستطاعوا أن يقيموا دولتهم، وأن ينتصروا لأمجادهم، وأن يحققوا أهدافهم.
ونحن -معاشر المسلمين- أهل العزة والكرامة، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى كتب العزة لنا، لكن شرط ذلك بانتهاج منهجه الذي ارتضى لنا.
ونحن -كذلك- أعداد كثيرة لن نهزم عن قلة، ونحن -كذلك- أهل طاقات جبارة، ومع هذا فتلك الشرذمة القليلة المهزومة التي كتب الله عليها الذلة والصغار، وتأذن لها إلى يوم القيامة من يسومها سوء العذاب، مع ذلك تفعل فينا الأفاعيل! فإلى متى سيستمر هذا الوضع؟! إنه لابد من التعبير عن رفض هذا الحال، وأن يكون ذلك بلسان الأفعال لا بلسان المقال.(30/10)
استشعار الأمة كونها جسداً واحداً بداية الطريق
لابد أن يكون بهذه الأمة حراك، ولابد أن تلتقي عليه من المحيط إلى المحيط، بل إلى ما وراء ذلك، فهذه الأمة ليست محصورة في البلدان الإسلامية كما يتصوره كثير من الناس، بل قد بلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار.
فالمسلمون في الولايات المتحدة الأمريكية يبلغون أحد عشر مليوناً.
والمسلمون في فرنسا يزيدون على خمسة ملايين.
والمسلمون في بريطانيا أربعة وثمانمائة ألف تقريباً.
والمسلمون في ألمانيا قريب من ذلك العدد.
وهؤلاء ليسوا كالشعوب المستذلة المستضعفة، بل أكثرهم مهندسون وأطباء وموظفون كبار، وكثير منهم يعملون في التخصصات النادرة وفي الأبحاث الذرية النووية وغيرها.
لكن الذي ينقص هؤلاء جميعاً هو أن يستشعروا مسئوليتهم، وأن يقوموا بالحق الذي عليهم لله سبحانه وتعالى، وأن يؤدوا حق هذه الأمة، وأن يقوموا به.
إن استشعار كون هذه الأمة جسداً واحدا إذا حصل فهو النقطة الأولى وهو بداية الطريق، إذا أحس الإنسان أنه لا ينتمي لدولة صغيرة ضعيفة قليلة الموارد فقيرة، وإنما ينتمي لأمة بهذه الكثافة والضخامة، لأمة ذات تاريخ عريق، ليس كتاريخ الدويلات التي تبدأ من استقلالها أو استغلالها الزائف غير الصحيح.
هذه الأمة تاريخها بدأ من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، وما زال تاريخها يشهد البطولات، وإلى يومنا هذا ما زال المضحون من أبنائها يبذلون أنفسهم لله سبحانه وتعالى، ويجاهدون في سبيله، فشعور الإنسان بانتمائه لهذه الأمة العظيمة التي هي خير أمة أخرجت للناس هو بداية استمراره على طريق الحق وسلوكه لهذا الطريق وسعيه لأن يكون له الأثر البارز في إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه.
أما ما دام الإنسان قابعاً في منطقة يسيرة قليلة، وينظر إلى نفسه أنه من أهل تلك الدولة -فقط- ولا يهمه ما وراء حدوده فهذا المسكين الذي لا يزيد إلا تحجراً، ولا يزيد إلا غفلة واستضعافاً، وسيكون بذلك ذليلاً إلى نهاية حياته، يعيش ذليلاً ويموت ذليلا، والحق ينتظره يوم القيامة.
فكل ما يمكن أن يقال فيما يتعلق باتحاد هذه الأمة واجتماع كلمتها قد قيل، وواقع هذه الأمة لا يزداد إلا ثبوراً يوماً بعد يوم.
ولكن الأمل بعد نعمة الله سبحانه وتعالى وفضله هو في أولئك الأفذاذ من أبناء هذه الأمة، الذين لا تحدهم حدود، ولا يحجزهم مكان، ولا تتعلق أعمالهم إلا بالجنان، وهم يتعلقون بما عند الله الواحد الأحد، ولا يخافون إلا الله عز وجل، وينطلقون في مسيرتهم لإعلاء كلمة الله، فأولئك هم جيل النصر والتمكين، وهم الجيل الذي يكتب الله له ميراث الأرض ومن عليها، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105 - 106].
وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].(30/11)
إن النصر مع الصبر ولا يكون إلا بعد ابتلاء
إن علينا أن لا ننهزم لمشاهدة هذا الذل والاستضعاف، وأن نعلم أن هذا حال من الأحوال وطور من الأطوار مرت به الأمم من قبلنا، وقد قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
إن هذا الحال من المبشرات المؤذنة باقتراب النصر، فلا يحول بيننا وبين النصر إلا أن نتجه إلى الله بقلوب سليمة، وأن نستشعر التكليف الذي جعل علينا، وأن نؤدي الحق، فمجرد بذلنا لما نستطيعه كاف في الوصول إلى الأهداف، ولذلك قال الله تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، فبمجرد دخول الباب يحصل النصر من عند الله؛ لأن النصر لا تجلبه الوسائل والمعدات والأدوات، فلو كان كذلك لحصل النصر للاتحاد السوفيتي، إنما النصر من عند الله، ولا يكون إلا بذلك.
ولهذا فإنما عودنا الله على النصر عند الرجوع إليه، وعند الامتثال لأوامره والاجتناب لنواهيه، وعودنا كذلك أن النصر دائماً مع الصبر، ولا يكون إلا بعد الابتلاء، وأن الذين ينصرون غالباً إنما هم فئة قليلة مستذلة ينظر إليها أهل الأرض جميعاً بنظرة ازدراء، ثم يكون لها التمكين والنصر، ولذلك أنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26].
فبعد أن كان النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه يختفون في دار الأرقم على الصفاء، نصرهم الله سبحانه وتعالى في مواطن كثيرة وأعلى كلمته وأعز دينه.
والذين كانوا يحاصرون في الشِّعب ولا يجد أحدهم ما يقوم به قوته، ويربطون الحجارة على بطونهم من الجوع لم يعد أحد منهم بعد ذلك إلا والياً على مصر من الأمصار، كما قال عتبة بن غزوان رضي الله عنه: لقد رأيتنا في الشعب وما منا أحد إلا ويعصب الحجر على بطنه من الجوع، ثم والله الذي لا إله غيره لقد رأيت أولئك النفر وما منهم أحد إلا وهو وال على مصر من الأمصار.
إن أولئك صدقوا ما عاهدوا الله عليه فوفى الله لهم بعهده وحقق لهم سنته، فعندما غيروا ما بأنفسهم غير الله ما بهم، فتحقق لهم ذلك بعد صبر يسير، كان صبرهم في الشعب ثلاث سنوات، ولكنهم ما لانوا وما ذلوا وما هانوا، واستمروا على الصمود على الحق، ولم يتراجعوا من أجل الضغوط والأذى، فحقق الله لهم المراد، وضرب لهم أمثلة كثيرة سبقت، فإن الله تعالى يقول: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} [آل عمران:146 - 148].
إن أولئك الذين آتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة هم الذين لم يذلوا ولم يستكينوا ولم يهونوا، بل صمدوا وصبروا واستقاموا على منهج الله، ولم يستجيبوا للضغوط ولا للأذى، بل تعدوا ذلك وتحدوه انتصروا عليه.
تذكر الحال الذي كان بها بلال عندما بطح على الرمضاء ووضع على ظهره الحجر المحمى على النار، وهو يقول: أحد أحد.
وكذلك حال آل ياسر إذ ذاك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بهم وهم يعذبون بالسلاسل ويجرون في الرمضاء فيقول: (صبراً -آل ياسر- فإن موعدكم الجنة).
إن أولئك الذين صمدوا وصبروا هم الذين آتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، وأثرهم ما زال بارزاً واضحاً للأيام، فما علينا إلا أن نسلك الطريق وعلى الله البلاغ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(30/12)
أركان الإسلام
لما خلق الله الناس لعبادته أرسل إليهم الرسل ليبينوا لهم كيفية العبادة التي لا يقبل الله غيرها، وقد ختم الله الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم، وجعله كافة للناس، فلا يقبل ديناً يخالف دينه، وقد جعل الله تعالى لهذا الدين أركاناً ودعائم لا يقوم الدين بدونها، وافترض على الناس القيام بحقها، وهي إما إيجابية يؤتى بها أو سلبية ينتهى عنها، وهي موجبات لدخول الجنة إن التزمت أو لدخول النار إن لم تلتزم، كما افترض الله على كل مسلم نصرة دينه والعمل على رفع رايته قدر الاستطاعة، ولو بتكثير سواد المسلمين.(31/1)
عالمية الإسلام وعدم قبول غيره من الأديان منذ نزوله
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:(31/2)
الأديان السابقة كانت إعداداً لهذا الدين
فإن الله عز وجل سمى هذا الدين الذي أرسل به هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة دين الإسلام، وختم به الديانات السابقة، وجعله الدين الحق عند الله سبحانه وتعالى، فكل ما سواه من الأديان بعد نزوله وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم به مردود على أصحابه لا يتقبل الله منه شيئاً.
وإن الله عز وجل لم يرض للبرية إلا هذا الدين، وإنما جعل الأديان السابقة إعداداً له فقط؛ لأن البشرية خلقها الله تعالى متدرجة، فلم تصل إلى نضجها ولم تكتمل أطوار حياتها إلا في الطور الذي بعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم، أما قبل ذلك فما زالت البشرية تتقدم في أطوار حياتها كتقدم الصبي في نماء بدنه وعقله وتطور معارفه، وهو يحتاج في كل طور إلى ملابس جديدة تتناسب مع حجمه وإلى تغذية تتناسب مع واقعه وصحته.
وكذلك هذا الدين، فإن الله كان ينزل منه في كل فترة ما يتناسب مع الطور الذي تمر به البشرية ويعلم نهاية ذلك الطور، وأن ذلك الدين لا يصلح لما بعد ذلك الطور، فإذا انتهى ذلك الطور نسخ الله تلك الشريعة وأتى بشريعة جديدة تطور سابقتها أو تنسخها وتلغي أكثر أحكامها.
ومن هنا فإن الشرائع السابقة تنقسم إلى قسمين: الأول: شريعة مطورة.
أى: مكملة لسابقتها مبيحة لبعض ما حرمته ومحرمة لبعض ما أحلته، كشريعة عيسى مع شريعة موسى.
الثاني: شريعة جديدة ناسخة لسابقتها بالكلية، كشريعة موسى مع شرائع من قبله من الرسل.
وإن رسل بني إسرائيل إنما كانت شرائعهم مجددة لشريعة موسى، ولهذا قال الله وتعالى حكاية عن عيسى بن مريم عليه السلام: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50].
أما شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فإنها ناسخة لكل ما سبق، ولهذا قال الله تعالى: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة:48] , وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] , فما سواه من الأديان ليس ديناً كاملاً مستقراً عند الله عز وجل وإنما هو دين آني مؤقت ذو فترة محددة لا يتعداها، ولهذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف لنا الفترة التي بعث فيها، كما أخرج مسلم في الصحيح من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى عليه وسلم قال في خطبة طويلة: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم غير بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك).
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم جاء على فترة من الرسل، كما جاء ذلك مرتين في سورة المائدة، وأخبر أنه بعث في الأميين -في الجاهلية- على فترة الرسل واقتراب الساعة وجهالة الناس، فجاء بهذه الحنيفية السمحه التي هي الدين الحق عند الله سبحانه وتعالى، والتي لا يقبل الله من أحد وصلت إليه سواها من الدين، ولهذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا كبه الله على وجهه في النار).
فارتضى الله تعالى هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون إماماً للبشرية، وارتضى هذا الدين الذي جاء به للبشرية بحذافيرها فهو صالح لكل زمان ومكان، ومشروط على الناس أن يأخذوا به ويتبعوه.(31/3)
مقارنة الإسلام بالأيديولوجيات الفكرية والقوانين الوضعية ظلم ناشئ عن قصور في التصور
وإن كثيراً من الناس يغلط في تصور هذا الدين وذلك لقصور نظره، فيرى جانباً واحداً منه فيقوِّم هذا الدين على أساسه، فمثلاً: تسمع كثيراً من الناس يقارن الإسلام بالأديولوجيات الفكرية، فيقارن الفكر الإسلامي أو الدين الإسلامي بالفكرة الرأسمالية والفكرة الشيوعية، ويقول: هو متوسط بين الفكرتين، فالفكرة الرأسمالية تراعي حقوق الفرد ولا تراعي حقوق الأمم، والفكرة الشيوعية تراعي حقوق الأمم ولا تراعي حقوق الأفراد، والإسلام يراعي حقوق الجميع.
ولكن الواقع أن هذه النظرة قاصرة؛ لأنها ما نظرت إلا إلى جانب واحد من الإسلام، وهو المجال الفكري في العدالة الاجتماعية بين الناس فقط.
وكذلك تسمع آخرين يقارنونه بالقوانين الوضعية، وهذا قصور في التصور أيضاً، فما نظروا إلا إلى الجانب المنظم لعلاقات الناس فيما بينهم.
والواقع أن الإسلام أعم وأشمل من هذا، فهو نظام شامل لكل أمور الحياة، فالقانون -مثلاً- لا يهتم بأخلاق الناس، ولا يهتم بتنظيم معاملاتهم مع ربهم الذي خلقهم وسواهم، وأنت تعلم أن هذه الأمور من أهم شرائع الإسلام، وقد جاء فيها كثير من نصوصه ووضع فيها كثير من قواعده.(31/4)
بيان كمال الشريعة وضمانها لتنظيم الحياة(31/5)
الجانب القضائي ودوره في علاج المشكلات
ثم من هذه الجوانب التي شرعها الله تعالى في الإسلام وبينها للناس الجانب القضائي الذي يفصل المشكلات عند حصولها ويعالجها علاجاً وقائياً قبل حصولها بالصلح والتراضي وإصلاح ذات البين: وهذا الجانب أيضاً من جوانب الإسلام المهمة التي لا يستغني عنها الناس، وعندما تركوها وقصروا فيها وتركوا التحاكم إلى دين الله سبحانه وتعالى اشتهر فيهم ما ترى من الظلم والانحراف والبغي في القضاء، وقد حكم الله تعالى في كتابه بالكفر على من لم يحكم بما أنزل الله، وأقسم على نفي الإيمان عنه في كتابه فقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].(31/6)
تشريع الحدود والتعزيرات لردع الفساد وتطهير المجتمع منه
ثم إن من هذا الدين ما يردع أهل الفساد إذا استشرى وحصل، وهو ما يسمى بالحدود والتعزيرات، فإنها تزجر الواقعين في هذه المعاصي وهذه القاذورات عما وقعوا فيه، وتكفر عمن تاب وأحسن فيما بعدها، وهذه الفواحش التي رتب الله تعالى عليها هذه الحدود مضرة بأهل الأرض إضراراً شاملاً كاملاً لا يختص بالمتعاطين لها أو بالقائمين عليها فقط، ومن أجل هذا جعلت حدودها رادعة فمنها ما حده القتل، ومنها ما حده الرجم بالحجارة إلى الموت، ومنها ما حده قطع اليد، ومنها ماحده الجلد، فهذه الحدود لا يقصد بها التشفي من شخص واحد، وإنما يقصد بها علاج مجتمع بكامله، ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لحد واحد يقام على الأرض خير لأهلها من أن يمطروا سبتاً) , وقوله: (من أن يمطروا سبتاً) معناه: من أن ينزل عليهم المطر أسبوعاً كاملاً.
فهذه الحدود تردع الفساد وترده وتقوم أخلاق الناس، وترد جماح الجامح منهم وتعالج مرض المريض منهم، فهي علاج رادع لشيطان الإنسان الذي يستزله في هذه المحرمات ويوقعه في هذه الفواحش.
وكذلك التعزيرات التي وكلها الله تعالى إلى اجتهاد الحكام المؤمنين القائمين بالعدل هي كذلك رادعة عن تلك الذنوب التي هي دون الأولى، فلا تصل إلى حد الحدود وإنما هي دونها وأقل منها.(31/7)
تشريع الكفارات لمعالجة النفس وجبر الذنب
وكذلك الكفارات التي تكفر المعاصي التي يقع فيها الإنسان وتعالج ما يجده الإنسان من الانكسار في نفسه، فإن المؤمن هو الذي تسره حسنته وتسوؤه سيئته، ومن فرط في جنب الله تعالى فأقام الله عليه الحجة وتذكر ماضيه وما فرط فيه في جنب الله، وأنه قد أسرف كثيراً فيما مضى من زمانه، وهو مقدم على الله ولا يدري حاله ولا يدري كيف يجيب إذا عرض على الباري سبحانه وتعالى: {يَوْمُ لا يَنطِقُونَ} [المرسلات:35] * {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات:36] سينكسر قلبه ويتأثر نفسياً تأثراً شديداً بالذنوب التي أسرف فيها على نفسه فيما مضى من عمره، لكن الله شرع له الكفارات التي تكفر هذه الذنوب وتطمس أثرها، وأهم هذه الكفارات إتباع الحسنة السيئة، وأن يعمل الإنسان من الحسنات أكثر مما عمل من السيئات، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن).
ومن هذه الكفارات: اجتناب الكبائر؛ وما وقع فيه الإنسان بعد ذلك من الصغائر يكفره اجتناب الكبائر، كما قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31].
وكذلك من هذه المكفرات الاستغفار والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، والشهادة في سبيله، وكذلك التضحية في سبيله بما يستطيعه الإنسان.
ومنها الكفارات المخصوصة بأمور محددة ككفارة القتل، وكفارة الظهار، وكفارة الإفطار في نهار رمضان، وكفارة اليمين، وغير ذلك من الكفارات المبينة شرعاً، فهي جوابر وزواجر تزجر الإنسان عن العود إلى ما فرط فيه في جنب الله، وتجبر له ما وقع فيه من الخطأ والتقصير، والإنسان محتاج إلى ذلك أشد الحاجة.(31/8)
ميزة الإسلام عن التشريعات البشرية في الاعتقاد والعبادة
ومن هنا جاء البون الشاسع بين الإسلام وبين ما سواه من الشرائع والتقنينات، فهو دين الله الذي ارتضاه وليس ديناً من الأرض، فليس نابعاً عن قصور في التصور، وليس ناشئاً عن أعراف نشأت في مرحلة محصورة، وليس ناشئاً كذلك عن عقول قاصرة، وإنما هو وحي من عند الحكيم الخبير الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما، وخلق البشر وعلم أمورهم كلها قبل أن يخلقهم، فشرع لهم من الدين ما يصلح أحوالهم كلها، فشرع لهم من الإسلام ما ينظم علاقاتهم بربهم، وذلك جانبان: الجانب الأول منه: ما ينظم اعتقادهم، ويبين لهم ما تعتقده أفئدتهم فيما لا يمكن أن تصل إليه عقولهم: وذلك أن الله علم أن العقول التي وهبها للناس إنما هي جوارح قاصرة مثل أيديهم وأسماعهم وأبصارهم، فهي عاجزة عن إدراك هذه الأمور، فبينها لهم بالوحي المنزل من عنده سبحانه وتعالى.
الجانب الثاني في التعامل مع الله: هو جانب العبادة التي أصلها الأدب مع الله سبحانه وتعالى وحسن الحياء منه، وأداء ما شرع من العبادات على الوجه الذي يرضيه، وقاعدتها التوقيف؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يصله عباده بضر ولا نفع، وقد صرح بذلك فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من قوله: (ياعبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)، وقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37].
ومن هنا فلا يمكن أن يُتقرَب إليه إلا بما شرع، فلا يمكن أن يتعبد الإنسان ويقصد وجه الله تعالى بأمر لم يشرعه له ولم يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأت منزلاً من عند الله؛ لأن من يمكن أن تنفعه ويمكن أن تضره يمكن أن تتقرب إليه بشيء لم يأمرك به؛ لأنك تعلم أنه يوصل إليه نفعاً أو يرفع عنه ضرراً، ورب البرية جل وعلا لا يمكن أن تنفعه ولا أن تضره، فلا يمكن أن تتقرب إليه إلا بما شرع لك وبين، ومن هنا فإن هذا الجانب قاعدته التوقيف والقصر على ماجاء.(31/9)
ميزة الإسلام في تنظيم الأخلاق والمعاملات
وكذلك كان في الإسلام ما ينظم علاقات العباد فيما بينهم، وهو نوعان: النوع الأول: ما يسمى بالأخلاق، وهذه الأخلاق هي التي تحافظ على وشائج الناس وروابطهم وتنميها، وتحفظ الأدب العام للناس، فإن حقوق الناس متفاوتة، فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن أحق الناس بالصحبة الأم ثم الأب، وذكر كذلك حقوق الجار، وحقوق الأقارب، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وبين صلى الله عليه وسلم حق الكبير على الصغير وحق الصغير على الكبير، وكل ذلك داخل في مجال الأخلاق.
أما الجانب الثاني في التعامل فيما بين الناس فهو جانب المعاملات، وقد شرع فيها الإسلام تشريعاً واضحاً مبيناً للوجه الصحيح في التعامل، وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه البشرية أمة من نفس واحدة، وأراد لها أن تكون مجتمعاً مترابطاً، فقطع كل ما يؤدي إلى الخلاف والفرقة، وأزال كل ما يؤدي إلى الظلم والعسف وقطيعة الرحم، ومن هنا تقرأ في سورة الحجرات ثلاثة عشر سبباً من أسباب القطيعة حرمها الله تعالى ونفاها عن المجتمع الإسلامي: أول هذه الأسباب: التعدي على الصلاحيات، وهو المذكور في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1].
السبب الثاني: عدم توقير الكبار وذوي العلم والسن وذوي الفضل، وهذا أيضاً مأخوذ من هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:1 - 2].
ثم بعد هذا الكذب المأخوذ من قوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات:6].
ثم بعده عدم التبين والتثبت المأخوذ من قوله: {فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] , وفي القراءة السبعية الأخرى (فتثبتوا).
ثم بعده الظلم، وهو المذكور في قوله: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9].
ثم بعد ذلك السخرية، وهي المذكورة في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} [الحجرات:11].
ثم بعد ذلك ظن السوء، والتنابز بالألقاب، والنميمة، والغيبة.
وهذه كلها هي المذكورة في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12].
ثم بعد هذا وضع القاعدة التي من أجلها ترابطت البشرية واتصلت عراها، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
وكذلك فإن الله وهب بعضهم ما يحتاج إليه غيره، وكان قادراً على أن يقسم الأرزاق فيما بينهم فيعطي كل شخص ما يحتاج إليه فقط، لكنه جعل تحت أيدي بعض الناس ما لا يحتاجون إليه ويحتاج إليه من سواهم، وحكمة ذلك الواضحة أن يبقى المجتمع مترابطاً يحتاج بعض أفراده إلى بعض ويقوم بعض أفراده برعاية بعض، فجعل من المجتمع أغنياء وجعل منه فقراء ليقع التكامل والترابط، ولهذا قال الله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [النحل:71] , وقال تعالى: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32].
فوزع بينهم الأرزاق توزيعاً عجيباً، وشرع لهم من الشرائع ما ينظم تداول هذه الأرزاق فيما بينهم؛ لأن الإنسان إذا رأى حاجته ولم يجد وجهاً صحيحاً لأخذها وهو محتاج إليها فإن كان قوياً لابد أن يغصبها أو يتعدى عليها بالقوة، وإن كان ضعيفاً سيحتال عليها بمختلف الحيل كالسرقة والغش ونحو ذلك.
ومن هنا فإن الناس لا يحتاجون إلى هذه الحيل الملتوية إلا عند فساد النظام، فلا يحتاجون إلى الرشوة إلا عند فساد النظام، ولا يحتاجون إلى الغش والخديعة في البيوع ونحو ذلك إلا عند فساد النظام وعدم أخذه بالإسلام، فهذا الفساد الذي تراه مستشرياً في التعامل بين الناس أصله الإعراض عما شرعه الله سبحانه وتعالى، فلو رجع الناس إلى دين الله عز وجل وأخذوا به لما احتاج أحد أن يقدم رشوة ولم يحتج أحد لأخذها، ولم يحتج أحد كذلك لوساطة، ولم يحتج أحد لغش ولا خداع ولا تزوير في شهادة ولا تزوير في امتحان؛ لأن الحقوق مرعية محفوظة بنظام الله سبحانه وتعالى وبعدله.
لكن عندما يتخذ الناس هذا النظام ظهرياً ويعدلون به ما سواه فلابد أن يتردوا في أوحال الرذيلة، ولابد أن يظلم بعضهم بعضاً، وإذا شاع فيهم الظلم فسيقع الفساد المستشري الذي تحل بسببه عقوبة الله تعالى على الناس، كما قال سبحانه وتعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].(31/10)
تشريع البيوع والمعاملات المشابهة لها للحد من التغابن والظلم
فشرع الله تعالى البيوع التي يقع بها التبادل بين الناس، فالضعيف إذا رأى حاجته أمكنه أن يتوصل إليها بالشراء، والقوي إذا رأى حاجته أمكنه أن يتوصل إليها بالشراء، ومن كان لديه مال يحتاج إليه ورأى ما يحتاج إليه عند غيره أمكنهما التبادل فيما بينهما بكل عدالة ونزاهه، وأن يعلموا أن ذلك إنما القصد منه الوصول إلى الرفاهية، والوصول إلى إشباع رغباتهم في هذه الحياة الدنيا، والتوصل إلى مرضاة الله في الدار الآخرة، وليس المقصود به حرمان قوم من هذا المعاش الذي جعله الله في الأرض، فما فيها من الأرزاق كاف لمن فيها من البشرية، لا يخلق الله من خلق فيضيعه.
فالرزق الذي خلقه الله في هذه الآرض كاف لأهلها، ففيها من الخيرات وأنواع المعادن وأنواع الزراعات وأنواع الثمار والأشجار ما يكفي أهلها، وفيها من المياه ما لا ينقضي إلا بموت أهلها، ومن هنا فإنها تكفي الأحياء والأموات كما قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} [المرسلات:25 - 26] , فالأموات تكفتهم في بطنها، والأحياء تحملهم على ظهرها، وقد دحاها الله لذلك ووزع فيها أنواع الخيرات.
ومن هنا لو استغلت هذه الخيرات استغلالاً صحيحاً لكفت البشرية وقامت بحقوقها كلها، وقد أمرنا الله تعالى باستعمالها واستغلالها والمشي في مناكبها وأن نبتغي من فضل الله تعالى في ذلك، ولو اتبعت هذه الخطا التي حددها الشارع سبحانه وتعالى لحصل العدل وارتفع العسف والظلم بين الناس، ونال كل أحد منهم حقوقه وما يستحقه في هذه الأرض.
ومن هنا شرعت العقود التي تقضي على أنواع هذه الخدائع وأنواع الظلم والعسف مطلقاً، فجعل البيع بديلاً للربا، وجعل النكاح بديلاً للسفاح، وجعل الدَّيْنُ كذلك بالتي هي أحسن بديلاً للاسترقاق والظلم، ومن هنا جُعِل لكل وجه من أوجه الفساد بديل يناسب حال المجتمع ويلائمه ويسد عوزه، وهذا من حكمة الحكيم الخبير سبحانه وتعالى.(31/11)
الاعتزاز بالدين من منطلق المعرفة بالله
إن جوانب الإسلام ومجالات تشريعه كثيرة جداً لا يمكن أن نتعرض لها في مثل هذه العجالة، ولكننا سنصل إلى مستويين من هذه الجوانب: المستوى الأول: هو المستوى الإيجابي.
والمستوى الثاني: هو المستوى السلبي.
أما المستوى الإيجابي فمعناه الفرائض التي هي الدعائم والأركان التي عليها بني دين الإسلام.
والمستوى السلبي هو كبائر الإثم والفواحش التي حرمها الإسلام، فإذا تصور الإنسان ما أوجبه الإسلام من الدعائم الأصول وما حرمه من الكبائر والفواحش تصور هذا الدين بكامله، وعرف أنه منتم لهذا الدين أو غير منتم له، ولا يمكن أن يحقق الإنسان انتماءه لهذا الدين واعتزازه به إلا إذا أتى بأركانه الإيجابية، واجتنب نواهيه الكبرى السلبية، ومن لم يفعل ذلك لم يذق لهذا الدين طعماً ولم يعلم أن له حلاوة.
ومن هنا فإن كثيراً من الناس إنما ينتسبون إلى هذا الدين بسبب الدار والتربية فقط، لكنهم لا يذوقون عزة الإسلام ولا يشعرون بذلك، ولا يحسون بالحقوق التي يرتبها الإسلام عليهم.(31/12)
التزام الأوامر واجتناب النواهي عزة بالدين
لا شك أن الإنسان عندما تثور نفسه ويغضب غضباً شديداً إذا تذكر أنه مسلم وتذكر معنى ذلك -ومعناه: الاستسلام لله تعالى في أحكامه- ستسكن نفسه ويذهب غضبه، ويعرف أنه محكوم بإطار قوي هو دين الإسلام، وهذا الإطار عليه أن يخاف أن يخرج منه في كل اللحظات.
وكذلك إذا جمحت به شهوته وشيطانه إلى الوقوع في الشهوات وكان مسلماً حقاً ذائقاً لحلاوة الإيمان وجد ذلك الوازع الديني القوي في نفسه يحول بينه وبين معصية الله، فيجد جداراً قوياً يقف في وجهه ويقطع عليه مسيرة شهوته ويرده إلى الإسلام، فيتذكر هاذم اللذات الموت، ويتذكر العرض على الله سبحانه وتعالى، ويتذكر حاله وهو محمول على النعش فوق الرقاب إلى الدار الآخرة، ومن هنا لا شك أنه سيرجع ويعود من حيث بدأ، فيتوب إلى الله تعالى ويتلافى ما مضى، فيكون من الذين اتقوا، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:201 - 202].
إن التزام الإنسان بهذه الأوامر واجتنابه لهذه النواهي يجعله صاحب عزة بالله سبحانه وتعالى؛ لأنه من أهل الله، يشعر بانتمائه إلى الله سبحانه وتعالى واتصاله به، وإن الإنسان إذا اتصل بديان السماوات والأرض الملك الجبار الذي يقبض السماوات السبع والأرضين السبع بيمينه يوم القيامة فيهزهن فيقول: (أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟) إن من اتصل بهذا الملك الديان لا يمكن أن يذل ويخضع لمن سواه، وإن من عرف الله تعالى حق المعرفة لا يمكن أن يركع لمن سواه ولا أن يسجد له ولا أن يخافه لحظة عين، كيف تخاف مملوكاً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، وأنت تعرف الملك الديان ديان السماوات والأرض: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]؟! لكن السبب فيما نراه من نقص الإيمان وترديه هو عدم الصلة به سبحانه وتعالى وعدم معرفته، إن كثيراً من الناس يبحث عن معرفة الله تعالى من غير الوجه الصحيح، إن معرفته إنما تكون بالتقرب إليه بما شرع، وإذا طلبت معرفته بغير ذلك طلبت معرفته بعقلك القاصر، أو طلبت معرفته بعاطفتك غير المربوطة بأوامر الله تعالى ونواهيه، وطلبت معرفته بالأمثلة الدنيوية، أو طلبت معرفته بالفلسفات الشرقية أو الغربية، وبذلك تكون قد ضللت عن سواء الصراط ولم تعرف الله تعالى.
إنما تعرف الله تعالى إذا امتثلت أوامره واجتنبت نواهيه ووقفت عند حدوده، وحينئذٍ لا يمكن أن تضل سواء السبيل، بل هذا هو الطريق المضمون الذي لا يضل من سلكه أبداً، وهو الحبل القويم الذي من تمسك به عصم.(31/13)
الاعتزاز بالدين نابع من محبته لا من كونه تراثاً
ومن هنا فإن اعتزازك بانتمائك للإسلام لا ينبغي أن يكون نابعاً عن أنه من تراثك وتراث آبائك وأجدادك، وإنما تعتز به لأنه علاقتك بربك وصلتك بديان السماوات والأرض، إن الاعتزاز بهذا الدين لا يذوقه المعرضون عنه والمتهافتون على الدنيا، والذين يبيعون آخرتهم بأعراض دنيوية، إنهم لا يمكن أن يذوقوا حلاوة هذا الإيمان، ولا يمكن أن يذوقوا هذه العزة التي حكم الله بها لله ولرسوله وللمؤمنين: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8].
إن انتماءك لدين الله تعالى ينبغي أن يكون نابعاً من محبتك لهذا الدين وتضحيتك في سبيله، وإنك لن تضحي في سبيل هذا الدين إلا إذا أحببته ودخل في كيانك وجعلته مقدماً على انتماءاتك وولاءاتك المختلفة، ومن هنا فإن تصور المنافقين للدين كان تصوراً خاطئاً، فقدموا عليه انتماءاتهم وولاءاتهم واعتزازهم بأمور الدنيا فقالوا: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلّ} [المنافقون:8]، فرد الله عليهم بقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].(31/14)
الفهم الخاطئ للدين وضرره على الإنسان
إن كثيراً من الناس اليوم يفهم هذا الدين فهم المنافقين، فيفهم الإسلام من الزاوية التي فهمه منها المنافقون، فلا نجده منتمياً إليه تمام الانتماء، ولا نجده يشعر بمسئوليته عنه، ولا نجده ساعياً في إعزازه وإعلائه، ولا نجده باذلاً في سبيل ظهوره على الدين كله ولو كره المشركون، وسبب ذلك نقص إيمانهم وجهالتهم بهذا الدين، وأنهم أخذوه تراثاً ولم يأخذوه تطبيقاً، ولم يأخذوه علاقة بالله، ولم يأخذوه صلة به، إذا درسوا الإسلام درسوه فقهاً مجرداً عن العمل، ومجرداً عن الوازع الديني، ومجرداً عن القناعة، ومجرداً عن التقوى التي هي تقوى القلب، وهذا خطأ في التصور.(31/15)
لا يرجع الخطأ في تصور الدين إلى الفقهاء الذين جردوا الأحكام عن المواعظ
وكثير من الناس يظن أن هذا الخطأ راجع للفقهاء رحمهم الله الذين دونوا المسائل الفقهية مجردة عن الترغيب والترهيب، لكن هذا أيضاً خطأ في التصور، فالفقهاء إنما هم مؤلفون وضعوا مناهج لمدارس، وهذه المناهج لابد أن تتكامل، فلا يمكن أن يكون الإنسان فقيهاً إن لم يدرس ما سوى الفقه، فالفقه علم يحتاج إلى ما سواه من العلوم، والعلوم الشرعية مترابطة، فمن لم يدرس الترغيب والترهيب لا ينفعه ما يدرسه من الأحكام الفقهية المجردة، ومن لم يدرس مشاهد القيامة وأحوالها لا يمكن أن يهتم بتفاريع الفقه ورغائبه ونوافله، ولا يمكن أن يتأثر بذلك قلبياً ولا يستفيد منه.
ومن هنا فإن من دعائم الإسلام التي سنذكرها: الصلاة، والصلاة بين الله تعالى حكمتها بقوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] , وإن كثيراً من الناس يدرسون الفروع الواردة في الصلاة واجبات وسنناً ومندوبات، ويحاولون تطبيقها ولكنها لا تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، والسبب في ذلك أنهم ما درسوا ترغيبها وترهيبها، وما لامست قلوبهم ولا ذاقو لها طعماً، ولا أحسوا بلذة المناجاة مع الله سبحانه وتعالى، ولا ذاقوا لذة المذلة بين يديه وتعفير الوجه لكبريائه وجلاله سبحانه وتعالى، وما ذاقوا كذلك رفع حوائجهم إليه كفاحاً دون ترجمان، وتعلق القلب به، ومسألته مباشرة دون المذلة لغيره؛ وهذه حلاوة لا تعدلها حلاوة، عندما تنقطع أسباب الشخص من الدنيا، ويقبل على ديان السماوات والأرض وحده، وينوط به جميع حوائجه وينصرف بقلبه بالكلية عمن سواه وينقطع عنه، ويكون حراً من كل الأغيار عبداً عبودية حقيقية لله سبحانه وتعالى سيذوق طعماً لا يمكن أن يذاق له نظير.(31/16)
لتوقي الزلل في فهم الإسلام تجب دراسته بجميع جوانبه
ومن هنا فإن التصور الصحيح للإسلام أن يدرس بحذافيره، وأن يؤخذ بأطرافه، وألا يتخصص في تخصص واحد من تخصصاته، فمن أخذ أيضاً بالرقائق وحدها دون التطبيقات لابد أن يضل سواء السبيل؛ لأنه لا يمكن أن يعرف فرائض الله تعالى والسنن التي شرعها رسوله صلى الله عليه وسلم والنوافل والمندوبات التي أمر بها وحض عليها من تلقاء رقائقه ومن تلقاء عاطفته الجياشة وحماسه المستمر، فإنه لا يمكن أن يعرف هذا إلا من الفقه بالأحكام والتضلع في معرفة الحلال والحرام، ومن هنا كان لابد للإنسان من الجمع بين جوانب الإسلام المختلفة، وكل هذا يشمله هذا العنوان الكبير الذي هو الإسلام.
وكثير من الناس إذا قرأ حديث ابن عمر: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان) ظن أن الإسلام محصوراً في هذه الدعائم، وهذا خطأ في تصوري، فهل تتصور أن المسجد محصور في الدعائم الأربع التي هي أركانه؟ لا يمكن أن يتصور هذا متصور، بل هذه الدعائم هي أسسه وهي أركانه وأقوى ما فيه، لكن لا يعني ذلك انحصاره فيها، بل للإسلام ذروة سنام، وله فرائض، وله أخلاق، وله تتمات وله تكميلات لا حصر لها، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ حذيفة بن اليمان عندما أوصاه في دعوته للناس: (ادعهم إلى كبير الإسلام وصغيره)، وهذا صريح في أن للإسلام أركاناً كبيرة وله تشريعات دون ذلك.(31/17)
تعريف الإسلام لغة واصطلاحاً
نحتاج إلى تعريف الإسلام في اللغة للانطلاق إلى أركانه الإيجابية والسلبية.
فالإسلام في اللغة معناه: الاستسلام والمذلة والخضوع والتسليم بما يؤمر به الإنسان أو ينهى عنه.
وهو في الاصطلاح يطلق إطلاقين: يطلق إطلاقاً عاماً على كل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فيشمل ذلك عمل القلب، وعمل اللسان، وعمل الجوارح، ويكون مرادفاً للإيمان.
والإطلاق الثاني: إطلاقه على عمل الجوارح دون أن يدخل فيه الاعتقاد، وإنما يدخل فيه من عمل القلب النيات والحضور والخشوع ونحو ذلك فقط.
وهذا الإطلاق الثاني هو الذي سنسير عليه على ترتيب حديث جبريل، وقد اجتمع فيه الإيمان والإسلام، وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحد منهما بما فسره به، ففسر الإسلام بأنه: أن يشهد الإنسان أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت إن استطاع إليه سبيلاً.
وهذه هي أركانه كما ثبت ذلك في حديث ابن عمر الذي سقناه، ولا يقتضي ذلك انحصاره فيها، بل بين سبحانه وتعالى هذه الأركان للناس، فهي الحدود التي من تعداها وتجاوزها خرج من الإسلام، فلا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما جرح وحمل على الرقاب إلى بيته فأتاه رجل يذكره بالصلاة فقال: يا أمير المؤمنين! الصلاة فقال: نعم.
ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
وكذلك فإن هذه الدعائم هي الأسس التي ينطلق منها الإنسان فتكون حاجزاً بين الإيمان والكفر، وتكون موجبة لما يترتب عليها من الحقوق، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى).(31/18)
الركن الأول للإسلام: الشهادتان
أول هذه الدعائم: الشهادتان.
وهذا يدلنا على أهمية اللسان، فأول دعائم الإسلام متعلقة بهذه الجارحة التي جعلها الله واحدة في البدن كله، فقد تعددت العينان والأذنان والمنخران واليدان والرجلان وانفرد اللسان، ومع هذا فقد جعله الله تعالى بهذه المنزلة وبهذه المثابة، فهو ذو خطر عظيم، كما بين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: (ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)، وهو أصل الخروج من الكفر والدخول في الإسلام، فالنطق بهاتين الشهادتين هو عنوان الإسلام، وهو الفاصل بينه وبين والكفر.
فهاتان الشهادتان لهما أربع مراتب: المرتبة الأولى: أن يعلم الإنسان محتواهما.
أن يعلم الإنسان علم اليقين أنه لا إله إلا الله، وأن يعلم كذلك بقلبه أن محمداً رسول الله وما يستلزمه ذلك من حقوق النبوة والرسالة، فهذه المرتبة الأولى من مراتب الشهادة الأربع، وهي: العلم بالشيء، وبها فسر قول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:18] , فالمقصود هنا العلم بذلك باليقين الجازم الذي لا يقبل الشك.
المرتبة الثانية من مراتب الشهادة: النطق بها.
والنطق بها عنوان عما في القلب، فإذا نطق بها الإنسان دون أن توافق مافي قلبه كان منافقاً، وهذا النطق هو الذي يتحاكم الناس على أساسه؛ لأن العلم الذي يسبقه خفي لا يطلع عليه إلا علام الغيوب، ونحن ما كلفنا أن نشق عن قلوب الناس، بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أسامة: (هلا شققت عن قلبه؟ إنما نحن قوم نحكم بالظواهر)، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الوحي قد انقطع بالنبوة، ونحن قوم بحكم بالظواهر والله يتولى السرائر، فمن أبدى لنا صفحة عنقه أخذناه).
ومن هنا فإن المرتبة الأولى موكولة إلى علم الله، والمرتبة الثانية هي التي على أساسها تترتب الحقوق وتترتب التعزيرات والحدود.
المرتبة الثالثة من مراتب الشهادة: الالتزام بحقوقها.
الالتزام بحقوق هذه الشهادة بعد النطق بها، فمن نطق بالشهادتين فلم يؤد الصلاة ولم يؤت الزكاة ولم يلتزم بدعائم الإسلام فإنه لم تكتمل شهادته بعد؛ لأن هذا هو المرتبة الثالثة من مراتب الشهادة، ومن لم يؤدها فلا تتم شهادته دونها.
أما المرتبة الرابعة من مراتب الشهادة فهي الإلزام بمقتضاها بعد الالتزام به.
الالتزام به هو أن يلتزم به الإنسان في نفسه، والإلزام بها معناه: أن يسعى لأن يلتزم الناس بها، بأن يبذل الجهد من أجل التزام الناس بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولذلك وجب على كل مؤمن أن يحب للناس أن يدخلوا في الإسلام وأن يشهدوا بشهادة الحق وأن يلتزموا بمقتضاها، وهذه المراتب الأربع لا تتم الشهادة بدونها.
فمن علم مقتضى الشهادة بقلبه ثم لم ينطق بها لا تتم شهادته، ومن علمها ونطق بها دون أن يلتزم حقوقها لم تتم شهادته، ومن علمها ونطق بها والتزم حقوقها ولم يسع للإلزام بها لا تتم شهادته، فإذاً لابد من هذه المراتب الأربع التي هي مراتب الشهادة.(31/19)
الركن الثاني للإسلام: الصلاة
ثم الركن الثاني والدعامة الثانية هي الصلاة.
وهذه الصلاة ميزتها أنها صلة العبد بربه، وهي أوثق عراه به، فهي التي ينال بها المناجاة والقرب، وأقرب أحوال العبد من ربه وهو ساجد، لحديث: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، وهي التي تفتح له فيها الخزائن، وتتقبل رغباته فيها، وتقال عثراته، ويكفر عنه بها ما عداها، وهي أول ما يبدأ به من الأعمال يوم القيامة، فإن نجت للإنسان وكملت له لم يضره ما سواها، وإن ردت عليه طويت كما يطوى الثوب الخلق ثم يضرب بها وجهه وترد عليه أعماله، نسأل الله السلامة العافية.
ومن هنا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (حد ما بين العبد والكفر والشرك ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر).
إن هذه الصلاة يجب أداؤها على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى بشروطها وأركانها في أسبابها -التي هي الأوقات- على وجهها الصحيح، لكنها لا تتم بذلك، فأدنى الكمال فيها أن تأتي فيها بخشوعها، وأن تأتي فيها بسننها اللازمة، ثم بعد ذلك يأتي الكمال بما يكملها من المندوبات وهو أعلى الكمال، فإذا تم خشوعها وحضورها وسننها ومندوباتها وجاءت في وقتها وحصلت في جماعة وأداها الإنسان بكل إخلاص فيها وبكل إقبال على الله سبحانه وتعالى وتجرد له في وقتها وجعل هذا الوقت الذي خصصه للصلاة خاصاً لها لا يريد فيه أي عمل آخر فهذا هو أعلى الكمال، وهو الذي تكون الصلاة به ناهية عن الفحشاء والمنكر.
ووجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر ستة أمور:(31/20)
من أوجه نهي الصلاة عن المنكر أنها حسنة تدعو إلى الحسنات
الوجه الرابع من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أن الإنسان بصلاته يستقيل عثراته ويخفف ذنوبه، والذنب يدعو إلى الذنب، فالسيئة تدعو إلى السيئة، والحسنة تدعو إلى الحسنة، وفي كثير من الأحيان يعجل لبعض الناس جزاء سيئاتهم بالوقوع في سيئات أعظم منها، ويعجل لهم كذلك بعض ثواب حسناتهم بالتوفيق إلى حسنات أكبر منها، ومن هنا فإن الإنسان إذا خفف سيئاته فهذا مدعاة لأن يجتنب الفحشاء والمنكر؛ لأن الفحشاء والمنكر إنما يتجرأ عليها الإنسان بسبب تراكم الذنوب في قلبه حتى يظلم وتغلق مسام القلب عن الإيمان والخوف من الله سبحانه وتعالى، فتأتي الجراءة على الله سبحانه وتعالى.
ويأتي من هذا المدخل أمن مكر الله عز وجل، فيقع الإنسان في الفحشاء والمنكر، أما إذا خفف الذنوب وأزال الصدأ عن القلب فحينئذ سيقبل الإنسان على ما يرضي الله سبحانه وتعالى ويعرض عما لا يرضيه، فتكون الصلاة بذلك ناهية عن الفحشاء والمنكر.(31/21)
من أوجه نهي الصلاة عن المنكر أنها تغسل الذنوب
الوجه الخامس من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أنها بمثابه نهر على باب شخص ينغمس فيه في اليوم والليلة خمس مرات، فهل ترى يبقى من درنه شيء؟ كما قال رسول الله صلى الله عليه سلم.
إن هذه الصلاة نور وضياء عظيم جداً ينور الله به قلوب عباده في الدنيا وفي الآخرة، فهي في الدنيا نور وعلامة لأهلها: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29] , وهي في الآخرة علامة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، فقد قيل له: بم تعرف أمتك يوم القيامة؟ فقال: (إن أمتي يردون علي الحوض غراً محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)، وكل هذا داع لأن تكون الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر.(31/22)
من أوجه نهي الصلاة عن المنكر ما فيها من الخشوع
الوجه السادس من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أن الخشوع الذي فيها مقتض لأن يستحضر الإنسان عرضه على الباري سبحانه وتعالى، وأن يستحضر أن ملائكة يحضرون معه فيرفعون عنه ما كتبوه من أعماله في كل صباح ومساء، فيرتفعون إلى ربهم وهو أعلم، ومن شفقتهم ورحمتهم أنهم عندما يسألهم: كيف تركتم عبادي يقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون.
ومع هذا فإن كتابة الأعمال التي ترفع إلى الله سبحانه وتعالى إذا استحضرها الإنسان بصلاته لابد أن يقلع؛ لأن الإنسان إذا استحضر أن الملك يتقدم برفع عمله في الصباح فيقول: يا رب! عبدك فلان فعل الذنب الفلاني.
ثم في المساء يتقدم إليه فيقول: يا رب! عبدك فلان مازال مصراً على الذنب الذي فعل في الصباح.
ثم في اليوم الذي يليه يقول: يا رب! عبدك فلان مازال مصراً على هذا الذنب.
وتتراكم السجلات حتى تكون مد البصر.
إن الإنسان إذا لم يستحي من هذا فليفعل ما شاء، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
فهذه الأوجه كانت الصلاة منها ناهية عن الفحشاء والمنكر، ومع ذلك فهي متضمنة لذكر الله، وذكر الله أكبر كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(31/23)
من أوجه نهي الصلاة عن المنكر ما فيها من القرآن
الوجه الثاني من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أن هذه الصلاة فيها القرآن، وكفى بالقرآن واعظاً، هذا القرآن كلام الله فيه أوامره ونواهيه وزواجره، وفيه وعده ووعيده، وفيه إرشاده، وفيه تهديده، وفيه ترغيبه، وفيه ترهيبه، فمن سمعه فلم يؤمن به فبأي حديث بعده يؤمن؟ من لم يستفد بالقرآن وعظاً وزجراً لا يمكن أن ينتفع بأي شيء آخر، والصلاة فيها تلاوة القرآن، فأنت تسمع هذا القرآن زاجراً فيكون زاجراً لك عن الفحشاء والمنكر، وبذلك تكون الصلاة ناهية لك عن الفحشاء والمنكر.(31/24)
من أوجه نهي الصلاة عن المنكر تناهي المصلين عن ذلك فيما بينهم
الوجه الثالث من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أن المصلين يجب عليهم أن يتناهوا عن الفحشاء والمنكر، فإذا حضرت معهم فسينهونك عما تقع فيه من المنكرات، وسيرشدونك إلى ما يقربك إلى الله تعالى من أنواع المعروف، وبهذا تزول الفروق بين الناس ويؤدي بعضهم إلى بعض الحقوق، وتتأكد الصلة وتقوى المحبة فيما بينهم.(31/25)
النيات التي ينبغي استحضارها عند الذهاب إلى المسجد
ومن هنا فإن نيات الذهاب إلى المسجد ينبغي أن تكون حاضرة في الأذهان، فهذا المسجد الذي نقصده ونكثر الخطا إليه لابد أن تكون نياتنا في قصده واضحة لأذهاننا.
فالنية الأولى: الاستجابة لداعي الله عندما نسمعه ينادي: حي على الصلاة.
حي على الفلاح.
فنجيب داعي الله سبحانه وتعالى.
النية الثانية: أداء ما افترضه الله تعالى علينا على الوجه الأكمل، حتى تكون صلاتنا حائلة بيننا وبين معصية الله تعالى مقربة لنا إلى مرضاته.
النية الثالثة: ما وعدنا الله تعالى به من الأجر في الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وما جاء في الصف الأول، وغير ذلك من الأجر الكثير في قصد المساجد والمشي في ظلمات الليل إليها، كما قال رسول صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ كثرة الخطا إلى المساجد، وإسباغ الوضوء على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط).
ثم بعد هذا نية الجهاد في سبيل الله، فقد أخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن عمرو بن حزم: (من ذهب إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً).
كذلك نية تعليم من في المسجد ونية التعلم منهم، فكل ذلك مطلوب شرعاً، وإذا خرجت من المسجد ونويت أن تعلم من احتاج، فإذا رأيت مقصراً في أمر من أمور صلاته أو من أمور ديانته في المسجد خلوت به فعلمته بكل رفق وبكل لين، وسألته: هل فعل ذلك عن جهل أو عن علم؟ وسألته: لم فعلت هذا؟ فإن أجابك بعلم عرفت الوجه الذي قصده، وإن كانت المسألة خلافية لم تتعرض لها، وإن أجابك عن جهل أو استشفيت منه جهلاً بالمسألة علمته بكل لطف ورفق، فتكون بذلك من الذين يعمرون المسجد بتعليم العلم.
ثم بعد هذا أن تتعلم منهم، وهذا التعلم لا يقتصر على ما تسمعه بأذنك، بل ما تشاهده بجوارحك من الليونة في أيدي المسلمين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لينوا في أيدي إخوانكم)، ومن استواء الصفوف، ومن الأخلاق الحسنة، ومن الابتسامة في وجه أخيك المسلم، وغير ذلك مما تتعلمه في المسجد.
ثم بعد هذا نية الرباط، وهي أن تربط جوارحك في هذه الساعة عن معصية الله، فهذه الجوارح إذا خرجت إلى الشارع لابد أن تشاهد بعض ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، وإذا ذهبت إلى البيت فكثيراً ما تقع أيضاً في معصية من معاصي الله، أما ساعتك التي تجلسها في المسجد بقلب سليم مقبل على الله فإن جوارحك ممسوكة عن المعصية، فأنت هنا معتكف عن معصية الله تعالى قد كبحت جماح جوارحك، فسمعك مشغول بذكر الله، ولسانك مشغول به، وبصرك مشغول عن النظر إلى ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى ما دمت في المسجد.
كذلك من هذه النيات نية التماس البركة من المسجد، فهذه البقعة هي أحب البقاع إلى الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أحب البقاع إلى الله مساجدها، وأبغض البقاع إلى الله أسواقها)، وهذا سوق الله، وأنت جئت تريد أن تكون من المشترين في سوق الله وأن تكون من العمال لهذا السوق.(31/26)
من فضائل صلاة الجماعة
كذلك من هذه النيات أن تنوي تكثير سواد المسلمين وإعزاز كلمة الدين، فإنه لا شيء أعظم في نفوس أعداء الله من هذه الصلاة التي يجتمع لها المسلمون، فيقفون فيها صفاً واحداً فيه غنيهم وفقيرهم، وكبيرهم وصغيرهم، وقويهم وضعيفهم، ومريضهم وصحيحهم، يستوون في الصف ويلين كل واحد منهم لأخيه ويقف إلى جنبه، ولا يتأذى بمسه له، ويتواضع له تمام التواضع، ويحس بشفقته عليه ورحمته له، ويقفون صفاً واحداً كما تصف الملائكة عند ربها.
إن هذا من شعائر الإسلام التي يلزم أن نبرزها، وأن نكثر سواد المصلين، وأن نكثر سواد الحاضرين في المساجد، وأن يكون ذلك شاملاً لحضور الرجال والنساء والصبيان وغير ذلك، فكل فئات المسلمين ينبغي أن تجتمع هنا وأن تزول عنها الفوارق، وأن يقع بينها تمام الرحمة والمودة والمحبة في هذا المكان الذي منه انطلقت المحبة وانطلق الإيمان.
كذلك فإن من نيات الذهاب إلى المسجد أن تنوي التماس بركته من الملائكة وصالح الإنس؛ فإن الملائكة يتعرفون على الناس على أبواب المساجد، وهم الذين تلتمس شفاعتهم، فإن الله تعالى ذكر أن حملة العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7 - 9].
ومن هنا فإننا محتاجون إلى التعرف إلى الملائكة، ولا شك أن من عرف أن مسئولاً كبيراً أو وجيهاً من الوجهاء يجلس في هذا البيت ويتعرف إلى كل من فيه فإنه إذا كان ذا حوائج دنيوية سيقصد ذلك الوجيه ويتعرف إليه، وإن الملائكة وجهاء عند الله سبحانه وتعالى، وهم هنا في هذا المسجد، فتعرفنا عليهم يقتضي قرباً، فشفاعتهم ودعوتهم واستغفارهم وردهم للسلام وإجابتهم للدعاء بظهر الغيب كل ذلك نحن محتاجون إليه، فمن دعا لأخيه بظهر الغيب كان عند رأسه ملكان يقولان له: (آمين ولك بمثله).
كذلك فإن حظور الصلاة في الجماعة مدعاة للتغلب على شهوات النفوس، فإن الإنسان قد لا يستجاب دعاؤه في نفسه بسبب معصية ارتكبها كترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يستجب دعاؤه، أو كأكل الحرام، فمن عاش من الحرام لا يستجاب دعاؤه، فإذا احتاج إلى استجابة الدعاء ذهب إلى المسجد فاشترك مع المصلين في دعائهم، يقرءون جميعاً في صلاتهم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]، والله سبحانه وتعالى هو أكرم الأكرمين يعطي قبل المسألة ويعطي بعدها، وأنت محتاج إلى ما عنده: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، ومن هنا احتجت إلى أن يستجاب دعاء الناس حتى تدخل في جملة المصلين ويستجاب دعاؤك بذلك.
كذلك فإن قول المصلين: (آمين) بعد الفاتحة شعيرة من شعائر الإسلام أيضاً يحسدهم عليها اليهود، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أعظم ما تحسدكم عليه يهود: آمين)، فهذه الكلمة عظيمة جداً في الميزان، وشهود المصلي لها عندما يقول الإمام: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] , فيحضر ذلك فيقول: (آمين)، وإذا صادفت تأمين الملائكة غفر له، وهذه الكلمة القليلة الحروف السهلة على اللسان تصادف تأمين الملائكة فيغفر للإنسان، ولهذا حسدنا اليهود عليها حسداً شديداً، وهي متاحة لنا في كل الأوقات، فبالإمكان أن تستقيل عثراتك وتغفر ذنوبك في كل ركعة بعد أن يقول الإمام: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] , وهذا فضل عظيم وأجر كبير ينبغي أن يتنافس فيه المتنافسون: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].(31/27)
من أوجه نهي الصلاة عن المنكر استحضار اطلاع الله على العبد
الأمر الأول: أن الإنسان إذا سجد لله سبحانه وتعالى وهو يعلم أنه مطلع على مافي قلبه، مطلع على قرارة نفسه، ويعلم الحامل له على هذا، وأن الله يعلم وساوس نفسه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد فإنه سيستحيي منه ويستحيي أن يناقض نفسه بأن يكون هنا في المسجد ساعياً للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى خائفاً من ذنوبه وزلاته، فإذا خرج من المسجد بدأ يجمع الذنوب التي كان يستقيلها في المسجد، فهذا التناقض الواضح يخافه الإنسان فلذلك لا يفعله المصلون.
فالمصلون حقيقة الصلاة لا يمكن أن يقعوا في هذا التناقض، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19 - 22].
ويقال: إن أبا الحسن الشاذلي حين جاء إلى أهل الإسكندرية سألهم فقال: أتجزعون وتهلعون؟ قالوا: نعم.
قال: أنتم إذاً لا تصلون.
وكان قد سألهم أولاً فقال: أتصلون؟ قالوا: نعم.
قال: أتجزعون وتهلعون؟ قالوا: نعم.
قال: إذاً أنتم لا تصلون! قالوا: أفنتركها؟ والمقصود عنده التمام الأكمل وأعلى درجات الكمال في الصلاة، فأعلى درجات الكمال في الصلاة هو أن تكون هذه الصلاة على هذا الوجه الذي ذكرناه، فيعفر الإنسان جبهته لله وهو يستقيله عثراته ويتوب من سيئاته ويعاهده أن لا يعود إلى ما لا يرضيه، ويسعى بذلك أن يكون حابساً لجوارحه في المسجد عن المعصية.(31/28)
أنواع التعبدات التي تشتمل عليها الصلاة
الصلاة مشتملة على ثلاثة أنواع من أنواع التعبدات:(31/29)
النوع الأول: التعبدات القلبية
النوع الأول: التعبدات القلبية.
وبدايتها بالنية، فالإنسان ينتفض من هذه الدنيا ويخرج منها مقبلاً على الله سبحانه وتعالى، وعلامة نبذه للدنيا أنه إذا كبر تكبيرة الإحرام نبذ الدنيا بيديه وراء ظهره، ورفع اليدين هنا رمز لنبذ الدنيا وراء ظهره والإقبال على الله سبحانه وتعالى، ولهذا يجتهد في استقبال القبلة، ويجتهد في تسوية الصف؛ لأنه قد تخلص من الدنيا وأقبل على الباري سبحانه وتعالى، ولذلك لا يمتخط ولا يتفل أمام وجهه ولا عن يمينه، بل يجعل ذلك تحت رجله أو عن يساره.
ثم هذه النيات مقتضية كذلك لأن يسعى الإنسان لتنميتها؛ لأن هذه النية هي إكسير الأعمال، فهي التي تنميها بأضعاف مضاعفه أعني النيات التي ذكرناها في القدوم إلى المسجد، ونيات سواها، ونيات في أداء الصلاة نفسها بالتقرب إلى الله بما افترضه، وبمنافسة ملائكته، وباتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبالتماس موعوده، وبالخوف من عقابه؛ كل هذه النيات مطلوبه شرعاً.
وإن ما يذكره بعض الناس من أن عبادة التجار كما يسمونها هي عبادة من يخاف العقوبة ويرجو الثواب إن ذلك التصور غير صحيح؛ لأن الله تعالى ذكر الأنبياء عليهم الصلاة السلام بقوله: {كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] , وهم أكمل الناس حالاً.
وكذلك الذين رضيهم الله تعالى من عباده المؤمنين قال الله في وصفهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16] , إن الخوف من الله والطمع فيه ليس نقصاً في الإيمان، بل هو من معرفته سبحانه تعالى؛ لأن من عرفه حق المعرفه عرف أنه لو اجتمع الإنس الجن في صعيد واحد فسألوه فأعطى كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.
فمن هنا لزم أن ينوي الإنسان هذه النيات كلها في صلاته، فينوي أداء ما افترضه الله عليه، وينوي زيادة القرب منه والخشوع بين يديه والانتساب إليه، وينوي كذلك الخوف منه ورجاء موعوده والخوف من عقابه، وينوي كذلك منافسة الملائكة وأهل الخير في عبادته سبحانه وتعالى، فهو المستحق لهذه العبادة.(31/30)
النوع الثالث: التعبدات الفعلية
النوع الثالث من أنواع العبادات في الصلاة هو الأفعال.
فذكرنا النيات وهي عمل القلب، والأقوال وهي عمل اللسان، والنوع الثالث من التعبدات في الصلاة هو عمل الجوارح، وهذا أهم شيء فيه القيام والسجود، فهما طرف الصلاة، القيام طرفها الأعلى؛ لأن الإنسان ينتصب فيه، والسجود طرفها الأدنى؛ لأن الإنسان يخفض فيه أعاليه ويرفع فيه أسافله، وبذلك فهما الطرفان, وبينهما واسطتان وهما الركوع والجلوس، فهذه هي أفعال الصلاة، وهذان الطرفان اختلف فيهما أيهما أفضل: طول القيام أو كثرة السجود؟ قالت طائفة من أهل العلم: كثرة السجود أفضل؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، ولأن السجود شرع دون قيام كسجود التلاوة، وسجود الزلزلة، وسجود الشكر وغير ذلك.
وقالت طائفة أخرى: بل القيام أفضل؛ لأن الإنسان فيه يتلذذ بقراءة القرآن وبحقيقة المناجاة، وهو الذي يبتدئ به صلاته ويفتتحها به.
إلا أننا نقول: إن الله سبحانه تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان:64]، فبدأ بالسجود قبل القيام، ولا شك أن دلالات القرآن معجزة، فهذا مشعر بتفضيل السجود على القيام.
ومع ذلك فإن القيام عبادة فعلية فاضلة جداً، فالإنسان ينتصب لرب العالمين ويتذكر الوقوف بين يديه عندما يأتي يوم القيامة حافياً عارياً غير مختون، ينظر أيمن منه فلا يرى إلا عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا عمله، يأتي متجرداً لله سبحانه وتعالى، فينتصب ويقف بين يديه كما يقف الناس لرب العالمين يوم القيامة.
وبهذا ينبغي أن يستحضر الإنسان إذا وقف في الصلاة هذا الوقوف، وبذلك ينصرف عن الانشغالات الأخرى، ولا يكثر الحركة ولا يكثر التصرفات المختلفة، فهو واقف بين يدي ديان السماوات والأرض يناجيه ويخاطبه.
ثم الركوع الذي هو المرحلة التي تلي القيام، وهو أيضاً إشعار بالمذلة لديان السماوات والأرض لكبريائه وجلاله، وأدب معه.
ثم بعد ذلك الجلوس، وهو استراحة الإنسان في الصلاة ليتذكر ما يناجي به في السجود.
وكذلك وداع الصلاة، ففيه تسليمها الذي هو التحليل، فهذه هي الأركان الفعلية.
والتحسينات الفعلية الأخرى منها الرفع أولاً، وقد ذكرنا أنه نبذ للدنيا وراء ظهره.
ومنها القبض، وحكمته كذلك رباطة الجأش وإمساك القلب، ومنع اليدين من التصرف؛ لأن الأنسان إذا قبض يديه واستشعر أن يديه في عبادة لايمكن أن يكثر الحك ولا تقليب ملابسه ولا تصرفاته الأخرى، أما إذا كانت يداه في حرية كاملة فربما زلت به قدمه فأوقع به الشيطان في بعض الحركات أو الحكات أو غير ذلك.
كذلك الالتفات بالسلام، فهو من فضائل الأفعال في الصلاة، فإذا التفت الإنسان عن يمينه وسلم والتفت عن شماله وسلم فإن ذلك مقتض للخروج من جلال الصلاة وإدراك منه لعظمة ما كان فيه، وتسليم على من معه من المسلمين، وسعي متجدد لأن يجدد العبادة مرة أخرى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]، هذه هي الصلاة.(31/31)
النوع الثاني: التعبدات القولية
أما النوع الثاني من أنواع العبادات في الصلاة فهو العبادات القولية.
وهذه من أعظمها التكبير، فالتكبير يقتضي من الإنسان ألا يلتفت إلى ما سوى الله، فالذي يقول: (الله أكبر) بلسانه وبقلبه يعلم أن ما سواه لا يساوي شيئاً، وأن الإقبال عليه يقتضي منه تمام الخشوع والمذلة وتمام الخوف منه ورجائه والإعراض عما سواه.
ومن هنا فإن هذه الكلمة إذا قالها العبد ملأت ما بين السماء الأرض، وهي رمز القوة في الإسلام، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم جيوشه إذا ارتفعوا أن يكبروا وإذا انخفضوا في بطون الأودية أن يسبحوا، فإذا واجه الإنسان أي شيء يستعظمه ويستكبره فإن عليه أن يقول: الله أكبر.
فإذا صعد جبلاً أو صعد مكاناً مرتفعاً فعظم في نفسه ينبغي أن يزيل عظمة الحادث من نفسه ويتطهر منها فيقول: الله أكبر.
وإذا نظر إلى أي شيء يعجبه يقول: الله أكبر.
فيتصاغر لديه ما هو فيه، وإذا كان في مكان منخفض سبح الله سبحانه وتعالى وعظمه؛ لأن هذا الانخفاض يذكره بخلاف الصفة وضدها، فالله مخالف للحوادث وهو العلي الحميد، فيذكره بذلك فيسبحه سبحانه وتعالى ويعظمه.
إن التكبير ينبغي أن يكون بقلب حاضر، وأن يدرك الإنسان معناه، وأن يستشعر عظمة من يناديه إذا كبره، وأن يستشعر أن تحريم الصلاة التكبير، وأنه الآن دخل في حريم عظيم، فإنه إذا كبر دخل في مكان في حصن مغلق لا ينبغي أن يخترقه شيء، وإذا كان كذلك تحصن من الشيطان الرجيم ومن غوائله ونفخه ونفثه ووساوسه، وكذلك تجنب وساوس النفوس وأمور الدنيا، وحاول أن يتخلص من كل ذلك وأن يقبل على الله.(31/32)
من التعبدات القولية في الصلاة الفاتحة
ثم بعد هذا تأتي الفاتحة التي جعلها الله تعالى هي الصلاة فيما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال: الله حمدني عبدي.
فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال الله: أثنى علي عبدي فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال الله: مجدني عبدي -وفي رواية: فوض إلي عبدي- هذا لي ولعبدي ما سأل.
فإذا قال العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قال الله: هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل.
فإذا قال العبد: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)، فجعل هذه الفاتحة هي الصلاة، قال: (قسمت الصلاة)، ولم يذكر من الصلاة إلا الفاتحة، فدل هذا على عظمة هذا القول من أقوال الصلاة.
وإن أبلغ الثناء على الله سبحانه تعالى هو ما أثنى به على نفسه في افتتاح كتابه، وهو هذه الآيات العظيمات التي يبتدئها الإنسان كأنه غائب، فيأتي بلفظ الاسم الذي هو مشعر بالغيبه فيقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، ولم يقل: الحمد لك يارب العالمين، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، وأتى بهذين الاسمين المشتقين من هذة الصفة كذلك على وجه الغيبه، وكذلك: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] أتى بهذه الصفة أيضاً على وجه الغيبة، لكن إذا بلغ هذا المستوى من الثناء على الله وتنزيهه وحمده انتقل من مقام الغيبة إلى مقام الحضور فقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، وهذا الانتقال هو الذي يسميه أهل البلاغة التفاتاً، وفيه يقول السيوطي رحمه الله تعالى: فالعبد إذ يحمد من يحق له ثم يجي بالسمة المبجلة فكلها محرك الإقبال لمالك الأمور في المآل فيوجب الإقبال والخطابا بغاية الخضوع والطلابا للعون في كل مهم يقصد وقس عليه كل ما قد يرد فلذلك يشرع للإنسان أن يقف على رأس كل آية من آيات الفاتحة، ويستلذ بهذا الحوار العظيم التي أتيحت له فيه الفرصة ليحاضر ربه سبحانه وتعالى.
إننا جميعاً نغبط موسى عليه السلام أن الله جعله كليمه، وهذه منزلة عظيمة امتن الله عليه بها، {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] , وأنت أيها المصلي عندما تقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] يخاطبك الله سبحانه وتعالى: (حمدني عبدي)، وإذا استحضرت هذا المكان الذي أنت فيه فإنك تنال لذة لا يعدلها شيء، تنال مقام المناجاة الحقيقية، كأن الله يخاطبك وقد وصلت إلى هذا المستوى فيجيبك ديان السماوات الأرض.
ومن هنا شرع لك أن تقف على رأس كل آية لتنال لذة المناجاة، فموسى عليه السلام عندما خاطبه ربه فقال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17] استرسل معه في الجواب ولم يقتصر على طبق السؤال للذة المناجاة، فقال: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] , وطبق السؤال أن يقول: (هي عصاً) فقط وينتهي الكلام، لكنه قال: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] , ليتلذذ بمناجاة الله سبحانه وتعالى.(31/33)
على الإنسان أن يطيل في صلاته لمناجاة ربه
ومن هنا فإن على الإنسان إذا أقبل على الصلاة أن يطيل النفس في الصلاة، وأن يعلم أن هذا الوقت الذي يقتطعه من وقته هو الوقت الذي أذن له الله بالمناجاة فيه، فلا تطول عليه ولا تثقل عليه فإنها لا تثقل على الخاشعين، لذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطيل في الركوع والسجود، ويطيل الركعتين الأوليين ويخفف الركعتين الأخريين، ويجعل ركوعه قريباً من قيامه، وسجوده قريباً من ركوعه، وقال أنس بن مالك رضي الله عنه عندما صلى وراء عمر بن عبد العزيز: (ما صليت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى.
فقيل له: ماذا كان يصنع؟ فقال: كان يطيل الركوع والسجود ويخفف القيام والجلوس).
وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عندما شكاه أهل الكوفة إلى عمر أنه لا يحسن الصلاة: (بالله الذي لا إله إلا هو لقد صليت بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عمر: ذلك الظن بك يا سعد، فماذا كنت تصنع؟ قال: كنت أركد في الأوليين وأخف في الأخريين) (أركد) معناها: أطيل.
إن كثيراً من الناس تطول عليه هذه الصلاة، وتشق عليه مشقة عظيمة، ولا يشق عليه الوقوف في الشارع وانتظار سيارات الأجرة لحاجته، فيمكث نصف ساعة أو أكثر على الشارع ينتظر السيارات، ويقضي كثيراً من أوقاته في متابعة البرامج الإذاعية أو التلفازية، ويجلس للمناقشة والكلام العادي فتمر عليه الساعات دون أن يشعر بطولها، وهو الآن يناجي ربه سبحانه وتعالى، يناجي ديان السماوات والأرض، فلماذا تطول عليه هذه المدة طولاً شديداً؟ ولماذا يضن على نفسه بهذه اللحظات التي يتطهر بها ويقبل بها على الله سبحانه وتعالى؟ إن هذا من عمل الشيطان لا محالة، وإن كثيراً من الناس لا تأتيه أشغاله وانشغالاته ولا يضيق وقته إلا إذا دخل المسجد وجاء إلى الصلاة، وإن العجيب في هذا الأمر ما شاهدناه من بعض الناس، فنحن نعلم علم اليقين أننا يجب علينا أن نؤمن بالغيب، وأن نعلم أن الشيطان يوسوس للإنسان في الصلاة، ولكن كثيراً ما يخرج هذا عن عالم الغيب إلى عالم الشهادة، فنرى الإنسان العاقل اللبيب إذا دخل الصلاة فعل أفعالاً لم يكن يفعلها في غير الصلاة كأنه يتخبط من مس الشيطان، ألا تشاهد هذا؟ تراه يعبث بأظافره، ويمس بأصابعه ريقه ويمسح به بعض الأماكن من بدنه، ويتصرف تصرفات غير مضبوطه، ويكثر الحركة، بل كثيراً ما يلتفت في الصلاة، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة، فقال: (اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة أحدكم)، وقال: (لا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه).
إن ما نشاهده من حركات بعض الناس وتصرفاتهم في الصلاة يخرج وسوسة الشيطان من أن تكون من عالم الغيب إلى أن تكون من عالم الشهادة، فنحن نراها ونعلم أنه لو كان في خارج الصلاة لم يتصرف هذه التصرفات أبدا.
وتشاهد أيضاً أن كثيراً من الناس يأتيه الشيطان بالوسوسة في الطهارة ولا يأتيه بالوسوسة في غيرها، فترى هذا حتى يكون من عالم الشهادة لا من عالم الغيب، تراه إذا عد النقود لا يوسوس في عدها، إذا عد ثلاثة آلاف لا يمكن أن يحسبها أربعة أو خمسة، لكن إذا عد ثلاث غسلات توهمها ثلاثاً أو خمساً وهكذا، فيأتي الوسواس في أمور العبادة وفي أمور الصلاة، وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم: أن الشيطان الموسوس في الصلاة شيطان اسمه (خنزب)، وأن من وجده فإنه عليه أن يستعيذ بالله منه، وأن ينفث عن يساره ثلاثاً)، كما أخرج ذلك مسلم في الصحيح من حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه.
وكذلك شيطان الطهارة فهو شيطان اسمه (الولهان)، وهو يوسوس للإنسان في طهارته.(31/34)
الركن الثالث للإسلام: الزكاة(31/35)
وعيد مانعي الزكاة
والذين يمنعون الزكاة يتعرضون لكثير من الوعيد الشديد، فهذا الوعيد قسمان: قسم منه للأمة بكاملها، وفيه قول الرسول صلى الله عيله وسلم: (وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا).
القسم الثاني يختص بالمانع نفسه الذي لم يزك ماله وكنزه، فهذا متوعد بالوعيد الشديد في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35].
إن الفاجر والكافر ومانع الزكاة يوم القيامة ينفخه الله تعالى ويضخمه حتى يكون مقعده من النار كما بين مكة والمدينة، ويكون كل ضرس من أضراسه كجبل أحد، ويكون جنبه بهذه المثابة، فيؤخذ ماله ويؤتى به لا يفقد منه أوقية ولا خمس أواق ولا عشر أواق ولا عشرين أوقية، فيذاب ويوضع، لا يوضع منه درهم فوق درهم ولا دينار فوق دينار، حتى يكسى به جنبه ووجهه وظهره نسأل الله السلامة العافية، كلما تغير جلده أحمي مرة أخرى في نار جهنم وأعيد إليه، فلذلك يعرض جنبه ووجهه حتى يلصق به كل ماله، لا يفقد منه ديناراً ولا درهماً ولا يجعل دينار فوق دينار ولا درهم فوق درهم، نسأل الله السلامة العافية.
كذلك فإن من منع زكاة متوعد بعذاب القبر في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن مانع الزكاة إذا وضع في قبره أتاه شجاع أقرع في قبره، ولا يزال يلدغه ويؤذيه) , وهذا نوع من أنواع عذاب القبر، فمنع الزكاة من أسبابه.
وكذلك من العقوبات المعجلة لمانع الزكاة في الدنيا بغض الناس له، فالناس جميعاً يبغضون مانع الزكاة ويبغضون البخيل، حتى البخلاء بعضهم يبغض بعضاً، ومانعوا الزكاة بعضهم يبغض بعضاً، وهذه حكمة واضحة معروفة، فهي من العقوبات الدنيوية المعجلة.
إن هذه الزكاة لو أخذ بحقها الصحيح ووزعت بين الناس بالعدالة التي بينها الله سبحانه وتعالى حيث لم يكل قسمتها إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل، بل تولى قسمتها في كتابه في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ} [التوبة:60] , ولو وزعت هذا التوزيع الصحيح لما حصلت مجاعة في الأرض، ولما وجد فيها من الفقراء من لا يجد لقمة عيشه ويبيع دينه بسبب فقره، أو يقع في كثير من المناكر بسبب حاجته، فلو أديت هذه الزكاة على الوجه الصحيح لحالت دون كثير من الرذائل.
فكثير من الرذائل من ورائها الفقر، ولهذا جعل الرسول صلى الله عيله وسلم الفقر قريناً للكفر في قوله: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر)، فالفقر داع لكثير من الرذائل، فيجد الإنسان فيه مذلة وطمعاً في غير الله، وخوفاً من غير الله، وكذلك يسعى في كثير من الأحيان للحصول على المال بأوجه غير صحيحة، كالسرقة والغش والخداع وغير ذلك.(31/36)
من حكم الزكاة
الركن الثالث من هذه الأركان بعد الشهادتين والصلاة هو الزكاة.
هذه الزكاة حكمتها الأصلية إبداء مسئولية الأغنياء عن الفقراء فيما استخلفهم الله تعالى فيه وجعله تحت أيديهم من المال، وأن يعلموا أن المال ليس ملكاً لهم، فلم ينالوه ميراثاً عن آبائهم ولم ينالوه بحظوظهم وكد جوارحهم وأعمالهم، بل نشاهد كثيراً من الناس أقوى منهم أبداناً وأقوى عقولاً وتفكيراً وأفرغ بالاً، ويسعون لجمع هذا المال السنوات ذوات العدد فلا يصلون منه إلى طائل.
ونجد كثيراً من الناس يعيش عمراً طويلاً ويسخر عمره كله لجمع المال ومع ذلك يموت فقيراً، فعلم هنا أن المال رزق الله، وأنه ليس ملكاً للإنسان وإنما هو أمانة عنده، وهو وكيل فيه ينتظر العزل في كل حين، وعزله إما بموته، وهذا العزل النهائي، فإذا مات لم يصحب من ماله إلا كفنه وحنوطه، إذاً هذا العزل الأخير.
وإما أن يعزل بما دون ذلك كالفقر، والجائحة التي تجتاح ماله، والديون التي تقضي على تصرفاته وتحجر عليه، أو بوجود الأولاد الذين هم مبخلة مجبنة، فالإنسان يمكن أن يعطي ويجود مالم يكن له أولاد، أما إذا كانت له ذرية صغار فإن ذلك داع للجبن والبخل، ولهذا ضرب الله لنا هذا المثل العظيم في كتابه في قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [البقرة:266]، فقوله: (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ)، هذا داع لحرصه على المال وجمعه له، ومن هنا فإن من أوجه العزل أن يكون للإنسان ذرية.
وكذلك من أوجه العزل الكبر، فالهرم متعب للجسم وناقص للعقل ومانع من التصرف في كثير من الأمور، فلابد أن يصل الإنسان إلى هذا الكأس الذي يشرب منه كل الناس، وينتقل إلى هذا المكان الذي ينتقلون إليه جميعاً، ومن لم يمت في قوته وشبابه يصل إلى الهرم المفند الذي يمنعه تصرفاته وملذاته.
وبعد هذا أنواع أخرى من أنواع العزل، كالمرض المانع من التصرف، وكثير من الناس تشل جوارحه في حياته فيعزل بذلك عن التصرف في ماله، فيرى ماله يتصرف فيه الآخرون، ويمرض فترات من الزمن فيرى أن كثيراً من الناس لم يكونوا مؤتمنين على ماله قد اؤتمنوا عليه وسعوا فيه بما لا يرضيه، فهذه أنواع من أنواع العزل.
إن الذين ولاهم الله على هذا المال جعل عليهم وفي أعناقهم أمانة عظيمة، وهي حقوق الفقراء الذين خلق الله لهم هذا المال، فالله خلق المال للناس أجمعين، وجعله تحت أيدي بعضهم ليكون مسئولاً عمن سواه، وشرفه بذلك: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32].
وكذلك من حكمة الزكاة وجود الترابط وحصول الألفة بين المجتمع، فإن الأغنياء يعطون جنس مالهم إلى الفقراء، فتؤخذ من أغنيائهم زكاة ترد على فقرائهم كما قال صلى الله عليه وسلم، وكذلك فإن من حكمة الزكاة أن يستشعر الإنسان أن هذا المال الذي تحت يده ليس مملوكاً له، وفيه حق لابد من إخراجه، ويستشعر حق الله تعالى فيه فيخرجه.(31/37)
الركن الرابع للإسلام: صيام رمضان
ثم بعد هذا يأتي الركن الرابع وهو صيام شهر رمضان.
وهذا الصيام حكم مشروعيته كثيرة متعددة، ومنها التشبه بالملائكة الكرام الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فليست لهم ساعة للأكل ولا ساعة للشرب، ولا ساعة للنوم ولا ساعة للراحة، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ونحن ننافسهم ونسعى للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بما يتقربون به إليه.
فمن هنا شرع الله لنا الصيام وأثاب عليه بالثواب الجزيل الذي يقارن عمل من مضى بل يزيد على ذلك، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مقارنة هذه الأمة والأمتين السابقتين -اليهود والنصارى- كرجل دعا من يعمل له إلى نصف النهار على قيراط واحد، فعمل اليهود إلى نصف النهار -إلى صلاة الظهر-، وهذا العمل الطويل نالوا عليه قيراطاً واحداً، ثم دعا من يعمل له من الظهر إلى العصر على قيراط، فعمل النصارى مابين الظهر والعصر واستحقوا قيراطاً واحداً، ثم دعا من يعمل له من العصر إلى غروب الشمس على قيراطين فجاءت هذه الأمة، فغضب اليهود النصارى لأن الأجر قد ضوعف، فأخبرهم ربنا سبحانه وتعالى أن هذا فضله يختص به من يشاء.
فهذه الأمة شرفها الله تعالى بتضعيف الحسنات وبعدم تضعيف السيئات، ومن هنا فإنه: (من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله)؛ لأن رمضان في الغالب ثلاثون يوماً، والستة أيام عليها تكون ستة وثلاثين يوماً، وإذا ضربتها في عشرة -لأن الحسنة بعشر أمثالها- تكون ثلاثمائة وستين يوماً، وهي عدد أيام السنة، وبذلك يكون الإنسان كأنما صام السنة بكاملها.
ومن حكمة الصيام كذلك أن يحس الأغنياء بمرارة الحرمان، فُيرحَم الفقراء، ولهذا يقول الشاعر: لعمري لقد عضني الجوع عضةً فآليت أن لا أمنع الدهر جائعاً وكذلك فإن من حكم هذا الصيام أنه مخفف لشهوات النفوس كابح لها مضيق للعروق على الشيطان، فالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فإذا ضيق عليه العروق بالصيام انشغل عنه، وقد أعاننا الله في رمضان بتصفيد المردة وبفتح أبواب الجنة وإيصاد أبواب النار، وبتنزل الرحمات، وجعله شهر عبادة، وجعل فيه ليلة هي ليلة القدر خير من ألف شهر يزداد بها عمر الإنسان بثلاث وثمانين سنة وزيادة؛ لأن فائدة العمر التقرب إلى الله سبحانه وتعالى وعبادته، والذي يقوم هذه الليلة في السنة يزداد عمره على الأقل بثلاث وثمانين سنة وبضعة أشهر، فيكون كأنما عاش هذه الفترة بليلة واحدة.
وكذلك فيه العشر الأواخر التي هي أفضله، وقد شرع الله سبحانه وتعالى صيامه وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامه، ورتب على ذلك مغفرة الذنوب، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وفيهما عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وفيهما عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
وكذلك فهو شهر الجود والبذل، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (كان رسول الله صلى الله عليه سلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يلقاه في كل ليلة من ليالي رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة).(31/38)
الركن الخامس للإسلام: الحج(31/39)
من حكم الحج تعظيم شعائر الله
وكذلك فإن الإنسان يستحضر أن الذين يشهدون الموقف كثير منهم لن يشهده أبداً، فلا يعود عليه هذا اليوم إلا وهو تحت التراب وبين الجنادل، وأن الذين شهدوه كذلك من الماضين قد تفاوتوا هذا التفاوت العجيب، وأن هذا المكان على مر الزمان يأتي فيه الناس لتجديد هذا العهد مع الله سبحانه وتعالى.
ويستحضر الإنسان شعائر الله سبحانه وتعالى وما جاء في تعظيمها، كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] , ويستحضر أن الصفا والمروة من شعائر الله، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] , ويستحضر كذلك هذا البيت العتيق الذي أعتقه الله تعالى من العبادة في الدنيا فلم يعبده المشركون الذين كانوا يعبدون الحجارة، وإذا لم يجد أحد منهم ما يعبده من الحجارة جمع ربوة من تراب فحلب عليه شاة فإذا يبس لبنها اتخذه صنماً، وكان عمر بن الخطاب في الجاهلية يتخذ صنماً من تمر، فإذا جاع أكله ثم اتخذ صنماً آخر، ومع هذا فلم يعبدوا هذه الكعبة، فقد أعتقها الله تعالى وشرفها عن ذلك، فلم يعبدوا الكعبة ولم يعبدوا الحجر الأسود ولم يعبدوا مقام إبراهيم.
ومن هنا يستحضر الإنسان ما جاء في حديث ابن عباس: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن استلمه أو قبله فكأنما قبل يمين الرحمن)، وكذلك ما جاء في استجابة الدعاء في الطواف وفي السعي، وما جاء في استجابة الدعاء بعد رمي الجمرة الصغرى وبعد رمي الجمرة الوسطى، وما جاء في استجابة الدعاء بعرفات، وما جاء في الوقوف بجمع بمزدلفة، ذلك الوقوف الذي بينه الله تعالى في كتابه وأمر به: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:198 - 199].(31/40)
من حكم الحج تجديد العهد مع الله بالعبودية
كذلك من مشاهد القيامة التي يذكر بها الحج الحشر في عرفات، فإن الناس يجتمعون في هذا الوادي الذي هو بطن نعمان الذي أخرج الله فيه من آدم ذريته، كما في الحديث: (مسح الله ظهر آدم فأخرج منه ذرية، فقال: أي ربي! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون.
ثم مسحه ثانية فأخرج منه ذرية، فقال: أي ربي! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون.
وحينئذ دعاهم الله سبحانه وتعالى فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا).
فيأتي المؤمنون لتجديد هذا العهد، فيجددون هذا العهد مع الله في كل سنة، هذا المكان الذي قلنا فيه: (بلى شهدنا) نعود إليه في هذا اليوم من كل سنة فنقول: بلى شهدنا.
ولذلك فأفضل الدعاء دعاء يوم عرفه، وأفضل ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبيون من قبله: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) كما في الحديث، فيجدد الناس بذلك العهد وينتظرون الوعد.
وقد أخرج الشيخان في الصحيحين من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
من قالهن في يوم فمات دخل الجنة، ومن قالهن في ليلة فمات دخل الجنة)، هذا الدعاء العظيم الذي هو سيد الاستغفار فيه تذكر لهذا الموقف؛ فإن الإنسان يقول فيه: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك)، ويقر بذلك بالربوبية، (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت)، وهذا إقرار بالإلهية؛ لأنه حقق أنه لا يعبد من سواه ولا يلتمس نفعاً ولا ضراً إلا منه سبحانه وتعالى، فلذلك قال: (وأنا على عهدك)، وهذا العهد هو الذي عاهدهم عليه عندما قال: ألست بربكم؟ فقالوا: بلى.
(ووعدك) الوعد الذي وعد على ذلك، ووعد الله لعباده هو أن حق العباد على الله أن يدخلهم الجنة إذا آمنوا به واتبعوا أوامره واجتنبوا نواهيه، فهذا هو وعده.
(وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت)، فيجدد الإنسان هذا العهد، ويتذكر من مضى ومن أتى في القرون السابقة، وأن جميع الأنبياء قد حجوا هذا البيت من لدن إبراهيم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ما ذكرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مرتين، فعندما مر بفج الروحاء استقبل وادياً فسأل عن اسمه فقيل: الأبيض.
فقال: (لكأني بيونس بن متى يهبط بطن هذا الوادي له عجيج بالتلبية)، ثم لما مر بثنية (هرشا) سأل عن اسمها فعرف بها، فقال: (لكأني بموسى بن عمران يهبط بطن هذا الوادي له عجيج بالتلبية على ناقة له حمراء خطامها من ليف).(31/41)
من حكم الحج تذكر يوم القيامة
وكذلك من حكم الحج الواضحة تذكر يوم القيامة، فمشاهد يوم القيامة يشاهدها الإنسان في الحج، فيرى الناس يحشرون من مشارق الأرض ومغاربها ويجتمعون في هذه البقاع الضيقة، ويراهم يزدحمون هذا الازدحام الشديد، ويعلم أن منهم من يقبل حجه ومن يرد عليه، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن العبد إذا كان زاده من حلال وراحلته من حلال وجاء بقلب سليم فنادى: (لبيك اللهم لبيك) ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، حجك مبرور وسعيك مشكور وذنبك مغفور، زادك حلال وراحلتك حلال، وإذا كان على خلاف ذلك فنادى: (لبيك اللهم لبيك) ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك، حجك غير مبرور وسعيك غير مشكور وذنبك غير مغفور.
ويرد عليه عمل).
ومن هنا فإن الناس في منصرفهم إلى الحج ما بين اثنين: أحدهما: من غفر له ما تقدم من ذنبه وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وهو من حج فلم يرفث ولم يفسق.
وثانيهما: من أتعب جسمه وأنفق ماله وأفسد وقته وعاد شراً مما كان، نسأل الله السلامة والعافية، فمن هنا يتذكر الإنسان حال الناس يوم القيامة وحشرهم.(31/42)
الحج وتقوية الروابط بين المسلمين
والركن الخامس والدعيمة الخامسة من هذه الدعائم هي حج بيت الله العظيم.
وهذا البيت هو منطلق حضارة البشرية، فهو أول بيت وضع للناس، وقد شرع الله تعالى لعباده المؤمنين أن يقصدوه من مشارق الأرض ومغاربها ومن كل فج عميق، ورتب على ذلك الأجر الكثير، ورتب عليه صلاح أمورهم، فإن المسلمين علم الله أنهم سينتشرون في مشارق الأرض ومغاربها، وقد شرع لهم الأخوة فيما بينهم، ولا يمكن أن تتأكد هذه الأخوة وتوصل هذه الروابط إلا أن يجعل لهم مؤتمر سنوي يجتمعون فيه، وقد جعل الله تعالى هذا المؤتمر السنوي الموسم، فيجتمع المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها في الحج، فيأتي فيه أغنياؤهم وفقراؤهم، وضعافهم وأقوياؤهم، وكبارهم وصغارهم، والناطقون منهم باللغات المختلفة، وذوو الألوان المختلفة، يقصدون مكان واحداً ويؤدون شعائر موحدةً ويلبسون زياً موحداً، وبذلك يحققون أخوتهم ويزيلون الفوارق بينهم.
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بعض الحج فقال صلى الله عليه سلم: (إنما جعل الطواف بالبيت وبين في الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)، فهذه العبادات بخصوصها معينة على إقامة ذكر الله؛ لأن الإنسان مجبول على السعي لما فيه نفع دنيوي مادي.
والحج أموره تعبدية محضة لا يعرف الإنسان عللها، فلذلك إذا فعلها عن قناعة فلا يفعلها إلا تعبداً لله؛ لأن الله شرعها، ولذلك قال عمر رضي الله عنه عندما قبل الحجر: (أما إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك).
فهنا يتجرد الإنسان من طلب التعليل، ويتجرد من التعليلات العقلية، ويعلم أنه ما يفعل هذا الفعل إلا تعبداً لله تعالى تعبداً محضاً، فلا يمكن أن يعلل رمي الجمار بهذه الحجار، ولا أن يعلل الطواف بهذه الكعبة سبعاً، ولا السعي بين الصفا والمروة، فهذه أمور لا تقبل التعليل وإنما أقيمت لذكر الله سبحانه وتعالى، فحكمتها هي إقامة ذكر الله كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.(31/43)
الترتيب بين أركان الإسلام
هذه هي الدعائم الإيجابية، ولا شك أنها مرتبة هذا الترتيب، فمن لم يبدأ بالشهادتين لا يمكن أن ينتفع بشيء من الدعائم دونها، ومن أتى بالشهادتين لا يمكن أن ينتفع بما سوى الصلاة، بل لابد أن يبدأ بالصلاة أولاً فإذا تجاوزها ولم يفعلها لا ينفعه ما سواها، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج، واختلف في ترتيب الصيام والحج بناءً على اختلاف الرواية، فقد قدم الصيام في حديث جبريل، وقدم الحج في حديث ابن عمر، وحينئذ لا شك أن الترتيب في الدعائم الثلاث الأولى قطعي، فالشهادتان بهما البدء، ثم الصلاة، ثم الزكاة، أما الصيام والحج فالترتيب بينهما ظني لاختلاف الترتيب بين حديث جبريل وحديث ابن عمر.
ومع الأسف نشاهد أن كثيراً من الناس يهتم ببعض هذه الدعائم ويفرط في بعض، فنجد كثيراً من الناس يسعى لاستكمال الحج وأدائه ويقصر في الصلاة، فلا نراه في المساجد، ولا نراه مقيماً للصلاة مؤدياً لها على هيئاتها، ولا نراه يسأل عن فرائضها وسننها ومندوباتها، ومع ذلك نجده في الحج متلهفاً لأدائه ويسأل عن سننه وواجباته ومندوباته.
وكذلك مع الأسف فإننا نجد كثيراً من الناس يحافظ على الصيام ولكنه يقصر في الصلاة ويقصر في الزكاة، فيقفز قفزة من أركان الإسلام ويتعدى حدود الله عز وجل، والواقع أن هذه الأركان على الترتيب، فمن لم تنفعه شهادته لم يتجاوزها، ومن لم تنفعه صلاته لم بتجاوزها، ومن لم تنفعه زكاته لم يتجاوزها، ثم بعد ذلك الصيام والحج.(31/44)
أركان الإسلام السلبية اجتناب المنهيات
أما الأركان السلبية التركية فهي كبائر الإثم والفواحش، وقد قسم الله تعالى الذنوب إلى ثلاثة أقسام: كبائر، وفواحش، ولمم.(31/45)
الفرق بين الكبائر والفواحش واللمم
فالكبائر هي التي رتب الله تعالى عليها عقوبة دنيوية كالحدود والكفارات، أو رتب عليها لعناً، أو رتب عليها عذاباً أخروياً، هذا هو ضابط كبائر الإثم.
وأما الفواحش فهي التي تقتضي من صاحبها رقة وازعه وجراءته على الله سبحانه وتعالى، فالذي يتجرأ على الله سبحانه وتعالى بصغيرة فإن ذلك يصيرها فاحشة؛ لأنه إذا لم تسؤه سيئته فهو ناقص الإيمان، وذنب المؤمن كجبل فوق رأسه يخاف أن يقع عليه، وذنب المنافق كذباب نزل على أنفه فنفاه بيده هكذا، كما قال ابن مسعود.
ومن هنا فإن هذه الكبائر والفواحش ذات خطر عظيم على العلاقة بالله سبحانه وتعالى، فإذا تجرأ الشخص على هذه الكبائر والفواحش فقد خرق هذه العلاقة وتجرأ تجرؤاً يصعب عليه سده فيما بعد، وهذا ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر لنا مثالاً واضحاً وهو: (محجة على طرفيها سوران، وعلى أعلاها داع، وفي السورين أبواب مفتحة, وعلى الأبواب ستور، وفي كل باب داع يدعو إليه، والداعي الذي هو فوق المحجة يقول: يا عبد الله! لا تلج الباب؛ فإنك إن تلجه لم تخرج منه.
فهذه المحجة هي الإسلام الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والسوران المحيطان به هما حدود الله).(31/46)
أنواع حدود الله
وحدود الله تنفسم إلى ثلاثة أقسام: حدود لا يحل تعديها، وحدود لا يحل الاقتراب منها، وحدود هي جابرة وزاجرة عما سواها.
يقول الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187]، وهذه المقصود بها الفواحش والكبائر، فهي حدود الله التي لا تقرب.
ويقول تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] وهذه الأمور التي حددها والحقوق التي أباحها فهي حدود الله.
القسم الثالث: الحدود التي جعلها الله جابرة وزاجرة عن الوقوع فيما لا يرضيه، فهذه ثلاثة أقسام، فهذه الأبواب المفتحة في الأسوار هي بنيات الطريق وكبائر الإثم، وأبواب جهنم هي الفواحش الكبار.(31/47)
أبواب جهنم وأبواب الجنة والدعاة إليها(31/48)
اقتراف الكبائر دخول لأبواب جهنم
ومن هنا فإن هذه المعاصي هي أبواب جهنم، وهي كبائر الإثم، ومن اجتنبها فإن ذلك يكون عوناً له على ترك ما سواها وتكفيراً له لصغائرها، كما قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] , وقد عد رسول الله صلى الله عليه وسلم منها السبع الموبقات فقال: (اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والتولي من الزحف، والسحر)، فهذه هي السبع الموبقات.
وذكر صلى الله عليه وسلم كذلك أكبر الكبائر فقال: (ألا أخبركم بأكبر الكبائر -ثلاثاً-؟ الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وقول الزور.
وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت!).
وبيَّن صلى الله عليه وسلم عدداً آخر من الكبائر في عدد من الأحاديث عنه.(31/49)
سبب جعل الكبائر كبائر
سبب جعل الكبائر كبائر أن تصور الإسلام لا يتم إلا بعد تصور تحريمه لهذه الأمور.
من زعم أنه مسلم ولم يعلم أن الإسلام يحرم الخمر، أو يحرم الزنى، أو يحرم الخنزير، أو يحرم القتل، أو يحرم السرقة فهذا غير مسلم؛ لأنه لم يعرف ركناً من أركان الإسلام السلبية، وهذا هو الذي يسميه الفقهاء: المعلوم من الدين بالضرورة.
فالمعلوم من الدين بالضرورة معناه: الذي لا يتميز الإسلام بدونه، فهذه الشرائع التي لا يعرف الإسلام بدونها ولا يتميز من أنكرها ممن ليس حديث عهد بكفر، أما من كان حديث عهد بكفر فيتسامح معه، أو كان لم يتعلم شيئاً من الدين بأن كان من الأعراب البداة ولم يبلغه كثير من شرائع الإسلام، فهو معذور بذلك، أما من عاش في مجتمع إسلامي فإنكاره للمعلوم من الدين بالضرورة يكفره، وجهله بذلك لا يعذر به، وقد عذر عمر بن الخطاب رضي الله عنه منظور بن زبان حين تزوج بـ مليكة، وكانت زوجة أبيه فلم يعلم أن الله حرمها، فسأله عمر: هل سمع سورة النساء؟ فقال: ما سمعتها.
فاستحلفه خمسين يميناً ما سمع سورة النساء، ورفع عنه الحد بذلك، وذلك أن الله يقول في سورة النساء: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً} [النساء:22].
وقد عذر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الناس في حداثة إيمانهم، فعذر الأعرابي الذي بال في المسجد وقال: (دعوه لا تزرموه.
ثم دعاه -بعد أن أمر بذنوب من ماء فأريق على بوله- فقال: إن هذه المساجد لم تُبْنَ لهذا، وإنما بنيت لذكر الله والصلاة)، ومن هنا فإن من كان حديث عهد بكفر يعذر في المعلوم من الدين بالضرورة؛ لأنه ليس معلوماً لديه، وأما من سواه ممن عاش بين المسلمين وتعلم الإسلام فلا يعذر في جهل هذه الأمور التي هي أركان الإسلام، سواءٌ أكانت إيجابية أم سلبية، فمن لم يعرف وجوب الصلاة، أو لم يعرف وجوب الزكاة أو الحج أو الصيام، أو لم يعرف حرمة الزنى، أو لم يعرف حرمة القتل، أو لم يعرف حرمة السرقة، أو لم يعرف حرمة الخنزير فهذا ليس من المسلمين إلا إذا كان حديث عهد بكفر، ومن هنا شرع أن نعلم هذه الأركان، وأن نتدارسها، وأن نعلم ما كان معلوماً من الدين بالضرورة الذي لا يعذر به.(31/50)
الدعاة إلى الجنة وذكر أبوابها
وفي المقابل فإن أبواب الجنة هي كبار الطاعات.
ففي الجنة باب اسمه الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، وفيها باب الصلاة، وفيها باب البر والصلة، وفيها باب الصدقة.
هذه أبواب الجنة، وعليها دعاة أيضاً يدعون إليها، وهم الدعاة على أبواب الجنة، دعاة يدعون إلى الصلاة؛ منهم المؤذنون، ومنهم المعلمون، ومنهم الذين يرشدون إلى المساجد، ومنهم الذين يعمرونها، ومنهم الذين يبنونها، ومنهم الذين يفرشونها إلى آخره، فهؤلاء دعاة على أبواب الجنة، وهم الذين يرشدونا إلى امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه.
هؤلاء أيضاً لهم عون من الله تعالى يعينهم به على اجتذاب قلوب عباده الذين يهديهم هذا الطريق، وفي المقابل يضع حواجز في وجوه آخرين لا يرتضي الله تعالى خدمتهم لدينه ويصدهم عنه، كما قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:146] , وكما قال تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9] , وكما قال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46] , هؤلاء لا يرتضي الله خدمتهم، فإذا سمعوا داعي الله تشاغلوا عنه بأمور قد تكون مفيدةً لهم في الظاهر، وقد لا تكون مفيدةً أصلاً، وقد يشغلهم الشيطان عنه بغفلة أو كسل أو نحو ذلك، فلا يرتضي الله تعالى خدمتهم للدين ويضع في وجوههم العراقيل والعقبات، ويصدهم عن الصراط المستقيم، نسأل الله السلامة والعافية.(31/51)
الدعاة إلى جهنم وذكر أبوابها
في جهنم: باب للزنى يدخل منه الزناة فيعذبون فيه، نعوذ بالله! وفيها باب للمخدرات والخمور، وفيها باب للعقوق وقطع الرحم.
وفيها باب لترك العبادات كالصلاة وغيرها، هذه هي أبواب جهنم، نسأل الله السلامة والعافية.
وهذه الأبواب عليها دعاة يدعون إليها، كل باب من أبواب جهنم يقيض له شياطين يدعون إليه حتى من المسلمين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ حذيفة حين سأله: أبعد ذلك الخير من شر؟ قال: (نعم.
دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)، هؤلاء الدعاة الذين يدعون إلى أبواب جهنم بعضهم يدعو إلى الزنى، وبعضهم يدعو إلى شرب الخمر، وبعضهم يدعو إلى عقوق الآباء والأمهات، وبعضهم يدعو إلى قتل النفس التي حرم الله بغير حق، وبعضهم يدعو إلى السرقة، وغير ذلك.
هذه هي أبواب جهنم، ومن دعا إلى إحدى هذه الكبائر كان من الدعاة على أبواب جهنم، يدعون إليها من أجابهم إليها قذفوه فيها.
والغالب أن هؤلاء معهم حيل؛ لأنهم من شياطين الإنس والجن، فمعهم حيل وشباك وشراك يستهوون بها ويستغوون الناس، ومن أجابهم إليها قذفوه فيها، نسأل الله السلامة والعافية.(31/52)
بيعة النبي صلى الله عليه وسلم على أركان الإسلام الإيجابية والسلبية
هذه الأركان بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنها أساس بيعته، فكان يبايع الناس عليها، فقد بايع جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم، وبايع كذلك النساء البيعة التي أمره الله بها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:12] , وهذه الآية جامعة لأركان الإسلام الإيجابية والسلبية، لكنها جاءت السلبية فيها تفصيلاً وجاءت والإيجابية إجمالاً.
فالسلبية قوله: {لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة:12].
والإيجابية قوله: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12]، فهي شاملة للشهادتين وأداء الصلاة وأداء الزكاة وأداء الصيام وأداء الحج وغير ذلك.(31/53)
منزلة الجهاد في الإسلام
ثم إن الجهاد هو ذروة سنام الإيمان، وهو معدود في أركان الإسلام لدى كثير من العلماء، وقد دل على ذلك بعض النصوص الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمقصود بالجهاد بذل الجهد لإصلاح الدين، أن يبذل الإنسان جهده لإصلاح دين الله، ويشمل ذلك إصلاح دينه هو وإصلاح دين من تحت يده وإصلاح دين عموم الناس، فليبدأ أولاً بنفسه، ثم بمن تحت يده فيجاهد فيهم، ويشمل ذلك من يسمع ويطيع له من زوجة وأولاد وجيران، وهؤلاء كلهم هو مسئول عن ديانتهم وتحصين دينهم؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].(31/54)
المقاصد التي أمرنا بالحفاظ عليها أهمها الدين
ومن هنا فإن علينا أجمعين أن نستحضر هذا الشق العظيم من تكاليفنا، وأن نعلم أن التكاليف التي اختارها الله وظيفة للأنبياء هي أشرف مما سواها، ولذلك فإن المقاصد الشرعية مبنية على ست مصالح هي أصول التشريع، وهذه المصالح لابد من مراعاتها، وهي: أولاً: الحفاظ على الدين، ثم الحفاظ على النفس، ثم الحفاظ على العقل، ثم الحفاظ على المال، ثم الحفاظ على العرض، ثم الحفاظ على النسب.
فهذه الستة هي أصل المقاصد، وهي الضروريات بالنسبة للإنسان، وهذه أهمها مصلحة الدين، فإذا اقتضت مصلحة الدين إهمال الحفاظ على النفس تقدم الشخص لينال الشهادة في سبيل الله، وإذا اقتضت مصلحة الدين إهمال مصلحة المال جاء الشخص يحمل ماله في سبيل الله كما فعل أبو بكر رضي الله عنه، وإذا اقتضت مصلحة الدين التجرد من العرض جاء الإنسان يقول كما قال حسان رضي الله عنه: فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء وإذا اقتضت مصلحة الدين أن تهمل لها مصلحة العقل بادر الإنسان لمصلحة الدين وجعلها أعظم مما سواها، فهو يطلب الشهادة ويطلب أن تقطع أعضاؤه في سبيل الله.
فمعنى ذلك أنه قد بايع الله تعالى على كل ما عنده: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] , وأن الوفاء بحق هذه البيعة مسئول عنه، فهذا عهد الله: {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً} [الأحزاب:15] , هذا عهد الله علينا أجمعين رجالاً ونساءً، عهد الله علينا هو هذه البيعة التي أخذ علينا أو أكد علينا في كتابه وفي التوراة والإنجيل، ولا يمكن أن يتجاهلها أحد، فيوم القيامة إذا جيء بكل إنسان منا يحمل طائره في عنقه ويخرج له كتاب يلقاه منشوراً، ويأتي معه سائق وشهيد، وتأتي نفسه بما كسبت رهينة فإنه سيكون مسئولاً يوم القيامة عما قدم لنصرة دين الله.
وحينئذ ينبغي أن يبلغ الشاهد الغائب، وأن نستحضر مسئوليتنا عن دين الله تعالى، وأن نعلم أن أنفسنا لو اعتدي عليها أو اعتدي على أموالنا أو بيوتنا فستثور ثائرتنا للدفاع عن أنفسنا أو عن أموالنا أو عن بيوتنا، من رأى قوماً يأتون وبأيديهم المعاول وهم يريدون هدم بيته لابد أن يبذل جهده في دفعهم عنه، أليس كذلك؟ بلى.
فمن رأى دينه يهدم فلم يشارك في الدفاع عنه فإن معناه أنه قد خسر الدنيا والآخرة، خسر في صفقته، فبيته الذي هو من طين تافه سينتقل عنه اليوم أو غداً كان أهم عنده وأكبر في نفسه من دينه الذي هو قيمته وهو حظه عند الله تعالى في الدنيا والآخرة.
إن هذا المثال واضح للجميع، لكن المشكلة أن كثيراً منا يتناساه فيستحضره في المسجد، ويستحضره في وقت الدروس وينساه في غير ذلك.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على رعاية ودائعه وما أودعنا من شرائعه، وأن يجعلنا من الآخذين بها.(31/55)
وجوب المشاركة في إعلاء كلمة الله
ثم بعد هذا المشاركة في إدخال الناس في دين الله، وهي وظيفة الأنبياء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدد وظيفته في قوله: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراًَ، حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش يتساقط فيها وهذه الدواب، فجعل ينفيهن بيده وهن يقتحمن فيقعن فيها، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار)، فوظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمسك بحجز الناس عن النار، وهذه الوظيفة يتجاهلها كثير من الناس، فيظن أن إسلامه هو أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة فقط، ويتناسى أن عليه الحق في إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه وإدخال الناس في دين الله، وأن مسئوليته عن هذا الوجه من الدين مثل مسئوليته عن صلاته وصيامه وزكاته وحجه؛ لأن الله خاطبنا في البداية بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن نكف أيدينا، ثم فرض علينا بعد ذلك إعلاء كلمة الله وإدخال الناس في دينه، ولهذا قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء:77].
ومن هنا فإن على المسلم أن يجعل من وقته ومما آتاه الله جزءاً كبيراً يخصصه لإعلاء كلمة الله ولنصرة دين الله ولإدخال الناس في دين الله، ولا يعذر أحد من المسلمين المنتمين للدين الذي يريدون أن ينالوا العزة بالدين في التقصير في هذا الوجه، لكن درجاتهم متفاوتة في خدمة الدين، فمنهم من يستطيع خدمته بيده، ومنهم من يستطيع خدمته بلسانه، ومنهم من يستطيع خدمته بماله، ومنهم من يستطيع خدمته بتفكيره، ومنهم من يستطيع خدمته فقط بتكثير سواد أهله بمجرد الكينونة معهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].
ولا يعذر أحد في التقصير في وجه يعلم أنه ساع به لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، ومن رأى أنه بإمكانه أن يشارك في إعلاء كلمة الله بوجه فقصر في ذلك كان غير معذور يوم القيامة، وكان هذا الدين بكامله خصماً له يوم القيامة، يأتي الإسلام ويخاصمه فيقول: انتسب إلي ولم يقم بحقي.(31/56)
الحكمة في الدعوة [1]
تعتبر الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى الركيزة الأولى في تثبيت دعائم الدين الإسلامي، لذا أمر الله بها الأنبياء وأتباعهم؛ إذ بدعوتهم قامت الأديان وانتشر توحيد الله في البلدان.
وقد تحدث أهل العلم عن الدعوات واستقبال الناس لها على أصنافهم، وعن سبل الدعوة والحكمة فيها، سواءٌ أكانت تلك الحكمة تجاه الأشخاص أم الأوقات أم الأزمان المناسبة لها؛ فإنها ما شرعت إلا لإقامة الدين وتغيير المنكر القائم بين الناس بحكمة وروية، ووضع للأمور في مواضعها.(32/1)
التذكير بالله والدعوة إليه ضرورة دينية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعثه ربه رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله عز وجل قد وصف نفسه بالدعوة، فقال سبحانه وتعالى في محكم كتابه: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25]، وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221].
ووصف رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله تعالى: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46]، وأخبر أن أحسن الأقوال وأرضاها عند الله سبحانه وتعالى: الدعوة إلى الله، وذلك كما في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر عن نفسه وأتباعه بأن سبيلهم الدعوة إلى الله، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
وهذه الدعوة ضرورة من ضرورات البشرية، فكما يحتاج البشر إلى الماء والغذاء والهواء، فإنهم يحتاجون كذلك إلى تغذية قلوبهم، فهذه القلوب إذا لم تتغذ ماتت، وموتها أشد من موت الأبدان؛ لأنه مقتض لغفلتها وإعراضها عن الله سبحانه وتعالى، فتتردى حتى تكون كالبهائم، أو ربما زادت عن ذلك، كما قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]، ولا يستغني عنها أحد، والله تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1]، ويخاطب رسله عليهم الصلاة السلام بذلك أجمعين فيقول: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51]، ويخاطب عباده المؤمنين بذلك، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله أمر عباده المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172])، وكل ذلك دعوة من الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يستغني عنها البشر، فالإنسان يعيش في ظلمات الجاهلية في هذه الأرض، وكل ما فيها فتن تغويه وتصده عن سبيل الحق، وهو بمثابة من ادهن بالزيت، ثم رمى نفسه في التنور، ففتن الدنيا كذلك تحيط به من كل جانب، وأعراضها تتداول عليه وتتناوب، فإذا نجا من عرض لم ينج من غيره، كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك: حين خط خطاً مربعاً وخط خطاً في وسطه خارجاً منه، وخط خطاً معترضاً في الوسط، وخط خطوطاً صغيرة في الطرفين، ثم قال: (هذا الإنسان، وهذا أجله، وهذا عمله، وهذه الأعراض تصيبه، وأمله أطول من أجله).
ومن هنا فإن على الإنسان أن يحاول أن يعتبر ويتذكر، وأن لا يغفل عن الله سبحانه وتعالى ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وليعلم أنه إن غفل ساعة عن الله دعاه ذلك إلى الغفلة ساعات، وإذا قسا قلبه يوماً واحداً فليداو هذه القسوة، وإلا فسوف تتراكم فيه القسوات وستزداد، ويصعب عليه حينئذ علاج قلبه بعد ما يتمكن منه المرض.
ومن هنا شرع الشارع لنا الموعظة الأسبوعية في كل جمعة، ويراد بها أن ترق القلوب وتهفوا إلى بارئها ديان السماوات والأرض، وإذا لم يستطع الإنسان أن يجري دمعتيه من خشية الله سبحانه وتعالى في الأسبوع، فإنه سيزداد ذلك صعوبة في الأسبوع الذي يليه، ثم يزداد ذلك في الأسبوع الذي يليه، ومن هنا فإن من تخلف عن صلاة الجمعة ثلاث جمع على التوالي ختم على قلبه بطابع النفاق.
من أجل هذا كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، ومن هنا كانت هذه الدعوة ضرورة من ضرورات البشرية، ولا يمكن أن يستغني عنها الناس، وإذا ظن بعض الناس أنه ربما استغنى عنها فهذا دليل على موت قلبه وأنه لم يعد يحس بما هو فيه، فقد تراكمت عليه الأمراض وتكاثرت حتى لم يعد يقدر هذه الأمراض ولا يستطيع الخلاص منها، ونسأل الله السلامة والعافية.(32/2)
تذكر النبي الدائم لربه جل وعلا
إن أعرف الناس بالله عز وجل أحوجهم إلى التذكير به، فهذا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم وأكرم الخلق على الله عز وجل ينادي عبد الله بن مسعود فيقول: (يا عبد الله! اقرأ عليَّ القرآن فيقول: كيف أقرأه عليك وعليك أنزل؟! فيقول: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال ابن مسعود: فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت قول الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:41 - 42] قال: حسبك فنظرت فإذا عيناه تهملان).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الناس اتعاظاً بآيات الله، فكان إذا رأى المطر مقبلاً أخذه الخروج والدخول والرعب، فقيل له في ذلك فقال: (خشيت أن أكون كأصحاب هود الذين قالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25])، فهذا من شدة خوفه لله وخشيته له، ولذلك ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أخوفكم لله وأتقاكم لله)، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمن مكر الله، ويحب التذكير بالله عز وجل، فقد ثبت عنه: (أن أعرابياً جاء فوقف في المسجد فأثنى على الله فأبلغ الثناء، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعاً إلى بيته فجاء بتبرٍ -أي: قطعة من الذهب- فقال: خذ هذا بحسن ثنائك على ربك)، فكان يحب أن يثنى على الله عز وجل.(32/3)
تذكر الإنسان بآيات الله وضرورته
إن ما نشاهده في دموعنا من الجمود، وفي قلوبنا من القسوة سببه عدم انتفاعنا بالذكرى، وعدم انتفاعنا بالآيات والعبر التي نشاهدها، فآيات الله عز وجل تنقسم إلى قسمين: آيات مسطورة، وآيات منظورة، فالآيات المسطورة هي التي نسمعها ونقرؤها في كتاب الله، والآية المنظورة هي ما يمر علينا من العجائب، كهذا الفجر الذي يطلع منذراً بانقضاء عهد وباستئناف يوم جديد، وهذه الشمس التي تزول ثم تغرب ويتغير نورها بعد أن كان مشعاً شديداً، وهذا الليل الذي قال فيه مالك: (الليل خلق عظيم)، وهذه الأرواح التي تنتقل وتموت وكل يوم نرى محمولين على الرقاب لا يرجعون أبداً، ولا ندري ما حالهم أفي روضة من رياض الجنة أو في حفرة من حفر النار؟ وهذه النار، وهذه الأماكن التي نعيش فيها، وهذه الأماكن التي نصلي بها قد سبقنا إليها ملايين من البشر مروا بها، وكانت أعمالهم ترتفع من هذا المكان، فلا ندري ما نخلفهم فيه هل هو خير مما كانوا يعملون أو دون ذلك؟ نسأل الله أن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها.
إننا نرى كثيراً من آيات الله العجيبة، وهي مرآة يجب أن نتذكر بها ونعتبر، ومن أجل هذا قال الله في محكم كتابه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106].
إننا نحتاج إلى أن نحيي قلوبنا، وأن نحدث صلة عميقة بالله عز وجل، وأن نجدد عهدنا به، وأن نتذاكر فيما بيننا، وأن يأمر بعضنا بعضاً وينهى بعضاً بعضاً، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة غير منسوخة، بل هي محكمة دائمة، وعلينا أن نتذاكر أمثال هذا، وأن يأمر بعضنا بعضاً، وأن لا نعد هذا حديثاً معاداً، وأن لا تمله أسماعنا ولا قلوبنا، وما هو إلا خير، وهو خير ما يعرض على الآذان وخير ما يصل إلى القلوب، فينبغي أن لا نمله وأن لا ننقطع عنه.(32/4)
الدعوة بالتي هي أحسن
وجاء فبال في المسجد، فجعل الناس يزحزحونه ويصيحون عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه لا تزرموه، فتركوه حتى قضى بوله، ثم أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه، ثم دعاه فقال: إن هذه المساجد لم تبن لهذا، وإنما بنيت لذكر الله والصلاة).
وكذلك قال للرجل الآخر الذي تكلم في الصلاة فصمته الناس وضربوا على أفخاذهم، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (دعاني فبأبي هو وأمي ما رأيت قبله ولا بعده معلماً أحسن منه، فوالله ما ضربني ولا كهرني، وإنما وضع يده على منكبي فقال: إن هذه الصلاة لا يصلح لها شيء من كلام الناس، إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن).
وكذلك جاء رجل آخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يريد أن يؤمن وهو شاب حدث، فقال: يا محمد! إني أريد أن أتبعك وأدخل في دينك، لكني أريد أن أستثني شيئاً أشترطه، قال: وما هو؟ قال: الزنا.
فقال: تستثني بالزنا! فضحك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظنوا أن هذا الرجل من السفهاء، وأرادوا أن يؤدبوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوه لي.
فدعاه حتى اقترب منه فناجاه فقال: هل ترتضيه لأمك؟ قال: لا.
قال: هل ترتضيه لأختك؟ قال: لا.
قال: هل ترتضيه لزوجتك؟ قال: لا.
قال: هل ترتضيه لابنتك؟ قال: لا.
فالنساء أمهات قوم، وزوجات قوم، وأخوات قوم، وبنات قوم.
فقال: والله لقد صدقت، فنزعه الله من قلبي).
هكذا تكون الدعوة بالتي هي أحسن، وهكذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأمر المؤمنين عموماً، فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم -وأمره أمر لأمته- بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، وأمر المؤمنين كذلك بالتي هي أحسن في مجادلة أهل الكتاب في قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:46]، فأمرهم في مجادلة أهل الكتاب الذين هم أشد الأعداء وأعتاهم أن يجادلوهم بالتي هي أحسن، وأن لا يصدقوهم وأن لا يكذبوهم، وأن يقولوا: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:46]، فيأتوا بالمسلمات والمتفق عليها قبل أن يذكروا مسائل الخلاف، وهذا هو أدب الدعوة، فالصحيح أن يبتدئ الإنسان بذكر المسائل المتفق عليها قبل أن يذكر المسائل الخلافية، فإذا صحت المسائل الإجماعية -وهي الأصول والأسس- فإن ما عداها يسهل تغييره وتعديله بعد ذلك.(32/5)
سهولة الدعوة ويسرها
كنت في يوم من الأيام في بلد من بلاد الكفر، فلقيت رجلاً كان من أشد الناس عداوة لدين الله، وكان هندوسياً حاقداً على دين الإسلام، وقد أسلم وحسن إسلامه، فسألته: على يد من أسلمت؟ فقال: على يد هرة.
أسلم على يد هرة! يقول: إنه خرج مع أصحاب له مسلمين، فوقف على باب المسجد ودخلوا، وجعل هو يستهزئ بمن دخل المسجد، فإذا هرة جميلة على باب المسجد، فأراد أن يمسكها ويداعبها فدخلت المسجد فاستترت، فلم يستطع أن يدخل لخوفه من المسجد، فوقف على بابه فجاءت فخرجت، فأراد أن يمسكها مرة أخرى فدخلت، وتكرر هذا الفعل منها عدة مرات، فقال: إن هذه الهرة تدعوني إلى الدخول هنا.
فدخل فصادف أن وجد هداية الله هناك، وكان ذلك سبب إسلامه.
وكذلك رجل آخر كان من اليهود المتعصبين الحاقدين، وكان طبيباً جراحاً عالمياً مشهوراً، وكان من أشد الناس عداوةً للإسلام والمسلمين، وكان يزعم أن المسلمين هم من أشد الناس قذارة وأقلهم نظافة، فلقيه زميل له من الأطباء المسلمين، فقال: تعال معي إلى المسجد فسأريك طريقة النظافة لدى المسلمين.
فخرج به إلى مسجد كبير في لندن، فأراه الناس وهم يتوضئون، فقال: هكذا يتنظف المسلمون خمس مرات في كل يوم على الأقل.
ووقف على باب المسجد وقال: انتظرني هنا فأنا سأصلي.
فوقف يستمع قراءة القرآن من خارج أبواب المسجد مدوية، ولكنه كان يهزأ بها، وأراد أن يستمع إليها فوقف مقابل باب من أبواب المسجد، فلما سلم الناس خرج إليه عدد منهم، فجعلوا يتهامسون ويقفون حوله ويسألونه: لماذا جئت هنا؟ لماذا لم تصل؟ لماذا لم تدخل المسجد؟ فكثرت عليه الأسئلة، فأخبرهم بالحقيقة وقال: أنا يهودي لست مسلماً.
فلما قال ذلك قالوا: سبحان الله! ما هذا النور الذي في وجهك؟! فضحك وسخر مما قالوا، فإذا الناس يبكون لأنهم رأوا نوراً يتلألأ في وجه هذا اليهودي، فتعجبوا من ذلك عجباً شديداً، وجاء صاحبه فقال: سبحان الله! ما هذا الذي أحدثته بعدي؟ إن في وجهك نوراً عجيباً.
فتعجب الرجل من هذا فخرج إلى المرآة فنظر فإذا النور قد بقي منه شيء بسيط في وجهه، وإذا هو يخبو بالتدريج، فكان ذلك سبب إسلامه، فأعلن إسلامه في ذلك الموقف، وحسن إسلامه وأسلم على يديه والده وبعض أفراد أسرته.
إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى مباركة ميسرة سهلة، وعلنيا أن نلتزم بتيسيرها وسهولتها ولينها، فخير الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى وأقربهم إليه وأعدلهم في الدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علمه الله أساليب الدعوة، فقال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ألين الناس معاملة للناس وأسهلهم، وأحسنهم خلقاً، فالذين عرفوه أقسموا أنهم ما رأوا أحسن منه خلقاً، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (والله الذي لا إله غيره لقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي لشيء فعلته لم فعلت، ولا لشيء تركته لم تركت).(32/6)
أقسام الناس تجاه الدعوة إلى الله
الناس في سبيل هذه الدعوة أربعة أقسام: القسم الأول: قوم لا يتحملون سماعها ولا يطيقونها، فهي عندهم بمثابة البعبع المرعب، يخافونها خوفاً شديداً، وهؤلاء هم المشركون الذين قال الله فيهم: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:49 - 51]، فيعتبرون هذه بمثابة الأسد، فيهربون منه كما تهرب الحمر من الأسد إذا رأته.
القسم الثاني: قوم يستطيعون سماع الذكرى بآذانهم، ولكن آذانهم غير أمينة، فلا تحملها إلى قلوبهم، وهؤلاء بين آذانهم وقلوبهم حصن حصين لا تخترقه البشرى، وهم المنافقون الذين طبع الله على قلوبهم، وفيهم يقول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد:16].
القسم الثالث: قوم يُفصِّلون في الذكرى، فيقبلون سماعها من بعض الناس ويرفضونها من بعض، ينظرون إلى بعض الناس نظرة إكبار وإجلال، ولا يدرون لعله في ميزان الله سبحانه وتعالى يوم القيامة أدنى بكثير مما يتوقعون، وينظرون إلى آخرين بعين السخط، ولا يدرون لعلهم أثقل بالميزان عند الله تعالى من ملء الأرض من أمثال أولئك، وإذا كان الإنسان هكذا فعلينا أن لا نحكم أهواءنا وأن لا نزن الناس بهذا الميزان، وأن ننظر إلى الناس على أنهم عباد الله يضع فيهم ما يشاء، وأنهم بمثابة الآنية لدى ربنا سبحانه وتعالى، وكل إناء بالذي فيه ينضح، وكل إناء يجعل الله فيه ما يشاء.
علينا أن نحترم عباد الله جميعاً، فنحن لا ندري ببواطنهم ولا مصيرهم وخاتمتهم، فأمر ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، فنحن نكره الأفعال السيئة ونحب الأعمال الصالحة، ولكن تقويمنا للأشخاص لا ينبغي أن يكون على أساس ازدراء وتكبر وسخرية، فالله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11]، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (أنه كان في ملأ من أصحابه، فمر رجل من المسلمين، فلما أدبر، سألهم فقال: ما تعدون هذا فيكم؟ فقالوا: هذا رجل من عوام المسلمين، جدير إذا تكلم أن لا يستمع له وإذا خطب أن لا ينكح ثم سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر رجل آخر فقال: ما تعدون هذا فيكم؟ فقالوا: هذا سيد من سادات الناس ووجوههم، جدير إذا تكلم أن يستمع له وإذا خطب أن ينكح فقال: ذلك خير من ملء الأرض من هذا).
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يؤتى بالرجل الضخم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة)، فينبغي أن لا تكون المعايير الدنيوية المادية طاغية على تقويمنا وتقديرنا، ومن هنا فعلينا أن نستمع إلى القول وأن لا ننظر إلى القائل، فالله تعالى يقول في كتابه: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18]، وفي المنافاة ليس لنا أن نفصل بين الناس إذا ذكروا أو تكلموا، وأن نأخذ ذكرى بعضهم وندع ذكرى بعضهم الآخر، أو نفضل بينهم على أساس ما نجده في صدورنا من معايير هذه الدنيا الفانية التي لا تزن عند الله شيئاً، وعلينا أن نستمع القول ونعتبره رسالة جاءت من ربنا إلينا، فنأخذ منه الصواب وما كان حسناً نافعاً، ونرد ما كان سيئاً قبيحاً غير مرضي عند الله سبحانه وتعالى، ونستفيد بهذا من كل أحد، وهذا هو الميزان الصحيح والمعيار السليم.
القسم الرابع: قوم يستمعون الذكرى ولا يفصلون فيها، فيسمعونها من كل مذكر ويستفيدون منها، فلا يعرضون عنها بحال من الأحوال بل يعتبرونها غنيمة وهبة ربانية وهدية أهديت إليهم، فيستفيدون منها على كل حال، هؤلاء هم أهل الإيمان الذين قال الله فيهم: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21]، وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى:9 - 12]، وقال تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:11]، وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان:73]، فهؤلاء يستفيدون من الذكرى مطلقاً، من أي إنسان صدرت، وبأية لهجة كانت، ومن أي لون كانت، وبأي أسلوب وجهت، ويستفيدون منها وينتفعون، فرب إنسان كانت هدايته على أساس كلمة صدرت من شخص هو دونه بمنظار البشر، و (رُب حامل فقه وليس بفقيه، ورُب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(32/7)
الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى
ذكر الله سبحانه وتعالى لنا في كتابه سبع وسائل من وسائل الدعوة، واشتملت عليها آيتان من كتاب الله: الآية الأولى: آية سورة النحل، وهي قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، فهذه ثلاث وسائل في هذه الآية: أولها قوله: (بالحكمة).
والحكمة في اللغة: وضع الشيء في موضعه.
بمعنى: وضع اللين في موضعه، والشدة في موضعها، والقسوة في موضعها، والكلام في موضعه، والسيف في موضعه، فهذه هي الحكمة، ولهذا يقول أبو الطيب المتنبي: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى فمن هنا كان لا بد للإنسان أن يكون خبيراً بأهل زمانه حتى يضع كل شيء في موضعه، والله سبحانه وتعالى نعى على اليهود أنهم يحرفون الكلم فيضعونه في غير موضعه، وأن وضع الكلم في مواضعه هو الذي يؤثر ويفيد هنا؛ فإن الأساليب البلاغية الرنانة إذا وجهها الإنسان إلى عوام الناس نفروا منه، ولم تجد آذناً صاغية، وإذا وجهها إلى أهل البلاغة أثرت فيهم واستجذبت قلوبهم وأثرت عليهم.
ومن هنا كان الخطاب العام الذي يوجه إلى الناس عموماً ينبغي أن يكون على السليقة والفطرة، وأن لا يتقعر المتكلم في وجه الناس، وأن لا يأتي بالعبارات الرصينة التي قد تضجر عدداً كبيراً من الناس، وأن لا يأتي كذلك بالعبارة السوقية التي يستهجنها علية القوم وأشرافهم، فيكون الكلام وسطاً، وخير الأمور أوساطها.
ولهذا فإن من الحكمة أن يكون الإنسان عارفاً بمن يخاطبه، وعارفاً بأوضاع الناس، ومطلعاً على أولوياتهم وظروفهم، حتى لا يخاطبهم في أمر قد تعداه القطار وأصبح على الآثار، فكثيراً ما يتكلم بعض الناس في خطبته أو درسه على أمر قد أصبح معدوماً لا وجود له في حياة الناس، فيكون قد أفسد عليهم جزءاً من وقتهم الثمين وشغلهم بما لا يعنيهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).
كما أنه لا فائدة من إحياء أقوال بعض الطوائف التي اندثرت، أي: الكلام في بعض الفرق التي لا توجد في بلد من البلدان، فالكلام في فِرق ما عرفها أسلافهم وما علم لها تأريخ في هذا البلد ولا وصلت إليه مما لا يعني، ومما ينبغي أن يختص به أهل الاختصاص، وأن يكون لدى طلبة العلم المتخصصين، وأن لا ينشر على عوام الناس ومسامع عمومهم، وكذلك الكلام في أمور قد عرفها الناس وتداولوها، وعرفت المواقف منها، فإن تكرارها من الأمور التافهة، وقد قضى عليها الزمان وتجاوزها القطار، وكذلك الكلام في أمور لم يستوعبها الناس ولم تبلغها عقولهم بعد، فهو من الفتنة عليهم، ولذلك أخرج البخاري -تعليقاً من صحيحه- من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ وما أنت بمحدث قوماً بحديث لا تصل إليه عقولهم إلا كان فتنة عليهم).
فلذلك ينبغي أن يكون الكلام على حسب السامع، وأن لا يكون على حسب المتكلم.(32/8)
الحكمة في إفتاء السائلين
هذه خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومواعظه وإرشاداته تتأثر بحسب السائل، كأن يأتيه رجل فيسأله مع خير العلم خير الإيمان، فإذا كان قوياً بطلاً أمره بالجهاد، وإذا كان ذا والدين ضعيفين أمره ببر الوالدين، وإذا كان من الأغنياء أمره بالإنفاق، وهكذا، ولهذا تجد في الأحاديث الصحيحة كثيراً من الأحاديث التي يفهمها بعض الناس على التعارض، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أفضل الإيمان كذا) أو: (خير الإيمان كذا)، أو يسأل عن خير الإيمان فيجيب جواباً، ثم يسأل عنه فيجيب جواباً آخر، وهذا ليس من التعارض في شيء، إنما هو بحسب حال السائل، ولهذا يقول البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا عمرو بن خالد قال: أخبرنا الليث عن يزيد عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف).
وفي صحيح البخاري من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام أفضل؟ فقال: إيمان بالله ورسوله، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: ثم أي؟ قال: حج مبرور.
قال: فأي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها على أهلها وأغلاها ثمناً)، وهذا يدلنا على أن الجواب بحسب حال السائل، وهذا من الفقه في الدعوة.
وهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر هذه الأمة يأتيه رجل فيقول: يا ابن عباس! هل للقاتل عمداً من توبة؟ فيقول ابن عباس: لا.
وفي مجلسه ذلك يأتيه رجل آخر، فيقول: يا ابن عباس! هل للقاتل عمداً من توبة؟ فيقول: نعم.
فقيل له: سبحان الله! كيف أفتيت الأول بهذا وأفتيت الثاني بهذا؟! فقال: رأيت في وجه الأول الشرر يتطاير من عينيه فعلمت أنه يريد القتل عمداً فنهيته عن ذلك، ورأيت في الثاني انكساراً وتوبة وندماً؛ فعلمت أنه قد قتل وجاء تائباً، فما أردت أن أسد باب التوبة أمامه.
فهذا من فقه الدعوة، وعلى الناس أن يأخذوا به، وأن يضعوا كل شيء في موضعه.(32/9)
الحكمة في نصيحة الناس
أول وسيلة من وسائل الدعوة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى الحكمة، فقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] أن يوجه المتكلم كلامه إلى عموم الناس، وأن لا يجرح الأفراد، وأن لا يتكلم فيهم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه شيء عن إنسان وقف على المنبر فقال: (ما بال أقوام يفعلون كذا)، ولم يقل: إن فلاناً قد فعل كذا.
أو: يا فلان لا تفعل كذا.
فهذا تشهيرٌ على المنبر أمام الناس، ولو ناده بخاصة نفسه فنهاه عن ذلك الفعل لأمكن أن لا يبلغ ذلك الناس، فوسيلة الإعلام إذ ذاك هي المنبر، فكان يقف على المنبر فيقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا)، فيكون هذا أبلغ الزجر للناس، ويستفيد منه صاحب النازلة ومن سواه، ويشيع في الناس ولا يكون فيه ما ينفر من التجريح والفضيحة، فهذا مناف للنصيحة، ولذلك قال القاضي عياض رحمه الله: النصيحة ضد الفضيحة.
النصيحة أن تنصح الإنسان وأنت تريد هدايته، وتحرص عليها غاية الحرص، فتحب له ما تحب لنفسك، وهذه لا بد أن تؤثر، ولا بد أن يستجيب لها الناس.
وأما الفضيحة فهي أن تشهر به أو تجابهه بالكلمات النارية والكلام الشديد، وهذا ربما يكون قاطعاً لطريقه عن الهداية وصارفاً له عن وجه الحق، فتكون أنت من المنفرين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إن منكم منفرين، إن منكم منفرين)، قال راوي الحديث: (ما رأيته في موعظة أشد منه غضباً من يومئذ)، فقد اشتد غضبه غاية الغضب عندما بلغه عن بعض أصحابه شدتهم على الناس، فلذلك لابد أن يأخذ الدعاة إلى الله تعالى بهذه الحكمة، وأن لا يتشددوا في خطابهم للناس، وأن يكونوا كما وصف الله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، فالله تعالى يقول: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].(32/10)
الحكمة في مخاطبة المدعوين
إن هذه الحكمة مقتضية لرحمة المؤمنين والغلظة والشدة على الكافرين والمنافقين، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، وكما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73].
أما أهل الإيمان حتى لو فسقوا وبغوا فإن المؤمن عليه أن يكون حريصاً على هدايتهم، وأن يخاطبهم باللين بالتي هي أحسن، وكذلك خطابه مع الكفار الذين يريد هدايتهم ولم تنقطع الشعرة بينه وبينهم عليه أن يخاطبهم أيضاً بأسلوب مهذب، كما قال تعالى لموسى وهارون عليهما السلام حين أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، فهذا تنبيه لموسى وهارون على أمر من أبجديات الدعوة، وهو من المخاطبة، فلا بد أن يوطد له الكلام، وأن يهيئه له، وأن يخاطبه بلين لعله يتذكر أو يخشى؛ لأنه إذا وجدت الشدة فسيقول له ما قاله عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا وإذا خوطب بالتي هي أحسن فربما لان وهو ذو قسوة، وربما ضعف وهو ذو شدة؛ لأنك تصادف مكان اللين فيه، وتخاطبه من مقتله، وقد وصلت إلى قلبه، والنافذة ليست مغلقة، أما إذا خاطبته بالشدة فسيغلق الباب أمامك وستصطدم بالجدار ولن تصل إلى القلب، ومن هنا فإن العاقل إذا أراد الدخول يبحث عن النوافذ والأبواب المفتوحة، ولا يحاول اختراق الجدار، فالذي يريد الوصول إلى القلوب واختراق النفوس ينبغي أن يبحث عن النوافذ والأبواب المفتحة ويدخل منها بكل لطف ولين، وحينئذ يصل إلى مطلوبه بالتي هي أحسن، وليس معنى هذا أن يتنازل الإنسان عن دعوته وأمور دينه ليوصف بأنه هيّن لين، بل يأخذ ذلك مرحلياً فقط، ويجعله وسيلة لإبداء حرصه وحسن نيته للناس لعل الله أن يهدي به رجلاً واحداً.
فمن أجل هذا تجد كثيراً ممن تعامله يومياً إذا خاطبتهم باللين وجدت فيهم ليناً، وإذا خاطبتهم بالشدة قابلوك بالمثل أو بأشد، ولذلك يحسن بك أن تأتي بلطف ولين، وأن تدخر قوتك لوقت الحاجة إليها، ولا تهمل قوتك ولا تكن من المستضعفين الأذلة، لكن ادخر هذه القوة إلى وقت الحاجة، أما قبل أن تحتاج إليها فإن إهدارها في غير موضعها ليس من الحكمة، وكثيراً ما يؤدي إلى نتائج عكسية.
وإني ل أذكر أن مجموعة من الطيبين الخيرين ذهبوا إلى مسجد في عدن قد بني على قبر، وكان فيه جماعة من المصلين يصلون، فأرادوا تغيير منكر معين وهو الطواف حول هذا القبر، فهدموا المسجد على المصلين، فقتلوا عدداً من المصلين وهم في سجودهم، فكانت طامة كبرى ومصيبة عظمى، وقتل هؤلاء وشرد بهم من سواهم، وأعيد بناء المسجد بأشد مما كان، وحرس أشد مما كان محروساً به، فهذا من التصرفات الرعناء التي يتصرفها بعض الناس من غير حكمة، فرسولنا صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة، وقد مكث ثلاث عشرة سنة بمكة لم يكسر صنماً واحداً، وكان على الكعبة حينها ثلاثمائة وستون صنماً، وقد كان يسكن في دار الأرقم وهي على الصفا، وعلى الصفا صنم اسمه (إساف)، وعلى المروة صنم اسمه (نائلة)، بل كان أهل الجاهلية يسمون المروة والصفا إسافاً ونائلة، كما قال أبو طالب: وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم بمفضى السيول من إساف ونائل ومع ذلك لم يكسر رسول الله صلى الله عليه وسلم صنماً واحداً من هذه الأصنام، حتى جاء الفتح فوقف عليها وكسرها جميعاً، وكان يقول وهو يهدمها: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، وأرسل السرايا فهدم كل الأصنام في البلدان المجاورة، ولو كان هدمها في وقت الاستضعاف وقوة المشركين لبنوها من الذهب بعد أن كانت من حجارة، وما كان من طين بنوه من فضة، وهكذا أخذ بالحكمة وعلمنا ذلك، وهذه الحكمة ليست مقتصرة على لين الكلام في الخطاب للناس، بل هي تشمل كذلك تأخير بعض التصرفات عن بعض الأوقات، وتعجيل بعض التصرفات في بعض الأوقات، وتعجيل إبداء الموقف من بعض الأمور، وإخفاء الموقف من بعض الأمور، وكذلك تقتضي أن يقدم لشخص الأولويات ويؤخر ما دونها، وأن يأخذ بأخف الضررين والحرامين، كما قال تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]، وكما قال تعالى حكاية عن لوط عليه السلام: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78].
ومن أنواع هذه الحكمة في الدعوة أنه إذا أراد الإنسان أن يغير سلوكاً لدى آخر لا يجابهه بأن هذا السلوك محض ضلال وابتداع وشرك ونحو ذلك، بل يتعرف عليه أولاً، ويحاول أن يحصل على ثقته وصداقته، ثم يسأله عن هذا التصرف ما دليله عليه، وما حاجته إليه، فإن بين له دليلاً مرضياً قال: الحمد لله؛ فصاحبي غير مشرك وغير مبتدع، وإنما كان مجتهداً فإن أخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران.
ومن الحكمة في الدعوة أن لا تحتكر أنت الصواب، وتجعل الحق هو ما عندك فقط، فتكون أنت المحتكر للحق وحده ومن سواك أهل باطل، فهذه طريقة غير صحيحة، كل الناس خطاؤون وخير الخطائين التوابون، ولا معصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من البشر، ومن هنا فعليك أن تنظر إلى الناس على أنهم عباد الله جميعاً كما أنك عبد من عباد الله، وأن لا تنظر إليهم على أنك رب وهم مملوكون لك، وأن لا تنظر إليهم على أنهم جميعاً أهل خطأ وأنت وحدك صاحب الصواب، بل تنظر إليهم على أنهم بشر مثلك مكلفون بنفس التكليف الذي أنت مكلف به، فقد امتن الله عليك ببعض النعم، فلا ينبغي لك أن تتجاهل تلك النعمة ولا أن تتغطى بها، ولا تقتضي منك العدول عن منهج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.(32/11)
درجات تغيير المنكر وصورها
على من أراد أن يدعو إلى الله عز وجل أن تكون دعوته إلى الله موافقة لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالشدة ومخاطبة الناس بما يكرهون ليستا من منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من سنته ولا سيرته، ومن هنا فإن احتكار الصواب حتى مع المشركين لم يكن من منهج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ونحن نقرأ في سورة سبأ قول الله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] أي كلام أبلغ انصافاً من هذا؟ هذا نزل به الروح الأمين من عند الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ويأمره الله أن يخاطب المشركين فيقول: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]، فلا يمكن أن يجتمع ما عندنا وما عندكم فهما متناقضان، لكن أحدهما حق والآخر باطل.
فما قال لهم: إن ما معنا هو المقطوع به أنه الحق، وما معكم هو المقطوع ببطلانه، بل قال: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]، ثم تأتي آيات أخرى في مراحل لاحقة تبين أن الصواب هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الخطأ ما لدى المشركين، وترد عليهم ما لديهم مما يخالف ما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لكنه في بداية دعوتهم لابد أن يخاطبوا بهذا الأسلوب اللين الهين، فإن الإنسان إذا جاء بالعنتريات وأراد أن يبدي للناس قوته ويحاول تغييرهم بالشدة لا يمكن أن يكون عمله هذا مجدياً ولا مثمراً، بل سيواجه بمثل ما قال الشاعر: جاء شقيق عارضاً رمحه إن بني عمك فيهم رماح ومن هنا فلا يفيد تصرفه شيئاً، بل ربما أدى هذا التصرف إلى تصرفات معاكسة، ومن أجل ذلك فمن أراد الإصلاح فعليه أن يأخذ بأسلوب الإصلاح، إذا رأى أمراً يمكنه إصلاحه فعليه أن يتكلم فيه بعموم، وأن لا ينزل ذلك على أفراد وأشخاص بأعيانهم.
وإذا رأى منكراً لدى شخص معين فأراد أن يغيره، فليعلم أن المنكر درجات: الدرجة الأولى: محاولة نصيحته، وتغييره بيد الإنسان الذي فعله، فإذا أردت تغيير منكر بارز فأبلغ شيء في تغييره أن تغيره باليد التي فعلته، وإذا أقنعت صاحبه أن يتراجع عنه ويأتي لنفس الموقف الذي كان يتصرف فيه فيتصرف فيه على خلاف تصرفه الأول فهذا أبلغ تغيير للمنكر، وهو الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشركين، فـ عمر بن الخطاب الذي كان أشد الناس على المسلمين، عندما أسلم لم يترك موقفاً من المواقف التي كان يميل فيها على المسلمين إلا وقف فيه ينافح عنهم ويدافع عنهم، فغير منكره بيده.
وكذلك وحشي الذي قتل حمزة رضي الله عنه، عندما أسلم قال: إن كل موقف وقفته مع المشركين لا بد أن أقف في مقابله موقفاً في نصرة الله ورسوله، وإن هذه الحربة التي قتلت بها حمزة لابد أن أقتل بها أشد أعداء الله لله، فخرج بها إلى مسيلمة حتى قتله بها، فأبلغ تغيير للمنكر أن يكون بيد أصحابه.
الدرجة الثانية: أن يكون بيد أقرب الناس إلى من فعله، فإذا أتيت بولد الإنسان فربيته على خلاف منهجه فجاء لتغيير منكر أبيه فهذا أبلغ شيء لطمس أثر أبيه، فإذا أتيت بأخيه فغير منكره فهذا أبلغ شيء، ومن هنا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أتاه جبريل بعد معركة أحد، فأبلغه أن الحارث بن سويد بن الصامت هو الذي قتل المجذر بن زياد رضي الله عنهما، وأنه قتله غيلة في وقت المعركة، وأراد بذلك الاقتصاص؛ لأن المجذر كان قد قتل أباه في الجاهلية، وحين أخبره جبريل خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني عمرو بن عوف، ولم يأخذ معه أحداً من المهاجرين، بل خرج وحده، فأتاهم في دارهم، فتعجبوا من مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، فقالوا: ما جاء به وحده إلا أمر فجاؤوا فقالوا: ما جاء بك يا رسول الله؟! فدعا عباد بن بشر، فقال: اضرب عنق الحارث بن سويد بن الصامت -وهو ابن عمه-.
فقال الحارث: ولم يا رسول الله؟ والله ما أشركت ولا نافقت منذ أسلمت! فقال: أما إني لم أقتلك نفاقاً ولا شركاً، ولكني أقتلك بـ المجذر بن زياد، فقد أنزل الوحي أنك قتلته فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ووالله ما رآني أحد، وما جاءك ذلك إلا عن طريق الوحي، ومد عنقه فضربه ابن عمه وقتله.
فلم تنتطح في أمره شاتان، ولم يستنكر هذا أحد، فالذي قتله ابن عمه.
وكذلك الحال عندما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة بن دليم على رأس كتيبته الخضراء، وبيده لواء المهاجرين والأنصار، فركزه ببطحاء مكة وقال: اليوم ذلت قريش وخابت، فجاءت قريش يشكونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء شاعرهم ضرار بن الخطاب فوقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا نبي الهدى إليك لجا حيي قريشٍ ولات حين لجاء حين ضاقت عليهم سعة الأر ض وعاداهم إله السماء والتقت حلقتا البطان على القوم ونودوا بالصيلم الصلعاء إن سعداً يريد قاصمة الظهـ ـر بأهل الحجون والبطحاء خزرجي لو يستطيع من الغيـ ـظ رمانا بالنسر والعواء وغِرُ الصدر لا يهم بشيء غير سفك الدما وسبي النساء قد تلظى على البطاح وجاءت عنه هند بالسوءة السوآء إذ ينادي بذل حي قريش وابن حرب بذا من الشهداء فلئن أقحم اللواء ونادى يا حماة اللواء أهل اللواء ثم ثابت إليه من بهم الخز رج والأوس أنجم الهيجاء لتكونن بالبطاح قريش فقعة القاع في أكف الإماء فانهينه فإنه أسد الأسـ ـد لدى الغالي والغ في الدماء إنه مطرق يريد لنا الأمـ ـر سكوتاً كالحية الصماء حينها نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم سعداً فأخذ منه اللواء، فتوقع الناس أن يدفعه إلى رجل من قريش، فما فعل، بل دفعه إلى قيس بن سعد بن عبادة، فوقف قيس في مكان أبيه وركز اللواء في نفس المكان وقال: اليوم عزت قريش وطابت.
فخالف مقالة أبيه، وغير ما كان عليه أبوه دون أن يقع خلاف بين المسلمين، ودون أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انتزع المكرمة من الأنصار بعد أن أعطاهم إياها، فكان هذا من أساليب رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوية البليغة.
كذلك الأسلوب الآخر بعد هذا أن يحاول الإنسان أن يكون تغيير المنكر بيد غير متهمة فيه، وأهل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وأهل الخير ملأ قليل وعددهم قليل في الناس، ولو اصطلموا وأخذوا من بين الناس لم يبق فيهم خير، كما قال صلى الله عليه وسلم يوم بدر: (اللهم! إن تهلك هذه الطائفة لا تعبد في الأرض أبداً)، فمن الحكمة لهم أن يكون تغيير المنكر بأيد غير أيديهم، وأن يستغلوا أيد أخرى في تغيير ذلك، كما قال الشاعر: وكنا الأيمنين إذا التقينا وكان الأيسرين بنو أبينا فصالوا صولة فيمن يليهم وصلنا صولة فيمن يلينا فآبوا بالنهاب وبالسبايا وأُبنا بالملوك مصفدينا وكما قال الآخر: ترد زمامه أيدي رجال عليهم قد رددنا ما يلينا فيكون التغيير حينئذٍ بأيد غير متهمة فيه، وهذا من أبلغ التغيير، ثم إذا احتاجوا إلى التغيير بأيديهم كانوا على أتم استعداد لذلك، وقد بذلوا الجهود قبل ذلك، وعملوا بالتي هي أحسن، وقد أنصفوا وأنصفهم الناس، وعلموا أنهم لم يتسرعوا ولم يبادروا مبادرة سلبية، وجاءت أفعالهم في وقتها المناسب.(32/12)
صفات الداعية إلى الله
ومن مقتضيات هذه الحكمة أن يحاول الإنسان في دعوته إلى الله سبحانه وتعالى أن يكون في نفسه قدوة صالحة، إن من يسمع الناس منه الألفاظ النابية لا يمكن أن يأتمنوه على الوحي، ولا أن يقتنعوا بأنه قد ائتمنه الله على وحيه، فالله لم يكن ليجعل وحيه بدار هوان، ومن رآه الناس مخالفاً لأوامر الله سبحانه وتعالى ومخالفاً لهدي رسوله صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يثقوا به، لكن إذا بدأ بنفسه واستقام، وكان قوله موافقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الناس سيثقون به، وسيبادرون إلى تنفيذ ما يأمر به، وسيجد النواصي مطيعة قابلة لما يوجهها إليه.(32/13)
حب الداعية لكل عباد الله
إننا من منطلق عجزناً عن عبادة الله، ونحن نعلم أن الله وحده هو المستحق للعبادة، وأننا عاجزون عن عبادته حق عبادته نحب أن يعبده من سوانا، فيسرنا كثيراً أن يعبده جبريل وميكائيل وإسرافيل، ويسرنا عبادة أي عبد عابد لله سبحانه وتعالى، ونرضى ذلك، ونحب العابدين لله سبحانه وتعالى حباً شديداً؛ لأننا نعلم أننا عاجزون عن عبادته فنحب أن يعبد؛ لأنه أهل لذلك، وهذا من تمام محبتنا لله، إن من تمام محبتك لربك أن تحب أن يعبد ويشكر ويؤمن به ويوحد، وأن تحرص على زيادة أعداد المؤمنين به والموحدين له، وأن لا تحرص على الانتقاء منهم وأن تجعل المؤمنين قلة كما يفعله أهل الابتداع، يرون أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ارتدوا إلا ستة، ويريدون أن ينحصر الإيمان في أقل عدد من الناس، وهذا سبقهم إليه اليهود، فقد قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111]، والله تعالى رد عليهم هذه المقالة، فالجنة واسعة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، فلا يضرك أن يكون الملايين من الناس من أهل الجنة، ولا ينبغي أن تتضايق إذا رأيت عدداً كبيراً من الطوائف أو الأمم من أهل الجنة، فإنهم لن يضيقوا عليك مقامك في الجنة إن شاء الله، وأنا كفيل بذلك، فالجنة واسعة جداً، ومن استشعر سعة الجنة فإن عليه أن يتسع صدره لإخوانه المؤمنين، وأن يعلم أن العبرة بالخواتيم، ولا يدري ما الله صانع فيها، نسأل الله أن يحسن خاتمتنا.(32/14)
اختيار الداعية للمكان والزمان المناسب للدعوة
إن هذه الحكمة مقتضية لانتقاء الأماكن والأوقات للكلام والتصرفات، فيا رب كلمة تقول لصاحبها: دعني ويا رب كلمة لو قيلت في مكان كانت مفيدة مثمرة، ولو قيلت في مكان آخر كانت سيئة قبيحة، ويا رب فِعل لو فُعل في مكان كان حسناً، ولو فُعل في غيره كان قبيحاً.
ولما رأى صلى الله عليه وسلم أبو دجانة سماك بن خرشة رضي الله عنه يتبختر يوم أحد بين الصفوف قال: (إنها لمشية يبغضها الله في غير هذا الموقف).
وكذلك قال لـ عمر رضي الله عنه حين أراد أن ينتزع ثنيتي سهيل بن عمرو فقال: يا رسول الله! دعني أنتزع ثنيتي سهيل لا يقوم عليك خطيباً بعد اليوم.
قال: (عسى أن يجعل له مقاماً تحمده عليه)، فكان ذلك عندما ارتد العرب عن دين الله، فوقف سهيل خطيباً في قريش بمكة فثبتهم على الدين.
وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حصلت قضية الإفك، وأراد المنافقون أن يفرقوا بين المهاجرين والأنصار، وقال عبد الله بن أبي: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فلم يعطهم فرصة للمناقشة، بل رحل وما زال بهم من وقت الظهيرة، ثم نزل في الليل، وقد صل بهم أربعاً وعشرين ساعة من السفر الجاد المضني، ويريد بذلك أن يشغلهم عن المناقشات الجانبية، وعن الأمور التي لا تدخل في الأولويات، فانشغلوا بذلك حتى وصلوا إلى المدينة.
وكذلك ثبت في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه -وهو في حجته التي مات بعدها بقليل- أن رجالاً يقولون: إن بيعة أبي بكر كانت شتى، ولئن مات عمر لنبايعن فلاناً أو فلانا.
فأراد أن يقوم في الناس خطيباً فيبين لهم سياسة الإسلام بعرفة، فأتاه عبد الرحمن بن عوف فقال: يا أمير المؤمنين! لا تفعل؛ فإنك هنا يغلب عليك الرعاع، ويحيطون بك من كل جانب، فيحملون قولك كل محمل، ولا يضعونه في موضعه، ولكن إذا رجعت إلى المدينة ونزلت بالدار واجتمع عليك المهاجرون والأنصار، فقل ما شئت.
ففعل ذلك عمر، فهذا من تنزيل الكلم في مواضعه.
وكذلك فإن من هذه الحكمة في الدعوة أن يدرك الإنسان الظروف المحيطة به، وأن لا يغامر المغامرات التي لا تجدي والتي لا تنفع، فالمغامرات التي هي غير مضمونة وغير موزونة هي من المبادرات المنهي عنها، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما أرسل حذيفة إلى الأحزاب قال له: (ولا تحدث حدثاً حتى ترجع إليّ).
فلذلك ليس من الحكمة في الدعوة أن يقوم الإنسان بمغامرة ليس وراءها ما يمدها ويقتضي استمرارها، وكثيراً ما يتصرف أقوام على غير مشورة فيغامرون مغامرة ربما جاءت ببلايا فيجر الحبل أحبلا، كما قال أبو طالب: ففي فضل حبل لا أباك ضربته بمنسأة قد جر حبلك أحبلا وقد شاهدنا تصرفاً يشبه هذا، فقد رأى أحدهم سائحة إيطالية فأطلق عليها رصاصة فجرح إصبعها فقط، فأخذ هو وكل من حوله، وتضرر بذلك عدد كبير من الصالحين الأتقياء، وأوذوا إيذاءً شديداً بسبب هذا التصرف الطائش.
إن هذا النوع من المغامرات التي هي غير مضمونة وغير موزونة ليس من الحكمة ولا من الدعوة، إن من الحكمة في الدعوة أن يزن الإنسان أموره بميزان المصلحة، وأن لا تعجل، ويعلم أن العاقبة للمتقين، وأن الحق لابد أن يظهر، ومن هنا لا ينهزم ولا يضعف، ويزول عنه كل الخور، ويطول حينئذٍ نَفَسُه، وتقوى قوته، ويعد العدة ليوم آخر، كما قال الحارث بن هشام: الله يعلم ما تركت قتالهم حتى رموا فرسي بأشقر مزبد فعلمت أني إن أقاتل واحداً أقتل ولا ينكي عدوي مشهدي ففررت منهم والأحبة فيهم طمعاً لهم بلقاء يوم مفسد وإذا أعد عدته واستعد للمواجهة فحينئذٍ يمكن أن يكون هو صاحب القرار، أما أن يتجرَّأ على مواجهة غير موزونة وهي محسومة في البداية وقواها غير متكافئة فهذا ليس من الحكمة في شيء، وكثيراً ما يؤدي إلى أضرار تستمر العقود من السنين، وما زالت المغامرات التي حصلت في بعض البلاد الإسلامية إلى الآن والناس في بعض أضرارها، مغامرات غير موزونة وتصرفات ليست عن روية، فيحصل بسببها كثير من الفساد المستشري.(32/15)
حرص النبي في دعوة أمته
إن هذه الأمة لها حقوق على أفرادها، ولها أمجاد ضائعة، وأراض مغتصبة، وعدد كبير من المستضعفين المستذلين في مشارق الأرض ومغاربها، وكتاب وسنة، وتشريع قد أضيع وأهمل، وعلم وتراث لا بد أن يحمل، لها حقوق كثيرة أين نحن منها؟ إذا نظرنا إلى أنفسنا هذه النظرة لا يمكن أن نتكبر على الآخرين، بل نجد أنفسنا خداماً من خدام أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وسنجد أنفسنا أحرص شيء على هداية هذه الأمة واستقامتها، وهذا هو المطلوب، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى امتن علينا بصفات محمد صلى الله عليه وسلم التي فطره الله عليها، فقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، ولاحظ هذه الصفات، فإن فيها خطاباً للبشرية بكاملها، فيدخل فيه الكافر والمؤمن: (جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ) أي: ليس من الملائكة ولا من الجن، بل هو من البشر.
وفي قراءة أخرى: (من أنفَسكم) بفتح الفاء، أي: من أعلاكم منزلة.
الصفة الثانية: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة:128] أي: يشق عليه عنت البشرية، يريد للبشرية جميعاً الهداية، ولا يحب أن يكب الله أحداً على وجهه في النار، يحب الهداية لـ أبي جهل ولغيره، وعندما جاءه ملك الجبال فعرض عليه أن يضم الأخشبين على قريش قال: (لا.
لعل الله أن يخرج من أصلابهم قوماً يعبدون الله لا يشركون به شيئاً)، فهذا الحرص على هداية كل الناس المؤمن والكافر، فيحرص على أن يكونوا جميعاً من أهل الجنة (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ).
لكن المختص بالمؤمنين هو قوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، فرأفته ورحمته تختص بالمؤمنين، أما حرصه على الهداية فيشمل الجميع، وهذا الحرص من المطلوب من كل مؤمن -وبالأخص الذين اختارهم الله لتكليفهم بالدعوة إليه- أن يجده في نفسه، وأن يتربى عليه، وأن يربي الناس عليه، وأن يكون حريصاً على هداية الناس وعدم تنفيرهم عن الحق، وأن يكون حريصاً على أن يهدي الله على يديه قوماً يعبدون الله لا يشركون به شيئاً.(32/16)
النظر إلى المدعوين بعين الرحمة
أخرج عبد الرزاق في المصنف أن رجلاً جاء إلى عطاء بن أبي رباح فقال: إنك يجتمع في مجلسك أنواع الناس -يقصد فرق الناس من الخوارج والشيعة وغيرهم-، وإني أكلمهم فيشتد عليهم، ولا أراك تفعل ذلك.
فقال: إني سمعت قول الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، فيدخل في ذلك اليهودي والنصراني.
فكان فهم عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى من هذه الآية أن يكون الخطاب في البداهة وفي أول الأمر بالتي هي أحسن ثم إذا احتيج بعد ذلك إلى المراحل الأخرى في التغيير كان الإنسان مستعداً لها، لكن ينبغي أن تكون بالتي هي أحسن، وبكل هدوء، وأن يعلم الإنسان أن التجهم والغلظة دليل على قسوة القلب، ولهذا فإن مالك رحمه الله أخرج في الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسوَ قلوبكم، إن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية).
وهذا الحديث خرج من مشكاة النبوة كما قال ابن القيم رحمه الله، وهو يأتي بأساليب دعوية رائعة، فيقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسوا قلوبكم؛ لأن كثرة الكلام مدعاة لقسوة القلب إذا لم تكن بالذكر، أما كثرة الذكر على اللسان فإنها مدعاة للين القلب واستقامة الجوارح، (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسوا قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد) واكرهوها وغيروها، ولكن في الواقع أنتم عباد، وأنتم معهم في هذه السفينة التي ضرب بها الرسول صلى الله عليه وسلم المثل، والذنوب تخرق السفينة، وأنتم تريدون سد هذا الخرق، وتريدون علاج ما أفسده هؤلاء، وأنتم تستحضرون قول موسى عليه السلام فيما حكى الله عنه في كتابه عندما أخذته الرجفة قال: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف:155 - 156]، فهذا كلام العارفين بالله، كلام أنبياء الله الذين يعرفون الأدب مع الله وكيف يخاطبونه، لم تأخذهم القسوة ولا الشدة في مثل هذا الموقف، بل تبرؤوا في الإثم من أهل الإثم وردوه عليهم، ومع ذلك لم يجعلوا أنفسهم أرباباً، وهذا ما حكاه الله عن عيسى عليه السلام أيضاً في قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]، وقد ثبت في حديث عائشة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة بهذه الآية) يصلي ليلة كاملة لم يقرأ من القرآن بعد الفاتحة إلا هذه الآية: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]، وهذا من واقع حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته الذي أورثنا إياه، وعلينا جميعاً أن يكون لدينا هذا الحرص، علينا أن نهتم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن نهتم بهدايتها وصلاح أمورها، وأن نهيئ أنفسنا لمسئولياتنا تجاه أمتنا، وأن نكون بذلك عند حسن ظن الأمة.(32/17)
الأسئلة(32/18)
وجوب الإحسان إلى الوالدين وبرهما
السؤال
هل المطلوب من إرضاء الوالدين مداراتهم، وهل لبر الوالدين حد أدنى أم لا حدود له؟
الجواب
أمر الله سبحانه وتعالى الإنسان أن يحسن بوالديه إحساناً في عدة آيات من كتابه، وقرن ذلك بالإيمان في قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]، وقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، فعلى هذا يجب الإحسان إلى الوالدين، وبرهما يتناول كثيراً من أنواع الإحسان المختلفة، ولكن ما يذكره الفقهاء من وجوب طاعتهما إذا أمرا بمكروه أو بمندوب أو جائز لا يدخل في دلالة النصوص، وإنما هو رأي فقط، ومن أجل ذلك فيجب الإحسان إليهما بخفض الجناح لهما، والمذلة بين أيديهما، وطاعتهما بما أمرا به موافقاً للشرع، ومحبتهما ونصيحتهما، وأن يبذل لهما الإنسان ماله وما استطاع من خدمته ونفسه، فهذا هو برهما في حياتهما، أما بعد موتهما فيدعى إلى صلة الرحم والوفاء بالوصية، ونحو ذلك.(32/19)
فضل سماع الحديث النبوي
السؤال
هل يجوز للشخص سماع الحديث وهو يعرف صحيحه من سقيمه، وقد يعارض نصاً فقهياً لديه؟
الجواب
الحديث المقصود به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الهدى كله، ومن أعرض عنها أعرض عن الهدى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فسماعه من أفضل العبادات، وتعلمه من أفضلها، وهو أسهل تعلماً من غيره، والرسول صلى الله عليه وسلم أفصح الناس وأصدقهم لهجة وأصوبهم صواباً، فمن لم يفهم كلامه لا يمكن أن يفهم كلام غيره.(32/20)
أحكام اللقطة
السؤال
ما حكم اللقطة في الأمصار الكبيرة؟ وكيف تعرف؟ وما حالها بعد السنتين هل يتصدق بها عن صاحبها؟ والقول بالتصدق بها أرأي أم له أصل؟
الجواب
اللقطة التي يلتقطها الناس في الأمصار -في غير الحرمين- ينبغي أن تعرف كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (اضبط متاعها وعفاصها، ثم عرفها سنة، ثم انتفع بها، فإن جاء صاحبها يوماً من الدهر يطلبها فأعطه إياها)، فعلى هذا، على الإنسان أن يعرفها بمظانها، ومن مظانها -إذا كانت ذات بال أو ثقيلة- أن يعلن عنها في جريدة أو غير ذلك، ويحتسب ذلك على صاحبها، وإن كانت ليست ذات بال بأن كانت قيمتها زهيدة ضئيلة فلا تدخل في اللقطة، وليتصدق بها، وإن كانت متوسطة القيمة فله أن يعرفها في المكان الذي وجدها فيه وما حوله، وأن يكتب إعلاناً عنها أنه: من فقد شيئاً في هذا المكان فعليه أن يتصل بالرقم الفلاني.
أو: من فقد شيئاً في هذا المكان فعليه أن يصل إلى فلان الفلاني في المكان الفلاني.
فإن مضت السنة فله أن ينتفع بها، والأفضل له أن يتصدق بها، وإن جاء صاحبها يوماً من الدهر يطلبها فعليه أن يعطيه إياها.(32/21)
طريقة تغيير قناعات الوالدين الواقعين في الشرك
السؤال
لي والدان يستغيثان بغير الله، ويكرهان الدعوة، فماذا يجب علي أن أفعله معهما؟
الجواب
عليه أن يبر والديه، وأن يحسن إليهما حتى يؤثر فيهما، وإذا أصبح مؤثراً فيهما فسيحبان ما يحبه هو، وحينئذٍ يصرف عنهما كل قبيح من الأفعال والأخلاق والعقائد وغير ذلك، وهذا ليس قولاً نقوله من غير تجربة، بل هو أمر مجرب من لدن القدم، فمن لا تؤثر فيه ولا يجد منك الحرص على شئونه وأموره ولا يحبك لا يمكن أن تؤثر فيه، لكن من يثق بك تمام الثقة، يسهل عليك تغيير منكره، ويسهل عليك التأثير عليه، وأنا أعرف رجلاً كان معنا، وكان شاباً من شباب نواكشوط، وقد توفي -نسأل الله أن يغفر له ويرحمه- وكان من خيرة الشباب، وأبوه رجل كبير السن وشيخ قبيلة، ولكنه كان أبر أولاده به فحصل على ثقته، فكان أبوه -إلى الآن- إذا رأى رجلاً من الذين كان يعرفهم مع ابنه قال: محمد محمود -اسم الولد- لا يصحب إلا الخيرين.
وذلك لتمام ثقته بولده؛ لأنه يقول: عرفته منذُ بلغ فما رأيت منه إلا خيراً.
فحصل على ثقته، فكان الوالد يغير رغباته وقناعاته امتثالاً لرغبة ولده، ويغير كل القناعات، ومستعد أن يترك كل شيء؛ لأنه يثق بولده تمام الثقة.(32/22)
الأسلوب المناسب لدعوة الأقارب
السؤال
كيف يعيش زوج مع زوجته وأهلها يدعونها إلى الباطل، ويكرهون الزوج لأنه من الدعاة، فكيف يدعوهم؟ وكيف يؤثر فيهم؟
الجواب
الأسلوب المناسب هو: أن يحصل على ثقتهم.
أولاً، فلا يحاول دعوتهم قبل أن يكون محل ثقة لديهم، بل يحسن إليهم ويريهم من نفسه الحرص على التعاون معهم، فإذا أصبح محل ثقة لديهم متدخلاً في كل شئونهم دعاهم حينئذ من واقع قوة تأثير، ويؤثر عليهم إن شاء الله.(32/23)
حكم زواج الأب من زوجة ابنه من الرضاعة
السؤال
قال تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23]، وقال صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، فكيف يجمع بين الحديث والآية خاصة إذا كان الابن من الرضاع؟
الجواب
هذه الآية لا تتعلق بالرضاعة، إنما بالمصاهرة، والله عز وجل ذكر المحرمات وهن ثلاثة أقسام: محرمات من النسب، ومحرمات من المصاهرة، ومحرمات من الرضاعة.
فالمحرمات من المصاهرة منهن: حلائل الأبناء، وهن زوجات أولاد الصلب، فلا يدخل في ذلك حلائل الأولاد من غير الصلب، وقد اختلف في الابن من الرضاعة هل تحرم زوجته إذا كان قد تزوجها؟ فجمهور العلماء ذهبوا إلى ذلك، وقال آخرون: لا تدخل؛ لأن الله تعالى قال: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23] فاشترطوا أن يكونوا من الصلب، والحديث إنما هو في الرضاعة، فلا يدخل في هذا الباب فلا تعارض بينه وبين الآية.(32/24)
حكم الجمع بين المملوكتين في الوطء
السؤال
من المعلوم أن الجمع بين الأختين محرم، فهل ينطبق ذلك على المملوكتين؟
الجواب
نعم.
ينطبق على المملوكتين، فلا يحل وطء أختين بملك يمين حتى تخرج الأولى عن ملكه، وعند المالكية لا بد أن يخرجها عن ملكه وعن ملك من تحت يديه من أولاده الصغار أيضاً، وهذه المسألة اختلف فيها الصحابة قديماً، لكن القول الذي اتفقت عليه الأمة بعد ذلك هو مذهب علي بن أبي طالب بتحريم ذلك، وقد قال عثمان رضي الله عنه حين سئل عن ذلك: أحلتهما آية وحرمتهما آية، فلم يفت بهما، ولكن الأمة أجمعت بعد ذلك على تحريم الجمع بين الأختين بملك اليمين.(32/25)
السنة في العقيقة عن الأولاد
السؤال
هل صحيح أن سنة العقيقة تكون بشاتين للابن وشاة للبنت، وما هو أصل ذلك؟
الجواب
جاء ذلك في الحديث الصحيح أن يعق عن الذكر بشاتين أو كبشين أملحين، وعن البنت بواحدة، ولكن جاء أيضاً في الصحيح أنه عق عن الحسن والحسين بشاة واحدة عن كل واحد منهما، فلذلك لا حرج في هذا، فأقل ما يعق به شاة واحدة، ولا حرج في الزيادة ما لم يصل ذلك إلى السرف.(32/26)
طاعة الوالد فيما لا يعارض الشرع
السؤال
إن لي والداً يأمرني أن أترك علم الحديث وتعلمه حتى يكون لدي علم بالفروع، وكذلك يطلب مني الزواج مبكراً امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج)، ولكن يوسوس الشيطان لي ويعرض لي كثيراً من العقبات، فما هو نصحكم لي؟
الجواب
أما ما ورد في السؤال الأول فما أمر به الوالد فهو مخالف لأمر الله سبحانه وتعالى فيما يتعلق بترك الدعوة وترك التعليم، فعلى الإنسان إذا تعلم شيئاً أن يعلمه، لكن عليه أيضاً أن يبر والده وأن يظهر ذلك، وأن لا يظهر مخالفته له.
أما ما يتعلق بتعلم الفروع، فإذا أمر الوالد بذلك فهذا اختيار منه لولده أن يتقدم لعلم من العلوم المهمة قبل غيره، ورأي الوالد فيه بركة، ولا حرج أن يدرس بعض الفروع، ولكن عليه أن يبحث عن أدلتها مع ذلك ويدرسها معها.
أما الاستفسار في السؤال الثاني فيما يتعلق في تعجيل الزواج فيحتاج إلى أن يعرف الإنسان واقع الشخص هل هو مستعد لذلك من الناحية البدنية والمادية، فإن كان كذلك فلا ينبغي له أن يؤخره، وإن لم يكن كذلك فقد قال الله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33].(32/27)
حكم عضل المولى لموليته
السؤال
طلبت للزواج وخطبت عدة مرات ورفض والدي الموافقة على زواجي، والآن يريد أن يزوجني من ابن عمه، وأنا لا أرضى به زوجاً، فقد سبق أن تحرش بي حتى دخلت المستشفى، فأنا لا أرضى به لذلك ولا أحبه، والآن أريد أن أعرف حكم ما يريد والدي فعله بي؟
الجواب
يقول الله تعالى في كتابه: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:232]، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [النساء:19]، فقد حرم الله عز وجل العضل، والعضل معناه: منع ولي المرأة من الزواج.
وقد ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، وإلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).
وعلى هذا فالذي حصل من الوالد غير جائز، والعضل غير جائز، ولا يجوز له أن يأتي بفاسق يزوجه موليته لقرابته منه، وعليكم أن تحاولوا معه وتقنعوه، وإذا كان هناك واسطة يتصلون بالوالد ويبينون له أن هذا غير جائز فهذا أفضل، ولتلتزم هي حياءها مع الله عز وجل، وتسأله أن يجعل لها فرجاً ومخرجاً، نسأل الله أن يجعل لها فرجاً ومخرجاً، وأن يكتب لها الخير.(32/28)
دعاء
اللهم! صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، اللهم! اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا، اللهم! استعملنا في طاعتك، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين ولا منفرين يا أرحم الراحمين.
اللهم! اهدنا واهد على أيدينا يا أرحم الراحمين، اللهم! اهدنا واهد بنا يا أرحم الراحمين، اللهم! اهدنا واهد بنا يا أرحم الراحمين، اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه يا أرحم الراحمين، اللهم! ألهمنا رشدنا، وأعذنا من شرور أنفسنا، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
اللهم! اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، يا سامع الدعوات! يا أرحم الراحمين! اللهم! اغفر لكل المسلمين يا أرحم الراحمين، اللهم! اقض حوائجهم أجمعين، اللهم! لا تردهم خائبين، اللهم! إنهم رفعوا إليك أيدي الضراعة فلا تردهم خائبين، اللهم! املأ قلوبهم أجمعين من الإيمان، وأبدانهم من الصحة، وجوارحهم من الطاعة، وأيديهم من الخير، اللهم! اغفر ذنوبهم، واقض ديونهم، واشف مرضاهم، وارحم موتاهم يا أرحم الراحمين، اللهم! اهد قلوبهم، واجمع ذات بينهم يا أرحم الراحمين، اللهم! اجمع شملهم، واجمع كلمتهم على الحق يا أرحم الراحمين، اللهم! أصلح أولادهم ونساءهم يا أرحم الراحمين، اللهم! اغفر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، واخلف علينا بخير يا أرحم الراحمين، اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا أرحم الراحمين، اللهم! يا حي! يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! الطف بالمستضعفين من المسلمين المستذلين في كل مكان، اللهم! الطف بهم يا أرحم الراحمين، اللهم! أنزل عليهم الرحمات يا أرحم الراحمين، اللهم! فرج كربهم، ونفس همهم، اللهم! اجعل العاقبة لهم يا أرحم الراحمين، اللهم! ثبت أقدامهم، وسدد سهامهم، واجمع كلمتهم على الحق يا أرحم الراحمين، اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم! رد كيد الكافرين وانصرنا عليهم أجمعين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(32/29)
الحكمة في الدعوة [2]
إن الأصل في الدعوة إلى الله تعالى أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، وهذا الأسلوب مطلوب في حق الكافرين فضلاً عن عصاة المؤمنين، ولا يعارض هذا قتال المشركين، أو إقامة الحدود على الفاسقين، فكل له موطنه.
ومن الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى التطبيق العملي لكل أمور الدين؛ إذ به تكتمل الدائرة، ويسد الفراغ بين العلم والعمل.(33/1)
كيفية دعوة غير المسلمين بالحكمة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعثه ربه رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد سبق أن تحدثنا عن مفهوم الدعوة إلى الله خصائصها ومميزاتها وأسسها وضوابطها وسنتحدث -بحول الله- عن بعض وسائل الدعوة إلى الله، كما في قوله تعالى في سورة النحل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125]، فلنأخذ من هذه الآية نبراساً نهتدي به إلى ما نقول، والله الموفق في القول والعمل.
هذه الآية من أجمع ما ورد في كيفية الدعوة إلى الله وأساليبها، وقد نزلت في مكة في وقت الأمر بمهادنة قريش، وقد اختلف العلماء هل هي محكمة أم منسوخة بالآيات التي توجب قتال المشركين أينما ثقفوا، وقد ذهب ابن عطية في تفسيره إلى الجمع بين القولين -أي: إلى التفصيل- حيث يقول ويظهر لي أن الاقتصار على هذه الحال -أي: حال اللين والرفق في الدعوة إلى الإسلام، وألا تتعدى مع الكفرة متى احتيج إلى المخاشنة- هو منسوخ لا محالة، وأما من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفرة ورجي إيمانه بها دون قتال فهي محكمة في حقه إلى يوم القيامة، وأيضاً فهي محكمة في جهة العصاة، فهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة.
ويؤكد القرطبي نفس المعنى حيث يقول: هذه الآية نزلت بمكة وقت الأمر بمهادنة قريش، وقد أمر الله رسوله أن يدعو إلى الله وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة، فهي محكمة في جهة العصاة الموحدين، ومنسوخة في بالقتال في حق الكافرين، وقد قيل -والكلام ما زال للقرطبي -: إن من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورجي إيمانه بها دون قتال فهي فيه محكمة.
وكلام هذين الإمامين يقرر بوضوح لا لبس فيه أن الأصل في الدعوة إلى الله أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وأن هذا الأسلوب مطلوب في حق الكفار، ولا يعدل عنه إلا إذا لم يجد في حقهم شيء، وأنه متعين في حق عصاة المسلمين والغادرين منهم، ويمنع الشارع العدول عنه إلا في حالات استثنائية محصورة محدودة كقتال الفئة الباغية، ففي القرآن آيات كثيرة تبيح للمؤمنين التعامل مع الكفار الذين لم يقاتلوهم في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم، كقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9].
وفيه أمر -أي: في القرآن- للنبي صلى الله عليه وسلم بمنح الجوار لمن استجاره من المشركين، وإسماعه كلام الله، ثم إبلاغه مأمنه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:6]، والبر، والقسط، والجوار، والوفاء بالعهد إلى مدته كلها أساليب دعوية فعالة لما تتركه من أثر إيجابي في نفوس المدعوين، وقد أدت في كثير من الأحيان إلى دفع أعداء الإسلام إلى اعتناق الإسلام والإيمان والدفاع عنه بعدما كانوا من ألد أعدائه، فقد نقل ابن القيم أن الذين استثناهم الله وأمر بالوفاء لهم بعهدهم قد دخلوا في الإسلام قبل أن تنقضي مدة عهدهم، وأن الذين تركوا ليسيحوا في الأرض أربعة أشهر لم يسيحوا في الأرض، وإنما أسلموا، ولا يعارض -أيها الأخ الحبيب- إعمال هذه الآية ما جاء من الأمر بقتال المشركين حيث وجدوا وترصدهم وحصارهم، فالجهاد ماض إلى يوم القيامة، وهو مشروع لتحرير البشرية من العبودية للعباد، وتعبيدها لرب العباد، وإزالة كل قوة تقف في وجه ذلك وإيقافها عند حدودها، ولا يقف الإسلام عند تحدي الدفاع عن أرض الإسلام كما بين ذلك بعض المسلمين خطأ واقعين تحت تأثير دعايات أعداء الله.
يقول سيد قطب رحمه الله عند قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، يقول: إنه مع هذه الحرب المعلنة على المشركين كافة بعد انسلاخ الأشهر الأربعة يظل الإسلام على سماحته وجديته وواقعيته كذلك، فهو لا يعلنها حرب إبادة، وإنما هي حرب هداية متى أمكن ذلك.
فالمشركون الأفراد الذين لا يجمعهم تجمع جاهلي يتعرض للإسلام ويتصدى له يكفل لهم الإسلام في دار الإسلام الأمن، ويأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيرهم حتى يبلغوا مأمنهم، هذا كله وهم مشركون: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6].
إن هذا يعني أن الإسلام حريص على كل قلب بشري أن يهتدي وأن يثوب، وأن المشركين الذين يطلبون الجوار والأمان في دار الإسلام يجب أن يعطوا الجوار والأمان، ذلك أنه في هذه الحالة أمن الإسلام حربهم وتجمعهم وتألبهم عليه، فلا ضير إذن من إعطائهم فرصة سماع القرآن ومعرفة هذا الدين؛ لعل قلوبهم أن تتفتح وتتلقى وتستجيب، وحتى إذا لم تستجب فقد أوجب الله لهم على أهل دار الإسلام أن يحرسوهم بعد إخراجهم حتى يبلغوا بلداً يأمنون فيه على أنفسهم.
ولقد كانت قمة عالية تلك الإجارة والأمان الذي منحه الإسلام لهم في دار الإسلام، ولكن قمم الإسلام الصاعدة ما تزال تتراءى قمة بعد قمة، وهذه هي قمة من قممها، هذه الحراسة للمشرك عدو الإسلام والمسلمين ممن آذى المسلمين وفتنهم وعاداهم هذه السنين! هذه الحراسة له حتى يبلغ مأمنه خارج حدود دار الإسلام، إنه منهج الهداية لا منهج الإبادة.
والذين يتحدثون عن الجهاد في الإسلام فيصمونه بأنه كان لإكراه الناس على الاعتقاد، والذين يحملونهم هذا الاتهام ممن يقفون بالدين موقف الدفاع، فيروحون يدفعون هذه التهمة بأن الإسلام لا يقاتل إلا دفاعاً عن أهله في حدوده الإقليمية! هؤلاء وهؤلاء في حاجة إلى أن يتطلعوا إلى تلك القمة العالية التي يمثلها هذا التوجيه الكريم.
فهذا الدين إعلام لمن يعلمون، وإشارة لمن يستشيرون، حتى من أعدائه الذين شهروا عليه السيف وحاربوه وعاندوه، ولكنه إنما يجاهد بالسيف ليحطم القوى المادية التي تحول بين الأفراد وسماع كلام الله، وتحول بينهم وبين العلم بما أنزل الله؛ فتحول بينهم وبين الهدى، كما تحول بينهم وبين التحرر من عبادة العبيد وتربطهم برب العبيد، والتي تحول بينهم وعبادة رب العبيد وتلجئهم إلى عبادة العبيد، ومتى حطم الإسلام هذه القوى وأزال هذه العقبات فالأفراد -على عقيدتهم- آمنون في كنفه، يعلمهم ولا يرهبهم، ويجيرهم ولا يقتلهم، ثم يحرسهم ويكفلهم حتى يبلغوا مأمنهم، هذا كله وهم يرفضون منهج الله! انتهى الاستشهاد.
ولزوم أحكام هذه الآية -أي: الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة- والجدال بالتي هي أحسن لزوم أحكامها في حق الغافلين من المسلمين وعصاتهم -إلا في حالات استثنائية محصورة كما ذكرنا- أمر واضح بين، فقد أمر القرآن المسلمين بالاعتصام بحبل الله جميعاً واجتناب الفرقة، ونهاهم عن التنازع والافتراق فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وقال: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)، متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يرجعوا بعده كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) متفق عليه.
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب إلى أبعد من ذلك حين ينهى عن الإشارة إلى المسلم بسلاح ونحوه ولو مزاحاً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يديه، فيقع في حفرة من النار) متفق عليه، وفي رواية لـ مسلم: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى ينزع، وإن كان أخاه لأبيه وأمه)، وروى النسائي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قتل المؤمن عند الله أعظم من زوال الدنيا).
وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم في خطبة حجة الوداع، وكانت من آخر خطبه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ودع الناس فيها، ولقد نال المسلمين في ماضيهم من قريب وفي حاضرهم إ(33/2)
التطبيق العملي للدعوة
إن ما نذكره من مظاهر الحكمة كله يدخل في المجال النظري، أما المجال التطبيقي فيحتاج الإنسان فيه إلى تدريب وتعويد، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بمدة زمنية، فإذا أردت -يا عبد الله- أن تدعو نفسك إلى الصدق فاكتب آيات الصدق وأحاديثه في ورقة واجعلها في جيبك، وراجعها بين الفينة والأخرى، وألزم نفسك بالصدق طيلة أسبوع كامل؛ لأنك إذا قلت لها بأن تلتزم طيلة العمر فلن تستجيب لك.
لكن إذا قلت لها: سأحاول الصدق مدة أسبوع فتستجيب لك، فإذا مضى أسبوع وقد استطاعت نفسك الإقلاع عن الكذب فقل لها: إنما أنت مخادعة، وأنت تستطيعين الصبر عن الكذب مدة الحياة، فقد صبرت أسبوعاً كاملاً عن الكذب.
وهكذا إذا أردت الإقلاع عن الغيبة فاكتب آيات الغيبة وأحاديثها في ورقة واجعلها في جيبك، ثم راجعها بين الفينة والأخرى، ثم اجعل لنفسك أسبوعاً لا تسمع فيه غيبة ولا تشارك فيها ولا تنطق بها، فإذا نجحت في ذلك عاتب نفسك بهذا العتاب.
وكذلك في التعود على الاستغناء بالله عمن سواه، فإذا أردت أن تعود نفسك ألا تسأل أحداً حاجة إلا الله فاكتب الآيات المتعلقة بذلك والأحاديث المتعلقة به، وراجعها بين الفينة والأخرى، وأدب نفسك بذلك أسبوعاً أو أسبوعين، ثم إذا نجحت فيه فقاض نفسك إلى ضميرك، وقل: قد نجحت في ذلك أسبوعاً أو أسبوعين فلم العناد؟ ولهذا بايع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة من أصحابه على أن لا يسألوا أحداً شيئاً، فكانوا بعد ذلك إذا وقعت عصا أحدهم وهو راكب لم يأمر أحداً أن يناوله عصاه، بل ينزل حتى يأخذ عصاه.
ولذلك أخرج البخاري في الصحيح عن عمرو بن تغلب رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعطي أقواماً خشية أن يكبهم الله على وجوههم في النار، وأكل آخرين إلى ما جعل الله في قلوبهم من الإيمان، منهم عمرو بن تغلب.
قال عمرو: فقال كلمة ما أود لو أن لي بها حمر النعم).
وكان عمرو لا يسأل أحد شيئاً، وكذلك حكيم بن حزام عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، فقال له بعد أن ابتسم النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه: (إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ومن لم يأخذه بحقه كان كالذي يأكل ولا يشبع.
قال حكيم: والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً.
فكان بعد ذلك لا يأخذ هدية ولا عطية من أحد)، حتى إن عمر كان يدعوه ليأخذ حظه من بيت المال فيمتنع، فيشهد عليه الشهود أنه قد أعطاه نصيبه من بيت المال فتركه، فلابد أن يتعود الإنسان على هذا تطبيقياً في نفسه.
ثم كذلك في التعاون مع الأهل، فإذا أردت أن لا تغضب، وأن تمتثل وصية النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك في قوله: (لا تغضب) فاكتب أحاديث الغضب واجعلها في ورقة في جيبك، وطبقها على أهلك.
وإذا أردت التخلق بخلق النبي الكريم الذي قال الله فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فابدأ بأمر يسير جداً، وهو أنه إن كان سائق أو خادم في البيت أو عامل في المكتب أو المتجر أو غير ذلك فحاول أن لا تقول له لشيء فعله: لم فعلت؟ ولا لشيء تركه: لم تركته؟ فهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال أنس: (خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلت، ولا لشيء تركته: لم تركت)، ثم إذا نجحت في هذه التجربة في نفسك فحاول أن تطبقها على الآخرين فقد أصبحت أستاذاً في الدعوة، حاول أن تطبقها على الآخرين فقد أصبح في زماننا هذا علم متطور يدعى (علم النفس الدعوي) يدرس في الكليات، يعرف به الإنسان الأسلوب المؤثر، ويختار به الأساليب التي يستجيب لها الناس، ويستطيع به تقييد التجارب النافعة من حياته هو وحياة من يخالطهم من الناس، ومن عرف هذا العلم لم يخل وقت من أوقاته من درس يستفيده، فما من أحد يلحظه إلا تعلم منه درساً إما أن يكون درساً إيجابياً وإما أن يكون سلبياً، فإن رآه فعل أمراً محموداً تعلم منه درساً إيجابياً، وإن رآه فعل أمراً مذموماً تعلم منه درساً سلبياً فبادره بالترك، ولذلك فإن أنبياء الله عليهم السلام كانوا يستفيدون هذه الدروس حتى من البهائم، فنبي الله سليمان عليه السلام استفاد من نصيحة الهدهد الذي قال له: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون ماذا قال هذا الطائر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: فإنه يقول: أكلت نصف تمرة، فعلى الدنيا العفاء)، فالدنيا كلها عليها الغبار، فائدتها أن يأكل الإنسان ما يغنيه.
كذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم امرأة تجري في السبي تبحث عن ولدها حتى وجدته فألصقته ببطنها وألقمته ثديها، فقال: (أترون هذه ملقية ولدها في النار؟ قالوا: لا.
قال: فالله أشد رحمة بعبده المؤمن من هذه بولدها).
إن هذا المقام إذا وصله الإنسان أصبح أستاذاً يمكن أن يستملي الدروس من تلقاء كل ما ينظر إليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ هذا الدرس من هذه المرأة التي تجري تبحث في السبي عن ولدها.
وسار ذات يوم -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- في طريقه بين المسجد والبقيع، فمر بسوق بني قينقاع، فرأى جدياً أسك ميتاً مرمياً فقال: (من يشتري مني هذا الجدي -والناس في السوق يقبلون على التبايع ويجمعون الدراهم والدنانير-؟ فقالوا: يا رسول الله! لو لم يكن ميتاً لكان عيباً أنه أسك! فقال: من يشتريه بأربعة دراهم؟ فقالوا: لا أحد يشتريه بذلك؛ إنه أسك صغير الأذنين ميت)، جيفة فلا أحد يشتريه بذلك، فجعله مثلاً للدنيا، وبين لهم حرص أهلها عليها، وأنهم إنما يتنافسون على الجدي، فهذه الأساليب المؤثرة هي التي تعلمها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منه بعد ذلك.
فقد مر أبو هريرة بالسوق، فإذا الناس قد انقطعوا في البيع عند مجيء البضائع، وغفلوا عن أنفسهم من شدة حرصهم على الربح، فصاح فيهم: يا أهل السوق! قد حرمتم نصيبكم من ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاجتمعوا إليه حينما قال هذه الكلمة المؤثرة، فقال: قد تركت ميراث النبي صلى الله عليه وسلم يقسم الآن في المسجد، فأدركوا نصيبكم منه.
قالوا: من يرعى لنا تجارتنا؟ فقال: أنا أرعاها لكم حتى ترجعون.
فخرج التجار يشتدون عدواً ويتسابقون إلى المسجد فدخلوا، فما رأوا إلا حلق العلم، فرجعوا فقالوا: ما رأينا إلا حلق العلم.
فقال: هو ذاكم، هذا ميراث النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه الراحة اليسيرة التي أقبل فيها التجار إلى المسجد وخرجوا بنية صادقة يريدون نصيبهم من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم كانت راحة لهم من الانغماس في الدنيا بالبيع والشراء، أراحهم بها أبو هريرة رضي الله عنهم وقطعهم عن ذلك الإقبال الشديد والانهماك في الدنيا.
ونظير هذا قول إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، فهو مقتض أن يحصل على الرحمة من أقاربه وذويه الذين يكذبونه ولا يرضون باستجابة دعوته.
ومن هذه التطبيقات ما حصل لرجل من الدعاة، فقد أعد برنامجاً دعوياً لمجموعة من الشباب، فقال: سنأخذ شهرين في الجانب النظري وأربعة أشهر في الجانب التطبيقي.
فطال عليهم الجانب التطبيقي، فلما أكملوا الجانب النظري قال له أحد الشباب: أما أنا فلا أحتاج إلى التطبيق فسأطبق بنفسي.
فقال: أحسنت وبارك الله فيك، اذهب واستعن بالله.
فخرج -وكان اليوم يوم الجمعة- فدخل مسجداً لصلاة الجمعة، فقام الخطيب على المنبر، فافتتح خطبته بحديثٍ موضوعٍ طويل، فأطاله الرجل طولاً عجيباً لم يصبر عليه الشاب، فوقف في أثناء الخطبة يصيح ويقول: أخرجوا هذا الإمام من مسجدكم؛ فهو كذاب وضاع يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار)، وقال: (إن كذباً عليّ ليس ككذب على أحد)، و (من قال علي ما لم أقل فليلج النار)، وقال: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، فقال الإمام: أخرجوا هذا من هذا المسجد.
فقام الناس عليه وأشبعوه ضرباً وأخرجوه من المسجد.
فعاد حزيناً كئيباً إلى الشيخ فشكا إليه ما لقي من هؤلاء القوم في المسجد، وأن جوابهم لم يكن جواباً علمياً ولم يكن بالبرهان، وإنما كان بالعصا، فقال له الشيخ: اصبر يا بني عليهم أسبوعاً، فإذا كانت الجمعة القابلة فسنذهب ونطبق بعض الدروس التي سمعتها في هذا المسجد.
فقبل الشاب ذلك مرغماً، فلما كان يوم الجمعة الآخر خرج الشيخ وطلابه إلى المسجد، فجاؤوا مبكرين، وأخذوا مقابل ظهر الإمام وجلسوا يذكرون الله، فصعد الإمام المنبر فبدأ خطبته بنفس الحديث الذي خطب به في المرة الماضية، وأخذ عليه الشيخ ووجد في نفسه تعصباً على هذا الحديث، فسكت الشيخ وهو يقلب رأسه كالمعجب بذلك، ولا يفعل ذلك إلا متعجباً لا معجباً به، فلما سلم الإمام تقدم الشيخ إليه، وسلم عليه تسليماً مبالغاً في احترامه، ثم وقف فأراد أن يتقدم فقدم إليه الإمام الميكرفون؛ لأنه عرف أنه سيثني عليه، فقال: أيها الناس! إن إمامكم هذا رجل مبارك، فمن أراد البركة وغفران الذنوب فلينتف شعرات من لحيته.
فاجتمع عليه أهل المسجد حتى نتفوا لحيته، وما تركوه حتى سال الدم من لحيته، فاقترب إليه الشيخ فوضع يده على كتفه وقال: هل يكفيك هذا تأديباً على وضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعرف الشاب أنه ما زال محتاجاً إلى التطبيق العملي.
ومما يقابل هذا أن إماماً من الأئمة جاءه شاب يحمل شهادة - أظنها شهادة في الشريعة- وهو يحفظ القرآن، ويرى أنه أحق بالإمامة من الإمام، ومعه أوراق رسمية كأنه معين من جهة حكومية ليتولى إمامة المسجد، فتقدم وأخذ أوراقه ووقف إلى جانب الإمام، ففهم الإمام قصده،(33/3)
الأسئلة(33/4)
وقت صلاة الوتر
السؤال
هل يمكن الجمع بين الحديث: (اجعلوا آخر صلاتكم في الليل وتراً)، والحديث الذي فيه: النهي عن النوم قبل الوتر، مع العلم أن من صلى الوتر قبل النوم لا يمكن أن يصليه آخر الليل للحديث السابق؟
الجواب
إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بجعل آخر الصلاة في الليل وتراً، فقال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الفجر أوتر بركعة) أو: (فصل ركعة توتر لك ما سبق)، وقال: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)، لكنه لم يأمر الناس جميعاً بأن يجعلوا الوتر آخر الليل، بل أمر بعض أصحابه لما علم منهم ثقل النوم أن يوتروا قبل أن يناموا، ومن هؤلاء أبو هريرة رضي الله عنهم، قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم: أن أوتر قبل أن أنام)، فهذه الوصية تختص بأولئك، وليست بيد كل الناس، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يوتر إلا في آخر الليل، فقد كان ينام قبل قيام الليل، وهذا هو التهجد؛ لأن التهجد معناه مجانبة الهجود، وإنما تسمى الصلاة تهجداً إذا كانت بعد نوم أو في وقت النوم، ولا تعارض بين الحديثين.
فمن كان إذا نام علم أنه لم يستيقظ فلا ينم حتى يوتر، ومن كان يعلم أنه سيستيقظ وجرت العادة له بذلك فالأفضل له أن يؤخر صلاة الليل بعد أن ينام الناس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلُوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (وصلاة الرجل في جوف الليل ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] إلى قوله: {يَعْمَلُونَ} [السجدة:17])، لذلك من علم من نفسه أنه إن نام لم ينشط للصلاة، فليوتر قبل النوم، ومن علم من نفسه أنه سيستيقظ وينشط للصلاة فليؤخر صلاته إلى جوف الليل.
اللهم! صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، اللهم! لك الحمد كالذي نقول، وخيراً مما نقول، ولك الحمد كالذي تقول، لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بكل شيء تحب أن تحمد به على كل شيء تحب أن تحمد عليه، لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلى وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس وأخذت بالنواصي ونسخت الآثار، وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرءوف الرحيم، نسألك بعزك الذي لا يرام، وبنورك الذين أشرقت له السماوات والأرض أن تهدي قلوبنا، وأن تستر عيوبنا، وأن تكشف كروبنا، وأن تصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، اللهم! ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، اللهم! اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا، اللهم! استعملنا في طاعتك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم! اجعلنا في قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم! اسقنا من حوضه بيده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم! بيض وجهونا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، اللهم! لا تشوه وجوهنا بنارك، اللهم! لا تشوه وجهونا بنارك، اللهم لا تشوه وجهونا بنارك، الله استرنا بسترك الجميل، اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، اللهم! أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين أجمعين، اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ورد كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين، اللهم! لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا ذا الجلال والإكرام، اللهم! انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم! ثبت أقدامهم، وسدد سهامهم، واجمع كلمتهم.(33/5)
صفات الثوب الذي يجوز أن تخرج به المرأة
السؤال
قول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]، هل يدخل في ضمن ذلك ما ظهر من الثوب، وما صفة الثوب الذي يطلب من المرأة الخروج فيه في السفر؟ وهل هو القبيح بحيث يكون في لباسها له عدم صيانة العرض، أم الحسن الذين لم يكون لافتاً للانتباه؟
الجواب
إن قول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] فيه استثناء بما يحل للمرأة إبداؤه من الزينة، وهو ما ظهر؛ لأن المرأة لا يمكن أن يحرم عليها إبداء الزينة مطلقاً وهي تحتاج إلى الخروج ومخالطة الناس في البيع والشراء وغير ذلك، فأذن الله لها في إبداء ما ظهر منها.
واختلف أهل العلم ما هو؟ فقال بعضهم: هو اللباس الظاهر.
وقال بعضهم: ما كان في الوجه من الكحل ونحوه، وما كان في اليدين من الخاتم ونحوه.
وهذا المذهب الأخير هو الذي ذهب إليه جمهورهم، فرأوا أن ما ظهر منها هو ما كان في الوجه واليدين، وبهذا فسر هذه الآية عدد من الصحابة، وفسرها غيرهم، بأن المقصود بذلك اللباس الظاهر، فاللباس ظاهر كله من الزينة؛ لقول الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، فالزينة المقصود بها ما يستر العورة من اللباس، فهذا هو القول الثاني، وعلى هذا فإن الملابس التي تخرج فيها المرأة لا يحل أن يكون فيها عطر قطعاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة تعطرت فخرجت من بيتها فهي زانية)، وكذلك لا ينبغي أن تكون من لباس الزينة الذي لا يلبس إلا في الأعياد ونحو ذلك، فهذا أيضاً مدعاة للريبة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خروج النساء للمسجد: (وليخرجن إذا خرجن تفلات)، أي: غير متزينات.
وأما ما دون ذلك فهو من الأمور المشككة لا المتواطئة، فبالإمكان أن تكون ملابس حسنة ظاهرة لدى قوم وهي رخيصة الثمن غير حسنة لدى آخرين، ولا عبرة بما يحصل فيها التفاوت حينئذٍ من هذا الأمر، فإذا لم تكن الملابس مختصة بالزينة فالأمر فيها ميسور، أما الملابس القبيحة المزرية فلا ينبغي على من أنعم الله عليها من النساء بما تستتر به أن تتخذها للخروج؛ فإن ذلك من تواضع النفاق وهو ذميم: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عباده)، والخروج في تلك الملابس من غير ضرورة من المذلة التي نهي عنها أهل الإسلام، ولذلك فهي من الأمور التي ينبغي التفريق بينها وبين التواضع، كما قال السيوطي رحمه الله: والمرء محتاج إلى أن يعرف فرق أمور في افتراقها خفا كالفرق بين العجز والتوكل والحب لله ومعه المنجلي إلى أن يقول: وعزة في أمر دين والعلو والاجتهاد في اتباع والغلو فعد منها التواضع والمذلة، فلا بد أن يفرق الإنسان بينهما.(33/6)
أثر المجلات الحائطية في الدعوة
السؤال
هل تعتبر المجلة الحائطية أسلوباً نافعاً من أساليب الدعوة في المدارس؟
الجواب
نعم.
فهي أسلوب مؤثر قدر جرب نفعه، وبالأخص إذا كان إخراجها إخراجاً جيداً بالألوان وبالخطوط الجيدة.(33/7)
مكانة الأطفال من الدعوة
السؤال
ما هو دور الأطفال في الدعوة؟
الجواب
الأطفال هم قادة المستقبل، وهم علماؤه ومجاهدوه، وحكامه، ووزراؤه، ومعلموه، ودعاته، وأئمته، وتجاره، فيجب عليهم أن يتزودوا في صباهم، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (تفقهوا قبل أن تسودوا)، وكذلك يطلب منهم أن يكونوا أسوة حسنة ومثالاً يقتدى به لزملائهم ونظرائهم، فإن من فعل ذلك منهم تيسر له الالتزام فيما بعد بلوغه، واستطاع أن يكف جوارحه عما حرم الله عليه بعد البلوغ، وكان بذلك من بداية عهده ناشئاً في طاعة الله، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أنه قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعمل شماله ما تنفق يمينه، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، فهؤلاء السبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.(33/8)
أجر تعليم الأولاد للقرآن
السؤال
ما هو الحكم فيمن له أبناء في بلاد لا تتوافر فيها دراسة القرآن، هل حكمه الذهاب بهم إلى محضرة قرآنية، أم حضانتهم في بلدهم المذكور مع دراستهم ودراستُهم ضعيفة؟
الجواب
إن استطاع هو أن يعملهم القرآن وأن يتعلمه معهم فذلك أولى وأزكى، وإن لم يستطع ذلك وعجز عنه فليبحث لهم عمن يعلمهم، وإذا أحضر معلماً إلى القرية التي هو فيها كتب له أجر ذلك التعليم وأجر تعليم الأولاد الآخرين، وكان ذلك من التعاون على البر والتقوى.(33/9)
حكم هجران الأرحام والجيران
السؤال
ما حكم صلة الجار إذا كان قريباً نسبه ولم يكن بمحرم كبنات العم والخال، وهل يجوز للشخص أن يهجر جاره القريب فوق ثلاثة أيام؟
الجواب
صلة الرحم من شعب الإيمان البارزة، وقد قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله حين خلق الرحم أمسكت بساق العرش فقالت: يا رب! هذا مقام العائذ بك من القطعية.
فقال: أما ترضين أن أصل من وصلك وأن أقطع من قطعك؟)، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بالغ بالحض على صلة الرحم، وبين أن أفضل صلة الرحم صلة الرحم الكاشح الحاسد المشاكس، ولم يرد في الشرع تقييد للرحم بأن تكون محرماً، بل ذكر البخاري رحمه الله في صلة الأرحام، فقال: صلة الرحم: تشريك القرابات فيما أوتي الإنسان من أنواع الخيرات، فيدخل في ذلك الزيارة والدعاء والسؤال عن الحال والإهداء والنصيحة وغير ذلك مما ينفع، ويشمل ذلك الأجنبية وغيرها من ذوي الرحم.
لكن آكد ذوي الأرحام صلة هم الذين يتوارث الإنسان معهم، فالذين ترثهم ويرثونك هم آكد ذوي الأرحام رحماً، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.
وأما الجار فلا يحل هجرانه إلا على أساس معصيته؛ لما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يهجرن أحد أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذين يبدأ بالسلام)، وفي رواية: (وأفضلهما الذي يبدأ بالسلام)، فحرم النبي صلى الله عليه وسلم أن يهجر الرجل أخاه فوق ثلاث، ومثل ذلك هجران المرأة المرأة فوق ثلاث، فالهجران إذا كان على أساس المعصية فلتهجره وقت مقارفة المعصية؛ لقول الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
وأما الهجران المطلق فإنما يقصد به تأديب الإنسان المصر إذا علم أن ذلك يؤثر فيه، أما إذا علمت أن هجرانك لا يؤثر فيه ولا يرده عن باطله فلا تهجره بهجرة البدن.(33/10)
حكم الاختلاط بالأجنبيات في الدراسة
السؤال
كيف يكون تعامل الطالب مع زملائه من الرجال والنساء المختلطين الذين يتسابقون فيما بينهم؟
الجواب
يجب على الإنسان أن لا يخالط الأجنبيات، فقد قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]، وخلطة الأجنبيات أعظمها خلطة الفروج وأدناها خلطة النظر، وقد حرم الله الأمرين، فدل ذلك على تحريم ما بينهما؛ لأنه قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30]، وهذا أقوى شيء في الخلطة، فإذ حرم هذان الحدان حرم ما بينهما كالمصافحة والاقتراب، ولذلك حرم النبي صلى الله عليه وسلم الدخول على النساء فقال: (إياكم والدخول على النساء.
قالوا: والحمو يا رسول الله؟ قال: الحمو الموت)، وأمر النساء أن يقمن من وراء الرجال، وأن لا يمشين وسط الطرق، والحمو قريب الزوج ووالده وقريبه.
نعم، لا بد من صلة الرحم، لكن لا يحل الاختلاط والخلوة، كذلك إذا كان الإنسان بين مجموعة من المنتهكين لحرمات الله كهؤلاء فيجب عليه أمران: أولهما: أن يهجر بقلبه.
وهذه الهجرة هي التي تسمى بالهجرة الشعورية، أن يهجر ما هم عليه، وأن يبغضهم على مخالفتهم للحق، وأن يهجرهم بقلبه، ثم بعد ذلك الأمر الثاني: وهو تغيير ما استطاع، فإن استطاع تذكيرهم بالله وتخويفهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر فليفعل، وإن لم يستطع ذلك فليهجرهم ما استطاع، إن استطاع الهجرة البدنية فبها ونعمت، وإن لم يستطع فليهجر الهجرة الشعورية.(33/11)
حكم اشتراط النية لإزالة النجاسة
السؤال
ما حكم زوال النجاسة عن الثياب التي توضع في المغاسل لغسلها؟
الجواب
من القواعد الشرعية المسلمة في المذاهب كلها أن التعبد في التطهير لا يحتاج إلى النية، فطهارة الخبث كلها لا تحتاج إلى النية، لأنها ليست مثل طهارة الحدث، فلا تحتاج إلى النية، فلذلك يطهر الثوب بالمطر إذا تعرض له وهو على شجرة، ويطهر إذا أخذته الريح فرمته في البحر أو نحوه، وكذلك الثياب إذا كانت متنجسة فغسلها الأجير، أما إذا علم أن الذين يمتهنون ذلك إنما يضعون الثياب في المياه المتغيرة، ولا يضعونها في الماء المطهر فتكون -الثياب- حينئذ داخلة في خلاف العلماء إذا زالت عين النجاسة بغير الماء المطلق، هل يبقى الحكم مؤثراً أو لا؟ فذهب الحنفية وبعض المالكية إلى أن حكم النجاسة يزول تبعاً للعين، وذهب الجمهور إلى أن حكم النجاسة لا يزول إلا بالمطهر، وهو الماء الطهور الذي لم يتغير فيه أحد الأوصاف الثلاثة.
والمسألة محل خلاف بين أهل العلم، فلذلك يمكن أن يوسع على المسلمين بها، لكن ينبغي أن ينصح الذين يزاولون هذه المهنة بأن يضعوا الثياب في ماء مطهر، سواءٌ كان ذلك في بداية غسلها أم في نهاية الغسل.(33/12)
تفسير قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه)
السؤال
ما تفسير قول الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة:184]؟
الجواب
هذه الآية نزلت أول ما نزل الصوم، فقد كان الصوم على التخيير إن شاء الإنسان صام وإن شاء أطعم، وذلك في وقت حاجة المسلمين إلى الإطعام، ثم نسخ ذلك بالأمر الجاد بالصيام، فقد قال الله تعالى في بداية الأمر بالصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:183 - 184].
فهنا: أمرهم إذ ذاك أن يصوموا، فمن كان عاجزاً عن الصوم يجب عليه الإطعام مقابل كل يوم، وذلك في وقت الحاجة إلى الإطعام، ثم جاء الأمر الجاد بالصيام بعد قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، فلم يبق عذر في الصيام، ولم يبق التخيير الذي كان، بل نسخ التخيير بوجوب الصيام على من شهد الشهر، أي: من لم يكن مسافراً أو له عذر.
وقد قال بعض أهل التفسير: إن قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] أي: على الذين لا يطيقونه.
و (لا) في لسان العرب تأتي زائدة فتذكر ولا يراد بها النفي، وتحذف كذلك ويراد إثباتها، فمن إثباتها في الموضع الذي لا تقتضي فيه النفي قول الله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1]، {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1].
ومن حذفها في الموضع الذي يراد إثابتها فيه، قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] أي: على الذين لا يطيقون الصيام لعطش أو هرم (فدية) وهي: إطعام مسكين عن كل يوم مداً، وعموماً فبأي التفسيرين أخذت فصحيح، فالتفسير الأول تكون الآية على أساسه منسوخة، والتفسير الثاني تكون الآية على أساسه محكمة.(33/13)
حكم المراء والجدال في المساجد
السؤال
ما حكم من يتجادلون في المسجد قبل صلاة الجمعة محتجين بالدعوة إلى سبيل الله؟
الجواب
إذا كان ذلك في الحق وعلى أساس وبصيرة وبينة، وكان ذلك ليس مراءً في الدين وإنما هو مجادلة بالتي هي أحسن فلا حرج في ذلك في المساجد، ولهذا بنيت، وهو من العلم النافع، وإن كان ذلك بالمراء في الدين والمناورة والمكابرة التي يقصد بها الإنسان أن يعرف -كما قال علي: إنما أنت رجل يقول: اعرفوني اعرفوني، فقد عرفناك- فهذا ممنوع محرم في يوم الجمعة وفي غيره من الأيام.(33/14)
السن الذي تشتهى فيه المرأة
السؤال
ما السن الذي تكون فيه المرأة أجنبية وتشتهى به؟
الجواب
لا عبرة بالسنوات، وإنما العبرة بجسمها هي وبحال الإنسان أيضاً.
وكذلك أيضاً الطفل، لكن إذا كانت مراهقة فقطعاً أصبحت أجنبية على كل الاحتمال، وكذلك الصبي إذا أصبح مراهقاً، أي: قريباً من البلوغ.
أما تعريف الريبة فهي: ميل القلب الذي يتهم الإنسان فيه بأنه يريد ما لا يحل له.(33/15)
تعريف العلماني
السؤال
ما كيفية دعوة العلمانيين بالحكمة، مع تعريف العلمانيين؟
الجواب
إن دعوة العلمانيين إنما هي بحسب مستواهم وحالهم، فالعلماني معناه: الذي يقر بالإسلام في جانب من جوانب الحياة ويرده في الجوانب الأخرى.
الذي يريد من الإسلام الصلاة والعبادة، ولكن لا يريد من الإسلام الحكم، ولا التشريع، ولا الجهاد، ولا الحدود، ولا المعاملات هذا هو العلماني، يقبل الإسلام في بعض الجوانب ويرفضه في بعض الجوانب، ويقول: ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
وهذا النوع من الناس إنما يُجادَل بالتي هي أحسن، فيبين له أن الجميع من عند الله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]، فالذي فرض الصلاة هو الذي حرم الربا، وهو الذي أوجب الحكم بما أنزل الله، وهو الذي شرع الأحكام كلها، ولا يمكن أن يؤخذ بعض تشريعه ويرد عليه بعضه، فهو الذي قال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة:85].(33/16)
كيفية دعوة الوالدين
السؤال
والدي لديه نية حسنة، ولكنه يمارس بعض البدع، ولا يفهم كغيره من الشيوخ هذه الصحوة المباركة، فعندما تذكر له هذه الجماعات يطلق العبارات التي يطلقها كثير من الشيوخ، كقولهم: هذا الدين الجديد.
أو: المذهب الخامس فكيف يتعامل معه، وكيف يُفَهَّم، وكيف يكف عن ذلك؟
الجواب
إن معاملة الوالدين في المجال الدعوي خاصة، ومثال هذا ما عامل به إبراهيم أباه عندما قال له: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:43 - 45]، فيحاول الولد أولاً الحصول على ثقة والده، ويحاول بره حتى يكون أحب أولاده إليه، فإذا كان أحب أولاده إليه فلا شك أنه سيؤثر فيه تأثيراً بالغاً.
وأعرف رجلاً والده شيخ قبيلة، وهو من رجال المجتمع، لكنه كان براً به، فكان أحب أولاده إليه، فتأثر بسلوكه وهديه ودله تأثراً بالغاً، فكان الوالد بعد ذلك إذا رأى أي شيء يفعله ولده هذا، قال: ما فعل محمد محمود هذا إلا على أساس بينة من الله ورسوله.
وبعد أن مات محمد محمود رحمة الله عليه كان هذا الوالد يناصر أهل الدعوة الذين كان محمد محمود منهم، ويقول: محمد محمود لا يصحب إلا الصالحين.
وقد مات هذا الوالد رحمه الله وهو من أنصار هذه الدعوة أو من أنصار هذا الدين ومن المجتهدين في الحق، وما تأثر إلا ببر ولده به، لكن ولده إنما ابتدأ بالبر والإقناع من غير أن يبدأ بالمناقشة والمجادلة، فأثر فيه تأثيراً بالغاً، نسأل الله أن يغفر له ويرحمه.(33/17)
علاج الرهبة من موقف الدعوة
السؤال
من إذا قام في دعوة الناس آخذته رهبة، كيف يعالج ذلك؟
الجواب
هذا إنما يحصل في بداية الجانب التطبيقي من الدعوة، ويزول ذلك باعتلاء المنابر والتحدث أمام الناس، فإن لكل موقف رهبة، والإنسان في بداية أمره لابد أن يحصل له ذلك، وعثمان رضي الله عنه حين صعد المنبر أول ما بويع خليفة وضع قدميه في المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع فيه قدميه، فارتج عليه فلم يستطع الكلام بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، فسكت طويلاً ثم قال: أنتم إلى أمير فعال أحوج منكم إلى أمير قوال، ولئن بقيت لتأتينكم الخطب على وجهها، وسيجعل الله بعد عسر يسراً.
ونزل فكانت خطبته أبلغ خطبة، وهو أول من ارتج عليه على المنبر من هذه الأمة.(33/18)
(لعن الله امرأة رفعت صوتها ولو بذكر الله) ليس بحديث
السؤال
هل الخبر: (لعن الله امرأة رفعت صوتها ولو بذكر الله) حديث؟
الجواب
ليس حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.(33/19)
من مقامات التعليم والإنكار
السؤال
هل هذه المقامات خاصة بالإنكار، وهي مقام الابتداء، ومقام التردد، ومقام الإنكار؟
الجواب
الجواب لا.
فهذه المقامات في الدعوة مطلقاً، في تغيير المنكر والتعليم وغير ذلك، فأول ما يبتدئ به الإنسان ينبغي أن يكون اللين، ثم بعد ذلك يأتي بالموعظة، ثم بعد ذلك يأتي بالحجة الدامغة.(33/20)
وسائل دعوة المسلمين
السؤال
كيف ندعوا المسلمين، خاصة المنحرفين انحرافاً بيناً كالعلمانيين والشيوعيين؟
الجواب
هؤلاء ليسو من المسلمين، لكن دعوة المسلمين إنما هي تخويفهم بالله تعالى وتذكيرهم به، وتذكيرهم بأيام الله، وأخذه الشديد، وتذكيرهم بالموت وسرعة الانتقال من هذه الدار، فإن هذا مما ينفع المؤمنين، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، فيدعون بوسائل الدعوة السبع، وهي المذكورة في قول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] هذه الوسيلة الأولى، {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، هذه الوسيلة الثانية، {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} [يوسف:108] هذه الوسيلة الثالثة، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، هذه الوسيلة الرابعة.
وفي قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] هذه الوسيلة الخامسة، {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] هذه السادسة، {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] هذه الوسيلة السابعة، فهذه السبع الوسائل بنص كتاب الله.
فالوسيلة الأولى قوله: {عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108]، فلا بد أن يكون الإنسان على بصيرة بما يدعو إليه، وعلى بصيرة بمن يدعوه وبأسلوب الدعوة.
وقوله تعالى: {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] هذه الوسيلة الثانية، فلا يمكن أن يكون الإنسان داعياً بنفسه وحده، بل لابد أن يجد من يساعده على ذلك ويعينه عليه.
وقوله تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} [يوسف:108] هذه الوسيلة الثالثة، فلا بد أن يستعين الإنسان بالتوكل على الله وعبادته واللجأ إليه، فإن من وسائل الدعوة الدعاء، وإتقان العبادة، فمن لم تستطع التأثير فيه ببيانك ولسانك فأثر فيه بنور قلبك، وبدعائك، فإن لم يستجب لك فحاول التأثير فيه بالدعاء، فقلما يعجزك مع الدعاء.
وقوله تعالى: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] هذه الوسيلة هي التميز، فلابد أن يكون الداعية متميزاً مخالفاً للذين يدعوهم فيما يدعوهم إليه، فلا يمكن أن يدعو إلى شيء وهو يخالف فيه، فلابد أن يتميز عن المشركين.(33/21)
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم)
السؤال
ما تفسير قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:8 - 9]؟
الجواب
قول الله تعالى: (ومن الناس) أي: من المشركين.
(مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ) أي: في ألوهيته، وينكر وحدانيته، ويزعم له شركاء.
(بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي: بغير برهان ولا دليل.
(وَلا هُدًى) أي: لم يأته في ذلك هداية من الله سبحانه وتعالى.
(وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ) أي: لم يجد ذلك في القرآن ولا في غيره من الكتب السماوية.
(ثَانِيَ عِطْفِهِ) وهذه جلسة المجادل، فالذي يجلس للخصام يدني عطفه، وعطفه جنبه.
(ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي: بالمجادلة في الله.
(لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ) فهذا وعيد من الله سبحانه وتعالى لمن كان كذلك، وهذه الآيات التي وردت في المشركين أو المنافقين ليست خاصة بالذين وردت فيهم، بل الوعيد وارد على كل من فعل ذلك، فكل من حصل منه الفعل الذي جاء في القرآن الوعيد عليه أو في السنة فهو داخل في الوعيد، وورود العام على الخاص لا يمنع عموم الحكم.(33/22)
حكم زيارة المرأة للرجل الأجنبي
السؤال
هل يجوز زيارة المرأة الأجنبية للرجل الأجنبي إذا كان مريضاً؟
الجواب
إن عيادة المرضى تجب على الأقربين، فإن تهاونوا بها وجبت على الصاحب، فإن تهاون بها وجبت على الجيران، فإن تهاونوا بها وجبت على المسلمين عموماً، وهي من حق المسلم على أخيه إذا مرض أن يعوده، ويستوي في ذلك الرجال والنساء، لكن من السنة في حال العيادة أن يخفف، وأن لا يزور في الأوقات المحرجة، وأن يدعو له بالشفاء، وأن يحمله على العزاء بأن يقول له: طهور وتكفير.
أي: إن هذا تكفير لذنوبك وتطهير لك من أدرانك، وفيه خير لك.
فيبين له ما يحمله على الصبر على المرض، ويستوي في ذلك الرجال والنساء، لكن لا يحل للمرأة أن تخلو بالمريض الأجنبي؛ لأن الخلوة بين الأجانب حرام، وكذلك لا يحل لها أن تزوره في الريبة، فإن ما يؤدي إلى الريبة لا يجوز، أما في غير الريبة فلا حرج في ذلك، وهو مطلوب من حقوق المسلمين ويثاب الإنسان عليه، وقد كانت عائشة رضي الله عنها وأمهات المؤمنين يعدن المرضى من المسلمين، وقد كانت عائشة تعود بلالاً رضي الله عنه -وهو ليس بمحرم- لها في مرضه، وكذلك كانت أم سلمة رضي الله عنها تعود شماس بن عثمان وغيره، وقد كانت امرأة من الأنصار تعود عثمان بن مظعون لما كان عندهم في البيت يعالجونه، فلما مات شهدت له بالخير، فبين لها النبي صلى الله عليه وسلم الحذر من التزكية على الله.(33/23)
وجوب قضاء الحامل والمرضع للصيام
السؤال
هل يجب على الحامل والمرضع قضاء رمضان؟
الجواب
الإرضاع والحمل ليسا سبباً للإفطار إذا لم يكن معهما مرض، فإن كان معهما مرض أو خشية مرض أو زيادة مرض أو خشية زيادة مرض أو تأخر برء فإنهما سبب مبيح للإفطار أو موجب له، بحسب ما يترتب على ذلك، وقد قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، معناه: فأفطر فعدة من أيام أخر.
أي: فيجب عليه أن يقضي عدة الأيام التي أفطرها من أيام أخر.
وقد ورد حديث ضعيف بأن الحامل والمرضع ليس عليهما قضاء، ورد في ذلك أثر عن ابن عباس، لكن ذلك لا يصح ولا يمكن أن تعارض به الآية، فهي نص صريح من كلام الله.(33/24)
حكم صلاة الجمعة في حق النساء
السؤال
هل تجب صلاة الجمعة على النساء؟
الجواب
الجمعة لا تجب على النساء، لكن إذا صلينها أجزأت عن الظهر، وقد كن يشهدنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.(33/25)
تفسير قول الله: (إنما يعمر مساجد الله)
السؤال
ما تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]؟
الجواب
هنا بين الله سبحانه وتعالى أن عمارة المساجد باستغلالها في العبادة واستغلالها في طاعة الله سبحانه وتعالى لا يصدر إلا من مؤمن يريد وجه الله ويبتغي الدار الآخرة، فلذلك جاء بـ (إنما) التي هي أداة حصر، وقوله تعالى: (يعمر مساجد الله) يدخل فيه مساجد الجماعات والمصلَّيات وغيرها.
وقوله: (من آمن بالله واليوم الآخر) الذي آمن بالله هو الذي يعرفه ويريد عبادته، والمؤمن بالله واليوم الآخر هو الذي يحتسب ويرجو الأجر فيما يعمل.
وقوله تعالى: (وأقام الصلاة) لأنها هي التي تعمر بها المساجد.
وقوله تعالى: (وآتى الزكاة) لأن الزكاة أخت الصلاة، ولذلك إنما يتركها المشركون، ولهذا قال الله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:6 - 7]، وامتدح الذين يؤدونها فقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:157 - 158]، وقبل هذه الآية يذكر الأمر بالزكاة وحدها، وهذا الموضع الوحيد في القرآن الذي ذكر فيه الأمر بالزكاة وحدها دون أن يرتبط ذلك بالصلاة: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ} [الأعراف:156 - 157].
وقوله تعالى: (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ) هذا من تمام الإيمان بالله؛ لأن الإيمان به يقتضي خشيته، فهو أحق أن يخشى.
(فعسى أولئك) و (عسى) من الله الوجوب، ومعناها: يقارب أولئك (أن يكونوا من المهتدين)، فإنهم يهدون لذلك، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في سنن الترمذي أنه قال: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان) لأن الله تعالى يقول: ((إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ)) [التوبة:18])؛ لكن هذا الحديث فيه ضعف، ومع ذلك فالمقصود بارتياد المساجد والمقصود بعمارتها ما كان مقصوداً به وجه الله، ولا يقصد بذلك ما قصد به الرياء والتسميع، أو ما كان عابراً للإنسان دون أن يحتسب فيه وجه الله.(33/26)
إن الدعاء هو العبادة
إن الله غني عن عباده، وهم فقراء إليه، وقد أمرهم أن يسألوه ويدعوه، وفتح لهم أبواب رحمته، وعلمهم كيف يدعونه وبما يدعونه، فما على العباد إلا أن يطرقوا أبواب رحمته، ويطلبوه من فضله.(34/1)
مشروعية الدعاء وآدابه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيراً.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.(34/2)
الدعاء عبادة
عباد الله! إن الله سبحانه وتعالى أمركم أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، فقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62].
وقال تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32].
وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
وإنه سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الدعاء هو العبادة).(34/3)
آداب الدعاء
فاجتهدوا في الدعاء لله سبحانه وتعالى، وتأدبوا بالآداب التي شرع الله لكم في الدعاء، فإن الله سبحانه وتعالى شرع لكم في الدعاء أن يفتتح بالثناء على الله سبحانه وتعالى، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يختم بذلك.
وألا يكون بإثم، ولا بقطيعة رحم، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يدع بإثم، ولا قطيعة رحم)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله حيي كريم؛ يستحيي إذا مد العبد إليه يديه أن يردهما صفراً)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم كذلك أنه قال: (إن الله حيي كريم؛ لا يمل الإجابة حتى تملوا الدعاء)، فاجتهدوا في الدعاء لله سبحانه وتعالى، واعلموا أن هذا الدعاء هو تحقيق العبادة لله.
والأنبياء فيه لهم مقامات: فمنهم من يدعو بالتعريض، كما حصل لأيوب عليه السلام فإنه قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، ومنهم من يصرح بالدعاء، كما كان إبراهيم عليه السلام يدعو.
والنبي صلى الله عليه وسلم أخذ بالحالين، فتارة يصرح، وتارة يعرض.
وكذلك فإن من آداب الدعاء التي شرعها الله سبحانه وتعالى الإلحاح بالدعاء والضراعة بين يدي الله سبحانه وتعالى؛ فإن المتضرع بين يديه لا يمكن أن يُرد.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث دعوات مستجابات أقسم عليهن: دعوة المسافر حتى يعود، ودعوة الوالد على ولده، ودعوة المظلوم)؛ فهذه الدعوات الثلاث يقسم عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهن مستجابات لا ترد.
وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم كذلك أنه قال: (للصائم دعوة لا ترد)، وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب).(34/4)
فضل الضراعة إلى الله
وإن الله سبحانه وتعالى يقدر ما شاء من قدره؛ ليرفع إليه عبيده أيديهم بالضراعة، وهو الحكيم الخبير؛ فكل أمره إنما هو لحكمة بالغة: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ولابد من الإيمان بقدره اللازم، ولابد أن يجأر إليه العباد بالضراعة في كل الأحوال، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إذا أحس العباد بالاستغناء؛ فإن الاستغناء سبب لحصول ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]، وقال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى:27].
وإن الله سبحانه وتعالى ينبه عباده على الضراعة إليه ودعائه وذكره بما يبتليهم به من أنواع البلاء، فإذا مدوا أيدي الضراعة إلى الله سبحانه وتعالى، حقق ما كان قدر، وإنه هو الحكيم الخبير: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
وكثيراً ما يحال بين المرء وبين الرزق وغير ذلك مما يقدره الله، حتى يجأر إلى الله ويدعوه، وقد قال الله تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43].
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة في الصحيحين أنه قال: (إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبَّان زمانه، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم.
ثم قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ لا إله إلا الله يفعل ما يريد!!).
فلابد من إخلاص العبودية لله سبحانه تعالى والضراعة إليه بالدعاء وذلك سر استجابته، وإن الله سبحانه وتعالى هو أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وإن عطاءه غير محظور، وقد قال فيه: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20]، يعطي عبده قبل المسألة، ويعطيه إذا سأل، ويضاعف له بما لا تبلغه فكرته، وقد قال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، فهذا لا يمكن أن يدعو العباد به ولا أن يسألوه؛ لأنه لا يخطر على قلوبهم، ولا يمكن أن تراه أعينهم، ولا أن تسمع به آذانهم، لكن الله يبتدئهم بكرمه وجوده وإحسانه سبحانه وتعالى.(34/5)
دعوة الغرباء مستجابة
وإنكم هنا متعرضون لنفحات الله سبحانه وتعالى بما خصكم به في غربتكم هذه وخلوتكم، فاجتهدوا في الدعاء لله سبحانه وتعالى، واعلموا أن ذلك من أبلغ القربات، وأشدها رجاء عند الله سبحانه وتعالى.
وإن هذه الأمة محتاجة لدعائكم، فاجتهدوا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في الدعاء، واعلموا أنه صلى الله عليه وسلم كثيراً ما كان يدعو لأمته من يأتي منهم ومن حضر، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى بلحاقكم بالسابقين، فقال تعالى في سورة الجمعة بعد الامتنان على هذه الأمة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3]، و (لما) لنفي الماضي المنقطع، وهذا وعد من الله عز وجل لكم أن تلحقوا بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه ذهب إلى المقبرة يوماً فأخذ عوداً فنكت به في الأرض فقال: (وددت لو رأيت إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني قوم آمنوا بي ولم يروني، للواحد منهم أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله، منا أو منهم؟! قال: بل منكم، إنكم تجدون على الحق أعواناً ولا يجدون على الحق أعواناً).
وقد صح في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء، قالوا: ومن الغرباء يا رسول الله؟! قال: قوم صالحون في قوم سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)، وفي رواية: (الذين يصلحون إذا فسد الناس)، وفي رواية: (الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي).(34/6)
فضل الدعاء يوم الجمعة
إن الله سبحانه وتعالى أتاح لكم فرصة الدعاء، وشرعه لكم في الليل والنهار وفي كل الساعات، وبالأخص في يومكم هذا، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مؤمن قائماً يصلي يسأل الله حاجة إلا أعطاه إياها)، فهذا اليوم فيه ساعة لا ترد فيها دعوة إلى الله سبحانه وتعالى، يستجيب الله فيها، ويفتح خزائن خيره لعباده، فاجتهدوا في أن تصادفوا هذه الساعة المباركة، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده يقللها، أي: أنها ساعة غير طويلة، لكن لا ترد فيها دعوة أبداً.(34/7)
فضيلة الدعاء بأمور الآخرة
ثم اعلموا -رحمني الله وإياكم- أن من هداه الله للدعاء ينبغي أن تكون الآخرة أكبر همِّه، وأن يشتغل بما هنالك، وأن يعلم أن هذه الحياة الدنيا لا تساوي شيئاً، ولو عجل للإنسان فيها ملذاته وشهواته، وكل ما يرتجي ويبتغي، فذلك خسران له في الآخرة؛ فقد قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:18 - 19].
وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20].
وإن الشيطان كثيراً ما يسعى بالإنسان إذا أصابته نكبة من نكبات الدنيا إلى أن يهتم بحاله في الدنيا، وأن يغفل عن حاله في الآخرة، فعليكم عباد الله ألا تتبعوا خطوات الشيطان، وأن تعلموا أن ما يصيبكم في هذه الحياة لا يساوي شيئاً مما ينتظر الآخرين في الدار الآخرة، وأن تعلموا أن الله سبحانه وتعالى اختاركم حين أصابكم في هذه الحياة؛ ولذلك فإنه يقول في خطابه للكافرين يوم القيامة: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف:20].
وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، ومن حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه كلاهما: (أنهما كانا صائمين، فقدم لهما طعام الإفطار، فلما رأياه ألواناً متنوعة بكيا حتى أبكيا من حولهما، فقال الناس لـ عبد الرحمن بن عوف: ما يبكيك يا أبا المنذر؟! قال: إنا كنا أهل جاهلية وشر، فبعث الله إلينا محمداً صلى الله عليه وسلم، فآمنا واتبعنا، فعادانا الناس في ذات الله، فمنا من مات ولم يتعجل شيئاً من أجره، منهم أخي مصعب بن عمير؛ قتل يوم أحد، وليس له إلا سيفه عليه، وبردة إن نحن غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإن نحن غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، وأن نجعل على رجليه من الإذخِر، فماتوا ولم يتعجلوا شيئاً من أجرهم، وبقينا وراءهم، ففتحت علينا الدنيا أبوابها، فنحن نهدِ بها، فخشينا أن يقال لنا يوم القيامة: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف:20]).
عباد الله! إن الله سبحانه وتعالى هو الكريم، اللطيف بعباده، الرحيم الذي لا تحجب عنه سماء سماء، ولا أرض أرضا، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، فتعرضوا لنفحاته سبحانه وتعالى، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل).
هي نفحات ربنا الكريم سبحانه وتعالى، فتعرضوا لها، واسألوا الله من فضله كما أمركم الله، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتاب علي وعليكم إنه هو التواب الرحيم.(34/8)
اليقين والصبر من جنود الله التي تحمي العبد من الشبهات والشهوات
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وإخوانه.
عباد الله! إن الله سبحانه وتعالى قواكم وأنعم عليكم بجندين من جنوده هما: جند اليقين، وجند الصبر، فاليقين يتغلب على الشبهات، لا يمكن أن تقف في وجهه أيَّة شبهة، فعليكم -عباد الله- أن تحققوا يقينكم بالله، وأن تعلموا أن المصير إليه، وأن القلوب كلها بين أصبعين من أصابعه، وأن السماوات السبع، والأرضين السبع في قبضة يمينه، وقد تعرف إليكم -عباد الله- بذلك فقال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يقبض السماوات، الأرضين السبع بيمينه يوم القيامة، فيهزهن ويقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)، إنه ذو الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، وإنه تعرف إليكم بهذا، فأيقنوا عباد الله وحققوا هذا اليقين، وبه تتعرفون إلى الله في الرخاء؛ ليعرفكم في الشدة.
ثم الجند الثاني: هو جند الصبر، الذي شرعه الله لكم، وجعل مثوبته معية الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153].
إن هذا الصبر العظيم هو جند لا تقف في وجهه الشهوات، وهو الذي يقتضي بالإنسان الاستمرار على سلوك طريق الحق؛ فلا يستزله البطر ولا يستزله الأشر، ولا تستزله الضراء، فهو مفتون لا محالة في السراء والضراء، وقد قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]، فصاحب الصبر هو هو على كل الحالات، لا يمكن أن يستزل بحال من الأحوال.(34/9)
من وحد الله في الدعاء ذاق العبودية
ثم اعلموا رحمني الله وإياكم أن الذي إذا رفع يديه لا يرفعهما إلا إلى لله، وإذا سأل لا يسأل إلا الله؛ هو الذي ذاق طعم العبودية لله عز وجل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمه ابن عباس: (إذا سألت فاسأل الله)، فلا بد أن نتوكل على الله، وأن نسأله غاية المسألة، وتذكروا إخواني قول المكودي رحمه الله: إذا عرضت لي في زماني حاجة وقد أشكلت فيها علي المقاصدُ وقفت بباب الله وقفة ضارع فقلت إلهي إنني لك قاصد ولست تراني واقفاً عند باب من يقول فتاه سيدي اليوم راقدُ بل تذكروا قول السهيلي رحمه الله: بجمال وجهك سيدي أتشفع ولباب جودك بالدعا أتضرعُ يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقعُ يا من يرجَّى للشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع يا من خزائن رزقه في قول كن امنن فإن الخير عندك أجمعُ ما لي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفعُ ما لي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن منعت فأيَّ باب أقرع ومن الذي أدعو وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يُمنع حاشا لمجدك أن تقنط داعياً فالفضل أجزل والمواهب أوسع وتذكروا كذلك قول الحكيم: لا تسألن بنيَّ آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب فالله يغضب إن تركت سؤاله وبنيُّ آدم حين يُسأل يغضبُ(34/10)
افتقار العباد إلى الله
إن الله سبحانه وتعالى تعرف إليكم بهذه الصفة إذ قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15 - 17].
وإنه سبحانه وتعالى شرفكم بشرف الانتساب إليه؛ فحققوا عبوديتكم له، وارفعوا إليه أيدي الضراعة، واذكروه على كل الأحوال؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (أنا عند ظن عبدي بي، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)، سبحانه ربنا ما أكرمه وأحلمه وأعلمه!! عباد الله! إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى فيه بملائكته، وثلث بكم معاشر المؤمنين، فقال جل من قائل كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأوهن كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوَّن به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250].
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147].
{رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10].
{رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:65 - 66].
{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74].
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
{رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8].
اللهم اسق عبادك وبلادك وبهيمتك، وانشر رحمتك على عبادك وأحي بلدك الميت.
اللهم إن بالعباد والبلاد والخلائق والبهائم من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً.
اللهم أنزل لنا من بركات السماء، وأخرج لنا من بركات الأرض.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن، وجميع الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وسائر بلاد المسلمين عامة يا أرحم الراحمين.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه شكراً حقيقياً يزدكم: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]، يغفر الله لنا ولكم.(34/11)
كيف نعمل للإسلام
بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، وقد زالت الغربة الأولى للإسلام ليحل محلها العز والظهور والتمكين، بعد جهد متواصل وعمل دءوب، تجلى في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي سيرة أصحابه ومن بعدهم، ونحن اليوم نعيش غربة جديدة للإسلام، ولن تزول هذه الغربة عن الإسلام إلا بعمل متواصل وجهود متضافرة من جميع فئات المسلمين.(35/1)
تشريف الله لهذه الأمة على سائر الأمم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن جميع المسلمين يعلمون أن الله سبحانه وتعالى خلقهم لحكمة واضحة بينها في كتابه، وشرع لهم شرائع هذا الدين الذي هو خير شرائعه، وضمنه خير كتبه، وأرسل إليهم خير رسله، فشرفهم بذلك على سائر الأمم، وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: (إن هذه الأمة شهود عدول يوم القيامة، وإنه ما من نبي إلا يخاصم أمته في الملأ الأعلى، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته.
حتى إن نوحاً يخاصم أمته في الملأ الأعلى فيقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير! فيقول: مكثت فيكم ألف سنة إلا خمسين عاماً أدعوكم إلى الله.
وهم ينكرون، فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته.
فيؤتى برسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته فيشهدون لنوح أنه مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى).
إن أمة يستشهدها الله تعالى في الملأ الأعلى ويرتضيها شاهدة على عباده لا بد أن تتحقق فيها صفات العدالة المطلوبة، ولا يمكن أن يكون الشهود على الأولين والآخرين من المجروحين الفاسقين، لا يمكن أن يرتضى هذا عند الله سبحانه وتعالى الذي هو أحكم الحاكمين.(35/2)
واجب هذه الأمة إزاء هذا التشريف والتكريم
لذلك فإن المطلوب من هذه الأمة أن تكون على الحكمة التي أرسل لها محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تحقق هذه الصفات في نفسها، ويبدأ ذلك بمراعاة الفرد نفسه لتحقق هذه الصفات فيه، فقد علمت عبد الله فالزم، فالمؤمن الذي يحقق انتماءه لمحمد صلى الله عليه وسلم ويرجو أن يبعث تحت لوائه يوم القيامة، وأن ينادى باسم إمامه محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [الإسراء:71].
المؤمن الذي يرجو أن لا يدعى باسم إمام آخر غير محمد صلى الله عليه وسلم، ويرجو أن يكون من أولئك الذين يعرفون يوم القيامة بالغرة والتحجيل الذين يبيض الله وجوههم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وأن يكون من الشهود على الناس لا بد أن يحقق في نفسه صفات مشروطة لذلك، ولا يمكن أن يتكل على مجرد التمني والتظني، فليس الأمر بالتمني ولا بالتظني، لا يتحقق هذا الأمر إلا بالجد والاجتهاد، فما أكثر المدعين الذين ينادون يوم القيامة على رؤوس الأشهاد بالفضيحة، ويحل عليهم قول الله الحق: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].
ما أكثر الذين يدعون انتماءهم لمحمد صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا ولكنهم سيذادون عن حوضه يوم القيامة كما تذاد الإبلات الضلل يضربون على وجوههم، فيقول: يا رب! أمتي أمتي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
فيقول: فسحقاً فسحقاً فسحقا.(35/3)
أطوار هذه الأمة في تحملها لمسئولية هذا الدين
الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن أطوار هذه الأمة وما ستتحمله من المسؤولية، فأخبر أن خير القرون هم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء إذا قرأنا شيئاً من أخبارهم وسيرهم واطلعنا على بعض النماذج منهم عرفنا كيف حققوا هذه الرسالة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف حصل لهم الشرف بها وأيقنوا وآمنوا وجاهدوا واتبعوا، ولم يغيروا ولم يبدلوا، وساروا على المحجة البيضاء غير مرتابين ولا شاكين، فوصلوا واتصلوا بحبل الحق فاستمسكوا به على بصيرة ويقين، وكانوا الزمرة الأولى، ثم جاء بعدهم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وهنا سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الراوي: ما أدري هل ذكر قرنين أو ثلاثة.
ثم إنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري أنه قال: (يغزوا فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم.
فيفتح لهم، ثم يغزوا فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمدا؟ فيقولون: نعم.
فيفتح لهم، ثم يغزوا فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم.
فيفتح لهم).
إن هؤلاء قد سلكوا هذا الطريق حين عرفوه والتزموا به، وبذلك فازوا، وقدموا لله سبحانه وتعالى ما أمرهم بأن يقدموه، ولم يقدموا بين يدي الله ورسوله، بل تأدبوا بالأدب الحق ففازوا بذلك ونجحوا، ولكن وراءهم أقواما قد غيروا وبدلوا، ولم يستمسكوا بالطريق الذي سلكه هؤلاء فنجوا، وإنما اتكلوا على التظني والتمني، تجد أقواماً كباراً يزعمون أنهم من المتمسكين بالسنة، ولا يرضون أن ينسبوا إلا إلى سنة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن حين تنظر إلى حياتهم وواقعهم، وحين تسألهم عن الفترة التي يقضونها في الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله والبذل لله لا تجد شيئاً يذكر، وهنا ستعلم هل هم صادقون في دعواهم أو غير صادقين؟ إن سنة محمد صلى الله عليه وسلم واضحة، وكل شخص يعرف أنه صلى الله عليه وسلم مكث على هذه الأرض بعد بعثته ثلاثاً وعشرين سنة، وأن هذه المدة كان أكثرها في الجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله وإعلاء كلمة الله، وما عدا ذلك فوقت بسيط للحياة الطبيعية المعتادة، وهي أيضاً واجبات ينوي لها نية تصيرها مثل السابقات، فالذي يدعي التمسك بسنته عليه أن يراجع سنته وسيرته، وأن يقسم وقته حتى يرى الجزء الذي خصصه في مقابل الجزء الذي خصصه الرسول صلى الله عليه وسلم لإعلاء كلمة الله.(35/4)
حاجة الأمة لهذا الدين، وغنى الله رب العالمين
إننا جميعاً نعلم أن الله غني عنا، وأنه هو الغني الحميد، وأنه إنما أرسل إلينا هذا الرسول صلى الله عليه وسلم امتحاناً لنا، وأنه غني عن جهادنا، وغني عما نبذله من أموال، وأخبر أنه لا يسألنا أموالنا فقال: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37]، ولكنه يحضنا على أن نقدم خيراً لأنفسنا، وحينئذ فإنه سيحفظه لنا حتى نناله في وقت الحاجة إليه، (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيها لكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، الظالم إنما يظلم نفسه، والمطيع المتقي إنما يقدم ذلك لنفسه، فالله غني عن كل ذلك، والله سبحانه وتعالى حين أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين لم يجعله بدار هوان، ولم ينزله إلى هذه الأرض ليتخذ ظهريا، وإنما أنزله وتعهد بأن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ولو كره الكافرون، وأن لا يبقى بيت حجر ولا مدر إلا دخله هذا الدين، وأن يبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، تعهد بذلك الله سبحانه وتعالى وهو الذي لا يخلف الميعاد، فقطار الدين منطلق، والالتحاق بركبه مفتوح إلى أن تطلع الشمس من مغربها، وما علينا إلا أن نبادر ونسارع، فالله سبحانه وتعالى شرع لنا هذه المسابقة والمسارعة، فقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133 - 134]، إن الملتحق بهذا الركب إنما يقدم لنفسه، وإنما يتشرف هو، ولن يشرف هذا الدين ولن يزيده شيئا، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منكم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر).(35/5)
العمل للإسلام لا يكون إلا بقناعة وإرادة قوية
المؤمن حين يسأل: كيف أعمل للإسلام؟ بعد قناعته بهذا الدين وإيمانه به وشهادته أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإيمانه باليوم الآخر والبعث بعد الموت فإن عليه أن يوجه هذا السؤال إلى نفسه، وحينئذ سيرى أن الله لم يدعه في مظنة ولا مهلكة، بل أرسل إليه رسولاً خاتماً للرسل، وأتاه بشريعة واضحة، وبين له معالمها لأقواله وأفعاله وتقريراته، ولم يكلف إلا بما يطيق، ولن يسأل إلا عما قامت عليه الحجة فيه، وكل ما لم يبلغه فإنه لم تقم عليه الحجة به، فإنه لن يُسأل إلا عما كان معلوماً من الدين بالضرورة لا يعذر أحد بجهله.
لهذا فإن من انتمى إلى هذا الدين فأول واجب عليه أن يحقق انتماءه له، وأن يعلم أن هذا الانتماء قناعة، وأن القناعة أيا كانت مقتضية للعمل، فالذي يقتنع بأن عليه أن يكون عالماً ولكن لا يذهب إلى العلماء ولا إلى الكتب، وإنما يستقر في دويرة أهله، أو يذهب إلى الأسواق، أو إلى محلات بعيدة عن العلم لم يعمل من أجل قناعته، وبذلك لا تتحقق قناعته أبدا، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في السنة لـ ابن أبي عاصم - أنه قال: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم)، فلا يمكن أن تتحقق هذه الأمنية حينئذ، وكذلك الذي يقتنع بأن عليه أن يكون من التجار الكبار ومن الأغنياء المشار إليهم عليه أن يبكر بكور الطير إلى الأسواق، فيصفق فيها كما يصفق الناس، فإن نام في وقت الصبيحة واستقر في بيته ولم يعمل من أجل قناعته فإن قناعته لاغية، وإن من اقتنع بأنه قد جاء إلى هذه الدنيا لحكمة واضحة، وقامت عليه حجة بالغة، وأنه سيموت ويخرج من هذه الدنيا ويتركها وراء ظهره، وسيبعث من قبره، وسيوقف بين يدي الباري سبحانه وتعالى، ويسأل قبل ذلك في قبره فيقال: من ربك وما دينك وما كنت تقول في هذا الرجل عليه أن يحقق وأن يعمل من أجل قناعته هذه حتى تكون قناعة واقعية، فما أكثر المتمنين الذين يتمنون على الله الأماني، ويزعمون أنهم من الذين ستكون لهم الغرفات يوم القيامة، ما أكثر الذين لا يرضون إلا بالفردوس الأعلى من الجنة، ولا يرضون إلا بمجاورة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولكن حين ننظر إلى الذين يقدمون من أجل ذلك أعمالاً جساما ويخلصون في ذلك لله نجدهم قلة قليلة من هؤلاء.
فالله سبحانه وتعالى أخبرنا عن المشركين وعن اليهود أنهم يودون أن يعطوا يوم القيامة براءة من النار، وأن يؤتوا صحفا منشرة، وأن يدخلوا الفردوس الأعلى من الجنة، ولكن الله سبحانه وتعالى رد عليهم هذه الأمنية وأخبر أنها كاذبة.
والمشكلة أن كثيرا من المؤمنين يسلكون طريق اليهود والمشركين في ذلك، فيتمنون على الله الأماني ولا يقدمون شيئا، تجد المؤمن الذي أنعم الله عليه بالإيمان، وتربى في بيت مؤمن بين أبوين مؤمنين، وتعلم من دين الله أو أمكنه أن يتعلم على الأقل، وأنعم الله عليه بتمام جوارحه وقوة بدنه وتمام عقله وتفكيره، وكان في مجتمع فيه من يقتدى به وفيه من يستفاد منه، وتجده يبلغ الثلاثين من عمره أو الأربعين لم تبق له حجة على الله، ولم يقدم شيئا يذكر لدين الله، تمضي هذه السنون هباءً منثورا، ويا ليتها كانت هباءً منثورا، بل تكون حجة على أصحابها، وهي حجة لله عليهم، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37].
فيا ليت هذه السنوات التي مضت تمضي بما فيها من خيرٍ وشر، وتذهب بكل ما فيها، ويكون الشخص كأنما ولد من جديد، لكن المشكلة أنها تنقضي أيامها وتبقى تبعاتها، ولذلك كان كثير من السلف يقولون في دعائهم: اللهم إنا نعوذ بك من ذنوبٍ ذهبت لذاتها وبقيت تبعاتها.
تنقطع اللذات وتبقى التبعات، ويمضي العمر على هذا والشخص يؤمل زيادةً في العمر {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100]، فحينئذٍ تنقطع الآمال، ويندم الشخص على ما فرط في جنب الله حين لا ينفع الندم.
فأنت -يا عبد الله! - في هذه الدنيا قد مكن لك فيها، وفتح لك كثير من المجالات، وأنعم الله عليك بكثير ٍمن النعم، وعلمت الخير أو أمكنك تعلمه، فلماذا لا تستفيد من كل هذه المجالات؟! إلى متى وأنت تغدو وتؤمل غيباً لا يتمناه إلا العاجزون؟! كثير من الذين يحبون نصرة الدين ويسعون لإعلاء كلمة الله يقولون نحن نرجو الوقت الذي ينزل فيه المسيح عيسى بن مريم فنجاهد معه، أو يخرج جيش المهدي ونجاهد معهم!! وما هذا الأمل الطويل الذي يوصلك بأزمانٍ قد لا تصلها أنت ولا ذريتك من بعدك؟! إنك لم تكلف بأن تنتظر هؤلاء، إنما كلفت بأن تنجي نفسك من عذاب الله، وأن تقدم شيئاً لدين الله، ولن تكلف إلا بما تطيقه وتستطيعه {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق:7]، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
إن العمل لهذا الدين ليس مثل الأعمال الدنيوية التي يمكن أن يقدم فيها الشخص منافع لبعض الناس أو يرفع عنهم أضراراً دون أن يستشيرهم؛ لأنه يعلم أنهم بحاجةٍ إلى هذه المنافع وفي خشية من هذه المضار، فالله سبحانه وتعالى يقول: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)، لا يمكن أن تقدم نفعاً لله تعالى ولا أن ترفع عنه ضررا، إنما تنفع نفسك أو تضرها (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها).(35/6)
واقعنا اليوم في زمن الغربة
نحن اليوم في زمان الغربة، وفي زمان ضعف الدين وتراجعه، ولم يأتنا هذا من جهالةٍ، بل أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق بذلك، وأخبرنا أن هذا الزمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، وأخبرنا بهذه الفتن التي تموج كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا.
وأخبرنا أن هذه الأزمان تكثر فيها الفتن وتنتشر، ويكثر فيها الهرج، ويرفع فيها العلم ويكثر الجهل، كل ذلك أخبر عنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ولكنه أخبرنا عن الاستمساك فيها وما ينجي منها، فأخبرنا أن النجاة بهذا الحبل المتين المستقيم الذي هو حبل الله، من استمسك به عصم، ألا وهو القرآن الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
وهذه السنة المبينة للقرآن التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين بها القرآن أتم بيان، فمن استمسك بهما عصم، ومن تركهما قصم الله ظهره، وانهوى على وجهه في النار، لذلك فإن الذي يتوقف عن العمل لنصرة الدين رجاء هذه الآمال الكاذبة مغرور ويخشى عليه من الخذلان، يخشى عليه من الخذلان حين يطيل الأمل ويتبعه، وتُمنيه النفس الأماني فينقاد لها، ويأتيه الشيطان كي يدعوه إلى بنيات الطريق ويقول له: وتكونوا من بعدها قوماً صالحين.
حينئذٍ يغتر بأعماله التي يقوم بها، وينسى ما كلف به، وينسى ما أسلف وما فرط فيه من جنب الله فيما مضى من عمره، فيا ليت هؤلاء انتبهوا قبل أن يقعوا في الهاوية، وقبل أن توصد عليهم النار الحامية، يا ليت هؤلاء انتبهوا وأدركوا أن بقية العمر ما لها ثمن، ولذلك يقول الحكماء: إن عمراً ضيع أوله لجدير أن يحفظ آخره.
كل شخصٍ منا يعلم أن ما مضى من عمره قد ضيع، وأن بقيته لا يدرى متى تنقضي، فعمر ضيع أوله جدير بأن يحفظ آخره، فعلى الشخص حينئذٍ أن يحقق عهده مع الله الذي أخذه عليه، وأن يبدأ بنفسه ويحاول الإنطلاق بما أتاه الله من قوة، ويعلم أن الحرب القائمة سنة كونية وذات تاريخ طويل مستمر، فمنذ بعث أول رسولٍ إلى أهل الأرض وهذه الحرب قائمة بين الحق والباطل، يكون للباطل فيها بعض الصولات ولكنه يضمحل في النهاية، ويورث الله الأرض عباده المؤمنين المتقين، وبعدها تأتي صولة أخرى للباطل ثم يضمحل، وهكذا دواليك.
إن الحرب قائمة على ساقها، ونازعة بأشدها، ونحن نشهدها في مختلف مجالات الحياة، نشهدها في مجال الاعتقاد، وفي مجال العمل، وفي مجال الاقتصاد، وفي مجال السياسة، وفي مجال الثقافة، وفي غير ذلك من المجالات، وفي بناء البيوت والمجال الاجتماعي الحرب شعواء على دين الله، وقبل ذلك نُبِذَ فيها ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم في كثير ٍمن المجتمعات الإسلامية -إلا من عصم الله- وراء الظهور، وفي مجال الثقافة والعلم أصبح الناس يرجعون إلى مراجع مخالفةٍ لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويقدمونها على كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.(35/7)
الحرب على الإسلام في مجال التحاكم والتشريع
وفي مجال التشريع والتحاكم يرجع الناس إلى قوانين هي من وضع أقوامٍ لو نظر إلى مصالحهم الدنيوية وكيف يتصرفون فيها لرأيت أنهم من أسفه الناس، ومع ذلك يوكل إليهم التشريع للأمم، كل واحدٍ منهم لا يحسن القيام على نفسه، ولا على ما أودعه الله وما جعل تحت يده من أهله وأولاده وماله، ومع ذلك يأتي بقوانين يضعها لتطبق على عباد الله في أرض الله، إن هؤلاء السفهاء الذين يشرعون للناس أحكاماً غير شرع الله سبحانه وتعالى إنما يتلقون ذلك من قبل شياطينهم {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]، وإنهم بذلك حين شرعوا هذه القوانين ونصبوها في الأرض ودعوا الناس إليها بل أجبروهم على التحاكم إليها وترك كتاب الله ظهرياً وراء ظهورهم سيكون عليهم إثمهم وإثم من لحقهم واتبعهم على ذلك المنهج.
إن جهالة المسلمين اليوم بكثيرٍ من شرع الله سبحانه وتعالى، وأن يعيش الكبير منهم عمره كاملاً ويموت، بل قد تموت الأجيال المتلاحقة، فتجد أربعة أجيال وخمسة من المسلمين في قطرٍ واحد، وهذه الأجيال الخمسة لم يشهد الواحد منها حداً مقاماً على الأرض، ولم يشهد التحاكم الواقعي إلى دين الله تعالى في حياته، خمسة أجيال متلاحقة!! إن هؤلاء حين انصرفوا عن منهج الله ستكون عليهم آثام هذه الأجيال بكاملها، وهذه الآثام ليست تابعةً لدول، فهذه المؤسسات التي يسميها الناس الدول أو الشركات أو المجالس أو الإدارات لا تبعث يوم القيامة، إنما يبعث الأفراد، والمسئولية يوم القيامة فردية، في الدنيا يقال: فلان من قتله؟ فيقال: قتلته الدولة الفلانية.
أو يقال: المال الفلاني من أخذه؟ فيقال: أخذته الدولة أو المؤسسة الفلانية، أو المحكمة الفلانية.
لكن يوم القيامة المسئولية محددة، وفلان هو المسئول عن هذا بعينه، لا يبعث يوم القيامة أحد رئيساً ولا وزيراً ولا حاكماً ولا قاضياً، يبعثون يوم القيامة عباداً سواسية، كل شخصٍ منهم يتحمل أوزاره على عنقه، وهو المسئول عنها وعن كل من عمل بها.
فلا تظن أن هذه المؤسسات التي تشاهدها باقية أو أنها دائمة، وانظر إلى القبور تخبرك بالحق الذي لا غبار عليه ولا مرية فيه، وانظر إلى القبور التي يستوي فيها الحاكمون والمحكومون، يأتي الدود والرمل على كل ما هنالك، فيذهب كل ذلك للملة والتراب والمهلة، وهو بعد ذلك سيبعث ويسأل عن أعماله.
وترى كثيراً من الذين كانوا صناديد في هذه الأرض وأذلوا الناس في مشارق الأرض ومغاربها بسلطانهم وقد أصبحوا لا تدرى جثثهم في أي مكان من الأرض استقرت، وتجد الفقراء المساكين يمشون على قبورهم وهم لا يشعرون، أين الجبابرة الذين أخرجوا إبراهيم من كوثا؟! وأين نمرود الذي رمى به في النار؟ وأين الفراعنة الأقوياء؟ وأين القياصرة والكياسرة؟ كل هؤلاء إذا سألت عن قبورهم لا تجد من يخبرك عنها، وتجد أن كثيراً منهم حين عاد إلى الأرض التي منها بدأ أصبحت ذراته في هذا التراب يمشي عليها الفقراء والمعبّدون الخادمون، وأصبحت رفاتهم مزارع للفقراء، ما هي إلا مدة يسيرة تعود فيها الأمور وتحول كما كانت، ولكن بني الإنسان يغترون بهذه المدة اليسيرة، فحين يجلس شخص على كرسيٍ ما يتوقع أنه دائم على ذلك وأنه لا يتحرك، حينئذ يطغى ويبغي ويفعل ما سولت له نفسه، كما أخبر الله تعالى عن اليهود بذلك: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} [الإسراء:7]، لكن هذا منقطع زائل، ويبقى بعده الحجة لله على عباده، والمسائلة بين يديه والعرض عليه، فحينئذٍ إما إلى جنةٍ وإما إلى نار.(35/8)
ضعف المسلمين لا يجوز أن يولد الهزيمة في العمل للإسلام
إن كثيراً من الناس حين يطرح هذا السؤال -وهو: كيف نعمل للإسلام- ينطلق من نظرة عجلى ضيقة فيقول: نحن اليوم في أمة الإسلام ونراها وهي أضعف الأمم وأذلها، وأبعدها عن النهج الصحيح، حتى في أمور الدنيا تكون في مؤخرة الركب دائماً، ولا يوزن لها أي ميزان، وقد انتشر فيها من أنواع المخالفات والمعاصي ما لا يمكن عده فضلاً عن إصلاحه، وتأتي الهزيمة من هذا الوجه! فيقول الشخص كيف أعمل وأنا في هذا السيل الجارف؟! فيجد نفسه مضطراً بأن يسير في اتجاه السير، وبذلك يخسر نفسه؛ لأنه ليس مثل أولئك الهالكين الذين لم يرفعوا رؤوسهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فأولئك قد حددوا طريقهم وساروا فيها عن قناعةٍ، وهم الذين اتخذوا القرار بأن يضلوا سواء السبيل، ولكن هذا المسكين قد انجرف في السيول الجارفة دون أن يتخذ قراراً بذلك، بل هو تابع سيكون مستضعفاً في الدنيا مستضعفاً في الآخرة، ولذلك في خصومتهم مع الذين استكبروا يوم القيامة نجد هؤلاء المستضعفين يشكونهم إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ:31].
ولكن ذلك لا يغني عنهم من الله شيئا، فهؤلاء الذين ساروا مع هذا السيل في اتجاهه قد خسروا أنفسهم وقامت عليهم الحجة بقناعتهم، فلذلك غووا وضلوا عن سواء السبيل، فلم ينالوا حظاً في الدنيا ولا حظاً في الآخرة.(35/9)
العمل للإسلام مسئولية جميع المسلمين
نجد كثيراً من الناس يقول: إن مسئولية إعلاء كلمة الله تعالى ونصرة دينه مسئولية شاقة ينبغي أن يتحملها الرؤساء والقادة والعلماء فقط، وأما من عداهم من الناس فما عليهم إلا السمع والطاعة وهز الرؤوس إلى الأمام لكل من قام.
وهم رعاع وهمج يرعون كما ترعى البهائم، وهذا معناه أنهم يعلمون أنه لا خير فيهم؛ إذ لو كان فيهم خير لعلموا أن هذا لا يمكن أن يقدموه حجةً بين يدي الله سبحانه وتعالى في العرض عليه، ولعلموا بأن مسئوليتهم لا تقف عند هذا الحد، وأن المسئولية شاملة عامة، فليس الغزو لدين الله تعالى والتخريب فيه خاصاً بالمجال السياسي أو العلمي فقط حتى يُعدل فيه باللائمة على السياسة والقادة أو على العلماء، بل الفساد سائد وسائر في جميع المجالات، وأنت -يا عبد الله- آلة من الآلات فحاول أن تُستغل في خير، حاول أن يكون لك جزء بسيط من الإصلاح، ولا تحتقر ذلك الجزء؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة:120 - 121].(35/10)
كيف نستطيع أن نعمل الكثير للإسلام
إنك حين تصلح نفسك وتجعل منها نموذجاً صالحاً ملتزماً بشرع الله تعالى مسارعاً إلى الخير محققاً لزومية اتباع رسول صلى الله عليه وسلم تكون قد انتصرت على نفسك، وكان ذلك إرشاداً لمن سواك، وضرب مثلٍ لهم ليقتفوا أثرك، وحين تعجز عن هذا فلا تعجز عن أن تكف الشر وأن تقتصر على أن لا تكون آلةً تستغل في الشر، فما أكثر الذين يستغلون من حيث لا يشعرون، ما أكثر الذين يقادون بأزمتهم إلى الشر من حيث لا يشعرون فيستغلون في معصية الله سبحانه وتعالى، تستغل أوقاتهم بالمعصية ويسخرون لها، وتستغل أموالهم في المعصية وتؤخذ منهم لذلك، أو يؤدونها طائعةً بها أنفسهم.
ولو أن رئيساً أو جباراً من أهل الأرض أخبر قوماً أنه سيزورهم، فهل ترى أن تجارهم وأغنيائهم سيبخلون فيما يقدمون في ضيافته من المال؟ سيقدمون له كثيراً من الأموال التي لو عرضت عليه من قبل لما رضي بإفساد هذا المال الكثير في هذه اللحظات القليلة؛ لأن إفساده سيعود بالضرر عليه هو، لكن لو أنهم سمعوا قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111] فهل ترى أنهم سيقدمون العشر فقط من هذه المبالغ التي يقدمونها في سبيل وجهاء الدنيا وطواغيتها؟ إنه مع الأسف قلّ من ينظر هذه النظرة، وقل من يوجه هذا السؤال إلى نفسه، ولذلك ليس هذا فقط مختصاً بالجانب المالي، بل حين ننظر إلى الوقت ونجد أن عمر الإنسان في الواقع إنما هو أربع وعشرون ساعة فتقسيمه لها إذا راجع نفسه وحاسبها وهو على فراشه حين ينام، وسأل نفسه: كم أنفقتُ من هذه الأربع والعشرين ساعة في مرضات الله سيجد أن ذلك قليل جداً، وأنه كان بالإمكان أن يكون كل ما أنفق في سبيل الله، فإن ذهب يلتمس درهماً للمعاش فلو أخلص النية لله لكان ذلك في سبيل الله؛ حيث أدى حقاً واجباً عليه من نفقةٍ أهلٍ أو قضاء دينٍ أو خدمةٍ أياً كانت، فلو أخلص في ذلك لله لكان إنفاقاً في سبيل الله، وإن جلس وقتاً مع صديقٍ له أو أخ في الله فلو نوى لذلك وقصد به الخير وجعله من التزاور في ذات الله لكان ذلك في سبيل الله، ولكن المشكلة أن الناس سفهاء في الأوقات رغم رشدهم في الأموال، الأوقات تمضي دون حساب، والأموال تحاسب بالدوانق.
كذلك فإن الشخص عندما يقوم على تربية أهل بيته، ويجد نفسه مسئولاً عن زوجةٍ وأولادٍ وإخوةٍ صغارٍ وجيرانٍ، وقد يكون له أثر في بعض الأحيان حتى على قبيلةٍ بكاملها، فيجد أنه كان بالإمكان أن يصلح، وأن يعلم أن هؤلاء رعية له، وهم خصومه يوم القيامة، وعليه أن يربيهم أحسن تربية، وأن يدعوهم إلى الالتزام بمنهج الله سبحانه وتعالى، وأن يحببه إليهم، وأن يسعى على الأقل أن لا يتخذوه سبيلاً إلى المخالفة والمعصية، وما أزال أذكر رجلاً من التجار الذين نحسبهم -والله حسيبهم- من أهل الخير والصلاح، ففي سنة ستٍ وسبعين وتسعمائة وألف للميلاد قام أولاده مع نهضة الجهل والشيوعية التي سادت في بعض ولاياتنا الداخلية، ولكن هذا الرجل الغيور دعا أولاده فقال: اخلعوا الملابس التي تلبسونها والنعال التي تتخذونها وكل ما لديكم، فهو من مالي وكسبي، وأنا الذي بذلت فيه عرق جبيني، ولا يمكن أن يحاسبني الله عليه وأنتم تتصرفون فيه في معصية الله.
فكان هذا الموقف شجاعاً، ومع ذلك لم ينقصه شيئاً في المجتمع ولا عند الناس، وكان في مرضات الله سبحانه وتعالى، ولذلك هدى الله به بعض أولاده للخير، وما زالت فيهم لمسة تربيته إلى وقتنا هذا.
إننا بحاجةٍ إلى أن تكون لدينا هذه الجراءة، فالذي يعاهد الله سبحانه وتعالى على أن يكون جندياً من الجنود لا بد أن يعلم أن الجندية لا بد أن تمر بكثير ٍمن التدريب، فهل تظنُّ أن شخصاً يمكن أن يكون عقيداً دون أن يمر بكثيرٍ من التدريبات، وأن يكون خادماً لكثير ٍمن الجنود والضباط؟! لا يمكن أن يتم هذا، فلذلك لا بد قبل هذا أن يبذل كثيراً من المجاهدة وأن يمر بكثير ٍمن المراحل، ونحن نعلم أن أول الفكرة آخر العمل، فالذي يفكر في نصرة دين الله وهو في بيته أول فكرةٍ تدور في خلده وخاطره هو أن يرجع الناس جميعاً إلى دين الله أفواجاً، وأن يقيموا خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يطبقوا القرآن ويتحاكموا إليه ويلغوا كل القوانين ويدوسوها بأقدامهم، وأن يعلوا راية الجهاد في سبيل الله وتنطلق تحتها الصائفة والشاتية، ولكن هذا هو غاية لا بد قبلها من كثيرٍ من الوسائل والخطوات التي تأتي بالتدريج، فقد لا تعيش أنت إلى ذلك الزمان، ولكن اجعل ما بقي من عمرك في سبيل الله، حاول أن يكون عمرك أنت إعداداً لأجيالٍ من أولادك وأولاد غيرك يسلكون هذا الطريق لعلهم يصلون إلى هناك وإلى ما ترغب فيه، حاول أن تكون مصلحاً إصلاحاً بسيطاً جداً في أسرةٍ خاصة، فهذا البيت من بيوت المسلمين حاول أن تجنبه الآثام والمعاصي الكبار كبائر الإثم والفواحش، حاول أن يكون هذا البيت يتلى فيه كتاب الله، وحاول أن يقام فيه دين الله، وأن يكون فيه الآمر واحداً ويكون البقية مأمورين، وأن يحاولوا الالتزام بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلوكه، حاول أن يتقيدوا بالأذكار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكونوا جميعاً من ذوي النفوس الشفافة المقبلة على الخير التي ليست لديها عبيّة الجاهلية ولا دعاويها ولا تفاخرها بالآباء، وحاول أن تخرج لنا أهل بيتٍ يمكن أن يخرج من أصلابهم قوم يحققون هذه الأمنية التي تتمناها، إذا تجاوزت هذا وكنت سيداً مطاعاً أو كان مشاراً إليك بالبنان فاجعل من بيوت قبيلتك أو بيوت المجتمع التي تؤثر فيه بيوتاً مثل بيتك، فأصلح هذه البيوت حتى تكون نموذجاً في هذا المجتمع، فكيفما تكونوا يولَّ عليكم، فإذا وجدنا من كل أربعين بيتٍ بيتاً واحداً يشع منه نور القرآن، ويستمسك أهله بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويلتزمون في العقائد والعبادات والأخلاق والآداب بسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم، فإنه سيرفع بهم البلاء عن الأمة.
إن ما نجده ونعيشه من هذه الأخطار والابتعاد عن هذا الشرع هو بلاء أصبنا به بسبب ذنوبنا، وإننا إذا أقلعنا عن هذه الذنوب وعدنا فسيرفع الله عنا هذا الوباء، ولذلك قال أحد الدعاة المشاهير: أقيموا دولة الإسلام في نفوسكم يقمها الله في بلادكم.
فإذا بدأ الشخص بنفسه وبيته، ولم يسر مع الهالكين الغاوين، وحاول أن يكبح نفسه وأن يلتزم بالحق وأن يعض عليه بالنواجذ، وأن لا يتصرف تصرفاً إلا وهو يعد الجواب عنه بين يدي الله تعالى، وحاول أن يكون مصلحاً لكل من له عليه أمر أو يمكن أن يؤثر فيه فإن المجتمع سيصلح بكامله، ويرفع عنه هذا العقاب الذي قد ساده، إذا وجدنا من يربي أولاده على أن يكونوا من حملة كتاب الله في صباهم، ومن المحبين لسنة رسول صلى الله عليه وسلم، ومن الراغبين في السؤال عما يجهلون من الدين، ومن الذين يتحلون بالأخلاق الإسلامية الحميدة، ومن الذين يحبون هذه المساجد التي يشع منها هذا النور وتنطلق منها هذه الدعوة فإننا نكون حينئذٍ قد تحقق لدينا كسب كبير، وعملنا للإسلام عملاً جاداً، وبهذا تخرج الحشود من المسلمين وكل شخص منها عاقد العزم على أن يأتينا بأفرادٍ، فإذا مات لم نخسر مكانه في المسجد، فننظر إلى مكانه في الصف الأول أو في صفٍ من الصفوف فنجد من يخلفه فيه من ولده، سواءٌ أكان ولداً طينياً أم ولداً دينياً، فالطيني ولده لصلبه، والديني من أثر فيه ودعاه إلى الحق، وهداه بما تحمله من الهداية وبما آتاه الله تعالى من العلم، وبذلك يزداد العدد ويكثر السواد، وتحصل الهيبة المطلوبة في نصرة الدين، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان يأمر المسلمين أن يُخرجوا إلى صلاة العيد العواتقَ والحيَّضَ ورباتِ الخدور يشهدن الخير ويكثرن سواد المسلمين ويشهدن دعوة المؤمنين كان بهذا يرشد إلى أهمية اجتماع المسلمين واحتشادهم في حشدٍ عظيم يغيظ أعداء الله ويحقق نصرة دين الله تعالى ويعلي كلمته.(35/11)
رغبة أكثر المسلمين اليوم في تطبيق شرع الله
وبذلك يعلم في هذه العصور المتأخرة التي ركن الناس فيها إلى جمع الأصوات، وتحاكموا فيها إلى الحكم الديمقراطي، يعلم أن رغبة المسلمين وكثرتهم الكاثرة إنما هي في دين الله، وأن من أراد أن يحصل على أصواتهم ويصل إلى رغباتهم فليحقق دين الله سبحانه وتعالى وليطبقه عليهم، وأنهم لا يرضون قانوناً سواه، وأنهم ينبذون ذلك ويخالفونه، ولا يمنعهم من الإعلان بذلك أي مانع، فلا يمنعهم من إظهار الحق حياء ولا عجز ولا مسكنة، فهم الذين أعزهم الله بالإيمان، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولا يمنعهم خوف، فهم الذين يعلمون قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، ولا يمنعهم طمع، فهم الذين يقرأون قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:28]، فلذلك على من يريد سيادة المسلمين أو يريد جمع أصواتهم أن يطبق عليهم شرع الله سبحانه وتعالى، وأن يعز دين الله سبحانه وتعالى، وأن يعلم أن كل ما سوى ذلك لن يجد مساحةً في قلوب المسلمين المخلصة المؤمنة المنيبة التي تتذكر الموت وتتذكر أنها مهما داهنت ومهما استكانت ومهما انصرفت عن الحق فإن ذلك لا يمكن أن يكون جواباً بين يدي الله سبحانه وتعالى، تعلم أن الموتة واحدة وأنها مفروضة على كل بني آدم.
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلةٍ حدباء محمول يعلمون أنهم جميعاً صائرون إلى الموت، وأن موتتهم واحدة، وبذلك لا يهمهم ولا يحزنهم شيء من مصائب هذه الدنيا، ولا يزنون لذلك أي ميزان في مقابل سخط الله، فهم يعلمون أنهم لو عذبوا طيلة أعمارهم في هذه الدنيا ثم كان بعد ذلك الجنة فإنهم لم يخسروا شيئاً، ولو تنعموا طيلة أعمارهم في هذه الدنيا بأعلى ما فيها من أنواع النعيم ثم كانت بعد ذلك النار فإنهم لم يربحوا شيئا، ولذلك قال خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أنه لا خير بخيرٍ بعده النار، ولا شر بشرٍ بعده الجنة).
إن المؤمنين إذا حققوا هذا في أنفسهم فقد انطلقوا على الطريق الصحيح وساروا عليه، فمن عاش منهم عاش عزيزاً، ومن مات منهم مات على الحق وهو سائر في مرضات الله سبحانه وتعالى وعلى منهج رسوله صلى الله عليه وسلم، أما من لم يحقق انتمائه ولا ولاءه، بل قال: إنه مع السائرين.
وينظر إلى الكثرة الكاثرة ويغتر بأهل الدنيا وما هم فيه، فإن حضر الصلاة في المسجد وسمع إعلاناً عن كلمةٍ أو درسٍ قال أستمع وأحضر.
ولكنه لا يريد أن ينطلق بشيءٍ إلى بيته مما هنالك، فيفسد وقته في غير طائل، وتقوم عليه الحجة ببعض ما يسمع، وينطلق إلى بيته ولم يأخذ معه شيئاً لا في يده ولا في قلبه، إن هؤلاء إنما هم من الغثاء الذي يعلو على سطح الماء ثم يزول، (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد:17].
إن على المؤمن أن يحقق قول الله سبحانه وتعالى: {فَبَشِّر عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18]، وليعلم أن سعيه في تعليم الناس ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان عاجزاً عن تعليمه أو تعلمه كأن يكون شيخاً كبيراً فانياً قد ولى شبابه وانقطعت قريحته، أو كان مشتغلاً بتجارته ولا يستطيع أن يعلم ولا أن يتعلم فإن عليه أن يعين متعلماً، وبذلك يكتب له مثل ثوابه، ويكون قد عمل للإسلام، وإن كان لا يستطيع أن يجاهد في سبيل الله بيده، ولا يستطيع أن يكون تحت بارقة السيوف في الصفوف الأمامية وأن يحل أزرار قميصه لاستقبال الرصاص ويقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] إن لم يستطع ذلك وحالت بينه وبين ذلك نفسه الضعيفة أو شيطانه فإن عليه أن يجاهد بماله وأن يبذله في سبيل الله، فإن كان لا يستطيع هذه ولا تلك فإن عليه أن يجاهد بلسانه وهو سلاح الضعفاء، عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وإذا رأى خيراً حاول أن يعد من أهله وأن يكون بذلك مناصراً للحق ساعٍ فيه مهما كان.(35/12)
الإيجابية والسلبية في حياة المؤمن
من غير المقبول أن يكون المؤمن سلبياً لا أثر له في هذه الحياة، يخرج منها كما دخلها، فإذا حمل على الرقاب إلى قبره لا يتذكر الناس أن شخصاً كان يقف في الصف يصلي معهم في المسجد ويكثر سواد المسلمين، ولا يتذكرون أنه كان يقول كلمة الحق يقصد بها وجه الله سبحانه وتعالى، ولا يتذكرون أنه كان من الذين ينكئون أعداء الله تعالى بما يملكون، ولعلك تتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين عاد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهو مريض فقال: (اللهم! اشف عبدك ينكأ لك عدواً، أو يمشي لك إلى صلاة)، وكثير من المرضى اليوم لا يتذكر الذين يعرفونهم أنهم سينكئون عدواً لله أو يمشون إلى صلاة، بل هم غثاء كغثاء السيل، إن عاشوا فليس عيشهم لدين الله، وإن ماتوا فلم ينتقص أهل دين الله بشيء، ما أكثر هؤلاء وما أقل أولئك الذين يقال فيهم ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في سعد بن أبي وقاص.
إن على المؤمن أن يجعل من حياته منهاجاً وبرنامجاً واضحاً ينكأ فيه أعداء الله، ويوالي فيه أولياء الله، ويمشي فيه إلى الصلاة، ويحقق فيه جهاده لنفسه وصبره ومصابرته على الحق، ويتحقق فيه بالأخلاق الحميدة والآداب النبيلة، فإذا مات مات على الطريق الصحيح، وإن عاش فإن الله يكتب له العزة على ذلك، وأما من لم يرفع بهذا رأساً ولم يسر عليه فسواءٌ عاش أو مات فإنه كما قال القائل: فستة رهطٍ به خمسة وخمسة رهطٍ به أربعة إن على المؤمن أن يكون إيجابياً في حياته، وأن يكون مؤثراً فيها، وأن ينظر إلى الذين يحتذي بهم فيحاول أن يسد مسدهم لأمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ينظر إلى أقوامٍ يقومون بالحق ولا تأخذهم في الله لومة لائم، أو يجاهدون في سبيل الله، أو ينصحون الناس ويدعونهم إلى الخير، أو يؤمونهم أو يعلمونهم الخير، ويعلم أن حياتهم غير دائمة، وأنهم قد أدوا ما عليهم، فيحاول أن يلتحق بهم وأن يسد مسد أحدهم لهذه الأمة، حتى لا يبقى مكانه فراغاً لو اخترم من بين صفوف هذه الأمة، يشعر بأن حياته هذه التي لا يدري متى طولها إلا الله سبحانه وتعالى أشرف أحوالها أن تكون كحياة الغلام الذي قال للملك حين أراد قتله وبذل في ذلك كل ما يستطيعه فلم ينجح قال: إذا أردت قتلي فاجمع الناس في صعيدٍ واحد، ثم انصبني غرضاً، وأخرج سهماً من كنانتك واجعله في قوسك وقل: (بسم الله رب الغلام) وارمني به فحينئذٍ سأموت.
ففعل الملك ذلك وجمع الناس في صعيدٍ واحد وقال: (بسم الله رب الغلام) ورماه، فمات الغلام، فقال الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام.
فكان موت هذا الغلام فتحاً لدين الله.
نحن جميعاً نعلم أننا سنموت، لكن هل يكون موتنا فتحاً لدين الله؟ وهل تكون حياتنا كذلك؟ ونحن نقرأ قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، فهل نحقق هذا في أنفسنا، أو نكون من الذين تلعنهم هذه الآية حين يقرؤونها؟ وهل حققنا في أنفسنا أن حياتنا ويقظتنا ومنامنا وقيامنا ودعاءنا وخطواتنا وأموالنا وكل أمورنا حتى الموت في سبيل الله؟ إننا نقرأ سورة يس في قصة الرجل الداعي إلى الله سبحانه وتعالى، فبعد أن دخل الجنة أراد أن يكون داعياً بعد الموت، كان داعياً في حال الحياة ولكنه لم يرض بذلك بل قال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]، ليكون داعياً بعد الموت، وقص الله عنه ذلك وجعله يتلى في كتاب الله إلى أن يرفعه الله، فنحن جميعاً نشهد لهذا الرجل حين نقرأ كلام ربنا أنه كان داعيةً في حياته ثم كان داعيةً بعد موته حين قال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27] لا يريد بهذا أن يذكر في الدنيا فهو قد قدم إلى ما قدّم ورأى مصيره الحتمي، وعلم أن الدنيا لا تساوي شيئاً، وقد أقسم الرسول صلى الله عليه وسلم بالله الذي لا إله إلا هو ل (موضع سوط أحدكم في الجنة خير له من الدنيا وما فيها)، وهو قد دخل الجنة، لكنه يريد بهذا الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وليلتزم الناس بمنهجه، وليعلموا أنه لو قتل على هذا المنهج فإنه لن يذوق من مرارة الموت إلا قدر القرصة كما يقرص الشخص، وأنه بذلك يرفع عنه كل الأذى، وأنه قد انطلق إلى مرضات الله.
إننا جميعاً مطالبون بأن نحقق من حياتنا حياةً لله سبحانه وتعالى، ومن موتنا موتاً لله سبحانه وتعالى، كل شخصٍ منا إذا فكر في الموت ووعظه الواعظون بالموت تذكر أنه ربما مات على سرير المرض في أحد المستشفيات، أو مات على فراشه في بيته، أو مات في حادث سيارةٍ أو غير ذلك من الموتات المألوفة لدينا، ولكنَّ قلةً منا هم الذين يفكرون في أن تكون موتهم لله سبحانه وتعالى، ولا يريدون أن يموتوا على فرشهم كما يموت العير، وبذلك يحققون قول خالد بن الوليد رضي الله عنه: (لا وألت نفس الجبان، إنه لم يبق من جسمي مغرس إبرةٍ إلا وفيه ضربة بسيفٍ أو طعنة برمحٍ أو رشقة بنبلٍ، وها أنا أموت على فراشي كما يموت العير).
إن التعرض للمهالك لا يقرب الأجل، فالأجل مكتوب ولكنه يزيد في الأجر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كفى ببارقة السيوف) أي: شاهداً.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن كل أحدٍ ينقطع عمله بموته إلا الشهيد في سبيل الله، فإنه يجرى عليه عمله كاملاً كما كان يفعله في حياته لا ينقطع عنه، وبذلك يكون الشهيد أطول الناس عمراً، فـ حمزة بن عبد المطلب -مثلاً- وإخوانه الذين قتلوا يوم أحدٍ قد قال فيهم المنافقون: إن هؤلاء قد خسروا أنفسهم وبادروا إلى القتل وماتوا، وكان الأولى بهم أن يدخلوا في الحصون ويغلقوها عليهم، وبذلك ينجون من القتل.
لكن أعمار المنافقين قد انقطعت وباتوا في حصونهم، فخرجوا إلى المقابر، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإٍلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آل عمران:156 - 158]، لكن هؤلاء الذين قتلوا يوم أحدٍ ما زالت أعمارهم إلى وقتنا هذا، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران:169 - 170] كل أولئك الذين ماتوا في غير الشهادة قد انقطعت أعمالهم وختم عليها، وهؤلاء الذين ماتوا بالشهادة استمرت أعمالهم وليس فيها رياء ولا سمعة، ولا يمكن أن ينقص الشيطان منها شيئا، من كان منهم يقوم الليل ويصوم النهار ما زال عمله كذلك، يكتب له في الصباح نية الصيام، ويكتب له في المساء فرحة الإفطار، ويكتب له في الليل قيام الليل دون أن يتأثر ذلك برياءٍ ولا بسمعةٍ، ودون أن ينتقص الشيطان منه شيئا، وكذلك من مات مرابطاً في سبيل الله، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه (يأمن الفتان)، وأن (رباط ليلةٍ في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها)، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي شرفه الله بكل ما شرفه به يتمنى أن يقتل في سبيل الله ثم يحيا فيقاتل ثم يقتل ثم يحيا فيقاتل فيقتل، فيقول: (لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت عن سريةٍ تغزوا في سبيل الله، ولقد وددت لو أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل)، وهو رسول الله الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وجعل منزلته أعظم من كل المنازل عند الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك يتمنى هذا.
إننا -ونحن نعلم هذا وندين الله به ونحققه- لا يطلب منا ما لا نطيقه وما لا نستطيعه، فالأمر سهل بسيط بين أيدينا، وهو أن يبدأُ المرء بإصلاح نفسه بتعلم ما أمره الله بتعلمه، ويجاهد نفسه على العمل بذلك، ويجاهد نفسه على الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ويجاهد نفسه على الصبر على الأذى في سبيل ذلك، وإذا كان عاجزاً عن جهاد الكافرين والمنافقين بيده جاهدهم بلسانه وماله، وأيضاً أبغضهم بقلبه، فيحقق المطلوب منه، وتكون له حجة وعهد عند الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن هذا من الأمور البسيطة التي لا يمكن أن يعتذر الشخص بعجزه عنها، فأنت عندما تخطو خطواتك إلى المسجد فتجلس فيه لتتعلم علماً فقد جاهدت في سبيل الله إذا نويت ذلك، ولهذا أخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن عمرو بن حزم أنه قال: (من خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ورجع غانما)، وكذلك الأعمال التي تقوم بها في حياتك، ففي كثيرٍ من الأحيان يكون نصفها من الأعمال الصالحات الباقيات، ولكن عليك أن تنوي لها الخير وأن تخلص فيها النية لله، فتحاول أن تكون مخلصاً في تصرفاتك حتى في ثنايا العمل، فقد يجلس الشخص مجلساً لم يصلح نيته قبله، ولكنه حين يتذكر في أثنائه نيته ويراجعها يكتب له بقية مجلسه ولا يفوته، وبذلك لا يخسر كل شيء.
إن من سار في بداية خطواته إلى المسجد أو إلى العلم أو إلى تكثير سواد المسلمين أو حضور درسٍ أو محاضرة أو بيانٍ إن نوى ذلك كانت الحصى تشهد له، ولا يرفع خطوةً إلا رفعت له بها درجة وحطت عنه بها سيئة وكتبت له بها حسنة(35/13)
الصبر في الابتلاء والمحن
إن المحن والبلايا من سنن الله في خلقه، فمن وقعت له محنة فليرض بمقدور الله، وليصبر على ما أصابه، فإن عقبى الصابرين حميدة، ولا شك أن الصبر يتحقق بأمور يتعلمها المرء ويتذكرها، وقد أرشد إليها القرآن والسنة، فعلى المسلم تعلمها والتحلي بها.(36/1)
منزلة الصبر بين صفات أهل الإيمان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين، تبرأت من حولي وقوتي واعتصمت بحول الله وقوته.
موضوع هذا الدرس: الصبر في الابتلاء والمحن.
إن الله سبحانه وتعالى سلط على المؤمنين بعض البلايا والمحن، وآتاهم معها جنداً عظيماً من جنوده، هو الصبر، وقواهم به عليها، وهذا الصبر مزية عظيمة ومنزلة رفيعة، فلذلك بين الله سبحانه وتعالى درجة أهله في كتابه فقال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146] وقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
وقد جعله الله بوتقة لكل الصفات المرضية والقيم الرفيعة، فبعدما ذكر صفات المؤمنين من عباد الرحمن الذين يستحقون رضوانه، قال: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75]، وكذلك في مجادلة أهل النار قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:109 - 111]، فجعل كل ما قاموا به داخلاً في بوتقة الصبر.
والصبر ذو منزلة عظيمة بين صفات المؤمنين، ولذلك يعده أهل السلوك مقاماً من مقامات اليقين، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن من جمع بين الصبر واليقين نال الإمامة في الدين، لأن اليقين به يقضى على الشبهات، والصبر به يقضى على الشهوات، ودليل هذا من القرآن قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، حين جمعوا بين الصبر واليقين نالوا الإمامة في الدين.
وقد رتب الله عليه الأجر العظيم، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي به عند المصائب، فقد أرسلت إليه ابنته تدعوه لشهود ولدها، وهو يقعقع -أي: نفسه تقعقع في حال الموت- فأرسل إليها قال: فلتصبر ولتحتسب، فعزمت عليه أن يحضر فأتى صلى الله عليه وسلم ووضع الصبي في حجره حتى فاضت نفسه.
وكذلك: (أتى امرأة أخرى وهي عند قبر تبكي، فقال: يا أمة الله! اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، فقيل لها: إنه رسول الله، فندمت وأتته في بيته فلم تلق عنده حاجباً ولا بواباً، فقالت: يا رسول الله إني تائبة ووالله ما عرفتك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى).
فالصبر الذي يثاب عليه صاحبه هذا الثواب العظيم هو ما كان عند الصدمة الأولى، أي: عند أول إحساس الإنسان بالابتلاء، أما إذا انهار في البداية وجزع ثم عاوده الصبر بعد ذلك، فما من مصيبة تحل بالإنسان إلا سيسلوها وينساها مهما كان ذلك؛ ولهذا فعلى الإنسان أن يعلم أن الدنيا كلها زائلة، وأن كل ما فيها سيذهب، وإذا أعجب الإنسان أي شيء فيها فليعلم أنه بعد مدة يسيرة سيجده في القمامات، فكل ما يتنافس فيه الناس من متاع هذه الدنيا الفاني فلن تمضي فترة يسيرة إلا وتراه مرمياً في القمامة.
فعلى هذا على الإنسان إذا أصيب بشيء من أحوالها أن يعلم أنها زائلة، وأن كل ما فيها عرض سيال، وحال سريع الزوال، وبقاء الحال من المحال.(36/2)
التحذير من الجزع والخوف
على الإنسان أن يعلم أن الجزع قبيح ووصف ذميم، وهو من الخور والضعف، ولا يرد شيئاً من قدر الله سبحانه وتعالى، وإنما يزيد الشامتين شماتة، ويزيد الأعداء تمكناً من الإنسان، ولن يحقق له أي هدف من أهدافه، ولن يوصله إلى أي مستوى من المستويات التي يطلبها؛ ولهذا كان أهل الجاهلية يتجلدون لأعدائهم، حتى قال أحدهم: وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع فالجزع لا خير فيه؛ لأنه اعتراض على الله سبحانه وتعالى في قدره وملكه، وكل ما في هذه الدنيا يتصرف فيه الباري سبحانه وتعالى تصرف المالك في ملكه، فإذا أخذ شيئاً منه فهو الذي منحه من قبل، وهو الذي أخذه بعد ذلك، ولهذا قال: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157].
فقوله: (قالوا إنا لله)، أي: نحن مملوكون له فتصرفه فينا تصرف المالك في ملكه، وهو نافذ ماض لا اعتراض لنا عليه.
(وإنا إليه راجعون) أي: نحن أيضاً سنعود إليه سبحانه وتعالى، وسيجازينا بحسب أعمالنا، ومن هنا كان الصبر مما يرجى ثوابه عند الله سبحانه وتعالى، وقد أعد لمن صبر وقال ذلك عند المصيبة هذا الجزاء العظيم الذي قال فيه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (نعم العلاوة ونعم الرفدان) فالعلاوة هي قوله: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157]، والرفدان {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:157]؛ فعليهم صلوات وبركات ورحمة منه سبحانه وتعالى، وهم المهتدون بشهادة الله تعالى لهم بذلك.
وأيضاً فإن الجزع مدعاة لسخط الله سبحانه وتعالى ومقته، إذ هو اعتراض عليه في ملكه، وقد روي أن الإمام سليمان بن مهران الأعمش كانت له زوجة هو بها معجب، فماتت فجأة، فحزن عليها حزناً شديداً، واحتجب عن الناس ولم يخرج لتدريس من يدرسون العلم، فبينما هو على ذلك جاءت امرأة فاستأذنت عليه، فلم يأذن لها، فقالت: إنها لن تبرح الباب حتى يخاطبها، وإنها في ضرورة وأمر ماس لا بد من إجابة الشيخ فيه.
فلما رأى إلحاحها وإصرارها دنا من الباب، فسلم فخاطبته فقالت: إن لي أختاً كانت أعارتني علقاً ثميناً وتمتعت به مدة من الزمن، ثم بعد هذا أرادت أن أعيده إليها، وأنا لا أصبر عنه ولا أقبل ذلك، فقال: أنت ظالمة! كيف تحسن إليك هذه المدة الطويلة بهذا العلق الثمين، وتنتفعين به هذه المدة، ثم بعد ذلك تطلبه وهي مالكته فتمتنعين من إرجاعه إليها؟ فقالت: أيها الشيخ! إن الله سبحانه وتعالى كان قد أسدى إليك أهلك وهي ملك له وليست ملكاً لك، ثم أخذها واستردها فما هي إلا وديعة، فكأن الشيخ سري عنه ما به، فدعا لها وانصرفت.
وهذا المعنى أخذته من قول لبيد بن ربيعة العامري رضي الله عنه: وما المال والأهلون إلا وديعة ولا بد يوماً أن ترد الودائع وكذلك فإن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما لما توفي العباس حزن عليه فأتاه الناس للعزاء، وكان منهم رجل من الأعراب فخاطبه بهذين البيتين البليغين فقال: اصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية عند صبر الراس خير من العباس أجرك بعده والله خير منك للعباس فكان ذلك سبب صبره وثباته.
وكذلك فقد كتب أحد العلماء إلى نظير له في العلم ابتلي بمصيبة، فأراد تثبيته فيها فكتب إليه: إنا معزوك لا أنّا على ثقة من البقاء ولكن سنة الدين فما المعزى بباق بعد ميته ولا المعزي وإن عاشا إلى حين فكان ذلك بليغاً في الرثاء والعزاء.
وكذلك فإن مما يحمل الإنسان على التجمل: تذكره أنه هو أيضاً سائر في هذا الطريق، فمدة بقائه في الدنيا محدودة ولم يأتها لينال فيها كل مبتغاه، فإنما ذلك في الجنة، فهذه الدنيا لا يمكن أن تأتي على وفق المراد المطلوب.
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار فليس شيء من النعيم المقيم الدائم الخالد إلا في الجنة.(36/3)
أنواع الصبر
والصبر ثلاثة أقسام هي:(36/4)
الصبر على قضاء الله وقدره
القسم الثالث من أقسام الصبر: الصبر على قضاء الله وقدره، وهو الصبر عند الابتلاء.(36/5)
الصبر عن المعصية
أولاً: الصبر عن معصية الله: بأن يصبر الإنسان نفسه عن المعصية، فيلجمها بلجام التقوى، ويمنعها أن تقع في المعصية أو أن تحبها، أو أن تتعلق بها من أي وجه، وذلك مقتضٍ منه لكراهيته لكل ما كرهه الله له، وهذا النوع من الصبر ثلاثة أقسام: الأول: يصبر القلب بأن لا يحبها وأن لا يتعلق بها، وأن لا يجلس في مجالسها، وأن لا يجالس أهلها وأن لا يأنس بهم، فذلك كله يرجع إلى القلب والعاطفة.
الثاني الصبر عما يتعلق بمباشرتها وممارستها، فلا يقربها ويقوي وازعه الديني الذي يمنعه من مزاولتها ومواقعتها.
الثالث من الصبر عن المعصية: سرعة الإقلاع إذا استزله الشيطان إليها، والرجوع والتوبة: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:201 - 202].
والإنسان مطالب بتقوية الوزاع الديني الذي يمنعه من الوقوع في المعصية، بأن يعظ نفسه ويذكرها ويحاسبها، وقد روي عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله أن رجلاً أتاه فقال له: إن نفسي لا تطاوعني في ترك المعصية فعظني، فقال: إذا أردت أن تعصي الله فاذهب إلى مكان لا يراك فيه فاعصه، قال: كيف أختفي منه وهو يعلم السر وأخفى، لا تحجب عنه سماء سماءً ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره.
فقال: كيف تبارزه بالمعصية وهو يراك وأنت تعلم قدرته عليك؟ فقال: زدني رحمك الله.
فقال: إذا أردت أن تعصي الله فاخرج من كل نعمة أنعم بها عليك وردها عليه ثم اعصه.
قال: كيف أرد عليه نعمته وأنا من نعمته: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]؟ قال: كيف تأكل خيره وتستعين به على معصيته، إنه اللؤم؟ قال: زدني يرحمك الله.
قال: إذا أردت أن تعصي الله فاخرج من أرضه وسمائه واعصه.
قال: إلى أين أخرج من أرضه وسمائه؟ قال: كيف تعصيه في بيته وتحت سلطانه وإمرته وأنت ضيف عنده، إن ذلك غاية ما يمكن من اللؤم؟ فلهذا لا بد أن يعظ الإنسان نفسه ويزجرها حتى يقوي وازعه الذي هو برهان الله في قلبه، فيمنعه من الوقوع في المعصية.(36/6)
الصبر على الطاعة
القسم الثاني من أقسام الصبر: هو الصبر على طاعة الله: وهو يقتضي من الإنسان الصدق إذا قرأ: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:162 - 163] فلا بد أن يجتهد الإنسان في أن يصبر نفسه على طاعة الله، فقد قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].
والصبر على طاعة الله ثلاثة أقسام: الأول: الصبر على طاعة الله قبلها بالاستعداد لها والعزيمة عليها.
الثاني: الصبر عليها في أثنائها بالحضور فيها والخشوع، وأدائها كما شرعها الله.
الثالث: الصبر عليها بعدها بعدم إبطالها باللواحق المبطلة كالمن والأذى والرياء والسمعة، وغير ذلك مما يبطل العمل، نسأل الله السلامة والعافية.(36/7)
وسائل تحقيق الصبر
ويتحقق هذا الصبر بوسائل كثيرة نعد منها ما يلي:(36/8)
معرفة أن الصبر من المروءة
عاشراً: تذكر أن الثبات والصبر من المروءة: فليتذكر الإنسان أن الثبات والصبر من أعظم خصال المروءة، وأن عليه أن يتحلى بهما لتمام مروءته، ولهذا فإن معاوية رضي الله عنه قال: (والله ما منعني من الفرار يوم صفين إلا أبيات لـ عمر بن الإطنابة، وهي قوله: أبت لي عفتي وأبى إبائي وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإجشامي على المكروه نفسي وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشئت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي لأدفع عن مآثر صالحات وأحمي بعد عن عرض صريح).
فإذا كان الإنسان يعلم أن ثباته وصبره هو من المروءة ومن الخصال الحميدة، فذلك مدعاة لأن يصبر ويصمد ويثبت، وهنا أذكر أبيات جعفر بن عتبة الكلابي فإنه يقول: هواي مع الركب اليمانين مصعد جنيب وجثماني بمكة موثق عجبت لمسراها وأنى تخلصت إليّ وباب السجن دوني مغلق ألمت فحيت ثم قامت فودعت فلما تولت كادت النفس تزهق فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم لشيء ولا أني من الموت أفرق ولا أن نفسي يزدهيها وعيدهم ولا أنني بالمشي بالقيد أخرق ولكن اعترتني من هواك صبابة كما كنت ألقى منك إذ أنا مطلق(36/9)
تذكر العاقبة الحسنة
الحادي عشر من أسباب الثبات والصبر: تذكر العاقبة الحسنة: فإن الذين صبروا وثبتوا سيكونون أبطالاً، وسيخلدهم التاريخ ويدخلون من بابه الواسع، ويُعجب بهم أعداؤهم قبل أصدقائهم، وبذلك سيحققون أكبر المكاسب وأغلاها لدى الناس، ومن المعروف أن كل إنسان لا يزال يتذكر للصابرين الثابتين مقامهم، وهو يرى أنهم من أمثال الجبال الصامدة أو هم أعظم من الجبال، فذلك الإعجاب لا يمكن أن يقع إلا على أساس اتصاف الإنسان بصفة عظيمة تستحق الإشادة والتقدير، وهذه الصفة هي صبره وثباته مع كل ما يصيبه من أنواع الضغوط التي يتعرض لها.(36/10)
تذكر قرب الفرج
ثامناً: تذكر قرب الفرج: فالفرج إنما يأتي مع الشدة، والنصر إنما يكون مع الصبر كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول في كتابه: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6]، وقال تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]، وقال: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
فليتذكر الإنسان قرب الفرج، وأن الهم والمحنة إنما هي بأمر الله، وتقريبها وتصريفها وتغييرها بيده {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] ما بين طرفة عين وانتباهتها يقلب الأمر من حال إلى حال ولذلك فإن أبا عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة، وأحد النحويين المشهورين كان من القراء الذين اختارهم الحجاج، في العراق عند تنقيطه للمصحف وضبطه له وتحزيبه وتعشيره، فكان يقرأ على الحجاج فقرأ في سورة البقرة قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249]، والحجاج يقرأ بقراءة أهل الحجاز وهي (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غَرْفَةً بِيَدِهِ) فأنكر عليه الحجاج فقال: هكذا سمعت، وحدثه أن روايته هكذا، وقال: لتأتين بشاهد من العربية على أن (فعلة) تأتي بمعنى المرة خلال شهر أو لأجعلنك نكالاً، فخرج أبو عمرو في الأعراب في الصحراء يتلمس الشاهد على ذلك حتى لم يبق من الشهر إلا يوم واحد خرج مهموماً مغموماً، فإذا راكب يتغنى وينشد أبياتاً سمعها أبو عمرو فإذا فيها الشاهد، وإذا هو يقول: قد يموت الجبان في آخر الصـ ـف وينجو مقارع الأبطال ربما تكره النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال وهذا الشاهد في قوله: ربما تكره النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال فالفُرجة والفَرجة معناهما واحد وهما للمرة كالغُرفة والغَرفة، ففرح بذلك أبو عمرو فرحاً شديداً، فلما استقبله الراكب قال: ما وراءك من الخبر.
قال: مات الحجاج فإذا هو فرح آخر.
فقال: ما أدري بأيهما أفرح أبموت الحجاج أم بوجود الشاهد! فالفرج قريب جداً.(36/11)
تذكر أن البشر لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً
تاسعاً: أن يتذكر الإنسان أن الناس لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم حياة ولا موتاً ولا نشوراً: (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، وأنهم إنما تسلطوا عليه بتسليط الله تعالى لهم، ولولا تسليط الله لما استطاعوا الوصول إلى شيء من ذلك، وأن النمل إذا سلطه الله كان كالأسود، وإذا لم تسلط الأسود فلا ضرر يخشى منها: ما للورى بدفاع جندك طاقة نمل مسلطة ضراغم عثَّرَ فإذا تذكر الإنسان هذا الحال هان عليه ما يلقاه من المخلوقين، ولم يغتر بأي وعد منهم، ولم يحزن لأي وعيد، فهو يعلم أن قلوبهم بين إصبعين من أصابع الرحمن، وأن أرواحهم في قبضة يده متى ما شاء أخذها، وأنهم لا يمكن أن يصلوا إليه بشيء إلا بشيء قد كتب عليه من قبل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
فليتذكر الإنسان أن الذين يخاف من بطشهم ونكالهم هم عرضة للموت في كل حين، وعرضة لزوال الأمر، وعرضة لتغير القلوب والآراء، وليتذكر أن قلوبهم بين إصبعين من أصابع الرحمن متى شاء غير آراءهم وغير اتجاهاتهم، وكل ذلك قريب جداً، ومن هنا فلن يغتر بوعدهم، ولن يحزن لوعيدهم.(36/12)
التماس المنحة في المحنة
سابعاً: التماس المنحة في المحنة: فإن لله سبحانه وتعالى حكماً بليغة، وكثيراً ما تتحول المحنة إلى منحة، وذلك من لطف الله سبحانه وتعالى، ولهذا يقول أحد العلماء: لا تكره المكروه عند حلوله إن الحوادث لم تزل متباينه كم نعمة لا تستقل بشكرها لله في طي المكاره كامنه فكثيراً هي المحن والبلايا التي تئول إلى منحة، ولولاها لما تحقق للإنسان مراده، فهذا يوسف عليه السلام أراد الله أن يجعله ملكاً على مصر، ولو جاء بجيش عرمرم إلى مصر لقاتله ملوكها ولم يستطع أن يتملك على أهلها، ولكن أتى به عبداً وسلط عليه أقرب الأقربين ليرموه في الجب، وقديماً يقول الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند ومع ذلك فيؤتى به في صورة عبد ويباع بثمن بخس دراهم معدودة، ويسجن بعد ذلك مدة طويلة ليكون بهذا ملكاً، ولهذا عرف العلامة المختار بن بونه رحمه الله اللطف بقوله: واللطف إبراز الأمور جاء في صور أضداد كما ليوسف صيره رقاً لكي ينالا ملكاً وعزاً ربه تعالى وكثيراً ما تأتي تلك المنح الربانية لملتمسها في داخل المحنة، فحصار الشعب الذي فرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من أصحابه وبني هاشم وبني المطلب بمكة ودام ثلاث سنين ظاهره محنة ولكن باطنه منحة، فقد اختار الله لهم محضناً تربوياً يتربون فيه على قيم الإيمان ويعتزلهم فيه أهل الجاهلية، ويجدون به هجرة داخل بلادهم، وانقطاعاً عن كل مظاهر الجاهلية وفسادها حتى يحققوا قيم الإيمان من الإيثار والإخاء، والتعاون على البر والتقوى، والنصيحة لله ورسوله، والصبر والجلد في الحق، ولم يكونوا لينالوا هذه المدرسة لولا أن فرض عليهم هذا الحصار الجائر، فذلك من منحة الله سبحانه وتعالى.
وكل من أصيب ببلاء وهو من المؤمنين فهو عرضة لرحمة الله، فالله سبحانه وتعالى قد وسعت رحمته كل شيء.
وأحق الناس بالرحمة الضعفاء، ولذلك قال عيسى بن مريم فيما أخرج مالك في الموطأ وأحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم؛ فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية)، فأهل البلاء يستحقون الرحمة، ومن هنا من ابتلي فصبر فقد تعرض لنفحات الله سبحانه وتعالى ومنحه.(36/13)
تذكر سنن المرسلين والسلف الصالح
سادساً: تذكر سنن المرسلين وأتباعهم: فإذا تذكر الإنسان أن أنبياء الله وهم أكرم الخلق على الله، وأعلاهم قدراً ومكانة، قد ابتلوا بأنواع البلايا والمحن فصبروا وصمدوا؛ تذكر أنه ما هو إلا حلقة صغيرة من سلسلة طويلة فيها نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ومن على آثارهم من المتقين والمخلصين في كل زمان ومكان، وكل نكبة أصابت حلقة من حلقات السلسلة فستصيب السلسلة كلها، ومن هنا فهو يرحب بتلك النكبات لأنها أصابت من هو خير منه، وهي نكبات مباركة، فيلتمس فيها البركة لأنها قد أصابت أنبياء الله المباركين، وقراءة الإنسان لسيرهم وقصصهم الواردة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبلغ ما يعين على الثبات.
وقد قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: حكايات الصالحين جند من جنود الله يثبت الله بها قلوب عباده.
ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120]، وذلك في خواتم سورة هود بعد أن قص الله فيها قصة نوح وقصة هود وقصة صالح وقصة إبراهيم وقصة لوط وقصة شعيب وقصة موسى وهارون، فكل ما أصابهم من قبل يثبت فؤاد المؤمن، لعلمه بأنهم أكرم على الله منه وخير منه، وأن الله سبحانه وتعالى قادر على أن لا يصيبهم ذلك البلاء، ولو كان عدم إصابة البلاء خيراً لاختار الله ذلك لأنبيائه، ولكنه علم أن البلاء خير لهم فاختاره لهم، ومن هنا فإذا أصابك شيء مما أصاب الأنبياء فاستقبله بما استقبله الأنبياء.
وقد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم (أنه كان يقسم غنيمة يوماً فدخل عليه رجل أشعث أغبر، ثائر الرأس مشمر الثياب غائر العينين فقال: اعدل يا رسول الله، إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك! ومن يعدل إن لم يعدل رسول الله، ثم ابتسم وقال: رحم الله أخي موسى! قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، فتذكر أذى بني إسرائيل لموسى وهم يعلمون أنه رسول الله، وقد قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف:5].
وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رحم الله أخي يوسف! لو مكثت في السجن ما مكث ثم أتاني الداعي لأجبته)، فيوسف عليه السلام مكث في السجن ما مكث، ثم أتاه الداعي من الملك يدعوه للخروج إليه فقال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50]، ولم يستعجل في الخروج من السجن حتى تظهر براءته، وحتى تقر النسوة بما سمعن من امرأة العزيز، فكان ذلك من الثبات وعدم الاستعجال، وهذا ما بينه صلى الله عليه وسلم في قوله هنا: (رحم الله أخي يوسف لو مكثت في السجن ما مكث ثم أتاني الداعي لأجبته).
وكذلك تذكر حال أتباع المرسلين في كل زمان، وما ثبتهم الله به من الصبر في المحن والبلايا، وبالأخص أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين حققوا أروع الأمثلة، فهذا خبيب رضي الله عنه عندما صلبته قريش وهو حي على الخشب قال: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع وهكذا أتباعهم من بعدهم والقرون الفاضلة من هذه الأمة، وقد برز فيها من النماذج من الصابرين الشيء الكثير، ومن هذه النماذج الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فقد صبر على المحنة والبلاء ثماني عشرة سنة وهو صامد ثابت تحت السياط وفي الأغلال والحديد يعذب ليقول كلمة واحدة فلم يقلها، وصبر على مبدئه وثبت عليه حتى فرج الله تلك الغمة وأزالها عن الأمة، وقد ذكر أنه مما أعانه على الثبات في فتنة محنة خلق القرآن أن شيخاً كبيراً من أهل العراق أتاه وهو في الحديد يساق إلى السياط فقال له: يا أحمد أنت اليوم رأس في أهل الإسلام فاتق الله فيهم؛ فإنك إن أجبت أجاب من وراءك، فكان ذلك من وسائل ثباته، وتذكر الإنسان لمسئوليته عمن يأتي بعده معين له على هذا الثبات.
ولذلك فإن المودودي رحمه الله عندما أطلق الرصاص وهو قائم يخطب فقال له الناس: اجلس؛ قال: إذا جلست أنا فمن يقوم؟ إذاً: من الأمور المهمة التي ينبغي أن يتذكرها الإنسان في حال البلاء: أن يتذكر: إذا جلست أنا فمن يقوم؟(36/14)
تبرؤ العبد من حوله وقوته
رابعاً: البراءة من الحول والقوة إلى الله والتوكل عليه سبحانه وتعالى وحده: فلا بد لمن أصيب بالبلاء أن يبرأ من حوله وقوته إلى الله سبحانه وتعالى وأن يعلم أنه لا يثبت إلا بتثبيت الله له، ولا يصبر إلا بتثبيت الله له، وأنه لا حول له على دفع ما نزل به من قدر الله، ولا قوة به على مغالبة أقدار الله، فلا بد أن يستسلم إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يعرف أن الأمر كله إليه ومن عنده، ومن هنا فعليه أن يحسن التوكل على الله سبحانه وتعالى وحده، وهذا ما حصل في أنبياء الله.
فهذا نوح عليه السلام عندما تمالأ عليه أهل الأرض جميعاً قال لهم: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس:71].
وهذا هود عليه السلام عندما اجتمع رأي قومه على التخلص منه قال لهم: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56].
وهذا إبراهيم عندما رماه قومه في النار قال: حسبي الله ونعم الوكيل، وقال الله: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].
وهذا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} [آل عمران:173 - 174].(36/15)
معرفة الابتلاء
خامساً: المعرفة بالابتلاء والاستعداد له: فمما يعين على الصبر عند البلاء والثبات فيه أن يعرف الإنسان سنة الله بالابتلاء، فهي سنة ماضية وحكمة بالغة، فالله تعالى يقول في كتابه: {آلم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3].
وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186]، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
والاستعداد للبلاء بأن يعلم الإنسان أنه يسلك طريق المكاره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) وفي رواية: (حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات).
وصح عنه صلى الله عليه وسلم: (أن الله عز وجل لما خلق الجنة زينها ثم أرسل جبريل فأطاف بها، فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فلما خلق النار وجعل فيها من الرجز والعذاب أرسل جبريل فأطاف بها فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد فيدخلها، ثم أمر بالجنة فحجبت بالمكاره، فأرسل جبريل فأطاف بها فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، ثم أمر بالنار فحفت بالشهوات، فأرسل جبريل فأطاف بها فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد).
فالسائر في هذا الطريق يعلم أنه سيمتحن بكثير من المحن والبلايا، فلا بد أن يستعد لها بتهيئة نفسه لذلك، وقد قال أحد الحكماء: يمثل ذو اللب في لبه مصائبه قبل أن تنزلا فإن نزلت بغتة لم ترعـ ـه لما كان في نفسه مثلا وذو الجهل يأمن أيامه وينسى مصارع من قد خلا فإن دهمته صروف الزمان ببعض مصائبه أعولا فلا فائدة من العويل، بل لا بد من الاستعداد للابتلاء، وأن يعلم الإنسان تقلب أحوال الدنيا وعدم استقرارها، ويستعد لذلك، وبالأخص إذا علم حكمة الله في الابتلاء، وأن من حكمة الله أن يرفع به أقواماً درجات إذا صبروا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عجباً لأمر المؤمن، كل أمر المؤمن له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من مصيبة تصيب المؤمن إلا كانت تكفيراً من ذنبه حتى الشوكة يشاكها)، وقال: (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل الأمثل)،وبين أنه لا يزال البلاء بالعبد حتى يفد على الله وليس معه ذنب.(36/16)
الإيمان بالقدر
أولاً: تقوية الإيمان بالقدر، بأن يعلم الإنسان أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف بما هو كائن، وليتذكر أنه وهو جنين في بطن أمه كتب معه رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، وكل ما يصيبه قد كتب ولا تغيير في ذلك.
ومن قوي إيمانه ثبته الله سبحانه وتعالى عند الابتلاء والمحن، لقول الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، وتقوية الإيمان سبب للثبات والأمن كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، ولا شك أن من كان أقوى إيماناً كان أثبت عند المحن والبلاء.
ولننظر إلى سحرة فرعون الذين كانوا قبل إيمانهم أشد الناس عداوة لله ولرسله، وأبعدهم عن مقامات أهل الإيمان، ولكنهم أخلصوا لله في تلك اللحظة، فتعرضوا لمحنة فنجحوا وثبتوا وصبروا، فقذف الله في قلوبهم من الإيمان والعلم الشيء الكثير جداً، ولذلك حين ضغط عليهم فرعون وهددهم بأنه سيقتلهم ويصلبهم في جذوع النخل، وسيهينهم بأنواع الإهانة: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه:72]، فعرفوا أن الله هو الذي فطرهم فآمنوا به، وحققوا ذلك وأقسموا به تأكيداً.
فانظر إلى الحال الذي وصلوا إليه من الإيمان الآن، بعد أن كانوا يقولون قريباً: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44]، فقد كانوا يقسمون قبل ثوان بعزة فرعون، وهم الآن يقولون: {وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]، فعرفوا أن ملك فرعون وما يهدد به كله من أمور هذه الدنيا الفانية الزائلة التي لا تدوم، ومن هنا فهم راغبون فيما في الآخرة من الأمور الدائمة الخالدة التي لا انقطاع فيها، لهذا قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:72 - 73].
فقد عرفوا الله بصفاته فعرفوا أنه هو الذي يغفر الذنب ويقبل التوب عن عباده: {لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73]، ووصفوه بصفات الكمال والجلال: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:74 - 75] وهاتان الجملتان هما خلاصة علم الأولين والآخرين، فعلم الأولين والآخرين يدور على هاتين النقطتين: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:74 - 76].
فغاية ما يصل إليه المخلوق من العلم أن يؤمن بالله سبحانه وتعالى وبشرعه وثوابه لمن أحسن وعقوبته لمن أساء، وأن يؤمن بالمصير إليه وبجنته وناره، فذلك خلاصة علم الأولين والآخرين: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:74 - 75] قذف الله كل هذا العلم في قلوبهم في هذه اللحظات عندما ثبتوا وآمنوا، وهذا ما لا يتوصل إليه الدارسون والباحثون في السنوات العديدة.(36/17)
تقوى الله سبحانه وتعالى
ثانياً: التقوى: فاتقاء الله سبحانه وتعالى سبب للثبات والصبر، فقد قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف:90] في قصة يوسف، فبين أن التقوى والصبر من المتلازمات.
وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]، فدل ذلك على أن من اتقى سيعلمه الله ما يحتاج إليه، ومن ذلك ما يحتاج إليه من الحجج المثبتة، وما يحتاج إليه من الصبر أيضاً.(36/18)
اللجوء إلى الله
ثالثاً: الدعاء واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى: فهو من أبلغ ما يثبت الله به قلوب المؤمنين، ومن أبلغ ما يزيد في الصبر، فالدعاء يرد القدر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يرد القدر إلا الدعاء وهو يصطرع في السماء مع البلاء).
وأيضاً فإن الدعاء هو مخ العبادة أو هو العبادة، واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى لا يرد صاحبه، وبالأخص في حال الاضطرار والمحنة والبلاء، فالله يقول في كتابه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62].(36/19)
الصبر على المغريات كالصبر على البلاء
ومثل هذا: الصبر أمام الإغراءات المختلفة، فما نذكره من الصبر أمام البلاء والمحن مثله الصبر أمام الإغراءات المختلفة في أمور الدنيا، فوسائله هي هذه الوسائل أيضاً، وأن يتذكر الإنسان أنه يعجب كثيراً بأولئك الذين يصمدون ويصبرون أمام الإغراءات ولا ينجذبون وراءها، وأنهم هم الأبطال الذين يثني الناس عليهم ويخلدهم التاريخ، فذلك مقتضى منه أن يقتدي بهم ويسير في ركابهم.
وهذا أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان حين أراد غزو العراق لقتال مصعب بن الزبير رضي الله عنهما بكت أم أولاده، وحزنت لذلك وأرادت أن يؤمر رجلاً على الجيش وأن يبقى هو في الشام في مأمن من هذه الغزوة فقال: قاتل الله كثير بن عبد الرحمن لكأنه ينظر إلينا الآن حين قال: إذا ما أراد الغزو لم تثن همه حصان عليها نوم در يزينها نهته فلما لم تر النهي عاقه بكت فبكى مما شجاها قطينها وكذلك عندما كان في حرب ابن الأشعث أهدى إليه أحد امرأته جارية فكلمها، فأعجب بثقافتها وذكائها وبشكلها وأدبها فباتت عنده فكف نفسه عنها وقال: والله ما يمنعني إلا أبيات لأحد العرب، فلو اقتربت منك لكنت ألأم العرب، والأبيات هي قول الشاعر: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم دون النساء ولو باتت بأطهار فقال: فلو اقتربت منك لكنت ألأم العرب، وهو يتذكر هذه الأبيات.
ولا شك أن الصمود أمام المغريات هو مثل الصبر في الابتلاء والمحن، لأن الابتلاء يكون بالخير وبالشر، كما قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35].
فيحتاج الإنسان إلى تذكر هذه الوسائل ومعرفة عاقبة الصبر ليقتضي ذلك منه الاستمرار على منهج الحق وما يعي، وأن يعلم أنه إذا انهار فلن يتحقق له شيء، وإنما يهدم كل شيء كان قد أحرزه من قبل، وجزعه مذلة له وخنوع أمام الآخرين، والموت في حال العزة خير من الجزع والحياة الذميمة، ولهذا قال أبو تمام في مرثيته لـ محمد بن حميد كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم ترق ماءها عذر توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغل عن السَفَرُ السفْرُ وما كان إلا زاد من قل ماله وذخراً لمن أمسى وليس له ذخر تردى ثياب الموت حمراً فما أتى لها الليل إلا وهي من سندس خضر فتى مات بين الضرب والطعن ميتة تقوم مقام النصر إن فاته النصر فهذا البيت عجيب جداً: فتى مات بين الضرب والطعن ميتة تقوم مقام النصر إن فاته النصر فأغرز في مستنقع الموت رجله وقال لها من تحت أخمصك الحشر فعلى الإنسان أن يعلم العاقبة والنتيجة المترتبة على الصبر في الدنيا والآخرة، فهو في الدنيا جميل حميد، وصبره لن ينقص شيئاً من أجله ولا من عمله ولا من مكانته ولا من رزقه، ومقامه في الآخرة سيرتفع ويزداد عند الناس كذلك بذكره وإعلاء منزلته، وقديماً قال الشاعر: أي يومي من الموت أفر يوم لا يقدر أم يوم قدر يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر فلا بد أن يتذكر الإنسان نفاذ القدر واستمراره، وأن يعلم أن علياً رضي الله عنه حين سئل عن الشجاعة ماهي؟ قال: صبر ساعة.
فإذا كان الإنسان يستطيع الصبر ساعة على البلاء فعاقبة ذلك محمودة جداً، ومكانه رفيع، والإنسان لن ينال ذلك المقام الرفيع حتى يجتاز قنطرة الصبر على المحن والبلايا، ولهذا قال الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] * {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:139 - 148].
ويكفي من ذلك محبة الله سبحانه وتعالى للصابرين، وعلى الإنسان أن يعلم أن الموتة التي كتب الله عليه واحدة، وستناله مهما كانت حاله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78].
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب وقديماً قال الشاعر: ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يثبتنا على دينه وأن يلزمنا التمسك بالسنة عند فساد الأمة، وأن ينصرنا على أعدائه وأعدائنا، وأن يجعلنا قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يغنينا بأجر الشكر على النعمة عن أجر الصبر على النقمة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32] تبرأت من حولي وقوتي واعتصمت بحول الله وقوته.(36/20)
معرفة الله
لقد اهتم العلماء بالعلم حتى ألفوا فيه منظومات يسهل حفظها وفهم مضمونها، والشيخ هنا يشرح بعض أبيات من منظومة في العقائد، بين فيها معرفة الله من جهة وجوبها وطريقة تحصيلها.(37/1)
الغاية والهدف من دراسة علم العقائد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد من الله علينا بإكمال شرح نظم الشيخ المتعلق بالعقائد، وقد ترك الشيخ حفظه الله تعالى التفصيل في بعض المسائل اعتماداً على تفصيل ذكره في نظمه لجامع خليل، فإن أصل الكتاب كان نظماً لمختصر خليل في الفقه المالكي، وكذلك نظم في آخره الجامع لـ خليل نفسه.
هذا الجامع كتاب يجمع العقائد والآداب والأخلاق الشرعية، وكثيراً من الأحكام المتعلقة بالسلوك عموماً، قد نظمه الشيخ في حوالي خمسمائة بيت، والمبحث العقدي منه بين أيدينا اليوم، وهو أبيات قليلة تضيف بعض التفصيلات لما سبق، ومع هذا فقد تقيد الشيخ في أغلبها بترتيب خليل، فليست العهدة الكاملة فيما يذكر هنا على الشيخ بل العهدة مشتركة، فمنها ما هو على خليل بن إسحاق المالكي مؤلف المختصر للتوضيح وغيرهما.
يقول الشيخ حفظه الله: فيلزم القاصد نهج الجنه لكي تسير النفس مطمئنه أن يمعن النظر في الدلائل ويستدل لوجود الفاعل بفعله ليحصل اليقين له أن له رباً كريماً عدّله بين في هذه الأبيات فائدة دراسة هذا العلم، فكل عمل لا يعرف الإنسان هدفه لا يمكن أن يقومه.
ومن هنا فدراستنا لأي علم من العلوم لابد أن نحدد لها هدفاً حتى نستطيع تقييمها ومدى استفادتنا منها، وهل وصلنا إلى النتيجة المرضية المطلوبة أو لم نستفد ولم نصل إلى تلك النتيجة؟ فهدف دراسة علم العقائد هو معرفة الله سبحانه وتعالى وحصول اليقين في قلب المؤمن، أي: زيادة إيمانه وثباته واستقراره، وهذا اليقين الذي يحتاج إليه الإنسان في كل أموره تطلب زيادته في المجال العقدي أكثر من زيادته في غيره، ومنطلقه من البحث على الدلائل: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]، هذا مبدأ اليقين كله.
فمبدأ اليقين أن يبحث الإنسان عن الدليل في كل أمر حتى لا ينطلق من مجرد الخلط والجهل وحتى يكون على بصيرة من أمره في كل ما يعتقد أو يقول.
ومن هنا قال: (فيلزم القاصد نهج الجنه)، أي: يجب على السالك طريق الجنة، أي: المؤمن الذي يريد رضوان الله سبحانه وتعالى وجنته.
(لكي تسير النفس مطمئنه) معناه: لكي يختم له بحسنى فتكون نفسه وقت الممات من النفوس التي تخاطب فيقال لها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:27 - 29].
(لكي تسير النفس) معناه: تخرج من هذه الدنيا -وهي سائرة لا محالة، (مطمئنة) أي: لتكون كذلك، والنفوس ثلاثة أقسام: الأول: النفس المطمئنة، وهي التي حصل لها اليقين واستقر فيها الإيمان وثبت.
الثاني: النفس اللوامة، وهي التي آمنت ولكنها لم يكتمل فيها اليقين بعد.
الثالث: النفس الأمارة بالسوء، وهي التي تنتاب صاحبها الشكوك والأوهام، وكل هذه النفوس للمؤمن، وللكافر تقسيمات أخرى.(37/2)
الحث على طلب المراتب السامية
ويجب على الإنسان أن يطلب أعلى المراتب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم فاسألوه الفردوس الأعلى من الجنة)، ونهى أن يسأل بوجه الله الكريم إلا الفردوس الأعلى من الجنة، فلا ينبغي للمسلم أن يرضى بالدون، بل معرفة الله تعالى تقتضي من الإنسان أن يكون ذا همة عالية تسمو به إلى المراتب العلية فيتعلق بما عند الله سبحانه وتعالى، ويتدرج في درجات الإيمان، ويحاول زيادة الاطمئنان كلما تقدم به العمر إلى أن يكون خير عمره آخره، فحينئذٍ يبلغ المستوى المطلوب، ويقدم على الله سبحانه وتعالى وهو عنه راضٍ، وهذا هو الهدف المطلوب من التعرف عليه.
فنحن محتاجون إلى أن نعرف ربنا لنحبه ونتعلق به ونطلب ما عنده، ونثبت إيماننا وطمأنينتنا ويقيننا، ولهذا فإن إبراهيم عليه السلام الذي وصل إلى مقام الخلد، قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْييِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، وهذا امتحان امتحنه الله به، (أولم تؤمن)، فهو قد طلب وقد حدد هدفه في مطلبه، لكن الله امتحنه فقال: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} [البقرة:260]، وهو يعلم أنه قد آمن، فنجح إبراهيم في هذا الامتحان كغيره من الامتحانات، ولذلك قال الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124]، ولهذا استحق الإمامة، قال: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124]، ولذلك يقول العلماء: إذا جمع المرء بين الصبر واليقين نال الإمامة في الدين، لقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].(37/3)
مواطن الحاجة إلى اليقين
والمرء أحوج ما يكون إلى اليقين في حالين:(37/4)
الموطن الأول: حالة الفتنة
الحال الأول: حال الفتنة والشبهة، فعندما يأتي ليل الفتن وسيلها الجارف يحتاج المؤمن إلى ما يثبته، وهو هذا اليقين الذي يجعله لا ينجرف وراء الفتن ولا يذهب وراء كل ناعق، ويمسك بالمحجة البيضاء لا يميل عنها يميناً ولا شمالاً ولا يسلك بنيات الطريق ولا أبواباً مفتحة.
وهذا الحال يذكرنا بحالنا اليوم، فالفتن تزداد في آخر الزمان، وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه الفتن فقال: (يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)، فكم شاهدنا من الناس من نرى بحسب الظاهر -والسرائر علمها إلى الله- أنه يبيع دينه بعرض من الدنيا.
هذا من هذه الفتن التي حذرنا منها الرسول صلى الله عليه وسلم، فلذلك يجب على المسلم أن يستمسك باليقين، فإذا عرض عليه بيع دينه بأي ثمن تذكر أن هذا الدين هو هو، وأن بيعه له خسارة في الدنيا والآخرة، وأنه إن لم يسلك طريق إبراهيم فقد سفه نفسه كما شهد الله وهو عليم بذلك: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130].
ومن هنا فعليه أن يثبت وأن يعلم أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأن ما كتب له لابد أن يناله، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وليتذكر هذا عند كل الصدمات والأزمات، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى.
فإذا جاءت أية نازلة وأية فتنة فإن أهل الإيمان يثبتون ويراجعون أنفسهم ويتذكرون أول ما يتذكرون اللجوء إلى الله والعلاقة به، ومن هنا لا يستفزون بهذه الفتنة فينجون منها: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].(37/5)
الموطن الثاني: وقت الموت
الحال الثاني الذي يحتاج فيه إلى اليقين: هو وقت الإدبار عن هذه الدنيا والإقبال على الآخرة، عندما تخور الجوارح وتضعف، فذلك مدعاة لضعف العقل والتصور، والإنسان في ذلك الوقت محتاج إلى ما يثبته وهو أحوج أحواله إلى اللطف، ولذلك قال خليل رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه هذا: (ونسألك اللطف والإعانة في جميع الأحوال وحال حلول الإنسان في رمسه.
فحال الانقطاع عن الدنيا والإقبال على الآخرة يحتاج فيه الإنسان إلى اليقين والثبات، ولذلك قال أحد سلفنا الصالح: أأرجع بعدما رجفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني هذا وقت الثبات.
فما يدل لنا منهاج جهم بمنهاج ابن آمنة الأمين فالثبات على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعدم تبديله وتحريفه بأي شيء يحتاج إليه الإنسان في وقت ضعفه وكبره وعجزه وانقطاعه عن الدنيا وإقباله على الآخرة.
أأرجع بعدما رجفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني(37/6)
أمور يتحصل بها اليقين
فلذلك قال: (لكي تسير النفس مطمئنه) ماذا يلزمه؟ أن يمعن النظر في الدلائل، وإنما يحصل اليقين بأمرين: الأمر الأول: نظري.
والأمر الثاني: عملي.
فالأمر النظري: هو استعمال الدلائل؛ ولذلك قال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260].
والأمر العملي هو زيادة التقرب إلى الله تعالى لتأتي مواهبه التي وعد بها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29].
فالإنسان محتاج إلى هذين الأمرين، ولذلك فالعلم كله ينقسم إلى علمين: - علم مكتسب، وهو: العلم الصادر عن طريق الدلائل.
- وعلم لدني، أي: موهوب من عند الله سبحانه وتعالى، وهذا نتيجة العمل، فيوازي الإنسان بين هذين الجانبين، ويزيد علمه بالعمل فيتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، ويكثر من النوافل فيفتح الله له فتوحاً نافعة.
وكذلك يزيد علمه بالاستطلاع والدلائل ويهتم بهذا الجانب النظري أيضاً فلا يتكل على أحد الجانبين وحده بل يسير في خطين متوازيين لابد من اجتماعهما؛ لأن الإيمان قول وعمل، قول يشمل الاعتقاد، وعمل يشمل عمل القلب وعمل الجوارح، فلابد من إمعان النظر في الدلائل.
والدلائل جمع دليل، والدليل في اللغة يطلق على المرشد، ومنه قول الشاعر: إذا حل دين اليحصبي فقل له تزود بزاد واستعن بدليل سيصبح فقيع أكتم الريش واقعاً بقال قلا أو من وراء دبيل فقوله: (واستعن بدليل)، أي: بمرشد في المتاهات والمسافات الشاسعة.
ويطلق كذلك على الأمارة، ومنه قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان:45 - 46]، أي: جعلنا الشمس عليه علامة، فإذا وجدت الشمس وجد الظل وإذا غربت عدم الظل.
وهو في الاصطلاح: ما يثبت الشيء، وللأصوليين والمناطقة اصطلاحات في تعريف الدليل، فالأصوليون يقولون: الدليل هو ما يحصل بصحيح النظر فيه العلم بمطلوب الخبر، وبعضهم يقول: ما يؤدي صحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري، والفرق بين التعريفين: أن التعريف الأول يقتضي أن الدليل هو ما أدى إلى القطع فقط، وغيرها لا تسمى دلائل وإنما تسمى أمارات، وهذا اصطلاح لبعض المتكلمين، فتقيد به بعض الأصوليين.
والقول الثاني أرجح وهو: أن الدليل هو ما يؤدي صحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري سواء كان ذلك باليقين أو بالظن.
وقولنا: (ما يؤدي)، أي: بعد الأخذ به، فالدليل سابق على المدلول، فإذا كنت تريد معرفة حكم شرعي، فاعلم أن الآية قد نزلت، وأن الله سبحانه وتعالى قد أمر بهذا، فأمر الله المنزل من عنده هو الدليل، وهو سابق على المدلول وهو معرفتك أنت بالحكم الذي طلب منك.
فمثلاً: وجوب الوضوء مطلوب خبري، والمطلوب معناه: ما يتعلق به الطلب، وهو الذي يكون قبل الاستدلال دعوى ووقت الاستدلال مطلوباً وبعد الاستدلال نتيجة؛ لأنه نتيجة الدليل، فله ثلاثة أحوال: قبل الاستدلال.
ووقت الاستدلال.
وبعد الاستدلال.
فهذا هو الذي يسمى مطلوباً، وهو إما أن يكون إنشائياً وإما أن يكون خبرياً، فالإنشائي تنطلق فيه من نفسك ولا تحتاج فيه إلى غيرك؛ لأنه إيقاع توقعه مثل: بعت واشتريت وأعتقت.
والخبري المنسوب إلى الخبر، والخبر هو ما يقبل الصدق والكذب لذاته، أي: يمكن أن يكون صادقاً ويمكن أن يكون كاذباً لذاته بخلاف الإنشاء، فهو لا يقبل الصدق والكذب لذاته ولا يسمى خبراً، لكن إن كان الخبر لا يقبل الصدق والكذب لكن لا لذاته بل للمتكلم به ككلام الله تعالى، والخبر من رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يقبل التكذيب أبداً بل هو صدق قطعاً؛ لكن عدم قبوله للكذب ليس راجعاً إلى ذات الخبر وإنما هو راجع إلى المتكلم به، وهكذا.(37/7)
أقسام الدلائل
والدلائل تنقسم إلى قسمين: - دلائل نقلية.
- ودلائل عقلية.
والدلائل العقلية مقدمة على الدلائل النقلية من ناحية التصور؛ لأن الإنسان قبل أن يصدق بالنقل لابد أن يعتمد على قناعة عقلية به، فمن لم يصدق بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته لا يمكن أن يقتنع بالقرآن أو بالحديث، لكن إذا اقتنع عقلياً بالمعجزة وبصدق النبي صلى الله عليه وسلم يكون الدليل النقلي حينئذٍ مجبراً له، ومن هنا فالدليل العقلي مقدم على الدليل النقلي في التصور؛ لأنه لا يمكن أن ينطلق الإنسان من مجرد النقل دون أن يعتمد على عقل في إثبات أصل النقل؛ لأن النقل مبني على العقل.
والدلائل النقلية تشمل التفكر بالآيات المسطورة والأحاديث المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك عن أقوال الراسخين في العلم والمتفقهين فيه الذين كلامهم نور على نور يشرح ويبين مراد الله ومراد الرسول صلى الله عليه وسلم.
والدلائل العقلية هي: التفكر في آيات الله المنظورة كالنفس، والسماء والأرض وما بينهما، هذه آيات الله المنظورة: {وَفِي أَنفُسِكُمْ} [الذاريات:21]، فأول ما يتفكر فيه الإنسان أن يتبصر في نفسه، ثم في السماوات والأرض وما بينهما: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:105 - 106].
ويروى أنه قيل لأعرابي: بما عرفت ربك؟ فقال: البعرة تدل على البعير، وأثر الأقدام يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدل على اللطيف الخبير؟! فاستفاد هذا الأعرابي من الآيات المنظورة فهداه ذلك إلى القناعة بالآيات المذكورة، ولهذا قال: (أن يمعن النظر في الدلائل).(37/8)
إمعان النظر في الدلائل
والنظر المقصود به: التفكر في المعقولات، فالنظر هو إعمال النفس، وإعمال النفس ينقسم إلى قسمين: إما أن تعمل في الحسيات التي يدركها البصر أو السمع أو الذوق أو الشم أو اللمس، وهذا يسمى تخيلاً، أو أن يتعلق بالمعنويات وهي المعقولات التي يتعلق بها العقل ولا تتعلق بها الحواس، وهذا الذي يسمى فكراً، فهذا الفرق بين التفكر والتخيل، فالتخيل يقع في المحسوسات والتفكر في المعقولات.(37/9)
أقسام النظر في الدلائل
والنظر ينقسم إلى قسمين إلى: - نظر صحيح.
- ونظر فاسد.
فالنظر الصحيح هو ما تعلق بالشيء من جهة الاستدلال به، فإذا نظرت، وكنت تريد عملاً بخشبة، وتريد أن تعمل بها سريراً مثلاً، فمن أي وجه تنظر؟ هل تنظر في قدمها وبقائها أو في ملكها أو نحو ذلك؟ هذا النظر فاسد؛ لأنه في غير الوجه الذي ينفع، لكن إنما تنظر في ليونتها وقسوتها، وخشونتها وملوستها، واستقامتها واعوجاجها، وصلابتها وضعفها، لأن هذه هي الجهة التي تنفعك منها.
كذلك النظر لا يكون صحيحاً إلا إذا كان في الوجه الذي يؤدي إلى المقصود، فإن كان النظر في وجه لا يؤدي إلى المقصود كان نظراً فاسداً، وإعمال النظر يتفاوت الناس فيه بقدر ما آتاهم الله من الملكات والفهم، ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، فكل إنسان مخاطب على مقتضى عقله لا على مقتضى عقول الآخرين، وما أداه إليه عقله فقد قامت الحجة به عليه، ولهذا قال: (أن يعمل النظر)، أي: نظره هو.
و (أل) هنا نابت عن الضمير فـ (أل) تخلف الضمير كثيراً، ومن ذلك: حكايته صلى الله عليه وسلم في حديث أم زرع: (زوجي المس مس أرنب والريح ريح زرنب)، معناه: مسه مس أرنب وريحه ريح زرنب، ولذلك جاز الإخبار بالمس عن الزوج، والخبر لابد أن يكون فيه رابط يربطه المبتدأ، ولو كانت (أل) هنا ليست في معنى الضمير لكان الخبر منفصلاً عن المبتدأ تماماً.
ما علاقة المبتدأ بالخبر في قولها: (زوجي المس مس أرنب).
لو لم تكن أل هنا بمعنى الضمير لكان الخبر منفصلاً عن المبتدأ.
فكذلك هنا (أن يمعن النظر في الدلائل) معناه: أن يمعن نظره الذي آتاه الله، ولا يجب عليه إعمال نظر الآخرين ولا تتبعهم فيما يتطرقون إليه من أنواع النظر، فكل يخاطب على قدر ما آتاه الله.(37/10)
أقسام الفاعل من ناحية التقسيم العقلي
قوله (ويستدل لوجود الفاعل)، فأول ما يتعلق به النظر: أن يستدل لوجود الفاعل، أي: لوجود الله سبحانه وتعالى، وكنى عنه هنا بالفاعل؛ لأنه هو الفاعل بالاختيار، والفاعل، أي: الذي يحدث فعلاً.
والفاعل من ناحية التقسيم العقلي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: - الفاعل بالاختيار، وهو: الذي لا يتوقف فعله على وجود شرط ولا على انتفاء مانع، وهذا هو الله سبحانه وتعالى وحده لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فلا يتوقف فعله على الشروط ولا على انتفاء الموانع، يحدث الشيء دون سببه، ويمكن أن ينبت النبات دون مطر، يمكن أن يخلق إنساناً من غير أب ولا أم وأن يخلقه من غير أب، وأن يخلقه من غير أم وهكذا، إذاً: فعله لا يتوقف على الشروط ولا على انتفاء الموانع.
- النوع الثاني من أنواع الفاعل: الفاعل بالطبع، وهو الذي يتوقف فعله على الشروط وانتفاء الموانع، وذلك مثل فعل الإنسان في حركته وسكونه، ففعله يتعلق بالأسباب، فكل سبب يؤدي إلى شيء آخر وراءه كتحريك مقود السيارة الذي تمسكه بيدك وذلك يحرك شيئاً آخر، وذلك يحرك شيئاً آخر حتى تتحرك السيارة بكاملها، أو الضغط على البنزين فإنك لا تصبه مباشرة في مكان المناسب ولكنك تضغط على الذي يليك وذلك يضخ في مكان آخر وهكذا حتى يصل الزيت إلى مكان النار.
فأفعالك إذاً مرتبطة بحصول الشروط وانتفاء الموانع، ومثل هذا الإحراق في النار شرطه الاتصال، فمثلاً: النار ما لم يلامسها الشيء لا تحرقه، وإذا كانت النار هناك وأنت هنا لا تحرقك قطعاً؛ لأن الشرط قد انتفى، وكذلك مقيد بعدم حصول الموانع، إذا كانت المادة نفسها غير قابلة للاحتراق فوضعت على النار فإنها لا تحترق، أو عزلت بعازل حراري فلا تحترق.
إذاً: الفاعل بالطبع مشروط بحصول الشروط وانتفاء الموانع.
- النوع الثالث: الفاعل للعلة، وهو الذي لا يتوقف فعله على الشروط ولا على انتفاء الموانع ولا على الاختيار، وإنما يرتبط فعله بفعل آخر كحركة الخاتم لحركة الأصبع، والخاتم في الأصبع كلما تحرك الأصبع لابد أن يتحرك الخاتم عقلاً، ولا يمكن أن يتصور العقل أن الأصبع يتحرك ولا يتحرك الخاتم، لكن الخاتم ما له اختيار الحركة، ولا تتوقف حركته هنا على شرط ولا على انتفاء مانع؛ لأنها تابعة لغيرها بالكلية.
فالاستدلال لوجود الله سبحانه وتعالى سابق على الاستدلال بغير ذلك من صفاته وعلى الاستدلال للنبوة، وعلى الاستدلال لصدق نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك سابق على الاستدلال على جزئيات ما جاء به من الشرع كالطهارة والصلاة والصيام وكترك المحرمات وغير ذلك، فكل هذه الأمور متدرجة.(37/11)
طرق المعرفة
بماذا يستدل لوجود فعال؟ طرق المعرفة ثلاثة هي: - العيان وهو: المشاهدة.
- أو المثال وهو: النظير، أي: أن تقيسه على نظيره.
- والآثار، وهذا القسم الثالث.
والله سبحانه وتعالى يستحيل أن تعرفه في هذه الدنيا عن طريق العيان لقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103].
ويستحيل في حقه كذلك المثال؛ لأنه يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فلا يمكن أن يقاس على أي شيء، وكل ما سواه فهو مغاير له مخالف له، فلم يبق إلا معرفته بفعله وآثاره.
يقول أحد العلماء وهو محمد الفالو المتالي رحمه الله: وطرق المعرفة الكبار عيان او مثال او آثار فأول منعه الجبار إذ قال لا تدركه الأبصار والثاني أيضاً منعه بالنقل لأنه ليس له من مثل لم يبق بعد ذا سوى آثار قدرته في العالم السيار ترى آثار قدرته في هذا العالم المتحرك كله، وهذا دليل على وجوده.
قوله: (ليحصل اليقين له)، هذا هو المقصد وهو الهدف وهو أصل كل شيء، فإذا حصل اليقين بقذف قذفه الله في قلب العبد لم يحتج بعد هذا إلى النظر في الدلائل، لكن قبل أن يحصل له اليقين لابد أن يبحث في الدلائل، وهذا اليقين منحة ربانية ثمينة يهبها الله تعالى لمن يشاء، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13]، وهذه الآية تضمنت نوعين من أنواع الناس: النوع الأول: الذين يجتبيهم الله تعالى ويختارهم فيقذف في قلوبهم اليقين والهداية ولا يستطيعون الممانعة، وتنقاد نفوسهم لذلك طائعة مطمئنة.
والنوع الثاني: الذين يجاهدون ويكابدون ويستمرون في العمل ثم يتقبل الله منهم ويهديهم، ولهذا قال: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} [الشورى:13]، هؤلاء لا تتوقف هدايتهم إلا على مشيئة الله: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13]، من أناب وتاب وعمل الصالحات يهديه الله تعالى، فهذان صنفان من أصناف عباده.
وقسمة ذلك تابعة لقدره سبحانه وتعالى لا يمكن أن يتدخل فيها الناس، ولا يمكن أن يعترض عليه أحد من خلقه بأي شيء؛ لأنه فعال لما يريد: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، فلا يقال (لم؟) في حق الله سبحانه وتعالى، فالسؤال في مثل هذا مرفوع عنه، ولذلك فقد يخرج من البطن الواحد مسلم وكافر.
بل قد يكون الأخوان الشقيقان أحدهما هو أول من يأخذ كتابه بيمينه والآخر هو أول من يأخذ كتابه بشماله، فـ أبو سلمة بن عبد الأسد وأخوه الأسود بن عبد الأسد شقيقان، الأسود قتل يوم بدر كافراً، وروي أنه أول من يأخذ كتابه بشماله، وأبو سلمة أسلم قديماً بمكة وأوذي في الله وهاجر الهجرتين إلى الحبشة ثم إلى المدينة ومات في المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي أنه أول من يأخذ كتابه بيمينه وهما أخوان شقيقان، فلله الحكمة يفعل ما يشاء ويختار.
والمقصود من قوله: (بفعله)، أي: بأفعاله كلها، وهذا من إضافة المفرد إلى الضمير وإضافة المفرد إلى الضمير تقتضي عمومه كقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب:50]، فالمقصود هنا العموم لا خال واحد، ولا عم واحد، وكذلك قول الشاعر: بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب فلا يقصد جلداً واحداً؛ لأن الحيوانات الحسراء، أي: التي ماتت من الجوع والجهد والضنك، لا يمكن أن يكون لها جلد واحد، بل كل بهيمة لها جلد مستقل (فأما عظامها فبيض وأما جلدها -أي: جلودها- فصليب)، الصليب هنا فعيل يوصف به المفرد والجمع والمثنى وغير ذلك، ومنه: خبير بنو لهب فلا تك ملغياً مقالة لهبي إذا الطير مرت وأيضاً: يعادين من قد بدا شيبه وهن صديق لمن لم يشب وكذلك قوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]، ففعيل يوصف به المفرد والمثنى والجمع.(37/12)
أقسام أفعال الخالق سبحانه وتعالى
وأفعال الله سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين: - أفعال مباشرة: كخلق السماوات والأرض.
- أفعال تمر بالأسباب فيسبب تلك الأسباب التي يتوقف عليها غيرها، كخلق الإنسان، فهو يمر بالأسباب التي بينها بقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:12 - 14]، وكالصحة والمرض، والغنى والفقر وغير ذلك، فهذه لها أسباب، وهذه الأسباب تنقسم إلى قسمين إلى: أسباب كونية.
وأسباب شرعية.
فالأسباب الكونية: كالتغذية للنماء، والعلاج للبرء، ونحو ذلك.
والأسباب الشرعية: كالصدقة للغنى ولطول العمر، ولرفع البلاء، وكالدعاء وصلة الرحم، فهذه أسباب شرعية لا يمكن أن تقاس بالمعايير الدنيوية.
بفعله ليحصل اليقين له أن له رباً كريماً عدله فالدلائل ستوصله إلى معرفة صفاته، وهذا هو القدر الممكن من التعرف إليه، وإنما تعرفه بأفعاله وصفاته وأسمائه، فإذا عرفت ربك بأفعاله وصفاته وأسمائه اقتضى منك ذلك عبادته حق عبادته وتمجيده، وإجلاله وتعظيمه والأدب معه، والعمل بما شرع لك، والرغبة فيما عنده والتوكل والاعتماد عليه في كل الأمور، وأن تستحي منه في تصرفاتك، فهذا مقتضى معرفته، وإلا لم تحصل لك محبة الله، ولا خوفه، ولا رجاءه، ولا شكره، ولا هيبته، ولا الحياء منه، ولا أية صفة من هذه الصفات.
ومن هنا فالذين يقرءون العقائد دون أن يتدبروا أهدافها تكون في حقهم قسوة للقلوب، وطلاسم وألغازاً، أو نصوصاً تحفظ دون أن يفهم ما وراءها، ودون أن يتأثر بها باطن الإنسان، وهذا مخالف للمقصد والهدف.
قوله: (ليحصل اليقين له أن له رباً) هذا أول ذلك، فمن صفاته: الربوبية، والربوبية هو التوصيل إلى الكمال شيئاً فشيئاً، وهي الملك والقهر والجبروت، وقد سبق ما يتعلق بذلك من توحيد.
ثم قال: (كريماً)، وهذا شروع في عد بعض صفاته الأخرى، فمنها صفة الكرم، وهي تشمل أمرين: الأمر الأول: الكمال في الذات، ومعناه: أنه متصف بكل وصف الكمال، وهذا معنى الكرم.
المعنى الثاني: التفضل والجود، وهذا أيضاً داخل في معنى الكرم ويسمى فضلاً أيضاً.
وقوله: (عدّله)، إذا عرف الإنسان ربه عرف نفسه، وعرف أنه هو الذي لم يكن موجوداً ثم وجد، وأنه هو الضعيف المحتاج الفقير، ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8]، فلا تعرف هذا إلا بإعمال الدلائل.
وهنا قراءتان في هذه الآية: (عدّلك) أو (عدَلك) ومعناهما واحد.
أي: سواك وركب أعضاءك وجعلها متقابلة، فطول اليدين متساوٍ وطول الرجلين متساوٍ ولو حصل نقص أو ميل في إحداهما لحصل الاختلال بالكلية.
وكذلك (عدلَك)، أي: جعلك معتدلاً في هيئتك فاليمين مناظرة للشمال، وهكذا في بواطنك وظواهرك، وهذا كله من آيات الله العجيبة، والبراهين الدالة على إحكام صنعته، وكمال قدرته وعلمه وإرادته، لذلك قال: (أن له رباً كريماً عدله) أو عدّله، ويمكن في البيت التضعيف والتخفيف تبعاً للقراءتين في السورة الكريمة.(37/13)
الأسئلة(37/14)
الكلام الذي يقبل الصدق والكذب
السؤال
أريد أن تذكر أمثلة على الكلام الذي يقبل الصدق والكذب.
الجواب
ذكرنا أن الكلام قد يقبل الصدق والكذب لذاته، ولكنه لأمر خارج عن ذاته لا يقبل الصدق والكذب، والسؤال هنا عن أمثلة لذلك.
فمن أمثلته: كلام الله، فكلام الله صدق كله، لكن لو جاء ما فيه من الخبر ولم يكن الذي تكلم به هو الله لكان قابلاً للتكذيب، لكن بعد أن تكلم الله به اقتضى العقل والنقل والفطرة تصديقه وعدم تكذيبه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87].
ثانياً: كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن المعجزات اقتضت من العقول أن تؤمن بصدقه، وكذلك الوحي فالخبر بتصديقه من عند الله سبحانه وتعالى، وأنه أمينه على وحيه يقتضي صدقه في كل ما أخبر به، فلو لم يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام الذي هو خبر، لكان العقل يبيح أن يكون صدقاً وأن يكون كذباً، لكن بعد أن تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبق مجالاً إلا لتصديقه عقلاً ونقلاً وفطرةً أيضاً.
القسم الثالث: ما صدقه الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم، فما صدقه الله مثل قوله تعالى في تصديقه لملكة سبأ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل:34]، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل:34]، فهذا الكلام كان قابلاً للصدق والكذب قبل أن يصدقه الله، لكن بعد أن صدقه الله لم يعد قابلاً لذلك.
أو صدقه رسوله صلى الله عليه وسلم كحديث أبي هريرة حين أتاه الشيطان فأخبره أن آية الكرسي من قرأها في ليلة لم يقربه شيطان وكان عليه من الله حافظ، فهذا الكلام قبل أن يصدقه النبي صلى الله عليه وسلم كان قابلاً للصدق والكذب، لكن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب)، فوجب صدقه.
القسم الرابع: ما تواتر نقله، فالمتواتر يحصل اليقين بصدقه؛ لأن العدد الكبير الذين لا يجمعهم هدف ولا مكان ولا سن إذا أخبروا عن مشاهد محسوس قد رأوه أو سمعوا من مثلهم يستحيل تواطؤهم على الكذب في العادة، فيحصل اليقين بصدق ذلك، لكن هذا التواتر خارج عن الخبر، فأنت حصل لديك اليقين بوجود البيت الأبيض الأمريكي وإن كنت لم تشاهده، لكن لا تستطيع إنكاره اليوم، فأنت موقن بوجوده، وحصل لك اليقين بوجوده وهو خبر لا لأن الله تكلم به، ولا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم به، ولا لأنه جاء تصديق ذلك بالوحي، لكن بالتواتر، فقد تواتر عندك فلا تستطيع تكذيب ذلك، لكن الخبر قبل أن يتواتر كان قابلاً للصدق والكذب.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه.
والحمد لله رب العالمين.(37/15)
أقسام النفس الكافرة
السؤال
ما هي أقسام النفس الكافرة؟
الجواب
النفس الكافرة تنقسم أيضاً إلى ثلاثة أقسام إلى: - نفس ميتة.
- ونفس مريضة.
- ونفس على الفطرة.
النفس الميتة هو الكافر الذي قد طبع على قلبه ولا يمكن أن يهتدي، وسبقت له سابقة الشقاوة، نسأل الله السلامة والعافية، أي: لو رأى كل آية لا يمكن أن يؤمن.
والنوع الثاني: النفس المريضة، وهو الكافر الذي قد رين على قلبه، فيمكن أن يكون من المؤلفة قلوبهم ويعطى على الإسلام.
والقسم الثالث الذي هو على الفطرة، وهو من وجد آباءه يقولون شيئاً فقاله، ولكن إذا سمع الحق استجاب له إذا هداه الله لذلك.(37/16)
أول واجب على الإنسان
السؤال
ما هو أول واجب على الإنسان؟
الجواب
ذكرنا أنه يجب عليه النظر، لكن لم يتعلق كلامنا: هل هو أول ما يجب عليه أو دون ذلك؟ وهذا محل خلاف طويل بين أهل العلم في أول واجب على المكلف، وهذا الخلاف نظراً لما طرحه السيوطي رحمه الله فقال: أول واجب على المكلف معرفة الله وقيل الفكر في دليله وقيل الأول النظر وقيل قصده إليه المعتبر وهذه كلها أقوال لأهل العلم لكن مفادها واحد.
المهم أن أول الأمر هو الإيمان، وهذا الإيمان يترتب على مراحل قبله لا يحصل اليقين إلا بالدخول فيه، كذلك فإن الإيمان لا يتم إلا بعد حصول القناعة بأن الإيمان ليس شيئاً يأتي في لحظة واحدة أو طرفة عين أو بمجرد النطق، بما أنه شعب كثيرة، فهو أول واجب لكنه مع هذا متفاوت متدرج.
ولهذا قالت طائفة: (أول واجب على المكلف معرفة الله)، وهذا لا شك أنه أعظم واجب، لكن هل هو أول ما يوجه إليك الخطاب به؟ هذا هدف، والهدف لابد قبله من وسائل.
(وقيل: التفكر في دليله)، أي: قالت طائفة من أهل العلم: أول واجب على المكلف هو التفكر في دليل وجود الله؛ لأنه هو الذي يقود إلى الإيمان والإيمان يقود إلى اليقين.
(وقيل: الأول النظر)، أي: وقالت طائفة: بل الفكر مرحلة متقدمة يسبقها النظر، فهو أول واجب، هذا على القول بتجزئة التفكير، ويدل لهذا آيات سورة الطور، قال الله تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:29 - 34]، إلى آخر الآيات.
قد سبق بيان مراتبها في درس ماض، وبيان أن كل دليل من هذه ينبني عليه ما بعده، بإعجاز عجيب جداً.
(وقيل: قصده إليه معتبر)، هذا هو القول الرابع: أن مجرد نية التفكر هو أول واجب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات)، فلو حصل التفكر دون نية له لم يكن واجباً.
هذه الأقوال مردها إلى شيء واحد، ونحن لم نخض في هذه؛ لأن الشيخ ما تعرض لها هنا، وهي مسألة كلامية في الواقع لا يمكن حسمها بسهولة؛ لأن كل قول عليه أدلة، والأقوال كلها في معناها متقاربة.
وبالنسبة لمن يقول: هذا الكلام مصطلحات ما عرفها السلف، يقال له أيضاً: حتى كلمة (مصطلح) التي ينطقها ما عرفها السلف، وحتى كلمة (السلف ما عرفوها)، كل هذه مصطلحات، والكلام لابد فيه من هذا وهو سنة الله الكونية في الكون كله.
وبالنسبة للواجبات لاشك أن الله سبحانه وتعالى فرض فرائض وأوجب واجبات، ولاشك أن هذه متدرجة متفاوتة، ولاشك أن دخولك في الإيمان ونطقك بالشهادتين موجب عليك حقوقاً، وهذه الحقوق متدرجة مترتبة، لكننا في الصلاة نعرف أول واجب منها، على الخلاف فيه أيضاً، فما هو أول واجب منها؟ أول واجب منها تكبيرة الإحرام، وهذا القول قال به بعض أهل العلم لكن أنكر عليه بأنه يجب القيام قبلها؛ لأن التكبيرة لابد أن تكون بعد القيام، والنية مصاحبة لها؛ لأن النية مع نفس التكبير، وقالت طائفة أخرى: الواجب غير تكبيرة الإحرام، وهو الطهارة، والطهارة ما هي الواجبة منها؟ هل هي الوضوء؟ فأول واجب منها: غسل الوجه، وقالت طائفة: بل الاستنجاء والاستجمار واجب سابق عليه، وهكذا.
إذاً: الأقوال مثل هذه وترتيبها مثل ترتيبنا نحن للفقه، وما عرفه السلف، ولا عرفوا أن باب الطهارة قبل باب المواقيت، وأن باب المواقيت قبل باب فرائض الصلاة، وأن باب فرائض الصلاة قبل استقبال القبلة وهكذا هذه ما عرفها السلف، لكن لا نستغني نحن عن هذا، ومن أنكر هذا الترتيب فيما يتعلق بأول واجب على المكلف ينبغي أن ينكر أيضاً الترتيب بين أبواب الطهارة والصلاة والجنائز والزكاة والحج والصوم؛ لأن مجرد أن السلف ما عرفوا هذه ليس حجة، وارجع أنت إلى حياتهم وكن في عصرهم واترك عنك حتى ما توصل إليه العلم الحديث وما توصلت إليه الدنيا السائرة كلها، وارجع إلى هناك فانظر هل تحتاج إلى مثل هذا أو لا؟ لكن الاختراع وليد الحاجة، والزمن مستمر متقدم وقطاره منطلق، وكل عصر يحتاج أهله إلى كثير من الأمور لا يحتاج إليها من سبقه.
وبالنسبة لترتيب الواجبات وكذلك ترتيب العلوم، هو من الوسائل المتخصصة التي تبقى لأهل الاختصاص وإنما يبحثها طلاب العلم وأهله فقط، أما بالنسبة لمن يدعى إلى الإسلام فلا يقال له أولاً: لابد أن تنوي الدخول في الإسلام، ولابد أن تنوي الاغتسال، ولابد أن تنوي الصلاة، بل نجعله يصلي أولاً في البداية حتى لو كانت الصلاة باطلة في حق غيره، ولذلك يتجاوز عن الشخص الحديث عهد بالإسلام حتى في مسائل العقائد.
ولما تزوج منظور بن زبان بن سنان بزوجة أبيه مليكة في خلافة عمر، ورفع الأمر إلى عمر سأله: هل قرأت عليك سورة النساء؟ فقال: لا.
فحلفه خمسين يميناً ما سمع سورة النساء، وفيها قول الله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22]، ثم رفع عنه الحد بذلك، ولذلك فحديث العهد بالكفر يعفى عنه في بعض الأمور فقط، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا قومك حديثو عهد بكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم)، ولذلك فإن منظور بن زبان بن سنان يقول: ألا لا أبالي اليوم ما صنع الدهر إذا منعت مني مليكة والخمر(37/17)
أولية الله وحدوث الخلق
الله تعالى هو خالق الخلق من عدم، وقد كان الله ولا شيء سواه، فله الأولية المطلقة التي لم تسبق بعدم، كما أن له الأسماء الحسنى التي أصلها ومرجعها لفظ الجلالة، وله الصفات العلا المنزهة عن كل نقص وتشبيه.(38/1)
معنى العقائد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
يقول الشيخ حفظه الله تعالى: (العقائد).
والعقائد جمع عقيدة، وهي ما يعتقده الإنسان، أي يجزم به جزماً لا يقبل الشك، والمقصود به أن هذه الأمور المذكورة هنا أكثرها أمور نصية جاءت في القرآن أو في السنة، فمن عرف أنها نصية وجب عليه الإيمان بصدقها وصحتها، ومن لم يعرف ذلك ولم يسمعها فهو غير مطالب إلا بالأصول الستة التي هي أركان الإيمان، فلا يطالب الإنسان بمعرفتها تفصيلاً إلا إذا سمع الوحي الذي نزل فيها، ومن هنا فإن كثيراً من الصفات التي تسمعونها هنا إنما جاءت في أحاديث آحاد ولم يعلّمها الرسول صلى الله عليه وسلم لكل الأمة.
وكذلك بعض العقائد التي هي معروفة لدينا اليوم كانت في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفها إلا قلائل.
فمثلاً: عذاب القبر من هذه العقائد التي يجب الإيمان بها، لكنه قد ثبت في الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها على قربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن تعلم عذاب القبر، حتى جاءت امرأة من اليهود فاستعاذت من عذاب القبر فأنكرت عليها عائشة، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرها أن عذاب القبر حق.
ولم يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عامة الناس بعذاب القبر إلا في خطبته عندما كسفت الشمس عند موت إبراهيم، وهذا أمر متأخر جداً، ففي حديث أسماء في الصحيحين أنه ذكر في خطبته عند كسوف الشمس عذاب القبر، وفتنة القبر، فقال: (إنكم تفتنون في قبوركم مثل -أو قريباً من- فتنة المسيح الدجال -لا أدري أي ذلك قالت أسماء - فيقال للرجل: ما ربك، وما دينك، وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والمبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد هو محمد هو محمد -ثلاثاً- جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا، وأما المنافق أو المرتاب -لا يدري أي ذلك قالت أسماء - فيقول: هاه هاه لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقولان له: لا دريت ولا تليت، ويضربانه بمرزبة معهما لو اجتمع عليها أهل منىً ما أقلوها).
وفي رواية في الصحيحين: (ويضربانه بين قرنيه) وفي رواية: (ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن).
فعلم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا عامة الناس، وهذا فيه إثبات لفتنة القبر ولعذاب القبر؛ ومن فتنة القبر ذكر السؤال والامتحان، وفي عذاب القبر ذكر هذه الضربة التي يصيح منها صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن، وهي من عذاب القبر.
وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس من أصحابه: (إن الله يضحك إلى المصلي في جوف الليل فقال رجل: أويضحك ربنا عز وجل؟ قال: نعم.
فقال: لا يعدم عبد من رب يضحك خيراً)، فدل هذا على أن بعضهم لم يكونوا يعرفون أن صفة الضحك ثابتة لله سبحانه وتعالى، ونظير هذا كثير في الأحاديث الصحيحة.(38/2)
الكلام على لفظ الجلالة
ابتدأ الشيخ هذه العقائد بذكر اسم الله عز وجل الذي يدل على ذاته وجميع صفاته وهو الله، وهذا الاسم يدل على الذات وجميع الصفات.(38/3)
اشتقاق لفظ الجلالة
وقد اختلف فيه هل هو من العربية أو من غيرها: فقالت طائفة من أهل العلم: ليس من العربية، بل هو اسم لله سبحانه وتعالى بكل اللغات، ولكن هذا لا يناسب؛ لأنه عرف في كثير من اللغات إطلاق اسم على الله غير هذا الاسم، ولا يعرف كثير من أصحاب اللغات هذا الاسم، لكن يمكن أن يقصر على اللغات السامية مثلاً، فهو معروف بالعبرية والعربية وغيرها من اللغات السامية.
وعلى أنه من العربية اختلف فيه: هل هو مشتق أو مرتجل: فقالت طائفة من أهل العلم: هو مرتجل لأن صورته ليست على صورة الأسماء المشتقة؛ لأن الأسماء المشتقة إما مصدر أو اسم فاعل أو اسم مفعول، أو صفة مشبهه أو أفعل تفضيل أو وزن مبالغة، وليس هذا الاسم شيئاً من ذلك.
لكن قالت طائفة: هو إله عرّف بأل.
وهذا غلط من ناحية التصريف؛ لأن إلهاً إذا عرف بأل قيل فيه الإله ولم يقل فيه الله، لكن قيل: حذفت الهمزة لصعوبتها في النطق، ولا شك أن الهمزة يقع التكلف في النطق بها، ولهذا من العرب من يبدلها هاءً، كما في قول الشاعر: ألا يا سنا برق على قلل الحمى لهنك من برق علي كريم ولذلك يقول الناظم رحمه الله: والهمز في النطق به تكلف فسهلوه تارة وحذفوا وأبدلوه حرف مد محضا ونقلوه للسكون فهذا يدلنا على صعوبة النطق بالهمزة، ولذلك إذا حذفت الهمزة فيقال: (الله) لأن (أل) ستدغم بلام إله فيكون الله.
وعلى كل فإن كان مشتقاً فإما أن يشتق من (لاه) بمعنى احتجب لأنه لا تدركه الأبصار، وفي هذا يقول الشاعر: لاهت فما عرفت يوماً بخارجة يا ليتها برزت حتى عرفناها لاهت: أي احتجبت، أو أن يكون بمعنى أن (الله) ارتفع، ومنه قيل للشمس (إلهة) قال الشاعر: تروحنا من الدهناء عصراً وأعجلنا الإلاهة أن تغيبا وقيل من (أله) إليه، بمعنى لجأ إليه، لأنه الملجوء إليه في كل الأمور، ومن هذا قول الشاعر: ألهت إليكم في أمور تهمني فألفيتكم فيها كراماً أماجدا وقيل: هو من أُله إلهة كعبد عبادة وزناً ومعنى، ولكن الراجح أن هذه الكلمة ليست من أصل العربية، وإنما هي مشتقة من الإله.(38/4)
لفظ الجلالة من أعظم أسماء الله
وعلى كل فإنه لم يرد في القرآن من أسماء الله الحسنى المستعملة استعمال الأسماء إلا الله أو الرحمن فقط، وبالنسبة لبقية الأسماء فإنما جاءت مستعملة في القرآن استعمال الصفات، وكذلك في السنة.
فمثلاً جاء هذا الاسم فاعلاً بقول الله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل:51] وجاء مبتدأً: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255].
وكذلك جاء في محل نصب عن المفعولية في قوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:39] {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64].
وكذلك الرحمن استعمل استعمال الأسماء في قوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، وفي قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ولم يرد استعمال غير هذين الاسمين استعمال الأسماء في القرآن كله ولا في السنة.
فدل هذا على أن هذين الاسمين من أعظم أسماء الله سبحانه وتعالى، ولهذا أتى بهذا الاسم مبتدأ هنا وأخبر عنه بكل ما يأتي من الصفات فقال: (الله حق).
و (حق) بمعنى موجود ثابت، ويعبر عنها في الكلام بالموجود، لكن لم ترد النصوص بإطلاق (الموجود) على الله، وإنما أطلق الفعل: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:39] لكن لم يرد لفظ (الموجود) في النصوص مطلقاً على الله سبحانه وتعالى، فلذلك اختار هذا الألفاظ الواردة في النصوص.(38/5)
ذكر أسماء الله الحسنى
قال الناظم: (الله حق) والله تعالى يقول: {وأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:25] وقد عد الحق في الأسماء التسعة والتسعين، كما في حديث أبي هريرة في الترمذي وابن خزيمة والمستدرك.
(إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة: هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت -وفي رواية المغيث- الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب -وفي رواية: القريب- المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين - وفي رواية: المبين- الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور).(38/6)
معنى الحق في أسماء الله
قوله: (حق) المقصود بها ما يشمل أمرين: فالحق يطلق على الصدق الثابت المقابل للكذب، فيقال: حق قوله، بمعنى صدق، ويقال: حق الأمر، بمعنى استقر، وكلاهما مقصود بالمعنى، فالحق يطلق على خلاف الكذب وهذا إنما هو في الأخبار، ولكن المقصود أن الأخبار الواردة عن الله تعالى وفي وصفه حق.
ويطلق على المستقر، والمقصود بذلك وجوده وعدم تغيره فلا تعروه الحوادث والآفات، ولا تحل به السنة ولا النوم، فهو حي قيوم دائم على ما عليه كان قبل أن يخلق الخلق.
ومن المناسب أن يذكر هذا الوصف خبراً عن لفظ الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أيضاً يتضمن كثيراً من صفاته سبحانه، فيتضمن القومية والدوام والبقاء والملك والجبروت وغير ذلك من الصفات.(38/7)
الكلام على أولية الله تعالى(38/8)
تقسيم الزمان إلى وهمي وحقيقي
قوله: (أول): أتى بهذه الصفة وهي الأولية، ومعناها: نفي العدم السابق للوجود، ولا يقصد بها أنه أول شيء سيسترسل وراءه ما بعده، فالمقصود أنه لم يمض زمان إلا وهو موجود فيه.
والمقصود (بالزمان) هنا ما كان حقيقياً وما كان وهمياً، فالزمان ينقسم إلى قسمين: إلى زمان حقيقي وهو منذ خلق الله السماوات والأرض إلى أن ينتهي الزمان.
والقسم الثاني: الزمان الوهمي والمقصود به ما نتصوره نحن زماناً وليس زماناً، وهذا ما قبل خلق العالم فإنه يسمى أزلاً والأزل أزمنة متوهمة لا يطلق عليها زمان في الواقع؛ لأن الزمان هو اسم للوحدات المعروفة بالليل والنهار، وما كان قبل خلق السماوات والأرض ليس فيه ليل ولا نهار فلا يوصف بالزمان، لكن يسمى بالأزل.
ومن هنا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن الأحاديث الواردة في أول الخلق لا تعارض بينها، فإنه جاء في الحديث: (أول ما خلق الله القلم) وكذلك ما جاء في أن العرش سبق ذلك: (وكان عرشه على الماء)، فيقول: القلم والعرش والماء كل ذلك كان قبل الزمان، والأولية إنما تتصور بالزمان فيما له وحدات، فتكون هذه الدقيقة قبل الدقيقة الأخرى وتلك قبل التي تليها وهكذا.
وهذا الموضوع سنفصله إن شاء الله تعالى عند الكلام في قدم العالم لأن بعض الناس يتهمه بأنه يرى قدم العالم؛ لأنه لم يفهم كلامه في هذا المجال.(38/9)
أولية الله ليس لها ابتداء
وهذه الأولية ليس لها ابتداء كما قال ابن أبي زيد رحمه الله: (ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انتهاء)، وهذه من الأمور التي لا يدركها العقل دون وحي، فالعقل نظراً لأن نطاقه الوجود الضيق الذي سبقه عدم ويلحقه عدم، لا يمكن أن يسلم صاحبه إلا إذا سلم للوحي، والإنسان لا يتصور إلا الشيء الذي يكون في المكان لأنه هو كذلك.
ومن هنا قال الغزالي: إن العقل بمثابة المائع إذا صب في شيء أخذ شكله، أي: أخذ شكل الشيء الذي يصب فيه، فالعقل صب في الإنسان، والإنسان حادث وسيعدم فلم يستوعب العقل إلا ما كان كذلك.
ومن هنا فتصورات الإنسان ناشئة عن تشبيهه بنفسه وبما يعرفه من هذه الكائنات، ومن هنا جاءت فكرة التشبيه وفكرة التعطيل، وكلها ناشئة عن أن عقل الإنسان لا يتصور إلا ما كان كالإنسان مما يسبق وجوده عدم وسيلحق وجوده عدم، وهكذا، وما سبق وجوده لا يمكن أن يدركه عقله، وما بعد عدمه أيضاً لا يمكن أن يدركه عقله، ومن هنا لا يتجاوز العقل حدوده وعليه أن يسلم بالوحي، وإذا تجاوزنا نطاق العقل وأخذنا بالوحي، فالوحي يغطي ما وراء ذلك من المساحات التي وراء العقل.(38/10)
الكلام على لفظ القديم
ويقابل صفة الأولية عند المتكلمين (القديم) فيطلقون على الأول القديم، والقديم لم تأتِ في القرآن ولا في السنة صفة لله سبحانه وتعالى، وإنما جاء الأول لقول الله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3].
فأما القديم فإنها من إطلاقات المتكلمين، وهي تطلق على غير الجديد؛ لقول الله تعالى {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39]، فالمقصود به: الذي قد التوى واعوج من قدم مدته.
(فالأول) صفة ثابتة لله سبحانه وتعالى واسم من أسمائه، وإطلاقها لا محذور فيه لأنها جاءت في القرآن، وفي السنة: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء)، أما القديم فلم تأتِ، والذين يطلقونها من أئمة هذه الأمة وعلمائها إنما يطلقونها من باب المجاراة؛ لأنها أصبحت مصطلحاً، ولذلك تجدونها في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ولا يقصد بذلك إثبات صفة لم ترد في النصوص، وإنما يقصد المجاراة، لأن الناس إذا تكلموا في الأولية عبروا عنها بالابتداء، وذكروا معها القدم.(38/11)
كان الله ولا شيء معه
وشرح الأولية بقوله: (كان ولم يكن سواه)، وهذا لفظ حديث: (كان الله ولا شيء معه)، فالمقصود بذلك سبقه للزمان وأنه لم يمض زمان وهو غير موجود فيه، ولم يسبق عليه عدم قط، فمن أجل هذا قال: (كان ولم يكن سواه)، ومعناه أنه سبق مخلوقاته كلها، فقد كان الله ولا شيء معه، ثم بعد ذلك خلق الخلق، ولم يزل يخلق ما شاء.
(ولم يكن سواه): جملة حالية مقرونة بالواو، أي: والحال أنه لم يكن سواه، والمقصود بسواه: كل المخلوقات، ولا يدخل في ذلك صفات الله لأنها ليست من خلقه، فإذا قلنا: (كان) اشتمل ذلك على ذاته وصفاته كل ذلك كان موجوداً، فلم يستفد من الخلق صفة الخالق، فهو الخالق ولا خلق، وهو الرازق ولا رزق ولا مرزوق، وهو العالم ولا معلوم، فكل هذه الصفات كان متصفاً بها قبل أن يخلق خلقه، ولم يتجدد عليه أي شيء، لكن تجددت الأفعال فقط وسيرد مثل ذلك.(38/12)
الكلام على إنشاء الخلق
(ثم من بعد العدم أنشأ خلقه): بعد أن كان الكون كله معدوماً أنشأه الله سبحانه وتعالى، والمقصود بالإنشاء الخلق على غير مثال سابق، ويسمى إبداعاً أيضاً ويسمى فطراً: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1] معناه: الذي فطرهن والذي فطرها، ومعناه خلقها على غير مثال سابق، ولم يسبق ذلك أي مثال يحتذى، وهذا الغاية في الإبداع والإعجاز.
وهذا الإنشاء هو النشأة الأولى التي هي من أدلة النشأة الآخرة، كما جاء ذلك في كثير من الآيات في القرآن، فالنشأة الأولى إنشاء الخلق من عدم، والنشأة الآخرة إعادته بعد أن عدم.
فالإنسان مثلاً كان معدوماً فخلقه الله وأنشأه ثم يموت ويفنى ويبلى فيعيده الله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]، وهي من أدلة البعث، فالله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه عدداً من أدلة البعث منها النشأة السابقة، فمثلاً قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:77 - 78]، أي: نسي النشأة السابقة {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79].
كذلك قال تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:50 - 51].
وفي سورة الواقعة: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ} [الواقعة:58 - 62].
فالنشأة الأولى هي دليل النشأة الآخرة.
والإنشاء يقتضي خلقاً من غير مادته، فيقال: أنشأ فلان في سيره؛ لأنه أحدث المشي من غير مادة سابقة، ويقال: أنشأ قصيدة.
أي: قالها من دون أن ينشدها.
ويقال: هذا الشعر إما منشد وإما منشأ، فالإنشاد معناه: أن تقرأ شعراً قد قاله من سواك، والإنشاء: أن تقول ما لم تسبق إليه.(38/13)
مخالفة الفلاسفة في حدوث الكون
قال: (أنشأ خلقه)، وهذا لا يخالف فيه إلا الفلاسفة؛ فإنهم يرون أن الهيولي كانت موجودة قبل نشأة الخلق، والهيولي يطلقونها على مادة الكون، فيرون أن الكون من مادة كانت موجودة قديماً فأخرج الله منها هذا العالم كله، ومن هنا يرون قدم العالم، وقد كفروا بذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبر أنه خلقه، ولا يمكن أن يخلق ما كان موجوداً لأن تحصيل الحاصل محال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16].
وهؤلاء الذين يزعمون الهيولي أخذوا ببعض الشبه في فهمهم من القرآن، منها قول الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] فيقولون: كانت مادة السماء الدخان، وكذلك قالوا: كان عرشه على الماء، فهذا دليل على أن الماء سابق، ولهذا قال: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30].
لكن الإجابة عن هذه الشبهات بأن الله سبحانه وتعالى يقلب مخلوقاته فيخلق الشيء على صورة أولاً ثم ينقله لناحية أخرى، وهذا أبلغ في الإعجاز، فيخرج الشيء من ضده كما يخرج النار من الشجر الأخضر، وكما يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.
فكذلك هذه السماء القوية كانت من قبل خلقها أولاً دخاناً فقط، ثم جعل هذا الدخان على ضد هيئته تماماً، وهذا من تمام قدرته ومن تمام إبداعه للكون، ولا يقتضي هذا أن الدخان قديم بل قد أحدثه الله وأنشأه ثم خلق منه السماء.
كذلك قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7]، فإن هذا لا يقتضي إلا سبق العرش والماء لخلق السماوات والأرض فقط، لكن لا يقتضي أن ذلك من غير سبق بعدم، بل هو مسبوق بالعدم؛ لقول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] فيدخل في ذلك العرش والماء.(38/14)
كلام ابن تيمية على قدم العالم
وأما ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته (رسالة الكرسي) فإنه ذكر فيها ما ظاهره أنه يوافق الفلاسفة في ذلك، لكن الذي يبدو لي أن مقصوده أن الأزل إنما هو أزمنة متوهمة فقط، ومن هنا فيقول: إن ما كان قبل خلق السماوات والأرض من المخلوقات ليس بعضه سابقاً بعضاً بمعنى السبق الذي نفهمه نحن؛ لأننا نفهم السبق بمعنى أن هذه الدقيقة قبل هذه وهذه الساعة قبل هذه، وهذا الليل قبل هذا النهار مثلاً، لكن قبل خلق السماوات والأرض لا زمان، فيكون الترتيب إنما هو حسب إرادة الله ومشيئته لا لذات الكون ولا لذات الأشياء أنفسها.
وقد أبعد النجعة في الاستدلال حتى ذكر كثيراً من الأمور، منها مثلاً: قضية جاذبية الأرض؛ فإن الأجرام إذا اقتربت من الأرض تأثرت بجاذبيتها فتستقيم في سيرها، وكلما ابتعدت عنها نقصت هذه الجاذبية فأصبح التوازن مختلاً.
لكن هذا ليس دليلاً على المراد ولا له به علاقة.
فلذلك كان اللازم أن لا يتعمق الشيخ رحمه الله في هذا المجال، وهو من الأمور التي ينبغي الاقتصار فيها على الوحي وعدم تعدي العقل مجاله، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وما من أحد إلا وله أغلاط.(38/15)
تكاثر الخلق
(أنشأ خلقه): المقصود بالخلق المخلوقات وهو مصدر يطلق على المفعول، والمصدر كثيراً ما يطلق على المفعول، والعكس أيضاً صحيح فيطلق المفعول ويراد به المصدر.
والمقصود بذلك ما خلق من المخلوقات على حسب ترتيبها في الوجود، فإن الله يخلق شيئاً ثم يخلق لذلك الشيء عدة أشياء، كالإنسان خلقه من نفس واحدة وأخرج منه هذا البشر الكثير، وهكذا كثير من الكائنات يجعلها في بداية الشيء واحداً ثم يكثره ويخرج منه الأضعاف المضاعفة.
وهذا فيه من الحكم الشيء الكثير إذا فهمه الإنسان، فيكون الشيء في الأصل واحداً ثم يتولد عنه ما لا حصر له، فكذلك الحسنات في تضعيفها، كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261].
فإذا فهمنا هذا في المحسوسات فهمناه في المعقولات، وفهمناه في الأجر وفهمناه في أمور الآخرة، وفهمنا أن الإنسان الواحد إذ كان قد أخرج الله منه خلقاً وكان أباً لقبيلة، فلا يستغرب أيضاً تضخيم جسمه يوم القيامة، فكل الناس من أهل الجنة سيكونون على صورة آدم، وطوله ستون ذراعاً في السماء، وسبعة أذرع بالعرض.
وكذلك فإن الكفار سيضخمون يوم القيامة، فمجلس الكافر في النار كما بين مكة والمدينة، وضرس الكافر في النار كجبل أحد، ويمدد الله بطونهم ووجوههم وبالأخص الذين يمنعون الزكاة، فقد جاء فيهم أن الله يوسع بطونهم وظهورهم ووجوههم حتى لا يقع دينار على دينار ولا درهم على درهم؛ لأنها يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.(38/16)
تمثل الملائكة بالآدميين
ومن هنا يفهم أيضاً تمثل الملائكة في صورة البشر، فإن الملائكة أجسامهم كبيرة جداً كجبريل عليه السلام له ستمائة جناح ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، ومع ذلك يأتي في سورة دحية الكلبي فيجلس في مكان ضيق بين الناس، ويجلس معهم كأنه رجل لا يزيد عليهم في قامته ولا في عرضه.
وقد اختلف العلماء في هيئة ذلك فقالت طائفة: إنه لما عرفنا التكثير في خلق الله عرفنا التقليل فيه، فكما يكثر الخلق يقلله أيضاً، كما قال تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1] والزيادة في مقابلها النقص، فينقص من الخلق ما يشاء.
وقالت طائفة: بل يعدم ما زاد على تلك الصورة ويخرج جبريل في تلك الصورة، ثم يعيد الله إليه أجنحة أخرى بخلق جديد.
وقالت طائفة: بل تنسلخ روحه من بدنه فتأتي الروح في تلك الصورة فقط.
وقالت طائفة: بل إنما يمثل ذلك للعيان فيراه الناس، والواقع أنه جبريل على صورته الحقيقية، لكن الله جعل هذا في أعيننا على هذه الهيئة، وهذا أقرب الأقوال للصواب.
فهو مثل تمثيل الجنة والنار لرسول الله صلى الله عليه وسلم في عرض حائط المسجد يوم الكسوف؛ فإنه عندما خطب الناس قال: (ما من شيء لم أكن أريته إلا أريته في مقامي هذا حتى الجنة والنار).
وذكر أن الجنة والنار مثلتا له في عرض الحائط، وتقدم إلى الجنة حين مثلت له وتأخر عن النار حين مثلت له، وذكر أنه أراد أن يأخذ لهم عنقوداً واحداً من العنب، ولو أخذه لعاش منه الناس حتى تقوم الساعة، ولكن الله لم يقدر ذلك، بل جعل هذا مختصاً بالجنة، فنعيم الجنة لا يفنى ولا يبلى.(38/17)
يخلق الله ما يشاء ويختار
(أنشأ خلقه اختياراً): هذا إثبات صفة أخرى لله سبحانه وتعالى وهي صفة الاختيار وعدم الإكراه، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، وليجزم أحدكم المسألة فإنه لا مكره له).
فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] ومن المناسب جداً ذكر الاختيار بعد ذكر الخلق؛ لأن الله عطفه عليه بقوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] فلذلك قال هنا: (أنشأ خلقه اختياراً).
واختياراً.
معناه: اصطفاء للهيئات والصور، فالله سبحانه وتعالى بالإمكان أن يخلق أي شيء من الخلق على أية صورة شاء، كما قال تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:8] ولحكمته اختار لكل صورة ما يناسبها.
وقد بحث العلماء هنا في مسألة، وهي ما ذكره الغزالي رحمه الله في إحياء علوم الدين حيث قال: (ليس بالإمكان أبدع مما كان)، فعندما عرضت هذه المسألة في كتابه على علماء المغاربة في دولة علي بن يسر المكاشفي في بداية القرن السادس الهجري، أمر بتحريق الكتاب على الزيت وتحريق كتب الغزالي كلها؛ لأن العلماء حكموا بأن هذا ضلال.
لكن التصور هنا متباين، فـ الغزالي رحمه الله يرى أن الله سبحانه وتعالى عندما أثبتنا أنه لا يمكن أن يخلق على أساس الغرض وإنما يخلق على أساس الحكمة، فإن حكمته مقتضية لأن يكون كل شيء أبدعه على أحسن ما يمكن في علمه هو، فكل إنسان الآن خلق على صورة معينة فهي الأفضل له.
قد يتصور أحدكم أنه الآن كان بالإمكان أن يكون أطول من هذا أو أحسن من هذا الشكل؛ لكن ذلك شراً له، وأفضل شيء له وأتمه هو ما خلقه الله عليه.
وحتى وإن كان معيباً أو ناقص الخلقة أو مبتلىً بمرض أياً كان فإنه الأفضل له، لأنه في المقابل كان سيقابل ذلك قدر من أقدار الله التي لا نعرفها، وقد تكون في الدنيا وقد تكون في الآخرة.
أقول ما سمعتم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه.(38/18)
آداب طلب العلم
تخصصات العلوم الإسلامية التي اشتغل بها العلماء كثيرة، ومن تعلمها، فوصل إلى حد متوسط من إدراكها، واستطاع تدريس كل واحد من هذه العلوم فهو (العالم)، ومن تخصص في بعضها لم يستحق هذا اللقب، وإنما يستحق أن يدرج في حملة العلم والمتخصصين في بعض جوانبه دون بعض.
وعلى طلاب العلم أن يعطوا هذا العلم حقه من الاهتمام والعناية، وأن يحرصوا على آدابه ووسائله وشروطه، وأن يستشعروا فضله ومزيته.(39/1)
العلم والآداب
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه لطلب العلم، وبعد: العناصر التي سأتحدث عنها في هذا الدرس هي: العنصر الأول: فضل العلم وأهله.
العنصر الثاني: أجر طلب العلم وتعليمه.
العنصر الثالث: الكتب العلمية وفضلها.
العنصرالرابع: شروط طلب العلم.
العنصر الخامس: وسائل تحصيل العلم.
العنصر السادس: أنواع العلوم.(39/2)
فضل العلم وأهله
العنصر الأول: فضل العلم وأهله: إن الله سبحانه وتعالى قد رفع قدر العلماء فأنزلهم أعظم منزلة حين استشهدهم على أعظم شهادة -بعد أن شهد بها، وأشهد بها ملائكته- فقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:18].
وأخبر أنهم وحدهم هم الذين يخشونه حق خشيته فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
وحكم لصالحهم على من سواهم في قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وأخبر أنهم وحدهم المؤهلون لفهم كتابه فقال: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].
وأخبر أنه يرفع درجاتهم في الدنيا والآخرة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
ولم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالازدياد من شيء إلا من العلم فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114].
وقد نوَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه المكانة للعلم وأهله في عدد كبير من الأحاديث منها: ما أخرجه البخاري في الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
ومنها ما أخرجه البخاري في الصحيح من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله المعطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).
ومنها ما أخرجه مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلاّ نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
وأخرج البخاري كذلك في الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكان منها طائفة نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب منها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت عشبًا، فذلك مثل من نفعه الله بما جئت به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به).
وأخرج أصحاب السنن وأحمد في المسند وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالمًا أو متعلمًا).
وقال: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في الماء)، وفي الحديث: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم).
وهذه المنزلة العالية إنما استحقها حملة العلم لأنهم ورثة الأنبياء، فقد صح عن رسول الله صلى عليه وسلم أنه قال: (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر).
وقد أخرج البخاري تعليقًا ووصله ابن أبي عاصم في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما العلم بالتعلّم، وإنما الحلم بالتحلّم).
هذه المنزلة التي هي بهذه المكانة ما نالها هؤلاء إلاّ بأن الله سبحانه وتعالى قد اختارهم لائتمانهم على وحيه؛ فالوحي من عند الله ولم يكن ليجعله بدار هوان، ولن يودعه المفلسين، وإنما يختار له أهل العدالة؛ ولذلك أخرج الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث وأبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله؛ ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين).
وهؤلاء هم ورثة الأنبياء، وهم عدول كل خلف، هم شهود الله تعالى على الناس، وهم قادتهم الذين أمر الله بالرجوع إليهم عند الخلاف، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، ولم يقل: لعلموه جميعًا، وإنما أحال العلم على هؤلاء.
وأحال عليهم -كذلك- عند الجهل فقال: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
وقد جاء في فضل حملة القرآن بالخصوص أحاديث كثيرة مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أهل القرآن هم أهل الله وخاصّته من خلقه).
وحملة القرآن هم حملة حروفه وحدوده ومعانيه، وليسوا حملة الحروف فقط.(39/3)
أجر طلب العلم وتعليمه
العنصر الثاني: أجر طلب العلم وتعليمه: ورد في هذا الكثير من النصوص، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الاشتغال به عبادة، وأنه كالجهاد في سبيل الله، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أجر المشتغل بالتعليم، وما له من المنزلة، وأنه يكتب له أجور من عمل بذلك إلى يوم القيامة، فقد صح عنه أنه قال: (من دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا).
وقال: (بلغوا عني ولو آية).
وقال: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب).
وقال: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرُبَّ حامل فقه ليس بفقيه، ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بطلبة العلم، فقال: (سيفد عليكم رجال يلتمسون هذا العلم، فاستوصوا بهم خيرًا) فأولئك الذين أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم خيرًا يدل على عظم ما هم مشتغلون به، ومزيته في هذا الدين؛ ولذلك أخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن عبد الرحمن أنه كان يقول: (من غدا أو راح إلى المسجد لا يريد إلا ليتعلم خيرًا، أو ليعلمه، ثم رجع إلى بيته؛ كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانمًا).
وقد سئل مالك عن المقرب للقتل الذي لم يبقَ من عمره إلاّ ساعة: في أية طاعة يصرفها؟ قال: (علم يتعلمه).
فقيل: يا أبا عبد الله! إنه لا يعمل به! فقال: (تعلمه أفضل من العمل به).
وقال الشافعي رحمه الله: (طلب العلم أفضل من صلاة النافلة).
وقد نظم ذلك السيوطي رحمه الله فقال: والعلم خير من صلاة نافلة فقد غدا الله برزق كافله قال أهل العلم: بالعلم فُضِّل السلف على الخلف؛ لأن كل عالم ورَّث علمه وتركه لمن وراءه فقد استمرت حياته لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية).
فجعل هذا العلم الذي ينتفع به من عمل ابن آدم الذي لا ينقطع، ومن كسبه المستمر.
ومن هنا فكل منتفع بعلم عالم من الماضين يكتب له أجره وأجر من تبعه على ذلك إلى يوم القيامة؛ وبهذا يعلم فضل السلف على الخلف، كما قال جدي محمد علي رحمه الله: وكل أجر حاصلٍ للشهدا أو غيرهم كالعلماء والزُّهَدَا حصل للنبي مثله على أجور ما كان النبي فعلا مع مزيد عدد ليس يحدُّ وليس يحصي عده إلاّ الأحد إذ كل مهتدٍ وعاملٍ إلى يوم الجزاء شيخه قد حصلا له من الأجر كأجر العاملِ ومثل ذا من ناقص أو كامل وشيخ شيخه له مثلاه وأربع لثالث تلاه وهكذا تضعيف كل مرتبة إلى رسول الله عالي المرتبة ومن هنا يعلم تفضيل السلف وسبقهم في فضلهم على الخلف إذاً: أجر تعليم العلم عظيم؛ لأن المعلم إنما يبلغ عن الله تعالى، وينوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ رسالات ربه، ولأن المفتي كذلك يوقع عن رب العالمين.
وهذه المنزلة العظيمة لا شك أن خطرها عظيم، فكذلك أجرها يكون بهذه المنزلة.(39/4)
الكتب العلمية وفضلها(39/5)
كتابة الحديث
أما العنصر الثالث: ما يتعلق بالكتب العلمية وفضلها.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نهى أن يكتب عنه غير القرآن فقال: (لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه) وكان ذلك خشية أن يجعل في القرآن ما ليس منه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما فعل النصارى حين أدرجوا كلام المسيح بن مريم وكلام الحواريين في الأناجيل.
وبعد هذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة عنه فقد أذن لـ عبد الله بن عمرو بن العاص أن يكتب ما يسمع منه، وأذن لـ أبي هريرة -كذلك- في كتابة الصادقة، وهي صحيفة كانت عنده، كتبها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ابن عمرو يسمي صحفه أيضًا بالصادقة، وقال: (لولا الصادقة والوهط والوفيط ما حرصت على شيء من هذه الدنيا) والوهط والوفيط: أرضان لـ عمرو بن العاص وقفهما على الفقراء وجعل نظارتهما إلى ابنه عبد الله، وهما بجنوب الطائف، والصادقة التي كتب فيها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا العلم.
وكذلك فإن النبي صلى لله عليه وسلم قال: (اكتبوا لـ أبي شاه) وهو رجل من أهل اليمن، حضر حجة الوداع فسمع خطبة النبي صلى لله عليه وسلم وتعليمه للناس فلم يحفظ ذلك، فسأله أن يأمر أصحابه أن يكتبوا له، فأمرهم أن يكتبوا له.
ومن معجزات النبي صلى لله عليه وسلم أن أصحابه لما نهاهم عن الكتابة عوضهم الله بالحفظ العجيب فكان أحدهم يسمع الخطبة بطولها فيحفظها كما هي، ويحفظ الحديث الطويل بألفاظه دون أن يحرف شيئًا من ذلك، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعينهم على الحفظ بالتَّرَسُل في الكلام، وقد كان لا يهذُّ الكلام هذًّا، وإنما قوله الفصل، فلو أراد إنسان أن يعد كلماته لفعل، وكان أيضًا في خطبه يرفع صوته، فقد كانت خطبه تسمع من البلاط، والبلاط خمسمائة متر من المسجد.
وفي الحديث: (كان إذا خطب علا صوته، واحمرت عيناه، واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم) وذلك أبلغ لاستقرار ذلك في النفس.
ومثل هذا في تغييره للمنكر ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها بين مكة والمدينة فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح أقدامنا، وجعلت أعقابنا تلوح؛ فنادى بأعلى صوته مرتين أو ثلاثًا: (ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار)، وكذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويل للأعقاب من النار) ورفع بها صوته.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها يوم مات سعد بن أبي وقاص دخل عليها أخوها عبد الرحمن يتوضأ في حجرتها فقالت: يا عبد الرحمن! أسبغ الوضوء فإني رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ويل للأعقاب من النار).
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر الكلام حتى يفهم عنه كما في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثًا، وإذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاثًا؛ لتفهم) أي: لتحفظ.
وكان أصحابه يراجعون بعض محفوظاتهم عليه كما ثبت في الصحيح من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه دعاء النوم، وأن يجعل آخر كلامه قبل أن ينام هذا الدعاء وهو: (اللهم! أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك؛ رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت) قال البراء: فأعدت عليه فقلت: وبرسولك الذي أرسلت.
فقال: (لا.
وبنبيك الذي أرسلت).(39/6)
تاريخ تدوين الحديث
أول ما بدأ تدوين الحديث أن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أمر بذلك عندما زالت العلة التي من أجلها كان النهي، فقد دونت المصاحف، وكثر حملة القرآن، وأمن أن يخلط بغيره؛ فأمر عمر بن عبد العزيز بتدوين السنة وكتابتها، وتجرد لذلك عدد من الرجال منهم: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وكان من أحفظ هذه الأمة، وكان لا يرى كتابة الحديث في البداية، ولكنه اقتنع أخيرًا بكتابته، ويقال: إنه لم يقتنع بكتابته في أيام عمر بن عبد العزيز وإنما اقتنع في أيام هشام بن عبد الملك؛ وذلك أن هشامًا دعاه فجلس معه على فراشه، وجعل رجالاً من وراء الستر، وأمرهم أن يكتبوا كل حديث يحدثه به الزهري، فقال له هشام: إني أريد أن تحدثني بأربعمائة حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسنادك فيها، فأمسك بيده فحدثه بأربعمائة حديث يعدها، وكتبها أولئك الرجال، فتركه سنة ثم دعاه إلى مجلسه وخلا به، فقال: أريد أن تعيد علي ما حدثتني به العام الماضي فإني قد نسيته، وأمر رجالاً أن يكتبوا أيضًا من وراء الستر، فحدثه بالأحاديث كما هي بترتيبها، ولم يقدم واحدًا ولم يؤخره ولم يغير منها شيئًا، فقارن أمير المؤمنين هشام بين ما كتبه الرجال في العام الماضي وما كتبه هذا العام فلم يجد أي فرق، فعرض ذلك على الزهري، ومن هنا اقتنع الزهري بكتابة الحديث.
بدأ تدوين وكتابة الكتب من ذلك العصر، ولكن إنما ألفت بأسماء وتصانيف وبوبت في أيام أتباع التابعين، واختلف في أول من ألف، لكن اشتهر في كل مدينة بعض المؤلفين، ففي مكة عبد الملك بن جريج، وفي المدينة مالك بن أنس، وفي العراق هشيم الواسطي، وعبد الملك بن صبيح، ويزيد بن هارون، وسفيان الثوري وأضرابهم، واشتهر بالشام الأوزاعي، وبمصر الليث بن سعد.
هؤلاء أوائل من ألفوا، ولم يصل إلينا من مؤلفاتهم إلاّ موطأ مالك.(39/7)
أهمية الكتابة للعلم
الكتب أصبحت شرطًا في العلم ومرجعًا له؛ ولذلك قال عبد الله بن المبارك: العلم صيد والكتابة قيده فلا يمكن أن يحصل على العلم إلاّ بذلك.
وقال ابن المبارك أيضًا: أيها الطالب علمًا ائت حماد بن زيدِ فاطلبن العلم منه ثمّ قيّدهُ بقيدِ لا كثور وكجهم وكعمرو بن عبيد وقد كان خلفاء هذه الأمة ووزراؤها وقادتها يبالغون في الاهتمام بالكتب، وتشجيع أهلها على تأليفها، واشتهر عمل الوراقين في هذه الأمة، وأصبحت الكتب داخلة في كيان هذه الأمة، وأمرًا من حياتها لا يستغنى عنه أبدًا، ولولا ما قيض الله لهذه الأمة من المؤلفين الجهابذة الذين جمعوا العلم في الكتب لضاع علم هذه الأمة، وقد أثنى كثير من الناس على الكتب بسبب أنها حفظت هذا العلم حتى إن أحد الفقهاء يقول: لنا جلساء لا يمل حديثهم ألباء مأمونون غيباً ومشهدا يفيدوننا من علمهم علم ما مضى وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا فلا فتنة نخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا فإن قلت أموات فلست بكاذب وإن قلت أحياء فلست مفندا(39/8)
شروط العلم
العنصر الرابع: شروط تحصيل العلم؛ فقد ذكر أهل العلم لتحصيل العلم سبعة شروط هي:(39/9)
الغربة والرحلة
الشرط الأول: الغربة والرحلة.
فما دام الإنسان بين أهله وذويه مشغولاً بهموم دنياه، فقلما يصفو ذهنه، أو يخلص له وقت لطلب العلم، فإذا رحل واغترب وجد وقتًا للطلب؛ ولذلك يقول أحد العلماء: سأطلب علمًا أو أموت ببلدة يقلّ بها سكب الدموع على قبرِي وموسى كليم الله لم ينل العلم الذي طلبه حتى قال: {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60].
والنبي صلى الله عليه وسلم ما أنزل إليه الوحي حتى (حبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء يتحنث فيه وهو التعبد- الليالي ذوات العدد).
وقد كان كثير من أهل العلم يؤثر الغربة والرحلة في طلب العلم على ما سوى ذلك.
وقد اشتهرت الرحلة من أيام الصحابة إلى زماننا هذا: فقد رحل أنس بن مالك من البصرة إلى المدينة في طلب حديث واحد، ورحل عبد الله بن أنيس من المدينة إلى الشام في طلب حديث واحد، ورحل أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى مصر في طلب حديث واحد.
ثم اشتهرت رحلات التابعين بعد هذا وأتباعهم.
فهذا أمير المؤمنين في الحديث الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري دخل مدن الدنيا وقراها التي يذكر فيها الحديث على رجليه، وكان قد عمي وهو طفل في الرابعة من عمره فكف بصره، وكانت أمه امرأة صالحة؛ فكانت تتصدق وتجتهد في الدعاء -والناس نيام- أن يرد الله على ولدها بصره، فرد الله عليه بصره، واستيقظ من نومه فإذا هو مبصر، فقالت له: (إن الله رد عليك بصرك لتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخدمه) فنذر نفسه للاشتغال بهذا الحديث وحفظه، وقيظه الله لذلك، وقد رحل إلى الأمصار كلها في طلب الحديث، حتى إنه خرج من خراسان يقصد اليمن ليدرك عبد الرزاق بن همام الصنعاني، فلما وصل مكة قيل له: إن عبد الرزاق قد مات، فكر راجعًا إلى البصرة، فلما أتاها قيل: إن عبد الرزاق حي باليمن، فكر راجعًا إلى مكة، حتى لقي من شهد جنازة عبد الرزاق، وكل ذلك على رجليه! وكذلك أحمد بن حنبل ورفيقه يحيى بن معين ورفيقهما إسحاق بن راهويه، خاضوا مشارق الأرض ومغاربها في طلب الحديث وجمعه.
وكذلك المكي بن إبراهيم -وهو شيخ البخاري - قال: (كتبت بإصبعيّ هاتين عن ستين من التابعين، ولو علمت أنه كان يحتاج إليّ لزدت).
والبخاري رحمه الله قد اختار صحيحه من سبعمائة ألف حديث يحفظها.
وقد ذُكر عن أحمد بن حنبل أنه كان يحفظ ألف ألف حديث بالمكرر.
وكذلك روي هذا عن أبي زرعة الرازي فقد كان يحفظ ألف ألف حديث.
وأهل العلم قديمًا يقولون: الأهل والجهل ساكنان في بلدٍ فاصبر عن الأهل أو فاصبر على الثاني(39/10)
التواضع
الشرط الثاني: التواضع لمن يأخذ الإنسان عنه.
فإن طالب العلم لابد أن يتواضع، والتواضع من صفات الكرماء: وإن كريم الأصل كالغصن كلما تزايد من خير تواضع وانحنى وقد أثنى الله به على خيرة خلقه فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63].
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا؛ حتى لا يبغي أحد على أحد).
والذي أحرز العلم لا يمكن أن ينيله ولا أن يعطيه لمن لا يتواضع له؛ لأنه ما ناله إلا بشق الأنفس والتعب الشديد ولهذا قال أحد العلماء: ما ابيضّ وجه باكتساب كريمةٍ حتى يسوِّدَه شحوب المطلبِ ولذلك لا يمكن أن ينيله لمن لا يحترمه ويقدره، ولهذا فإن موسى عليه السلام قال للخضر عليه السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66]، فقال: (هَلْ أَتَّبِعُكَ) بصيغة الاستفهام، ولم يقل: سأتبعك بصيغة القرار، وقال: (عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي) فجعل نفسه طالبًا، وقال: (مِمَّا عُلِّمْتَ) أي: بعض ما علمت، ولم يقل: كل ما عندك، فكان ذلك غاية في التواضع، وهذا التواضع يقتضي الإقبال الكامل على العالم ليأخذ عنه الإنسان علمه، فهذا جبريل عليه السلام لما جاء يعلمنا ديننا جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه؛ وكل ذلك لتمام الإقبال عليه، ليعلمنا أن على المتعلم أن يقبل بكل ذاته على المعلم، حتى يكون مستوعبًا لكل ما يقول، وهذا ما أرشد إليه كثير من أهل العلم، فقد قال أحد العلماء في نصيحته لولده: لـ (معي) الهمام اللوذعي الألمعي سِرْ واجمعن علومه في مجمعِ وكن الوعاء لما يفوه به (معي) لا تفلتنك كلمة من في (معي) (معي): لقب أحد العلماء في بلادنا.
حتى الكلمة الواحدة.
ولهذا قال سحنون لولده عندما أراد السفر إلى المشرق: (يا بنيّ! تقدم مصر وفيها ابن القاسم وأصحاب مالك، وتقدم المدينة وفيها أصحاب مالك؛ فإذا وجدت كلمة خرجت من دماغ مالك ليس عند أبيك أصلها فاعلم أن أباك قد قصر في الطلب).(39/11)
الورع
الشرط الثالث: الورع.
والورع: اتقاء الشبهات بعد اتقاء المكروهات والمحرمات.
وذلك أن العلم نور، ونور الله لا يمكن أن يوضع في المكان الموحش الخرِب، وإنما يختار للسراج الزجاج المضيء اللامع فيوضع فيه، ولهذا قال الشافعي: شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حفظي فأرشَدَني إلى ترك المعاصي وأخبَرني بأنَّ العلمَ نورٌ ونور اللهِ لا يُهدى لعاصي وروي عنه أنه قال: لما أتيت مالكًا جلست في طرف الحلقة فلما انفضت دعاني فقال: (يا بنيّ! إني أرى أن الله قد قذف في قلبك شيئًا من نوره فلا تطفئه بظلمة المعصية).
وقال ابن عباس: (للمعصية وحشة في النفس، وظلمة في الوجه، وانكماش في القلب) وكل ذلك من آثار المعصية.
ولذلك لا يمكن أن ينبسط صاحبها مع العلم، وأن يدرك جزئياته.(39/12)
الجوع
الشرط الرابع: الجوع؛ فمن كان مشغولاً بالمآكل والمشارب لا يمكن أن يحرز ما ترفع إليه الرءوس من العلم، فإنهم يقولون: البِطنة تذهب الفِطنة.
والشافعي يقول: (ما رأيت سمينًا عاقلاً إلاّ محمد بن الحسن الشيباني).
والجوع مدعاة لصفاء القريحة، ولعدم الاشتغال عن العلم كذلك.(39/13)
المخاطرة في طلب العلم
الشرط الخامس: المخاطرة في طلبه، فلا ينال الإنسان هذا العلم حتى يخاطر في طلبه، ولذلك فإن موسى عليه السلام ما نال مطلوبه من العلم حتى ركب البحر في سفينة مخروقة.(39/14)
مخالفة الهوى ومعصيته
الشرط السادس: مخالفة الهوى ومعصيته، قد رتب الله على ذلك الفوز بالجنة {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41].
والمتبع لهواه لا يمكن أن يستغل وقته في طلب العلم؛ لانشغاله باتباع الهوى، وطلب العلم شاق على النفوس، فلذلك يدعو الهوى إلى النوم وإلى الكسل وإلى خلطة الناس، وهذه الأمور لا يُنال معها العلم، فمن كان نوّامًا أو كسولاً أو مخالطًا للناس فلا يمكن أن ينال من العلم الحظ الوافر، ولهذا قال أحد الشعراء: قالت مسائل سحنون لقارئها لن تدرك العلم حتى تلعق الصَبِرَا لا يدركُ العلم بطَّالٌ ولا كَسِلٌ ولا ملولٌ ولا من يألف البَشَرَا (مسائل سحنون) أي: المدونة.(39/15)
العمل بالعلم
الشرط السابع: الاتباع له والعمل به.
فإن العلم ينادي العمل، فإن أجابه وإلا ارتحل، والعلم كالشجرة والعمل كالثمرة، ولا ثمرة إلا بشجرة، ولا خير في شجرة لا ثمر لها.
ولذلك قال جدي محمد علي رحمه الله: العلم من دون العبادة هبا لا يستقر فحريٌ أن يذهبا والعلم في التمثيل مثل الشجرة أما العبادة فمثل الثمرة ففضله من جهة وفضلها من جهة ثمرة وأصلها وهذه الشروط السبعة نظمها ابن هلال بقوله: له تَغَرَّبْ وتواضعْ واتَّرِعْ وَجُعْ وَهُنْ وَاعْصِ هَواك واتَّبِعْ(39/16)
وسائل الحصول على العلم
العنصر الخامس: وسائل الحصول على العلم، وهي سبعة كذلك:(39/17)
الإخلاص لله سبحانه وتعالى في الطلب
الوسيلة الأولى: الإخلاص لله سبحانه وتعالى في الطلب، فالله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، ويقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ} [البقرة:282]، فإذا اتقى الإنسان ربه وأخلص له جعل الله له فرقانًا يميز به بين الحق والباطل، وهذا الفرقان هو بداية الحصول على العلم.
والإخلاص لله سبحانه وتعالى يزيد بركة الوقت والعمر، وهذا ما يحتاج إليه الطالب للعلم، وهو كذلك يزيد بركة العلم؛ فليس العلم عن كثرة الرواية، إنما العلم ما أدى إلى خشية الله.(39/18)
الذكاء
الوسيلة الثانية: الذكاء، فإن كثيرًا من المسائل لا يمكن أن يفهمها الأغبياء، بل اشتغالهم بها من العبث، والاشتغال بما لا يطاق، فإنما يشتغل بالطلب من كان أهلاً له، كما قال أبو العلاء المعري: أرى العنقاء تكبر أن تصادا فعاند من تطيق له عنادا وقديمًا قال أحد الفقهاء: تصدر للتدريس كل مهوّسِ بليد تسمى بالفقيه المدرسِ فحُقَّ لأهل العلم أن يتمثلوا ببيت قديم شاع في كل مجلسِ لقد هزلت حتى بدا من هزالها كُلاها وحتى سامها كل مفلسِ فمن لم يتأهل لذلك بذكائه فلا يمكن أن يزاحم أهل العلم عليه.
والذكاء قسمان: 1 - موهوب.
2 - مكتسب.
فالموهوب منه: ما فطر الله الناس عليه، وقد جعلهم متفاوتين في الذكاء والإدراك.
والمكتسب منه: ما يحصل بالدعاء والعبادة، وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا استغلقت عليه مسألة وصعب عليه فهمها أقبل على الله بالدعاء، فيجتهد ويقول: (يا مفهم سليمان! فهمني، ويا معلم داود! علمني) ويجتهد بذلك حتى تفتح له المسألة.
والأذكياء من الطلبة هم الذين يستحقون ما يوقف على طلاب العلم وما يخصص لهم من بيت المال، وقد قال جدي محمد علي رحمه الله: من واجب الإسلام جمع مالِ تقضى به حقوق بيت المالِ إن لم يكن كحامل علومِ فرض الكفاية من الموسومِ بحسن إدراك مع السريرة والطيب في سجية والسيرة ومن خلا من هذه الأوصافِ منعه لفقد الاتصافِ بل طلب العلم بتلك المرتبة خالٍ من المصلحة المجتلبة بل هو من تكليف ما لم يطقِ وعبث في فعله والمنطقِ وكل ذين حجروه حجرا فكيف يأخذ عليه أجرا ذكره الموَّاق في الإيداعِ فانظر تجده (يوم يدع الداعي)(39/19)
علو الهمة
الوسيلة الثالثة: علو الهمة، فمن كانت همته متدنية اشتغل بما اشتغل به أبناء الدنيا من الحرص على جمعها والحصول على ملذاتها، ولم يكن ليتجرد لطلب العلم وللزوم المشاق، فإنما يصل إلى المشاق من كان من ذوي الهمم العالية، كما وصفت الخنساء أخاها صخر بن عمرو بن الشريد السلمي: أعينيَّ جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لصخر الندى ألا تبكيان الحميد النبيل ألا تبكيان الفتى السيدا رفيع العماد طويل النجا د ساد عشيرته أمردا إذا القوم مدوا بأيديهم إلى المجد مد إليه اليدا فنال الذي فوق أيديهم من المجد ثم غدا مصعدا يكلفه القوم ما عالهم وإن كان أصغرهم مولدا وإن ذكر المجد ألفيته تأزر بالمجد ثم ارتدى وكما قال زياد بن حمل في وصف أحد أصدقائه: إلى المكارم يبنيها ويعمرها حتى ينال أمورًا دونها قحمُ فمن كانت همته عالية يتجشم الأمور حتى ينال أمورًا لا ينالها إلا المقتحمون.
وهذه الهمة العالية هي التي ميزت ابن عباس رضي الله عنهما، فقد روي عنه أنه قال: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في العاشرة من عمري، فذهبت إلى لدة لي من الأنصار فقلت: إن الله قد قبض نبيه صلى الله عليه وسلم وإن علمه في أصحابه، فتعال بنا نجمع علم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لعلنا نسد لهذه الأمة يومًا مسدًا تحتاج إليه، فقال: ومتى يحتاج إلينا؟ دعنا نلعب، فذهبت وتركته).
وما هي إلا سنوات يسيرة حتى أصبح ابن عباس عضوًا في مجلس شورى الأمة الإسلامية، وأصبح عمر يجلسه بين كبار أهل بدر، ويسميه: (فتى الكهول) و (ترجمان القرآن) ولذلك يقول فيه أحد الشعراء: بلغت لعشرٍ مضت من سنيِّـ ـكَ ما يبلغ السّيد الأشيب فهمُّك فيها جسام الأمور وهمُّ لداتك أن يلعبوا ويقول فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه: إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه رأيت له في كل محمدة فضلا إذا قال لم يترك مقالاً لقائلٍ بمنتظماتٍ لا ترى بينها فصلا كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع لذي إربةٍ في القول جدًا ولا هزلا والهمة العالية هي التي تقتضي من الإنسان أن يحرص على معالي الأمور وعلى الازدياد من العلم.
وتكميل المطاف فيه.(39/20)
الحفظ
الوسيلة الرابعة: الحفظ؛ فإن العلم لا يناله إلا من حفظه، ولذلك كانوا يقولون: ليس بعلم ما حوى القِمَطْرُ ما العلم إلا ما حواه الصدرُ القمطر: وعاء الكتب، وما حواه ليس بعلم، إنما العلم ما حواه الصدر؛ ولهذا قال الشافعي رحمه الله: علمي معي حيثما يممت يتبعني قلبي وعاء له لا جوف صندوقِ إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوقِ ويقول ابن حزم رحمه الله: فإن يحرقوا القرطاس لا يحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري يسير معي حيث استقلت ركائبي ويمكث إن أمكث ويدفن في قبري(39/21)
الوقت
الوسيلة الخامسة: الوقت، فيحتاج في تحصيل العلم إلى وقت، ولا يمكن أن يحصله المستعجلون، فلا ينال هذا العلم إلا بأن يعطيه الإنسان وقتًا جزيلاً من وقته، ولا يرضى بهوامش الوقت كما قال ابن عيينة: (إن العلم لن يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك).
ولذلك فإن الذين طلبوه قد تجردوا له، فوفروا له كثيرًا من الوقت، ليس لهم شغل إلا طلب هذا العلم والحرص عليه، يواصلون فيه الليل بالنهار, والنهار بالليل، ولذلك يقول جدي محمد علي رحمه الله في وصف طلبة العلم: وأقصاص طلاب العلوم أمامهم موقرة من هيبة وجلالِ وأكثر طلاب المدارس همه بيان حرام أو بيان حلالِ يظلون لا يألون حتى كأنهم وليس بهم داء مراض سُلالِ وعمارها من كل ضنء كريمة كريم خلال من كريم خِلالِ أَغَرّ كمصباح الظلام بل انه كمثل تَلال العارض الْمُتَلالِ يقيمون فرض الخمس عند ندائها نداء للاعمى أو نداء بلالِ (يظلون لا يألون) أي: ليس لهم أية راحة، يجتهدون طيلة الوقت.
(وليس بهم داء مراض سُلال) أي: كأنهم مصابون بالسل الرئوي، وليس بهم داء.
ويقول أيضًا: لي جيرة كنجوم الصحو غُرَّانُ شمٌّ طهارى ثيابًا أينما كانوا من كل قطر تواخي بينهم كرمًا هماتهم وأروم القوم شُذَّانُ يزدان بالعلم أهل العلم كلهم والعلم من جيرتي يسمو ويزدانُ لا أستلذ مقامًا بينهم فرقًا من الفراق ولا آسى إذا بانوا(39/22)
الشيخ
الوسيلة السادسة: الشيخ؛ فيحتاج المتعلم إلى شيخ ناصح يعلمه ويرشده وينتخب له، ويتعلم من أدبه وسلوكه، وأثر العلم عليه قبل أن يتعلم من علمه، كما قالت العالية أم مالك رحمه الله: (اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل أن تتعلم من علمه)، وقديمًا قال أبو حيان رحمه الله: يظن الغمر أن الكتب تهدي أخا فهم لإدراك العلومِ وما يدري الجهول بأن فيها غوامض حيرت ذهن الفهيمِ إذا رمت العلوم بغير شيخ ضللت عن الصراط المستقيمِ وتلتبس الأمور عليك حتى تصير أضل من توما الحكيمِ وأهل الحديث يجرحون الراوي بسرقة الحديث، أي: بتحديثه من غير سماع من الشيخ، فإذا كان يأخذ من الكتاب فإنه مجروح بذلك لديهم.(39/23)
الزميل المرافق
الوسيلة السابعة: الزميل المرافق الذي يعين الإنسان على الطلب، ويزيل عنه النكد، ويساعده في الفهم والحفظ، وينافسه في الازدياد من هذا العلم، وهذا الزميل يستفيد منه الإنسان أكثر مما يستفيد من الشيخ نفسه؛ لكثرة الملازمة والمنافسة، ولذلك يقول أحد العلماء: وليس كل فتى يدري حقيقة ذا إن التناوة تطفي ذهن كل فتى والتناوة: عدم المذاكرة مع الزميل والقرين، بل طالب العلم عرضة للنكد والتأثر بغربته وعزلته، ولا يزيل ذلك عنه إلا معاشرته للأصدقاء الأوفياء والأذكياء الذين يحرص على منافستهم، والزميل المقارن للإنسان الذي ينافسه في الطلب معين له على الحفظ وعلى الاستمرار، ولذلك فإن الإمام سليمان بن مهران الأعمش رحمه الله بحث عن زميل في قوة ذهنه وعلو همته فلم يجده، فاشترى تيسًا فربطه عنده، وكان يقرأ عليه العلم ويقول: أفهمت؟! فاشتهر تيس الأعمش بالذكر بين الناس لذلك.
ويتدرب الإنسان مع زميله على التدريس، والبحث والمناظرة، وكل ذلك يحتاج إليه الطالب في تحصيل العلم.(39/24)
أنواع العلوم
ينقسم العلم إلى قسمين: - علوم دنيوية.
- علوم دينية.(39/25)
العلوم الدنيوية
القسم الأول: العلوم الدنيوية هي ما ينفع في تحصيل درهم المعاش، وهي داخلة في تحقيق الاستخلاف في الأرض؛ ولهذا فهي -من هذا الوجه- فرض كفاية على المسلمين، وهي مثل العلوم الطبيعية التي يحتاج إليها الناس، وكذلك ما يحتاجون إليه من العلوم البحتة.(39/26)
العلوم الدينية
القسم الثاني: العلوم الدينية، وهي أهم، وهي التي ترجع إلى الدين وحفظه والعناية به، وهي التي ورد فيها الفضل السابق، وإنما تذكر الأخرى معها تبعًا لها، وتنال من فضلها بنية صاحبها إن أخلص، وهذه تنقسم إلى قسمين: مقاصد ووسائل أو مبادئ ومتمات.
ويمكن تقسيمها -أيضًا- إلى سلالات، فمثلاً في علوم القرآن نجعل القرآن -مثلاً- قسمًا مستقلاً من أقسام العلوم الدينية، وفي هذا القسم خمسة علوم هي: 1 - علم التجويد: الذي هو أداء القرآن والنطق به، بصفات الحروف ومخارجها، وكيفية النطق بها.
2 - القراءات: اختلاف الأحرف، وما اختلف فيه القراء.
3 - التفسير: بيان معاني القرآن وما يستنبط منه.
4 - الرسم والضبط: كتابة المصحف التي كتبها الصحابة, والضبط الذي ضبطه به التابعون، من النقط والشكل.
5 - علوم القرآن: وهو يشمل أسباب النزول، والمكي والمدني، والمحكم منه والمتشابه، وإعجازه بأوجه الإعجاز المختلفة، وتاريخ المصاحف وكتابتها، وتراجم الرواة والقراء.
إذًا: هذه خمسة علوم، بعدها مجموعة أخرى هي الحديث، ويدخل فيه ستة علوم هي: 1 - علم المصطلح: مصطلحات أهل الحديث.
2 - علم متون الحديث، وهو علم الحديث رواية.
3 - علم شروح الحديث، وهو: ما يستنبط من الحديث وما يستخرج منه من العلم، وذلك في شروح الحديث المعروفة.
4 - علم الرجال وعلم الجرح والتعديل، ويدخل فيه الطبقات -أيضًا- لنقلة الحديث.
5 - العلل: بيان علل الحديث وبيان الفرق بين الصحيح والضعيف.
6 - علم التخريج ودراسة الأسانيد، ببيان من أخرج الحديث ومواضعه منه، ودراسة الأسانيد حتى يحكم على الحديث.
ثم السلالة الأخرى: علوم الفقه، وهي عشرة: 1 - علم الفقه المذهبي في المذاهب، ومذاهب أهل السنة المشتهرة أربعة هي: المذهب الحنفي، والمذهب المالكي، والمذهب الشافعي، والمذهب الحنبلي، ويمكن أن يضاف إليها -أيضًا- المذهب الظاهري، أما المذاهب المندثرة لأهل السنة فهي كثيرة، وهذه المذاهب لابد من دراستها من كتبها المتخصصة فيها، وأخذها من الكتب التي تقارن لا يفي بها، ويكثر فيها الغلط.
2 - علم الفقه المقارن، وهو: مقارنة هذه المذاهب بما يسمى بالخلاف العالي والخلافيات ونحو ذلك.
3 - علم القضاء، وهو علم مستقل ألف فيه كثير من التآليف المستقلة، في أدب القاضي والبينات والإقرار والشهادات ونحو ذلك.
4 - علم فقه النوازل، وما يتعلق به كالفتاوي، وقد ألف في كثير من الكتب.
5 - علم الفرائض، وهو: ما يتعلق بالتركات وقسمتها.
6 - علم الآداب الشرعية، وقد ألف فيه عدد من الكتب.
7 - علم أصول الفقه.
8 - علم تخريج الفروع على الأصول، وهو الذي تعرف به فائدة أصول الفقه.
9 - علم القواعد الفقهية والأشباه والنظائر والفروق.
10 - علم تاريخ التشريع وبيان نشأة المذاهب وتدوينها.
ثم سلالة العلوم العقلية، وهي سلالة مستقلة، ومنها علم التوحيد، ويبحث عن حقوق الله سبحانه وتعالى، وشرح الإيمان وأركانه وما يتعلق به، ويشمل ذلك مشاهد القيامة وغير ذلك.
ثم علم الكلام وهو المسائل النظرية في العقائد، والمناظرات فيها، وذكر الفرق والأقوال، ويمكن أن يقسم هذا إلى قسمين: 1 - علم الكلام النظري.
2 - علم الفرق والمقالات وهو علم مستقل أيضًا.
ثم علم الجدل وهو يشمل قسمين: 1 - الجدل الفقهي.
2 - الجدل العقدي.
ثم علم المنطق، وعلم آداب البحث والمناظرة، وآداب الخلاف، وأسباب الخلاف.
وعلم السير، وهي سلالة مستقلة، وتبحث في السير وما يتعلق بها مثل: 1 - علم المغازي والفتوح والأمصار.
2 - علم الشمائل النبوية.
3 - علم التاريخ الإسلامي.
4 - علم الأنساب العرب والعجب.
علوم اللغة: وهي سلالة مستقلة وهي كثيرة منها: 1 - علم المفردات اللغوية.
2 - علم النحو.
3 - علم الصرف.
4 - علم البلاغة.
5 - علم الاشتقاق.
6 - علم الشعر.
7 - علم العروض والقوافي.
8 - علم الإنشاء.
9 - علم الأدب.
10 - علم الهجاء والخط وأنواع الخطوط.
11 - علم الحساب الفلكي.
12 - علم الحساب الرقمي.
فهذه أهم تخصصات العلوم الإسلامية التي اشتغل بها العلماء، ومن جمعها جميعًا فوصل إلى حد متوسط من إدراكها، واستطاع تدريس كل واحد من هذه العلوم؛ فهو العالم، ومن تخصص في بعضها لم يستحق هذا اللقب -العالم- وإنما يستحق أن يدرج في حملة العلم والمتخصصين في بعض جوانبه دون بعض.
وجمع هذه العلوم سهل، والجامعون لها في تاريخ الأمة كثير، ولكن اليوم بسبب غزو الحضارة الغربية ركن الناس إلى التخصص في جوانب هذه العلوم؛ فاقتضى ذلك أن يقل المهتمون بجمعها كلها، وأن يندروا، وذلك من رفع العلم الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صح عنه -في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يقبض هذا العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بموت أهله، حتى إذا لم يبقِ عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالاً فاستفتوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا).
فمن رفع هذا العلم إقبال الناس على التخصصات وترك الإحاطة بها.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح والإخلاص في القول والعمل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.(39/27)
الدعاء والتوسل والاستغاثة
أمر الله عباده أن يدعوه ووعدهم بالإجابة، وعلمهم الأسباب التي تجعل دعاءهم مستجاباً، ومنها التوسل إليه بأسمائه وصفاته وبالأعمال الصالحة ودعاء الصالحين، ولكن أدخل الناس في ذلك أموراً في التوسل بالأشخاص ونحو ذلك مما فيه خلاف، وأولى للمسلم اجتنابه لأنه قد يكون وسيلة إلى الشرك.(40/1)
ذكر معنى الربوبية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول الشيخ حفظه الله تعالى: (وبالربوبية وحدوه فهو الذي تعنو له الوجوه)(40/2)
تعريف الربوبية عند العرب
هذا شروع في ذكر توحيد الربوبية، وهو على التقسيم الذي ذكرناه يُعَدُّ القسم الثالث من أقسام التوحيد، والمقصود به: إثبات الربوبية لله تعالى ونفيها عن كل ما عداه.
والربوبية: مصدر صناعي من رَبَّ الشيء يَرُبُّهُ إذا كان مهيمناً عليه مسيطراً.
والعرب تشتق من هذه المادة أربعة أفعال، فيقال: رَبَّهُ يَرُبُّهُ إذا استولى عليه، ومنه قول صفوان بن أمية يوم حنين: فلأن يربّني رجل من قريش خير من أن يربّني رجل من هوازن.
ويقال: رباهُ يربِّيه لنفس المعنى؛ لكنها تشير إلى إيصاله إلى كماله بالتدريج شيئاً فشيئاً، ومنه قول الشاعر: وربيته حتى إذا تم واستوى كمخة ساق أو كمتن إمام قرنت بحقويه ثلاثاً فلم يزغ عن القصد حتى بصرت بدمام ويقال: رببه يرببه لنفس المعنى أيضاً، ومنه قول أمية بن أبي الصلت: بيضاً مرازبة غلباً أساورة أسداً ترببن في الغيضات أشبالاً ويقال: ربته يربته.
بإبدال إحدى الباءين تاءً مثناة، وهو الفعل الرابع، ومنه قول الشاعر: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بجمهور حزوى حيث ربتني أهلي بلاد بها نيطت عليَّ تمائمي ومزقن عني حين تم بها عقلي (حيث ربتني أهلي) بمعنى: رباني أهلي.(40/3)
تعريف الربوبية في الاصطلاح
والربوبية في الاصطلاح معناها: الخلق والتدبير، فنسبة الربوبية إلى الله معناها: نسبة كل الخلق إليه وتدبير ذلك الخلق، فلا خالق لشيء سواه، ولا مدبر له، ولا مالك له غيره، فلهذا قال: (وبالربوبية وحّدوه)؛ فهذا يقتضي إثبات الربوبية له، ونفي الربوبية عن كل ما سواه.
ويطلق الرب على المهيمن والمسيطر مطلقاً في اللغة وفي الاصطلاح، ومنه يقال: رب البيت، وكذلك يطلق على الشهيد الذي يحفظ ولا يفوته شيء، ومنه قول الحارث بن حلزة اليشكري: وهو الرب والشهيد عليهم أي: الحافظ الذي يحفظ عليهم أعمالهم ولا يفوته شيء منها, وكل هذا من صفات الربوبية؛ لأن الربوبية تقتضي عدداً من الصفات منها: القِدم والبقاء والقيومية والتدبير والملك والجبروت والعظمة، وكذلك تقتضي الربوبية من الصفات السالبة المنفية: الوحدانية والغنى المطلق والمخالفة للحوادث، وأنه لا تأخذ سنة ولا نوم، فكل هذا تقتضيه الربوبية.(40/4)
العلاقة بين توحيد الربوبية وغيره من أنواع التوحيد
والإيمان بالله سبحانه وتعالى بأنواع توحيده الثلاثة مترابطة بعضها يكمل بعضاً، فالربوبية من لوازمها توحيد العبودية الذي سبق، وكذلك توحيد الأسماء والصفات الذي سبق؛ لأن الربوبية تستلزم هذه المعاني التي ذكرناها، فلا يمكن أن يكون رباً لما سواه إلا إذا كان قديما باقياً موجوداً متصفاً بالصفات التي ذكرناها.
(بالربوبية وحدوه) أي: أثبتوها له وانفوها عما سواه، فهذا يجمع بين النفي والإثبات.
(فهو الذي تعنو له الوجوه) معناه: فهو وحده الذي تعنو له الوجوه، أي: يحشر الناس إليه يوم القيامة، فهو وحده الذي يقبض السماوات والأرضين بيمينه ويهزُّهن ويقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]، وهذا هو غاية الربوبية، إذ غايتها إذعان الناس جميعاً إليه يوم القيامة بحيث لا يخالف أمره أي أحد، ولا يستطيع أحد أن يتأخر ولا أن يغيب ولا أن يعتذر بأي عذر من الأعذار، وهو سبحانه قبض السماوات والأرضين بيمينه وهزهن؛ فلذلك قال هنا: (فهو الذي تعنو له الوجوه).
ولذلك حين ذكر الله سبحانه وتعالى مشاهد القيامة قال: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:111]، وهذا يقتضي مذلة الوجوه لوجهه الكريم، ففي الدنيا إنما تذل له وجوه عباده الموحدين، فهم الذين يسجدون له، وأما يوم القيامة فتعنو له جميع الوجوه وتذل، فكل وجه يذل لوجه الله سبحانه وتعالى.
وهذا دليل على تمام ربوبيته، لكنه كذلك مثبت لأمر آخر، ومشهد من مشاهد القيامة، وهو أن تعنو جميع الوجوه لله سبحانه وتعالى، وهو المذكور في قوله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:111]، وقد رتب الشيخ ذلك على الربوبية بقوله: (فهو الذي تعنو له الوجوه).
والوجوه جمع وجه، وهو ما يقابلك ممن واجهته، فيشمل ذلك وجوه الخلائق كلها بهائمها والجمادات والأموات، ولهذا تقول: هذا وجه الجبل، وهذا وجه الكتاب، وهذا وجه فلان.
فالمقصود به ما يواجهك أياً كان؛ ولذلك فهذا يشمل وجوه الكائنات الحية والجمادات وغيرها، فكل تلك الوجوه تعنو له.(40/5)
الكلام على اتخاذ الوسطاء في الدعاء
ثم ذكر مسألة تتعلق بتوحيد العبادة فقال: [لا تجعلوا إذا دعوتم وسطا بينكم وبينه فهو خطأ] فهذا نهي عن نوع من أنواع الشرك، وهو شرك الدعوة، فالشرك في الدعاء هو أن يدعو الإنسان أو يستغيث بغير الله سبحانه وتعالى، وهذا شرك قد سبق ذكره، لكن بعض الناس يزعم أنه لا يدعو أولئك لأنفسهم، وإنما يتقرب بهم إلى الله سبحانه وتعالى فيتوجه بهم إليه، وهذا يشمل أمرين:(40/6)
حكم الاستغاثة بالمخلوق
الأمر الأول: وهو الاستغاثة بالمخلوق: وذلك كدعاء الأنبياء أو الملائكة أو الأولياء أو غير ذلك، فهذا قطعاً شرك صريح لقول الله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13 - 14]، ومثله قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57]، ومثله قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:36] وقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ * لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر:1 - 4].
فرد على هؤلاء، وجعل شركهم مثل شرك النصارى الذين يزعمون له ولداً؛ لأن هؤلاء يزعمون أنهم يتوسطون إليه بأولئك الذين يدعونهم.(40/7)
التوسل بالأشخاص
أما النوع الثاني: فهو التوسل: والتوسل بالأشخاص بذكرهم في الدعاء معناه التوسط بهم إلى الله، كأن يقول الإنسان: أتوجه إليك بفلان أو بعمل فلان -مثلاً- فهذا لا خلاف في تحريمه، وأنه من الكبائر، وأنه إذا قصد به إضفاء صفة من صفات التأثير عليه يكون شركاً أيضاً.
وإذا لم يقصد به إضفاء صفة إليه وإنما هو لضعف علاقة الإنسان بالله، ولضعف ثقته بإيمانه، فهو أيضاً نقص في الإيمان ونقص حتى في العقل؛ ولذلك لم يختلف في تحريم التوسل بالأشخاص إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم وحده، فقد سبق أنه اختلف في جواز التوسل بشخصه صلى الله عليه وسلم، وهو خلاف فقهي ذكرنا أن الراجح فيه هو المنع، وأن الحديث الوارد في ذلك وإن صححه كثير من أهل الحديث إلا أن الراجح أنه لا يصح، أعني حديث الضرير، وذكرنا علله الأربع فيما سبق، فلذلك قال: (لا تجعلوا إذا دعوتم)، أي: إذا سألتموه، (وسطا).
قوله: (وسطا) جمع وسيط، والوسيط هو الذي يشفع، فهذا يشمل أمرين: يشمل تحريم دعاء من دونه، وهذا شرك قطعاً، وهو شرك الدعوة، ويشمل كذلك تحريم التوسط والتوجه إليه بخلقه، فإنه لم يشرع ذلك ولم يعلمنا إياه، وهذا وإن كان يمكن ألا يصل إلى درجة الشرك -كما ذكرنا- لكنه نقص في الإيمان، ونقص في ثقة الإنسان وعلاقته بالله، ونقص في عقله أيضاً.
ومن يجعل بينه وبين الله واسطة ليشفع له ألا يعلم أن هذا الشافع محتاج إلى أن يتقرب إلى الله بالعمل بنفسه، فكيف يتقرب غيره بعمله؟! ولهذا رد الله تعالى هذا بقوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57]، فهم أنفسهم يبتغون إلى الله سبحانه وتعالى الوسيلة، ويتقربون إليه فكيف يتقرب بهم.
قوله: (وسطا بينكم وبينه) أي: في الدعاء.
قوله: (فهو خطأ) أي: فهو إثم، والخطأ والخطء كلاهما اسم للإثم، والله سبحانه وتعالى يطلق الخطأ والخطء على الإثم مطلقاً حتى الشامل للشرك، فالشرك إحدى الكبائر، والخطأ بمعنى الذنب وهو يشمل الكبائر والصغائر.
والمقصود أنه قد يكون شركاً أكبر، كما إذا كان دعاء لمخلوق واستغاثة به، وقد يكون دون ذلك -أي: شركاً دون شرك- مثل التوسل به.
والضمير هنا في قوله: (فهو خطا) يعود على الجعل المفهوم من الجملة السابقة، فإن قوله: (لا تجعلوا) يُفهم منها المصدر الذي هو الجعل، فلذلك قال: (فهو) أي: جعل وسيط من دونه، بينكم وبينه خطأ.(40/8)
الكلام على حديث الضرير في التوسل
وحديث الضرير الذي يستدل به مجيزو التوسل فيه علل: وأول هذه العلل: أن شعبة يرويه عن أبي جعفر غير منسوب وغير مسمى وإنما ذكر بكنيته، وأبو جعفر هذا قال الترمذي: (وليس الخطمي، فـ أبو جعفر الخطمي ثقة مدني معروف، ولكن أبو جعفر هذا لا يدرى من هو، والذين صححوا الحديث اعتمدوا على أن أبا جعفر هذا هو الخطمي.
العلة الثانية: أن النسائي أخرج هذا الحديث من وجه آخر في السنن فقال فيه: عن أبي جعفر عن عمارة بن زيد بن ثابت، بدل عمارة بن خزيمة بن ثابت، وهذه العلة ما وجدت من نبه عليها من الذين تكلموا على هذا الحديث، وقد بحثت عن عمارة بن زيد بن ثابت هذا فما وجدت له ذكراً في كتب الرجال، إلا ذكراً لا يبشر بخير، وهو أن مالكاً ذكر في موطئه أن فتية من العطار تعاطوا الخمر في أيام مروان حين كان أميراً على المدينة لـ معاوية فقتلوا أحدهم بالسكاكين، فكتب مروان إلى معاوية فيهم فأمره أن يقتاد منهم، ولم يسم مالك القتيل لكن ابن حزم ذكر هذا الأثر في المحلى فسمى القتيل عمارة بن زيد بن ثابت، فقد قتل في معاقرة الخمر، قتله أصحابه فلا يصلح للاحتجاج به.
وعلى هذا فإن إسناد الحديث فيه اختلاف على الراوي أبي جعفر هذا، هل شيخه فيه عمارة بن زيد بن ثابت أو عمارة بن خزيمة بن ثابت؟ عمارة بن خزيمة بن ثابت لا إشكال فيه؛ لأنه ثقة من التابعين، وعمارة بن زيد بن ثابت هو الذي ذكرناه، ولا نعرف له ترجمة ولا ذكراً إلا في هذه الواقعة.
والعلة الثالثة: أن فيه أن عثمان احتجب عنه، وما عرف عن أحد من الخلفاء الراشدين أنه احتجب، بل كان يأذن لكل من طرق إلا في أوقات الانشغال، وكان -كما في الصحيحين- يعلم الناس الوضوء على أبواب المسجد قبل الصلوات، وكان يصلي بالناس الصلوات الخمس وغيرها، وكما في الموطأ كان يأتي المسجد آخر الليل فيجلس في مؤخرة المسجد يعلم الناس القرآن، ومن هذا حاله كيف يكون محتجباً عن الناس وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ولي من أمر أمتي شيئاً فاحتجب عنهم احتجب الله عنه يوم القيامة)، فلا يمكن أن يحتجب عن ذوي الحاجات من المسلمين.
العلة الرابعة: أن في هذا الحديث: (اللهم شفعني فيه وشفعه في)، كيف تشفع في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقد فسرها العلماء بأن معنى: (اللهم شفعني فيه): اللهم تقبل دعائي له بالإجابة، (وشفعه في) معناها: تقبل دعاءه لي بالشفاء، وهذا يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له فيكون التوسل بدعائه لا بشخصه، فيخرج الحديث عن محل الخلاف أصلاً.
فهذه أربع علل، ومع هذا فقد صححه شيخ الإسلام ابن تيمية ولكنه أجاب عنه بإجابات لا تقوى على رده؛ لأنه لم يتكلم عنه من ناحية الصناعة الحديثية، فضعف رده عليه، وقال: عن الإمام أحمد في هذا روايتان إحداهما بجواز التوسل بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم والأخرى بعدمه، والأخرى هي الموافقة لقول الجمهور كما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية.(40/9)
التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم
وعموماً فإن المسألة مسألة خلاف فقهي، ولكن الأحوط فيها والأقرب للحق أن لا يفعل الإنسان هذا وإن كان السلف قد اختلفوا فيه، وليجتنبه بالكلية.
وقد تركه الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كانوا يتوسلون بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته كما ثبت في كثير من الأحاديث، كما في حديث أنس وغيره أن أعرابياً أتاه وهو على المنبر فقال: (يا رسول الله! هلكت المواشي وتقطعت السبل فادع الله لنا، فرفع يديه ودعا، فظهرت سحابة صغيرة من قبل سلع، فأبرقت وأرعدت ثم أمطرت أسبوعاً، فجاء ذلك الرجل ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: يا رسول الله! هلكت البهائم وانقطعت السبل فادع الله أن يصرفه عنا، أو فاستصح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم على الجبال والآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر)، فانجابت تلك السحابة حتى رأوا الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كان أبو طالب حياً لسره هذا)، ويقصد بذلك قول أبي طالب في مدحه صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل تلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل والمقصود بـ (يستسقى الغمام بوجهه): بدعائه وتوجهه إلى الله في ذلك، لا بشخصه.
وعندما جاء عام الرمادة في خلافة عمر رضي الله عنه، وصلى عمر بالناس الاستسقاء توسل بـ العباس بن عبد المطلب فتقدم فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم لتسقينا، وإذ قبضته إليك فإنا نتوسل إليك بعم نبينا، يا عباس قم فادع، فتقدم العباس فدعا وقال: اللهم إنه لم تنزل مصيبة إلا بذنب ولم ترفع إلا بتوبة، ودعا دعاءه البليغ المشهور، فرفع الله عنهم ما كانوا فيه.
فهذا دليل من فعل هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم، حيث لم يتوسل عمر برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته بشخصه؛ لأنه لو كان التوسل بشخصه فإن جاهه لم يتأثر بموته صلى الله عليه وسلم ولم ينقص جاهه عند الله بعد أن مات، ولم تنقص كرامته على الله، بل ما زالت كرامته كما كانت، لكن إنما كانوا يتوسلون بدعائه في حياته، وأما بعد موته فإنما يتوسلون بدعاء الأحياء الذين يتضرعون إلى الله؛ لأن المقصود بالدعاء أصلاً الضراعة إلى الله وإبداء الذلة والمسكنة بين يديه، وهذا إنما يمكن من الأحياء.
هذا ما يتعلق بقوله: [واجتنبوا الشرك الجلي والخفي ولو بما فيه اختلاف السلف] فما فيه اختلاف السلف يشمل ثلاثة أمور من أنواع الشرك: فما يتعلق بشرك العبادة، ذكرنا أن بعضهم كان يدبر بعض الأمور فيلهى عن الصلاة، وأن بعضهم قال: طلبنا الإيمان أن يكون لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، ونحو ذلك.
وما يتعلق بشرك الدعوة ذكرنا فيه قضية التوسل بشخص النبي صلى الله عليه وسلم.
وما يتعلق بالشرك في التشريع طبعاً ليس لهم فيه اختلاف، وما يتعلق بشرك الطاعة قد يحصل من بعضهم شيء من هذا، ولكنه يرفعه ما عرف عنه من إيمان وضراعة إلى الله سبحانه وتعالى وتقرب إليه، فلا يمكن الاستدلال بحال بعض أولئك.(40/10)
ذكر التوسل المشروع
أما التوسل الجائز فإننا ينبغي أن نعلم أن التوسل إلى الله سبحانه وتعالى ينقسم إلى قسمين: توسل واجب.
وتوسل جائز.
فالتوسل الواجب هو التقرب إلى الله بالعبادة، دليل وجوبه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]، والوسيلة في اللغة تطلق على الحاجة، ومنه قول الشاعر: إن الرجال لهم إليك وسيلة أن يأخذوك تكحلي وتخضبي ويطلق على المحبة والعلاقة، ومنه قول الشاعر: إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل الوسائل جمع وسيلة، والوسيلة في الآية المقصود بها ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى من صالح الأعمال، فهذا التوسل الواجب الذي بينه الله سبحانه وتعالى فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها) وقد قال قبله: (وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضته عليه).
النوع الثاني: التوسل الجائز: وهو التوسل في الدعاء، فالدعاء لا يجب منه أصلاً إلا قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، في الفاتحة، ولكنه من تمام العبودية لله، وهو مخ العبادة، أو هو العبادة أصلاً.(40/11)
ذكر آداب الدعاء
أما التوسل الجائز فإننا ينبغي أن نعلم أن التوسل إلى الله سبحانه وتعالى ينقسم إلى قسمين: توسل واجب.
وتوسل جائز.
فالتوسل الواجب هو التقرب إلى الله بالعبادة، دليل وجوبه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]، والوسيلة في اللغة تطلق على الحاجة، ومنه قول الشاعر: إن الرجال لهم إليك وسيلة أن يأخذوك تكحلي وتخضبي ويطلق على المحبة والعلاقة، ومنه قول الشاعر: إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل الوسائل جمع وسيلة، والوسيلة في الآية المقصود بها ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى من صالح الأعمال، فهذا التوسل الواجب الذي بينه الله سبحانه وتعالى فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها) وقد قال قبله: (وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضته عليه).
النوع الثاني: التوسل الجائز: وهو التوسل في الدعاء، فالدعاء لا يجب منه أصلاً إلا قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، في الفاتحة، ولكنه من تمام العبودية لله، وهو مخ العبادة، أو هو العبادة أصلاً.(40/12)
من أسباب استجابة الدعاء
إذا أراد الإنسان أن يستجاب له فإن لذلك وسائل كثيرة من أعظمها أن يكون دعاؤه ذلك بغير إثم ولا قطيعة رحم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يستجاب لأحدكم ما لم يدع بإثم ولا قطيعة رحم).
الثاني: أن يكون ذلك إثر عبادة يتقرب بها إلى الله، فإن الدعاء في إثر العبادة مستجاب؛ لأنه قد قدم شيئاً بين يدي نجواه، كما إذا قدم صدقة بين يدي نجواه فإنه يستجاب له بعد ذلك.
ومن ذلك الدعاء في أدبار الصلوات، ويشمل هذا الفرائض والنوافل فلا فرق، بل أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى الدعاء في أدبار الفرائض، وكذلك دعاه صلى الله عليه وسلم بقوله: (اللهم لا مانع لما أعطيت ولم معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد) وهذا دعاء المقصود به: أعطنا ولا تمنعنا، وأرشد معاذاً أن يدعو بهذا الدعاء: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، في أدبار الصلوات، والمقصود بأدبارها ما كان بعد السلام والانتهاء من الفريضة؛ لأنه ذكر التسبيح في أدبار الصلاة ولا فرق، وفي أدبار الصلاة تشمل الأمرين.
وكذلك دعا صلى الله عليه وسلم بعد أن رمى الجمرة الأولى، ودعا بعد أن رمى الجمرة الثانية، فهذا دعاء بعد نهاية العمل، وقد أخبر أن الليلة الأخيرة من ليالي رمضان يغفر فيها للمؤمنين الصائمين القائمين، وقيل له: (أليلة القدر هي؟ قال: لا، ولكن الأجرة عند تمام العمل)، وكذلك الدعاء ينبغي أن يكون بعد تمام العمل دائماً.(40/13)
مشروعية رفع اليدين في الدعاء
وسواء رفع الإنسان يديه في الدعاء أو لا، فرفع اليدين يرشد له قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي كريم يستحي إذا مد العبد إليه يديه أن يردهما صفراً)، وقد رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه بعد أن رمى الجمرة ودعا، وكذلك رفع يديه في المزدلفة وفي عرفات، وكان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه في بعض الأدعية، وفعل ذلك في دعاء الاستسقاء على المنبر.
وقد دعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قنوت الفجر فرفع يديه حتى تجاوز بهما رأسه يدعو على أهل الكتاب.
وأما قنوت الوتر فلم أجد فيه دليلاً على الرفع، فلم أجد فيه حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صحيحاً ولا حسناً ولا ضعيفاً، ولم أجد فيه أثراً صحيحاً عن أحد من أصحابه وإنما وجدت فيه أثراً ضعيفاً عن ابن مسعود، وفيه آثار عن بعض التابعين وأتباعهم لكنها ليست دليلاً.
وقد دأب الناس على رفع أيديهم فيه من أيام ابن عيينة إلى زماننا هذا، سئل أحمد بن حنبل عن دليله فقال: رأيت ابن عيينة يفعله، وهذا ليس دليلاً لكن يستأنس به لرفع اليدين في الوتر.(40/14)
الثناء على الله والصلاة على رسوله في الدعاء
وكذلك من أسباب استجابة الدعاء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه، واستحسن بعض العلماء أن تكون قبله وبعده؛ لأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم دعاء وهو مستجاب قطعاً، والله سبحانه وتعالى كريم فإذا استجاب لك بعض دعواتك فستكون الأخرى مستجابة تبعاً لها.
وكذلك أن يكون بعد الثناء على الله وحده وتبجيله، فالله سبحانه وتعالى أرشدنا إلى ذلك بالفاتحة فبدأ فيها بحمد الله والثناء عليه ثم ختمها بالدعاء، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل إذا أراد أن يدعو.
ومن أسباب استجابة الدعاء أن يكون الإنسان خاشعاً وقت دعائه، وأن يتعلق قلبه بالله سبحانه وتعالى وحده.
ومن أسباب استجابة الدعاء أن يكون في حال المناجاة كالدعاء في السجود ونحوه، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر استجابته لبعض الأنبياء في صلواتهم، فذكر استجابته لزكريا وهو قائم يصلي في المحراب، {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [آل عمران:38 - 39].(40/15)
وسائل استجابة الدعاء
وهناك ثلاثة من أسباب استجابة الدعاء اشتهرت بالوسائل: السبب الأول: أن يتوسل الإنسان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا، فالتوسل بهذا بين يدي الدعاء مظنة الاستجابة، لقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، وفي الحديث أن رجلاً من الأنصار قال: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت ديان السماوات والأرض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد سأل هذا الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب).
وكذلك أقر عائشة على الدعاء بالأسماء الحسنى، وثبت عنه قوله: (إن لله اسماً هو اسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب)، فهذا يقتضي التوسل إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا عموماً.
السبب الثاني: التوسل إلى الله بصالح الأعمال، ولا يكون العمل صالحاً إلا إذا كان موافقاً لما شرعه الله وكان الإنسان مخلصاً فيه لله سبحانه وتعالى، فإذا كان كذلك فإنه بالإمكان أن يتوسل به إلى الله ولو كان يسيراً فيستجيب الله دعاءه، ودليل ذلك قول الله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا} [آل عمران:16]، وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أصحاب الرقيم أن الثلاثة توسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، قالوا: إنه لا ينجيكم إلا أن تتوسلوا إلى الله بصالح أعمالكم.
السبب الثالث: هي التوسل إلى الله بدعاء المؤمنين، والله سبحانه وتعالى جعل الشفاعة وسيلة، لكنه لا يستجيب إلا إذا أذن بالشفاعة، فالملائكة يشفعون ويدعون للمؤمنين، ولكنهم لا يدعون إلا لمن أذن لهم الله بالشفاعة فيه؛ لأنه قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28].
وقد ذكر آيتين في دعاء الملائكة إحداهما في سورة الشورى وهي قوله: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:5]، والأخرى في سورة المؤمن، وهي قوله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر:7 - 9]، فالآية الأولى فيها الإطلاق: (لمن في الأرض)، والآية الثانية فسرت ذلك الإطلاق بأن المقصود به أهل الإيمان والتقوى والالتزام لأنه قال: (للذين تابوا واتبعوا سبيلك).
وكذلك الاستشفاع بدعاء الرسل في حياتهم، وقد ذكرناه في دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن هذه القبور مظلمة على أهلها، وإن الله ينورها عليهم بدعائي وصلاتي)، وقد أمره الله بالدعاء للمؤمنين في قوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103].
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه أمر عمر بن الخطاب إذا أتاهم أويس القرني أن يسألوه أن يستغفر لهم، فهذا دليل على مشروعية التماس الدعاء من كل عبد مؤمن تظن به خيراً.
وقد سأل عمر أويساً القرني أن يستغفر له، وقد كان يستقبل أمداد اليمن، وكان إذا أتاه أحد من أهل اليمن سأله عن أويس ما حاله فيذكرون تقشفه وزهده، حتى قدم عليه في أمداد اليمن، فقال: أنت أويس بن عبد الله؟ قال: نعم.
قال: القرني؟ قال: نعم.
قال: لك أم أنت بها بر؟ قال: نعم.
قال: كان بك وضح فشفاه الله إلا موضع أصبع؟ قال: نعم.
قال: قد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسألك أن تستغفر لنا.
وكان خيره إلى أي اتجاه يريد أن يذهب فاختار العراق، فقال: أوصي عليك أمير الجيش؟ قال: لا، دعني أسير في غمار الناس.
فكان لا يريد أن يكون له ذكر، لكنه اشتهر في العراق والتمس الناس منه الدعاء، وأكثروا عليه، فسار في سرية فلم يرجع ولم يعرف الناس أين ذهب، وقد لقب بسيد التابعين.
وكل من رجي منه الخير فإنه يلتمس منه الدعاء.
فقد كان عدد من التابعين يلتمسون الدعاء من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكان الناس في زمان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا ولد لأحد منهم مولود أتاه به فيدعو له، كما ثبت أن ابن عباس أتاه بولده علي حين ولد له فدعا له علي وسماه علياً، فكان أبا خلفاء بني العباس.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل هذه السنة من قبل، كان إذا أتي بمولود حنكه ودعا له، وكذلك كان ابن عمر رضي الله عنه إذا ودعه من يريد السفر دعا له بما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعهم به: (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتم عملك)، وكذلك كان يقول: (زودك الله التقوى وغفر ذنبك، ويسر لك الخير حيثما توجهت).(40/16)
أهمية الدعاء
وقد كان دأب سلف الأمة الصالح في مختلف العصور والقرون، أنهم كانوا يلتمسون الدعاء ممن يظنون بهم الخير والصلاح، ويوصون المسافرين والحجاج والعمار على الدعاء، ويوصون الخارجين للجهاد في سبيل الله أو المرابطين في الثغور بالدعاء.
وهذا يقتضي أن يهتم الناس بالدعاء وأن يعلموا مكانته الشرعية، فضعفاء الناس يظنون أنهم لا دور لهم في الأمة ولا مشاركة لهم في الجهاد في سبيل الله، ومع ذلك إنما ينصر المسلمون بهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما تنصرون بضعفائكم)، فهؤلاء الضعفاء ينبغي أن تعظم وتفخم مكانتهم حتى لا يغفلوا عنها.
ومع الأسف أن الأمة اليوم كلها ضعفاء وسلاحها هو الدعاء، وعليها أن لا تتركه بحال من الأحوال وأن تجتهد فيه لله سبحانه وتعالى، ولعلها تنصر بدعاء المستضعفين منها، ولذلك بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن دعاء هؤلاء يرفع به البلاء، فقال: (لولا صبيان رضع، ومشايخ ركع، وبهائم رتع؛ لصب عليكم العذاب صباً)، هذه هي أهم الوسائل، وهذه الثلاث متفق عليها والدلالة عليها من النصوص من القرآن والسنة واضحة، ولا خلاف فيها بين أهل العلم إلا الخلافات التي لا تعتبر ولا يعتد بها.
وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاستعجال في الدعاء، فقال: (يستجاب لأحدكم ما لم يتعجل يقول: قد دعوت ودعوت فلم يستجب لي)، فعلى الإنسان أن يجتهد في الدعاء وأن يتقرب بذلك لله سبحانه وتعالى، وأن يعلم أنه لا يضيع، فإما أن يستجاب له عاجلاً، وإما أن يدخر له ذلك عند الله سبحانه وتعالى، وإما أن يرفع به عنه البلاء، فالدعاء يصطرع مع البلاء في السماء ولا يرد القدر إلا الدعاء، وهذه مزيته، فهذا الدعاء من قدر الله، ويرد كثيراً من أقدار الله سبحانه وتعالى الواردة.
كثير من الناس لا يظن أنه يستغفر استغفاراً فيرفع به عنه سرطان أو بلاء عظيم جداً، أو يرفع به عن الأمة بكاملها ضرر لاحق، سواء كان ضرراً في الدين أو ضرراً في الدنيا، فمثلاً: اللوثات الدينية التي تحصل في المجتمعات من الانحلال الخلقي أو الانحراف العقدي أو نحو ذلك، هي أوبئة وأمراض تنزل من السماء فتصيب الأمم لكنها ترفع بهذا الدعاء.
وكذلك فإنه سبب من الأسباب التي لا ترد، فكثير من الناس ييأس إذا نفذت عليه أسباب الدنيا في الرزق أو في الدعوة أو في العلم وينقطع، ويظن أن الأمر قد أغلق أمامه وأن الطريق قد سد عليه، لكنه ينسى هذا الجانب المهم من سلاحه.
وقد شاهدت أن بعض الناس يجتهد في محاولة هداية بعض الأشخاص والأخذ بزمامهم إلى الخير، فيعمل معهم جميع أنواع الحيل فلا يستجيبون لها، فإذا انقطعت أسبابه قيل له: بقي أمامك نصف الطريق وهو أن تجتهد لهم في الدعاء لعل الله يهديهم على يديك، فما جربت هذه إلا هدي بها ذلك الإنسان.
كثير من الناس يظن أنه إذا بذل الأسباب فما نجحت انتهى الأمر، وينسى هذا الجانب الآخر حتى مع أولاده، ومع المدعوين الذين يريد هدايتهم، ومع جيرانه وغيرهم.(40/17)
الأسئلة(40/18)
شرك الطاعة
السؤال
يكثر شرك الطاعة في مجتمعنا، فهل كل أحواله تخرج من الملة؟
الجواب
لا، إن بعض أحواله لا تخرج من الملة، فطاعة المخلوق في معصية الخالق إذا لم يعتقد للمخلوق نفعاً ولا ضراً وإنما اعتقد أنه لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الخالق، ولكنه ضعف أمامه فأصبح يتقرب إليه بمعصية الله تعالى، فهذا لا يخرج من الملة، لكن صاحبه يكون فاسقاً ويكون كفره كفراً أصغر.(40/19)
بطلان العمل بالشرك الخفي
السؤال
الشرك الخفي هل يبطل العمل ولو كان بعد سنوات من زمن الطاعة؟
الجواب
الرياء اختلف فيه هل يبطل العمل أم لا: فقالت طائفة من أهل العلم: يبطل العمل مطلقاً، فيبطل أجره ويبطل العمل نفسه.
وقالت طائفة أخرى: بل يبطل الأجر دون العمل، فيسقط عنه التكليف بالعمل ولكنه لا يثاب عليه.
لكن الإبطال متفق عليه بالجملة، يقول أحد العلماء: هل الرياء مبطل للعمل وأجره حتى كأن لم يحصل أو مبطل للأجر دون العمل فحج من راءى به لم يبطل محل خلاف على هذين القولين.(40/20)
كفارة الشرك الخفي
السؤال
هل في الشرك الخفي كفارة، فهو كثير في هذه الأمة؟
الجواب
نعم كفارته الإخلاص فيحاول الإنسان الإخلاص فيما بقي من عمره فإن عمراً ضيع أوله لجدير أن يحفظ آخره، ولذلك فإن العبرة بالخواتيم، فمهما أسرف الإنسان فيما مضى فإنه إذا أحسن فيما بقي من عمره سيكون مكفراً لكل ما سبق، يقول أحد العلماء: بقية العمر عندي ما لها ثمن ولو غدا غير محبوب من الزمن يستدرك المرء فيه كل فائتة من الزمان ويمحو السوء بالحسن (اتبع السيئة الحسنة تمحها).(40/21)
قوة الأمم السابقة بالنسبة لما بعدها
السؤال
هل كانت الأمم السابقة مثل قوم نوح وصالح وهود يعتبرون أقوى من الأمم التي بعدهم إلى قيام الساعة؟
الجواب
لا، هذا ليس مطرداً على التسلسل، فالله سبحانه وتعالى أخبر عن عاد أنه زادهم بسطة على قوم نوح كقوله: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [الأعراف:69]، فقد تكون الأمة اللاحقة أقوى من الأمة السابقة، وهذا باعتبار حالهم وحال من تحت يدهم من الناس، مثلاً: قوة عاد إنما هي باعتبار تجبرهم على الناس وضعف الناس في زمانهم، فلم يبق أحد على وجه الأرض يستطيع معالجتهم ولا الوقوف في وجههم، فأهلكهم الله بالريح وسخرها عليهم ثمانية أيام حسوماً.
وكذلك فرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ولم يستطع أحد منهم أن يستنكر ذلك، ولم يرض بسلطان الأرض فقط حتى أمر هامان أن يبني له صرحاً ليصعد إلى السماء، فهذا باعتبار زمانهم وحال الناس في ذاك.
وكذلك اليوم، فالأمم الكافرة الموجودة اليوم وإن كانت لها من وسائل التكنولوجيا والتقدم ما ليس لدى أولئك، لكن هذا مشترك موجود لدى غيرهم بخلاف السابقين، فأمريكا اليوم مثلاً يمكن أن تعارضها الصين، ويمكن أن تعارضها غيرها، فهزمتها فيتنام وهزمها المجاهدون في الصومال، وهزمها إلى حد كبير المكسيكيون حين كانت الحروب بينهم سجلاً في جنوب أمريكا.(40/22)
حكم الطواف بالقبور
السؤال
الطائفون بالقبور مثلما يفعله كثير من الناس، هل يعتبرون مشركين أو أن عملهم فقط شرك؟
الجواب
الطواف بالقبور والتمسح بها سيأتي إن شاء قريباً في درس لاحق، وسنبين أنه ليس درجة واحدة، فمنه ما هو شرك ومنه ما ليس كذلك، لكن الجميع يدخل في المحرمات المنهي عنها.(40/23)
معنى قولهم: (كفر دون كفر)
السؤال
ما تفسير قول بعض العلماء: (كفر دون كفر)؟ وهل ترك الصلاة مع الجماعة من كذلك؟
الجواب
الكفر ينقسم إلى: كفر أكبر مخرج من الملة.
وإلى كفر أصغر وهو كفر دون كفر، والمقصود أنه يسمى كفراً تنفيراً منه، وهو الفسق الشديد، وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) وفي قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، فهذا كفر دون كفر ولا يقصد به الكفر المخرج من الملة.
واختلف العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: (بين المرء والشرك والكفر ترك الصلاة)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر).
فقالت طائفة: المقصود بذلك كفر دون كفر، وهذا مذهب الجمهور.
وقالت طائفة أخرى: بل المقصود به الكفر المخرج من الملة، ومحل هذا في ترك الصلاة مطلقاً والامتناع عن أدائها، أما تركها في الجماعة ولكنه يصليها في بيته وحده ونحو ذلك فلم يقل أحد بكفر من فعل هذا، لكن اختلف في فسقه ونحو ذلك، فالذين أوجبوا الصلاة في الجماعة وهم قلة رأوا أنه إذا فعلها في بيته فقد فسق، والجمهور يرون أنه لا يعتبر ذلك واجباً لكنه سنة مؤكدة، ومن تركها في المسجد فقد حرم نفسه خيراً كثيراً وتعرض لسوء الخاتمة نسأل الله السلامة والعافية، لقول ابن مسعود فيما أخرج عنه مسلم وغيره: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بها).(40/24)
ترك العمل خوفاً من الرياء
السؤال
ألا ترى أننا لو تحدثنا عن الشرك الخفي قد يؤدي ذلك إلى أن البعض قد يترك بعض الأعمال الظاهرة كالدعوة إلى الله بحجة أنه يخشى الوقوع في هذا الشرك؟
الجواب
من تركها فقد جمع الخطتين: الترك والشرك؛ لأنه أشرك أيضاً في الترك، أي: اتبع هواه وخوفه في مقابل ما أمره الله به، ومن عمل ولكنه أشرك شركاً خفياً فعلى الأقل أنه نجا من إحدى الخصلتين ووقع في الأخرى.
وقد نص أهل العلم في الذين يتعاقرون الخمر أنه يجب أن ينكر بعضهم على بعض وأن ينهاه؛ لأن لا يجمع بين الخصلتين؛ لأنه إذا لم ينهه فقد ترك واجباً، وإذا شرب الخمر فقد فعل محرماً، فجمع بين ترك الواجب وفعل المحرم.
ولهذا فقد نص العلماء في قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، على أن المقصود بقوله: (إذا اهتديتم) إذا أديتم الواجبات وتركتم المحرمات، فيدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة، فلا يكون الإنسان مهتدياً وهو لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن المنكر، ولذلك يرد على من استدل بهذه الآية على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بذلك.
بل بين ذلك أبو بكر رضي الله عنه في قوله: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه).(40/25)
الحكمة من استغفار أويس لسيدنا عمر
السؤال
ما الحكمة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب أن يطلب من أويس أن يستغفر له، مع أن عمر خير من ملء الأرض من أمثال أويس؟
الجواب
هذا من التنويه ببعض رجال هذه الأمة، ومن البيان أن المزية لا تقتضي التفضيل، فهذه الأمة جاءت فيها أحاديث متعددة، جاء فيها أحاديث: (مثل أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره)، وجاء تفضيل سلفها في قوله: (خير القرون القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: (يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم).
وجاء في مقابل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (وددت لو رأيت إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني قوم آمنوا بي ولم يروني للواحد منهم أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله منا أو منهم؟ قال: بل منكم، إنكم تجدون على الحق أعواناً ولا يجدون على الحق أعواناً)، فهذه مزية، وهي لا تعني التفضيل.
بل أفضل الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضلهم الخلفاء الراشدون، ثم بقية العشرة، وأهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، فهذا التفضيل المعروف، لكن من دونهم فيهم خير كثير أيضاً، وربما يكون لبعضهم مزايا ليست لبعض الصحابة، فبعض الصحابة غير مستجاب الدعاء في كل شيء وبعضهم مستجاب الدعاء في كل شيء بحيث لا يدعو إلا استجيب له في الحال مثل سعد بن أبي وقاص وليس أفضل من علي وعثمان، وهما قد لا يستجاب لهما في بعض دعواتهما، فالمزية لا تقبل التفضيل.
وكذلك أويس القرني بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم مزيته، وبعث بذلك الأمل والمنافسة في أمته، ولهذا اختلف العلماء في تفسير قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه)، فقالت طائفة: المقصود بزمان الصحابة فقط، وهذا رأي الحافظ ابن حجر وغيره؛ لأن زمان أبي بكر خير من زمان من بعده، ثم زمان عمر، ثم زمان عثمان، ثم زمان علي، ثم كل زمان يكون الذي بعده شراً منه إلى أن انتهى عصر الصحابة، فجاء بعدهم عمر بن عبد العزيز فكان زمانه خيراً من زمان الذين سبقوه من أمراء بني أمية.
وقالت طائفة: المقصود بذلك في بعض جوانب هذه الأمة في العلم والإيمان ونحو ذلك على الجملة، فالزمان الأول زمان النبي صلى عليه وسلم ما عرف فيه كثير من الفواحش التي ظهرت فيما بعد، وكذلك زمان الخلفاء الراشدين ما عرف أن أحدهم ارتد عن الإسلام في زمن الخلفاء الراشدين وأقيم عليه حد الردة إلا شخص أو شخصان في العراق قتلهم ابن مسعود، وكذلك ظهور البدع ونحو هذا، وهذه لا تزال تكثر حتى في أيام عمر بن عبد العزيز، وفي أيام من دونه من الخلفاء.
فعلى هذا يكون المقصود أن الزمان السابق نفسه له فضله، والزمان اللاحق شر منه باعتبار فضل الزمن نفسه لا بفضل أهله، ولا باعتبار ما يحصل فيه من العافية أو الخير أو انتشار الإسلام أو انحساره، فالعبرة بنفس الزمان، فالقرن الأول أفضل من القرن الثاني، والقرن الثاني أفضل من القرن الثالث، وهكذا.
لكن العبرة بالقرن نفسه أو بالسنة نفسها.
وقيل: المقصود البركة، فالزمان الأول كانت الأعمار مباركاً فيها بركة عجيبة جداً، بحيث يقطع الرجل الأشواط على أرجله من مسافات شاسعة في الفترات القليلة التي لو قسناها اليوم بعملنا لوجدنا فرقاً شاسعاً، وهذا سيأتي ما هو شر منه في آخر الزمان فتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاشتعال السعفة من سرعتها، إلا في أيام الدجال فاليوم الأول كسنة، واليوم الذي يليه كشهر، واليوم الذي يليه كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم.(40/26)
الإيمان بالرسل
لما خلق الله البشر لم يتركهم عبثاً ولا أهملهم سدى، بل أرسل إليهم رسله ليخرجوهم من الظلمات إلى النور، وللأنبياء خصائص وصفات يجب أن تتوفر فيهم؛ تشريفاً من الله، وصيانة للرسالة، وإقامة للحجة.(41/1)
الرسالة اجتباء لا اكتساب
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال الشيخ حفظه الله: [والرسل حق والنبي العربي خاتمهم أعلاهم في الرتب] يريد بهذا بيان ركن آخر من أركان الإيمان وهو الإيمان برسل الله.
والرسل جمع رسول، وهو من أوحي إليه بشرع وأمره بتبليغه، والرسول يختاره الله سبحانه وتعالى من الملائكة أو من الناس، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، لكن الرسل من الملائكة هم رسل إلى الرسل من البشر، وهذا نوع من أنواع الوحي، وقد سبق ذكر أنواع الوحي.
والرسل من الملائكة كذلك يبلغون بعض الملائكة، ولهذا ذكر الله سبحان وتعالى أن الملائكة يسألون بعد أن يفزع عن قلوبهم إذا سمعوا كلام الله سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23].
والرسالة لا تكون إلا على أساس اختيار رباني ولا يمكن أن تكتسب بأي وسيلة من الوسائل، وقد بين الله سبحانه ذلك في كتابه، فقال: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، وقال في موضع آخر: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، وقال في موضع آخر: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51].
وفي سورة الأنعام بين عدم اكتساب الرسالة في قوله: {فإِنِ استَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35] فبين أن هذا لا يمكن.
وآدم عليه السلام هو أول الرسل من البشر، ودليل ذلك ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه أرسل إليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة)، فهذا دليل على أن آدم قد أرسل إليه.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه خطابه لآدم على صورة المحاورة وهي لا تكون إلا للرسل، وكذلك ذكره بالاجتباء في قوله: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122] والاجتباء في القرآن للرسل وحدهم.(41/2)
ترتيب الرسل فضلاً وزمناً
ونوح هو أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد ذكر في القرآن من أولي العزم الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب:7]، فهؤلاء هم أولو العزم من الرسل، وهم أفضلهم.(41/3)
عدد الرسل وأسماؤهم
ولم يسم الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أسماء رسله لا من الملائكة ولا من الناس، ولم يحصرهم في عدد محدد، بل قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253]، وقال تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164].
وكل هذا يقتضي أنه لم يبين أعدادهم ولم يذكر أسماءهم للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء في بعض الآثار: التي لا تثبت بيان عددهم، فقد جاء في بعضها أن الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر، ولكن هذا لا يصح، وقد سمي في القرآن من أنبياء الله سبحانه وتعالى واحد وعشرون، ثمانية عشر منهم في سياق واحد في سورة الأنعام، وذكر ثلاثة عشر أيضاً في سياق واحد في سورة النساء، وهؤلاء الذين ذكرت أسماؤهم اختلف في تفصيلها، فمن الناس من يرى أن بعض الأسماء متداخلة؛ لأن بعض الأنبياء يذكر بأسماء متعددة في القرآن مثل يونس فقد سمي (ذا النون) في الآية الأخرى.
وكذلك بعض هؤلاء من أنبياء بني إسرائيل الذين اختلف ذكرهم في كتب بني إسرائيل فسموهم بهذه الأسماء كاليسع وذي الكفل، فإن اليسع يزعم أهل الكتاب أنه يوشع بن نون الذي هو فتى موسى، وقد صح عن ابن عباس أن فتى موسى هو يوشع بن نون الذي ذكر في سورة الكهف.
(وذو الكفل) في كتب بني إسرائيل أنه ابن سليمان بن داود عليهم السلام.(41/4)
إبراهيم أبو الأنبياء والرسل
إبراهيم عليه السلام كان في ذريته أكثر أنبياء الله ورسله، وقد ذكر العلماء لذلك حكماً: منها: أنه صفت الخلة له فاجتباه الله خليلاً ولم يبق في قلبه مكان لمحبة من سواه، فعوضه الله بأن جعل في ذريته قادة البشر.
ومنها: أن الله امتحنه بذبح ولده حين أمر بذلك في النوم فاستجاب لرؤياه، ففداه الله بذبح عظيم، ومع ذلك فقد جعل الله النبوة والرسالة في ذريته كما أخبر بذلك في كتابه، حيث رزقه الله إسماعيل وإسحاق، وأخبر أنه جعل في ذريتهما النبوة والكتاب.
فكل من بعدهما من الرسل والأنبياء فهو من ذريتهما، لأن الله أخبر بذلك في نص كتابه، والذرية تشمل أولاد البنات، ولذلك كان عيسى عليه السلام من ذرية إبراهيم من قبل أمه فقط؛ لأن الله خلقه من غير أب.
والأنبياء الذين ليسوا من ذرية إبراهيم عليه السلام هم ممن سبقه وقليل ممن عاصره، فممن عاصره لوط عليه السلام، وقد أخبر الله أنه آمن له، وعند أهل النسب أنه ابن أخيه.(41/5)
ذكر من ليس من ذرية إبراهيم من الأنبياء
أما نوح فليس من ذرية إبراهيم؛ لأنه جده وهو أبو البشر بعده، وقد أخبر الله أنه جعل ذريته هم الباقين، وأما قول الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} [الصافات:83] فإنها تصريحٌ بأنه من ذريته، وقيل معناه: من السالكين طريقه في النبوة والرسالة، والتضحية في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
وكذلك إدريس عليه السلام فليس من ذرية إبراهيم والراجح أنه جده أيضاً؛ لأن إدريس يسمى في كتب أهل الكتاب: (أخنوخ) وأخنوخ جد إبراهيم كما حسب في نسبه في كتب أهل الكتاب، وفي بعض الآثار عن بعض الصحابة، كـ ابن عباس، وأبي بن كعب وغيرهما، ولذلك يعدون نسب إبراهيم عليه السلام أنه: إبراهيم بن آزر بن ناحور بن فالغ بن عابر أو عيبر بن شالخ بن سام بن نوح بن لمك أو لامك بن مهلائيل بن اليارد بن الأخنوخ بن يانوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه السلام، وعلى هذا يكون إدريس جداً لنوح، لكن قد صرح في نوح بأنه أول الرسل إلى أهل الأرض.
وإدريس رسول قطعاً، فلهذا اختلف في إدريس المذكور في القرآن، الذي رفعه الله مكاناً علياً، هل هو إدريس الأول أو هو إدريسٌ آخر.
وإدريس من الذين شرفهم الله من رسله بأن لقيهم رسولنا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، فقد لقيه في السماء الرابعة، وقد صح أنه لقي آدم في السماء الدنيا وعيسى ويحيى في السماء الثانية، ويوسف في السماء الثالثة، وإدريس في السماء الرابعة، وهارون في السماء الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة، وفي هذا يقول شيخي رحمه الله: آدم فابن الخالتين يوسف إدريس هارون فموسى الأعرف ثم الخليل هكذا ترتيب أولاء ليلة سرى الحبيب صلى الله عليه وسلم.
وممن ليس من ذرية إبراهيم من الرسل أيضاً: هود وصالح وهما من رُسل العرب، فقد بعث هود إلى عادٍ وكانوا يقطنون جزيرة العرب، وهم أهل الأحقاف الذين يسمى موضعهم اليوم بالربع الخالي؛ لأن الله سلط عليه ريحاً عقيماً: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة:7].
وكذلك صالح فإنه أرسل إلى ثمود وهم الذين جاءوا بعد عاد، وظاهر سياق القرآن أن عاداً كانوا بعد قوم نوح مباشرةً، وأن ثمود كانوا بعد عاد كما صرح بذلك الترتيب في سورة الأعراف، وعلى هذا فهم قبل إبراهيم عليه السلام.
ويذكر أهل النسب أن الأنبياء المسمين في القرآن والسنة الذين ليسوا من ذرية إبراهيم ثمانية، فيعدون آدم وابنه شيثاً الذي ورد في بعض الأحاديث ذكره، ونوحاً وإدريس ولوطاً وهوداً، وكذلك يذكرون يونس بن متى الذي هو من أهل نينوى من المشرق، فيقولون: هؤلاء الثمانية ليسوا من ذرية إبراهيم ومن عداهم فهم من ذريته، ولذلك كان يلقب بشجرة الأنبياء؛ لأن الله جعل في ذريته النبوة والكتاب.(41/6)
صفات الأنبياء(41/7)
اشتراط العصمة للأنبياء
وهؤلاء الرسل مختلفٌ فيما يشترط لهم، فقد اتفق العلماء على أن العصمة صفةٌ من صفات الرسل ويجب اعتقادها في حقهم، ولكن اختلفوا في تحديد العصمة، فحددها بعضهم بمنع الخطأ من الكفر والكبائر قبل الرسالة ومنع الخطأ مطلقاً بعد الرسالة.
وحدد آخرون بأن المقصود بها: منع الخطأ بعد الرسالة فقط، وأما قبل الرسالة فلا مانع من الشرك والكفر والكبائر.
وذهب جمهور أهل السنة إلى أن المقصود: العصمة من الوقوع في الخطأ في التبليغ عن الله، والعصمة من الإقرار على الخطأ فيما عدا ذلك، ففيما يبلغونه عن الله سبحانه وتعالى يجب لهم العصمة قطعاً؛ لأنهم لا يمكن أن يكون تبليغهم ما بلغوه عن الله خطأً وغلطاً، ولهذا قال الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44 - 46]، فلابد أن يكون ما بلغوه عن الله صدقاً.
وعدم القول بعصمتهم في ذلك يقتضي نسبة الكذب لله سبحانه وتعالى؛ لأن مصدق الكاذب كاذبٌ والله تعالى قد صدقهم بالمعجزات، فلو جاز في حقهم الوقوع في الكذب في التبليغ عن الله سبحانه وتعالى لكان هو قد صدقهم في كذبهم.
فبعض العلماء يقسم هذه الصفة إلى قسمين فيفرق بين الصدق والعصمة، فيعد صفات الرسل يقول: منها الصدق والعصمة والأمانة والتبليغ والرفعة، فيعُد الصفات أكثر وينوعها.
والمقصود بالصدق، الصدق في الأقوال والصدق في التعامل مع الله سبحانه وتعالى، وفيما بلغوه عنه، ولا شك أن الحاجة داعية إلى عصمتهم بعد رسالتهم من الوقوع فيما لا يرضيه؛ لأن ذلك يقتضي تناقضاً، فنحن مأمورون باتباعهم فيما عملوه؛ لأن أعمالهم تشريع ما لم يرد الدليل بخصوصها بهم، وإذا كنا منهيين عنها مأمورين بها فهذا تناقض مستحيل شرعاً، فوجب أن يعصموا من الوقوع في الخطأ.
والخطأ هنا مختلف فيه، فقيل: هو الشرك والكبائر، وقيل: يشمل الصغائر أيضاً، ويشكل على القول الأخير دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمغفرة، وقد كان يستغفر في المجلس الواحد أكثر من مائة مرة، وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2]، وقد اختلف المفسرون في معنى هذه الآية، فقالت طائفة منهم: المقصود بذلك المغفرة السابقة على اجتبائه، حيث إنه ولد مغفوراً له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولله أن يفعل ذلك.
وقالت طائفة: بل المقصود أنه يقع في الصغائر والأمور التي هي في حقه ذنوباً، لكن إذا قيس بها غيره كانت في بعض الأحيان طاعات؛ لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وقد لامه الله سبحانه وتعالى في كتابه على بعض الأمور؛ وذلك دليل على صحة وقوع الاجتهاد منه، وأنه متعبد بالاجتهاد قبل نزول الوحي إليه، ولا يعارض ذلك إرجاؤه للبت في بعض الأمور انتظاراً للوحي كقصة الإفك التي انتظر فيها الوحي، وكقصة الثلاثة الذين خلفوا فقد أرجأ أمرهم خمسين ليلةً انتظاراً للوحي، وكإجابة اليهود حين سألوه عن الروح، وغير ذلك من الأسئلة التي يرجئ الجواب عنها حتى ينزل إليه الوحي.
وقد اجتهد في أمور لامه الله فيها، فمنها ما ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة كقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43]، وكذلك قوله تعالى في قصة أسرى بدر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67]، وكذلك قوله تعالى في قصة الإيلاء: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:1 - 1]، وكذلك في قصة ابن أم مكتوم: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 - 4]، وكذلك في قصة زيد بن حارثة بن شراحيل وزينب بنت جحش بن ذئاب أنزل الله سبحانه وتعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] ونحو هذا.
فهذا عتاب من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم قُرن بالمغفرة والعفو، بل بدئ بالعفو في قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، وعلى هذا فالأمور التي اجتهد فيها وليست مما أمر بتبليغه يمكن أن يقع منه الخطأ فيها، لكن لا يُقر على ذلك الخطأ ولابد أن يبين له ما أخطأ فيه، هذا معنى الصدق والعصمة.(41/8)
اشتراط الأمانة في الأنبياء
أما الأمانة فالمقصود بها: حفظ جوارحهم الظاهرة والباطنة من التعدي على ما اؤتمنوا عليه من وحي الله سبحانه وتعالى سواء كان تبليغاً أو كتماناً، فقد يؤمرون بتبليغ شيء مثل الرسائل التي أمروا بتبليغها: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67]، وقد يأمرون بكتمان شيءٍ مما يدخل في الإخبار عن المستقبل والغيوب، وقد يكون فتنةً على الناس.
وكذلك التبليغ فهو صفةٌ من صفاتهم وإن كان من الصفات الداخلة في الأمانة؛ لأن من الأمانة أن تبلغ الرسالة، والتبليغ الذي يجب على الرسل هو أن يبلغوا عن الله سبحانه وتعالى ما تقوم به الحجة، فلو لم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم حكماً إلا إلى شخص واحد، لكنه ظن به أنه يمكن أن يبلغه لغيره أو أنه سيبلغه لغيره، فذلك كافٍ في تبليغه، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمد في تبليغ بعض رسالات ربه على الأفراد، ككتبه التي أرسلها إلى الملوك بواسطة رسل من الأفراد كـ عبد الله بن حذافة بن قيس إلى هرقل وكـ دحية الكلبي إلى عظيم مصر، وكـ عمرو بن العاص إلى ابني الجلندا وهكذا.
ونحو هذا ما رواه عنه الآحاد مما حدثهم به، فإنهم بلغوه ونُقل إلى الأمة، ولهذا فإن ما يبلغه عن الله سبحانه وتعالى من الرسالة محفوظ كحفظ القرآن.
والذين يستشكلون ضياع كثير من كتب السنة وفواتها، وأنها معدومة اليوم أو نادرة أو غير مروية، يرد على استشكالهم أنها ليس فيها ما تحتاج إليه الأمة؛ لأن ما تحتاج إليه الأمة من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لابد أن يكون قد بلغها، ولذلك تكفي دواوين الإسلام المشهورة وما ليس مروياً فيها مما يعتمد عليه كثير من الناس، هو من تتبع الشواذ ومن التكلف المنهي عنه، فلهذا يفرح الواحد اليوم من طلبة العلم عندما يجد صحيفة منسوبة إلى عصرٍ مضى فيها بعض الأحاديث غير المشهورة وغير الموجودة، أو يؤخذ منها بعض الأحكام الشاذة النادرة، ومثل هذا من اتباع المتشابهات الذي وصف الله به الذين في قلوبهم زيغ.
فالذي تحتاجه الأمة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظه الله عليها ولم يكن ليضيعها، ولهذا فإن محمد بن سعيد المصلوب وهو من مشاهير الذين وضعوا الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم عندما دعاه الخليفة ليقتله، قال: لئن صلبتموني فلقد تركت فيكم أربعة آلاف حديث مكذوب عن النبي صلى الله عليه وسلم أحل فيها الحرام وأحرم فيها الحلال، فقال له الخليفة: أين أنت من عبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك ينقران عنها حتى يخرجانها، فدعاهما فسألهما عن هذا الرجل هل يعرفانه؟ فقالا: نعم.
قد حدث عن فلان بالحديث الفلاني وكان كاذباً في ذلك، حتى عدا أربعة آلاف حديث يتتبعانها، ولذلك يقول أهل الحديث: لو هم الرجل بالصين ذات ليلة أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم لأصبح الناس في بغداد يقولون: فلان كذاب وضّاع، ولذلك لما قيل لـ يحيى بن سعيد القطان: قد كثرت الموضوعات، قال: يعيش لها الجهابذة.(41/9)
صفة الرفعة في الأنبياء
وأما صفة الرفعة التي تجب للرسل فهي أنهم يرسلون من نسب قومهم، وقد أخبر بذلك هرقل أبا سفيان في حديث ابن عباس في الصحيحين: (كذلك الرسل ترسل في نسب قومهم) والحكمة من ذلك: حتى لا يكون اختيارهم في الطبقات الدنيا من المجتمع فتنةً على الناس.
وكذلك ما يتعلق بأبدانهم وصورهم فيجب أن لا يكون فيهم مُنفر، فيستحيل في حقهم كل مُنفرٍ سواء كان من العيوب الخلقية، أو من الأمراض أو نقص العقل، أو العته أو غير ذلك، فهذا من المستحيل في حقهم ولا يمكن أن يقع.(41/10)
صفات لا تشترط في الأنبياء
وأما ما يتتبعه بعض المتكلمين من الصفات كما يذكر بعضهم أنه يستحيل في حق الرسل السواد ونحو ذلك؛ فهذا لا دليل عليه ولا يمكن اعتباره؛ لأن السواد ليس وصفاً منفراً، بل كثير من البشرية يتصفون بذلك، فاختلاف ألوانهم إنما هو من حكمة الله سبحانه وتعالى الراجعة إلى اختلاف البيئات والمعاش ونحو ذلك، ولهذا قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:22]، فقد ذكر اختلاف الألسنة والألوان مع خلق السماوات والأرض مما يدل على تأثير البيئة في الألسنة والألوان، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أنه ما أرسل رسولاً إلا بلسان قومه.
وكذلك امتن علينا معشر هذه الأمة بأن أرسل إلينا النبي صلى الله عليه وسلم من أنفسنا، فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128]، ففي بعض القراءات: (من أنفَسِكُم) أي: من أعزكم نسباً، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في حديث الاصطفاء وقال: (إن الله اصطفى من ذرية إبراهيم كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريشٍ بني هاشم، وجعلني من بني هاشم في المحل الأسمى، فأنا خيار من خيار من خيار).
فهذا حديث الاصطفاء فيه اختيار ربانيٌ من عند الله سبحانه وتعالى، اصطفى فيه رسوله صلى الله عليه وسلم مثل اصطفائه للرسل الآخرين كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:33 - 34]، وهذا الاصطفاء لا ينافي الكفر ولا ينافي دخول النار؛ لأنه إنما يصطفى الإنسان من بني جنسه وبني جلدته وأهل زمانه، فلهذا يمكن أن يكون فيهم من هو من الكفار، وقريش مصطفون على من سواهم من القبائل ومع ذلك فيهم الكفرة وفيهم أهل النار.
والذين قرءوا حديث الاصطفاء وأخذوا منه أن أجداد النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً من أهل الجنة أخطئوا في الفهم؛ لأن الاصطفاء ليس لأجداده فقط بل لقريش كلها، ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: (قريش قادة الناس في الخير والشر إلى يوم القيامة) ولهذا فإن استدلالهم أيضاً بتحريم أذاه وأن الله قد لعن الذين يؤذونه، وأن ذكر أجداده أو آبائه بالكفر أذىً له لا دليل فيه؛ لأنه ليس من أذاه، ولو كان من أذاه لما قاله، وقد صح في صحيح مسلم أنه قال: (إن أبي وأباك في النار).
ومعنى الإيمان بالرسل، هذه المراتب المتعددة: أولاً: الإيمان بأن الله بعث إلى البشر رسلاً منهم لهدايتهم وإقامة الحجة عليهم للبشارة والنذارة.
ثانياً: الإيمان بالذين سموا منهم تفصيلاً.
ثالثاً: الإيمان باتصافهم بالصفات السابقة.
رابعاً: الإيمان بأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتمهم وأن رسالته ناسخة لجميع شرائعهم، والإيمان به بخصوصه مقتضٍ أيضاً لتصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وأن لا يُعبد الله سبحانه وتعالى إلا بما شرع بعد أن بعث، وما يتعلق برسالة النبي صلى الله عليه وسلم بخصوصه أطول من هذا، فهذا ما يتعلق بالرسل عموماً.(41/11)
الصفات المختلف فيها في حق الرسل
من الصفات المختلف فيها في حق الرسل الذكورة: فقد قال كثير من أهل العلم: إنها شرط في الرسالة.
وقال آخرون: بعدم اشتراطها، والذين يرون عدم اشتراطها يرون نبوة مريم ابنة عمران وحواء عليهما السلام، وقد جاء في كلامنا السابق فيما يتعلق بالوحي الوحي إلى أم موسى ونحو ذلك.
دليل الذين يرون نبوة هؤلاء: أن الله سمى مريم في القرآن ثلاثين مرة، ولم تُذكر فيه انثى باسم صريح سواها، وأن الله ذكر أنه أرسل إليها الملك فكلمها برسالة من عند الله، وكذلك حواء فقد جاء الخطاب لها ولآدم في القرآن بضمير المثنى، وهذا يقتضي أن يكون الخطاب إليهما معاً مثل رسالة موسى وهارون.
وكذلك اختلف في بعض الذين ذكروا في القرآن من غير الرسل كـ لقمان مثلاً وذي القرنين والخضر، فـ لقمان وذو القرنين ذكرا في القرآن بأسمائهما، والخضر إنما ذكرت قصته ولم يذكر باسمه، لكن الله أثنى عليه بأن جعله عبداً من عباده وأنه علمه من العلم ما لم يعلمه موسى، فاختلف في هؤلاء الثلاثة هل هم رسل أو أنبياء غير رسل؟ أو أنهم من عباد الله الصالحين فقط؟(41/12)
الفرق بين النبي والرسول
وكذلك اختلف في الفرق بين النبي والرسول، ونحن إذا بينا هذا الفرق فسنذكر الفرق اللغوي أولاً ثم نعدل إلى الفرق الاصطلاحي.
فرسولٌ: فعولٌ من الرسالة، ويطلق على الرسالة نفسها وعلى مبلغها، فهو في الأصل للرسالة نفسها؛ لقول الشاعر: لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بليلى وما أرسلتهم برسولِ أي: وما أرسلتهم برسالتي، ثم أُطلق على حامل الرسالة الذي يؤديها فسمي رسولاً.
وأما النبي: فهو فعيلٌ، فيمكن أن تكون بمعنى فاعلٍ ويمكن أن تكون بمعنى مفعولٍ، ويمكن أن تشتق من النبأ ويمكن أن تشتق من النبوة، فإذا كانت من النبأ فهو الخبر، فالنبي فعيلٌ من النبأ لأنه منبئ عن الله إذا كان فعيلاً بمعنى فاعلٍ، أو لأنه منبأ من الله، أي: مخبر منه إذا كان فعيل بمعنى مفعول، هذا إذا كان من النبأ.
أما إذا كان من النبوة وهي الارتفاع، فهو لأن الله أعلى منزلته بالنبوة.
أما في الاصطلاح: فإن كثيراً من العلماء يعرفون الرسول بأنه الذي أوحي إليه شرعٌ وأمر بتبليغه، وعرفوا النبي: بأنه الذي أوحي إليه شرعٌ وأمر بالتعبد به ولم يؤمر بتبليغه، وعلى هذا فكل رسولٍ نبي وليس كل نبي رسولا.
وقالت طائفة أخرى من أهل العلم: بل الرسول هو الذي أوحي إليه شرعٌ وأمر بتبليغه، والنبي هو الذي أوحي إليه باتباع وتجديد شرع من قبله، فيكون النبي مجدداً والرسول هو الذي أنزلت عليه الرسالة بكاملها.
ولكن يُجاب عن هذا بأن الله سبحانه وتعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم، والنبي صلى الله عليه وسلم أتته شريعة جديدة.
ولكن قد يُجاب عن هذا أيضاً بأن يقال: إن الملة لا يقصد بها الشريعة، وإنما يقصد بها ما يتعلق بالجانب الخُلقي والروحي فقط، وقد تبع النبي صلى الله عليه وسلم ملة إبراهيم في هذا الجانب، فلذلك لم يدع على قومه واتصف بالحلم معهم، مع أنه ذكر دعاء غير إبراهيم من أولي العزم من الرسل في القرآن على قومهم وما أصاب قومهم، إلا عيسى عليه السلام وحده، لكن دعاء نوح ودعاء موسى على قومهما معروف، قال موسى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88]، وقال نوح: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26]، وأما إبراهيم فلم يدعُ على قومه مع ما آذوه به من الأذى، بل قال: (حسبي الله ونعم الوكيل) فقط، ووعد أباه بأن يستغفر له.
وعموماً فإن الرسل فيهم مجددون يجددون شرع من قبلهم، فإسماعيل وإسحاق لا يمكن أن تكون شريعتاهما غير شريعة إبراهيم إذ لم يشهر ذلك ولم يعرف، بل هما مجددان لشريعة إبراهيم، وكذلك أنبياء بني إسرائيل فإن بعضهم يجدد شريعة من سبقه، وفي بعض الأحيان يباح له بعض ما حرم من قبله كعيسى عليه السلام فإنه مجدد لشريعة موسى، لكنه يحل لبني إسرائيل بعض ما حرم عليهم، كما أخبر الله بذلك في كتابه: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50].
والله سبحانه وتعالى يقول في وصف الأنبياء: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] فكل نبيٍ منهم له شرعة وله منهاجٌ، لكن لا منافاة بين أن يكون بعضهم مع بعض في شرعةٍ واحدة، ولذلك فسر ابن عباس: (شرعةً ومنهاجاً)، قال: سبيلاً وسنة، فـ (سبيلاً) تفسيرٌ لـ (منهاجاً) و (سنة) تفسير لـ (شرعة).
ومن الرسل من يأتي لمكافحة داء ظهر في البشرية ومعصية كبيرةٍ اشتهرت فيها، كما كان لوط عليه السلام مجدداً لشرع من قبله في تحريم اللواط ومنعه، وكذلك شعيب عليه السلام في منع تطفيف المكاييل والموازين، ولذلك فالذي يذكر من نذارتهم في القرآن متعلق بهذه الأمور فقط.(41/13)
لا يكون الرسل إلا من الملائكة أو البشر
الرسل كما ذكرنا لا يكونون إلا من الملائكة أو من البشر، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، وأما غير ذلك من الأصناف فيمكن أن تشملهم رسالة رسل البشر أو رسل الملائكة، فالجن مثلاً شملتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وموسى عليهما السلام، ولذلك ذكروا هذا في القرآن حين أرسل الله النبي صلى الله عليه وسلم ليدعوهم إلى الله، وقد أتاه جن نصيبين ببطن نخلة فخرج إليهم وليس معه إلا ابن مسعود، وحدث ابن مسعود بما رأى وبما سمع، وأنزل الله ذكرهم في سورة الأحقاف وبين أنهم قالوا: {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30] فكأنهم لم يعلموا بشريعة عيسى عليه السلام.
ويذكر بعض أهل التفسير أن ذلك ربما رجع إلى تعويذ أم مريم لها وذريتها من الشيطان، وقد قص الله علينا ذلك في كتابه: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36]، فلم يتعبد إنسان لتبليغ الرسالة إليهم على هذا.
وقد تبع النبي صلى الله عليه وسلم عدد منهم وأسلموا، وكانوا سبباً في إسلام من سواهم، فبعض الإنس أسلم عن طريق الجن، ومنهم سواد بن قارب رضي الله عنه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان كاهناً في الجاهلية، فأسلم رئيه من الجن فدعاه إلى الإسلام فأسلم بذلك، قال: أتاني رئيي بين نومٍ وهجعةٍ ولم يك فيما قد بلوت بكاذبٍ ثلاث ليال قوله كل ليلة أتاك رسول من لؤي بن غالب إلى أن يقول: وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعةٍ سواك بمغنٍ عن سواد بن قارب وكذلك رجل آخر اسمه خنافر كان له رئي من الجن اسمه ساصر فأسلم ساصر للنبي صلى الله عليه وسلم فدعا خنافراً فأسلم وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، وفي ذلك يقول أبياته المشهورة: ألم تر أن الله عاد بفضله فأنقذ من نفح الزخيخ خنافرا وكشف لي عن جحمتي عماهما وأوضح لي نهجاً من الحق داثرا وكان مضلي من هديت برشده فلله مغوٍ عاد بالرشد آمرا ومثل هذا راشد بن عبد ربه سيد بني سليم الذي كان يدعى في الجاهلية غاوي بن عبد العزى، فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه واسم أبيه وسماه راشد بن عبد ربه، فقد أسلم حين أتاه رجل من الجن يركب نعامة فدعاه إلى الإسلام، فأسلم برسول صلى الله عليه وسلم وأتى بقومه، ومثل هذا حصل لعدد منهم كـ العباس بن مرداس رضي الله عنه.
وكذلك من أهل اليمن عدد من الناس أسلموا على أيدي الجن.
ومع هذا فإن للجن بعض الأحكام المختصة بهم، فلا يمكن أن يستوي الجن والإنس في الشرائع التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لا يتحملون كثيراً مما يتحمله الإنس، ولهم أيضاً من الطاقات في مجالات أخرى ما ليس للإنس، فلهم أحكام، وقد نُص في القرآن على تعذيب من مات منهم كافراً، ولم ينص في القرآن على دخول مسلميهم الجنة إلا بالعموم، لكن جاءت النصوص على أن كل من اهتدى مطلقاً فهو إلى الجنة كقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]، فهذا يشمل الإنس والجن.
وعلى هذا فلا يجب عليهم جهاد الكفرة الإنس قطعاً، لكن اختلف هل يجب عليهم جهاد كفرة الجن أم لا؟ فقالت طائفة من أهل العلم: إن الجهاد ذروة سنام الإيمان، والخطاب به في القرآن عام يشمل الإنس والجن.(41/14)
الإيمان بالوحي والملائكة
من أركان الإيمان الإيمان بالكتب والإيمان بالملائكة والإيمان بالرسل، فلا يصح إيمان مؤمن إلا بها، لكن الواجب هو الإيمان تفصيلاً بما ورد تفصيله في القرآن والسنة، وما لم يرد تفصيله فإننا نؤمن به إجمالاً.(42/1)
الإيمان بالوحي
قال الشيخ حفظه الله: [والوحي حق ليس قولاً يختلق والكتب حق والملائكة حق] ذكر أن مما يجب الإيمان به الوحي.(42/2)
تعريف الوحي
والوحي في اللغة يطلق على السرعة وعلى الإلهام وعلى الكتابة، فله ثلاث معان، يقال: وحى وأوحى بمعنى: كتب، وبمعنى: أسرع، وبمعنى: أذهب، ومثلها وخى -بالخاء- وكذلك توخى، ترد أيضاً بهذا المعنى.
ومنه قول الشاعر: فلما رأى أن النجاة تعذرت رأى أن ذا الكربين لا يتعذر توخى بها مجرى سهيل ودونه من الشام أجبال تطول وتقصر وورود الوحي بمعنى الإلهام كثير في القرآن، كقول الله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل:68] فالمقصود بذلك إلهامها.
ولذلك يطلق الوحي على ما يراه الرائي في النوم، فهو إلهام لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشورى:51]، أي: إلا رؤيا نوم، {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] وهذا هو الوحي الاصطلاحي وهو المرتبة الثالثة.
والوحي في الاصطلاح: تنزيل الله سبحانه وتعالى ما شاء من كلامه على من شاء من خلقه، وقد سبق أن الكلام الذي يوحى به هو الكلام التشريعي لا الكلام الكوني، فالكلمات الكونية يخاطب بها كل خلقه، لكنها لا تسمى وحياً، فهو يكلم كل مخلوق من خلقه بكن فيكون، وهذه ليست وحياً؛ لأنه يخاطبك أنت بها، ولا تتحرك حركة ولا تسكن سكوناً إلا بخطاب الله، وهذه هي الكلمات الكونية.
أما الكلمات التشريعية فهي التي يوحي بها إلى ما شاء من خلقه، وهم الذين اختارهم لذلك: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68].
وهو وحي الله سبحانه وتعالى إلى عباده، يجب الإيمان به، ويجب الإيمان أنه اختار من عباده خلقاً للوحي وأنه أوحى إليهم.(42/3)
مراتب الإيمان بالوحي وصوره
والإيمان بالوحي مراتب: أولاً: الإيمان بوجوده؛ لأنه حق.
ثانياً: الإيمان بما حصل منه تفصيلاً من الكتب المنزلة.
ثالثاً: الإيمان بأنه من عند الله سبحانه وتعالى وحده.
رابعاً: الإيمان بأنه غير مكتسب وإنما هو اختيار رباني.
فمن أقر بوجود الوحي وأقر بأنه من عند الله، وأقر الموجود منه لكنه جوز اكتسابه فهو كافر، مثل بعض الفلاسفة الذين يجوزون اكتساب النبوة، فالنبوة ليست مكتسبة وإنما هي اختيار رباني يختار الله لها من شاء من عباده.
ولهذا الوحي صور كثيرة أوصلها العلماء إلى ثلاث عشرة صورة، وأصلها الثلاث المذكورة في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشورى:51] والمقصود بذلك رؤيا النوم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (منامات الأنبياء وحي) والمقصود بذلك أحلامهم.
ولهذا فإن منامات الناس عموماً فيها نسبة من ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءًا من أجزاء النبوة) لأنها إلهام رباني يلهم الله به الإنسان أمراً.
القسم الثاني: {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51]، مثل كلامه لموسى عليه السلام، ومثل تكليمه للملائكة، فإنهم يسمعون كلامه من وراء حجاب، ولذلك إذا تكلم سبحانه وتعالى أخذت قلوبهم، ثم إذا كمل كلامه فزع عن قلوبهم: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23].
وكذلك فإنه يكلم الناس أجمعين يوم القيامة، فأهل الإيمان يكلمهم كلام الرحمة: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، وفي حال الحساب كذلك: (ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان).
وأهل الكفر لا يكلمهم كلام رحمة، ولذلك قال: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} [آل عمران:77] لكنه يكلمهم كلام عذاب، فيخاطبهم بالتقريع، {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37] {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
القسم الثالث: هو قوله: {أَوْ يُرْسِلُ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] وفي القراءة الأخرى: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] وهذا الرسول من الملائكة، والوحي عن طريق الملك هو أكثرها.
وهذا أيضاً أنواع: فمنه ما يكون على وجه التمثيل فيتمثل الملك رجلاً فيكلمه، ويأتي هذا على صور كثيرة، منها ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم حين كان يأتيه جبريل في صورة دحية الكلبي، وقد يأتيه وهو لا يعرفه كحديث جبريل في سؤالاته، وقد يأتيه ملكان فيسأل أحدهما الآخر عن شيء مثل حديث السحر، ومثل حديث: (اضربوا له مثلاً) ومثل حديث الصعود به إلى السماء وما رأى من المعذبين من أصحاب الذنوب، وغير ذلك من الأحاديث، فهذه كلها أنواع من أنواع الوحي.
وقد يكون أشد من ذلك مثل صلصلة الجرس، أخرج البخاري في صحيحه قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟ قال: أحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي عنه ما يقول، وأحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليّ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، قالت عائشة: ولقد رأيته يفصم عنه في اليوم الشديد البرد وإن جبينه ليتفصد عرقا).
ومن أنواع الوحي الكتابة: فإن الله سبحانه وتعالى يكتب صحفاً وألواحاً لبعض أنبيائه، فقد كتب التوراة بيمينه لموسى في الألواح، وكذلك أنزل الصحف على إبراهيم وموسى، وكذلك الإنجيل والزبور كلاهما نزل في صحف، فهذا نوع من أنواع الوحي.(42/4)
العلم بالوحي علم قطعي
كل هذه الأنواع يجمعها جامع وهو أن العلم الحاصل بها علم قطعي لا يمكن أن يشكك فيه صاحبه، فكل من أوحي إليه لا يستطيع أن يجادل نفسه هل هذا صدق أو غير صدق، ويحصل له اليقين الجازم الذي لا يقبل الشك، وهو أشد من يقينك بالمرئيات والمسموعات، وأنه يصل إلى بشاشة القلوب، والمسموعات والمرئيات يمكن أن تشكك فيها؛ لأن البصر يتفاوت والسمع يتفاوت، فلذلك كان الوحي أبلغ وسائل العلم.
قوله: (والوحي حق)، يجب الإيمان بأن ما أوحاه الله لا يمكن أن يكون إلا حقاً لأنه يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87] ويقول: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122].
والوحي قول الله فلذلك لابد أن يكون حقاً، فلهذا قال: (والوحي حق ليس قولاً يختلق)، وهذه مبالغة في تفسير كونه حقاً، وهو مأخوذ من القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يوسف:111]، فلا يمكن أن يختلقه أي واحد.
ولهذا قال: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44 - 47]، فلا يستطيع أحد أن يدافع عنه حينئذٍ.
قوله: (ليس قولاً يختلق)، الاختلاق بمعنى الكذب ومنه قول الله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:7] واشتقاقه مما يتكلف الإنسان خلقه، والإنسان لا يَخلُق لكنه يَختلِق، بمعنى يزعم فعل شيء غير صحيح، وهذا الذي يسمى بالاختلاق، والمختلَق هو الكلام المكذوب على صاحبه.(42/5)
الإيمان بالكتب(42/6)
معنى الإيمان بالكتب
قوله: (والكتب حق والملائكة حق): الكتب: جمع كتاب، والكتاب في الأصل فعال اسم آلة من كتب الشعر بمعنى خاطه، ولما كانت الأوراق التي يكتب بها العلم تصير هكذا سمي الذي يجتمع فيه عدد من الأوراق وتخاط كتاباً، ثم انتقل هذا إلى الحرفة نفسها، فكان رسم الحروف يسمى كتابة، ويسمى خطاً، ولذلك يطلق على الصحفة الواحدة (كتاب)، ولذلك قال الله تعالى في قصة سليمان عليه السلام حكاية عن ملكة سبأ: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:29 - 30]، (كتاب كريم) ليس معناه أنه كثير من الأوراق المخيطة بل هو هذا اللفظ فقط: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:30 - 31]، فهذا كتاب.
ولهذا فإن ما يكتبه الإنسان إلى غيره من الرسائل يسمى كتباً يقال: أرسل فلاناً كتاباً، وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى هرقل وكتاباً إلى كسرى، وكتاباً إلى النجاشي، وكتاباً إلى صاحب دومة الجندل وهو أكيدر دومة وكتاباً إلى ابني جلندا وكتاباً إلى المنذر بن ساوى صاحب البحرين؛ هذه كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الله، كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في صحيح مسلم.
فالمقصود بذلك ورقة واحدة فيها الخطاب الذي يوجهه إليهم، وقد عرفنا أن هذا قد انتقل عدة انتقالات، فالأصل الخياط وهي كناية عن الأوراق التي تخاط، ثم انتقل ذلك إلى الورقة الواحدة التي كتب فيها فسميت كتاباً، ولهذا يقول العرب: (كتب الأحباب أحباب الكتب) أي: الكتب التي تأتيك من أحبتك هي أحب الكتب إليك.
يقول الشاعر: إذا الإخوان فاتهم التلاقي فما صلة بأنفع من كتاب أي: أن يكتب بعضهم إلى بعض.
والكتب اصطلاحاً: المقصود بها كتب الله، أي وحيه الذي أنزل على عباده سواء جاءت من عند الله مكتوبة كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وغيرها، أو جاءت منزلة على قلب الرسول الذي يوحى إليه كالقرآن، فالقرآن لم يأت من عند الله مكتوباً، بل لم يكتب كتابة جامعة له في مكان واحد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، إنما كان جمعه في أيام أبي بكر بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وقد كان يكتب في حياته لكن في صحف متفرقة وفي ألواح وفي جلود وغير ذلك.
فلهذا قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:48 - 49]، فهو الذي في الصدور.
وجاء في الحديث: (إن أناجيل أمتي في صدورها)، وكذلك في حديث عياض بن حمار المجاشعي في صحيح مسلم: (إن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: وإني أنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظان) فقوله: (لا يغسله الماء)، أي: ليس مثل الكتب التي تكتب على الألواح فتغسل، إنما هو مكتوب في الصدور، ولهذا قال: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:48 - 49].(42/7)
الإيمان بالكتب المنزلة جملة وتفصيلاً
والكتب المنزلة يجب الإيمان إجمالاً أنها من كلام الله ووحيه، ويجب الإيمان تفصيلاً بما سمي منها، والكتب الأربعة المسماة هي: القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، ومعها صحف إبراهيم التي ذكرت دون أن تسمى، قال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:36 - 37]، {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19].
فهذه الصحف هي الكتب.
ونحن لا نعلم عدد الكتب، وما كان ينبغي لنا ذلك، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أن ما لا يصلح منها وإنما يكون التشريع الذي فيه صالحاً لمدة زمنية محددة، قد جعله الله تعالى ينسى واستودعه خلقه واستحفظهم إياه، كما قال تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة:44].
أما هذا القرآن الذي يصلح لكل ما بعده من الأزمنة فإنه بقي محفوظاً في الصدور، وقد حفظه الله وتولى حفظه بنفسه، ولم يكل حفظه إلى عباده، فقال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وقال: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].(42/8)
مراتب الإيمان بالكتب
لهذا قال: (والكتب حق)، الإيمان بكتب الله ركن من أركان الإيمان، وهذا الإيمان كما ذكرناه ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: هي الإيمان بكتب الله إجمالاً.
المرتبة الثانية: هي الإيمان بالكتب التي جاء ذكرها.
المرتبة الثالثة: هي التصديق بكل ما جاء فيها من الأخبار، وبأن هذا القرآن مهيمن عليها وناسخ لجميعها، وبأن كل ما فيه فهو حق، وبأن كل ما أخبر به فهو صدق، وكل ما شُرع فيه فهو شرع الله، ويجب أن يعتقد الإنسان أن الكتاب كما أنزل، وأن الدين كما شرع، فيؤمن بذلك.(42/9)
الإيمان بالملائكة
قوله: (والملائكة حق): كذلك من أركان الإيمان الإيمان بالملائكة، والملائكة جمع ملك بالفتح، وأصل الكلمة: (مألك) والمألك والمألكة الرسالة، ويقال فيه: المألَك والمألَكة والمألُك والمألُكة.
ومنه قول عدي بن زيد: أبلغ النعمان عني مألكاً أنني قد طال حبسي وانتظاري لو بغير الماء حلقي شرق كنت كالغصان بالماء اعتصاري والمألكة والمألك والمألكة والمألُك كلها من معنى الرسالة، ثم انتقلت من ذلك إلى الدلالة على حامل الرسالة، فالذي يحمل الرسالة يسمى مألكاً ومألُكاً، وسمي عباد الله المكرمون الذين يبلغون رسالاته إلى أنبيائه بالملائكة اشتقاقاً من ذلك.
وليس كلهم يبلغون هذه الرسائل، ولا كلهم مبلغين عن الله، بل منهم ملائكة السماوات وملائكة الأرضين الأخرى، وهم من أكثر جنود الله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] ولذلك عد العلماء أن مع الإنسان واحداً وعشرين ملكاً، منهم المعقبات التي مع الجوارح {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} [الرعد:11]، ومنهم صاحب اليمين وصاحب الشمال اللذان يكتبان الحسنات والسيئات، ومنهم قرينه من الملائكة.
ويتعلق به عدد سواهم مثل ملك الموت: (والملائكة الذين وجوههم كالشمس باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم)، يعني: أحضروا أنفسكم.
ومنهم ملكا السؤال اللذان يأتيانه في قبره.
فإذا جمع هؤلاء وصل العدد إلى واحد وعشرين ملكاً لكل إنسان.
وهؤلاء منهم المثبتون ومنهم الكروبيون ومنهم أنواع أخرى، والمقربون أعلاهم منزلة.
ويجب الإيمان بالملائكة إجمالاً، ويجب الإيمان تفصيلاً بمن سمي منهم، كجبريل وميكائيل وفيهما لغات كثيرة، فجبرائيل فيه تسعة وعشرون لغة.
وكذلك ميكائيل فيه لغات متعددة، وكذلك مالك خازن النار، وكذلك إسرافيل الذي جاء ذكره في الأحاديث الصحيحة، وكذلك صاحب اليمين وصاحب الشمال اللذان يكتبان عمل الإنسان، فصاحب اليمين يكتب الحسنات وصاحب الشمال يكتب السيئات: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:9 - 12].
المرتبة الثالثة من مراتب الإيمان بالملائكة: الإيمان بأنهم جميعاً عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، حتى لو كان الفعل الذي أمروا به بالنسبة للبشر معصية، فإنه بالنسبة لهم طاعة إذا أمروا به، مثل السجود لآدم، ومثل تعليم الناس السحر بالنسبة لهاروت وماروت، فالسحر نفسه كفر بالنسبة للبشر، لكنهم تعبدهم الله بأن يعلموهم، وهذا محنة للبشر مثلما امتحنهم بنزول الأوبئة والأمراض.
وهؤلاء الملائكة وصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ووصفهم بأوصاف أخرى مثل قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19 - 21]، وكذلك قوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:5 - 6] والمرة القوة، فهذا يقتضي تمام قوتهم وقوة خلقهم.
وكذلك قول الله تعالى في وصفهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1] وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف بعضهم بعض ذلك، مثل قوله في جبريل: (إن له ستمائة جناح ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب)، وكذلك جاء عنه في حديث حملة العرش -وإن كان الحديث قد تكلم فيه- أنهم مثل الأوعال بين شحمة أذن أحدهم وظلفه خمسمائة عام، وهذه المسافة كالمسافة ما بين كل سماء وسماء، وما بين السماء والأرض.
فهذا معنى قوله: (والملائكة حق).(42/10)
الاختلاف في نبوة أم موسى ومريم
وقوله: (والرسل حق): من أركان الإيمان الإيمان برسل الله.
وقد اختلف في تكليم الله تعالى لـ أم موسى وكذلك كلامه لـ مريم عليها السلام؛ هل كان وحياً أم لا؛ بمعنى هل كانت نبية أم لا؟ فقال طائفة من أهل العلم: كل من ورد ذكره في ذلك فهو نبي مثل مريم وأم موسى وحواء وغيرهن.
والذي يبدو أن الوحي إلى أم موسى إنما كان وحياً بمعنى الإلهام، مثل قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل:68] وإن كان فيه ما يقتضي التثبيت؛ لأن الإلهام قد يكون من الخواطر الربانية فيقتضي ذلك تثبيت الإنسان وتقويته، لأن كثيراً من الناس يضحي تضحيات جسمية هي قطعاً من إلهام الله وإيحائه، فتكون وحياً فعلاً، لكنها ليست بمعنى الوحي الذي يختص الله به رسله، إنما هي مثبتات تشبه ما يراه النائم في النوم أو مثل اللمة الملكية.
وقد اختلف أهل السنة في هؤلاء النسوة هل هن من رسل الله وأنبيائه أم لا؟ والخلاف قوي في مريم عليها السلام، فإنه لم تذكر امرأة في القرآن باسمها الصريح إلا مريم، وقد جاء ذكرها في القرآن ثلاثين مرة.
وكذلك حواء عليها السلام، فكثير من أهل السنة يرى أنها كانت من الأنبياء، وهذا الخلاف موجود فيهن، وقد ذكر السيوطي بعض من اختلف في نبوتهم في الكوكب الساطع، فقال: واختلفت في خضر أهل النقول قيل نبي أو ولي أو رسول لقمان ذي القرنين حوا مريم والوقف في الجميع رأي المعظم فلا شك أن مريم خاطبها الملك وأنه أخبرها بأنه من عند الله.
وهنا يعلم أنه لا خلاف بأن الله خاطب هؤلاء وأنه شرفهن، وأنهن كملن، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير وكمل من النساء أربع)، لكن الخلاف: هل ذلك نبوة أم لا؟(42/11)
الغيب النسبي
قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه كان فيمن قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فـ عمر بن الخطاب)، فلاشك أن في هذه الأمة عدداً من المحدثين الذين يطلعهم الله تعالى على بعض الأمور التي ليست غيباً بالنسبة لهم لكنها غيب بالنسبة لمن سواهم، لكن هذا ليس من النبوة قطعاً.
كثير من الناس يزعم أن كل من أخبر عن مغيب فإنه قد حاول الاطلاع على الغيب، وهذا خطأ لأن الله يكشف لبعض عباده بعض المغيبات فلا تكون غيباً بالنسبة إليهم وإنما تكون من عالم الشهادة، كما حصل لـ عمر مع سارية.
وهذا النوع من الغيب يمثل له بالجزار قبل أن يفتح بطن الشاة، فما في بطنها غيب بالنسبة إليه، لكنه إذا فتحه واطلع عليه زال ذلك فلم يكن غيباً بالنسبة إليه، ومثل الغائب عنك، فإن من في بيتك الآن يرى ما لا تراه، فما في بيتك غيب بالنسبة إليك وشهادة بالنسبة للحاضر عندهم، فالغيب غيبان: غيب عن كل الناس، وهذا لا يطلع عليه أحد مثل ما يقع في غد، ومنه مفاتيح الغيب الخمسة.
وغيب عن بعض الناس شهادة لبعضهم، مثل: ما يراه الطبيب بالتشخيص، فهذا بالنسبة لك أنت غيب وأنت واقف بجنبه، لكنه ليس غيباً بالنسبة إليه؛ لأنه يراه بالمرصد والمنظار ونحو ذلك.
وكذلك المحدثون الذين أطلعهم الله على بعض هذه الأمور، فهي شهادة بالنسبة إليهم غيب بالنسبة إلى من سواهم، ولا يرفض هذا قاعدة الغيب.(42/12)
مواقف القيامة وأشراط الساعة
اليوم الآخر هو اليوم الذي يجتمع فيه جميع الخلق، وتنكشف فيه الحقائق، ويجازى كل مخلوق بما يستحق، وقد جعل الله له علامات يعرف قرب وقوعه بها، فما على المسلم إلا الإيمان به والعمل له.(43/1)
معنى اليوم الآخر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول الشيخ حفظه الله تعالى: [واليوم الاخر وما قد اشتمل عليه من حشر وعرض لعمل حق كذا الوزن وما به التحق والنار حق وكذا الجنة حق] من أركان الإيمان الإيمان باليوم الآخر، واليوم في الدنيا هو الوحدة الزمنية المعروفة، وأطلق على الآخرة باعتبار اتصاله وعدم انقطاعه، فكأنه يوم واحد وإن كان قدره آلاف السنين: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، وكذلك في وصف من نوقش حساب خمسين ألف سنة باختلاف أحوال الناس فيه، فمن نوقش الحساب فيه كان كخمسين ألف سنة في حقه، ومن لم يناقش الحساب فيه كان كألف سنة على الأقل مما تعدون، فأطلق عليه اليوم بهذا الاعتبار، وهو الآخر؛ لأنه إليه تنتهي الدنيا، ولأنه لا نهاية له فكان آخراً، وكل ما لا نهاية له يعتبر آخراً من جنسه.(43/2)
القيامة الصغرى وعذاب القبر
والقيامة قيامتان: قيامة صغرى.
وقيامة كبرى.
فالقيامة الصغرى تختلف باختلاف الأفراد، فهي الموت والانتقال إلى الدار الآخرة، وهذه القيامة الصغرى ينقطع بها عمل الإنسان، ويختم على عمله إلا ما استثني من الأمور التي تجري عليه في قبره، كالمرابط في سبيل الله فإنه لا يختم على عمله، وكمن له علم ينتفع به أو صدقة جارية أو ولد صالح يدعو له، فهذه من الأمور التي لا يختم عليها، لكن ما سواها من العمل يختم عليه، فيكون الإنسان في قبره سجيناً رهين ذنوبه ينتظر الخلاص، والخلاص هو من القيامة الكبرى.
وهذه القيامة الصغرى عناها رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فإنه كان إذا أتاه قوم من الأعراب فسألوه متى تقوم الساعة؟ نظر إلى أصغرهم فقال: لا يموت هذا حتى تقوم الساعة)، والمقصود بذلك قيامتهم هم، فكل شخص منهم سيلقى ربه في تلك الفترة، وبذلك تقوم قيامته، وإذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته.(43/3)
فوائد تذكر القيامة الصغرى
والقيامة الصغرى يجب على الإنسان أن يفكر فيها وأن لا يغفل عنها، والغفلة عنها علامة على سوء الخاتمة نسأل الله السلامة والعافية.
ومن تذكرها رزق أربعاً، ومن غفل عنها حرم هذه الأربع.
فأول هذه الأربع التي يرزقها من تذكر الموت: العون على الطاعات والنشاط إليها، فإنه يعلم أنه سيموت ولا يدري متى يموت، فيبادر لأن يكتسب ما استطاع من الخير في هذه الدنيا.
ثانياً: قصر الأمل فإن من ذكر الموت قصر أمله ولم يغره الشيطان بالأماني.
ثالثاً: أن من ذكر الموت فإن كان في ضيق وسعه عليه، وإن كان في سعة ضيقها، (فما ذكره أحد في ضيق إلا وسعه، وما ذكره في سعة إلا ضيقها)، كما في الحديث الصحيح.
فإن كان في حزن وأسى فذكر الموت فإنه سيخرج بذلك من حزنه لعلمه أن حزنه وأساه منقطع.
وكذلك إن كان في فرح وطرب فذكر الموت فإن ذلك سيزول عنه؛ لأن الموت هو هادم اللذات.
رابعاً: أنه يقتضي من الإنسان الإقلاع عن الذنب، فكل من غلبته نفسه أو هواه في الإصرار على ذنب من الذنوب فليتذكر الموت، فإذا تذكره استطاع الإقلاع عن ذلك الذنب، مهما كان ذلك الذنب ومهما بلغ من شدة تأثيره عليه.(43/4)
القبر أول منازل الآخرة
والموت ليس بفناء محض، لكنه انتقال من حال إلى حال وخروج من دار إلى دار، وبه ينتقل الإنسان من هذه الدار إلى الدار الآخرة، وأول منازلها القبر، وهو أعظم من كل ما قبله، وأعظم منه كل ما بعده.
فلحظة واحدة في القبر يتبين للإنسان فيها كثير مما لم يكن يخطر له على بال، {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، فهو أعظم من كل ما قبله، وكل ضيق يدخله الإنسان في هذه الدنيا فالقبر أضيق وأشد منه.
وأعظم منه كل ما بعده؛ لأنه أول منزلة من منازل الآخرة، فيهون إذا تذكر ما بعده، وقد جاء في الأثر (ليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهما، ليلة يبيت مع الموتى ولم يبت معهم قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة).
فالليلة التي يبيت فيها الإنسان مع الموتى ولم يبت معهم قبلها ليلة عظيمة جداً، تنكشف له فيها كثير من الأمور التي لم تكن تحصل له، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه القبور مظلمة على أهلها موحشة، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم).
وأول ما يلقاه الإنسان في قبره ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل، فهي أول مشهد بعد نزع الروح؛ وهناك مشهد قبله، وهو إتيان ملك الموت لينتزع الروح، وسيراه الإنسان عياناً، وفي حال النزع يأتيه الفتان إن لم يكن ممنوعاً من ذلك.
فمن الناس من يمنع الفتان كالمرابط في سبيل الله، ومن قتل شهيداً في سبيل الله، وأما من سواهم فيأتيه الفتان فيقول له: مت على دين اليهودية، مت على دين النصرانية، ويريه صورة أبويه وغير ذلك مما يفتنه، فمن ثبته الله تعالى بالقول الثابت في الحياة الدنيا فسيختم بخير، ولهذا قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].(43/5)
صفة الموت
يرى الإنسان ملك الموت ويخاطبه عياناً، فإن كانت نفسه طيبة يناديها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
فتتهوع نفسه من بدنه كما يتهوع الماء من في السقاء، فيتلقاها ملك الموت بلطف، وينتزعها برفق، ولا تمكث في يده طرفة عين، بل يسلمها إلى ملائكة آخرين جالسين مد البصر {بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} [الأنعام:93]، وهؤلاء وصفهم في الحديث أن وجوههم كالشموع.
وإن كانت النفس خبيثة دعاها وأوعدها بما ستخرج إليه من العذاب الأليم نسأل الله السلامة والعافية، فتتفرق النفس بالجسد فينتزعها منه كما ينزع السفود من الصوف المبلول بشدة، وهذه الشدة ليست ما يشاهده الناس من أعراض شدة الموت على المحتضرين، فأعراض شدة الموت التي يراها الناس هي من قوة البدن فقط، وليست هي الشدة الباطنية التي يحس بها المتوفى.
ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد عليه الموت شدة عظيمة، وكان يقول: لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، ويدخل يده في الماء ويمسح بها وجهه صلى الله عليه وسلم، فقد اشتد عليه الموت وذلك لقوة بدنه، فهو يوعك كما يوعك الرجلان، وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل الأمثل.
فالأمور التي نتحدث عنها هنا أمور باطنية لا يطلع عليها الناس، وإنما يحسها المتوفى في نفسه، ولذلك فإن عبد الله بن عمرو بن العاص سأل أباه فقال: يا أبتي! إنك كنت تتمنى أن تجد رجلاً عاقلاً وقد أدركه الموت فيصف لك الموت، وهأنت ذا رجل عاقل قد أدركك الموت فصف لنا ما أنت فيه؟ فقال: كأن غصن شوك يجر داخل عظامي، فيخرج من كل عظم من عظامي، وكأن السماء وضعت على الأرض وجعلت بينهما، وكأني أتنفس من سم إبرة.(43/6)
مآل أرواح المؤمنين وأرواح الفجار
ويكون بعد ذلك أن الملائكة مادي أيديهم، فإن كانت النفس مؤمنة رحبوا بها، وجعلوها في كفن من أكفان الجنة وصعدوا بها، فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة فيؤذن لها حتى تخر ساجدة تحت العرش ثم يؤذن لها فيقال: ارجعي من حيث جئت فتكون في فناء القبر حتى تبعث.
وفي الحديث الآخر (أن أرواح السعداء في حواصل طير خضر في الجنة).
والجمع بين الحديثين أن ذلك في حال وهذا في حال، فالرجوع إلى فناء القبر للسؤال، ثم بعد ذلك تصعد الأرواح فتكون في حواصل الطير إلا إن كان أصحابها أحياء في قبورهم فتكون مع أجسادهم، لكنها معية تختلف عن المعية في الحياة الدنيا، فالحياة البرزخية تختلف عن هذه الحياة.
وضمة القبر تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل، واختلف في الحمائل المذكورة في الحديث فقيل: هي الشواكل وما يجتمع من الشحم على الكلى في البطن.
وقيل هي: العروق التي تتصل بالأعضاء التناسلية.
وهذه الضمة إعداد لاستقبال كلام الملائكة، كما ضم جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً حتى يستطيع السماع منه.(43/7)
سؤال منكر ونكير
ثم المشهد الذي بعد هذا هو مجيء ملائكة السؤال، وهما منكر ونكير، ويأتيان في صورة مروعة، ويجلسان الميت على ركبتيه فيقولان له: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا هو محمد هو محمد هو محمد ثلاثا، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعناه، فيقولان له: صدقت وبررت، نم نومة عروس، ويملآن عليه قبره خضراً ونورا.
وأما المنافق أو المرتاب فيقول: هاه هاه لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقولان له: لا دريت ولا تليت، فيضربانه بمرزبة معهما من حديد لو اجتمع عليها أهل منى ما أقلوها، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن، ثم بعد هذا المشهد عذاب القبر! وهو المشهد الذي بعد السؤال.
والمعذبون في القبور أنواع: منهم أهل الكفر، وهؤلاء يعذبون في قبورهم بالعطش وغير ذلك من أنواع الأذى والإهانات، ويرون مواقعهم في النار، نسأل الله السلامة والعافية.
ثم بعد هذا عذاب الفساق في قبورهم، وهذا العذاب منه ما يكون على ذنب محدد؛ كما يكون على المشي بالنميمة وعدم اتقاء البول، فهذان الأمران يعذب عليهما في القبر، فقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين جديدين فقال: (أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى إنه لكبير.
أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من البول)، وفي الحديث الآخر: (تنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه).
فعذاب القبر سبب من أسباب مغفرة الذنوب ومكفر من مكفراتها، فيعذب الإنسان في قبره العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر، فإذا بعث يوم القيامة كان قد أخذ ما يستحقه من العقاب ونال بذلك الجنة، نسأل الله أن يغنينا عن ذلك بعفوه ورحمته.(43/8)
مشاهد يوم القيامة
ثم بعد هذا القيامة الكبرى، وهي يوم يقوم الناس لرب العالمين، وقد وصفها الله وسماها في كتابه بأوصاف مروعة مفزعة، فمنها: الحاقة والواقعة والقارعة والآزفة، وغير ذلك من الأسماء المروعة، وكل هذا يدل على فظاعة الأمر وشناعته.
ولا يدرى متى تقوم لأنها لا تأتي إلا بغتة: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف:187]، ولا يعلم أحد وقت قيامها إلا الله سبحانه وتعالى، في خمس لا يعلمهن إلا الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34].(43/9)
النفخ في الصور
وأول مشاهدها النفخ في الصور، عندما يأذن الله تعالى للملك فينفخ، والملك الآن قد أخذ الصور بفمه، وأصغى ليتاً ورفع ليتاً ينتظر الإذن له، فإذا أذن له نفخ، فإذا نفخ صعق كل الأحياء وماتوا جميعاً من فزع هذه النفخة، وهذه نفخة الفزع، وتسمى أيضاً نفخة الصعق؛ لأن الناس يصعقون بها جميعاً.
وقيل: هما نفختان نفخة، أولى للفزع، ونفخة ثانية للصعق، ولكن الراجح أن النفخ إنما يتم مرتين فقط: النفخة الأولى التي يموتون بها، والنفخة الثانية التي يحيون بها ويجتمعون؛ لأن هذا الذي ذكر في القرآن في سورة الزمر، وأما تسميتها بالفزع في سورة النمل فلا يقتضي اختلافاً مع ما ذكر، فقوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68]، مثل قوله: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87].(43/10)
تغير الكون والأجرام السماوية
ثم بعد ذلك تشقق السماء وتكون واهية، وينطلق الملائكة ويجتمعون، وتشققها يسمع له صوت مروع مرعب، وتطوى كما يطوى الكتاب، ثم بعد هذا تدحى الأرض وتبسط، حتى لا يبقى فيها شيء مستور، وذلك في الزلزلة العظمى، عندما يتجلى الباري سبحانه وتعالى للأرض، فيدحوها فتتزلزل الزلزلة العظمى، فتلفظ كل ما فيها، وتخرج كل كنوزها، وتبسط حتى لا يبقى فيها مكان مرتفع ولا مكان منخفض.
{إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:1 - 5]، وحين تدحى الأرض وتبسط تكون الجبال كالصوف فتذهب في الرياح: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:104 - 107] {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:5] فالجبال والشجر والأودية والبحار تزول وتبدل الأرض غير الأرض، وتشقق كما تشققت السماء، ويخرج الناس منها ينادَون: هلموا إلى ربكم، فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون، ويجتمعون في الساهرة وهي الأرض البديلة، وهي رقعة دائرية كالكرسفة البيضاء، لم يعص الله عليها قط، يحشر عليها الأولون والآخرون، من لدن آدم إلى نهاية الدنيا، وهذه الرقعة يحيط بها البصر بقدر الله وحوله أجل شأنه.(43/11)
الإتيان بجهنم تقاد
ثم بعد ذلك يؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فتحيط بالساهرة من كل جانب، وتكور الشمس وتدنو من الناس قدر الميل، ويقفون وقوفاً طويلاً وقد حشروا حفاة عراة غرلاً، يزدحمون في ذلك المكان، ويعرقون حتى يذهب عرقهم في الأرض أميالاً، ويرتفع العرق فوق الساهرة، فمن الناس من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يصل إلى ثدييه، ومنهم من يصل إلى ترقوته، ومنهم من يلجمه إلجاماً، يتفاوتون في ذلك بحسب أعمالهم.(43/12)
العرض الأكبر على الله
ثم بعد هذا يتجلى الباري سبحانه وتعالى لفصل الخصام، ويأذن في الشفاعة، وقد سبق ذكر مشهد الشفاعة: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] فيأتي العرض الأكبر.
يعرضون على الله تعالى لا تخفى منهم خافية، ويعطون صحائفهم، فمن معطى صحيفته بيمينه، ومن معطى صحيفته بشماله من وراء ظهره، فالذي يعطى صحيفته بيمينه تلقاء وجهه يفرح فرحاً عجيباً شديداً، والذي يعطى صحيفته بشماله من وراء ظهره يسود وجهه حتى يكون كالفحم، وتبيض وجوه أهل الإيمان وأهل السنة، وتسود وجوه أهل الكفر وأهل البدعة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر:60] قال: تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة، وذلك لأن أهل البدعة كذبوا على الله فشرعوا ما لم يأذن به الله ولهذا قال: {تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر:60].
وفي هذا الوقت يبدأ جزاء الحقوق بين الناس حتى لا يبقى من الحقوق إلا حقوق الله وحده، فما من أحد سيطالب أحداً بأية مظلمة إلا سينالها في هذا الوقت، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء، ويؤتى الإنسان بماله الذي لم يكن يخرج زكاته، فما من صاحب إبل لم يكن يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر يوم القيامة ليس فيها عرجاء ولا عفصاء، ولا يفقد منها كبيرة ولا صغيرة، كلما مر عليه آخرها عاد عليه أولها تطؤه بأخفافها وتنهشه بأسنانها، كذلك صاحب البقر أو الغنم.
وكذلك أصحاب الذهب والفضة، فإنها يحمى عليها في نار جهنم، ثم تجذب أشداقهم بالمجاذيب حتى تتسع، فلا يوضع دينار فوق دينار، ولا درهم فوق درهم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم: {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:35].(43/13)
المرور على الصراط
ثم بعد ذلك يأتي مشهد الظلام الشديد الذي لا يرى فيه شيء، ولا يبقى إلا من أنار الله وجهه وبيضه، ويرزق الله تعالى المؤمنين نوراً، فيسألون الله أن يتم لهم نورهم، فيلتمس أهل الكفر نورهم، ويسألونهم أن ينتظروهم حتى يقتبسوا منهم نوراً، ولكنه يضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ثم بعد هذا ينصب الصراط على متن جهنم، وهو أحد من السيف وأدق من الشعرة، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يمر كالرجل يزحف على مقعدته، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم.
وينادي الله تعالى آدم: أخرج بعث النار، فيقول: يا رب! من كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فذلك: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
ثم بعد هذا يؤذن لأهل الجنة بدخولها بعد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق، ويلقون فيها سلاماً، فيسلم عليهم الملائكة وقت دخولهم: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46] ثم يسلم عليهم أرحم الراحمين فيقول: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58] وبينما هم في نعيمهم إذ سطع لهم نور من فوقهم، فينظرون فإذا الله سبحانه وتعالى قد تجلى لهم، فينظرون إليه لا يضامون في رؤيته، فلا ينظرون إلى شيء مما هم فيه من النعيم ما داموا ينظرون إليه.(43/14)
ذبح الموت بين الجنة والنار
ومن تلك المشاهد أنه يؤتى بالموت في صورة كبش أقرن، فيعرض على أهل النار فيقال: أعرفتموه؟! فيقولون: نعم هو الموت، فيشمئزون منه، ثم يعرض على أهل الجنة فيقال: أعرفتموه؟ فيقولون: نعم هو الموت، ويشمئزون منه.
فيرجع على مرقد أو مكان مرتفع بين الجنة والنار فيذبح فينادي منادٍ: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت.
كل هذه المشاهد مما جاء في الآيات وصحت بها الأحاديث، وقد تضمنها قوله: (واليوم الآخر وما قد اشتمل عليه حق).
اليوم الآخر مبتدأ، وخبره حق، أي: يجب الإيمان به، فما جاء من ذلك تفصيلاً في النصوص الصحيحة وجب الإيمان به تفصيلاً، لكن لا يجب معرفة جزئياته وأفراده، ولا يحل التعلق بكيفياته، لأن هذا مما لا يدركه العقل، ولا تصل إليه أوهام الناس.(43/15)
أنواع العرض على الله
قوله: (وما قد اشتمل عليه من حشر) وهو حشر الناس لرب العالمين، (وعرض لعمل): كذلك العرض على الله سبحانه وتعالى {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
وهذا العرض أنواع: منه العرض العام للناس حين يعرض الله سبحانه وتعالى عن الكفرة فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم، ويقبل على المؤمنين، فيأتيهم في صورته فلا يعرفونه، ثم يأتيهم في صورة أخرى فيعرفونه، فيقول: ما الآية بينكم وبين ربكم؟ فيقولون: يكشف لنا عن ساقه، فيكشف لهم عن ساق فيخرون له سجداً، ويحاول المنافقون السجود فلا يستطيعون ذلك: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42].
ويخلو الله تعالى بكل عبد من عباده المؤمنين فيقول: أي عبدي! أتذكر يوم كذا إذ فعلت كذا وكنت قد نهيتك عنه؟ فيقول: نعم يا ربي! وكنت قد نسيته.
فيقول: لكنني لم أنسه.
وهذا المشهد هو الذي ذكره الله تعالى في قوله: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13 - 14].(43/16)
نصب الموازين
قال: (حق كذا الوزن وما به التحقق) كذلك من مشاهد القيامة أن يؤتى بالموازين القسط فيوضع الميزان، وقد اختلف هل هو مفرد أم جمع، لأن الآية جاء فيها: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47]، والموازين جمع ميزان، فقيل سمي بذلك لضخامته ولأنه في اللحظة الواحدة توزن فيه أعمال الخلائق، وهذا لا تدرك كيفيته، لكنه كفتان ولسان، هذا اللسان اختلف فيه هل هو لسان يتكلم به، أو هو لسان كلسان الميزان الذي يكون بين الكفتين فيعرف به ميلهما واعتدالهما.
وعموماً فإن بعض الناس تثقل موازينهم، وبعض الناس تخف موازينهم، أي: موازين الحسنات، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102 - 103] نسأل الله السلامة والعافية.
وهذا الوزن تجسد له الأعمال أو توزن فيه الصحائف، وهي بحسب قيمتها عند الله سبحانه وتعالى لا بحسب ثقلها المادي المعتبر؛ ولذلك فإنه يؤتى بالعبد يوم القيامة ويؤتى بصحائف سيئاته قد سدت الأفق ويؤتى برقعة قدر الظفر كتب فيها (لا إله إلا الله) فيقول: يا رب وما تغني هذه عن الصحائف، فيقول: إنك لا تظلم شيئاً.
فيؤمر بالصحائف فتوضع في كفة السيئات، ويؤمر بلا إله إلا الله فتوضع في كفة الحسنات، فترجح بها لا إله إلا الله فتطيش الصحائف وتتطاير وترجح بها لا إله إلا الله إذا قبلت.
ورجحان الأعمال يوم القيامة بحسب قبولها عند الله، ولهذا لا يستطيع الإنسان أن يجزم فيها بشيء بل يبقى بين الخوف والرجاء؛ لأنه قد يتقبل منه وقد لا يتقبل، ولذلك قال ابن المبارك: لئن علمت أن الله قبل مني حسنة واحدة لأيقنت بدخول الجنة.
فينبغي للإنسان أن يحرص على أن يسأل الله قبول العمل، كما كان الأنبياء يفعلون، {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127].
قوله: (وما به التحق)، أي: ما التحق بالوزن من إعطاء الكتب بالأيمان وبالشمائل من وراء الظهور ونحو ذلك.(43/17)
وجوب الإيمان بالجنة والنار
قوله: (والنار حق وكذا الجنة حق)، أي: مما يجب الإيمان به مما يتعلق بيوم القيامة الجنة والنار، وهما مخلوقتان اليوم، ومبقيتان لا تفنيان أبداً.(43/18)
أبواب الجنة والنار
فالجنة درجات متفاوته، وهي جنان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أم حارثة: (أوجنة هي؟ إنما هي جنان، وابنك في الفردوس الأعلى منها تحت عرش الرحمن)، وكذلك النار دركات نسأل الله السلامة والعافية، ولها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم، والجنة لها ثمانية أبواب.
وأبواب الجنة موزعة بحسب الأعمال الصالحة، فمنها باب الجهاد وباب الصلاة وباب الصدقة، وباب اسمه الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق فلم يدخل منه أحد، وحين حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث قال له أبو بكر: (يا رسول الله! ما على من دعي من جميع هذه الأبواب من بأس؟ فقال: نعم، وإني لأرجو أن تكون منهم) فـ أبو بكر لم يرض أن يدعى من باب واحد أو بابين أو ثلاثة، بل كانت همته عالية، فما رضي إلا أن يدعى من جميع أبواب الجنة.
وكذلك أبواب النار هي الأعمال السيئة، كالشرك والقتل وعقوق الأمهات والزنا وشرب الخمر وغير ذلك من الفواحش، ولهذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه في آخر هذه الأمة دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، فأبواب جهنم هي كبائر الإثم والفواحش، وهناك قوم يدعون إلى هذه ويروجون لها ويسعون لانتشارها بين الناس، فمن أجابهم إليها أدخلوه من هذا الباب، وهذه الأبواب مفتحة وعليها ستور، وعليها مناد يقول: يا عبد الله! لا تلج الباب فإنك إن تلجه لن تخرج منه، فلذلك تستدرج من دخلها، نسأل الله السلامة والعافية.
يجب الإيمان بالجنة والنار؛ لأنه من المعلوم بالدين بالضرورة بخلاف كثير من المشاهد الأخرى من مشاهد القيامة، فلا يقبل من أحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن ينكر وجود الجنة أو وجود النار، أو يجهل ذلك، فهذا مما لا يمكن جهله من الدين، لكن لا يجب الإيمان بتفاصيل ما فيهما ولا عدد أبوابههما، ولا درجات ذلك، إنما يجب ذلك على أهل فروض الكفايات فقط.(43/19)
وصف الجنة والنار
والجنة هي الدار التي أعدها الله للنعيم، وجعلها مستقر رحمته، وأعدها لجزاء أوليائه، والنار هي الدار التي أعدها الله لعذاب أعدائه وجعلها محل سخطه وبلائه، فالنار محل سخط الله، والجنة محل رضوان الله ورحمته، وكلتاهما متسعة جداً، فالجنة عرضها السماوات والأرض، والنار كذلك، فمقعد الكافر منها كما بين المدينة ومكة، وضرس الكافر فيها كجبل أحد، وأقدامهم بالكبول السوداء كالجبال السود، كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعلى المؤمن الذي يريد تزكية نفسه وتربيتها، أن يستكشف ما جاء من النصوص في شأن الجنة والنار ووصفهما؛ لأن ذلك يقتضي منه الإقبال على الله سبحانه وتعالى والسعي لدخول الجنة والهرب من النار، فمن لا يعرف الشيء لا يقدره حق قدره؛ ولهذا كان الخطباء من قديم الزمان يعتنون بوصف الجنة والنار، وبما جاء فيهما وبجمع الأحاديث والآيات بذلك، وألف كثير من العلماء في هذا.
فالذي يعرف وصف الجنة وما فيها لا يمكن أن تستزله شهوات الدنيا وملذاتها الفانية؛ لأنه يعلم أنها مقابلة لتلك، مضادة لها، والذي يعلم ما في النار من أصناف العذاب لا يستطيع الجراءة على الله تعالى ومحادته؛ ولذلك ما رأيت كالجنة نام طالبها ولا كالنار نام هاربها.
وأبلغ وصف للجنة هو قول الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]، فلا تصل العقول إلى وصف ما فيها، ولا يمكن أن تبلغ ذلك الألسنة، ولذلك جاء في الحديث القدسي الصحيح: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، وكل ما فيها مما جاء وصفه في الأحاديث، يأتي بأشياء لا تخطر على قلوب الناس وعقولهم، مع أنه ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، لكن إذا نظرت إلى وصفها في القرآن أو في السنة: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [محمد:15].
وكذلك الأحاديث الكثيرة الصحيحة في وصف الحور العين، وفي وصف بناء الجنة وفرشها وما فيها، وأنواع الثمرات التي فيها، وأن اللذة التي يلتذها الإنسان فيها تبقى دائماً لا تنقطع، حتى لو أردفت بآلاف الملذات، فنفس اللذة تبقى، وهذا من أعجب ما فيها.
كذلك أوصاف النار المزعة، ومن أبلغها قول الله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:12 - 14]، وكذلك قول الله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذاب} [النساء:56]، فإن الوحدات الزمنية التي نعرفها اليوم لا يمكن أن يقاس بها ما هنالك، ففي كل وحدة من وحدات الزمن الأخروي تتغير جلودهم ويكسون جلوداً جديدة، ولذلك فإن الذين مكثوا فيها مدة يسيرة وأخرجوا منها يلقون في نهر الحياة فتنبت أجسامهم كما تنبت الحبة في حميل السيل، ويخرجون منها قد اسودوا وامتحشوا، ولو أن قطرة واحدة من زقومها قطرت في بحار الأرض لخبثت كل ما في الدنيا وبشعته من نتن رائحتها.(43/20)
دخول الجنة برحمة الله لا بالأعمال
وأما الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج حين لقي إبراهيم في السماء السابعة مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، قال له: أبلغ أمتك أن الجنة إنما هي قيعان وغراسها التكبير والتسبيح والتهليل)، فليس على حقيقته، وما يفهمه الناس منه من أنها مجرد قيعان، والإنسان يغرس فيها بعمله فقط، وكلما ازداد عملاً ازداد ما ينبت له في الجنة غلط، لأن الجنة لا يدخلها الإنسان بجزاء عمله، بل لا يدخلها إلا بعفو الله وفضله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحداً منكم لن يدخل الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).
والمقصود بذلك أن الجنة لا يمكن أن يقاومها شيء من عمل الإنسان، فعمل الإنسان نعم ينعم الله بها عليه ويوفقه لها، وهذه النعم لا يمكن أن يقابلها بشكر؛ ولذلك روي أن عابداً من بني إسرائيل عاش زمناً طويلاً يعبد الله تعالى، فجيء به بعد موته فقال الله تعالى لملائكته: أدخلوا عبدي الجنة بعفوي وفضلي، فقال: يا رب بعملي، فعاد حتى قالها ثلاثاً، فقال الله لملائكته: زنوا نعمتي على عبدى وعمله، فأخذوا نعمة واحدة وهي نعمة البصر، فوزنوها بعمله فإذا هو لو عاش خمسين ألف سنة في عبادته لما بلغت مقابل نعمة البصر، ولم يأخذوا نعمة الإيمان ولا نعمة الخلق أصلاً، وغيرها من النعم، فقال: يا رب أدخلني الجنة برحمتك وعفوك، فأدخله برحمته وعفوه.
لكن حديث إبراهيم هذا يدل على الحث على الزيادة من الأعمال وأن درجة الإنسان في الجنة بقدر عمله، ولذلك يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: (اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها)، فزيادة الأعمال تزيد الدرجات في الجنة وتزيد الإنسان قرباً ورؤية لله سبحانه وتعالى.
فالنار والجنة باقيتان خالدتان لا ينقطع شيء مما فيهما، ولا يزول شيء مما فيهما البتة، وما ذكر عن بعض العلماء أن النار سيأتي يوم تفنى فيه، فهذا لا يوافق عليه، بل هو مخالف لكثير من الآيات والأحاديث الدالة على خلودها وبقائها.
وأما قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:106 - 108] فالمقصود بقوله: (إلا ما شاء ربك) التبرك والتمدح، فهذا ثناء على الله سبحانه وتعالى وأنه يخرج من النار أقواماً بعد أن دخلوها بمعاصيهم، فيخرجون منها بإيمانهم كما سبق ذلك في الشفاعة، لكن الجنة من دخلها لا يخرج منها أبداً.
والنار كذلك لا تفنى، بل قد ذكر الله تعالى استمرار عذابها وتخليد عذابها نسأل الله السلامة والعافية.(43/21)
أدلة وجوب الإيمان بعذاب القبر
هنا أضفت بيتاً ذكرت فيه بعض الأمور المتعلقة بيوم القيامة.
مما يجب الإيمان به أيضاً وجاءت به النصوص ولم يذكره الشيخ هنا وإن كان أجمله فيما سبق وذكره في الخاتمة، فقلت: [حق عذاب القبر والأشراط والبعث بعد الموت والصراط] أي أن عذاب القبر مما يجب الإيمان به؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلنه للناس على المنبر وتواتر عنه ذكره، (وقد كانت عائشة رضي الله عنها لا تعلم به حتى أتاها عجوزان من اليهود، فلما قامتا استعاذتا بالله من عذاب القبر، قالت عائشة: فأنكرت عليهما ولم أنعم أن أصدقهما، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته فقال: نعم أعوذ بالله من عذاب القبر)، فبين لها أن عذاب القبر حاصل.
وقد اختلف فيه هل هو يشمل المؤمنين من العصاة والكفار، أو هو مختص بالمرتابين والمرتدين، لأن ظاهر حديث أسماء في سؤال الملكين، في خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم بالكسوف، أن المنافق والمرتاب هو الذي يجيب الملائكة بهاه هاه لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، ويضربانه بمرزبة.
لكن الجواب عن هذا أنه لا ترابط بين فتنة القبر وبين عذاب القبر، فعذاب القبر يحصل حتى من دون فتنة، ومذهب جمهور العلماء أن الذين ماتوا على الكفر لا يسألون في قبورهم، وإنما يعذبون فيها، ولهذا ففتنة القبر مختلف فيها هل هي من خصائص هذه الأمة؛ لأن الذي يسأل عنه في القبر هو محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يرد مثل ذلك في الأمم السابقة، ولذلك قالت طائفة: هي من خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما عذاب القبر فإنه في الأمم السابقة، ولهذا قال الله تعالى في عذاب آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46]، أي في قبورهم، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، وكذلك قال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} [السجدة:21]، فالعذاب الأدنى هو عذاب القبر والعذاب الأكبر هو عذاب النار، نسأل الله السلامة والعافية.
وقد ثبت تعذيب أصحاب القليب الذين قتلوا يوم بدر على الكفر في قبورهم، وكذلك تعذيب اليهود الذين ذبحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني قريظة، فقد صح أنه كان ليلة في ملأ من أصحابه فسمعوا أصواتاً مروعة، فقال: (تلك يهود تعذب في قبورها)، وقد خرج ابن عمر في سفر بين مكة والمدينة، فمر ببدر وحده في السفر ذات ليلة، فخرج إليه رجل من قبره فقال: يا عبد الله اسقني، فتبعه ملك فجره بعنف وقال يا عبد الله لا تسقه، فأصيب ابن عمر بحمى شديدة، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوحدة في السفر بعد ذلك.
وعذاب القبر لا شك أنه متفاوت، فالذين يمنعون الزكاة يعذبون بشجاع أقرع في قبورهم، ومن الناس من يعذب بالحيات والتنانين، ومنهم من يعذب بنتن الرائحة، ومنهم من يعذب بالعطش وغير ذلك.
وهذا العذاب من أغرب ما فيه أنه في القبر الواحد تختلط عظام من هو في غاية النعيم ومن هو في غاية العذاب، فلا هذا يصل إليه شيء من نعيم هذا، ولا هذا يحس بشيء من عذاب هذا.(43/22)
ذكر الأشراط الكبرى الساعة
كذلك مما يجب الإيمان به مما يتعلق بيوم القيامة الأشراط، والأشراط جمع شرط، والشرط العلامة، والمقصود بذلك علامات الساعة، وهي تنقسم إلى قسمين على الراجح، وبعض العلماء يقسمها إلى ثلاثة أقسام: علامات صغرى وعلامات كبرى وعلامات وسطى.(43/23)
طلوع الشمس من مغربها وفتنة الدجال
فالعلامات الكبرى هي التي تقترب من الساعة جداً، ومن أعظمها طلوع الشمس من مغربها، حيث تخرج من باب التوبة فيغلق، وذلك بعد ثلاث ليال لا يؤذن لها بالطلوع، ثم تطلع من مغربها، وكذلك خروج الدجال الذي هو أعظم فتنة في الدنيا، فما بين خلق آدم وقيام الساعة فتنة أعظم من فتنة المسيح الدجال، وهو يخرج بين الشام والعراق، فيعيث يميناً وشمالاً ويمكث في هذه الأرض أربعين يوماً يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم، ومعه فتنة عظيمة، فيمر على أهل البلد فيصدقونه وهم مفلسون مقحطون فيأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض فتنبت، ويمر على القرية الخاوية فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل.
ويمر على أهل البلد فيكذبونه فيأمر السماء فتمسك ويأمر الأرض فتقحط، فتروح عليهم مواشيهم، لا تغض بلبن، وكذلك فإنه يقاتله الناس فيهزم كثيراً منهم ويتغلب عليهم، ولا يدخل مكة ولا المدينة، فعلى أنقابها ملائكة تحرسها، وتنزل مسالحه -أي جنوده- بالسباخ التي حول المدينة، ويصعد هو على جبل من جبالها، فيرى المسجد فيقول ذلك القصر الأبيض قصر محمد.
ثم يخرج إليه رجل من خير أهل الأرض، ويقول له: والله إنك للمسيح الدجال الذي حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيذبحه ويقسمه نصفين، فيمشي بينهما ثم يناديه، فيقوم فيقول: والله ما ازددت فيك إلا يقيناً، فيريد أن يذبحه فيجعل الله ما بين ذقنه وترقوته نحاساً فلا يسلط عليه.
والدجال كثرت فيه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يذكره في كل خطبة، وقد ورد في بعض الأحاديث أن من علامات خروجه أن يغفل الأئمة عن ذكره على المنابر، إذا نسي الأئمة ذكره على المنابر فهذا دليل على اقتراب خروجه، وهو موجود اليوم محبوس في جزيرة في البحر، وقد مر به تميم الداري في الحديث الذي أخرجه مسلم في الصحيح، وهذا الحديث له ميزة عند المحدثين، وهو الحديث الذي يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صحابي من أصحابه، ولا يوجد رواية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صحابي إلا هذا الحديث.
ويقتله المسيح عيسى بن مريم، ونزول المسيح شرط آخر من أشراط الساعة الكبرى، فإن المسيح قد رفعه الله إليه حين أراد اليهود قتله وصلبه، وسينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق في وقت صلاة الفجر وهو بين ملكين، وكأنما خرج من باب ديماس إذا طأطأ رأسه سال منه جمان وإذا رفعه تحدر، فيدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة، وإمامكم منكم، فيقول: يا نبي الله تقدم فصل، فيقول: ما أقيمت لي، ويصلي مأموماًَ، ولا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا مات في حينه، ونفسه يبلغ قدر ما يبلغ بصره.
ويقاتل المسيح الدجال ويدركه بباب لد فيقتله، وقد قيل في هيئة قتله له أنه يذوب كما يذوب الملح في الماء إذا رآه.
ووصف النبي صلى الله عليه وسلم المسيح الدجال بوصفين عظيمين لم يصفه بهما أحد من الأنبياء السابقين: الوصف الأول: أنه مكتوب بين عينيه (ك ف ر)، أي: كفر أو كافر، يراها أهل الإيمان.
الوصف الثاني: أن كلتا عينيه عوراء، بمعنى معيبة، فاليمنى عوراء كأنها عنبة طافية، أي خارجة من محلها، ولكنها ترى، فهي قبيحة لكنها ترى، واليسرى كأنها عنبة طافئة، أي مشقوقة داخلة في محلها ولا ترى، وهذا الفرق بين: (كأنها عنبة طافئة)، وبين: (كأنها عنبة طافية)، فالطافية التي تطفو فوق الماء، وهذا إذا صار العنب فاسداً، وتغير لونه فإنه إذا وضع في الماء ارتفع فوقه، والأخرى كأنها عنبة طافئة أي قد انطفأت وخرقت وذهب ضوءها.(43/24)
خروج الدابة ورفع القرآن والخسوف المتزامنة من العلامات الكبرى
وكذلك من هذه الأشراط الدابة التي تخرج من مكة، من صدع خلف الصفا، فتمر بشعب أجياد فتدخل على الناس من أشد المسجدين حرمة، لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب، {تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82].
وكذلك من هذه الأشراط الكبرى، رفع القرآن فيسرى عليه من المصاحف والقلوب ويمحى، {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} [الإسراء:86].
وكذلك من هذه الأشراط الكبرى نار تخرج من عدن تسوق الناس إلى جهة الشام تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا.
كذلك من هذه الأشراط الكبرى، خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب في وقت واحد.(43/25)
خروج يأجوج ومأجوج وخروج المهدي من العلامات الكبرى
وكذلك من هذه الأشراط الكبرى بعد نزول المسيح عيسى بن مريم وقتله للدجال خروج يأجوج ومأجوج، وهم خلق من خلق الله، فيهم كثرة عجيبة، وبطش وأذى يحصرون أهل الإيمان ولا قبل لأحد بقتالهم، فيجأرون إلى الله تعالى فيرسل عليهم دوداً يهلكهم، لكن تمتلئ الأرض بجيفهم ونتنهم وزهومتهم، فيضجون إلى الله من ذلك فيرسل سيلاً يذهب بجثثهم وينقي الأرض بعدهم، ثم توضع في الأرض بركة عظيمة جداً.
وكذلك من هذه الأشراط، الدخان الذي يعم الأرض، فيظن الناس أن حريقاً هائلاً قد وقع، وإنما هو شرط من أشراط الساعة، وعلامة من علاماتها.
وكذلك من هذه الأشراط خروج المهدي من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، يوافق اسمه اسمه واسم أبيه اسم أبيه، يخرج عند موت خليفة يصلحه الله في ليلة، فيدعوه الناس للبيعة في المدينة فيفر منهم إلى مكة فيتبعونه فيبايعونه بين الركن والمقام، ويملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت جوراً، ويحكم بالناس سبع سنين.
والظاهر أنه قبل قيام المهدي ستكون خلافة إسلامية طويلة الله أعلم بمدتها، لكنها على الأقل مثل الخلافة السابقة، لأنه شبهها بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حديث حذيفة الذي أخرجه أحمد في المسند والحاكم في المستدرك: (تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضَّاً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) ثم سكت، وفي حديث المهدي: (أن خروجه عند موت خليفة)، وكذلك في حديث نزول عيسى: (أنه ينزل وإمامكم منكم)، هذه هي العلامات الكبرى.(43/26)
ذكر العلامات الصغرى للساعة
أما العلامات الصغرى، فمنها: (أن تلد الأمة ربتها)، وفي رواية: (أن تلد الأمة ربها)، وفي رواية: (أن تلد الأمة بعلها)، كل هذه روايات صحيحة.
والمقصود بها: كثرة العقوق؛ وكذلك اتخاذ أمهات الأولاد وانتشار ذلك، وكذلك تفكك الروابط الاجتماعية المؤلفة بين الناس.
ومنها: (أن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)، أو: (أن يكونوا سادة الناس)، كل ذلك من الروايات الصحيحة.
وكذلك رفع الأمانة، وأن يوسد الأمر إلى غير أهله، وكذلك رفع العلم، وأن يكثر الجهل.
وكذلك أن يكثر النساء، ويقلّ الرجال حتى يكون خمسون امرأة للرجل الواحد، وكذلك من هذه العلامات تقارب الزمان: (حتى تكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاشتعال السَّعفة).
وكذلك بسط الدنيا، وفتح أبوابها على الناس؛ وأن يحسر الفرات عن كنز من ذهب، يقتتل الناس عليه قتالاً شديداً؛ وكذلك النار التي تخرج من المدينة فتضيء لها أعناق الإبل ببُصرى، وقد خرجت؛ ففي القرن السابع الهجري ثار بركان المدينة الذي من الحرة الشرقية.
وكذلك الفتن التي حصلت في هذه الأمة وتحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك فتوحات البلدان، وكذلك قوله لـ حذيفة في تبوك: (لئن طالت بك حياة لترين ما هاهنا قد ملئ جناناً)، وذلك قوله: (إن جزيرة العرب ستعود أنهاراً ومروجاً)، وغير هذا من الأشراط الصغرى التي تحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعض الناس يعد أشراطاً وسطى، مثل: النار التي تخرج من المدينة، والجيش الذي يخسف بأوله وآخره، فهم يعدون هذه من الوسطى، لا من الأشراط الكبرى ولا الصغرى، ومنها: فتح رومية وخراب المدينة، وفتح بيت المقدس في آخر الزمان، لكن يبدو أن هذه الأخيرة متسلسلة تأتي مع الأشراط الكبرى؛ لأنه جاء في الحديث أن يكون ما بين فتح رومية وقرب الدجال أقل في شهرين، وخراب المدينة إنما يكون بتركها: (لتتركن المدينة على خير ما كانت، لا يغشاها إلا العوافي، حتى يأتي ذئب أبيض فيدخل المسجد لا يرده أحد، حتى يغدو على المنبر، فيبول عليه)، وإنما يكون ذلك -في ظاهر الحديث- فيما يقتضي موتاً ولا يفسد بناءً، ونحن نفهم اليوم نظير هذا من القنابل التي لا تهدم البيوت، ولكنها تقتل كالغازات السامة وغير ذلك؛ لأنه: إذا كان آخر يدخلها راعيان من مزينة ينعقان بغنميهما، حتى إذا بلغا ثنية الوداع انكبا على وجوههما.(43/27)
وجوب الإيمان بالبعث وذكر بعض أدلته
ومما يجب الإيمان به البعث بعد الموت، وقد جاء فيه سبعمائة وسبع وستون آية من القرآن، وذكر الله سبحانه وتعالى كثيراً من أدلته العجيبة في كتابه، ومنها ما في خواتيم سورة يس، فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77]، فهذا إخراج الشيء من ضده، فهذا الإنسان القوي المتماسك، خلق من هذه النطفة التي هي أمشاج مستقذرة: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77].
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78]، هذا البعث بعد الموت: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79]، هذا الدليل الثاني، وهو الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، كما جاء أيضاً في سورة الواقعة.
وقوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79]، هذا الاستدلال بعلم الله تعالى الذي لا يفوته شيء، فهو قادر على إعادة الذرات، وما هو أقل منها على هيئاتها {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79].
ثم استدل بتمام قدرته، فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} [يس:80]، وهذا خلق الشيء من ضده تماماً: {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:80].
وقوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [يس:81] في هذه الآية الاستدلال بالخلق الأكبر على الخلق الأصغر: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:81]، (بلى) هذا قسم أيضاً، وهو نوع آخر من أدلة البعث، يقسم الله عليه؛ لقوله: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:53]، {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] معناه: لتبعثن.
وفي قوله تعالى: {وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:81]؛ كذلك إثبات صفات التأثير لله سبحانه وتعالى، دليل من أدلة البعث بعد الموت؛ لأنه أخبر عن ذلك، وهو قادر عليه متى شاء فعله.
وقول الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فيها أن من تمام قدرته أنه يفعل ما يشاء، ولا يصيبه لغوب ولا تعب، ولا تأخذه سنة ولا نوم، بل (إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون) ولا يمكن أن يتأخر ولا أن يتقدم؛ لهذا قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:82 - 83]، ختم هذه الآيات بالبعث لقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:83].
وهذا البعث بعد الموت للبشر قطعاً، وللجن أيضاً؛ لأن الله أرسل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالشرائع فهم مجزيون عليها لا محالة، والبعث كذلك للبهائم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في وقت الجزاء الأخروي: (حتى يقتص للشاة الجمَّاء من الشاة القرناء)، ولكن اختلف في البهائم بعد ذلك ما مصيرها، فقيل: تعود كما كانت تراباً، والأرض كلها تكون خبزة يتكفؤها الجبار بيمينه كما يتكفأ أحدكم خبزته نزلاً لأهل الجنة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه حدثهم بذلك، فدخل عليه حبر من اليهود فقال: (بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم، أما علمت أن الأرض تكون يوم القيامة خبزة يتكفؤها الجبار بيمينه كما يتكفأ أحدكم خبزته، نزلاً لأهل الجنة، فالتفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتسم)، عجب من تصديق الحبر له، هذا حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين، فقال: (أتدرون ما إدامها؟ إدامها بالام ونون، فقيل: ما هذا؟ فقال: ثور وسمك -أي: ثور وحوت- يشبع من زيادة كبده سبعون ألفاً)، زيادة الكبد فقط يشبع منها سبعون ألفاً، وهذا تفسير: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وفي تفسير آخر: أن ذلك في الدنيا، حيث يجعل الله العاقبة للمتقين، ويمكن لهم في الأرض دائماً، ويهلك عدوه.
كذلك مما يجب الإيمان به الصراط، الذي هو الجسر الذي ينصب على متن جهنم: والرب لا يعجزه إمشاؤهم عليه إذ لم يعيه إنشاؤهم أي: فكما أنشأهم لا يعجزه إمشاؤهم على الصراط، وقد ذكرنا تفاوت مرور الناس وعبورهم عليه.(43/28)
مراتب القدر
[والكتب للأشياء في الذكر سبق من قبل أن تخلق فهو المنطلق] أي: أن كل ما هو كائن، فقد سبقت كتابته في علم الله، وهذه مرتبة من مراتب القدر وقد ذكرناها، والقدر أربع مراتب: المرتبة الأولى: علم الله السابق بجميع الأشياء إجمالاً وتفصيلاً.
والثانية: كتابة كل ذلك في أم الكتاب من صحفه التي عنده، وهذا هو المقصود هنا في قول الناظم: (والكتب للأشياء في الذكر سبق)، فيكتبها الله سبحانه وتعالى، كما في قوله سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، وكذلك قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]، وهذا الكتاب المبين هو الذي يكتب الله فيه؛ ولذلك قال: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39].
والكتب للأشياء كلها ما هو كائن منها، وما أمدُ حياته وتعميره، وما يطرأ عليه من العوارض والآفات وغير ذلك، كل ذلك مكتوب عنده: (رفعت الأقلام وجفت الصحف).
قوله: (من قبل أن تخلق)، أي: تلك الكتابة سابقة على الخلق طبعاً، (فهو المنطلق)، أي: ذلك الكتاب هو المنطلق الذي لا يخالفه شيء ولا يتم شيء إلا على وفقه، فلا يحصل حركة ولا سكون ولا غير ذلك، إلا على وفق الكتاب السابق، فمنه تنطلق الخلائق كلها، قال الشيخ حفظه الله: وكل ذا في الذكر جا أو في الخبر والآن أبتدئ نظم المختصر قوله: (كل ذا) أي: كل ما ذكرناه من عقائد أهل السنة والجماعة في هذا النظم، (في الذكر) أي: في القرآن (جاء) صريحاً (أو في الخبر) أي: الأحاديث الصحيحة، كما سبق بيانه، فليس من ذلك شيء من اجتهادات الناس ولا من أقوالهم، ولا من عقائد الفرق الضالة، ولا من اجتهادات الذين يتكلفون ويتعنَّون؛ بل كله إما صريح في القرآن، وإما صحيح في السنة؛ ولهذا قال: (وكل ذا في الذكر جا) أي: في القرآن، أو (في الخبر) أي: في الحديث.
(والآن أبتدئ نظم المختصر) أي: أن هذا مقدمة لنظمه، الذي ينظم فيه مختصر خليل، وقد أضاف عليه كثيراً مما ليس فيه.
نسأل الله أن يختم بالصالحات أعمالنا، وأن يختم بالحسنات آجالنا، وأن يجعل خير أعمارنا آخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(43/29)
الأسئلة(43/30)
عقوق الأمهات
السؤال
أيهما أعظم عقوق الأب أم عقوق الأم؟
الجواب
بالنسبة لعقوق الأمهات ورد التحذير منه بالخصوص في أحاديث كثيرة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري في الصحيح: (إن ربكم حرم عليكم: وأد البنات، وعقوق الأمهات، ومنعاً وهات، وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، وعند عدِّه للكبائر ذكر عقوق الأمهات، ولكن الله سبحانه وتعالى ذكر حقوق الوالدين عموماً، في قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]، وفي قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، وفي قوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8] إلخ.
فمن باب ذكر عقوق الأمهات بالخصوص، لا شك أنه أشنع من عقوق الآباء، لكن الجميع سيئ؛ نسأل الله السلامة والعافية.
وعاقو الوالدين هم من الذين جاء فيهم الوعيد أنهم لا يدخلون الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والذي يمشي بالنميمة، والمنان -الذي يمنّ على الناس-).(43/31)
النار التي تضيء لها أعناق الإبل ببصرى
السؤال
وماذا عن النار التي تضيء لها أعناق الإبل ببصرى؟!
الجواب
صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن ناراً تخرج من المدينة تضيء لها أعناق الإبل بِبُصرى)، وقد حصل ذلك، فخرج بركان هائل جدّاً من الحرة الشرقية، وكان يسيل كالوادي إلى جهة الشمال، حتى رأى الناس أعناق الإبل تضيء ببصرى، ومكث هذا الحريق ستة أشهر، وذلك في (سنة 654هـ)، قبل سقوط بغداد بقليل.(43/32)
الملاحم والفتن التي تقع آخر الزمان
السؤال
نرجو منكم الكلام على خروج المهدي وما يقع في آخر الزمان من الفتن والملاحم، وكيف نوفق بين خروج المهدي إثر خليفة يقتل، وأنه يخرج فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً؟
الجواب
بالنسبة لذكر الجور عند خروج المهدي، قال: (أن يملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت جوراً)، ولكن لا يقتضي ذلك أن تكون في نفس الوقت قد ملئت جوراً.
ويناسب ملؤها جوراً عند موت خليفة؛ لأنه إذا مات ولم يقم مقامه أحد فسد النظام، وكثر الظلم، فلا ينافي ذلك أن يكون الخليفة عادلاً، ثم يقع الجور بعد موته، وإذا حصل خليفة، فلا تقتضي خلافته أن يكون حاكماً على الأرض كلها، فقوله: (أن يملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت جوراً)، لا يقصد بها كل الأرض، وإنما يقصد بها الأرض التي هو عليها.(43/33)
أسماء أبواب الجنة
السؤال
هل ورد ذكر بقية أبواب الجنة بالاسم؟
الجواب
ما يتعلق بأبواب الجنة لم يرد بالتفصيل في أسمائها إلا ما ذكر منها فقط، ولكن يقاس عليها غيرها، فعظام الأعمال الصالحة وجسام أعمال الخير، هي أبواب الجنة، وكذلك كبائر الإثم والفواحش هي أبواب النار، ولا يمنع أن يسمى الباب الواحد بعدة من الأعمال، مثل باب واحد من أبواب النار.(43/34)
آليات قتال الدجال
السؤال
هل ورد تحديد آلية قتل المسيح الدجال ومركوبه ونحو ذلك؟
الجواب
وأما ما يتعلق بالمسيح الدجال وقتاله فلم ترد نصوص في تحديد آلية القتال إذ ذاك، وحتى آليات السفر والاتصال، بل جاء أن دابته لا يعرف قبلها من دبرها، وأنها سريعة في مشيها جداً تقطع المسافات الشاسعة في الوقت اليسير، ولو ورد شيء في تفاصيل أنواع الأسلحة وذكر فيها أسماء السيوف أو نحو ذلك، فيكون ذلك من باب التقريب حيث يذكر للناس بما يفهمون، ولا يمكن أن يحدثوا بما لا يفهمون إذ ذاك، لكن لا ينافي هذا أن يكون ذلك تعبيراً عن أسلحة أخرى، هذه أمور لا يبحث فيها تفصيلاً، وهي من الكيفيات المجهولة، ولكن لا يقال: إن المسيح الدجال ما زال متأخراً؛ لأن الأسلحة موجودة، وأن ما سيقاتل به نوع آخر، بل من الآيات ما يشعر أن هذا الزمان سيتقلب عما كانوا عليه، واقرأ قول الله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] أي: اعتُبرت كرة، أو اعتبرها الناس كذلك، أو اكتشف الأمر.
وقد أخذ من هذا بعض المفسرين أنه إذا اطلع على بعض نواميس الكون ككروية الأرض، ونحو هذا، فيدخل ذلك في هذا.
{وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} [التكوير:2] أي: تساقطت.
وقد حصل كثير من هذا، ووصل إلى بعض المجرات، وعرف حتى بعض الكواكب وتفاصيل ما فيه.
وقول الله تعالى: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:3]، واليوم تسير الجبال! وتزاح من أمكنتها، ويبنى في أماكنها، وكذلك: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:5] جمعها والتلهي بذلك، وهذا قد أصبح موجوداً اليوم في حدائق الحيوانات وغيرها! وكذلك تعطيل العشار: فلا تركب؛ فقد جاء في الحديث أنها تعطل فلا تركب، وهذا الواقع اليوم، فلم تعد تركب لقطع المسافات، لكن عموماً لا يقتضي هذا أن نبحث في الكيفيات والهيئات، لكن الآيات والأحاديث التي ترشد إلى بعض هذا لا تقتضي بعد خروج المسيح الدجال، وليس للإنسان أن يطيل الأمل، وأن يذكر أن الدنيا ما زالت منها بقية بسبب أنه يفهم من بعض النصوص تعطيل بعض ما يراه من الواقع، بل أمْر الله تعالى إذا شاء كان في لمح البصر؛ ولذلك فنحن نشاهد في أعمارنا أشياء كانت مستغربة جداً، قبل سنوات قليلة، فمن الذي يتصور مثل هاتف (الجوال)! وأحداث كثيرة تحصل في السنة الواحدة، وما كانت في الأزمنة الماضية تحصل خلال عقد كامل من الزمن، ونحن قد شاهدنا هذا في زماننا.
ومن تقارب الزمان: تيسر الاتصالات والنقل وغير ذلك.(43/35)
قتال اليهود آخر الزمان
السؤال
ماذا عن قتال المسلمين لليهود هل هو قبل الدجال أو بعده؟
الجواب
أما عن قتال المسلمين لليهود فسيكون بالشام عندما يكون الشام مهاجَر المسلمين، سيكون فيه خِيرة أهل الأرض يجتمعون فيه في مهاجر أبيهم إبراهيم ويقاتلون اليهود، والله أعلم هل سيكون ذلك بعد خروج المسيح الدجال -وهذا الذي يشهد له بعض الأحاديث- أو قبله؟! لكن القتال الذي يقضى فيه على اليهود جاء فيه: (حتى لا يبقى منهم أحد، حتى يقول الشجر والمدر: يا عبد الله! يا مسلم! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله)، يبدو أنه لن يكون إلا بعد قتل عيسى للمسيح الدجال.
وسيكون المسلمون شرقي نهر الأردن، واليهود غربيه كالحال اليوم، واللد الذي سيقتل فيه المسيح بن مريم المسيح الدجال، سمي به اليوم مطار تل أبيب، فهو في رملة اللد ويسمى اليوم مطار اللد.
وكذلك فإن شجر (الغرقد) قد بدأ اليهود زراعته وتعميمه في أكثر بلدان العالم؛ لأنهم يزعمون أن الناس إذا ظهر المسيح يدعوهم فيكثر اليهود، فأصبحوا يزرعونه في كل مكان من العالم؛ وكذلك سيكون فتح بيت المقدس عند خراب المدينة، فيبدو أنهم سيكونون سبباً في خراب المدينة ثم يفتح بيت المقدس، وإذا قضي على اليهود فسيكتمل الفتح حتى تفتح رومية، على ظاهر الأحاديث.
وأما كون رومية تفتح، فيخرج الدجال بعد ذلك بشهرين، فيبدو أنه فتح غير الفتح النهائي الأخير الذي تؤخذ فيه كنوزها، وقد جاءت أحاديث في هيئات فتحها، فبعض الأحاديث يذكر فيها القسطنطينية، وبعضها يذكر فيها رومية، لكن كل واحدة منهما تسمى باسم الأخرى، فالقسطنطينية تطلق على مدينة (هرقل) التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تفتح أولاً وهي: إستانبول، وعلى روما فإنها تسمى القسطنطينية أيضاً وتسمى رومية، أي: لا تعارض بين هذه الأحاديث؛ لأنه قد ملكها ملك يسمى القسطنطين قديماً، وسميت باسمه.(43/36)
هدم الكعبة آخر الزمان
السؤال
ماذا عن هدم الكعبة آخر الزمان؟
الجواب
أما ما يتعلق بهدم الكعبة المشرفة؛ وكذلك خروج الرجل الذي اسمه (جهجاه) يسوق الناس بعصاه؛ وكذلك غنائم كلب ونحو ذلك فكلها متعلقة بتلك الفتن والملاحم التي تكون في آخر الزمان، فهي فتن وملاحم عظيمة جداً، ويبدو أن أكثرها ما بين الشام والعراق، والحجاز، فهي في هذه المنطقة بالخصوص، كما في الحديث الذي أخرجه مسلم في الصحيح: (يوشك أن لا يجبى إلى العراق قفيز ولا درهم، قيل: من أين ذاك، قال من قبل الروم يمنعونه قفيزه ودرهمه فلا يجبى إليه قفيز ولا درهم)، حصار يضرب على المسلمين في العراق، فلا يجبى إليهم قفيز ولا درهم.
والقفيز: مكيال، ويمكن أن يعبر عنه اليوم بنحو البرميل أو غير ذلك، وكذلك الفتن التي تطلع من قبل العراق، ومنها: أن الفرات سيحسر عن كنز من ذهب، والفرات اليوم بدأ يحسر؛ لأن مياهه بدأت تصرف في تركيا وغيرها.
وكذلك هدم الكعبة وأن الأحباش هم الذين يهدمونها ولا يدرى هل سيأتون من الحبشة، أم من قبل جدة؟ لأن ظاهر الحديث أنهم يأتون من قبل جدة ويدخلونها، فيرمون حجارتها في البحر، ولا يدرى لعلهم مملوكون لأحد الملوك يدخلون في جيشه، كما هو ظاهر السياق، ويأخذون كنز الكعبة أي: ذهبها، ولا يدرى هل هذا الكنز هو باب الكعبة أم ميزابها، أم فيها كنز مجهول، الله أعلم، لكنهم يأخذون كنزاً من الكعبة، والأحاديث في هذا كثيرة، لكنها في كثير منها لا تكون صريحة الدلالة، وهذا مما يقتضيه الحال، مثل قول الله تعالى في الامتنان على عباده: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8]، وكل الأحاديث والآيات الواردة في الفتن هي من قبيل المتشابه، الذي يجب أنه يقال فيه: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]، ولا يبحث في تأويله وهيئاته وكيفياته، إلا ما فهم الإنسان ورأى مما تحقق، فيزول عنه التشابه بالتدريج شيئاً فشيئاً، فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من الفتن التي شاهدناها ورأيناها، وذكر للصحابة فتناً دونها باب سيكسر، وهو قتل عمر بن الخطاب، فإذا قتل عمر فتحت أبواب الفتن كما قال حذيفة، وبداية ذلك: قتل عثمان رضي الله عنه، وعندما قتل رفع السيف ولم يغمد حتى قتل ثلاثون ألفاً، ثم بعد ذلك قتل الحسين رضي الله عنه وعندما قتل رفع سيف ولم يغمد حتى قتل سبعون ألفاً، وهكذا الفتن الأخرى، مثل: فتن المال وانتشاره، وفتن الملك وغير ذلك، كلها قد شاهدها الصحابة رضوان الله عليهم.(43/37)
دنو الشمس من الخلائق قدر ميل
السؤال
الميل الوارد في حديث دنو الشمس من الخلائق، هل هو ميل المكحلة أم ميل المسافة؟
الجواب
بالنسبة لدنو الشمس قدر ميل، قال راوي هذا الحديث رضي الله عنه: فما أدري هل هو ميل المسافة أو ميل المكحلة، والذي يبدو أن المراد هو ميل المسافة؛ لأن ميل المكحلة يقتضي أن يكون الناس على درجة واحدة، والناس متفاوتون في الطول والقصر، ومتفاوتون في إلجام العرق.(43/38)
التكفير في مسألة خلق القرآن
السؤال
نأمل أن تتعرض للخلاف في مسألة خلق القرآن، وهل هو كفر دون كفر، أم هو كفر أكبر، كما ذهب إلى ذلك بعض السلف؟
الجواب
إن قضية التكفير والحكم على شخص أو جماعة بالكفر ليست من مسائل الاعتقاد، وإنما هي في مسائل الفقه والأحكام.
والإيمان ضده الكفر، فما كان ركناً من أركان الإيمان وأنكره شخص فإنه يكفر بذلك.
وينقض الإيمان دون ذلك أشياء تُسمى نواقض الإيمان؛ وكذلك تُبطل الأعمال أشياء دون هذا.
ومسألة خلق القرآن بالخصوص، قد ذكرنا من قبل أنه يجب على المسلم أن يعتقد أن القرآن كلام الله وأنه غير مخلوق، وقد ذكرنا أدلة ذلك، ولكن قد قالت طائفة من هذه الأمة -وهم المعتزلة- بأن القرآن مخلوق، وشاعت شبهتهم، وانتشرت حتى أخذ بها بعض أئمة المسلمين وقادتهم الذين بايعهم الناس، واختلفت مواقف الناس إذ ذاك: فمن السلف في ذلك الزمان من أعلن تكفير كل من قال بخلق القرآن، وأنه كافر كفراً أكبر مخرجاً من الملة؛ ولكنه لا يطبق ذلك على الأفراد، ولا يستطيع أن يصفهم بهذا الوصف، وذكروا في استدلالهم على ذلك أن القرآن من الله، ولا شيء من الله مخلوق.
وهم لا يقصدون بقولهم (من الله) أنه جزء منه سبحانه وتعالى بل هو منزه عن ذلك، وإنما يقصدون أنه كلامه.
وهذا من الاستدلال باللوازم؛ لأن النصوص لم يرد فيها ما يصح مما يقتضي التكفير، بل جاء في ذلك حديثان، وكلاهما موضوع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: إن القرآن مخلوق فقد كفر)، فالأحاديث الواردة في ذلك موضوعة.
وقالت طائفة أخرى منهم: بأنه يجلد ويحبس، وأنه قد ابتدع وقال قولاً عظيماً لم يأتِ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مما يخالف دلالات النصوص؛ لكن التكفير أمر صعب؛ لأنه قد جاء ثمانية أحاديث صحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال المسلم لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما)، وكقوله: (فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه)، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة.
وبعض العلماء حمل قول الذين قالوا: (هو كفر مخرج من الملة)، على أن المقصود به التشنيع والتنفير منه؛ ليكون ذلك رادعاً للناس عن الابتداع، وإذا سمعوا من العلماء من يقول: (هذا كفر)، استشنعوه وفروا منه، وعلى هذا حمل الخطابي رحمه الله قول القائلين بالتكفير به، وحكاه عنه ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وذكر عن أبي نصر الصيفي قولين للسلف الصالح في التكفير به.
لكن تبقى مسألة أخرى وهي: أن المعين -أي: من قال بخلق القرآن بخصوصه، أو قال قولاً كفراً، أو فعل فعلاً كفراً- لا يكفر إلا إذا توافرت فيه شروط التكفير، وقد ذكرنا هذه الشروط من قبل؛ ولذلك كان الإمام أحمد يقول: لو لم يكن لي إلا دعوة صالحة واحدة لجعلتها للخليفة، وكان يصلي خلف المعتصم ويدعو له، ويقول له: (يا أمير المؤمنين)، ولم يستبح الخروج عليه، ولو كان يرى أن من قال بخلق القرآن يكفر بذلك لكفَّره، واستباح الخروج عليه، ولم يدعُ له؛ لأن الله تعالى يقول: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].
وقد نشر هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوي: (11/ 487) وذكر مائة صفحة في الكلام على هذه المسألة، وتعرض لها في مواضع أخرى في كتابه: (الرسائل الماردينية)، فذكر أنه يصلى خلف هؤلاء إلا من كان منهم داعية لذلك، واعتمد في هذا على الرواية المشهورة عند الحنابلة، وهي التي اختارها ابن قدامة، أما المعتزلة والجهمية فلا يكفر منهم إلا من كان داعية لبدعته معلناً بها، بل في اختيار ابن قدامة في رسالته المشهورة: أنه لا يكفر داعيتهم إذا كان مجتهداً في طلب الحق، وعلم منه أنه غير صاحب هوىً، فلا يكفر بذلك.
وقد ذكر هذا القول كثير من أئمة الحنابلة مذهباً لهم، وهو المذهب عند المالكية والحنفية، وكذلك الشافعي رحمه الله؛ فإنه عندما ناظر حفص الفرد في مسألة القرآن، فقال: لقد كفرت بالله العظيم، قال أصحابه: لم يكفره؛ إذ لو كفره لسعى في قتله، والذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا مذهب الشافعي؛ وذلك أن الشافعي رحمه الله ذكر في الأم كلاماً على الشهادة، قال: لقد كان الناس يختلفون -يقصد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وأتباعهم- فما كان أحد منهم يُكفر أحداً ولا يُبدعه ولا يفسقه؛ ولهذا أقبل شهادة جميع أصحاب المقالات إلا الخطابية؛ فإنهم يستبيحون الكذب لنصرة من وافقهم في نحلتهم، فلا يرد شهادة أحد من أصحاب المقالات.(43/39)
الفرق التي كفرها أئمة السلف
السؤال الآخر: ما الفِرق التي كفرها السلف؟
الجواب
ليس للسلف مذهب واحد، حتى يقال: كفروا الفرقة الفلانية ولم يكفروا الفرقة الفلانية؛ لكن يقال: إن عدداً من الأئمة كفَّروا بعض الفرق، وبعضهم بالغ فقال: من لم يكفرهم فهو كافر أيضاً، وإنما يقصدون بذلك التشنيع؛ لكن لا يمكن أن يطلق التكفير على فرقة بكاملها؛ بل يقال: هذا القول كفر؛ ولكن من قال به قد يختل فيه شرط، أو يتصف بمانع يمنعه من أن يكفر بالخصوص، والأقوال التي نص العلماء على أنها كفر كثيرة، وهي منصوصة في المذاهب، وقد حاول القاضي عياض حصرها في كتاب (الشفاء)، فذكر ما يُكفَّر به من الأقوال، فهذه الأقوال إذا قال بها فردٌ من فرقة واقتنع بها واعتقدها، وقامت عليه الحجة، وانتفت عنه الموانع، كفر لذاته، وإلا فلا يقال -مثلاً- الإمامية كفار بالإطلاق، بل يقال: من اعتقد منهم بالقول الفلاني، وقامت عليه الحجة وتوافرت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع كفر، لكن يقال: هذا القول كفر في حد ذاته، ومن هنا: فالفرق لا يمكن أن تكفر جملة؛ لأن فيهم من هو جاهل، وفيهم من هو معذور، وفيهم من لم تقم عليه الحجة.
وبالنسبة للنصيرية فليسوا من فرق الإسلام؛ لأن أصل عقيدتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس خاتم الأنبياء، وليس هو رسول آخر الزمان، فمن كان كذلك ليس من أهل هذه الملة أصلاً؛ وكذلك من لا يعتقد صلاة إلى القبلة، أو لا يؤمن بالصلوات الخمس، كالدروز، فهؤلاء ليسوا من فرق هذه الأمة أصلاً، ولا يعدون من الفرق الإسلامية.(43/40)
مصطلحات في التوحيد
السؤال
ما تفسير هذه المصطلحات: توحيد القصد، توحيد الطلب، توحيد المعرفة، ومن أول من استعملها من العلماء؟
الجواب
توحيد القصد: المقصود به توحيد العبادة في الدعاء، والذبح والصلاة ونحو ذلك، فهذا هو المسمى بتوحيد القصد، أي: التوجه لقصد التقرب إلى الله.
وهو يطلق على توحيد العبادة، وتوحيد الألوهية أيضاً.
وأما توحيد الطلب: فهو بمعنى توحيد القصد، فتوحيد القصد بمعنى العبادة، وتوحيد الطلب بمعنى الدعاء.
وأما توحيد المعرفة والإثبات فيشمل توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات؛ لأنه توحيد معرفة الله سبحانه وتعالى بما وصف وسمى به نفسه، وهذا توحيد إثبات لما أثبته لنفسه، ونفي لما نفاه عن نفسه.
أما أول من استعمل هذه المصطلحات: فهذه المصطلحات ذكرها عدد من علماء القرن الرابع، ومنهم: الأشعري، والصابوني، وآخرون بعدهما؛ لكن أول من ذكرها -حسب ما أعلم- الصابوني في رسالته لأهل نيسابور، وقد تبعهم عليها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن أبي العز وغيرهما.(43/41)
المنارة البيضاء التي ينزل عندها المسيح
السؤال
هل المنارة البيضاء شرقي دمشق موجودة الآن؟
الجواب
يوجد في مسجد بني أمية منارة بيضاء، وهي المنارة الشرقية من مناراتهم، ويمكن أن تكون المقصودة في الحديث.(43/42)
خروج الدابة ثلاث خرجات
السؤال
هل ثبت أن الدابة تخرج ثلاث خرجات متباعدة؟
الجواب
إن هذا جاء فيه عدد من الأحاديث، وقد مال إليه ابن كثير، والمحب الطبري، وغيرهما، ولكن الذي صح هو خروجها المذكور في القرآن والأحاديث الصحيحة، وقد صح أن خروجها يكون من شعب أجياد.(43/43)
المقدمات الضرورية لعلم العقائد
قبل الشروع في أي علم ينبغي أن يعرف الطالب مقدماته العشر التي بمعرفتها يسهل التعلم، وهذه المبادئ العشرة اهتم أهل العلم ببيانها وشرحها لطلاب العلم، ومن أهم ذلك مقدمات علم العقائد.(44/1)
معرفة حد علم العقائد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قبل الشروع في كل علم ينبغي أن يطلع الإنسان على عشر مقدمات يحتاج إليها في تصور ذلك العلم الذي يريد الإقدام على تعلمه، وهذه المقدمات العشر هي التي نظمها المقري بقوله: من رام فناً فليقدم أولاً علماً بحده وموضوع تلا وواضع، ونسبة وما استمد منه، وفضله، وحكم يعتمد واسم وما أفاد والمسائل فتلك عشر للمنى وسائل وبعضهم فيها على البعض اقتصر ومن يكن يدري جميعها انتصر(44/2)
تصور علم العقائد مبني على أساس عبودية المكلف
فأولها: الحد: والمقصود به تعريف هذا العلم، وشرح ماهيته، ونحن لا نريد أن نسلك طريق المناطقة الذين يتقيدون في الحدود بتعريفات مدققة مختصرة يرد عليها كثير من الاعتراضات، ثم يجاب عن تلك الاعتراضات، فالطريقة العلمية تقتضي منا أن نتصور العلم الذي نريد البحث فيه أولاً قبل الشروع فيه، وتصوره يبدأ ببنائه التأسيسي.
وبناء هذا العلم التأسيسي هو أن الله سبحانه وتعالى حين خلق الإنسان خلقه لعبادته، فعلى أساس ذلك يقوم، فقيمة كل شيء إنما هي بحسب هدفه، والإنسان خلق من أجل العبادة، فتقويمه على أساس ما قام به من هذه العبادة في حياته، مثل هذا الجهاز الذي صنع من أجل التسجيل، فقيمته هي صفاء تسجيله وقوته وإفادته لهذا، فلو كان لا يسجل فلا فائدة فيه وليس له قيمة، وإذا كان يسجل تسجيلاً ناقصاً فقيمته ناقصة، أما إذا صفا تسجيله وصلح فقيمته كاملة، وكذلك الإنسان بحسب هذا.
وقد جعل الله الإنسان بين عنصرين: العنصر الأول: عنصر أسمى منه وأعلى وهو العنصر الملكي، والعنصر الثاني: عنصر أدنى منه وأحط وهو الحيوان البهيمي.
فشرف الله الملائكة بأن كلفهم بالتكاليف ولم يمتحنهم بالشهوات، وجعل الحيوان البهيمي غير ممتحن بالتكاليف، ولكنه مبتلى بالشهوات، وجعل الإنسان بين بين، فهو مكلف بالتكاليف، وممتحن بالشهوات، فإن اتبع الشهوات ولم يؤد التكاليف التحق بالحيوان البهيمي، بل كان أدنى منه: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، وإن لم يتبع الشهوات، وأدى التكاليف التحق بالصنف الأسمى منه فكان كالملائكة: (لو تدومون على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات).(44/3)
عناصر جسم الإنسان وانبناء الدين على ما يناسبها
ما هي العناصر التي هيأها الله تعالى في الإنسان؟ الله سبحانه وتعالى جعل الإنسان مؤلفاً من ثلاثة عناصر هي: العنصر الأول: البدن: الذي هو مادي مما في هذه الأرض.
العنصر الثاني: الروح: التي هي نفخة من أمر الله مجهولة: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85].
العنصر الثالث: العقل الذي شرف الله به الإنسان على غيره من الحيوانات.
فهذه العناصر الثلاثة على أساسها شرع الله الدين، فجعله ثلاثة عناصر: الإيمان لمصلحة العقل.
والإسلام لمصلحة البدن.
والإحسان لمصلحة الروح.
وذلك أن كل شيء حي يحتاج إلى تغذية، وهذه العناصر الثلاثة حية، فالعقل تغذيته بالفكر والعلم، والبدن تغذيته بما يرعى صحته ويوفر له غذاءه وزيادة نموه، والروح تغذيتها بما يهذبها ويمنعها من الأخلاق الذميمة، ويطهرها من الشوائب الخسيسة، ويحليها بالأوصاف الحميدة، فلذلك جاءت عناصر الدين ملتئمة مع هذه العناصر، فمثلاً: جاء الإيمان لمصلحة العقل، فإنه يضع له حدوداً يبين له فيها ما يحتاج إلى معرفته، وينير له الطريق في أمور لا يمكن أن يصل إليها، ويحجزه عن التخبط في أمور هو محتاج إلى البحث فيها.(44/4)
التسليم بقصور العقل منطلق إلى الإيمان
المنطلق الأول للإيمان هو التسليم بأن العقل قاصر، فلا يمكن له أن يحيط بكل شيء، والإنسان محتاج إلى الوحي في كل أموره، وذلك أن طريق المعرفة التي يحتاج إليها الإنسان يريد بها اكتشاف نجدين: نجد الضرر ونجد المنفعة، يريد أن يعرف ما ينفعه وما يضره.
ومنفعة الإنسان نوعان: نوع دنيوي ونوع أخروي، فالنوع الأخروي محجوب عن العقل نهائياً لا يمكن أن يصل إليه، فلا يمكن أن يكتشف الإنسان منفعة أخروية أو مضرة أخروية؛ لأن كل أمور الآخرة محجوبة عنه لا يعرفها إلا عن طريق الوحي.
وكذلك المنافع الدنيوية والمضار الدنيوية يصعب على الإنسان تحديدها بعقله؛ لأن الإنسان قد يتوقع شيئاً من المصلحة والمنفعة، ثم ينقلب عنه ويراه مضرة سافرة، وسمي القلب قلباً لتقلبه.
ومما تعرف به ربك نقض العزائم، حيث تعزم اليوم على أمر وبعد سنة تجد رأيك قد تغير عنه تماماً، وتجد أمراً كنت تعزم على أدائه، وتحرص عليه فإذا بك قد زهدت فيه وتركته بالكلية.
وكذلك قد يتوقع الإنسان في شيء مصلحة فيما يعود عليه بالضرر من حيث لا يشعر، فكثير من المآكل والمشارب التي يحبها الإنسان ويرغب فيها تعود عليه بالضرر، فمن أجل هذا عرف أن المنافع والمضار الدنيوية أيضاً لا يمكن أن يحيط بها العقل، فهي محتاجة إلى تحديدها بالوحي.
والإنسان بحاجة إلى هذا الوحي حتى يؤمن بأركان الإيمان الستة، فتكون منطلقاً سليماً للعقل؛ لأن العقل جارحة من جوارح الإنسان، فللإنسان عين أقرب شيء إليها الجفن، وإذا أطبق عليها جفنه لا يرى العروق الحمراء التي فيها، ولا يرى الألوان التي فيها لقربها، وكذلك إذا وقف في مكان معتدل فإن لبصره حدوداً لا يتعداها، وذلك أنه مسبوق بالعدم وسيلحقه العدم أيضاً، فهو حلقة من الوجود في دائرة كبيرة من العدم، ومن أجل هذا لا يمكن أن يدرك إلا شيئاً محصوراً، وكذلك سمعه، وكذلك عقله، فالعقل له مبادئ منها ينطلق إلى المشاهدات والحسيات والمسلمات.
كثير من الأمور التي تربى عليها الإنسان في صغره لا يناقش عقله فيها، مثل: العادات، لا يسأل الإنسان عقله: لماذا ألبس هذا النوع من اللباس؟ لماذا أجلس هذا النوع من الجلوس؟ لماذا أعمل هذا النوع من الأعمال؟ لأن هذه أمور فطر عليها، وتربى عليها من بداية خلقته، لكن ما تجدد لديه هو الذي يتعب العقل بكثرة مناقشته، لأنه شيء جديد عليه.
المسلمات الأولية يسلم بها العقل، ويقتنع بها قناعة مطلقة، وهذه القناعة لا تقبل المناقشة، ويجد الإنسان نفسه مضطراً إلى التسليم بها بالكلية، وكذلك ينبغي له في المجالات التي لا يصل إليها العقل، وهي كل المجالات المتمحضة للوحي؛ ينبغي أن ينطلق الإنسان فيها من التسليم المطلق، فما عجز العقل عن تصوره فهذا لنقص عقله لا لنقص الوحي، ولا لقصور فيه، فهو أمر مسلم ثابت لا يقبل النقاش، والعقل إما أن يفهمه فهذا فضل من الله وهبة منه، وإما أن لا يفهمه فالنقص في العقل لا في الوحي.
وإذا انطلق الإنسان من التسليم بهذا فإن العقل قد استنار واستفاد، وعرف حقيقة الإيمان وأشربه، ولهذا علامات تدل عليه، فمن علامات إشراب العقل البشري للإيمان: محبته لله سبحانه وتعالى، واتصاله به، وكذلك رضاه بقضائه وقدره، وكذلك توكله عليه واعتماده عليه في كل أموره، وكذلك مسارعته للتوسل إليه بالأعمال الصالحة، وكذلك الدعاء واللجأ إلى الله عندما يدرك الإنسان ضعفه وأنه لا حول له ولا قوة إلا بلله، وكذلك خوفه من الله سبحانه وتعالى ورجاؤه لما عنده، فهذا دليل على أن الإيمان قد خالط بشاشة قلبه، وأنه انطلق من باب التسليم، حيث لم يعتمد على الأسباب الظاهرية ولم يناقش عقله في الأمور الباطنية.(44/5)
تعلق الإسلام بمصلحة البدن والإحسان بمصلحة الروح
والبدن مصلحته في الإسلام؛ لأن الإسلام يتعلق بالجوارح الظاهرة، فهذا البدن هو الذي يمثل كيان الإنسان في هذه الدنيا، وهو محتاج إلى تغذية، ومحتاج إلى منافع مختلفة، وهذه المنافع تشملها دائرتان: دائرة الحلال، ودائرة الحرام.
ولا يمكن أن يعرف الإنسان دائرة الحلال من دائرة الحرام إلا بالإسلام الذي هو التشريع؛ ولهذا فإن الإسلام يحدد العلاقات، فهو النظام الذي يحدد للإنسان، العلاقة بالله كيف تبدأ من ناحية العبادات، والعلاقة بالناس كيف تبدأ من ناحية الأخلاق والمعاملات، ويبين علاج ما يقع من المشكلات مثل الأقضية والحدود والتعزيرات، فهذه الأمور هي التي يتعلق بها الإسلام ويشبع رغبة الإنسان فيها، ويحقق له مصالح بدنه بهذا التشريع.
والروح ليست من هذا العالم الذي نعيش فيه، فهي غريبة عن عناصر الأرض؛ وغربتها تقتضي وحشة ونفوراً، وتقتضي تقلباً وانزعاجاً من كثير من الأمور، فتحتاج إلى ما يثبتها، وتثبيتها هو بالإحسان؛ لأن الإحسان هو أن يحسن الإنسان تعامله مع الله ويحسن تعامله مع الناس، ويعرف حالته هو ومستواه وما يرتاح له، ومن هنا يستقيم توازنه ويعتدل، فلا يغلب أي جانب من الجوانب، فمن غلب أي جانب من الجوانب فليس بمستقيم، حتى من غلب جانب العبادات فلم يراع حقوق بدنه ولا حقوق أهله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو بن العاص؛ فهذا التصرف دليل على عدم الاعتدال وعدم التوازن.
وكذلك مختلف المجالات الأخرى كاتباع الشهوات، فالذي ليس له شهوة أصلاً ولا ميل إلى أي شيء يعد مريضاً، والذي تزداد شهوته لأي شيء حتى ولو للعلم حتى تتعدى إطارها الحقيقي يعد مريضاً أيضاً؛ لأنه غير معتدل، وهذه الشهوة طبيعة في الإنسان يحتاج إلى أن يزنها بميزان، وهذا الميزان هو الإحسان، (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
من هنا عرف أن الدين كله شرع لمصلحة ابن آدم، والله سبحانه وتعالى لا مصلحة له فيه، ولا يمكن أن يصل إليه بنو آدم جميعاً بمضرة ولا بنفع، وإنما هي أعمالهم يكتبها لهم ثم يوفيهم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
والذي نريد البحث فيه هو مجال الإيمان بحقوقه، ومنطلق البحث في هذا المجال هو معرفة مسائله التي تدرس فيه، وقد علم أن الذي يدرس فيه هو التصور العقلي حيال الحياة والآخرة، وحيال التعامل مع الله والتعامل مع الناس، وأصل ذلك من الناحية العقلية.
فهذه المسائل التي تجتمع في هذا العلم تسمى علم الإيمان أو علم الاعتقاد، وهذا التصور تصور فضفاض يصعب ضبطه، ولكنك إذا نظرت إلى أي شيء له مجال يتعلق بالعقل فاعلم أنه داخل في مجالات الاعتقاد.(44/6)
أصول الاعتقاد وإحاطتها بالجوانب المتعلقة بالعقل(44/7)
الإيمان بالله
أصول الاعتقاد هي هذه الأمور الستة التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في أركان الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، فهي محيطة بأهم الجوانب التي يتعلق بها العقل.
والإيمان بالله مقتض للجوانب اللاحقة كلها؛ لأن المنطلق في التعامل كله هو تعاملك مع ربك الذي خلقك فسواك، فلا أحد أمنّ عليك منه، وإذا لم تحسن العلاقة معه فلن يرضى عنك أحد، ولن يثق أحد بأنك ستحسن العلاقة به، إذا أسأت العلاقة مع ربك الذي فطرك وسواك وأنعم عليك بأنواع النعم.(44/8)
الإيمان بالملائكة
ومن أصول الإيمان بملائكة الله، والعقل معتاد تصور كثير من الأمور التي تأتي بها الأرواح وتتصل بها، والعقل يحتاج إلى تحديد موقف منها: هل هي مجرد خرافة أو هي شيء واقعي؟ والذي ينبغي أن يرتبط به العقل ما يفيد الإنسان منها، وهذه الجنود الربانية المجهولة بالنسبة لنا كثيرة جداً لا نحصرها بالملائكة، بل يقول الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، لكن الذي يعنينا في مجال الإيمان والاعتقاد مما ينفع عقولنا هو الإيمان بالملائكة؛ لأننا إذا آمنا بالملائكة فسنحاول التنافس معهم؛ لأنهم {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، ولأنهم العنصر الذي هو أسمى منا، ونحاول الالتحاق به، فالإيمان بهم مهم جداً لنا من هذا الجانب.
وهم قريبون منا، فهم المكلفون بحركاتنا وسكناتنا، ويكتبون علينا كل أمورنا: {إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12]، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].(44/9)
الإيمان بالكتب
ومن أصول الإيمان: الإيمان بالكتب المنزلة: والعقل تغذيته بالثقافة والعلم، وأهم العلم ما ينزله الله على عباده من الوحي؛ لأن العلم كله من عند الله وهو قسمان: علم وحي، وعلم إلهام.
فعلم الوحي شرفه الله بأن لم يدع فيه مجالاً للاختلافات، وإنما أنزله منضبطاً، وحفظه حتى أوصله إلينا، وجعل حظوظنا فيه متفاوتة بحسب أفهامنا، فمنا من يفهم منه الكثير، ومنا من يفهم القليل، وأما الإلهام فإن الله سبحانه وتعالى جعله قابلاً للاختلاف؛ لأن مجالات العقل مختلفة، يفتح الله على هذا في مجال معين، ويفتح على هذا ما يكمل به ذلك، ويفتح لهذا حتى منتصف الطريق ثم يكمل من سواه، ومن هنا تتشعب الإلهامات، لكن الجميع من عند الله ما كان منه وحياً وما كان إلهاماً، العلم كله لله، والبشر ما لهم شيء من العلم: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، وقوله: (أوتيتم): يعني أنه ليس من تلقاء أنفسكم، إنما هو هبة من عند الله يمنحها لمن يشاء.
الإيمان بالكتب المنزلة يقتضي من الإنسان أن ينخل هذه العلوم لمعرفة ما هو مفيد منها وما ليس كذلك، وما هو غير قابل للنقاش من العلوم، وهو الثوابت التي نزلت بالوحي، وما هو راجع إلى الضوابط والخطوط العريضة التي بينت لنا في الوحي، إذاً: هذا الإيمان بالكتب المنزلة.(44/10)
الإيمان بالرسل
ومن أصول الإيمان: الإيمان برسل الله: وذلك في مجال التعامل بين الناس، والناس منهم المحرومون ومنهم المنعم عليهم، وأفضل المنعم عليهم هم الرسل الذين أنعم عليهم بولايته المطلقة، فلم يجعل للشيطان عليهم أي سبيل، ولا له عليهم أي جهة يمكن أن يدخل عليهم منها، فعصمهم الله من الشيطان، هؤلاء هم أشرف البشر، وانتفاعنا بالإيمان بهم مثل انتفاعنا بالإيمان بالملائكة؛ لأننا نريد الاقتداء بهم والاتصال بهم، ومعرفة أن ما سلكوه هو طريق الحق الذي يعصم من الشيطان.
وما سواه طرق غير مأمونة يمكن أن يكون فيها صواب ويمكن أن يكون فيها خطأ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر).
إذاً: الإيمان بهم مهم جداً لعقولنا حتى تتشبث بشيء واضح في الطريق، ومن هنا فإن سورة الفاتحة التي نقرؤها في كل ركعة من صلاتنا فيها أمر عجيب في مجال الإيمان بالرسل، حيث قال الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7].
قال: (اهدنا الصراط المستقيم) ولم يقل: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم؛ لأنه لو قال: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، لكان هذا يقتضي أن يعرف الحق بالرجال، والقاعدة الشرعية: أن الرجال يعرفون بالحق، وأن الحق لا يعرف بالرجال، فلما قال: (اهدنا الصراط المستقيم) صار الصراط غير مضاف إلى أحد، وإنما هو الصراط المستقيم المرضي عند الله، ثم عرفه بعد ذلك بسلوك الرسل له؛ لأنهم الأمارات والعلامات البارزة؛ لأنهم ليس للشيطان عليهم سبيل، وإذا سلكوا هذا الطريق عرفنا أنه طريق الحق، فقال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، على وجه البدلية: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7].(44/11)
الإيمان باليوم الآخر
ومن أصول الإيمان الإيمان باليوم الآخر: وما أحوج الإنسان إلى هذا في مجال عقله، فالعقل يبحث كما ذكرنا بين هذين النجدين: نجد المنفعة ونجد المضرة، فإذا اقتصر في بحثه على حياته الدنيا فقط، ولم يعمل إلا لمدة حياته، كان العقل ذا مجال ضيق، ولم يستفد أحد من أحد؛ لأن كل إنسان لا يدري متى يموت، فيفكر فقط لساعته التي هو فيها، ولا يفكر للمستقبل، ومن هنا تتعطل مصالح الناس، إذ لو كان الإنسان لا يبني إلا على قدر حاجته في لحظته، ولا يزرع إلا على قدر حاجته في لحظته تلك، ولا ينتج إلا على قدر حاجته في لحظته تلك؛ لتوقفت المصالح كلها، لكن بإيمان الإنسان بالمستقبل، وإيمانه باليوم الآخر، وبالعرض على الله سبحانه وتعالى، وبأن الناس جميعاً من مضى منهم ومن يأتي سيحشرون إلى ديان السماوات والأرض، ويوقفون على أعمالهم، وأن كل شيء مكتوب، وأن منهم شقياً وسعيداً: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:106 - 108].
وتذكر الإنسان أنه حينئذ إما أن يكون من هؤلاء وإما أن يكون من هؤلاء: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]، إما إلى جنة وإما إلى نار، وبأن مصلحته الحقيقية هي مصلحته الأخروية، وبأن وقايته الحقيقية هي وقايته من عذاب يوم القيامة، فأية مصيبة أصابته في الدنيا إذا كان بعدها نعيم الجنة فإنها لا أثر لها ولا ضرر، وأي نعيم وجده في هذه الدنيا إذا كان بعده عذاب الآخرة في النار فلا نفع فيه أبداً، فلا خير في نعيم بعده النار، ولا شر في بعده الجنة؛ إيمانه بهذا مقتضٍ منه للاستمرار في عمله حتى في الدنيا، حتى للمصالح الدنيوية، فالإيمان باليوم الآخر نافع حتى في الإنتاج الدنيوي، فضلاً عن الإنتاج الأخروي الذي هو العبادة التي هي قيمة الإنسان.(44/12)
الإيمان بالقدر
ومن أصول الإيمان: الإيمان بقدر الله خيره وشره: فإن الإنسان مفطور على الجبن والبخل والخوف والخور، لكن إذا علم أن كل شيء مكتوب قبل أن يحصل: (وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه)، فإنه سيتشجع، ويعرف أن موتته واحدة ومكتوبة: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78].
ومن هنا لا يمنعه الجبن من الإقدام، ويعرف أن ما لم يكتب له لا يمكن أن يناله، وما كتب عليه لا يمكن أن يدفعه بوجه من الوجوه، ويعرف أن رزقه محدد مكتوب وهو في بطن أمه، وأنه لن يزداد شيئاً ولن ينتقص من شيء، ويعرف أن الثقلين الإنس والجن كلهم مسيرون وفق قدر مكتوب، ليس لأحد منهم أي تصرف إلا وفق هذه الخطة المرسومة، لا يستطيع أحد أن ينفع ولا أن يضر إلا وفق ما كتب له، ومن هنا يكون الاتصال بالله سبحانه وتعالى وحده، فلا خوف إلا منه، ولا رجاء إلا إليه، ولا تعلق إلا به، ولا دعاء إلا له، ولا يمكن أن يحول أي جهد بشري دون تطبيق ما أمر به، ولا أن يوقع أي خوف ولا أي طمع فيما نهى عنه؛ لأن الله وحده هو الذي يملك النفع والضر والحياة والموت والنشور، ولا يملك ذلك أحد سواه.
هذه فائدة الإيمان بالقدر.(44/13)
من ثمرات الإيمان ومصالحه
واضح جداً أن الإيمان لمصلحة العقل، وأن هذه هي مجالات العقل الكبرى التي ينطلق منها، فهذه المجالات الكبرى التي ينطلق منها العقل فيها كثير من التفصيلات، وكثير من الجوانب المتعددة، فهذه الجوانب في أخذ الديانة المنزلة من عند الله تعالى لم تمحض وحدها، ومن حكمة الله وسنته ألا يفصل هذه العلوم ويجعل كل علم منها كتاباً مستقلاً أو لوحاً مستقلاً؛ لأن ذلك يقتضي عدم التكامل في العامل البشري، لو أنزل علينا هذا القرآن فيه سورة متخصصة في الإيمان، وسورة متخصصة في العبادة، وسورة متخصصة في البيوع، وسورة متخصصة في الأنكحة، ليس فيها سوى ذلك؛ لكان كثير من الناس ناقص التوازن، الذي قرأ سورة الإيمان فقط ستكون عباداته باطلة، ومعاملاته باطلة، ولن يستطيع الإنسان حينئذ الإحاطة بالجميع، وهذا هو حالنا اليوم إذ يندر جداً أن يحيط الإنسان بالقرآن بحروفه وحدوده، فلابد من إشكالات تواجهه، وتبقى كثير من الأمور لا يستوعبها.
من هنا كان من حكمة الله سبحانه وتعالى أن تكون الآية الواحدة من القرآن جامعة لكل هذه المجالات، وألا يتمحض فيها علم من العلوم، فلا يمكن أن يقال: إن السورة الفلانية متخصصة في العلم الفلاني؛ في الفقه أو في الأصول أو في أي علم من العلوم، وهذا وجه من أوجه الإعجاز في هذا القرآن الكريم، فليس هو كتاب تخصصات، وإنما هو كتاب مستوعب لمختلف التخصصات، في كل آية منه تجد كل هذه الأمور، حتى الأوامر والنواهي تكون مرتبطة بالوعد والوعيد المرتبط بالإيمان، المرتبط بمشاهد القيامة، المرتبط بخطاب العواطف، المرتبط بخطاب العقل، فيكون الإنسان مخاطباً مشدوداً لكل الجوانب في آية واحدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، كم استوعبت هذه الآية من العلوم؟ (كتب عليكم الصيام): هذا تكليف رباني، وتحديد الصيام الذي هو من العبادات.
(كما كتب على الذين من قبلكم): إرجاع وربط بالماضي والتاريخ البشري.
(لعلكم تتقون) هذا فيه مخاطبة الإيمان والعاطفة في الإنسان، وتنبيهه إلى أنه إذا استطاع أن يمنع نفسه مما أحل الله له فإنه يستطيع أن يمنعها مما حرم الله عليه، وبهذا يتعود على التقوى، وفيه تنبيه له على التربية وأهميتها في حياته، وأنه بالتدرج يمكن أن يصل إلى أعلى المستويات، كل هذا ارتبط في آية واحدة، واجتمع فيها كل هذه الأمور بالإضافة إلى ما سواه من العلوم التي لا حصر لها.
لكننا في غمرة حياتنا احتجنا إلى أن نفصل هذه العلوم فصلاً لا يقتضي أن يكون كل واحد منها على حدته علماً مستقلاً متكامل الجوانب لا يحتاج إلى ما سواه، وإنما لضرورة تفاوت انشغالات الناس، وتفاوت أذهانهم، يبين لهم العلم الذي هم أحوج إليه ليشتغلوا به، ولا ينبغي أن يتمحض الإنسان في تخصص واحد من هذه التخصصات، فإذا كنا نقرأ الآن درساً في الإيمان، فليس معناه أن نعطل دروسنا الأخرى، وأن نترك الاستفادة من كل الكتب الأخرى أو المجالات المختلفة، بل لابد من التكامل، وألا نغفل عن الجميع.
وبهذا نكون قد عرفنا حد العلم.(44/14)
موضوع علم العقائد
المقدمة الثانية: الموضوع، (وموضوع كل علم) معناه: ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، (ما يبحث فيه) أي: في هذا العلم.
(عن عوارضه) أي: عوارض ذلك الشيء الذي هو الموضوع.
(الذاتية) أي: الراجعة إلى ذاته، وذلك أن هذا العلم الذي سندرسه -إن شاء الله تعالى- يبحث فيه عما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وعن أركان الإيمان وتفصيلات تتعلق بها، وعن تعريف الإيمان وجزئياته المختلفة.
هذا هو موضوع هذا العلم الذي سندرسه.(44/15)
واضع علم العقائد وذكر بعض المؤلفين ومصنفاتهم(44/16)
واضع علم الاعتقاد
واضع هذا العلم معناه: الذي نقله وفصله، ولا يقصد به الذي أنتجه وأبدعه؛ لأننا ذكرنا أن هذه العلوم جاءت من عند الله في القرآن، فالله سبحانه وتعالى هو الذي علمنا إياها، لكن من فصله وأخرجه عن غيره من العلوم؟ اختلف فيه، فقالت طائفة: هو الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت التيمي مولاهم المتوفى سنة مائة وخمسين من الهجرة، وهو إمام أدرك عدداً من الصحابة، لكنه لم يرو عنهم رواية صحيحة، فقد رأى أنس بن مالك، ورأى عدداً آخر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك يوصف بأنه تابعي، ويقولون: إنه ألف كتاباً سماه الفقه الأكبر، وخصصه بمباحث الإيمان ومباحث العقيدة، لكن لا تصح نسبة هذا الكتاب إليه؛ لأنه لم يثبت بالأسانيد المتصلة إليه، ولا يظن أنه من تأليف تلك الطبقة، ولا من تأليف ذلك الزمان، فالتأليف تتضح عليه لمسات العصر الذي برزت فيه، وأقدم كتاب لدى المسلمين اليوم من التأليف هو مؤلف مالك الموطأ، وقد رواه عنه تسعمائة من الذين اشتهروا بالعلم والرئاسة في زمانهم، ولم يزل مسلسلاً بالأسانيد إلى وقتنا هذا، ولا يعرف كتاب أقدم منه اليوم لدى المسلمين.
القول الثاني في واضع علم التوحيد: أنه أبو الحسن الأشعري وهو علي بن إسماعيل الأشعري وهو من ذرية أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري من أهل اليمن، وهو رجل عاش في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وتوفي في أواسط القرن الرابع سنة ثلاثمائة وثلاثة وعشرون تقريباً، واشتهر بأنه واضع هذا العلم؛ لأنه جمع مذاهب الفرق المختلفة في مجالات العقيدة في كتاب له سماه (مقالات الإسلاميين)، وهذا الكتاب مطبوع ومتداول ومروي عن أبي الحسن بالأسانيد، وإن كان هو لم يبدع فيه شيئاً جديداً؛ لأنه ذكر أن مذهبه هو ما كان عليه أئمة الحديث، ومذهب السلف، وبين مذهب السلف في كتابه، وفصل فيه وشرحه، ولم يخالفه في شيء، فالكتاب لا يميز له مذهباً بخصوصه.
لكن له كتب أخرى ألفها منها: كتاب اللمعة في الاعتقاد، وهو كتاب مطبوع، وكذلك: رسالة النفس، وهو كتاب مطبوع، وكذلك: كتاب الإبانة عن أصول الديانة، وهو مطبوع كذلك، وله كتب كثيرة أخرى غير مطبوعة، أشار لبعضها في بعض كتبه، وسبب القول بأنه واضع هذا العلم كثرة مؤلفاته فيه، وانشغاله به، وإلا فإن الذين ألفوا في هذا العلم من معاصريه عدد لا يستهان بهم.
والذي يبدو أن هذا القول غير صحيح أيضاً، فإن الأشعري لم يكن السابق في التأليف في هذا العلم، بل سبقه عدد من الناس، لكن الذين سبقوه من المحدثين مثلاً لا يعتنون بجوانب هذا العلم المختلفة، ولا يفصلونه عن علم الحديث.(44/17)
ذكر بعض الكتب المصنفة في الإيمان والاعتقاد
ألف السلف بعض الكتب التي سموها بالإيمان مثل كتاب الإيمان لـ أبي بكر بن أبي شيبة، وكتاب الإيمان لـ ابن أبي عاصم، وكتاب الإيمان لـ أبي خيثمة زهير بن حرب، شيخ الإمام مسلم بن الحجاج، وكذلك كتاب السنة للحميدي أبي بكر عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي شيخ البخاري وتلميذ الشافعي، وكذلك كتاب السنة لـ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وكذلك كتاب السنة لـ عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل الشيباني وهو معاصر للأشعري، وكذلك كتاب السنة لـ أبي بكر الخلال وهو من أصحاب الإمام أحمد كذلك.
وكذلك بعض المحدثين الذين جاءوا بعد الأشعري مثل ابن مندة الذي ألف كتاب الإيمان وهو كتاب حافل، ومثل أبي بكر بن خزيمة إمام الأئمة الذي ألف كتاب التوحيد وهو كتاب مهم في بابه، فهؤلاء لم يؤلفوا هذه الكتب على طريقة التخصص، وإنما ألفوها على طريقة المحدثين، فيذكرون أسانيدهم ببعض الآثار وبعض الأقوال المنسوبة إلى الصحابة أو التابعين أو من دونهم من السلف.
وأما الذين ألفوا كتباً متخصصة في الردود على بعض الطوائف فإن كتبهم أيضاً لم تستوعب جميع هذه الجوانب، ومن هؤلاء البخاري رحمه الله، وهو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي، فقد ألف كتاباً سماه: خلق أفعال العباد والرد على الجهمية، وكذلك الدارمي ألف كتاب الرد على الجهمية، وكذلك الإمام أحمد ألف كتاب الرد على الجهمية، وكذلك يحيى بن معين فقد كتب ورقات في الرد على الجهمية، لكن هذه الردود لا يقصد بها تناول جوانب الاعتقاد المختلفة، وإنما ترد بعض الشبهات التي أثارتها بعض الطوائف الإسلامية وبالأخص طائفة المعتزلة في مختلف تشعباتها وآرائها.
ثم بعد هؤلاء جاء من وضع أصولاً جامعة مانعة في الاعتقاد كالإمام أبي جعفر أحمد بن سلامة الأزدي المشهور بـ الطحاوي الحنفي، وهو ابن أخت إبراهيم المزني تلميذ الشافعي، وقد ألف كتاباً في الاعتقاد سماه: عقيدة الأئمة، ويقصد بالأئمة أبا حنيفة ومحمد بن الحسن الشيباني، وأبا يوسف وهي عقيدة الطحاوي الموجودة بين أيدينا اليوم في ورقات صغيرة، لكن تلقتها الأمة بالقبول فكثرت شروحها.
ثم جاء بعده الإمام أبو بكر البيهقي وألف كتاباً سماه: الاعتقاد، لكنه سار فيه على طريقة الأشعري في مذهبه الأوسط في كثير من أموره، ولا يمكن أن يعتبر البيهقي واضعاً لعلم العقيدة أو علم الاعتقاد؛ لأنه قد سبقه الأشعري وتبعه في كتابه هذا، وحتى في كتابه الذي ألفه على طريقة المحدثين وهو كتاب الأسماء والصفات، فإنه أول فيه بعض الأحاديث على طريقة الأشعري.
كذلك من الذين ألفوا كتباً مستقلة في هذا الباب: الإمام الدارقطني، وقد ألف كتاب الصفات، وهو كتاب صغير، وكتاب القدر، وهو كتاب صغير كذلك، وكتاب الرؤية، لكن هذه الكتب كلها تعالج جانباً واحداً من جوانب الاعتقاد، ولا تلم بجميع جوانبه.
وقد سبق التأليف في القدر، فقد كتب مالك رسالة في القدر لكنها لم ترو بالأسانيد.
وألف عبد الله بن وهب صاحب مالك كتاباً في القدر وهو موجود ومطبوع، لكنه يتعلق بجانب واحد، وألفه على طريقة المحدثين بذكر الأسانيد، ولا يذكر القواعد العقلية التي تميز هذا العلم وتجعله مستقلاً عن علم الحديث.(44/18)
أشهر المؤلفين في علم العقائد
فمن هنا يصعب علينا أن نعين شخصاً واحداً بأنه واضع هذا العلم بالكلية، لكن رجالاته الذين اشتهروا فيه، وأبرزوا هذا العلم ونشروه: أبو الحسن الأشعري والطحاوي والبيهقي وأبو نعيم الأصفهاني صاحب حلية الأولياء، وكذلك يحيى بن مندة أبو القاسم، وكذلك الإمام أبو بكر بن خزيمة.
ثم جاء بعد هؤلاء أئمة توالوا على التصنيف في الاعتقاد، ومنهم أبو بكر الباقلاني وهو من أشهرهم وأكثرهم اهتماماً بهذا الجانب وأقواهم حجة في المجال العقدي، وقد نشأت مدرسة كبيرة بعد الباقلاني من تلامذته مثل أبي إسحاق الإسفرائيني ومثل أبي إسحاق الشيرازي ومثل أبي المعالي الجويني ومثل القاضي الحسين الشافعي.
وبعد هؤلاء جاء أبو حامد الغزالي المتوفى سنة خمسمائة وخمسة، ثم بعده الرازي المتوفى سنة ستمائة وستة، ثم بعده عدد كبير من الأئمة إلى أن نصل إلى شيخ الإسلام ابن تيمية ومعاصريه أمثال علي بن عبد الكافي السبكي والإمام الذهبي محمد بن عثمان، وكذا أبو بكر شمس الدين بن القيم فإنه يعد في عداد المبدعين في هذا المجال المؤلفين فيه، فهؤلاء أهم المشاهير الذين ألفوا في مجال الاعتقاد.
ويمكن أن نعد منهم أيضاً بعض المحدثين الذين أفردوا كتباً في هذا المجال، ومن هؤلاء الآجري الذي ألف كتاب الشريعة، وكذلك ابن البناء الحنبلي الذي اختصر كتاب الشريعة في كتابه المختار، وكذلك اللالكائي الذي ألف كتاب شرح أصول الاعتقاد، وكذلك القاضي أبو يعلى الحنبلي الذي ذكر في طبقات الحنابلة تفاصيل مذهب أحمد في كثير من الأمور العقدية، وكذلك عبد العزيز الكناني الذي تصدى للجهمية وحاول الرد على كثير من شبهاتهم، وإن كان لم يتطرق لجوانب الاعتقاد الأخرى، فكتابه الحيدة ذكر فيه مناظرته مع بشر المريسي فقط.(44/19)
نسبة علم العقائد واستمداده
إن نسبة هذا العلم إلى سائر العلوم هي نسبة العموم والخصوص الوجهي؛ لأنه يشترك مع هذه العلوم في المنبع والمأخذ، فكل العلوم الشرعية مأخذها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتطويرها باجتهادات أهل العلم الراسخين فيه، فالمأخذ، واحد فتشترك في بعض الجوانب فيما بينها، فمثلاً كثير من صفات الله سبحانه وتعالى ستبحث هنا في المجال العقدي، لكنها تبحث أيضاً في مجال الحديث؛ لأنها رويت بأسانيد سيبحث في صحة تلك الأسانيد وضعفها، فإذاً هذه مما يشترك فيه علم الحديث مع علم الاعتقاد.
كذلك بعض الصفات يبحث فيها أيضاً في التفسير؛ لأنها جاءت في القرآن، فيشترك مع علم التفسير من هذا الوجه.
كذلك مع العلوم اللغوية، فالعلوم اللغوية هي التي يبحث فيها في دلالات النصوص من القرآن والسنة، وهذه النصوص دلالاتها ترجع إلى أمرين: دلالات الألفاظ من حيث وضعها، أي: ما تدل عليه وضعاً، وهذا البحث فيه لغوي محض، ثم دلالاتها من حيث الاستنباط: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، وهذه دلالة جانبية غير الدلالة الوضعية الأصلية، فتشترك العلوم اللغوية مع العلوم الشرعية من هذا الوجه.
فإذاً لا يمكن أن يستقل هذا العلم عن غيره من العلوم؛ لأن نسبته إلى غيره من العلوم نسبة العموم والخصوص الوجهي، فيشتركان في شيء وينفرد كل واحد في شيء يختص به، وهذا معنى هذه النسبة.
أما مستمد هذا العلم فهو الوحي بنوعيه القرآن والسنة، وقضايا العقول التي تنبني على ما ذكر في الوحي، هذا مستمده الذي يرجع فيه إليه، يمكن أن يضاف إلى هذا أن ترتيب حججه يرجع فيه أيضاً إلى علم الجدل وعلم المنطق للحاجة إليهما في ترتيب الحجج، فهما قالب ومعيار يوزن فيه كل شيء، فيمكن أن يستغلا في أي علم من العلوم، فإذا أردنا إثبات أي شيء عن طريق العقل فإننا لابد أن نرجع إلى القواعد المنطقية، وإذا أردنا المناقشة في أي شيء لبيان صوابه أو خطئه لابد أن نرجع إلى علم الجدل.
إذاً هذا مستمده.(44/20)
فضل العلم
إن هذا العلم من أفضل العلوم الشرعية؛ لأن فضل كل علم إنما هو بحسب فائدته، وهذا العلم به يزداد إيمان الإنسان وتزداد محبته لله سبحانه وتعالى إذا سلك به الطريق الصحيح.
أما إذا لم يسلك به الطريق الصحيح كما حصل في أيام الذهبي رحمه الله، مما حمله على أن يقول عن علم التوحيد: إن مدارسته تؤدي إلى القسوة وعدم الخشية؛ لأنه أصبح عبارة عن مناقشات ومطاحنات وتعصبات بين الفرق، ولم يعد يبحث فيه عن أصله الذي هو ما يدل على الاتصال بالله سبحانه وتعالى، ويلزم الإنسان خشيته: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] فمن لا يعرف الله لا يخشاه، وفائدة معرفتك لصفات الله محبتك له، فأنت تعرف أنه المتصف بصفات الكمال، وأنه الذي لديه ما ينفعك ولديه ما يضرك، وهو وحده القادر عليك، ومن أجل هذا تحبه وترغب فيما عنده وتتصل به.
فإذا لم تنظر هذا المنظار في هذا العلم فلم تستغله استغلالاً صحيحاً، وحينئذ يؤدي إلى نتائج عكسية، وذلك إذا جعل مجرد مطاحنات واختلافات وأمور عقلية بحتة، فيؤدي إلى القسوة ويؤدي إلى التصلف وسوء الخلق، أما إذا أخذ بمأخذه الأصلي وهو البحث عما يزيد حبك لله وعلاقتك به وخشيتك له، فإنه يزيد رقة ويزيد خشوعاً وخشية لله سبحانه وتعالى، وهذا المطلوب فيه، فهو من هذه الناحية من أفضل ما يشتغل به من العلوم لكننا سنذكر في ذلك تفصيلاً، فدرجاته متفاوتة من ناحية الفضل كغيره من العلوم.(44/21)
حكم تعلم علم العقائد
إن الحكم الشرعي لهذا العلم ينقسم إلى قسمين باعتبار المدروس فيه: القسم الأول: ما يجب على الأعيان: وهو ما يحقق به الإنسان إيمانه بأركان الإيمان الستة، وهذا القدر واجب على كل مسلم، فلا يدخل الإنسان الإسلام حتى يؤمن بأركان الإيمان الستة، ويجب ذلك على وجه الإجمال ولا يجب على وجه التفصيل، لا يجب أن تعرف كل مسائل القدر كالطيرة والتمائم والفأل ونحو ذلك، فهذه من تفصيلات القدر، إنما يجب عليك الإيمان بالقدر خيره وشره.
القسم الثاني: الواجب الكفائي: والواجب الكفائي ما يجب على الأمة جميعاً تعلمه من هذا العلم، وهو بقية المسائل التفصيلية، فهذا العلم بكل دقائقه وبكل ما يحدث فيه فرض كفاية على الأمة يجب عليها تعلمه، سواء منه ما طرأ وتجدد وما كان معروفاً في عهد السلف.
فالذي يطرأ منه ويتجدد يتوقف على ظهور الشبهات التي تحصل في اعتقاد الناس، ويجب رد هذه الشبهات ومعرفة الصواب منها من الخطأ، وكل أمر تجدد لابد أن ينطلق الناس منه من هذا المنطلق، وأن يعرفوا حكم الله فيه، ويجب على الأمة أن يكون فيها من يستطيع معرفة الصواب فيه من الخطأ، فإن لم تفعل الأمة أثمت بعمومها، وإن قام بذلك من يكفي سقط الإثم عن البقية، وهكذا فروض الكفاية كلها.
وفرض الكفاية عند القيام به فإنه يكون نافلة من النوافل، من قام به يزداد أجره ويزداد ثوابه، ولكنه لا يكون قائماً بالفرض نفسه، لكن قال العلماء: ينبغي أن ينوي نية فرض الكفاية ليحصل له الثواب ولو كان قام به الغير، وذلك حتى يحصل له ثواب فرض الكفاية، فمثلاً نحن الآن نتعلم هذا العلم مع أنه يوجد كثير من المتخصصين فيه، ولا يجب علينا بأعياننا، لكن ينبغي أن ننوي نية فرض كفاية ليحصل لنا أجر الواجب، ولا نقتصر على نية الندب فقط.
ومن هنا فإن قضية استحضار النية في دراسة أي علم من العلوم مقتضٍ بأن يستمر الإنسان فيه وألا ينهزم أمامه؛ لأن العلوم فيها كثير من المشقة وكثير من المسائل الصعبة جداً، وإذا دخل إليها الإنسان يريد ترويحاً عن نفسه ويريد إشباع رغبة لديه فقط، فإنه إذا صدم بأول مسألة تراجع وقال: لا أستمر في هذا الطريق، لكن إذا لم تكن نيته مجرد الاكتشاف والبحث، وإنما جاء بنية التقرب إلى الله والعبادة بحفظ هذه العلوم على الأمة، وسد مسد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن هذه النية تقتضي منه الصمود والصبر حتى لو عانى ألف مشكلة، فيستمر على هذا الطريق صامداً عليه صابراً.(44/22)
فائدة تعلم علم العقائد
إن فائدة هذا العلم تحصيل محبة الله سبحانه وتعالى بمعرفة صفاته، وتحصيل محبة رسله بمعرفة ما يجب لهم وما يتصفون به، وزيادة الإيمان بتفصيل مسائل هذا العلم مثل مسائل القدر وغيرها، ورد الشبهات التي تثار في اعتقاد المسلمين، سواءً كانت من قبل المسلمين أو من قبل أعدائهم، فهذه الشبهات من إيحاء الشيطان، يلقيها فتكون وحياً يوحيه إلى أوليائه: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:121]، فيحتاج إلى من يرد هذا، إذ لو لم ترد لوجدت أنصاراً وأعواناً، وسمعت من يصيخ لها ويستقبلها، فحينئذ تشيع فلا يميز الناس بين الحق والباطل وتنتشر بنيات الطريق وينصرف الناس عن طريق الهداية.
ومن هنا احتيج إلى معرفة هذه الشبهات والرد عليها وأن يتقوى ساعد الإنسان لكل شبهات محتملة؛ لأننا لا يمكن أن نحصر الشبهات الواردة في الاعتقاد فيما سندرسه هنا، وإنما نريد بدراستنا لهذه الأمثلة أن تتقوى سواعدنا وأذهاننا في المستقبل لأي شبهة جديدة، فإذا جاءت أية شبهة كنا لها بالمرصاد، وعرفنا كيف تزال هذه الشبهة، وكيف نتمسك بالدليل، وكيف نتمسك بالصواب الذي لا محيد عنه، وكيف نميزه ونزيل الإشكال فيه حتى لا يلتبس بغيره.
فإذاً هذه فائدة هذا العلم.(44/23)
تسمية علم العقائد
إن الناس يتفاوتون في تسمية هذا العلم: فمنهم من سماه بالتوحيد، وهذا من تسمية الشيء باسم بعضه، مثل تسمية الإنسان بالرقبة، فيقال: تحرير رقبة، ولا يقصد بها الرقبة وحدها بل الإنسان بكامله، وكذلك في الحيوان تقول: رأس من الغنم، رأس من البقر، ولا يقصد به الرأس وحده إنما يقصد به كامل البدن.
والتوحيد هو رأس ما يدرس في هذا العلم؛ لأنه الإيمان بالله وهو الركن الأول من أركان الإيمان الستة، فتوحيد الله سبحانه وتعالى هو أحد هذه الأركان الستة وهو أهمها وأولها، فسمي هذا العلم بكامله باسم جزئه.
التسمية الثانية: تسميته بعلم الاعتقاد، وهذه التسمية وإن كانت أشمل من سابقتها؛ لأنها تشمل ما يجب اعتقاده في حق الله وفي حق الرسل وفي حق الملائكة، وكذلك تفصيلات القدر واليوم الآخر والكتب المنزلة وغير ذلك، إلا أنها لا تتناول إلا القطعيات فقط، فإن الاعتقاد إنما يشمل ما هو قطعي، لأنه لا ينبغي أن يكون فيه شك، ويمكن أن تكون المسألة من الاعتقاد ومشكوك فيها أن الصواب كذا أو الصواب كذا، فيكون فيها خلاف، وعليه فإن مسائل هذا العلم ليست كلها قطعية، بل فيها كثير من الظنيات وفيها كثير من المسائل الخلافية التي سنتحير فيها ونتوقف، ومرجع ذلك إما إلى صحة دليل وعدم صحته أو تعارض أدلة، أو أن الأمر لم يرد فيه نص أصلاً وأحيل الاجتهاد فيه إلى العقول، وهذه المسائل تبع للمسائل القطعية الثوابت، فالمسائل القطعية هي التي حسمها الوحي، والمسائل الظنية هي التي لم يحسمها الوحي، فالمسائل القطعية هي الاعتقاد ويجب على كل المسلمين أن يتفقوا فيها وأن يعتقدوا هذا المعتقد ولا يحل المخالفة فيه.
المسائل الأخرى التي هي ظنون وعليها أدلة لكل من الجانبين، ولا يمكن الحسم فيها؛ هذه ليست من الاعتقاد، إنما هي أمور فيها خلافات مثل مسائل الفقه.
ففروع الأصول هي فروع علم الاعتقاد وهي كثيرة جداً، وسيتبين لنا أن كثيراً من المسائل التي ندرسها في هذا العلم ليست من الاعتقاد لأنها محل خلاف، وهذه من أمثلتها قضية التوسل بشخص النبي صلى الله عليه وسلم، فهي مسألة فيها خلاف وليس فيها حسم قاطع، فلذلك هي من المسائل التي هي ظنية فقط، ولذلك كان الأولى ألا تدخل في الاعتقاد، ولا يقال من المسائل العقدية؛ لأنها مسألة فقهية وهكذا.
والتوسل به صلى الله عليه وسلم يشمل التوسل به بعد موته أو في حياته، والخلاف في التوسل بشخصه وليس بدعائه، فالتوسل بشخصه في حياته وبعد موته كله محل خلاف؛ لأن التوسل به في حياته إنما هو توسل بدعائه، لكن التوسل به في حياته في غيبته مثلاً توسل بشخصه، وهو مثل التوسل به بعد موته؛ لأنه هو حي في قبره حياة برزخية، ولا يمكن أن يدعو هذا الدعاء، والمسألة سنذكر إن شاء الله بعض تفصيلاتها، وهي طويلة لأنها تدخل فيها تقريباً ست مسائل، وكل مسألة منها يمكن أن نذكر فيها خلافاً ونذكر فيها أدلة.
إذاً تسميته بعلم الاعتقاد عليها هذا المأخذ.
ويسميه بعض الناس أيضاً بعلم الكلام: والمقصود بذلك العلم المتعلق بكلام الله، وذلك أن مسألة كلام الله من أوليات المسائل التي حصل فيها الخلاف بين هذه الأمة، واشتهر فيها تفرق الفرق، فمن أجل ذلك كثرت الكتب المؤلفة فيها، وكثرت الفرق المختلفة على أساسها، فسمي هذا العلم باسمها، وهي تسمية للشيء باسم بعضه أيضاً، فالكلام صفة واحدة من صفات الله سبحانه وتعالى التي تدخل كلها في قسم واحد من أقسام التوحيد؛ لأن الأسماء والصفات قسم من أقسام التوحيد التي سنذكرها، وهذه صفة واحدة من الصفات، فسمي بها العلم كاملاً.
كذلك من تسميات هذا العلم تسميته: بعلم الأصول، سواءً كانت بالإطلاق أو بالإضافة فيقال: أصول الدين ويقال: (الأصول) مطلقة، فهذه التسمية في الأصل للمعتزلة، وهم أول من فعلها؛ لأن لديهم أصولاً يمتحنون الناس على أساسها، وهي أصولهم المعروفة التي هي: التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه مسائلهم التي هي أصولهم، سموها بالأصول وسموا هذا العلم باسمه، لكن تبعهم كثير من المتكلمين في هذه التسمية وسموا هذا العلم أيضاً علم أصول الدين، ويقابلون به علم أصول الفقه، جعلوا الدين منقسماً إلى أصول وفروع، فالفروع هي أعمال البدن الظاهرة، والأصول هي أعمال القلب، وذلك أن أعمال البدن مبنية على أعمال القلب؛ لأن الدافع من وراء أي عمل هو دافع عقدي، وكل عمل ليس من ورائه دافع عقدي يقتضيه فإنه مبني على غير أساس، فالصلاة إذا لم تكن عن قناعة بصدق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا فائدة فيها؛ لأنها مبنية على غير أساس، فأساس كل الأعمال التمييز بين الحلال والحرام، فتكون العبادة والمعاملة على أساس الاعتقاد، فإذا اختل هذا الأصل فإنه على شفا جرف هار حتى لو أحسن في الأعمال الأخرى وجاءت محكمة مائة بالمائة؛ لأنها ليس لها أصل، فمن أجل ذلك سموه بأصول الدين.
هذه هي أهم تسميات هذا العلم.(44/24)
مسائل علم العقائد
مسائل العلم هي التي تذكر فيه تفصيلاً، وقد ألف فيها كثير من الكتب، وهذا النظم الذي لدينا حاول صاحبه ذكر بعض المسائل المتعلقة بهذا العلم، وأحالها على النصوص الشرعية، على حسب ما جاء في الآيات والأحاديث، ولم يقسمها على تقسيم أصولها التي هي هذه الأركان الستة.(44/25)
الأسئلة(44/26)
هل الطحاوي واضع علم العقيدة؟
السؤال
لماذا لا يقال: إن الطحاوي هو واضع هذا العلم؛ لأن الذين سبقوه إنما ركزوا على جزئيات مخصوصة، وهو قد جمع أكثر جزئيات العلم في عقيدته؟
الجواب
إن الطحاوي إنما ذكر عقيدة الأئمة فقط، وكثير من المسائل الأخرى التي حصل الخلاف فيها في الأمة لم يتعرض لها، وكثير من المسائل العقدية التي ضلت فيها فرق وكثرت تشعباتها لم يتعرض لها في الكتاب، وإنما أراد أن يفصل اعتقاد الأئمة عن عقائد الفرق، فلم يتعرض لكثير من المسائل التي هي مدروسة في زمانه ومعروفة ومألوفة.
كثير من المسائل اشتهرت في زمانه أضرب عنها صفحاً مثل: المسألة اللفظية، وهذه حصل الخلاف فيها حتى بين كثير من أئمة أهل السنة من أئمة أهل الحديث، كما أنه ذكر بعض الأمور التي ليست من الاعتقاد، مثل المسح على الخفين لذلك إنما يقتضي تميز مذهب الأئمة عن مذهب الشيعة فقط.(44/27)
اختلاف العلماء في واضع علم الكلام
السؤال
هل يتفق أهل مذهب على من وضع علم الكلام؟
الجواب
بالنسبة لهذه الأقوال التي ذكرناها في الخلاف في واضع هذا العلم، لا تختص بمذهب من المذاهب المختلفة، فلا يتعصب مذهب من المذاهب للوضع إلا ما جاء عن الحنفية فيقولون: واضعه أبو حنيفة، لكن لا يتفق الشافعية على أن واضعه أبو الحسن الأشعري وإن كان شافعياً، بل إن بعض الشافعية ينكر أنه الواضع الحقيقي لهذا العلم؛ لأن الشافعي نفسه له كلام كثير في هذا العلم، وله مناظرات ومناقشات مع حفص الفرد ومع غيره، وكذلك المالكية لا يقولون إن واضعه الباقلاني مثلاً وإن كان مالكياً، لكن لـ مالك كلام في هذا الباب ولـ ابن وهب ولعدد من الأئمة وكذلك الحنابلة.
فلا يتفق أهل مذهب من المذاهب على أن واضع هذا العلم هو فلان الفلاني، ومن هنا فإن كثيراً من المعتزلة حاولوا الإلمام ببعض جوانب هذا العلم قبل عدد من الذين ذكرناهم، فمثلاً النظام من المعتزلة ذكر بعض جوانب هذا العلم وجمعها، وكذلك أبو الهذيل العلاف وعدد من أئمة المعتزلة الكبار جمعوا في هذا العلم أشياء، لكن كثيراً منهم لم يؤلف مثل عمرو بن عبيد فإنه وإن كان ناقش في أكثر مسائل العقيدة وتخصص فيها لكن لم يكتب آراءه، إنما رويت عنه ونقلت، وحتى كان من تلامذته المنصور أمير المؤمنين فقد كان يزكيه ويقول: كلكم يطلب صيد كلكم يمشي رويد غير عمرو بن عبيد وبعد هذا اشتهر من المؤلفين منهم في هذا المجال: أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم والقاضي عبد الجبار، والقاضي أبو الحسين البصري من الأصوليين الذين اشتهروا في هذا العلم أيضاً وجمعوا فيه.(44/28)
الفرق بين الإيمان بالملائكة والإيمان بالجن
السؤال
لماذا كان الإيمان بالملائكة ركناً من أركان الإيمان ولم يكن الإيمان بالجن كذلك؟
الجواب
ذكرنا أن أهم شيء ينفع العقل البشري فيما يتعلق بجنود الله سبحانه وتعالى الغيبية، هو الإيمان بالملائكة، ولهذا كان الإيمان بهم ركن من أركان الإيمان، لكن مع هذا نؤمن بالجن ووجودهم، ولكن فائدة ذلك للعقل محدودة، ولهذا لم يكن الإيمان بهم ركناً من أركان الإيمان وإنما كان جزئية من الإيمان بالكتب المنزلة؛ لأنه ثبت نزوله في الكتب المنزلة، لكن لو كان لنا في الجن مثل حسن لكان الإيمان بهم ركن من أركان الإيمان.
فتبين أنه يجب الإيمان بالجن لكن ليس ركناً من أركان الإيمان، لأنه ليس لنا فيهم مثل حسن ولا أسوة حسنة، ولا نستفيد كثيراً من الإيمان بهم، لكن إيماننا بالملائكة كيف يؤثر علينا عقلياً وعاطفياً؟ وكيف يقتضي محبتنا لله سبحانه وتعالى، ومنافستنا في عبادته؟ واضح جداً أن الإيمان بالملائكة مفيد لنا، وأن الإيمان بالجن فائدته محدودة.(44/29)
دخول الإيمان بالجن في الإيمان بالكتب المنزلة
السؤال
هل الإيمان بالجن يدخل في الإيمان بالقرآن؟
الجواب
نعم الإيمان بالجن يدخل في الإيمان بالكتاب؛ لكنه لم يكن ركناً مستقلاً لنقص أهميته للعقل، وبالنسبة لمن أنكر وجود الجن فإنه يكفر لكن كفرانه بإنكاره لبعض ما جاء في الكتب المنزلة، لكن ليس لركن من أركان الإيمان المستقل، وهذا طبعاً لا يكفر قبل إقامة الحجة عليه، فإنه إذا كان يجهل أن الجن ورد لهم ذكر في القرآن فأنكر وجودهم لا يكفر؛ لأنه لا يجب تعلم آيات الجن من القرآن، لكن من بلغه أن هذا في القرآن فأنكره تكذيباً للقرآن فإنه كافر بركن من أركان الإيمان وهو الإيمان بالكتب المنزلة.
لكن من جهل ذلك وما عرف أن القرآن فيه ذكر للجن، فأنكر وجودهم لا يكفر.(44/30)
فائدة الإيمان باليوم الآخر
السؤال
ما فائدة الإيمان باليوم الآخر؟
الجواب
ذكرنا أن الإيمان باليوم الآخر مفيد لنا في حياتنا الدنيا وفي حياتنا الأخرى، فحياتنا الأخرى كلها مرتبطة بالإيمان باليوم الآخر؛ لأن من آمن بأنه سيحشر ويبعث سيعمل لئلا يكون من الأشقياء ولئلا يكون من أصحاب النار، لكن فوائده في الدنيا منها: استمراره في العمل الدنيوي ليبقي ذكراً حسناً وفائدة بعده؛ لأن اليوم الآخر عندنا يبدأ من الموت: (إذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته)، والإنسان إذا علق كل أعماله على موته هو لا يدري متى يموت؛ فكل لحظة يمكن أن يموت فيها، فلو كان لا يعمل إلا لحياته الدنيا فقط، ولا يشعر بشيء في المستقبل لما أتى بالمشاريع النافعة التي تستمر مئات السنوات أو آلاف السنوات، ولا ألف كتاباً ولا بنى مبنىً ولا أجرى نهراً ولا زرع زراعة ولا أقام أي مشروع تستفيد منه البشرية في المستقبل.
لكن نظراً لأنه يؤمن بأن حياته ليست مقتصرة على هذه الحياة الدنيا، وأن هذه الحياة الدنيا إنما تمثل جزءاً بسيطاً من حياته وهي وقت الامتحان فقط، أما الحياة الحقيقية فهي الحياة الأخروية؛ فمن هنا تعمل لذلك وتريد الاستمرار للجنس البشري وتريد -نظراً لمحبتك لله- أن يعبده الناس، حتى إذا عجزت أنت عن عبادته تحب أن يعبده جبريل وميكائيل، وتحب أن يعبده أقوام آخرون لم ترهم.(44/31)
تداخل عناصر الدين وترابطها في تغذية الروح والبدن
السؤال
عناصر الدين الثلاثة يلاحظ أن كلاً منها يفيد الروح والبدن، وأنتم خصصتم فائدتها، فكيف ذلك؟
الجواب
ما يلاحظ من الارتباط أو التداخل بين هذه العناصر من أن الإيمان فإنه قد يفيد الروح أيضاً وقد يفيد البدن، والإسلام كذلك يفيد الروح ويفيد البدن، والإحسان يفيد الروح ويفيد البدن والعقل.
فيجاب عن هذا: بأن هذا التداخل نظراً لترابطها ولأنها عناصر لشيء واحد وهو الدين، والعناصر لا يمكن إفراد كل واحد منها وحده؛ فلا ينفع الإيمان دون الإسلام، ولا ينفع الإسلام دون الإيمان، ولا ينفع واحد منهما دون الإحسان فلابد من جمع الجميع حتى يقع التوازن، وتوجد نقاط معينة لالتقاء هذه الجوانب يصعب تحديدها جداً، مثل الروح مع البدن، هل تستطيع أن تفصل روحك عن بدنك؟ وهل تستطيع أن تفصل عقلك عن بدنك وروحك؟ هذه مشتبكة، لكن أنت تفهم أن عناصرك الأساسية هي هذه الثلاثة، وتفهم أن عناصر الدين الأساسية هي هذه الثلاثة، لكن هناك مناطق تتداخل فيها، ويصعب عليك تحديدها بالضبط ولا تحتاج إلى ذلك، والعلم حاجتك إليه عقلية، فما ليس منه مفيداً نافعاً لك ولا يترتب عليه عمل لا ينبغي أن تشغل به وقتك، وما كان نافعاً لك مفيداً هو الذي تركز عليه، فالعلم الذي يترتب عليه العمل أهم من غيره؛ لأن غيره مجرد ترف في العلم.(44/32)
اعتقاد عدم فناء النار من الأمور الظنية في علم التوحيد
السؤال
هل اعتقاد عدم فناء النار من الأمور القطعية في الاعتقاد؟
الجواب
بالنسبة للجنة لم يقل أحد من المسلمين بفنائها، لكن النار فيها خلاف، وهذا الخلاف يقتضي ألا تكون من الأمور القطعية، بل هي من الأمور الظنية في هذا العلم، وسنذكر ذلك إن شاء الله في موضعه.(44/33)
توحيد العبودية
لقد أرسل الله الرسل يدعون إلى إفراد الله بالعبادة، وينهون عما يخل بذلك أو يؤدي إلى نقيضه من الشرك كتعبيد الأسماء لغير الله، والتبرك الممنوع، كما نهوا عن التمسح بالقبور والنذر لغير الله أو الذبح للأموات وغير ذلك.(45/1)
وجوب إفراد الله بالعبادة
قال: [فأفردوه جل بالعباده لا تشركوا في نوعها عباده] الفاء هنا للترتيب على ما سبق، ومعناه: إذا اجتنبتم الشرك فأفردوا الله، أي: وحدوه بالعبادة، وهذا هو الذي يسميه أهل السلوك بالتخلي قبل التحلي.
فالتخلي يقتضي التخلص من الشرك.
والتحلي يقتضي التحلي والاتصاف بالتوحيد.
فيجمع الإنسان بين النفي والإثبات فينفي الشرك أولاً ثم يثبت التوحيد ثانياً، وهذان الأمران تضمنتهما كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، فـ (لا إله) نفي، و (إلا الله) إثبات، فلذلك بدأ أولاً بنفي الشرك ثم رتب عليه إثبات التوحيد في قوله: (فأفردوه جل بالعبادة)، هذا معنى التوحيد.
فكثير من الناس يجهل معنى توحيد؛ لأن (وحد) تأتي في اللغة بمعنى: جعل الشيء واحداً، وأنت لا تستطيع الجعل فالجعل مستحيل في هذا الباب.
وكثير من الناس يظن أن (فعَّل) هنا تدل على الاختصار مثل: سبَّح ونحو ذلك، أي: قال أحد أحد، فليس (وحد) بمعنى: قال أحد أحد، بل المقصود بالتوحيد هو الإفراد، وحده بمعنى: أفرده بالعبادة، أو: أفرد التوجه إليه بالعبادة.
قوله: (جلّ) هذا ثناء عليه.
(بالعبادة) أي: بجنسها الذي يشمل الأقوال والأفعال وأنواع العبادات والقربات، فيشمل ذلك الفرائض والسنن والمندوبات، ويدخل فيه كل ما يتقرب به إليه سبحانه وتعالى.
ما معنى إفراده بالعبادة؟ المعنى: ألا يشرك العباد في جنس ما يسمى عبادة، بحال من الأحوال، فمن جنس العبادة مثلاً الصلاة والدعاء والذكر ونحو ذلك، فهذه لا يشرك فيها أحد مع الله سبحانه وتعالى بوجه من الوجوه.
وأما شكر الناس فقد جاء فيه: (من لا يشكر الناس لا يشكر الله)، وجاء الأمر بالشكر للوالدين في قول الله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]، فليس ذلك من الإشراك في جنس العبادة باختلاف النوعين، فالشكر لله سبحانه بصرف ما أنعم به عليه في طاعته، والشكر للوالدين أو لمن أحسن إليك بالدعاء له وبمدحه بما يستحق ومجازاته عليه.
فإذاً هناك فرق بين شكر الله وشكر عباده، فشكر الله هو صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه به في طاعته، وشكر العبد هو فعل ينبئ عن تعظيمه بسبب كونه منعماً أو بسبب كونه متفضلاً.
وكذلك ما جاء في قول الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصاري حين سأله: كم أجعل لك من صلاتي؟ فالمقصود ما يجعل له من دعائه؛ لأن هذا الأنصاري كان يدعو لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع نفسه لمحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكثر من الدعاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا جعل دعاءه له كله يُكفى ما أهمه.
فاتضح من هذا أن المقصود بما يجعل له من دعائه ليس دعاء شخص، إنما هو أن يصلي عليه، فلو اقتصر في الدعاء على الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقط ولم يدع بغير ذلك فإنه يحصل له ثواب الداعين، ويستجاب له في قضاء حوائجه الأخرى، ويكفى كل ما أهمه.(45/2)
النهي عن تعبيد الأسماء لغير الله
قوله: (لا تشركوا في نوعها عبادة)، يعني: عبادة الله سبحانه وتعالى، فلا تشركوا في نوع ما يسمى عبادة، فيدخل في هذا النذر والذبح ونحوهما، فلا يجوز النذر للمخلوق بل هو شرك بالله سبحانه وتعالى، وكذلك التعبيد بالأسماء، وكذلك الذبح ولهذا قال: [فلا تسموا ولداً عبد علي أو تنذروا لصالح أو لولي] أي: فلا تسموا ولداً عبد علي أو عبد فلان من الناس؛ لأن هذا تعبيد فلا يجوز إلا لله سبحانه وتعالى، فلا يطلق ذلك في التسمية، لكن إذا كان مملوكاً له يجوز أن تقول: أتاني عبد فلان فسألني عن كذا.
وهنا يأتي التفريق بين ما يرد في الكلام على الحقيقة وما يرد على المجاز، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقول أحدكم عبدي أو أمتي بل يقول فتاي وفتاتي)، فالنهي هنا من باب الأدب، فلا ينبغي للإنسان أن ينطق بذلك؛ لأن فيه كسراً لخواطر الذين يخاطبهم بذلك.
وإذا أراد الإنسان أن ينسب إلى غيره عبداً أو أمة فلا حرج أن يقول: هذا عبد فلان، أو أمة فلان، أو جارية فلان مثلاً، ولكن المحذور هو التسمية بذلك، وقد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أسماء الجاهلية التي فيها تعبيد لغير الله، حتى من مات على الكفر قد يغيره إكراماً لولده، فقد كان رجل من بني سليم يسمى غاوي بن عبد العزى فلما أسلم وحسن إسلامه أكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بتغيير اسمه واسم أبيه، فسماه راشد بن عبد ربه.
فتغيير اسم أبيه هنا لا ينفع أباه بشيء ولكنه تكريم له هو، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يغير اسم عبد المطلب، ولا عبد العزى، من أجداده صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم والدته آمنة بنت وهب أمها برة بنت عبد العزى بن قصي، فلم يغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه.
وحتى بعض أعمامه فإن أسماءهم كانت من أسماء الجاهلية، ولكنهم اشتهروا بكناهم كـ أبي طالب مثلاً، واسمه عبد الكعبة، مع أن الكعبة لم تكن تعبد في الجاهلية وقد خصها الله بهذا، لكن المقصود بذلك أنه سادنها وخادمها، وأبو لهب اسمه عبد العزى، ولكن اشتهرت كنيته فغطت على اسمه.
قوله: (فلا تسموا ولداً عبد علي)، معناه أنه لا يجوز لوالد مولود أن يسميه بالتعبيد لغير الله، ولا يجوز لغيره إذا سماه هو بذلك أن يطلقه عليه، والتخلص من ذلك إما بتغيير اسمه بالكلية، أو إذا كان منسوباً لصالح أو لنبي فيجعل ذلك على تقدير مضاف، فإذا سمي عبد الرسول أو عبد النبي أو عبد علي، فإنه يقال: عبد رب النبي، وعبد رب الرسول، وعبد رب علي، وعبد رب الحسين، وهكذا.
وهذه إنما اشتهرت في الشيعة فهم الذين يسمون هذه الأسماء، وتندر في أهل السنة، وإنما تقع في الفئات المخالطة للتشيع التي يقع فيها التعبيد لغير الله، ولا يقصدون بذلك حقيقة الأمر؛ إذ لو قصدوا ذلك لأشركوا، وإنما يقصدون به تشريف هؤلاء الذين يضاف إليهم الأولاد وينسبون إليهم.(45/3)
من الشرك النذر لغير الله
قوله: (أو تنذروا لصالح أو لولي): كذلك من الشرك النذر لغير الله سبحانه وتعالى، والنذر في الأصل عبادة يلتزمها الإنسان تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى، وقد شرعها الله تعالى لعباده فقال تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، وقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7].
وقد نهي عن أنواع من النذر، منها: النذر المعلق، وهو أن يعلق الإنسان نذراً على قضاء حاجة من حوائجه، كبرئه من سقم، أو قدوم مريض، أو أن يولد له ولد أو نحو ذلك، فيكره أن ينذر نذراً معلقاً على أمر، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه لا يردُّ من قدر الله شيئاً وإنما ينتزع الله به من يد البخيل، وما كتبه الله سيقع، فالذي ينذر النذر المعلق حكم على نفسه بأنه بخيل في تعامله مع الله، نسأل الله السلامة والعافية.
كذلك النذر المكرر، كنذر صوم الإثنين أو الخميس أو نحو ذلك، فهذا النذر يكره لأنه قد يشق على الإنسان وقد يأتي وقت لا يستطيع أداءه فيه.
وأيضاً: فإنه يشبه صورة التعبد بإيجاب شيء لم يوجبه الله، وهذا من أمر الجاهلية، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37] وفي قراءة أخرى: (إنما النسي زيادة في الكفر) {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} [التوبة:37]، فهذا النسيء كان أهل الجاهلية ينسئون الشهور، فيجعلون الشهر الحلال حراماً، والحرام حلالاً، فإذا أرادوا الحرب في الأشهر الحُرم أخروها إلى الأشهر الحل، فيشرعون ما لم يأذن به الله، فيكون هذا تشريعاً لما لم يأذن به الله، وهذا ما يفخرون به، حيث يقول شاعرهم: ونحن الناسئون على معدٍّ شهور الحل نجعلها حراماًً فرد الله تعالى هذا النسيء، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام العاشر من الهجرة: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض)، ففي العام التاسع كانت الحجة في شهر محرم بدلاً من ذي القعدة.
وفي العام العاشر حج النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحج حتى استدار الزمان ورجع النسيء وأبطل، وهذا هو سبب عدم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام التاسع، وتوليته لـ أبي بكر على الحج في ذلك العام، فإن الحج لم يكن في وقته، وإلا لو كان في وقته لحج النبي صلى الله عليه وسلم في العام التاسع.
حتى في العام الثامن لم يحج مع أنه اعتمر في شهر ذي القعدة من العام الثامن بعد فتحه لمكة عندما رجع من الطائف، فإنه اعتمر من (الجعرانة) ولم يحج في تلك السنة، ولم يؤمر أميراً على الحج إلا عتاب بن أسيد الذي أمره على مكة، فأقام عتاب الحج للناس، وهي أول حجة في الإسلام، ثم في العام التاسع حج أبو بكر بالناس، ثم أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ علي بن أبي طالب ليبلغ سورة البراءة، فإنها أنزلت عليه بعد ذهاب أبي بكر وقال: (لا ينبغي أن يبلغها عني إلا رجل من أهل بيتي)، ثم في العام العاشر حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع.
أما النذر للمخلوق للتقرب إليه، فإنما يحصل من اعتقاد أنه ينفع أو يضر، وهذا قد سبق أنه من أنواع الشرك؛ فلذلك لا يمكن أن يكون هذا مقبولاً شرعاً، ولو فعله الإنسان ووقع فيه لم يلزمه شيء.
والفرق بين الصالح والولي: أن الصالح من صلحت المعاملة بينه وبين الله، وبينه وبين الناس على قدر الإمكان.
والولي هو من اتخذه الله ولياً من أوليائه ولم يجعله عدواً من أعدائه.
فبينهما عموم وخصوص، وقد اشتهرت هاتان الكلمتان على ألسنة العوام، يقولون: فلان صالح وفلان ولي؛ ولذلك صرح الشيخ بهما معاً ليرد هذه الأفكار الشائعة في عوام الناس.(45/4)
الكلام على التبرك الجائز والممنوع
قال: [ولا تمسوا قبراً أو تَمَسَّحوا ولا تطوفوا حوله أو تذبحوا] ذكرنا أن النوع الرابع من أنواع الشرك الأكبر المخرج من الملة هو شرك الطاعة، وأنه يحصل عن طريق الغلو في الأشخاص، ويظن الإنسان أنهم يملكون له نفعاً وضراً، وهذا يحصل في الأحياء ويحصل في الأموات، فالأموات يظن الناس بهم النفع فيتقربون إليهم، وينسون أنهم لم يستطيعوا رفع الموت عن أنفسهم ولا المرض، وقد ماتوا وأكل عظامهم التراب، فكيف يملكون لغيرهم نفعاً أو ضراً؟! وهذا التمسح كان من عمل الجاهلية مثل الذبح على القبور، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ألا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه، فأزال هذه البناءات التي كانت تبنى على القبور، ويُتمسح عليها، ويُذبح عليها ويُنحر، فرد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطله.(45/5)
جواز التبرك بشخصه صلى الله عليه وسلم وأجزائه
فلهذا لا تمس القبور لقصد التبرك بتربتها أو لقصد التقرب إلى أصحابها؛ لأن ذلك من جنس العبادة، وقد سبق أن العبادة لا بد أن تصرف كلها لله، وإن كان التبرك في نفسه ليس عبادة؛ ولهذا جاز التبرك برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان التبرك عبادة لما جاز بمخلوق.
والتبرك بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمور الجائزة التي ينتفع بها في مجال الدنيا، ولكنه لا ينفع في مجال الآخرة، وهنا الفرق: فإن التبرك إنما ينفع في مجال الدنيا؛ لأن البركة معناها النماء الدنيوي، فيمكن أن يحصل عن طريق البركة شفاء مرض أو نحو ذلك، لكن لا يمكن أن تغفر به الذنوب، أو أن يدخل به الإنسان الجنة مثلاً، فهي نافعة في المجال الدنيوي فقط.
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبركون به، فكانوا يتبركون بوضوئه وبريقه ومخاطه وبكل شيء مسه، حتى شربت بركة أم أيمن بول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرب عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما دمه صلى الله عليه وسلم فقال له: (ويل للناس منك، وويل لك من الناس)، معناه أنه سيكون شجاعاً، وسيكون بشربه للدم أيضاً محل عداوة؛ فسيعاديه الناس كما عادوا الأنبياء، فالأنبياء هم أشد الناس بلاءً، وقد حصل ذلك.
وقد كانوا يتبركون بكل شيء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إن عروة بن مسعود حينما رجع إلى قريش من الحديبية وصف حال الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا معشر قريش! لقد وفدت على كسرى في ملكه، وعلى قيصر في ملكه، وعلى النجاشي في ملكه، فما رأيت أحداً منهم يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً، فوالله ما امتخط إلا وقع مخاطه في يد أحدهم فدلك به وجهه ورأسه، ولا توضأ إلا كادوا يقتتلون على وضوئه، ولا تكلم إلا أنصتوا حتى كأن على رءوسهم الطير.
وكذلك فإن من التبرك به صلى الله عليه وسلم تبركهم بوضع يده في الماء كما حصل في عدة غزوات، فإنهم عطشوا في غزوة فلم يبق معهم إلا ماء قليل في ركوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكوا إليه ذلك، فأمر بقدح، وأمر أن يصب الماء فيه، وجعل يده فيه، فجعل الماء يفور من بين أصابعه، والناس يستقون حتى ملئوا ما معهم من الآنية والظروف، فشربوا، وسقوا نواضحهم ودوابهم، وهذا الماء هو أفضل ماء على وجه الأرض إذ ذاك؛ لأن خير المياه الماء الذي نبع من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول أحد الفقهاء: وأفضل المياه ماء قد نبعْ بين أصابع النبي المتبعْ يليه زمزم فماء الكوثرِ فنيل مصر ثم باقي الأنهُرِ(45/6)
تبركهم بجسده وشعره صلى الله عليه وسلم ومسحه
وكذلك فإنهم كانوا يتبركون بمس جسده صلى الله عليه وسلم كما فعل سواد بن غزية رضي الله عنه، فإنه: (كان في الصف في حال المعركة، فتقدم قليلاً، فغمزه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحجن كان في يده، وكان أمام الصف يسوي الصفوف، فقال: أوجعتني يا رسول الله فأقدني -أعطني القود- فكشف له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن خصره، فالتزمه، فقيل له في ذلك فقال: إني الآن مقبل على الموت، فأردت أن يكون آخر عهدي بالدنيا أن أمس جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وكذلك بمسح يده، فإنه صلى الله عليه وسلم حين سالت عين قتادة إذ رماه المشركون بسهم فأصاب عينه، فوقعت على خده، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أحدَّ عينيه.
وكذلك فإنه مسح على عاتق معاذ بن عمرو بن الجموح حين ضربه عكرمة بن أبي جهل بالسيف، فعاد عاتقه إلى مكانه والتأم.
ومثل هذا مسحه على صبي أقرع من ولدان الأنصار، فنبت شعره ولم يشب بعد ذلك.
فهذا من بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك التبرك ببعض ما بقي من شعره وأظافره بعد موته، ففي صحيح البخاري: أن أم سلمة رضي الله عنها كان لها جلجل من فضة فيه شعرات من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الناس إذا مرض مريض أرسل إليها بقدح من ماء فخضت فيه الجلجل فيشربه فيبرأ.
وكذلك كان لـ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه شعرات من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض أظافره، فأمر أن تجعل داخل عينيه في حنوطه يتقي النار بها، ولا يقصد اتقاء النار الأخروية بذلك، إنما يقصد اتقاءها بمحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي التي تتقى بها النار، وبركة النبي صلى الله عليه وسلم يتقى بها الضرر الدنيوي والبرزخي ونحو ذلك.
وكذلك كان لـ خالد بن الوليد شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فكان يجعلها في مغفره؛ يتقي بها السيوف.(45/7)
التبرك بآثار يده صلى الله عليه وسلم وثيابه
وكذلك فإن عائشة رضي الله عنها كان لها جراب قد أدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فأنفقت منه فترة طويلة حتى كان في خلافة عمر، فكالته لتعرف كم فيه، فزالت عنه تلك البركة.
وكان لـ أبي هريرة جراب -أي: كنيف صغير- أدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فكان فيه شعير، فكان ينفق منه ويأكل، وإذا نال تمراً أو شعيراً جعله فيه، فأخذ يوم قتل عثمان، فرثاه بقوله: للناس همٌّ ولي في اليوم همان فقد الكنيف وفقد الشيخ عثمان وكذلك فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يتمسك بما آتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يفرط فيه، فقد أملى عليه ورقة كتبها فجعلها في قراب سيفه، وقد أهدى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف المشهور بذي الفقار، فبقي عنده وعند ذريته حتى وصل إلى خلفاء بني العباس فاشتروه، وهو الآن موجود في خزائن الخلافة العثمانية.
وكان الخلفاء قديماً يتداولون خرقة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بقيت، واختلف في تاريخها لأنها لم يتداولها الخلفاء الراشدون وإنما أخرجها معاوية للناس، فاختلف الناس، فقيل: إنها كانت لـ أبي الجهم فأهداها إلى معاوية، ولا شك أن أبا الجهم أهدى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الثوب الذي صلى فيه فشغله علمه في الصلاة، فإن كانت من هذا الثوب فقد أهداها أبو الجهم لـ معاوية.
وقيل: إنما كانت من بردة كساها رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن زهير فاشتراها معاوية من أولاده، فكانت عند معاوية، ثم تداولها الخلفاء بعده، واستمرت لديهم زماناً طويلاً، ولم يبق منها إلا خرقة قليلة وصلت إلى خلفاء بني عثمان (العثمانيين).
ويزعم الناس أنها ما زال منها قطعة إلى الآن، والله أعلم.
وكذلك فإن عائشة رضي الله عنها كان لها جراب قد أدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فأنفقت منه فترة طويلة حتى كان في خلافة عمر، فكالته لتعرف كم فيه، فزالت عنه تلك البركة.
وكان لـ أبي هريرة جراب -أي: كنيف صغير، أدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يده- فكان فيه شعير، فكان ينفق منه ويأكل، وإذا نال تمراً أو شعيراً جعله فيه، فأخذ يوم قتل عثمان، فرثاه بقوله: للناس همٌّ ولي في اليوم همان فقد الكنيف وفقد الشيخ عثمان وكذلك فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يتمسك بما آتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يفرط فيه، فقد أملى عليه ورقة كتبها فجعلها في قراب سيفه، وقد أهدى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف المشهور بذي الفقار، فبقي عنده وعند ذريته حتى وصل إلى خلفاء بني العباس فاشتروه، وهو الآن موجود في خزائن الخلافة العثمانية إلى الآن.
وكان الخلفاء قديماً يتداولون خرقة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بقيت، واختلف في تاريخها لأنها لم يتداولها الخلفاء الراشدون وإنما أخرجها معاوية للناس، فاختلف الناس، فقيل: إنها كانت لـ أبي الجهم فأهداها إلى معاوية، ولا شك أن أبا الجهم أهدى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الثوب الذي صلى فيه فشغله علمه في الصلاة، فإن كانت من هذا الثوب فقد أهداها أبو الجهم لـ معاوية.
وقيل: إنما كانت من بردة كساها رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن زهير فاشتراها معاوية من أولاده، فكانت عند معاوية، ثم تداولها الخلفاء بعده، واستمرت لديهم زماناً طويلاً، ولم يبق منها إلا خرقة قليلة وصلت إلى خلفاء بني عثمان (العثمانيين).
ويزعم الناس أنها ما زال منها قطعة إلى الآن، والله أعلم.
وكذلك فإن عائشة رضي الله عنها كان لها جراب قد أدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فأنفقت منه فترة طويلة حتى كان في خلافة عمر، فكالته لتعرف كم فيه، فزالت عنه تلك البركة.
وكان لـ أبي هريرة جراب -أي: كنيف صغير، أدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يده- فكان فيه شعير، فكان ينفق منه ويأكل، وإذا نال تمراً أو شعيراً جعله فيه، فأخذ يوم قتل عثمان، فرثاه بقوله: للناس همٌّ ولي في اليوم همان فقد الكنيف وفقد الشيخ عثمان وكذلك فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يتمسك بما آتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يفرط فيه، فقد أملى عليه ورقة كتبها فجعلها في قراب سيفه، وقد أهدى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف المشهور بذي الفقار، فبقي عنده وعند ذريته حتى وصل إلى خلفاء بني العباس فاشتروه، وهو الآن موجود في خزائن الخلافة العثمانية إلى الآن.
وكان الخلفاء قديماً يتداولون خرقة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بقيت، واختلف في تاريخها لأنها لم يتداولها الخلفاء الراشدون وإنما أخرجها معاوية للناس، فاختلف الناس، فقيل: إنها كانت لـ أبي الجهم فأهداها إلى معاوية، ولا شك أن أبا الجهم أهدى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الثوب الذي صلى فيه فشغله علمه في الصلاة، فإن كانت من هذا الثوب فقد أهداها أبو الجهم لـ معاوية.
وقيل: إنما كانت من بردة كساها رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن زهير فاشتراها معاوية من أولاده، فكانت عند معاوية، ثم تداولها الخلفاء بعده، واستمرت لديهم زماناً طويلاً، ولم يبق منها إلا خرقة قليلة وصلت إلى خلفاء بني عثمان (العثمانيين).
ويزعم الناس أنها ما زال منها قطعة إلى الآن، والله أعلم.(45/8)
التبرك بماء المطر وبالكعبة
هذا التبرك بشخص النبي صلى الله عليه وسلم لا غبار عليه ولا إشكال فيه، ولا يختلف فيه اثنان من هذه الأمة، ومثله التبرك بماء المطر المنزل من السماء، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكشف له عن كتفيه ورأسه، ففيه بركة لقول الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق:9].
وهذه البركة يمكن أن تكون شفاء من بعض الأمراض، ويمكن أن تكون أيضاً نافعة للأمراض الجلدية كما يذكر بعض المجربين لذلك، وزعم بعض أهل العلم أنها نافعة للشيب أيضاً، فكانوا يتعرضون برءوسهم للمطر للبركة التي فيه؛ لأن الله وصفه بالبركة.
وكذلك البيت الحرام، فإن الله سبحانه وتعالى يقول فيه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96]، ففيه بركة لا يمكن أن تنكر لإثبات الله لها في كتابه، وهذه البركة في الحجر دون خلاف؛ ولذلك قبَّله رسول الله صلى الله عليه وسلم واستلمه، وفي الركن اليماني دون خلاف؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسحه بيده.
واختلف في بقية الأركان هل تمسح أم لا؟ فذهب بعض الصحابة إلى أنها لا تمسح؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمسحها، وذهب آخرون إلى أنه ليس شيء من الكعبة مهجوراً، فتمسح جميعاً، وحين بنى ابن الزبير الكعبة على قواعد إبراهيم اتفق هو وعدد من الصحابة على مسح الأركان الأربعة؛ لأنهم فهموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ترك مسح الركنين الشاميين لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم، فهما في داخل الكعبة.
واليوم قد أعيدا إلى ما كانا عليه فهما في داخل الكعبة، ومع ذلك فالبيت مبارك في جميع أجزائه، ولا حرج في التبرك به من غير غلو، مع اعتقاد أنه لا ينفع ولا يضر لذاته كما قال عمر بن الخطاب في الحجر الأسود.(45/9)
حكم التبرك بغير ما ورد النص فيه
أما سوى ما ذكر فإن البركة قد توجد، لكن لا يقطع بوجودها إلا بما جاء الوحي بأنها فيه، فالله سبحانه وتعالى ذكر بركة الماء المنزل من السماء، وذكر بركة البيت الحرام، وعرفنا بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن ما سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأشخاص لم يرد فيهم النص؛ فلذلك لم يتبرك بهم، وهذا في الأعم الأغلب.
ولا ينكر أنه حصل في بعض الحكايات لبعض الصحابة بعض التبرك، لكنه لم يشتهر ولم ينتشر بينهم مثل انتشار تبركهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالأخص بأهل بيته، فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث جعفر بن محمد عن أبيه أنه دخل على جابر بن عبد الله، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فعرفه بنفسه فقال: يا ابن أخي! ادنُ مني.
فأدناه، فحل زره الأعلى، ثم حل زره الأسفل، ثم وضع يده بين ثدييه.
وما فعل هذا جابر بحفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبركاً به، ولأنه يقصد بذلك إدناءه ومحبته لحبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولآل بيته، وليس في ذلك غلو ولا اعتقاد أنه ينفعه أو يضره، بل جابر أفضل من محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم أجمعين.
ومن فقه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه أنه حين ذكر في (كتاب التوحيد)، التبرك المذموم، ذكر التبرك بالأشجار والأحجار ولم يذكر التبرك بالأشخاص؛ لأنه يفصل فيه، فلم يذكره أصلاً، وإنما ذكره الشُّرَّاح وبالغوا فيه لكن الشيخ ما ذكره.
أما التبرك بالأحجار والأشجار والقبور ونحو ذلك، فهذا التماس للبركة في غير ما هي فيه، ومن ذلك قبور الصالحين والشهداء والصحابة، حتى الأنبياء فإن أجسادهم مستورة، والتربة التي يتبرك بها الناس ليست بأجسادهم المباركة، ولم تتحلل أجسادهم إلى التراب أصلاً؛ لأن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، فلذلك لا يتبرك بشيء من ذلك.(45/10)
وقوع البركة في شيء لا تقتضي تعالجاً به
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ثابت بن قيس بن شماس: (تربة أرضنا، بريقة بعضنا، شفاء سقيمنا، بإذن ربنا)، فلا يقصد به التبرك بأصل التربة، ولهذا ذكر العلماء أن هذا الحديث من أحاديث الطب النبوي، فإن كل قوم يكون علاج ما ينبت بأجسادهم من الأمراض الجلدية موجوداً في تربتهم التي تربو عليها، والبيئة التي عاشوا فيها، فيمكن أن يكون من هذا الباب.
ولو قصد به تربة بعينها فيها بركة لكان هذا معروفاً بالوحي فقط، ولا يقاس عليه غيره.
وقد تأتي البركة في الأمر فلا تقتضي تعالجاً به ولا انتفاعاً به، وإنما تقتضي كثرة خيره ونمائه، مثل البركة في أرض الشام، حيث قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1]، فالمقصود بالبركة حوله: كثرة الثمار والزروع ونحو ذلك، ولا يقصد بها أن تلتمس البركات في أرض الشام بالتعالج بها ونحو ذلك.(45/11)