الاختلاف والتفرق
لقد حذر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من الفرقة والتحزب والتشيع، ودعا المؤمنين إلى الاعتصام بحبل الله جميعاً، وبين أسباب الفرقة والاختلاف والتناحر، وأنه يجب على المسلم نبذها واجتنابها.
وهناك أمور وقع الاختلاف فيها بين الصحابة فمن بعدهم، وهي اجتهادات ينبغي ألا تكون سبباً للفرقة، وأن يعذر المجتهد فيها باجتهاده كما عذره رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/1)
تحذير الله سبحانه ورسوله من الفرقة والاختلاف
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى حذر من الشقاق والفرقة في كتابه في عدد من الآيات، فجعله منافياً للرحمة في قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118 - 119].
وجعله ضرباً من ضروب العذاب، فقال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65].
وجعله مظهراً من مظاهر الشرك فقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31 - 32]؛ وبين براءة الرسول صلى الله عليه وسلم من المختلفين في الدين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159].
وبين أن الخلاف سبب لزوال الريح وللفشل فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:45 - 46].
وبين مقابله وهو الاعتصام بحبل الله وأمر به فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:103 - 105].
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تحذيره من الفرقة والخلاف في عدد كثير من الأحاديث الصحيحة، فمنها ما قاله في خطبته في حجة الوداع، تلك الخطبة التي لم يعش بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق هذه الأرض إلا اثنين وثمانين يوماً، فكان ذلك وصيته إلى أمته فقال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وحذر من آثار الخلاف فقال: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر).(1/2)
أسباب الفرقة والاختلاف وبيان ضررها
وقد بين الله سبحانه وتعالى أسباب الفرقة المذمومة فذكر منها ثلاثة عشر سبباً متوالياً في سورة الحجرات وحرمها جميعاً: السبب الأول: هو تجاوز الصلاحيات وتعدي الإنسان على حقوق غيره، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1].
السبب الثاني: هو سوء الأدب مع من يستحق الأدب، فهو سبب للفرقة والخلاف، ولذلك قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:2 - 5].
السبب الثالث: هو عدم التثبت في نقل الأخبار، بأن يتكلم الإنسان بكل قول سمعه يتلقاه لسانه قبل أن تتلقاه أذنه وقبل أن يعرضه على قلبه، حتى يعلم هل هو صحيح أم باطل؛ فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] وفي القراءة السبعية الأخرى: (فتثبتوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)، فلابد من التثبت والتبين في نقل الأخبار، وإلا حصل الشقاق والفرقة والخلاف.
السبب الرابع: هو عدم الرد إلى الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والسعي وراء الأهواء والآراء، فقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات:7]، ومن هنا ينبغي أن يعلم المسلمون أن الحكم لله سبحانه وتعالى في الأمور كلها {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40]، ولذلك فلابد أن يعلموا أن آراء الرجال غير المعصومين هي عرضة للرد والأخذ، كما قال مالك رحمه الله: ما منا أحد إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان للناس مرجع غير معصوم يتحاكمون إليه في أمرهم فذلك عرضة للفرقة والخلاف؛ لأن كل مصدر غير معصوم فلن تجتمع عليه القلوب، فلابد أن يكون سبباً للخلاف، فإذا تعصب له بعض ناس دون بعض أدى ذلك إلى الفرقة والشحناء.
ثم بعد هذا قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:7 - 8].
السبب الخامس: هو الاعتداء والظلم، فكل ظلم للآخرين وأي اعتداء على حقوقهم هو سبب للفرقة والخلاف؛ لأن المظلوم لابد أن ينتصر يوماً ما، فإما أن ينتصر عاجلاً أو ينتصر آجلاً: (فدعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:9 - 10].
السبب السادس: هو السخرية من المسلمين؛ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11].
وهذا السبب بين سبحانه وتعالى ما ينفر منه، في أن الساخر يمكن أن يكون أدنى عند الله منزلة من المسخور منه، فكم من ساخر هو رذيل عند الله سبحانه وتعالى! وكم من مسخور منه هو كريم عند الله! فهذا نوح سخر منه قومه فكان جوابه لهم: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود:38 - 39].
ومن هنا عطف الله ذكر النساء على ذكر الرجال لبيان أن السخرية كثيرة في النساء، فكثير ما يسخر بعضهن من بعض، ولذلك قال: {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات:11] مع أنها لو لم تعطف لدخل النساء في (قوم)؛ لأن القوم لفظ يشمل الرجال والنساء في الإطلاق الشائع، ومن ذلك قول الله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام:66]، وفي ذكر الأنبياء جميعاً يذكر القوم ويقصد بهم الرجال والنساء، وقد يطلق القوم على الرجال فقط كما في هذه الآية وكما في قول زهير بن أبي سلمى: وما أدري وسوف أخال أدري.
أقوم آل حصن أم نساء السبب السابع: هو اللمز والغمز بالطعن في الناس قال: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] فهذا هو اعتراض على الله في خلقه، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:8]، فيجعل الإنسان طويلاً ويجعله قصيراً ويجعله جميلاً ويجعله قبيحاً، ويجعله أبيض إذا شاء، ويجعله أسود إذا شاء، ويجعله ملوناً إذا شاء، ويجعله ذا شعر إذا شاء، ويجعله بخلاف ذلك إذا شاء.
ومن هنا فالغمز إنما هو طعن في خلقة الله سبحانه وتعالى الذي خلق هذا الخلق على هذه الصورة، وذلك اعتراض على الله في خلقه، وهو كثيراً ما يؤدي إلى الفرقة والخلاف، فينتصر بعض الناس للمطعون فيه والمغموز فيه ويكون ذلك سبباً للشحناء.
ومن العجائب في إعجاز القرآن أن الله قال: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] ولم يقل: (ولا تلمزوا إخوانكم)؛ لبيان أن الإنسان إذا لمز أخاه فقد لمز نفسه، لأن الصفة التي يلمز بها يمكن أن تكون فيه صفة مثلها أو أشد، فعندك عورات وللناس ألسن.
ومن هنا كان لابد أن يعرف الإنسان أن طعنه في أخيه هو طعن في نفسه، فلابد أن يحافظ على عرض أخيه كما يحافظ على عرض نفسه.
السبب الثامن: هو التنابز بالألقاب في التصنيفات، وأن يقال فلان من الفرقة الفلانية، أو من الطائفة الفلانية، ويكون هو غير معلن بذلك، فهذا من النبز والتصنيف الذي حذر منه، أي: فهو من التنابز بالألقاب، وهذه الألقاب سواء كانت شخصية كما يكره الناس أن يدعوا به من أسماء، أو كانت غير شخصية كأسماء الفرق والقبائل والمجموعات التي تكرهها، فلا يحل إطلاق اسم على شخص أو مجموعة أو قبيلة وهي تكرهه؛ لأن ذلك من التنابز بالألقاب المحرم.
وإذا كان الإنسان لا يعرف إلا بذلك الذي يكرهه، فهذه مشكلة تكلم عنها المحدثون قديماً، فقد ذكروا بعضَ المحدثين الذين كانت لهم ألقاب يكرهونها كـ ابن علية ومسلم البطين، ولبعضهم ألقاب سيئة أيضاً وإن كانوا لا يكرهونها كـ عارم وهو محمد بن الفضل شيخ البخاري رحمه الله كان يلقب بـ عارم، وعارم معناه: المفسد، وهذا اللقب مسلوب الدلالة لا يقصد معناه، فهو من الصالحين المصلحين، لكن اشتهر بهذا اللقب بين الناس، ومثل ذلك إطلاق جزرة على الرجل بسبب أنه كان يقرأ فأخطأ في القراءة فسمي بالكلمة التي أخطأ فيها.
فهذا النوع استشكله الأوائل وجعلوه من دغل أهل الحديث، وذكره الذهبي في دغل أهل الحديث لما ذكر أن كل طائفة من الطوائف الإسلامية لديها دغل وأخطاء، فذكر أن القراء دغلهم في المبالغات في القلقلة وفي إخراج الحروف من مخارجها حتى تتجاوز محلها وفي تتبع الأوجه والروايات، وأن الفقهاء دغلهم في ترك النصوص والعدول عنها إلى آراء الرجال، وعدم التثبت في نقل تلك الآراء بنسبة الروايات المخرجة إلى المجتهدين الذين لم يقولوا بها وإنما خرجت على أقوالهم وفتاويهم، وأن أهل الحديث دغلهم في ذكر الألقاب التي يكرهها أصحابها كما ذكرنا من الألقاب.
وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله أن هذا النوع اشتهر في علماء المسلمين، فعلماء المغاربة دخل عليهم الشيطان بسوء الأسماء وعلماء المشارقة بحسن الأسماء، فعلماء المغاربة يتلقبون بالألقاب القبيحة كالدباغ والفخار ونحو ذلك، وعلماء المشارقة يتلقبون بالألقاب الشريفة كشمس الدين وتقي الدين وسراج الدين إلى آخره، فقال: دخل الشيطان على علماء المشارقة بحسن الألقاب، ودخل الشيطان على علماء المغاربة بسوء الألقاب.
{وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات:11] وقد حذر الله من هذا تحذيراً بليغاً إذ قال: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات:11] فجعل هذا فسوقاً وجعله خروجاً للإنسان عن طريق الإيمان، فبعد أن قطع الإنسان أشواطاً من الإيمان وصار في هذا الطريق كأنه التفت ذات اليمين أو ذات الشمال فسلك هذا الطريق، إذ تبع الشيطان في التصنيف والترقيم، ولذلك قال: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11]، وهذه فسحة كريمة أتاحها الرب الكري(1/3)
الحث على اجتماع الكلمة ووحدة الصف
ثم إن علينا عباد الله أن نعلم أن اجتماع الكلمة ووحدة الصف مما أمر الله به، كما ذكرنا في الآيات، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم في عدد من الأحاديث الصحيحة عنه، وهو كذلك قوة للمسلمين.
فهذه الأمة تحف بها الأمم المعادية وتكيد لها بأنواع الكيد، ولا ترضى لها رفع راية ولا الوصول إلى غاية، فلذلك إذا بقيت هذه الأمة في تناحر وخلاف فيما بينها فمتى تنتصر على أعدائها؟ وإذا شغلنا كل وسائلنا في طعن بعضنا في بعض، وكان كل إنسان منا يعمل طاقته وقوته في تحطيم أخيه، فمتى نفرغ لقتال أعدائنا؟ ومتى يكون الانتصار عليهم؟! إن علينا أن نعلم أن أعداءنا يتربصون بنا الدوائر، وأنه إذا أحس الإنسان بتهديد كيانه فذلك سبب لنصرته لأخيه ولو كان مخالفاً له، كما قال الشاعر: لما أتاني عن عيينة أنه عان عليه تظاهر الأقياد بذلت له نفسي النصيحة إنه عند الشدائد تذهب الأحقاد أنتم اليوم في شدة عظيمة، فأمر الدين في تولٍ، وأمم الشر كلها تداعت كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، فلذلك لابد أن توحدوا صفوفكم وأن تجتمعوا على كلمة سواء، وأن تعلموا أن ذلك لا يتم إلا بالبدء أولاً بنقاط الاتفاق والتنقيب عنها، فلابد أن نبحث عن النقاط التي تجمعنا قبل أن نبحث عن النقاط التي تفرقنا.
فالإنسان يعلم أن له أعداء خارجيين، وهم الكفرة من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من أنواع الكفر، والكفر ملة واحدة، ويعلم أن له أعداء داخليين من المنافقين المتربصين، ومن أصحاب النزعات الضالة! فلا يخلو مجتمع من هذه النزعات التي تغلغلت في المجتمعات، حتى بلغ سيلها الزبى، وانتشرت في مجتمعاتنا الإسلامية، فإذا أحس الإنسان بالتهديد من خارج الكيان ومن داخله، فلابد أن يبحث عن الأنصار إذا كان عاقلاً، ولا ينبغي أن يبحث عن التخذيل في مثل هذا الوقت، ألا ترون أن الإنسان الذي هو عرضة للابتزاز، وأعداؤه يتربصون به الدوائر، ينبغي هنا في مثل هذا الوقت أن يرتب الأولويات، وأن يبدأ بالأولى والأكثر عداوة والأقوى حتى يصل إلى غيره.
فإذا فتح عليه كل الجبهات في وقت واحد فإنه حينئذ غير عاقل وغير مدبر، فلذلك لابد أن يبدأ الإنسان بالجبهة العظمى، ولهذا فإن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة الحسنة لما أراد بناء دولة الإسلام في المدينة بدأ أولاً فعقد هدنة مع اليهود الذين هم داخل المدينة؛ لأنهم أقرب الأعداء إليه، ثم لم يتعرض للمنافقين بسوء؛ خشية أن يقال: إن محمداً يقتل أصحابه، فلم يقتل أحداً منهم ولم يشهر به أمام الناس، وكان يعود مرضاهم، بل قد صلى على جنازة رأس من رءوسهم، حتى نهي عن ذلك، ثم بعد هذا ذهب إلى القبائل المجاورة للمدينة من الأعراب كبني ضمرة وبني مدلج، فعقد معهم الهدنة على أن لا يكثروا عليه سواداً، وأن لا يعينوا عليه مغيراً، ثم بعد هذا حارب العدو الألد وهم قريش، الذين إذا انتصر عليهم فذلك انتصار على العرب كلها كما حصل.
إن هذا من سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي هي تابعة للوحي المنزل عليه من عند الله سبحانه وتعالى، ولابد من الاقتداء به في ذلك، فإن مهادنته لليهود إذ ذاك ليست على أساس أنهم أقل كفراً من قريش أو أقل ضرراً منهم، ولكن إنما هي على أساس أنهم أضعف منهم، فاليهود إذ ذاك أقل شوكة وأضعف من مشركي قريش، فلذلك بدأ بالأقوى، ثم فاضل بين اليهود أنفسهم، فأكثرهم ضرراً وعداوة هم بنو قينقاع، فهم أول من أخرجهم الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة، ثم بعدهم بنو النضير أخرجهم إلى خيبر، ثم بنو قريظة حيث قضى عليهم في المدينة.(1/4)
سياسة فرق تسد ودور الأعداء في تطبيقها
فهذا التدريج في الإعداد من المهمات جداً، والأعداء يعرفون هذا، ومن أجل هذا فهم يسلطون بعضنا على بعض، وينطلقون من سياسة واضحة لديهم وهي: سياسة (فرق تسد)، فيريدون أن يفرقوا جمعنا، فإذا فرقوه حينئذ استطاعوا التغلب على كل مجموعة يسيرة، ومن أجل هذا عقد مؤتمر (سايكس بيكو) لتوزيع العالم الإسلامي -الذي يسمونه تركة الرجل المريض- إلى دويلات.
وعندما قسموا بلاد الإسلام جعلوا الحدود بين كل دويلتين متجاورتين على منطقة حيادية؛ لتكون بؤرة للخلاف وسبباً للحرب في كل وقت، فما من بلدين إسلاميين إلا وبينهما منطقة محايدة يمكن أن يثار فيها الخلاف وتقوم فيها الحرب، وتعرفون أن منطقة الصحراء الغربية تركت بين موريتانيا والمغرب والجزائر من أجل إقامة حرب فيها متى تيسر ذلك ومتى أراد المستعمر ذلك، وكذلك منطقة صغيرة بين تونس والجزائر، ومنطقة أخرى بين ليبيا والجزائر، ومنطقة بين موريتانيا ومالي، ومنطقة على شاطئ النهر كذلك بين موريتانيا والسنغال، ومثل هذا منطقة بين تشاد وليبيا وقامت فيها حرب ضروس، وكذلك منطقة بين مصر وليبيا، وكذلك الحال في الحدود بين السعودية واليمن، وبين السعودية وقطر والإمارات والكويت، والعراق أيضاً، ومثل هذا منطقة الرميلة بين الكويت والعراق التي قامت على أساسها الحرب.
وهكذا الحدود بين كل بلدين إسلاميين، تجدون أنها قابلة للانفجار في كل وقت، فمنطقة أنطاكية بين تركيا وسوريا ومنابع الأنهار، ومنطقة حلايب بين مصر والسودان، ومنطقة جنوب السودان وغير ذلك من المناطق، ما من منطقة بين دولتين إسلاميتين متجاورتين إلا وقد جعل فيها المستعمر منطقة لم يحسمها بالحدود؛ لتكون قابلة للانفجار في أي وقت أراد أن يحركها.
وكذلك قضية الأقليات التي يلعب على أوتارها المستعمر في كل مكان، فإنهم عندما أرادوا توزيع البلدان حرصوا على أن لا يكون بلد بعرق واحد خاص، بل كل بلد تجمع فيه أعراق وتدمج فيه أعراق ويكون بعضها غالباً وبعضها مغلوباً، حتى تكون فيه أكثرية وأقلية، هذه الأعراق إن استطاعوا أن تكون طوائف دينية فعلوا، وإلا جعلوها طوائف عرقية، وتعرفون التقسيم الحاصل للأكراد حين قسموهم بين أربع دول، الأكراد مجموعة صغيرة في شمال العراق قسمها المستعمر بين سوريا وتركيا والعراق وإيران، كل دولة فيها أقلية كردية، وهذه الأقلية تطالب بحقوق، وهكذا في البلدان التي يجتمع فيها العرب والبربر، أو العرب والأفارقة يجعلون فيها أقلية من أحد الجانبين وأكثرية من الجانب الآخر؛ حتى تكون بؤرة للخلاف في أي وقت يمكن أن يثار الخلاف بينها.
وما تسمعونه في الجزائر من تحريك القبائل البربرية، وما يحصل بين الفينة والأخرى هنا وفي المناطق الأخرى كله من هذا القبيل، ومن المؤامرات الدولية التي يقصد بها تفريق جمع المسلمين وشتات أمرهم، وأن يكون بأسهم فيما بينهم حتى يمنع ذلك وصول البأس إلى الأعداء، وما دام أهل الإسلام لا ينتبهون لمثل هذا الخطر فالأعداء في أمان؛ لأنهم إذا أحسوا بقوة لدى دولة من الدول صرفوها إلى جيرانها، لما أحسوا بقوة ضاربة لدى العراق وجهوها إلى الكويت البلد الصغير الضعيف المجاور، وهكذا فالقوة المصرية التي ضربت ليبيا، والقوة الليبية التي توغلت في تشاد ثم قضي عليها بالكلية، قتل منها ألف وخمسمائة مقاتل في عشية واحدة، وهكذا كل هذا قوة للإسلام، ومع ذلك يراد أن تكون مشغلة وسبباً لزوال هذه القوة.
ومنطقة كشمير بين الهند وباكستان الآن من المناطق الساخنة في العالم، وتعرفون الآن الحاصل فيها، وكذلك الأقلية الطاجيكية في أفغانستان، والأقلية الأوزبكية فيها أيضاً، فهما أقليتان في مقابل البشتون الذين عندهم الكثرة هنالك.
فالمستعمر أراد هذا التقسيم مع أن طاجكستان يمكن أن تضاف إليها القبائل الطاجيكية وأوزباكستان يمكن أن تضاف إليها القبائل الأوزبكية، لكن المستعمر أراد أن يأخذ جزءاً من هذه حتى تكون أقلية قابلة للقتال في أي وقت، وبذلك تشهدون مثل هذا في عصرنا هذا.
إن المسلمين عليهم أن ينتبهوا لكل سبب من أسباب الفرقة والخلاف وأن يحذروا منه قبل أن يثور، وإذا حصل فعليهم أن يكونوا معالجين له على الوجه الصحيح، كما بين الله سبحانه وتعالى في كتابه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9].
ومن العجائب في التفرقة ما حصل في لبنان، فإن النصارى فيه أقلية في الواقع، لكن المستعمر قسم المسلمين فيه إلى طوائف، فجعل منهم سنة وشيعة ودروزاً، وقسم أهل السنة إلى أقسام، وقسم كذلك الشيعة إلى أقسام، حتى أصبحت كل فرقة وحدها أقلية في مقابل المارونيين النصارى فأصبحت الرئاسة دائماً للمارونيين النصارى، وهذا النوع من المؤامرات لا يزال مستمراً، وعلينا أن ننتبه له في كل الأحيان، وأن نستشعر خطره وضرره.
ففي هذه الأيام تدور حرب ضروس في بعض الجمهوريات الإسلامية بين بعض الطوائف الصوفية فيما بينها، وما ذلك إلا بأيدي المستعمرين، فليس لهؤلاء المساكين مصلحة في التناحر والتقاتل فيما بينهم، ولكن المستعمر أراد أن يتقدم بعضهم على بعض حتى تذهب القوة فيما بينهم، وحتى يبيع هو سلاحه للطائفتين، ويكون بذلك قد حقق مصلحتين: فتح سوقاً للسلاح، فالمصانع تصنع السلاح يومياً تحتاج إلى سوق تفرغ فيه سلاحها، ورد كيد المسلمين في نحورهم، ورد قواهم إلى أنفسهم، ومن هنا يأمن هو الخطر.
وتعلمون أن أمريكا سعت لإقامة حرب في الجمهوريات الإسلامية عند تشتت الاتحاد السوفيتي؛ لأن هذه الجمهوريات تمتلك وسائل القوة، فلديها المفاعلات النووية، ولديها الخبرات العالمية الكبرى، فهذا لا يسر أمريكا أن يكون بأيدي المسلمين بحال من الأحوال، فلذلك كانت من وراء الحرب في الشيشان التي مازالت قائمة إلى الآن، ومن وراء الحرب بين جورجيا وأذربيجان، فهذا النوع من الحروب مقصود، وهو استراتيجي لابد من تحقيقه لئلا يكون للمسلمين قوة ضاربة، وفي هذه الأيام يريد الأمريكان كذلك ضرب بقية القوة في العراق لتحطيمها؛ لأنهم أحسوا أن العراقيين مازالت لديهم قوة ومال وخبرة، فيريدون تحطيم ذلك، ولا يمكن أن يغزوهم بالجيش الأمريكي، بل لابد أن تتحرك الجيوش الإسلامية أولاً، حتى تتحمل البأس العراقي عن الجيش الأمريكي، ومثل هذا ما يريدونه الآن وما يخططون له للحرب بين الهند وباكستان؛ ليكون ذلك قضاء على القوة النووية الباكستانية، التي هي ملك للمسلمين.(1/5)
حقيقة الخلاف بين المسلمين وحجمه
إن أسباب الفرقة والخلاف في مجتمعاتنا كثيرة جداً، وأغلبها وأكثرها إنما هو في الأمور الدنيوية، فكثيراً ما يختلف الناس ويتفرقون على أساس مصالح مظنونة غير حقيقية، فالخلافات التي تدور دائماً في إبان تحرك السياسات وإن كانت خلافات مؤقتة إلا أنها ليس لها مبرر لا من الناحية الشرعية ولا من الناحية العقلية، فمن المعقول أن يختلف اثنان في السياسة فأحدهما يرى التوجه إلى كذا والآخر يرى التوجه إلى كذا، لكن أن يكون ذلك ذريعة للبغضاء والشحناء وإنفاق الأموال من أجل الضرر بإخوانك؛ فهذا لا يمكن أن يقبل بأي وجه من الوجوه.(1/6)
ماهية الخلاف المقبول شرعاً
إن علينا أن نتفهم أن الخلاف المقبول شرعاً أحد أمرين: إما خلاف في أمور الدنيا وقد مر معنا، أو في أمور الدين وهذا لا يكون إلا في غير المحسوم بالدليل، أما ما حسمه الوحي القطعي الدلالة والورود فلا يمكن الخلاف فيه.
والأمور الظنية الاجتهادية تقبل الخلاف، ويمكن أن تتباين فيها المذاهب وأن تتعادل فيها الآراء، وحينئذ لا يحل التعصب لرأي من الآراء، بل ينظر إليها جميعاً على أنها من تراث هذه الأمة، ومن إنتاج عقولها، وأن هذه مأخوذة من الوحي معتمدة عليه، فما كان منها صواباً فمن توفيق الله، وما كان منها خطأً فخطؤه على صاحبه، وليس عليه إثم إذا كان أهلاً للاجتهاد، بل هو مثاب بأجر واحد، والمصيب مثاب بأجرين، ومن هنا فالمذاهب الفقهية المعتمدة على فهم المجتهدين في الأدلة الشرعية يقبل الخلاف بينها، وينبغي أن يأخذ طالب العلم بالراجح منها، وأن لا يحتقر المرجوح، بل يعلم أنه قول مقبول وأن له دليلاً، وأنه إن ترجح لديه هو خلافه فلم يحسم الخلاف، بل ازداد أحد القولين بصوت واحد، ومن هنا فلا يحسم هذا الخلاف، وستبقى المذاهب موجودة وتبقى المدارس موجودة.
ومثل هذا في المدارس الدعوية والجماعات الإسلامية، فالخلاف بينها مثل الخلاف بين الفقهاء المجتهدين، يختلفون في آراء غير محسومة من ناحية الدليل، ولكل منهم أن يجتهد فيها، فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر، ولكن لا يحل التعصب والمصادرة بوجه من الوجوه، ولابد إذا حصل ذلك الخلاف أن يكون حله بالرجوع إلى أهل العلم الراسخين فيه، وأن ينظر في الأدلة الشرعية، فمن كان أسعد بالدليل وأقوى حجة تنازل له الآخر عن رأيه، فهذا هو الوجه الصحيح المقبول! وإذا وجد أن لكل حجة ولكل دليلاً ولم يمكن الجزم بمصداقية أحد القولين، حينئذ لابد أن يعذر كل واحد منهما الآخر، وأن يتعاونوا فيما اتفقوا عليه، ولذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه حين أطل على الناس وهو محصور في الدار فقال له رجل: (يا أمير المؤمنين! أنت إمام سنة، وهؤلاء إمامهم إمام البدعة وهم يصلون، أفنصلي معهم؟ قال: إن الصلاة من أحسن ما يصنع الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فتجنب إساءتهم).
ومن هنا فعلينا أن نستحضر نقاط الاتفاق بيننا أولاً، وأن نعلم أن أهل السنة من المسلمين نقاط الاتفاق بينهم أعظم وأكبر من نقاط الاختلاف، فنقاط الاختلاف في المجال العقدي محصورة يسيرة جداً، والذين يروجون لكثرتها ويريدون أن تكون شرخاً عظيماً لم يستوعبوها ولم يفهموا معاقل العلماء فيها.(1/7)
عقيدة أهل السنة في أركان الإيمان الستة إجمالاً
أنتم تعلمون أن أركان الإيمان ستة بينها النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل في قوله: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، هذه ست ثلاث منها ليس بين أهل السنة خلاف فيها أصلاً، لا في جزئياتها ولا في كلياتها، وهي: الإيمان بالملائكة فهو محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً، والإيمان باليوم الآخر فهو محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً، والإيمان برسل الله عليهم السلام فهو محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً، هذه الثلاثة لا خلاف في جزئياتها ولا في تفصيلاتها بل كلها محل اتفاق.(1/8)
الاختلاف في الإيمان بالقدر عند أهل السنة
الإيمان بقدر الله خيره وشره محل اتفاق في الجملة بين المسلمين، وبين أهل السنة والجماعة، فكلهم يؤمنون بالقدر خيره وشره حلوه ومره، وإنما حصل الخلاف في أمر واحد وهو: أفعال العباد واستطاعتهم وقدرتهم عند صدور الفعل منهم؛ هل أفعال العبد هي من فعل العبد أم من فعل الله سبحانه وتعالى خلقها الله وقربها إلى العبد فجعلها من كسبه فتحصل عند إرادة العبد لا بها؟ هذا محل خلاف، ومذهب جمهور أهل السنة وهو مذهب الحق: أن تلك الأفعال هي من أفعال المخلوقين لهم قدرة وإرادة، قدرة يفعلون بها أفعالهم وإرادة يريدون بها، ولكنها من خلق الله، فالله خالق كل شيء وأفعال العباد من خلق الله، قال سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] ومشيئته أي العبد موجودة لكنها معلقة بمشيئة الله، قال سبحانه: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28 - 29].
ومع ذلك فمن قال من أهل السنة بنظرية الكسب وهو أبو الحسن الأشعري فإنه يعذر في اجتهاده؛ لأنه اجتهد فأخطأ، ومن هنا فهو مأجور على اجتهاده معذور في خطئه.(1/9)
الإيمان بالكتب المنزلة عند أهل السنة
المسألة الثالثة: هي الإيمان بالكتب المنزلة، فقد أجمع أهل السنة جميعاً على أن الكتب المنزلة من عند الله هي من كلام الله، وأنها ليست من كلام المخلوقين، وأنها غير مخلوقة ولا صفة لمخلوق، وإنما اختلفوا فقط في الكلام اللفظي هل هو صفة الله أو الكلام النفسي هو صفته فقط؟ فالخلاف هنا نقطة يسيرة محصورة، وهي من الأمور الاجتهادية التي ما حسمها النص ولا تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعون، فيمكن أن يعذر المخطئ فيها، فإذا عرفنا هذا عذر بعضنا بعضاً، وعرفنا أن الخلاف بين أهل السنة في العقائد في نقاط يسيرة محصورة وهي التي بيناها، وأن ما سواها من الأمور الخلاف فيه إنما هو بين أهل السنة وبين الفرق الضالة المبتدعة كالجبرية والقدرية وغيرهم.(1/10)
عقيدة أهل السنة في الإيمان بالله وأسمائه وصفاته
أما الثلاثة الأخرى فأولاً: الإيمان بالله محل اتفاق في عمومه بين أهل السنة، بل بين المسلمين جميعاً، وإنما الخلاف في جزئيات يسيرة.
فالإيمان بالله ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: الإيمان بألوهيته، أي أنه خالق هذا الكون الذي يستحق العبادة والدعاء ويستحق أن يصمد إليه في الحوائج كلها.
الثاني: الإيمان بربوبيته: أي الإيمان بأنه لا خالق للكون سواه وأنه وحده المدبر لشئون هذا الكون كله، ولا يمكن أن يعطي أحد ما منعه، ولا يمنع أحد ما أعطى، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، فهذان محل اتفاق بين أهل السنة كلهم.
الثالث: الإيمان بأسمائه وصفاته: وهذا ينقسم إلى قسمين: الأول: الإيمان بأسمائه وهو محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً.
الثاني: الإيمان بصفاته وهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما يدرك العقل كونه صفات لله، وهذا محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً، فإنهم يؤمنون بكل ما يدرك العقل كونه صفة لله، والصفة إنما ينعت بها الموصوف.
ومن ذلك العلم، فالله عليم، والله عليم بذات الصدور، والإرادة كذلك، فيدرك العقل كونها صفة، فلذلك تقول: الله مريد، وكذلك القدرة يدرك العقل كونها صفة، وكذلك الحياة يدرك العقل كونها صفة، وكذلك القدم والبقاء يدرك العقل كونهما صفة، ولذلك يمكن أن يقال: الله باق، الله قديم إلى آخره، وكذلك الوحدانية يدرك العقل كونها صفة، وكذلك السمع والبصر والكلام يدرك العقل كونها صفات، ولذلك يوصف الله سبحانه وتعالى بها.
القسم الثاني: ما يدرك العقل كونه أفعالاً لله وهو أيضاً محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً، إلا في جزئيات يسيرة من الأفعال سنذكر الخلاف فيها، فمثلاً: خلق السماوات والأرض وخلق الكون كله من أفعال الله سبحانه وتعالى، وإنزال المطر وإنبات النبات والهداية والإغواء والإماتة والإحياء، كل ذلك من أفعال الله سبحانه وتعالى التي لا يخالف فيها أحد من أهل السنة، فهم يعلمون جميعاً أن هذه الأفعال من أفعال الله ويتفقون عليها لا ينكرها أحد منهم.
من الأفعال ما يتوهم منه بعض الناس تشبيهاً لله بخلقه، كتلك التي حصل الخلاف فيها بين أهل السنة وهو خلاف ضيق محصور.
فجمهور أهل السنة يعلمون أن كل ما أخبر الله به عن نفسه فهو حق وليس فيه نقص، فإن النقص محال عليه، ومن هنا أنه سبحانه وتعالى ينزل كل آخر ليلة، وأنه سبحانه وتعالى مستو على عرشه بائن من خلقه، والله سبحانه وتعالى يمد يده بالنهار ليتوب مسيء الليل وبالليل ليتوب مسيء النهار، ويداه سحاءان بالعطاء لا تغيضان، والله سبحانه وتعالى يقبل الصدقات من عباده، والله سبحانه وتعالى يجيء يوم القيامة لفصل الخصام، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:22 - 23] والله تعالى يغضب ويرضى، والله سبحانه وتعالى يضحك ضحكاً يليق به.
فكل هذه أفعال تليق به تخالف أفعال المخلوقين، ولا يشابهها فعل المخلوق وإن اشترك معها في الاسم، فلا أحد من أهل السنة يشبه هذه الأفعال من أفعال الله بأفعال المخلوقين أبداً، بل يؤمنون بأن الله يفعل فعلاً يليق بجلاله وهو كمال في حقه، وأن المخلوق يفعل فعلاً يليق بقدره أيضاً، وأن أفعال المخلوقين التي تنسب إليهم هي من أمرهم، وأن أفعال الله التي تنسب إليه هي من أمره سبحانه وتعالى، وأمر الله مباين لأمر المخلوقين.
ولا يشبه أحد من أهل السنة نزول الله أو استواءه أو تكلمه أو غضبه أو رضاه أو ضحكه بشيء من أفعال المخلوقين أبداً! بل يؤمنون جميعاً بأن ذلك لا يشبه شيئاً من أفعال المخلوقين، وأن الله سبحانه وتعالى متصف بذلك وأنها صفات كمال في حقه.
إذاً الخلاف في صفات الأفعال خلاف يسير محصور، فلابد أن نعلم أن الذين يروجون هذه الأفهام ما أرادوا بذلك تكذيب الله ولا الرد عليه ولا الرد على رسوله، بل أرادوا بذلك تنزيهه عن خلقه حينما فهموا أن ذلك نقص، والغلط من قبل الفهم فقط وليس الخطأ في النص!، لكننا نعذرهم في خطئهم؛ لأنهم أعملوا عقولهم في تنزيه الله عما لا يليق به وآمنوا به وأحبوه وعبدوه، فلذلك أخطئوا في الاجتهاد في أمر يسير جداً، ليس من الأمور التي فصلها الشرع تفصيلاً وتكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون، فإنما هو أمر محصور يسير.
القسم الثالث: ما لا يدرك العقل كونه صفة ولا فعلاً، فهذا قد اختلف فيه أهل السنة وهو فقط في أمور محصورة لا تتعدى تسعة: وهي الوجه والعين واليدان والأصابع والقدم والساق؛ فهذه أثبتها الله سبحانه وتعالى لنفسه وأثبتها رسوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة عنه، وقد أجمع المسلمون جميعاً على أن ما قاله الله حق وأن ما قاله رسوله حق، وإنما اختلفوا فقط هل هي صفات لله تليق به لا تشبه صفات المخلوقين تقر كما جاءت ونؤمن بها كما هي، أم نؤولها بصفات أخرى من صفات الخالق، أو نحيل علمها إلى الله.
فهم إذاً جميعاً متفقون على أنها حق وأنها صدق وأنها من كلام الله ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن من أصاب منهم علم أنها لله سبحانه وتعالى كما يليق به وأنها لا تشبه صفات المخلوقين وأنها وصف كمال في حق الله، فوجه الله كمال له، ويداه مبسوطتان كمال له، وعينه سبحانه وتعالى لا يغيب عنها شيء من خلقه، وكذلك قدمه وساقه وأصابعه كل ذلك ثابت له سبحانه وتعالى، فكل هذا من صفات الكمال في حقه سبحانه وتعالى، والذين يؤولون أو يحيلون العلم في ذلك إلى الله ويفوضونه إليه اجتهدوا فأخطئوا، لكن اجتهادهم مقبول؛ لأنهم في مثل هذا الموقف إنما طلبوا الإيمان بالله وتنزيهه عن النقص، وأرادوا تحقيق الإيمان به وتحقيق محبته، فنحن نعذرهم في خطئهم.
ومن هنا فلا يحل التعصب في مثل هذا النوع، وبالأخص في الأمور التي تؤدي إلى تكفير المسلمين بغير حق، أو تفسيقهم وتبديعهم بغير حق، فكل ذلك من الممقوت شرعاً المذموم، ولهذا فإن الشافعي رحمه الله قال في الأم: كل الفرق تقبل شهادتهم وروايتهم إلا الخطابية فإنهم يستحلون الكذب لنصرة من وافقهم في المذهب، فجميع الفرق حتى وإن كانوا من القدرية أو من الشيعة أو من الخوارج من لم يصل منهم إلى درجة التكفير في بدعته تقبل شهادته وروايته، ولذلك فإن البخاري رحمه الله أخرج في الصحيح عن عبيد الله بن موسى وهو من الشيعة، وعن هشام الدستوائي وقد قال بالقدر، وعن عمران بن حطان وهو من الخوارج.
فأصحاب الفرق إذا لم يصلوا إلى حد التكفير في بدعتهم، ولم يكن مطعوناً عليهم في دينهم بالصدق، فإنه تقبل روايتهم وشهادتهم، ولذلك فإن في المذهب المالكي أن الاقتداء بهم في الصلاة يجوز، وأن الحرورية وهم من أوائل الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه تصح الصلاة خلفهم، وذلك أن علياً رضي الله عنه قال: حين سئل عنهم: (أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا)، وقال لهم: (إن لكم علينا ثلاثاً: ألا نبدأكم بقتال ما لم تقاتلونا، وألا نمنعكم مساجد الله ما صليتم إلى قبلتنا، وألا نمنعكم نصيبكم من الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا).
والتعصبات في مثل هذا النوع غير مقبولة.(1/11)
الخلاف بين أهل السنة في المسائل الفقهية الاجتهادية(1/12)
موقف الأئمة الأربعة من النصوص
إن هذا هو من التعصب البين المقيت، وعلينا أن نعلم أن المذاهب ليست ديانات منزلة، وإنما هي اجتهادات أئمة في الدين، سخرهم الله تعالى لحفظ الشريعة، فاجتهدوا في تغطية النوافذ والوقائع التي لم يجدوا فيها نصوصاً، فبينوا فيها ما أداهم إليه اجتهادهم، وهم جميعاً يقولون: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ، كما كان مالك رحمه الله يقول: ما منا من أحد إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم.
وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول: إذا وجدت قول النبي صلى الله عليه وسلم لم أعده، فإن لم أجده فوجدت قول أحد من أصحابه لم أعده، فإن لم أجده ووجدت قول عبيدة السلماني وزر بن حبيش وقيس بن أبي حازم وأضرابهم لم أعده، فإن تجاوزت أولئك فهم رجال ونحن رجال.
وكذلك قال الشافعي رحمه الله: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا وجدتم قولي يعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي عرض الحائط.
وكذلك قال أحمد بن حنبل رحمه الله: لا ينبغي لأحد أن يعارض السنن بقياس ولا رأي.
وهذا الذي نص عليه خليل رحمه الله في الجامع إذ قال: ولا يحل أن تعارض السنن بقياس ولا رأي، ولا يعرف عن أحد من أهل المدينة رواية خبرين اختلفا، فإنما يحدث بالذي عليه العمل، فلذلك لا يمكن أن تعارض أقوال النبي صلى الله عليه وسلم بأقوال أحد من الناس، إذا وجد القول عن النبي صلى الله عليه وسلم وفهمناه واتفقنا على فهمه فهو حاسم للخلاف بيننا جميعاً، وإذا لم نجده ووجدنا خلافاً بين المجتهدين وكل منهم له وجه ومأخذ شرعي، فلا يمكن أن نتعصب لأحد، ومن ترجح لدينا قوله أخذنا به مع احترامنا للآخر المقابل له غاية الاحترام، ونعلم أن من أخطأ منهم فهو معذور في خطئه مأجور على اجتهاده، وأن من أصاب له أجران.(1/13)
موقف المعاصرين من المسائل الاجتهادية
ومثل هذا في اجتهادات المعاصرين والمتأخرين الذين يخالفهم كثير من الناس، فيشنون عليهم حرباً ضروساً، فتسمعون الآن كثيراً من علماء الإسلام الذين اشتهروا في العالم ونفع الله بهم كثيراً وانتشرت أقوالهم، يجتهدون في بعض المسائل فيخالفهم من سواهم، كالشيخ يوسف بن عبد الله القرضاوي حفظه الله، فله اجتهادات كثيرة جداً، وهو من عمالقة هذا العصر في المجال الفقهي، ومع ذلك فيخالفه كثير من الناس في اجتهاداته، ونحن نخالفه في كثير من اجتهاداته، لكن ليس معنى ذلك أننا نطعن فيه إذا خالفناه في الاجتهاد، بل نرى أننا إذا خالفنا مالكاً وهو أكبر فكيف لا نخالف القرضاوي! فمن هنا نعلم أن الجميع يخطئون ويصيبون، وأن ما أصابوا فيه لهم فيه أجران، وما أخطئوا فيه لهم فيه أجر، وهم معذورون في الخطأ الذي حصل منهم فيه، ولا نطعن في أحد منهم.
وقد قال ابن القيم رحمه الله: زلات العلماء أقذار وهم بحار، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.
ومن هنا فكثير من فقهائنا في هذه البلاد يفتون بعض الفتاوى التي لا نوافقهم عليها، لكنها لا تنقص احترامنا لهم بوجه من الوجوه، فنحن نقدرهم تقديراً عظيماً ونعلم أنهم أهل للتقدير؛ لأن الله ائتمنهم على وحيه وجعلهم يفتون الناس في دينهم، فكيف يأتمنهم الله على الوحي وهو لا يأتمن المفلسين على دينه أبداً، ونطعن نحن فيهم؟! فنحن نحترمهم ونقدرهم ونقدر العلم الذي يحملونه ونخدمهم بما نستطيع، لكن نعلم أنهم غير معصومين ولا نوافقهم في أخطائهم، ونعلم أننا نحن أيضاً نخطئ وأنهم يخالفوننا في أخطائنا ولا نلومهم إذا خالفونا.
ولذلك قال البويطي رحمه الله: لما ألف الشافعي كتابه سلمه إلي فقال: خذ هذا الكتاب على خطأ كثير فيه، قال: قلت: يا أبا عبد الله أصلحه لنا، قال: كيف وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82] أبى الله العصمة إلا لكتابه.
ومن هنا فكل الكتب المؤلفة فيها أخطاء، والكتاب الوحيد الذي ليس فيه خطأ هو القرآن الكريم المنزل من عند الله، أما ما عداه من الكتب حتى لو كان صحيح البخاري الذي تجاوز القنطرة، فلابد أن تلقى مسائل فيه هي محل إشكال، يختلف فيها الناس في فهمها وفي معناها، مثلاً في قوله: (وأجاز عمر بن الخطاب الشهادة على الشهادة في الحدود أو في الجارودي)، روايتان في صحيح البخاري، وكلتاهما روايتان صحيحتان عن البخاري رحمه الله أدرجهما في صحيحه؟! ومثل ذلك: (أن عمر بن عبد العزيز أجاز الكتاب في السن)، وكذلك: أن عمر قال: (إن من الربا أبواباً لا تخفى ومنها السلم في السن).
ما معنى السن في الموضعين؟ محل خلاف، كل شراح صحيح البخاري اختلفوا فيها وما عرفوا وجه الصواب فيها؛ فإذا كنت لا تأخذ كتاباً إلا إذا كان صواباً مائة في المائة فلن تأخذ إلا القرآن وستنبذ كل ما سواه.
ومن هنا فإن من يقرأ هذه الكتب لابد أن يكون غير متعصب، فإذا رأى فيها صواباً أخذ به، وإذا رأى فيها خطأً نقله من غير أن يأخذ به وبين خطأه، ومن هنا فالذين يسألون كثيراً اليوم عن دراسة الفروع الفقهية غير مقرونة بالأدلة وعن الحكم بذلك، إنما حصل الخطأ في فهمهم من هذا الوجه، حيث ظنوا أن هذه الفروع عزلت عن الكتاب والسنة وجعلت نداً لهما، والواقع أن هذا حاصل لدى بعض الناس، فبعض البلهاء قرءوا تلك الفروع مجردة؛ فتوهموا أنها هي زبدة الكتاب والسنة، وأن الكتاب والسنة قد مخضا فلم تبق فيهما فائدة نسأل الله السلامة والعافية.
وهذا خطأ في الفهم وابتعاد عن الشرع، وإذا راجع الإنسان نفسه عرف أنه خطأ كبير، وأنه لا يمكن أن يقول به أحد من المسلمين، ولذلك تجدون كثيراً من الناس يقولون: إنه لا يجوز العمل اليوم بالكتاب والسنة، من قال هذا؟ هل أرسل أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله؟! هل نزل كتاب بعد القرآن؟! كيف يقال: لا يجوز العمل بالقرآن؟! القرآن يأمرنا بالعمل به، الله يأمرنا بالعمل به، والسنة هي آخر ما جاء من عند الله من الوحي منزلاً على محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك حصلت لي قضية مع إمام من الأئمة، كانت لدي محاضرة في مسجده، وسئلت فيها عن حكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف؟ فذكرت أن هذا الأمر لم يقع في عصر الصحابة ولا في عصر التابعين ولا في عصر أتباع التابعين، وأن قاعدة أهل السنة: لو كان خيراً لسبقونا إليه، وهي مخالفة لقاعدة المشركين الذين يقولون: لو كان خيراً ما سبقونا إليه، ونحن نقول: لو كان خيراً لسبقونا إليه، وأنها إنما عرفت في القرن الرابع الهجري في بدايته في أيام العبيديين، فالشيخ هذا تقدم للتعقيب فقال: فعلاً هي سنة، ولكنها تأخرت مشروعيتها فشرعت في القرن الرابع من الهجرة، فقلت: الإمام يحدث عن جبريل لأنه نزل في القرن الرابع الهجري، وتعرفون أن الحكم في الشرع خطاب ربنا، وكل طلاب العلم درسوا في منظومة ابن عاشر الحكم الشرعي خطاب ربنا، فإذاً كيف تكون المشروعية في القرن الرابع الهجري؟! إن هذا من الأمور المضحكة التي يعجب لها الإنسان.
ومثل ذلك ما يحصل في المقابل أيضاً من أن بعض الناس يتعصب ضد هذه الفروع الفقهية التي جمعت ويسرت وسهلت وهي خدمة للكتاب والسنة، وفي المقابل لا يستطيع هو أن يوجد بديلاً عنها، إذا سألته عن تصحيح صلاة أو عقد نكاح أو عقد بيع أو أي عقد من العقود ليس لديه حل؛ لأنه لم يقرأ من الشرع إلا أحاديث محصورة فقط، ليكن في أحسن الأحوال قرأ العمدة وهي أربعمائة حديث في الأحكام، لكن يا أخي! بقي الكثير، فأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي وصلت إلينا أكثر من ثلاثمائة ألف حديث تقريباً، وأحاديث الأحكام منها أحد عشر ألف حديث تقريباً، وأنت ما درستها كلها ولا أحطت بها، فلذلك لو لم تطلع على دليل فرع من الفروع فليس معنى ذلك أنه لا وجود له، ومن القواعد المسلمة في الفقه: أن عدم العلم بالشيء ليس علماً بعدمه، أي: إذا لم تعلم أنت بهذا الشيء فليس معنى ذلك أنك تعلم عكسه، ومن هنا فيمكن أن تقول: لم أطلع على دليل الفرع الفلاني، لكن لا يمكن أن تقول: الفرع الفلاني ليس عليه دليل، وهذا ما يتجاسر عليه كثير من صغار الطلبة يقولون: المسألة الفلانية قالها خليل في المختصر، أو ابن أبي زيد في الرسالة وليس عليها دليل، أقول: يا أخي! من أين لك أنها ليس عليها دليل؟! حسناً نحن عرفنا أنك لا تعرف دليلها، ولكن ما يدريك أنها ليس عليها دليل؟! هل أحطت بكل الأدلة؟! إن مثل هذا النوع هو من الجسارة والشناعة في الدين التي تؤدي إلى التطرف والتعصب، وهذا النوع هو الذي ينبغي أن يسمى بالتزمت في زماننا هذا، إذا كان التزمت موجوداً فالتزمت مقصود به نبذ الاجتهاد في محل الاجتهاد، أو محاربة الدليل في محل الدليل، والطعن في الدليل عند وجوده هو من التزمت والبقاء مع تقليد آخرين، وأنا أضرب مثلاً للتقريب هو: أن الصبي الصغير إذا مر من حوله إنسان تعلق بثيابه يريد أن يحمله؛ لأنه ضعيف عن المشي عاجز عنه فيريد من يحمله للمسافة، كذلك الجاهل يقلد غيره ويتعلق به؛ لأنه عاجز عن أن يأخذ الحكم من الدليل فيتعلق بغيره فيمسك ثيابه يريد أن يحمله، فهي عادة صبيانية مازالت موجودة ينشأ عليها بعض الصبيان وتستمر معهم طيلة حياتهم، ولا ننكر أن بعض الناس عليهم أن يسألوا أهل الذكر إن كانوا لا يعلمون، لكن مع هذا ينبغي لمن سأل أهل الذكر في مسألة أن يسأل عن دليلها حتى يأخذ على بينة ويترك على بينة.(1/14)
الاختلاف الفقهي رحمة
ثم بعد هذا لابد أن نعلم أن الخلاف الفقهي الاجتهادي هو من توسعة الله على عباده ومن نعمه عليهم، وينبغي أن يحمدوا الله عليه، فلو كان في الدنيا مذهب واحد لما استطاع الإنسان أن يعمل به في كل الجزئيات.
ومن العجائب أني لقيت رجلاً إنجليزياً من الإنجليز المسلمين في أدنبرة شمال بريطانيا عنده دعوة يدعو إليها، وقد استجاب له كثير من المسلمين البريطانيين والإسبانيين، فسألته عن أساس دعوته فقال: إنه يريد أن يوحد العالم على أساس المذهب المالكي، فقلت له: يا أخي! أولاً وحد لنا المذهب المالكي فقط، المذهب المالكي عندنا فيه كثير من الأقوال، فـ مالك نفسه رجع عن مائة وخمسة وتسعين مسألة ما بين المدونة والموطأ، وله أقوال متنوعة ما بين المدونة والموطأ، وما روى عنه أصحابه فيه عدد من المسائل الكثيرة التي فيها خلافات في الرواية عن مالك نفسه، يروي عنه ابن القاسم شيئاً، ويروي عنه أشهب خلاف ذلك الاجتهاد؛ لأن اجتهاده متنوع، ومالك غير متعصب، ولم يكن أبداً يتعصب لرأيه، بل كان صاحب حق وصاحب دليل، فما وجد الدليل عليه أخذ به، ويعلم أنه غير محيط بكل الأدلة، فإذا جاءه دليل صحيح عنده تراجع عن قوله الأول وأمر بمحوه، والممحوات مشهورات عند المالكية، وهي ثمان مسائل أمر مالك بمحوها، وكانت من رأيه هو اجتهد فيها ورآها ثم رجع عنها، وقال: هذه عليها ظلمة فاطمسوها، رأى أنها لا دليل عليها وأن فيها ظلمة في الاجتهاد فأمر بمحوها واشتهرت بالممحوات، وهي دليل على ورع مالك ورسوخه في العلم وجلالة قدره رضي الله عنه وأرضاه.
كذلك فإن أصحاب مالك خالفوه في مسائل كثيرة، فهذا ابن القاسم في المدونة كثيراً ما يقول: وكان مالك يوماً يقول فيها كذا وأنا أرى خلاف ذلك، وكثيراً ما يقول أيضاً بعد أن يروي عن مالك: سمعته يقول فيها كذا والذي عندي فيها غير ذلك، وقد ذكر خليل في المختصر مسائل اختلف فيها قول مالك وقول ابن القاسم منها مثلاً: إذا وصل الإنسان إلى سجود التلاوة في القراءة وهو قائم يقرأ فسها فركع بدل السجود هل يعتد بتلك الركعة أو لا؟ فاختلف قول مالك وابن القاسم، فـ مالك رأى أنه يعتد بهذا الركوع وأنه قد تجاوز السجدة فسقطت عنه، وابن القاسم رأى أن هذا الركوع سهو وأنه لا يعتد به وأنه يتجاوزه إلى السجود، ويلزمه سجود بعده.
وقد أشار إلى هذا خليل في المختصر قال: (وسهو اعتد به عند مالك لا ابن القاسم).
ونظير هذا مسائل كثيرة، ثم إن الخلافات في المذهب المالكي دون ذلك كثيرة جداً، فالخلاف بين ابن وهب وابن نافع، والخلاف بين أشهب وابن القاسم كثير جداً، حتى بعد هذا فمدارس المالكية أربع: المدرسة المدنية وشيخها عبد الملك بن الماجشون ثم مطرف ثم المغيرة، والمدرسة العراقية وشيخها القاضي إسماعيل، وأبو مصعب الزهري ثم بعدهما عدد من الأتباع، والمدرسة المصرية: وشيخها ابن القاسم ومعه أشهب وابن نافع وابن عبد الحكم وغيرهم، والمدرسة المغربية وهي تبدأ من القيروان وشيخها من أصحاب مالك علي بن زياد والبهلول بن راشد، وغيرهما من أصحاب مالك كـ ابن غانم، وعبد الله بن فروخ، ثم بعد ذلك سحنون وأتباعه.
فهذه أربع مدارس كلها داخل المذهب المالكي وكلها لها أبواب، وأنتم تعرفون أن خليلاً رحمه الله كثيراً ما يقول في المختصر: (قولان)، وذلك إذا لم يترجح أحد القولين وكانت المسألة فيها قولان على حد سواء، فإذا أردت أن توحد الناس مثلاً على مذهب مالك فبأي القولين ستأخذ، وهما قولان متساويان في مذهب مالك، كذلك كثيراً ما يقول لفظ (خلاف) وهو يشير به إلى أن اثنين على الأقل من المتقدمين اختلفا في مسألة فرجح بعض المتأخرين واحداً من القولين ورجح بعضهم القول الآخر، فبأي القولين ستلزم الناس حتى تجمعهم على قول واحد.(1/15)
التقاطع والتدابر بسبب الاختلاف
ثم إن من أسباب الخلاف السائدة المنتشرة بين الناس في هذا الزمان ما يحصل من التقاطع والتدابر؛ بسبب آراء يمكن أن يجلس لها الناس على سواء فيحلون الخلاف فيها، فتشتهر اليوم كتب الردود وأشرطة الردود، والمطابع تشتغل بطبع الردود التي شغلت المكتبات وشغلت الناس وبذل فيها المال والجهد والوقت، وكان بالإمكان ألا يكون لهذه المسألة وجود أصلاً، فالذي تخالفه وتريد أن ترد عليه لماذا لا تذهب إليه وتجلس معه على سواء وتناقشه في المسألة؟ حتى إذا اقتنع برأيك فالحمد لله وإن لم يقتنع به اقتنعت أنت؛ لأنك لا تستطيع إقناعه؛ لأنه هو متمسك بدليل أيضاً، ومن هنا فستعذره.
إذا اتسع علم الإنسان فهو مدعاة لسعة إنصافه للناس، وما من أحد يتسع علماً إلا اتسع صدره للخلاف، واستطاع أن يدرك أن الآخرين لهم متمسكات.
وقد أخبرني أحد الإخوة الأفاضل وهو الأستاذ محمد أنس اللُبّ حفظه الله وشفاه وعافاه أنه يرى أن قوة العلم تشبه قوة الجهل، يقول: من وصل إلى مستوى رفيع من العلم يصل إلى إنصاف مثل إنصاف الجاهل المطلق؛ لأن الجاهل المطلق الذي لا يعرف شيئاً وليس لديه دليل في أية مسألة، لا يتهجم على القائل بها، والعالم الذي يعرف كثيراً من المسائل لا يرى أحداً يأخذ بقول في مسألة إلا عرف مأخذه وعرف دليله فعرفه وسكت عنه أيضاً، فيقول: إن قوة العلم تشبه قوة الجهل وبينهما تناسق.
ولذلك إنما يقع التعصب من نقص العلم، أما إذا كان الإنسان صاحب اطلاع وسعة علم فإنه لابد أن ينصف الآخرين، وأن يعرف مآخذهم، وأن يعلم أنهم جميعاً لهم عقول قسمها الله بينهم، وهذه العقول هم متفاوتون فيها لا من خلقتهم ولا من تدبيرهم، بل بأمر الله سبحانه وتعالى الحي القيوم الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وقد أعطى كل إنسان حظاً من الفهم والعقل لم يعطه الآخر، وما من أحد إلا وهو راض عن الله في عقله، وأقلهم عقلاً أرضاهم به، فأقل الناس عقلاً يرى أنه أعقل الناس، ومن هنا فيمكن أن يفهم فهماً، وهذا الذي يراه وهذا الذي أداه إليه اجتهاده فهو معذور فيه، ولو بعث يوم القيامة على ذلك الفهم وهو يعبد الله به لكان معذوراً، لأنه أقر بالكتاب والسنة في رأيه هو، وسلك طريق النجاة في رأيه فهو معذور، والآخر الذي يخالفه أيضاً أخذ بمقتضى عقله وفهمه ومستواه، ولكل حظه ونصيبه.
ثم إن علينا كذلك أن نعلم أن حصول الخلاف في مثل هذه الأمور الاجتهادية سواء كانت فقهية أو دعوية، ينبغي أن يعلم أن الشيطان يزيده، ويجعل من الحبة قبة، وينفخ فيه نفخاً؛ لأن الشيطان يحب البغضاء ويحب الشحناء بين الناس، فهو يسعى دائماً إذا حصل أي خلاف في أية مسألة أن ينفخ في ذلك الخلاف حتى تتأجج ناره؛ لأنه لا يرضى أن يكون المسلمون على قلب رجل واحد، وقد شعر بذلك مالك رحمه الله حين كانت المكاتبة بينه وبين الليث بن سعد رحمه الله في مسائل اختلفوا فيها، فكتب إليه مالك: أنه وجد عمل أهل المدينة على تلك المسائل، وأنه لن يعدل عن قولهم، فكتب إليه الليث: أن علم رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرق به أصحابه في الآفاق، وأن أصحابه لم يكونوا كلهم في المدينة، فكتب إليه مالك في الأخير: أن الخلاف في هذه الأمور لا يفسد للود قضية، فودنا كما هو موصول ورحم العلم موصول بيننا، وكلنا يقدر الآخر ويحترمه، وخلافنا في هذه المسائل لا يفسد للود قضية! وهذا من العقل والتدبير ولذلك ينبغي أن نلاحظه، وأن يستشعر كل إنسان منا أنه كثيراً ما يدخل الشيطان في القضية، يريده أن ينتصر لنفسه أو أن يتعصب لرأيه، وقد كان الشافعي رحمه الله يقول: ما ناظرت أحداً إلا سألت الله أن يظهر الحق على لسانه، فإن ظهر على لساني خشيت أن أفتن، وإن ظهر على لسان خصمي عرفت الحق ولم أفتن.
فالمهم أن تعرف الحق وليس المهم أن تكون أنت منتصراً على الآخر، فهذا من الانتصار للنفس وهو من عمل الشيطان.(1/16)
طرق حل الخلاف واجتناب الوقوع فيه
إن من الأمور التي تحل الخلاف: أن نعلم أن الناس جعلهم الله عز وجل مراتب ودرجات في العلم، فإذا كنت يا أخي تستشعر أن أخاك لديه من العلم ما ليس لديك، وأنه ائتمنه الله على ما لم يأتمنك عليه، فلابد أن تقدر على الأقل ائتمان الله له، والله اختاره أميناً على الوحي فجعل ذلك تحت يده، فكيف تغبطه أنت على ذلك؟! ومن هنا فقد جاءني ذات يوم شاب صغير من طلبة العلم في كلية الشريعة، ينتقد أحد العلماء انتقاداً لاذعاً ويسب ويشتم، فقلت له: يا أخي! أيكم أعلم بكتاب الله؟ قال: هو أعلم بكتاب الله! قلت: فأيكم أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! قلت ما ظنك أيكم أخشى لله وأشد خوفاً منه؟ فسكت! فقلت: يا أخي! إذا كان أعلم منك بكتاب الله وأعلم منك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخشى منك لله، فكيف تتجاسر عليه بمثل هذا الكلام؟! إن الإنصاف يقتضي أن يستشعر الإنسان أنه فوق كل ذي علم عليم، وأن كل إنسان لا ينبغي أن يتجاوز حده، وأنه لا يضره لو رجع إلى الحق، فقد كتب عمر رضي الله عنه في كتابه إلى أبي موسى الأشعري في القضاء: (ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه بالأمس فراجعت فيه نفسك فهديت فيه إلى رشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل).
وقد أخبرني جدي محمد بن علي رحمه الله أنه كان يعجبه في العلامة أحمد بن أحمدي رحمه الله سرعة رجوعه إلى الحق، فيقول: قد كان يخالفني في مسائل، ففي أول الأمر يمتنع فيها من المناقشة، ثم بعد يسير يقف ويقول: أشهدكم أني قد رجعت، وحينئذ لا يجد أية غضاضة وهو العلامة أحمد بن أحمدي يعلن على الناس أنه رجع، فالأمر ميسور، ولا يدعي العصمة، وإنما اجتهد بعقله الآن في هذه المسألة واجتهد بعدها اجتهاداً آخر فجاء اجتهاده الثاني ناقضاً لاجتهاده الأول فرجع.
إن الإنسان إذا أحس بالأمانة التي يتحملها، وأحس بجسامة التوقيع عن رب العالمين والإخبار عنه، أحس بعظم هذا الأمر، ولم يكن ليلقي الكلام على عواهنه، فإن الله تعالى يقول في كتابه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، فالقول على الله بغير علم من أعظم ما نهى الله عنه في كتابه.
نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يسددنا لأحسن الأقوال والأعمال، وأن يصرف عنا سيئها، لا يهدي لأحسنها ولا يصرف سيئها إلا هو، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/17)
الأسئلة(1/18)
حكم تعدد الجماعات الإسلامية
السؤال
هل تعدد الجماعات الإسلامية يعتبر تفرقاً؟
الجواب
إذا كان ذلك على أساس الاجتهاد فلا يعتبر تفرقاً، بل هو اجتهاد في أمر يسوغ فيه الاجتهاد، وهو تنوع لا تضاد، والتنوع كثيراً ما يؤدي إلى الإخصاب، فالله سبحانه وتعالى جعل للإنسان عينين وأذنين ويدين ورجلين، فهذا التنوع لا يقتضي تضاداً والجماعات التي تعمل للإسلام أولوياتها تتنوع ولا تتضاد، فما تقوم به كل جماعة تحتاج إليه الأمة.
ولكل جماعة ساحتها والمستمعون لها والصادرون عن أمرها والمقتدون بها، وهم محتاجون إليها، ولو لم توجد تلك الجماعات لما سد ذلك الفراغ، لكن لابد من التعاون فيما بينها والتآخي في ذات الله ونصرة بعضها بعضاً.(1/19)
حقيقة الاختلاف المحمود والمذموم
السؤال
أريد أن تبين لنا بعض الاختلاف المحمود، وكذلك بعض الاختلاف المذموم، وهل تعتبر المذاهب الأربعة نوعاً من الاختلاف المحمود؟
الجواب
ذكرت أن الاختلاف في الأمور الاجتهادية هو من الاختلاف المحمود ومن التنوع لا من التضاد.(1/20)
الحكم على حديث الافتراق وتخليد المبتدعة في النار
السؤال
هل الفرق التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث تخلد في النار؟ وهل هناك وسيلة يمكن لأهل السنة أن يتحدوا معهم؟
الجواب
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة) هذا جزء من الحديث الصحيح الذي أخرجه الحاكم وغيره وهو يصح برواياته المختلفة، أما الزيادة وهي: (كلها في النار إلا واحدة) أو (كلها في الجنة إلا واحدة) أو (من كان مثل ما أنا عليه وأصحابي) فكل هذه الزيادات لا تصح.
إذاً: الحديث الصحيح هو فقط إثبات الفرقة، وهو علم من أعلام النبوة ودليل من دلائلها، لكن كونها (في النار) أو (في الجنة)، (أو أنه مثل ما كان عليه وأصحابه)، هذا لا يصح منه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما الفرق في هذه الأمة فما كان منها ابتداعاً وضلالاً في الدين ولم يكن صاحبه كافراً به، فإن من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لا يخلد في النار، ولو كان ضالاً مبتدعاً مهما بلغت معصيته، لكن الله سبحانه وتعالى إما أن يتجاوز عنه وإما أن يعذبه بقدر معصيته ثم يخرجه من النار: (وإن الله تعالى يخرج من النار أقواماً يوم القيامة قد احترقوا واسودوا وامتحشوا، فيلقون في نهر الحياة فتنبت أجسامهم كما تنبت الحبة في حميل السيل ثم يدخلون الجنة)، وأيضاً قد يعذبون في قبورهم، وعذاب القبر هو من المكفرات التي تخفف بها الذنوب، فإذا بعثوا يوم القيامة فإنهم يكونون قد نالوا جزاء ابتداعهم وخطئهم.
وأما الذين ابتدعوا بدعاً مكفرة فهم قلائل ولله الحمد، والأمة قد نبذتهم وقد حوكموا وحكم عليهم وقوتلوا وقُتِلوا وأولئك لا يزال لهم أتباع في كل عصر من العصور وفي كل زمان، لكن أغلبهم ولله الحمد لا ينتسب للسنة.(1/21)
حقيقة الفرق الإسلامية وتقييم المستعمر لها
السؤال
هل الجماعات والفرق الإسلامية هي من صنيع المستعمر لتفرقة المسلمين أم لا؟
الجواب
لا، بل هي على ضد ما يريده المستعمر، فالمستعمر يريد تدجين الشعوب، ويريد أن تكون الشعوب المسلمة غير حية ولا متحركة، وألا يكون لها قابلية للدين ولا عناية بالمسلمين، وألا تعتني بمثل هذه الأمور أصلاً، ولذلك ففي تقرير (كسينجر) نشر في إحدى المجلات وترجم إلى العربية، يقول: إن الإسلام هو العدو الوحيد للنظام العالمي الجديد، فالنظام العالمي الجديد لا يمكن أن تقف في وجهه أي أيدلوجية إلا الإسلام، وإذا كان الإسلام عدونا المستقبلي فلابد من دراسته دراسة (استراتيجية)، وبالدراسة تبين لنا أن الإسلام حطب وشرارات -فالحطب يقصد بها الشعوب المسلمة، والشرارات الجماعات العاملة للإسلام- فمهمتنا الأولى: هي الحيلولة بين الحطب والشرارات، أي: تشويه كل الشرارات حتى لا تصل إلى الحطب لتشتعل النار، والقضاء على كل الشرارات.
ومهمتنا الثانية: هي وضع سطرة الخطورة للشرارات.
يقول: قد صنفنا هذه الشرارات فوجدناها أقساماً: القسم الأول: الذين يهتمون بالجانب الحضاري الفكري في الإسلام، يقصد الجانب العقدي، وهؤلاء فيهم خطورة لا محالة؛ لأن الجانب الذي يهتمون به يبنى عليه غيره، فكل عمل يقوم به إنسان إنما هو منطلق من عقيدته وقناعته، فالذي يؤمن بأنه إذا مات دخل الجنة فذلك دافع له للشهادة في سبيل الله، والذي يؤمن بأن النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بهذا الأمر صريحاً، وأنه خطاب موجه إليه هو فستدعوه قناعته هذه للعمل بمقتضى ما أمره به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
لكنه يقول: هؤلاء يمكن الاستفادة منهم لقابليتهم للانقسام، ولأنهم يكفرون سواد المسلمين، وهذا يقصد به حالات شاذة وأفراداً نوادر، وهو غالط في تصوره إذا كان يظن أن كل المهتمين في الإصلاح العقدي هم من هذا النوع الذي يراه، فهذا الحمد لله تضليل كبير منه وانحراف عن طريق الحق، فالذين يعتنون بإصلاح العقائد وبإعادة الناس إلى المنهج الصحيح هم أشد الناس رحمة بالناس، وهم ألطفهم بهم وهم أحرصهم على هدايتهم ولله الحمد، ولا يكفرونهم بل يريدونهم أن يكونوا من أهل الفردوس الأعلى من الجنة، ويريدون مساعدتهم على ذلك.
القسم الثاني: الذين يهتمون بالجانب الخلقي والقيمي في الإسلام، وهو يقصد هنا مثل: جماعة الدعوة والتبليغ، والجماعات التي تعتني بالأخلاق والقيم مثل بعض الطرق الصوفية، ومثل بعض الدعوات الإصلاحية السابقة التي تعتني بالقيم والأخلاق والعمل.
يقول: هؤلاء لاشك فيهم خطر عظيم؛ لأن لديهم قيماً تعارفوا عليها، والنظام العالمي الجديد ليست لديه قيم، فالقيم الأمريكية تختلف عن القيم الألمانية، عن القيم البريطانية، عن القيم اليابانية.
فالنظام العالمي الجديد ليس له قيم، والإسلام له قيم موروثة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن، لكن يمكن الاستفادة منهم؛ لأنهم يأخذون القيادات الطبيعية للمجتمع كالقائد العسكري والتاجر والمهندس والطبيب فيحصرونهم في زاوية ضيقة من المسجد فيحيدونهم عن الخلاف.
هذا ظنه هو وتصوره هو، والواقع أن كثيراً من الذين خرجوا مع جماعة الدعوة والتبليغ من الذين ينصرون الله ويسعون لإعلاء كلمة الله، ومن الذين نفع الله بهم وأعز بهم الدين في كثير من الجهات وفي كثير من البلدان، لكن هذا تصوره هو وعداوته للمسلمين.
القسم الثالث: الذين يهتمون بالجانب العلمي في الإسلام.
وهو يقصد الجامعات الإسلامية، وينشرون الكتب ويحققونها، فيظن أنهم حركة مثل هذه الجماعات، هذا تصوره هو، وهو تصور خاطئ أيضاً.
يقول: هؤلاء ليست الخطورة في ذواتهم وإنما هي في طلابهم من بعدهم؛ لأنهم يذكرونهم بأن لهم أمة لها أمجاد، فيطالبون بأمجاد أمتهم الضائعة.
القسم الرابع: الذين يهتمون بالجانب الحربي في الإسلام.
يقصد بذلك الذين يهتمون بالجهاد.
ونكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.(1/22)
الصبر عدة المؤمن
عمر الإنسان في هذه الدنيا قصير، فهو أيام معدودة وأنفاس محدودة، ثم ينتقل إلى ربه تعالى فيدخله الجنة أو النار، وقد جعل الله الحياة الدنيا داراً للابتلاء وساحة لمواجهة الأعداء، فأعداء الإنسان في هذه الحياة يحيطون به من كل جانب: النفس والشيطان والدنيا والهوى وإخوان السوء، ولا عدة للمؤمن في مجابهة جميع أعدائه إلا الصبر، وكفى به عدة وزاداً وسلاحاً.(2/1)
أعمار الإنسان التي جعلها الله سبحانه وتعالى له
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى جعل للإنسان خمسة أعمار:(2/2)
عمر الإنسان في عالم الذر
أولها: عمره في عالم الذر عندما: (مسح الله ظهر آدم ببطن نعمان، فأخرج منه ذريته، فناداهم فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا).
وفي ذلك الوقت دخل البشر جميعاً إلى حيز الوجود، فخاطبهم الله سبحانه وتعالى بهذا الخطاب الكريم، وأخذ عليهم العهد بعبادته، وأن لا يعبدوا الشيطان من دونه، قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61].(2/3)
عمر الإنسان في هذه الحياة
العمر الثاني: عمر الإنسان فوق الأرض في هذه الحياة الدنيا: وهو عمر التكليف، ومدته يسيرة لا يمكن أن تقارن بالعمر السابق، فأنت قد دخلت الوجود في حياة آدم عليه السلام، ومن ذلك الوقت وأنت موجود في عالم الذر حتى برزت للوجود فوق الأرض، فوجودك الحالي مدته يسيرة محصورة، قد تعيش أربعين سنة، وقد تعيش خمسين، وقد تعيش ستين، ومصير الأمر ومنتهاه إلى الموت.
فهذا العمر هو العمر الثاني، لكنه العمر المركزي من أعمال الإنسان، إذ فيه التكليف والابتلاء والامتحان؛ ولذلك يحتاج الإنسان فيه إلى عدة، وسنذكر بعض ما يعترضه من العوارض والآفات في هذا العمر القصير.(2/4)
عمر الإنسان في البرزخ
العمر الثالث: عمر الإنسان تحت الأرض في البرزخ بعد الموت: وذلك العمر يبدأ من ضجعته في قبره، وأول ما يجد فيه ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع، وتزول منها الحمائل، ثم بعد ذلك سؤال الملكين منكر ونكير، ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا هو محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد هو محمد هو محمد ثلاثا، جاءنا بالبينات والهدى، فآمنا واتبعنا.
وأما المنافق أو المرتاب فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.
فأما المؤمن فيقول له الملكان: صدقت وبررت، قد علمنا إن كنت لموقناً، نم نومة عروس، ويملآن عليه قبره خضراً ونوراً.
وأما المنافق أو المرتاب فيقولان له: لا دريت ولا تليت، ويضربانه بمشاقص أو بمرزبة معهما لو اجتمع عليها أهل منى ما أقلوها، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن.
وذلك العمر يكون الإنسان فيه إما منعم أو معذب، فالقبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، لكن مدته كذلك محصورة يسيرة؛ لانتهائها إلى البعث.(2/5)
عمر الإنسان يوم البعث والنشور
العمر الرابع: عمر الإنسان فوق الساهرة عندما يبعث إلى ربه، فينادى الناس في قبورهم: هلموا إلى ربكم فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون.
في ذلك الوقت تبدل الأرض غير الأرض، وتطوى السماء: {فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة:16]، وفي ذلك الوقت يحشر الناس جميعاً إلى الساهرة، وهي أرض المحشر البيضاء، يقف الواقف على طرفها فيرى طرفها الآخر، تجمع الخلائق من لدن آدم إلى نهايتهم، يأتونها جميعاً حفاة عراة غرلاً، ليس مع أحد منهم إلا عمله، وتدنو الشمس من رءوسهم حتى تكون كالميل، ويؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام في كل زمام سبعون ألف ملك، فمجموع ذلك: أربعة مليارات وتسعمائة مليون من الملائكة يجرون جهنم جراً وهم صفوف، حتى تحيط بالناس من كل جانب.
ولا يستظل الإنسان يومئذ إلا بظل صدقته فمن مستقل أو مستكثر، وذلك الوقت لاشك عمر طويل، {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، ولهذا فإنه ينسى ما سبقه من الأعمار، فإن الله سبحانه وتعالى يسألهم {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:112 - 116].(2/6)
عمر الإنسان الأبدي إما في الجنة وإما في النار
العمر الخامس: عمر الإنسان الأبدي السرمدي إما في جنة أو في نار: وهو الذي لا انقطاع له ولا انتهاء، أما في الجنة فيجد الإنسان ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وكلما ازداد فيها خلوداً وبقاء كلما ازداد تنعيماً، كل يوم هو في مسرة جديدة، فلا تنقطع ملذاتها، اللذة الأولى التي يجدها هي عندما يصل إليه شيء من روحها وريحانها تبقى معه طيلة بقائه في الجنة، ويأتي بعدها مليارات اللذات كل لذة تأتي على سابقتها دون انقطاع، فنعيم الجنة لا يزول، وكذلك لا يمل شيء مما فيها، {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25].
وأبلغ ما فيها من أنواع النعيم: النظر إلى وجه الله الكريم، فبينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور من فوقهم، فيرفعون أبصارهم فإذا الرب جل وعلا يناديهم من فوقهم {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، فلا ينظرون إلى شيء مما هم فيه ما داموا ينظرون إلى وجهه الكريم {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23])، (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته).
وإما في نار فيها غاية المذلة والهوان، وأنواع الخزي والعار؛ ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى وصف حالها عند أول دخولهم لها، قال: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:12 - 14].
ووصف استقرارهم فيها فقال: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].
وأبلغ ما فيها من الهوان أنهم لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، يمكثون فيها وهم ينادون: يا مالك نضجت منا الجلود، يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود, فيمكثون أربعين حولاً وهم يكررون ذلك، فيجيبهم فيقول: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
{وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، فذلك العمر الطويل الذي لا انقطاع له، مرتب على هذا العمر القصير المنقطع المنتهي وهو عمر الإنسان في هذه الحياة.(2/7)
من لطف الله بالإنسان أنه لم يكلفه في وقت ضعفه ونشأته
وعمر الإنسان في هذه الحياة بدايته من خروجه إلى الوجود، ومن لطف الله ورحمته أنه لم يكلفه بالتكاليف في وقت ضعفه ونشأته، فلم يكلفه إلا بعد البلوغ، عندما يبلغ يبدأ صاحب اليمين وصاحب الشمال يكتبان أعماله فلا يفوت شيء منها، {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12]، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
فتبدأ الكتابة من لدن التكليف، وتستمر إلى أن يدخل الإنسان في غيبوبة الموت، وهذا العمر الدنيوي، الذي يجد الإنسان يوم القيامة كل شيء عمله فيه {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:30].
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].(2/8)
حقيقة عمر الإنسان وما يعتريه من الأمل والأعراض والأقدار
فلذلك لابد أن يدرك الإنسان حقيقة هذا العمر وعدته فيه، والمخاطر التي تهدده وتحيط به: وقد صح في صحيح البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً مربعا، ثم خط خطاً بداخله، وخط خطاً خارجاً منه، وخط خطوطاً معترضة في جانبيه، ثم وضع إصبعه على الخط الداخلي فقال: هذا الإنسان، ووضع إصبعه على الخط الخارجي فقال: وهذا أمله، ووضع إصبعه على الخط المعترض وقال: وهذا أجله، ثم أشار إلى الخطوط الأخرى فقال: وهذه هي أعراض إن أخطأه هذا أصابه هذا).
فأمل الإنسان طويل، يكون الإنسان لم تغرب عليه شمس هذا اليوم إلا وقد قدم إلى ما قدم، وانتقل عن هذه الدار إلى الدار الآخرة، ومع ذلك هو الآن بعد العصر يفكر فيما سينجزه غداً وبعد غد، وفي الشهر القادم، ويفكر في مشاريعه المستقبلية.(2/9)
من رحمة الله بالناس أن خلق الموت والمصائب لتتسع الأرض لساكنيها
فالأمل مستمر لا يقطعه إلا الموت، وذلك من لطف الله سبحانه وتعالى بالخلائق.
وقد ورد في حديث ضعيف: (أن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم أراه ذريته فقال: يا ربي! كيف تتسع الأرزاق لهؤلاء؟ وكيف تسعهم الأرض؟ فقال: إني خالق موتاً، فقال: إذاً لا يسعدون، فقال: إني خالق أملا).
فالموت به تسع الأرض الخلائق، فالأرض جعلها الله (كفاتاً أحياءً وأمواتاً)؛ فلذلك يعيش الأحياء على ظهرها، ويدفن الأموات في بطنها فتتسع لهم بالموت، والأرزاق كذلك إنما تعم الخلائق بالموت.
فلله حكمة في كل أمر، فما يأتي من الأوبئة والحروب والزلازل والبراكين وغير ذلك كله من أجل توسيع الرزق على أهل الأرض، فلو عاش الناس بأمان دون أمراض ودون حوادث ودون مشكلات لما اتسعت لهم الأرض، ولما وسعتهم الأرزاق، وجميع ما في الأرض من الأرزاق خلقه الله سبحانه وتعالى في اليوم الرابع من أيام خلق هذا الكون، ولذلك قال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:9 - 10].
كل ما في هذه الأرض من الأقوات قدر في ذلك اليوم الرابع، لكنه ينتقل من إنسان إلى آخر، فيأتي هذا الإنسان فيجمع من أنواع المال ما استطاع جمعه، ويموت فيفرقه أهله بعده يرثون ما كان عنده فيتفرق فيهم- وكل إنسان منهم يفرق أيضاً في ورثته ما ترك، فيتفرق المال بعد جمعه، ثم يجتمع لدى آخر يكلف بجمعه، وهكذا حتى تنتهي الدنيا.(2/10)
الأرزاق باقية كما هي والخلائق يتعاقبون عليها
فالأرزاق هي هي لا تزاد، والخلائق ينتقصون بالموت؛ ليوسعوا على من سواهم؛ ولهذا فإن الناس لا يسكنون إلا في ديار السابقين، ولا يعيشون إلا على آثارهم: رب لحد قد صار لحداً مراراً ضاحك من تزاحم الأضداد ودفين على بقايا دفين في طويل الأزمان والآباد فاسأل الفرقدين عمن أحسا من قبيل وآنسا من بلاد كم أقاما على زوال نهار وأنارا لمدلج في سواد ثم بعد هذا عندما خاف آدم أن لا يسعدون إذا عرفوا الموت قال الله: (إني خالق أملا)، فالأمل به يسعدون؛ لأن كل إنسان منهم يؤمل العيش: والمرء قد يرجو الحيا ة مؤملاً والموت دونه تنفك تسمع ما حييـ ـت بهالك حتى تكونه(2/11)
أنواع الأقدار التي تعترض الإنسان
والأعراض التي تحيط بالإنسان من كل جانب: منها ما ينفعه في دنياه ويضره في آخرته، أي: يخيل إليه أنه انتفع به في الدنيا لكنه مضرة عليه في الآخرة.
ومنها ما يضره في الدنيا، لكنه ينفعه في الآخرة، أي: يخيل إليه ضرره في الدنيا وهو نفع؛ لأنه ينفعه في الآخرة.
ومنها ما يكون نفعاً فيهما معاً، فيكون نفعاً للإنسان في الدنيا وفي الآخرة.
ومنها ما يكون ضرراً فيهما معاً.
وهذه هي أنواع القدر الأربع، فالقدر يجب الإيمان بخيره وشره، حلوه ومره، فهو أربعة أقسام: النوع الأول: القدر الخير الحلو: وهو ما يعجله الله لعباده المؤمنين مما يعينهم على طاعته ويزيدهم سعادة وإقبالاً على الله، فالنعم التي ينعم الله بها على المؤمنين، ويوفقهم إلى استغلالها في طاعته، ويعينهم على شكرها له سبحانه وتعالى، هذه النعم هي من القدر الخير الحلو فهي خير لهم؛ لأنه أعانتهم على طاعة ربهم، وهي حلوة؛ لموافقتها لهواهم وما يحبونه.
والنوع الثاني: القدر الخير المر: وهو ما يصيب الله به عبده المؤمن من المصائب التي تكون تكفيراً لذنبه وتطهيراً له ورفعاً لدرجته، فهي خير له؛ لأنها زادته تقريباً من الله سبحانه وتعالى، ولكنها مرة عنده؛ لأنه لا توافق مراده ومناه، وهذان القسمان يختصان بأهل الإيمان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن كل أمر المؤمن له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن).
القسم الثالث: القدر الشر الحلو: وهو ما يصيب أعداء الله سبحانه وتعالى من الاستدراج والابتلاء بأنواع المسرات في هذه الحياة، وما يفتح الله لهم من التكنولوجيا والتقدم، مما يزيدهم طغياناً وبغياً وتجبراً وتكبراً على أهل الأرض، فهذا يزيدهم بعداً عن الله سبحانه وتعالى فهو شر لهم، ولكنه حلو؛ لأنه يوافق هواهم.
والنوع الرابع: القدر الشر المر: وهو صناديد القدر، وهو ما يسلطه الله على أعدائه من عاجل أخذه الوبيل من تحطم الطائرات والمركبات الفضائية والحروب والفتن وغير ذلك، فهذا النوع صناديد -وشر لهم في الآخرة، فهي من القدر الشر المر فهي شر لهم لأنها تعجلهم إلى النار، وهي مرة لأنها لا توافق هواهم ولا يحبونها.
فهذه الأعراض إذاً أنواع منوعة، فما يناله الإنسان من العافية والصحة إذا استغله في مرضاة الله سبحانه وتعالى كان من القدر الخير الحلو، وإذا استغله في معصيته كان من القدر الشر الحلو، وما يصيب الإنسان من المصائب إذا كان مؤمناً وصبر فهو من القدر الخير المر، وما يصيبه من المصائب إن لم يصبر أو لم يكن مؤمناً فهو من القدر الشر المر، نسأل الله السلامة والعافية.
وهذه الأعراض كذلك منها الأمراض التي قد ينجو الإنسان من مرض ويتماثل للشفاء ليتأهب لمرض آخر، وقد ينجو من حادث ليموت في حادث آخر، وقد لا يتحقق له مراده في سفر من أسفاره، ثم يتحقق له في سفر آخر، وقد لا ينجح في محاولة من المحاولات ثم ينجح في أخرى، كل ذلك بتدبير الله وتقديره.
فترون الإنسان يشترك في امتحان مثلاً: في امتحان البكالوريوس في هذا العام فلا ينجح ويعيد الكرة في العام القادم فينجح متفوقاً، والامتحان هو الامتحان، وهو لم يبذل من الجهد إلا ما بذل، لكن القضية كلها راجعة إلى قدر الله وما كتبه، فلم يكتب هذا الإنسان من الناجحين في هذا العام، وكتب من الناجحين في العام القادم وهكذا.(2/12)
أعداء الإنسان الذين يحتاج إلى مقاومتهم وصدهم
والإنسان في هذه الأعراض فتحت عليه جبهات أي: أعداء يحيطون به من كل جانب، وهو محتاج لمقارعة هذه الأعداء وصد هجومها، وهذه الأعداء أعظمها خمسة:(2/13)
عداوة الشيطان للإنسان
العدو الأول: الشيطان طويل العمر الذي قال الله فيه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6]، وهذه الآية جمعت بين الخبر الذي حقه التصديق وهو قوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ)، والأمر الذي حقه التطبيق وهو قوله: (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا).
فالخبر يجب علينا تصديقه، فيجب علينا جميعاً أن نعتقد أن الشيطان عدو لنا، وهذا لا أرى أحداً يخالف فيه، والأمر وهو قوله: (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)، يوجب علينا أن نتخذه عدواً أي: أن نريه من أنفسنا عداوة، وهذه العداوة لابد أن نعرف أنه لا يمكن أن نقتله بها فهو من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، ولا يمكن أن نضربه فهو يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم، ولا يضره شتمنا له وهجاؤنا له فقد لعنه الله.
ولا يمكن أن نتخذه عدواً إلا بأحد أمرين: الأمر الأول: عدم اتباع خطواته، أي: الانقطاع عن خطواته بالكلية، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:21]، و (خطوات الشيطان) هي الفحشاء والمنكر، فإذا انقطع الإنسان عن الفحشاء والمنكر فقد عادى الشيطان؛ لأنه لم يتبع خطواته.
والأمر الثاني: نقص جنده، فأي ملك يقاتل ملكاً قد لا يبرز واحد منهما للقتال، ولا يتضرر بالمعركة تضرراً مباشراً؛ لكن انتقاص جنده بالقتل والأسر هو تحقيق عداوته له، وجند إبليس هم {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، ونقصك لهم إنما هو بالسعي لهداية من استطعت التأثير عليه منهم، فإذا اهتدى على يدك شخص واحد، فقد حققت عداوتك لإبليس، وإذا اهتدى على يدك اثنان فقد زدت في العداوة له، وهكذا كلما ازداد عدد من اهتدى على يدك ازدادت عداوتك لإبليس؛ لأنك نقصت جنده بذلك.
فهذه الجبهة هي الجبهة الأولى وهي من أخطر الجبهات؛ لأنها تأتي من كل الجهات كما قال الله تعالى حكاية عن إبليس لعنه الله: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]، وقد أقسم بعزة الله عز وجل يميناً أكدها على إغواء أكثر البشر، قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83]، وقد أخبر الله أن يمينه تحققت فيمينه ما بناها إلا على ظنه بالناس، فظنه بالناس أنهم يتبعون الشهوات؛ ومن لم يتبع الشهوات منهم تأثر بالشبهات.
فلذلك ظن عليهم هذا الظن، فأقسم فحقق ظنه فيهم، كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20].
و (صدَّق، وصدَق) معناهما واحد، وهما قراءتان إحداهما تفسر الأخرى (صدق عليهم إبليس ظنه) أي: صدق عليهم ما في ظنه، (وصدَّق عليهم ظنه) أي: أوقعه فيهم باتباعهم للشهوات والشبهات فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين.(2/14)
عداوة إخوان السوء للإنسان
الجبهة الثانية: إخوان السوء: فالإنسان لابد أن يعيش في هذه الحياة الدنيا مع البشر، ولابد أن يخالطهم، ومن يخالطهم من الناس هم ثلاثة أنواع: النوع الأول: أخ كالغذاء لا يستغني عنه أبداً، وهو محتاج إليه في كل أحيانه، وهذا هو الذي يعينه على أمور الدين، فإذا جهل علمه، وإذا ضعف أعانه، وإذا نسي ذكره، وإذا وجده مقصراً نصحه، فهذا الأخ كالغذاء لا يستغني عنه الإنسان بحال من الأحوال.
النوع الثاني: أخ كالدواء، يحتاج إليه الإنسان في بعض الأحيان دون بعض، وهو الذي يعينه على أمور الدنيا، وهذا ينبغي أن يعده الإنسان دواء فيتقلل منه ما استطاع، فأنتم تعرفون الإعلان العالمي للصحة المكتوب على الأدوية كلها، إن هذا الدواء مستحضر مضر لصحتك فننصحك بالابتعاد عنه.
فكذلك الأخ الذي يعينه على أمور الدنيا: دواء مضر بصحتك فننصحك بالابتعاد عنه، والتقلل منه ما استطاع الإنسان؛ وهذا النوع من الإخوان هم الذين يرفع إليهم الإنسان حاجته عندما لا يستطيع عليها فيعينونه، فهم كالدواء الذي ينبغي أن يقتصر الإنسان منه على محل الضرورة، ولا يستعمله من غير مرض أصلاً.
والنوع الثالث: أخ كالداء، لا يعين الإنسان لا على دين ولا على دنيا، فهو داء مستشرٍ ومرض مزمن عضال يصاب به الإنسان فيشقى به في مدة من حياته، يفسد عليه وقته الثمين الذي كان بالإمكان أن يشتري به نفسه من عذاب الله، وتصل إليه عدواه بفيروسات الشبهات والشهوات والمضار العظيمة، فقد يكون الإنسان في نفسه في بيئة صالحة، وحصن أو قلعة من قلاع الإيمان، لا يصل إلى أهل الفجور، ولا يعلم ما هم فيه، ولكنه يخالط شخصاً من هذا النوع من الناس، فينقل إليه عدوى تلك البيئة الخبيثة، فيسمعه من الكلام ما يتأثر به، ويريه من الأفعال ما يتأثر به، ويزين له الأمور ويحببها إليه.
وهذا امتحان من امتحانات هذه الدنيا، فهو عرض من أعراضها؛ ولذلك أخرج البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بعث الله من نبي ولا ولَّى من ملك إلا كان له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه)، فإذا كان هذا في الأنبياء والملوك فكيف بمن دونهم، فما من أحد إلا وله هذا النوع من البطانات؛ ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذا النوع من الأخلاء عدواً للإنسان يوم القيامة، فقال تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27 - 29].(2/15)
عداوة نفس الإنسان له
الجبهة الثالثة: جبهة النفس التي هي أقرب الأعداء إلى الإنسان: وهي أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، فهي عدو للإنسان؛ لأنها لا ترضى منه إلا أن يكون مطففاً، والله تعالى يقول: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين:1 - 5]، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، فالمطفف يريد أن تؤدى إليه حقوقه كلها من الآخرين ولا يريد أن يؤدي كل الحقوق التي عليه؛ فلذلك يحاول أن يأخذ حقه كاملاً وإذا لم يجد حقه غضب وأراد الانتصار لنفسه، والحقوق التي للآخرين لديه يحاول الانتقاص منها والاعتذار عنها ما استطاع.
والذي يريد أن ينظر إلى عداوة نفسه له فلينظر إلى تباطئها عن فعل الخير، وإسراعها إلى الشر، فسيجدها مسرعة في الباطل، فإذا حان وقت قيام الليل مثلاً أو حان وقت إجابة المنادي الذي نادى بالصلاة جاء الكسل والنعاس، وإذا حان وقت الذكر لم يجد نفسه مستعدة إلا لأقل القليل، وإذا جاء وقت التعلم وتدبر القرآن لم يجد نفسه مستعدة لذلك، وتذكر ما له من المشاغل الدنيوية، أما إذا أخلد إلى الراحة، وأراد الاستكثار من أمور هذه الدنيا والرغبة فيها، فالنفس طيعة لذلك منقادة إليه، فهذا دليل على عداوتها للإنسان.(2/16)
عداوة نعم الله للناس وذكر انقسامهم في شكرها
الجبهة الرابعة: نعم الله سبحانه وتعالى السابغة على الإنسان: فالإنسان يحيط به من نعم الله سبحانه وتعالى ما لا يستطيع إحصاءه {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، نعمة الخلق والرزق والهداية والجوارح والعافية وغير ذلك من أنواع النعم التي لا يحصيها الإنسان، وهذه النعم الناس فيها على أربعة أقسام: القسم الأول: الذين لا يعرفونها بوجودها، وإنما يعرفونها بزوالها، فما دام أحدهم لا يشكو سرطاناً في كبده أو رئته، ولا يشكو قصوراً في عضلة القلب، ولا فشلاً في الكلى، ولا زمانة تعوقه عن الحركة، ولا ألماً في عضو من أعضائه، لا يستشعر هذه النعمة، فإذا زالت هذه النعمة تذكر ما كان فيه حين لا تنفع الذكرى، وما دام يجد غناه من أمور الدنيا، لا يتذكر نعمة الله عليه ولا يشكرها لله، ولا يدخر عند الله سبحانه وتعالى منها قرضاً حسناً، فإذا زايله ذلك وفارقه تذكره حيث يندم ولا ينفع الندم.
ومثل هذا إذا كان في وظيفة من الوظائف يمكن أن يقف فيها موقفاً مشرفاً يبيض الوجه يوم القيامة، ينصر به الله ورسوله، فلا يشعر بهذه الوظيفة ويقول: لابد من الهدوء حتى تذهب العاصفة، والعاصفة ستذهب به هو، فلو دامت لغيرك ما وصلت إليك، وجلوسه في كرسي الوظيفة كجلوسه على كرسي الحلاق يحلق له ثم يقوم ليترك مكانه لغيره ونحو ذلك، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل:83]، حالهم حال قارون الذي قال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78].
لما ذكِّر بنعمة الله عليه قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، عرف النعمة بوجودها فافتخر بها وتسور على عباد الله، وعرف أنه متميز فعلاً، لكن لم يعرف من أين جاءته هذه النعمة؛ فلذلك لم يشكرها لله ولم تنفعه بين يدي الله شيئاً، {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:81 - 83].
النوع الثاني: الذين يعرفون النعمة بوجودها، ويعرفون أنها من عند الله لا من تلقاء أنفسهم، ولكنهم ينشغلون بالنعمة عن شكرها، فينشغلون بالأموال والأولاد والصحة والعافية والتمتع بملذات هذه الحياة، مع أنهم يعلمون أنها نعمة أنعم الله بها عليهم ولا يشكرونها لله، وهؤلاء حالهم حال الأعراب الذين حكى عنهم الله في قوله: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:11].
وقد حذر الله من هذا الاغترار فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:9 - 11].
وقد بين الله عداوة ذلك إذ قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:14 - 15].
والنوع الثالث: الذين يعرفون النعمة بوجودها، ويعرفون من أين أتت وأنها من عند الله، ولا ينشغلون بها عن شكرها، بل يستغلونها في مرضات الله وشكره: وهؤلاء هم الشاكرون وهم أقل عباد الله، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، وهؤلاء هم المبشرون ببشارة الله سبحانه وتعالى لهم.
فهذه النعمة إذاً جبهة مفتوحة على الإنسان من حيث لا يشعر، {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35].(2/17)
عداوة الدنيا للإنسان
الجبهة الخامسة: هذه الدنيا نفسها، فهي دار الغرور، وهي ضرة الآخرة، والإنسان مادام فيها يغر بها فيرى المباني الجديدة الجميلة، ويرى السيارات الفارهة، ويرى الطائرة العملاقة، ويرى الشوارع الزاهية، فيظن أن هذا مستمر، ولكنه لو فكر لوجد كل ذلك في القمامة، سيجد كل مبنى إنما أقيم على أنقاض آخر، كان أحسن الموجود في وقته ولكنه هدم ورمي في القمامة، وكل سيارة سيجد أنه كان قبلها من السيارات ما كان أحسن الموجود، وقد رميت بقاياه في القمامة، بل الإنسان نفسه أحسن ما في الدنيا من الخلائق صورة بكماله وحسنه، فإذا بحث عنه الإنسان سيجد بقاياه في القبر بعد أكل الأرض لأجزائه وانتقاصها لما تنتقص منه.
فلذلك هذه الدنيا نفسها عدو لهذا الجنس البشري؛ لأنها دار الغرور تغره بما فيها من الزخارف والشهوات؛ ولهذا حذر الله من النظر إلى ذلك منها فقال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:131 - 132].(2/18)
جبهة الشيطان لها جيشان: الشهوات والشبهات
فهذه الجبهات المفتوحة على الإنسان يحتاج فيها إلى عدة، وبالأخص حين يعلم أن جبهة الشيطان لها جيشان أحدهما: جيش الشهوات، والآخر: جيش الشبهات، والناس مقسومون بين هذين الجيشين، منهم أسارى الشهوات، ومنهم أسارى الشبهات، فالمأسورون بالشهوة ينقسمون إلى قسمين؛ لأن الشهوة نفسها تنقسم إلى قسمين: إلى شهوة حسية وشهوة معنوية، فالشهوة الحسية كشهوة البطن والفرج، والشهوة المعنوية كحب الرئاسة وحب الانتقام وحب الشهرة والظهور وغير ذلك.
والشبهة كذلك تنقسم إلى قسمين: إلى شبهة في التعامل مع الله، وشبهة في التعامل مع الناس، فالشبهة في التعامل مع الله تنقسم إلى قسمين: إلى شبهة عقدية تتعلق بالتصور والعلم، يلقيها الشيطان للإنسان، ولا يزال الشيطان بابن آدم يقول له: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول له: فمن خلق الله؟! فهذه شبهات الشيطان في المجال العقدي.
والنوع الثاني من الشبهة في التعامل مع الله: الشبهة في التعامل معه في العبادة، فما يصيب الناس من الوسواس في الطهارة وفي الصلاة، وكذلك ما يعرض لهم من شبه الأعذار عن الازدياد من الخير؛ هي من شبهات الإنسان التي تحول بينه وبين الازدياد من الطاعة قبل أن يفوت الأوان.
والنوع الثاني من أنواع الشبهات: الشبهات في التعامل مع الناس، وهي تنقسم إلى قسمين؛ لأن الإنسان فيها بين إفراط وتفريط: فالنوع الأول من الشبه في التعامل مع الناس: شبهة الإفراط؛ فيقدس الناس ويحترم بعضهم احتراماً كبيراً، حتى يضفي عليهم صفة من صفات الإلهية أو يعتبرهم بمثابة معصومين، ويستسلم بين يديهم حتى يكون كالميت بين يدي غاسل، وهذه لاشك مبالغة، فالإنسان يقدَّر ولا يقدس، وهو عرضة للقبول والرد، يمكن أن تحسن خاتمته ويمكن أن تسوء.
والنوع الثاني من الشبه في التعامل مع الناس: هو شبهة التفريط؛ بأن يظن الإنسان بالناس ظن السوء، فهذا يتهمه بالشرك، وهذا يتهمه بالبدعة، وهذا يتهمه بالفسوق، وهذا يتهمه بالتقصير، وهو دائماً مقوم للناس، قد شغل وقته بتقويم الآخرين، وكل ما له من الاهتمام هو في مستويات الناس، وهذا النوع على خطر عظيم، ولذلك فقد أخرج مالك في الموطأ (أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية).(2/19)
العدة التي يقاوم الإنسان بها كل الجبهات هي الصبر
ما هي عدة الإنسان إذاً في وجه كل هذه الجبهات المفتوحة عليه، وهذه الأعراض الملمة به في مدته اليسيرة في بقائه في هذه الحياة؟ لابد أولاً أن يستحضر أن مدة بقائه في هذه الحياة هي مدة بقائه في سفر يسافره، فهو مسافر وانتفاعه بما ينتفع به مما في هذه الدار كانتفاع المسافر في ظل شجرة ينتظر الزوال لينطلق، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما لي وما للدنيا، إنما أنا كراكب استظل بشجرة).
فإذا عرف ذلك استطاع حينئذ أن يبحث عن عدة يستعين بها في مسيرته وحياته، وهذه العدة هي الصبر! وهذا الصبر طاقة ربانية وقوة هائلة سخرها الله لعباده المؤمنين؛ ليتغلبوا بها على كل هذه العراقيل وعلى كل هذه المشكلات والجبهات المفتوحة عليه، وبدونها لا يستطيع الإنسان الانتصار على أية جبهة من الجبهات.
فلابد إذاً أن يراجع الإنسان عدته هذه وأن يهيئها، فكثير من الناس يعدم هذه العدة بالكلية، فيعيش في هذه الحياة مع ما ذكرنا من المشكلات والجبهات أعزل ليس لديه أي سلاح للدفع ولا للاستحقاق، ومنهم من يكون صبره ضئيلاً ممزقاً يصدق فيه ما قال عبد الملك بن مروان للرجل الذي رأى عليه مجنه خلقاً فقال له: لمجن ابن أبي ربيعة خير من مجنك.
ومنهم من يكون صبره أقوى من ذلك في مجال التعامل مع الله، ولكنه ضعيف في مجال التعامل مع الناس، ومنهم من يكون صبره قوياً في التعامل مع الناس، ولكنه ضعيف في التعامل مع الله، ومنهم من يقوي صبره ويستطيع أن يسد خلاته وخروقه، فكلما انخرق عليه الصبر من جانب سد ذلك الخرق وقواه، فيكون صبره قوياً يملك به نفسه، والسعيد من ملك نفسه.
اللهم ملكنا أنفسنا بخير، ولا تسلطها علينا بشر.(2/20)
أقسام الناس في الصبر عن معصية الله
وهذا الصبر الذي هو عدتنا في هذه الحياة ينقسم إلى ثلاث شعب منها الصبر عن معصية الله، فشعبة الصبر الأولى أن يصبر الإنسان عن معصية الله.
وهذا الصبر له بواعث منها: الوازع الديني الذي يكون في قلب المؤمن وهو برهان الله في قلبه يحول بينه وبين المعصية، والناس فيه متفاوتون، وهم فيه أنواع: النوع الأول: من يقوى وازعه في قلبه فيحول بينه وبين المعصية كالجبل، فلا يشم لها رائحة ولا يرى لها لوناً ولا حركة، ولا يسمع لها صوتاً، فهو محفوظ منها بالكلية، وهؤلاء هم الذين خلصهم الله لعبادته، فهم عباد الله المخلصون، وهم السابقون بالخيرات بإذن الله.
والنوع الثاني: من يكون الحاجز بينهم وبين المعصية ويكون هذا الوازع في قلوبهم كالزجاج لا يستطيعون اختراقه والنفوذ منه، لكنهم يرون ما وراءه من الحركات والألوان، فربما شغلهم وربما أخذ جزءاً من تفكيرهم، وهؤلاء لا شك دون الأولين، ولكنهم مع ذلك على خير؛ لأنهم لا يستطيعون النفوذ إلى المعصية.
والنوع الثالث: الحاجز بينهم وبين المعصية وهذا الوازع في قلوبهم كالماء، يمكن اختراقه بصعوبة، وقد يحجز بعض الأصوات وبعض الروائح، ولكنه ترى من ورائه الحركة والألوان، وينفذ منه بعض الأصوات، وتنفذ منه بعض الروائح، ويمكن اختراقه لكن بصعوبة، وهؤلاء أيضاً هم الظالمون أنفسهم الذين يمكن أن يخترقوا فيوقعهم الشيطان ويستزلهم في بعض الأحيان في بعض المعاصي، لكنهم سرعان ما يتوبون ويرجعون، وهم على خير بذلك؛ لأن الإنسان إذا كان كلما عصى بادر إلى التوبة فهو على خير، فقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:17 - 18].
والنوع الرابع: الذين يكون الحاجز بينهم ويبن المعصية كالهواء، فهم معها في لحاف واحد، يغشونها في كل الأوقات لا يحول بينهم وبينها رؤية ولا سماع ولا رائحة ولا حركة ولا لون، وهؤلاء ضعف وازعهم الإيماني فلم يبق معهم من الصبر إلا أثره فقط، وهؤلاء هم أكثر الخلائق، فأكثر الخلائق في هذه الحياة ليس لهم من الصبر عن معصية الله إلا أثره فقط.
ولذلك تجدون أن جمهور الذين يعيشون في هذه الحياة لا يميزون بين دائرتي الحلال والحرام، بل إذا عرضت على أحدهم مصلحة دنيوية لم يسأل نفسه هل هي حلال أو حرام؟ وإذا فكر في أمر لم يكن من خطوات تفكيره هل هو حلال أو حرام؟ بل ينظر ما يترتب عليه من المصالح، وماذا يجنيه منه من الأرباح، لكن لا يفكر هل هو حلال أو حرام؟ فدائرة الحلال ودائرة الحرام قد تحطم الحاجز بينهما فاختلطتا لديه فأصبحتا دائرة واحدة، وهذا حال جمهور الناس.
لكن الذين يميزون بين الحلال والحرام فيفرون من الحرام كما يفرون من الأسد ولا يحضر لهم على بال أصلا، ويقنعون بالحلال الذي أحل الله لهم ولا يتعدونه إلى ما سواه، فهؤلاء قد قوي وازع الله في نفوسهم وهم المتقون؛ ولذلك قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:201 - 202].
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} [الأعراف:201]، والطائف: نسيم الرياح الخفيف الذي يأتي بسرعة ويذهب، وفي القراءة السبعية الأخرى: قراءة عبد الله بن كثير المقرئ وأبي جعفر القارئ (إذا مسهم طيف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) والطيف: ما يراه الإنسان في المنام، ومدة الرؤيا في النوم لا تتجاوز ثانية واحدة، يرى الإنسان الرؤيا الطويلة التي هي كالملحمة في مدة ثانية واحدة.
(وإخوانهم) أي: إخوان الشياطين (يمدونهم في الغي) فيزيدونهم ويساعدونهم على الاستمرار في الغي ويشجعونهم عليه، ويقولون: افعلوا كما يفعل الناس، فهذا الأمر أصبح معمولاً به وأصبح سائداً لدى الناس فلم يعد فيه حرج، بل ينصحون به ويقولون: عليك أن تفعل كما يفعل الناس، وأن تتكسب كما يتكسب الناس(2/21)
فقه الخلاف
إن الخلاف من ضرورات التعايش، فقد جعل الله البشر متفاوتين في الخِلقة والخلق والعقل، وهذا التنوع والاختلاف ناتج عن اختلاف العقول، ومن تفاوتت عقولهم فبالإمكان أن تتفاوت اتجاهاتهم، وألا تتحد رؤاهم ومواقفهم، وكل ذلك واقع، وفقه الخلاف يرتكز على بيان خطر الاختلاف والتحذير منه، وبيان أنواعه، وآدابه، وعلاجه، وما يجوز من الخلاف وما لا يجوز.(3/1)
الخلاف من ضرورات التعايش
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
موضوع هذا الدرس: (فقه الخلاف) والعناصر التي سنتعرض لها فيه هي: أولاً: التحذير من الفرقة والاختلاف.
ثانيًا: أنوع الخلاف.
ثالثًا: آداب المتخالفين.
رابعًا: علاج الخلاف.
إن الخلاف من ضرورات التعايش، فقد جعل الله البشر متفاوتين في الخِلقة والخلق والعقل، وميَّز بعضهم على بعض، وهذا التنوع الذي جعلهم الله عليه مقتضٍ لئلا يتفقوا في بعض المسائل، وعدم اتفاقهم فيه إثراء وفائدة للبشر، وفائدة لأهل الأرض؛ فليس أصل الخلاف إلاَّ ممكنًا في كل أمرٍ نظرًا للتنوُّع، ولذلك يقول الحكماء: ما من أحدٍ إلا وهو راضٍ عن الله في عقله، وأقلهم عقلاً أرضاهم به، فأقل الناس عقلاً يظن أنه أعقل الناس، ومن هنا من تفاوتت عقولهم فبالإمكان أن تتفاوت اتجاهاتهم، وألاَّ تتحدد رؤاهم، وألاَّ تتحد مواقفهم، وكل ذلك ممكن.(3/2)
التحذير من الفرقة والاختلاف
أول عنصرٍ أبدأ به هو ما جاء من النصوص في التحذير من الفرقة والاختلاف.
فأقول: إن الله سبحانه وتعالى قد حذَّر من الفرقة والاختلاف في كثير من الآيات في القرآن، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:45 - 46]، وجعل الاختلاف نوعًا من أنواع العذاب فقال: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65]، فجعل العذاب ثلاثة أقسام: - عذابًا منزلاً من الأعلى.
- وعذابًا خارجًا من الأسفل.
- وعذابًا في الوسط، وهو الخلاف.
وجعله -كذلك- مظهرًا من مظاهر الشرك فقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:30 - 32]، و (من) هنا بيانية، أي أن المشركين هم الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعًا.
وجعله منافيًا للرحمة فقال: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119].
وبيَّن براءة النبي صلى الله عليه وسلم من المختلفين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام:159].
وحض على اجتماع الكلمة وعلى التعاون فقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة:2]، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:103 - 105].
وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرقة والاختلاف، وجعل ذلك عامل هدم للأمم؛ فقد صح عنه أنه قال: (لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض) وقال: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).(3/3)
أسباب الخلاف
حذر صلى الله عليه وسلم من كل ما يؤدي إلى النزاع والخلاف؛ فقد ذكر الله سبحانه تعالى في كتابه أسباب النزاع؛ فذكر في سورة الحجرات وحدها ثلاثة عشر سببًا من أسباب النزاع وحسمها جميعًا.(3/4)
تعدي الصلاحيات
السبب الأول: قال سبحانه وتعالى في بداية سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1]، فهذا سبب من أسباب الخلاف، وهو تعدي الصلاحيات وتجاوزها، فمن أخذ ما ليس له من الصلاحيات وتعدى الصلاحيات الممنوحة له؛ فذلك سبب من أسباب الخلاف.(3/5)
سوء الأدب مع من يستحق الأدب
السبب الثاني: سوء الأدب مع من يستحق الأدب، فهو سبب من أسباب الخلاف، ولهذا قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:1 - 5].(3/6)
عدم التثبت في نقل الأخبار وتلقيها
السبب الثالث من أسباب الخلاف هو: عدم التثبت في نقل الأخبار وتلقيها، وفيه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وفي القراءة الأخرى: (فَتَثَبَّتُوْا) {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].(3/7)
غياب المرجعية
السبب الرابع: انعدام المرجعية، وقد حرمه بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7].(3/8)
الظلم والاعتداء والبغي
السبب الخامس: الظلم والاعتداء والبغي؛ فهذا سبب لحصول النفرة والاختلاف، وقد حرمه الله بقوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:9 - 10].(3/9)
السخرية والتعالي
السبب السادس: السخرية والتعالي، وقد حذر الله من ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11].(3/10)
اللمز والهمز
السبب السابع: اللمز والهمز، وقد حذر الله منه بقوله: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11].(3/11)
التنابز بالألقاب والتصنيفات
السبب الثامن: التنابز بالألقاب والتصنيفات، وقد حذر الله منه بقوله: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11].(3/12)
ظن السوء
السبب التاسع: ظن السوء، وقد حذر الله منه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12].(3/13)
التجسس
السبب العاشر: التجسس، وقد حذر الله منه بقوله: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12].(3/14)
الغيبة
السبب الحادي عشر: الغيبة، وقد حذر الله منها تحذيرًا بليغًا بقوله: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات:12].(3/15)
التفاخر بالأنساب والأحساب
السبب الثاني عشر: التفاخر بالأنساب والأحساب، وقد حذر الله منه بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].(3/16)
الدعاوي الباطلة
السبب الثالث عشر: الدعاوي الباطلة، بأن يدعي الإنسان ما ليس له، وقد حذر الله منه بقوله: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:14].
فهذه ثلاثة عشر سببًا من أسباب الفرقة والاختلاف تضمنتها هذه السورة الكريمة، وحسمت مادتها بالكلية.(3/17)
أنواع الاختلاف
العنصر الثاني من عناصر هذا الدرس هو: أنواع الاختلاف، ومن المهم أن نعلم أن الخلاف ينقسم إلى: 1 - خلاف في التنوع.
2 - خلاف في التضاد.(3/18)
اختلاف التنوع
اختلاف التنوع غير محدود، وليس هو المقصود في النصوص الواردة في النهي عن الخلاف، بل هو من التنوع المحمود الذي يثري ويفيد.(3/19)
اختلاف التضاد
الخلاف المذموم هو اختلاف التضاد، وهو أنواع، ويرجع جمهورها إلى أربعة أنواع: 1 - الخلاف السياسي.
2 - الخلاف العقدي.
3 - الخلاف الفقهي.
4 - الخلاف المنهجي الدعوي.
النوع الأول: الخلاف السياسي: وهو أول خلاف شهده المسلمون، وقد عُرف في الأمم السابقة أيضًا، وهو الخلاف فيمن يحكم؟ هل فلان بعينه يستحق ذلك ويكون هو الحاكم أو السلالة المعينة الفلانية؟ وهذا خلاف عصف بالأمم السابقة، وحصل -أيضًا- في صدر هذه الأمة، حيث اختلف الناس على ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: خص الخلافة بأسرة واحدة هي أسرة علي بن أبي طالب، وهذا مذهب الشيعة.
المذهب الثاني: عممها في سائر المسلمين، وهذا مذهب الخوارج كما قالوا: ألم تر أن الله أظهر دينه وصلت قريش خلف بكر بن وائل المذهب الثالث: خصها بقبيلة، وهو مذهب أهل السنة، حيث جعلوها في قريش.
وقد استمر هذا الخلاف السياسي، وتوصلوا إلى أن ينقل الخلاف من الأشخاص والسلالات إلى الصفات، فتحدد صفات معينة وشروط معينة مستنبطة من الوحي، وتطبق على الناس، ومن كانت أبلغ فيه وأمكن؛ كان محل اتفاق، وكان أولى ولا محالة.
ومما تجدر الإشارة إليه في الخلاف السياسي أنه لا يحل أن يكون حافزًا للتنكر للحق ومعارضته، فمن المعقول أن تقع معارضة في السياسية، لكن لابد أن تكون تلك المعارضة للباطل، فلا يمكن أن تكون معارضة للحق والباطل معًا أو للحق، فهذا غير مقبول شرعًا ولا عقلاً.
النوع الثاني من أنواع الخلاف: الخلاف العقدي، ومن المعلوم أن أصول الدين الأصلية: هي الثوابت التي لا يقبل الخلاف فيها، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل في قوله: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) فهذه الستة الأمور هي أركان الإيمان، من آمن بها ولم يزد عليها دخل الجنة، ويبقى تفصيلاتها وجزئياتها، منها ما حسمته النصوص، ومنها ما ترك للاجتهاد، وما ترك للاجتهاد فيه خلاف كثير، وما وردت فيه النصوص منها ما لم يكن صريحًا قطعي الدلالة، ومنها ما كان قطعي الدلالة، لكنه غير قطعي الورود، فكان ذلك مثارًا للخلافات، وتلك الخلافات ينبغي أن يقتصد فيها، وألاَّ يفتح الإنسان أمام تنوعها، والمخاصمة فيها، ولهذا حذر الله من الجلوس مع الذين يخوضون في آياته فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:68 - 69]، وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140]، وقد كان أئمتنا يكرهون الخوض في ذلك، قال مالك للرجل الذي جاء يسأله في بعض تلك المسائل: (أرأيت إن جاء من هو ألسن منا فخالفنا -خالف ما أنا عليه وما أنت عليه- وأتى بقول أظهر لسنًا وحجةً أتتبعه؟ قال: نعم، قال: فإن جاء من هو ألسن منه وأقوى حجة؟ قال: تبعته، قال: ما هي إلا سلسلة متصلة).
وأتاه أحد القدرية فقال: أريد المجادلة في القدر، فقال: (أما أنا فعلى بينة من أمري، وأنت شاك؛ فاذهب إلى شاك مثلك فجادله).
وعندما سأله رجل عن صفة الاستواء قال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ وما أراك إلا صاحب سوء، أخرجوه عني).
وقد كان كثير من الأئمة يتحرزون من الكلام في هذه الموضوعات، ويقولون: (سلني عما إذا أخطأت فيه قلتَ: أخطأتَ، ولا تسلني عما إذا أخطأت فيه قلتَ: كفرتَ).
وقد توسع الناس -وبالأخص في أيام المتأخرين- في المناظرات العقدية والخلافات التي شغلوا بها الأمة، وأكثروا فيها من التعصب والفرقة، والأمة في غنىً عن الخوض فيها أصلاً، فقد قال العلامة الشيخ بابل بن الشيخ سدية: كن للإله ناصرًا وأنكر المناكرا وكن مع الحق الذي يرضاه منك دائرا ولا تعد نافعًا سواءه أو ضائرا واسلك سبيل المصطفى ومت عليه سائرا فما كفى أولنا أليس يكفي الآخرا وكل قوم أحدثوا في أمره مهاجرا قد زعموا مزاعمًا وسودوا دفاترا واحتنكوا أهل الفلا واحتنكوا الحواضرا وإن دعا مجادل في أمرهم إلى مرا (فلا تمارِ فيهم إلا مراءً ظاهرا) ويقول أيضًا: آمن أخي واستقمْ ونهج أحمد التزمْ واجتنب الطرق لا تغررك أضغاث الحلمْ لا خير في دين لدى خير القرون قد عُدِمْ أحدثه من لم يجئ قطع بأنه عصمْ من بعد ما قد أنزلت (اليوم أكملت لكمْ) وبعد ما صح لدى جمع على غدير خمْ ادعُ إلى سبيله وخص في الناس وعمْ وقل إذا ما أعرضوا (عليكمُ أنفسكم) والخلاف العقدي منه الخلاف السلوكي، كالخلاف مع الصوفية، وهو داخل فيما سبقت الإشارة إليه.
النوع الثالث: الخلاف الفقهي: الخلاف الفقهي: وهذا الخلاف أغلبه إما في اعتبار الدليل دليلاً، أو الخلاف في دلالته، أو بسبب عدم بلوغه أصلاً.
وأسباب هذا الخلاف أرجعها العلماء إلى اثني عشر سببًا، والأصل فيه أنه إثراء للفقه، وتوسعة على الأمة، وعناية بدراسة الشرع؛ لذلك ينبغي ألاَّ يلحق بخلاف التضاد، وإنما ينبغي أن يجعل من خلاف التنوع؛ وذلك إذا خلا أهله من التعصب، وعرفوا أن الأمور الاجتهادية وسع الشارع فيها ولم يحسمها بالدليل؛ لحصول التوسعة فيها، فهي من العفو، ولذلك قال الشعراني: (إن للشريعة سورين: سور الرخصة وسور العزيمة، والمتخالفان من أهل المذاهب داخل هذين السورين، فمن نحا جهة التحريم فقد اقترب إلى سور العزيمة، ومن نحا إلى جهة الإباحة فقد اقترب إلى سور الرخصة، والجميع بين سوري الشريعة).
الخلاف المنهجي: النوع الرابع: الخلاف المنهجي: ومن أبرز أمثلته الخلاف الدعوي بين المناهج الدعوية المختلفة، وهذا الخلاف هو مثل الخلاف الفقهي، فلا شك أن الدعوة يُحتاج فيها إلى توسيع المدارك وتنويع الوسائل، وينبغي أن تكون مناهجها كجوارح البدن؛ فللبدن عين لا يمكن أن تقوم مقامها الأذن، والأذن لا يمكن أن تقوم مقامها الرجل، والرجل لا يمكن أن تقوم مقامها الشفتان أو الفم مثلاً، والفم لا يمكن أن تقوم مقامه اليد وهكذا، فكلها جوارح مفيدة يحتاج إليها، والقلب يوجه الجميع، ويستفيدوا منه، وهي وسائل إدراكه، فهكذا ينبغي أن يكون التنوع في المناهج من باب التنوع لا من باب التضاد، ولكن مع ذلك قد جعل في كثير من الأحيان من باب التضاد، وما ذلك إلا للتعصب المقيت الذي نحن في غنى عنه.
هذه هي أهم أنواع الاختلاف.(3/20)
الآداب التي يقتضيها الاختلاف
العنصر الثالث: الآداب التي يقتضيها الاختلاف: ينبغي أن نعلم أن المتخالفين لابد أن يكونوا غير معصومين، فليس فيهم معصوم، فالمعصوم يلزم الانقياد له مطلقًا، ولا عصمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والمعصوم بعده الإجماع فقط، أما إذا حصل الخلاف فلا عصمة حينئذٍ.
وهنا عشرة آداب لابد من استحضارها في مسائل الخلاف:(3/21)
البدء بنقاط الاتفاق قبل نقاط الاختلاف
الأدب الأول: البدء بنقاط الاتفاق قبل نقاط الاختلاف، فإذا حصرنا نقاط الاتفاق هانت نقاط الخلاف وذابت، وسهل تجاوزها أو الاتفاق فيها على أمر، وإنما تشتد شقة الخلاف وتكبر الفجوة بسبب البدء بنقاط الاختلاف أولاً، وتجاهل نقاط الاتفاق التي قد تكون أكبر.
من أشهر الخلافات بين المسلمين اليوم -وبالأخص بين أهل السنة-: الخلاف في بعض المسائل العقدية، وأكثرها اجتهادية لم تحسم بالنص، إذا لم يُبدأ بمسائل الاتفاق وذُهب إلى مسائل الخلاف اتسعت شقة هذا الخلاف، لكن إذا ذهبنا إلى مسائل الاتفاق وجدنا أن أركان الإيمان ستة، وأن ثلاثة منها ليس فيها خلاف أصلي، وهي فيما يتعلق بالإيمان بالملائكة، وما يتعلق بالإيمان بالرسل، وما يتعلق بالإيمان باليوم الآخر؛ هذه مسائل اتفاق.
أما الثلاثة الأركان الأخرى؛ فأولاً: الإيمان بالله، وهو ثلاثة أقسام: اثنان منها -تقريبًا- ليس فيها اختلاف بين أهل السنة: الإيمان بربوبية الله للكون، والإيمان بألوهيته، فلا يخالف في ربوبيته إلا من كان خارجًا عن الإسلام، ولا يخالف في ألوهيته إلا بعض المنحرفين في جانب العبادة، فانحصر الخلاف في القسم الثالث، وهو الخلاف في أسمائه وصفاته.
وأيضًا هذا قسمان الأسماء والصفات، فالأسماء لا اختلاف فيها بين أهل السنة، ويبقى الخلاف في الصفات.
والصفات أيضًا ثلاثة أقسام: قسم منها صفات الأفعال، وهذه لا خلاف في جمهورها، كالإحياء والإماتة والخلق والرزق ونحو ذلك.
ثم الصفات الأخرى صفات المعاني؛ وهذه -أيضًا- لا خلاف فيها، كالحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام تقريبًا، وسيأتينا الخلاف في الكلام بمعنى التكلم.
وكذلك السلوب من الصفات: كالقدم والبقاء والغنى والمخالفة للحوادث والوحدانية؛ فهذه لا اختلاف فيها.
فانحصر الخلاف في الشق الثالث، وهذا يشمل بعض الصفات الذاتية، كالوجه واليدين والقدم والساق والأصابع والعين والشخص، وبعض صفات الأفعال اليسيرة جدًا كالاستواء والتكلم والنزول.
فهذا عدد من الصفات يسير جدًا، والذين اختلفوا فيه اتفقوا على ثبوت النصوص الواردة فيه، وأنها حق، وأن الله أعلم بنفسه، لكن اختلفوا فقط: هل تفسر أو ما تفسر؟ فالذين قالوا بعدم تفسيرها أصلاً نجوا من كثير من التفصيلات، والذي قالوا بتفسيرها اختلفوا، فمنهم من قال: نفسرها بظاهرها مع تنزيهه عن التشبيه بالمخلوقين، ومنهم من قال: نؤولها بما يدركه العقل بأعمال القياس، كما نعمل القياس في آيات الأحكام وآيات الصفات، وكل من عند ربنا.
أما الإيمان بالكتب المنزلة، فلا خلاف فيها إجمالاً، ولا خلاف في أن القرآن كلام الله، الخلاف فقط هو فيما يتعلق بالتكلم اللفظي، وهذا راجع إلى صفة من صفات الله، فقد اختلف: هل القرآن صفة الله أم لا؟ الذين يقولون: هو صفة الله مقصودهم: أن الله تكلم به، لكن هل يوصف هذا الكلام نفسه بكونه صفة بعد أن تكلم الله به؟ هذا محل خلاف: فالقرآن فيه صفة الله التي لا اختلاف فيها: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:14 - 16]، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]، وهذا ليس فيه خلاف أنه صفة الله، لكن فيه أيضًا صفة عدو الله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} [المدثر:11 - 15].
{فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:8 - 13]، فهذه من صفات عدو الله، وكونه يحفظ في الصدور، ويكتب في المصاحف، ويأتي يوم القيامة يجادل على صاحبه تتقدمه البقرة وسورة آل عمران كالغمامتين يقتضي انفصاله عن الذات، والصفة لا تنفصل عن الذات، فهذا سبب الخلاف، وهو سبب معقول، مع اتفاقهم على أن الكلام النفسي -الذي يعبر عنه بعضهم بنوع الكلام- أو جنس الكلام: صفة ملازمة لذاته، والاختلاف فقط في اللفظ الذي يسميه بعضهم آحاد الكلام، فتنحصر شقة الخلاف في مسألة ضيقة.
أما الإيمان بالقدر فأكثر مسائله لا خلاف فيها، فلا خلاف في أن الأمور كلها بإذن الله، وأنها مكتوبة عنده، وأنها لا يقع منها شيء إلا بعد علمه به وكتابته، وهذا عند أهل السنة، واختلافهم فقط هو في أفعال العباد، هل هي من فعل الله؟ بمعنى هل العباد يكسبونها، ولهم إرادة وقدرة لا توجدها، أو أنها من فعل العباد، وهي من خلق الله؟ لم يختلفوا أنها من خلق الله {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، إنما الخلاف فقط في نسبتها بعد ذلك، فمن المعلوم قطعًا أنها تنسب للمخلوق، وأنه يثاب على حسنها ويعاقب على سيئها، ولكن وجه تعلق المخلوق بها: هل هو الفعل المطلق -أي: أنه هو الذي فعلها- وهذا هو الصحيح، أو أنها كسب أي: أن له كسب وإرادة لا تتعلقان بإيجادها، فتحصل الأعمال عند الإرادة والقدرة لا بها، وهذا الذي يسمى بنظرية الكسب.
فالخلاف إذًا: محصور، وشقته محصورة، هذه هي مسائل الخلاف، في كبريات مسائل العقيدة، وما سواها كله تفصيلات وجزئيات، وهذا بين أهل السنة فقط، أما ما سوى ذلك فكله ابتداع، وخروج عن هذا المنهج العقدي الصحيح.
فالبدء بنقاط الاتفاق من الآداب المهمة في مراعاة الخلاف.(3/22)
عدم الجرح والاستطالة
الأدب الثاني: عدم الجرح والاستطالة، فالمتخالفان لابد أن يتأدبا بالأدب الشرعي، فلا يستطيل أحدهما على الآخر ولا يجرحه، وقد قال الله تعالى في مخاصمة الكفار: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46]، وقال لموسى وهارون حينما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159].(3/23)
عدم رفع الصوت
الأدب الثالث: عدم رفع الصوت، فرفع الصوت في حال الخلاف مدعاة لدخول الشيطان، ومدعاة لترك الأدب السابق، وهو الاستطالة، ولهذا حذر الله تعالى منه فقال: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} [النساء:148].(3/24)
قبول الحق والإنصات له
الأدب الرابع: قبول الحق والإنصات له، فلابد أن يكون المختلفان يطلبان الحق، وينصتان له، ويقبلانه، فالذي يصم عن الحق ولا يقبله لا يمكن أن يتأدب بأدب الخلاف أصلاً، ولهذا قال الله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17 - 18]، فهم يستمعون أولاً ثم يتبعون، وعاب على الكفار قولهم: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]، فلابد من الإنصات للخصم حتى يسمع الإنسان ما عنده، ولابد أن يقبل ما في كلامه من الحق، ولهذا علمنا الله في مجادلة المشركين أدبًا عجيبًا فقال: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]، فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي على هدى، وأن المشركين في ضلال مبين، لكنه أتى بـ (أو) في هذا الأسلوب لأدب الخلاف؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في أدب الخلاف مع المشركين يخاطبهم بأحب أسمائهم إليهم، فلما أتاه عتبة بن ربيعة قال له: (اسمع أبا الوليد!) وكناه، وهذا يقتضي الأدب مع كل مخالف، فلا فائدة من نقص الأدب معه، وإنما يزيده نفرة، ولا يزيد الحق ظهورًا، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: (ما ناظرت أحدًا إلا سألت الله أن يظهر الحق على لسانه، قيل ولمَ؟ قال: إن ظهر على لسانه عرفت الحق ولم أفتن، وإن ظهر على لساني خشيت أن أفتن).
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن الخلاف لا يقتضي استنكافًا عن الحق وإنكارًا له، بل قال: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة:2]، وقال: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]؛ ولذلك فإن عمرو بن العاص رضي الله عنه -كما في صحيح مسلم - أثنى على الروم بما علم فيهم من الخير، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عددًا من المشركين فأثنى عليهم ببعض الصفات الحميدة التي كانت فيهم كـ المطعم بن عدي وغيره.(3/25)
عدم التعصب والاحتكار
الأدب السادس: عدم التعصب والاحتكار: فلابد أن ينطلق المتناظران المختلفان من مبدأ طلب الحق والاستسلام له إذا ظهر، والرجوع إليه إذا استبان، فإذا أتيا وكل واحد يريد أن يفرض قوله على صاحبه، ويحتكر الحق لنفسه، ولا يريد أن يغير موقفه بحال من الأحوال؛ فلا يمكن أن يتفقا بوجه من الوجوه، وهذا التعصب مقيت مذموم.
وقد كان مالك رحمه الله يقول في مسائل اجتهادية: {إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32]، ويقول: (ما منا أحد إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم).
واحتكار الحق فيه خطورة عظيمة؛ لأنه يقتضي من الإنسان أنه يدعي العصمة لنفسه، والشافعي رحمه الله يقول: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)، أي: الصواب عندي يحتمل الخطأ؛ لأنه ليس منزل من عند الله، وإنما هو اجتهاد مني أنا، ورأي غيري خطأ عندي -لأن الحق لا يمكن أن يختلف اختلاف تضاد- يحتمل الصواب -لأنه اجتهاد شخص محترم كذلك-.
ومن هنا كان العلماء يحترم بعضهم أقوال بعض احترامًا عجيبًا، فهذا أبو يوسف صاحب أبي حنيفة مذهبه أن العلة القاصرة لا تصلح للتعليل، وأن أي نجس خرج من البدن ناقض للوضوء إذا تفاحش، فقرر ذلك يومًا في مجلسه فقال له رجلٌ: أرأيت إن كان الإمام قد جرحت ساقه فخرج منها دم فتفاحش، فصلى بالناس من غير وضوء أأصلي وراءه؟! قال: (سبحان الله! ألا تصلي خلف مالك؟!).
فـ مالك كان يرى أن العلة القاصرة تصلح للتعليل، وأن الناقض إنما هو ما خرج من أحد السبيلين فقط، وأن ما سواه من النجاسة لا ينقض الوضوء.
وكذلك فإن الإمام أحمد رحمه الله عندما سئل عن تعليق الطلاق على النكاح: ذكر أنه لا ينفذ، قيل: أرأيت إن مررت بحلقة المدينة فأفتوني بخلاف ما تقول فآخذ بقولهم؟! قال: (سبحان الله! ألا تأخذ بقول مالك؟!).
فقد كان جمهور أهل السنة يحترمون أقوال المجتهدين ويقدرونها، ولهذا قال الشافعي: (لا أرد شهادة أحد من أهل الأهواء، إلا الخطابية؛ فإن من مذهبهم أنهم يستبيحون الكذب لنصرة من وافقهم في مذهبهم).(3/26)
الإنصاف
الأدب السابع: الإنصاف: أن يكون الإنسان منصفًا لخصمه، فإذا وقع هو في خطأ سهل عليه الاعتراف به، وإذا كان دليله ضعيفًا اعترف بذلك، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه إلى أبي موسى الأشعري: (ولا يمنعك قضاء قضيت فيه بالأمس فراجعت فيه نفسك فهديت فيه إلى رشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع في الحق خير من التمادي في الباطل).
وقد قال العلامة رحمه الله: ليس من أخطأ الصواب بِمُخْطٍ إن يؤب لا ولا عليه ملامة إنما المخطئ المسيء من إذا ما ظهر الحق لَجَّ يحمي كلامه حسنات الرجوع تذهب عنه سيئات الخطأ وتمحي الملامة(3/27)
الأمانة في النقل
الأدب الثامن: الأمانة في النقل، فعلى كل واحد من المتخالفين أن يكون أمينًا في نقله، وألا ينقل عن الآخر ما لم يقله، حتى ولو كان لازم قوله، فإن لازم القول لا يعد قولاً، فلا ينسب لساكت قول، واللوازم كثير منها لا يخطر على البال؛ فلا يمكن أن يلزم باللازم أصحابه، ولا أن ينسب إليهم، وهذا قد تساهل فيه كثير من الناس مع الأسف، فيأخذون بعض اللوازم التي بعضها لا يلزم فينسبوها إلى صاحب ذاك المذهب، ويجعلونها من مذهبه، وهذا هو من التجني والكذب، فيلزم المؤمن أن يكون أمينًا في نقله، والأمانة أخت الدين، (لا إيمان لمن لا أمانة له)، وقد كان سلفنا يتحرجون جدًا من نسبة الأقوال، ويتأدبون غاية الأدب، فمثلاً: مسلم في الصحيح يقول: قال فلان: أخبرنا.
وقال فلان: حدثنا؛ حتى لا ينسب إلى أحد قولاً لم يقله.(3/28)
حسن الظن والتماس أحسن المخارج
الأدب التاسع: حسن الظن والتماس أحسن المخارج، فالمختلفان إذا كانا من أهل العلم والإيمان والتقوى فينبغي أن يحسن كل واحد منهما الظن بصاحبه، وأن يظن به أنه ما قصد إلا إعلاء كلمة الله، ونصرة دينه، وأنه أعمل اجتهاده، وهذا الذي أداه علمه واجتهاده، وأنه مكلف بمقتضى عقله لا بمقتضى عقول الآخرين، ويُظن به أنه ما أراد إلا الخير.
والتماس أحسن المخارج مطلوب دائمًا، كما التمس أحسن المخارج لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بعضهم يلتمس ذلك لبعض، فهذا مهم جدًا، ولذلك قال علي رضي الله عنه في قول الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} [الحجر:47]: (نزلت فينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حينما اختلفنا واقتتلنا).
وعندما مر يوم الجمل على طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قتيلاً، وقف عليه يبكي، وهو يقول: فتىً كان يدنيه الغنى من صديقه إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر فتىً لا يعد المال ربًا ولا يرى له جفوة إن نال مالاً ولا كبر فتىً كان يعطي السيف في الروع حقه [إذا ثَوَّبَ الداعي وَتَشْقَى بهِ الْجُزْرُ] فشهد له بهذه الصفات العظيمة التي يشهد بها الجميع لـ طلحة رضي الله عنه.
وهكذا كانوا جميعًا يقر بعضهم لبعض بما فيه من الخير، ولذلك في كتابة معاوية رضي الله عنه إلى علي رضي الله عنه حين أرسل إليه يذكر سبب عدم بيعته له، وأن بيعة أهل المدينة وأهل العراق غير ملزمة لأهل الشام، وقال في آخر الكتاب: (وأما قربك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسابقتك بالإسلام فأمر لست أنكره أو قال: فأمر لست أدفعه).
فهذا إقرار له بالفضل والسابقة بالإسلام والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/29)
عدم التشدد مع المؤمنين
الأدب العاشر: عدم التشدد مع المؤمنين: فالتشدد إنما يكون مع الكفار، أما المؤمنون فحقهم الرحمة كما قال الله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، وكما قال الله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54].
فالتشدد مع المؤمنين والتساهل مع الكافرين إنما هو دأب الخوارج والملحدين؛ ولذلك فإن الخوارج ذبحوا عبد الله بن خباب بن الأرت رضي الله عنهما على شاطئ الفرات، فاستطال دمه حتى قطع النهر، وجلسوا تحت ظل نخلة لرجل من أهل الذمة يختصمون فيما بينهم، فقال بعضهم لبعض: إنكم قد جلستم في ظل هذه النخلة، ولم تستأذنوا صاحبها، وهو من أهل الذمة، فإما أن ترضوه، وإما أن تَكْفُرُوا، فذهبوا إليه يريدون أن يرضوه عن جلوسهم في ظل نخلته بما أراد من المال، فقال: عجبًا عمن يتورعون عن ظل نخلة لرجل يهودي ويستبيحون قتل عبد الله بن خباب!! ومثل هذا قول ابن عمر: (يا أهل العراق! تستبيحون قتل الحسين في الشهر الحرام، وتسألون عن دم البعوض في الحرم).(3/30)
علاج الخلاف
نصل إلى العنصر الرابع من عناصر هذا الدرس، وهو: العلاج للخلاف إذا حصل: ظاهرة الخلاف منتشرة موجودة فلابد من البحث عن علاج لها، وهذا العلاج لابد فيه من التدرُّج، فليس المقصود من العلاج حصول الاتفاق المطلق، فهذا قد لا يحصل، لكن إذا حصل وضع السلاح من الجانبين فهذا هو مكسب، وإذا حصل الاتفاق على نقاط عملية فهذا مكسب، وإذا اتجه كل جانب من الجانبين في اتجاه لا يعارضه فيه غيره فهذا مكسب.
إذًا: لابد من البحث في علاج الخلاف، وذلك في النقاط التالية:(3/31)
الاتفاق على المرجع
العلاج الأول: الاتفاق على المرجع: فمن المهم جدًا وجود مرجع في الخلاف، وهذا المرجع إما أن يكون مرجعًا دينيًا، والمرجع لدى المسلمين هو الوحي: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، فالرد إلى الله بالرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله بالرد إلى سنته، ولكن لابد أن يعلم أن الرد نفسه لا يمنع الخلاف ولا يردعه، وإنما يعود ذلك إلى الفهم والاستيعاب والاستنباط، كما قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، ولم يقل: (لعلموه جميعًا)، فليس مجرد الرد كافياً في رفع الخلاف كما يتوهمه كثير من المستعجلين، فيمكن أن نرد إلى الكتاب ونرد إلى السنة، ويبقى الخلاف وارداً؛ لوجود خلاف في الدلالة لا في الدليل، فالكتاب والسنة على الرأس والعين، لكن ما معناهما؟ هل فهمك أنت فيهما مرجع بالنسبة لي أنا؟ فهذا أمر لابد أن ينتبه له من البداية.
النوع الثاني من أنواع المراجع: الأشخاص الذين هم محل ثقة، وهم أهل العلم والتقوى والورع الذين أحال الله عليهم في قوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وفي قوله: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، ومن المعلوم أن هذه الأمة لا تخلو منهم، فإذا كان للأمة مرجع يُصدر عن قوله في الأمر؛ فذلك قمن لرفع الخلاف وإزالته.
النوع الثالث: المرجع النظامي، والمرجع الرسمي ومن أبرزه الخليفة، فلو وجد للمسلمين خليفة، فإنه يرفع الخلاف بينهم؛ لأن حكمه يرفع الخلاف.
ومثل ذلك القاضي الذي تنصيبه صحيح، فإن حكمه يرفع الخلاف في المسائل الخلافية، ومع الأسف أن وجود المرجع اختص بها أهل البدع اليوم، فاشتهرت لدى الشيعة، وفقدت لدى أهل السنة، فالشيعة لديهم مرجع يرجعون إليه في حل خلافاتهم، ويصدرون عن رأيه جميعًا -وهذا في بعض فرقهم لا كلها- وأهل السنة ليس لهم من المراجع ما يرجعون إليه، ويتراجعون عن أقوالهم أمامه.(3/32)
التحكيم
العلاج الثاني: التحكيم؛ أن يحكم في المسألة من هو أهل لذلك، ويتراضى به الخصمان، فتُدرس المسألة من الجانبين، ويحكموا فيها عند عدم وجود المرجع، فإذا لم يوجد مرجع فنضطر للتحكيم، كما حصل للصحابة رضوان الله عليهم عندما اختلفوا، ولم يجدوا مرجعًا معصومًا -لأن المعصوم قد توفي صلى الله عليه وسلم- ولم يفصل بينهم النص من الوحي، فحكموا رجلين مرضيين عندهم جميعًا، وهما أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وعمرو بن العاص رضي الله عن الجميع.
وهذا التحكيم، ينبغي أن يرفع الخلاف عمليًا، فيصادر العمل، ولا يصادر الرأي.(3/33)
التنازل
العلاج الثالث: التنازل: وهو أن يتنازل أحد الطرفين عن قوله جمعًا للكلمة وتعقلاً في الأمر، فإن الحسن رضي الله عنه عندما تنازل في قضية الخلاف السياسي كان ذلك رفعًا لدرجته ومنزلته، وقد أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) وتنازل أحد المختلفين عن رأيه لصالح جمع الكلمة ليس تنازلاً لصالح الآخر، ولا انهزامًا أمامه، بل هو موازنة بينما يترتب على رأيه هو من المصالح، وما يترتب على اجتماع الكلمة من المصالح، وسيرى أن اجتماع الكلمة بلا شك أفضل، وما يترتب عليه من المصالح أقوى، فيشرع حينئذٍ التنازل ويحب، وبالأخص في الخلاف السياسي، ويمكن أن يحمل عليه الخلاف المنهجي الدعوي.(3/34)
التعاون فيما اتفق عليه والعذر فيما اختلف فيه
العلاج الرابع: أن يتعاونوا فيما اتفقوا عليه، ويعذر بعضهم بعضًا فيما اختلفوا فيه: فإذا حددت نقاط الاتفاق أولاً، وحددت نقاط الخلاف: بدءوا أولاً بنقاط الاتفاق فتعاونوا في نطاقها، وعملوا بها، ولم يبقَ إلا نقاط الخلاف، وإذا لم يستطيعوا حلها؛ دل ذلك على أنها ليست من ثوابت الدين، وأنها ليس عليها دليل حاسم في المسألة، فيعذر بعضهم بعضًا في الخلافات الفقهية، كما عذر بعض المجتهدين بعضًا في المسائل الاجتهادية، وهذه قاعدة مهمة، وقد نبه عليها عثمان رضي الله عنه عندما أطل على الناس وهو محصور في الدار، فقال له رجل: يا أمير المسلمين! أنت إمام سنة، وهؤلاء إمامهم إمام بدعة، وهم يصلون، أفنصلي معهم؟ قال: (إن الصلاة من أحسن ما يصنع الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فتجنب إساءتهم).
إذا أحسنوا فأحسن معهم: هذه نقاط الاتفاق.
وإن أساءوا فتجنب إساءتهم: هذه نقاط الخلاف.(3/35)
المعذرة
العلاج الخامس: المعذرة، وهي مهمة جدًا، ولذلك قال الخليل بن أحمد لولده: لو كنت تعلم ما أقول عذرتني أو كنت أجهل ما تقول عذلتك لكن جهلت مقالتي فعذلتني وعلمت أنك جاهل فعذرتك وحصول العذر مدعاة لأن يسير كل على شاكلته، كما حصل في المذاهب الفقهية، فتتعايش بينها، ويستمر هذا التعايش زمانًا حتى تزول من النفوس تلك الحزازة، وتأتلف القلوب، حينئذٍ من شاء أخذ بهذا القول، ومن شاء أخذ بالآخر على اعتبار تساويهما وعدم الانفصال بينهما، ومن ترجح لديه أحدهما وجب عليه الأخذ به، ومن لم يترجح لديه أحد القولين فهو بالخيار أو يأخذ بالاحتياط بينهما.
فهذا هو علاج الخلاف الذي ينبغي أن يؤخذ به.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يأخذ بنواصينا إلى الخير أجمعين، وأن يجعلنا هداة مهديين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يرينا الحق حقًا، وأن يرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً، وألاَّ يجعلنا أتباعه، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يجمع على الحق قلوبنا، وأن يملكنا أنفسنا بخير، وألاَّ يسلطها علينا بشر، وأن يجعل سرائرنا خيرًا من علانياتنا، وأن يجعل علانياتنا صالحة.
اللهم! آت أنفسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم! اجعل قلوب المسلمين على الحق يا أرحم الراحمين! اللهم! اخلف نبيك محمدًا صلى الله عليه وسلم في أمته بخير.
اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وتقام فيه حدودك يا أرحم الراحمين! {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182].(3/36)
أسئلة نسائية(4/1)
حكم خياطة الرقيق من الثياب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فأقول للأخوات: إن ما تقدمن به من الأسئلة بين يدي، وما لا أعلمه فسيكون الجواب فيه بلا أدري، وما أعلمه أيضاً فإنما الإفتاء فيه من باب قول الشاعر: لعمر أبيك ما نسب المعلا إلى كرم وفي الدنيا كريم ولكن البلاد إذا اقشعرت وصوح نبتها رعي الهشيم
السؤال
هل يجوز لشخص عنده عيال خياطة الرقيق من الثياب مع العلم أنه محتاج إلى ثمنه ولا يوجد سوى الرقيق يخيطه؟
الجواب
ورد عن عمرو بن مرة أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! حرمت فما أُراني أرزق إلا من دفي بكفي فهل تأذن لي في ذلك؟ فقال: لا آذن لك ولا كرامة، ولو كنت تقدمت إليك لأوجعتك ضرباً ولحلقت رأسك مثلة، ولأبحت مالك لأهل المدينة)، فإن الله عز وجل قد وسع في الأرزاق من الحلال، ووسع السبل إلى ذلك، ومن أراد أن يوسع الله عليه في رزقه فلا يعمد إلى ما حرم الله عليه، فإن خياطة الرقيق من الثياب وبيعه لمن يستعمله استعمالاً لا يجوز من التعاون على الإثم والعدوان الذي نهى الله عنه.(4/2)
معنى المداهنة
السؤال
ما هي المداهنة، وما هي حدودها في الأمر والنهي؟
الجواب
المداهنة هي بذل الدين لإصلاح الدنيا، أي: أن يبذل الشخص جزءاً من دينه لإصلاح الدنيا، وليس من ذلك ما كان الشخص مكرهاً عليه، فإنه إذا أكره بما يخاف عقوبته لا يعتبر مداهناً، لقول الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106]، فلذلك ينبغي أن نعرف أن المداهنة هي بذل الدين لإصلاح الدنيا، كمن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجل أن لا يستثقل، ومن أجل أن لا يقال إنه ثقيل، أو من أجل أن لا يوصف بأوصاف بذيئة، فكثير من الناس يريد أن يتخلص من الأوصاف القبيحة لدى الآخرين بأن يترك جزءاً من دينه فيترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لئلا يقال فيه كذا من الأوصاف الذميمة، والواقع أن ديان السماوات والأرض ذا العزة والجلال الذي خلق الناس وأنعم عليهم وسواهم ومع ذلك زعموا أن له صاحبةً وولداً تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64]، {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181].
وكذلك الأنبياء الذين هم خيرة الله من خلقه فإن الناس قالوا فيهم: كذاب، وساحر، ومجنون، وكاهن، وطالب سلطة، وطالب مال إلى آخر ما قالوه.
وقد برأ الله الأنبياء من ذلك، ومن كان يريد أن ينجو مما نجا منه الأنبياء فمعناه: أنه لا يريد أن يسلك طريقهم، وهذا الطريق الموصل إلى الجنة محفوف بالمكاره، فإن الله حين خلق الجنة أرسل إليها جبريل وزينها قبل أن يصل إليها بأنواع الزينة، فلما رآها ورجع إليه سأله قال: هل رأيتها؟ قال: نعم، وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم أمر بالنار فأعدت، فأرسله إليها، فلما رآها، قال: أرأيتها؟ قال: نعم، وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بالجنة فحفت بالمكاره وأمر بالنار فحفت بالشهوات، فأرسل جبريل فنظر إلى الجنة فرجع فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، ورأى النار فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد، وذلك حين حفت بالشهوات.
فلذلك لابد أن يدرك الشخص أن هذا الطريق لابد فيه من كثير من العقبات والمشكلات، وأنه لا يمكن أن يصبر على دينه، فيجمع بين العافية العاجلة والعاقبة الآجلة، ولابد أن يجد بعض الأذى الذي توعد الله به في كتابه، في قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186].(4/3)
مصافحة المرأة للمحارم
السؤال
امرأة تقدم إليها رجل ليتزوجها فظهر أنه محرم لها، فهل يجوز لها أن تصافحه بعد ذلك وأن تتخذه محرماً؟
الجواب
إذا كانت تخشى الريبة من ذلك أو الفتنة فلا يحل لها مصافحته، وإن كانت لا تخشى الريبة ولا الفتنة من ذلك فإن هذا من الجائز، فهو محرم مثل غيره من المحارم.(4/4)
حكم البوح بأسرار الزوجية
السؤال
بعض الفتيات إذا تزوجت إحداهن أتتها كل صديقاتها بعد الزواج يسألنها عن دخول زوجها بها وكل شيء جرى بينهما، فتجيب بكل صراحة، فهل هذا جائز؟
الجواب
لا، بل حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وبالغ في نكيره، وذكر أن من فعله إنما هو شيطان، وهذا يكفي في المبالغة في التحذير، فهذه الأمور التي بين الأزواج ينبغي أن تكون سراً من الأسرار لا يطلع عليها أحد، وهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حصلت بينه وبين زوجته صفية بنت أبي عبيد مشكلة اجتماعية، فجاء أصدقاؤه وأخته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين يسألونه عن هذه المشكلة التي بينه وبين زوجته، فقال: سبحان الله! كيف أفضي بسر امرأة هي أقرب الناس إلي، فلم يفض إليهم بشيء من سرها، ثم إنه طلقها فأتوه يسألونه عن السبب، فقال: سبحان الله! كيف أفضي بسر امرأة أجنبية لا علاقة بيني وبينها.
إذاً: فهذا من الأسرار التي لا يمكن إفشاؤها بحال من الأحوال، ومع ذلك فما كان من وصف حميد فيه ثناء، أو تشك وتظلم في بعض القضايا فإنه لا يدخل في النهي، فمثلاً: إذا كان الزوج يحسن إلى زوجته وكانت تجد منه المعاشرة الحسنة فأرادت بذلك الدعوة وتأليف القلوب وذكر نعمة الله تعالى، حيث تشعر أن كثيراً من النساء مهانة في بيتها، وأنها لا تجد في بيتها الألفة ولا الرحمة والرأفة المطلوبة في الزواج وإنما وجدت فيه خلاف ذلك، فأرادت أن تبين نعمة الله تعالى عليها؛ فإن الله يحب أن تظهر نعمته على عباده، والتحدث بالنعمة شكر لها.
وكذلك إذا كانت تشكو من سوء المعاملة إلى من يمكن أن يغير، أو تشكو إلى من يمكن أن يتوسط في التغيير، فهذا أيضاً لا يعد من الغيبة بل هو من الأمور الستة التي يجوز فيها ذكر الأخ بما يكره، وكذلك ذكر الزوج في تعامله مع الزوجة ومن هذا: حديث أم زرع المعروف لديكن، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أقر فيه قصة أم زرع حين أثنت على زوجها فإنها قالت: زوجي أبو زرع وما أبو زرع، وأثنت عليه بأنواع الثناء، وعلى أمه وعلى بنته وعلى ولده وعلى خادمه.(4/5)
حكم نقض الشعر المضفور في الغسل والوضوء
السؤال
امرأة طهرت من الحيض وأرادت أن تغتسل إلا أن شعرها مضفور بدقة، وهي متأكدة من وصول الماء إليه؛ فهل لها أن تغتسل كما هي أم تنقض شعرها، الرجاء التوضيح؟
الجواب
بالنسبة للشعر المضفور فإنه ينقسم إلى قسمين: مضفور بنفسه، ومضفور بخيوط من غيره، مثل الذي فيه أسلاك أو حديد.
فالقسم الأول المضفور بنفسه ينقسم إلى قسمين: شديد، ورخو، فالشديد يجب نقضه في الغسل، ولا يجب ذلك في الوضوء، بل تمسح فوقه في الوضوء وتدخل يدها تحت الضفائر فقط، أما في الغسل فيجب نكثه مطلقاً، وتنقض الضفر كله، وأما ما كان رخواً من الضفر من غير خيوط، فإنها لا تنقضه بل تهيئه لدخول الماء فيه حتى توقن أن الماء دخل في داخله وتغلغل فيه.
إذاً: الرخو الذي ليس ضفره دقيقاً ولا محكماً فهذا تلينه حتى يدخل فيه الماء، وأما ما كان مضفوراً بالخيوط فإن الخيوط تنقسم إلى قسمين: كثيرة، وقليلة، فالكثيرة إذا كانت رابية عليه فإنها تنقض في الغسل وفي الوضوء معاً، وإذا كانت قليلةً أو كانت مختفية في داخله فإنها لا تنقض في الوضوء ولكنها تنقض في الغسل.(4/6)
حكم خروج المرأة بإذن سابق من زوجها
السؤال
هل يجوز للزوج أن يعطي زوجته الإذن دائماً في الخروج، وهل يجوز لها أن تخرج بدون إذنه إذا كان قد أعطاها الإذن سابقاً مثل قوله: أعطيتك الإذن في كل وقت فلا داعي لطلب الإذن؟
الجواب
هذا الخروج يرجع حكمه إلى حكم المخروج إليه وإلى هيأته، فإن كانت تخرج إلى واجب أو إلى جائز فيجوز لها الخروج، وعلى الزوج أن يأذن لها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن إذا خرجن تفلات) ومعنى (تفلات): غير متطيبات ولا متزينات.
ويجوز لها حينئذ الخروج بغير إذنه في الواجبات، واختلف العلماء في خروجها بغير إذنه في المندوبات، والراجح أنه إذا كان سيغضب إذا علم بخروجها ولا تستطيع أن ترضيه بسهولة فإنها لا تخرج في المندوبات، وإن كان لن يغضب إذا خرجت فيجوز لها الخروج بغير إذنه في المندوبات.(4/7)
حكم امتناع المرأة على زوجها خوفاً على رضاع ولدها
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تمتنع من زوجها إذا كان لديهما ولد يخافان عليه؟
الجواب
إذا كان المقصود هنا أن المرأة إذا خافت على رضيعها من الحمل لما عرفت فيه من الضرر البين عليه، فإنها ينبغي أن تذكر الزوج بمصلحة ولده، ولكن لا يحل لها منعه من الفراش حينئذ، لكن عليها أن تنصحه وأن تذكره بمصلحة الولد، وبأنه يضر به أن تحمل فينقطع اللبن عنه وهو في سن الإرضاع.(4/8)
حكم الصوت والريح الخارجين من قبل المرأة
السؤال
الصوت أو الريح اللذان يخرجان من قبل المرأة لا يبطلان الوضوء فما الدليل على ذلك؟
الجواب
إن الذي ينقض من الصوت أو الريح هو ما كان من الدبر؛ لأنه الذي وردت فيه الأحاديث الصحيحة، والنقض ليس أمراً اجتهادياً إنما يؤخذ من الأدلة فقط، وما كان كذلك فإنه غير مألوف ولا معهود بل هو من قبيل المرض غير المعتاد لدى كل النساء، وما كان كذلك فإن غير المعهود لا ينقض؛ لأنه مخالف لفطرة الإنسان وطبيعته الأصلية، وهذا راجع لقاعدة فقهية معروفة وهي: المشقة تجلب التيسير، فما كان معروفاً مألوفاً لدى كل الناس فهو الذي ينقض وما كان نادراً قليلاً فإنه لا ينقض؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجعل في السلس نقضاً، والسلس غير معتاد ولا معهود لدى أكثر الناس.(4/9)
ما يجوز للمرأة الخروج فيه من الثياب
السؤال
ما نوع الثياب التي يحل خروج المرأة فيها؟
الجواب
الثياب التي يحل خروج المرأة فيها هي ما ليس لافتاً برائحة ولا لون، وليس محدداً لأعضاء الجسم، ولا يشف عن البشرة، فما اجتمعت فيه هذه القيود يحل لها الخروج فيه.
إذاً: إذا كان غير لافت للنظر بلون أو برائحة، وليس حسناً يلفت الانتباه إليه، وليست فيه رائحة تدعو إلى الانتباه، وليس محدداً لجسم المرأة ولأعضائها إلا بالريح -أي: إذا برزت في الريح تحددت أعضاؤها فهذا لا يضر-فيجوز خروجها في ذلك الثوب ولا حرج، لكن الثوب الذي يشف عما تحته فيبدي لون البشرة، أو يحدد الأعضاء مثل بعض القمصان التي تخاط على قدرها وتكون محددة لها يتضح من خلالها حجم هذه الأعضاء فهذا لا يجوز الخروج به، ولا يختص هذا بلون من الألوان بل المهم أن لا يكون اللون ملفتاً.(4/10)
معنى (تفلات) في حديث الخروج إلى المسجد
السؤال
ما معنى (تفلات)؟
الجواب
( تفلات) في حديث ابن عمر في صحيح البخاري المقصود بها: غير متعطرات أو متزينات، (وليخرجن إذا خرجن تفلات) معناه: غير متعطرات ولا متزينات، والتفلة معناه: المرأة التي لا تتعطر ولا تتزين.(4/11)
حكم سفر المرأة في ثوب الزينة
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تسافر في ثوب الزينة وهو ثوب حسن صقيل أو جديد؟
الجواب
خروجها من بيتها لا يجوز في ثوب لافت أياً كان، ولا عبرة بغلاء ثمنه مثلاً أو بكوته جديداً، فهذه الأمور قد لا يدركها بعض الناس، وقد لا تلفت الانتباه، إنما الذي يلفت الانتباه ما كان حسناً للونه أو لرائحته.(4/12)
المواضع التي تجوز فيها الغيبة
السؤال
ماذا تقولون في ذكر من يخاف على الإسلام والمسلمين منه؟ وهل يجوز ذكره لمن لا يعرفه؟
الجواب
من كان معروفاً لدى المتكلِّم فيه بسوء ويعرف أنه غير مأمون على دين الله تعالى؛ فإن الكلام فيه لا يدخل في حد الغيبة، وهو من الست المستثنيات من الغيبة، فالغيبة لا تحل إلا في ست فقط: الأول: ما ذكرناه وهو التحذير.
الثاني: النصيحة: كمن يريد التعامل مع شخص فينبه على ما فيه، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة بنت قيس حين خطبها أبو الجهم ومعاوية بن أبي سفيان فقال: (أما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فرجل صعلوك لا ملك له، ولكن انكحي أسامة بن زيد)، فهذا يحل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بينه، ومن علم شيئاً من هذا النوع فكتمه فهو غاش، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من غشنا فليس منا).
الثالث: التظلم والشكاية: كمن يشكو من شخص معين لمن سيرفع عنه الظلم أو يشارك في رفعه، فيبين له بعض ما فيه من الصفات، فهذا أيضاً ليس من الغيبة.
الرابع: ذكر الفاسق الذي جاهر بأمر فأعلنه: فذكره به ليس غيبةً له؛ لأنه أعلنه على الملأ، ومن هذا الذنوب الظاهرة، مثلاً: المتبرجة من النساء، أو التي تخالط الرجال في كل مكان، أو الرجل الحليق مثلاً، فهذه كلها من الذنوب البارزة التي يجاهر بها صاحبها ولا ينكرها، فلذلك إذا تكلم في الشخص بهذا أو ذكر به فلا يعد هذا من الغيبة.
الخامس: الاستفتاء: كمن يذكر شخصاً بصفة من صفاته ويستفتي في أمره فإن ذلك لا يدخل في الغيبة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاه رجل من كندة فشكا إليه رجلاً حضرمياً يخاصمه في أرض له، فأخبره أن عليه البينة أو يمينه، فقال: يا رسول الله! إنه لا يمين له، إنه رجل فاجر لا يبالي على ما حلف)، فأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا ولم ينكر عليه.
السادس: ذكر بعض الصفات التي فيها ذم أو عيب بقصد التنفير من تلك الصفات، كمن اتصف بفعلة مشهورة عنه، وقصد تنفير الناس من ذلك، فينبهون بهذه الصفة، وهذه هي الأمور المستثناة من الغيبة.(4/13)
أصل مقولة: إذا اشتد غضب الله على قوم تناءت عنهم الضيفان
السؤال
إذا اشتد غضب الله على قوم تناءت عنهم الضيفان، هل هذا حديث؟
الجواب
لا أظنه حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه كلام مشهور يقوله بعض الناس، وذلك أن من نعمة الله تعالى على الإنسان أن يجعل تحت يده رزق بعض عباده، فإن لم يجعل الله تحت يده رزق أحد من عباده فمعناه أنه محروم.(4/14)
ما يحل للمرأة من زينة عند الخروج
السؤال
ما هي حدود الزينة عند الخروج؟
الجواب
كل ما يلفت الانتباه في الظاهر فهو زينة، فيمكن أن تخرج المرأة وفي رقبتها عقد غير ظاهر مثلاً ولا حرج في ذلك، وقد سافرت عائشة رضي الله عنها وفي رقبتها عقد من جزع ظفار، فكل ما هو مستور يجوز الخروج به، وأما ما كان بارزاً بادياً فلا يجوز الخروج به، ومن ذلك الضرب بالأرجل ليسمع وسواس الحلي، والوسواس معناه: صوت الحلي، فهذا ممنوع؛ لقول الله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31]، ولذلك تسمعه نفوس الناس فيؤدي إلى الفتنة، كما قال الشاعر: تسمع للحلي وسواساً إذا انصرفت كما استعان بريح عشرق زجل وكما قال الآخر: وإذا مشت تركت بقلبك ضعف ما بحليها من كثرة الوسواس(4/15)
حكم إرسال الطفل الصغير للعلاج في الخارج
السؤال
هل يجوز للمرأة إذا كان لها صبي يقول الأطباء إن فيه مرضاً يحتاج إلى أن يذهب به إلى الخارج للعلاج، ويريدون الذهاب به وحده وهو صغير لم يبلغ الفطام، فهل هذا يجوز؟ وهل هو من فسخ الحضانة؟
الجواب
الصبي أمانة لدى الشخص فلا يحل له أن يفرط في أمانته، ولا يحل له أن يسلمه إلى غير مأمون، وهذه الجهات كما جاء في السؤال أهلها غير مأمونين على تربية الأولاد، فالذي يطلب من ذهابه إلى سويسرا هو علاجه من مرض بدني، والذي يخاف هو فساد دينه من أصله، والمرض الديني أعظم من المرض البدني.(4/16)
حكم قضاء الصلوات المتروكة
السؤال
هل نحن مطالبون بقضاء الصلوات الماضية التي تركناها، وهل نترك النوافل في أثناء القضاء؟
الجواب
من ترك الصلاة وهو يشك في وجوبها في فترة من فترات حياته ويرى أنها غير واجبه، أو يشك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أو صدقها أو يشك في المعاد، والبعث بعد الموت فإنه كافر بالإجماع، ولا يجب عليه قضاء شيء مما مضى من صلاته لكن عليه أن يحسن في المستقبل.
وأما من ترك الصلاة تكاسلاً أو تهاوناً فإن مذهب جمهور العلماء أنه لا يكفر بذلك، وذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبد الملك بن حبيب من المالكية إلى أنه يكفر بذلك، وعلى هذا فلا يجب عليه قضاء شيء مما مضى من صلاته.
وأما من لم يتركها ولم يعلم أنه تركها، ولكنه كان لا يتقنها كمن لا يتقن قراءتها أو ركوعها أو سجودها، أو لا يحافظ على طهارته دائماً في كل الأوقات، كمن يتيمم وهو يظن أنه قادر على الوضوء مثلاً أو الغسل أو نحو هذا، فإن الذي يبدو أنه لا يجب عليه القضاء، وهذا إن شاء الله أرجح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم: (حين أتاه المسيء صلاته صلى ركعتين لم يقم فيهما صلبه، فسلم عليه، فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فجعل هذا غير صلاة، فلما أتاه مرة أخرى وقد أعاد ما صنع قال: ارجع فصل فإنك لم تصل، حتى كان في الثالثة فقال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمنيها)، فمع ذلك لم يأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بقضاء شيء مما مضى من صلاته، وهذا صريح في أن ما كان يصليه لا يسمى صلاة، والرسول صلى الله عليه سلم لم يأمره بقضاء شيء منها، فدل هذا على أن ما مضى من صلوات الأعمار لا يجب قضاؤها إذا كان الشخص لم يتأكد أنه تركها يوماً من الأيام.
وأما إن تركها تكاسلاً فتذكر تلك الصلاة، أو تلك الصلوات، أو تذكر أنه في السنة الفلانية أو الشهر الفلاني ترك الصلاة تكاسلاً فإنه يعيد تلك الصلاة ويقضيها، وهو قضاء المنسيات، وهذا تجب المبادرة فيه، وأن يفعل الشخص كل ما استطاع إليه سبيلاً، وإن كثر عليه فإنه يقدمه على صلوات النوافل ويترك صلاة النوافل مطلقاً.
وأما ما يسميه الفقهاء صلاة الأغمار أو صلاة الأعمار وهي: قضاء الصلوات التي لم يتقنها الشخص فيما مضى من شبابه، فلا أرى أن دليله قوي، فلذلك على الشخص أن يحسن في المستقبل، وأن يعلم أن بقية العمر ليس لها ثمن، ولهذا يقول الحكماء: إن عمراً ضيع أوله لجدير أن يحفظ آخره.
ولذلك يقول الحكيم: بقية العمر عندي ما لها ثمن ولو غدا غير محبوب من الزمن يستدرك المرء فيها كل فائتة من الزمان ويمحو السوء بالحسن(4/17)
حكم الأكل من مال من يتكسب بالحرام
السؤال
ما تقول في أكل مال من يتكسب ببيع الرقيق والتصوير -أي: ما يفعله على الثوب- وتارة يأكل السحت؟
الجواب
من يتكسب بالحرام عموماً وكان له كسب غير الحرام فيجوز أكل ما تبرع به، وإن كان ليس له من الكسب إلا الحرام فلا يجوز أكل ما تبرع به، لكن تجوز معاملته بالمقابل، كمن كان بينك وبينه بيع أو معاطاة تأخذ منه وتعطيه فهذا يجوز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عامل اليهود، وقد حكم الله عليهم في كتابه بأنهم يأكلون السحت والربا، ومع ذلك توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في عشرين مداً من الشعير، وكذلك عاملهم على مساقاة خيبر فكانوا يشتغلون بثلث الثمر، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والحال كذلك، واستمر كذلك مدة خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر.(4/18)
ما يباح للزوج النظر إليه من زوجته
السؤال
ما يجوز للرجل أن يرى من زوجته؟
الجواب
يجوز له أن يرى منها كل شيء، لكن من الأفضل والأحسن أن لا يرى ما يستحيا من رؤيته، فهذا يخالف الخلق الحسن والوصف الحميد، ولكن لم يحرم الله تعالى النظر إلى شيء من الزوجة بالنسبة للزوج.(4/19)
نماذج نسائية معاصرة في ميدان الدعوة والتضحية في سبيل الدين
السؤال
ضرب لنا الصحابيات في صدر الإسلام خير مثل في الدعوة إلى الله تعالى، فما هي الأدوار التي لعبتها الداعيات في هذا العصر، نريد نماذج حية، وذلك مع ما أمكن من التفصيل؟
الجواب
إن الله عز وجل يسخر لنصرة دينه والقيام به من شاء من عباده ولا يختص هذا بعصر من العصور، ففي كل عصر ينزل الله تعالى لائحة من عباده يكلفهم بنصرة دينه لا خيار لهم في ذلك، ولو أراد أحد منهم أن يصرف نفسه عن خدمة الدين لما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وفي المقابل نجد آخرين أقوى أجساماً وأفرغ بالاً وأكثر أموالاً فلا ييسر الله لهم خدمة دينهم، بل يجعل في وجوههم العقبات ويصدهم عن نصرة دين الله تعالى، وهذا ما صرح الله به في كتابه في قوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:146]، وكذلك في قول الله تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9]، وفي قوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:46 - 47].
فيضع الله تعالى العراقيل في وجوه من شاء من عباده حين لا يرتضي خدمتهم لدينه، فهم غير مرضيين عنده فلا يرتضي خدمتهم لدينه فيصرفهم بالصوارف، وأما من ارتضاهم لخدمة دينه فيهيئ لهم الأسباب حتى ولو كانوا مشغولين أو كانوا ضعاف الأبدان أو ضعاف العلم أو مقلين من المال أو غير ذلك، فييسر الله لهم أسباب نصرة دينه والبذل في سبيله.
وأذكر في واقعنا المعاصر قصة امرأة عاشت في أول بلد من بلاد الإسلام اشتهر فيه انخلاع المرأة من لباسها وحيائها، وقد عاشت في أعقاب ثورة النساء المشهورة التي قادتها هدى شعراوي أول امرأة خلعت لباس رأسها ورقبتها في العالم الإسلامي، فعاشت هذه المرأة في أعقاب هذه الفترة، ومع ذلك نذرت نفسها لله تعالى فضحت في سبيل الله بكل ما تستطيع، فكانت تجمع الشباب في بيتها ليتعلموا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وتقول: أنا لا أستطيع أن أعلم أحداً ولا أن أتعلم كثيراً مما ينبغي أن أتعلم، ولكنني سأكون خادمة لعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوفر لكم المكان وأوفر لكم ما أستطيع من الغذاء، وأوفر لكم التغطية المناسبة، فأريد أجركم فقط؛ تريد المشاركة بالأجر.
فسعت بهذا، ولكن الله فتح لها كثيراً من العلم، مع أنها امرأة كبيرة في السن، ويسر الله لها تعلم كثير من العلم فقرأت عدة من تفاسير كتاب الله تعالى وأحاطت بما فيها، ثم قرأت عدة من كتب السنة وأدركت كثيراً مما فيها، ثم حاولت أن تعيش لله تعالى فأوذيت في سبيل الله بأنواع الإيذاء، فسجنت مدة سنتين وثمانية أشهر تحت التعذيب، ومكثت ثلاثة أيام بلياليهن لا تجد ماءً ولا مأكلاً، ورميت في بركة من الماء البارد في الشتاء فلما خرجت جلدت خمسمائة سوط وأعيدت إلى الماء البارد فلم ترجع، وصبرت على أنواع الإيذاء في ذات الله، ولكنها خرجت من السجن وهي شامخة الأنف، بطلة من أبطال الإسلام، حامية لثغر من ثغور هذا الدين.
وكذلك: أعرف أخرى في عصرنا هذا ما زالت حية، وكان من أمرها أنها تزوج بها أحد الدعاة إلى الله عز وجل، فسعت في مؤازرته في دعوته متأسية بـ خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فكانت في خدمته ومواساته والسعي معه في نصرة دين الله، فتعرض لبعض الإيذاء وأخذ إلى السجون، فلما أخذ إلى السجون كانت هذه المرأة عند حسن الظن بها، فأخذت كل ما بحوزة زوجها مما تعلم أنه لا يحب أن يطلع عليه أحد فوضعته في أكياس خاصة وأخفتها في أخفى مكان، وأخذت الأولاد واعتنت بهم وعلمتهم ما كان يحب أن يتعلموه، وربتهم على الشهامة وحسن الخلق، وأن يبذلوا نفوسهم نصرة للدين، وأن يكونوا مثل أبيهم مضحين في سبيل الله.
وكثرت الضغوط على هذا الرجل في السجن، حتى إنه عرض له فلم فيه صورة واجهة بيته وكأن امرأة تخرج يدها لأهل الشارع تطلب منهم المساعدة، يريدون أنها زوجته، وكل هذا دبلجة غير صحيحة، وأخرجوا له صورة بعض الأولاد وهم في أرث ملابس وفي أشد حال، يريدون الضغط عليه نفسياً، وقالوا: أنت المسئول عن هؤلاء، فأنت يمكن أن تصبر على ما شئت؛ لكن هؤلاء ما ذنبهم؟ هذه المرأة المسكينة التي أخذتها من بيت أهلها، وهؤلاء الأولاد الذين كنت سبباً في شقائهم عليك أن ترحمهم، ولكن الرجل كان محقاً فصبر وصمد.
ثم أرادوا الذهاب إلى بيته لتفتيشه فجاءوا يطلبون تفتيش البيت فامتنعت المرأة أن تفتح لهم وسبتهم سباً يظهر فيه كثير من الجراءة والشجاعة، ثم أتوا به هو فسلم عليها فعرفت صوته فرحبت به ترحيباً كبيراً وجعلته بطلاً عظيماً وفتحت له الأبواب وأدخلته وقامت في خدمته، ثم قالت: أما هؤلاء الكلاب الذين معك فإني لا أخدمهم فإن شئت فناولهم الضيافة وإلا فدعهم فهم كلاب يخدمون أنفسهم، ثم أدخلت الأولاد في المغتسل فنظفتهم وألبستهم أحسن الملابس وأتت بهم واحداً بعد الآخر يقبلون رأس أبيهم ويقرءون عليه ما حفظوه بعده من القرآن والسنة، ويشجعونه على ما هو فيه، وكل واحد ينشد أنشودة فيها بطولة وشجاعة وهكذا؛ فأدرك الرجل أن وراءه شخصاً يوثق به، وأن وراءه من لا يتضعضع ولا يلين في كل الخطوب، وبذلك استفاد كثيراً وازداد ثباتاً في سجنه، حتى إنه حين رجع إلى السجن قال: لا أبالي حتى ولو دام السجن حتى نهاية العمر فإن خلفي من أثق به.
ولهذا يقول أحد الشعراء في تخليد هذا النوع من النساء: ما غاب من خلّف في الدار من ترعاه في مقامه والمسير كأنها إياه في كل ما تفعل في غيبته تستشير تأتي الذي يرضى وتأبى الذي يأبى عليها دينها والضمير(4/20)
مفهوم الحرية في الإسلام
السؤال
ما هو مفهوم الحريات في الإسلام؟
الجواب
الحريات جمع حرية، والحرية معناها الإذن في التصرف، والإذن في التصرف أنواع عديدة، فمنه: الإذن في التصرف في المال، والإذن في التصرف في السفر ونحو ذلك.
وهذه الحريات متاحة مكفولة، ولكن ليس معنى ذلك الخروج عن العبودية لله تعالى، بل الناس جميعاً عباد خلقهم الله تعالى لحكمة بينها وهي عبادته، وليس من حقوقهم أن يتخلصوا من دين الله تعالى ولا من شرعه ولا مما بينه لهم، فليس هذا من الحرية، بل الحرية أن يكونوا عباداً لله تعالى، وأن يتخلصوا من هواهم ومن طاعة شياطينهم، فهذه هي الحرية الحقيقية.
وكثير من الناس يُعبِّد نفسه للهوى والشيطان بحجة الحرية، ويرى أنه نال حريته حين تخلص من دين الله، والواقع أنه ارتكس في أدران العبودية للمخلوق، حين عجز أن يحقق العبادة لله تعالى التي تشرف صاحبها، وارتكس في أدران العبودية للمخلوق وأصبح عبداً للهوى والشيطان، وعبداً للنفس الأمارة بالسوء، فازدادت عبودياته وازدادت القيود عليه.
ولذلك فإن فكرة الوجودية وهي نظرية سارتر المعروفة، وهو فيلسوف فرنسي، تدعو هذه النظرية إلى تخليص الإنسان من كل الأديان والأخلاق وكل ما كان لديه من تراث، وتدعو أن يخرج الناس عراة في الشوارع كما تخرج الحمر والبهائم، وهذا غاية في السخافة والمذلة والهوان، وهو ليس من الحرية في شيء، إنما هو من العبودية للهوى والشيطان، ولذلك تسمعون اليوم عن عباد الشيطان الذين ظهروا في مصر والكويت وفي غيرها، وهم قوم محضوا أنفسهم لعبادة الشيطان، وسموا أنفسهم عباد الشيطان، واتبعوا أهواءهم وما زينت لهم شياطينهم، فكانوا في غاية العبودية للشياطين ولمن هم أدنى منهم وأقل منزلة وأدنى حالاً، فحين عجزوا عن عبادة الله تعالى عبدوا أنفسهم للشيطان؛ نعوذ بالله.(4/21)
خير نساء النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
ما هو نص الحديث الذي جاء فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (ما عوضني الله خيراً منها)؟
الجواب
نص هذا الحديث أن عائشة رضي الله عنها ذكر عندها الرسول صلى الله عليه وسلم خديجة فأثنى عليها خيراً، فقالت: (يا رسول الله! ما تذكر من عجوز ماتت في سالف الزمن قد عوضك الله خيراً منها، فقال: لا والله ما عوضني الله خيراً منها، فقد رزقني الله منها الولد) وهذا بيان لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما عوضني الله خيراً منها) يقصد في جهة واحدة وهي: أن الله رزقه منها الولد، وليس الحديث نصاً في أن خديجة أفضل النساء، وأفضل أزواج رسول صلى الله عليه وسلم، بل الراجح أن عائشة أفضل منها، ولكن قوله: (لا والله ما عوضني الله خيراً منها فقد رزقني الله منها الولد) مبين أن وجه كونها خيراً أن الله رزقه منها الولد فقط.(4/22)
رسول رسول الله إلى مسيلمة الكذاب
السؤال
ما اسم الرسول الذي أرسل إلى مسيلمة الكذاب، وما اسم والدته، وهل هو الذي قام مسيلمة بتقطيعه إرباً إرباً؟
الجواب
هو حبيب بن زيد، وأمه هي نسيبة رضي الله عنها، فهو الذي أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة فكان إذا سأله: هل تشهد أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ يقول: نعم.
فإذا قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصم لا أسمع.(4/23)
حكم صبغ شعر الرأس
السؤال
ما حكم صبغ الرأس باللون الأسود أو بالألوان كلها؟
الجواب
صبغ الرأس باللون الأسود محرم على الراجح، لما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته جيء بـ أبي قحافة كأن رأسه ثغامة، فقال: (غيروا عنه هذا الشيب؛ فإن شدة بياض الشيب من الشيطان، وجنبوه السواد) فهذا نهي من الرسول صلى الله عليه وسلم عن السواد.
وقد ورد في هذا أحاديث أخرى منها: ما أخرجه ابن ماجة وأحمد في المسند أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أقواماً يأتون في آخر الزمان يسودون لحاهم حتى تكون كحواصل الطير، لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها)، فهذا يدلنا على حرمة الصبغ بالسواد، ولذلك يحرم الصبغ بالسواد مطلقاً للرجال والنساء.
أما الألوان الأخرى فإن تغيير الشيب بها من السنة كما قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (غيروا عنه هذا الشيب فإن شدة بياض الشيب من الشيطان)، وذلك ينبغي أن يكون بالحناء كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بالكتم، والكتم يشبه الحناء إلا أن في لونه غبرة، وهو صبغ أحمر، وكذلك غيرهما من الألوان فكلها يجوز تغيير الشيب بها.
أما صبغ الشعر الأسود ليتغير لونه من أجل التحسن فقط فإن هذا لا يجوز؛ لأنه من تغيير خلق الله، وقد جاء في حديث ابن مسعود في صحيح البخاري أنه قال: (لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله)، مالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله، فجاءته امرأة وقالت: لقد قرأت المصحف من الدفة إلى الدفة فما وجدت فيه لعن من تقول، فقال: إن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأت قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
ولذلك فتغيير لون الشعر من أجل محاكاة جنس من البشر كمن يصبغه بالصبغ الأصفر الذهبي ليكون مثل الأوروبيين، أو نحو ذلك محرم؛ لأنه مثل التفلج للحسن، وهذا تغيير لخلق الله تعالى بمحرم.(4/24)
حكم المسح على الرأس للوضوء مع وجود الحكامة
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تتوضأ وفي رأسها آلة حكامة، أو لابد أن تنزعها؟
الجواب
هذه الحكامة إذا كانت صغيرة مثل الأصبع مثلاً فإنه يجوز أن تمسح على رأسها في الوضوء وأن لا تنزعها، وإن كانت أكبر من ذلك فإن الأحوط أن تنزعها، وهذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، وسبب هذا الخلاف الاختلاف في تفسير قول الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6]: هل الباء للتبعيض أو الإلصاق، فإن كانت الباء للإلصاق اقتضى هذا مسح جميع الرأس، وإن كانت الباء للتبعيض فإنها مقتضية لوجوب مسح بعض الرأس فقط، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الناصية وكمل على العمامة، لكن هذا إنما كان لضرر ومرض، والحكّامة لا تشبه هذا، فإن كانت كبيرة تغطي جزءاً كبيراً من الرأس فإن الأحوط أن تنزعها المرأة وأن تمسح على رأسها مباشرة، وإن كانت صغيرة كالإصبع فيجوز المسح على الرأس وتركها فيه؛ لأن العبرة بالأغلب.(4/25)
حكم خلوة المرأة مع السائق في السيارة
السؤال
ما حكم خلوة المرأة مع السائق، وهل هي خلوة أم لا إذا علمت أن الطريق مزدحم بالمارة؟
الجواب
ركوب المرأة في سيارة مع السائق إذا كانت في الخلف وليست قريبة منه، وكان هذا في وقت ليس وقت خلو الشوارع من الناس -كآخر الليل مثلاً- لا يعتبر خلوة، وأما ركوبها بجنبه فلا ينبغي مطلقاً، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تحققن الطريق)، فكان نساء المؤمنات -أي: نساء الصحابة- إذا سرن في الطريق ألصقن أعضادهن بالحيطان امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهاهن أن يحققن الطريق، وكذلك أمرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطفن من وراء الرجال، وكذلك جاء عنه: (باعدوا بين أنفاس الرجال وأنفاس النساء)، لكن إذا كانت تركب في الخلف وكان الوقت ليس وقت ريبة فلا يعتبر هذا خلوة.(4/26)
حكم استماع المرأة للأناشيد الإسلامية
السؤال
ما حكم استماع المرأة للأناشيد الإسلامية إذا علمت أنها تجد وجداً؟
الجواب
استماع المرأة للأناشيد الإسلامية جائز مطلقاً، وقد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عنه في الصحيحين: (أنه في سفر من أسفاره أمر أنجشة وكان عبداً حبشياً حسن الصوت أن ينشد، فأنشد حتى حرك الإبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رفقاً بالقوارير يا أنجشة) ويقصد بالقوارير النساء، وكذلك ثبت عنه في الصحيحين: (أنه أمر عامر بن الأكوع أن ينشد، فأنشد حتى حرك الإبل في غزوة خيبر) وكان معه صلى الله عليه وسلم عدد كبير من النساء.
فسماع النساء للأناشيد لا حرج فيه، لكن لا ينبغي ولا يجوز أن تنشد المرأة فيسمع الرجال صوت نشيدها، إلا إذا كانت صغيرة لم تبلغ بعد فيجوز؛ لما ثبت في صحيح البخاري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى قوماً من الأنصار، فأتوا بفتيات ينشدن فكان مما قلن: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعي هذه، دعي هذه) فأنكر عليها هذا؛ لأن فيه تعدياً على حقوق الألوهية حين ذهبت إلى أنه يعلم علم الغيب، وليس ذلك صحيحاً.(4/27)
ليس من الخلوة المحرمة انفراد المرأة مع اجتماع الرجال
السؤال
امرأة معها مجموعة من الرجال ليس فيهم أحد من محارمها، هل يعتبر ذلك خلوة أم لا؟
الجواب
لا، ليس هذا بخلوة، لكن لا ينبغي إذا أدى إلى الريبة، وما لم يؤد إلى ريبة فلا حرج فيه، فقد ثبت في صحيح البخاري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج بـ زينب بنت جحش رضي الله عنها تخلف بعض الرجال يتحدثون في بيتها -ثلاثة رجال- فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع فوجدهم يتحدثون، ثم خرج فرجع فوجدهم يتحدثون، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ} [الأحزاب:53]).(4/28)
حكم زيارة النساء للقبور
السؤال
ما حكم زيارة القبور للنساء إذا علمت أنها تزور والديها وتسافر من مكان بعيد؟
الجواب
زيارة القبور نهى عنها الرسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر الإسلام حين تكاثر الناس بموتاهم وكانوا يعدونهم فيفخرون بهم، ثم بعد ذلك بعد أن أنزلت سورة: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2]، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة)، وفي رواية: (فزوروها ولا تقولوا هجراً)، والهجر الكلام القبيح، وهذا الحديث عام في الرجال والنساء، والدليل على ذلك ما ثبت من حديث عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تقول إذا زارت الأموات؟ فعلمها أن تقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، آمن الله روعتكم، وآنس وحشتكم، وجعل الجنة موعداً بيننا وبينكم، يرحم الله المتقدمين منا والمستأخرين).
وكذلك فإن عائشة رضي الله عنها فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عندها، فخرجت تبحث عنه فوجدته واقفاً تلقاء رءوس المقبرة وهو يدعو لهم، فوقفت خلفه ودعت بما دعا به، ثم رجعت فسبقته، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها خرجت تبحث عنه، فسألها فقصت عليه الخبر.
وعلى هذا فإن المرأة إذا كان بقربها أموات فإنه لا حرج في زيارتها لهم لكن لا تقف على كل قبر، بل تقف أمام المقبرة وتتذكر الآخرة وتدعو لهم بما علم الرسول صلى الله عليه وسلم عائشة أن تدعو به، وحينئذ تستفيد المرأة من ثلاثة أوجه ينبغي ترتيبها: الوجه الأول: أن تتذكر أن القبر حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة، وأن صاحبه قد انقطع خبره عن أهل الدنيا، وأن أهل القبور مسجونون في قبورهم، فهم أسارى ذنوب لا ينفكون، وأهل قرب لا يتزاورون، وأنهم هنا في هذا الحال إما أن يكونوا في روضة من رياض الجنة أو في حفرة من حفر النار، والقبر أول منازل الآخرة وهو أعظم من كل ما قبله، وأعظم منه كل ما بعده، هذه الموعظة الأولى.
الموعظة الثانية: أن تتذكر حال هؤلاء الذين دفنوا في هذه القبور فانقطعت أخبارهم عن الناس، وقد كانوا يظن أنهم من المؤثرين، ومن الذين يوثق بهم وتوكل إليهم الأعمال والأمور، ومع ذلك أصبح أهلوهم يتصرفون في أمتعتهم من بعدهم، فالشخص الذي كان شحيحاً بخيلاً أصبح ماله يتقاسمه الناس، والشخص الذي كان يحرص على أسراره وأموره المختصة به أصبحت صناديقه مقسمة بين الناس ومفاتيحه في أيديهم، وهكذا فملابسه الخاصة يلبسها من سواه، قد انتقل عن هذه الدنيا فأصبح بعد أن كان يخاف من كل شيء في أوحش المنازل وأشدها خوفاً، كما قال الشاعر يرثي زوجته: أنى حللت وكنت جد فروقة بلداً يمر به الشجاع فيفزع ولقد تركت صغيرة مرحومة لم تدر ما جزع عليك فتجزع فإذا سمعت أنينها في ليلها طفقت عليك شئون عيني تدمع فهنا يقول: (أنى حللت وكنت جد فروقة بلداً يمر به الشجاع فيفزع) (كانت جد فروقة) أي: تحذر أن تبقى وحدها في الغرفة، تحذر من الظلام، تحذر من كل الأمور، ومع ذلك أصبحت تعيش في هذه الحفرة الموحشة.
فهذا هو القسم الثاني من الموعظة التي تحصل لزائر القبور، وهذا القسم هو الذي حصل في أيام معاوية رضي الله عنه؛ فإن رجلاً جاء إلى الشام فرأى جنازة تحمل، فخرج مع أهلها، فلما دفنوها وقف يبكي، وأنشد قول الشاعر: يا قلب إنك في أسماء مغرور فاذكر وهل ينفعنك اليوم تذكير فبينما المرء في الأحياء مغتبط إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير يبكي الغريب عليه ليس يعرفه وذو قرابته في الحي مسرور فقال له رجل ممن كان يحمل الجنازة: أتعرف قائل هذه الأبيات؟ فقال: لا والله.
فقال: قائلها صاحب هذا القبر وأنت الغريب الذي يبكي عليه، وهو الذي كان مغبوطاً في الأحياء، فإذا هو في الرمس تعفوه الأعاصير، فكان هذا من المواعظ العجيبة.
الموعظة الثالثة: أن يتذكر الشخص حال هذا الميت بعد انتقاله من السرور والحبور إلى القبور، يتذكر حال أهل هذا الميت بعد انتقاله عنهم، فإنه كان ينظر إليهم على أنهم يعيشون في كنفه، وأنه هو الذي يتولى أمورهم ويقوم بمصالحهم، وقد انتقل عنهم فلم يتغير شيء في حياتهم، وكانوا يظنون أنه المدبر والمنفق عليهم، وأنه لا يأتيهم رزق إلا من قبله، فانتقل فلم يتغير شيء من أمورهم البتة، كما قال الشاعر: تقلبت الدنيا كأن ليس حادث وما اختل من صرف الزمان نظام أي: لم يختل أي شيء مما كان، وهذا يدل على أن الله وحده هو المدبر الحي القيوم الخالق الرازق.
بعد هذا تأتي موعظة الختام وهي: أن يتذكر الزائر للقبور أن أحسن أحواله أن يدفن كما دفنوا، وأن يموت بين المسلمين فيصلى عليه وينقطع خبره، فلا يصل منه اتصال هاتفي ولا رسالة ولا أي خبر إلى أهل الدنيا، فهذه الموعظة الأخيرة، وهذا لا يقتضي التجول بين الأجداث والمرور عليها والوقوف عليها والجلوس عليها، فهذه أمور محظورة شرعاً.
وإنما تكون زيارة القبور الشرعية بأن يقف الشخص أمام القبور حتى يراها ويتعظ بحال أهلها ولا ينبغي أن يتدخل بينهم، وأن يمر على القبور ويجلس على بعضها، فقد جاء في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يجلس أحدكم على جمر فيحرق ثوبه فيصل إلى جسده، خير له من أن يجلس على قبر).
وكذلك المرور على القبور والخروج من فوقها كل هذا مما لا ينبغي، فعلى الشخص أن يقف لقصد الموعظة وقصد الدعاء، فأصحاب القبور إذا كانوا مؤمنين ينتفعون بدعاء من دعا لهم، والزائر هو المنتفع بهذه المواعظ التي ذكرناها، وليس بينه وبين الأموات أية صلة غير هذا، ولا يمكن أن يستفيد منهم أي منفعة ولا أن يوصل إليهم أي خبر، ولا أن يعرف من أمورهم أي شيء، إنما يستفيد فقط من هذه المواعظ.(4/29)
حكم السفر لزيارة الأموات
السؤال
ما حكم السفر بقصد زيارة الأموات حتى من بعيد؟
الجواب
السفر إلى الأموات لقصد الزيارة محل خلاف بين أهل العلم، والذي يبدو لي أنه إذا كان للوالدين مثلاً، أو كان الشخص يجد قسوة شديدة في قلبه ويحتاج إلى أن يتذكر أنه سيدفن في هذه التربة على الغالب وإلا فهو لا يدري أين يدفن: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]، فإذا كان كذلك فلا أرى بأساً في خروجه مسافراً لهذا الغرض، لكن ينبغي أن ينوي بذلك سياحة في سبيل الله تعالى وتفكراً في عجائب خلق الله تعالى، وموعظة، وأن لا يطلب شيئاً -من هذه الزيارة- من الأمور التي يسافر لها الناس، إذ كثير من الناس يسافرون إلى أصحاب القبور والذين لا يدرى هل هم في جنة أو في نار ويطلبون منهم ما لا يقدرون عليه في حياتهم فكيف بهم بعد موتهم؟ والله تعالى يقول: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14].
ولو قال قائل: إنه ثبت مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم للأموات وسماعهم لكلامه، فنقول: قد جاء في كتاب الله تعالى قول الله مخاطباً محمداً صلى الله عليه وسلم الذي هو خيرة الله في خلقه: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل:80]، وجاء فيه قول الله تعالى: {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} [الأنبياء:45]، وجاء فيه قول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:22 - 23]، فكل هذا يقتضي عدم الاتصال بين الأحياء والأموات نهائياً.
وكذلك قول الله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]، {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]، (من ورائهم برزخ)، أي: من دونهم حاجز يحول بينهم وبين الحياة الدنيا وما فيها إلى يوم يبعثون: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:100 - 103].
وأما الاستدلال بأن الرسول صلى الله عليه وسلم خاطب أهل القليب يوم بدر، فهذا ليس حجة في الموضوع؛ لأنه إنما علم عن طريق الوحي أنهم يسمعون، وأن هذا من تعذيبهم، وهو تعذيب لهم لا مسرة تدخل عليهم، فهو مما يزيد عذابهم، ولذلك قال: (ما أنتم بأسمع منهم بما أقول)، فهذا من جنس عذابهم ولا يستدل به في النعيم.
وعلى كل فحتى لو قدر أن الأموات يسمعون فإنهم لا ينتفعون بسماع شيء مما يصل إليهم أبداً، وهذا محل إجماع: أنهم لا ينتفعون بالسماع.
لكن هل يسمعون أم لا؟ هذا محل خلاف.
وهل ينتفعون بالسماع؟ لم يقل أحد بانتفاعهم به، فلا ينتفعون بشيء مما يسمعون.(4/30)
حكم قص شعر النساء
السؤال
ما حكم قص الشعر للنساء إذا علمت أنه للزينة وليس لضرورة؟
الجواب
الأخذ من شعر المرأة إذا كان لزينة وكانت ستستره ولا تبديه ولم يكن بقصد التشبه بالكافرات أو الفاجرات فلا حرج فيه، وقد كان أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذن من رءوسهن، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم في كتاب الحيض أن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يأخذن من رءوسهن حتى تصير كالوفرة، والوفرة هي ما جاوزت شحمة الأذنين من شعر الرأس.(4/31)
خشية الله
غرق الكثير من المسلمين اليوم في محيط الغفلات المتلاطم، فضيعوا الواجبات، واجترءوا على المحرمات، ونسوا الله والدار الآخرة، ولم ينج من الغرق إلا من ركب قوارب النجاة التي تصنعها الخشية من الله ومراقبته وذكره، فالخائف من الله قوي الإيمان في كل مواجهة مع الشيطان، وثيق الصلة بربه الكريم الرحمن، لا تلقاه إلا حيث أراد الله، لأنه موقن أن الله معه يسمعه ويراه، ومن كان هذا حاله فإن الله في الدنيا مولاه، والجنة في الآخرة مأواه.(5/1)
خشية الله ناتجة عن العلم به
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإن من قيم الإيمان التي ينبغي أن يتحلى بها كل مؤمن: خشية الله سبحانه وتعالى، فهو أهل للخشية، ومن حقوقه على عباده أن يخافوه وأن لا يشركوا به شيئاً، وذلك مقتض لتمام معرفته، فمن عرف الله تعالى خافه، وقد بين الله سبحانه وتعالى سر هذه الخشية، فربطه بالعلم، فقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، والمقصود بذلك معرفة الله، فمن كان أعرف بالله تعالى كان له أخشى.
ومن هنا قال أهل العلم: ما عصي الله إلا عن جهل به أو بشرعه، فالمعصية لا تكون إلا عن جهل: إما عن جهل بالله تعالى، فتجعل الناس يتجاسرون على الله لجهلهم به، فيأمنون مكره سبحانه وتعالى، ويجهلون ما لديه من الأخذ الوبيل والأخذ السريع، فيكون ذلك سبباً لتجاسرهم على المعصية.
وإما لجهل بشرعه بأن لا يعرف الإنسان أن الشارع قد حرم هذا الأمر أو أوجبه، فيهون عليه ذلك الأمر لظنه أن الشارع لم يعلق به تكليفاً.(5/2)
أمارات عدم الخشية
فلا بد إذاً من إحداث هذه الخشية لدى الإنسان، وهذه الخشية لها أمارات، فمن أماراتها:(5/3)
من أمارات عدم الخشية من الله: الإسراع إلى المعاصي
كذلك من علامات عدم الخشية، الإسراع إلى المعصية: فالإنسان الذي يجد نفسه مطيعة لداعي الشهوة، ومقبلة على المعصية، ليس بينها وبينها حاجز ولا حجاب، بل كلما لاحت له بروق المعاصي وجد نفسه منقادة إليها منجذبة نحوها، فهذا دليل على عدم خشيته لله، ولو كان يخشى الله تعالى لخاف معصيته، وقد قال الشافعي رحمه الله: تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا محال في القياس شنيع لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع فلذلك إذا كان الإنسان منساقاً وراء الشهوة، لا يجد حاجزاً في نفسه يحول بينه وبين المعصية، فهذا دليل على أنه لا يخاف الله تعالى.(5/4)
من أمارات عدم الخشية من الله: ألا يزداد الإنسان علماً وتثبتاً
كذلك من علامات عدم الخشية أو نقصها، ألا يزداد الإنسان علماً، وأن لا يحرص على التثبت في الأمور وفي معرفة أحكامها: فالإنسان المعرض عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، يكون قد تعلم عندما كان صغيراً تحت كنف والديه، لكن بعد كبره وبلوغه، وبعد أن أصبح مسئول نفسه، لم يزدد علماً ولم يقبل على تعلم شيء، كان يدرس في أيام الصبا في الألواح، وكان والداه يعلمانه، فلما أصبح مسئولاً عن نفسه، انقطع عن تعلم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه بالكلية، وهذا دليل على عدم خشيته لله تعالى.(5/5)
من أمارات عدم الخشية من الله: عدم الإحساس بلذة المناجاة لله سبحانه
كذلك من أمارات عدم الخشية، عدم إحساس الإنسان بلذة المناجاة والتقريب، وعدم أنسه بالله تعالى: فالإنسان المحب لله خائف منه، يأنس به ويحب الاتصال به، ويأنس للخلوة إذا خلا بربه: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، يقبل على الله بخلواته، ويحمد الله هذا على هذا الوقت الذي انقطع فيه عن المخلوقين، وانفرد فيه لخدمة الخالق سبحانه وتعالى، فلا يجد وحشة في ذلك الانقطاع، وإذا انقطع عنه الناس جميعاً وهجروه كان ذلك نعمة لديه وإحساساً بالتقريب، فيقبل على الله سبحانه وتعالى بقلب سليم، ويجد لذة للتقرب والدعاء والذكر والشكر وحسن العبادة، ولا يمكن أن يجدها الإنسان ما دام منغمساً غارقاً في مخالطة الناس وأمور هذه الدنيا ومشاغلها؛ ولهذا يتمثل من يجد ذلك صادقاً بقول الشاعر: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب(5/6)
من أمارات عدم الخشية من الله: الكبر والعجب
وكذلك من علامات عدم الخشية: تصرف الإنسان بالكبرياء والبطر والعجب: الإنسان الذي يخشى الله سبحانه وتعالى لا يكون في قلبه ذرة من عجب، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، فالكبر هو الذي أخرج إبليس من رحمة الله تعالى، وأوصله إلى لعنة الله عز وجل، ومن كان يخشى الله لا يمكن أن يستكبر ولا أن يعجب بنفسه، لعلمه بسرعة أخذ الله سبحانه وتعالى وعاجل مكره وعقوبته؛ ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى قص علينا قصة قارون الذي آتاه الله من أنواع المال والتمكين والجاه والسلطان ما آتاه؛ ولكنه كفر بنعمة الله، ولم يشكر هذه النعمة لله تعالى وقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]؛ قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78]، وبيَّن الله تعالى عاقبته في هذه الحياة، فقال: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:81 - 82].
ثم بين الله النتيجة الأخروية المترتبة على ذلك فقال: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، إذا رأينا الإنسان يتجاسر على الظلم، ويتجاسر على الطغيان، فهذا دليل على عدم خشيته؛ لأنه انشغل قلبه بما كبر في نفسه من أمور الدنيا من سلطانه أو جاهه أو ماله أو مكانته، فأدى ذلك به إلى هذا المستوى، وقد أخرج البخاري في الصحيح عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: (كنت أضرب غلاماً لي بالطريق، فسمعت صوتاً من ورائي يقول: اعلم أبا مسعود، فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، قلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله، قال: أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار).
لا بد أن يتذكر الإنسان -إذا تذكر قوته وبطشه وأراد أن يوقع بالآخرين- قوة أخذ الله سبحانه وتعالى وسريع عقوبته، وأنه إن استطاع أن يعذب إنساناً في الدنيا بضربه أو شتم أو كلام قبيح، فإنه لا يقدر على شيء من عذاب الآخرة، فالله تعالى هو الذي بيده عذاب الآخرة الذي لا انقطاع له، فهو الذي يستحق أن يخشى وحده.(5/7)
من أمارات عدم الخشية من الله: عدم ازدياد الإنسان يقيناً
كذلك من أمارات عدم الخشية: عدم ازدياد الإنسان يقيناً: فالإنسان الذي رباه أبواه على أصل الإيمان، ثم بقي كذلك لا يزداد إيمانه ولا يقينه ولا تزداد السكينة في قلبه، بل هو على ما تعود من العقيدة في صباه، وعلى ما عوده والداه بمجرد التلقين في صباه أن الله واحد، وأنه إليه ترجع الأمور، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رسول، وأن القرآن كلام الله، فعرف هذه الأمور بالتقليد في صباه، ولم يزدد بعد ذلك إيمانا ويقيناً، ولم يزدد من الله قرباً ولا فهماً عنه، هذا دليل على عدم خشيته لله، ولو كان ممن يخشى الله لزادته الخشية قرباً، فقد قال الله تعالى فيما رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة).(5/8)
من أمارات عدم الخشية من الله: غفلة العبد
أولاً: عدم الغفلة.
بأن يكون الإنسان منتبهاً لما يحيط به من الآيات، فالإنسان في هذه الحياة يحيط به كثير من الآيات البينات الدالة على قدرة الله ووحدانيته وتصريفه للكون: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد ومن آيات الله سبحانه وتعالى هذا الليل وهذا النهار، وهذه الأرواح، ومن آياته الموت والحياة، ومن آياته تصريف الريح، ومن آياته إنزال المطر، ومن آياته إنبات النبات، ومن آياته الأمراض وشفاؤها، ومن آياته الأرزاق وتقسيمها، كل ذلك من آيات الله البينات التي تدل على تمام تصرفه وقدرته وإرادته، وأنه المدبر لهذا الكون وحده، فمن جهل هذه الآيات أو لم ينتبه لها، ولم ينظر إلى ما يحيط به من عجائب هذا الكون كان من الذين لا يخافون الله سبحانه وتعالى ولا يخشونه حق خشيته.
وهذه الغفلة من صفات المنافقين، ويكتبها الله في قلوب من لا يرتضيهم من عباده، فيشغلهم بأمور الدنيا الفانية، فيبقون كالذي ينظر إلى قفاه وهو يصيح، فيتخبط في الظلام ولا يدري أن يضع قدمه، فكل متصف بالغفلة هو كالذي ينظر إلى الوراء وهو يظن أنه يسير إلى الإمام؛ لأنه لا يتدبر ما يحيط به، ولا ينتبه لما هو فيه، وهو في خطر داهم، وفي خطر عظيم، لما يواجهه من الغفلة عن الله سبحانه وتعالى وأوامره ونواهيه، وما من ساعة تمر ولا وقت ولو كان يسيراً، إلا ولله فيه خطاب يوجهه إلى عباده، فالغفلة عن هذا الخطاب، هي غفلة عن ذكر الله سبحانه وتعالى، واشتغال عنه بما دونه.
وكذلك من علامات الغفلة: عدم إتقان العبادة: فالإنسان الذي لا يتقن العبادة إذا صلى لا يحضر في صلاته إلا لنشوة ضئيلة، ويأتيها بالتكاسل والتهاون، ولا يتقن طهارتها ولا أداءها، ولا ينتبه لما يقرأ فيها، ولا ينتبه لمعنى الركوع والانحناء، ولا معنى السجود بين يدي الله والتذلل، ولا لمعنى الدعاء، ولا لمعنى ما يقرؤه فيها من القرآن، كل هذا دليل على غفلته؛ ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه قال: (ولا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه، وقال: يا ابن آدم! إلام تلتفت، أنا خير مما التفت إليه؟)، لذلك فإن من علامات الغفلة أن يلتفت الإنسان في الصلاة، وأن يلتفت قلبه فيها أيضاً إلى أمور الدنيا، وأن يشتغل بأي شيء من المشاغل عن مناجاة الله عز وجل.
كذلك من علامات الغفلة: قسوة القلب وعدم الرحمة: فالإنسان الذي لا يرحم لا يرحمه الله تعالى، وليس أهلاً للرحمة، ورحمة الله واسعة قد وسعت السماوات السبع والأرضين السبع، وقال فيها: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، ولكنّ كثيراً من الناس لا يستحقها، ولا تسعه رحمة الله بل هو مطرود عنها، نسأل الله السلامة والعافية؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لا يرَحم لا يُرحم)، فالذي لا يرحم ولا يجد في قلبه رقة، ولا إقبالاً على الخير؛ لا يمكن أن يكون أهلاً لرحمة الله سبحانه وتعالى، وهذا دليل على عدم خشيته لله.(5/9)
علامات الخشية(5/10)
أن يجد الإنسان بينه وبين المعصية حاجزاً
كذلك من علامات الخشية: أن يجد الإنسان حاجزاً يحجزه عن المعصية، ويستمر معه هذا الحاجز في كل أحيانه وأحواله؛ في حال قوته وفي حال ضعفه، في حال سقمه وفي حال صحته، في حال غناه وفي حال فقره، في حال خلوته وحده وفي حال اجتماعه مع الناس، فهو يخاف الله على كل حال، ويعلم أن أخذ الله إذا جاء يمكن أن يأتي في وقت الضحى، ويمكن أن يأتي في وقت الليل كما قال الله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97 - 99]، وبذلك هو يخاف مكر الله سبحانه وتعالى وأخذه، فلا يغفل عنه ولا يتجاسر على معصيته؛ لأن بينه وبين المعصية حاجزاً يمنعه منها.
وهذا الحاجز الناس فيه على أربعة أقسام: القسم الأول: بينهم وبين المعصية حاجز كالجبل، فلا يسمعون صوتها، ولا يجدون ريحها، ولا يرون ألوانها، ولا يستمعون إلى أصواتها، فلا يتأثرون بها ولا يحبونها، ولا تتعلق بها نفوسهم، فلا تحب أعينهم النظر إلى الحرام، ولا تحب آذانهم سماع الحرام، ولا تحب قلوبهم التعلق بالحرام، فبينهم وبين الحرام حاجز عظيم، وهؤلاء حجب الله جوارحهم من المعصية، ووفقهم لاستغلالها في الطاعة.
والنوع الثاني: الحاجز بينهم وبين المعصية كالزجاج، لا يستطيعون اختراقه؛ ولكن مع ذلك يرون ألوان المعصية وحركاتها، وهؤلاء أقل شأناً من القسم الأول.
ودونهم قوم آخرون: الحاجز بينهم وبين المعصية كالماء، يمكن أن يخترقوه بصعوبة، وهؤلاء أقل منزلة أيضاً من القسم السابق.
والقسم الرابع: الحاجز بينهم وبين المعصية كالهواء، فهم مع المعصية في لحاف واحد، كلما عرضت معصية إذا هم من أهلها، نسأل الله السلامة والعافية، وهؤلاء يخشى عليهم أن ينادى عليهم يوم القيامة من أبواب جنهم السبعة، بأن توجد أسماؤهم في كل باب من أبواب جهنم، فأبوابها سبعة: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر:44]، وهذا الجزء هم أهل تلك الكبيرة التي كتب الله لها ذلك الباب من الأبواب، فباب الشرك، وباب الزنا، وباب شرب الخمر والمخدرات، وباب عقوق الأمهات والآباء، وباب قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وباب الكذب إلخ، هذه أبواب جهنم، فالذين لا يخشون الله تعالى، قد يقعون في كل هذه المعاصي، فتدون أسماؤهم في كل باب من أبواب جهنم، نسأل الله السلامة والعافية.
والذين يخشون الله تعالى: يجدون حاجزاً عظيماً بينهم وبين هذه المعاصي، فهي أثقل عليهم من حمل الجبال، لو كلف أحدهم أن يفعل معصية لفكر ألف تفكير قبل أن يقدم عليها، بخلاف الذين تسهل عليهم من الذين لا يخشون الله، فلو أرادوا الطاعة لفكروا ألف تفكير قبل أن يفعلوها، أما المعصية فهي أسهل عليهم من شرب الماء، نسأل الله السلامة والعافية.(5/11)
اللجوء إلى الله في كل أمر
كذلك من علامات الخشية، أن لا يشعر الإنسان بالاستغناء عن الله، بل يشعر باللجأ إليه في كل الأحيان، فالإنسان الذي نراه يمد أيدي الضراعة إلى الله في كل أحيانه، ويستند إليه في كل وقته، ويستغني به عمن سواه، ويتذكر قول الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]، ويحرص على إحسان العلاقة بالله سبحانه وتعالى، ولا يهمه ما سوى ذلك إذا رضي الله عنه، لا يضره ما لم يتحقق من شئونه، فهذا الإنسان قطعاً يخاف الله؛ لأنه أحب الله وأحب رضوانه وتعلق به، وكره معصيته ومخالفته لعلمه ما يترتب على ذلك من العقاب الشديد.
ومن آثار هذا محبة الإنسان لأعمال الخير التي هي الجنة، وكراهته لأعمال الشر التي هي النار، هذا دليل على خشيته لله.
فهذه الأعمال أعمال الخير: الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، والصدقة، وقراءة القرآن، وتعلم العلم والدعوة إليه، هذه هي الجنة، أي: أبواب الجنة، فمن أحب الجنة فلا يمكن أن يرد إليها إلا من هذه الأبواب، فليس للجنة إلا هذه الأبواب.
فمن أحب أن يكون من أهل الجنة عليه أن يلزم هذه الأبواب، عليه أن يجيب نداء الله إذا سمع المنادي ينادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح، أن يبادر للصدقة في أول المتصدقين في أول كل يوم، أن يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، أن يكون من المنقطعين عن المعاصي في كل الأوقات، وبهذا فعلاً يكون من المقبلين على الله سبحانه وتعالى، والجادين في طلب الجنة.
أما الذين يتمنون الأماني ويظنون أن كل إنسان منهم سيؤتى صحفاً منشرة، فقد سبقهم المشركون إلى ذلك، فكل إنسان من المشركين واليهود والنصارى يتمنى دخول الجنة، لكن هيهات هيهات، ليست الجنة لأولئك ومن على شاكلتهم، بل بينهم وبين الجنة حاجز عظيم: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد:13 - 15]، فليست محبة الجنة بمجرد التمني، وليس الخوف من النار كذلك بمجرد التمني، ولكن من أحب الجنة أحب عملها وبادر إليه، ومن خاف النار خاف عملها وكرهه وأدبر عنه.(5/12)
عدم الغفلة
بعد معرفتنا بعضاً من علامات عدم الخشية نعلم أن ضدها دليل على الخشية فالإنسان الذي يخشى الله هو مشغولٌ بالله لا يرغد ولا يستغرق في شيء من أمر الدنيا، وهو ينتظر منادي الله في كل يوم، وهو مستعد لأن ينتقل إلى الدار الآخرة هذا اليوم؛ لأنه يعلم أنه بالإمكان أن يأتي أجله في هذا اليوم، فهو ينتظر ملك الموت في كل ساعة: {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف:185].
ينتظر منادي الله سبحانه وتعالى، فإذا ناداه لبى بنفس مطمئنة، ليقال له: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]، لا يكون من الغافلين، بل ينام على ذكر الله، وعند الاستيقاظ يستيقظ على ذكر الله، وعند الدخول إلى البيت يدخل على ذكر الله، وعند الخروج يخرج على ذكر الله، وعند الأكل يأكل على ذكر الله، وعند الانتهاء ينتهي على ذكر الله، وعند الشرب كذلك وهكذا في كل أحواله، فهو منتبه غير غافل عن الله سبحانه وتعالى.
كذلك عدم الغفلة عن الآيات، فمن علامات الخشية: أن يكون الإنسان منتبهاً لهذا الكون، وما فيه من الآيات والعجائب، فقد قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:190 - 194]، فهؤلاء يخافون الله تعالى ويخشونه؛ فلذلك أجابهم الله تعالى واستجاب دعاءهم وحقق رجاءهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنزل عليّ الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتدبرها، فقرأ خواتيم سورة آل عمران -وهي هذه الآيات-)، فويل لمن قرأها ولم يتدبرها! فالذين إذا غارت النجوم لا يستشعرون بقاء الله سبحانه وتعالى ودوامه، وإذا طلع الفجر لا يتذكرون نعمة الله بالإصباح، فهو: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} [الأنعام:96]، وإذا طلعت الشمس لم تذكرهم بالله، وإذا غربت لم تذكرهم بالله، هؤلاء هم الغافلون، والذين يتذكرون الله في كل تلك الأحيان، لا يمكن أن يكونوا إلا من الذين يخشون الله تعالى؛ لأنهم يرون هذه نذراً ورسلاً من عند الله.
إذا طلعت الشمس فهي منذر الله سبحانه وتعالى يذكر باقتراب الأجل، ويذكر بأمر الله تعالى، وإذا غربت فهي منذر الله يذكر بدنو الأجل وباقتراب الآخرة، وإذا طلع الفجر كذلك، وهكذا في كل أمر يتجدد من آيات الله ومن عجائب هذا الكون، وقد قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].(5/13)
آثار الخشية من الله عز وجل(5/14)
من آثار الخشية: البركة في العلم
كذلك من آثار هذه الخشية: البركة في العلم: فالإنسان لم يؤت من العلم إلا قليلاً، كما قال الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، لكن إذا خشي الله سبحانه وتعالى وأناب إليه، وكانت الآخرة جل همه، ولم تكن الدنيا جل همه ولا مبلغ علمه، وأقبل على الله سبحانه وتعالى؛ فسيبارك له في اليسير الذي معه من العلم؛ لأن فائدة العلم العمل، وسيوفق الخاشي لله سبحانه وتعالى للعمل بما تعلم، فيكون هذا العلم الذي ناله -ولو كان يسيراً- مباركاً فيه؛ ولذلك يستطيع استغلال الأوقات فيما هو أرشد وأقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
فالإنسان العالم هو بمثابة التاجر يريد الربح، فهو يبحث عن أرباح الصفقات مع الله سبحانه وتعالى بكل دقيقة أو ثانية يعيشها في هذه الحياة، يبحث عن أفضل ما تصرف فيه الأوقات؛ فيصرفها فيه؛ ولذلك قال أحمد: (لو قيل لـ وكيع: إنك تموت غداً، لما استطاع أن يزيد شيئاً)؛ لأن كل أوقاته مشغولة ليس فيها فراغ ولا وقت ليس فيه عبادة، فهو مشغول بالله سبحانه وتعالى، ومقبل على الله بكل أموره، إذا نام فهو يرجو في نومته ما يحتسب في قومته، كما قال أبو الدرداء، وإذا أكل فمن حلال وسيصرفه بطاعة الله، وإذا شرب فكذلك، فكل أعماله لوجه الله سبحانه وتعالى حتى جلوسه واتكاؤه وقيامه، كل ذلك لوجه الله.
ولهذا فإن أهل الخشية يجعلون هذه الدنيا محراباً كبيراً للتعبد، فكل ما فيها من الأعمال هو عبادة لله، حتى لو كان تجارة أو زراعة أو صناعة أو دراسة لعلم دنيوي، كل ما في الدنيا من الأعمال يجعلونه عبادة لله، فعبادتهم في المحراب في كل أوقاتهم، إذا كانوا في غرف النوم، أو كانوا في المتاجر، أو كانوا في المكاتب، فهم في محراب للتعبد، كل أوقاتهم مصروفة لعبادة الله تعالى ينتظرون الأمر فيبادرون إليه؛ ولذلك قال أحد علمائنا: (ألذ ما في الدنيا أن يأتيك الخطاب وقد تعلمت أحكامه، فتوفق لتطبيقه على نحو ما علمت)، أي: إن ألذ ما في هذه الحياة الدنيا، أن يأتي الخطاب من عند الله، وقد عرف الإنسان حكمه قبل أن يأتيه، فيطبقه على نحو ما تعلم، فهذه اللذة العجيبة التي يجدها أهل خشية الله تعالى في مثل هذا النوع، سعادة من سعادات الدنيا لا يمكن أن يعدلها ما سواها.(5/15)
من آثار الخشية: حصول البركة في العمر
كذلك فإن من آثار هذه الخشية، أنها تؤدي إلى البركة في العمر: فمدة بقاء الإنسان يسيرة جداً، مثلما عاش سحرة فرعون بعد الإيمان، فما كان قبل إيمانهم من أعمارهم لا يعد؛ لأن الإيمان يجبُّ ما قبله، فأعمارهم إنما هي تلك اللحظات التي مكثوها في الإيمان بعد أن ذاقوا طعمه وخروا سجداً لله تعالى، فإنهم قبل لحظات كانوا يحلفون بعزة فرعون، قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الشعراء:41 - 46]، في هذه اللحظة خروا سجداً لله تعالى وتابوا وأنابوا وعرفوا الخشية، فكانوا من الساجدين لله تعالى الخائفين منه في لحظة واحدة، لكن كانت هذه اللحظة مباركة حين أوصلتهم إلى الجنة، فعمر الإنسان ولو عاش ألف سنة على هذه الأرض ولم يوفق للطاعة، بل كان عمره سبباً لدخوله النار، لا فائدة منه.
ولو أنه عاش لحظة واحدة على الأرض، وكانت سبباً لدخوله الجنة، فهو عمر مبارك، ولا يضره ما فات من أعمار الناس، لا يضره ما لم يبلغه من أعمار الناس، ولذلك فإن خشية الله تعالى سرٌ لبركة العمر وفائدته، حتى لو كان قصيراً، ولو كان العمل فيه يسيراً، فإن الله سيبارك فيه ويتقبله من صاحبه.(5/16)
من آثار الخشية: الاستغناء بما آتاه الله
كذلك من فوائد خشية الله سبحانه وتعالى: أنها تقتضي من الإنسان الاستغناء بما آتاه الله، فينال بذلك الحرية والانعتاق من أسباب المذلة والهوان، فالإنسان الذي يخشى الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يذل لمخلوق على طمع، ولا يمكن أن يخنع لأي سبب من الأسباب؛ لأنه يعلم أن رزقه قد كتب، وأن أجله قد كتب، وأنه لا يمكن أن يزاد فيه، ولا أن ينقص منه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس رضي الله عنهما: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
من أدرك هذا ونال الخشية استطاع بذلك التحرر من ضغوط الآدميين، والانعتاق من قيودهم، فهو عبد لله تعالى حر من العبودية للمخلوقين، مقبل على الله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن يذل لمخلوق ولا يعرف الخنوع والركوع لغير الله سبحانه وتعالى.(5/17)
من آثار الخشية: صلاح ذريتة من بعده
كذلك من آثار الخشية ما يجده الإنسان في ذريته من بعده، فمن كان من أهل خشية الله يصلح الله له ذريته، ويجعل له امتداداً في عمره فيما بعد، ويكونون أيضاً أهل جوار له في الجنة كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]، فتلحق بهم ذرياتهم من بعدهم؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82]، قد حقق الله مراد الغلامين ورعى فيهما حق أبويهما بعد موت الأبوين، فكان ذلك سبباً لصلاح الأولاد، وتيسر أمورهم الدنيوية.(5/18)
من آثار الخشية: أنها تغير حال الإنسان
كذلك فإن من آثار الخشية: أنها تغير حال الإنسان، فالإنسان قبل أن يتصف بخشية الله، قبل الخوف من الله، يكون عدواً لنفسه متسلطاً عليها يصرفها في معصية الله، فما أنعم الله عليه من النعم من السمع والبصر والوقت والشباب والمال، مصروف إلى عداوة نفسه، لأنه لا يضر الله شيئاً، فالعاصي لا يضر إلا نفسه.
وبعد الخشية: يبدل الله حاله بالكلية، كما قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:70 - 71].(5/19)
من آثار الخشية: أنها من أسباب استجابة الدعاء
كذلك من آثار الخشية: أنها سبب لاستجابة الدعاء، فمن كان من أهل خشية الله، فقد تعرف إلى الله في الرخاء، فسيعرفه الله في الشدة، فإذا أمسك جوارحه عن معصية الله يسر الله جوارحه للطاعة، فجعل سمعه تبعاً لأمر الله، وبصره تبعاً لأمر الله، ويده تبعاً لأمر الله، ورجله تبعاً لأمر الله، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).
فصوته بالمسألة والدعاء غير مجهول عند الله؛ فلذلك من تعرف إلى الله في الرخاء عرفه في الشدة، فإذا رفع يديه إلى الله استجاب دعاءه، وإذا عرض فبمجرد التعريض يجيب الله دعائه.
ولذلك فالأنبياء منهم من يصرح بالدعاء كإبراهيم الذي قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:37 - 38].
ومنهم من يعرض بالدعاء كأيوب عليه السلام، فقد مكث في الأذى ثماني عشرة سنة، وقد أصيب بأنواع البلاء، وامتحنه الله تعالى بذلك محبة له، فالله سبحانه وتعالى إذا أحب عبداً ابتلاه: (وأشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)، وكان من شدة بلائه أنه لا يستطيع التصرف في شيء من بدنه، وكانت زوجته برة به، فكانت تنفق عليه وتعالجه، فلما نفذ ما معهم من المال لم يحل لها أن تسأل الناس؛ لأنه نبي معصوم فلا يحل له السؤال ولا لأهل بيته، فبحثت عن العمل فعملت حتى إذا لم تجد عملاً باعت قرون رأسها، فكانت تقطع قرناً فتبيعه، فتغذيه بثمنه، ثم تقطع قرناً آخر، حتى نفذ ما نبت من الشعر من رأسها.
فلما رأى أيوب ذلك، وقد جاءه رجلان كانا من أقاربه، ومن أخص الناس به، فقال أحدهما: لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من أهل الأرض! فقال الآخر: ولم؟ فقال: قد ابتلاه الله ثماني عشرة سنة ولم يرفع عنه البلاء، فلما ذهبا مد أيوب يده إلى الله تعالى فقال: ربّ {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، وكانت زوجته إذ ذاك خرجت، وتركته قريباً من مزبلة لبني إسرائيل، فلما عادت إلى أيوب وقد رفع الله عنه البلاء، وأمره الله أن يركض برجله في الموضع الذي هو فيه، فخرج له ماء عذب؛ فاغتسل وشرب منه، وزال عنه البلاء بالكلية، وأنزل الله له لباساً من لباس الجنة فلبسه فتغيرت حالته وصورته، فلما رأته لم تعرفه، فقالت: أين الرجل المبتلى الذي كان هنا، لعله تخطفته الكلاب، فقال: أنا أيوب، قد استجاب الله لي ورفع عني البلاء!! لذلك قد عرَّض أيوب بالدعاء بعد هذا الصبر الطويل على البلاء ولم يسأل رفعه؛ لعلمه بالأجر المترتب عليه، حتى إذا نفذت الأسباب كلها ولم يبق أي سبب حتى شعر رأس امرأته، قال: رب {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] فلم يسأله حتى أن يرفع عنه الضر، بل عرض له فاستجاب الله ذلك ورفع عنه البلاء.(5/20)
من آثار الخشية: قوة الإيمان
والخشية إذا حصلت للإنسان كانت قوة عظيمة وامتداداً في الإيمان، فالإنسان يحب القوة، والقوة أهمها قوة الإيمان؛ لأنها التي يضعف أمامها سلطان الدنيا وكل ما فيها، وليس لسلطان الدنيا طاقة بقوة الإيمان، فسحرة فرعون حين قذف الله في قلوبهم الإيمان قواهم الله قوة عجيبة تتحدى طغيان الأرض جميعاً.
عندما خاصمهم فرعون بكل كبرياء وجبروت، فقال في تهديده لهم بأنه سيقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وأنه سيصلبهم في جذوع النخل، قالوا له: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:72 - 76].
وقد ألهمهم الله تعالى بهذه الجمل خلاصة علم الأولين والآخرين، فكل ما يتنافس الناس فيه من العلم، وما يدرس في الجامعات وما تؤلف فيه المؤلفات، نتيجته جملتان فقط: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:74 - 75]، هذه خلاصة علم الأولين والآخرين.
وقد قذف الله في قلوب هؤلاء السحرة لما آمنوا بالله وصدقوا، وانقادوا وخروا سجداً لوجه الله العظيم؛ قذف الله في قلوبهم خشية الله، فنالوا بها هذه القوة الرهيبة التي تضاءل أمامها طاغية أهل الأرض، وضعف أمامها بكل ما يملكه من جبروت وقوة.(5/21)
من آثار الخشية: التوفيق للطاعات
كذلك من آثار هذه الخشية، أنها تقتضي من الإنسان التوفيق للطاعات، فمن كان من أهل الخشية، لا بد له أن ييسر له قيام الليل والناس نيام، ولا بد أن ييسر له قيام النفل في وقت الهواجر والحر، ولا بد أن ييسر له الذكر، ولا بد أن ييسر له العلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل).
فلذلك لا شك أن الذي يخاف سيدلج؛ لأنه يجمع سير الليل بسير النهار؛ لأنه يخاف الله سبحانه وتعالى، فهو يريد ما يقربه منه، وينجيه من عقابه، فيجمع عمل الليل وعمل النهار؛ وبذلك يوفق لهذه الطاعات الكبار.(5/22)
من آثار الخشية: أنها سبب لدخول الجنة
وكذلك من آثار الخشية: أنها سبب لدخول الجنة، فقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:6 - 8]، فهذا لمن خشي ربه، فلا ينال ذلك إلا من خشي ربه.(5/23)
الشهوة والشبهة مرضان ينافيان الخشية من الله
إن هذه الخشية التي ذكرنا آثارها ومظاهرها، وعلامة نقصها؛ أمر عظيم كما ذكرنا، وقيمة من قيم الإيمان، فعلى كل إنسان أن يحرص على تحقيقها وأن يحرص على زيادتها بعد تحقيقها، ونحن نعلم أن أصحاب الغفلة المعرضين عن الله تعالى، سر ذلك فيهم أحد أمرين: إما الشهوة وإما الشبهة، فهما المرضان اللذان يضادان خشية الله تعالى، فلا بد من علاج هذين المرضين.
ولا بد أن ينتبه الإنسان لنفسه حتى يشخص مرضه بأي المرضين قد ابتلي، فإذا كان قد ابتلي بالشهوة، فعلاجها يسير جداً وهي أهون من الشبهة؛ لأن الشبهة أمر عقدي قلبي، وهي صعبة الإزالة، وأما الشهوة فهي أمر ظاهر يسهل علاجه.(5/24)
علاج النفس بمراقبة الله
كذلك لا بد لعلاج الإنسان لنفسه من مراقبة دورية دائمة، فكل جهاز من الأجهزة يحتاج إلى عرض على الأخصائي في كل فترة من الفترات، كما يأتي الإنسان بسيارته إلى الشركة لعرضها عليها؛ لتعيد ما تحرك من مكانه، ولتعالج ما حصل فيها من النقص، كذلك لا بد أن يراجع الإنسان إيمانه، وأن يشد عقد الإيمان في قلبه، وأن يراقب أعماله، وأن يحاسب نفسه على ما أوتي من النعم، وعلى ما فعل من المعاصي، فلا بد أن يكون للإنسان وقت دوري يراجع فيه هذه الأمور.
فإذا فعل الإنسان ذلك كان في مجال خشية الله في ازدياد دائم، وإذا فعل وترك هذه المراجعة أسبوعاً وأسبوعين وثلاثة ختم على قلبه بطابع النفاق -نسأل الله السلامة والعافية- كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف عن الجمعة، فالجمعة فيها الذكرى والموعظة، فإذا تخلف الإنسان عنها ولم يستمع موعظة ولا ذكرى فيصعب عليه فيما بعد أن تسيل دمعتاه من خشية الله، أما إذا كان الإنسان في كل أسبوع يسمع موعظة ويبكي من خشية الله، فسيسهل عليه البكاء من خشية الله في المستقبل.
وما نشكوه نحن الآن من قسوة القلوب وجمود الدموع، ما سببه إلا الإعراض عن الذكرى والانقطاع عنها، فلو كان الإنسان في مجالسه في كل أسبوع يجدد الذكرى ويراجع عقد إيمانه، ويتذكر ما فرط فيه في جنب الله، ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى توبة صادقة، فإن ذلك سبب لخشية الله وقوة هذه الخشية لديه وزيادتها.(5/25)
علاج مرض الشبهة
أما الشبهة: فعلاجها إنما هو باليقين، أن يفهم الإنسان أن الشيطان عدو له، وأنه يلقي في ذهنه أموراً هي بمثابة نسج العنكبوت، وأن ما يلقيه الشيطان في قلب الإنسان من وحيه وتدبيره ووساوسه؛ ما هو إلا بمثابة نسج العنكبوت، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41]، حبال العنكبوت هل يستطيع الإنسان أن يتعلق بها، أو أن يتوصل بها إلى أي شيء؟ وشبهات الشيطان التي يلقيها في قلب الإنسان هي بمثابة بناء العنكبوت؛ ولذلك يزيلها الذكر ويحطمها، فالذكر الحاصل يقطع على الشيطان حبال العنكبوت التي يلقيها في قلب الإنسان؛ وبذلك يستطيع الإنسان التغلب على خطوات الشيطان بالتخلص مما يلقيه من الوساوس والأوهام، وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج:52 - 54].
وقال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:48 - 49]؛ فلذلك كل ما يلقيه الشيطان من الوساوس والأوهام، على الإنسان أن يتخلص منه بذكر الله، فمن وساوس الشيطان -مثلاً- النسيان والغفلة، فإذا أحس الإنسان بذلك فعليه أن يبادر إلى ذكر الله، كما قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف:24].
ومن وساوس الشيطان كذلك وأوهامه: تشكيكه في أمور الآخرة وفي أمور الاعتقاد، وتخلص الإنسان من ذلك بذكره لله تعالى، فإذا أقبل على الاستغفار ذهبت بالكلية.
وكذلك من وساوس الشيطان: ما يزينه للإنسان من تطويل الأمل، ومن أنه سيتوب إذا كبر، وأنه سيترك هذه المعاصي إذا تجاوز الخمسين أو الستين من عمره؛ لكن من يضمن لك أن تصل الخمسين أو الستين؟ ومن يضمن لك إذا وصلت إليها أن لا يختم على قلبك فتستمر على المعصية؟ فإن الله تعالى يقول في كتابه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:109 - 111].
ثم بعد ذلك لو قدر أنك وصلت إلى ما مناك الشيطان، فبلغت الستين أو السبعين من العمر، وعرفت أن ما أنت فيه لا يصلح، وندمت عليه وتبت منه، لكن تجد نفسك قد ضعفت أيضاً عن الطاعات، فكما يضعف الإنسان عن المعاصي يضعف عن الطاعات أيضاً، وإذا تقدم به العمر أحس بالآلام في ظهره وفي كتفيه وفي جنبيه وفي ركبتيه وفي أطرافه، فكما ضعف عن المعصية ضعف عن الطاعة، فلذلك عليه أن يبادر إلى الطاعة ما دام يقدر عليها، وما دام يجد في نفسه طاقة وجلداً، قبل فوات الأوان.
وعليه أن يتذكر أن الشيطان عدو له في كل أوقاته، ولا يمكن أن ينصحه إلا بما فيه ضرر عليه، فهو يريد إفساد عمره في غير طائل، كما سعى من قبل لإخراج آدم وحواء من الجنة: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:22]؛ فلذلك على الإنسان أن يحرص على عدم اتباع خطوات الشيطان، وأن يتذكر أن الشبهة التي يلقيها الشيطان في نفسه هي من خطوات الشيطان التي نهي الإنسان عن اتباعها، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:21]، فعلى الإنسان أن يجتنبها بالكلية وأن يحذر منها.(5/26)
علاج مرض الشهوة
فالشهوة علاجها: أن يتذكر الإنسان أن محبوبه من الدنيا والذي يتعلق قلبه به، نهايته في القمامة، إذا تعلق قلب الإنسان بإنسان آخر فأحبه، ليتذكر مضي أسبوع عليه تحت التراب في القبر، هل يسره أن يراه وقد انتفخ بدنه وتشقق وأكل الدود ما في عينه، وهو يعلم أنه ميت لا محالة؛ فلذلك على الإنسان إذا أحب إنساناً أن يتذكر حاله بعد الموت، وبعد الدفن، وماذا سيحصل من التغير فيه، هل يحب أن تنبش له عظامه ويراها؟! هذا هو الأمر الأول.
كذلك إذا أحب شيئاً من أمر الدنيا الآخر، كأن أحب داراً من الدور الشاهقة، فليمكث مدة وسيراها في القمامة، سيرى حطامها وقد استأجروا عليه بالأموال الطائلة لينقل إلى القمامة، ومن طال عمره شاهد ذلك في هذه الحياة، يشاهد الدور التي بناها أهلوها بأغلى الأثمان، وتكلفوا عليها الدراسات، وهي تنقل بعد أن تأذوا بأنقاضها وأوساخها، ويستأجرون من ينقلها عنهم إلى القمامة، وكذلك الثياب والفرش والسيارات، إذا تمتع بها الإنسان مدة يسيرة، بحث عنها فوجد بقاياها في القمامة، فالسيارة الفارهة أين توجد بقاياها؟! سترمى في القمامة، والملابس والفرش الغالية أين توجد؟! ستوجد نهايتها في القمامة، فإذا عرف الإنسان هذا هانت عليه ملذات الدنيا وشهواتها.
ثم عليه أن يفكر أيضاً، فليقدر أنه فعلاً قد وصل إلى ما اشتهاه وتمناه، فالشهوة إنما تتعلق بأمر دنيوي، لا تتعلق بأمر الآخرة، فإذا أحب أمراً دنيوياً فليتصور في نفسه أنه وصل إليه فعلاً، لكن ثم ماذا؟ ألم يصل من قبل إلى كثير من الأمور؟ ألم يتعلق قلبه بكثير من الأمور فنالها؟! إذا كان ذلك شهادة عالية، ليفكر أنه من قبل قد نال بعض الشهادات، ونجح في بعض الامتحانات، فما فائدة ذلك؟ ما الذي حصل؟ هل تغير حاله؟ لا، بل هو هو، ثم عليه أن يفكر في نفسه على أنه قد بلغ مناه ووصل إلى هذه الوظيفة، ثم ماذا؟ كذلك أي مبتغى من أمور الدنيا، إذا أحب مالاً أو تجارة أو مكانة اجتماعية أو جاهاً، أو أي شيء من أمر الدنيا، ليتصور في نفسه أنه قد وصل إليه فعلاً، فإنه سيحتقره غاية الاحتقار؛ لأنه كان يتمنى أموراً أخرى، فلما وصل إليها امتهنها واحتقرها ولم يقنع بها، ورغب فيما ورائها، فلذلك يحتاج الإنسان إلى أن يعلم أن شهوات الدنيا منتهية مملولة، وأن كل ما فيها من الشواغل، لا ينبغي أن يتعلق به العاقل لسرعة ذهابه وزواله وتغير حاله.
وعليه أن يتعلق قلبه بما لا يفنى ولا يبيد، وبما لا يمل بوجه من الوجوه: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25]، فإذا تعلق بما عند الله، ورغب في الدار الآخرة، كان من أهلها كما قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:18 - 19]، وكما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20].(5/27)
مجالسة أهل الخشية أحياء وأمواتاً
وكذلك من الأسباب التي تزيد خشية الإنسان لله تعالى: مجالسته لأهل الخشية، فالإنسان الذي يزور أهل الخشية ويلقاهم ويرى ما هم فيه، فإنهم يذكرونه بالله سبحانه وتعالى في حركاتهم وسكناتهم، ويسمع في أقوالهم وتصرفاتهم ما يدل على الخشية من الله تعالى، ولهذا قال أهل العلم: ليس حسن التلاوة بحسن الصوت، إنما حسن التلاوة إذا سمعت صوته عرفت أنه يخاف الله؛ فلذلك كانت مجالسة هؤلاء مما يقوي خشية الله سبحانه وتعالى في القلوب.
وقد قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، فعلى الإنسان أن يحرص على زيارة أهل الخشية، وعلى مجالستهم، وعلى السماع منهم، فذلك مما يزيده خشية.
وكذلك زيارتهم بعد الموت بالاطلاع على سيرهم وقصصهم، فقراءة الإنسان لحياة أهل الخشية من الذين ماتوا ومضوا مما يزيده خشية وإيماناً، إذا كان الإنسان يدرس سير الصحابة والتابعين، وسير الصالحين من هذه الأمة، فسيجد فيهم أسوة لنفسه وقدوة صالحة يقتدي بها، وإذا مر به أي حال من الأحوال فسيجد نظيره قد مر ببعض السلف الصالح، ومن هنا: يمكن أن يقتدي بهم وأن يجد فيهم الأسوة الصالحة.
ولهذا كان كثير من أهل العلم والصلاح يزورون أهل الخشية، ولو كانوا دونهم مستوى في العلم، فكان كثير من علمائنا يزورون رابعة العدوية فيرون إقبالها على الله وبكاءها في صلاتها وعبادتها، فتذكرهم بالله سبحانه وتعالى بذلك.
وقد (كان النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة يسير في الطريق فوقف على باب امرأة من الأنصار فإذا هي تقرأ في صلاتها: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكاء شديداً، وقال: نعم أتاني، نعم أتاني)، والغاشية: القيامة، كذلك فقد زار أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أم أيمن رضي الله عنها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها: (فلما جلسا عندها بكت، فقالا لها: ما يبكيك، أما علمت أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا؟ فقالت: أما إني لا أبكي لأني لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا، ولكني أبكي لانقطاع الوحي من السماء، فهيجتهما على البكاء، فبكيا بكاء شديداً).
يحتاج الإنسان إلى زيارة من يبكيه، وإذا لم يجده في الأحياء، اطلع على سيرته في الأموات، ففي الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر، وسيرهم موجودة مدونة، والكتب موجودة بين أيدينا وهي تحوي أخبارهم، وقد قال ابن هلال رحمه الله: لنا جلساء ما يُمل حديثهم ألباء مأمونون غيباً ومشهدا يفيدوننا من علمهم علم من مضى وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا فلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا فإن قلت أحياء فلست بكاذب وإن قلت أموات فلست مفندا وقد قال ابن المبارك رحمه الله: (سير الصالحين جند من جنود الله يثبت الله بها قلوب عباده)، ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120].(5/28)
نماذج من أهل الخشية
ولهذا فقصص الأنبياء في القرآن من تدبره وقرأه بهذه الروح؛ نال بذلك هذه الخشية، وزاده هذا خشية لله سبحانه وتعالى، وبالأخص إذا تذكر الإنسان أنه لا يساوي شيئاً مما كانوا عليه من العبادة والإيمان والقرب والتقريب، فكيف يكونون بهذا المستوى من الخشية ونحن لا نخاف!(5/29)
نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام
إن أنبياء الله سبحانه وتعالى وحوارييهم كانوا يخافون الله خوفاً شديداً، وقد قص علينا النبي صلى الله عليه وسلم قصة يحيى بن زكريا عليهما السلام، فقد كان يخشى الله تعالى خشية شديدة، فكان يبكي حتى يتخرق شدقاه من البكاء من خشية الله سبحانه وتعالى، وهو نبي ابن نبي، وقد بشر الله به أباه، وشهد له بالخير، وبين الله سبحانه وتعالى درجته في الصالحين، ومع ذلك يبكي من خشية الله حتى يتخرق شدقاه من الخشية.(5/30)
سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم
ومن خشية نبينا صلى الله عليه وسلم لله تبارك وتعالى: (أنه كان يقوم الليل فيطول القيام حتى تورمت قدماه، فيقال له: ألم يغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً).
وكان إذا رأى المطر خاف خوفاً شديداً، فكان يدخل ويخرج ويقبل ويدبر من خشية الله، فقيل له في ذلك، فقال: (خشيت أن تكون كقوم هود الذين قالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} فقيل لهم: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24])؛ وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس -وهذا أمر يتكرر فتكسف الشمس، ويخسف القمر ولا نرى الفزع ولا الجزع في قلوب الناس!! وهما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما قلوب عباده- فالنبي صلى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس خاف خوفاً شديداً، وقام فصلى فأطال الصلاة، ووعظ الناس وذكرهم.
وكذلك لما جاء القحط، فخاف وبدا التأثر عليه، وقام في الناس خطيباً في صلاة الاستسقاء، فقال فيما روت عنه عائشة رضي الله عنها: (إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوةً وبلاغاً إلى حين، اللهم إن بالعباد والبلاد، والخلائق والبهائم من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً).
فهذا حال أنبياء الله، وحال أصحابهم من بعدهم، فجدير بنا أن نحرص على أن تزداد خشيتنا لله، وخوفنا منه، وبالأخص عندما يتعرض الله لنا بالأخذ، ففي هذه الأيام -مثلاً- يشكو الناس من ارتفاع في الأسعار، وتراجع في القوة الشرائية، وهذا من أمر الله سبحانه وتعالى، لكن كثيراً من الناس يغفلون عنه، فيبحثون عن الأسباب الدنيوية المباشرة وينسون الذنوب التي هي سر ذلك كله، وقد قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]، فما يصيب الناس من اللأواء والجهد والضنك، كله بسبب ذنوبهم، وقد أخرج ابن ماجة في السنن وأحمد في المسند، والحاكم في المستدرك، وابن خزيمة في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر المهاجرين! أعيذكم بالله أن تدركوا خمساً، فما ظهرت الفاحشة في قوم فأعلنوا بها، إلا ظهرت فيهم الأوجاع والأمراض التي لم تكن فيمن مضوا من أسلافهم)، ومصداق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ما نشهده الآن من انتشار الإيدز.
فلذلك قال: (ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وجور السلطان ونقص المئونة، وما نقض قوم عهد الله وميثاقه إلا سلط الله عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم، ولا منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما حكمت أئمتهم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم).
فلذلك لا بد إذا تعرض الله لنا بشيء من أخذه أن نبادر إلى التوبة وأن نزداد خشية لله وخوفاً منه، وقد قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43].
نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يرزقنا خشيته في السر والعلانية، وأن يجعلنا من الذين يخافون الله ويخشونه، وأن يجعلنا من المخلِصين المخلَصين، وأن يزيدنا إيماناً ويقيناً، وأن يجعلنا أجمعين قرة عين للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن يرزقنا التمسك بسنته عند فساد أمته، وأن يسقينا من حوضه شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً، وأن يبيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وأن يعطينا كتبنا بأيماننا تلقاء وجوهنا، وأن يجوزنا على الصراط كالبرق الخاطف، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.(5/31)
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وكذلك من دونهم من أصحابهم وحوارييهم، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه من السابقين الأولين من المهاجرين، وقد بذل نفسه لله تعالى وماله، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر، ولم يتخلف عنه في غزوة من الغزوات، شهد بدراً والمشاهد كلها، وقد دخل في قول الله تعالى لأهل بدر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وبايع تحت الشجرة فدخل في قول الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]، ودخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة)، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتعيين بالجنة، وبين أنه رأى قصره في الجنة، وبعض نسائه في ذلك القصر.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون من خلفائه بعده فقال: (رأيت في المنام كأنني على فم بئر وبيدي دلو بكرة فانتزعت بها ما شاء الله أن أنزع، ثم تناولها ابن أبي قحافة فانتزع ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف، والله يرحمه! ثم تناولها ابن الخطاب فاستحالت غربا، فلم أر عبقرياً يفري فريه، حتى ضرب الناس بعطن)، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم: (رأى الناس يعرضون عليه وعليهم قمص، فمنها ما يبلغ الثدي، ومنها دون ذلك، ورأى عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قيل: فما أولتها يا رسول الله؟ قال: العلم).
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم: (أتي في المنام بقدح من لبن فشرب منه حتى رأى الرّي يخرج من تحت أظافره، ثم ناول فضلته عمر بن الخطاب، فقيل: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الإيمان)، ومع هذا ينال الشهادة في سبيل الله في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته عشر سنين وأشهراً وضاعف الرقعة وجاهد في الله، وعدل بين الرعية.
ومع هذا ينال الشهادة في سبيل الله فيبكي بكاءً شديداً ويقول لابنه وقد كان يجعل خده على فخذه: (آليت عليك لتضعن خدي على الأرض)، فيضع خده على الأرض وهو يبكي حتى تقطر دمعتاه على الأرض، فيقول له ابن عباس: (يا أمير المؤمنين! ألم يشهد لك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة؟ ألم تشهد بدراً؟ ألم تبايع تحت الشجرة؟) فيقول: (لعل ذلك على شرط لم يقع، ليتني كنت حيضة حاضتها أمي، وددت أني خرجت من كل ذلك كفافاً لا عليّ ولا لي!)، هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ماذا نقول نحن إذاً؟! إذا كان عمر وهو بهذا المستوى يخاف أن لا يتقبل الله منه، ويخاف أن يكون كل ما شهد له به من الخير على شرط لم يتحقق، فماذا عسى أن نكون عليه من خشية الله وخوفه؟!(5/32)
نبي الله موسى بن عمران عليه السلام
وإذا كان موسى بن عمران الذي اصطفاه الله بسماع كلامه كفاحاً دون ترجمان، وكتب الله له التوراة في الألواح بيمينه، ومع هذا يخاف الله بهذا الخوف الذي قص الله علينا، فقال: {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:155 - 157].
إذا قرأ الإنسان تعامل هؤلاء الأنبياء المكرمين مع الله سبحانه وتعالى احتقر نفسه، وعرف أنه أولى بالخشية والخوف من الله سبحانه وتعالى، فهم قد غفر الله لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر، وضمن لهم الجنة، وشفعهم في أممهم، وخاطبهم بالوحي وأعلى منزلتهم، واصطنع موسى على عينه -كما أخبر بذلك- وشرفه بكلامه، ومع هذا فهم يخافون الله هذا المستوى من الخوف، فكيف نحن لا نخاف الله سبحانه وتعالى؟!(5/33)
الأسئلة(5/34)
علاج عدم البكاء من خشية الله
السؤال
أنا مسلمة من أسرة محافظة، أحضر بعض المحاضرات وأسمع بعض الأشرطة الدينية؛ لكنني وبكل أسف يصعب عليّ أن أبكي من خشية الله، فبماذا يفسر ذلك؟
الجواب
أن هذا من القسوة، وبالإمكان إزالته إذا شهدت هذه الأخت كثيراً من المواعظ واستمعت إليها، وفكرت في خاصة نفسها، وتدبرت في خلواتها، فجلست وحدها في غرفة ليس معها فيها أحد، وتذكرت وقت عرضها على الله، وتذكرت حالها في قبرها وانقطاعها عن هذه الدنيا، وتذكرت سؤال الله لها عما آتاها، فكل ذلك مما يعين على الزيادة من خشية الله.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بكل شيء تحب أن تحمد به، على كل شيء تحب أن تحمد عليه، لك الحمد في الأولى والآخرة، لك الحمد كثيراً كما تنعم كثيراً.
لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض، ولك الحمد أنت الحق ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيّون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق.
لك الحمد أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلى وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتُعصى فتغفر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، ونسخت الآثار، وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرءوف الرحيم، نسألك بعزك الذي لا يرام، وبنورك الذي أشرقت له السماوات والأرض؛ أن تهدي قلوبنا، وأن تستر عيوبنا، وأن تكشف كروبنا، وأن تجعل التقى زادنا، وأن تحقق مرادنا، وأن تصلح أولادنا.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا بين معاصيك، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا.
اللهم استعملنا في طاعتك، واجعلنا هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين، اللهم لا تدع لنا في عشيتنا هذه ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا مجاهداً إلا أيدته ونصرته، ولا عدواً إلا كبته وخذلته وكفيته، ولا أسيراً إلا أطلقته، ولا جاهلاً إلا علمته، ولا فقيراً إلا أغنيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً وفيها لنا صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأوهن كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين، اللهم أظهر دينك وكتابك على الدين كله، ولو كره المشركون، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، وتقام فيه حدودك يا سميع الدعاء.
اللهم حقق رجاءنا واستجب دعائنا، وأصلح أحوالنا وأحوال المسلمين أجمعين، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم اجعل القبر خير بيت نعمره، اللهم نور قلوبنا وقبورنا ووجوهنا يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر لنا في ساعتنا هذه أجمعين، وأهد المسيئين منا إلى المحسنين يا أرحم الراحمين.
اللهم هؤلاء عبادك وإماؤك قد اجتمعوا في بيت من بيوتك يرفعون إليك أيدي الضراعة فلا تردهم خائبين، ولا تجعلهم عن رحمتك من المطرودين، وأهد المسيئين منهم للمحسنين يا أرحم الراحمين.
اللهم حقق رجاءنا واستجب دعاءنا، وأصلح أولادنا، وحقق مرادنا، وأصلح مرادنا يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك من كل خير سألك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحون، ونعوذ بك من كل شر استعاذك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحون، وأنت المستعان، عليك توكلنا وإليك المصير.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(5/35)
الداعي إلى المعصية له قسط منها
السؤال
قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، والبعض يحكي قصصاً عن امرأة فعلت معصية فتكون سبباً في معصية غيرها، فما قولك في هذا؟
الجواب
أن المقصود هنا بقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، أن الذنب الذي فعله الإنسان هو المسئول عنه، ولا يسأل عنه غيره، فلا يمكن أن يتحمل أحد وزر أحد، ولا يمكن أن يتحمل أحد ذنب أحد، لكن إذا فعل الإنسان ذنباً ودعا إليه، فمن استجاب لدعوته إلى ذلك الذنب، كتب عليه قسط من ذلك الذنب، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم:: (أن ابن آدم الأول هو أول من سن القتل على الأرض، فما قتلت نفس بظلم بعد، إلا كان على ابن آدم الأول قسط من ذلك القتل)، وقال: (من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً)، ومن الدعوة إلى الفعل: إعلانه وإبرازه أمام الناس، فذلك دعوة إليه، وذلك أن كثرة المساس تثير الإحساس.(5/36)
الأسباب المعينة على قيام الليل
السؤال
بماذا تنصحون من يحب قيام الليل ولكنه لم يستطع الدوام عليه، وإن قام ليلة نام الليلة الموالية؟
الجواب
إن ذلك إنما يكون بالإعداد له، فإذا نام الإنسان وقتاً من النهار ولو كان يسيراً، ونام أول الليل، وضبط الساعة أو الهاتف الجوال على الوقت الذي يريد القيام فيه، وأوصى أهل المنزل أن يقيموه، أو أوصى من جيرانه من يتصل عليه في ذلك الوقت، ويكون هذا من التعاون على البر والتقوى، ومما يعينه على قيام الليل، وكذلك مما يعين عليه: أن يقرأ الإنسان كل ليلة في صلاته ما راجعه في النهار من القرآن.(5/37)
رعية النساء التي سيسألن عنها
السؤال
ما هي رعية النساء التي سيسألن عنها؟
الجواب
أن النساء قد استرعاهن الله سبحانه وتعالى أنفسهن وجوارحهن، واسترعى من لها زوج وأولاد وبيت، هذه الرعية أيضاً، فكل ذلك من الرعية التي تسأل عنها، وهي من الأمانة الداخلة في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب:72]، فعليهن أن يتقين الله فيها، وأن يعلمن أنهن مسئولات عنها بين يدي الله.(5/38)
علاج من يوسوس أن في أعماله رياء
السؤال
هذه تقول: أنا امرأة ملتزمة ويصيبني مرض، وهو أن لا أفعل فعلاً إلا وسوس لي في نفسي أن فيه رياء، ولو كنت وحدي؟
الجواب
أن هذا من اتباع خطوات الشيطان، وعلى هذه الأخت أن تنبذ عنها هذا النوع، وأن تعلم أن الله سبحانه وتعالى غني عنها وعن عبادتها، وأنها إذا لم تعبده فسيخلق الله من يعبده: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89]، وعليها أن تعلم أن الدين يسر: (ولا يشاد الدين أحد إلا غلبه)، وأنها عليها أن توغل في الدين برفق، وأن تفعل ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.(5/39)
الأعمال الصالحة تنمي الإيمان
السؤال
ماذا أفعل مما يعينني على تنمية الإيمان؟
الجواب
أن منميات الإيمان هي الأعمال الصالحة، فيحرص الإنسان على أن لا يبقى عمل من الأعمال الصالحة، ومن أعمال البر، إلا كانت له فيه مشاركة؛ فإن ذلك مما يزيد إيمانه، ويقوي صلته بالله تعالى.(5/40)
ما يلزم المسلمة نحو قرابتها من النصيحة في الدين
السؤال
بأية صفة أحدد علاقتي بقراباتي اللواتي يقعن في المعاصي؟
الجواب
إن تلك الصفة هي صفة النصيحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، (الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)، وقرابتها: تقتضي منها الحرص على نجاتهن من النار، وعلى حصولهن على رضوان الله سبحانه وتعالى، وعليها أن تحرص على هدايتهن، والنصح لهن، وتبذل كل ما في وسعها من أجل نجاتهن من النار.(5/41)
حكم الصبغ بالسواد
السؤال
هذا السؤال عن الصبغ بالسواد؟
الجواب
قد سبق أنه لا يجوز، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وجنبوه السواد).(5/42)
تفسير حديث: (دعاة على أبواب جهنم)
السؤال
هذا السؤال عن تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها)؟
الجواب
أن أبواب جهنم، هي كبائر الإثم والفواحش، فلا بد أن يخرج في الدنيا دعاة إلى تلك الكبائر والفواحش، فمنهم من يدعو إلى الزنا، ومنهم من يدعو إلى شرب الخمر والمخدرات، ومنهم من يدعو إلى قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، ومنهم من يدعو إلى عقوق الآباء والأمهات إلخ، فمن أجابهم إلى تلك الأبواب قذفوه فيها.
وفي مقابلهم أيضاً دعاة يدعون على أبواب الجنة: من يدعو إلى الصلاة، ومن يدعو إلى الصوم، ومن يدعو إلى الصدقة، ومن يدعو إلى الجهاد، ومن يدعو إلى الزكاة، وهم على أبواب الجنة من أجابهم إليها قدموه إليها.(5/43)
من لم يمرض مرضاً جسمياً فقد أنعم الله عليه فليشكره
السؤال
ما حكم من لم يمرض مرضاً جسمياً قط، هل هذا يعني أنه لن يكفر عنه؟
الجواب
لا، هذه نعمة من نعم الله، عليه أن يشكرها لله تعالى وإذا عاش فلا بد أن يصاب بمرض، لكن من نعمة الله أنه دفع عنه هذه الأمراض، ويمكن أن تكون مصائبه في أمور أخرى، فالأمراض قد تكون جسمية، وقد تكون نفسية، وقد تكون إيمانية، وقد تكون عقلية، فإذاً هي متنوعة، نسأل الله السلامة والعافية.(5/44)
السائل الذي يخرج من المرأة باستمرار معفو عنه
السؤال
أنا فتاة أبلغ التاسعة عشرة، ولديّ مشكلة، وهي أنه يخرج مني سائل دائم يبلّ الملابس، فأريد الحكم فيه؟
الجواب
هذا هو من السلس المعفو عنه، فقد عفا الشارع عن مثل هذا النوع، وقد قال الله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، فالسائل المستمر معفو عنه، فلا يلزم منه وضوء ولا تطهير للثوب ولا غير ذلك إلا إذا تفاحش وكثر، فيمكن أن يغير الإنسان ذلك الثوب إذا أمكنه ذلك، فتخفيف النجاسة مطلوب شرعاً، ولكن الراجح أن مطلوبيته إنما هي على الندب لا على الوجوب.(5/45)
الدليل على تحديد أول الحيض وآخره
السؤال
هذا السؤال عن تحديد أول الحيض بتسع سنين، وتحديد آخره بخمسين سنة، هل عليه دليل؟
الجواب
أن هذا لم يرد به نص، وإنما المرجع به إلى عادة النساء، وعادة كل أهل بلد هي المرأة.(5/46)
الوسائل المعينة على دوام الخشية
السؤال
ما هي الوسائل المعينة على دوام خشية الله سبحانه وتعالى؟
الجواب
مراقبة أمره ونهيه، والتزود من كتابه، وتعلم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومجالسة أهله.(5/47)
حكم قبض اليدين في الصلاة عند مالك، ومتى يرجع إلى أقوال العلماء
السؤال
هل القبض على اليدين في الصلاة سنة أم مكروه عند مالك؟
الجواب
أن مالكاً لم يصل إلينا من مؤلفاته إلا الموطأ، وقد جاء فيه أحاديث القبض، ذكر هذه الأحاديث في سنن الصلاة، ولا بد أن نعلم أيضاً أن المذاهب ليست ديانات، وإنما هي طرق لفهم النصوص، فإذا جاء النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق لأحد كلام معه، فإنما يحتاج إلى الأئمة المجتهدين، وإلى المذاهب فيما لا نص فيه، أو فيما تعارضت فيه النصوص، أو فيما هو خفي الدلالة والمعنى، فهذا الذي نحتاج فيه إلى الأئمة المستفيدين، أما ما هو واضح الدلالة وما هو صريح وصحيح من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يحتاج فيه إلى مشورة أحد، لا يمكن أن يقول أحد: أشاور فلاناً من الناس، هل أعمل بما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو هل أعمل بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل به؟ هذا غير معقول ولا يمكن أن يصدر عن مؤمن!(5/48)
من قسا قلبه فليكثر من الطاعة
السؤال
ماذا تفعل من قسا قلبها، وجمد جفنها، وخشيت على نفسها النفاق؟
الجواب
أن عليها أن تواظب على الطاعة، وأن تجعل لنفسها أوقاتاً تخلو فيها بالله سبحانه وتعالى، وتكثر فيها من تدبر القرآن، وعليها أن تكثر كذلك من مجالسة الصالحين، وإذا كانت تستطيع أيضاً عيادة المرضى والدخول على الموتى بتجهيزهم، فذلك مما يساعد على إزالة قسوة القلب.(5/49)
حالة الشعور بالقرب من الله فرصة لابد من استغلالها
السؤال
ينتابني في بعض الأحيان شعور بالقرب من الله عز وجل، كيف تفسرون هذا الحال، ثم كيف يمكنني توظيف هذا الشعور أحسن توظيف؟
الجواب
أن هذا من أحوال الإيمان؛ وذلك يعتري المؤمن -أي: الشعور بالقرب من الله سبحانه وتعالى- عندما يحسن في الطاعة، ويوفق للعبادة، وإذا أحس بذلك الشعور، فعليه أن يزداد خشية لله تعالى وقرباً، ولا يكون من الذين يأمنون مكر الله تعالى، وعليه أن يستغل الوقت في الإكثار من الدعاء، فذلك الوقت فتحت له فيه الأبواب، فعليه أن يجتهد في الدعاء فيه، لكيلا يفوت الأوان، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحسون بذلك فقالوا: (إذا كنا عندك نكون على ما ترى، فإذا انطلقنا من عندك عافسنا النساء والأولاد على الفرش فنسينا، فقال: لو تدومون على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة).(5/50)
الإحساس بالسعادة والطمأنينة بعد الطاعة من المبشرات
السؤال
قد تغمرني سعادة وطمأنينة نفسية رائعة بعد الدعاء والاستغفار من الذنوب، فهل ذلك دليل على قبول دعائي والتوبة؟
الجواب
إن شاء الله، لكن هذا النوع من المبشرات يسر ولا يغر (وقد سألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، قالت: أهو الذي يسرق ويزني ويخاف الله، قال: لا، بل الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف أن لا يتقبل الله منه)، فهؤلاء هم الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون.(5/51)
اللغة العربية
من نعمة الله على الناس أن علمهم اللغات التي بها يتفاهمون، وقد اصطفى الله العربية من بين اللغات، فأنزل بها القرآن الذي تحفظ بحفظه إلى آخر الزمان.
ولغة القرآن تلقى اليوم هجمة منظمة من أعداء الإسلام، يساعدهم على ذلك أبناء المسلمين الذين أهملوا علومها وضيعوا دورها.(6/1)
أهمية اللغات في التفاهم بين بني البشر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإن من ألطاف الله تعالى ونعمته ورحمته أن جعل للناس لساناً يتفاهمون به، فإن الناس يحتاج بعضهم إلى بعضٍ، ولا يمكن أن يقوم أحدٌ منهم بحاجته دون بعض، ولا يمكن أن يستقل إنسان بقضاء أموره، ولا بأداء مهماته، إلا إذا وجد من يساعده على ذلك.
ومن هنا فيحتاج الناس إلى التفاهم فيما بينهم والتعارف، فجعل الله لهم وسائل للتعارف، ومن أعظمها الأنساب، حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
وجعل لهم وسائل للتفاهم، وأعظمها اللغات، ولهذا ربط الله بين الألوان واللغات، وبين خلق السماوات والأرض في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22].(6/2)
وسائل التفاهم
البشر لا يمكن أن يتفاهموا إلا عن طريق وسائل الحس، وهي الحواس الخمس؛ لأن وسائل العلم لدى الإنسان ثلاث هي: العقل، والروح، والحس: والعقل لا يمكن أن يتفاهم عن طريقه؛ لأنه من الأمور المعنوية غير الحسية.
والأرواح يمكن أن تتعارف، لكن لا يمكن أن تتفاهم، ولهذا حصل التعارف بينها في عالم الذر، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري تعليقاً في الصحيح، وأخرجه مسلم مسنداً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف).
لكن التفاهم إنما يتم عن طريق إحدى هذه الحواس، وهذه الحواس مدركاتها هي المسموعات والمبصرات، والملموسات، والمشمومات، والمذوقات.
وقد جعل الله تعالى أصناف الحيوان تتفاهم عن طريق هذه الوسائل، فمن الحيوانات ما يتفاهم عن طريق إفراز رائحةٍ يحصل بها التفاهم والتعارف بفطرة الله لها على ذلك، كالنحل وغيره من الحيوانات، ومنها ما يمكن تفاهمه عن طريق السمع، وما يمكن تفاهمه عن طريق البصر بالإشارات والحركات، ومنها ما يمكن تفاهمه عن طريق اللمس، لكن الذوق لا يمكن أن يحصل التفاهم عن طريقه؛ لأن الطعوم محصورة، وقد صرح العلماء بأن أنواع الطعوم خمسة هي: الحلاوة، والمرارة، والمزية، والملحية، والتفاهة، فهذه خمس هي أصل الطعوم كلها.
أما المرئيات المشاهدات، وكذلك المسموعات، فهي كثيرة جداً يمكن التفاهم عن طريقها، وبهذا تخلص لنا جارحتان للتفاهم فيما بين الإنسان فالتفاهم بين بني آدم لا يتم إلا عن طريق السمع، أو عن طريق البصر.
أما عن طريق السمع فإنهم بالإمكان أن يسمعوا الكلام، وأما عن طريق البصر، فإنهم بالإمكان أن يقرءوا الكتابة، وأن يفهموا الإشارات، وهاتان الوسيلتان يمكن أن تفي بمقصود الإنسان، لكن جعل الله بعض بني آدم عمياً وجعل بعضهم صماً، فالعميان لا يمكن أن يتفاهموا عن طريق البصر مع غيرهم، والصم لا يمكن أن يتفاهموا عن طريق السمع مع غيرهم، فبقي التوازن بين هاتين الحاستين، لكنه جعل الزمن أيضاً مقسوماً بين ليل ونهار، وقد محا الله آية الليل وجعل آية النهار مبصرة، وبذلك ازدادت نسبة العميان في البشر بوجود الليل، فكان التفاهم عن طريق السمع أقوى وأوسع من التفاهم عن طريق البصر، ومن هنا جعل الله هذه اللغات هي أساس التفاهم بين الناس.(6/3)
نشأة اللغات
وقد علم الله آدم الأسماء كلها كما أخبر بذلك في كتابه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31]، وهذا التعليم اختلف فيه الناس هل كان عن طريق الوحي والتوقيف، أو كان عن طريق الإلهام والإلقاء؟ وكل ذلك ممكن، والله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، لكن اتفق الناس على أن ما يتجدد من دلالات الألفاظ، وما يطرأ من المجازات، إنما هو عن طريق الإلهام، ويضع الله القبول على بعض المصطلحات، فتشيع بين الناس.
ومن هنا فكل جديد يطلق الناس عليه عدة أسماء باعتبار أذواقهم، ولكنه سيثبت له اسم واحد يضع الله له القبول بين غيره من الأسماء، فمثلاً: عندما صنع أول جهاز (كمبيوتر) في الولايات المتحدة في جامعة (بنسلفانيا) سمي في البداية النظامة، ثم سمي الرتابة، ثم سمي الحاسوب، ثم سمي بالحاسب الآلي، ثم سمي بعد ذلك بالعقل الإلكتروني، وهذه الأسماء كلها لبعض وظائف هذه الآلة، لكن بتطور الزمان وبتطور الدلالات، لابد أن يثبت اسمٌ واحدٌ لهذه الآلة يكون اسماً عالمياً مشهوراً.
وكذلك لما طرأت آلة الفاكس للإرسال الكتابي عن طريق الاتصالات الهاتفية، إما عن طريق الكيبلات، أو عن طريق الأقمار الصناعية، أو عن طريق الألياف الزجاجية، سميت في البداية بـ (الناقل)، ثم سميت بـ (الهاتف الكاتب)، ثم سميت بعد ذلك بـ (الكاتوب)، وغيرها من المصطلحات، فبتطور الزمان سيختار اسمٌ واحدٌ يضع الله له القبول وينتشر بين الناس.
لا شك أن البشر متنوعون في الأذواق وفي البيئة، وفي أنماط الحياة، وبسبب ذلك تنوعت لغاتهم واختلفت، وقد نص العلماء على أن الله تعالى علم آدم اثنتين وسبعين لغة، وهي أصول لغات العالم، وهذه اللغات أصلها أربع فقط، ومنها تتشعب بقية اللغات كلها، حتى تصل إلى العدد الموجود اليوم.
ففي الهند وحدها أربعمائة وخمسون لغة! وهي دولة واحدة، وهذه اللغات بعضها يكون مشتقاً من بعض بالتداخل، كحال اللغة الفارسية مع اللغة البشتونية، واللغة الأوردية كذلك مع الفارسية ومع العربية، واللغة التركية كذلك مع اللغة العربية في التداخل في كثير من المفردات.
وكذلك فإن بعض اللغات يكون قابلاً للتطور بسرعة هائلة، فتتجدد دلالاته ومصطلحاته، ومن ذلك اللغة الإنجليزية، واللغة الفرنسية إلى حد ما فإن ألفاظها تتناقل وتتجدد، ومن هنا فنسبة (10%) من اللغة الفرنسية هو من الكلمات المنقولة، إما من اللغة الإغريقية أو من اللغة الرومانية، أو غيرها من اللغات، حتى من اللغة العربية.
لكن هذه اللغات، سواء كانت توقيفية أو كانت إلهامية، فإن كل ذلك يرجع إلى الاختيار الرباني، والاصطفاء الإلهي، والقبول الذي يضعه الله للكلمات حتى تتناسب مع الأذواق، فالحسن والقبح بمعنى ملائمة الطبع ومنافرته ووصف الكمال والنقص أمرٌ عقلي، وبمعنى ترتب الثواب والعقاب عاجلاً أو آجلاً أمر شرعي، ومن هنا حصل الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة فيما يتعلق بالتحسين والتقبيح، والخلاف ينبغي أن يكون لفظياً؛ لأن الحسن والقبح بمعنى ملائمة الطبع ومنافرته، لا شك أن هذا راجع إلى العقل، أما الحسن والقبح بمعنى ترتب الثواب والعقاب، فهذا شرعيٌ قطعاً لا بد فيه من وحي، فالخلاف يمكن أن يرجع إلى خلاف لفظي ولا تترتب عليه أحكام كثيرة.(6/4)
اصطفاء الله للغة العربية من بين اللغات
وإذا كان الأمر كذلك، وكان الأمر راجعاً إلى أن الله سبحانه وتعالى يضع القبول على بعض الكلمات، فتناسب أذواق أكبر عدد من البشر، فإن اللغة العربية قد اصطفاها الله على غيرها من اللغات، وشرفها على غيرها من اللغات، وتكلم بها سبحانه وتعالى بهذا القرآن الذي تحدى الثقلين الإنس والجن أن يأتوا بسورة من مثله، فأقصر سورة في كتاب الله هي سورة الكوثر، وهي ثلاث آيات، وقد تحدى الله الثقلين الإنس والجن على مر الدهور، أن يأتوا بسورة من مثلها، وقد وجدت كثير من المحاولات، وباءت كلها بالفشل؛ بل إن تلك المحاولات إذا سمع العقلاء بعضها ضحكوا واشتد هزؤهم منها، كمحاولات مسيلمة الكذاب، فهي غاية في السخافة، وعدم الانسجام، وذلك أنه اتجه إلى اتجاه واحد، وهو تركيب الألفاظ دون النظر إلى الإعجاز المعنوي، والإعجاز العلمي، والإعجاز التشريعي، وغيرها من أنواع الإعجاز التي جعلها الله في القرآن.
إذاً: اختيار هذه اللغة هو اختيار رباني بوحي من عند الله سبحانه وتعالى، واصطفاء منه، لا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولو جاء الناس فصوتوا وجاءت أغلبيتهم على رفض هذه اللغة؛ فإن ذلك لا يقلل نفوذها، ولا يقلل القبول الذي جعل الله لها؛ لأنه اصطفاء من عند الله لا يستطيع الناس رفضه ولا تجاهله، ومن هنا فإن الغربيين الذين يفخرون بلغاتهم، ويزعمونها اللغات العالمية المسايرة لتطور العالم، لا يزال فيهم من مثقفيهم وقادتهم وعلمائهم من يتخصص في دراسة اللغة العربية، ويخصص وقته لها.
وفي العصر الماضي اشتهر عدد كبير من هؤلاء، مثل بروكلمان، ومثل يوسف شخت من كبار المستشرقين الذين عنوا باللغة العربية، ونشروا كثيراً من مخطوطاتها، ودرسوها وحفظوا كثيراً من أشعار العرب، وصرح كثير منهم بأن هذه اللغة لا تعدلها أي لغة، وأذكر أننا في العام الماضي قابلنا أحد المستشرقين الكبار في جامعة في سكوتلاند في شمال بريطانيا، فذكر أنه قد خلد شهادته بأن اللغة العربية لا تعدلها لغة ولا تساويها في السمو والارتقاء، ولا في الذوق، ولا في الاتساع، وأنه كتب هذه الشهادة في جامعته وخلدها قبل ثلاثين سنة، وهذا كلام الأعداء، والحق ما شهدت به الأعداء.(6/5)
أهمية تعلم اللغة العربية من حيث الحكم الشرعي
إننا في بحثنا في أهمية أي شيء ننظر فيه من ناحية الحكم الشرعي، ثم من ناحية الفائدة والمصلحة البشرية، فلنبدأ أولاً بحكم الشرع في لغة العرب، وتعلمها فنقول:(6/6)
القدر الواجب تعلمه من اللغة على الأعيان
إن الله سبحانه وتعالى قد فرض على كل من آمن به تعلم جزء من العربية، وبهذا تكون العربية فرض عين على كل إنسان بقدر ما يقيم به ألفاظ الفاتحة، وبقدر ما يتقن به التكبير والتشهد والسلام في الصلاة، فهذا القدر من العربية فرض عين على كل مسلم، ولا يسع مسلماً جهله.
وهذا القدر اختلف الناس في تحديده؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20]، والناس تتباين رؤاهم في تحديد هذا القدر الذي هو أقل ما يخاطب به الإنسان من تعلم العربية، فقال قوم: لا بد أن يصل إلى مستوى يفهم به ألفاظ الفاتحة، وألفاظ التشهد، وألفاظ الدعاء المأمور به على سبيل الوجوب، وكذلك ألفاظ الأذكار التي تجب مرة في العمر بالتهليل والاستغفار، والتسبيح والتحميد وغير ذلك، فيجب عليه أن يتعلم معانيها بالعربية، وهذا القول هو الراجح، ومن القائلين به مالك والأوزاعي وسفيان الثوري، وغيرهم من كبار علماء السلف، فرأوا أنه يجب على الإنسان المسلم أن يتعلم معاني هذه الكلمات؛ لأنه لو قال: لا إله إلا الله دون أن يفقه معناها، فيمكن أن تلقن هذه الكلمة لأي إنسان، ولا يلزم بمقتضياتها، ولذلك فإن شهادة أن لا إله إلا الله لها أربع مقتضيات، من لم يحقق هذه المقتضيات الأربع فليس شاهداً أن لا إله إلا الله: فالمقتضى الأول: هو العلم بمعناها.
والمقتضى الثاني: هو مقتضى القول: أن ينطق بذلك؛ لأنها مشروطة على القادرين، فلا يدخل الإنسان الإيمان وهو قادر على النطق إلا إذا نطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
المقتضى الثالث: هو أن يلتزم بحقوقها التي يقاتل عليها من تركها: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها).
المقتضى الرابع: هو الإلزام بها، وهو أن يسعى الإنسان لنشر لا إله إلا الله، وتوسيع دائرة القائلين بها، وإلزام الناس بها.
فهذه المقتضيات الأربع هي مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله، وقد توسع بعض المتأخرين من المتكلمين في هذا الباب، فقد ذكر عليش في شرحه لأم البراهين في العقائد الأشعرية للسنوسي: أن من لم يفهم ما تتناوله شهادة أن لا إله إلا الله من العقائد، وهو خمسٌ وستون عقيدة على مقتضى عد المتكلمين؛ فإنه لم يؤد مقتضياتها.
وهذا تشدد ومبالغة لا محالة، ولكنه يدلنا على أهمية فهم شهادة أن لا إله إلا الله، فإذا كان بعض أهل العلم يرون أنك إذا لم تحقق مقتضياتها جميعاً وهي خمسٌ وستون عقيدة، فمعنى ذلك أنك لم تفهمها؛ فهذا يدلنا على أهمية تعلم اللغة التي يفهم بها معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
وإن الذي يدعو وهو لا يفهم ما يدعو به، أو يثني على الله وهو لا يفهم معنى ما يثني به، لا يمكن أن ينال أجر ما يقول؛ لأن الصلاة قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليصلي الصلاة وما كتب له نصفها ثلثها ربعها)، حتى انتهى إلى العشر؛ لأنه لا يكتب له منها إلا ما عقل ووعى، ومن هنا فإن على الإنسان أن يتفهم ويتدبر ما يقول، ولهذا قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]، وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، وهذا الخطاب ليس للعرب وحدهم، بل لجميع من آمن بهذا القرآن.
ونحن مع القول الأول المسهل الذي يقتضي أقل نسبة، وهي ما يكون الإنسان به فاهماً لمقتضى ما يقول من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ومحباً لما سوى ذلك، وعالماً أنه كلام الله، ومصدقاً به على سبيل الإجمال، لا على سبيل التفصيل.
فهذا القول لاشك أنه أسهل وأيسر، وهو الراجح من ناحية الاستدلال، لكن مع هذا لا نهمل الأقوال الأخرى، ولا نعتدي على أقوال أهل العلم، فلهذا لا بد أن يعلم كل إنسان أن من واجباته العينية أن يتعلم جزءاً من العربية، يفهم به معنى شهادة أن لا إله إلا الله، ويقيم به حروف الفاتحة ويفهم معاني ألفاظها، ويقيم به حروف ألفاظ التعبدات في الصلاة، وغيرها من الواجبات العينية، فهذا القدر لا خلاف في وجوبه.(6/7)
ما يتعلق بفرض الكفاية من تعلم اللغة
المرتبة الثانية: هي ما يتعلق بفروض الكفايات من العربية، فقد افترض الله على المسلمين تعلم علوم العربية على سبيل الكفاية، فإذا قام به من تحصل به إقامة الحجة على الناس كفى ذلك، وهذا داخل في عموم قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135].
فلا يمكن أن يكون الإنسان شاهداً لله إذا لم يكن فاهماً لما يشهد به؛ لأن العلم شرط في الشهادة؛ لقول الله تعالى: (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} [يوسف:81]، ولقوله تعالى: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86].
وفي حديث ابن عباس الذي أخرجه البيهقي في السنن بإسناد فيه ضعف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أترى الشمس إذا طلعت؟ قال: نعم.
قال: على مثلها فاشهد أو دع).
ومن هنا فلا يمكن أن يشهد الشاهد بما لا يعلمه ولا يفهمه، ولا بد أن يكون الإنسان فاهماً لما يشهد به حتى تقبل شهادته على ذلك، والله تعالى جعل هذه الأمة شاهدة على الناس، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
ولا يمكن أن تتم الشهادة على الناس إذا كنت لا تفهم ما تشهد به، وليس هناك وسيلة للاطلاع من خلالها على أحوال الناس، وما كذبوا به أنبياءهم إلا القرآن، والقرآن بلسان عربي مبين، فإذا لم تفهم هذا فلا يمكن أن تكون شاهداً على الناس، فإذا جاء نوح يوم القيامة يخاصمه قومه، فقالوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فقال: بلى، قد مكثت فيكم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فإذا كنت لا تفهم الآيات التي جاءت في قصة نوح، فلا يمكن أن تكون من الشهداء على هذا؛ لأن الشهادة من شرطها العلم.
وفروض الكفاية في اللغة العربية هي بتعلم علومها الأساسية، وعلومها الأساسية هي أربعة عشر علماً، وهي كلها داخلة في فروض الكفاية، وإذا لم يكن في الأمة من يعلمها حصل الإثم على أفرادها جميعاً، وإذا كان فيها في كل بلدٍ من يعلم هذه العلوم بقدر رد الشبهات، وإجابة الأسئلة المتعلقة بالقرآن والسنة، سقط الإثم عن الجميع.
وفرض الكفاية قد اختلف العلماء: هل هو أفضل أم فرض العين؟ ولذلك قال السيوطي رحمه الله في الكوكب الساطع: فرض الكفاية مهم يقصد ونظر عن فاعل يجرد وذهب الأستاذ والجويني ونجله يفضلُ فرض العين وهو على كل رأى الجمهور والقول بالبعض هو المنصور فقيل مبهم وقيل عُيِّنَ وقيل من قام به فعلى هذا: هذه العلوم الأربعة عشر لابد أن يكون في كل حاضرة من حواضر المسلمين من يعرف منها ما يرد به الشبهات، ويجيب به الاختلافات التي يوردها الناس على الكتاب والسنة.(6/8)
ذكر علوم العربية التي تعلمها فرض كفاية وأهميتها
وهذه العلوم هي:(6/9)
علم النحو
علم النحو: وهو أقدمها وأشرفها، ومرجعه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهو واضعه حيث كتب لـ أبي الأسود الدؤلي رحمه الله كتابه، وكان منطلق هذا العلم.
وهذا العلم به إقامة الكلم ومعرفة التركيب، كما قال ابن مالك رحمه الله في كافيته: وبعد فالنحو صلاح الألسنه والنفس إن تعدم سناه في سنه فمن لم يعرفه لا يمكن أن يفهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، ولا أن يفهم (لا إله إلا الله)، ولذلك من لا يعرف جزئياته ولا يستطيع إجابة مسائله؛ لا يمكن أن يفتي الناس في كثير من مسائلهم الفقهية.
ولذلك حصلت مسألة عجيبة في تاريخ هذه الأمة عرضت على عدد من كبار أهل العلم، فأحجم عنها معظمهم، حتى جاء أهل اللغة، وهم الذين استطاعوا أن يحلوا إشكالها، وذلك في قول الشاعر: فأنت طلاق والطلاق عزيمةً ثلاثٌ ومن يخرق أعق وألأم أو: وأشأم فهذا البيت يمكن أن يقرأ على أوجه متعددة: فأنت طلاق والطلاق عزيمةً ثلاثٌ أو: فأنت طلاق والطلاق عزيمةٌ ثلاثاً ويختلف المعنى والحكم الفقهي باختلاف الشكل، فإذا قال: فأنت طلاقٌ والطلاق عزيمةٌ ثلاثاً فإنه لا يلزم إلا طلقة واحدة، وإذا قال: فأنت طلاقٌ والطلاق عزيمةً ثلاث فإن ذلك ملزم لثلاث طلقات.
ومثل هذا كثير.
وقد حصل للقرافي رحمه الله في قول الشاعر: ما يقول الفقيه أيده اللـ ـه ولا زال شأنه يزدان في فتىً علق الطلاق بشهر قبل ما قبل قبله رمضان أو: بعدما بعد بعده رمضان.
فقال: في هذين البيتين مائتان وخمسون مسألة علمية! وكل ذلك راجع ٌ إلى شكل هذين البيتين، وما يتعلق بهما وما يؤخذ منهما من دلالات الألفاظ.
وقد حصل للشاطبي رحمه الله قصة أخرى مع شيخه ابن الفخار أثبتها في كتابه "الإفادات الإنشادات" فيقول: إن الشيخ ابن الفخار اجتمع عليه أهل الحديث ذات ليلة فحدثهم، ثم أراد أن يحمض لهم، والإحماض لدى أهل الحديث: أن يشهدهم قصة أو أدباً أو شعراً يزيل عنهم الملل، فسألهم عن معنى قول الشاعر: رأت قمر السماء فأذكرتني ليالي وصلنا بالرقمتين كلانا ناظرٌ قمراً ولكن رأيت بعينها ورأت بعيني فلم يستطع أحد منهم أن يحل هذا الإشكال، ومنهم أبو إسحاق الشاطبي، فسألوا الإمام ابن الفخار أن يشرح لهم البيت، فشرحه، وبين لهم أن القمر قمران: قمرٌ حقيقي وقمرٌ مجازي، فالقمر الحقيقي هو قمر السماء، والقمر المجازي هو الوجه، وهو المذكور هنا، وأن النظر كذلك إما أن يكون نظراً حقيقياً، أو يكون نظراً مجازياً، فعين البصيرة وعين البصر: وأن الرجل أراد ادعاءً أن يجعل الحقيقة مجازاً وأن يجعل المجاز حقيقة، فقال: رأت قمر السماء فأذكرتني ليالي وصلنا بالرقمتين كلانا ناظرٌ قمراً ولكن رأيت بعينها ورأت بعيني فعينها عين الحقيقة، وقد انقلبت إلي فكنت أنا ناظراً بعين الحقيقة وهي التي تنظر بعين المجاز.
فمن لم يكن عارفاً بما يفهم به مثل هذا من اللغة العربية، سيقع في إشكالات لا نهاية لها.
وكذلك فإن لسان الدين بن الخطيب رحمه الله في كتابه: "الإحاطة في أخبار غرناطة" ذكر الإشكالات التي يقع فيها الموثِّقُون والقضاة عندما يكتبون الأحكام ويوثقونها، فكثيراً ما يكتبون ألفاظاً لا تفهم أو لا تؤدي المعنى، أو تكون أوسع مما قاله القائل، وبذلك يقولون على القائل ما لم يقله، ويكتبون عليه ما لم يشهد به، فيقعون في شهادة الزور من حيث لا يشعرون، وذلك لنقص فهمهم للعربية.
ومثل هذا في رواية الحديث، فإن كثيراً من أهل الحديث يروون الحديث بالمعنى، وهي مسألة خلافيةٌ الخلاف فيها مشهور قديم، لكن المشكلة أن بعضهم يلحن في روايته، وقد قال أحمد بن حنبل رحمه الله: إن اللاحن في الحديث أحد الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يقل عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار)، وهو لا يلحن قطعاً، فمن قال عليه باللحن فقد قال عليه ما لم يقل، وبهذا يكون أحد الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا يُعلم خطر التكلم في العلم إذا لم يكن الإنسان صاحب لسان يمكن أن يعبر به أو أن يروي به.
ومثل هذا في القراءة، فإن إقامة قراءة القرآن إنما تكون بما وافق وجها نحوياً، ولذلك قال ابن الجزري رحمه الله: وكل ما وافق وجه النحو وكان للرسم احتمالاً يحوي وصح إسناداً هو القرآن فهذه الثلاثة الأركان ولذلك فالذين يلحنون في القراءة أو في الحديث كان ذلك جرحاً فيهم لدى كثير ممن سواهم؛ بل اقتضى نبذ روايتهم لدى أكثر أهل العلم، ومن هنا فعدد من الذين تكلم فيهم ما دفعوا عن ثقة ولا عن ضبط، وإنما تكلم فيهم من جهة اللحن؛ كـ أبي عبد الله بن عدي الحافظ صاحب الكامل، فقد كان يلحن، فتكلم كثير من أهل العلم في روايته بسبب اللحن، مع أنه إمام ضابط حافظ عدل ثقة، لكن تُكلم فيه من جهة اللحن فقط.
ومثل هذا ما حصل لليث بن أبي سليم، مع أنه عدل، لكنه كان يلحن، ولذلك يقول فيه أحد الشعراء: ينادي ربه باللحن ليثٌ لذلك إن دعاه لا يجيب فتكلم فيه بعض الناس من قبل اللحن الذي يقع فيه فقالوا: لا يوثق بروايته للحنه فيها.
واللحن يقلب المعنى كثيراً، ولذلك فإن أبا الأسود حين كلمته ابنته فقالت: ما أشدُّ الحر؟ قال: أيام ناجر.
قالت: أنا متعجبةٌ لا مستفهمة.
قال: ما هكذا تقول العرب، هي أرادت: ما أشدَّ الحرَّ! فقالت: ما أشدُّ الحر.
ومثل هذا ما حصل للوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين عندما أتاه أعرابي فسأله فقال: ما شانك؟ فقال: فدعٌ في رصفي وعورٌ في عيني، فقال له عمر بن عبد العزيز: الأمير يريد ما شأنُك؟ فقال: جئت ممتاراً لأهلي.
فسأله عمن معه ولحن في ذلك، ثم سأله حين أخبره أن معه ختنه فقال: ومن خَتَنَك؟ يقصد: ومن ختْنُك؟ فقال: حجام كان معنا في البادية.
فقال له عمر بن عبد العزيز: الأمير يريد: ومن ختْنُك؟ ومثل هذا في اللحن كثير.
ويقال: إن عمر بن عبد العزيز حين كان بالمسجد والوليد يخطب فقال الوليد: (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةُ)، بالرفع، فقال عمر: وددتها والله.
ود لو مات عندما قرأها هكذا! ولذلك فإن سبب قراءة سيبويه للنحو: أنه في البداية اشتغل برواية الحديث، ولكنه قرأ: (ما من أصحابي إلا من شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء)، فقرأها هو: ليس أبو الدرداء، فلحنه أصحابه وهزءوا به، فعدل عن قراءة الحديث وذهب حتى تمرس باللغة، وألف الكتاب، ثم بعد ذلك روى الحديث.
ولذلك فإن مالكاً رحمه الله قد درس النحو على الخليل بن أحمد، فجلس عنده أسبوعاً يلازمه حتى أتقن النحو فيه.
والشافعي رحمه الله لم يشتغل بدراسة العلم حتى جلس في قبيلة هذيل، وحتى حفظ عشرين ألفاً من أشعارهم، ونحو هذا كثيرٌ جداً في حال سلفنا، فمن لم يكن ذا سلاح من علم النحو لا يمكن أن يفهم، ولا أن يُفتي في كثير من المسائل.(6/10)
علم مفردات اللغة
ثم بعد النحو علم مفردات اللغة: وهو العلم الثاني في الأهمية، فهذه اللغة العربية ليست مثل غيرها من اللغات، بل لها كثير من المفردات المتداخلة، بعضها يجمعها جذر واحد، وبعضها تختلف في الجذر، وبعضها يعرف في بعض المناطق دون بعض، والقرآن الكريم قد اختير من خير هذه الكلمات والمفردات، واختار الله له أفضل التعبيرات، ولذلك يأتي التعبير تارة بلغة حمير لغة أهل اليمن، وتارة بلغة أهل نجد، وتارة بلغة أهل الحجاز، فيختار من كل لغة أفصحها وأدقها معنىً وأحسنها ذوقاً، حتى يتكامل ذلك ويكون جميعاً من اللغة العربية المختارة.
والذين يزعمون أن القرآن جاء بلغة قبيلة واحدة من العرب يغلطون في هذا، ويرد عليهم الاعتراض، وقد جاء أحد النحويين من أهل اليمن فكان في مجلس الخليفة هارون الرشيد، فأخبره أن القرآن نزل بلغتهم، وبدأ يسرد بعض الكلمات التي لا تعرفها قريش وهي في القرآن من لغة أهل اليمن، ويذكر شواهدها، فلما أطال كان بحضرته أحد القرشيين، فقال: أسمعت ما يقول هذا اليماني؟! قال: لا أدري ما يقول، غير أن الله تعالى يقول في كتابه: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح:7]، ولم يقل: جعلوا شناترهم في صناراتهم! وهذه لغة أهل اليمن، الشناتر: الأصابع، والصنارات: الآذان.
فالله تعالى يختار من الكلمات ألطفها وأقربها للذوق الصحيح السليم، سواء كانت من لغة أهل اليمن، أو من لغة أهل الحجاز، أو من لغة أهل نجدٍ أو غيرهم.
ومن لم يعرف مفردات اللغة لم يحل له الكلام في التفسير ولا التفهم فيه ولا التدبر في كثير من الكلمات، بل إن كثيراً من الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتورعون من الكلام في بعض الكلمات التي جاءت في القرآن إذا لم تكن من لغتهم ولم يعرفوا دلالاتها ومدلولاتها، حتى إن أبا بكر رضي الله عنه قال: (أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في القرآن ما لا أعلم!).
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في مجلسه فأتته امرأة من أهل اليمن تستعديه على زوجها، فقالت: يا أمير المؤمنين! إن بعلي عبد حقي، وترك الوصيد رهواً، ولي عليه مهيمنٌ، فهل لي عليه من مسيطر؟ فقال: لم أفهم ما تقولين.
فقال ابن عباس: كلمات كلهن في كتاب الله، إن بعلي، أي: زوجي قال تعالى: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود:72]، عبد حقي، أي: تركه وضيعه، قال تعالى: {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] أي: التاركين لعبادة ذلك الولد، وترك الوصيد رهواً، الوصيد: الباب، {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18]، رهواً، أي: مفتوحاً، قال تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان:24]، ولي عليه مهيمنٌ، أي: شاهدٌ قال تعالى: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48]، فهل لي عليه من مسيطر؟ أي: حاكم، قال تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22].
فاستشهد ابن عباس على أن الكلمات التي أطلقتها هذه المرأة كلها في القرآن، ففهم عمر دلالاتها وأعداها على زوجها.
ونظيرُ هذا ما حصل لـ ابن عباس رضي الله عنهما مع نافع بن الأزرق أمير الأزارقة من الخوارج، فإنه أتاه من العراق يسأله عن تفسير كلمات من مفردات اللغة العربية في القرآن، فأطال عليه وأكثر، واشتهرت هذه المسائل فيما بعد بمسائل ابن الأزرق، وهي تزيد على مائتي مسألة من المفردات القرآنية، منها مثلاً قوله: (عطاء غير ممنون) قال: ما معنى غير ممنون؟ قال: غير مقطوع، أما سمعت قول الحارث بن حلزة اليشكري: فترى خلفها من الرجع والـ ـوقع منيناً كأنه إهباءُ وسأله عن عدة كلمات من هذا القبيل، وهو يذكر له شواهدها في اللغة، فبينما هو كذلك إذ ضجر به، فجاء عمر بن أبي ربيعة المخزومي، فسأله ابن عباس عن آخر ما قال من الشعر فأنشده قصيدته التي مطلعها: أمن آل نعم أنت غادٍ فمُبكرُ غداة غدٍ أم رائحٌ فمهجّرُ بحاجة نفسٍ لم تقل في جوابها فتبلغ عذراً والمقالة تُعذرُ حتى أتى على آخر القصيدة وهي ثمانون بيتاً، فحفظها ابن عباس بهذه المرة الواحدة، فقال نافع: لله أنت يا ابن عباس! نضرب إليك أكباد الإبل في طلب العلم فتعرض عنا! ويأتيك شابٌ حدثٌ من قريش ينشدك سفهاً فتسمعه! فقال: ما سمعت سفهاً، فقال: بلى، أما سمعت قوله: رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخسرُ فقال: ما هكذا قال، وإنما قال: رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصَرُ ثم سأله عن قول الله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه:118 - 119] فقال: ما معنى قوله: {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه:119] قال: تضحى: تبرز للشمس.
قال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: أما سمعت قول المخزومي بالأمس: رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصَرُ ولذلك فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوصى بديوان العرب وحفظه، وكان يتعهد أشعار العرب، ويستمع إليها، ولهذا فإن حسان بن ثابت كان ينشد بعض أشعاره في المسجد، فكان عمر إذا أنشد حسان شيئاً من شعره في هجاء المشركين أو في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أذن له، فإذا ذكر شيئاً من أشعاره في الخمر وأمور الجاهلية خرج عمر، فمر به مرة وهو ينشد شعراً من أشعاره في أولاد جفنة من قصيدته اللامية التي يقول فيها: أبناء جفنة حول قبر أبيهمُ قبر ابن مارية الكريم المفضل يغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسألون عن السواد المقبلِ يسقون من ورد البريص عليهمُ بردى يصفق بالرحيق السلسلِ بيض الوجوه كريمةٌ أحسابهم شم الأنوف من الطراز الأولِ حتى أتى على آخر القصيدة، فغضب عمر من إنشادها، وكان جبلة بن الأيهم إذ ذاك قد تنصر وهرب إلى الروم، وأرسل بهديةٍ إلى حسان، فامتدحه حسان بأبياتٍ يقول فيها: إن ابن جفنة من بقية معشرٍ لم يغذهم آباؤهم باللومِ لم ينسني بالشام إذ هو ربها كلا ولا متنصراً بالرومِ يعطي الجزيل ولا يجده عنده إلا كبعض عطية المذمومِ وأتيته يوماً فقرب مجلسي وسقى فروّاني من الخرطومِ فغضب عمر حين امتدح هذا الكافر، فقال له حسان: مه يا ابن الخطاب! فقد كنت أنشده وفيه من هو أفضل منك، فما تعداها عمر.
وكذلك فإن عمر كان يسأل الشعراء ويقيم بينهم المفاضلة، فأتاه رجل من ذرية هرم بن سنان، فسأله وقال: ما نحل جدك هرم زهير بن أبي سلمى؟ فقال: أعطاه أثواباً خلقت وأموالاً نفدت، قال: لكن ما كسا زهير أباك لا ينفد، فأنشده بعض مدحه فيه بقوله: يطلب شأو امرأين قدما حسناً نالا الملوك وبذا هذه السوقا هو الجواد فإن يلحق بشأوهما على تكاليفه فمثله لحقا أو يسبقاه على ما كان من مهلٍ فمثل ما قدما من صالح سبقا إلى أن يقول فيها: بل اذكرن خير قيسٍ كلها حسباً وخيرها نائلاً وخيرها خلقا القائد الخيل منكوباً دوابرها قد أحكمت حكمات القد والأبقا غزت سماناً فآبت ضُمّراً خُدُجاً من بعد ما جنبوها بُدَّناً عُققا فطرب عمر لهذه الأبيات، وأخبر أن ما كساه زهير ٌ هذا الرجل لا يخلق ولا يبلى.
وكذلك سأل عمر أحد الشعراء عن أشعر الناس، فجرى على عادة العرب أن يفضلوا من كان بينه وبينهم قرابةٌ ليفخروا بشعره، فقال: لا، بل أشعر العرب صاحب من ومن، يقصد به زهير بن أبي سلمى في حكمه التي قالها في آخر معلقته الميمية.
ومن لم يعرف مفردات هذه اللغة فكثيراً ما يلتبس عليه الكلام ولا يفهمه، وبالأخص في زماننا هذا الذي تداخلت فيه اللغات والحضارات.
ولا أزال أعجب من بعض المثقفين الذين يحاولون ترجمة القرآن إلى لغات أخرى، وهم لا يتقنون مفردات اللغة العربية فيقعون في أخطاء عجيبة! ترجم أحدهم القرآن بالفرنسية، وهو من المتبجحين بالمهارة في اللغات، لكنه في قول الله تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر:75]، فسر (حافَّين) بحافِينَ! وأن معناها: بلا نعال! وكذلك حاول آخر ترجمة القرآن إلى الإنجليزية، فترجم قول الله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29] قال ما معناه: لا تجعل يدك مربوطةً إلى عنقك، ولا تبسطها بسطاً شديداً حتى تنخلع! فلم يفهم هذه المفردات، ومن هنا وقع في هذا الغلط البالغ، ونظيرُ هذا كثير جداً.
فكثيراً ما يقع الإنسان في إشكال وهو يتدبرُ آيةً من القرآن، أو يتفهم حديثاً، فيخطئ في فهمه خطأً بالغاً، ولهذا فإن الأولين لم يكن لديهم النقاط التي تميز الحروف، وإنما كانوا يميزونها بفطرتهم وذوقهم، فإذا قرأ الإنسان قرأ على السليقة فلم يخطئ، ولذلك يقال: إن الشافعي رحمه الله عندما أراد أن يحفظ القرآن وقد سمعه مرة واحدة، فأراد أن يراجعه فأخطأ في كلماتٍ في نقاط الحروف فقط، فقرأ قول الله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37] قرأها: يعنيه.
وهذا مناسب للذوق، وهو نفس المعنى، لكنه غير موافق للرواية، فكان ذلك خطأً.
ونحن اليوم قد فسدت أذواقنا اللغوية، فلم يعد أحد منا يستطيع أن يتكل على أشكال الحر(6/11)
علم التصريف
العلم الثالث: علم التصريف: وتعرف به أوجه الاشتقاق في الكلمات، وهو علمٌ لا غنى عنه في تفسير القرآن والسنة، ولا يمكن أن يكون الإنسان صاحب تدبر وتفهم إلا إذا كان متقناً لهذا العلم، ومن هنا فكثير من خلافات الفقهاء في الاستنباط أصلها الخلاف في مسائل صرفية، فمثلاً: قال ابن الأنباري رحمه الله: إن الخلاف بين المالكية والشافعية وغيرهم في العدة هل هي بالحيض أو بالأطهار، خلاف أصله راجع إلى التصريف، وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، فقال: القرء الذي يجمع على قروءٍ هو الطهر، والقرء الذي يجمع على أقراءٍ هو الحيض، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث فاطمة بنت أبي حبيش: (دعي الصلاة في أيام أقرائك)، فقال: الأقراء هي الحيضُ، والقروء هي الأطهار.
واستدل على ذلك بقول الأعشى: أفي كل عام أنت جاشم غزوة تشد لأقصاها عزيم عزائكا مورثة مالاً وفي الحي رفعةً لما ضاع فيها من قروء نسائكا والذي يضيع هو الأطهار لا الحيض.
واستدل كذلك بقول الراجز: يا رب مولى حاسد مباغض علي ذي ضغن وضب فارض له قروء كقروء الحائض فالقروء هنا للحيض لا للأطهار.
ونظير هذا كثير جداً في الكلمات القرآنية أو كلمات السنة التي يكون الاختلاف في فهم دلالتها سبباً للاختلاف في مسائل فقهية، ويكون ذلك راجعاً إلى أحد علوم اللغة المذكورة.(6/12)
علوم البلاغة
العلم الرابع من هذه العلوم: علم المعاني: وهو الذي يتم به التعبير على الوجه الصحيح، من التقديم والتأخير والحذف والإثبات، وغير ذلك مما يحتاج إليه المعبر في كلامه، ولا يمكن أن يفهم الإنسان سرد الكلام ولا تفصيل الجمل إلا إذا كان عارفاً بعلم المعاني.
العلم الخامس: علم البيان، الذي يقصد به التعبير بأساليب متنوعةٍ عن معنى واحد، كالحقيقة والمجاز، والكناية، والتصريح، وأنواع التشبيه، فهذا العلم من لم يتقنه لا يمكن أن يفهم كثيراً من دلالات الألفاظ من الكتاب والسنة.
العلم السادس: علم البديع: الذي يُدرك به الإعجاز في القرآن، فإن كثيراً من الناس يؤمنون بسبب إعجاز القرآن اللفظي، حتى إن أعرابياً قرأ عليه قارئٌ قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور:43]، فلما وصل إلى قوله: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور:43] خر ساجداً لإعجاز هذه الألفاظ في ترتيبها ودقتها في وصف المطر، وتهيئته، وإنزال الغيث منه، وكذلك فإن كثيراً من الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية عهده إنما كان لإعجابهم بإعجاز القرآن بالألفاظ نفسها والسياق، ولذلك قال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت سجع الكهان، وشعر الشعراء، وخطب البلغاء، فما سمعت شيئاً كهذا القرآن.
وقد بين الله سبحانه وتعالى هذا النوع من الإعجاز فيه، وأرشد إليه في عدد كبير من الآيات.(6/13)
علم الاشتقاق
العلم الثامن: علم الاشتقاق: وهو الذي تفهم به العلاقة بين ألفاظ اللغة، وتجعل به اللغة سلالات متقاربة.
وهذا العلم معينٌ على أوجه التدبر المختلفة، ومعينٌ على الاستنباط لكثير من الأحكام من الآيات ومن الأحاديث.(6/14)
علم آداب العرب وأشعارها
العلم التاسع: علم آداب العرب وأشعارها: ولا يمكن أن يستدل لأي معنىً من معاني القرآن أو السنة إلا من خلال هذا العلم، فإن الاستدلال بدلالات الألفاظ إنما يكون على هذا الوجه، ومن أشعار العرب تؤخذ وتعرف، ولذلك أوصى عمر بحفظ ديوان العرب.(6/15)
علم التاريخ
ومن العلوم اللغوية المهمة: علم التاريخ: وهو الذي يعرف به طريقة التاريخ لأية حادثة، فتاريخ العرب يبدأ بالليالي لسبقها على الأيام، ويعبر عنه بعبارة مناسبة، سواء كان في أول الشهر أو في آخره، ومن لم يتقن ذلك لم يستطع الاستدلال بالتاريخ.
والتاريخ ضرب من ضروب الاستدلال في القرآن، ولهذا رد الله تعالى على اليهود والنصارى حين زعموا أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً، فقال الله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:65].
فبداية اليهودية نزول التوراة، وبداية النصرانية نزول الإنجيل، وإبراهيم ما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده، فهذه الدعوى باطلة.
ومثل هذا ما استدل به الخطيب البغدادي حين جاء اليهود بوثيقةٍ يزعمون فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط عنهم الجزية، وهي وثيقة قد كتبوها في عصور سابقة، ووضعوا عليها الزيت، ووضعوها في الشمس أو سخنوها على النار حتى أصبحت قديمة، وأخرجوها في أيام أحد خلفاء بني العباس، فلما عرضت هذه الوثيقة على الخطيب البغدادي بصق عليها، وقال: هذه مزورة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقيل: من أين لك ذلك؟ فقال: ذكر من شهودها سعد بن معاذ ومعاوية بن أبي سفيان، وما جمعهما الإسلام، فقد أسلم معاوية عام الفتح، ومات سعد أيام غزوة بني قريظة، وقد جرح بالأحزاب، وغزوة بني قريظة كانت في نهاية العام الخامس من الهجرة، والفتح كان في العام الثامن من الهجرة، فما جمعهما الإسلام، فكيف يستشهدان على شهادة واحدة؟! ومثل هذا ما حصل للحاكم أبي عبد الله أحمد بن البيع حين سمع شيخاً بنيسابور يحدث عن هشام بن عمار، فسأله فقال: متى دخلت مصر؟ قال: سنة ثمانين.
فقال: إن هذا الشيخ يحدث عن هشام بعد موته! لقد لقي هشام بعد موته بإحدى عشرة سنة! فهذا مما يحتاج الناس إليه في إثبات العلم، ولا يمكن الاستغناء عنه.(6/16)
علم العروض والقوافي
ومن علوم العربية المفيدة: علم العروض وعلم القوافي: إذ بهما إقامة الشعرِ، والشعرُ أهميته واضحةٌ سواء كانت في التاريخ الماضي، ولذلك علقت المعلقات على الكعبة، أو كانت في صدر الإسلام، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم حسان أن يهجو قريشاً، وأخبره أن هجاءه أشد عليهم من وقع النبل، وأمر أبا بكر أن يعينه على ذلك، ولهذا حين وصل إليهم قول حسان رضي الله عنه: وإن كرام الأصل من آل هاشم بنو بنت مخزوم ووالدك العبد قالت قريش: هذا والله شعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة، فإنه استله منهم كما تستل الشعرة من العجين: وإن كرام الأصل من آل هاشم بنو بنت مخزوم عبد الله وأبو طالب، وأمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ المخزومية، فهذا لا يعرفه إلا من كان من أهل الأنساب، فلذلك قالوا: شعر والله ما غاب عنه ابن أبي قحافة.
والعروض والقوافي بهما إقامة أوزان الشعر، ومعرفة قوافيه، والشعر من أوجه الإتقان في هذه اللغة والتميز فيها، فهو أمر يحتاج إليه، ولذلك نص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على أن الأهزاج المخالفة لأوزان الخليل بن أحمد بدعة، لا يحل الاشتغال بها، وهذا يقال في الشعر الحُر، فما كان منه غير جارٍ على التفعيلات المعروفة، أو كان خارقاً لها، فهو تغييرٌ وابتداعٌ يؤدي إلى نقض المألوف والمشهور بين الناس، ولذلك يعتبر منهياً عنه من هذا الوجه.(6/17)
أهمية اللغة العربية بالنظر إلى المصلحة
هذه بعض علوم اللغة العربية التي هي فروض كفايات، وبهذا تعرف مزية هذه اللغة من ناحية الحكم، أما من ناحية المصلحة، فإن أعظم ما تحتاج إليه الشعوب والأمم هو ما يميزها حتى لا تذوب فيما سواها، وكل أمةٍ لها حضارة، ولها ميزات تميزها عن غيرها، وإذا زالت هذه الميزات وذابت في غيرها ذابت تلك الأمة في غيرها من الأمم، ومن هنا فإن الميزة التي تميز هذه الأمة عن غيرها من الأمم هي اللسان العربي.
وإذا تخلصت هذه الأمة من لسانها أصبحت ذنباً في ذيل غيرها من الأمم، وكانت تابعةً لغيرها، ولم يعد لها تاريخٌ، ولا ذكرٌ بين الأمم، ونظير هذا كثير جداً مما يقتضي منا المحافظة على مثل هذه القيم، وهذا التراث العريق الذي نحن بحاجة إليه، والأمة بحاجة إلى من يقوم بحفظه والعناية به.
إن الحفاظ على هذه اللغة العربية بالإضافة إلى أنه مما يتعبد الله به ويبتغى به وجهه، هو من التسنن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وأصحابه المهديين، والتابعين وأتباعهم، وهو كذلك مما يرفع الله به الدرجات، ويزيد به المنازل، والناس محتاجون إليه، ولا يمكن أن يستغنى عنه، ولهذا يجب على الآباء أن يعلموا أولادهم هذه اللغة، وأن يعلموهم محبتها، ويجب على أساتذة اللغة العربية أن لا يكونوا من الفتانين، وأن يحببوا هذه اللغة إلى من يدرسها، وأن يحدثوا لديهم ذوقاً لغوياً يقتضي منهم محبةً لهذه اللغة وعناية بها وتركيزاً عليها، وكذلك على الأمهات أن يشاركن في تعليم الأولاد، وتحبيب هذه اللغة إليهم، وعلى الكبار كذلك أن يدرسوها، وأن يتدبروها، وأن يعلموا أنهم لا يمكن أن يفهموا القرآن ولا السنة إلا إذا كان لديهم رصيدٌ من هذه اللغة، وأن يفهموا أن قيمهم وتاريخهم ومجدهم مرتبط بهذه اللغة.
إن الحفاظ على هذه اللغة لا يمكن أن يكون من واجبات نظام أو دولة فقط، بل لابد أن يكون من واجبات الأفراد والأمة بكاملها، وأن تعتني بذلك، وأن يقع التعاون عليه، وأن لا يبقى أحدٌ يستطيع المشاركة إلا قدم مشاركته.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يزيدنا علماً، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعلنا هداةً مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
اللهم وفقنا لما يرضيك عنا، وخذ بنواصينا إلى الخير أجمعين، اللهم استرنا بسترك الجميل، اللهم ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا.(6/18)
الأسئلة(6/19)
التوبة النصوح
السؤال
ما هي التوبة النصوح؟
الجواب
لقد أوجب الله على عباده التوبة النصوح في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) [التحريم:8]، وقد نص العلماء على أن التوبة النصوح هي الصادقة التي تمحو كل ما سبقها، ويكون الإنسان بها نادماً على ما فرط في جنب الله، وساعياً لإصلاح حاله في المستقبل، فإذا كان الإنسان قد ندم على ذنبه، وندم على ما فرط في جنب الله، وأراد إصلاح حاله في المستقبل، والعدول عن كل ما وقع فيه، ورد التبعات إلى ذويها ومستحقيها، فهو الذي تاب توبةً نصوحاً.
أما الذي يستغفر بلسانه، وقلبه مصر على العود والرجوع، أو لا ينوي الرجوع، لكنه حال بينه وبينه عجزٌ أو كبرٌ أو نحو ذلك، فهذا ليست توبته توبةً نصوحاً.(6/20)
حكم إعادة الامتحان لنيل شهادة معينة
السؤال
هل تجوز إعادة شهادة للمشاركة بها في مسابقة ما؟
الجواب
لعل مقصود السائل: المشاركة في امتحانٍ لنيل شهادة معينة؛ ليشارك بها في ملف يشترط فيه أن تكون الشهادة ذات عهد حديث، والجواب: أن هذا من الأمور الجائزة ولا حرج فيه شرعاً؛ لأن الشهادات المقصود بها ما كان على أساس امتحانٍ نجح فيه الإنسان، ويحدد مستواه وصلاحيته للتخصص الذي يدرسه، ومن هنا فلا حرج في إعادة الامتحان، حتى لو كان الإنسان كبيراً، فإذا وجدت له فرصة في أي امتحان، فبإمكانه أن يشارك.(6/21)
وجوب البراءة من القوانين الوضعية
السؤال
ما هو موقف المسلمين من القوانين الوضعية التي تتحكم في رقابهم؟
الجواب
القانون دينٌ، فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف:76].
فالقانون الوضعي دينٌ غير دين الله، ومن هنا تجب البراءة منه، والكفر به، والعدول عنه، ولا يحل للإنسان التحاكم إليه، وهو من الطاغوت الذي نهينا عن التحاكم إليه، والله تعالى يقول في كتابه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].(6/22)
حرمة بيع الصور المجسمة
السؤال
هل يحرم بيع الصور المجسمة؟
الجواب
تلك الصور إذا كانت كاملة الخلقة، ذات ظل، فيحرم بيعها والاتجار بها، بل يجب كسرها وتغييرها؛ وذلك لأن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم هذا، وبين أن اليهود حين حرم الله عليهم الشحوم جملوها فأكلوا ثمنها فاستحقوا اللعنة بذلك.(6/23)
غسل المريض رأسه
السؤال
رجل يجد آلاماً في رأسه، هل يكفيه تخليل رأسه بالغسل دون صب الماء على رأسه، أو ماذا يصنع؟
الجواب
من كان مريضاً فإنه لا يجب عليه أن يفعل إلا ما يطيقه وما لا يضر به، فإن جرب أن غسل رأسه وصب الماء عليه مضرٌ به، أو أخبره طبيب بذلك، فليس له أن يفعل ذلك، وإن جرب أنه لا يضر به، ولا يؤخر شفاء مرضه، أو أخبره الطبيب بأن غسل رأسه لا يضره، فلا يحل له تركه، فالعبرة هنا بالتجربة وإخبار الطبيب الناصح.(6/24)
القضاء والكفارة في الصيام إنما تكون في حق المفرط
السؤال
إنسان أتى عليه رمضان وهو يشك في وجوب صيامه عليه، ثم إنه لم يصم ذلك الشهر، فهل عليه قضاء هذا الشهر، وهل عليه كفارته؟
الجواب
أن عليه القضاء، وليس عليه الكفارة على الراجح، هذا إذا كان مريضاً وأعمل وسائل التحقق، أما إذا كان شكه غير مبني على حجةٍ بأن كان صاحب مرض خفيف، فظن أن مجرد وجود الحرقة في معدته أو في مريئه يبيح له ترك الصيام، فهذا مفرط، وتجب عليه الكفارة فيما فرط فيه، ويجب عليه القضاء مع ذلك.(6/25)
أهمية علو الهمة
السؤال
علو الهمة أمرٌ مهمٌ يجب على الشباب التحلي به، وكذلك الشيوخ، ما هي أهميته في فهم النصوص الشرعية؟
الجواب
هذا هو ما تعرض له الشيخ محمد يحيى في قصيدته في علو الهمة آنفاً، وعموماً فإن من لم يهتم بشيء لا يناله، والذي يريد فهم النصوص، ويريد أن يكون من أهل القرآن، ومن أهل السنة لابد أن يهتم بذلك، وأن يبذل في سبيله.(6/26)
معنى استشراف المستقبل
السؤال
ما المراد باستشراف المستقبل، وهل معناه معنى التكهن؟
الجواب
أن التكهن مشتق من الكهانة، وهي خلطة الجن للاطلاع على الغيوب، وهي محرمة شرعاً، ومن الشرك بالله سبحانه وتعالى لقول الله تعالى: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:128]، ولكن التكهن مصطلح لدى أهل علم الإدارة يطلقونه على استشراف المستقبل بمعنى: عد الاحتمالات الواردة التي تعترض مشروعاً أو تساعده، ليتم على ذلك التنبؤ والتحكم، والتحكم هو إيجاد الحلول لما أدت إليه نتيجة التنبؤ، فيسمى هذا تنبؤاً وتكهناً اصطلاحاً فقط.
لكن ليس هو نبوةٌ ولا كهانة، وإنما هو مجرد استشراف للأحوال المستقبلية من قراءة السنن الإلهية وما أجرى الله عادته به، فالاحتمالات التي يمكن أن ترد أمام المشروع، أو أمام القرار الذي يريد الإنسان اتخاذه تُعد، ثم كل احتمال يمكن أن توضع له عدة حلول، وهذه الحلول هي التي يسمونها بالتحكم، واستشراف المستقبل هو الذي يسمونه بالتنبؤ، وهذه مصطلحات إدارية، ولا مشاحة في الاصطلاح، لكن على أهل علم الإدارة إذا نقلوها إلى العربية أن ينقلوها بألفاظ موافقة للشرع، فإنها لا تضرهم ولا تغير شيئاً، وهي مطلوبة ومما يرفع الإلباس والإشكال.(6/27)
إدراك الركعة بإدراك الركوع
السؤال
هل تدرك الركعة بإدراك الركوع، وما الدليل على ذلك؟
الجواب
الراجح أن الركعة تدرك بالركوع، وهذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم، وقد ثبت عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أفتوا بأن الركعة تدرك بالركوع، وهم زيد بن ثابت وأبو هريرة وعبد الله بن عمر، فكل هؤلاء قالوا: إذا فاتتك الركعة، فقد فاتتك السجدة، وإذا أدركت الركعة فقد أدركت السجدة.
وقالت طائفة من أهل العلم: لا تدرك الركعة بالركوع، ولكن هذا المذهب أهله أقل من السابقين، فبالمذهب الأول أخذ فقهاء المذاهب الأربعة، فقد اتفقوا على أن الركعة تدرك بالركوع، والذين ذهبوا إلى أن الركعة لا تدرك بالركوع استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم (كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج).
ولكن يجاب عن هذا بأن الركعة ليست صلاةً كاملة، فإذا لم تقرأ الفاتحة في هذه الركعة فبالإمكان أن تقرأها بالركعة التي تليها، وبذلك لا تكون صلاتك خداجاً؛ لأنك قرأت فيها الفاتحة، وهذا الجواب واضحٌ جداً، فهو قاضٍ على الاستدلال بهذا الحديث في هذه المسألة.(6/28)
صفة التيمم
السؤال
ما صفة التيمم؟ وهل من لم يراعِ ما غار من لحييه، وجانبي أنفه وما بدا من شفتيه وعنفقته تيممه صحيح؟
الجواب
أن التيمم في اللغة: القصد، يقال: يممه تيمماً إذا قصده، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267]، أي: لا تقصدوا الخبيث من أموالكم تنفقونه وتقصدون به المضاعفة عند الله.
والتيمم في الاصطلاح هو: الطهارة الترابية، التي هي مسحتان وضربتان، ضربة يمسح بها الوجه من منابت الشعر إلى الذقن طولاً، وما بين الأذنين عرضاً على الراجح، وقيل: ما بين العذارين، ويمسح بها ظاهره فقط، ولا يطلب تتبع غضونه، ولا تتبع تكاميش الجبهة، ولا تتبع ما حول الأنف وما حول العينين، ولا ما بدا من الشفتين، ولا تتبع الجرح الغائر، إذا برأ، ولا يلزم فيها تتبع الوترة التي بين المنخرين، ولا تتبع تجاعيد الأرنبة، أي طرف الأنف، فهذه الأمور لا يطلب تتبعها في مسحة التيمم، وإنما هي مسحة خفيفة، ثم مسحةٌ كذلك بيديه إلى الكوعين، وهذا وهو القدر الواجب.
وإذا مسح إلى مرفقيه، فهذا سنة وتكملة، ولكنه يكفيه أن يمسح وجهه مسحة واحدة، ويديه إلى الكوعين، مسحة أخرى، والضربة الثانية كذلك سنة على الراجح وليست بواجبة، فلو ضرب الإنسان ضربةً واحدةً، أي: وضع يديه مرةً واحدةً على الأرض، كان مجزئاً، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم صورة التيمم، فوضع كفيه على الأرض ومسح بهما وجهه وكفيه إلى الكوعين وقال: (إنما كان يكفيك هكذا) كما في حديث عمار بن ياسر، وكذلك مسح الحائط بعصاه حتى ثار غباره فوضع يديه عليه فمسح بهما وجهه وكفيه لرد السلام، وهذان التيممان الواردان عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرو عنه أنه تيمم للصلاة.
واختلف فيما يحصل به التيمم؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه} [النساء:43].
ذهب الشافعي إلى أن الصعيد الطيب هو المنبت لقول الله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) [الأعراف:58].
فما ليس منبتاً لا يتيمم به، فلا يتيمم على الحجر، ولا على السبخة التي لا تنبت عند الشافعي، وبهذا أخذ أحمد بن حنبل، واستدلا أيضاً بأن الله قال: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه} [النساء:43].
و (من) هنا جعلاها تبعيضية، أي: ببعضه، والبعض الذي يمكن أن يمسح بالوجه والكفين منه إنما هو الغبار الذي يثور، واستدلا أيضاً بمسح النبي صلى الله عليه وسلم بعصاه الحائط وحكه حتى ثار غباره.
وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أن الطيب في الآية هو ما صعد على وجه الأرض من أجزائها، وأن المقصود بطيبه طهارته، فالطيب هنا بمعنى الطاهر، وقد جاء في القرآن إطلاق الطيب على الطاهر، وجاء ذلك في الحديث كقول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا).
فالمقصود بذلك الطاهر الحلال، وعلى هذا فكل ما صعد على الأرض من أجزائها يحل التيمم به كالصخر والسبخة وغير ذلك، واختلفوا في الحجارة المنقولة كالرحا إذا لم تنكسر هل يحل التيمم عليها أم لا؟ فمذهب أبي حنيفة جواز التيمم على كل ذلك، ومذهب مالك جاء فيه الخلاف في التيمم على الرحا ونحوها إذا لم تنكسر، أما إذا انكسرت فقد عادت حجرا ًكما كانت فيتيمم عليها عنده، وإذا كانت غير منكسرة فهي آلة، فالراجح من المذهب أن لا يتيمم عليها، ومثل ذلك الملح إذا جمد والخضخاض إذا خالطته التربة، وقيل: الخضخاض إذا نشفت اليدان فيه حتى بقي فيهما غبار جاز التيمم به.
ومسائل التيمم كثيرة ولعل في هذا بعض الإشارة إليها، والدليل على الضربة الثانية ما ثبت من فعل عدد من الصحابة منهم علي بن أبي طالب وعائشة وابن عباس، وهذا أمر توقيفي لا يمكن أن يفعلوه إلا إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أراهم إياه.(6/29)
الجمود الحرفي على النصوص جهل بالعربية
السؤال
ما علاقة الجمود والحرفية في الفهم بجهل اللغة العربية؟
الجواب
أن الحرفية والتقيد بدلالة اللفظ دون معرفة جوانبه الأخرى وما يدل عليه، إنما هو من الجهل باللغة العربية، وفهم صيغها المختلفة، ولذلك فإن الأصوليين قالوا: إن اللفظ يدل شرعاً أربع دلالات، فيدل بمنطوقه، ويدل بمفهومه، ويدل بضرورته واقتضائه، ويدل بمعقوله، وهو القياس عليه، وهذه يسميها الحنفية: دلالة العبارة ودلالة الإشارة، ودلالة المقتضى، ودلالة المعقول، وهي القياس عليه، ومن هنا يكون اللفظ الواحد نافعاً من أربعة أوجه ويمكن أن تؤخذ منه الأحكام من أربعة أوجه.
والذي يتحجر ويقف عند النص ولا يتعداه جهل مقصد اللغة، وجهل معناها، وكذلك عطل الحكم الشرعية التي من أجلها جاءت النصوص، فالذي يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسلَ فيه من الجنابة، أو: ثم يغتسلُ فيه من الجنابة، أو: ثم يغتسلْ فيه من الجنابة).
ثلاث رواياتٍ من لم يكن عارفاً باللغة العربية ولم يفهم دلالاتها، ولم يعرف الفرق بين قوله: (ثم يغتسلُ)، وبين قوله: (ثم يغتسلَ)، وبين قوله: (ثم يغتسلْ)، لم يفهم هذا وتحجر وتقيد، فأباح أن يبول الإنسان في إناء وأن يصبه في الماء الراكد، وهذا بسبب عدم التفريق بين الروايات.
فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم يغتسلُ فيه) بيان لعلة النهي، أي: إنه سيغتسل فيه، فلذلك لا يحل له أن يصب فيه البول أو أن يبول فيه مطلقاً، وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يجلدن أحدكم امرأته ثم يضاجعُها) بالرفع، معناه: ثم هو يضاجعها، وفي رواية: (لا يجلد أحدكم امرأته كما يجلد العبد، ثم يُضاجعُها) أي ثم: هو يضاجعها، فيكون هذا تعليلاً.
وأما رواية النصب فالمقصود بها النهي عن الجمع بينهما، (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسلَ فيه)، معناه: أن النهي منصبٌ على الجمع بين الأمرين.
وأما رواية الجزم: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسلْ فيه) فهي نهي عن الأمرين كل واحد منهما وحده، فهي نهي عن الاغتسال في الماء الدائم مطلقاً، سواء بول فيه أو لم يبل فيه، ونهي كذلك عن البول فيه مطلقاً، سواء اغتسل منه أو لم يغتسل، وهذه الرواية هي أرجح الروايات؛ لأنه جاء التصريح بالنهي فيها في رواية أبي داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يغتسل فيه من الجنابة)، فهذا تصريح بالنهي عن الاغتسال وحده، وعن البول وحده.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا واجعل الجنة هي دارنا.
اللهم استعملنا في طاعتك واجعلنا هداةً مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم لا تدع لنا في ساعتنا هذه ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا دينناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً وفيها لنا صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين وادحر كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين، اللهم علمنا أجمعين ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، اللهم اجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، واختم بالحسنات آجالنا، واجعلنا هداةً مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(6/30)
السياسة في الإسلام
أوجب الله على المسلمين إقامة دولة الإسلام، ونصب إمام لهم يحكم هذه الدولة، وبلاد الإسلام تعاني اليوم من الأنظمة السياسية المخالفة للإسلام، والخاضعة لهيمنة الغرب، إلا أن الحركات الإسلامية تحاول رد الناس إلى حكم الإسلام، وتسعى في إقامة دولة الإسلام التي تتميز عن بقية الأنظمة والحكومات المخالفة للإسلام.
ويحتاج المسلم المعاصر أن يعرف الفرق بين الشورى والديمقراطية، وبين ديمقراطية الغرب وديمقراطية العالم الثالث، وحكم المشاركة في الأنظمة الحالية، وما هي مقومات الدولة الإسلامية والحكم الإسلامي.(7/1)
مميزات الدولة في الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإن الله تعالى أوجب على عباده المؤمنين رعاية دينه وحمايته، وجعله مسئوليتهم يسألون عنه يوم العرض على الله سبحانه وتعالى، فإذا كانوا قد اقتنعوا بدين الله سبحانه وتعالى وبصدق ما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فليعلموا أنهم سيسألون عما قدموا في سبيل قناعتهم هذه، وإن الدين لا يمكن أن يقام إلا بدولة، وإن كثيراً من الواجبات لا يمكن أن يقوم بقها الأفراد، وذلك مثل جهاد العدو، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وإعانة المظلوم على الظالم، واستصلاح الأرض، واستخراج ما فيها من الخيرات، والعدل في توزيع ذلك بين الناس، فهذه أمور لا يمكن أن تتم من خلال أفراد ولا من خلال جماعة، وإنما تقوم بها دولة، ومن أجل هذا وجب أن تقوم دولة للإسلام، لكن هذه الدولة يميزها عما سواها من الدول كثير من المميزات، منها:(7/2)
ليست الدولة دولة فرد ولا قبيلة
أنها دولة الإسلام، فليست دولة فرد يريد بها إشباع رغباته واتباع شهواته، وأن يجعل مال الله دولاً، وأن يجعل عباد الله خولاً، وليست دولة قبيلة ولا حزب ولا بلد مخصوص وإنما هي دولة الدين.
فإذاً: تميزها هذه العقيدة التي تجعلها متصلة بالله سبحانه وتعالى، ومنطلقة من أمره سبحانه وتعالى، وساعية لإعلاء كلمته وإعزاز دينه، وليست ساعية لإعزاز فرد ولا لإشباع رغباته، ولا لإعزاز مجموعة مخصوصة، ولا لتهيئة حاجياتها وما تطلبه، بل هي دولة للإسلام.
وافترض الله سبحانه وتعالى ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقاموا به أفضل قيام، سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم لإقامة دولة للإسلام ولم يردها لنفسه ولا لقبيلته ولا لآل بيته، بل جعلها دولة لدين الله، ألا تلاحظون أن الله عرض عليه أن يكون نبياً ملكاً أو أن يكون نبياً عبداً فاختار أن يكون نبياً عبداً، وعندما جاءه الأعرابي الذي عرف خدمة الملوك فانحنى بين يديه وارتعشت بوادره، قال له: (أربع على نفسك، فإنني لست ملكاً، إنما أنا عبد الله ورسوله).
وكذلك كان يقول لأمته على الملأ: (ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ليس لي مما أوتيتم إلا الخمس وهو مردود عليكم)، فلم يتخذ شيئاً من مال الله مختصاً به لنفسه، بل كان يعيش في حجرات، يقول الحسن البصري عنها: لو مد الرجل يده للامست سقف حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ينام على حصير فيؤثر في جنبه ويبقى أثره عليه، ويقول جابر بن عبد الله: لو دخلت أبيات النبي صلى الله عليه وسلم ما رأيت شيئاً يرد البصر، يعني: ما رأيت شيئاً تتعلق به النفس وتهواه، فكل ما فيها من وسط متاع الناس، أو من أدناه.
كذلك صلى الله عليه وسلم لم يجعل مميزات في بني هاشم، بل كان لهم من الحقوق ما لغيرهم، ولم يختصهم بأي شيء، ولذلك لم يكن من خلقه رجلاً من بني هاشم، وإنما هو رجل من بني تيم بن مرة، وقال: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) وأبو بكر رجل من بني تيم بن مرة بن كعب بن لؤي وليس من بني هاشم ولا من بني عبد مناف.
وكذلك لم يجعلها دولة مختصة بقريش أو بالتمكين لهم في الأرض وإن كانت الإمامة مختصة بهم، لكن الوظائف والقيام بالمصالح لا يختص بهم، بل قال: (إنا لا نولي عملنا من سأله) وقال: (من ولى على عمل رجلاً وهو يجد أصلح منه لقي الله خائناً)، فلذلك لم يختص قريشاً بالوظائف وإنما أعطى اللواء يوم فتح مكة لـ سعد بن عبادة بن دليم وهو رجل من الخزرج، ثم حين شكي إليه، انتزعه منه وأعطاه ولده قيس بن سعد بن عبادة بن دليم.
وكذلك إذا نظرتم إلى من يعقد له الرسول صلى الله عليه وسلم اللواء في الغزوات المختلفة، أو يستعمله في الأعمال، ستجدون قريشاً مثل سواهم، ليس لهم ما يميزهم إلا قضية الإمامة فقط، وهذه حكمة ربانية، وهي أن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش، كما قال أبو بكر في خطبته يوم السقيفة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش)، وقال أبو بكر للأنصار: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، والأمر إذ ذاك شورى بين الجميع.
وكل قوم إنما يختار منهم الأعدل والأكفأ، فيستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يصلح للعمل دون النظر إلى سنه أو علمه أو قبيلته أو تخصصه، بل اختار لإمارة مكة وإمامة المسجد الحرام والقضاء بين الناس بمكة شاباً هو عتاب بن أسيد وكان في السابعة عشرة من عمره.
واختار لقيادة جيش أراد أن يبعثه في حياته أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل وهو شاب من بني كلب بن وبرة بن الحاف بن قضاعة ولم يتجاوز عمره سبع عشرة سنة، وفي الجيش أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح ومن سواهم من كبار المهاجرين، وكذلك أمر على البحرين العلاء بن الحضرمي، وأمر الضحاك بن سفيان كذلك على عمان، وأمره على كتيبة بني سليم يوم الفتح.
كل هذا يدلنا على أن هذه الدولة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن دولة فرد ولا دولة قبيلة ولا دولة جهة ولا دولة حزب وإنما كانت دولة الإسلام، فالعزيز فيها هو هذا الدين، والذي يقصد إعزازه والتمكين له هو هذا الدين، وسار على هذا النهج الخلفاء الراشدون المهديون.
فهذا أبو بكر رضي الله عنه يعهد بالخلافة من بعده لـ عمر بن الخطاب، وهو ليس من بني تيم بن مرة الذين منهم أبو بكر، مع أن أولاده يصلحون للخلافة، ولكنه نحاها عنهم، ومع أن من بني عمه طلحة بن عبيد الله الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله)، وأنزل الله فيه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فلا يضره ما صنع أبداً، ومع ذلك عدل عنه أبو بكر ولم يعهد إليه بالخلافة، وإنما عهد بها إلى عمر.
وكذلك عمر بن الخطاب عندما جعلها في الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، أخرج منهم سعيد بن زيد وهو ابن عمه وزوج أخته، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، وممن شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بعينه بالجنة، فلا يضره ما فعله أبداً، لكن عمر أبعده؛ حتى لا تكون الخلافة دولة يتداولها بنو عدي بن كعب فقط.
وكذلك فإن علياً رضي الله عنه حين طعن جاءه أهل العراق يطلبون منه أن يولي عليهم الحسن بن علي فقال: لا والله لا أفعل، فلا يكون كبر هذا الأمر علي حياً وميتاً، إنما توليته بتكليف الله ما دمت حياً، فإذا أنا مت فقد انقطع التكليف، فلا أتحمله في حياتي وبعد موتي.
وكذلك فإن أبا بكر رضي الله عنه حين تولى الخلافة مكث سنة يدير أمور هذه الدولة، ولم يأخذ أي راتب من بيت المال، فلما نفدت تجارته كلم الناس في المسجد فقال: أيها المؤمنون! إني كنت امرأً تاجراً، وإنكم شغلتموني بأموركم عن أمور تجارتي، فلو تجعلون لي رزقاً من بيت مالكم، فجلس أهل المسجد يتفاوضون كم يجعلون لـ أبي بكر؟ كم الراتب الذي يستحقه على العمل الذي يقوم به؟ وعينوا له راتباً، ثم لما تولى عمر أخذ ذلك الراتب ولم يزد فيه مع أن أعماله قد ازدادت على أعمال أبي بكر، اتسعت الخلافة واتسعت الأرض واتسع التدبير، واحتاج الناس إلى كثير من المال لم يكونوا محتاجين إليه في زمان أبي بكر، لكنه لم يزد في راتبه شيئاً، وحين ازدادت الميزانية، واتسعت الأموال، وكثر ما في بيت المال، لم يزد راتب الخليفة عما كان عليه في حال الضيق والمشقة.
وحين أدركه الموت دعا ولده عبد الله بن عمر فقال: إني كنت أخذت من بيت المال هذا الرزق الذي كان يأخذه أبو بكر، وإن المسلمين لم يعطوني إياه وإنما أعطوه أبا بكر، فلعلي أكون قصرت فلم أقم بما كان يقوم به أبو بكر، وقد كتبت كل ما أخذت من بيت المال فأرجعه إليه، وإن وجدت في مال آل عمر وفاءً فخذه، وإلا فخذ من مال بني عدي بن كعب، فلأن يكونوا خصومي يوم القيامة أحب إلي من أن يخاصمني المسلمون، فأرجع راتبه مدة عشر سنوات وأشهر، أرجعه إلى بيت المال، تورعاً منه؛ لأنه يخاف ألا يكون قام بهذا الحق الذي بايعه الناس عليه، فهو يعلم أن البيعة لابد فيها من طرفين، ولابد أن يقوم بالواجب الذي عليه، ولا يمكن أن يأخذ حقوق المسلمين دون أن يدفع لهم مقابلاً وأن يقدم لهم خدمة، فخشي ألا يكون قد قام بالواجب، فأرجع إليهم ما أخذ من بيت مالهم.
ولما تولى عثمان الخلافة خطب في الناس فأخبرهم أنه غني عن مالهم، وأنه لا يحتاج إلى أي شيء من بيت مال المسلمين، فأرجع عليهم الراتب، ووفره على بيت مال المسلمين.
وهكذا فإن هذه الدولة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعه عليها خلفاؤه الراشدون، كانت دولة الإسلام فعلاً، أما ما بعد ذلك فقد بدأت هذه الدولة تنحرف عن مداها وتسير في غير مرماها، فبدأ الناس يريدون هذه الدول لأفراد، ويريدون أن تكون ملكاً خاصاً لفرد أو لأسرة أو لقبيلة أو لبلدة أو نحو ذلك، ومن هنا فلم تكن دولة الإسلام تماماً، وهذا ما أوعد به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال فيما روى عنه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في مسند أحمد وغيره: (تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة وسكت).(7/3)
الدولة في الإسلام دولة شورى لا استبداد
وإن دولة الإسلام مما يميزها أمور أخرى سأذكر بعضها ولا أحاول حصرها، فمن ذلك: أنها دولة شورى فليست دولة استبداد ولا مصادرة لآراء الأفراد، ولا اتخاذ للقرارات الفردية، إنما هي دولة شورى يتشاور فيها المسلمون فيما بينهم في أمرهم، ويتشاورون في اختيار حاكمهم، وتيشاورون في تحديد سياساتهم وفي ترتيب أولوياتهم، كل هذا يميز هذه الدولة عما سواها من الدول.
قد وصف الله سبحانه وتعالى هؤلاء المؤمنين بوصف الشورى في قوله جل ذكره: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، وأُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بها في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، وأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم وحض عليها، وذكر أهل العلم أن فيها كثيراً من الفوائد منها: أولاً: أنها طاعة لأمر الله سبحانه وتعالى، فمن لا ينتهج أسلوب الشورى فليس مطيعاً لأمر الله تعالى حيث قال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، وقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38].
ثانياً: أنها اتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولزوم لهديه ومنهجه.
ثالثاً: أنها مدعاة للتوصل إلى الصواب؛ فإذا تزاحمت العقول خرج الصواب.
رابعاً: أنها مدعاة لإزالة الضغائن والحقد، فمن يستشار في الأمر لا يمكن أن يجد في نفسه حرجاً ولا حسداً للقائم بالأمر، ومن هنا سيرضى به ويرضى عن تصرفاته؛ لأنه شاوره في الأمر.
خامساً: أن فيها إشراكاً في الأجر، فمن تستشيره فإنك تشركه في أجر القرار الذي ستتخذه.
سادساً: أن فيها تسلية عند إخفاق القرار، فمن اتخذ قراراً بعد استشارة، وفشل قراره ذلك، فإن له في ذلك تسلية، بأن هذا ليس من تدبيره وحده وإنما استشار الناس فيه.
سابعاً: أنها مدعاة للطاعة والتنفيذ، وأن من استشير عند اتخاذ القرار لا يمكن أن يخالف رأيه الذي أشار به، فهذا سيلزمه بالعمل على أساسه.
ثامناً: أنها تعويد لمن تقوده على الشورى، حتى لا يكون مستبداً إذا تولى هو القيادة.
تاسعاً: أنها أيضاً مدعاة لانقطاع الندم، فما خاب من استشار ولا ندم من استخار.
عاشراً: أن الشورى كذلك مدعاة لاستغلال كل الجهود؛ لأن كثيراً من الناس لا يشعر بمكانه ولا بأثره ومشاركته إلا إذا استشير.
الحادي عشر: أنها تغلب على النفس؛ لأن النفس البشرية تسعى لاتباع الحظوظ وتريد الكمال وتدعيه، فإذا كان الإنسان يقهر نفسه بالشورى ويريها أنها ناقصة وأنها محتاجة إلى عقل غيرها وعلمه؛ فهذا تغلب على النفس وقهر لها، هذه من فوائد الشورى ولا تقتصر على هذه.
وينبغي على القائم بأمر المسلمين أن يستشير في أموره، لكن لا يلزمه أن يستشير كل أحد، ويلزمه أن يشاور الناس في أمرهم العام ولا يلزمه الاستشارة في أموره الخاصة، لكنها مندوبة له، وهي أفضل، ولا يلزمه أن يستشير في الأمور المستعجلة، التي قد تأتيه وليس بحضرته أهل الاختصاص الذين يستشيرهم في ذلك الأمر.
وأيضاً: فإن إشارة بعض الأفراد غير ملزمة للقائم بالأمر ما لم يكونوا مرتبين لذلك، فإن كانوا مرتبين لذلك كأهل بدر وأهل الشورى في الأمة الإسلامية، الذين لا يحل للخليفة أن يتخذ قراراً حاسماً في أمور الأمة إلا بعد مشورتهم، فهؤلاء شوراهم ملزمة، فإذا اتخذوا رأياً معيناً ورجحوه لا يحل له أن يخالفه، أما ما سوى ذلك من الشورى فهو غير ملزم، بل هو معلم للصواب فقط.
ويجب على من تولى الأمر أين كان أن يحاول أن يستشير أهل الاختصاص في أي أمر سيتخذ فيه القرار، فلو كان الذي يتولى الأمر قاضياً مثلاً يجب عليه أن يشاور العلماء وأن يحضرهم مجلسه، وهذا محل اتفاق بين المذاهب، وتعرفون في مختصر خليل رحمه الله تعالى في باب القضاء: وأحضر العلماء وشاورهم.
فيجب على القاضي أن يحضر العلماء مجلس حكمه، وأن يشاورهم فيما يتخذه من الأقضية والصلح وغير ذلك.
وكذلك إذا كان الأمر يتعلق بالاقتصاد فلابد أن يستشار فيه الاقتصاديون، وإذا كان يتعلق بأمر السياسة فلابد أن يستشار فيه الساسة، وإذا كان يتعلق بأمر الاجتماع فلابد أن يستشار فيه أهل هذا التخصص، فهذه التخصصات معتبرة شرعاً، ولابد من اعتبارها حتى لا يستبد الأفراد، فإن الاستبداد من مظاهر الجبرية والملك العاض، وليس من مظاهر دولة الإسلام التي أنشأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون.
كذلك هي وسيلة اختيار حاكم المسلمين؛ لأن الحكم لله سبحانه وتعالى وحده، وهو قد عين أنبياءه قادة لخلقه، وجعل ذلك جائزة على الامتحان الشديد الذي لقوه في ذاته، وجعل إبراهيم للناس إماماً فقال سبحانه وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]، فالظالمون أي: الذين يظلمون الناس ولا يؤدون حق الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكونوا أئمة للمسلمين؛ لأن الله شرط هذا الشرط على إبراهيم.
وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعين أحداً بعينه أنه هو الذي يلي الأمر من بعده، فاختار المسلمون أبا بكر وبايعوه بيعتين، أولاهما البيعة المبدئية وكانت بسقيفة بني ساعدة، والأخرى البيعة العامة وكانت بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم على منبره.
وكذلك حين عهد إلى عمر، فكانت بيعة عمر جزءاً من بيعة أبي بكر، ومع هذا فقد بايعه الناس في المسجد، وعندما عهد بها عمر إلى الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض -تنازل ثلاثة منهم لثلاثة- فتنازل الزبير بن العوام لـ علي بن أبي طالب، وتنازل طلحة بن عبيد الله لـ عثمان بن عفان، وتنازل سعد بن أبي وقاص لـ عبد الرحمن بن عوف، فانحصر أمر الأمة حينئذٍ في ثلاثة وهم: عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ثم تنازل عبد الرحمن لصالح عثمان وعلي بشرط أن يختار هو السابق منهما، فانحصر الأمر في عثمان وعلي وكان السبق لـ عثمان ثم من بعده علي، فعندما اختاره عبد الرحمن وبايعه بايعته الأمة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لما قتل عثمان مظلوماً بايعت الأمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.(7/4)
شروط الخليفة في الدولة المسلمة
فهذه الشورى إذاً هي وسيلة اختيار حكام المسلمين، فهم يختارون وفق ضوابط شرعية لابد منها، وهي شروط الخليفة، وهذه الشروط عشرة: أولها: أن يكون مسلماً، فإن كان كافراً أو منافقاً أو مشكوكاً في عقيدته، فإنه لا يصلح لهذه الإمامة.
ثانياً: أن يكون ذكراً، فلا تصح إمامة أنثى لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).
ثالثاً: أن يكون حراً؛ لأنه هو الذي يتصرف في أمور نفسه وسيتصرف في أمور غيره.
رابعاً: أن يكون بالغاً؛ لأن الصبي محجور عليه فلابد من البلوغ.
خامساً: أن يكون مجتهداً في دين الله، فإن كان جاهلاً أو عالماً مقلداً لم تصح إمامته، وقد حكى ابن حزم وابن تيمية وابن عبد البر الإجماع على أن المقلد والجاهل لا تنعقد إمامته، وإنما يشترط في الإمامة أن يكون مجتهداً في دين الله.
سادساً: أن يكون عدلاً، فإن كان فاسقاً لم تنعقد إمامته؛ لأن الله شرط على إبراهيم أن الظالمين لا ينالهم عهده بالإمامة.
سابعاً: أن يكون كافياً؛ لأن هذه الخلافة ليست مقصداً وإنما هي وسيلة، ويضمن بها الوصول إلى أهداف محددة هي إعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز دينه، وإظهار الحق، ونصرة المظلوم، وإقامة الحدود، وجهاد أهل الكفر، فإذا لم يستطع القيام بذلك لم يكن خليفة قطعاً، فلابد أن يكون كافياً للقيام بمهمته، ولهذا قال ابن بدران رحمه الله: إن الحاكم المسلم الذي هو تحت إدارة المشركين لا يكون إماماً للمسلمين؛ لأنه غير قادر على إنصاف المظلوم من الظالم، وغير قادر على جهاد العدو، وغير قادر على إقامة الحدود ولا على غير ذلك.
ومن هنا فإن الذين يمارسون السلطة في كثير من بلاد الإسلام عاجزون عن اتخاذ القرارات في كثير من الأمور، وإذا سئلوا عن السبب في تعطيلهم لأحكام الله سبحانه وتعالى واستبدالهم لها بأحكام الطاغوت، قالوا: نحن ليس لنا من الأمر شيء، فمن ليس له من الأمر شيء لا يكون إماماً قطعاً ولا يكون خليفة، من هو تحت الضغط المطلق كيف يكون إماماً وخليفة على غيره؟! الشرط الثامن: أن يكون سميعاً بصيراً متكلماً، فإن كان ناقص القوى لم تنعقد إمامته؛ لأنه لا يستطيع القيام بمصالح نفسه، فكيف توكل إليه مصالح أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومصالح الدين بكامله.
تاسعاً: أن يكون شجاعاً؛ لأنه إذا كان جباناً لم يستطع القيام بمهمته، ولابد لمن يتولى الخلافة أن يستشعر مسئوليته، وأن يعلم أنه النائب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فإن الخلافة تعريفها الفقهي: هي النيابة عن صاحب الشرع في إقامة الدين وسياسة الدنيا به.
النيابة عن صاحب الشرع، يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم.
في إقامة الدين وسياسة الدنيا به، أي: بالدين، فمن لا يستطيع ذلك ولا يجرؤ عليه لا يمكن أن يكون خليفة، ومن هنا تذكرون قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رجوعه من الحجة عندما وقف على ضجنان، فقال: لا إله إلا الله كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان، فكنت إذا أبطأت ضربني وقال: ضيعت، وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعش، ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه -فهذا هو مقام الخلافة-، ثم أنشأ يقول: لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد لم تغن عن قيصر يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سيلمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها تفد أين الملوك التي كانت لعزتها من كل صوب إليها وافد يفد حوض هنالك مورود بلا كذب لابد من ورده يوماً كما وردوا الشرط العاشر من هذه الشروط: أن يكون قرشياً، معناه أن يكون من ذرية فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة، وهذا الشرط المقصود به تحقيق هذه العصبية لدين الله سبحانه وتعالى؛ وقريش اختار الله منهم النبي صلى الله عليه وسلم، واختارهم اختيار اصطفاء من عموم الناس، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله اصطفى إبراهيم من ذرية آدم، واصطفى من ذرية إبراهيم إسماعيل، واصطفى من إسماعيل قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، وجعلني من بني هاشم في المحل الأسمى، فأنا خيار من خيار من خيار ولا فخر)، فهذا الاصطفاء يقتضي اختياراً ربانياً قد لا نستشعره نحن ولا ندركه لكنه موجود، اصطفاء رباني في قريش، وهذا الاصطفاء يقتضي منهم حرصاً على الدين واستعداداً لبذل الأنفس والأموال في سبيله بخلاف من سواهم.
هذه الشروط يلزم من عدمها العدم مثل كل الشروط الشرعية؛ لأن الشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته كالطهارة للصلاة، فإذا اختلت هذه الشروط فانتصب أي إنسان وقال: أنا خليفة، فهو بمثابة من يصلي بدون طهارة، فخلافته باطلة كما أن صلاته لو صلى بدون طهارة باطلة.(7/5)
حق التشريع لمجلس الشورى
وهذه الدولة أسلوبها في الحكم هو الذي ذكرناه، وهو أسلوب الشورى، ومن هنا فاتخاذ القرارات بعد تعيين الخليفة وبيعته تعتمد كذلك على هذا الأسلوب، ولا يكون هذا تشريعاً لما لم يأذن به الله ولا مخالفة لشرع الله، وإنما هو اختيار لبعض الجائزات وتقديم لبعض المصالح على بعض، ولذلك فإن من يظن أن مجلس الشورى بالدولة الإسلامية ليس له حق في التشريع مخطئ في تصوره، لكن التشريع الذي أذن له فيه ليس تشريعاً بمعنى تقدير وحي أو تغييره، وإنما هو اختيار في مجالات الدنيا ومجالات الاجتهاد ومجالات الرأي، فيمكن أن يقدم ساسة الدولة مثلاً: الزراعة على الصناعة أو الصناعة على الزراعة، أو أن يوافقوا على اتفاقية معينة، أو أن يقدموا مشروعاً معيناً في الوقت والتمويل على غيره وهكذا، فهذا هو معنى ما لمجلس الشورى من الحق في التشريع.(7/6)
الفرق بين الديمقراطية والشورى
وكثير من الناس يلتبس عليه هذا الأسلوب -الذي هو أسلوب الدولة الإسلامية في الحكم وهو الشورى- بأسلوب الديمقراطية، والديمقراطية كلمة يونانية في الأصل يقصد بها حكم الجمهور، أو أن يكون الحكم عاماً يشترك فيه كل الناس، وهذه الفكرة تقتضي أن يكون الناس جميعاً سواسية مشتركين في اختيار أسلوب الحكم، وفي اختيار من يحكمهم، وهذا مخالف للشرع؛ لأن الشرع حدد أسلوب الحكم كما ذكرنا وهو الشورى، وحدد كذلك شروط الحاكم، فإذا تغاضى الناس عن هذه الشروط لم يبحها ذلك.
وكذلك فإن الشرع لم يجعل لكل إنسان حق التصويت والاختيار في أمر المسلمين، وإنما قصر ذلك على الذين يمكن أن يقوموا بأمر عامة المسلمين، وهم الذين اتصفوا بثلاثة شروط: بالعلم.
والعدالة.
وجزالة الرأي.
فهذه الشروط الثلاثة لأهل الاختيار الذين لهم الحق في المشورة، وأن يختاروا من يقوم بأمر المسلمين، وقد قال مالك رحمه الله: لا أرى اليوم تجتمع في واحد، فإن لم تجتمع فورع عاقل، فبالعقل يسأل، وبالورع يكف أو يعف.
ويمكن أن يطبق هذا أيضاً على شروط الخلافة، فإذا عدم المتأهل والمتحقق والمتصف بكل الشروط، فلا يمكن أن تعدم دولة الإسلام ولا أن يعدم من يقوم بها، بل يختار الأمثل فالأمثل، ومثل هذا في القضاء، فإن القضاء يشترط لمن يقوم به عدة شروط وكذلك الإمامة.
لكنه عند فقد من تتحقق فيه هذه الشروط كلها يعدل إلى الأكفاء.
فالأكفاء، ولذلك يقول خليل رحمه الله بعد ذكره لشروط القضاء: (مجتهد إن وجد وإلا فلأمثل مقلد، وزيد للإمام الأعظم قرشي)، وقوله: (فلأمثل مقلد) معناه: إذا لم يوجد مجتهد فحينئذٍ يعدل عنه إلى أمثل مقلد، ومعناه: أدراه بالأدلة وأدراه بالمذاهب وأحسنه بصيرة وأحسنه عقلاً وإن كان مقلداً، فالمقلد لا تتوفر فيه هذه الشروط، ولكنه أحسن من غيره إذا عدم من سواه.(7/7)
الفرق بين الديمقراطية في الغرب والديمقراطية في العالم الثالث
ثم إن الديمقراطية بعد أن كانت فكرة يونانية في الأصل تداولتها الأمم والحضارات، واختلف تطبيق الناس لها من طور إلى طور، واختلفت تأليفاتهم لها من وقت إلى وقت، وفي زماننا هذا ليست الديمقراطية ديمقراطية واحدة بل هي ديمقراطيتان: ديمقراطية غربية.
وديمقراطية في بلدان العالم الثالث.
أما الديمقراطية الغربية فإنها تقوم على أساس العدالة الاجتماعية في توزيع الفرص بين الناس، وعلى أساس أخذ الرأي المشترك، وعلى أساس التداول على السلطة عن طريق التصويت، وعلى أساس تحديد ركائز الحكم وأركانه، وتحديد الصلاحيات للحاكم في كل أمر يقوم به، وهي بهذا المعنى خير الأنظمة الفاسدة، ففيها مزايا تكون بها خيراً من الاستبداد، وخيراً من اغتصاب الحقوق من الناس، وخيراً من الظلم السافر، فهي خير أنظمة الحكم الفاسدة، فمن أجل هذا قد يضطر إليها المسلمون في حال من الأحوال، أو يضطرون إلى المشاركة فيها، فيكون هذا من باب ارتكاب أخف الضررين والحرامين، وهو جائز لقول الله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]، ولقوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78]، فإن تزويج الكافر بالمسلمة محرم ولكن الاعتداء على الملائكة أعظم منه وأشد حرمة، فلذلك بدأ بالحرام الذي هو أقل حرمة، وقدمه على الحرام الذي هو أشد منه.
وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض على بني غطفان عام الأحزاب أن يرجعوا عنه وأن يعطيهم ثلث ثمار المدينة، وإن كان محرم على المسلمين أن يدفعوا أموالهم لأعدائهم الكافرين ليستعينوا بها على قتالهم، لكنه من ارتكاب أخف الضررين والحرامين، فإذا اضطر إليها المسلمون وعجزوا عن إقامة الأسلوب الإسلامي للحكم فهي أحسن الأساليب الأخرى غير الإسلامية.
أما الديمقراطية لدى العالم الثالث فتختلف عن الديمقراطية الغربية، وسأبين بعض أوجه الاختلاف: فالديمقراطية في العالم الثالث هي عملية تجميل للاستبداد والغصب والغش والتزوير، وتظهر على أنها قائمة بأسلوب الديمقراطية وأنها مشاورة للناس، وأن كل الناس يشتركون فيها، ومن أجل هذا تطبل لها الطبول ويجتمع حولها الناس، ويظنون أنهم يتشبثون بشيء أو أن لهم شيئاً من الأمر، والواقع خلاف ذلك، وإنما يخدع بها ضعاف العقول وضعاف الثقافة، والذين لم يروا الديمقراطية على وجهها في البلدان التي طبقت فيها، ومن هنا فهذه العملية عملية التجميل لا تنطلي إلا على البلهاء البلداء، فهم الذين يظنونها ديمقراطية وينخدعون بها، وإلا فما هي إلا استبداد سافر وتزوير صارخ، وأخذ لأموال الناس وإهدار للطاقات في غير فائدة.
ونتائجها محسومة في البداية، وأسلوبها محدد من قبل، والإنسان فيها لا يصوت حسب قناعته، وإنما يصوت خوفاً أو طمعاً، وليس فيها أي عائد راجع إلى الأمة، فالذي يصوت لا يعتبر نفسه مؤدياً خدمة للأمة، ولا محققاً لهدف من أهدافها، ولا محافظاً على شيء من كرامتها أو كيانها، وإنما يعتبر نفسه مناصراً للشخص الفلاني ليكون هو الممسك بزمام الدولة الفلانية، أو الممسك بزمام ابادية الفلانية أو غير ذلك من الأمور.
ومن هنا تجدون الصراع الذي فيها يختلف تماماً عن الصراع في الديمقراطية الغربية، الصراع في الديمقراطية الغربية ليس على أساس البهرجية والأصوات والأغاريد والأغاني، وإنما هو على أساس البرنامج الذي يتعهد به المترشح، فالمترشح يشرح برنامجه ولا يبالغ ولا يعد الناس وعوداً كاذبة؛ لأنه يعلم أنه ستسجل عليه هذه الوعود وستناقش، فيسجل الوعود التي يستطيع الوفاء بها من خلال الصلاحيات الممنوحة له.
وأنتم تعلمون البرامج التي تشاع في العالم الثالث بالديمقراطية، فإن كل إنسان يأتي ويعد الناس بأنه سينقلهم من دار الفناء إلى دار البقاء، ويحملهم إلى الجنة، أو أنه سينتقل بهم نقلة حضارية عجيبة، لكن أين وسائلها؟ أين المال الذي سيوظف به الناس ويجعل لهم فرصاً للعمل؟ أين المال الذي سيبني به البنى التحتية؟ هذه أمور لا يفكرون فيها، وأين الرجال الذين سيقومون بهذه المصالح؟ المترشح فرد وهو المستفيد ولا ينظر إلى من حوله، وإنما يختار من ناصره فقط، يختار من يقول: نعم، ولا يدني من يقول: لا.
أما لدى الغربيين فإن الناس إنما يصوتون على أساس البرنامج الانتخابي المقدم، ليس على أساس معرفة ولا علاقة شخصية ولا مصالح شخصية، بل يقدمون مصالح بلادهم على مصالحهم الشخصية، ولذلك تجدون المهزوم يسلم مفاتيح القنابل الذرية للناجح الذي انتخب مكانه بكل رحابة صدر، وهو بيده مفتاح القنابل الذرية، وكان بالإمكان أن يفني خصومه في لحظة، ولكنه اقتنع بهذا الأسلوب واقتنع بمصلحة هذا البلد وبكيانه، ودخل ذلك في مخه وتفكيره، فيرجع هو ويأخذ سيارة التكسي، ويعمل في أي وجه من وجوه الاكتساب.
بخلاف الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، فمن وصل إلى الحكم لا يمكن أن يتركه بوجه من الوجوه، سيستمر فيه إلى أن ينقل إلى قبره؛ لأنه يمسك مفاتيح الأبواب كلها، فيوصد الأبواب التي لا توصله هو إلى مقتضاه وما يبتغيه، ويفتح الأبواب التي توصله إلى مقصوده فقط، ولذلك قوانين الانتخابات، وتوزيع الدوائر، وتوزيع الأصوات، وشروط الناخبين، هذه كلها يتحكم فيها الذي يريد أن يجعلها وفق ما يضمن له النجاح.
أما في بلدان الغرب فهذه متفق عليها مسبقاً، ولا يمكن أن يقع فيه تبديل ولا تغيير إلا بموافقة الجميع.
وأيضاً حتى الحملة الانتخابية التي يقومون بها تكون منضبطة بأخلاق، ليس فيها تبذير ولا إتلاف أموال؛ لأن الذي يريد الترشح يعرف أنه لو وصل إلى الحكم، أو لو وصل إلى البلدية، أو لو وصل إلى أي وظيفة يراد التنافس عليها، فإن تلك الوظيفة لن تدر عليه مطراً من الذهب، وإنما له راتب محدد يعرفه، وهذا الراتب لا يمكن أن يفي بتمويل هذه الحملات المكلفة جداً، فلذلك يقتصر في الحملات على شرح برنامجه الانتخابي في أماكن وجود السكان، وفي مكان الكثافة السكانية وأماكن المثقفين، واستغلال وسائل الإعلام في ذلك.
لكن نظراً لأن وسائل الإعلام قد تكون مكلفة فإن الدول الغربية تدعم المترشحين بما يكفل لهم التغطية الإعلامية، وتتيح الفرص متساوية أمام كل المرشحين، بخلاف بلدان العالم الثالث فإن المنافس ستكتم أنفاسه ويكمم فمه، ولا تتاح له أي فرصة للتعبير عن برنامجه أو عن رأيه.
كذلك: الديمقراطية الغربية لا تقتضي حصول الشحناء والبغضاء، وإنما تقتضي التنافس النظيف الذي يقوم على أساس الوازع والضمير الوطني والضمير المهني، ومستعد لأن يكون تحت طائلة المساءلة، فإذا اكتشفت عليه أي فضيحة تجده مستعداً لأن يقدم استقالته وأن يتنازل عن الحكم، وإذا حصل عليه ضغط وعرف أن الناس لا يريدونه فإنه سيتنازل عن الحكم طائعاً، بخلاف بلدان العالم الثالث فلا يمكن أن يتخلى فيها عن الحكم، حتى لو علم أن الناس جميعاً يكرهونه غاية الكراهة، أو أنهم جميعاً مظلومون أو مضطهدون يشعرون بأنهم قد صودر منهم حكمهم، وصودرت منهم أرزاقهم، وصودرت منهم فرصهم ولم يعدل بينهم فيها.
إن أسلوب الديمقراطية مع الأسف ينخدع به كثير من الناس إذا قرءوا عنه في الكتب أو رأوه تطبيقاً في بلاد الغرب، فيظنونه هو نفس الديمقراطية التي تطبق في بلاد العالم الثالث، لكن الغربيين يعرفون الفرق بين الأمرين ويقولون: هذه الديمقراطية التي تصلح للغرب؛ لأنه على مستواها، وهذه التي تصلح للعالم الثالث؛ لأنه على مستواها، فهم يكيلون بمكيالين، المكيال الذي يكال به للفقراء والضعفاء غير المكيال الذي يكال به لشعب الله المختار من المثقفين والأغنياء.
ومن هنا يساعدون من يحمون مصالح الغرب في بلدان العالم الثالث بكل ما يحتاجون إليه، وتعرفون الانقلابات العسكرية التي يقوم بها الغربيون لصالح من يكفل لهم مصالحهم، ويقوم على رعاية مصالحهم في بلدان العالم الثالث، والسعي الحثيث الذي يسعونه للإطاحة بكل من بدر منه أي مخالفة أو أي عدول عن تحقيق المصالح الغربية.
وكذلك: الديمقراطية الغربية لا تقتضي حصول الشحناء بين الشعوب، فالشعوب المتنافسة لا يقع بينها حمل السلاح، ولا يقع بينها التهاجي والتقاذف بالكلام، بل يلقى هذا الشخص إنساناً آخر بكل ابتسامة وهو يعلم أنه سيصوت ضد من يختاره هو ومن يصوت له، بل قد تكون الأسرة الواحدة أبوها من أنصار أحد المرشحين، وأمها من أنصار أحد المرشحين الآخرين، وأحد أولادها من أنصار مرشح ثالث وهكذا، وكثير ما يقع هذا في البلدان الغربية.
بخلاف العالم الثالث فكثيراً ما يؤدي الاختلاف السياسي إلى إراقة دماء، وكثيراً ما يؤدي إلى السب والتهاجي، وكثيراً ما يؤدي إلى الضرب والشتم، ثم يؤدي إلى البغضاء الدائمة، مع أن هؤلاء الذين يتضاربون أو يتهاجون أو يتقاتلون ليس لهم من الأمر شيء، إنما باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم.(7/8)
تميز الدولة في الإسلام بأنها تهدف إلى تحقيق غاية
ومن ممزيات دولة الإسلام: أنها دولة تريد تحقيق غاية، والوصول إلى هدف، أما الدول الغير إسلامية فليس لها غاية ولا هدف، إنما تريد إشباع أكبر قدر ممكن من الرغبات والاتساع في اتباع الشهوات، دون أن يكون وراء ذلك أية محاسبة، فمن تولى الحكم في أي بلد من البلدان بغير حكم الله تعالى -كالحال في حكام المسلمين اليوم- فإنه لا ينظر إلى مصالح هذه الأمة، التي هي أمانة في عنقه وسيسأل عن كل أمورها، ولا يستحضر أنه هو المسئول شرعاً بين يدي الله سبحانه وتعالى عما يصيبها.
بخلاف الحاكم في دولة الإسلام، فإنه يستشعر هذه المسئولية، كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: والله إني لأخشى أن يحاسبني الله إذا عثرت البغلة في الليلة الظلماء في سواد العراق لماذا لم أعبد لها الطريق؟ وكذلك كان يحرس بنفسه ويتولى الأمور بنفسه.
وهكذا الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم يقومون بهذه المصالح بأنفسهم، فـ عثمان بن عفان هو الذي يعلم الناس الوضوء على باب المسجد، وهو الذي يعلمهم القرآن في الثلث الأخير من الليل في المسجد، وهو الذي يخطبهم على المنبر، ويؤمهم في الصلوات ككل الخلفاء الراشدين.
وعلي بن أبي طالب رضي الله أيضاً هو الذي بيده مفاتيح المسجد، وهو الذي يقمه بردائه، وهو الذي يوزع بيت المال بنفسه، ويقود الغزو بنفسه، وكل الأمور يباشرها بنفسه؛ لأنه لا يريد من وراء هذه الدولة ولا هذا الحكم أن يصل إلى رغبات شخصية أو شهوات لنفسه، وإنما يريد الوصول إلى أهداف كبرى، هي خدمة دين الله تعالى وإعلاء كلمته، ووصول كل أحد إلى حقه ومستحقه مما خصه الله به.
كذلك: من خصائص دولة الإسلام أنها تسعى لاستغلال ما في هذه الأرض من الخيرات وإيصالها إلى الناس، وإلى جمع كلمتهم وعدم تفرقهم، وتتبنى مسائل المسلمين وقضاياهم المختلفة، وتناصرهم في أي مكان كانوا، ولا تقتصر على حدود يحددها أعداؤها، فهذه الحدود التي دخلت في كيان الناس وأصبحت محترمة لديهم معتبرة، ما هي إلا من اصطناع أعدائهم، وما قصدوا بها إلا تفريق كلمتهم وتشويه صورتهم، فما الفرق بين غامبيا وزجانشور مثلاً؟ ما الذي جعل زجانشور وهي في جنوب غامبيا تابعة للسنغال وأخرج غامبيا وهي شريط ضيق داخل أرض السنغال من هذه الدولة؟ إن المستعمر هو الذي يقطع هذه القطع، ولذلك لم يترك بين بلدين من بلاد الإسلام حدوداً واضحة، وإنما يرسل بعثات متتالية كل بعثة تخط خطاً، وتأتي البعثة التي بعدها فتخط خطاً مغايراً حتى تقع مشكلة، ويترك منطقة محايدة بين البلدان لتكون مشكلة في المستقبل مثل قضية الصحراء، ومثل قضية الحدود في الجنوب، ومثل قضية الشرق، ومثل المشكلات في أي مكان من أنحاء العالم الإسلامي.(7/9)
تميز دولة الإسلام بقيامها على مشروع
كذلك من مميزات دولة الإسلام أنها دولة تقوم على مشروع، فلا يمكن أن تقام بمجرد قرار، ولا بمجرد انقلاب عسكري، ولا بمجرد تغيير خفيف؛ لأنها مشروع حضاري يحتاج إلى الإعداد واتخاذ قوة، يحتاج إلى ذلك في أصل نشأته، ويحتاج إليه بعد ذلك في الحفاظ عليه، كثير من الناس يتصور أن الدولة إنما هي مثل قصر، له حراس وله سجن وله أبواق إعلامية، ويظن أن هذه هي الدولة.
لكن التصور الإسلامي مختلف عن هذا، فالدولة لابد أن تكون قائمة على بُنى ثابتة، وأن يكون لها أهداف واضحة، وأن تكون لها ميزات تخصصها عن غيرها، ومن هنا فلا يمكن أن تقام دولة الإسلام إلا إذا أعد لها الإعداد الكامل في مختلف المجالات، إذا جاءت أجيال مستعدة لتحمل مسئولية هذه الدولة وللدفاع عنها حتى تقوم، ثم بعد ذلك يحافظ عليها بعد أن تقوم لأجل ألا تسقط، ولابد أن يشارك فيها أهل الاختصاصات المختلفة، ولابد أن ترعى مصالح المسلمين في مختلف الميادين، وأن تكون قائمة على فكرة واضحة، وألا تكون مجرد تخبط سياسي يتخبط فيه الساسة، فتارة مع هؤلاء وتارة مع هؤلاء، ينسلخون من هذا التحالف اليوم ليدخلوا في تحالف آخر، ثم ينسلخون من ذلك التحالف إلى تحالف ثالث، فهذا التذبذب غير مقبول في دولة الإسلام، ولابد أن تكون معالم سياستها بارزة واضحة للجميع، ولابد أن يتخذ لها كل الوسائل لقيامها ولاستمرارها بعد ذلك.(7/10)
تميز الدولة الإسلامية بالبيعة
ومن ميزات دولة الإسلام -كذلك- في العلاقة بين الراعي والرعية: البيعة، وهذه البيعة هي في الأصل بيعة مع الله سبحانه وتعالى على نصرة دينه وبذل النفس والمال في سبيل ذلك، وهي التي بايع الله عليها كل المؤمنين في قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].
وهذه البيعة لابد أن يمثل الجانب الديني فيها طرف يأخذ الشروط الشرعية على من يبايعه، وقد نصب الله لذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمره ببيعة من يبايعه على الشروط التي حددها، لكنه أخبر أن تلك البيعة ليست مع الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما هي مع الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، فهي إذاً عهد على السمع والطاعة في المعروف وعلى نصرة الحق، وهي كذلك رباط روحي يجمع المرتبطين به على نصرة دين الله سبحانه وتعالى، وتختلف أساليبها باختلاف ما يحقق المصلحة.
فقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار بالعقبة بيعة النساء، التي حدد الله شروطها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:12].
وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار أيضاً بعد الهجرة، ثم بايع أصحابه قبل الخروج إلى بدر على القتال، ثم بايع المؤمنين يوم الحديبية على الموت، وقد بايع أفراداً من أصحابه على شروط مخصوصة، مثل ما ثبت في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة فشرط علي: والنصح لكل مسلم)، وكذلك بايع عشرة من أصحابه على ألا يسألوا أحداً شيئاً، فنوع رسول الله صلى الله عليه وسلم طرق البيعة، وجعل بيعته للرجال عن طريق المصافحة أو عن طريق الالتزام العام.
وبيعته للنساء قال فيها: (إني لا أصافح النساء وإنما مقالي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة)، ونوعها أيضاً فقد كان يغمس يده في إناء فيه ماء فيغمس النساء أيديهن فيه بعد أن يرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وذلك للتبرك؛ لأن النساء يغبطن الرجال على ملامسة يد النبي صلى الله عليه وسلم لما فيها من البركة، فجعل لهن بديلاً وهو أن يغمس يده في الإناء الذي فيه الماء، ثم تغمس كل امرأة يدها فيه للتبرك من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لامست ذلك الإناء.
ثم لما جاء أبو بكر رضي الله عنه طور هذه البيعة فبايعه الناس بسقيفة بني ساعدة البيعة الخاصة، وبايعوه بالمسجد البيعة العامة، وطورها أيضاً تطويراً جديداً حين عهد بالخلافة إلى عمر، ثم طورها عمر تطويراً جديداً حين تركها في ستة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فدلنا هذا على أنها ليست مقصورة على أسلوب واحد، وإنما تتنوع بحسب ما تؤدي إليه المصلحة المقصودة، وما لم يخالف ذلك حكماً شرعياً فهو مقبول شرعاً.
وهذه البيعة ترفع الوعيد الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) والحديث في صحيح مسلم، فإذا بايع الإنسان هذه البيعة منعه ذلك من النكث، ولا يحل له أن ينكث حتى يرى كفراً بواحاً له عليه من الله برهان، كما صرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أجمعت الأمة على وجوب إقامة دولة الإسلام، ووجوب بيعة الخليفة، ونصبه، وفي ذلك يقول المقري رحمه الله: والنصب للإمام بالشروط حتم بشرع بالهدى منوط فهذا أمر حتم لابد من أدائه.(7/11)
حال الدولة في المغرب مع الخلافة الإسلامية
وإن أهل هذه البلاد نظراً لظروفهم التي عاشوها، وتخلفهم الحضاري وانقطاعهم في هذه الصحراء، قد تساهلوا فيما يتعلق بأمر الدولة وقيامها، فلم يكن لهم اتصال بالخلافة العباسية التي كانت في المشرق، ولا بالخلافة الأموية التي كانت في الأندلس، وإنما فتحت هذه البلاد في أيام بني أمية عندما كانوا خلفاء المسلمين بدمشق، وقام بفتحها عقبة بن نافع رضي الله عنه، وبقيت تابعة للخلافة زماناً، مع أنها لا تجد أية صلة بها.
فلما كان في أواسط القرن الرابع الهجري قامت فيها زعامات قبلية، اتفقت بعض قبائلها على تداول السلطة بينها، فيحكم تلك القبائل قائد قبيلة معينة، ثم يسلمها في آخر عمره لقائد قبيلة أخرى، حتى وصلت إلى رجل اسمه تاشتا محمد فأسلمها لرجل فيه صلاح وورع وهو يحيى بن إبراهيم الإبدالي من قبيلة إبدالة، فخرج هذا إلى المشرق ليرى حال المسلمين ويريد الحج، ومر في طريقه ببعض البلدان التي فيها حضارات إسلامية ومنها القيروان، فأعجب بما عليه الناس، فسأل أبا عمران الفاسي أن يوجه معه من يعينه على حكم هذا البلد حكماً إسلامياً، فلم يجد عنده من يستعد لذلك، فكتب له رسالة إلى أحد تلامذته وهو وقاق بن زلو المنفي بالمغرب، فاختار له من بين تلامذته الإمام عبد الله بن ياسين لما وجد فيه من الإخلاص والحركة والنشاط، فجاء عبد الله بن ياسين وأقام الرباط، وأقام أول حركة إسلامية عرفت بالتجديد والإصلاح بعد سقوط الخلافة، فربى الناس تربية مخصوصة، وأقام دولة استطاعت أن تجاهد في سبيل الله، وأن تقيم حدود الله، وأن تعين المظلومين، وأن تعدل في تقسيم الغنائم وغير ذلك، وقامت على أساس دعوة عبد الله بن ياسين دولة المرابطين.
ولكنها بعد سقوطها رجع الناس إلى الفوضى وإلى الحكم القبلي العشائري، واستمروا على ذلك أزمنة طويلة، لكنهم في كل زمان يظهر فيهم من أهل العلم والصلاح من يدعو لإقامة دولة الإسلام، ومن يستنكر الوضع الذي يعيشونه، فهذا الشيخ محمد رحمه الله تعالى يستنكر ما فيه أهل زمانه من ترك إقامة دولة الإسلام وبيعة الخليفة فيقول: أزيلوا الغرب قبل قيام عيسى لعل الله ينعشه سنينا فيخرج قائم بالعدل منكم فلستم بعده تتقاتلونا وينفي ظلم بعضكم لبعض وبالحد المقام تطهرونا إلى أن يقول فيها: أما تدرون كل بني تميم من الصخر العظيمة يحملونا ويعجز بعضهم عنها وليسوا إذا اجتمعوا عليها يعجزونا كذلك أنتم حيث اجتمعتم على نصب الخليفة تقدرونا ويقول فيها: وقلتم لا جهاد بلا إمام نبايعه فهلا تنصبونا وقلتم لا إمام بلا جهاد يعززه فهلا تضربونا إذا جاء الدليل وفيه دور كفى ردعاً لقوم يعقلونا ويقول فيها: لتمتثلن أو لأكفرنكم كحسان العلى حين تكفرونا وكذلك.
رحمه الله فإنه أيضاً دعا لمثل هذا حين رأى الفساد الذي في زمانه، وخلد ذلك في قصائده المشهورة، ومنها قوله: حماة الدين إن الدين صارا أسيراً للصوص وللنصارى فإن بادرتموه تداركوه وإلا يسبق السيف البدارا ولكنه مع الأسف سبق السيف العذل، فجاء المستعمرون فأخذوا على الناس أزمة الأمر، دون أن تقام دولة إسلامية في هذا البلد مع أنه كان مهيئاً لذلك، فقامت فيه عدة محاولات بعد المرابطين كمحاولة الزوايا المشهورة بمحاولة ناصر الدين، لكن المستعمر كان لها بالمرصاد فأفشلها وأسقطها، وأيضاً من أسباب سقوطها عدم تثقيف الناس بها، وابتعادهم عن فهم معنى الدولة مما جعلها لا تعتمد على بناء تستطيع به الصمود والاستمرار، بل فهمها الناس فهماً خرافياً، فهموا الدولة كلها والتنظيم الذي قام والجهاد الذي أسس فهماً خرافياً، وحتى الذين كتبوا عن تاريخه لم يخل أكثرهم من هذا الفهم الخرافي.
ثم بعد هذا -عندما جاء المستعمر- وجد أهل هذه البلاد أنفسهم مضطرين للتعامل مع هذه المستعمر، حين فرض عليهم نفسه بالقوة، فلم يفهموا الدولة والنظام إلا عن طريق المستعمر، والمستعمر إنما كان يحكمهم بالحديد والنار، ولكنه مع ذلك كان ألطف وأرفق من كثير من الأحكام التي تعاقبت بعده، فهو على الأقل لم يتدخل في شئون الأفراد ولا في شئون الدين المختصة، وكان يرجع في كثير من الأمور إلى الفقهاء، وقد نصب بعضهم قضاة بين الناس حين تراضى الناس عليهم، بخلاف كثير من الأحكام الخالفة للاستعمار.
وهذا الحال أيضاً نجده في البلدان الإسلامية الأخرى، فلا فرق، فحالها واحد، لكن الأمة بكاملها تشعر بوجوب وضرورة إقامة دولة للإسلام تتميز بالميزات التي ذكرناها وبما سواها، وتتخلى عن هذه الصفات الذميمة المشوهة التي تجمع أنواع التشويه، ولا تتصف بصفة من صفات الاستقامة والعدل.
وهي تعلم أن طريقة ذلك لا تتم إلا بالإعداد الكامل وحشد كل القوى وتهيئتها، فلو أنها دعيت لأن تستلم بلداً من البلدان، وأن تقيم فيه دولة الإسلام، فإنه ينبغي أن تعلم أن ذلك لا يمكن أن يتم على هذا الوجه؛ لأن دولة الإسلام لا تقام حتى يعد لها كثير من الإعداد، وحتى يُهيأ لها حكام وولاة، وحتى يهيأ لها اقتصاديون وسياسيون واجتماعيون، كل مرتبط بالإسلام ومنطلق منه في ثقافته ووعيه، ومتشبع بالحضارة الإسلامية، ومتشبع بأصول الدولة الإسلامية التي قامت، ومنفصل عن تراث زمان الفوضى والتسيب، وعن تراث الاستعمار المقيت البغيض، فما لم يتم هذا لا يمكن أن تقام الدولة الإسلامية التي أوجب الله علينا إقامتها.
أقول قولي هذا، وأستقبل الآن بعض أسئلتكم.(7/12)
الأسئلة(7/13)
حكم إثبات العين والقدم والرجل لله تعالى
السؤال
إن بعض أهل العلم أثبتوا لله العين والقدم والرجل وبعض الصفات الأخرى، فما هو صواب هذا القول في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
أن الله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وأنه لا يمكن أن يكون له مثل لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فلا يمكن أن يعرف إلا عن طريق الخبر، وقد أخبرنا عن نفسه بهذه الصفات، فنحن نؤمن بها كما أخبر الله سبحانه وتعالى، وهذا واجب على كل مسلم، ومع هذا يجب عليه أن يؤمن بأنها لا تشبه صفات المخلوقين، وأن الله سبحانه وتعالى له ذات لا تشبه ذوات المخلوقين، فكما له ذات لا تشبه ذواتهم، فكذلك له صفات لا تشبه صفاتهم، والقول في الصفات كالقول في الذات، والقول في بعض الصفات كالقول في بعضها.(7/14)
قول الصاوي بأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة أصل من أصول الكفر
السؤال
ما صحة قول الصاوي بأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة أصل من أصول الكفر؟
الجواب
أن هذا الكلام غير صحيح أصلاً، وهو أيضاً مع ذلك غير أديب؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يرسل إلينا الرسول صلى الله عليه وسلم بالألغاز، وإنما أرسله إلينا بالوحي المبين الواضح الميسر للذكر، الذي قال فيه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، ولم يكن ليسر إلينا بأمور لا نفهمها ولا تصل إليها عقولنا، والخلط والغلط يحصل فيما يتخيل الإنسان أنه ظاهر النص وليس كذلك، فمثلاً: كثير من الناس إذا سمع إثبات صفة من صفات الله سبحانه وتعالى انطبع في ذهنه اتصاف المخلوق بذلك، فدعاه هذا إلى التشبيه والتجسيم، وهذا ليس هو ظاهر الآية، وإنما هو التصور الذي في ذهنه هو فقط، فذلك الغلط من فهمه هو لا من النص، ومن أجل هذا يجب عليه أن يعلم أن الذي فهمه غير معنى الآية وغير ظاهرها، وفهمه اتصاف الخالق بصفة المخلوق على هيئة اتصاف المخلوق بذلك، مخالف لمعنى النص ومخالف لظاهره.(7/15)
حكم قسم الداخلين في البرلمان على حماية الدستور والقانون
السؤال
الذين يدخلون البرلمان يقسمون على حماية الدستور والقانون، أليس ذلك تحاكماً إلى الطاغوت؟
الجواب
لا، هذا من باب الضرورات وقسمهم لا يلزمهم، بل هو مثل أيمان البيعة التي كانت في زمن بني أمية وبني العباس، وقد قال فيها مالك رحمه الله: ألا لا طلاق بإغلاق، ألا إن أيمان البيعة غير لازمة، وعندما أراد العباسيون تعزيره على ذلك أركبوه حماراً وطافوا به في المدينة وجلدوه سبعين سوطاً، فجعل إذا مر بملأ يقول: من كان يعرفني فقد عرفني ومن كان لا يعرفني فأنا مالك بن أنس: ألا لا طلاق بإغلاق، ألا إن أيمان البيعة غير لازمة.(7/16)
حكم المشاركة في المجالس النيابية والبرلمانية
السؤال
في كلامكم عن الفرق بين الشورى والمجالس المؤسسة على ضوء الانتخابات الديمقراطية، هل يمكن أن نستنتج الفرق بينهما من خلال كون مجلس الشورى الحكم فيه ليس للأغلبية، بل على أساس ما رأى أمير المسلمين من المصلحة في الرأي الذي رجحه حتى ولو كان القائل به فرداً واحداً، بينما المجالس البرلمانية الحكم فيها للأغلبية، وهل دخول الإسلاميين المجالس البرلمانية جائز مادام الحكم فيه للأغلبية؟
الجواب
أن هذا الفرق الذي ذكر هنا ليس هو المقصود، وما قصدناه، بل ليس لأمير المؤمنين -الخليفة- أن يخالف رأي مجلس الشورى إذا اتخذ قراراً في أمر هو من تخصصه؛ لأنه يجب احترام التخصصات في هذا الباب، وليس قول أحدٍ ملزماً إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده؛ لأنه هو المعصوم ومن خالفه خالف النص والوحي، لكن من سواه لابد أن تقيد صلاحياته حتى لا يقع الاستبداد المطلق، ومن هنا فإنه لو بويع خليفة للمسلمين لابد أن يكون بإزائه مجلس للشورى يتخذ القرارات الحاسمة، ويبت في الاقتراحات والتوصيات، ويحدد الأسلوب الذي تدار عليه الأمور، فيكون الخليفة حينئذٍ سلطة تنفيذية، ولا مانع من أن يشارك في السلطة التشريعية وأن يكون عضواً فيها، لكن لا يمكن أن يستبد بها.
وبالنسبة للأغلبية: فالعدول إليها شرعاً إنما هو في الأمور الدنيوية المحضة، إذا لم يستطع أحد الأفراد أن يقنع الآخرين برأيه لا من ناحية الدليل ولا من ناحية المصلحة، فحينئذٍ لا مانع من الأخذ بالأغلبية بأن ينظر إلى ما عليه أغلب الناس، ومن هنا فإن دولة الإسلام لا يرضى فيها بأن يكون الخليفة مسخوطاً لدى أغلب الناس، فإذا كان الخليفة لا يرضاه أغلب الناس خليفة، فإنه بذلك ينبغي أن يستقيل من الحكم وألا يأخذ به.
أما حكم المشاركة في المجالس النيابية والبرلمانية فإننا ذكرنا أنه من ارتكاب أخف الضررين والحرامين، وقد يتعين في بعض الأحيان فيكون واجباً إذا كان فيه مصلحة راجحة للمسلمين، وفيه رفع ضرر واضح عنهم.(7/17)
واجب المسلم تجاه أنظمة الحكم الديمقراطية والانتخابات
السؤال
ما هو واجب المسلم اليوم تجاه الحكام الذين يحكمون البلاد الإسلامية وديمقراطيتهم، على ضوء ما ذكرتم في معرض حديثكم عن شروط من ولي أمر شعب من شعوب هذه الأمة، وهل يلزم المسلم أن يقاطع جميع أنواع الانتخابات، وهل لهؤلاء الحكام من طاعة على المسلمين، وكيف تكون المواجهة ضد الأنظمة؟
الجواب
هنا عدد من الأسئلة، السؤال الأول فيما يتعلق بموقف المسلم: فإن موقف المسلم واضح، وهو ما شرط الله عليه: أن يكون ولاؤه لله تعالى ونصرته له، وألا يعدل عن ذلك، وألا يختار به عرضاً من الدنيا، وإذا كان الحامل له على ترك مسئوليته الخوف فالله أحق أن يخشى: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37]، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، ويقول: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [المائدة:44].
وعلى هذا فإنه يجب عليه السعي من أجل التغيير، تغيير عقليات الناس وإصلاح الأحكام الموجودة، وهذا أيسر وأسهل، وإذا امتنعت عن الإصلاح فلا يمكن أن يستسلم لها، بل لابد من تغييرها هي أيضاً، لكن لابد أن يكون ذلك بوسائل شرعية، ولابد أن تكون الوسائل أيضاً مضمونة ليس فيها حيف ولا جور ولا ظلم، ولا تجاوز لحدود الله سبحانه وتعالى بأي وجه من الوجوه.
أما موقف المسلم من الديمقراطية: فإن الديمقراطية أمر واقعي يعيشه المسلمون، قد فرض عليهم في ديارهم لم يخرجوا للمطالبة به، ولو طالبوا به لم يعطوه، ولكنه أسلوب فرضه الغربيون على مستخلفيهم في ديار المسلمين، فأصبح واقعاً يعيشه الناس، فإما أن يعتزلوه ويتركوه فيكون هذا تمكيناً لأعدائهم من السلاح الذي يقتلونهم به، فيكونون حينئذٍ مهمشين لا دخل لهم في هذه الحياة، ولا يستشارون على أي شيء، ولا يشاركون في أي شيء، وتتمحض الكلمة للباغي، وهذا ممنوع شرعاً.
فلابد أن يحاولوا استصلاح الموجود والمشاركة فيه إذا كان يؤدي إلى نتيجة، أما إذا أيقنوا أنه تزوير وتزييف محض وليس فيه أي نتيجة مضمونة، وليس فيه أي مصلحة لدين الله ولا لرفع الظلم ولا لتقليله، فلا يحل لهم المشاركة فيه؛ لأن ذلك يعطي شرعية لهذا الحكم المخالف لحكم الله سبحانه وتعالى الذي تشريعه كفر؛ لأنه تشريع ما لم يأذن به الله.
أما المشاركة في انتخاب أي فرد من الأفراد فإن على من شارك في انتخابه أن يعلم أنه مسئول عن تصرفاته، فإن كانت تصرفاته آثمة خاطئة فإن عليه جزءاً من إثمها؛ لأنه ما وصل ذلك المرشح إلى السلطة إلا بتصويته هو، وإن كانت تصرفاته رشيدة حكيمة فليعلم أن له أيضاً قسطاً من أجرها؛ لأنه الذي شارك في إيصاله إلى مكانه، وعليه فعلى الإنسان قبل أن يشارك فيها أن يعلم أنه مسئول عن النتيجة، ومسئول عما يترتب عليها من أعمال، وما يترتب عليها من قرارات، وسيسأله الله سبحانه وتعالى عن كل ذلك.
وعليه؛ فإن الناس في هذا المجال يتفاوتون ودرجاتهم مختلفة، وقد قال مالك رحمه الله تعالى حين سئل عمن خرج على وال فاسق فأراد إزالته وانتزاع ما تحت يده، هل يجوز لنا نصرته؟ فقال: إن كان الوالي الذي يراد إزالته مثل عمر بن عبد العزيز فادفع عنه، وإن لم يكن مثله فدعه وما يريد منه، ينتصر الله من الظالم بالظالم ثم ينتصر من كليهما.
وقال سحنون رحمه الله تعالى: إذا كان القائم، أي: الثائر، عدلاً وجب القيام معه لينصر دين الله، وإن كان فاسقاً فدعه وما يطلب منه، ولا يحل لك دفعه عن الظالم.
وقال العز بن عبد السلام رحمه الله: فسق الأئمة يتفاوت، فمنهم من يكون فسقه في الدماء، ومنهم من يكون فسقه في الأبضاع، ومنهم من يكون فسقه في الأموال، فيقدم الذي يفسق في الأموال على الذي يفسق في الأبضاع، ويقدم الذي يفسق في الأبضاع على الذي يفسق في الدماء، لما بين المضرتين والمفسدتين من الفرق، فكل مفسدة تدفع بها التي هي أعظم منها.
وأما ما لهم من الطاعة فإنه لا يترتب على الانتخابات ولا على قيام الدول غير الإسلامية أي حكم شرعي يختص، فمن قام كمن لم يقم، ومن انتخب كمن لم ينتخب، فلا فرق شرعاً، ولا يترتب على هذا أي حكم شرعي؛ لأن منطلقه غير شرعي، فلذلك كان المعدوم شرعاً كالمعدوم في الواقع، لا يعتبره الشرع وجوداً وكأن شيئاً ما حصل.
أما المواجهة: فإن المواجهة لا يقدر عليها إلا من يطيقها ولا تجوز إلا لمن يستطيع ذلك، وإذا استطاعه فلا تجوز أيضاً إلا وفق ضوابط شرعية، لا يكون فيها الاعتداء على أرواح الناس ولا على ممتلكاتهم ولا على أعراضهم، ولا تؤدي إلى فتنة غير محسومة، ولهذا فإن ما يحصل في كثير من البلدان يؤدي إلى فوضى لا حصر لها، فلابد وأن تكون الأمور مدروسة النتائج والعواقب، وأن تكون وسائلها واضحة شرعاً وضوحاً لا يختلف فيه الناس، وبالأخص أن القرار الذي يتخذ في مثل هذا قرار على الأمة، فلا يمكن أن يصادر الإنسان قرارات الأمة ومصالحها حتى يستشيرها ويرى رأيها.(7/18)
تصنيف حركة طالبان الأفغانية
السؤال
هل ترون في حركة طالبان الأفغانية مشروعاً إسلامياً حقيقياً، أم أنها مجرد أداة من الأدوات التي تخدع بها الشعوب الإسلامية؟
الجواب
وسط بين هذا وهذا، فحركة طالبان في الأصل لم تكن حركة سياسية، ولم تكن الدوافع لقيامها إقامة دولة الإسلام ولا الجهاد في سبيل الله، وإنما كانت حركة إصلاحية أراد بها عدد من الطلاب أن يغيروا بعض المنكرات وأن يمنعوا الظلم، وأن يحرقوا مزارع الحشيش، وأن يقوموا ببعض الإصلاحات الاجتماعية فقط، لكن أمريكا رأت أنه بالإمكان أن ينتزعوا البساط بهم من تحت أقدام المجاهدين، وأرادوا ألا تقوم دولة للإسلام في أفغانستان، فدعموا حركة طالبان دعماً غير مباشر حتى قضوا بها قضاءً جزئياً على الجماعات الجهادية القائمة في أفغانستان.
لكن المشكلة التي فاجأتهم بها طالبان أنها عندما طردت المجاهدين أرادت أيضاً أن تقوم بمثل ما كانوا يريدونه، أرادت أن تقيم دولة إسلامية، فحينئذٍ تخلت عنها أمريكا، وأرادت أن ترجعها إلى أصل نشأتها، وأن تكون حركة اجتماعية فقط لا سياسية، وهذا ما لم يتحقق.
وأيضاً: فلا ينبغي أن يؤمل الناس كثيراً من هذه الحركة التي لم تنشأ أصلاً نشأة سياسية، ولم تكون تكويناً كافياً، ولم تكن لها اهتمامات في هذه المجالات المختلفة، وإنما يحمد لها ما قدمت من الخير، ويسأل الله أن يوفقها.(7/19)
معنى تطبيق الشريعة الإسلامية
السؤال
كثير من المسلمين يتصورون عندما ينادي الدعاة بتطبيق الشريعة الإسلامية أن معنى التطبيق هو قطع أيدي السارق وجلد الزاني، والحكم في المرأة ألا تخرج من بيتها إلا إلى قبرها، كما رأينا ذلك في أفغانستان عند طالب، فهل هذا تصور صحيح؟
الجواب
لا، هذا تصور غير صحيح، فهم لم يروا من التصورات المذكورة إلا الرءوس، الإسلام أكبر من هذا، {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]، فإقامة الحدود علاج فقط لأمراض تريد دولة الإسلام ألا تقع أصلاً، وإذا قامت دولة الإسلام فستسعى لئلا توجد هذه الأمراض حتى تضطر إلى الحدود، فمثلاً: حد الردة، هذا حد من الحدود لم تعرف إقامته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في زمان أبي بكر ولا في زمان عمر ولا في زمان عثمان ولا في زمان علي، وهو حد من الحدود الثابتة المقررة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يعرف أن أحداً ارتد فاستتيب فلم يتب فقتل، بل كان يرتد الناس فيتوبون ويرجعون، أو لا يرتدون أصلاً.(7/20)
المشاركة في الانتخابات هل هو رضا بالقوانين الوضعية
السؤال
ما هي الضوابط الشرعية للمشاركة في الأنظمة وفي اللعبة ومن ثم في الحكم، أليس من تلك الضوابط عدم مخالفة الشرع، وأن التزام هؤلاء المشاركين بتوجيه الدولة وبقوانينها الوضعية أكبر مخالفة؟
الجواب
أن هذا لا يلزم منه الأخذ بتلك القوانين المخالفة ولا التزامها، لكن الإنسان يصلح ما يستطيع، وإذا لم يشارك فإن تلك القوانين ستطبق عليه رضي أم أبى، فهو لا يخرجه عن تلك القوانين عدم مشاركته، بل إذا شارك فسيقلل الضرر، وإذا لم يشارك فالقوانين ستطبق عليه كما هي، فمن أجل هذا يعد هذا من ارتكاب أخف الضررين والحرامين، ولا يعد مما له عنه محيص ويمكن أن لا يشارك فيه.(7/21)
نظام السودان هل يعد إسلامياً
السؤال
هل يعتبر النظام في السودان نظاماً إسلامياً؟
الجواب
أن النظام القائم في السودان لا يمثل الدولة الإسلامية، بمعنى: أنه ليس دولة متكاملة تقوم على أسسها الدولة، ويبايع فيها الخليفة على أساس ذلك، وإنما هو بلد إسلامي قام فيه حكم إسلامي، فالحكم القائم حكم إسلامي، والنظام القائم نظام إسلامي، ولو كان دولة إسلامية لكن المبايع فيه خليفة لكل المسلمين، وعليهم أن يبايعوه وأن يلتزموا طاعته، وليس الواقع كذلك، بل الذي يقوده إنما يدعي أنه قائد للسودان فقط، فلذلك لا يقال هي دولة إسلامية، لكن يقال: حكم إسلامي، فهو بمثابة أمير بلد من البلدان في عهد الخلافة مثلاً، ومع ذلك فهي أحسن الموجود، تعلى فيها كلمة الله بالمستطاع مع كل الضغوط القائمة عليها، ووجود الهجمة الشرسة التي تقوم بها أمريكا بتشويهها، حتى -مع الأسف- داخل المنظمات الإقليمية، ومنها الجامعة العربية والوحدة الأفريقية وغيرها.(7/22)
إمكان وصول الحركات الإسلامية إلى السلطة عن طريق الديمقراطية
السؤال
هل يمكن للحركات الإسلامية الوصول إلى السلطة عن طريق الديمقراطية، رغم أن كل التجارب باءت بالفشل، إلا في حالات خاصة كبعض الدول ذات الحكم الملكي؟
الجواب
أن الحركات الإسلامية لا تريد الوصول إلى حكم هذه الدول عن طريق الديمقراطية، ولو أرادته فإنها لا يمكن أن تقيم بذلك دولة إسلامية، وإنما تريد تقليل بعض الشر، فبعض الشر أهون من بعض، أو تريد جلب بعض المصالح المؤقتة، لكنها لا تعلق آمالاً كبيرة على الديمقراطية، ومن هنا فما يحصل -مما يراه الناس فشلاً في كثير من البلدان- غير مفاجئ لكثير من الذين يعيشون الوضع ويرونه.
والحركات الإسلامية في العالم تنطلق من واقعها ورؤيتها الواضحة للبلد الذي هي فيه، فكثير من الحركات لا تريد إقامة دولة الإسلام في بلدها؛ لأنها تعلم أن هذا البلد ليس له مقومات الدولة الإسلامية، وإنما تريد وجود شعب إسلامي أو مجتمع إسلامي أو تقليل بعض الشر، ومن أجل هذا يمكن أن تتعايش مع بعض الحكام الذين هم أقل شراً إذا قبلوا رفع بعض الضرر عن المسلمين، وإذا قبلوا تطبيق حدود الله تعالى أو تطبيق بعض أوامره، وهم يعلمون أن الدولة لن تكون دولة إسلامية حينئذٍ، ولكن بعض الشر أهون من بعض.
بل أكثر الجماعات الإسلامية القائمة اليوم ترضى عن كثير من الحكام لتقليل الشر، ويمكن أن تتعاون معهم في إزالة كثير من مظاهر السوء والفساد، وأن تساعدهم على بعض ما يريدونه؛ لأنها تعلم أن الدولة لم تكن إسلامية في هذه الحقبة، وإنما يراد بها تقليل بعض الشر وإظهار بعض الخير، والقضاء على بعض الفساد المنتشر، وبالتدريج يمكن أن يزال هذا الفساد بالكلية.(7/23)
التصالح مع الحكام ومناصحتهم
السؤال
هنا من يرى أن أفضل أسلوب وأسلمه مع حكام المسلمين اليوم، هو أن يتخذ الدعاة معهم أسلوب التصالح والنصح الكيس بما يضمن استيعابهم، وعلى الأقل يحقق الحماية والسند للدعوة الهادئة المتدرجة المتبصرة، وأنه لا مبرر لليأس من هداية هؤلاء الحكام والتأثير، عليهم، فما هي قيمة هذا الرأي شرعاً وواقعاً؟
الجواب
أن هذا الرأي منطلق من واقع المسلمين المنهزم، الذي ينطلق فيه الناس من تجارب فاشلة، قد خاضها أقوام دون أن يعدوا لها العدة في أماكن مختلفة، وفي حقب تاريخية متباينة، وهذا الأسلوب قد مر به من قبل الشيعة، فقد خرج كثير من آل البيت في ثورات متعددة لم يكتب لشيء منها النجاح، فأصيب شيعتهم باليأس، فأرادوا التسليم لأي قائم بالأمر ومناصحته، حتى لو كان كافراً فيكونون بجنبه على المسلمين، حتى غير ذلك الخميني بثورته الجديدة التي تسمى ولاية الفقيه، ولذلك فإن هذا الأسلوب إذا كان يقتضي التنازل عن نصرة دين الله تعالى والرضا بالواقع المرير، وعدم السعي لتغييره، فهو ترك لما أمر الله به جملة وتفصيلاً.
ونحن لا ننكر أنه على المسلمين أن يأخذوا بأسهل الأسباب وأيسرها، وما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً ولا قطيعة رحم، وأن عليهم كذلك أن يأخذوا بأيسر المصالح وأكثرها تحقيقاً لما يطلبونه ويريدونه من الأهداف، وأن عليهم أن يوازنوا بين المصالح والمفاسد، فهذه أمور لا نختلف فيها، لكن هذا الطرح لا يمكن أن يؤدي إلى إقامة دولة للإسلام ترعاه وتقوم بمصالحه، بل سيتربى الناس على الاستسلام المطلق، فإذا حكم النظام العالمي الجديد أو هيمنت أمريكا أو هيمنت أية دولة كفر أخرى فسيسلمون لها وينقادون لها تمام الانقياد.(7/24)
التربية ضرورة ومنهج
للتربية أهمية كبرى في حياة المسلم بجوانبها الثلاثة: العقلي، والبدني، والروحي، وهي ضرورية أيضاً لمن أراد أن ينتقل من الجهل إلى العلم، ومن الضعف إلى القوة، ومن الخلق السيئ إلى الخلق الحسن.
ومن أعظم ما يعين على التربية قراءة سير السلف والخلف ممن ضربوا أروع الأمثلة في التربية الحسنة.(8/1)
أهمية التربية في حياة المسلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من ضعف، وجعله قابلاً للنمو والتطور، وآتاه وسائل ذلك النمو والتطور، فيسر له سبل الهدى، وأعانه على ذلك بما آتاه من الجوارح المعينة على التدبر في آيات الله المسطورة والمنظورة ليزداد بذلك إيماناً ويقيناً؛ وليزداد في أخلاقه وفي سلوكه وفي أعماله كلها.
والإنسان محتاج إلى ذلك الازدياد بصورة مستمرة دائماً، ولهذا فإن الإنسان لا يتوقف نموه بالكلية إلا إذا هو أقبل على النقص، فالإنسان دائماً في مسير إما إلى الأمام وإما إلى الخلف، لكنه لا يمكن أن يتوقف مسيره، فهو في بداية نشأته نشأ ضعيفاً، ثم بعد ذلك وصل إلى القوة، ثم تراجع إلى الضعف والشيبة، ثم بعد ذلك الموت، وفي مسيره الأول من بداية نشأته لا بد أن يمر بأطوار كثيرة، كما قال نوح عليه السلام في دعوته: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:14]، وهذه الأطوار ذكر الله منها في كتابه تسعة هي قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:13 - 16]، هذه تسع مراتب من أطوار خلق الإنسان، وفي كلها تجد النمو والازدياد، وهذا النمو والازدياد ما كان مكتسباً منه هو الذي يسمى بالتربية.(8/2)
معنى التربية
والتربية مشتقة من: ربا يربو إذا زاد، فزيادة المال تسمى رباً له، وكذلك زيادة العقل، وزيادة قوة البدن، وزيادة الخلق، كل ذلك يسمى تربية.
وأصل هذه المادة في اللغة يستعمل منها أربعة أفعال، فيقال: ربا يربو، ومنها رباه يربيه إذا أوصله إلى كماله بالتدريج شيئاً فشيئاً، ومن هذا الفعل قول الشاعر: وربيته حتى إذا تم واستوى كمخة ساق أو كمتن إمام قرنت بحقويه ثلاثاً فلم يزغ عن القصد حتى بصرت بدمام ويقال أيضاً: ربه يربه، ومنه قول صفوان بن أمية بن خلف رضي الله عنه: لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن.
الفعل الثالث: يقال: رببه يرببه، إذا أوصله إلى كماله بالتدريج شيئاً فشيئاً، ومنه قول أمية بن أبي الصلت الثقفي: بيض مرازبة غلب أساورة أسد ترببن في الغيضات أشبالا ويقال كذلك: ربته يربته، وهذا الفعل الرابع، ومنه قول الشاعر: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بجمهور حزوى حيث ربتني أهل ومن هذا الفعل الرب، فالرب يطلق على المالك؛ لأنه هو الذي يعتني بتنمية مربوبه، فيقال: رب البيت ورب المنزل ورب الدابة، أي: مالكها، وأصلها راب، فكثير ما تحذف الألف من (فاعل) للمضعف، كما قال ابن مالك: وينحذف بقلة مضاعف منه ألف قوله: (بقلة) أي أنه مقصور على السماع، وليس معنى ذلك: قلة وجود الأمثلة على هذا، وذلك: كربٍ وشتٍ وقذٍ وعمٍ فكل هذا بمعنى فاعل.
وقول الله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]، قال ابن عباس في تفسير ربانيين: الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره، وهذا هو التدرج في طلب العلم، وهو مناسب لهذه المادة، ومثل ذلك قول الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران:146]، فالربيون منسوبون إلى الرب، وهم المربون أو هم المشتغلون بعبادة الرب سبحانه وتعالى.
وهذه التربية منها ما يقوم به الوالدان، فالولد أمانة عندهما يربيانه على وفق ما يريدان، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، وقال: (ما منكم أحد إلا وينتج كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل ترى فيها من جدعاء) أو (فهل ترى فيها من جدع) فمعناه: أنه يولد كامل الأعضاء على الفطرة، ثم بعد ذلك تعمل فيه الأيدي في التربية، كما أن البهائم تولد كاملة ثم إن أهلها يسمونها، إما بقطع الآذان، وإما بوضع ميسم أو غير ذلك.
ثم بعد هذا تربية الإنسان لنفسه، وكذلك تربية مجتمعه له، فالشارع الذي يتربى فيه الإنسان، والمدرسة التي يدرس فيها، ووسائل الإعلام التي يسمع، ونحوها كل ذلك مؤثرات تؤثر في سلوكه وتزيد في عمله أو تنقص، وتؤثر في السلوك فيكون إيجابياً ويكون سلبياً.(8/3)
أقسام التربية
وعلى هذا فالتربية ثلاثة أقسام: تربية عقلية: وهي بزيادة العلم؛ لأن العقل مبناه على العلم، فكلما ازداد الإنسان علماً ازداد عقلاً، وهذا يشمل علوم الدين وعلوم الدنيا.
القسم الثاني: التربية البدنية، وهي بتقوية البدن وتعويده على المهارات والخبرات المختلفة، كمهارات العدو والجري، ومهارة السباحة، ومهارة ركوب الخيل، ومهارة سياقة السيارة، ومهارة القفز، ومهارة حمل الأثقال، ومهارة الكتابة، وغير ذلك من المهارات التي هي من التربية البدنية.
ثم النوع الثالث من أنواع التربية: التربية الروحية، والمقصود بها تزكية النفوس، وتطهير الأخلاق بتهذيبها، والتخلي عن الصفات الذميمة، والتحلي بالصفات الحميدة، ولا يكون ذلك إلا وفق المنهج الذي شرع الله لعباده.
فهذه الأقسام الثلاثة هي قابليات الإنسان التي يمكن تطويرها، فيمكن أن يطور الإنسان من الناحية العلمية: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].
فكل يوم يمكن أن يزداد الإنسان علماً، ولهذا أرشد الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى طلب الازدياد من العلم، فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] وكذلك قوة البدن ومهاراته، فكل يوم بالإمكان أن يزداد الإنسان مهارة لم تكن لديه، فتشغيل أي جهاز من الأجهزة -كتشغيل المسجل أو تشغيل جهاز الكمبيوتر أو غير ذلك- كلها مهارات، بالإمكان أن يستفيدها الإنسان في أي يوم من أيام حياته.
ومثل ذلك: المهارات النفسية، فمهارة العبادة والأدب مع الله سبحانه وتعالى، ومهارة الإخلاص في العمل الصالح، ومهارة الأنس بالله، والتوكل عليه وخوفه ورجائه، وكذلك مهارة التوبة والإنابة إلى الله، كلها مهارات روحية بالإمكان أن يكتسبها الإنسان، وما أحوج الإنسان إلى اكتسابها.
إن هذه التربية عظيمة تغير الإنسان عن حاله، فبعد أن كان الإنسان جاهلاً أمياً، وبعد أن كان ضعيفاً، وبعد أن كان سيء الخلق، ينتقل بواسطة التربية إلى أعلى كمال ممكن، فبعد الجهل المطلق ينتقل الإنسان إلى مرتبة الاجتهاد أو مرتبة التوقيع عن رب العالمين، وبعد مرتبة الضعف -الذي لا يستطيع الإنسان به إلا مص الثدي- ينتقل الإنسان إلى مقاتل ماهر، وشجاع لا يرده أي خوف، ولا يثنيه أي إرهاق، وكذلك بعد نشأة الإنسان السيئة التي فيها تعويد النفس على ما تشتهي وعدم الحيلولة بينها وبين ذلك، وضعف الحيلة في الوصول إلى ما يشتهيه الإنسان، كالصبي إذا منع شيئاً ليس لديه حيلة إلا البكاء، فهذا الضعف الشديد بعده ينتقل إلى إنسان قوي الشخصية، لا يتضعضع أمام الوسائط، ولا يخضع للإرهاب والتهديد، فيكون متصلاً بالله سبحانه وتعالى، متقوياً بقوته التي لا حدود لها، وبذلك يتغير حاله بالكلية.
بهذا نعلم أن هذه التربية ليست عملية مؤقتة بزمن محدد، كما يتوهمه بعض الناس، فقول العرب: العوان لا تعلم الخمرة، المقصود بذلك: أصل التعليم لا زيادة المهارة، فهي لا تعلم الخبرة؛ لأنها قد تعلمتها، لكن يمكن أن تزداد مهارة فيها، فما من شيء يتعلمه الإنسان إلا وهو قابل للتطوير والزيادة، ولهذا أدركنا كبار السن -وبعضهم من أهل العلم- كل يوم يحاولون زيادة مهارات أداء سنن الصلاة، فيركع الإنسان أمام الناس ليروه هيئة الركوع، ويسجد أمامهم ليقوموا له النقص الذي لديه بهيئة السجود، ويتوضأ أمامهم ليرى مهارات الوضوء، وهكذا.
فما من مهارة يتعلمها الإنسان إلا وهي قابلة للتطوير والزيادة، حتى أن أنبياء الله الذين أوصلهم الله سبحانه وتعالى إلى درجات الكمال العليا الممكنة للبشر، ما من أحد إلا وهو يحرص على الازدياد من التربية، فهذا عيسى بن مريم عليه السلام مر مع الحواريين في زقاق ضيق، فاستقبله خنزير، فقال له عيسى: انفذ بسلام، فقيل: يا نبي الله! أتقول هذا لخنزير؟! قال: أردت أن أعود لساني قول الخير.
وكذلك مر هو والحواريون على جيفة كلب قد أنتن، فقال الحواريون: ما أنتن رائحته، فقال عيسى: ما أحسن بياض أسنانه؟ فقيل له في ذلك، فقال: ذكرته بأحسن ما فيه؟ وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد كان يقوم الليل فيطيل القيام حتى تفطرت قدماه، فقالت له عائشة: (أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً)، إنه يريد زيادة الشكر، ويحرص على ذلك، وهذا الحرص هو الذي يقتضي للإنسان السمو وعلو الهمة، بحيث لا يرضى بالمراتب الدنية، يريد السمو إلى أن يكون منتهاه الفردوس الأعلى من الجنة تحت عرش الرحمن، فلا يرضى بأي شيء أقل من ذلك ولا دونه، ولهذا يروى أن النابغة الجعدي رضي الله عنه حين أنشد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم قصيدته الرائية بلغ فيها قوله: بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا قال: إلى أين يا أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة، قال: إلى الجنة إن شاء الله.
وكذلك العلماء الكبار الذين اشتهروا بكثرة ما حووه من العلم، لم يقصروا في الطلب يوماً من أيام حياتهم، فتسمعون عن محمد بن مالك الطائي الجياني الأندلسي الدمشقي إمام أهل العربية، الذي ألف الكتب الكثيرة في خدمة لسان العرب، فمنها: الخلاصة الألفية المشهورة السائرة، والكافية، وتسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، والفوائد كذلك، وعدة الحافظ وعمدة اللافظ، والاعتضاد بين ظاهر الظاء والضاد، والواو والياء، والإعلام بتثليث الكلام، والتوضيح لحل مشكلات الجامع الصحيح، وشروح هذه الكتب كلها وغير هذا من الكتب الكثيرة، مع ذلك تعلم يوم موته ثمانية شواهد من ولده، وهو في اللحظات الأخيرة.
وهذا الإمام مالك بن أنس على جلالة قدره في العلم وكبر سنه فقد عاش ثلاثاً وتسعين سنة، ومع ذلك ففي آخر عمره سئل عن تخليل الأصابع في الوضوء، فقال: لا أحفظ فيه شيئاً، فلما انفضت الحلقة جلس إليه عبد الله بن وهب وهو أحد طلابه، فقال: حدثني الليث بن سعد عن محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل أصابعه في الوضوء)، فحفظ مالك هذا الحديث فلما عادت الحلقة إلى مكانها، قال: سألتموني بالأمس عن تخليل الأصابع في الوضوء، فقلت لكم: لا أحفظ فيه شيئاً، وقد حدثني عبد الله بن وهب هذا قال: حدثنا الليث بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل الأصابع في الوضوء).
فكل يوم هم في شغف من الازدياد من العلم، لا يقصرون في ذلك، ويطلبونه على كل الأحيان، ولذلك بلغوا ما بلغوا من المنازل العلية، فكل من شعر بأنه استغنى عن التربية، ووصل إلى حد لا يحتاج فيه إلى الزيادة، فمعناه أنه بدأ في النقص، ولهذا حين أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سمع هذه الآية، فقالوا: وما يبكيك يا ابن الخطاب؟ قال: ما من شيء يتم إلا نقص، فالدين أتمه الله، فخشي عمر أن يكون ذلك بداية النقص، وأول نقص فيه موت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك موت الخلفاء الراشدين، ثم لا يزال الدين ينقص، كلما نقضت عروة تمسك الناس بالتي تليها، فأول ذلك الحكم وآخره الصلاة.(8/4)
وسائل التربية
إن الإنسان محتاج إلى العناية بتربية نفسه، ولذلك وسائل كثيرة: فمن أهم الوسائل قراءة سير السابقين الذين بلغوا المقامات العلية، وقراءة سيرهم ليست لمجرد الثقافة والتاريخ، وإنما هي لأخذ العبر، وليرسم الإنسان لنفسه طريقاً فيحاول تطبيقه، ولهذا فإن مؤلفات هذه الأمة في التاريخ كثيرة جداً، فلماذا ألفوا فيه؟ لماذا كتب لنا الذهبي رحمه الله أكثر من ثلاثين كتاباً في التاريخ والسير وتراجم الرجال؟ إنما فعلوا ذلك ليكون هذا حافزاً للناس على التخلق بأخلاق هؤلاء، والتربي بتربيتهم، وسلوك منهجهم، فإن الإنسان إذا قرأ سيرة أحد هؤلاء الأعلام من السلف الصالح -وكان ذا همة- حاول أن يسد مسده للأمة، وليتذكر الشباب الآن أن علماء الأمة وعظماءها وقادتها ليسوا مخلدين، فما منهم أحد إلا وهو على موعد مع ملك الموت، وإذا جاء ذلك الموعد لا يمكن أن يتأخر ولا أن يتقدم، والأمة محتاجة إليهم فمن سيخلفهم؟ ومن سيأخذ اللواء منهم؟ لا ترضى الأمة أن يسقط اللواء على الأرض، بل تريد من يقوم بحمل هذا اللواء ويتهيأ لذلك، وأنتم تعرفون قول حسان رضي الله عنه: لم تطق حمله العواتق منكم إنما يحمل اللواء النجوم فلا بد من هؤلاء النجوم الذين يتأهبون لحمل اللواء، ويستعدون لذلك، فيعدون العدة له قبل أن يصابوا بهذه المصيبة، كل إنسان عليه أن يفكر أنه ربما يكون في يوم من الأيام مسئولاً عن دين الله في بلد من البلدان، فالذين يعول عليهم الآن القيام لله بالحق والقسط هم على موعد مع ربهم، وسيلبون نداءه، وكذلك هم عرضة للفتنة وعرضة للقتل والسجن وغير ذلك، فلا بد ممن يخلفهم ويقوم مقامهم، فقبل أن يأتي ذلك اليوم الذي يتعين عليك أن تقوم مقام أولئك، فاجتهد بنفسك في أن تصل إلى المقام الذي وصلوا إليه، وأن تكون عتاداً جاهزاً يخلف أولئك السابقين، كحال أهل مؤتة الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم زيد بن حارثة رضي الله عنه، ثم قال: (أميركم زيد، فإن قتل فـ جعفر بن أبي طالب، فإن قتل فـ عبد الله بن رواحة، فإن قتل فليتفق المسلمون على رجل منهم)؛ ولذلك فإن ثابت بن أقرم رضي الله عنه، كان قريباً من عبد الله بن رواحة، فلما قتل أخذ اللواء وقال: يا معشر المسلمين! إني ما أخذته لأقودكم، وإنما أخذته لتقدموا رجلاً منكم، فقدموا خالد بن الوليد فأعطاه ثابت بن أقرم اللواء.
ومصائب المسلمين باخترام قادتهم، وحملة اللواء فيهم، هي من جنس الابتلاء الذين يبتلون به في أديانهم، وهي مستمرة وسنة كونية لا انقطاع لها، فهم يحتاجون كذلك إلى وجود البدائل الجاهزة، التي يمكن أن تكون عند مستوى التحدي، وهذه البدائل لم تكن إلا أصحاب الهمم العالية الذين يفكرون في سد مسد هؤلاء، ويفكرون بتفكير جاد، ليأخذوا قسطهم الآن قبل أن يصل إليهم الدور، فهم ينتظرون في الطابور، ويعلمون أن الكراسي هي مثل كرسي الحلاق، يجلس عليه هذا فإذا حلق رأسه قام فجلس غيره.
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب فلهذا يتمثلون دائماً قول الشاعر: يمثل ذو اللب في لبه مصائبه قبل أن تنزلا فإن نزلت بغتة لم ترعه لما كان في نفسه مثلا وذو الجهل يأمن وأيامه وينسى مصارع من قد خلا فإن دهمته صروف الزما ن ببعض مصائبه أعولا فالعويل لا فائدة فيه، بل هو كما قال الأعرابي: نصرها بكاء وبرها سرقة، فلهذا علينا أن ننظر إلى حال الذين سدوا للأمة مسداً، وكيف كانت حوافزهم لذلك، عندما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم كان عبد الله بن عباس فتى في العاشرة من عمره أو الثالثة عشرة، قال: فذهبت إلى لدة لي من الأنصار كان يلعب معي، فقلت: يا أخي! إن الله قد أخذ رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن علمه في أصحابه، فتعال بنا نجمع علم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الأمة تحتاج إلينا يوماً من الأيام، قال: فقال لي: دعنا نلعب فمتى يحتاج إلينا، فذهبت وتركته، فذهب ابن عباس في طلب العلم، فلم تمض سنوات قليلة حتى أصبح عضواً في مجلس شورى الأمة الإسلامية، وكان عمر يجلسه بين كبار أهل بدر، ويسميه فتى الكهول، ولا يقضي أمراً حتى يستشيره فيه، ولذلك يقول فيه أحد الصحابة: بلغت لعشر مضت من سنيـ ك ما يبلغ السيد الأشيب فهمك فيها جسام الأمور وهم لداتك أن يلعبوا ويقول فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه: إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه رأيت له في كل محمدة فضلا إذا قال لم يترك مقالاً لقائل بمنتظمات لا ترى بينها فصلا كفى وشفى ما بالنفوس فلم يدع لذي إربة في القول جداً ولا هزلا(8/5)
نماذج ممن تربوا على يد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته
إن أولئك الذين تربوا تلك التربية النافعة هم الذين تحملوا المسئوليات، وإن هذه التربية لا بد فيها من ضرائب، فهي تحتاج إلى تضحيات جسيمة، لقد حدثنا عتبة بن غزوان رضي الله عنه عن أولئك النفر الأوائل الذين صدقوا الله ورسوله، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فامتحنوا على طريق الهداية، وأوذوا في الله، وحوصروا ثلاث سنين، لا يبايعهم أحد ولا يهدي إليهم ولا يعطيهم أحد، ويمنعون من دخول الأسواق، ومن ورود المياه العذبة، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، وقد عقدت قريش حلفها على ذلك، وكتبوه في الصحيفة التي علقوها في الكعبة، فيقول: فكنا في الشعب -في شعب أبي طالب - يربط أحدنا على بطنه حجراً من الجوع، فخرجت ذات ليلة فوجدت ثوباً قد علاه العفاء، أي: سفته السوافي، فأخذته فغسلته فقسمته نصفين، فتأزرت بنصفه، وأعطيت نصفه سعد بن مالك وهو سعد بن أبي وقاص فأتزر به، ثم إن سعد بن مالك خرج ذات ليلة لقضاء حاجته، فوقع بوله على شيء فلمسه، فإذا هو جلد فأخذه فغسله وشواه فأكلناه! ولقد رأيت أولئك النفر وما منهم أحد إلا وهو وال على مصر من الأمصار، بعد أن حصل ما حصل من الأذى! ويقول سعد بن أبي وقاص كما في صحيح البخاري: (والله إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد رأيتنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وما لنا زاد إلا ورق السمر وهذه الحبلة، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام خبت إذاً وضل سعيي).
إن أولئك النفر قد رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تربية عجيبة، مكثت هذه التربية في مدرستها الأولى ثلاث عشرة سنة، فهذه مدة المدرسة الابتدائية وهي العهد المكي، لكن هذه السنين الثلاث عشرة آتت أكلها، فكل سنة منها جاءت بقرن كامل من الزمن من عمر الأمة، فاستمر عمر دولة الإسلام ثلاثة عشر قرناً على آثار تلك التربية في ثلاث عشرة سنة.
وكذلك فإنهم تربوا تربية مكنتهم من البطولات، فهؤلاء الذين كانوا في هذا الأذى الشديد هم الذين استطاعوا فيما بعد تحمل المشاق، وهم الذين صبروا في المواقف العظيمة، فهذا أبو بكر الصديق الذي نال منه المشركون ما نالوا، وكانوا يقرعونه في كل أمر يخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: هل تصدقه في كذا؟ فيقول: نعم، فيقولون: هل تصدقه في كذا؟ فيقول: نعم، فأكثروا عليه من ذلك، فلما كانت ليلة الإسراء والمعراج لم يكن أبو بكر حاضراً، فأتوه فقالوا: إن صاحبك زعم أنه جيء بدابة فذهب بها إلى الشام ليلته هذه، فدخل بيت المقدس، ثم صعد به إلى السماء فاخترق السماوات السبع! أفتصدقه فيما قال؟ قال: إن كان قالها فقد صدق، هذه هي القوة اليقينية التي استطاع بها أن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة.
لينظر كل واحد منكم إلى نفسه لو كان صاحباً للنبي صلى الله عليه وسلم ومعه، وكان الوحي أشد ما يكون تتابعاً، والغزو أشد ما يكون كثرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الوضع، ماذا سيحصل له؟ إنها أعظم مصيبة يمكن أن تفكروا فيها، لكن أبا بكر صمد عند هذه المصيبة، فقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، إنها التربية العقدية الصحيحة التي تقتضي من الإنسان التمسك بالمبادئ وعدم التنازل عنها في أحلك الظروف.
يقرأ أبو بكر على الناس قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144 - 145] فيثبت الله به هذه الأمة، وقد وصف أنس بن مالك رضي الله عنه حال الصحابة إذ ذاك بقوله: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عندما ماتوا كانوا كالمعز المطيرة، فلم يستطع أحد منهم الوقوف ولا الكلام إلا أبا بكر.
إن هذا الأثر أثر واضح من تربية النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل ليكون خليفة عنه، وليسد مسده للأمة.
وكذلك حال عمر بن الخطاب عند موت أبي بكر، يقول ابن عباس كما في الصحيح: عندما مات عمر فحمل على الرقاب جاء رجل من خلفي فوضع يده على منكبي، ثم نظر إليه فقال: رحمك الله، لكثيراً ما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خرجت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، فالتفت فإذا هو علي، علي بن أبي طالب يشهد لـ عمر بهذه التربية، وهي الاصطحاب الدائم الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهيئه به للقيام بهذا الأمر، فكان يهيئ أبا بكر وعمر للخلافة فيصطحبهما في كل الأمر، فيقول: خرجت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وبهذا كان أهلاً لهذه الخلافة، وشهد بذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
كذلك فإن أثر هذا بارز حتى في شهادات النبي صلى الله عليه وسلم، حدث أصحابه ذات يوم فقال: (إن بقرة تكلمت، كان صاحبها يسوقها فركبها، فالتفتت إليه فقالت: ما خلقت لهذا، فقالوا: سبحان الله بقرة تكلم! فقال: لكني أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر)، فشهد النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وعمر بأنهما يؤمنان بهذا الذي أخبر هو به، ولم يسمع منهما ذلك، فهذا يدلنا على أهمية هذه التربية وأثرها البالغ.
إن هذه التربية كذلك هي التي تجعل الرجال ينتقلون من طور إلى طور، فـ عمر بن الخطاب الذي كان يصنع صنماً من التمر فيسجد له ويعبده، ثم إذا جاع أكله فصنع صنماً آخر، أصبح يقول للحجر الأسود: والله إني لأعلم إنك لحجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
وكذلك فإن الذين كانوا في الجاهلية الجهلاء انتقلوا إلى هذه المقامات العلية العجيبة، ففي المقام العلمي مثلاً، كانت هذه الأمة أمة لا تحسب ولا تكتب، وكان العرب أشد الشعوب تخلفاً، وبالأخص في مجال الحساب والعلوم العقلية، مع ذلك فما هي إلا سنوات من التربية حتى يخرج علينا علي بن أبي طالب فيقف على المنبر خطيباً فيقول: الحمد الله الذي يجزي كل نفس بما تسعى، وإليه المآب والرجعى، فيقول له قائل: هالك عن زوجة وأبوين وابنتين، فيقول: صار ثمنها تسعاً، ويستمر في خطبته.
فسميت هذه المسألة بالمنبرية لدى أهل علم الفرائض، فإن أصل المسألة من أربعٍ وعشرين، وعالة إلى سبع وعشرين، والأصول العائلة ثلاثة فقط، والأصل الثالث من أصول العول هو أصل أربعة وعشرين ولا يعول إلا مرة واحدة وهي عوله إلى سبعة وعشرين كما بين علي في هذه المسألة، لكن السرعة الهائلة في الحساب جعلته لا يفكر ولا يقطع خطبته، ويستمر على نفس القافية التي كان مستمراً عليها في خطبته، فيقول: صار ثمنها تسعاً.
وتجعله كذلك يفكر تفكيراً قليلاً، في أقل أمد الحمل، فيقول: هو ستة أشهر، ويأخذ ذلك من قول الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]، مع قوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14] فانتزع عامين من ثلاثين شهراً فلم يبق إلا ستة أشهر، فعامين للفصال وستة أشهر للحمل؛ لأن الله جعل الحمل والفصال ثلاثين شهراً ثم جعل الفصال وحده عامين، أربعة وعشرين شهراً فلم يبق إلا ستة أشهر فهي أقل أمد الحمل.
وكذلك تجعل آخرين ينتقلون من أحضان الأمهات وتربية النساء المدللة، إلى السفارة الإسلامية الشاملة، وقيادة الأمم بكاملها، فهذا مصعب بن عمير كان أحب الأولاد إلى أمه، وكانت تغدق عليه من أموالها، فلما أسلم آذته وحبسته بين أربعة جدران، وكلفت به أشداء من الرجال يضربونه صباحاً ومساءً؛ لعله يرجع عن دينه فامتنع عن ذلك، ومع هذا يخرج من كل ما كان فيه من النعيم، مهاجراً في سبيل الله سفيراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فيقيم أول لبنة من لبنات الدولة الإسلامية، يختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه المهمة عندما بايعه الأنصار وسألوه أن يرسل معهم إماماً لهم، اختار هذا الشاب الحدث، فأخرجه إماماً للمدينة الجديدة التي هي عاصمة الإسلام، فيخرج وليس معه من الدنيا إلا سيفه وبردته، ويعطيه النبي صلى الله عليه وسلم اللواء يوم بدر، ويعطيه اللواء يوم أحد، ولما قتل يوم أحد لم يكن عنده من المال إلا بردته تلك وسيفه، فكانوا إذا غطوا رجليه بدا رأسه، وإذا غطوا رأسه بدت رجلاه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغطوا رأسه، وأن يجعلوا على رجليه من الإذخر، فخرج ولم يتعجل شيئاً من هذه الدنيا.
وكذلك الذين أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتب إلى الملوك، فكانوا في المجال الدبلوماسي خير السفراء، كـ عبد الله بن حذافة بن قيس الذي أرسله إلى كسرى، وكـ دحية بن خليفة الكلبي الذي أرسله إلى هرقل، وكـ عمرو بن العاص الذي أرسله إلى المنذر بن ساوى، وغير هؤلاء من الذين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآفاق فكانوا خير السفراء لهذه الأمة الإسلامية.(8/6)
نماذج ممن تربى على يد الصحابة والتابعين
ومثل ذلك القادة الذين برزوا فقادوا هذه الأمة في أحلك الظروف، في حروبها ومشكلاتها، إنما كانت قياداتهم من آثار تربيتهم، فهذا الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يوزن بألف رجل، عندما أرسل عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب يستنجده بثلاثة آلاف مقاتل، فأرسل إليه عمر ثلاثة رجال فقط، هم: الزبير بن العوام والمقداد بن عمرو وعبادة بن الصامت، فكتب إليه: لقد أرسلت إليك ثلاثة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كل واحد منهم بألف، فإذا لقيت العدو فاجعلهم صفاً بين العدو وبين المسلمين، فكان عمرو بن العاص يجعل هؤلاء في الواجهة أمام المسلمين، فلا يرجعون على أدبارهم حتى يهزم العدو.
يحدثنا الزبير عن تربية أمه له، فيقول: كانت صفية بنت عبد المطلب تضربني في صباي ضرباً شديداً، فكان عمي ينكر ذلك عليها، ويزعم أنها تبغضني، فكانت تقول: من خالني أبغضه فقد كذب وإنما أضربه لكي يلب ويهزم الجيش ويأتي بالسلب جاءها رجل ذات يوم فقال لها: أين الزبير؟ فقالت: ما حاجتك إليه، قال: أريد أن أقتله، فقالت: هو في النخل، فاذهب إليه! فذهب الرجل إلى الزبير فاعتركا، فأخذه الزبير فكتفه بحبل وجعله على كتفه وجاء به يحمله، فرماه بين يدي أمه صفية، فضربت رأسه بمغزل، وقالت له: كيف وجدت زبراً، أعسلاً وتمراً، أم أسداً هزبراً؟! وكذلك فإن تربية النبي صلى الله عليه وسلم له، وتهيئته للقيام بمعارك الإسلام الفاصلة كان لها الأثر البارز في شجاعة الرجل وإقدامه، فقد قدمه النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من المعارك أمام العدو، ولذلك يقول فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه: وكم كربة ذب الزبير بسيفه عن المصطفى والله يعطي ويجزل فما مثله فيهم ولا كان قبله وليس يكون الدهر ما دام يبذل ومثل هذا تربية أسماء بنت أبي بكر لولدها عبد الله بن الزبير، الذي جاءت به حين ولد إلى بيت أختها عائشة، فوضعته في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحنكه بريقه ودعا له، ثم تربى تربية أبي بكر والزبير بن العوام، حتى إنه كان في خطابته يشبه بـ أبي بكر، وفي فروسيته يشبه بـ الزبير! عندما خرج مع عبد الله بن أبي سرح في الجيش الذي وجهه عثمان بن عفان رضي الله عن الجميع إلى أفريقيا، خرجوا في ثلاثة آلاف فدخلوا أرض برقة وهي أرض ليبيا، فاستقبلهم جيش البربر في مائة وعشرين ألف مقاتل، وعليهم ملك أفريقيا وهو جرجير، وكان بين قينتين تغنيان وهو يركب بينهما في مركب، فلما رأى ابن أبي سرح الجيش وكثرته دخل قبة له، فقال: لا يدخل عليَّ أحد حتى أفكر في خدعة، فاقتحم عليه ابن الزبير فرعب منه، فقال: إنه ظهرت لي خدعة، فقال: وما هي؟ قال: أن تعطيني مائة مقاتل يحمون ظهري، فأخرج كأني رسول إلى الملك فأطير رأسه، وحينئذ سينهزمون، فأذن له ابن أبي سرح بذلك، فخرج، فاختار مائة فارس وخرج يشق صفوف العدو، وهم لا يظنون إلا أنه يحمل رسالة إلى الملك، حتى وصل إليه فأطار رأسه من بين القينتين، ودارت المعركة، وانقض المسلمون عليهم، وقتلوهم قتلاً.
ثم إن ابن أبي سرح وجه عبد الله بن الزبير بالبشارة إلى عثمان بن عفان، فأتاه بداره فأخبره بتفاصيل المعركة، وقد كان عثمان في العادة إذا أتاه بشير عن معركة من المعارك، وقفه على المنبر فشرح للناس تفاصيل ما حصل، كما كان يفعل عمر من قبله، لكنه في هذه المرة آثر أن يتقدم ابن الزبير فيقف على المنبر، فيقص على الناس تفاصيل المعركة، وما ذلك إلا لشدة تأثر عثمان بما سمع من قص ابن الزبير وما دار في المعركة، فهو قص إنسان مباشر، دخل المعركة وأفاد فيها، وأبلى البلاء الحسن.
فلما وقف ابن الزبير على المنبر وحمد الله وأثنى عليه، وسمع ذلك المسلمون بكوا بكاءً شديداً، حين تذكروا خطبة أبي بكر، فقالوا: ما هو إلا أبو بكر.
وكذلك الذين كانوا بعد هؤلاء من التابعين تربوا على تربيتهم، فلذلك كانت لهم الآثار البارزة في نصرة الله ورسوله، وتحمل أعباء هذه الأمة، فهذا قتيبة بن مسلم الباهلي، وكان شاباً من شباب المسلمين خرج بالجيوش إلى خراسان، فافتتح في غزوة واحدة اثنتين وسبعين مدينة، وكان من أشهر المسلمين في الفتوحات، حتى إنه لم تهزم له راية قط في معاركه كلها، وكان شاباً حديث السن، لكنه كان ذكياً مؤمناً محباً للجهاد في سبيل الله، حاصر حصناً من الحصون فترة فلم يفتح عليه، فقال للمسلمين: لعلكم قصرتم في سنة من سنن الدين؛ حبس الله عنكم الفتح لأجلها، فنظروا فإذا هم قد تأخروا عن السواك، فقد كانوا في أرض ليس بها من الشجر ما يستاكون به، فأمر بعض القوم فأتاهم بالمساويك، فلما صفوا في أوجه العدو جعلوا يستاكون، فظن العدو أنهم يشحذون أسنانهم ليأكلوهم ففتحوا لهم الحصن.(8/7)
نماذج لأهل التربية والهمم العالية
وكذلك الذين برزوا في العلم وحمل هذه الرسالة والأمانة العظيمة، إنما كان ذلك أثراً من آثار تربيتهم، فهذا سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله تعالى يقول: دعتني أمي، وكانت ذات همة وحرص على العلم، فقالت: يا بني! إن لدي همة لجمع العلم، وإني امرأة لا أستطيع أن أغشى مجالس الرجال، ولكني سأكفيك أمر الدنيا بمغزلي، وتكفيني أنت أمر العلم، فكانت تلك المرأة ذات مغزل فتبيع ما غزلته من الصوف، وتنفق به على ولدها، وتغدق عليه الأموال التي يتزود به لأسفاره، ويجمع بها الكتب، ويستطيع بها التفرغ لطلب العلم، فاشتركا في الأجر: فالمرأة تغزل الصوف وتبيعه، والرجل تفرغ لطلب العلم حتى أصبح إماماً من أئمة المسلمين.
وكذلك مالك بن أنس رحمه الله يقول: دعتني أمي، وكنت أشتغل بضرب العود، أي بتعلم الغناء في ذلك الوقت وهو صغير، فقالت: يا بني! إنها حرفة لا تصلح لك، فعممتني بعمامة، وكستني ثوباً أبيض، وأعطتني صرة من الدراهم، وقالت: اذهب إلى المسجد فلا ترجع إليَّ حتى تكون رأس الحلقة، وكذلك ربيعة بن فروخ وهو ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك، الذي اشتهر بـ ربيعة الرأي، ما رباه إلا أمه، فإن أباه خرج في الغزوة فمكث أربعاً وعشرين سنة في غزوة من الغزوات، وقد ترك ولده حملاً، فلما رجع وقفل من غزوته جاء إلى بيته فاستقبله رجل، فدخلا في عراك حتى عرف أنه ولده الذي تركه حملاً، وإذا هو عالم المدينة إذ ذاك دون مدافع، فسأل امرأته عن المال الذي تركه عندها، قالت: أنفقته على ولدك حتى أصبح عالم المدينة.
وكذلك غير هؤلاء من الذين برزوا في هذا المجال، كان للتربية الأثر البالغ فيهم، سواء كانت تلك التربية من تربية الأمهات أو من عناية الآباء أو من تربية المربين الآخرين، فهذا أبو يوسف القاضي كان ذكياً جداً، وكان أبوه يحرص على تعليمه بعض المهن الدنيوية، يريد أن ينال من ورائه كسبا ًمادياً، فكان يمر على حلقة أبي حنيفة فيسمعه يناظر في الفقه فتعجبه المناظرة، فيجلس إليه، فرآه أبو حنيفة فأعجب به، فامتحنه، فأعجب بذكائه، فقال: اجلس إليّ حتى تحمل عني بعض هذا العلم الذي لديَّ فقال: إن أبي يمنعني ذلك، فقال: وما حاجة أبيك إليك، قال: يريد مالاً، فقال أبو حنيفة: أنا أكفيك ذلك، فكان أبو حنيفة يعطيه مالاً يقدمه لأبيه كل شهر، ويجلسه هو في مجلسه يتعلم، حتى أصبح الناس يقولون: أبو يوسف وأبو حنيفة، فهو صورة طبق الأصل من أبي حنيفة.
وكذلك فإن أبا جمرة رحمه الله وهو من كبار التابعين، قال: جلست إلى ابن عباس فكنت أترجم بينه وبين الناس فقال: اجلس عندي شهراً؛ حتى أعطيك قسطاً من مالي، فتقاسم ابن عباس ماله مع أبي جمرة حين أعجب بعلمه، يريد منه أن يتفرغ للحديث وحمل العلم، وكذلك يذكر عن مالك أنه قاسم الشافعي ماله تشجيعاً له على طلب العلم، وكذلك كان محمد بن شهاب الزهري إذا رأى من يعجبه ذكاءه من الطلبة أنفق عليه الآلاف من الدنانير؛ لكي لا تشغله الدنيا والتفكر فيها عن طلب العلم، فكان يفرغ طلاب العلم، فيحتمل الديون في ذلك.
ومثل هذا ما كان عليه عبد الله بن المبارك العالم المجاهد الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان من أشد هذه الأمة قياماً بالحق، فكان إذا رأى من يعجبه ذكاءه أنفق عليه؛ ليقوم لهذه الأمة مقاماً تحتاج إليه، وكان إذا خرج بالحج يأخذ أزواد طلاب العلم فيقول: كل من معه شيء من المال فليأت به، فيأتون بأموالهم، فيتركها عبد الله في مروة، وينفق عليهم من ماله الخالص طيلة الحج، حتى إذا رجع إلى مروة سلم إلى كل واحد منهم ماله الذي أخذ منه، وهم يظنون أنهم يأكلون من أموالهم وأزوادهم، وهم إنما يأكلون من مال عبد الله وزاده؛ ولذلك يقول فيه أحد الشعراء: إذا غاب عبد الله عن مرو ليلة فقد غاب عنها نورها وجمالها وقد كتب رحمه الله إلى الفضيل بن عياض -وكان عبد الله إذ ذاك في الغزو إلى أرض فارس، فلقي ركباً يذهبون إلى الحجاز- رسالة يقول فيها: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب نحره بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب فلما بلغت هذه الأبيات الفضيل بن عياض بكى بكاءً شديداً حين علم أن الجهاد أفضل مما هو فيه، وأن ابن المبارك والزمرة الذين معه من طلاب العلم هم في نحور العدو وفي الجهاد في سبيل الله في الثغور، فقال للرسول الذي أتاه يحمل هذه الرسالة: لأحدثنك بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه بالحديث الذي فيه: (لا يجتمع غباران في أنف امرئ مسلم: غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم).
وهكذا الذين أتوا بعد هؤلاء قد اعتنوا عناية بالغة بتربية أولادهم وطلابهم؛ ليكونوا أهلاً لتحمل المسئولية، يحدثنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري رحمه الله أنه كف بصره وهو صغير في الرابعة من عمره، فقالت له أمه: إن من كان أعمى لا يزينه عند الناس إلا العلم، فاشتغل بحفظ السنة، فإن ذلك يعوض لك ما فقدت من البصر، قال: فاشتغلت بحفظ السنة، واعتكفت ذات ليلة في المسجد وأنا أطلب السنة، فسألت الله أن يرد عليّ بصري، فرده علي، ومع ذلك استمر على الاشتغال بحفظ السنة، وكانت أمه تنفق عليه وتفرغه لطلب الحديث، فإذا أراد الرحلة إلى أي مدينة من أنحاء العالم زودته أمه بأحسن زاد، واختارت له أحسن مركب، وما ذلك إلا من عمل يدها، ولهذا لم تبق حاضرة من حواضر العلم في الأرض إلا دخلها البخاري، وروى ما فيها، حتى بلغت مروياته سبعمائة ألف حديث.
وكذلك حال أبي محمد الجويني رحمه الله، فإنه أراد أن يولد له ولد يربيه على منهج النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليكون من علماء هذه الأمة، فاكتسب من الحلال حتى أحرز أربعمائة درهم، فأرسل بها إلى رسول أمين إلى أرض الثغر فاشترى له جارية من أرض الثغر، لم تتداولها الأملاك بعد، فأتاه بها، فحرص على تغذيتها من الحلال، ورباها وعلمها ثم أعتقها وتزوجها، وحرص على منعها من مخالطة الناس، وكان يوقظها لقيام الليل معه ويلزمها بصيام النفل معه، ويعودها على الطاعات والعبادات، حتى أتت بولدها وهو أبو المعالي عبد الملك بن أبي محمد الجويني، فلما ولد منعها من مخالطة الناس، وكان يسعى في الكسب من الحلال للنفقة على زوجه وولده، وكان يأمرها بإرضاعه إذا أكلت من حلال، وبينما هو يصلي ذات يوم، إذ دخلت البيت امرأة فخفف من صلاته وأقبل مسرعاً، فإذا المرأة ترضع ولده، فغضب غضباً شديداً، فيقول عبد الملك: فأخذ برجلي وحملني وعصرني حتى أخرج من بطني كل شيء كان فيه، قال: فكانت بعد ذلك تأخذني كبوة عند المناظرة ما أراها إلا من تلك المصة! وكذلك يحدثنا الشيخ أحمد زروق رحمه الله في تربية جدته له، يقول: إنه توفيت أمه عند مولده قبل أن يسمى، وتوفي أبوه بعد ذلك بشهر فربته جدته من الأم، فاعتنت بتربيته عناية عظيمة، وقد قص هذه العناية فذكر من أعاجيبها أنها كانت إذا جاعوا تركته حتى ينام، ثم تخرج فتكتسب فتشتري غذاء من التمر والخبز، فتجعله تحت طرف الفراش، فإذا استيقظ جائعاً تقول له: ما لنا إلا أن نسأل ربنا، فتعال بنا نسأل ربنا أن يرزقنا، فيمد يديه ويضرع إلى الله ويبكي وتبكي معه، ثم تقول: إن ربنا قد أعطانا هذا فتكشف الفراش عما تحته من التمر والخبز، وكذلك إذا احتاج إلى اللباس تتركه، حتى إذا انصرف في طلب العلم أو نحو ذلك، فتكتسب هي حتى تشتري له ملابس، ثم تضعه تحت طرف الفراش وتسترها في البيت، ثم تأمر الصبي بالضراعة إلى الله لعل الله يرزقه لباساً، وتعوده على هذا، حتى يقول هو عن نفسه: ما تعلمت اللجأ إلى الله إلا من جدتي تلك، فكان يلجأ إلى الله في شأنه كله.
واللجأ إلى الله مهارة تربوية عظيمة، فإن كثيراً من الناس إذا نابتهم نائبة لجئوا إلى الناس، ولم يلجئوا إلى الله، والله سبحانه وتعالى هو الذي يستحق أن يلجأ إليه، ويسأل وتلتمس منه الحوائج هو وحده الغني الحميد، يقول المكودي رحمه الله: إذا عرضت لي في زمان حاجة وقد أشكلت فيها علي المقاصد وقفت باب الله وقفة ضارع وقلت إلهي إنني لك قاصد ولست تراني واقفاً عند باب من يقول فتاه سيدي اليوم راقد الذي يقول حارسه: سيدي اليوم راقد هذا لا تلتمس منه الحوائج، فلذلك يقول: إنه إذا التجأ إلى الله بأي شيء يسره له، وكذلك يقول السهيلي رحمه الله: بجمال وجهك سيدي أتشفع ولباب جودك بالدعا أتضرع يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع يا من يرجى للشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع يا من خزائن رزقه في قول كن امنن فإن الخير عندك أجمع ما لي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفع ما لي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن منعت فأي باب أقرع ومن الذي أدعوه وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يمنع حاشا لمجدك أن تقنط داعياً الفضل أجزل والمواهب أوسع يقول أحد علماء الشام: كنت معتكفاً في بيت المقدس في رمضان، والمسجد يموج بالمعتكفين، فنام الناس غفوة من وسط الليل، فقام إبراهيم بن أدهم يتضرع إلى الله فيقول: إلهي عبدك العاصي أتاك مقر بالذنوب وقد دعاك فإن تغفر فأنت لذاك أهل وإن تأخذ فمن نرجو سواك فلم يبق أحد في المسجد إلا ردد معه هذه الأبيات من شدة تأثيرها وتعلقها بالله سبحانه وتعالى وحده، وأثر ذلك بالغ فهذا أحد المشايخ رحمه الله أخذه النصارى الفرنسيون فجعلوه في زورق حربي كان يسمى (بني)، فنقلوه يريدون تغريبه، وإخراجه من بلاده؛ بسب(8/8)
قراءة سير الأفذاذ تشحذ الهمم وتقوي العزائم
إن قراءة سير هؤلاء السلف واتصالهم بالله سبحانه وتعالى وما بذلوه في سبيل دينه من الأمور المثبتة على دين الله، التي يحتاج إليها الإنسان في كثير من مواقفه، فعندما تشتد الأزمات ويتكالب الأعداء على دين الله، يلجأ المسلمون إلى قراءة سير سلفهم الصالح، فيجدون فيها متنفساً، ويجدون فيها تقوية لعزائمهم، وتثبيتاً لهم على منهج الله، وإقناعاً لهم بثوابتهم التي لا تتغير ولا تتبدل، وعندما يضيق حال إنسان في هذه الدنيا فيأسى لذلك، يرجع لقراءة سير السلف الصالح فيجد فيها تسلية عما أصابه، ويجد فيها عزاءً، وثقة بالله سبحانه وتعالى وتوكلاً عليه، يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله: سير الصالحين جند من جنود الله يثبت الله به قلوب عباده، ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120].
أخرج البخاري في الصحيح من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، قال: (فقلت: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! فقال: إنه كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرقه، فيفرق به فرقتين، لا يصده ذلك عن دينه، ويؤتى بأمشاط الحديد فيمشط بها ما دون عظمه من جلد ولحم، لا يصده ذلك عن دينه، والذي نفس محمد بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون)، إن هذه القصة التي قصها النبي صلى الله عليه وسلم عن أحوال السابقين مثبتة للمؤمنين الذين يكون بلاؤهم دون ذلك، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم عندما آذاه رجل فوقف عليه فقال: يا رسول الله! اعدل؛ فإنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، ابتسم ونظر إليه وقال: (رحم الله أخي موسى! قد أوذي بأكثر من هذا فصبر).
إن تذكر أحوال أولئك والنكبات التي أصابتهم معين للإنسان على التزام طريق الحق والثبات عليه، والإنسان محتاج إلى مراجعة نفسه وزيادة تربيته من خلال سير هؤلاء الصالحين، ومما يحتاج الناس إلى مراجعته اختيارات العلماء في هذا الباب، فمثلاً يحتاج طلاب العلم إلى مراجعة كتاب الذهبي، تذكرة الحفاظ، فقد اختار فيه تراجم عدد من الحفاظ الذين بذلوا أسباباً أنجحها الله سبحانه وتعالى، فحفظوا العلم للناس، وكذلك بقراءتنا لكتابه الآخر (سير أعلام النبلاء) يتبين لنا مواقف كثير من المضحين الباذلين في سبيل الله.
إن كل نوع من الناس عليه أن يقرأ في تراجم الذين يريد أن يجعلهم مثلاً حسناً له، فطلاب العلم عليهم أن يقرءوا سير حفاظ العلم ورواة الحديث، والتجار والأغنياء عليهم أن يقرءوا سير الباذلين في سبيل الله، كسيرة عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وسعد بن عبادة بن دليم وغيرهم من المضحين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الباذلين.
وكذلك النساء عليهن أن يدرسن سير نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبناته اللواتي بايعنه من أهل الإيمان من المهاجرين والأنصار، وكذلك سير من لحقن على هذا الدرب وسلكن هذا الطريق على مر العصور، إن كل شريحة من المجتمع تركن إلى نظيرتها، ويمكن أن تتأثر بها أبلغ تأثر، فإذا قرأ الملوك تراجم الملوك الصالحين، وقرأ طلاب العلم تراجم العلماء، وقرأ التجار تراجم المضحين؛ فإنهم سيحاولون اللحاق بهم، وسلوك طريقهم، ويكون ذلك وقوداً لهم وعوناً لهم على الاستمرار على هذا المنهج وسلوك هذا الطريق، وما لم يفعلوا فإن التربية ستبقى أموراً نظرية يتهمها كثير من الناس بعدم الواقعية؛ ولذلك فإن بيان الإمكان محتاج إليه، كما يقول أهل البلاغة في قول امرئ القيس: مكر مفر مقبل مدبر معاً كجلمود صخر حطه السيل من علٍ فإن قوله: (مكر مفر مقبل مدبر معاً) لا يمكن تصوره إلا بالمشاهدة، فلما مثله بقوله: (كجلمود صخر حطه السيل من عل) عرف الناس إمكان ذلك.
فلهذا نحتاج إلى بيان الإمكان، وما ذلك على الله بعزيز، وبدراستنا لسير هؤلاء يتبين لنا إمكان تطبيق منهج الله الذي ارتضاه لعباده، وإمكان أن يكون الناس على وفق ما ارتضاه لهم بارئهم وخالقهم سبحانه وتعالى، وإمكان أن يتدارك الإنسان ما فاته، فهذا العز بن عبد السلام ما طلب العلم إلا بعد أن أكمل ستين سنة، ومع ذلك أصبح مفتي العالم كله، وأصبح سلطان العلماء، بل حين حكم بتكفير أحد وزراء مصر، كان الناس جميعاً لا يلتفتون إليه ولا يتقبلون منه كلمة، بل أرسله الملك برسالة إلى ملك نائي المكان، فلما أتاه بالرسالة قال: من أنت؟ فقال: وزير من وزرائه، قال: لا تكن أنت الذي كفرك العز بن عبد السلام، فبهت الرجل فقال: أخرجوه عني فهو الذي كفره العز بن عبد السلام.
وحين غاضب ملك مصر خرج من مصر على أتان وحمار له، يحمل على أحدهما زوجه وعلى الآخر كتبه، فلما رآه الناس خارجاً من مصر خرجوا جميعاً في أثره، فجاء الجند إلى الملك، وقالوا: إذا كنت تريد أن تكون ملكاً على مصر فقد خرج أهلها جميعاً مع العز بن عبد السلام، فإنك لن تكون ملكاً إلا على الخلاء الذي ليس فيه أحد، فذهب الملك إليه يسترضيه ويسترجعه حتى رجع.
وهذا النووي رحمه الله الذي خرج من نوى شاباً حدث السن، وذهب إلى دمشق، واشتغل بطلب الحديث، عزم على أن لا ينام مضطجعاً حتى يعود إلى أهله، فمكث في دمشق سبع عشرة سنة ما نام مضطجعاً، لا ينام إلا مستنداً على سارية من سواري المسجد ويضع عينيه على يديه فوق ركبته؛ لكي لا يستغرق في النوم عن طلب العلم، ولهذا كان أسلافنا يقولون: الحر فيما مشى.
وكذلك لم يأكل خياراً مدة مقامه بدمشق، قال: إن أكله يؤدي إلى الركون إلى الدنيا، فلم يأكل خياراً مدة مقامه في دمشق، والخيار نوع من البقول معروف.(8/9)
صور فريدة وشخصيات فذة في العصور المتأخرة
هناك عدد من الذين سعوا في التمكين لدين الله سبحانه وتعالى، حتى من المتأخرين وفي العصور المتأخرة، وكانت لديهم هذه الهمم التي تمنعهم من النوم والراحة، وتقتضي منهم التضحية والبذل، فهذا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان قد خرج وهو شاب في طلب العلم إلى مكة، وكان معه أبوه الذي كان قاضياً يأكل الرشوة، فكان ولده ينكر عليه ذلك، فلما خرج إلى مكة حاجاً مع أبيه تخلف عنه في طلب العلم، ثم انتقل من مكة إلى المدينة، ثم من المدينة إلى البصرة، حتى جمع كثيراً من علم زمانه، ثم خرج إلى بلاده فسعى في تغيير المنكر، فلم يجتمع حوله إلا فتية صغار ليس لهم أي مكانة في المجتمع، لكنه أراد أن يكاثر بهم أهل الباطل، فوقف في وجهه في البداية سلاطين بلده، فأخرجوه من العيينة في وقت الظهيرة وشدة الحر حافياً راجلاً، يحمل شرابه على كتفه ليس معه أحد، فأتى الدرعية فنزل في المسجد وقت صلاة الظهر، فلما رآه أهلها رأوا شخصاً غريباً عنهم، فتقدم ودعا إلى الله سبحانه وتعالى، وأرشد إلى طريق الحق، فأول من اجتمع إليه والي الدرعية، فاستجاب لدعوته، فقال: ابدأ بنفسك فغير ما أنت فيه من الحرام، واترك الضريبة والإتاوة التي تأخذها على الناس، ثم بعد ذلك يمكن الله لك في الأرض، ويستعملك لنصرة دينه، فإن الله لا ينتصر بالفجار، فاستجاب له الرجل، حتى بنى دولة عظيمة خرجت منها قوافل الجهاد والدعوة في كل مكان.
ومثل ذلك ما حدثني به أحد الذين كانوا يترددون على حسن البنا، فإنه عندما خرج شاباً من دار أهله في القاهرة كان فقيراً لا يملك شيئاً، فلما أتى القاهرة شغل بالتردد بين حلق العلم في الأزهر وغيره، وكان يصحب الشيوخ إذا انتهت دروسهم إلى منازلهم، يسألهم ويستعير كتبهم، فيقرؤها ويردها، ويتفحص أحوال الأمة، واستطاع أن يحصل على ملكة يعرف بها حال الشيوخ، فيعرف من يستفاد منه في علم معين ولا يستفاد منه في غيره، ومن لديه أخطاء في العلم الفلاني ومن لديه أخطاء في الجانب الفلاني، وهكذا ثم احتاج إلى ما ينفق به على نفسه، وكان صاحب تعفف وزهد.
قال: فذهبت إلى صاحب بقالة، فسألته أن أعمل عنده ساعتين من النهار في وقت الظهيرة، في الوقت الذي ليس فيه دراسة رسمية ولا حلقات في المساء، فالدراسة صباحية والحلقات العلمية في المساء، فأعطاه ذلك دراهم قليلة مقابل عمل ساعتين يومياً من كل يوم، فكان يعمل في البقالة في وقت الظهيرة، ويأخذ تلك الدراهم وينفق بها على نفسه وعلى من معه من طلاب العلم، حتى أحرز ما أحرزه، فذهب إلى الإسماعيلية فأقام دعوته في البداية بخمسة أشخاص فقط، ومع ذلك عندما رجع إلى القاهرة، وانتشرت دعوته بين الناس، حدثني أحد الذين كانوا معه قال: ما كان ينام إلا لماماً، يقول: كنت آتيه في آخر الليل فإذا هو مضطجع على فراشه بعد أن أكمل قيام الليل يلصق طوابع البريد على ظروف جريدته التي كان يوزعها، وقد كان آنذاك يدير جريدتين فيكتب عناوين المشتركين، ويلصق الطوابع البريدية على الظروف في وقت نومه، فسألته فقلت: رحمك الله! أليس هذا الوقت وقت نوم؟ فقال: إني لأستحي من نفسي أن يأتيني شباب صغار لا يقال عن أحد منهم مرشد، فإذا هم من الصباح إلى مثل هذا الوقت وهم يعملون في خدمة دين الله، فأنا أستحي أن ترفع إليّ الأعناق ويشار إليّ بالبنان وأنا لا أفعل مثلما يفعلون.
وكذلك عز الدين القسام رحمه الله الذي كان في فلسطين وقت مجيء اليهود بعمليتهم الماكرة، عندما أتوا بالتدريج، فكانت إرسالياتهم في البداية مجرد رهبان يتعبدون في بيت المقدس وفي الكنائس المحيطة به، ثم بعد ذلك أصبحوا يشترون البيوت الخربة ويسكنونها، ثم أصبحوا بعد ذلك يأتون باليتامى فيربونهم في تلك الأرض، ثم بعد ذلك أصبحوا يأتون بالتجار الذين في ظاهر الأمر يعمرون الأرض ويرغب الناس في مجاورتهم، ثم أتوا بعد بمستوطنين، وما زالوا يسحبون على فلسطين حتى احتلوها، وحالهم فيها هو الحال المعروف لديكم الآن، فهم أهل مكر وخديعة أتوا بهذا التدريج، وقد شهد ذلك عز الدين القسام من بدايته، فرأى أن اليهود في أول إتيانهم كانوا فقط عباداً رهباناً منعزلين إلى العبادة، ثم أصبحوا بعد ذلك يشترون البيوت الخربة، ثم يربون اليتامى من اليهود، ثم بعد جاء تجارهم، ثم بدأ مستوطنوهم يأتون بأهليهم، فعرف أن القضية مسلسل لا نهاية له، فتجرد للجهاد في سبيل الله لإخراج اليهود من أرض فلسطين، وكان شاباً في بداية أمره، ليس له أي قوة لا من الناحية السياسية ولا من الناحية المادية، والخلافة العثمانية آنذاك في أوجه انشغالها وضعفها، لكنه مع ذلك وجد أعواناً من شباب المسلمين الذين كانوا يكتمون مساعدته عن آبائهم وأمهاتهم.
يحدثني أحدهم -رحمة الله عليه- وهو الشيخ أحمد فرج عقيلان وكان من كتائب القسام في بداية نشأته، يقول: كنت شاباً فكان القسام يجمعنا في آخر الليل، فنختفي عن آبائنا وأمهاتنا للتدريب والتكوين، فكنا نبدأ التدريب دائماً بالأذكار ثم بقيام الليل ثم بقراءة حزب من القرآن، ثم بعد ذلك بالتدريب العسكري ثم نختم بالدعاء، فأمسكت بي أمي ذات ليلة، فلما ضاق وقت الموعد كادت تضيق عليّ الأرض بما رحبت، فلما رأت أمي ما أنا فيه سألتني: إلى أين تتجه؟ فصارحتها ولم أجد بداً من ذلك، فيقول: فخرجت أمي في أثري، فلما رأت ما نحن فيه تأثرت به تأثراً بالغاً، فجاءت من الغد تحمل حليها، فقالت: خذ هذا وسلمه للشيخ عز الدين يعينه على الجهاد في سبيل الله، ومن ذلك الوقت بدأت مشاركة النساء في الجهاد في فلسطين.
إن التضحية تبدأ في البداية صغيرة ثم تكبر، عندما يتقبلها الله تفتح لها أبواب السماء فتأتي بالخير الكثير، لكن لا بد في ذلك من الهمم والنماذج التي يقتدى بها، ويحتذى بأثرها، فهذا علال الفاسي رحمه الله يقول: أبعد بلوغي خمس عشرة ألعب وألهو بلذات الحياة وأطرب ولي نظر عال ونفس أبية مقاماً على هام المجرة تطلب وعندي آمال أريد بلوغها تضيع إذا لاعبت دهري وتذهب ولي أمة منكودة الحظ لم تجد سبيلاً إلى العيش الذي تتطلب على أمرها أنفقت دهري تحسراً فما طاب لي طعم ولا لذ مشرب ولا راق لي نوم وإن نمت ساعة فإني على جمر الغضا أتقلب إن أصحاب الهمم العالية هكذا يعيشون، وهم الذين يستطيعون تحمل المسئوليات والقيام بشئون أمتهم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المجاهدين في سبيله المضحين في سبيله، وأن يرزقنا الشهادة في سبيله مقبلين غير مدبرين، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، وأن يعزنا بدينه وأن يعز دينه بنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يجعلنا أجمعين هداة مهديين، غير ضالين ولا مضلين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(8/10)
الأسئلة(8/11)
كل حكم شرعي لابد له من فقه الشرع وفقه الواقع
السؤال
ما تعليقكم على ما يطرح اليوم في الساحة مما يسمى بالتجديد في الدين وفقه الواقع، وينادي أصحابه بطرح بعض النصوص؛ نظراً لأنها لا تنسجم مع واقع اليوم، ويقولون: لكل زمان فقهه وواقعه، مستدلين لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)، فما هو حد هذه الأشياء التي لا يبحث عنها؟
الجواب
جوابنا أنه لا شك أن كل زمان له واقع يختلف فيه الحكم باختلافه، لكن مع ذلك فإن التجديد له إطار محدد، فلا بد أن يقتصر فيه الإنسان على المأذون فيه بالتجديد، وعلى مواقع الاجتهاد، ولابد من التمييز بين ثوابت الشرع ومتغيراته، فللشرع ثوابت هي الأصول، لا يمكن التطوير فيها ولا التغيير، وفيه متجددات وهي ما يتجدد باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والنيات، وهذه كثيرة وأحوال الناس فيها واضحة؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما كنت نهيتكم من أجل الدافة)، حينما نهاهم عن ادخار لحوم الأضاحي، وبين صلى الله عليه وسلم في عدد كثير من الأحاديث أحكام الضرورة، وبين أن الضرورة تبيح المحظور، وهذا ما جاء في قول الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] وفي قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] وفي غير ذلك من الآيات.
وعلى هذا فلا بد من فقه واقع الناس؛ حتى يعرف الإنسان هل هم أصحاب ضرورة أو أصحاب حاجة؟ وما هو قدر تلك الضرورة حتى لا يتعدى محلها؟ وكذلك لا بد من فقه الدين حتى يؤخذ من الدين الحلول للمشكلات الواقعية؛ لذلك يقول الشاطبي رحمه الله: كل حكم شرعي مؤلف من قضيتين: قضية صغرى واقعية وقضية كبرى شرعية، فمثلاً: لو صلى إنسان إلى جهة الغرب في هذا المكان، فقلت له: صلاتك هذه باطلة؛ فهذا حكم شرعي مؤلف من قضيتين، إحداهما: واقعية وهي الصغرى، وهي أن هذه الصلاة إلى غير القبلة، والقضية الثانية: هي أن كل صلاة إلى غير القبلة فهي باطلة وهي قضية شرعية.
ومن هنا: فإن الخوارج إنما ضلوا بسبب إرادتهم تحكيم النصوص دون الذهاب إلى الواقع، عندما نادوا بتحكيم كتاب الله فقط، وأرادوا أن يكون القرآن حاكماً وأن لا يحكم الرجال في كتاب الله، قال علي رضي الله عنه: إنها دعوة حق أريد بها باطل، فهم أنكروا على علي رضي الله عنه تحكيم الرجال في كتاب الله، وقالوا: إن القرآن هو الحاكم ولا يحكم فيه الرجال، فعندما ناظرهم ابن عباس في هذا قال: أرأيتم قتل أرنب في الحرم أعظم أم قتل أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بل قتل الأمة أعظم، قال: فإن الله تعالى حكم الرجال في كتاب الله في أرنب تقتل في الحرم، فقال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة:95] فأقنعهم بهذه المسألة.
إن كثيراً من الناس يظن أننا إذا قلنا بتجدد الاجتهاد، أو بتجدد آلياته، أو بمراجعة بعض الشروط الاجتهادية التي يضعها الفقهاء يظن أن هذا معناه: هدم بعض ما تقرر من الشرع! لكن شتان، وهيهات، فثوابت الشرع هي ما جاء في النص من القرآن والسنة واضح الدلالة، وهذه لا تقبل التبديل ولا التغيير.
أما الأمور الاجتهادية فهي متقلبة باختلاف أحوال الناس، فلا شك أن الشارع جعلنا بين سورين أحدهما: سور الرخصة والثاني سور العزيمة، فسور الرخصة يؤخذ به للضعفاء والمعذورين، وسور العزيمة يؤخذ به للأشداء والأقوياء، وبين الأمرين تأتي التفصيلات والخلافات الفقهية، فلا تخرج من بين هذين السورين: سور الرخصة وسور العزيمة.
فلهذا لا بد من فقه الواقع؛ لقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، وفقه الواقع يقتضي من الإنسان أن يعلم المصالح والمفاسد المترتبة على الأمور في الواقع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه الأحزاب فاجتمعوا عليه في المدينة، عرض على هوازن أن يرجعوا عنه عامهم ذلك وأن يعطيهم ثلث ثمار المدينة، ولا شك أن دفع مال المسلمين للكافرين الذين يحاربون المسلمين محرم، ولكنه ارتكب أخف الضررين، فأراد بذلك رد المشركين في تلك السنة بالمال الذي يدفع لهم.
ومثل ذلك ما حدثنا الله به عن لوط عليه السلام عندما قال لقومه: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود:78]، فلا شك أن تزويج المسلمة للكافر محرم لقول الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]، لكن الاعتداء على الملائكة أعظم من تزوج الكافر بالمسلمة.
وكذلك ما يتعلق بتنزيل النصوص في مواضعها ومنازلها، فإن كثيراً من المفسرين يفسرون آيات القرآن على حسب ما أوتوا من العلم في زمانهم، ثم تتجدد الوسائل الأخرى، والله سبحانه وتعالى لم ينزل القرآن بأسلوب واحد، لو كان كذلك لفهمه الصحابة جميعاً ولم يبق للتابعين منه حظ ولا لأتباع التابعين، ولا لمن بعدهم، والواقع أن كل قوم لهم حظ من كتاب الله يدخر لهم فيه من الفهم ما يقضي حاجياتهم، ويغطي كل النوازل التي تتجدد لديهم.
ولهذا فالنوازل والوقائع غير محصورة، كل يوم تتجدد النوازل والوقائع التي لا عهد للمسلمين بها، وكل نازلة لله فيها حكم، وذلك الحكم لا يمكن أن يؤخذ إلا بالاستنباط، فلهذا يحتاج إلى إعمال الاجتهاد وفق الضوابط الشرعية للوصول إلى الحلول في كل مشكلة تنزل، وحينئذ لن يكون ذلك الحل قطيعاً لأنه اجتهاد، لكن مع ذلك يتعبد الله به؛ لأن الله أمرنا بإعمال الاجتهاد وبتدبر القرآن وحض على ذلك وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] وقال: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29] وقال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2] والرسول صلى الله عليه وسلم حض كذلك على إعمال الاجتهاد والعقل، فقال ل عمرو بن العاص حين أمره بالقضاء فقال: أأقضي بين يديك، فقال: (اقض، فإن أصبت أقررت، وإن أخطأت رددت عليك)، وقال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإن اجتهد فأخطأ كان له أجر)، ولهذا فلا مشاحة في الأمر، فقد يتجدد من الوقائع ما يوجد له حلول في الكتاب وما يوجد له حلول في السنة، وما يوجد له حلول في القياس، ومن لم يستوعب تلك الوقائع ولم يفهمها لا يمكن أن يفتي فيها؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
ولهذا فالعقود الحديثة الكثيرة واستغلال الأجهزة الحديثة في الإثبات وغيره، في أجهزة الاتصال ونحو ذلك من لم يستوعبها ويفهمها لا يحل له الإفتاء فيها، ومثل ذلك أمور تنظيم الدولة والمؤسسات والشركات، فالأمور التنظيمية كلها من لم يكن مستوعباً لها لم يحل له الإفتاء فيها؛ لأن الله تعالى يقول: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، ويقول تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] فكل أمر يتجدد إنما يفتي فيه أهله ولا يحل استفتاء الذين لا يفقهون هذه الأمور فيه، فالذي يذهب الآن بالعقود الحديثة عقود البورصات فيستفتي فيها فقيهاً من أهل البادية، ما عرف شيئاً من الاجتهاد ولا وسائله ولا أدرك شيئاً من فقه الواقع، هذا أخطأ وساعد على المعصية؛ لأن الفقيه لا يحل له أن يفتي في مثل هذا حتى يستوعبه؛ ولذلك كان مالك رحمه الله يكره أن يسأل في المسائل المستجدة، ويقول: إن للمسائل رجالاً يعاصرونها هم أولى بالاجتهاد فيها، وكان إذا سئل عن نازلة ينظر هل وقعت أم لا؟ فإن لم تقع لم يجب فيها، وإن كانت قد وقعت استعان بالله عليها.(8/12)
معنى التجديد في الدين
السؤال
ما المراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها)، وما المقصود بهذا التجديد؟
الجواب
لا شك أن الدين كما بين النبي صلى الله عليه وسلم يخلق ويجد، قال: (إن الإيمان ليجد في النفوس ويخلق) فيحتاج إلى التجديد، وتجديده في أوجه كثيرة: فمنها مثلاً: تجديده بالجهاد في سبيل الله، وتجديده بإقامة حكم الله وعدله في الأرض، وتجديده بإقامة الحدود، وتجديده بتعليم العلم الشرعي، وتجديده بإعادة الناس إلى الاعتقاد الصحيح، وتجديده بإعادة الناس إلى منابع العلم الأصلية، وتجديده بإعادة الناس إلى أخلاق الإسلام وقيمه، وتجديده بالتحاكم إلى شرع الله، كل هذا من تجديد دين الله، ولا يمكن أن يقوم به فرد، فالذين يفهمون المجدد على أنه فرد، ويخصصون عالماً من العلماء أو أميراً من الأمراء لذلك قد غلطوا في الفهم، فلا يمكن أن يجدد الدين واحد، بل لا بد أن يجتمع على ذلك أعداد من الناس تجدد الدين، فمنها من يجدد جانب الاجتهاد، ومنها من يجدد جانب الحفظ، ومنها من يجدد جانب الجهاد، ومنها من يجدد جانب القيم والأخلاق وغير ذلك.(8/13)
معنى قول النبي (استفت قلبك)
السؤال
كثير من الناس ينبهر بحضارة الغرب، فيحصل عنده انهزاميه في النفس، فما نصيحتكم له، وما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك)؟
الجواب
إن الانبهار بحضارة الغرب هو من الإغراق في الماديات وفي هذه الدنيا وأمورها، فالإنسان الذي لا يعرف قيمة الدنيا هو الذي يمكن أن ينبهر بها، أما الذي يعرف قيمة الدنيا، ويعرف أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وأن كل جديد فيها إلى البلى، وأن كل حسن فيها إلى القبح، لا يمكن أن ينبهر ويغتر بها، فانظروا إلى أحسن البيوت وأحسن المنازل التي تبنى في الأحياء الراقية، لا يمر عليها عشر سنوات إلا وأصبحت قبيحة وأصبح غيرها أحسن منها! هكذا الدنيا كلها فكل جديد فيها إلى البلى: لدوا للموت وابنوا للخراب فكلكم يصير إلى التراب فلذلك جديدها إلى البلى، وحسنها إلى القبح، ومن لم يعرف قيمتها هو الذي يتهافت عليها، وينبهر بما أوتيه الغربيون من مفاتيح هذه الدنيا، {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (استفت قلبك)، فليس هذا لكل أحد من المسلمين بل هو لأهل الإيمان والتقوى فقط، من ليس من أهل التقوى لا ينبغي أن يستفتي قلبه؛ لأن معنى ذلك أنه سيتبع هواه، لكن من كان من أهل التقوى هو الذي يستفتي قلبه؛ لأن لديه وازعاً قوياً في قلبه يمنعه من معصية الله، فإذا خاف أمراً أن يكون من معصية الله تركه وابتعد عنه، فليس هذا الحديث خطاباً لكل الناس، بل هو خطاب لأهل التقوى والورع.(8/14)
المسائل المنهي عن السؤال عنها
السؤال
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)، ما الجمع بين ذلك وبين قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة:101]، وبين قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]؟
الجواب
بالنسبة للآية والحديث اللذين فيهما النهي عن المسائل، فالمقصود بذلك المسائل التي فيها تكلف وتعسف لما لا يحتاج الناس إليه، أما قول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، فهذا في المسائل العملية التي يحتاج إليها الإنسان، يسأل عنها ليعمل بها، وشتان بين الأمرين، فالمسائل التي كرهها النبي صلى الله عليه وسلم هي مثل السؤال عن أخبار بني إسرائيل، والسؤال عن أمور القدر، والسؤال عما يتجدد من أمور هذه الأمة، فالمسائل التي ليست عملية ولا داخلة في إطار العمل، هي التي كره السؤال عنها.
أما السؤال عن أحكام الدين وما جهله الإنسان منها، فهذا من المحبوب شرعاً؛ المطلوب الذي لا بد أن يسأل الناس عنه؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما دواء العي السؤال).(8/15)
احتمالات الفقهاء يقصدون بها رياضة الذهن
السؤال
ما هو الموقف من هذه الاحتمالات الفقهية التي يتكلم بها الفقهاء رحمهم الله، ولما تقع بعد؟
الجواب
أنهم ما أرادوا بها أن يضعوا حلولاً جاهزة، وإنما أرادوا بها رياضة ذهنية؛ ليكون الذي تعرض عليه تلك المسائل يعرف الاحتمالات، ويستطيع أن يختار منها أو يختار من غيرها، أو يبني عليها، فلذلك ليست المشكلة في الاجتهاد، ولا في الفقه، وإنما المشكلة في التعصب فقط، فإذا تركنا التعصب فلا بأس بدراسة الفقه، ومعرفة أدلته ومآخذ أهل العلم، والاستئناس بأقوالهم، وفتح الأبواب التي فتحها الله لهم، والتي ما نالوها إلا بالورع والعبادة والتقوى وخشية الله، وأما التعصب لآرائهم، أو زعم أنها معصومة أو أنها صواب (100%) فهذا من الخطأ والخطل.(8/16)
معنى قوله: (كل نفس بما كسبت رهينة)
السؤال
ما معنى قول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ} [المدثر:38 - 41]؟
الجواب
أن الله سبحانه وتعالى بين أن الناس يوم القيامة يحملون أوزارهم على ظهورهم، وكل إنسان منهم يحمل طائره في عنقه، فيأتي بكل أعماله فيجد صالحها وسيئها: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران:30]، لكن أهل الجنة الذين يتجاوز الله عن سيئاتهم، يجدون تلك السيئات قد محيت وعوضت بالحسنات التي عملوها، فيسترهم الله بستره الجميل، (والله يبسط كنفه على عبده المؤمن، فيقول: أتذكر يوم كذا إذ فعلت كذا، كنت قد نهيتك عنه؟ فيقول: نعم يا رب! وكنت قد نسيت، فيقول: لكنني لم أنسه، فيقول: إني سترتك به في الدنيا فلن أفضحك به يوم القيامة).
فأولئك الذين يسترهم الله على رءوس الأشهاد يوم القيامة، وفي المقابل يفتضح آخرون الفضيحة العظيمة على رءوس الملأ كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة ينادى عليه على رءوس الأشهاد: هذه غدرة فلان بن فلان) نسأل الله السلامة والعافية.
ومعنى كونها رهينة بما كسبت أي: أنها تأتي حاملة له تحمله بكامله، فلا يفوت منه شيء؛ فهذا الموقف من المواقف العظيمة التي قال فيها حكاية عن الذين كفروا عندما يرون الصحف: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].(8/17)
مدى صحة حديث: (مرحباً بالوجه الذي لا يفلح عند الله)
السؤال
هل صحيح أن أول من يخرج من المسجد بعد انتهاء الصلاة يقبله الشيطان بين عينيه ويقول له: مرحباً بالوجه الذي لا يفلح عند الله؟
الجواب
هذا ليس صحيحاً، بل يقول الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10].(8/18)
نماذج من علماء المغرب
السؤال
هل بإمكانك أن تذكر نماذج من أسلافنا من هذه البلاد، وكيف كانت تربيتهم؟ وكيف حصلوا ما حصلوا عليه؟
الجواب
النماذج في طلب العلم كثيرة في هذه البلاد وغيرها، ومن النماذج البارزة الرجل الذي اشتهر بلقب مجيدري، واسمه: محمد بن حب الله بن الفاضل بن الفقيه موسى اليعقوبي فقد خرج من هذه البلاد وهو في الخامسة عشرة من عمره، وقد استوعب علوم هذه البلاد، فذهب في طلب العلم وفي طلب الحديث والحج، فلما أتى المغرب لم يجد فيه من يستطيع مناظرته، فاشتهر في المغرب كله بالعلم، حتى إن ملك المغرب كان يجمع له العلماء فلا يستطيعون مناظرته، وقد حصلت له قصص في المغرب عجيبة، فقد كتب بيده كثيراً من الكتب التي ما زال بعضها موجوداً الآن، وعندنا الآن بعض مخطوطاته بيده، أرسل كتاباً إلى أمه في ورقة صغيرة جداً مع تاجر كتب، وأرسل معه زربية وسهاماً وتسعين درهماً وعبداً، وكتب لها: (سلام بزيادة لام ماء إلى لامه، وإحدى خبر كأن في قوله ترديت إلى آخر كلامه، وإياك نعبد وإياك نستعين)، فأخذ التاجر الرسالة فقرأها فلم يفهم شيئاً مما فيها، فلما نزل على أهل الرجل سلم الرسالة إلى أمه، فلما قرأتها قالت: هات السهام والزربية والتسعين والعبد، فقال: من أين أخذتها؟ فقالت: قال: سلام بزيادة لام ماء إلى لامه، ولام ماء هاء لأنه يصغر على مويه ويجمع على أمواه، فالهاء إذا أضيفت إلى لام سلام صارت سهاماً، وإحدى خبري كأن في قوله ترديت، قالت: عرضت الشعر على ذهني؛ لأطلع على بيت بدايته ترديت وفيه كأن، فوصلت إلى قول غيلان: ترديت من أعلام نور كأنها زرابي وانهلت عليك الرواعد فعرفت أنه يقصد هذا، فكأن هنا خبرها زرابي، فمفردها: زربية، فهات الزربية.
أما إياك نعبد وإياك ونستعين قالت: فلم أفهمها، فحذفت النقاط عنها، فقرأتها بالتصحيف فإذا هي: أتاك بعبد وأتاك بتسعين، قرأتها بدون نقط.
وحين أتى هذا الرجل إلى مصر يحمل كتاباً من ملك المغرب، جمع له ملك مصر عشرة من علماء الأزهر لمناظرته، فقال له الملك: اليوم يوم التعارف، فكل واحد يعد لنفسه عشرة آباء، فعد كل عالم من علماء مصر عشرة آباء لنفسه، وعد مجيدري عشرة آباء لنفسه، فلما كان من الغد اجتمعوا بين يدي الملك، فكان كلما سلم عليه واحد منهم، قال: السلام عليك يا فلان ابن فلان ابن فلان ابن فلان حتى يكمل سلسلته حتى أتى على مائة أب، كل واحد عد له عشرة، ولم يتذكروا هم اسمه، لكن لعامل اللغة تأثير في هذا فـ مجيدري بن حب الله بن الفاضل أسماء صعبة الضبط، فلذلك لم يتذكروها، فأعجب الملك بهذا، ولم يستطع العلماء مناظرته، فسأله: أن يتقبل منه جائزة، قال: جائزتي أن تفرغ لي دار الكتب المصرية أسبوعاً كاملاً لا يدخل عليّ إلا من يخدمني، ففرغها له حتى درس ما فيها من العلوم النادرة التي لم تكن ببلاده، ولذلك رجع إلى هذه البلاد مجدداً مصلحاً في مجال الاعتقاد ومجال السلوك ومجال الفقه، وقد كتب لعلماء هذه البلاد أسئلة، وهي الإثنا عشر المشهورة التي أسكتت العلماء، ولم يستطع أحد منهم جوابها، وكان من هذه الأسئلة الإثنا عشر: ما الفرق بين الشافعي وابن القاسمي؟ أليس كل واحد منهما تلميذاً لـ مالك؟ فهذا السؤال محرج للمقلدين في زمانه، فلم يستطع أحد منهم جوابه.
ونظم أبياته في الإيمان بأسماء الله وصفاته دون تعطيل ودون تأويل فكتبها بالزعفران وهي الأبيات السبعة المشهورة التي شرحها الشيخ محمد المامي في قصيدته الزعفرانية، وهذه الأبيات على وفق عقيدة السلف الصالح، وقد نظمها عندما زعموا أنه مبتدع حين دعا إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة وعقيدة السلف الصالح قال: لو كنت بدعياً لما كان الصواب عندي الأحاديث الصحاح والكتاب وقد ربى مدرسة عظيمة تربت على منهجه، ومن مشاهير طلابه المأمون بن عبد الله المجاور الذي اشتهر بخلافة نجيدي بعده ورئاسة المدرسة، وقد كان من المشاهير في حفظ الأحاديث، كان يحفظ الصحيحين حفظاً متقناً، ولذلك حين توفي رثاه الشيخ محمد المامي في قصيدته التي مطلعها: ريع تقاصر دونه لبنان ويهون دون ترابه المرجان يا ريع لو نبت الحديث ببلدة نبت الحديث عليك والقرآن فجعل الشيخ محمد المامي المأمون بمثابة البذر بذر القرآن والسنة، إذا بذر في مكان ودفن فيه، ينبت عليه الكتاب والسنة.
وغير هؤلاء كثر، وقد أجهد أقوام أنفسهم في سبيل هذا العلم، فأنفقوا فيه أوقات طائلة، كالشيخ الذي خرج من عند أهله وعمره أربعون سنة، وتغرب لطلب الحديث وطلب الفقه والأصول، ومكث في طلب العلم عشرين سنة، وما رجع إلى أهله إلا بعد الستين، ومكث أربعين سنة ينشر هذا العلم الذي جاء به، فعاش مائة وزيادة، ولذلك يقول فيه ابن أحمد دان الحسني في وصفه: ما للمشيب وفعل الفتية الشببة وللبيب يواصي في الصبا خببه آنت لذي شمط الحذين رجعته إن القتير ليحمي ذو النهى طربه لما تأوب لي من طول ما جمحت نفسي هموم رمت صبري بما سلبه ناجيت فكري وقد أمعنت من نظري ثم استمر بي الرأي الذي اكتسبه أن يممت شرف الدين الكمال بنا علياء تعتسف الآكام والهضبة حتى وضعت عصاسيري بباب فتى يأوي الطريد ويولي الراغب الرغبة من نبعة طيب الباري أرومتها بيتاً أحل ذرى المجد العلا نسبه حارت أناس بجدوى حاتم ولقد نرى سخاء كمال الدين قد غلبه أحنى على الشعف والأيتام من نصف على صغير لها قد أكبرت عطبه أشد عند تمادي أزمة فرحاً بالمعتفين من العافي بكل هبة يلقى العفاة بوجه من سماحته كالهندوان تجلو متنه الجلبه وإن ألم به ضيف فمرتحل يثني وكان حميد الظن إذ رغبه ولى يفرق مدح الشيخ في فرق شتى ويكثر مما قد رأى عجبه رأى هنالك أخلاق الكرام إلى زي الملوك وزي السادة النخبه رأى مصرعة الأنعام قد قسمت بين الصفيف وبين الجونة الرحبه رأى العفاة على باب الكمال كما يرى الدثور على قلبه من معتف وأخي حوجا ملتمس فصل القضا ومريد كشف ما حجبه أو كشف مسألة والكل قد وسعت جفانه ولكل منه ما طلبه فالله بارك في نفس الكمال وفي ما الله موليه من قصوى ومقتربه إن تستبق حلبات المجد راكضة نحو المعالي تراه سابق الحلبه لا يضمر الضغن من جار أساء ولا من المصاحب يوهي صبر من صحبه أما الرقاع فأعلاق يجود بها والسير نصح بليغ يبتغي القربه رآه ذو العرش علام الغيوب لذا أهلاً فساق إليه قبله سببه علماً وفهماً يصيد المشكلات به درك الطبرة من سرب المها عطبه ومص كل من مخيرة در تخيره للملك من ثقبه لما تغلغل في علم الشريعة من صافيه أعمل في نيل العلى نجبه شد الرحال على كوم العتاق إلى تاج الأئمة من ساداتنا النخبه فنال ما نال إذ حط الرحال وما أدراك ما نال يا واهاً لها رتبه فأصبح الشيخ مسقى كل ذي ظمأ كما يصبح مسقى دجلة القلبه إلى آخر ما قال.
ومثل ذلك مسك بن بارك الله الذي ذهب في طلب الحديث وطلب العلم، واشتغل بذلك زماناً طويلاً، وخاض الحواضر العلمية حتى رجع بما رجع به من العلم كإجازة ابن ناصر الدرعي.
ومثله عبد الله الحاجب المبارك الذي ذهب أيضاً إلى مصر والحجاز والعراق والشام وأتى بعلم كثير، وكذلك شيخ الشيوخ ابن أبي الفاضلي الحسني الذي اشتهر في هذه البلاد بعلو الإسناد، فهو الذي نقل علم علي الأجهوري إلى هذه البلاد حديثاً وفقهاً وأصولاً، وغير ذلك.
فهؤلاء بذلوا في سبيل الحصول على هذا العلم جهداً كبيراً وتعباً ومشقة، فلذلك وصلوا إلى مبتغاهم، ولهذا كان الشيخ سديه كثيراً ما يتمثل بقول الشاعر: ما ابيض وجه باكتساب كريمة حتى يسوده شحوب المطلب(8/19)
المدارس النظامية لا تخرج عالماً
السؤال
ما هو دورنا -طلاب العلم- أمام هذا التغيير التربوي الجديد الذي يحد من تعليم ديننا الحنيف؟
الجواب
إن المدارس النظامية في الأصل لا يمكن أن يوكل إليها تعليم الدين؛ لأنها ليست مدارس دينية، وما أقيمت على أساس هذه الفكرة، وفكرتها جاءت من عند اليهود والنصارى، ولا يعدون علماً إلا ما كان تجريبياً، فلذلك لا يمكن أن يتكل على المدارس النظامية حتى لو صلحت منهاجها، وكانت على المستوى الذي ترغبون فيه، فإنها لا يمكن أن يتكل عليها في دراسة العلم الشرعي.
وقد خضنا بلاداً كثيرة، ودخلت أكثر من سبع وثلاثين دولة، وما لقيت عالماً من العلماء يشار إليه تخرج من مدرسة نظامية! وما أذكر أنني رأيت عالماً يوصف بأنه عالم تخرج من مدرسة نظامية! ولذلك فهذه المدارس النظامية كلها فكرتها أصلاً ما قامت على تعليم العلم، وإنما قامت على تحصيل الثقافة، ولذلك يقال فيها: تأخذ من كل شيء شيئاً.(8/20)
خطورة الكلام في العلماء والجماعات الإسلامية
السؤال
ما هي مخاطر أكل لحوم العلماء والجماعات الإسلامية، وما توجيهاتكم لبعض المسلمين الذين لا يبالون بخطورة الأكل من أعراض المسلمين؟
الجواب
الله سبحانه وتعالى حرم على المسلمين أكل أعراضهم فيما بينهم، وجعل الغيبة بمثابة أكل لحم الإنسان، فقال: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12]،وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11]، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الكلام في الناس، وبين خطره وضرره، وبين أن عرض المسلم كحرمة دمه وماله، وبين صلى الله عليه وسلم أن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه، وقد حدثتكم كثيراً بما أخرجه مالك في الموطأ وأحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله، ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلىً ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية).
والذين ينتقدون الجماعات والطرق والأشخاص لا بد أن يأتوا ببديل خير مما هم فيه، أو يكونوا عامل هدم لا بناء، ولا يرتضي إنسان أن يهدم منارة إشعاع ومنارة هدى ولا يبني شيئاً في مكانها؛ فلذلك على الإنسان إذا أراد أن ينتقد أن ينظر إلى نفسه أولاً وما عمل، وليتذكر قول الشاعر: فعندك عورات وللناس ألسن.
فلذلك عليه أن يبدأ بنفسه أولاً في الانتقاد، ثم بعد ذلك إذا وصل إلى مستوى يمكنه من نقد الآخرين، ليكن ذلك النقد أيضاً من واقع الحرص عليهم، واستصلاحهم، لا من واقع التشفي فيهم والاستعلاء عليهم، واحتكار الحق دونهم، فذلك كله من عمل الشيطان المقيت، الذي لا يشتغل به إلا صاحب فتنة، وصاحب هوى، تجب مقاطعته وعدم مجالسته، فمن عرف أنه من أصحاب الهوى وأصحاب الفتنة حرمت مجالسته، ووجبت مقاطعته؛ حتى يتوب ويرجع عما هو فيه.(8/21)
على الإنسان أن يوازن بين حسنة المعاد ودرهم المعاش
السؤال
هل من الأفضل أن يصرف الإنسان أغلب وقته في أمور الدعوة، أم في أمور معاش أهله؟
الجواب
أن على الإنسان التوازن والاعتدال، وأن يعمل لتحقيق حسنة المعاد ودرهم المعاش، وأن يجمل في الطلب، وإذا نظم وقته لم تتعارض عليه المسألتان، ورأى أنه يمكن الجمع بينهما، فيمكن أن يجمع الإنسان بين كسب الدنيا وكسب الآخرة على الوجه الصحيح.(8/22)
حال المؤمن والكافر عند نزع الروح
السؤال
هل صحيح أن الميت ترجع إليه روحه في قبره، ثم تفارقه يوم البعث؟
الجواب
الميت ترجع إليه روحه عند السؤال، فإن الإنسان إذا كان في إدبار من الدنيا وإقبال من الآخرة جاءه ملك الموت، فجلس عند رأسه، فإن كانت نفسه طيبة قرئ عليه قول الله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]، فتتهوع روحه من فيه كما تتهوع القطرة من في السقاء، فينظر إلى الملائكة كأن وجوههم الشموس مد البصر، مادي أيديهم، فلا تمكث روحه طرفة عين إلا تناولوها، فيضعونها في كفن من أكفان الجنة، وطيب من طيب الجنة، ثم يرتفعون بها، فيستأذنون في السماء، فيفتح لهم، حتى تخر نفسه ساجدة تحت العرش، يقال: مرحباً بالنفس الطيبة، ثم يؤذن لها فيقال: ارجعي من حيث جئت، فترجع إلى البدن لسؤال الملكين.
وإن كانت النفس خبيثة جاءها ملك الموت وجلس عندها وقال: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعذاب، فتتفرق نفسه في بدنه، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف، فيخرجها فيسلمها إلى أولئك الملائكة الذين هم مد البصر مادي أيديهم، فيدعونها في حنوط من حنوط النار، فيرتفعون بها إلى السماء، فيستأذنون، فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة، وأولئك الذين {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]، فلا يؤذن لها، فترجع دون السماء، نسأل الله السلامة والعافية.
ثم بعد ذلك تكون أرواح السعداء في حواصل طير خضر تتفيأ من ظلال الجنة حتى الحشر، وأرواح الأشقياء تكون في أفنية القبور فيما هي فيه من التعذيب حتى تعود.
ومن هنا فليس الموت بفناء محض بل هو حياة من جنس آخر، فالحياة البرزخية تختلف عن حياة الدنيا، فأنواع الحياة ثلاثة: الحياة الدنيا والغالب فيها البدن فهو أغلب من الروح، فلذلك لا يستشعر الإنسان حركات روحه ولا يستشعر عروجها وصعودها وحركتها، وإنما يستشعر بدنه وما فيه من الجوارح وما يحس به من الألم أو اللذة.
بعدها الحياة البرزخية وهي حياة تغلب فيها الروح على البدن، فالبدن تأكله التراب إلا عظماً واحداً منه بدأ ومنه يركب، وهو عجب الذنب، والروح تبقى محبوسة، ثم بعد ذلك الحياة الأخروية وهي الحياة الحقيقية التي تستوي فيها الروح والبدن: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64].(8/23)
العطور التي فيها كحول طاهرة
السؤال
هل يجوز استعمال العطور التي فيها نسبة من الكحول؟
الجواب
إن الكحول مادة مشكلة للخمر، بمعنى أنها وغيرها تتشكل منها الخمر، لكن ليست هي الخمر، وعلى هذا فليس حكمها حكم الخمر لا من ناحية النجاسة ولا من ناحية الحد، ولكن يحرم استعمالها فقط لما فيها من الإفساد والتخدير.
وعلى هذا فالكحول في نفسه مادة طاهرة، ولا تكون مسكرة إلا إذا مزجت بغيرها؛ حتى يحصل الإسكار الذي يحصل بالخمر، وعلى هذا فالعطور التي فيها الكحول طاهرة، لكن لا يحل شربها لما في ذلك من التخدير أو الإفساد والترقيد فهي طاهرة.(8/24)
ليس وجود النسل شرطاً في بقاء العلاقة الزوجية
السؤال
يسأل عن زوجين طالت مدة عشرتهما ولم ينجبا، فهل لأحد أن يطلب من الزوج طلاق زوجته إذا كانت عقيمة أو كانت كبيرة السن مثلاً، أو ذات عيال أو نحو ذلك؟
الجواب
إن التفريق بين الزوجين إذا كان بينهما اتفاق وانسجام في العشرة مما يسعى إليه إبليس ويرغب فيه، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لإبليس عرشاً على الماء، فيبعث جنوده من الليل فيأتيه أحدهما فيقول: ما زلت به حتى قتل، فيقول: ما فعلت شيئاً لعله يستغفر الله فيتوب إليه، فيتوب الله عليه، فيأتيه آخر، فيقول: ما زلت به حتى شرب الخمر، فيقول: ما فعلت شيئاً لعله يتوب إلى الله فيتوب عليه، حتى يأتيه أحدهما فيقول: ما زلت به حتى فارق أهله، فيدنيه ويقبله ويقول: أنت ابني.
إن الاجتماع بين الأزواج -إذا حصل الانسجام في العشرة- مطلب شرعي محبوب، حتى لو لم يترتب على ذلك وجود النسل، فالله تعالى هو الذي يهب ذلك كما قال تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى:49 - 50]، وكم من إنسان يتمنى وجود الذرية، ولو رزق ذرية لكانت فتنة عليه أو خسارة أو وبالاً، والإنسان الكبير الذي انسجمت معه زوجه، واستمرت عشرته معها خير له من صبي لا يدري هل هو شقي أو سعيد؟ ولا يدري هل ينسجم معه بالتعامل أم لا؟ فلذلك ليس الفراق دواء هنا، ولذلك لا ينبغي أن يفرق الإنسان بين شخصين حصل الانسجام بينهما في الزواج، بل جعل الله ذلك من فعل أهل الشر، كما قال تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، فلذلك لا يحل مثل هذا، لكن بالإمكان -إذا كان الإنسان يطلب نسلاً- أن يتزوج بعد رضا زوجته بزوجة أخرى لعل الله يرزقه منها ولداً.(8/25)
حكم اللعب بالورق
السؤال
ما حكم اللعب بالورق؟
الجواب
هذا من إفساد الأوقات في غير طائل، وينبغي للناس أن ينزهوا أنفسهم عنه، ومع ذلك إذا لم يكن فيه قمار ولا حلف ولا كذب فليس محرماً لذاته، بل إنما يحرم إذا أخر الإنسان الصلاة بسببه، أو شغله عن طاعة من طاعات الله، أو عن قضاء دين، أو عن اكتساب ما يجب عليه اكتسابه، لكن لا خير فيه، فاللعب به مفسدة للوقت مضيعة له، وتعلق بتوافه أمور الدنيا، فعلى الإنسان أن ينزه عنه نفسه.(8/26)
طاعة الوالدين مقيدة بعدم تعارضها مع طاعة الله ورسوله
السؤال
هل هذا حديث: (من أطاعني وعصا والديه سميته عاقاً، ومن أطاع والديه وعصاني سميته باراً)، وما معناه؟
الجواب
هذا ليس حديثاً، وقد ورد في بر الوالدين عدد كبير من الأحاديث التي فيها الإرشاد إلى بر الوالدين ومثوبة ذلك وأجر صاحبه، وأنه يكفر الذنوب، وأنه مدعاة للاستقامة على طريق الحق، وأن البار بوالديه لا بد أن يوفق على طريق الهداية، لكن مع ذلك فإن أحاديث الوعد كلها مقيدة، فأي حديث فيه وعد للطاعة أو المغفرة أو الاستقامة مقيد بطاعة الله ورسوله.
فأول طاعة تلزم الإنسان هي طاعة الله ورسوله، ثم بعد ذلك طاعة المخلوقين على حسب درجاتهم.(8/27)
حكم السفر إلى دول الكفر
السؤال
هل يعتبر السفر إلى دولة كافرة حراماً؟
الجواب
إذا كان معناه السفر من أجل التجارة إلى أي مكان من العالم فهو من الأمور الجائزة، بالشروط المعروفة وهي: أن لا يتعرض الإنسان إلى أكل حرام، ولا إلى تضييع الصلاة في وقتها، ولا إلى مخالطة الحرام أو مخالطة الأنجاس، وأيضاً أن يحترس من أكل الربا ومن الصفقات الممنوعة شرعاً.(8/28)
معنى: (رجل أعطى بي ثم غدر)
السؤال
ما هو تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رجل أعطى بي ثم غدر)؟
الجواب
قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ثلاثة يخاصمهم الله عز وجل يوم القيامة، ومن كان خصمه خصمه، ومنهم: رجل (أعطى بي ثم غدر)، أي: رجل عاهد بعهد الله وميثاقه ثم غدر ذلك العهد ولم يوف به.(8/29)
حكم الاستمناء
السؤال
ما حكم الاستمناء باليد؟
الجواب
الاستمناء لم يرد فيه نص بخصوصه، وقد اختلف فيه أهل العلم: فذهب بعضهم إلى كراهته، وبعضهم إلى تحريمه، ولكن الذي يبدو لي أنه داخل في قول الله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7]، فعلى هذا ينبغي للإنسان تجنبه والابتعاد عنه؛ حتى لا يكون من العادين، فإن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7] وهذا مما وراء ذلك.(8/30)
استرضاء الوالدين
السؤال
لي والدان وأنا لا أبخل في إرضائهما، ولكن كلما أطعتهما يقولان: إنني لست ببار؟
الجواب
على الولد أن يبذل الجهد في استرضاء والديه والتقرب إليهما، وأن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وأن يطيعهما في معروف، وإذا تقرب إليهما غاية التقرب فلم يرضيا بذلك فإنه مأجور أجراً مضاعفاً، ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم للذي أخبره أن له رحماً، وأنه يحسن إليهم فيسيئون إليه، فقال: (لئن كنت كما قلت فإنما تسفهم الملَّ -أو- فإنما تسفهم المل) أي: كأنما يطعمهم من الملة، وهي: التراب الحار الذي كان عليه الجمر، فمعنى ذلك أنه خير منهم وأن أجره أعظم من أجورهم.(8/31)
معنى آية: (والملائكة باسطو أيديهم)
السؤال
ما تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} [الأنعام:93]
الجواب
أن هذا هو ما تحدثنا عن تفسيره سابقاً في السؤال السابق بذكر الحديث الذي فيه: (إذا كان العبد في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخر أتاه ملك الموت) إلى آخر الحديث الذي سقناه بالمعنى، بياناً لتفسير هذه الآية.(8/32)
حد الواجب من تعليم الزوجة
السؤال
ما هو حد تعليم الزوجة، هل يكفي منه أمرها بالتعلم أو لا بد من مراقبتها وقهرها؟
الجواب
القهر لا ينبغي أن يحصل في مثل هذا أصلاً، وهو عبارة لا تليق بالتعامل بين الأزواج، لكن بالنصيحة والإرشاد والقيام بالأمر، ومتابعة الأمر حتى يؤدى على وجهه والتشجيع على ذلك، وهذا هو المطلوب في تعليم الزوجة، وعلى الزوج أن يعلمها مما علمه الله، وأن يتعلم منها أيضاً ما علمها الله، وأن يشجعها على التعلم، وأن يعينها عليه، فذلك من التعاون على البر والتقوى.(8/33)
التصرف في مال الأولاد
السؤال
هل يجوز للأب التصرف كيف شاء فيما يعطى للأبناء الصغار من مال؟
الجواب
الأب لا يحل له أخذ مال أولاده إذا كان المال أعطيه الأولاد من غير طريقه هو، ولكن إذا أخذ منه شيئاً في النفقة عليهم أو في مروءتهم أو بالقيام بشئونهم فله ذلك، وإذا أنفق منه شيئاً في مصالحه الخاصة، كأن تزوج به فلا بد أن يقضيه بمثله؛ ولذلك فإن أخذ أموالهم داخلاً في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه).
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) فلا يصلح هذا للاستدلال في مثل هذه المسألة؛ لأنه عطف المال على النفس، ونفس الولد لا تملك فكذلك المال؛ لأن المعطوف حكمه حكم المعطوف عليه.(8/34)
تخصيص زيارة الميت بالخميس والجمعة
السؤال
ما درجة صحة الأثر الذي يقول: إن الروح تعود إلى القبر مساء الخميس حتى السبت، وعليه تكون الزيارة في ذلك الوقت؟
الجواب
هذا لا يصح فيه شيء، إنما الزيارة في آخر الليل في أي يوم من الأيام، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فكان يذهب إلى المقبرة في آخر الليل كما فعل في ليلة عائشة، ولا يخصص لذلك يوماً بعينه.(8/35)
للرجل أن يتزوج ربيبة أبيه
السؤال
هل يجوز للرجل أن يتزوج ربيبة أبيه؟
الجواب
ربيبة الأب ليست محرماً للإنسان، فيجوز له تزوجها إذا ولدت قبل زواج أبيه بأمها باتفاق أهل الفقه، أما إن كانت ولدت بعد تزوج أبيه بأمها، فهو محل خلاف، ولذلك يقول الشيخ محمد علي رحمه الله: حليلة الربيب لم يحرم نكاحها إذ لم تكن بمحرم وبنت زوجة تحل لابنه من غيرها وإن تكن في حضنه من قبلهم دون خلاف نقلا وبعده مع قول منع نقلا مع قول منع، أي: قول بتحريم، وقيل أي: قولاً بالكراهية أيضاً.
وعلى هذا فالله سبحانه وتعالى لم يعدها من المحرمات في كتابه محرمة في قوله: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:22 - 24]، ومعنى المحصنات المتزوجات، فإن المتزوجات من النساء لا يحل تزوجهن لأن الزواج مانع لذلك إلا قوله: (إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) المقصود بذلك السبي، فإذا كانت المرأة متزوجة في دار الكفر فسباها المسلمون في الغنائم، فإن السبي يهدم النكاح، وحينئذ يحل تزوجها، ولهذا قال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ} [النساء:24].
فإذا تزوج الأب أمها وهي رضيعة، فقد ازداد لبن أمها بالوطء، وإذا ازداد لبن أمها بالوطء فحينئذ انتشرت الحرمة بسبب الرضاع، لأن اللبن إذا ازداد من وطء الزوج نشر الحرمة، فتكون حينئذ أخته من قبل أبيه من الرضاعة.(8/36)
الرياء أسبابه وعلاجه
السؤال
بم تنصحون من يرى أن أفعاله كلها رياء؟
الجواب
أن هذا وسواس ومن عمل الشيطان، وعلى الإنسان أن لا يتبع خطوات الشيطان، وأن يتوب إلى الله، وأن يبتعد عن مثل هذا، وأن يعلم أنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه، عليه أن يسدد ويقارب.
فهذا من عمل الشيطان، وسببه الوسوسة، وعلاجه بمخالفة الشيطان، واتخاذه عدواً والتعوذ من شره، وملازمة أذكار الصباح والمساء، والإكثار من الذكر فإنه يطرد الشيطان.(8/37)
طاعة الأم في معصية
السؤال
ما حكم من ترسله أمه ليأتيها بشيء من الحرام هل يأتيها به أم لا؟ وهل هذا من البر المتفق عليه؟
الجواب
لا، وعليه أن ينصحها وينهاها عن استعماله، ويخبرها أنه مما لا يحل لها، فإذا أثر فيها وقبلت فإنه يثاب ثواباً عظيماً، وإن نهى فلم يطع ولم يسمع له، فقد فعل ما أمر به، ولا إثم عليه حينئذ في استعمالها هي.(8/38)
مشروع الواحات يدخل في المعاملات المحرمة
السؤال
ما حكم الشرع في التعامل مع هيئة تابعة لوزارة التنمية الريفية والتي تسمى بمشروع تنمية الواحات، وهو مشروع ينشئ رابطات في الواحات التي تستفيد منه؟
الجواب
هذا المشروع كغيره من المشروعات إذا قامت على العقود الربوية -كضمان بجعل، وكالقرض بشرط دفع مسبق لجزء من التموين- فهو محرم، وهو عقد ربوي يجب الخروج منه، وقد اطلعنا على بعض مشاريع الواحات فوجدنا فيها هذه الشروط المحرمة، فهم يشترطون أن يدفع مال من قبل في حساب معين في بنك معين، ثم بعد ذلك يزيدونهم عليه قرضاً.(8/39)
حكم جمع التعظيم في الدعاء
السؤال
هل صحيح أن جمع التعظيم في الدعاء منهي عنه؟
الجواب
جمع التعظيم إذا كان معناه الضمير الذي يدعو به الإنسان فليس منهياً عنه، بل كان أكثر دعاء أبي بكر في سجوده: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، لكن لا يقصد الإنسان بها تعظيم نفسه، بل يقصد به نفسه وإخوانه ومن يدعو له من المسلمين، بل الإنسان إذا دعا وقصد بذلك دخول جميع الداعين معه شمل هذا دعوة جبريل وميكائيل وغيرهما من المقربين، وهذا الدعاء الذي لا يرد.(8/40)
حكم الدعاء بالقرآن في السجود
السؤال
ما حكم الدعاء بالقرآن في السجود؟
الجواب
يجوز إذا لم يقصد به تلاوة القرآن، وإنما قصد الدعاء، فلذلك ما كان من أدعية القرآن تجوز قراءته في السجود لقصد الدعاء.(8/41)
حكم النظر إلى ما يبدو من شعر المرأة
السؤال
هل ما يبدو على وجه المرأة من شعر رأسها يحرم النظر إليه؟
الجواب
نعم، شعر رأس المرأة لا يحل النظر إليه، وهو عورة.(8/42)
التعصب ابتعاد وابتداع في الدين
السؤال
هل المتعصب للمذهب المالكي مثلاً متقيد بالشرع، وهل يجوز اتباع ما ظهر لشخص صحة دليله؟
الجواب
أن ما ظهر لشخص صحة دليله لا يجوز فقط اتباعه بل يجب؛ لأن العمل بالراجح واجب لا راجح، والتعصب حرام وهو معصية شنيعة، وهو أيضاً جهالة بالدين، فإن التعصب معناه أن يدعي الإنسان أن غير المعصوم معصوم، وهذا غاية الابتعاد والابتداع في الدين، فلذلك لا يحل التعصب بوجه من الوجوه.
والمذاهب طرق من طرق الخير للاستفادة من النصوص الشرعية، وفيها الخطأ والصواب، وما كان فيها من صواب، لا يحملنا كونه من اجتهاد فلان من الناس أن نتركه، وما كان فيها من خطأ، لا يحملنا كونه من اجتهاد فلان من الناس أن نعمل به، بل نأخذ الصواب الذي عرفنا صحته، ونترك الخطأ الذي عرفنا خطأه.(8/43)
نبذة عن الإمام مالك
السؤال
هل من نبذة عن الإمام مالك بن أنس ودعوته وجهاده؟
الجواب
أن الإمام مالكاً هو أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك أبي عامر بن الحارث بن عمرو بن غيمان بن خثيل بن الحارث بن عمرو وهو ذو أصبح الأصبحي الحميري من حلفاء بني تيم بن مرة، كان أجداده أحلاف لـ طلحة بن عبيد الله، وقد تربى في المدينة وتعلم فيها، ولم يخرج منها إلا إلى الحج، وكان إمام زمانه دون مدافع، وقد فسر الذين عاصروه من أتباع التابعين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يضرب الناس آباط الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة) أن المقصود بذلك الإمام مالك بن أنس، وقد شهد له أهل زمانه بالإمامة في دين الله، وروي عنه بعض أشياخه كـ يحيى بن سعيد ومحمد بن شهاب الزهري وغيرهما، وروى هو عن أكثر من تسعمائة من التابعين، وروي عنه أكثر من ألف، وألف الموطأ الذي هو أقدم كتاب لدى المسلمين، قال فيه الشافعي رحمه الله: ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مالك.(8/44)
فرصة العمر
الإنسان في هذه الدنيا مأمور باستغلال حياته في طاعة الله عز وجل، ومأمور بأن لا يضيع عمره فيما لا طائل تحته، فالعمر فرصة لا تعوض، فإذا ما انقضت وذهبت ندم من لم يستغلها في طاعة الله عز وجل حين لا ينفع الندم.
فالله الله في اغتنام الأوقات، وإعمارها بالحسنات، ومباعدة أهل الفجور والسيئات.(9/1)
العمر الشخصي للإنسان وكيفية استغلاله في الطاعة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى جعل للإنسان حياتين: إحداهما هي هذه الدار التي هي دار عمل ولا جزاء، والأخرى هي دار الآخرة التي هي دار جزاء ولا عمل.
وجعل الإنسان يبدأ بهذه الدار الدنيا التي اسمها إما أن يكون مشتقاً من الدنو لقربها، أو مشتقاً من الدناءة؛ لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة.
جعل الإنسان يبدأ هنا بهذه الدنيا ليتزود للدار الآخرة، وجعل هذه الحياة الدنيوية إنما هي ورد وعرض زائل، وجعل الدار الآخرة هي الحيوان، أي: الحياة المتجددة الباقية.
وأتاح للإنسان ثلاث فرص للنجاح في الامتحان، هذه الفرص هي التي يمكن أن نسميها أعماراً.
فالعمر الأول: عمر الإنسان الشخصي الذي يبدأ من النفخ فيه، نفخ الروح فيه وهو جنين في بطن أمه، كما في الحديث: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد).
فمن هنا يبدأ عمر الإنسان الشخصي، وينتهي بقبض الروح منه، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} [النازعات:1 - 2].
وهذا العمر ما يعمل الإنسان فيه من خير وشر فإنه يجده يوم القيامة: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:30]، وهذا العمر أمده مجهول، لا يدري الإنسان متى يناديه منادي الله، لكنه يعلم أنه إذا ناداه فلن يتأخر لحظة، ويعلم أنه إذا ناداه منادي الله فلن تتاح له فرصة للتأخر، لكنه لا يدري متى يناديه المنادي.
ومن هنا فإن على الإنسان أن يجتهد قبل أن يناديه المنادي إلى الدار الآخرة للنجاة، عليه أن يجتهد في عمره هذا ليتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بما يكون وسيلة سعادته يوم القيامة يوم العرض على الله، وهذا العمر المحدود في علم الله المجهول لدى الإنسان يعتري الإنسان فيه كثير من الشواغل والصوارف التي تحاول فتنته وصرفه عن استغلال هذا العمر فيما يرضي الله، ومع ذلك فهذا العمر ثمين جداً، وهو رأس المال، والإنسان فيه محتاج إلى أن يستغله أبلغ استغلال، ولا يمكن أن يسعد إذا أهمل هذا العمر الذي هو طريق نجاته وطريق سعادته، فإما أن يستغله الاستغلال الصحيح فيتغلب على الشواغل والصوارف التي تصرفه عن هذا الاستغلال، وهذا هو النجاح الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بالربح في قوله: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الناس جميعاً تجاراً، لكن منهم من ينجح في تجارته فيربح، ومنهم من لا ينجح في هذه التجارة، فالعمر هو رأس المال، بمثابة الدراهم التي لدى الإنسان يقضي بها حاجته، كما قال الحكيم: والعمر مدته كمثل دراهم بيد الفتى يقضي به حاجاته فكل أربع وعشرين ساعة هي محطة من محطات العمر، تنادي كل دقيقة من دقائقها إذا لم تستغل: قد ضاعت منك فرصة يا ابن آدم.
لأنه بالإمكان أن يقول الإنسان في كل لحظة منها: لا إله إلا الله، فيجدها وقت الحاجة إليها، وهو يعلم أنه سيحال بينه وبين ذلك، فإذا مات وأخذت روحه فإنه لن تتاح له الفرصة بعد ذلك ليقول: لا إله إلا الله.
ومن هنا فإن هذه الصوارف والشواغل إذا اتبعها الإنسان سيتمنى على الله الأماني، وسيغره الشيطان ببقائه في هذه الدنيا ويوسوس إليه ويخيل إليه أنها دار بقاء وأنه مستمر فيها، ولذلك فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إن الشيطان يعقد على قافية رأس ابن آدم ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: إن عليك ليلاً طويلاً فنم) يريد أن يحول بينه وبين ما يقربه إلى الله من الطاعة، فيحاول أن تمضي الأوقات في المعصية، فإن لم يجد إلى ذلك سبيلاً حاول أن تكون فارغة لا للإنسان ولا عليه، وهذا هو غاية الخسران؛ لأن هذه الساعات إذا لم تشحن بالطاعة فإما أن تشحن بالمعصية -نسأل الله السلامة والعافية- فتكون حسرة ووبالاً، أو تمضي فارغة ليس فيها فائدة، فيكون الإنسان قد قامت عليه الحجة، وأنعم الله عليه بنعمة التعمير، ويناديه يوم القيامة: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37].(9/2)
عاقبة من لم يستغل عمره في طاعة الله
إن هذا العمر هو أغلى ما يمتلكه الإنسان، وعليه أن يعلم أن كل لحظة يعيشها في هذه الدنيا هي حجة قائمة عليه لله، وأن كل وقت يمضيه فيها إذا لم يستغله في طاعة الله فهو خسران عظيم، لهذا فقد أخبرنا الله في كتابه أن الناس يتمنون الرجوع إلى هذه الدنيا بعد الموت، فمن ذلك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:9 - 11].
وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100]، وفي الآيات من خواتيم سورة الزمر يقول الله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} [الزمر:56 - 58] أي: رجعة إلى هذه الدنيا، {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58].
فهذا العمر يندم الإنسان على ما مضى منه إذا عمر وطال به العمر، فتذكر السنوات التي مضت ولم يستغلها في طاعة الله، وتذكر أنه كان في عافية وفراغ وأن ذلك قد زال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ).
وتذكر أن ساعات طويلة كان يمضيها في غير طائل هي الآن في كفة السيئات وليست في كفة الحسنات، والميزان يوم القيامة ليس له إلا كفتان، فإذا تذكر الإنسان هذا ندم على ما أسرف وعلى ما مضى من عمره بغير طائل، وكذلك إذا قبضت روحه فبدا له أمر الآخرة، عندما يوضع في قبره ويوضع تلك الضجعة التي يبدو له فيها من الله ما لم يكن يحتسب، كما قال الله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، ونقل إلى القبر الذي إما أن يكون روضة من رياض الجنة وإما أن يكون حفرة من حفر النار، وهو أول منازل الآخرة، وهو أعظم من كل ما قبله، وأعظم منه كل ما بعده، كل مرحلة بعد القبر تنسي التي قبلها، وهو ينسي كل ما مر على الإنسان في هذه الدنيا.
ليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهما: ليلة يبيت مع الموتى ولم يبت معهم قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة.
في هذه الليلة التي يبيت فيها الإنسان في القبر ولم يبت مع الموتى قبلها سيستحضر أنه كان في هذه الدنيا وأتيحت له الفرصة للنجاة، ولكنه فرط وقصر، فلهذا يقول أمثلهم طريقة: إن لبثتم إلا يوماً.
يستقل ما أمضاه في هذه الدنيا من العمر، ويرى أنه وقت يسير جداً.
كذلك الندم الآخر عندما تعرض عليه صحائفه ويتذكر أنه كتبت أعماله كلها، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12].
إذا عرضت عليه هذه الصحائف فرأى أنه قد أتيحت له فرصة وعمر في هذه الدنيا، وكان بالإمكان أن يكون من الفائزين الناجحين الذين رجحت كفة حسناتهم على كفة سيئاتهم، وهو يرى تطاير الصحف، ويرى وزن الأعمال، ويرى مثاقيل الذر توزن بها الحسنات والسيئات، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
إذا رأى ذلك فسيندم، كما قال الشاعر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجدك لم تسمع وصاة محمد رسول الإله حين أوصى وأشهدا إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله فترصد للموت الذي كان أرصدا ولهذا فإن تذكر الإنسان للموت مما يعينه على صرف الشواغل التي تشغله عن استغلال العمر في طاعة الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها؛ فإنها تذكركم الآخرة).(9/3)
عوامل تعين على استغلال العمر في الطاعة
والإنسان محتاج إلى أن يتذكر ساعة الانتقال وهو محمول على الرقاب إلى الدار الآخرة، وإذا تذكر ذلك فإن هذا مدعاة لأن يستغل هذه الفرصة قبل أن يحمل على الرقاب، يستغلها فيما ينجيه ويقربه، وهو يتذكر أحوال أولئك الذين ساروا وانقطعوا عن هذه الدنيا وانتقلوا وتركوا ما خولهم الله وراء ظهورهم ولم يصحبوا منه شيئاً، كما قال تعالى: {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94].
يتذكر حال أولئك وهو يعلم حرص كثير منهم، وأنهم اليوم في قبورهم يتمنون الرجوع إلى هذه الدنيا لحظة واحدة ليحسنوا العمل ويبدلوا ما كانوا يعملونه من شر ويغيروه ويتوبوا إلى الله، فيحسنوا فيما بقي من هذه الدنيا.
ولهذا فإن كثيراً من الصالحين كان يتصور نفسه محمولاً على الرقاب إلى الدار الآخرة، فيبادر غاية المبادرة لاستغلال بقية العمر، وبعضهم كان يحفر قبراً أمامه حتى يراه، ويستحضر أن هذا القبر هو الذي سيدفن فيه، فيبادر لاستغلال الفرصة قبل أن يدفن في هذا القبر، وكذلك بعضهم كان يستحضر قصص السالفين الذين أدرك موتهم، فالإنسان يشهد كثيراً من الناس قد حسنت خواتمهم، وانتقلوا من هذه الدنيا انتقالاً مشرفاً، ويشهد آخرين -نسأل الله السلامة والعافية- قد أخذوا في حال الغفلة، قد جاءهم الموت في الوقت الذي لا يرتضون مجيئه فيه، فانتقلوا وهم منغمسون في أوساخ الدنيا ووحلها وما فيها، وهم في غفلة كاملة عما أمامهم، فإذا جاء الموت ارتفع عنهم هذا، وصاروا كأنما كانوا في غفلة شديدة، فأزيل الغشاء عن أبصارهم، كما قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22].
ولقد صح أن كثيراً منهم كانوا إذا ذكروا ذلك الحال وتذكروا خواتم الناس وانتقالهم يشعرون بزاد يتزودون به، ويشعرون بقوة خارقة فيما يتعلق بعبادة الله سبحانه وتعالى وطاعته، فيجدون وقوداً ينطلقون به في طريقهم.
حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه حجته الأخيرة في حياته، فلما خرج من مكة وقف على جبل اسمه (ضجنان)، فقال: (لا إله إلا الله وحده! كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان، فكنت إذا أبطأت ضربني وقال: ضيعت.
وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعش.
ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه.
ثم أنشأ يقول: لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد لم تغن عن قيصر يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها تفد أين الملوك التي كانت لعزتها من كل صوب إليها وافد يفد حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوماً كما وردوا وكذلك فإن كثيراً منهم كان إذا أحس بالغفلة انتسب، أي: ذكر من مضوا من أسلافه، فوجد أن كل من سبقه من أفراد أسرته ومن عمود نسبه قد انتقلوا إلى الدار الآخرة، وأنه هو قد بقي على الأثر، فإما أن ينتقل في الصباح أو في المساء وهو سائر على طريقهم، فيعينه هذا على استغلال الفرصة قبل فوات الأوان، ولقد صدق القائل: هو الموت ما منه ملاذ ومهرب إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب وقال آخر: ذهب الزمان فلا زمان جمانا وكأن ما قد كان لم يك كانا يا من لشيخ قد تطاول عهده وأفنى ثلاث عمائم ألوانا سوداء حالكة وسحق مفوف وأشد ثوباً بعد ذاك هجانا والموت يأتي بعد ذلك كله وكأنما يعنى بذاك سوانا(9/4)
أعداء وموانع تشغل الإنسان عن استغلال عمره في الطاعة
إن فرصة التعمير في هذه الدار فرصة لا تعوض، والشواغل التي تشغل الإنسان وتجعله يضيع عمره في غير طائل كثيرة جداً، من أعظمها خمسة، هي أعداء الإنسان التي تحيط به.(9/5)
العدو الخامس: مفاتن هذه الدنيا وشهواتها
إن للدنيا زخرفاً يجذب النفوس، وتميل وراءه العيون والطباع، وهذا ما نبه الله عليه في قوله: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:131 - 132].
ونبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على خطر هذه الدنيا ومفاتنها فيما أخرج عنه البخاري ومسلم في الصحيحين أنه قال: (إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر، فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت).
فهؤلاء الأعداء الخمسة الذين يحيطون بالإنسان، وهم الشواغل التي تصرف الإنسان عن أن يستغل عمره وأن ينتهز الفرصة لإنقاذ نفسه ولنجاته من الموقف عندما يعرض على الله.
ولذلك يقول المختار بن بُنى رحمه الله تعالى: للإنسان شيطان ونفس وحظها ودنيا وإخوان حميتهم خطر ولله فضل لا يزال ورحمة ومنّ وتوفيق وعفو لمن وزر إلهي اكفنا الخمس التي في اتباعها هلاك وعاملنا بخمستك الأخر ثم إن فوات الأوان يأتي بالتدريج والتقصير؛ لأن العمر لا يراه الإنسان وحدة متكاملة، وإنما هو أيام وليال وساعات وثوان تمضي بالتدريج، وكل يوم يمر هو عمر بكامله ينقضي؛ لأن أمس الدابر أمره لا يعود، بل يختم على عمله.
ولهذا ينادي المنادي إذا انصدع المنذر وقت طلوع الفجر فيقول: يا ابن آدم! إن أمسي قد ذهب بما فيه، وختم على أعمالي، وإنك أمامك الغد فاجتهد فيه.
ولهذا يقول أحد العلماء: أقبل على صلواتك الخمس كم مصبح وعساه لا يمسي واستقبل اليوم الجديد بتوبة تمحو ذنوب صحيفة الأمس فليفعلن بوجهك الغض البلى فعل الظلام بصورة الشمس وهذا التدريج الحاصل في الوقت بين الله سبحانه وتعالى حكمته في قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:61 - 62]، فالليل والنهار جعلهما الله تعالى خلفة يتعاقبان، فمن لم يزعه النهار ولم يذكره بالتوبة فإن الليل كفيل بذلك، ومن لم يزعه الليل ولم يذكره بالتوبة فإن النهار كفيل بذلك، والله سبحانه وتعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.(9/6)
العدو الرابع: الأهل والأموال والأقارب
إن الإنسان قد يلهى بهم ويشغل فيفتن بهم، كما قالت الأعراب: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح:11]، والله سبحانه وتعالى حذر من أن بعض هؤلاء من هو عدو للإنسان، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14]، وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15].
والله تعالى يقول: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]، وعلى هذا فكثيراً ما يبتلى الإنسان بما يشغله عن ذكر الله من الأهل والأموال، فيكون ذلك ملهاة له عن ذكر الله، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9]، قد خسروا لأن العلاقة بهؤلاء منقطعة يوم القيامة، والمتاع في هذه الدنيا قليل يسير؛ لأنها دار الغرور، ولذلك فبقاء الإنسان مع أهله وماله في هذه الدنيا محصور، وانتفاعه منهم يسير، وهو منتقل إلى دار البقاء والخلود، فلهذا عليه أن لا يغتر بوجود هؤلاء.(9/7)
العدو الثالث: إخوان السوء
هم الذين لا يعينون الإنسان على دين ولا دنيا، وهم أخلاؤه الذين يشغلونه عن طاعة الله، ويلهونه بما لا يرضي الله، فهم أعداء له يقتطعون جزءاً من وقته في غير طائل، ولذلك قال الله تعالى: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
ويقول تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27 - 29].
والإخوان ثلاثة أقسام: القسم الأول: أخ كالغذاء لا تستغني عنه أبداً، وهو الذي يعينك على أمر دينك ودنياك.
القسم الثاني: أخ كالدواء تحتاج إليه في بعض الأحيان، ولكن لا ينبغي أن تكثر منه، وهو الذي يعينك على أمور دنياك فقط.
القسم الثالث: أخ كالداء، لا يعينك على دين ولا على دنيا، وإنما يقتطع جزءاً من عمرك فيضيعه عليه.
ولهذا يقول أحد العلماء: الناس منهم دواء فاتخذه له إليه تحتاج أحياناً فأحيانا ومنهم كالغذاء الدهر تطلبه فلست عنه غنياً أينما كانا وكم أخاً لست محتاجاً له أبداً كالداء يشقى به الإنسان أزمانا(9/8)
العدو الأول: الشيطان الرجيم
قال الله فيه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6].
ومشكلة الشيطان والناس أن الناس يصدقون الخبر ولا يمتثلون الأمر، فهذه الآية متضمنة لخبر وأمر، فقوله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر:6] هذا خبر يصدقه كل الناس، والأمر: {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6]، هذا أمر لا يعمل به إلا قليل من الناس، فإذا تذكر كل واحد منا أن الشيطان عدو له علم أن العدو لا بد أن يبذل الإنسان في سبيل عداوته شيئاً؛ إذ لا يمكن أن تستشعر أن هذا الشخص عدو لك ولا تبذل أي شيء في سبيل عداوته وضرره.
إن عداوتك للشيطان هي بعداوتك لآرائه وما يلقيه عليك، ووسوسته وشبهه، وكذلك بعداوتك لحزبه الذين يصدون عن سبيل الله.(9/9)
العدو الثاني: النفس الأمارة بالسوء
قال الله فيها: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53].
والنفوس التي تجبل على طول الأمل وعلى العدول إلى الراحة والطمأنينة تغر الإنسان بنفسه، وتجعله يضيع الفرص النادرة، فهي عدو من هذا القبيل، ولهذا حذر الله من غوائلها، وحقوق النفس على الإنسان ثلاثة: هي الانتصار منها للغير، وترك الانتصار لها، والخوف من غوائلها.
ثلاثة حقوق من جمعها أدى حقوق نفسه.
أولها: ترك الانتصار لها، فإذا زينت لك أنك قد اعتدي على حقوقك، وأنك لا بد أن تدافع عن نفسك وأن تأخذ حقك كاملاً فاعلم أن هذا هو عين الغرور، وأنها إنما تغرك بذلك، فهذا غرور وليس صواباً ولا حقاً، فلا تصدقها في ذلك.
ثانيها: الانتصار منها للغير، أن تأخذ منها الحقوق للآخرين كاملة غير منقوصة، وإذا لم تفعل ذلك كنت مطففاً، والله تعالى يقول: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:1 - 6].
وقد قال مالك رحمه الله في الموطأ: يقال: لكل شيء وفاء وتطفيف.
أي: كل شيء أياً كان فيه وفاء وتطفيف.(9/10)
عمر الدنيا وحتمية انقضائها ونهايتها
العمر الثاني بعد العمر الشخصي هو عمر هذه الدنيا التي لها نهاية حتمية لا بد منها، ومشكلتها أن نهايتها مثل نهاية العمر الشخصي بغتة: {لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} [الأعراف:187].
لكننا نعلم أن الإنسان إذا طلعت عليه الشمس من مغربها -ولا يدري متى تطلع- لا يمكن أن يستفيد من عمل إذا كان مقصراً، كما قال الله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158].
فعمر هذه الدنيا فائدته أن الإنسان يقدم فيه لنفسه ويتوب ويستغفر ما دام باب التوبة مفتوحاً، وهو باب من قبل المغرب، فإذا طلعت منه الشمس أغلق هذا الباب فلم تقبل توبة أحد.
ولهذا فإن هذه الدنيا فانية، وهي ذاهبة منطلقة، كما قال علي رضي الله عنه في خطبته: (هذه الآخرة قد أقبلت، وتلك الدنيا قد أدبرت، فليتذكر الإنسان أنه اليوم في آخر هذه الدنيا في آخر الأمم).
وقد مضت الأمم كلها قبلنا وجئنا على الأثر، فنحن اليوم لا ننتظر إلا ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه عنه الترمذي في السنن في قوله: (بادروا بالأعمال ستاً: فهل تنتظرون إلا غنىً مطغياً، أو فقراً منسياً، أو هرماً مفنداً، أو مرضاً مقعداً، أو الدجال فالدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)، لهذا فإن فرصة هذه الدنيا فرصة لا تعوض، فعندما يؤتى بالناس فينادي المنادي في الناس: هلموا إلى ربكم، فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون، ويجتمعون في الساهرة، ويؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف ملك، وتحيط بالناس من كل جانب، وتدنو الشمس ميلاً، ويتجلى الباري سبحانه وتعالى لفصل الخصام: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، حينئذ يعرف الإنسان أن هذه الدنيا كانت نعمة عظيمة؛ لأنها الوقت المتاح للعبادة، ولأن الآخرة لا يطلب من الإنسان فيها عمل، ولذلك فإن نعمة وجودنا في هذه الدنيا نعمة لا بد من استحضارها والسعي لاستغلالها في الوجه الصحيح، فهي فرصة لا تعوض، ونحن لا ندري متى تطلع الشمس من مغربها ويغلق باب التوبة، ولذلك علينا أن نبادر بالتوبة كما أمرنا الله سبحانه وتعالى حيث قال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، وفي قوله: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:53 - 54]، وكذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8].(9/11)
عمر التمكين وكيفية استغلاله
العمر الثالث: هو عمر التمكين.
فإن الله سبحانه وتعالى أتاح لنا في هذه الدنيا كثيراً من الإمكانات، التي مكن لنا فيها، ولها أعمار محددة كأعمارنا نحن وآجالنا.
للإنسان جوارح هو ممتع بها اليوم، لكن لها آجال تنتهي إليها، فهذا البصر له أجل ينتهي إليه، سواءٌ أكان ذلك الأجل بالموت أم بما قبله، فكم من إنسان نام على فراشه ممتعاً بسمعه وبصره ثم استيقظ وقد أخذ الله بصره، أو أخذ سمعه، أو شل جهازه العصبي فاستيقظ وهو لا يتصرف في شيء من بدنه.
إن نعمة التمكين في هذا البدن نعمة عظيمة، نعمة التصرف، ولا يدركها إلا من رأى الآخرين يسلبون هذه النعمة، من رأى أن أقواماً كانوا أقوى منه أبداناً وأبلغ عناية بصحتهم، ومع ذلك ينام أحدهم يتقلب على فراشه يميناً وشمالاً معافىً في بدنه فيستيقظ وليس به حراك، أو يستمر في نومته تلك فيزايله عقله إلى أن يموت، إنها نعمة عظيمة، نعمة العقل والجوارح، ولها آجال محددة، فعلى الإنسان أن يستغلها فيما يرضي الله قبل زوالها، وبئس العبد الذي لا يعرف النعمة إلا بزوالها، لا يعرف النعمة بدوامها وإنما يعرفها بزوالها.
كذلك فإن ما مكننا الله سبحانه وتعالى فيه مما جعل تحت أيدينا من الأموال والوظائف والعلاقات له آجال محددة؛ لأن الإنسان قد يعين في وظيفة وفي علم الله أن لتلك الوظيفة أجلاً مسمى، فإذا لم يبادر لاستغلالها فيما يرضي الله فستكون عليه حسرة وندامة، ويخرج منها صاغراً، وكذلك فإن ما يجعله الله تحت أيدينا من الأموال له آجال محددة؛ لأن المال مال الله ليس مال الناس، والإنسان فيه وكيل ينتظر العدل في كل حين، ولهذا قال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، وعدله إما بموته، أو بإزاحة ماله، أو بفرض الحصار عليه، أو بفرض الحجر عليه بأن يفلس، كل هذا ممكن، ونحن نشاهده ونراه في كثير الناس، وإذا علمنا ذلك وأيقناه وشاهدناه فإن هذا مقتض منا أن نستغل ما جعل الله تحت أيدينا، وأن ننتهز الفرصة ما دام ذلك ممكناً.
كذلك العلاقات التي يهبها الله لمن شاء من عباده لها آجال محددة، والله يسأل عن صحبة ساعة، فالساعة التي تمضيها جالساً إلى شخص أياً كان هي علاقة حصلت بينك وبينه، إذا لم تؤد حق الله فيها وتنصح وتأمر بالمعروف وتنه عن المنكر فقد ضاعت هذه الفرصة وانتهت، ويمكن أن لا تلتقي مع هذا الشخص أبداً.
ولله عينا من رأى من تفرق أشت وأنأى من فراق المعصب فريقان منهم سالك بطن نخلة وآخرُ منهم جازع كبكب فجلوسنا يمكن أن يعقبه افتراق إلى غير رجعة، وعلى هذا فمن حق الله علينا إذا جلسنا أن يذكر بعضنا بعضاً في ذات الله، وأن ينصح له، وأن لا تفوت هذه الفرصة، وأي ساعة يسأل الله عنها إذا استغلت في غير طائل، فكم عرف كل واحد منا من الأصدقاء الذين صحبهم زمناً وقد حال الموت بينه وبينهم، ولا يتذكر أنه قد أدى إليهم حق النصيحة في يوم من الأيام ولا في ساعة من الساعات! وهم خصومه يوم القيامة، فيجادلونه بين يدي الله: رأيتنا على كذا فلم تنهنا.
فلذلك علينا أن نستغل هذه الفرص، وأن لا ندعها تضيع.
ثم بعد ذلك فإن مما مكننا الله سبحانه وتعالى فيه ما نجده في حياتنا هذه من الاتساع والطمأنينة والأمان الذي يوشك أن يتغير، وأحوال الدنيا غير ثابتة، فهي متغيرة لا محالة، هي عرض سيال جار، ومن هنا فكل ما فيها متغير، فعلينا أن ننتهز فرص ما مكننا الله سبحانه وتعالى فيه، وأن نعلم أن له أعماراً محددة ينتهي إليها، ولهذا فلنتذكر الصوارف التي تشغلنا ونحاول التغلب عليها.
وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن مما يكفر السيئات وترفع به الدرجات انتظار الصلاة بعد الصلاة في المسجد، وكثرة الخطا إلى المساجد، وإسباغ الوضوء على المكاره، لكنَّ قليلاً منا من يستطيع انتظار الصلاة بعد الصلاة في المسجد، مع علمه بما أعد الله لمن فعل ذلك، ويعلم أن الملائكة تصلي عليه في مجلسه تقول: اللهم! اغفر له، اللهم! ارحمه.
ودعاء الملائكة مستجاب.
كثير منا تعترضه الأشغال وتأتيه الوساوس والأوهام الصارفة له عن اغتنام هذه الفرص، مثل الجلوس ما بين صلاة المغرب والعشاء فقط، وهو وقت يسير ومحصور، مع علمه بحاجته إلى دعاء الملائكة، كل واحد منا اليوم إذا رأى أي مسلم من المسلمين يظن به الخير يحاول أن يستخلص منه دعوة صالحة لعله يستجاب لها، فكيف بدعاء الملائكة المقربين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؟ إنها فرص عظيمة تفوت وتزول دون أن تستغل، وإن الإنسان إذا جلس يحاسب نفسه على هذه الفرص النادرة سيجد خسارة عظيمة لا تقدر بثمن، إن عمر التمكين هذا يزول بالتدريج والتقصير، فما ينتقص من بصرك لا تشعر به إلا إذا وصلت إلى حد المعاناة في القراءة مثلاً، أو في إدراك الأشياء، وهكذا ما ينتقص من رزقك، وما ينتقص من كل ما جعل الله تحت يدك يأتي انتقاصه بالتدريج والتقصير.
ولهذا يمكن أن تكون قد بدأت بالعد التنازلي وأنت لا تشعر، كما قال الله تعالى: {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف:185]، فعلى الإنسان أن يبادر، وأن ينتهز هذه الفرص قبل فوات الأوان، وأن يعلم أن الرشيد العاقل هو الذي إذا جاءه النذير وفهم وتدبر استفاد من ذلك، أما من لا يتعظ ولا يعتبر، أو إذا سمع الموعظة والعبرة تذكرها في وقت السماع ثم انصرف ونسيها ولم تؤثر في عمله فهذا ليس صاحب عقل ولا صاحب إيمان؛ لأن الله تعالى يقول: {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].
ولذلك فإن حاجة الإنسان إلى الذكرى هي مثل حاجته إلى الغذاء والماء.(9/12)
أقسام الناس في التذكر والذكرى
والناس في سبيل الذكرى ينقسمون إلى أربعة أقسام: القسم الأول: قوم لا يستطيعون تحمل الذكرى ولا سماعها بالكلية، ولذلك يكرهون المواعظ ويكرهون سماعها، وهؤلاء هم الكثرة الذين قال الله فيهم: {فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:49 - 51]، فهم يفرون من الذكرى كما يفرون من الأسد، {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفَرَةٌ} [المدثر:50]، وفي قراءة أخرى: {مُسْتَنْفِرَةٌ} [المدثر:50] أي: قد نفرت من تلقاء نفسها، أو نفرت فأسرعت {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:51] أي: من أسد.
القسم الثاني: الذين يسمعون الذكرى بآذانهم، ولكن آذانهم غير أمينة فلا توصلها إلى قلوبهم؛ لأنه قد انقطع البث بين الأذن والقلب بسبب الختم الذي ختمه الله على القلوب، وهؤلاء هم المنافقون الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد:16].
القسم الثالث: قوم يُفصِّلون في الذكرى، فيستطيعون سماعها من بعض الناس لأنه يعجبهم، ولا يستطيعون سماعها من آخرين لأنهم ليسوا على المستوى الذي يعجبهم ويناسبهم، وهؤلاء الذين في قلوبهم مرض فيريدون التفصيل، من أعجبهم شكله أو نسبه استطاعوا أن يتحملوا منه أو يسمعوا، وهنا لم يستمعوا إلى الذكرى وإنما استمعوا إلى الأشخاص، ولذلك قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:31 - 32].
القسم الرابع: قوم يسمعون الذكرى من أي طرفٍ صدرت، فيستفيدون منها، ويستغلون ذلك الاستغلال الصحيح، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:9 - 10]، فالذين يخشون الله هم الذين سيذكرون، {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:10 - 13]، وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} [الفرقان:73]، وقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:17 - 18]، وقال تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:11]، وقال تعالى: {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، فهؤلاء هم المستفيدون من الذكرى الذين ينتفعون بها.
نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يجعلنا من الذين ينتهزون الفرص قبل فوات الأوان، وأن يجعلنا من الذين لا يندمون حين يندم الناس حيث لا ينفع الندم، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعل خير أعمارنا آخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاه، ونسأله سبحانه وتعالى الفرح عند لقائه.
اللهم! صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم اختم بالحسنات آجالنا، واختم بالصالحات أعمالنا، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم! وفقنا لما يرضيك عنا يا أرحم الراحمين، اللهم! اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق واصرف عنا سيئها، لا يهدي لأحسنها ولا يصرف سيئها إلا أنت، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(9/13)
الأسئلة(9/14)
حكم تكفير المسلمين وشروط تكفير المعين
السؤال
بعض العلماء ينكرون على الدعاة ويكفرونهم -حسبنا الله ونعم الوكيل، فما جواب ذلك؟
الجواب
تكفير المسلم خطره عظيم جداً، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما)، وقال: (تكفير المسلم كقتله)، وقال: (إن قال الرجل لأخيه: كافر فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه) وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من التكفير تحذيراً بالغاً، ولذلك لا يحل تكفير المسلمين، وعلى المسلم أن يتقي الله، ويعلم أنه إذا كفره وهو غير كافر في علم الله فقد رجعت عليه وحارت عليه، ويكون هو كافراً، نسأل الله السلامة والعافية، ولهذا فالتكفير صعب جداً.
والتكفير المعين يشترط له سبعة شروط: الشرط الأول: أن لا يكون من قال الكفر أو فعله مكرهاً عليه؛ لقول الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106].
الشرط الثاني: أن لا يكون جاهلاً؛ لقول الله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138]، ولم يقل: إنكم قوم تكفرون.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر على شجرة كانت تدعى في الجاهلية (ذات أنواط)، فقالوا: (يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، قال: الله أكبر! إنها السنن، قلتم -والذي نفس محمد بيده- ما قال أصحاب موسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)، ولم يكفر أحداً منهم.
الشرط الثالث: أن لا يكون الإنسان مقلداً إذا جرت عليه العادة في بلده، فإن وجد الناس على شيء لا ينكرونه ففعله أحدهم -ولو كان ذلك كفراً- فإنه لا يكفر به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحلفوا باللات ولا بالعزى، فمن قال ذلك فليقل: آمنت بالله)، وسمع عمر يحلف بأبيه فقال: (لا تحلفوا بآبائكم، فمن حلف بغير الله فقد أشرك)، ومع ذلك لم يكفر أحداً بهذا الحلف.
الشرط الرابع: أن لا يكون مغطىً على عقله مغلوباً عليه، فإن كان مغطىً على عقله مغلوباً عليه فإنه لا يكفر بذلك؛ لقصة الرجل التي قصها لنا النبي صلى الله عليه وسلم (أن رجلاً كان عاصياً، فلما دنا أجله جمع أولاده وأخذ عليهم العهود والمواثيق إذا هو مات أن يحرقوا جثته وأن يقسموا رماده نصفين فيرموا نصفه في البر ونصفه في البحر، قال: فلإن قدر الله علي ليعذبنني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين - يشك في قدرة الله -.
فلما مات فعلوا به ما أمر، فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه، فقام بشراً سوياً، فقال: إيه عبدي! ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيت يا رب، فغفر له)، فهذا كان مغطىً على عقله بخشية الله وقت موته، فلذلك غفر الله له، مع أن ما قاله هو كفر.
الشرط الخامس: أن لا يكون غالط اللسان، فإن غلط لسانه وقال الكفر من غير قصد فإنه لا يكفر بذلك؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (أن آخر رجل يدخل الجنة يقول: اللهم! أنت عبدي وأنا ربك.
أخطأ من شدة الفرح)، وكذلك في الحديث الذي في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من أحدكم تكون معه راحلته وعليها زاده ومتاعه بفلاة من الأرض، فتنفلت منها فيتبعها، حتى إذا أيس من نفسه رأى شجرة فقال: لعلي أموت عندها.
فبينما هو كذلك إذا راحلته عنده فأمسك بخطامها وهو يقول: اللهم! أنت عبدي وأنا ربك.
أخطأ من شدة الفرح)، فهذا لا يكفر به.
الشرط السادس: أن يكون الإنسان قد أقيمت عليه الحجة، فإذا لم تقم عليه الحجة فإنه لا يكفر؛ لقول الله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15].
الشرط السابع: أن يثبت ذلك عليه؛ لأن التكفير حكم قضائي يحتاج إلى إثبات، فالمتأول الذي لا يقصد الكفر وإنما اجتهد فأخطأ لا يكفر بذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر).
ثم إن على الإنسان أن يتهم نفسه فيمن يعاديه ويواليه، فالعداء والولاء أمران من أمور العقيدة، والله سبحانه وتعالى بين للمسلمين من يحق لهم أن يوالوه ومن يحق لهم أن يعادوه، فقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56].
وبين لهم من يعادونه فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1] إلى آخر السورة، وكذلك قال: {لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} [النساء:144]، وقال: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22].
فإذاً الذي يعاديه الإنسان ويواليه معروف محصور، وعلى هذا فلا يحل للإنسان أن يعادي إنساناً آخر على أساس أنه يدعو إلى خير مثلاً، بل هذا حقه أن يواليه، وإذا أخطأ نصح له، كما أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة.
قلنا لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم)، فلا بد من تناصح المسلمين فيما بينهم.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم، إلا آكلة الخضر) يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن ما أخوف ما أخافه عليكم - أي: على هذه الأمة - ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا)، فإنها لم تفتح في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أكرمه الله بأن لم يُرِهِ فتح الأمصار، وإنما أعطاه مفاتيح خزائن كسرى وقيصر، وأخبر أن خزائنهما ستنفق في سبيل الله، لكن أكرم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن لم ير ذلك، ولم ير الحضارة، ولم ير انفتاح أبواب الدنيا على هذه الأمة، فشرفه الله عن ذلك، فهو أكرم على الله من أن يعيش كما يعيش الناس في هذه الدنيا، ولهذا شرفه الله فلم تفتح هذه الفتوحات والخزائن التي وهبه الله إلا بعد موته.
(إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة) أي: إن هذه الدنيا بمثابة النبات، فهي خضرة حلوة، فهذا داع للازدياد منها، والإنسان الذي يجمع المال إذا غفل عن هدفه فإنه لن يكتفي، فهدفه في البداية هو الاستغناء عن الناس، فهو يريد أن يستعف بما يؤتيه الله، ويريد أن يتقرب إلى الله بما يتصدق به من ماله وبما يؤدي به الحقوق، يريد أن يتعز وأن لا يكون ذليلاً مسكيناً، لكنه يغفل عن هذا فيجمع فوق ما يكفيه لتحقيق هذه الأهداف، وما يزال يزيد على ذلك، فاثنان لا يشبعان: طالب الدنيا وطالب العلم، فطالب العلم لا يزداد من الله إلا قرباً، وطالب الدنيا لا يزداد من الله إلا بعداً.
ومن هنا قال: (فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم)، أي: إن مما ينبت الربيع بسبب نزول المطر ما يقتل حبطاً -أي: انتفاخاً- يقتل البهائم بالانتفاخ.
وقوله: (أو يلم) أي: يقارب ذلك، (إلا آكلة الخضر) هو نبات ليس من أعز النبات على الحيوانات البهيمية، ولكنه مع ذلك كاف من ناحية التغذية، ولهذا قال: (وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر فإنها رتعة) أي: آكلة من الخضر (حتى إذا امتدت خاصرتها) أي: نالت كفايتها (حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت) أي: أخرجت بعض ما في بطنها (وبالت ثم رتعت بعد ذلك).
وهكذا طالب الدنيا ينبغي أن يجعل لنفسه وقتاً للراحة من الجمع، وأن لا يجعل عمره كله كداً لا ينقطع، فإذا كانت العبادة التي يتقرب بها إلى الله ينبغي للإنسان أن لا ينقطع فيها ليله ونهاره، وأن لا يسرف فيها، فكيف بجلب الدنيا؟.
يقول البخاري في الصحيح: حدثنا عبد السلام بن مطهر قال: حدثنا عمر بن علي قال: حدثنا معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة).
وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((9/15)
الفرق بين الدعاة إلى الجنة والدعاة إلى النار
السؤال
بعض الناس لا يتقبل التذكرة من بعض الدعاة، بل يصفهم بأنهم دعاة على أبواب جهنم، فما حقيقة ذلك؟
الجواب
الجنة والنار لكل واحدة منهما دعاة يدعون إليها، فالدعاة الذين يدعون على أبواب الجنة هم الذين يدعون إلى الصلاة وبر الوالدين والصدقة وقراءة القرآن والاستغفار وغير ذلك، فهؤلاء دعاة على أبواب الجنة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الجنة باباً هو باب الصلاة، وباباً هو باب الصدقة، وباباً اسمه: (الريان) لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوه أغلق فلم يدخل منه أحد)، فأبواب الجنة هي كبريات الطاعات.
كذلك أبواب النار هي كبريات الفواحش والمعاصي، فللنار دعاة أيضاً يدعون إليها، كالذي يدعو إلى الزنا، أو إلى قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، أو إلى السفور والفجور، أو إلى السفور والاختلاط، أو إلى عقوق الوالدين، أو إلى ترك الصلاة، فهؤلاء يدعون إلى أبواب النار، وهم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها؛ لأنهم يدعون إلى هذه المعاصي التي هي أبواب النار.
وحينئذ لا يمكن الالتباس بين الجانبين، فالذي يدعو إلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة لا يمكن أن يقال: إنه من الدعاة إلى أبواب جهنم.
لأنه يدعو على أبواب الجنة، والذي يدعو إلى الزنا وشرب الخمر والفواحش كلها لا يمكن أن يقال: إنه من الدعاة على أبواب الجنة.
بل هو داع على أبواب النار، والفرق واضح، ولا يمكن أن يقع التباس بين الجانبين.(9/16)
حكم دخول الرجل على جمع النساء للتعليم
السؤال
ما حكم جمع النساء في مكان لتعليمهن وموعظتهن من قبل رجل ليس لهن بمحرم، وهل يعتبر هذا من الاختلاط غير المشروع؟
الجواب
صح: (أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! أنا وافدة النساء إليك؛ فإن إخواننا من الرجال قد غلبونا عليك، فاجعل لنا يوماً من نفسك.
فواعدهن يوم الخميس، فكن يجتمعن إليه فيعلمهن ويذكرهن، وكان مما قال: ما من امرأة يموت لها ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا كانوا لها ستراً من النار، فقالت امرأة: واثنين؟ فقال: واثنين).
وكذلك صح في الصحيحين: (أنه صلى الله عليه وسلم يوم العيد حين خطب ظن أنه لم يسمع النساء، فتوكأ على بلال فوقف على النساء فوعظهن وذكرهن، وقال: يا معشر النساء! تصدقن؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة من سطة النساء في وجهها سفعة فقالت: ولم يا رسول الله أيكفرن بالله؟! فقال: يكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً.
قالت: ما رأيت منك خيراً قط.
فجعل النساء يتصدقن، وبسط بلال ثوبه فجعلن يرمين فيه ما معهن من الذهب).
فهذا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من الأمور المشروعة، وهذا ليس اختلاطاً؛ لأن الاختلاط هو مماسة أجساد الرجال لأجساد النساء الأجانب أو الاقتراب من ذلك، والاختلاط محرم، ولكن ليس هذا منه؛ لأن هذا هو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه في التعليم، وقد كان أصحابه رضي الله عنهم يفعلون ذلك أيضاً، وهكذا السلف الصالح كلهم، سواء أكان بحائل أم بدونه إذا لم تخش الفتنة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إليهن وليس بينه وبينهن حجاب، كما ثبت في الصحيحين في الحديث الذي ذكرناه في خطبة العيد، وفي تدريسه لهن يوم الخميس، ولكن لا شك أن جعل الحاجز بين الإنسان وبينهن أحوط لعدم الريبة.(9/17)
الأسباب التي تعين على التوبة
السؤال
ما يفعل من يريد التوبة ويحول دونها العوائق الدنيوية؟
الجواب
عليه أن يستعين بالمعينات التي تعين على التوبة، ومنها تذكر الآخرة، وصحبة أهل الخير، وعدم الإسراف في مشاغل الدنيا، وتعلم العلم، فهذه هي الأمور التي تعين على التوبة، فعدم الإسراف معين على عدم الغفلة، ويشمل ذلك سهره بعض الليل، وبعض العزلة، وكذلك مخالطته لأهل الصلاح والهداية، فإنها مقتضية لحصول المنافسة: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، وإذا رآه من أناس تذكر ما هم فيه وأنهم مقبلون على الله، فبمجرد رؤيتهم يزيده ذلك إقبالاً على الله سبحانه وتعالى.(9/18)
الإنسان بين الخاطر الإلهي الملكي والخاطر الشيطاني النفسي
السؤال
ما الفرق بين أمر النفس بالسوء.
وأمر الشيطان الذي يأمر بالسوء أيضاً؟
الجواب
الخواطر التي تعتري الإنسان أربعة أقسام: خاطر إلهي -أي: رباني-، وخاطر ملكي -أي: لمة الملك-، وخاطر شيطاني، وخاطر نفساني.
فهذه أربعة أقسام.
فالخاطر الرباني هو ما يلقيه الله سبحانه وتعالى في قلب عبده المؤمن، ولا يكون إلا خيراً، وهو غير متذبذب، وينال الإنسان بأدائه سعادة عظيمة، ويستشعر فرحاً عظيماً وراحة قلبية عجيبة، وذلك عندما يؤدي هذا الذي ألقي في قلبه أن يفعله، فينام الإنسان على فراشه فيستيقظ وقد ذهب الكرى من عينيه بالكلية، فيأتي خاطر في قلبه أن يقوم ويتوضأ ويصلي ركعتين يعفر وجهه لله في هذا الوقت الذي قد شغل الناس فيه عن طرق باب الله، منهم من شغل بالنوم، ومنهم من شغل بالغفلة، ومنهم من شغل بالكفر، ومنهم من شغل بالمعصية، فيستفتح هذا الباب فيفتح له، كما قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي رحمه الله: الحمد لله الذي أذن لعباده بطاعته، فخروا بين يديه متذللين، ولوجهه معظمين، لم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أودية ولا رفع شعاباً.
فهؤلاء استشعروا عظم هذا الموقف حين أذن لهم بطرق هذا الباب الذي لم يؤذن بطرقه لكثير من الناس، استشعروا طعم صلاة الليل والناس نيام، واستشعروا الإقبال على الله سبحانه وتعالى بقلوب مطمئنة، فلذلك كانوا أهل الله سبحانه وتعالى وخاصته في هذا الوقت وأهل المناجاة والقرب.(9/19)
مراتب استشعار النعمة وشكرها
السؤال
كيف يستشعر الإنسان نعمة الله عليه، وما شكر النعمة؟
الجواب
استشعار النعمة بثلاث رتب: الرتبة الأولى: أن ينظر الإنسان إلى هذه النعمة فيقر بها ويعرفها بوجودها لا بزوالها.
الرتبة الثانية: أن يتذكر من أين له هذه النعمة، حتى لا يقول ما قال قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78].
الرتبة الثالثة: أن يقيدها بالشكر، والشكر يشمل الشكر اللساني بأن يذكر نعمة الله، والله سبحانه وتعالى يحب أن تشكر نعمه، وقد ارتضى لعباده ذلك وأرشدهم للشكر فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وهذا هو أبلغ شكر يشكر الله به، فأبلغ ما يشكر الله به الثناء عليه بما أثنى به على نفسه، ثم بعد ذلك الشكر الفعلي، وهو بصرف تلك النعم فيما يحب الله صرفها فيه، وأن يعلم الإنسان أن كثيراً من الناس يدعي المعاذير لنفسه، ومنهم النفر الذين هم أول من تسعر بهم النار -نسأل الله السلامة العافية-، وهؤلاء النفر الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار أحدهم آتاه الله علماً فعلّم، فأتى به يوم القيامة فعرفه نعمته عليه فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ فقال: يا رب! علمتها فيك.
فيقول الله: كذبت.
وتقول الملائكة: كذبت، إنما علمت ليقال: عالم.
فقد قيل.
فيؤمر به فيجر على وجهه فيرمى في النار -نسأل الله السلامة والعافية-.
والثاني: رجل آتاه الله من أصناف المال ما آتاه، فدعاه يوم القيامة فعرفه نعمته عليه فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ قال: لم يبق وجه تحب أن يصرف فيه المال إلا صرفته فيه.
فيقول الله: كذبت.
وتقول الملائكة: كذبت، إنما أنفقت ليقال: جواد.
فقد قيل.
فيؤمر به فيجر على وجهه فيرمى في النار.
والثالث: رجل قواه الله في بدنه فقاتل حتى قتل، فدعاه الله يوم القيامة فعرفه نعمته عليه فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ فيقول: يا رب! جاهدت فيك حتى قتلت.
فيقول الله: كذبت.
وتقول الملائكة: كذبت، إنما قاتلت ليقال: شجاع.
فقد قيل.
فيؤمر به فيجر على وجهه فيرمى في النار.
ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5].
فالإخلاص هو أساس هذا العمل كله، ولا يمكن أن يستشعر الإنسان نعمة الله عليه وأن يشكرها إلا إذا أخلص في ذلك الشكر لله سبحانه وتعالى، وأدى الحق الذي لله عليه في ذلك، ومن هنا فالأوقات كلها نعم على الإنسان أن يستشعرها وأن يصرفها في الوجه الصحيح، وكثير من الناس يقول: أنا أفعل كذا أقتل به الوقت.
كأن الوقت عدو له، وما له عدو إلا هذا الوقت الذي يريد القضاء عليه وقتله.(9/20)
حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
بعض الفقهاء أجاز الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه؟
الجواب
هذا الأمر لا دليل فيه، والاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم تعبد، والتعبد مقصور على النص، والنبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أن الاحتفال بمولده هو صيام يوم الإثنين، فقد صح في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم الإثنين فقال: ذلك يوم ولدت فيه)، وعلى هذا فالاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم هو أن يصوم الإنسان يوم الإثنين إن استطاع بصفة دائمة، وإلا فما تيسر من ذلك، أما غير هذا فلم يرد عنه صلى الله عليه وسلم ولا أرشد إليه، وهو مخالف لهديه ولسنته ولعمل خلفائه الراشدين وهم أحب الناس إليه وأولاهم به.(9/21)
عوامل تقوية الإيمان
السؤال
ما هي عوامل تقوية الإيمان؟
الجواب
ترسيخ الإيمان إنما يتم بالإقبال على الله سبحانه وتعالى وقوة الدافع لكل عمل، فالذي يصلي وصلاته إنما هي عادة من حياته، كما قيل: ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب.
فوجد أسلافه يصلون فهو يصلي كما كانوا يصلون، ووجدهم يزكون فهو يزكي كما كانوا يزكون لا ينتفع بهذه العبادات، ولا تباشر شغاف قلبه، ولا يصل الإيمان إلى شغاف قلبه.
لكن الذي يصلي وهو يتذكر الدافع العقدي الذي جعله يصلي ستنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، وأنا أعرف أن كثيراً منا يقول: أنا أصلي لا أتركها، ومع ذلك لا أجد صلاتي تنهاني عن الفحشاء والمنكر، وأزكي ولا أتركها، ومع ذلك لا أجد زكاءً بسبب الزكاة، وأصوم ولا أترك الصيام، ومع ذلك لا أجد طهرة كما يطهر الصيام أهله، وأحج، ومع ذلك لا أجد أثر الحج البالغ في زيادة الإيمان، فما السبب؟ الجواب أن هذا إنما يفعله الإنسان تقليداً وعادة، ولم يتذكر الدافع العقدي له، لكن إذا كان يصلي بهذا الدافع العقدي ويزكي به ويصوم به ويحج به ويتذكر قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:162 - 163] فإنه سيستفيد من عباداته ويتقوى إيمانه بذلك.
وكذلك مما يعين على تقوية الإيمان حضور القلب بأداء العبادات، وتزكيتها بالنيات، فإذا خرج الإنسان من بيته تذكر أن كل حصاة وكل ذرة من الأكسجين وغيرها ستشهد له في مسيرته إلى أن يرجع، ويتذكر كذلك قصده، وأنه إنما قصد الابتغاء لمرضاة الله وأداء ما افترضه الله عليه في المسجد، وأنه يريد بذلك حسن الخاتمة، كما في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن؛ فإنهن من سنن الهدى، وإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، ولعمري لو أن كل أحد منكم صلى في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد رأيت الرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).
وأن يتذكر الإنسان كذلك أنه سيعمر بيتاً من بيوت الله، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة:18]، وأنه سيلقى أهل الإيمان في المسجد من الملائكة وصالح الإنس والجن فيزيدونه إيماناً وتثبيتاً، وكذلك فإنه يلقى الملائكة الذين يكتبون الناس على أبواب المساجد الأول فالأول، وهكذا، فيكون في المسجد قد حبس جوارحه عن المعصية وأقبل بها على الله سبحانه وتعالى، فهذا مما يقوي الإيمان.
وكذلك مما يقويه صلاة الرجل في الليل والناس نيام، عندما ينام الناس فيتجافى جنبه عن المضجع، فهذا من أقوى ما يقوي إيمانه بالله، ولذلك قال الله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:16 - 18].(9/22)
علاج نسيان المواعظ وعدم العمل بها
السؤال
ما العلاج المقترح لمن يسمع المواعظ دائماً وسرعان ما ينساها لكونه لا يعمل بمقتضاها لقساوة قلبه، مع أنه يأسف لذلك ويحاول التغلب عليه؟
الجواب
على من يجد هذا أن يكثر من الاستغفار والتوبة، وأن يكثر مما يذكره بالآخرة، ومما يذكره بالموت؛ فإن ذلك مدعاة إلى أن ينتفع بالذكرى.(9/23)
دعوة التجار إلى الإنفاق في أبواب الخير
السؤال
نلاحظ أن أهل الخير من أهل الأموال لم يكن لهم ذلك الدور الفعال الذي يعود بالنفع العميم على هذه الدعوة المباركة، والمطلوب هو الدلالة على بعض المشاريع التي يمكن أن يلجوا منها لخدمة الدين، لعل الدعوة لمثل هذه المشاريع تكون سبب زوال هذا التقصير الملحوظ.
الجواب
إن أبواب الخير كثيرة جداً، وإن الإنسان مسئول عن جميعها، وعليه أن يجتهد في أقربها إلى الله سبحانه وتعالى وأكثرها ملائمة لمقاصد الشرع، ولا شك أن من ائتمنه الله سبحانه وتعالى على جزء من المال وجعله تحت يده ينبغي أن يكون مسئولاً عن عيال الله المحتاجين، والناس عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله، ولذلك فإن أغنياء العالم وتجاره هم الذين يقومون بنشر الخير، ومساعدة أهله، وبناء جيل التعليم النافع الذي يتعلم فيه الناس العلم والعمل، وكذلك في القيام برعاية اليتامى والمحتاجين، وهذه الأمور واضحة للعيان، والناس يرونها، فبناء المساجد، والإنفاق على العدد الكبير من اليتامى وكفالتهم، والقيام كذلك ببناء بعض المدارس الإسلامية التي يدرس فيها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أوجه الخير التي قام بها رجال الخير.(9/24)
الإسلام في مواجهة الجريمة
الجرائم شؤم على الأرض وأهلها، فهي سبب للهلاك العام الذي لا ينجو منه إلا من حاربها وأنكرها، وهي وبال على أصحابها في الآخرة إن لم يتوبوا منها ويصلحوا ما أفسدوا، وللجرائم أسباب تؤدي إليها، فيجب اجتنابها، وإذا وقعت فلها علاج يزيلها ويمنع ضررها، وقد أخفقت كل المبادئ والأنظمة في علاج الجرائم أو حتى في التخفيف من ضررها على المجتمعات، ولم ينجح في علاجها وسد أبوابها إلا الإسلام الذي جاء ببيان خطورتها والتحذير منها، وإغلاق كل الطرق المفضية إليها.(10/1)
الإجرام معناه وخطورته
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى قد أكثر في كتابه من لوم المجرمين، ومن وصفهم بأنواع النعوت المؤلمة المخوفة من مصيرهم ومآلهم؛ وذلك للتنبيه على خطر الإجرام وضرره.
فحري بنا أن نبحث في ظاهرة الإجرام، وأن نبحث في مظاهر هذا الإجرام ووسائله وأسبابه وعلاجه كذلك.(10/2)
معنى الإجرام
الإجرام: مصدر أجرم الإنسان بمعنى: اقترف جريمة، والجريمة هي في الأصل من الجرم الذي هو الجرح، فكأن الإنسان جرح جرحاً لا يستطيع علاجه، وذلك أن سكان هذه الأرض بمثابة قوم يركبون سفينة في عمق البحر، فالذين يجرمون يشقون هذه السفينة لتغرق بأهلها ومن فيها، فما أهون الأرض على الله إذا عصاه أهلها، فإنه سبحانه وتعالى لو كشف الحجاب لحظة واحدة لأحرقت سبحات وجهه السماوات والأرض وما فيهن، ما أهون الأرض على الله إذا عصاه أهلها!!(10/3)
وجوب الأخذ على يد المجرم
إن الذين يعصون الله سبحانه وتعالى في هذه الأرض يشقون فيها شقاً فيتسع هذا الشقُّ، فيشق علاجه بعد ذلك ويصعب؛ ولهذا أوجب الله على المؤمنين أن يمسكوا بأيدي هؤلاء وأن يكفوهم عما هم فيه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول: يا هذا! اتق الله ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم تلا قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:78 - 81] ثم قال: كلا، والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهُون عن المنكر، ولتأخذُن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً -أو: لتقصرنه على الحق قصراً- أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم).(10/4)
الجرائم سبب للهلاك العام الذي لا ينجو منه إلا من نهى عنها
إن الأخذ على يد المجرم ومنعه من جريمته أول مستفيد منه هو الآخذ على يد المجرم؛ لأنه ينجو بنفسه وينجي أهله من عذاب الله وعقوبته، وإن الذي يظن أن السعي للحيلولة دون الإجرام هو تدخل في الشئون الداخلية، وأنه مما لا يعني الإنسان وينبغي تركه، جاهل بمقتضى الواقع؛ لأنه بمثابة الإنسان الذي في السفينة في عمق البحر ومعه راكب يراه بعين بصره يخرق السفينة لتغرق بأهلها، فهل تدخُّله هنا تدخل في شئون الغير؟! هو تدخل في شئون النفس؛ يريد إنقاذ نفسه؛ ولذلك أخرج البخاري في صحيحه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فكان بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، وقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا.
فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً).
وقد قص الله علينا في كتابه قصة قرية من بني إسرائيل كانت حاضرة البحر، فحصل فيها الإجرام، فسكت أهلها عن التغيير إلا قليلاً منهم، فجاء البلاء من الله سبحانه وتعالى وعاجلتهم العقوبة، فأخذ الله الذين اقترفوا الإجرام أخذاً وبيلاً، وألحق بهم الذين سكتوا ورضوا وتابعوا، وأنجى الذين كانوا ينهون عن السوء وحدهم؛ ولذلك قال في كتابه: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:163 - 166] فهذا أخذ الله الوبيل وعقوبته الشديدة لمن لم يتمعر وجهه في ذات الله، ولم يغير المنكر إذا رآه!!(10/5)
شؤم الجرائم على الأرض وساكنيها
إذا ظهر الإجرام في بلد فسيتعدى ضرره وينتشر، وإذا لم تعالج الناس العقوبة فإنه يعالجهم ما يتعلق بذلك الإجرام -نسأل الله السلامة والعافية- من الشؤم؛ فإن لكل ذنب شؤماً يلحقه، وهذا الشؤم لا يختص بصاحب الذنب الذي اقترفه، بل يتعداه إلى من سواه.
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم بعض مظاهر الإجرام التي حصلت في الأرض، وهي تبين تاريخ هذه الجريمة على هذه الأرض، فهذه الأرض كانت نقية طاهرة، يُعبد عليها الله وحده، كان بها الملائكة، فأراد الله -لحكمة بالغة- أن يمتحن هذا الجنس البشري، فيحله في هذه الأرض الطاهرة الطيبة التي فيها ما يحتاج إليه بنو الإنسان من الأقوات والأمكنة، وكل ما يحتاجون إليه في شئون حياتهم، فامتحنهم الله سبحانه وتعالى بالتكاليف، فكان منهم المفسدون الذين هم إلى النار صائرون، نسأل الله السلامة والعافية! فعندما بيَّن الله للملائكة أنه سيعمر هذه الأرض بجنس البشر، قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] رعب الملائكة من جرائم بني آدم حين اطلعوا عليها مستورة في اللوح المحفوظ، فعندما أطلعهم الله على ما تؤول إليه هذه البشرية في هذه الأرض، رعبوا من هول هذه الجرائم.
وهذه الجرائم هي بمثابة قنابل ذرية يفجرها الإنسان في هذه الأرض، فتتأثر بها كل الكائنات الحية، وتتأثر بها الحيتان، وتتأثر بها الطيور في السماء، وتتأثر بها ذرات السهول، وتتأثر بها أرحام الأرض وما تنبته، ويتأثر بها كل أنواع النبات، والمكان الذي فجرت فيه بعد عدة قرون لا تزال الولادات فيه مشوهة، ولا تزال الأمراض فيه تنتشر.
أرأيتم القنبلة التي فجرها الأمريكان فوق مدينة (هيروشيما) اليابانية، فهذه القنبلة مازالت إلى الآن آثارها واضحة حتى في الولادات، فالولادات مشوهة، وانتشر السرطان والأمراض الخبيثة؛ بسبب قنبلة واحدة كانت من نوع بدائي في أول نشأة القنابل الذرية، فكيف بهذا الإجرام الذي هو معصية، والذي هو أعظم من هذه القنابل كلها وأفتك!! إن جريمة واحدة على هذه الأرض تضج الأرض إلى الله منها وتشكو، والإنسان الذي يجرم في مكان قد حله من قبله ملك مقرب كان يسجد لله في هذا المكان، وأنت تقف فيه يا عبد الله تخلف هذا الملك في المكان الذي كان يقف فيه، فإذا أتيت بجريمة تصوَّر حال هذه الأرض وقد كانت تحس بسجود هذا الملك المقرب الذي لا يعصي الله تعالى في المكان، وترى خلافتك أنت لهذا الملك في هذا المكان.
أو حتى لو تصورنا ما هو أقرب من هذا، هذا المكان الذي يعصي فيه البشر كان فيه من قبلهم من الناس الذين كانوا يطيعون الله تعالى ولا يعصونه، فتصور المكان الذي تزاول فيه المعصية كم قد وقع فيه من الطاعات لله سبحانه وتعالى، وكم قد عمره من الصالحين! فإنه يضج إلى الله تعالى من الاقتراف الذي تقترفه فيه، وما يقابله من السماء والهواء والملائكة المكلفون بحفظك وحفظ المكان، كل ذلك يشهد عليك بإجرامك الذي تدمر به البلد.
إن الله سبحانه وتعالى بيَّن لنا أنه مكَّن لنا في آثار السالفين السابقين الذين سبقوا، وجعلنا خلفاء من بعدهم في هذه الأرض، فامتحننا بذلك؛ ليعلم ما نحن صانعون، وهو أعلم؛ فهو سبحانه وتعالى لا يتجدد له وجود علم، وإنما يمتحن الناس بذلك؛ ليشهد عليهم ويُشهد عليهم ملائكته؛ حتى لا ينكر أحد منهم شيئاً مما فعل، فيأتي ومعه الشاهد والسائق والرقيب ويأتون معه ليشهدوا عليه بما اقترف.
يحتاج الإنسان إلى التنبه؛ لأن فترة حياته محدودة، ولأن المكان الذي يعمره من هذه الأرض محدود {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37] فعليه ألاَّ يكون مسرفاً مجرماً فيعمر هذا المكان بما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، وبما لا يرضي المكان نفسه، فالمكان يشهد عليه بكل ما فيه.(10/6)
من ابتدأ الجريمة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها
كذلك فإن هذا الإجرام مقتضٍ لأن يبقى عمر الإنسان السيئ متجدداً إلى آماد طويلة، فالذي أسرف وأجرم وعمره ثلاثون سنة أو عشرون سنة من وقت إجرامه عمره السيئ الذي فيه الإجرام مستمر؛ لأن الناس سيتبعونه في إجرامهم، فيكتب عليه من سيئاتهم، ويلحقه ذلك بعد موته آماداً طويلة؛ ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أحد يقتل على هذه الأرض إلا على ابن آدم الأول كفل منها) ابن آدم الأول هو من سن القتل لأهل الأرض، وقتل أخاه ظلماً عدواناً، فما من قتيل يقتل على هذه الأرض إلا على ابن آدم الأول وزر منه.
وكذلك كل من اقترف جريمة وأذاعها بين الناس فتبعه الناس عليها، فإنه يكتب في ميزان سيئاته أوزار من تبعه على ذلك إلى يوم القيامة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من دعا إلى الهدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً).
وكذلك قال: (من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً).(10/7)
مظاهر الإجرام وتفاوتها
إن مظاهر الإجرام في هذه الأرض هي ارتكاب ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى من السيئات، وأعظمها الشرك بالله سبحانه وتعالى؛ فهو الذنب الذي لا يغفر، ثم ما دونه من الذنوب وأعظمها كبائر الإثم والفواحش، ثم ما بعدها من الصغائر التي دونها، فهذه هي الجرائم، لكن الناس في عرفهم لا يطلقون الجرائم إلا على المستبشعات من الأمور التي لم يعد الناس يألفونها، فالأمور المألوفة لدى الناس -حتى لو كانت أكبر في ميزان الشرع- لا يعدونها جريمة، إنما يعدون جريمة نكراء الأمر غير المألوف فيما بينهم؛ والسبب هو الاعتياد فقط، فالإنسان الذي يتعود على شيء يزول عنه ما كان يجده في نفسه من الكراهية له وعدم الاطمئنان به.
وها نحن الآن إذا سمعنا الرعد في السماء لم نرعب منه، لكن إذا سمعناه في الأرض يصيبنا منه رعب شديد؛ والسبب أننا قد ألفنا الرعد في السماء ولم نألفه في الأرض، لكن لا فرق بين الأمرين أصلاً، كل ذلك تخويف من الله سبحانه وتعالى.
وكذلك كسوف الشمس والقمر موعظة عجيبة وآية من آيات الله وتخويف منه {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59]، لكن مع ذلك طلوع الشمس نفسها آية من آيات الله، والانفجارات الذرية التي فيها وعلى سطحها والتي يقع منها في كل ثانية ألفان وستمائة انفجار ذري في كل ثانية واحدة، هذا آية من آيات الله وموعظة عجيبة، لكن الناس ألفوا هذا وتعودوا عليه فلم يعد مهماً لديهم، بل لم يعد يسترعي انتباههم أصلاً، أما الأمر غير المألوف فهو الذي تتعلق به النفوس وترعب منه وترتاع له؛ ولهذا فإن الجرائم المتعلقة بالماديات أعظم عند الناس كثيراً من الجرائم المتعلقة بالمعنويات.(10/8)
أعظم الجرائم الشرك بالله عز وجل
ومعلوم أن الشرك بالله هو أعظم جريمة يمكن أن يرتكبها الجنس البشري على هذه الأرض، لكن لو سمعنا رجلاً يقول في السوق ألفاظ الشرك أو يفعلها، أو يسب الله ورسوله أو القرآن فلن نرى الناس يستعظمون جريمته، ولا يتألبون عليه، ولن تجد من يهتم للأمر، أو من يقول فيه بالحق؛ لأنه أمر معتاد لديهم!! أما لو سرق الإنسان مائة أوقية فقط، فإن كل أهل السوق سيمسكونه: سارق سارق، وهذا يضربه من هنا، وهذا يمسكه من هنا، فهل سرقةُ مائة أوقية أعظم من الشرك بالله؟! فالقضية هنا أن الناس لا يزنون ولا يكيلون إلا بميزان المادة، فما كان مادياً اعتبروه جريمة كبيرة، وما ليس كذلك كان أمراً اعتيادياً لديهم، يمر الإنسان من الشارع فيرى الاختلاط ويرى السفور، وكأنه ما رأى شيئاً ولا وقعت عينه على شيء أصلاً؛ لأن هذا أصبح من المألوف لدى الناس، وهو إذا كان مؤمناً ورأى معصية الله تمعَّر لذلك وجهه، واقشعر جلده، وخشي أن يسقط عليه ما يقابله من السماء حين يرى معصية الله فيرضى بها.
إن الذين يتعودون على مشاهدة المناكر ستخف لديهم حتى يكون المعروف منكراً والمنكر معروفاً، ولا يأتي هذا إلا بالتدريج والتقصير!(10/9)
أسباب الإجرام
إن هذه المظاهر التي هي من مظاهر الإجرام على هذه الأرض لها أسباب كثيرة، من أعظمها:(10/10)
ضعف الإيمان
أولاً: نقص الإيمان بالله سبحانه وتعالى وبقدره وبملائكته، وبالبعث بعد الموت وباليوم الآخر وما اشتمل عليه.
فالذي يؤمن بالله وملائكته وكتبه وبالقدر خيره وشره، ويؤمن بالبعث بعد الموت وباليوم الآخر وما اشتمل عليه؛ يعلم أن هذه الحياة الدنيا ليست الحياة الباقية وأنها متاع وأن الآخرة هي دار القرار، ومن هنا سيحاول أن يعيش فترات حياته المحدودة في هذه الدنيا بسلام، وأن ينطلق منها سالماً على الأقل، كما قال عمر بن الخطاب في حال موته: (وددت لو أخرج منها كفافاً لا علي ولا لي)، سيحاول أن يخرج من هذه الدنيا كفافاً لا له ولا عليه على أقل تقدير، أما الذي يقل إيمانه بالله فلا يستشعر أن ديان السموات والأرض يراقبه وهو أقرب إليه من حبل الوريد، ولا تخفى عليه خافية، ويعلم السر وأخفى، ويعلم ما توسوس به نفسه.
ويعلم كذلك جزماً بملائكة الله الكرام الكاتبين الذين لا يخفى عليهم شيء من عمله {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12]، وقال جل وعلا: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
ويعلم كذلك علم اليقين أن كل شيء بقدر الله، وأن الله كتب كل شيء قبل أن يكون وعلمه، قال الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] ويعلم كذلك أنه سيموت ويبعث بعد الموت، سيحيا ليقص أثره {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] سيقص أثره كاملاً ويراجع حساباته ويرى صحائف أعماله، ويبدو له من الله ما لم يكن يحتسب.
وإذا علم كذلك أن الساعة لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأنها هي دار الجزاء ووزن الأعمال؛ لن يسرف ولن يقترف، ولن يحاول أن يصرف قوته وطاقته وجهده إلا فيما ينجيه من هول ذلك اليوم.
أما من يخفُّ إيمانه بهذا وينقص فهو الذي يبحث عن وليجة أو عن مدخل؛ ليخفي على الله أو على ملائكته الكرام الكاتبين شيئاً من الأعمال، أو يظن أنه حتى لو علم الله بها فهو لن يبعث أو لن يحشر أو أنه لن يجدها، قال الله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:30].
إن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أن هذا الإجرام سببه هو نقص الإيمان؛ ولهذا قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ترفع إليها الرءوس حين ينتهبها وهو مؤمن) فصاحب الإيمان القوي عنده ما يردعه وكفى بالإيمان رادعاً.
أما من ضعف إيمانه وخف يقينه فهو الذي يذهب في هذه الدنيا ولا يبالي بما اقترف، ويسير كأنه لا يستشعر عقوبة الله سبحانه وتعالى، ولا يستشعر الملائكة الكرام الكاتبين، ولا يتذكر موته وحمله على الرقاب إلى الدار الآخرة، ولا يتذكر فزعته من القبر وقيامه منه حين ينفخ في الصور نفخة الفزع، ولا يستشعر عرضه على الله ووقوفه بين يديه، ولا يستشعر الكفتين: كفة الحسنات وكفة السيئات ووزن الأعمال فيهما بمثاقيل الذر {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].(10/11)
الغفلة عند ارتكاب الجريمة
ومن أسباب الإجرام: أن يغفل الإنسان عن هذا، فيكون الإنسان مؤمناً مصدقاً بكل ما سبق ولكنه يغفل عنه في وقت اقتراف المعصية، فتغلبه شهوته فيقع فيما حرم الله عليه لا نكراناً ولا جهلاً، ولكنه يفعل ذلك غفلة ونسياناً؛ فتزدريه النفس الأمَّارة بالسوء، ويقوده الشيطان الذي لا يقوده إلا إلى ما يهلكه، وحينئذ يتبع هواه فيتردى في الوحل وينساق وراء الشهوات، فيكون كالحيوان البهيمي، فإذا أنعم الله عليه بأن تذكر عرف أنه قد تردى إلى المهاوي العظيمة.
وإننا نعرف أشخاصاً بأعيانهم يعيشون معنا على هذه الأرض من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، كانوا قد وقعوا في هذه القاذورات التي تسخط الله سبحانه وتعالى، فأعادهم الله إلى الإيمان بنعمة منه وهداية، فلما رجعوا تذكروا المكان الذي كانوا فيه من المعصية فعرفوا أنهم بمثابة من تردى في بئر عميقة جداً ثم نجا منها وأُخرج، خرجوا من مهوىً عجيب لا يزال كل فرد منهم يتذكر ما كان عليه ولا يقارنه إلا بدركات جهنم، إن هؤلاء قد أنعم الله عليهم بنعمة الهداية فرجعوا، أما كثيرٌ ممن سواهم فهم مستمرون -نسأل الله السلامة والعافية- عامتهم سادرون لا يبالون، مستمرون حتى يفجأهم الموت وهم على ذلك.(10/12)
طول الأمل
كذلك من أسباب الإجرام: أن يكون الإنسان مؤمناً بكل ما سبق متذكراً له في ساعته، لكنه يطول الأمل، فيغريه الشيطان بأنه بالإمكان أن يرجع ويتوب بعد أن يقترف المعصية، ويقول له: افعل ما شئت الآن وما تريده، ثم عمرك طويل بعد هذا، وستتوب إلى الله وتعبده، وهذه هي علامة الخذلان وطمس البصيرة، نسأل الله السلامة والعافية! فالشيطان يضرب على قافية رأس الإنسان إذا هو نام، يضرب في كل عقدة: إن عليك ليلاً طويلاً فنم، فيغريه بطول الأمل، والواقع أن أصحاب العقول لا يمكن أن يغتروا بطول الآمال، وهم يرون في كل يوم وفي كل صباح وفي كل مساء الذين ينتقلون إلى الدار الآخرة، ممن هم أقوى منهم أبداناً وأكثر أموالاً وأرفع مكانة اجتماعية، فيرون أجناس الناس ينتقلون إلى الدار الآخرة، لا تبقى شريحة من شرائح المجتمع إلا رأيتها: فترى الرؤساء والملوك، وترى الوزراء والقادة، وترى التجار والأغنياء، وترى الفقراء والمساكين، وترى الصبيان الصغار، وترى الشباب الأقوياء، وترى الشيوخ والعجزة، كل هؤلاء يدفنون جميعاً في المقابر.
قال الشاعر: لا الموت محتقر الصغير فعادل عنه ولا كبر الكبير مهيبُ وقال الآخر: ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد كلنا صائرون إلى ذلك المصير، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين وقف على ضجنان بعد حجته: (كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان، فكنت إذا عجلت ضربني وقال: لم تعش، وإذا أبطأت ضربني وقال: ضيعت، ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه، ثم قال: لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولدُ لم تغن عن قيصرٍ يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها برد أين الملوك التي كانت بعزتها من كل صوب إليها وافد يفد حوض هنالك مورود بلا كذب لابد من ورده يوماً كما وردوا) إن طول الأمل مضرة عظيمة للإنسان، فهو الذي يقتضي فوات الأعمال الصالحات التي يندم الإنسان على فواتها، وهو الذي يدفع بالإنسان إلى تأخير فرائض الله سبحانه وتعالى، حتى ينتهي وقتها، وحتى لا يمكن الإنسان من العود إليها في فرصة لاحقة.
إن الإنسان لن يستشعر فرصه الطويلة المتنوعة التي وهبه الله إلا بعد أن ينتقل من هذه الدنيا وينقطع عمله بالكلية، فمادام الإنسان يرجو الحياة فهو يؤمل أن يبقى.
فالمرء قد يرجو الحيا ة مؤملاً والموت دونهْ تنفك تسمع ما حييـ ت بهالك حتى تكونهْ لكنه عندما يموت وتنقطع آماله عن هذه الدنيا يتمنى طرفة عين لو رجع إليها، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:9 - 11].
إن الجرائم التي يقترفها الناس ينتبهون لها إذا نشأت منها نابتة جديدة، أو ظهر منها مظهر جديد لم يكن متفشياً بين الناس، ففي زماننا هذا اليوم أصبح الناس في هذا البلد يتحدثون عن كثير من الجرائم التي لا عهد لكثير من الناس بها، من قتل الأقارب والإخوة الأشقاء، ومن إحراق الإنسان لنفسه، ومن اعتدائه على أحب الناس إليه وأقربهم إليه كقتل الإنسان لأمه، وغير ذلك من الجرائم الكبيرة التي لا عهد لأهل هذه البلد بها!! ولكنها تأتي كالسيل الجارف، وما هي إلا سنوات يسيرة حتى يألف الناس هذه الجرائم ويتعودوا عليها، كعصابات اللصوص التي تجوب بعض الطرقات في الليالي المظلمة، وتقطع الطريق على الناس، وتعتدي على حرمهم وتأخذ أموالهم، ومثل ذلك: العصابات التي تعتدي على منازلهم وبيوتهم تبيتهم وهم آمنون في بيوتهم، فيعتدون على متاجرهم، وما يجمعونه من المال.
هذه الجرائم لم تكن معروفة ولا معهودة بين الناس في هذه البلاد، ولكنها اليوم أصبحت جريمة منتشرة ومنظمة، فقد أصبح الإجرام منظماً له أعراف يتعارف عليها أهل الإجرام فيما بينهم، وله قوانين وخطط يخططون لها؛ بل لا تستغربوا أن ينشئ بعض هؤلاء المجرمين المتمرسين معاهد للإجرام، إن الإجرام يدرس في كثير من البلدان الغربية، وله معاهد، فأصحاب التجارب الكبيرة في الإجرام تلتحق بهم عصابات اللصوص؛ ليعلموهم طرائق الإجرام وطرائق الحصول على الأموال بهذه الوسائل الملتوية.(10/13)
وسائل الإعلام
كذلك فإن لوسائل الإعلام في تعليم الإجرام دوراً عظيماً، فالمسلسلات المفسدة التي تنشر فيها لنشر الرذيلة ولتعليم وسائل الإجرام كثيرة جداً، بل إن الهوائيات التي تعمل ليل نهار لا تخلو من هذه المسلسلات، فتارة تسمى بالمسلسلات البوليسية، وتارة بالمسلسلات الاجتماعية، وتارة بغير ذلك من الأسماء، لكنها جميعاً تُعلم الرذيلة، وتسعى لترسيخها في النفوس الطرية التي هي على الفطرة!! ومن أغرب ما سمعنا في هذا: أن رجلاً من الملتزمين الخيرين ومن التجار ذوي المال اشترى هوائياً فأدخله في بيته، وهو مشغول في عمله لا يأتي إلا في ساعة متأخرة من الليل وقد نام أولاده، وكذلك فإن أمهم مشغولة عنهم في كثير من الأحيان، فكان أولاده يتابعون هذه المسلسلات فيتعلمون ما فيها من وسائل الإجرام، فوجد أن أحد أولاده يسرق أمواله ويجمعها ويخفيها في مكان من بيته، وكان ذلك بطريقة محكمة جداً للغاية يعجب لها الإنسان، فسأله: كيف جمعت هذا المال؟ ومن أين أتيت به؟ ولماذا تجمعه؟ فقال: لا أريد ذلك لأي شيء، ولكن لأشبع به رغبة أجدها في نفسي تعودت عليها من المسلسل الفلاني!! رسخت هذه القيم في هذه النفوس التي كانت على الفطرة، وتعودت عليها.
والأدهى من هذا والأمرُّ: أن رجلاً آخر كانت تجربته أخطر من هذه وأفظع، فله أولاد وبنات وكانوا يتابعون هذه المسلسلات وهو يعلم بذلك، وفي ذات يوم -نسأل الله السلامة والعافية- إذا بابنته مريضة، فارتاب من مرضها، فأخذتها إلى المستشفى فإذا هي متلبسة بحمل، فكاد أن يموت غماً، وأخذها إلى بيته وضربها، فقالت: لا تضربني، فأنا أحدثك بكل ما تسأل عنه، فقال: ما هذا؟ فقالت: هذا من أخي، كنا نتابع المسلسل الفلاني فطبقناه، وهما في أول البلوغ، نسأل الله السلامة والعافية!!! فعاد عليه وبال هذه الأجهزة، فقام إليها وكسرها من لحظته، لكنه ندم حيث لا ينفع الندم! إن كثيراً من الناس يتعودون على الإجرام ويتعلمونه بتجارب الآخرين، وبأمور خيالية أيضاً في بعض الأحيان، فينقلون هذه التجارب، وتنتشر بين الناس، وتشيع في الأرض.
إن قتل الإنسان لنفسه لم يكن مألوفاً أبداً لدى الناس في هذه البلاد، لكنه ظاهرة منتشرة في أمريكا وفي أوروبا كلها، فتجد الإنسان يطلق الرصاص على نفسه، أو يشنق نفسه، أو يحرق نفسه في بعض الأحيان إذا كان مطالباً بديون لا يستطيع تسديدها، أو عليه غرامات كبيرة، أو خاب أمله في أمر معين، أو قد اقترف جريمة فاطُّلع على تلك الجريمة، أو خشي أن يُطَّلع عليها!! بل تجد كثيراً من الساسة في بلاد الغرب إذا عرف أن أحدهم قد تعاطى رشوة أو أخذ هدية فشاع ذلك في الإعلام؛ قتل نفسه ورأى هذا تخلصاً من جريمته!! فيظن أنه سيتخلص من كل مسئولياته وتبعاته بمجرد إزهاق نفسه، فيقتل نفسه ويتعجل الدخول إلى النار، نسأل الله السلامة والعافية! لكن من المستغرب جداً أن ينتشر هذا الأمر في بلاد الإسلام، وأن يطرق أبواب المسلمين الآمنين، فمثل هذه البلاد المحافظة التي يغلب على سكانها الالتزام بالإسلام والتحلي بآدابه وأخلاقه، من المستغرب جداً أن يحرق الإنسان فيها نفسه بين الناس، أو أن يقدم على شنق نفسه، أو إطلاق الرصاص على نفسه لأي سبب من الأسباب.
لكن الناس إذا علموا أن فلاناً من الناس قد قتل نفسه حملوا ذلك على أحد محملين: إما أن يقولوا: هو مجنون، أو أن يقولوا: قد اقترف جريمة مالية، أخذ أموالاً فاطلع عليها فقتل نفسه ليستر جريمته، أو ليتخلص منها، لكن سبب هذه الجريمة لا ينحصر في هذين السببين المذكورين؛ بل كثير من الناس مأنوس غير مجنون، كثير من الناس سرت إليه هذه العادات من الناس أنفسهم لا من الجن.
فكثير من الشباب الذين يتربون بين ذويهم في بيئات صالحة يخالطون شباباً آخرين هم في غاية الفساد، فسرعان ما تنتشر إليهم عدوى هؤلاء، وتنتقل إليهم كانتقال النار من المادة القابلة للاحتراق والاشتعال إلى مادة مجاورة لها، كما قال الشاعر: عدوى البليد إلى الجليد سريعة والجمر يوضع في الرماد فيخمد كذلك في المقابل إذا وضع الفحم على الجمر فسرعان ما يشتعل.
إن كثيراً من الناس يتهم الجن بأنهم هم الذين أفسدوا أخلاقهم أو أفسدوا عقولهم، والواقع أن الجن من هذا برآء، بل كثير مما يقدم عليه البشر يستغربه الجن، ولا يستطيعون الإقدام عليه، إنما يتعود عليه هذا الجنس البشري الذي هو أشد قسوة من الحجارة، فقلوب البشر أشد قسوة من قلوب الجن؛ ولهذا يقدمون على أمور مستغربة جداً مستبشعة، ولذلك فالمأنوسون في هذا الباب أكثر من المجانين، الذين سرت إليهم عادات الإنس فأتلفت عقولهم وتصورهم أكثر من الذين أضر بهم الجن وأثروا على عقولهم.(10/14)
ضعف التوكل على الله
من أسباب الجرائم: أن كثيراً من الناس يكون ضعيف التوكل على الله سبحانه وتعالى شديد التوكل على الأسباب، فيظن أن هذه الأسباب هي التي توصله إلى مبتغاه وما يطلبه، فيتوكل على الأسباب، ويهتم بها غاية الاهتمام، ويسعى لبذل الجهد فيها، لكنه سرعان ما تخونه هذه الأسباب، ويرى أنها لا توصل إلى نتيجة، فيقدم على جريمته تبعاً لذلك.
إن الأسباب خوَّانة، فكم رأينا من الذين بذلوا أعمارهم وصرفوا جميع الحيل في جمع المال فما حصلوا منه على طائل! وكم رأينا آخرين لم يبذلوا فيه كثيراً من الوقت ولا من الجهد ولا من عناء التفكير، ومع ذلك آتاهم الله منه ما كتب لهم! إن الإنسان لن ينال إلا حظه وما كتب له.
ومن هنا فينبغي ألا يتوكل على الأسباب، وألا يخرجها من طورها، وألا يتعدى بها حدودها؛ فالذين يتوكلون على الأسباب يصابون بإخفاق شديد.
فهذا ابن زريق البغدادي يخرج من بغداد مسافراً إلى الأندلس، وينفق في ذلك نفقات باهضة؛ ليمدح أحد ملوك الأندلس، وهو يرجو منه مالاً ليسدد به ديوناً عليه في بغداد، فصبر على قطع هذه المسافات الطويلة من بغداد إلى الأندلس، فلما أتى الملك وامتدحه بقصيدته العجيبة وأنشدها بين يديه وطرب لها الملك، كافأه عليها مكافأة لا تساوي عشر ما أنفقه في سفرة، فتأثر تأثراً بالغاً، وذهب إلى ضفة النهر وكتب قصيدته العينية المشهورة ومات غماً! يقول في هذه القصيدة: لا تعذليه فإن العذل يولعه قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعهُ جاوزت في نصحه حداً أضر به من حيث قدَّرت أن النصح ينفعهُ فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً من عذله فهو مضنى القلب موجعهُ يكفيه من لوعة التفنيد أن له من النوى كل يوم ما يروعهُ ما آب من سفر إلا وأزعجه عزم على سفر بالرغم يزمعه كأنما هو في حل ومرتحل موكل بفضاء الأرض يذرعهُ إن الزمان أراه في الرحيل غنىً ولو إلى السد أضحى وهو يقطعهُ وما مكابدة الإنسان واصلةٌ رزقاً ولا دعة الإنسان تقطعهُ قد قسَّم الله رزق الناس بينهمُ لم يخلق الله من خلق يضيعهُ لكنهم كلفوا حرصاً فلست ترى مسترزقاً وسوى الغايات تقنعهُ والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه أرباً ويمنعه من حيث يطلعهُ أستودع الله في بغداد لي قمراً بالكرخ من فلك الأزرار مطلعهُ ودعته وبودي لو يودعني صفو الحياة وأني لا أودعهُ وكم تشفَّع بي أن لا أفارقه وللضرورة حال لا تشفَّعهُ وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحىً وأدمعي مستهلات وأدمعهُ لا أكذب الله ثوب العمر منخرقٌ عني بفرقته لكن أرقعهُ إني أوسع عذري في جنايته بالبين عنه ونفسي لا توسعهُ إلى آخر ما ذكره في قصيدته الطويلة.
فهؤلاء الذين يتكلون على الأسباب ويعتنون بها إذا جاءهم إخفاق -أياً كان- رجعوا أدراجهم، وانكبوا على وجوههم، وأصابهم الإحباط والندم.
ويحصل هذا في شرائح الناس المختلفة: فالذين يطلبون العلم ويهتمون به، إذا كانت هممهم أقوى من قرائحهم كثيراً ما يصابون بهذا النوع من الإحباط، فينفق أحدهم السنتين أو الثلاث أو الأربع، فلا يحصل على العلم الذي يطلبه، لكنه لم يتوكل على الله في جمعه للعلم، ولم يقدم الأسباب الشرعية فيه، وإنما اتكل على حوله وقوته فوكله الله إلى حوله وقوته، ولم يعطه من العلم ما يطلب؛ فلذلك ينكص على عقبيه، ويصاب بإحباط شديد، بل ربما تأثر عقلياً أو نفسياً، وكذلك الذين يجمعون الدنيا، ويتكلون في ذلك على الأسباب، يخاطرون المخاطرات ويبذلون الجهود المضنية، وكثيراً ما يموت بعضهم في سبيل الوصول إلى هدف دنيوي معتاد، أو يقترف جرائم عظيمة بسبب الوصول إلى ذلك الذي يريده، وإذا وصل إليه انتهى عمره دون أن يصل إلى شيء.
كما قال ابن مالك رحمه الله تعالى: أطعت الهوى فالقلب منك هواء قسا كصفا مذ زال عنه صفاء ورمت جدىً ما إن يدوم جداؤه وسيان فقر في الثرى وثراء كفى بالفنى قوتاً لنفس فناؤها قريب ويكفيها طراً وطراء ولو في الملا رمت الملاء حللت في رجاه إذا ما صح منك رجاء كأن الورى والموت نسي وراءهم ذوات الأذى قد حازهن أباءُ فلذلك يصاب هؤلاء بالإحباط إذا لم تتحقق آمالهم؛ لأنهم لم يتبرءوا من حولهم وقوتهم، ولم يتوكلوا على حول الله وقوته، ولم يعتصموا بحول الله وقوته، وتوكلوا على الأسباب فخانتهم الأسباب فأصيبوا بهذا الإحباط.
كذلك الذين يدعون إلى الله كثيراً ما تعجبهم الأسباب الدنيوية وينشغلون بها ويهتمون بها، ويبذلون فعلاً ويضحون في سبيل أهدافهم، لكنهم إذا غفلوا عن التوكل على الله سبحانه وتعالى والاعتصام بحوله وقوته، والبراءة مما لديهم من حول وقوة، كثيراً ما يصابون بالإحباط، فتتراجع الآمال، وتنسد الأبواب، ويخبو النور الذي كانوا يعلَّقون عليه أملاً في جهة من الجهات، فإذا لم يكونوا أصحاب إيمان وقوة كثيراً ما ينكصون على أعقابهم، ويرتدون أدراجهم، نسأل الله السلامة والعافية!(10/15)
الجهل
كذلك من أسباب الجرائم: الجهل؛ فإنه سبب لمعصية الله، وما عصي الله إلا عن جهل: إما عن جهل به، وإما عن جهل بشرعه، لم يعص الله قط إلا عن جهل: إما أن يكون الجهل بالله {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67]، أو أن يكون الجهل بشرع الله، فكثير من الناس يمارسون أعمالاً يتقربون بها إلى الله ويظنونها من أزكى قرباتهم، ومن أهم ما يعولون عليه في آخرتهم، وهي من أعظم ذنوبهم عند الله سبحانه وتعالى، ومن أخطر ما سيجدون في ميزان سيئاتهم وأثقله؛ والسبب: جهلهم بما شرع الله سبحانه وتعالى.
إن الجهل مقتض للوقوع في هذه الجرائم، ولهذا فمن هذا الاسم اشتقت الجاهلية، فهي من الجهل، والجهل جهلان: جهل هو ضد العلم، وجهل ضد الحلم، والجاهلية مشتقة من الثاني على الراجح، ففيها الجهل الذي هو ضد الحلم؛ لما ينتشر فيها من الطيش والخفة.
ولذلك كان أهلها يغضبون لأتفه الأسباب وأهونها، وإذا غضبوا تصرفوا تصرفاً يندمون عليه فيما بعد ندامة الكسعي حين كسر قوسه وعض أصبعه فقطعها، فهكذا أهل الجاهلية.
إن هذه الجرائم التي تنتشر إذا بحثنا عن عدها سنجدها ذات كثرة طائلة، وسنجد الأيام حبالى بها، فكل يوم تظهر فيه جريمة وتنتشر، ولا يفتح الإنسان مذياعاً ولا يقرأ في جريدة ولا يرى وسيلة من وسائل المعرفة والعلم إلا واطلع فيها على كثير من الجرائم الكثيرة التي لم تخطر على باله؛ بل إن كثيراً من الدول اليوم تعلن عجزها أمام بعض الجرائم، فلا تستطيع مكافحتها بالكلية.
فهذه الولايات المتحدة الأمريكية التي تزعم بكبريائها وعنجهيتها أنها قائدة العالم، بل يسميها الناس اليوم بشرطي العالم الذي يدافع الجرائم ويحمي الناس منها، استسلمت أمام الأحداث والقصَّر وطلاب المدارس، ولم تعد قادرة على الوقوف في وجه جرائمهم! فالصبيان الذين يدرسون في الإعدادية، والمراهقون الذين يدرسون في الثانوية يقترفون جرائم بشعة، يأتي أحدهم برشاشه فيقتل أباه وأمه وكل من في البيت من الأحياء، ثم ينتحر بعد ذلك، أو يأتي بقنبلة معه بين دفاتره وكتبه إلى المدرسة، فيفجرها في القاعة فيهلك جميع الطلاب ويهلك هو نتيجة ذلك.
إن هذا النوع من الجرائم أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية رغم كل كبريائها عجزها عن مكافحته، فضلاً عن الدويلات الأخرى الضعيفة.
فالإجرام فيها يتجاوز هذه الحدود، بل إن كثيراً من الذين ينبغي أن يكونوا مكافحين للإجرام هم الذين يمارسونه بأنفسهم، كما قال الشاعر أحمد مطر: لأن من يسرقها يملك مبنى المحكمة ويملك القضاة والحجابا فكل هؤلاء الذين يقترفون كثيراً من الجرائم هم الذين يشكى إليهم، وهم الذين ترفع إليهم القضايا، أو يقترفها الناس تقوياً بهم، فأقاربهم وحاشيتهم مجرمون ويقترفون ما يحلو لهم أن يقترفوا ويجرموا، لكن إذا جاءت الملفات إلى مكان التحقيق أو العدالة اختفت وسرقت ولم تبق لها باقية، إن هذا النوع إذا تفشى في أرض فهو منذر بالخطر والدمار الشامل.
كان أحد الدعاة في زماننا هذا بين يدي أحد الرؤساء، فكلمه هذا الرئيس بكلام لا يليق، وهو شيخ كبير السن، فقال له: سأشكوك! قال: إلى من تشكوني وأنا رئيس الدولة؟ فقال: أشكوك إلى ديان السموات والأرض! فرعب هذا الرئيس رعباً شديداً وقال: اسحب هذه الشكوى! ونزل عن كرسيه متواضعاً للشيخ يريد أن يقبل يده؛ ليسحب هذه الشكوى.
فالذين ترفع إليهم الشكايات اليوم من أهل الأرض كثير منهم من الذين يساعدون في انتشار الإجرام، إن لم يكونوا من المقترفين له بالمباشرة.(10/16)
نقص الوعي بين الناس
كذلك من أسباب انتشار الإجرام: نقص الوعي بين الناس.
فكثير من الناس وعيه وتصوره بسيط جداً وقليل، فلا يدرك المخاطر الكبيرة أمام الإجرام، ومن هنا يظن أن الأمور على طبيعة أهل البادية، يأتي فيها الإنسان بما يريد وبعد ذلك تستتر وتخفى ولا يبقى لها أثر، وكذلك كثير منهم يهمل أهل الإجرام؛ بسبب نقص وعيه هو، فيرى المجرمين ويشاهدهم، وبالإمكان أن يشهَّر بهم، وبالإمكان أن يحاول الحيلولة بينهم وبين إجرامهم، لكن إذا لم يمس الإجرام بيته أو ماله أو ما يتعلق به فإن ذلك لا يعنيه ولا يهتم به، وهو ينسى أن هذا الإجرام شديد العدوى، وهو بمثابة الحريق المستطير، إذا لم يُصب بيتك فإنه سيصيب بيت أخيك.
وقد ذكر ابن حزم رحمه الله تعالى مثالاً عجيباً فيما يتعلق بالخروج على أهل الجور والظَّلمة في زمانه، في مناظرة علمية فقهية عجيبة، قال فيها: إذا وجدت من ينكر الخروج على هؤلاء ومنافحتهم فيما هم فيه، فقل لهم: أرأيت إن اعتدي على زوجتك أكنت تسكت وتصبر؟ فسيقول: لا، فقل له: هل هي أشد حرمة من زوجات كل المسلمين؟ هل لديها حصانة تمتاز بها عن غيرها من النساء؟ إذا تجاوزت هذه فاسأله: إذا اعتدي على بيتك ومنزلك الذي تسكنه هل ستصبر وتسكت؟ فسيقول: لا، فقل له: وهل هو أشد حرمة من بيوت المسلمين؟ ويتدرج به في هذه المناظرة المقنعة العجيبة! إن كثيراً من الناس إذا رأوا المال العام ينتهك لا يعتبرون هذا جريمة؛ لأنهم لا يظنون أنهم يملكون فيه حظاً؛ لتعودهم على الاستبداد، فقد تعود الناس في كثير من البلدان على الاستبداد المطلق من قبل الدول، فظنوا أن الأملاك العامة هي ملك لأولئك المستبدين وحدهم، ولا شيء فيها لأي طرف آخر، ومن هنا إذا سرقها هذا السارق أو انتهبها هذا المنتهب، أو حصل بها أي إجرام من أنواع الإجرام، فهذا أمر لا يعنينا ولا نتدخل فيه، إن هذا المال الذي ينتهب ويسرق هو مالك، ولك فيه حظ ولأولادك ولمن بعدك ولجيرانك، وهو عموماً مال المسلمين، وأنت مخاطب شرعاً بحمايته وحفظه ما استطعت.
إن الذي يرى محاسباً أو مديراً أو رئيس مصلحة يجرم بأخذ المال العام ويسرف فيه ويعتدي فيه حدود الشرع، فلا يعتبر هذا جريمة متعلقة بحقه الشخصي، ولا يلفت هذا انتباهه ولا اهتمامه، هو غير واع بالواقع؛ لأن هذا الذي ينتهك هو ملكك وهو مصالحك ومصالح أهلك وشعبك كله، وإذا أهملتها أنت ولم تراعها فسيهملها من سواك، ومن هنا يترسخ الاستبداد ويترسخ الإتلاف، وتستمر الجرائم إلى هذا الحد الذي ليس بعده إلا الدمار الشامل.
إن هذه الجرائم المنظمة إنما تنتشر في البلدان التي ينقص فيها الوعي بين الناس؛ لأن الناس إذا كانوا على وعي بها فسيأخذون حذرهم، وسيحافظ كل إنسان منهم بما يستطيع من الوسائل للنجاة من هذه الجرائم، لكن إذا نقص الوعي عند الناس فأصبحت الأمور تؤخذ تارة بمأخذ الجد، وتارة بمأخذ الهزل، حتى يلتبس الجد والهزل على الناس كما قال الشاعر: تخلط الجد بأنواع اللعب فإن الأمر سيذوب ويزول، ولا يكون له حام ولا مدافع.
تنتشر جريمة من الجرائم، كبيع المخدرات أو استعمالها أو غير ذلك من أنواع الجرائم، فيقام بالمبادرة لمكافحة هذه الجريمة، وتأتي هذه المبادرة جادة في البداية، ثم إذا وصلت إلى حلقات معينة يسدل عليها الستار، ويأتي اللعب بدل الجد، وتذهب الأمور وتزول؛ لتزداد هذه المشكلات والجرائم، ويزداد الطين بلة.
وكذلك يقتل القاتل عمداً وعدواناً فيحكم عليه القاضي بالقصاص، ويطالب أولياء الدم به، وهذا القصاص قد جعل الله فيه حياة كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179]، فيصلون إلى حلقة من الحلقات ثم يتوقف فيها الملف وينتهي الأمر، بل يودع كثير من هؤلاء السجون وهي مدارس للإجرام، فيتمرسون على الجرائم بأكثر مما كانوا عليه، فلا يخرج أحدهم من السجن إلا وقد ذهب ما بقي ما معه من أخلاق ومن دين ومن قيم، ويأتي لينشر ذلك في المجتمع، فيصبح أستاذاً في الإجرام، وما أكثر دكاترة الإجرام بين الناس اليوم الذين مهروا فيه ودربوا عليه فيأتون لتعليمه ونشره بين الناس! إن كثيراً من هؤلاء ينظر الناس إليهم نظرة تقدير واحترام؛ ولهذا لا تستغربوا إذا ولي السارق منصباً سامياً بعد أن ثبتت عليه السرقة وعزل من منصبه؛ لأن هذا راجع إلى عدم وعي الناس، فالناس يحترمونه ويقدرونه، وإذا دخل مجلساً قام الناس إليه احتراماً له، فلا يستغرب عندما يعيَّن في وظيفة سامية؛ لأن الحكومات إنما تنظر في بعض الأحيان إلى آراء الناس ومن يقدرونه ويحترمونه، لكن إذا حصل الوعي لدى الناس؛ فأصبح السارق يعرف أنه سارق، وأنه مهين، لا كرامة له بين الناس، وأنه قد أهدر كرامته بسرقته ونهبته، وأصبح الزاني كذلك يعرف عنه هذا ويعرف مهانته على الناس، وأصبح كل مجرم يستشعر بين الناس إهانة ومذلة؛ فإن هذا هو الذي يكافح هذه الجريمة.
وانظروا إلى تأديب النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الذين اقترفوا بعض الجرائم من أصحابه: تخلف ثلاثة رجال من الصالحين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غزوة أمر فيها بأن لا يتخلف عنه أحد يقدر على القتال إلا بإذنه، فتخلف هؤلاء بسبب طول الأمل، فكانوا كل يوم يريدون الخروج ولا يتمكنون منه، فيقولون: لعلنا نخرج غداً، حتى قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً من تبوك، فلما قفل ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، واستشعروا الإجرام والذنب الذي وقعوا فيه؛ فليسوا مثلنا؛ هم أهل الإيمان وأهل الصحبة والجهاد في سبيل الله.
ولذلك إذا وقع أحد منهم في ذنب خفيف ضاقت عليه الأرض بما رحبت، واستشعر موقفه بين يدي الله، واستشعر عظمة من عصاه، لذلك ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه.
فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء المنافقون فاعتذروا وحلفوا، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذرهم ووكلهم إلى الله وكل سرائرهم إلى الله، وجاء هؤلاء الثلاثة فصدقوا ولم يكذبوا ولم يحلفوا، بل أخبروا أنهم تخلفوا من غير سبب، وأن الشيطان غرهم بطول الأمل، وأنهم تائبون نادمون على ما فعلوا، فأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم حتى ينزل عليه فيهم الوحي، لكنه أدبهم تأديباً بالغاً يكون رادعاً لكل المؤمنين ممن وراءهم، فأمر الناس ألا يردوا عليهم السلام، وألا يردوا عليهم في أي شيء، فقاطعهم المجتمع حتى زوجاتهم وأحب الناس إليهم، لم يرد أحد عليهم السلام، ولم يكلمهم بأي كلام، يقول كعب بن مالك حين طالت عليه المقاطعة: خرجت إلى أبي قتادة -وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي- فطرقت عليه الباب واستأذنته، فلما عرفني لم يأذن لي، فتسورت عليه حتى دخلت عليه، فسلمت عليه، فلم يزل جالساً مشتغلاً بما كان مشتغلاً به، فقلت: يا ابن عمي! ألست تشهد أني أحب الله ورسوله؟! فما رد علي ببنت شفة، بل سمعته حين أعرضت عنه أبكي يقول: الله ورسوله أعلم! فرجعت إلى داري وقد ضاقت علي الأرض بما رحبت.
فهذا الاستشعار الذي يستشعره من وقع في جريمة، عندما يرى مقاطعة الناس له يستشعر فعلاً أنه مجرم، وأنه ينبغي أن يقاطع، وليس أهلاً لاحترام ولا لتقدير، فهذا الذي يكون رادعاً له عن جريمته ويرده عنها.(10/17)
من وسائل مكافحة الجرائم إقامة حدود الله
حدود الله تعالى هي علاج لهذا الإجرام وردع عنها بالكلية، وهي جوابر لما فرط فيه الإنسان في جنب الله، وزواجر كذلك عن اقتراف مثله.
هذه الحدود تمنع الجرائم وتردعها، فمن قتل -مثلاً- جزاؤه أن يقتل، فإذا قتل واحد بسبب قتله كان ذلك رادعاً لألف أو أكثر؛ ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] إلى أن قال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] فهي حياة للطرفين: حياة للذي يريد القتل؛ لأنه إذا تذكر أنه سيقتل لن يقدم على القتل، وحياة كذلك للمقتول الذي كان سيقتل؛ لأن قاتله إذا علم أنه سيقتل به لم يقتله، ففيه حياة للطرفين معاً.
وكذلك حد الردة، فمن ارتد عن دين الإسلام جزاؤه أن يضرب عنقه بالسيف، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) فإذا كان الإنسان لا يشهد هذه العقوبة ولا يراها واقعياً، فكل من زين له شيطانه أن يرتد عن الدين وجد ذلك أمراً سهلاً سائغاً بين الناس، لكن إذا رأى أن من بدل دينه يقتل عياناً جهاراً بين الناس، فهذا رادع ومقتضٍ من الناس ألا يبدلوا دينهم.
وكذلك الزاني المحصن إذا أقيم عليه حد الرجم فرجم بالحجارة حتى يموت بين الناس، وشهد عذابه طائفة من المؤمنين، فإن هذا رادع لكل من سولت له نفسه هذه الفعلة، وكذلك الزاني البكر إذا جلد عياناً أمام الناس مائة جلدة وغرب وسجن سنة كاملة، فإن هذا رادع لأمثاله مانع من العودة لمثلها أبداً.
وكذلك السارق إذا سرق فقطعت يمينه، وحسمت بالزيت المغلي بالنار أمام الناس وعلقت في رقبته، وطيف به بين الناس، فإن هذا مدعاة للابتعاد عن هذه الجريمة بالكلية وللحفاظ على أموال الناس.
وكذلك الذي يرمي المحصنات الغافلات المؤمنات إذا أتي به أمام الناس فجلد ثمانين جلدة، فإن ذلك مدعاة لئلا تشيع هذه الفاحشة بين المؤمنين.
ومثل ذلك اللوطي الذي يقوم بهذه الجريمة، فإن قتله أمام الناس أيضاً رادع لكل من تسوَّل له نفسه مثل هذه الجريمة، ولذلك لم تعرف جريمة اللواط في المجتمع الإسلامي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في حياة أبي بكر، ولا في حياة عمر، وإنما عرفت في أواخر حياة عثمان في الأصقاع النائية من الأمصار، حيث دخل في الإسلام أقوام كانوا يتعودون على بعض هذه العادات، فلما ظهر ذلك جمع عثمان الناس فسألهم عن حد اللوطي: هل هو حد الزنا أو غير ذلك؟ وكان من الذين أشاروا عليه ابن عباس فقال: (لم يقترف هذه الجريمة إلا قرية واحدة، فرفعها الله، ثم ردها على الأرض فأهلكها، فأرى أن من ثبت عليه هذا يرفع على أرفع مبنىً في المكان ويرمى منه على الأرض)، فأمر عثمان رضي الله عنه بأن ينفذ ذلك في الرجل الذي ثبت عليه هذا، فرفع على أعلى مبنىً في القرية ثم رمي على الأرض ومات.
فهذا النوع من العقوبات الرادعة هو خير من أن يودع هؤلاء المجرمون في السجون؛ للتعود على الجريمة والازدياد من الخبرة فيها، ولينفق عليهم من النفقات الطائلة، ويقام عليهم الحراس الذين يأخذون الرواتب الباهظة، دون أن يرتدعوا ودون أن يتعلموا ويتعلم من سواهم ضرر جريمتهم.(10/18)
تعليم الناس أحكام الحدود داعٍ إلى ترك الجرائم
كذلك فإن من وسائل مكافحة هذه الجرائم وإزالتها بالكلية: أن يعلم الناس أحكام الله فيها وأن تشاع بينهم.
فـ عبد الله بن ياسين رحمه الله تعالى -وهو أول من أقام رباطاً في هذا البلد، وأحسب أنه يكتب له أجر من جلوسكم هذا ومن جلستكم هذه ومما يشبهها من الجلسات إلى يوم القيامة- عندما أتى إلى هذه البلاد ووجد أهلها لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولا يطبقون من الدين إلا رسمه، وجمع خيرتهم في رباطه، أول ما بدأ أن علمهم الزواجر، ككبائر الإثم وما يتعلق بأمر العقوبات، وأشاعها بين الناس حتى أصبح الناس يفرون منها ويرهبونها ويخافونها، ثم بعد ذلك علمهم الفرائض، وبين لهم العقوبات التي تترتب على تركها، وهي في أغلبها عقوبات تعزيرية، فإذا تخلف الإنسان عن ركعة واحدة من الصلاة جلده عشرة أسواط، وإذا تخلف عن ركعتين جلده عشرين سوطاً، وإذا تخلف عن ثلاث ركعات جلده ثلاثين سوطاً، وإذا تخلف عن أربع ركعات جلده أربعين سوطاً، وعود الناس على الانشغال بالصلاة وترك ما كانوا فيه، وقد وجد عاداتهم كعادات أهل البادية، وحين طال بهم الأمد تركوا دعوة ابن ياسين وأهملوا تعاليم الإسلام، فكان الناس قبل مجيئه لا يصلي منهم في المساجد إلا نفر يسير، ولا تبنى المساجد ولا تقام، والذين يصلون الصلاة ينقرونها نقراً؛ لأنهم يخافون ضياع أموالهم أو تلف بهائمهم أو زروعهم، ولا يتوضئون إلا نادراً؛ لأنهم لا يجدون الماء إلا بالحفر في أعماق الأرض، ولا يقيمون كثيراً من حدود الله؛ لأنهم عشائر وقبائل يتحاكمون إلى الأعراف والعادات.
فلما جاء ابن ياسين كافح كل هذه الأمور، وعلمهم دين الله الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأزال أدران الجاهلية من نفوسهم، وبذلك استطاعوا أن يتخلصوا من هذه الجرائم وأن يتركوها بالكلية.
كذلك جاء قوم بعد ابن ياسين وحاولوا تجديد دعوته، وهم خمسة رجال فقط، فاجتمع هؤلاء وتعاهدوا على أن يحيوا دعوة ابن ياسين وعلى أن يحيوا الرباط من جديد، وعندما أقاموا في مجتمعهم مكثوا فترة طويلة لم يروا أية جريمة، وعينوا قاضياً فمكث زماناً لم يتحاكم إليه اثنان، ولم تقع أية خصومة؛ لأن الناس قد رجعوا إلى قيم الإسلام وإلى أخلاقياته، وأول خصومة حصلت بين أخوين، فأرسلا إلى القاضي وضربت لهما قبة بعيداً عن أماكن الناس، وجلسا فيها ينتظران القاضي، فقيل: هذا القاضي قد أقبل، فقالوا: ليرجع القاضي، فهذا أمر ينبغي أن يستر وهو واجب الاستتار، وسنصلح شأننا فيما بيننا، ورجع القاضي من دون أن يسمع الدعوى.
إن هذه الجرائم من أبلغ ما يكافحها تصديق القيم، والعودة إلى منابع الدين كما هي، والرجوع إلى أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وإلى أخلاق أصحابه.
فحين قام أبو بكر بقتال أهل الردة وقاتلهم على الإسلام أصبح ذلك رادعاً، فلم يعرف في أيام الخلفاء الراشدين أن أحداً أقيم عليه حد الردة، ولا في صدر دولة بني أمية، إلى أن وصل الأمر إلى آخر دولة بني أمية، فأول من عرف ممن قتل على الردة هو الجعد بن درهم، الذي زعم أن الله لم يستو على عرشه، ولم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، فخطب خالد بن عبد الله بن يزيد القسري، بالناس خطبة العيد، فقال في آخر خطبته: أيها الناس! ضحُّوا تقبل الله ضحاياكم؛ فإني مضحٍّ بـ الجعد بن درهم؛ فإنه زعم أن الله لم يستو على عرشه، وأنه لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً.
فنزل من المنبر، فذبحه كما تذبح الضحية! فقتال الردة جعل الناس يرتدعون عن الردة زماناً طويلاً، ولم يفكر أحد في الارتداد عن الإسلام للعقوبة الرادعة التي قام بها أبو بكر والصحابة معه.
ومثل ذلك العقوبات التي أشيعت أيضاً في صدر الإسلام، فستجدون أن كل عقوبة أقيمت في بلد واشتهرت فيه فإن أهل ذلك البلد سيرتدعون عما رتب الشارع عليه تلك العقوبة؛ ولهذا جاء في الحديث: (لحد واحد يقام على الأرض خير لأهلها من أن يمطروا سبتاً)، (سبتاً) أي: أسبوعاً كاملاً.(10/19)
خطورة تعطيل حدود الله
إن تعطيل حدود الله هو محادة لله في أرضه، ومنازعة لرسوله صلى الله عليه وسلم في أمره، وإشاعة للفواحش والمنكرات بين الناس، وإذاعة كذلك للإجرام ولأنواع الانتهاكات التي يتضرر بها جميع الناس؛ فكثير من الناس لنقص وعيه يظن أن المؤسسات القائمة التي تذكر بأسمائها الوظيفية هي التي يعهد إليها بمثل هذه الأمور، لكن هذه المؤسسات لن تبعث يوم القيامة، الناس اليوم يقولون: فلان قتلته الدولة، أو المال الفلاني صرفته الوزارة الفلانية أو الإدارة الفلانية، لكن هذا الكلام إنما هو دنيوي لن يصل إلى يوم القيامة، فيوم القيامة سوف يقال: فلان قتله فلان، فلان سجنه فلان، المال الفلاني انتهبه فلان أو سرقه فلان، العمل الفلاني اقترفه فلان بشخصه، فلن يبعث يوم القيامة رئيس ولا وزير ولا مدير ولا حاكم ولا والٍ، إنما الناس يبعثون يوم القيامة سواسية، وكل شخص منهم يخاطب بعمله وحده.
والذي يظن أن اللقب الوظيفي مما يعذر به اليوم أمام الناس فإنما هو مخدوع بذلك، فهذا اللقب سيزايله وسيخرج منه عما قريب وسيبعث فرداً كسائر الناس {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:95]، ولذلك فالذين قد ذهبوا إلى الدار الآخرة من الذين تجبروا وطغوا وبغوا في هذه الأرض، إذا وقفت على قبورهم ووقفت على قبور من سواهم لا تجد فرقاً بين الجانبين، إلا ما يظن بهذا وما يظن بهذا فقط، وعلم ذلك كله إلى الله سبحانه وتعالى ومصير كل شيء إليه.(10/20)
مكافحة الجرائم واجب على جميع الناس
إن هذه الجرائم التي تتفشى بين الناس وتشيع بينهم، لا ينبغي أن يظن الناس أن الجهة الحاكمة أو القضاء أو الشرطة هي المسئولة عن مكافحتها فقط، بل أن الجريمة اعتداء على أهل الأرض كلهم، ويجب عليهم أن يتعاونوا جميعاً على مكافحة الجريمة، وأن يقفوا في وجه الإجرام أياً كان، وهذا من حقوق المسلم على أخيه، كما جاء في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً.
قالوا: يا رسول الله! أنصره مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً؟! قال: تمنعه أو تحجزه عن ظلمه؛ فإن ذلك نصره) إذا حجزته عن ظلمه فقد نصرته.
وما أحوج الناس إلى ترسيخ هذه القيم اليوم بينهم، وأن يحجز كل أحد منهم أخاه عن ظلمه، وأن يحاول ألا يتفشى هذا الإجرام في محلته أو في المكان الذي فيه نفوذه وتأثيره.(10/21)
أهمية إنشاء جماعة لتغيير المنكر ومناصرتها
فإذا وجدنا من الناس ملأً جعلوا من أولوياتهم وواجباتهم مكافحة الإجرام، وبذلوا في سبيل ذلك قصارى جهدهم، فإن هؤلاء سيكتب لهم أجور لا حصر لها، وسيرتفع بهم شؤم هذا الذنب إن لم يرتفع بهم وجوده، فقد لا يرتفع وجود الذنب في فترة وجيزة، لكن يرتفع شؤمه إذا وجد قوم يقفون في وجهه ويريدون مكافحته، ومنع انتشاره بالكلية.
والأمر سهل ويسير، إن تشكيل جماعة أو مجموعة من الناس تتبنى محاربة الإجرام، أو حتى محاربة نوع واحد من أنواعه: محاربة اللصوصية، أو محاربة الإجرام الإعلامي، أو محاربة السرقة، أو محاربة المخدرات أو غير ذلك من أنواع الإجرام، فتشكيل هذا لا يكلف شيئاً؛ لأن هذا من الأمور التي تميل إليها الفطرة وتألفها النفوس السليمة، وما من أحد يدعى لمثل هذا إلا استجاب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد شهدت حلفاً في الجاهلية لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت)، وهذا الحلف هو حلف الفضول، تعاهد فيه المطيبون على نصرة المظلومين بمكة حين انتشر الفساد والظلم بمكة، وكان الحجاج تنتهب أموالهم، والعمار كذلك تنتهب أموالهم، فتعاهد المطيبون على نصرة كل مظلوم، فطيبتهم عمة النبي صلى الله عليه وسلم عاتكة بطيبها، ومسحوا أيديهم بالطيب ومسحوها على الحجر الأسود، وتبايعوا على نصرة المظلومين بمكة.
فلو دعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى مثل هذا الحلف في الإسلام لأجاب إليه، وهذا يدلنا على أهمية مثل هذا النوع من الأحلاف فهي مما يقرها الإسلام، ولا يكفي لمثل هذا فرد أو فردان، بل إذا قام فيه حلف الفضول فتحالف الناس على منع الظلم ونصرة المظلومين ومكافحة الجريمة، لم يتأخر أحد من العقلاء وأهل الرأي، ولا أحد من الذين يبتغون الأجر من الله سبحانه وتعالى أن يكون من المشاركين في مثل هذا.
حتى لو أقيمت لجان في البلدان أو الأحياء للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولمكافحة الإجرام بما تستطيعه هذه اللجان، مثلاً: بتبليغ الشرطة، أو تبليغ الحكام، أو الولاة، أو على الأقل التشهير في الإعلام بالعصابات أو بأصحاب اللصوصية والإجرام، فتشكل لجان لمثل هذا في الأحياء، فهذا النوع من الأمور التي يردع الله بها، وهي على الأقل معذرة إلى ربكم، وفيها إجابة لهذا الحلف الذي لو دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام لأجاب إليه.(10/22)
خطورة انتشار الجرائم والمعاصي
إن انتشار الإجرام بين الناس مؤذن بخطر عظيم، فهو مقتض لحصول مقت الله سبحانه وتعالى وسخطه، وإذا حل المقت فإن العقوبة ستكون شاملة، ثم بعد ذلك يبعث الناس على نياتهم، كما صح عن عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يغزو جيش الكعبة، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم، فقلت: يا رسول الله! كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟! فقال: يبعثون على نياتهم).
فإذا جاءت العقوبة وحلت ستشمل الجميع، وتأكل الأخضر واليابس، وتقضي على الصالح والطالح، لكنهم يبعثون يوم القيامة على نياتهم، فمن كان منكراً معرضاً عن الإجرام فإنه سينجو منه يوم القيامة، لكن يشمله شؤمه في هذه الدنيا؛ ولذلك يجب علينا جميعاً إذا سمع أي أحد منا منكراً أن يبرأ إلى الله منه، وأن يشهد على ذلك، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل حين سمع بقصة خالد رضي الله عنه مع بني جذيمة، وذلك أنه أرسل خالد بن الوليد رضي الله عنه بعد فتح مكة ليقاتل من امتنع عن الإسلام من الأعراب المحيطين بمكة، فأتى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام فقالوا: صبأنا صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فتأول خالد بن الوليد وأصحابه فأعملوا فيهم السيوف، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمد يديه إلى السماء وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد)، فلما جاء خالد بيَّن عذره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل عذره.
ومثل ذلك ما فعل حين أتاه محلم بن جثامة وقد قتل رجلاً شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تغفر لـ محلم بن جثامة، فقال: يا رسول الله! والله ما قالها إلا استعاذة من السيف، وما قتلته إلا وهو كافر! فقال: اللهم لا تغفر لـ محلم بن جثامة، فمكث ثلاثاً في أسوأ حال ومات، فدفنوه فأصبح وقد قذفته الأرض، ثم أعادوه فأصبح وقد قذفته الأرض ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إن الأرض لتواري من هو شر منه ولكنها آية) الأرض تواري كثيراً من الكفرة والمجرمين، ولكنها آية ردع الله بها سبحانه وتعالى عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً).
فلهذا على الناس أن يتعاونوا على مكافحة هذه الجرائم، وأن يعلموا أن خطرها وضررها عليهم أجمعين، وأنها لا تختص بالمتضررين المباشرين بها، بل يتعدى ضررها إلى من سواهم، ويهلك الحرث والنسل، وينقطع بها القطر من السماء.
وقد أخرج ابن ماجة في سننه وأحمد في المسند والحاكم في المستدرك بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر المهاجرين! أعيذكم بالله أن تدركوا خمساً: ما نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وجور السلطان ونقص المئونة، وما نقض قوم عهد الله وميثاقه إلا سلط عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما ظهرت الفاحشة في قوم فأعلنوا بها إلا ظهرت فيهم الأمراض التي لم تكن فيمن مضوا من أسلافهم، وما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم).
فهذه جرائم تتعلق بها عقوبات وشؤم في هذه الدنيا؛ فإذا انتشرت فوبالها وعقوبتها ستشمل الصالح والطالح؛ ولهذا يجب على المسلمين أن يتعاونوا على مكافحة هذه الجرائم والوقوف في وجهها.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا جميع الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يرفع عنا كل الجرائم، وأن يجعل بلدنا هذا بلداً آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم اجعل بلدنا هذا بلداً آمناً مطمئناً سخاء ورخاء وسعة يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين(10/23)
الأسئلة(10/24)
العزلة عند ظهور الجرائم والفتن
السؤال
قلتم: إن التعود على الجريمة ورؤيتها يجعل الإنسان يستشعر عدم عظم هذه الجريمة، هل ترون الهجرة إلى المناطق الداخلية أفضل لدين المرء؛ لما يراه في هذه العاصمة من جرائم تمارس بكل بساطة؟
الجواب
على الإنسان إذا رأى الجريمة أولاً: أن يحاول تغييرها وألا يستسلم لها، فالاستسلام ليس علاجاً؛ أن يترك الإنسان داره ومكانه لأهل الفساد؛ حتى ينتشر الفساد في الأرض، هذا مناف لمقصد الشرع، فمقصد الشارع أن ينتشر الخير، وأن يكافح الإجرام، وأن يردع أهلُ الحق أهلَ الباطل، ولا يقصد أن يذهب أهل الخير ويتركوا أهل الباطل يستبدون وينفردون بإجرامهم، بل المقصد الشرعي أن تكاثروهم وأن تردعوهم ما استطعتم، لكن -مع ذلك- إذا لم يجد الإنسان ناصراً على الحق فليس له إلا أن يفر بدينه من الفتن، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري في الصحيح قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، قال: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر؛ يفر بدينه من الفتن)، وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أخبركم بخير الناس منزلاً؟ رجل ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها، ألا أخبركم بخير الناس منزلاً بعده؟ مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله، ويذر الناس من شره).
وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن التعرب بعد الهجرة خطر عظيم، فسكنى البادية لمن قد سكن الحاضرة خطر على دينه وأخلاقه وقيمه، وقد أخرج أحمد في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدا جفا، ومن تبع الصيد غفل)، فلا تكون هذه الهجرة إلى البدو والأودية والجبال إلا عند عدم وجود معين على تغيير المنكر والأمر بالمعروف.(10/25)
وجوب الإنكار على أصحاب محلات تجميل النساء
السؤال
محلات تجميل النساء أو أماكن التزيين الموجودة على الشارع الكبير هي منارة مفتوحة الأبواب، وعلى أبوابها صور النساء في مظهر مؤلم، وبعض هذه المحلات قرب مسجدنا هذا، فما موقف المسلم من ذلك وجماعة المسجد؟
الجواب
هذا الأمر من المنكرات التي يجب البراءة إلى الله منها وإنكارها، والتأثير على أصحابها بكل ضغط يستطيعه الإنسان، فإذا كان الإنسان يعرف أصحابها أو يستطيع التأثير عليهم، فيجب عليه أن يناصحهم بالتي هي أحسن حتى يكفوا عن ذلك، فإن لم يمتنعوا ولم ينتصحوا وجب عليه حينئذ أن يرفع في أمرهم، ويجب على جماعة المسلمين وجماعة المسجد أن تتخذ موقفاً من هذا أيضاً، وأن تأتي إلى المحلات القريبة جماعة مؤلفة من أهل المسجد من مختلف الأسنان فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الحجة لله، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8] وقد بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، ففي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكر، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم) فلابد أن نقوم لله تعالى بالحق.(10/26)
القوانين الوضعية لا تساهم في الحد من الجريمة
السؤال
إلى أي حد يمكن أن تساهم القوانين الوضعية في مكافحة الجريمة؟
الجواب
إلى حد الصفر أو أدنى من الصفر؛ فالقوانين هي تشريع لما لم يأذن به الله وهي أكبر الجرائم، فالذي يريد مكافحة الجرائم بالقوانين الوضعية هو كالذي يريد تطهير النجاسة بالبول؛ لأن القانون نفسه أخطر جريمة وأعظم؛ لأنه تشريع لما لم يأذن به الله، ولن يترتب عليه إلا ما هو شر منه وأعظم وأخطر.(10/27)
تضييع المال العام من أبشع الجرائم
السؤال
هل ما نشهده اليوم من تفريط بعض المسئولين والمتنفذين في أماناتهم واستيلائهم على ما تحت أيديهم من مال عام يدخل ضمن نطاق الجريمة في العرف الشرعي؟
الجواب
نعم، هذا من أبشع الجرائم وأعظمها؛ لأن ما ائتمن عليه الإنسان تضييعه له أعظم وأبشع مما ليس كذلك، فالمسئول الذي وضعت فيه الثقة وجعل على رأس مؤسسة وجعل تحت يده مال اليتامى والفقراء والمساكين والمحتاجين ومن لم يولدوا بعد، ينبغي أن يحترم نفسه، وأن يحترم ما جعل تحت يده، وأن يحترم أمانة الله التي ائتمنه عليها، وهو يعلم أنه منقول عن هذا لا محالة، ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك، وهو سائر عنها، إن لم يسر عنها في الصباح فسيسير عنها في المساء، وسيتركها وراء ظهره، والله تعالى يقول: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} [الأنعام:94]، فلذلك على هؤلاء أن يتقوا الله فيما هم فيه، وليعلموا أن من أشراط الساعة: تضييع الأمانة؛ فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قالوا: وما تضييعها يا رسول الله؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) إذا وسد الأمر أي: وكل إلى غير أهله، فهذا من تضييع الأمانة، وهو شرط من أشراط الساعة وعلامة من علاماتها.
ولا شك أن هذا من الجرائم التي يجب تغييرها، فكل مدير ارتكب جريمة من هذه الجرائم فإن على الذين يعملون معه أن يضحوا بوظائفهم وبعلاقاتهم معه من أجل مكافحة الجريمة، فمكافحة الجريمة خير لهم من وظائفهم ومن علاقاتهم بمديرهم، فكثير من الناس لا يمنعه من مكافحة الجريمة إلا الجبن، أو التوكل على المخلوق، أو ظنه أنه يملك له من الله شيئاً، أو يمكن أن يرفع عنه ضرراً، أو أن يجلب له منفعة، والواقع خلاف ذلك.(10/28)
حكم ترك العريس للجمعة والجماعة
السؤال
هل كون الشخص في أيام عرسه يرخص له بسبب ذلك في التخلف عن الجمعة والجماعة؟ هل هذا صحيح أو غير صحيح؟
الجواب
هذا غير صحيح؛ بل يجب على المسلم أن يشهد الجمعة، وأن يعلم الخطر العظيم في التخلف عنها، فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بنار فتوقد، ثم أختلف إلى بيوت قوم يتخلفون عن الجمعة فأحرق عليهم بيوتهم)، وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا هل عسى أن يتخذ أحدكم الصبة من الغنم على رأس ميلين أو ثلاثة فيتخلف بها عن الجمعة.
فمن تخلف عن الجمعة ثلاثاً فلا جمع الله شمله، ألا ولا دين له، ألا ولا أمانة له) وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ترك ثلاث جمع ختم الله على قلبه) فهذا تحذير شديد من التخلف عن الجمعة، وعلى الذي أنعم الله عليه بأن يسر له الأسباب، وهيأ له ما كان يرغب فيه من الزواج وغيره ألا يجعل ذلك ذريعة لمعصية الله؛ فإن ما عند الله لا ينال بمعصيته.
إن من شكر نعمة الله سبحانه وتعالى على الإنسان -إذا تزوج وحصن دينه- أن يهتم بالصلاة، وأن يزداد اهتمامه بها، وألا يتخلف عن الجمعة ولا الجماعة، وليس ذلك عذراً في التخلف عنها.(10/29)
الحكمة من صلاة النافلة
السؤال
هل راتبة الظهر مشروعة لمن يصلي الظهر يوم الجمعة لعذر أو لغير عذر؟
الجواب
الراتبة إنما يقصد بها ترقيق القلب للصلاة، فهي تهيئة للنوافل لإتمام الصلاة، وتكميل لما ينقص من خشوعها أو أدائها، فيكمل الإنسان فرضه بها.
وحين علم الله عز وجل ضعفنا وعجزنا عن إتمام الصلاة يسر لنا هذه الرواتب القبلية والبعدية؛ لنكمل بها النقص الذي نتأكد أننا قد وقعنا فيه في صلاتنا، وقد كان كثير من سلفنا الصالح إذا صلى أصابه حياء شديد من صلاته كحال البغيَّ إذا انتهت من الزنا؛ لشدة ما يلاحظه على نفسه من كثرة التفريط في الصلاة، فقد أذن له في هذه الفرصة النادرة بمناجاة ديان السماوات والأرض الملك الديان، ومع ذلك يفرط فيها وتذهب نفسه كل مذهب؛ فلذلك يستحي عند نهايتها كما تستحي البغيُّ عند انتهائها من زناها، نسأل الله السلامة والعافية! فلذلك إنما قصد بهذه الرواتب ترقيق القلوب، والذي يتعمد التخلف عن الجمعة هو أحوج إلى ترقيق القلب، وهو أحوج إلى ما يسد به هذه الثغرة التي بقيت فيه، وقد كان كثير من سلفنا إذا فاتته الركعة الواحدة من الصلاة يأتيه الناس ويعزونه بصلاته للمصيبة التي نزلت به.(10/30)
حكم اجتماع الرجال والنساء في مكان واحد في المناسبات
السؤال
ماذا تقولون في هذه المناسبات التي يجتمع فيها الرجال والنساء في مكان واحد؟ وبماذا تنصحون رجلاً أصبحت هذه عادة مجتمعه؟
الجواب
هذا من المنكرات البينة ومن الجرائم العظيمة التي يجب إنكارها وتغييرها، ولا يتذرع فيها الإنسان بالعادة والعرف، فإن هذا من أهون الأسباب وأوهنها، بل هو مثل بيت العنكبوت، والذي يتذرع به كالغريق الذي يمسك بخيوط العنكبوت؛ ولهذا فإن على الإنسان أن يتقي الله سبحانه وتعالى، وأن يعلم أن الذين يزينون له الوقوع في مثل هذه المنكرات أو السكوت عنها إذا حصلت سيتبرءون منه يوم القيامة، وسيصيرون خصومه بين يدي الله، ولن يغنوا عنه من الله شيئاً.
فعلى الإنسان أن يقوم لله بالحق، وألا تأخذه في الله لومة لائم، وأن يحاول تغيير المنكر حتى لو كان ذلك في أقرب الناس إليه وآثرهم لديه، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا تقدم بنهي أو أمر جمع أهل بيته وخدمه ومواليه فقال: (إني متقدم إلى الناس في هذا الأمر، فوالذي يحلف به عمر بن الخطاب لا يرفع إلي أن أحداً منكم عمله إلا جعلته نكالاً)، ثم بعد ذلك يعلنه للناس بعد أن يبدأ بأهله.(10/31)
معنى حديث: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا)
السؤال
نرجو منكم توضيحاً لمعنى الحديث التالي: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا، وهو مدرك ذلك لا محالة: فالعين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)؟
الجواب
بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الزنا من الأمور المنتشرة، فهو مثل الشرك، فالشرك كثير الانتشار جداً، وهو أخفى في النفوس من دبيب النمل، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)، ومثل ذلك الزنا فهو أيضاً أنواع منوعة وهو منتشر خفي؛ فكثير من الناس لا يقترفون جريمة الزنا نفسها ولكنهم يقتربون منها، والله قد حرم الاقتراب من الزنا، ولم يذكر الزنا بنفسه في قوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]، فلم يقل: ولا تزنوا، وإنما قال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]، فهذا يقتضي تحريم النظر، وتحريم الكلام في ريبة، وتحريم الاقتراب والدخول على النساء والخلوة والخلطة وغير ذلك، فكل ذلك داخل فيما حرمه الله سبحانه وتعالى في قوله: (ولا تقربوا).
وكذلك مصافحة الأجنبية فإنه من الاقتراب من الزنا الذي حرمه الله في هذه الآية، أما بالنسبة لرد السلام في غير ريبة فهذا لا حرج فيه، بل هو مما أمر الله به في كتابه في قوله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]، فرد السلام لا حرج فيه شرعاً، ومثل ذلك تشميت العاطس فهو حق من حقوق المسلم على أخيه، ويستوي فيه الرجال والنساء، لكن المحرم هو سلام الريبة {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، وكذلك الدخول على النساء والخلوة بهن، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إياكم والدخول على النساء! فقالوا: يا رسول الله: أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت).
وبالنسبة لحظ الإنسان من الزنا: لو كان كل نظر إلى محرم داخلاً في هذا لكان هذا مشكلة وضرراً على الناس، وقد عفا الله عن النظرة الأولى -نظرة الفجاءة- كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنما لك النظرة الأولى) ولهذا قال: (والفرج يصدق ذلك ويكذبه)، فالشاهد الذي يشهد أن هذا من الزنا أو ليس منه هو الفرج إذا صدق ذلك، فمعناه: أن الإنسان -نسأل الله السلامة والعافية- قد وقع فيما حرم الله عليه، وإذا كذبه فمعناه أنه لم يصب ما حرم الله عليه حينئذ، وكذلك السماع: ما سمعه الإنسان إذا كان من الزنا فعلامة ذلك وشاهده أن يصدق ذلك الفرج، وإذا لم يفعل فقد كذبه، فمعناه: أنه لم يفعل ما حرم عليه.(10/32)
حكم جمع النساء وتعليمهن
السؤال
هل يدخل فيما سبق جمع النساء وتعليمهن؟
الجواب
بالنسبة لتعليم النساء وجمعهن هذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، وهو بعيد من الريبة والشبهة، ولكن المشكلة هي الخلوة بالأجنبية، والدخول عليها، ومخالطة النساء الأجنبيات.(10/33)
حكم معاقبة المجرم بدون إذن من السلطان
السؤال
هل يجوز لشخص أن يتصدى لجريمة ويعاقب أهلها ويؤذيهم بدون إذن من السلطان، كأن يضربهم إلى غير ذلك من الأمور؟
الجواب
لقد أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين أمراً عامة بمكافحة الجرائم وإقامة الحدود وغير ذلك، كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، وغير ذلك من الأوامر التي هي موجهة إلى جميع المسلمين، لكن اختلف الناس في حكم إقامة الحدود: هل هي مختصة بالولاة أو لا تختص بهم؟ فذهب الحنفية إلى أن إقامة الحدود مختصة بالولاة، واستدلوا بحديث ضعيف جداً وهو: (أربع إلى الولاة: -ومنها- إقامة الحدود)، وذهب الجمهور إلى أن الإنسان يقيم الحدود على من ملكت يمينه؛ للحديث الذي فيه: (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم)، وللحديث الذي فيه: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت الثانية فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت الثالثة فليجلدها الحد وليبعها ولو بحبل)، فهذا مقتضٍ لتفويض كل إنسان في إقامة الحدود على ما ملكت يمينه، ومن ذلك: أولاده وأهل بيته؛ فقد جعلهم الله إليه وهو الوالي المسئول عنهم.
أما تغيير المنكر بغير الحدود فعلى من رآه أن يغيره بيده مطلقاً، كل من رآه وهو قادر على التغيير يجب عليه التغيير، فإن استطاع ذلك بيده فلا يعذر بغيرها، وقد أعلن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس فيما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
لكن لابد أن يكون حينئذ التثريب على أهل المعصية والوقوف في وجه الجريمة بدافع من اللطف والمحبة والرحمة، وألا يكون لمجرد التشفي بأذى الآخرين؛ فالإنسان كالطبيب المعالج المداوي يردعهم بالرحمة، حتى في إقامة الحد وفي الضرب وغير ذلك يفعله بالرحمة؛ لردعهم عن معصية الله، وهو يحبهم بقدر ما لديهم من محبة الله وبقدر إيمانهم، ويبغض معصيتهم فيهم، وبذلك يكون رحيماً بهم، لا يريد أن يعين الشيطان عليهم، ولا يريد أن يستمروا في المعصية، ولا أن تأخذهم العزة بالإثم.(10/34)
حكم مصاحبة جماعة التبليغ
السؤال
لي أخ من حفظة القرآن، وأحسبه طيباً، لكنه منذ فترة اعتنق جماعة الدعوة والتبليغ، وهو يخرج معهم، فما هو هذا الخروج وهل هو بدعة حقاً أم لا؟
الجواب
الجماعات لا تعتنق، إنما يعتنق الشيء الذي يجعل في العنق كالديانات ونحو ذلك، أما الجماعات فيقال: تصحب، ولذلك فالأسلوب الصحيح أن يقول: صحب جماعة الدعوة والتبليغ مثلاً، وهذه الصحبة من الصحبة في الله، والإنسان لا يستطيع القيام بأمر الله وحده، ويحتاج إلى من يساعده، والله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، والإنسان محتاج لمثل ذلك، فإذا وجد من يعينه على التزام أوامر الله واجتناب نواهيه، والتزام ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلماً وتعليماً وعملاً وأخلاقاً وعقيدة وديانة فهذا أكمل وأفضل.
لكن بالنسبة لخروج جماعة الدعوة والتبليغ فهو مجرد تعليم وتدريب فقط، وليس أمراً واجباً ولا أمراً مسنوناً ولا مندوباً، إنما هو بمثابة الدراسة في المدرسة، كأن يدرس الإنسان ست سنوات في الابتدائية، وأربع سنوات في الإعدادية، وثلاث سنوات في الثانوية، وأربع سنوات في الجامعة، وأربع سنوات في الماجستير، وأربع سنوات في الدكتوراه مثلاً، كذلك هذا الخروج إنما قصدوا به التعويد على التعليم مثل المناهج الجديدة في المدارس تماماً، وقد جربوا فيه تجارب، وهو لا يدخل في البدع وإنما يدخل في المصالح المرسلة؛ لأنه بمثابة الدراسة الجامعية أو الدراسة المدرسية أياً كانت، لكنه قد يكون لدى الإنسان ما هو أفضل منه، فقد لا يكون أفضل الموجود في بعض الأحيان كمن لديه نفقات واجبة أو والدان ضعيفان، أو أهل يخاف عليهم إذا هو خرج وتركهم للضيعة.
ومع هذا فالشيطان كثيراً ما يحول بين الإنسان وبينه مما يدل على أهميته للإنسان، فقد جاءني رجل من الذين أحسبهم من المخلصين يشكو ولده، ويخبر أنه خرج مع جماعة الدعوة والتبليغ، فقلت: هل تنقم عليه شيئاً في دينه؟ فقال: لا، لقد كان سيئ الخلق حِلَّيقاً مدخناً غير ملتزم بالصلاة في المسجد، فجاء وقد تغيرت فيه كل هذه الصفات.
فقلت: أرأيت لو خرج في تجارة الآن إلى أسبانيا؟ فقال: نعم، هذا أمر معتاد لدى الناس، فقلت: فكيف تنقم منه الخروج مع قوم لم يستفد منهم إلا خيراً وما علموه إلا ما ترضاه أنت، وقد عجزت أنت أن تعلمه هذا؟! فكان ذلك مقنعاً له.(10/35)
حكم ذهاب المرأة إلى أماكن الاختلاط العامة
السؤال
ما حكم ذهاب المرأة المسلمة الملتزمة إلى الأسواق والمحلات العامة والمطاعم والمحلات التي يجتمع فيها الرجال والنساء؟
الجواب
إذا كان خروجها لحاجتها، ولم تكن متعطرة ولا متزينة، وأيقنت أنها لن تدخل في مزاحمة الرجال ولا اختلاطهم ولا أي إيذاء، وكان خروجها لأمر مهم؛ فهذا من الأمور الجائزة ولا حرج فيه.
لكن إذا أيقنت أنها إذا ذهبت إلى الأسواق ستزاحم الرجال، أو سينكشف من بدنها ما لا يحل لها كشفه كأن ينكشف ساعداها أو قرط أذنيها أو شيء مما حرم الله عليها كشفه فهذا لا يحل لها.
وكذلك إذا كانت تتزين للخروج أو تتعطر له، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيما امرأة تعطرت فخرجت من بيتها فهي زانية).
وكذلك إذا كان خروجها لمجرد التفرج على الناس ورؤيتهم ونحو هذا، فهذا من الأمور المقيتة شرعاً، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).(10/36)
حكم الدخول على غير المحارم
السؤال
ما حكم الدخول على الرجل الذي ليس بمحرم؟
الجواب
دخول المرأة على الرجل مثل دخول الرجل على المرأة، إذا كان بخلوة أو في مكان ريبة فهو محرم شرعاً ومن كبائر الذنوب، بل عند الحنابلة أنه تستبرأ منه المرأة، فعندهم أن أي خلوة حصلت بين أجنبي وأجنبية يجب منها الاستبراء، وإذا كان ذلك دخولاً اعتيادياً كدخولها على رجال في مكان في غير ريبة، ومع تستُّر، ومن غير تزين ولا تطيب، فهذا من الأمور الجائزة ولا حرج فيه، مثل حضور حلقات الدروس وحلقات العلم، والخروج في التجارات والبيع والشراء، وما تحتاج إليه المرأة من شئونها وأمورها.(10/37)
حكم رفع المرأة صوتها بالقرآن والحديث
السؤال
ما حكم رفع المرأة صوتها بالقرآن والحديث؟
الجواب
إذا كان صوت المرأة غير مطرب، ولم تقصد بقراءتها للقرآن والحديث التطريب، فلا حرج في رفعها لصوتها، بل قد كانت عائشة جهورية الصوت، وكانت تعلم الناس القرآن والسنة، وقد أمر الله أمهات المؤمنين بذلك في كتابه وقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34].
وكذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه خرج ذات ليلة إلى دور الأنصار يستمع القرآن، فسمع عجوزاً من الأنصار في آخر الليل تقرأ سورة الغاشية، فوقف على بابها فقرأت: بسم الله الرحمن الرحيم: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس وهو يقول: نعم أتاني، نعم أتاني).(10/38)
حكم تحويل المسجد إلى مكان آخر
السؤال
في قريتنا مسجد سقفه من الخشب والحديد، وبنت لنا الهيئة مسجداً من الأسمنت المسلح ملاصقاً له، إلا أن طوله أو عرضه أقل بثلاثة أمتار، فهل يجوز لنا أن نحول الصلاة إلى المسجد الجديد الذي هو أجمل وأقوى أم لا يحل لنا ذلك؟
الجواب
المسجد الذي تصلون فيه لم يأت جبريل بتخصيص ذلك المكان بخصوصه أنه المسجد؛ ولهذا فأنتم مخيرون قبل أن يبنى المسجد في أي مكان هو أليق بكم وأولى لكم أن تبنوا فيه المسجد الذي شئتم، وإذا بنيتم مسجداً ثم بنيتم ما هو أحسن منه وأولى، فالانتقال إلى الأولى أفضل، وقد قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، ونقل المساجد لمصلحة المساجد لا خلاف فيه بين أهل العلم؛ فقد أجمعت المذاهب على نقل المساجد لمصلحتها هي؛ كما إذا كان المسجد في زقاق ضيق، أو لم تكن له طريق نافذة، فينقل إلى مكان متسع، أو زقاق نافذ.
أما نقل المسجد لغير مصلحة المسجد فهو محل خلاف بين أهل العلم: فذهب جمهورهم إلى جوازه إذا كانت المصلحة عامة، واستدلوا بكتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص: (انظر إلى المسجد الذي بالتمارين فانقله، واجعل بيت المال في قبلته، فلن يزال بالمسجد مصلي)، فالمسجد الذي بسوق التمارين بالكوفة أمر عمر بنقله من مكانه، وأن يجعل خلف بيت المال، وأن يجعل بيت المال في قبلته؛ ولذلك فانتقال المساجد من مكانها إلى جواره، أو نحو ذلك من الأمور الداثرة التي عرفت في كل مكان وفي كل زمان، فما من مكان عرف في هذه الدنيا إلا وفيه مساجده العتيقة القديمة التي يجدد بناؤها ولم يستطع هدمها، أو كان في هدمها تكاليف، أو فيها إتلاف لمال قائم، فيبنى حولها مسجد، وتقام هي لمصلحة المسجد، فتكون وقفاً للمسجد، أو متجراً ريعه للمسجد مثلاً، أو سكنا ًلطلاب العلم أو لإمام المسجد، أو نحو ذلك.
ولهذا ليس من المصلحة الشرعية أن يعطل المسجد الأول؛ بل ينبغي أن يصرف ريعه لمصلحة المسجد الثاني، فيجعل بيتاً للاستئجار وريعه للمسجد الثاني، أو يجعل متجراً، أو يجعل مكاناً لسكن الإمام، أو طلاب العلم، أو للفقهاء، أو لمصلحة عامة تعود على المسجد بالنفع.(10/39)
حكم قصر الأمر بالمعروف على العلماء الرسميين
السؤال
كثير من الناس إذا أُمر بمعروف يقول: إن هذا من اختصاص العلماء المأمورين من طرف الحكومة، أرجو الجواب على هذا وتبيين الحكم فيه؟
الجواب
هذا قول على الله بغير علم، والذي قاله قد ارتكب جريمة أكبر من الإجرام الذي وقع فيه؛ لأنه أولاً: فعل جريمة مثل الغيبة أو الكذب أو الغش أو نحو ذلك، ثم عززها بجريمة أكبر منها وهي القول على الله بغير علم، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33].
فالأمر بذلك لكل الناس كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)، ولكل المؤمنين كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104]، وكما في قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71].(10/40)
حكم التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
ذكرتم في محاضرة سابقة في شأن التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أن مالكاً وأبا حنيفة والشافعي ورواية لـ أحمد يقولون بعدم جواز التوسل به، أين نجد ذلك؟
الجواب
تفصيل هذا كله مستوفى في كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية الذي سماه (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)، وقد نقل فيه كلام أهل العلم جميعاً في هذه المسألة، وذكر المذاهب الأربعة في هذا تفصيلاً على ما ذكرناه، وهذا الكلام نفسه موجود في كلام الطرطوشي من الماليكة في البدع والمحدثات، وكذلك في كتاب محمد بن وضاح المالكي وهو شيخ أبي عمر بن عبد البر في البدع.(10/41)
حكم إدخال برامج غنائية في التلفزيون
السؤال
في التلفزة الوطنية برنامج بعنوان: كلمات وأنغام، يستخدم لقتل الحياء، حيث يجتمع نساء ورجال آخذين زينتهم، فما نصيحتكم في ذلك؟
الجواب
هذا من المنكر البين الذي يجب على الإنسان أن ينكره، وأن يعلن إنكاره وبراءته منه، ونحن من هذا المكان ننكره ونعلن براءتنا إلى الله منه، ويجب على المسلمين أن يبرءوا من كل المنكرات وأن ينكروها، وأن يبلغوا من يرجون منه تغيير ذلك، وأن يحافظوا على أخلاقهم ودينهم، وأخلاق من استودعهم الله تعالى، وجعل تحت أيديهم من أهليهم، وألا يدعوا مجالاً لغزو بيوتهم بمثل هذه البرامج المفسدة الهابطة التافهة.(10/42)
نصيحة لموسوس
السؤال
أنا مصاب بشيء لا أعرف هل هو من الوسواس أم لا، وهو: أن أبي شيخ كبير مريض يستعمل دواء يزيد في جريان البول، وقد يصيب الفراش منه شيء بدون قصد منه فتعذرت طهارته، وأصبحت أنا لا ألمسه ولا أقربه ولا أجلس معه على الفراش الذي يجلس فيه، وحتى المكان الذي يجلس فيه، لأني أعتبر المكان نجساً كله، وحتى إن من يجلس معه في المكان من الأهل أصبحت أنفر منه، وإذا لمسني أحد من الأهل سواء مس ثيابي أو بدني غسلت ثيابي أو بدني، حتى إني أعتبر أني تنجست، وأصبحت أسكن في غرفة وحدي لا يدخل علي فيها أحد، حيث أصبحت معزولاً عن الناس، هذا منذ ما يزيد على سنة، وحتى إني أصبحت لا أصلي في المساجد؛ لأن الصبيان يصلون فيها؛ وذلك لأني أعتبر الصبيان متنجسين، وسبب هذا هو أني كنت أسكن مع أقرباء لي عندهم صبية يبولون على فراشهم، وفي بعض الأحيان قد لا يطهرون الفراش، فذهبت عنهم، وعندما أزورهم الآن وأجلس على فراشهم وأصافح أحداً منهم ولو في الطريق أرجع إلى أهلي وأغسل بدني وثيابي، وكذلك إذا زارني منهم أحد، فما توجيهكم لي؟
الجواب
هذه مشكلة من عمل الشيطان، فهذا الإنسان قد جعل للشيطان سبيلاً على نفسه واتبع خطوات الشيطان، وقد نهاه الله سبحانه وتعالى عن اتباع خطوات الشيطان، فعليه أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، وألا يجعل للشيطان سبيلاً عليه، فقد سلم عقله للشيطان واستسلم له؛ ولذلك يجب عليه أن يبادر بالتوبة، وأن يستغفر من هذا الوسواس، وأن يعلم أنه من عمل الشيطان البين، الذي يجب منه التوبة وتركه والرجوع عنه، وأن يعلم أن هذا مفسد لعقله ودينه ولأخلاقه ولمعاملته مع آكَدِ الناس حقاً عليه، فأحق الناس بصحبته والداه، وأقاربه، ويجب عليه أن يعتذر إليهما، وأن يعود عن هذا، وألا يدع للشيطان سبيلاً عليه أبداً.
وبالنسبة للصبيان: الأصل في ثيابهم وأبدانهم الطهارة؛ ولذلك لا يتغير هذا الأصل إلا إذا غلبت النجاسة، مثل من رآها، أو ظنها ظناً غالباً مبنياً على قرائن وعلم، ولم يكن من أهل الوسواس، أما من كان من أهل الوسواس فلا يلتفت إليه أصلاً، وينبغي أن ينقطع عنه بالكلية، وكل ما يؤدي إلى الوسواس لديه يفر منه ويتركه، فتعبدك لله كما كنت تعبد الله قبل أن تصاب بهذا المرض باجتناب النجاسات، تعبُّدك إلى الله الآن بأن تقطع الوسوسة، فكل ما يؤدي إلى هذه الوسوسة يجب عليك قطعه، والابتعاد عنه مطلقاً.(10/43)
كيف توفق المرأة بين الدعوة وبين تربية الأطفال
السؤال
كيف توفق المرأة بين واجباتها الدعوية وتربية أطفالها؟
الجواب
عليها أن تسدد وتقارب، وما من إنسان إلا وواجباته كثيرة وأوقاته ضيقة، لكن صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالتسديد والمقاربة، وقد أخرج البخاري في الصحيح قال: حدثنا عبد السلام بن المطهر، قال: أخبرنا عمر بن علي، عن معن بن محمد الغفاري، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين إلا غلبه)، وفي رواية: (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)، وفي رواية: (ولن يشاد الدين إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)، فعلى الإنسان أن يسدد ويقارب ويعلم أنه لن يؤدي كل الحقوق، ولن يأتي بها كاملة مهما كان، لكن يسدد ويقارب ولا يضيع حقاً واضحاً، ويحاول أن يعمل مثل عمل الفارض الذي يقسم التركة عندما تزيد الرءوس على السهام، فيعمل بالعود وينقص كل أحد بنسبة متساوية.(10/44)
كيفية تربية الأولاد
السؤال
كيف تربي المرأة أطفالها على الحق؟
الجواب
هذا مما ينبغي الاهتمام به، والعناية به، فأساليب تربية الأولاد على المنهج الصحيح، وتعويدهم على الرجولة في صباهم والالتزام بالحق من آكَدِ الواجبات وأهمها وأعظمها، والإنسان الذي يريد أن يكون أولاده ذخراً له وأجراً لا ينقطع عنه إذا كان في قبره وانقطعت أسبابه من الدنيا؛ فإن عليه أن يبذل فيهم جهداً، ولا يظنَّنَّ إنسان أنه سيصلح أولاده وذريته دون بذل الجهد، فهذا من الإهمال وتضييع الواجبات؛ ولذلك جاء في الحديث الذي فيه ضعف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكيَّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني)، فلذلك على الإنسان أن يبذل الأسباب في سبيل إصلاح أولاده وتربيتهم تربية صحيحة، وتعويدهم على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يكون ذلك إلا بمصاحبتهم، ومدارسة السنة معهم، ومدارسة السيرة النبوية وأخلاق السلف، وأن تدرس المرأة دراسة جادة في أساليب التربية لدى السلف، وكيف كانت الأمهات السابقات يربين أولادهن، ويعلمن أولادهن التعليم المصيب الصحيح.
وقد ألفت بعض الكتب في هذا، فمن الكتب المنتشرة المشهورة بين الناس: تربية الأولاد في الإسلام للشيخ عبد الله بن ناصح العلوان رحمه الله تعالى، وغيره من الكتب الكثيرة في هذا الباب المهمة التي ينبغي للنساء أن يقتنينها، وأن يتدارسنها، ومثل ذلك الكتب المتعلقة بالهمة، مثل: علو الهمة طريق إلى القمة للدكتور محمد بن إبراهيم محمد عقيل موسى، وكذلك غير هذا من الكتب النافعة في هذا الباب، (وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة).(10/45)
حكم إلحاق الأولاد بالمدارس النظامية
السؤال
هل يجوز أن تزج المرأة بأطفالها في المدارس النظامية على علاتها، وإذا كان الجواب بلا فما البديل؟
الجواب
المدارس النظامية إذا وكلت إليها المرأة تربية أولادها، أو وكل إليها الرجل تربية أولاده، فقد ضيع وفرط ولم يرع الأمانة التي ائتمنه الله عليها، لكن لا يقتضي ذلك أيضاً منعهم من الدراسة دون بديل، بل على الإنسان أن يعلمهم ويربيهم وإن جعلهم في المدارس، بأن يجعل لهم منهجاً خاصاً وبرنامجاً حافلاً في البيت، وأن يصرف أوقاتهم في تعلم القرآن والعلم والعبادة وتعلم الأخلاق والقيم، وألا يكل تعليمهم إلى المدارس أبداً، وأن يبيَّن لهم أن ما يتلقونه من دين الله في البيت هو أفضل وأعظم مما يتلقونه في المدارس، وأن المدارس يَدْرس فيها من هب ودب، ويُدَرَّس فيها كذلك من هب ودب، وأن تعلُّم القرآن هو الشرف العظيم، وأن تعلُّم العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو أشرف من كل ما سواه، فإنهم -إن شاء الله تعالى- لن تضرهم المدارس بذلك، فيستفيدون مما فيها من الخير، وينجون مما فيها من الضرر، والمهم أن على الإنسان أن يحاول أن ينجي أولاده من ضررها، وأن يكسبهم نفعها.(10/46)
طلاق من استبان أنها محرم وعدتها
السؤال
المطلقة طلاقاً تنزهياً هل لها عدة أم لا؟
الجواب
لها عدة كعدة غيرها، فقد أخرج البخاري في الصحيح وغيره من حديث عقبة بن حارث رضي الله عنه قال: (تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب بن عزيز، فجاءت امرأة سوداء فقالت: إني أرضعت عقبة والتي تزوجها، فقلت: ما علمت ذلك ولا أخبرتني، فأرسلت إلى آل أبي إهاب أسألهم فقالوا: ما علمنا ذلك، فركبت راحلتي فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسألته: فقال: طلقها فلا خير لك فيها)، وفي رواية: (كيف وقد قيل)، وفي رواية: (فارقها، ففارقتها فتزوجت رجلاً غيري)، فهو بمثابة الفراق، ولهذا تعتد منه المرأة بثلاثة قروء كالمطلقات الأخريات.(10/47)
حكم طاعة الوالدين في اختيار الزوجة
السؤال
ما حكم من يعارضه أبواه في الزواج من الملتزمات، بدعوى أنها ليست من أهله، ويصران على زواجه من بنات قومه، فكيف يتصرف مع أبويه؟
الجواب
على الإنسان إذا أراد البر بوالديه أن يسألهما أن يرشحا له من يرضيانها، فإن رشحا له ذات دين وخلق فعليه أن يبرهما بذلك، وإذا رشحا له من لا يرضى دينها ولا خلقها فلا يجب عليه برهما بذلك، بل إذا كان يخشى أن يصل إليه ضرر من خلقها أو دينها فلا يحل له أن يتزوجها، وإذا كان يرجو أن تلتزم وتستجيب، وأن يُصِلحَ دينها وخلقها فيثاب ثوابين إن شاء الله تعالى؛ ولهذا عليه أن يقنع والديه بالتي هي أحسن: إذا عرف من يرضى دينها وخلقها وأراد أن يتزوجها فمانع والداه من ذلك، فعليه أن يقنعهما بالتي هي أحسن، وإقناعهما سهل: فالوالدان بطبعهما رحيمان يحبان مصلحة الولد، فإذا خيَّرهما بين أن يتزوج بهذه أو أن يترك الزواج، فسيختاران الزواج بها، وكذلك إذا أخر الزواج بها وخدمهما وتقرب إليهما فترة طويلة، فإن ذلك مقتض لأن يبادرا إلى هواه وما يحبه، فإقناع الوالدين أمر سهل، وبالأخص إذا برهما الولد وأحسن صحبتهما، وعلى الإنسان ألا يتعجل، وألا يمل من خلطة والديه، فإنهما سينتقلان لا محالة ولن يعوضا، ولن يجد الإنسان بعدهما من يسد له مسدهما من المحبة والنصح؛ ولذلك على الإنسان أن يحسن خلطتهما ومصاحبتهما بالتي هي أحسن كما أمر الله بذلك.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
اللهم أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ندَّ لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، ونسخت الآثار، وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرءوف الرحيم، نسألك بعزك الذي لا يرام، وبنورك الذي أشرقت له السماوات والأرض أن تهدي قلوبنا، وأن تستر عيوبنا، وأن تكشف كروبنا، وأن تصلح أولادنا، وأن تحقق مرادنا وأن تجعل التقى زادنا.
اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم جنبنا جميع الجرائم والفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اصرف عنا الوباء والربا والزنا والزلازل والمحن عامة يا أرحم الراحمين.
اللهم لا تدع لنا في ساعتنا هذه ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً وفيها لنا صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأهن كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين.
اللهم حارب الكفرة أهل الكتاب الذين يحاربون أولياءك ويصدون عن سبيلك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين، اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تحقق لهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم آية.
اللهم ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً ولا تجعلنا أتباعه.
اللهم استرنا بسترك الجميل، اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، اللهم استرنا يوم العرض عليك يا أرحم الراحمين.
اللهم هؤلاء عبادك وإماؤك قد اجتمعوا في بيت من بيوتك يرفعون إليك أيدي الضراعة، فلا تردهم خائبين، اللهم لا تجعلنا أخيب الداعين يا أرحم الراحمين.
اللهم إنك تدعى في هذه الساعة بألسنة مختلفة في أماكن شتى، يا من لا تَحجب عنه دعوةٌ دعوةً، ولا تختلط عليه حوائج الداعين أجب دعاءنا يا أرحم الراحمين.
اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بك.
اللهم استجب دعاءنا يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، اللهم أنزل علينا السكينة، وألهمنا الإيمان يا أرحم الراحمين.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم أحسن خواتمنا يا أرحم الراحمين، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، واختم بالحسنات آجالنا، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
اللهم اجعل خير أعمارنا آخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.
اللهم اجعل سرائرنا خيراً من علانياتنا، واجعل علانياتنا صالحة.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.(10/48)
خطورة المتاجرة بكلمة الحق
عندما يتغلغل الإيمان في القلوب لا يمكن لأي قوة بشرية أن تقف أمامه، فهاهم سحرة فرعون عندما خامر الإيمان شغاف قلوبهم لم يخشوا تهديد فرعون بالقتل والصلب وإنما قالوا: اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا.
فعلى العلماء والدعاة أن يسعوا إلى زيادة الإيمان وتقويته، حتى يواجهوا به ضغوطات الجبابرة والطغاة، وأن يقولوا كلمة الحق ولا يخافوا في الله لومة لائم.(11/1)
ضرورة معرفة نعم الله علينا
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
عباد الله! إن الله سبحانه وتعالى يتعرف إلى عباده بما يسديه إليهم من النعم، ويتعرف إليهم كذلك بالبلاء الذي هو من المحن، وقد قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]، فمن شكر نعمة الله تعهد الله له بالمزيد، ومن صبر على بلاء الله تعهد الله له برفع البلاء ورفع الدرجة في الآخرة، وقد قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، فلذلك لابد -يا إخواني- أن نعلم أن كل ما يأتينا إنما هو من عند الله سبحانه وتعالى، وقد أنعم علينا بأنواع النعم التي لا نستطيع إحصاءها، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، وقال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل:53 - 54].
لابد -يا إخواني- أن نعرف نعمة الله علينا، وأن نقر بها ونبوء بها لله عز وجل؛ ليزيدنا من فضله، فإن ما عند الله تعالى غير محصور، وإنه سبحانه وتعالى قد قال فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الصحيح: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد منهم مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)، وإن الإنسان إذا تعامل مع الله تعالى عرف نعمته عليه في ماضي حياته، فكم من مأزق قد دخله ثم فرج الله عنه، وكم من أمر قد ضاق عليه ثم وسع الله له فيه، وقد قال أحد العلماء: حسن الظن بمن عودك كل إحسان، وقوى أودك، إن رباً كان يكفيك الذي كان بالأمس سيكفيك غداً.(11/2)
فوائد التوكل على الله
إن التوكل على الله سبحانه وتعالى هو مفتاح الفرج، وهو الذي يقتضي من الإنسان تحقيق الإيمان والانتماء لله تعالى، ولذلك فإن رسل الله قد حققوا ذلك جميعاً، وقد قال نوح لأصحابه: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس:71]، وقال هود لقومه حين كذبوه: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]، وقال إبراهيم عليه السلام لقومه حين رموه في النار: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال الله: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:69 - 70]، وقالها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قال لهم الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} [آل عمران:173 - 174]، أنعم الله عليهم فهداهم للتوكل عليه، وأرشدهم إلى سلوك طريقه، فامتن الله عليهم بهذه النعمة الجسيمة العظيمة، وكل المؤمنين عرضة لذلك إذا توكلوا على الله، فقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} [الطلاق:4 - 5]، فعلينا -يا إخواني- أن نتوكل على الله سبحانه وتعالى وهو حسبنا ونعم الوكيل، وأن نحسن العلاقة به، وأن نتوب إليه من كل ما فرطنا في جنبه، وأن نعلم أنه غني عنا ونحن فقراء إليه، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15 - 17]، وأنه تعالى غني عن عذابنا، وغني عن إلحاق الأذى بنا، ولكنه يمتحننا ويبتلينا، فعلينا -يا إخواني- أن ننجح في هذا الامتحان بين يدي الله، وأن نحسن علاقتنا به، وأن نفتح صفحة جديدة وعمراً جديداً، فقد أتيحت الفرصة لكثير منا بالإحسان والتوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.(11/3)
الإيمان بأن ما عند الله خير وأبقى
علينا أن نعلم عباد الله! أن ما عند الله خير وأبقى، وأن أهل الأرض لا يملكون لأحد منا نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:73 - 74].
إن الله سبحانه وتعالى هو ديان السماوات والأرض، وقد قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17]، وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [يونس:107]، وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2]، الأمر كله إليه {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:53]، السماوات السبع والأرضون السبع في قبضة يمينه، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء.
وما يخافه الإنسان من العباد لا يساوي شيئاً مما عند الله، فالإنسان الذي ترهبه أو تخاف منه أو تخاف مكره أو بطشه، يمكن أن يموت في نفس اللحظة التي تخافه فيها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لرسولي كسرى: (أرسلكما كسرى؟ قالا: نعم.
قال: قتله ابنه البارحة)، فالذي أتعبكما قد قتله ابنه البارحة.
ولذلك لابد -يا إخواني- أن نعلم أن الأمر كله بيد الله، وأن المخلوقين لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئاً من هذا الأمر، ليس شيء في أيديهم، لا يستطيعون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فكيف بمن سواهم؟! لابد أن نوحد الله تعالى وأن نخلص له، ولابد أن نعلم جميعاً أن الرزق من عند الله، وأن الخير بيد الله، وأن الثواب والعقاب كلاهما بيد الله، لا يملك أحد لأحد ثواباً ولا عقاباً إلا الله عز وجل.(11/4)
دعوة إلى التحرر من القيود والضغوط البشرية
ويعجب الإنسان إذا سمع أن مخلوقاً ضعيفاً محتاجاً إلى الله تعالى في كل أحواله، يحاول أن يناد الله ويحاده في ملكه، فيأمر بما يخالف أمر الله، ويسعى لإظهار الباطل وإزهاق الحق بلسانه الذي هو من خلق الله، لا يستطيع أن يتحرك حركة لا يميناً ولا شمالاً، ولا يستطيع أن يلفظ بقول إلا بأمر الله سبحانه وتعالى، وهو مع هذا يحاول أن يفتري على الله كذباً، ويحاول أن يأمر الآخرين بذلك، وقد قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:9 - 19].
وعلى عباد الله إذا تعارض أمر الله سبحانه مع أمر غيره أن يقدموا أمر الله؛ لأنه: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وأن يعلموا أن الله سبحانه وتعالى لديه من الضغوط ما ليس لدى المخلوقين، فالضغوط سببها إما خوف أو طمع، والله سبحانه وتعالى هو الذي لديه ما يخاف منه، ولديه ما يرغب فيه ويطمع، ومن سواه لا يملك ذلك لأحد.
لذلك لابد -يا إخواني- أن نتحرر من القيود ومن الضغوط، وأن نعلم أن المخلوقين ليس لهم أن يأمروا أحداً بخلاف أمر الشارع، وليس لأحد أن يطيعهم في ذلك، ومن فعل فقد عبدهم من دون الله، وقد قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5].(11/5)
ضرورة الثبات على الإيمان وفوائده
إن كثيراً من الناس يظن أنه بسلطانه في هذه الحياة الدنيا، أو بمكانته أو بوظيفته يستطيع أن يضغط على الآخرين، وأن يؤثر فيهم، حتى يغيروا مواقفهم، أو حتى يعدلوا عن الحق الواضح الذي لا لبس فيه، وهذا إنما هو ضرب في حديد بارد، وتخيل في غير موضعه، ولذلك لابد أن يثبت المؤمنون على الإيمان، وأن يعلموا أن الصراط الدنيوي الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو تمثيل للصراط الأخروي، الذي هو جسر منصوب على متن جهنم، وجاء وصفه في الحديث: (أدق من الشعر، وأحد من السيف، وعليه كلابيب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم: فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يزحف على مقعدته، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم).
وبقدر استقامة الإنسان على هذا الصراط الدنيوي تكون استقامته على الصراط الأخروي، فلذلك لابد أن نعلم أن كل هذه الضغوط، وكل هذه الأوامر والنواهي التي هي في غير موضعها، صادرة ممن لا يستحق أن يأمر ولا أن ينهى، ولا يملك لنفسه شيئاً، لو شرق من ريقه لما استطاع أن يزيل ذلك، ولو احتبس نفسه في رئته لما استطاع أن يخرجه، ولو احتبس أي شيء من قاذورات بدنه لما استطاع أن يخرجه من بدنه، ومن كان هكذا لا يمكن أن يخافه عاقل ولا أن يطمع فيه، لابد -يا إخواني- أن ننزل البشر منزلتهم، وأن نعلم أن حقوق الإلهية مختصة بالله جل جلاله، لا يملكها أحد ممن دونه.
إن الإنسان إذا اعتقد هذه العقيدة وآمن بهذا الإيمان، فهو مؤمن عبد لله، حر من الأحرار، ليس لأحد عليه سلطان، ولا لأحد ولا عليه ضغط، وهو بذلك متصل بالله جل جلاله، وقوته مستمدة من قوة الله الجبار جل جلاله، ولا يمكن أن يضعف أمام أي سلطان، ولا أمام أي ضغط من الضغوط، ولذلك قال الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:39 - 41]، انظروا إلى الفرق الشاسع بين هؤلاء الذين وصفهم الله بهذا الوصف {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، وبين آخرين إذا مكن لأحدهم في الأرض، ولو كان تمكيناً ناقصاً أمروا بالمنكر ونهوا عن المعروف، وأرادوا أن يغيروا حكم الله سبحانه وتعالى، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده، ويتجاسرون على الله تعالى في ذلك، وهم في هذا يعلمون أن ما هم فيه زائل، وأن الكراسي التي يشغلونها قد شغلها من هو أطول منهم عمراً ومن سبقهم، وقد قيل قديماً: (لو دامت لغيرك لما وصلت إليك)، ويعلمون أنهم غير مخلدين فيها، وأن لهم يوماً يذهبون عنها ويقفون بين يدي الله سبحانه وتعالى، ليس مع أحد منهم شفيع، ولا يغني عنه نسبه ولا حسبه، ليس له حينئذ إلا ما جنت يداه، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [النحل:111] حينئذ يعرضون على الله تعالى، كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، حينئذ يجازون عند الملك الديان بما يستحقون، ولا يمكن حينئذ أن يراعى فيهم نسب ولا حسب {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:48 - 51].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتاب علي وعليكم إنه هو التواب الرحيم.(11/6)
أسباب طغيان الإنسان
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على تفضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وإخوانه.
عباد الله! إن الطغيان له أسباب كثيرة، فيطغى الإنسان إذا أحس بالغنى، كما قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7].
ويطغى إذا أحس كذلك بالقوة بأي وجه من أوجهها، ويطغى إذا أحس بالإمهال من عند الله سبحانه وتعالى، ويطغى إذا اقترف كبيرة من الكبائر فلم يؤاخذ بها، ويطغى كذلك إذا رأى غيره ينصره على ما هو عليه من الباطل، وكل هذه الأسباب تؤدي بكثير من الناس إلى الطغيان ونسيان الآخرة، ومن العجب الذي لا يمكن أن يتصور إنسان قدره ولا مستواه، عندما يصل الطغيان إلى أقصاه في بلاد الإسلام وبين المسلمين! وينادى به على رءوس الأشهاد ولا يستنكره أحد، فهذا من العجائب العجيبة، التي لا يمكن أن يتصورها المسلم، الذي هو على هذه المحجة البيضاء، التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.(11/7)
واجب أئمة المساجد تجاه الضغوطات الموجهة عليهم
يعجب الإنسان إذا سمع أن أئمة المساجد جميعاً يؤمرون بأن يقولوا الباطل وأن يسكتوا عن الحق! يعجب أن يسمع مثل هذا النوع من التوجيه الذي هو صريح في مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى! وهو يعلم أن المساجد ليس عليها سلطان للبشر، وأن الله تعالى نسبها لنفسه وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18]، فحررها الله سبحانه وتعالى من سلطة العباد، وجعلها خالصة لله سبحانه وتعالى، فليس فيها سلطان إلا للقرآن، ما أمر الله به فيها لابد من أن ينفذ، وما نهى عنه لابد أن يجتنب، وهي بيوت الله من أرضه، ولابد من احترامها على أن تتخذ للدعايات المغرضة، والأباطيل والأراجيف الكاذبة، لابد أن تطهر من هذا النوع، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام:21]، أي: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً، وبين الله سبحانه وتعالى أن الافتراء سبب لأخذ الله السريع، فقد قال في نذارة موسى عليه السلام: {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه:61]، وقد قال الله تعالى في تعطيل المساجد: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:114].
تعهد الله لهم بأمرين: الأمر الأول: الخزي في الدنيا.
والأمر الثاني: العذاب في الآخرة، نسأل الله السلامة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
إن هذا الضغط لا يمكن أن يستجيب له عاقل ولا مؤمن؛ لأنه يعلم أن الله تعالى يأمر بخلاف ما يأمر به هؤلاء العباد الفقراء الضعفاء، الذين لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم حياة ولا موتاً ولا نشوراً، وأن ما يأمرون به مخالف لرضوان الله سبحانه وتعالى، والله ينظر إليهم عند أمرهم، ويستمع إلى ما يقولون ويبيتون وهو معهم أينما كانوا، ولا يستطيعون كتمان شيء من ذلك، وسيأتون فيعيدون الكلام بحضرة الملأ بين يدي الملك الديان، وبحضرة الأنبياء والملائكة جميعاً، وتشهد عليهم جوارحهم به، عندما يختم على ألسنتهم، فتتكلم جوارحهم وتشهد عليهم بما فعلوا من الزور والبهتان، والظلم العظيم.
إن هذا النوع من الأوامر لابد أن يستنكر، فهو من المنكرات الكبيرة العظيمة التي يجب إنكارها وتغييرها، ومن لم يستطع تغييرها بيده وجب عليه إنكارها بلسانه، فقد أخرج مسلم في الصحيح، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).(11/8)
لا ينبغي للعاقل أن يصرف دينه ومروءته من أجل أن يحصل على المنصب
إن علينا يا عباد الله! أن نعلم أن الحرص على المناصب أو الوظائف لا ينبغي أن يصل بالعاقل إلى هذا المستوى من الدناءة ونقص المروءة، إن لم يكن للإنسان دين يمنعه من مثل هذا، فعلى الأقل تمنعه منه مروءته في أوقات الحاجة إليه، وهو يعلم أن الناس تنتظر منه قول الحق، وتنتظر منه نصرة دين الله عز وجل، وتنتظر منه بما أنعم الله عليه أن يقول ما قال موسى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17]، إن ظهير المجرم لابد أن يسلط عليه المجرم يوماً من الأيام، وقد جاء ذلك في الصحيح، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أعان ظالماً سلط عليه)، فلابد أن يسلط عليه ذلك الظالم الذي أعانه وتزلف إليه بما يعلم هو في قرارة نفسه أنه باطل وكذب مفترى، فلابد أن يسلط عليه ذلك الظالم إن لم يتب، والله سبحانه وتعالى قد فتح باب التوبة أمام الجميع، وأذن للجميع إذا أخطئوا واستجرهم الشيطان إلى الباطل أن يعودوا إلى الحق.
وقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: (ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه بالأمس فراجعت فيه نفسك فهديت فيه إلى رشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل) والتمادي في الباطل لا يكون إلا من شأن الذين تبرأ الله منهم، فأولئك هم الذين يقعون في الباطل ثم يستمرون عليه ويستمرئونه.
أما أهل الحق فإن الشيطان يستزلهم للوقوع في المنكر ثم يتوبون ويرجعون إلى الله، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:201 - 202].
وبالأخص إذا كان الإنسان في شعب مسلم مسالم شأنه شأن شعبنا هذا المسلم، فإنه يعلم أن أهل الحق حتى من بيته وأسرته سيلومونه على مخالفة الحق، ومن لم يلمه على ذلك كان شريكاً له كما قال الشاعر: لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها إذاً للام ذوو أحسابها عمر ففي ذلك لابد أن يستحي الإنسان على الأقل على مروءته إن لم يستح على دينه، من مثل هذا النوع من الأباطيل التي هي من منكرات آخر الزمان التي لابد من إنكارها.(11/9)
ظهور الحق مع قوة الباطل وطغيانه
والغريب أن يغتر الإنسان بسلطانه فيظن أنه سيكمم أفواه الخلائق جميعاً، وقد قال الله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89]، أيظن أنه يستطيع أن يكمم أفواه الملائكة؟! أيظن أنه يستطيع أن يكمم أفواه الرياح؟! إن الحق إذا لم ينطق به البشر نطقت به الملائكة ونطقت به الرياح، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82]، إذا لم يقم به أهل الأرض قام به أهل السماء، ولذلك لا تظنوا أن الحق سيخنس أبداً، بل لابد أن يقوم به قائمون لله تعالى لا يخافون في الله لومة لائم، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:54 - 56].
أسمعتم هذه الصفات التي بين الله تعالى، والتي لم تجدوا فيها الذين يكممون أفواه الناس عن الحق، والذين يوزعون الأوامر في القرى والأمصار ألا يتكلم بالحق على المنابر، والذين يوزعون الأوامر في القرى والأمصار أن يعتقل كل من قال الحق، هل تجدون هذا الوصف في هذه الآيات؟ أبداً، إنما جاءت على خلافه وتكذيبه، وإبطال ما يدعيه أصحابه، فأولئك لا خلاق لهم، وإنما سلطهم الله على أنفسهم بذلك، ولا يضرون إلا أنفسهم، ولا يضرون الله ولا رسوله ولا دينه شيئاً، وسيندم من عاش منهم غاية الندم، أما من مات منهم على ذلك قبل توبته فسيعجل له عقابه، نسأل الله السلامة والعافية.
عباد الله! إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى فيه بملائكته، وثلث بكم معاشر المؤمنين، فقال جل من قائل كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، اللهم صل وزد وبارك على نبينا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأوهن كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين، اللهم أظهر دينك وكتابك على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم من أراد المسلمين أو الإسلام بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره، واجعل دائرة السوء عليه، وأدخله في ردغة الخبال، وسل عليه سيف الذل والوبال، وأرنا فيه عجائب قدرتك، وأنزل به المثلات، وأنزل به بأسك الذي لا يرد على القوم المجرمين، وائته من حيث لا يحتسب، وسلط عليه ما لا يستطيع الخلاص منه، اللهم شل أركانه، وهدّم سلطانه، وأخرس لسانه، وشتت أعوانه، وأبدلنا خيراً منه مكانه.
اللهم فرج همنا، ونفس كربنا، اللهم عجل الفرج لنا أجمعين، اللهم عجل فرجنا وعجل مخرجنا، وانتقم لنا ممن ظلمنا وممن أعان على ظلمنا.
اللهم فرق رأيهم، وشتت شملهم، واجعل كيدهم في تضليل، وأرنا فيهم عاجل انتقامك يا قوي! يا عزيز! اللهم كن للمستضعفين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم كن للمسلمين في فلسطين وفي العراق وفي كشمير وفي الشيشان وفي أفغانستان، اللهم ارفع عنهم البلاء، اللهم انصرهم على أعدائهم، اللهم أنزل بأسك ورجزك وسخطك وعذابك على كفرة أهل الكتاب الذين يحاربون أولياءك، ويصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، اللهم أنزل بهم المثلات، اللهم اهزمهم شر هزيمة، وأخرجهم من بلاد المسلمين صاغرين مهزومين يا ذا القوة المتين! اللهم إنهم قد طغوا وبغوا وبذلوا ما يستطيعون من الفساد في الأرض، اللهم اضربهم بسوط عذاب من عندك، ترينا به عاجل عقوبتك وسريع أخذك فيهم يا قوي! يا عزيز! اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم اغفر لنا حوبنا وسيئاتنا كلها يا قوي! يا رحمان! يا رحيم! اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، وفك أسرنا وأسر المأسورين من المسلمين أجمعين.
اللهم إننا نسألك أن تجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً سخاءً وسائر بلاد المسلمين يا أرحم الراحمين! اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والمحن، وجميع الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا أرحم الراحمين! اللهم ول أمورنا خيارنا، ولا تول أمورنا شرارنا، واجعل المال في أيدي أسخيائنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك، وأقام منهجك، ولم تأخذه فيك لومة لائم، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، واختم بالحسنات آجالنا، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه شكراً حقيقياً يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون، يغفر الله لنا ولكم.(11/10)
استشعار أئمة المساجد ما استئمنوا عليه من الوحي
لابد كذلك أن يعلم أئمة المساجد أنهم أمنا الله على الوحي، وأن الله اختارهم لمكان سامق رفيع، وأنهم إذا كانوا يخضعون لمثل هذا النوع من السفاهات فقد احتلوا مكاناً لا يستحقونه، فهذا الوحي هو أشرف ما في الأرض، ولا يمكن أن يؤتمن عليه السفهاء، ولا أن يؤتمن عليه الذين خربت هممهم، ولا يمكن أن يؤتمن على وحي الله إلا من كان أهلاً لذلك، ولهذا فإن من ائتمنه الله على وحيه فقد تحمل أعباء عظيمة، وتحمل أمانة قد عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، ولا يمكن أن يكون الإنسان متحملاً لذلك إلا إذا كان مستعداً لتبعاته وما يترتب عليه، وقد قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، فلابد أن يتحملوا مسئوليتهم، وأن يقوموا لله بالحق الذي عليهم، وألا يبالوا بمثل هذا النوع، فإن سحرة فرعون في أول إسلامهم قد نبذوا هذه الضغوط كلها، وعندما خاطبهم فرعون بقوته وسلطانه، وهددهم بأن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وأن يصلبهم في جذوع النخل، فماذا كان منهم؟ لم يكن منهم إلا أن قالوا له: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:72 - 76].(11/11)
المرأة بين الإسلام والتغريب
كرم الله المرأة وأعطاها حقوقاً تتمتع بها، وشرفها بأن جعل نفقتها ومؤنتها على الرجل، وصانها بالبقاء في بيتها، وبالحجاب وعدم الاختلاط بالرجال، ثم جاءت جاهلية الغرب فاتخذت من المرأة سلعة تباع، ومن عفافها تجارة ووسيلة للإفساد ونشر الرذيلة، وهذا مما يوجب على الداعية المسلم أن يوعي الأمة بخيرية الإسلام وصيانته للمرأة، وما عليه دعاة الغرب من الرذيلة والفواحش.(12/1)
تكريم المرأة بين الجاهلية والإسلام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فإن موضوع المرأة أصبح من الموضوعات التي ينبغي أن يهتم بها الرجال والنساء في عصرنا هذا خصوصاً، لما أشاعه أعداء الإسلام فيه من الافتراءات وما روجوا فيه من الشبهات التي كان العالم في غنى عنها لولا هذه الترويجات المغرضة.
وذلك أن المرأة لا تتميز على غيرها من خلق الله تعالى إلا تميزاً بسيطاً فسيولوجياً هو الذي جعلها امرأة، وهذا التميز لا يقتضي أن تفرد بكلام، أو أن تفرد بتفكير، أو أن يكون لها وضع مستقل، فهي من خلق الله تعالى، ومن الذين أرسل إليهم الرسل وامتحنوا بهذا الشرع، فإما أن يتبعوا وإما أن يضلوا، وكذلك إما أن يكونوا من أهل الجنة، وإما أن يكونوا من أهل النار.
ولكنه نظراً لبعض الأوضاع التي سادت في أوروبا وفي بعض البلدان الغربية فهضم فيه هذا الجنس من الناس وظلم، فجعلت المرأة بضاعة تباع وتشترى ويقصد بها الرزق، وتستغل كثيراً من أنواع الاستغلال، كانت النهضة الأوروبية الحديثة تجعل من مقوماتها ومن دواعي انتشارها، ومن أبواقها الإعلامية قضية تحرير المرأة.
ولا واقع لهذه القضية في بلاد المسلمين في الأصل إلا ما استوردت من أوروبا، ولم يستورد منها شيء إلا بعد نهضتها وبعد الثورة الفرنسية التي جاءت بإعلان حقوق الإنسان، ولذلك فإن اتخاذ المرأة بضاعة تباع وتشترى، واتخاذها ذريعة للإفساد في الناس واستغلالها بأنواع الاستغلال السيئ؛ كل هذه الأمور إنما توجد في العوالم المتخلفة.
ولهذا اشتهر في جاهلية العرب، أنهم كانوا يئدون بناتهم لئلا يشركنهم في مآكلهم ومشاربهم، ويئد بضعهم بناته خوفاً من الفضيحة، وكانوا كذلك لا يورثون النساء، لا من تركة الأزواج ولا من تركة الآباء، ولا الإخوة، وكانوا كذلك يكلفون الزوجة كثيراً من التكاليف، فكانت بمثابة الخادمة عند زوجها، وكان يضربها متى شاء ويؤذيها بأنواع الإيذاء.
وكانت كذلك إذا مات تعاني الأمرين، فتحبس في بيتها حتى تمضي سنة كاملة، لا تمس ماء ولا استحداداً ولا طيباً، ثم بعد ذلك يكون أكبر أولاده أولى بها من نفسها فإن شاء باعها لمن يدفع أكبر ثمن، وإن شاء خلف عليها واتخذها زوجة دون مهر.
وهذا الظلم كله نفاه الله عز وجل، وبدله الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعاد للمرأة حقوقها كاملة، فحرم الرسول صلى الله عليه وسلم وأد البنات، وجاء ذلك في عدد من آيات القرآن، فقد قال الله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9]، وكذلك جاء فيه قول الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31] وكذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وحرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات).
وكذلك حرم الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب الزوجة، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يضرب أحدكم زوجه ثم هو ويضاجعها)، وفي رواية: (لا يضرب أحدكم امرأته ثم هو يضاجعها).
وكذلك حرم الرسول صلى الله عليه وسلم إيذائهن ومنعهن من التصرف المباح، فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن إذا خرجن تفلات).
وكذلك حرم الله عز وجل عضلهن، وحبسهن عن الزواج، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء:19].
وكذلك فرض الله لهن من الميراث نصيبهن وحظهن، فجعل للزوجة الربع من تركة زوجها إذا لم يكن له فرع وارث، والثمن إذا كان له فرع وارث، وجعل لبنت الصلب وحدها النصف، وللأخت الشقيقة وحدها النصف، وللعدد من بنات الصلب الثلثين إذا انفردن، وللعدد من الأخوات الشقائق الثلثين كذلك، وكذلك جعل للأخت للأم السدس إذا انفردت ويشتركن في الثلث إذا اجتمعن، ويستوي في ذلك الذكور والإناث من الإخوة للأم.
وكذلك جعل لبنت الابن عند انفرادها مثل ما لبنت الصلب، أي: النصف، وإن تعددن فلهن الثلثان، وإن كانت بنت الابن مع بنت الصلب فلها السدس تكملة الثلثين، وكذلك الأخت لأب، إذا انفردت ترث النصف بكامله، وعند التعدد يرثن الثلثين، وللأخت لأبٍ مع الأخت الشقيقة السدس تكملة الثلثين.(12/2)
الجواب عن الاعتراض في توزيع الميراث بين الذكور والإناث
وهنا يعترض بعض المعترضين حين جعل الله تعالى للزوج عند عدم وجود الفرع الوارث النصف وله مع الفرع الوارث الربع، وأنه جعل في ميراث العصبات للذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا مختصٌ بهاتين القضيتين فقط من قضايا التركة.
والجواب هنا: أن المال لا يُنظر إليه بهذه النظرة المادية التي تقتضي التهافت عليه، فلا ينظر إلى المال شرعاً على أنه قيمة من قيم الإنسان، ولا أنه عنصر من عناصر التفاضل، أو معيار من معايير التفاضل بين الناس، بل يُنظر إليه على أنه وسيلة من وسائل تحقيق التكاليف فقط، فمن كانت تكاليفه كبيرة ينبغي أن يزداد حظه من المال ليتصرف فيه، ومن كانت تكاليفه صغيرة، لم يحتج إلى هذا المال ولا ينبغي أن يدخره ويحتكره، لأن ذلك يعتبر تعطيلاً لهذا المال عن الحكمة الشرعية التي من أجلها خلق.
ولهذا فإن المرأة لم تكلف بكثير من التكاليف المادية في الشرع، فليست عليها دية، فلا تدي خطأها هي ولا خطأ غيرها، والرجل عليه الدية عن نفسه، وعن المرأة، بل يدي عن أقاربه جميعاً ذكورهم وإناثهم، والمرأة لا تدفع شيئاً من الدية.
والرجل في الزواج هو الملزم بالصداق والنفقة والسكنى والكسوة، ولا يلزم المرأة شيء من ذلك، والرجل هو المكلف ببذل المال على وجه الأصالة في إعلاء كلمة الله تعالى في الجهاد في سبيل الله، ولا يجب ذلك على المرأة، فلما أسقطت عنها هذه التكاليف المادية، جاء حظها من الميراث أيضاً أقل في مقابل التكاليف، ومن هنا يزول هذا الاعتراض بكليةٍ.(12/3)
الجواب عن الاعتراض على جعل القوامة للرجال
وكذلك فإن من الاعتراضات التي يعترض بها في هذا الباب القوامة التي جعلها الله تعالى للرجال على النساء؛ فإن الله عز وجل قال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34].
وهذه القوامة تقتضي الإشراف والنفقة، والقيام بالحقوق والحضانة، والدفاع عنها وإرشادها لما فيه مصلحتها، وهي تشريف شرف الله به الرجال في مقابل تشريف آخر شرف به النساء، وذلك أن الله عز وجل هو الحكم العدل، فجعل في الدنيا أمرين: الماديات والمعنويات، فشرف الرجال بأهم ما فيها من المعنويات وشرف النساء بأهم ما فيها من الماديات، فالنساء شرفهن الله بالذهب والحرير وحرم ذلك على الرجال، والرجال شرفهم الله تعالى بالقوامة، وحرم ذلك على النساء في الأمور العامة مثل الإمارة وإمامة الصلاة، وقوامة البيت، وغير ذلك.
هذه أمور معنوية شرف الله بها الرجال، وحظرها على النساء، وفي المقابل شرف النساء بأشرف الماديات من الذهب والحرير، وغير ذلك من الأحجار الكريمة التي يمنع استعمالها على الرجال، وهذا عدلٌ من الحكم العدل، فلماذا لا يعترض على تحريم الحرير والذهب على الرجال ويعترض على تحريم القوامة على النساء؟ إن هذا العنصر الذي هو المرأة عنصرٌ فعال مؤثر، فلذلك يحتاج إلى توجيهه توجيهاً صحيحاً ليتمكن من القيام بدوره الواجب، ولا شك أن أصل خلقة النساء تقتضي منهن لطفاً وعاطفةً زائدة، ولهذا أوجب الله عليهن الحضانة والتربية، والقيام بأمور البيت، وهذه حقوق لا يمكن أن تنكر؛ فهي مما يتعارف على أنه يختص بالنساء في كل أمةٍ وفي كل حضارة، ولا يمكن أن تسند إلى الرجال أبداً.
لكن المشكلة أن الذين يدعون إلى تحرير المرأة يلزمونها بهذه الحقوق، ويوجبون عليها حقوقاً أخرى، وهي الحقوق الواجبة على الرجل، فيكبلونها بقيدين: القيد الأول: الحقوق التي كانت واجبة على النساء وهي مناسبةٌ لهن وملائمة لهن.
والقيد الثاني: الحقوق الواجبة على الرجال، والتي هي مناسبة لخلقة الرجال وقوتهم، وهذا زيادة في التكاليف دون مقابل، والحكم العدل اللطيف الخبير أعلم بالمصالح، وهو الذي يقول في كتابه: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51].(12/4)
دور المرأة في الإسلام
إن نظرةً واقعية لحال المرأة في الإسلام وحالها في بلاد الغرب، تكشف لنا كثيراً من الحقائق.
وإذا قلت: في الإسلام، فلا أقصد واقع المسلمين اليوم، ولا ما يعيشه المسلمون في بلاد الإسلام مع الأسف؛ لأن هذا الواقع إنما هو تجلٍ واكتشاف من تجليات الحضارة الغربية الموجودة وراء البحر الأبيض، فالواقع الذي نعيشه هنا ما هو إلا صورةٌ منقولةٌ من بعض ما هنالك، فلذلك لا يمكن أن نحاكم المرأة في الإسلام على هذا الأساس، ولا أن ننظر إلى واقع المرأة اليوم في بلاد المسلمين فنرى أنه هو الواقع الشرعي الذي يجب أن يكون.
بل الواقع خلاف ذلك، فالمرأة في بلاد الإسلام اليوم إلا من رحم الله قد أخذت بما في بلاد الغرب، وسعت تنهق وراء الغربيات، وحاولت أن تُدرك ما فاتها من فجورهن وسعيهن فيما لا يرضي الله عز وجل.(12/5)
المرأة المسلمة تشارك في الجهاد
كذلك إذا نظرنا إلى بيوت المسلمين في الصدر الأول وجدنا أن المسئولية فيها مشتركة، وأن أعظم مهمات الإسلام وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، وقد كان النساء فيه يخرجن مع الرجال، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خرج في غزوة أقرع بين نسائه فمن خرجت القرعة لها خرج بها في سفره.
وكذلك كان كثير من النساء لا ترضى أن تتخلف عن غزوة يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما كلفها ذلك من المشاق، فهاهي أم سليم بنت ملحان وكانت مسناً حاملاً في شهرها التاسع، حين أراد رسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى فتح مكة، وإلى غزوة حنين والطائف، لم ترض أن تجلس خلفه في المدينة، فقالت: إن الحر الذي يستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهواجر بوجهه، لجدير بنا أن نستقبله.
فخرجت من بيتها مجاهدةً مع رسول صلى الله عليه وسلم حتى شاركت في فتح مكة وفي غزوة حنين، وفي حصار الطائف، وأنجبت ولدها والرسول صلى الله عليه وسلم محاصرٌ للطائف وهي معه.
وكذلك نجد أختها أم حرام بنت ملحان وهي زوجة عبادة بن الصامت رضي الله عنهما، عندما نام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتها فاستيقظ يبتسم فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما يضحكك؟ قال: (قوم من أمتي ملوك على الأسرة أو كالملوك على الأسرة يركبون ثبج هذا البحر، هم في الجنة، فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم)، فهؤلاء القوم الذين يخاطرون في سبيل الله، ويبذلون أنفسهم لإعلاء كلمة الله، ويركبون ثبج البحر، وهم في الجنة كما شهد لهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لن ترضى هذه المرأة المؤمنة إلا أن تكون في مقدمتهم، فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، قال (أنت منهم)، وكان قد رآها ورؤيا الأنبياء وحي.
وهكذا فإننا نجد في البيت الإسلامي في الصدر الأول تكاملاً وانسجاماً بين ما يقوم به الرجال وما يقوم به النساء من أعمال، ونجد فيه تضحيةً متبادلةً من الطرفين، وعوناً متبادلاً ومؤازرة على الحق، ونصراً له، وتعاوناً على البر والتقوى، وتراحماً ومودة أكدهما الله تعالى في كتابه في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21].(12/6)
المرأة لها السبق إلى الإسلام ونصرة الدين
لكننا إذا نظرنا إلى الإسلام على حقيقته مبيناً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح، رأينا أن أول من صدق لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نفسه امرأة، وهي خديجة بنت خويلد، ورأينا أنها أول من ضحى في سبيل نصرة هذا الدين، وأنها سعت جاهدةً لتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم ومؤازرته ومساعدته بالنفس والمال، وأن لها أخوات وبنات سرن على طريقتها، وقمن بهذا الواجب على الوجه الأكمل، واقتفين هذا الأثر.
ولذلك لا نجد تضحية للإسلام ولا عملاً مشرفاً للمسلمين، إلا وجدنا إلى جنب الرجال نساءً قمن أيضاً بهذا الحق وسعين في نفس المسعى، بل في كثير من الأحيان نجد بعض الميادين قد برز فيها كثير من النساء واختصت بتضحيتهن وقيامهن بالحق على وجه أكبر مما هو مألوف معروف لدى الرجال، ولهذا فإن فضيلة السبق في الإسلام تُذكر للنساء هنا، فهن أول من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فضيلة المؤازرة بالمال، فهن أول من ضحى بالمال في سبيل نصرة الدين، وكذلك فضيلة الشهادة بالحق التي هي أقوى مقوٍ للنفسية والشخصية التي نجدها عند خديجة عندما قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتكرم الضيف، وتعين على نوائب الحق).
فنجد قوة تصور هذه المرأة للمهمة الجسيمة التي كلف الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم من تغيير واقع الناس، وفهمها العميق لهذه المهمة، وأنها تقتضي قوة في الشخصية وقوة في التأثير، وأن على من حوله أن يؤازره وأن يبين له ما فيه من الصفات التي تقوي شخصيته على ذلك؛ وكل هذا يدلنا على الفهم العميق الذي وصلت إليه هذه المرأة وهي تواجه هذه المهمة الشاقة الصعبة.(12/7)
مشاورة المرأة في أمور الدنيا والدين
وكذلك نجد في البيت الإسلامي تحقيق التعاون والرفق، والعطف بين الطرفين أيضاً، فقد كان الرجال في صدر الإسلام ذوي شفقةٍ عظيمةٍ على نسائهم، وكانوا يشركون النساء في الرأي وفي الأمور الجسام.
فهاهو الرسول صلى الله عليه وسلم يشاور أمهات المؤمنين في كل أمرٍ عظيم من أمور الإسلام، وكان لرأيهن آثارٌ طيبة في مسيرة هذه الدعوة المباركة، فهذه أم سلمة رضي الله عنها تشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية برأي أنقذ الموقف ورفع الغضب عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، حين أمر الناس أن يحلقوا رءوسهم وأن ينحروا هديهم ويتحللوا فلم يفعلوا، فأشارت عليه أم سلمة أن يبدأ بنفسه، وأن ينحر هديه وأن يحلق رأسه، فإذا فعل فسيفعله المسلمون فلما امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أشارت به أم سلمة، امتثل ذلك المسلمون جميعاً، فأنقذت هذا الموقف، وقامت بالوجه الصحيح الذي يقتضي صواب الرأي وتمام الحنكة والفطنة.
إن البيت الإسلامي مؤسسة متكاملة فيه تعاون على البر والتقوى، وقيام بالمصالح العامة وقيام بالمصالح الخاصة، فلا يحتكر فيه أحد الطرفين شيئاً من طاقاته وجهوده عن الطرف الآخر، ولهذا نجد فيه الانسجام الكامل والتعاون في كل الأمور، وأعظمها حقوق الله عز وجل، فإن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (رحم الله رجلاً قام من الليل يصلي فأيقظ امرأته لتصلي معه، فإن هي امتنعت نضح في وجهها من الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل لتصلي، فأيقظت زوجها ليصلي معها، فإن هو امتنع نضحت في وجهه من الماء).
إن هذا من التعاون على البر والتقوى، ومن التعاون على حقوق الله عز وجل التي هي بداية أمر الدين وملاكه، ثم بعد ذلك التعاون على الحقوق بالتغافر والتسامح في كافة الحقوق، وأدائها على الوجه الصحيح، كما تربى على ذلك الجيل الأول الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبوه ورأوا هديه ودله وسلوكه.(12/8)
بيعة النساء
إن المرأة في الإسلام ممثلاً في تلك العصور الأولى وفي ذلك الصدر المبارك، لم تكن في حاجةٍ إلى تحرير ولم تكن بحاجة إلى البحث عن حقوق زائدةٍ عن الحقوق الشرعية التي وهبها الله تعالى وشرفها بها، ولذلك لم تكن شخصاً مستهجناً ولا مستذلاً ولم تكن شخصاً هامشياً في الأسرة، بل كان يوكل إليها كثير من المهمات وتقوم بكثير من الأدوار البارزة، وتؤدي كثيراً من الحقوق، وتساعد الزوج في كل الأمور، ويوكل إليها كثير من الواجبات التي لا يمكن أن يقوم بها من سواها، ولهذا فإن الله عز وجل حدد شروط بيعة النساء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبينها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:12].
فحدد عز وجل شروط بيعة النساء هنا وبينها، وكانت شاملةً في جميع ميادين الحياة وجوانبها، فذكر الله فيها الشرط الأول: وهو أن لا يشركن بالله شيئا، وهذا كافٍ التحرير من الأغلال الأخرى، فإن أعظم غلٍ يغل به الشخص وأعظم عبودية يسترق بها هي العبودية لغير الله والشرك بالله، فهو أعظم أنواع الرق والعبودية، فمن كان عبداً لهواه أو كان عبداً لمن سوى الله، فهو رقيق مستذل مستعبد، ولهذا فإن الله عز وجل حرر المرأة بهذا الشرط الأول من شروط البيعة، وهو قوله: {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة:12]، فيشمل هذا الشرك في الربوبية وهو عبادة الأصنام، وشرك الألوهية بأنواعها المختلفة، فيدخل في ذلك شرك الدعوة، ويدخل فيه شرك التشريع، ويدخل فيه شرك المحبة، وكل هذه من القيود التي يقيد بها الناس وتكفهم عن التصرف، ولكن الله عز وجل حرر المرأة منها في هذا الشرط الأول.
ثم بعد ذلك ذكر شروطاً أخرى مكملةً، فقال تعالى: (وَلا يَسْرِقْنَ)، وهذا يشمل السرقة من حقوق الله والسرقة من حقوق الناس، وشر السرقة سرقة المرء من صلاته كما في الحديث، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أنواع السرقة من الدين، فسئل عن الالتفات، فقال: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة أحدكم، ولا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم، إلام تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه).
وكذلك يشمل هذا السرقة من الحقوق مطلقاً سواء كانت حقوقاً ماديةً أو كانت حقوق معنوية، ويشمل كذلك السرقة من الأموال، فيشمل ذلك ترك أداء الزكاة فإنه سرقة من مال الله تعالى، وكذلك ترك النفقات الواجبة، وترك أداء الديون، فكل ذلك داخل في السرقات.
ثم بعد هذا قال: (وَلا يَزْنِينَ)، وهذا يشمل أنواعاً كثيرة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة؛ فالعين تزني وزناها النظر، والقلب يزني وزناه الفكر، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه).
فالزنا شدد الله تعالى فيه النكير، وحرمه بأسلوب يختلف عن تحريم ما سواه من الفواحش، فإن ما سواه من الفواحش جاء النهي عنه بطريق المباشرة، وأما الزنا فجاء النهي عنه بقول الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]، فلم يقل: لا تزنوا، وإنما قال: (لا تقربوا الزنا)، فالنهي عنه يشمل النهي عن مقدماته ووسائله وما يؤدي إليه من الاختلاط والنظر والمصافحة، والكلام في الريبة، وغير ذلك من أنواع الوسائل التي يتوسل بها ويتوصل بها إلى الزنا.
ثم بعد هذا قال: (ولا يقتلن أولادهن)، وهذا يشمل قتل ديانة الأولاد بإفساد أديانهم، وقتل أخلاق الأولاد بعدم تربيتهم، وقتل أبدانهم بعدم الاعتناء بصحتهم، وغير ذلك من أنواع القتل، فليس القتل مقصوراً على إزهاق الروح بل أعظم القتل قتل الدين، ثم بعده قتل الخلق، ثم بعد ذلك قتل الروح وإضعاف البدن.
ثم قال: {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة:12]، وهذا يشمل الكذب مطلقاً، وشهادة الزور وادعاء الحقوق الباطلة، وكذلك يشمل ادعاء الأنساب غير الصحيحة كتبني الأولاد ونسبتهم إلى النفس من غير أن يكون لذلك حقيقة.
وكذلك قال: (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ)، وهذا الشرط شامل لجميع الأوامر، فإن الشروط السابقة كلها متعلقة بالنواهي، وأما الأوامر فأجملت في قوله: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12]، فشرط عليهن أن لا يعصين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به، فإن ما يأمر به هو المعروف، فيشمل ذلك الواجبات والسنن والمندوبات، فكلها داخلة في المعروف الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به.
فهذه البيعة ذات طرفين ككل بيعة، فعلى النساء الوفاء بهذه الشروط، والمقابل الذي سيجنينه هو الجنة، وهو سلعة الله الغالية، فلذلك قال: {فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:12].
ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يأتي النساء ليبايعنه يقرأ عليهن هذه الآية فيلتزمن بها، فيقول لهن: (فيما استطعتن وأطقتن)، فكن يقلن: أنت والله أرحم بنا من أنفسنا، أي: حين يشترط لهن هذا الشرط؛ لأنه يعلم ضعف عواطفهن وضعف أبدانهن، فيشترط لهن فيما استطعن وأطقن.
إن هذه البيعة تقتضي أن المرأة عنصر مهم في الإسلام، وأنه ليس عنصراً هامشياً، وأنه لا يمكن أن يدعى ببهتانٍ أنه لم يعط مكانه الصحيح، ولم يتبوأ مكانته المرموقة، بل هذه الآيات التي فيها شروط البيعة وتحقيقها، وهيئة أدائها، كفيلة بالنظر إلى هذا العنصر اللطيف بأنه من أهم شرائح المجتمع ومكوناته، فالغالب أنه أكثر من نصف المجتمع، وبه صلاح النصف الآخر، فهو الذي يربيه ويشرف عليه، وهو الذي يمكن أن يستغل أيضاً لإفساده كما سيتضح لنا في حياة المرأة في الغرب.(12/9)
نماذج من تضحيات النساء في الإسلام
وهنا أصل إلى بعض النماذج من النساء في الإسلام، فإن هذه النماذج يمكن أن نقرأ من خلالها ملامح عامة عن حقوق المرأة ودورها الذي يمكن أن تقوم به، وعطائها ونظرة الإسلام إليها ومكانتها فيه، وهذا كافٍ وحده مثبتٌ بأن هذا بالإمكان أن يقع، وأنه لا ضرر فيه ولا خطر، وأنه ليس فيه ما يؤدي إلى الاصطدام والانتقاص.(12/10)
موقف عائشة من مقتل عثمان
ثم إن عائشة رضي الله عنها لم تكتفِ بخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤازرته في نصرة دينه، وحفظ هذا الدين على المسلمين وتبليغه، بل حين رأت أمراً عظيماً، حصل في دولة الإسلام باغتيال الخليفة الثالث وحصاره ظلماً وعدواناً في الشهر الحرام في البلد الحرام؛ رأت أن من واجبها أن تتصرف.
وأداها اجتهادها إلى الخروج للمطالبة بدم عثمان، وهي تعلم أن هذا ليس من شأن النساء، ولكنه إذا لم يقم به من يكفي من الرجال تعين على النساء، فاجتهدت هذا الاجتهاد، وإن كانت قد أخطأت في بعض جوانبه، فخطؤها مغفور؛ لأنه ليس عن رقة دين ولا عن جهلٍ، وإنما هو عن علم وطلب للحق، وهو اجتهاد، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر).
فـ عائشة رضي الله عنها حين رأت أن الحق هنا وهو المطالبة بدم عثمان، وقتل قتلته، لم يقم به من يكفي من الرجال، رأت أنه مما يتعين عليها أن تقوم فتطالب بدم عثمان، وتخرج في ذلك وتقاتل من أجله.
وهكذا أيضاً كانت لها مشاركات أخرى في كثير من الأمور فيما بعد هذا، فهي المضحية الباذلة في سبيل الله، كان يأتيها عطاؤها من بيت المال، وهو عطاء سنة كاملة من بيت المال، وهي صائمة في النفل، فتنفقه جميعاً في يومها ولا تدخر منه درهماً واحداً للإفطار.
وكانت رضي الله عنها تجتهد في تعليم الناس القرآن، وكان لها بعض الموالي الذين إذا حفظوا القرآن أعتقتهم، وكان لها مولى يحفظ القرآن ويكتب المصاحف، وكانت عائشة إذا كانت بمكة تنزل بين جبلي ثبير وحراء، فيجتمع عليها رجال قريش، فإذا كان من الليل أمرت عبد الرحمن بن أبي بكر أن يقوم بهم الليل ليصلي بهم جماعة، فإذا تخلف عبد الرحمن إلى الحرم أمرت مولاها ذكوان فيصلي بالناس، وكان ينشر المصحف أمامه فيقرأ فيه وهو يصلي بالناس.(12/11)
نماذج من عصور التابعين وأتباعهم
هذه بعض النماذج في الصدر الأول من المضحيات في سبيل الله، ومن اللواتي نلن حقوقهن كاملةً في ظلال الإسلام، وحفظن حقوقهن ولم يفرقن ولم يفرطن، وعرفن أنهن على حق فلزمنه، وقد اقتفى آثارهن في كل العصور نسوة صالحات مؤمنات، لا خفاء في ذلك ولا إشكال.
فلا نزال نذكر كثيراً من النساء اللواتي كان لهن دور بارز في خدمة الدين، ففي عصر التابعين لا نزال نذكر بعض النساء اللواتي حفظن علم الصحابة كـ فاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام وصفية بنت أبي عبيدٍ، وغيرهن من النساء اللواتي كان لهن أثر بارز في خدمة هذا الدين وحفظ هذا العلم.
ثم في عصر أتباع التابعين، نجد أن نسوة كان لهن أيضاً من الأثر والتضحية والبذل في سبيل الله الشيء الكثير، فهذه زبيدة بنت جعفر بن المنصور زوجة هارون الرشيد، وهي من أتباع التابعين، حين حجت فرأت أن الحجاج ينقلون المياه على الحمر والإبل من مكة إلى عرفات، وأن كثيراً منهم يعطش، ويلقى عناءً في الحج، رأت أن من واجبها أن تقيم سقاية للحجيج تبقى بعدها، فجلست في مكة ولم تخرج منها حتى أقامت هذا المشروع الضخم، الذي أنفق عليه الملايين من الدنانير، وهذا المشروع ما زال قائماً إلى اليوم مشاهداً، وقد ظل الحجاج أكثر من أحد عشر قرناً وهم يشربون من سقاية زبيدة.(12/12)
مواجهة عائشة لحادثة الإفك
وكذلك فإن أعظم مشكلة في حياتها هي مشكلة الإفك التي حصلت في العام السادس من الهجرة، عندما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً إلى بني المصطلق، فأقرع بين نسائه، فخرجت القرعة لـ عائشة، وكان ذلك العام عام قحط.
وكانت عائشة قد استعارت من أختها أسماء عقداً من جزع أظفار فكان في عنقها، فبينما هي خارجة لبعض حاجتها ذكرت العقد فلم تجده، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه فمكثوا كذلك حتى نفذ ماؤهم، فجاء الناس إلى أبي بكر فقالوا: أما ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماءٍ وليس معهم ماء.
فأتاها فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً قد اضطجع وأسند كتفيه إلى بطنها، فجعل أبو بكر يضربها بخاصرتها، ويقول: أقمت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماءٍ وليس معهم ماء؟ تقول: فأتألم ما يمنعني من الحركة إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه جبريل بآية التيمم، فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركاتكم علينا يا آل أبي بكر، فبعثوا البعير الذي كانت عليه فوجدوا العقد تحته، ثم انطلقوا، فبينما هم معرسون في مكان إذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل من الليل، فكانت عائشة قد خرجت لحاجتها، فجاء رجلان فحملا الهودج الذي كانت فيه، ولم يشعرا أنها ليست فيه.
فجاءت فوجدتهم قد ارتحلوا ولم تجد أحداً في مكانهم فقالت: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتذكرني، فأقامت في مكانها وصلت الفجر وجلست فيه تذكر الله، فلما كان وقت الضحى مر بها رجل من الصالحين من المسلمين، وهو صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، وكان رجلاً مخبتاً يبقى في آثار الجيوش ليأتي بما يتركوه ورائهم، وليحفظ عليهم أمتعتهم، ويحفظ عليهم ظهورهم، فرآها فعرفها، فاسترجع واستعبر -أي: بكى- وولاها ظهره، وأناخ لها راحلته فركبت عليها من الخلف، وقاد بها حتى لحق بالجيش.
وكان المنافقون قد خرجوا في تلك الغزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا الإفساد، فأرادوا أولاً إيقاع حرب بين المهاجرين والأنصار حين قالوا: لقد غلبنا هؤلاء الجلابيب على مدينتنا، فلئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فرد الله عليهم بسورة المنافقين في ذلك.
وأرادوا كذلك إيقاع الفتنة بين المسلمين، فرموا عائشة بما برأها الله منه، فكان ذلك خيراً للمسلمين، رفع الله به منزلة عائشة ومنزلة أبيها أبي بكر، بل ورفع به منزلة رسوله صلى الله عليه وسلم وزاد أجره، ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11].
وقد رفع الله منزلة أبي بكر حين وصفه بقوله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى} [النور:22]، وكذلك رفع منزلة عائشة في قوله: {الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26].
هذه أعلى شهادة يمكن أن تحصل عليها امرأة، حين جعلها الله كفؤاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو خيرته من خلقه، وأفضل خلقه، قال الله تعالى {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26].
قالت عائشة: لقد نلت أحد الوعدين وأنا راجيةٌ للثاني.
فنالت أحد الوعدين وهو العاجل، أي: الرزق الذي وعدها الله به في هذه الحياة الدنيا، وهي راجيةٌ للوعد الآخر؛ لأن الله لا يخلف الميعاد، وهو المغفرة الأخروية، الشاملة لما تقدم من ذنبها وما تأخر.(12/13)
تضحية أسماء بنت أبي بكر بعد الهجرة
فمن هذه النماذج البارعة في الإسلام أسماء بنت أبي بكر الصديق: فهي امرأة يرضى نساء الإسلام بتمثيلها لهن، فإنها كانت في بداية هذه الدعوة فتاة صغيرة فامتلأ قلبها بحب هذا الدين والتصديق به والإيمان به، ورأت أنها يجب أن يكون لها دور، وأن يكون لها مباشرة لعمل تنصر به دين الله تعالى، وتقوم بجهدٍ في نصره ونشره، فنجدها عنصراً بارزاً يقوم بعمل خطير في أعظم مهمة من مهمات العهد المكي، وهي مهمة الهجرة، فأعظم مهمة للإسلام في العهد المكي هي مهمة الهجرة من مكة إلى المدينة؛ لأنها بداية إقامة الدولة الإسلامية.
وهي وقت تكالب أعداء الله تعالى على هذه الدعوة وكيدهم لها، وهي وقت ضعفٍ كذلك؛ لأن المسلمين قد خرج أكثرهم من مكة وبقي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بقي من المستضعفين في القيود والأكبال والسجون، فكان الوقت وقتاً محتاجاً إلى التضحية والبذل في سبيل الله، فانتهزت أسماء هذه الفرصة وقامت بالحق الواجب.
وهنا يأتي درس نفهمه من جهاد أسماء في هذه المرحلة، هذا الدرس ينبغي أن يكون بارزاً بين أعيننا، وهو أننا إذا تحدثنا عن أن المرأة لا يجب عليها كثير من التكاليف، وأنها ليست آلة للقيادة العامة، فليس معنى ذلك أنها إذا لم يقم بها الرجال تسقط عن النساء، بل إذا لم يقم الرجال بما يجب عليهم تعين ذلك على النساء، فإذا لم يقم الرجال بالقيادة التي تجب عليهم، فلا يحل للنساء أن يتركن ذلك، بل يجب عليهن أن يقمن بهذا؛ لأنه حق واجب على المسلمين، وهو فرض كفاية يأثمون بتركه، فإذا لم يقم به أحد تعين على من يطيقه ويستطيعه ممن شهد وحضر، وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين.
ومن هنا نعلم أن تراجع النساء واعتذارهن بأن الرجال لم يقوموا بالحق، أو بأن هذا من فروض الرجال وليس من فرائض النساء، تراجع في غير محله واعتذارٌ غير لائق، فإن الرجال إذا لم يقوموا بالحق وجب ذلك على النساء، ولهذا عرفت أسماء أن فرصتها المواتية أن تقوم بالحق في وقت الأزمة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت الظهيرة، وهو وقت لم يكن يأتيه فيه، فحرك حلقة الباب، فقام إليه أبو بكر فأعطاه أوامر سريعة هي خطة الهجرة، وهي على النحو التالي: أن أبا بكر يصحبه في هجرته، وأنهما سيذهبان إلى غار ثور فيمكثان فيه ثلاثة أيام بلياليهن، وأن عبد الله بن أبي بكر وكان شاباً هو المكلف بجمع الأخبار وتقصي المعلومات عن مكائد قريش ومؤامراتها، وأن أسماء هي المكلفة بالتمويل، فهي المكلفة بنقل النفقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في الغار، وهي المكلفة بإعداد سفرتهما وما يحتاجان إليه من زاد، وتهيئة ذلك.
وأن عامر بن فهيرة هو المكلف بالتستير والتغطية.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر في الليل إلى غار ثور، فمكثا فيه هذه الليالي الثلاث بأيامها، وكانت أسماء تأتي في الليل وهي تحمل النفقة، وأرادت أن تهيئ لهما زادهما بمكة، فلم تجد وعاءً للفقر المدقع، فلم يمنعها ذلك من التضيحة بما تستطيع، فأخذت نطاقها، وهو الإزار التي تأتزر به، فقسمته نصفين، نصف اتزرت به، ونصف آثرت به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فجعلته وعاءً لزادهما في هجرتهما، ومن أجل ذلك لقبت بـ ذات النطاقين بهذا اللقب الشريف الذي يشهد بتضحيتها الجسيمة، وبذلها في وقت الأزمة والحاجة.
وكذلك قام عبد الله بالوجه الأكمل لمهمته، فكان يجمع المعلومات ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فينقل إليهما ما جد من أخبار قريش ومؤامراتهم.
وقام عامر بن فهيرة بالمهمة أيضاً على أبلغ الوجوه، فكان يريح الغنم على أثر عبد الله فيطمسه، ويغدو بها على أثر أسماء فيطمس أثرها.
فهذه الفتاة المسلمة كانت حينئذ في بيت أبيها أبي بكر الصديق، وهي متزوجة بـ الزبير بن العوام، لكن الزبير كان فتى فقيراً لا يملك إلا سيفاً وفرساً، وكان قد هاجر وتركها في بداية الحمل بمكة، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة، وكان هاجر إلى الحبشة ثم رجع منها ثم هاجر إلى المدينة.
فلما خرج مهاجراً ترك أسماء حاملاً بابنها عبد الله، فهاجرت في مقدمة النساء المهاجرات بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وصلت إلى المدينة كان اليهود قد سحروا المسلمين، فتأثرت أسماء بهذا السحر فتأخر حملها فترة، ثم أنجبت عبد الله وأتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحنكه بريقه ودعا له، وكان أول مولود يولد للمهاجرين.
وكانت أسماء قامت بدور بارزٍ في بيت أبيها بمكة حين ترك أبو بكر أباه شيخاً كبيراً ضريراً، أي: أعمى، وخرج أبو بكر مهاجراً بكل ماله في سبيل الله، فقال أبو قحافة لـ أسماء: ماذا ترك لنا أبو بكر؟ فأخذت ظرفاً ملأته من الحجارة وحركته وقالت: ترك لنا هذا المال الكثير، فأراد الشيخ أن يحمل الظرف فإذا هو ثقيل: فقال: هذا مال كثير، فمن تركه لا عليه أن يسافر ويخاطر! والواقع أن أسماء هنا لم تقتصر على التضحية بنفسها، وبما بذلته في سبيل الله عز وجل ونصرة دينه، ولكنها زيادة على ذلك استطاعت أن توظف وسائل أخرى للقيام بهذا الحق، فهاهي تستغل عقلها وشخصيتها في طمأنينة هذا الشيخ الكبير الأعمى حتى لا يجد في نفسه موجدة على ابنه المهاجر في سبيل الله.
وبعد هجرتها كانت شخصاً فاعلاً في دعوة النساء في المدينة وتعليمهن، وكان نساء قريشٍ يعرفن الكتابة، وكان نساء الأنصار لا يعرفن الكتابة، فكان نساء المهاجرين يعلمن نساء الأنصار ما يتعلمن به القرآن من الكتابة، وكانت أسماء قد حفظت بعض القرآن قبل هجرتها فجاءت معلمة إلى المدينة، ومع ذلك لم تنشغل بالدعوة والتعليم عن واجبات البيت، فكانت تذهب إلى أرضٍ وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير بن العوام بالعقيق، وكان الزبير يزرع فيها، فتأخذ منها ما تعلف به فرس الزبير، وتحمله على رأسها من مسافة طويلة، وقد مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تحمل علف الفرس على رأسها، فقال (لولا غيرة الزبير لحملناك).
وكانت تخدم أم الزبير صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها بأنواع الخدمة، وهنا وجد الزبير أن وراءه شخصاً يوثق به، ويمكن أن توكل إليه المهمات، ويمكن أن يخاطر الشخص إذا تركه وراءه.
فالشخص الذي لا يكل أموره إلى أحد، ولا يعلم أن وراءه من يقوم بمهماته، لا يتشجع على التضحية والبذل، لكن الشخص الذي يعلم أن وراءه من يقوم بكل مهماته، وأن وراءه شخصاً سيقوم بالحقوق كلها، ويؤديها على الوجه الأكمل، لا غرابة أن يخاطر وأن يبذل الكثير، وأن يضحي تضحيات جساماً، ولهذا فإنها شاركت الزبير بن العوام في أجره في غزواته كلها.
وقد شهد الزبير المشاهد كلها مع رسول الله وكان حواليه، ولم تخرج غازيةً في سبيل الله لا طائفة ولا شاكية بحضرة الزبير إلا خرج فيها، وكان ينزل بألفٍ، ولذلك سيره عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع المقداد بن عمرو وعبادة بن الصامت إلى عمرو بن العاص حين استنجده وكتب إليه أن ينجده بثلاثة آلاف مقاتل، فقال: (أرسلت إليك ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل واحد منهم بألف، فإذا لقيت عدوك فاجعلهم بين المسلمين وبين عدوهم، فإنهم لن يرجعوا حتى يقتلوا أو يحكم الله بينهم وبين عدوهم)، فهذه التضحية التي كان الزبير يقوم بها، وخلدها حسان بن ثابت، رضي الله عنه في قوله: وكم كربة ذب الزبير بسيفه عن المصطفى والله يعطي ويجزل فما مله فيهم ولا كان قبله وليس يكون الدهر مادام يذبل كلها تشاركه فيها أسماء بنت أبي بكر، فهي التي خلفته في أهله وقامت بحقوقه، ووفرت له الجو المناسب ليضحي في سبيل الله، وليقوم بحقه.(12/14)
أسماء تساند ابنها عبد الله بن الزبير
لم تقتصر أسماء فقط على بيت والدها وبيت زوجها، بل حين بلغت من الكبر عتيا وبلغت مائة سنة، كان ابنها عبد الله يرى أن واجبه أن يقوم لله بالحق حين رأى خلافة المسلمين تسقط، ويرى الدولة مهددة، فيدعو بأن ينتصب خليفة للمسلمين ويدعو الناس إلى ذلك؛ لأنه يرى أن الخلافة لابد منها وأنها أساس الإسلام ومحوره، وأنه إذا لم يقم للإسلام خلافة، فستسقط دولته، كما حصل في عصورنا هذه والله المستعان! فقام عبد الله بهذا الحق، فوجد من أمه خير مؤازرٍ على ذلك، فهذه العجوز الكبيرة التي قد بلغت المائة أو جاوزتها تقوم بالحق في هذا الوقت، وتؤازر ولدها في القيام بخلافة المسلمين، وتؤيده على ذلك، وحين دخل عليها ليودعها حين انهزم عنه أصحابه وبقي وحده يجاهد عن حرم الله وعن بيته، وكانت الخيل تدخل عليه من باب بني جمحة فيعترضها وحده حتى يردها، وتدخل عليه من باب بني عبد الدار فيعترضها وحده حتى يردها، فلما كثر عليه ذلك، أغلق أبواب المسجد الحرام، وذهب إلى أمه ليودعها، فلما دخل عليها قالت: (يا بني، إن كنت على الحق فامضِ عليه، فقال لها: إني لا أخاف إلا أن يُمثل بجسدي بعد موتي، فقالت: يا بني، إن الشاة لا يؤلمها السلخ بعد الذبح!).
فشجعته بهذا، فاستمر عبد الله قائماً بالحق حتى لقي الله تعالى ومات شهيداً واحتسبته أسماء ووقفت عليه وهو مصلوب، فكانت تقول: أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟ ولذلك فإنها قامت بالتضحية في ثلاثة أشياء، قامت بالتضحية في بيت أبيها وأسرتها الأولى التي هي أسرة النسب، ثم قامت بالتضحية في بيت زوجها وأسرتها الثانية التي هي أسرة السبب، ثم قامت بالتضحية في الجيل الثالث وهو جيل أولادها، ولهذا علمت بنات أولادها، فهاهي فاطمة بنت المنذر بن الزبير تروي جميع حديث أسماء بنت أبي بكر ويروي عنها زوجها هشام بن عروة بن الزبير، ولذلك تجدون في الموطأ كثيراً من الأحاديث التي يرويها مالك عن هشام بن عروة، عن زوجته فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(12/15)
تضحيات صفية بنت عبد المطلب
وكذلك من هذه النماذج الصالحة صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي مات عنها زوجها وترك لها الزبير طفلاً صغيراً ولم يترك لها أي مال، فكان أخوها أبو طالب ينفق عليها وعلى ولدها، وكانت تشتد مع ولدها في تربيته، وتضربه على خلقه، لتعلمه الشجاعة والحنكة والحكمة، ولهذا نقدها أعمامه وزعموا أنها تبغضه، فقالت فيهم: من خالني أبغضه فقد كذب وإنما أضربه لكي يلب ويهزم الجيش ويأتي بالسلب ولذلك فإنها قد أتاها رجال في الجاهلية يسألون عن الزبير حين أسلم يريدون الإيقاع به، فجاءها رجل من قريش، فقال: أحق أن الزبير قد صبأ؟ فقالت: كلا والله! ولكنه أسلم وصدق، فقال: سترين ما أصنع به، فقالت: هو في المكان الفلاني فاذهب إليه، فذهب إلى الزبير فوجده منشغلاً بأمر فهجم عليه، فأخذه الزبير وأسره وكتفه بسية قوسه، وجاء يحمله على عاتقه فوضعه بين يدي صفية، فوقفت عليه وضربته بعصا وقالت: كيف وجدت زبرا؟ أعسلاً وتمراً؟ أم أسد هزبرا؟ ثم إنها قد شجعت المسلمات على نصرة الدين وقامت بكثير من التضحية في سبيل ذلك، سواء كان هذا في العصر المكي وعصر الاستضعاف، حيث كانت صفية وأخواتها بنات عبد المطلب اللاتي لهن مكانة اجتماعية كبيرة بمكة؛ يدافعن عن المستضعفين، ويقدمن النفقات إلى المأسورين من المسلمين، حتى إن أبا جهل نقدهن بذلك، وقال: ما زلتم يا بني هاشم يتنبأ رجالكم حتى تنبأ نساؤكم؟ وذلك حين رأت عاتكة بنت عبد المطلب رؤياها في قصة معركة بدر، رأت أن شهاباً نزل على جبل أبي قبيس فتفرق فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا دخلته جمرة منه، فأول ذلك بمعركة للإسلام على قريش ينهزم فيها المشركون، وينصر فيها الدين، فكانت معركة بدر.
كذلك فإن صفية بعد أن هاجرت إلى المدينة، كان لها دور بارز في تعليم النساء، ومؤازرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأييده على القيام بالحق، حتى إنها كانت تجاهد بنفسها، وكانت ذات شجاعة وبطولة، فحين اشتدت الأزمة على المسلمين بالمدينة، وبلغوا مبلغاً لم يبلغوه في أي أزمة في يوم الأحزاب، فهي أعظم أزمة في التاريخ المدني، كما أن أعظم أزمة في التاريخ المكي هي قضية الهجرة.
فأعظم أزمة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة هي قضية الأحزاب التي وصفها الله تعالى في كتابه بقوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10 - 11].
هذه الأزمة العظيمة انتهزتها صفية بنت عبد المطلب لتبين نموذجاً صالحاً من النماذج النسوية التي ينبغي أن يقتدي بها النساء حين لا يقوم الرجال، أو حين ينشغل الرجال عن أداء الواجبات، أو حين لا تتأتى فرصة للرجال فيقومون بما وجب عليهم، فإن النساء حينئذ سيقمن به على الوجه الصحيح كما فعلت صفية بنت عبد المطلب؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل النساء في حصن حسان وكان حصناً بالمدينة، فرأى اليهود ذلك، فأرادوا الاعتداء على النساء حين شغل المسلمون بالمعركة، فجاء أحدهم يستطلع القصر، يريد أن يكتشف هل للقصر حامية تحيمه من الرجال، أو ليس كذلك حتى يصولوا عليه ويأخذوا من فيه، فلما رأت صفية هذا الرجل، عرفت أنه ما جاء إلا لشرٍ فنزلت إليه بعمودٍ فضربته حتى قسمت رأسه، ثم أمرت حسان بن ثابت أن ينزل إليه حتى يسلبه ويأخذ سيفه وسلاحه فقال: هلا سلبتيه؟! فقالت: إنه قد استقبلني بعورته فعففت عنه.
فقامت بالحق، وأدت هذه المهمة الجهادية العظيمة، فلما رأى ذلك اليهود قالوا: قد علمنا أن محمداً لم يكن ليترك نساءه دون حامية، وظنوا أن صفية رجل وأنها من الرجال الذين يحمون النساء في ذلك الأطم، أي: الحصن.(12/16)
علم عائشة بنت أبي بكر ودورها في الإسلام
ومن هذه النماذج الصالحة عائشة بنت أبي بكر الصديق، الصديقة بنت الصديق التي جاء جبريل يحملها في سرقة من الجنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي صغيرة، فقال هذه زوجك، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن يكن ذلك من عند الله يمضه! وذلك في نوم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت زوجه في الدنيا والآخرة، زوجه في الدنيا وزوجه في الجنة، كما قال عمار بن ياسر رضي الله عنهما.
خرجت مهاجرةً مع أمها وهي بنت صغيرة في السابعة من عمرها، وقد عقد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في السادسة من عمرها بمكة، فجاءت إلى المدينة ومرضت مرضاً شديداً، ولكنها كانت من صباها نابهةً بالغة الذكاء، فتخصصت في العلم وحفظه على الناس، حتى أنها كانت تسمع الخطبة الطويلة فتحفظها بالمرة الواحدة، وكانت تسمع القصيدة الطويلة فتحفظها من مرة واحدة، وقد حفظت من شعر لبيد بن ربيعة عشرين ألفاً، وحفظت اثني عشر ألفاً من شعر شاعرٍ آخر.
وكانت تسمع كلام أبي بكر وهي صغيرة فتحفظه كما هو، ولهذا اتجهت إلى الاتجاه العلمي والدعوي لتقوم بالحق الواجب لله تعالى، ولتصون هذا الدين عن الضياع، فحفظت على المسلمين ما يختص بأمور بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العلم، وزادت على ذلك بشخصيتها الفذة، فكانت ناقدةً ترد على الصحابة كثيراً من الفتاوي التي تخالف ما لديها من محفوظات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا جمع البدر الزركشي ما خالفت فيه عائشة الصحابة رضوان الله عليهم في كتابٍ سماه: الإجابة في ردود عائشة على الصحابة.
وكذلك فإنها رضي الله عنها، كانت لا تسمع شيئاً لم تفهمه إلا سألت عنه وراجعت فيه حتى تفهمه، كما ثبت ذلك عنها في صحيح البخاري، ولهذا ناقشت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمعته يقول: (إن من نوقش الحساب فقد عذب)، وسمعت قول الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:8 - 9].
فراجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فأجابها بقوله: إنه العرض، أي: فالحساب اليسير هو مجرد العرض على الله عز وجل.
وكذلك فإنها فهمت من أمر الله عز وجل لنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة، أنه يجب عليها أن تؤدي ما حفظته وبلغها من وحي الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فبذلت الجهد في ذلك، وكانت ثاني شخص في الإسلام في حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت تحدث الناس من وراء حجاب وتعلمهم في مكان يجتمع عليه الرجال فتفتيهم، ويستفتونها في كل الأمور، وكانت إذا أرادت أن يدخل إليها أحد منهم، أمرت إحدى بنات إخوتها أو بنات أختيها أن ترضعه حتى يدخل عليها، وهذا رأي لها واجتهاد منها رضي الله عنها.(12/17)
تضحية أسماء بنت أبي بكر قبل الهجرة
فمن هذه النماذج البارعة في الإسلام أسماء بنت أبي بكر الصديق: فهي امرأة يرضى نساء الإسلام بتمثيلها لهن، فإنها كانت في بداية هذه الدعوة فتاة صغيرة فامتلأ قلبها بحب هذا الدين والتصديق به والإيمان به، ورأت أنها يجب أن يكون لها دور، وأن يكون لها مباشرة لعمل تنصر به دين الله تعالى، وتقوم بجهدٍ في نصره ونشره، فنجدها عنصراً بارزاً يقوم بعمل خطير في أعظم مهمة من مهمات العهد المكي، وهي مهمة الهجرة، فأعظم مهمة للإسلام في العهد المكي هي مهمة الهجرة من مكة إلى المدينة؛ لأنها بداية إقامة الدولة الإسلامية.
وهي وقت تكالب أعداء الله تعالى على هذه الدعوة وكيدهم لها، وهي وقت ضعفٍ كذلك؛ لأن المسلمين قد خرج أكثرهم من مكة وبقي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بقي من المستضعفين في القيود والأكبال والسجون، فكان الوقت وقتاً محتاجاً إلى التضحية والبذل في سبيل الله، فانتهزت أسماء هذه الفرصة وقامت بالحق الواجب.
وهنا يأتي درس نفهمه من جهاد أسماء في هذه المرحلة، هذا الدرس ينبغي أن يكون بارزاً بين أعيننا، وهو أننا إذا تحدثنا عن أن المرأة لا يجب عليها كثير من التكاليف، وأنها ليست آلة للقيادة العامة، فليس معنى ذلك أنها إذا لم يقم بها الرجال تسقط عن النساء، بل إذا لم يقم الرجال بما يجب عليهم تعين ذلك على النساء، فإذا لم يقم الرجال بالقيادة التي تجب عليهم، فلا يحل للنساء أن يتركن ذلك، بل يجب عليهن أن يقمن بهذا؛ لأنه حق واجب على المسلمين، وهو فرض كفاية يأثمون بتركه، فإذا لم يقم به أحد تعين على من يطيقه ويستطيعه ممن شهد وحضر، وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين.
ومن هنا نعلم أن تراجع النساء واعتذارهن بأن الرجال لم يقوموا بالحق، أو بأن هذا من فروض الرجال وليس من فرائض النساء، تراجع في غير محله واعتذارٌ غير لائق، فإن الرجال إذا لم يقوموا بالحق وجب ذلك على النساء، ولهذا عرفت أسماء أن فرصتها المواتية أن تقوم بالحق في وقت الأزمة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت الظهيرة، وهو وقت لم يكن يأتيه فيه، فحرك حلقة الباب، فقام إليه أبو بكر فأعطاه أوامر سريعة هي خطة الهجرة، وهي على النحو التالي: أن أبا بكر يصحبه في هجرته، وأنهما سيذهبان إلى غار ثور فيمكثان فيه ثلاثة أيام بلياليهن، وأن عبد الله بن أبي بكر وكان شاباً هو المكلف بجمع الأخبار وتقصي المعلومات عن مكائد قريش ومؤامراتها، وأن أسماء هي المكلفة بالتمويل، فهي المكلفة بنقل النفقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في الغار، وهي المكلفة بإعداد سفرتهما وما يحتاجان إليه من زاد، وتهيئة ذلك.
وأن عامر بن فهيرة هو المكلف بالتستير والتغطية.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر في الليل إلى غار ثور، فمكثا فيه هذه الليالي الثلاث بأيامها، وكانت أسماء تأتي في الليل وهي تحمل النفقة، وأرادت أن تهيئ لهما زادهما بمكة، فلم تجد وعاءً للفقر المدقع، فلم يمنعها ذلك من التضيحة بما تستطيع، فأخذت نطاقها، وهو الإزار التي تأتزر به، فقسمته نصفين، نصف اتزرت به، ونصف آثرت به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فجعلته وعاءً لزادهما في هجرتهما، ومن أجل ذلك لقبت بـ ذات النطاقين بهذا اللقب الشريف الذي يشهد بتضحيتها الجسيمة، وبذلها في وقت الأزمة والحاجة.
وكذلك قام عبد الله بالوجه الأكمل لمهمته، فكان يجمع المعلومات ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فينقل إليهما ما جد من أخبار قريش ومؤامراتهم.
وقام عامر بن فهيرة بالمهمة أيضاً على أبلغ الوجوه، فكان يريح الغنم على أثر عبد الله فيطمسه، ويغدو بها على أثر أسماء فيطمس أثرها.
فهذه الفتاة المسلمة كانت حينئذ في بيت أبيها أبي بكر الصديق، وهي متزوجة بـ الزبير بن العوام، لكن الزبير كان فتى فقيراً لا يملك إلا سيفاً وفرساً، وكان قد هاجر وتركها في بداية الحمل بمكة، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة، وكان هاجر إلى الحبشة ثم رجع منها ثم هاجر إلى المدينة.
فلما خرج مهاجراً ترك أسماء حاملاً بابنها عبد الله، فهاجرت في مقدمة النساء المهاجرات بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وصلت إلى المدينة كان اليهود قد سحروا المسلمين، فتأثرت أسماء بهذا السحر فتأخر حملها فترة، ثم أنجبت عبد الله وأتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحنكه بريقه ودعا له، وكان أول مولود يولد للمهاجرين.
وكانت أسماء قامت بدور بارزٍ في بيت أبيها بمكة حين ترك أبو بكر أباه شيخاً كبيراً ضريراً، أي: أعمى، وخرج أبو بكر مهاجراً بكل ماله في سبيل الله، فقال أبو قحافة لـ أسماء: ماذا ترك لنا أبو بكر؟ فأخذت ظرفاً ملأته من الحجارة وحركته وقالت: ترك لنا هذا المال الكثير، فأراد الشيخ أن يحمل الظرف فإذا هو ثقيل: فقال: هذا مال كثير، فمن تركه لا عليه أن يسافر ويخاطر! والواقع أن أسماء هنا لم تقتصر على التضحية بنفسها، وبما بذلته في سبيل الله عز وجل ونصرة دينه، ولكنها زيادة على ذلك استطاعت أن توظف وسائل أخرى للقيام بهذا الحق، فهاهي تستغل عقلها وشخصيتها في طمأنينة هذا الشيخ الكبير الأعمى حتى لا يجد في نفسه موجدة على ابنه المهاجر في سبيل الله.
وبعد هجرتها كانت شخصاً فاعلاً في دعوة النساء في المدينة وتعليمهن، وكان نساء قريشٍ يعرفن الكتابة، وكان نساء الأنصار لا يعرفن الكتابة، فكان نساء المهاجرين يعلمن نساء الأنصار ما يتعلمن به القرآن من الكتابة، وكانت أسماء قد حفظت بعض القرآن قبل هجرتها فجاءت معلمة إلى المدينة، ومع ذلك لم تنشغل بالدعوة والتعليم عن واجبات البيت، فكانت تذهب إلى أرضٍ وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير بن العوام بالعقيق، وكان الزبير يزرع فيها، فتأخذ منها ما تعلف به فرس الزبير، وتحمله على رأسها من مسافة طويلة، وقد مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تحمل علف الفرس على رأسها، فقال (لولا غيرة الزبير لحملناك).
وكانت تخدم أم الزبير صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها بأنواع الخدمة، وهنا وجد الزبير أن وراءه شخصاً يوثق به، ويمكن أن توكل إليه المهمات، ويمكن أن يخاطر الشخص إذا تركه وراءه.
فالشخص الذي لا يكل أموره إلى أحد، ولا يعلم أن وراءه من يقوم بمهماته، لا يتشجع على التضحية والبذل، لكن الشخص الذي يعلم أن وراءه من يقوم بكل مهماته، وأن وراءه شخصاً سيقوم بالحقوق كلها، ويؤديها على الوجه الأكمل، لا غرابة أن يخاطر وأن يبذل الكثير، وأن يضحي تضحيات جساماً، ولهذا فإنها شاركت الزبير بن العوام في أجره في غزواته كلها.
وقد شهد الزبير المشاهد كلها مع رسول الله وكان حواليه، ولم تخرج غازيةً في سبيل الله لا طائفة ولا شاكية بحضرة الزبير إلا خرج فيها، وكان ينزل بألفٍ، ولذلك سيره عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع المقداد بن عمرو وعبادة بن الصامت إلى عمرو بن العاص حين استنجده وكتب إليه أن ينجده بثلاثة آلاف مقاتل، فقال: (أرسلت إليك ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل واحد منهم بألف، فإذا لقيت عدوك فاجعلهم بين المسلمين وبين عدوهم، فإنهم لن يرجعوا حتى يقتلوا أو يحكم الله بينهم وبين عدوهم)، فهذه التضحية التي كان الزبير يقوم بها، وخلدها حسان بن ثابت، رضي الله عنه في قوله: وكم كربة ذب الزبير بسيفه عن المصطفى والله يعطي ويجزل فما مله فيهم ولا كان قبله وليس يكون الدهر مادام يذبل كلها تشاركه فيها أسماء بنت أبي بكر، فهي التي خلفته في أهله وقامت بحقوقه، ووفرت له الجو المناسب ليضحي في سبيل الله، وليقوم بحقه.(12/18)
أهمية المرأة الصالحة في إقامة الدين والدنيا
وكذلك غيرها من النساء اللواتي كن لهن تضحية بارزة في نصرة دين الله تعالى، والقيام بالحق، ولا يزال هذا مستمراً حتى في عصرنا هذا، فإننا نجد بنات هذه الصحوة المباركة في كل قطرٍ من أقطار المسلمين وهن يبدين النموذج الأمثل للنساء المؤمنات الملتزمات بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اللواتي، فلا يطالبن بما ليس لهن من الحقوق، ولا يهتضمن الحق الذي أعطاهن الله، ولا يحاولن الترفع على حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا ينزعن يداً من طاعة.
ولذلك كن محل ثقة لدى الجميع، فكان أزواجهن في رضاً عنهن، وفي طمأنينة وارتياحٍ؛ لأن الزوج إذا علم أن وراءه من النساء من ستقوم بكل واجباته وحقوقه، وأنها تقوم بذلك في محضره وفي غيبته، وأنها تقوم بحقوق البيت كما لو كان هو حاضراً فيه، وترعى دينه ومروءته وتقوم بكل حق عليها، فإنه سيضحي تضحية جسيمة؛ لأن العرب يقولون: الولد مجبنةٌ مبخلة، وأصل ذلك أن من كثرت عليه الحقوق والالتزامات، إذا لم يجد من يعاضده عليها، فستقل تضحيته وبذله، وأما إذا وجد من يعاضده ويساعده، فسيبذل الكثير في سبيل الله.
وقد شاهدنا كثيراً من النساء المسلمات الملتزمات في زماننا هذا أبدين من الالتزام بأمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ما يجعلهن يذكرن مع هذه النماذج السابقة، فهن على الأثر يهتدين بهدي هؤلاء النساء السابقات، فلذلك نجدهن يضحين في سبيل الله، ويعاديهن على ذلك الأساس أقاربهن، بل آباؤهن وأمهاتهن في كثير من الأحيان، ويجدن مضايقات كثيرةً من قبل الأزواج غير الملتزمين، ويجدن مضايقات كذلك من قبل المجتمع بأسره، ومن قبل وسائل الإعلام الماجنة المغرضة، ومع ذلك يسعين قدماً ويصبرن ويحتسبن في كل هذه الأمور، ويتمثلن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أخي موسى! قد أوذي أكثر من هذا فصبر).
نجدهن يحافظن على حضور الدروس، والالتزام بما تعلمن من الهدي النبوي، ويحاولن أن يقمن بالحقوق على أكمل الوجوه، وأن يكن كما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم صوالح نساء قريش، أحناه على ولدٍ في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده، وأرضاه بالقليل، فهذه الصفات البارزة نجدها فقط في النساء الإسلاميات، وأما من سواهن فإن جميع الناس يعلمون أنهن لا يسلكن هذا المسلك فلا يرضين بالقليل، ولا يرعين على الزوج في ذات يده، وإن حصل منهن لطف بالولد في صغره، فليس ذلك راجعاً إلى محبة نصرة الدين، والقيام بالواجبات الشرعية، وإنما هو محبة للولد الذي هو فتنة، ولهذا يقول أحد علمائنا وهو محمد سالم بن عبدود حفظه الله تعالى في وصف نساء هذه الصحوة المباركة: ما غاب من خلف في الدار من ترعاه في مقامه والمسير كأنها إياه في كل ما تفعل في غيبته تستشير تأتي الذي يرضى وتأبى الذي يأبى عليها دينها والضمير تقوم بالدين والمروءة على الوجه الصحيح، وفي ذلك تكون مثالاً صالحاً للنساء، وتؤدي الحقوق على الوجه الصحيح، لذلك نجد أن كثيراً من الناس اليوم لا يشعر بحلاوة القوامة إلا إذا كان في بيته ملتزمة، ولا يشعر بأنه سيد البيت إلا إذا كان في البيت ملتزمة، ونجد أنه إذا كان في البيت ملتزمة فإن الرجل سيعلم أن ماله لن ينفق إلا في سبيل الله، وأنه لن يفقد منه درهماً، فسيجده جميعاً في ميزان حسناته يوم القيامة، وسيعلم أن زوجته ستتولى كثيراً من الأمور التي هو عاجزٌ عنها أو محجوبة عنه، أو لا يستطيع الاطلاع عليها، فتقوم هي بها؛ لأنه رضي عن دينها وأمانتها، ورأى أنها تستطيع من التضحية والبذل ما لا يستطيعه هو، فيخجل من نفسه حين يرى من تضحية النساء ما لا يجده عند نفسه.
وبذلك كان كثير من النساء المسلمات سبباً في هداية أزواجهن، وقد شاهدنا الكثير من هذا، ولا يزال يشاهد في مختلف بلاد الله.(12/19)
مكانة المرأة ودورها بنظر الغرب(12/20)
انتشار الفواحش نذير بالخطر
إن انتشار هذه الفواحش وهذه الرذائل في مجتمعنا، هذا نذيرٌ بالخطر ينبغي أن يقف في وجهه كل غيور، وأن يتكاتف في الوقوف ضده الرجال والنساء على حد سواء، وأن يبذلوا ما يستطيعون بذله في كفاحه، وإظهاره وإشهاره، حتى لا ينخدع به ضعفاء العقول من الناس، وإن الشرر هو الذي يأتي منه معظم النار، فمعظم النار من مستصغر الشرر، تأتي الأمور في البداية صغيرة جداً ثم تكبر وتنتفخ، ولهذا قال شوقي في الزنا: نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء يأتي بالتدريج، حتى يصل المفسدون إلى غاياتهم، ولو أنهم صارحوا الناس بذلك في البداية لما نجحوا، لكنهم يتدرجون بالناس، ويأخذونهم بالخفية وإن هؤلاء المفسدين الذين يضحون هذه التضحيات الجسام، ينبغي أن يقابلهم أهل الحق بتضحيات أجسم من تضحياتهم، فلماذا يكون أهل الفساد بهذا الحد من الحرص على نشر الرذيلة والفساد والإباحية، ويكون أهل الحق مستضعفين لا يقومون لله بالحق.
إننا إذا لم نقم بهذا فستلعننا الأجيال اللاحقة، حينما تجد أننا قد أدركنا بقية من الدين في هذا البلد، فلم نحافظ عليها حتى نوصلها لمن يأتي وراءنا من الأجيال، وضيعناها حتى ذابت بين أيدينا، وقام عليها الناس بالفئوس والسكاكين حتى نحروها وقطعوها إرباً إرباً ونحن ننظر! إن استغلال النساء في هذا النوع من الكيد، هو مدى ما يصبو إليه المنخدعات من النساء بواقع النساء في الغرب، فيسمعن الشهرة، والبهرجة الإعلامية، والمجلات النسوية التي تبدي الصور، وتروج لأنواع وسائل التجميل وأدواته، وتروج لأنواع الملابس الشفافة، والأزياء الكشافة، وغير ذلك من وسائل الإفساد والمغريات الباطلة، فينخدع بها ضعفاء العقول، ونجد كثيراً من النساء إذا رأت هذه المظاهر وهذا البهرج وهذا الباطل انخدعت به، فظنته شيئاً ينبغي أن يحرص عليه، وظنت أن هذه الشهرة شهرة محمودة، لكن الواقع أنها بمثابة شهرة نوع من أنواع الغذاء، فمثلاً الأرز مشتهر بين الناس، وبالأخص في شرق آسيا، فإنه المطعم الوحيد لديهم، فهل هذا مما يمتدح به الأرز، ويثنى عليه به؟ لا.
بل هو مأكول مذموم، كما يقول الناس عن لحم الرقبة، فكذلك النساء اللواتي يستغلهن المفسدون في إشاعة هذه الرذائل مأكولات مذمومات، واللواتي زال بهاؤهن وتقدمت بهن السن، أصبحن لا ينظر إليهن ناظر ولا يقفوهن أحد، وأصبحن يندمن على ما مضى، ولذلك نجد أن اللواتي انخدعن بمظاهر أقل من هذه كمظاهر التوظيف والدراسة، وأصبحن دكتورات وأصبحن موظفات، وبعضهن أصبحت وزيرة، فهذه المظاهر كلها عناءٌ مبينٌ، وإذا رجعت المرأة إلى بيتها رأت أنها ستبيع كل هذه البهارج بلحظة واحدة من سعادة البيت، ومن سعادة الإنجاب، ومن سعادة التحدث إلى الأولاد، وتربيتهم، وسعادة القيام بالحق.
ولقد قرأت لكثير من النساء اللواتي ينشرن كثيراً من الكتابات في الصحف العالمية، يشتكين فيها من أنهن خدعن بالدراسة والتوظيف، فسعين حتى يحصلن على الدكتوراه وغيرها من الشهادات العليا، ثم يتوظفن في الوظائف، فلا ينتهين من ذلك حتى يتجاوزن مرحلة الإنجاب، ولا يكون لهن تأثير في بناء البيت، فتصبح إحداهن تشعر أنها عجوز مرمية، وأنها لا يزورها زائر ولا يذكرها ذاكر، وأنها مهمشة داخل المجتمع وهي التي همشت نفسها، فهي التي اشتغلت بما لا يعنيها وانصرفت عما فيه مرضاة الله، فلذلك أصبحت في محلٍ غير مشرف، وأصبحت تنقد نفسها.
وكثير مما نراه من الانتحار في كثير من البلدان في صفوف النساء، سببه شكايتهن من هذا الوضع المزري، الذي يجدنه في أنفسهن وفي بيوتهن، وأضطر الآن لقطع هذا الحديث لاستقبال بعض الأسئلة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا لأحسن الأعمال والأخلاق، وأن يصرف عنا سيئها، لا يهدي لأحسنها ولا يصرف سيئها إلا هو.(12/21)
المرأة وسيلة لإفساد المجتمعات
إننا إذا ذهبنا إلى الطرف المقابل فرجعنا إلى المرأة في الغرب، أو في تصور الغرب، نجد أن الغرب ينظر إلى المرأة على أنها بضاعة رخيصة تباع وتشترى، فقيمتها المثلى هي أن تكون عارضة أزياء يتلذذ الناس بها في الشوارع، وتعرض على الشاشات وفي المجلات الخليعة، ولا تعدو هذا، فليس لها أية كرامة وليس لها أي حق من حقوق الإنسانية، ولا يعول عليها في القيام بمصالح البيوت ولا في تربية الناس، ولا في القيام بالأعمال المفيدة، ولا يمكن أن تخدم شعباً ولا أن تغير فيه، بل لا تزيده إلا تردياً وسعياً وراء الرذيلة، وبذلك كان النساء حسب تصور الغرب وحسب خططه حبائل للإفساد، وشراكاً للشيطان يقتنص بها من قدر عليهم، وكانت المرأة بهذا خارجة عن دورها البناء، عاملة في الهدم فقط.
تكون مروجةً لاتباع الشهوات والملذات، ولإتلاف المال وإفساده في الموضات، ولتعطيل الحكم الربانية وتغيير الأحكام الشرعية، وبهذا تتخذ نفسها جنداً من جنود الشيطان، وعدواً لله عز وجل، وساعياً للإفساد والهدم، وحينئذ يكون أثرها سيئاً على أسرتها الأولى أسرة النسب، ثم على أسرتها الثانية أسرب السبب، ثم على الجيران، وهكذا.(12/22)
انتشار السفور في بلاد المسلمين
ويتفاوت ضررها بتفاوت نشاطها في الفساد، فلا نزال نذكر أن أول ما جاء الفساد النسوي إلى بلاد الإسلام بدأ بتركيا، حين قام بعض النساء اللعينات بمسيرة المطالبة بالحقوق، ونزعن الحجاب عن رءوسهن، ورمينه ودسنه بأرجلهن، ثم انتقلت العدوى إلى مصر، فقامت اللعينة المسماة بـ نوال السعداوي، وهي أول امرأة خلعت الحجاب في مصر، فنزعت غطاء رأسها أمام الأزهر وداسته بأرجلها، وكانت بذلك داعيةً إلى شرٍ، فعليها وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً.
ووجد هؤلاء النسوة من المفتونين ومن المتبعين للأهواء والشهوات الذين يريدون الحصول على الملذات دون مقابل، من يروج لهن ويسعى لإشاعة فكرتهن، ليتوصل بذلك إلى أهدافه السيئة، فالمستفيد الوحيد هم جند الشيطان الغواة، الذين لا يريدون تحمل مسئوليات إقامة بيوت، وإنما يريدون أن يشبعوا غرائزهم وملذاتهم دون مقابل، وهؤلاء هم البخلاء الجبناء الدخلاء في المجتمع الإسلامي، فلا خير فيهم، فلو كان فيهم خير لأقاموا أسراً صالحة، ولالتزموا بما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولنجا منهم الناس، فهؤلاء كانوا مروجين لهذه الفكرة الشيطانية والساعين للاستفادة منها بأكبر قدر ممكن، حتى إنهم ألفوا الكتب، وبحثوا عن بعض المفتونين من العلماء، فأرفدوهم ببعض الأدلة التي لم يفهموها حق فهمها، والنصوص التي حرفوها عن مواضعها، والحكايات المزورة التي لا أساس لها، فجمعوا ذلك كله وجعلوه كتباً يتلقفها الناس بأفواههم، دون أن يتدبروها بقلوبهم.
وكان من المروجين لذلك قاسم أمين المعروف لديكم، وكذلك اقتفى أثره كثير من المخانيث والمفسدين من أمثال طه حسين وغيره، ثم انتقلت هذه العدوى بعد مصر إلى غيرها من بلاد الإسلام، وما زالت تسير كالسيل الجارف الذي يسمع هديره قبل أن يصل، ونحن نراها الآن على أعتاب هذا البلد وعلى حدوده، والسيل الجارف إذا جاء فلم يجد سداً منيعاً أمامه فسيقتلع البناء، ويزيل الشجر، ويحمل معه كل ما استطاع، ونحن نرى هذا السيل ونسمع هديره، وهو على حدودنا وأعتابنا، فإما أن نقف في وجهه فنقوم بالحق لله تعالى، وهذا لا بد فيه من تكاتف الجهود وتعاضدها، ولابد من مشاركة النساء في ذلك وإبدائهن للأمثلة الصحيحة، ونبذهن لهذه المؤامرات التي يروج لها أعداء الدين، وأعداء المروءة، وأعداء الفطرة، وأعداء العقل، وأعداء العلم التي لم تأت إلا بشر.(12/23)
المخطط الماسوني لنشر النساء في مكاتب الأعمال وإفساد الشباب بالخمور والمخدرات
ولا شك أن من المخططات المفسدة التي يروج لها المخطط الماسوني في العالم، أنه يسعى لأن لا يبقى مكتب في العالم، إلا وفيه سكرتيرة أنثى، فأصبح من التقاليد السائدة في بلاد الكفر وبلاد الإسلام أن السكرتيرة لا تكون إلا أنثى، والمقصود بذلك أن السكرتيرة لا بد أن تخلو بصاحب المكتب ويخلو بها فتحصل الريبة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، ويريدون بذلك أن النساء اللواتي لديهن ضعف عاطفي ويسهل التأثير عليهن، إذا كن مطلعات على أسرار المكاتب، يمكن أن تأخذ منهن هذه الأسرار، مقابل أسعار زهيدة.
ولذلك تجدون أن المكاتب هنا في بلادنا وفي غيرها من البلدان أكثر من يعمل في العمل السكرتاري من النساء، وهذا مخطط ماسوني معروف، قد انتشر من قبل وقدمت عنه التقارير، وقد طبق في كثير من البلدان.
ثم إن أصحاب الخمور الذين يروجون لها يستغلون النساء دائماً لجمع الشباب، فكثير من الشباب لا يستهويهم الخمر لما قال عبد الملك بن مروان: أولها مرار وآخرها خمار، أي: تغطية للعقل، ولكن كثيراً من الشباب تستهويهم النساء المفسدات، فيسعون إلى إلحاق أجيال من الشباب بهؤلاء المفسدين ومروجي الخمور فيفسدون بذلك أجيالاً واسعةً من الناس، ويضلون جيلاً كبيراً من الناس، وإن بلدنا هذا كغيره من البلدان معرض في عصرنا هذا -وبالأخص في هذه الأيام- لموجة من هذا الإفساد، وبالأخص في أم الخبائث الخمر، وفي المخدرات.
فمثلاً هذا النوع من الخمور يباع الآن في البقالات بأسعار زهيدة رخيصة، ولم تكتب عليه الجهة التي صنعته، ومع ذلك يكتب عليه اسم الخمر بالفرنسية، وهو يباع بأسعار زهيدة رخيصة ويوزع في كثير من الأماكن، ويوجد في البقالات، ولا يشعر كثير من أصحاب البقالات أنه خمر، وأن ذلك مكتوب عليه، فيبيع لهم، ويستدل كثير منهم أنه من شرب هذه القنينة الصغيرة قد لا يسكر، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أسكر منه الفرق فملء اليدين منه حرام).
فما كان مسكراً بكثيره فيحرم تعاطي قليلة، إن انتشار هذا النوع وذيوعه بين الناس مقتضٍ لإفساد ديانة الناس وأخلاقهم، ومن شرب هذا الشيء القليل الخفيف في نسبة الكحول التي فيه ونسبة الإسكار فيه، فسيتدرج به إلى ما هو أقوى منه، وهكذا فإن من خالط الخمر دمه ومازجه، وأصبح مدمناً عليه من تلقاء هذه القنينات الصغيرة الزهيدة الثمن، سيجد نفسه مضطراً لأن يوغل في شرب ما هو أكبر منها وأقوى، وبالتالي يكون قد مُلك فيسدد الثمن الذي كان صغيراً الآن، فهذه ثمنها الآن يمكن أن يكون مائة أوقية مثلاً في البقالات، لكن الثمن سيؤخذ من الأجناس الأخرى التي هي أغلى منها وأكثر تركيزاً.
فالشخص في البداية يستجذب بهذه، حتى إذا أصبح مدمناً للخمر اضطر إلى أخذ تلك الأنواع الأخرى الغالية، وهذه خطة عالمية، وقد اشتهرت في كثير من البلدان، وتأتي بالتدريج، فإذا لم ينتبه الناس دأبوا عليها وأصبحت أمراً بسيطاً بمثابة أول السلم الطويل الذي يصل إلى السقف، بدايته درجة واحدة يضع الشخص عليها رجله، ورجله الأخرى في الأرض، وهكذا.(12/24)
أضرار السفور والتبرج
وقد رأى كل أفراد بني آدم في مختلف البلدان كثيراً من أضرارها، فنحن نشاهد اليوم من الأمراض التي انتشرت في مشارق الأرض ومغاربها أمراضاً لم تكن مألوفةً لدى الأسلاف الذين مضوا، من أمثال مرض سيدا (الإيدز) ومرض الزهري وغير ذلك من الأمراض المنتشرة التي سببها الشذوذ والانحراف الجنسي.
وكذلك نرى تفكك الأسر وانتشار أولاد الزنا الذين يمكن أن يستغلوا في كل فساد، فأنتم تعلمون أن المستعمر عندما جاء إلى الجزائر وأراد أن يرسي قواعده فيها، لم يجد من أبناء الجزائر من يستطيع التعامل معه ويكون من جنوده الذين يمكنون له، فكان أحد الفرنسيين خبيثاً جداً، حين وضع لهم خطة قال: أفشوا فيهم الزنا، فأولاد الزنا هم الذين سيخدمونكم؛ لأنهم ينقمون على المجتمع، ويجدون أن المجتمع يحتقرهم، ويجدون أنكم أنتم الذين ترفعون شأنهم، وسيخدمونكم ويبذلون أنفسهم في سبيلكم، فتحققت هذه الفكرة حينما انتشر الزنا في الجزائر وانتشرت فيها الخمور، فنشأ جيل كامل من أولاد الزنا رباهم المستعمرون وجندوهم وضربوا بهم المسلمين، فوطدوا بهم الحكم الفرنسي في الجزائر.
وهكذا نجد اليوم القذافي يسعى لإشاعة الزنا في ليبيا ويدعو إليه ويتبنى أولاد الزنا، ويقول: ليسوا أولاد الزنا وإنما هم أولاد العقيد القذافي فينسبهم إلى نفسه؛ لأنه يعلم أنهم يجدون نقمة على المجتمع كما ينقم المجتمع عليه هو، فيريد أن يوجد منهم جنداً يدافع عنه ويثبته على عرشه، ويبذل نفسه في سبيل التمكين للقذافي، وهكذا في كل البلدان.(12/25)
استغلال النساء في نشر الزنا والخمور والفساد
إن انتشار هذه الفواحش وهذه الرذائل، ومنها أم الخبائث الخمر، كله مما يستغل له النساء في كثير من البلدان، فالنساء هن اللواتي يقدن الشبكات التي تروج للمخدرات والخمور، والغالب أن مروجو المخدرات معتمدون على شبكات من النساء في كل البلدان، وكذلك شبكات التجسس الكفري في بلاد المسلمين لا تعتمد إلا على شبكات من النساء، وكل مظاهر الفساد ينظر فيها إلى هذا الجنس اللطيف الذي يخدع بالعبارات ويخدع بالموضات وبالثناء، كما قال أحمد شوقي: خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرهن الثناء فيخدعون النساء بهذا الثناء، لاستغلالهن في هدم هذا الدين، واستغلالهن في الإفساد وإشاعة الفاحشة بين الناس.
إن انتشار الفواحش وشيوعها بين الناس في كثير من أنحاء العالم اليوم من ورائه شبكات من النساء اللواتي جعلن أنفسهن من حبائل الشيطان ومن جنوده، فسعين للإفساد ما استطعن إلى ذلك سبيلاً.
وأنتم تعلمون أن بلاد الإسلام وبالأخص بلاد المشرق الإسلامي، يوجد فيها اليوم شبكات كبيرة تسمى شبكات قسم الإيدز، وهي الشبكات التي توزع السيدا وتسعى لإشاعة هذا الميكروب بين الشباب المسلمين، وكل بلد له نجم معين لهذه الشبكة، وتجدون أن الفنادق في مختلف أنحاء العالم لا يكاد الشخص يدخل منها غرفةً إلا وجد فيها شبكة الإيدز لدولة من الدول الإسلامية، ومعنى ذلك أن امرأة من المصابات بالإيدز والمكلفات بتلويث كثير من الشباب بهذا الميكروب الضار، كانت قد استغلت تلك الغرفة في هذه الفاحشة وفي إشاعة هذا الميكروب، فتضع ذلك النجم رمزاً لأنها قد استغلت هذه الغرفة لذلك الميكروب الضار، وفي كثير من الأحيان يكتب تحتها رمز البلد غالباً.
ولا شك أن إشاعة هذه الفواحش وانتشارها بين الناس هو بداية الدمار؛ لأن الأخلاق إذا هدمت فسيهدم الدين على الأثر، ثم بعد ذلك تهدم الدنيا، وقد أخرج أحمد في المسند وابن ماجة في السنن من حديث ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما أظهر قوم الفاحشة فأعلنوا بها، إلا ظهر فيهم الطاعون وانتشرت فيهم الأمراض التي لم تكن في أسلافهم، ولا نقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وجور السلطان، ونقص المئونة، ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم، ولا منعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)، وهذه هي بداية دمار الدين والدنيا.(12/26)
الأسئلة(12/27)
حكم رطوبة الفرج في نقض الوضوء
السؤال
رطوبة الفرج أثناء المداعبة هل تنقض الوضوء أم لا؟
الجواب
أنها لا تنقض الوضوء، وأن المرأة إذا التذت أثناء المداعبة فإن الراجح أن ذلك لا ينقض وضوءها مطلقاً إلا إذا حست بالإنزال، فإن أحست به وجب عليها الغسل، ولا يجزئها الوضوء حينئذ، وأما إذا لم تحس بالإنزال فمجرد رطوبة الفرج، إنما هي مثل ما هو في داخل البدن من الرطوبات كلها، وحكمها حكم ما كان داخل البدن من الرطوبات على الراجح.
وإن سال منها شيء عن محله ووصل إلى الثوب أو غيره، فإن الراجح أن حكمه حكم البول ينقض الوضوء ولا يجب منه الغسل، وهو نجس يطهر، ولا يعفى منه إلا عما كان داخل المحل، وما جاوز المحل منه لا يعفى عنه.(12/28)
حكم مصافحة النساء
السؤال
هل المصافحة بين الرجال والسناء فريضة أم سنة أم حرام؟ وما الدليل على ذلك؟
الجواب
بالنسبة للمصافحة بين الأجانب محرمة شرعاً باتفاق أهل العلم ولم يخالف فيها أحد، ودليل تحريمها قول الله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]، فإنه حرم الأدنى والأعلى، وتحريم الأدنى والأعلى تحريم لما بينهما لأنه إذا حرم الطرفين دخل ما بينهما من الوسائط، وقد حرم الله الطرفين جميعاً؛ حرم الطرف الأدنى وهو مجرد النظر، وحرم الطرف الأعلى وهو الزنا، فقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]، فلما حُرم الطرفان دل ذلك على تحريم ما بينهما من الوسائط، وكذلك ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني لا أصافح النساء، وإنما مقالي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة).
وكذلك ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (والذي نفسي بيده ما مس رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة لا تحل له)، وكذلك فهو محل إجماع بين أهل العلم لم يخالف فيه أحد منهم من جميع المذاهب المعتبرة.
وأما المصافحة بين الأزواج فهي من الأمور الجائزة التي ليس فيها طلب شرعي، وليس فيها محذور شرعي، فإن صافح الزوج زوجته فلا حرج وإن لم يصافحها فلا حرج، فهذا من الأمور الجائزة.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(12/29)
حكم تعلم المرأة في المدرسة
السؤال
ما حكم تعليم المرأة في المدرسة هل هو جائز أم لا؟
الجواب
المقصود تعلم المرأة في المدرسة، والجواب أن المدارس الموجودة اليوم في بلادنا هذه وفي أكثر البلدان سواها مدارس فاسدة، بنيت في أصلها على الفساد، ففيها الاختلاط، وفيها البرامج التي لم تراع فيها مصالح الدارسين، ولا مصالح البلد، بل ما رأيكم في مصلحة شبابنا وشاباتنا اليوم هنا في دراسة مقررات الفلسفة التي تدرس في الثانوية، هل تفيد في دين أو مروءة أو علم أو دنيا أو آخرة؟ لا فائدة فيها وإنما هي أخذ وقتٍ وجهدٍ كبير، وعناء مبين، وتعطيل طاقةٍ كبيرة كان يمكن أن تستغل فيما هو نافع، وكذلك الآداب الفرنسية، والتاريخ الفرنسي، وكثير من العلوم التي لا فائدة فيها.
حتى العلوم المفيدة، إنما يستفيد منها نخبة من الناس قلة، كعلوم الفيزياء، والرياضيات، والعلوم، هذه علوم مفيدة، لا تستغني عنها الأمة، لكن هل ينبغي أن يتعلمها كل أفراد الأمة؟ لا.
لا فائدة من هذا.
وهل كل من تعلمها سيفيد بها؟ كثير منكم الذين درسوا في المدارس كثيراً من القوانين الفيزيائية والكيمائية، فهل فيكم من أنتج لنا شيئا من المنتجات الجديدة؟ لا يوجد هذا! إذاً هذه المواد بنيت على باطل، ولذلك فإن هذه المدارس الموجودة من أصل نشأتها بنيت على فساد وباطل، ويجب محاولة إصلاحها، ومحاولة ترشيدها، وإزالة ما فيها من الفساد بما يستطيع الناس من ذلك، ولن يكون هذا في عشية واحدة، ولا في ضحاها، بل لا بد فيه من زمن، لأن هذا الفساد ما جاء إلا بالتدريج بمدة طويلة، فلذلك لا يزول أيضاً إلا بالتدريج بمدة طويلة.
لكن يجب على النساء وعلى الرجال المشاركة في إيجاد البدائل الصحيحة، فمن تمكن من إقامة مدرسة حرة، وكان بإمكانه أن يجعل التعليم فيها منفصلاً بحيث إن الرجال يدرسون وحدهم والنساء يدرسن وحدهن، وتكون المواد فيها ملائمة للمستوى المطلوب المفيد النافع، أو أقام معهداً وكانت الدراسة فيه بحسب ما هو ملائم نافع، وكانت منفصلة للرجال وحدهم، والنساء وحدهن، كان هذا من البدائل الصحيحة النافعة، ولذلك يجب على الدولة أن تغير واقع المدارس، ويجب عليها شرعاً أن تمنع الاختلاط بين الرجال والنساء في المدارس، وأن تغير البرامج المدروسة، ويجب على القائمين على ذلك سواء كانوا في المعهد التربوي الوطني أو في وزارة التعليم أو في المفتشية العامة، أن يغيروا واقع هذه المدارس، وأن يصلحوه وأن يبادروا إلى ذلك، وألا يأخروه، فلا يحل لشخص أن يؤخر توبة ولا يقول: حتى يؤتيني الله مالاً، فإنه من علامات الشقاء والخذلان وطمس البصيرة.(12/30)
حكم لبس الجوارب للمرأة
السؤال
ما حكم لبس الجوارب بالنسبة للمرأة؟ هل هو واجب عليها أم لا؟
الجواب
أن القدم مختلف فيها، هل هي عورة أم لا؟ على أربعة أقوال في الفقه الإسلامي: القول الأول: أن الرجل ليست عورة مطلقاً وهذا مذهب المزني من الشافعية.
والقول الثاني: أنها عورة مطلقاً ظاهرها وباطنها، سواء كان فيها خضاب أو لم يكن فيها، وهذا هو ظاهر مذهب مالك رحمه الله تعالى، وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى ورواية عن أحمد.
القول الثالث: أن الرجل يفصل فيها، فظاهرها عورة وباطنها غير عورة، وهذا مذهب الحنفية.
القول الرابع: أن الرجل يفصل فيها: فإن كان فيها خضاب كانت عورةً لا لذاتها بل لأجل الخضاب، وإن لم يكن فيها خضاب لم تكن عورة، وذهب إلى هذا بعض أهل الظاهر، واختاره ابن القيم وغيره من الفقهاء.
والذي يبدو أن اتخاذ الجوارب أصبح شعاراً للمتعففات من النساء، فهو عادة حسنة، ومن فضائل الأعمال، ومن محاسن الأخلاق، فاتخاذها مما يشجع عليه ولكنه لا يجب.(12/31)
نصيحة لمن يتأخرون عن الزواج لعوائق مادية أو اجتماعية
السؤال
بم تنصحون الشباب الذين يرغبون في الزواج، ويخافون على أنفسهم من الفتنة، وعندهم عوائق منها قلة المئونة، ولا عمل ولا دخل، ووجود الوالدين وخصوصا ًإذا كانا عاجزين، والعائق الآخر هو حب طلب العلم الشرعي، والكلفة المادية، وكذلك العادات؛ مثل أن أصغر الأسرة لا يمكنه الزواج، فهل هناك من حلول؟
الجواب
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم).
فلذلك يجب على من خاف العنت على نفسه أن يسعى لأن يتزوج، والزواج لا يمنع منه الفقر، بل هو وسيلة من وسائل الغنى، فإن الله تعالى يقول: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32 - 33].
والنكاح يتجلى فيه مظهر من المظاهر السابقة في الفرق بين نظرة الغرب إلى النساء، ونظرة الإسلام إليهن، فالنظرة الغربية مادية تنظر إلى المرأة على أنها سلعة تباع بأبلغ الأثمان وأكثرها، ولذلك يبقى كثير من النساء في بيوت أهلهن دون زواج؛ لأن الوالد يعتبرها بضاعة لديه، ويريد أن يبيعها بثمن كبير، فيضن بها حتى يأخذ مقابلها مالاً، وهذا كله مخالف لشرع الله عز وجل، فإن الصداق ملك المرأة ولا ينبغي أن يبالغ فيه، فإن أكثر النساء بركة أقلهن مهراً، ونساء الرسول صلى الله عليه وسلم اللواتي تزوجهن كن أقل النساء مهراً، وكذلك بناته صلى الله عليه وسلم، وقد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مؤمنة لرجل مؤمن على سور من القرآن يعلمهن إياها، ولهذا فإنه لا ينبغي أن يكون من العوائق نقص المال.
كذلك عدم وجود العمل لا ينبغي أن يكون عائقاً عن الزواج، فينبغي إذا حصلت أسرة إسلامية بين شاب وشابة، أو بين رجل وامرأة مسلمين فقيرين أن يسعيا بجهدهما المشترك، حتى يحصل على نفقةٍ وحتى يحصلا على بداية أمر، والرزق لا يكون عن الكسب، وإنما هو هبة من الله تعالى، ولكن الأسباب واجبة، فينبغي أن نعرف هنا أن التوكل على الأسباب شرك وأن تركها معصية، وعلينا أن نجمل في الطلب، وأن لا نبالغ فيه أكثر من المطلوب شرعاً.
وكذلك ما يتعلق بالعادات كالصغر وغيره، وككون الفرد من أسرةٍ فيها أولاد أكبر منه لم يتزوجوا أو بنات أكبر منها لم يتزوجن، كل هذه الأمور من العادات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وليس لها فائدة، بل هي داعية إلى انتشار الرذيلة، وانتشار عدم العفة بين الشباب والشابات، فلذلك ينبغي أن تترك وتتجاوز.
وكذلك ينبغي أن يخفف من الغلواء التي نجدها لدى نسائنا بما يتعلق بحب كثرة المهور، وحب الإسراف بالعادات، ومن ذلك منع تعدد الزوجات، فإن كثيراً من النساء تظن أن تعدد الزوجات هضم لهن، وأنه يوصل عليهن ضرراً، والواقع أن تعدد الزوجات وإن كان ليس جائزاً لبعض الناس، وليس مطلوباً أيضاً لكثير منهم، إلا أنه في بعض الأحيان قد يكون مفيداً في حق من كان غنياً يمكن أن يعف عدداً كبيراً من النساء، أو ينفق عليهن، فإذا تزوج امرأتين وكان لكل واحدة منهما عدد من القرائب الفقيرات فأنفق على الجميع، أو كانت لكل واحدةٍ منهما أم وأخوات وخالات وعمات كان ينفق على الجميع، أو تزوج أربع نسوة، وكان لكل واحدةٍ منهن أخوات وأمهات، فأنفق على الجميع؛ فإن هذا بمجرد النظرة الاقتصادية أيضاً مفيدٌ مثمر، وأيضاً فيه حصانة للفروج، وتعاون على البر والتقوى وليس فيه أي ضرر على المرأة، فلا يمكن أن تتضرر الزوجة به بأي نوع من أنواع الضرر، بل إنها قد تستفيد منه، فتجد من يساعدها ويؤازرها على مؤن البيت وحقوق الزوج.
بل تجد أنها قد زادت من راحة زوجها، وساعدته على الارتياح في البيت، ولهذا نجد أن بعض النساء قد تجاوزن هذه العقدة في كثير من البلدان، وحتى في بعض المناطق من بلادنا هذه، فأذكر أن امرأةً من النساء المسلمات قالت لزوجها ذات يوم من الأيام: إنني ذكرت فوجدت أنه ليس من المناسب أن أختار راحتي على راحتك، فأنا مكثت سنوات وأنا أقدم راحة نفسي على راحتك أنت، والآن تراجعت عن ذلك فافعل ما بدا لك، وهو عن طمأنينة بال مني ورضاً، ولن تجد له أثراً في نفسي إن شاء الله! فأعجبه هذا الموقف وشجعها عليه، وكان موقفاً جريئاً شجاعاً، له أثر طيب في نفسيات الأزواج.
وكذلك فإن بعض العادات السيئة التي تنتشر فتكون حائلاً دون الزواج، مثل اشتراط بعض الناس أن لا يزوج مولياته إلا لأقاربه، أو لسنٍ معينة أو لمستوى من الغنى معين، كل هذه العادات سيئة ومخالفة للشرع، فالمعيار الشرعي هو الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).
إن من أتاه مسلم يحفظ كتاب الله تعالى، ويحفظ بعض سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلتزم بأوامر الله تعالى ويعلم أنه إن شاء الله تعالى كامل الدين والمروءة، فخطب إليه موليته التي يريد أن يقوم لها بالحقوق الشرعية، وليس فيه أي هجنة عليها في دين ولا مروءة، فرده، فقد سعى إلى إحداث فتنة عظيمةٍ بين المسلمين، وهذه الفتنة قد تكون بلاءً يصيبه في أهله، وقد شاهدنا هذا في بعض البلدان الإسلامية، فإن بعض الرجال عضلوا بناتهم عن الزواج ببعض من خطب إليهم من أهل الدين والمروءة، فابتلاهم الله تعالى -نعوذ بالله من المصائب- في بيوتهم، فزنى بناتهم وأنجبن من الزنا نعوذ بالله! أجارني الله وإياكم! وكل هذا من وراءه هذه العادات السيئة التي يحافظ عليها بعض المجتمعات وينبغي أن تزول فيها.(12/32)
تعليم الرجال للنساء
السؤال
ما حكم تعليم الرجال للنساء في مكان واحد، مع ذكر الدليل الشرعي وشروط ذلك جزاكم الله خيراً!.
الجواب
إن الله عز وجل أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم معلماً للناس، فعلم الرجال والنساء معاً ولم تختص دعوته بالرجال دون النساء، بل كان يعلم الرجال والنساء، وأول من استجاب له النساء، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن النساء قلن له: (يا رسول الله! إن إخواننا من الرجال غلبونا عليك فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوم الخميس فاجتمعن عليه فعلمهن وذكرهن، وكان مما قال: ما من امرأة يموت لها ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا كانوا لها ستراً من النار، فقالت امرأة: واثنين؟ فقال: واثنين).
وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري في الصحيحين أنه (خطب يوم العيد فظن أنه لم يسمع النساء، فتوكأ على بلال فوقف على النساء فوعظهن، وذكرهن، وكان مما قال: يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار).
وكذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم النساء في المسجد في الحلقات التي يسمعها الرجال والنساء، ويروين ذلك الحديث، فهذه أم عطية رضي الله عنها، تروي لنا كثيراً من أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر التي تشمل الرجال والنساء، وكذلك كان على المنبر يأمر الرجال أن لا ينصرفوا حتى ينصرف النساء، لأن النساء يصلين في الصفوف الخلفية، ويأمر النساء أن لا يرفعن أبصارهن من السجود حتى يجلس الرجال؛ لئلا ينكشف عليهن شيء من عورات الرجال.
ونهى عن منع النساء من الذهاب إلى المسجد، ومن المعروف أن المسجد لم يبن للصلاة فقط، وإنما بني للتعليم ونشر العلم والتبليغ عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك أخرج مالك في الموطأ: (ما من امرئ يخرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه، إلا كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً)، فهذه الأحاديث الصحيحة تقتضي جواز، بل وجوب تعليم الرجال للنساء، وأنه يحرم خلوة رجل واحد بامرأة واحدة، ليس معهما ثالث، لكن لا يحرم خلوة رجل واحد بامرأتين، أو بأكثر من ذلك، وبالأخص في غير ريبة إذا كان سيعلمهن.
وإذا لم يجد النساء من يعلمهن فروض الأعيان وجب ذلك على من يستطيعه من الرجال، وإن تركه أثم، ولا يجوز له أن يسمع في ذلك لومة لائم، ولا أن يطيع فيه أحداً لأنه معصية لله تعالى، ويجب على النساء كذلك أن يتعلمن فرض عينهن من العقيدة، والعبادة والمعاملة، وما يمكن أن يتعلمن من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يسعين لتعلم ذلك مهما استطعن، وأن لا تأخذهن في ذلك لومة لائم، مهما كلفهن ذلك، وعليهن أن يصبرن على ما يجدنه في سبيل ذلك من المضايقة.(12/33)
حكم عمل المرأة المسلمة خارج البيت
السؤال
هل عمل المرأة المسلمة المتحجبة يتنافى مع الآية الكريمة {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، نريد شرحاً مفصلاً للآية.
الجواب
إن عمل المرأة الأصلي هو تربية أولادها والدعوة إلى دينها، وإقامة أسرةٍ كريمةٍ صالحة، ومساعدة زوجها في القيام بالحقوق الشرعية، ومساعدة والديها كذلك على القيام بالحقوق الشرعية، وتعلم العلم النافع وتعليمه، وإرشاد الناس ودعوتهم إلى الخير، والمشاركة في تكثير سواد المسلمين، وزيادة عددهم، وكل هذه الأمور يمكن أن تتحقق من خلال البيت.
أما التوظف في الوظائف، فإنما ينظر إليه على أنه وسيلة بحسب ما تحققه من المقاصد، فإن كان لا يمكن للمرأة أن تشارك في بناء البيت المسلم، أو لا يمكن أن تشارك في الدعوة، أو لا يمكن أن تشارك في التعليم إلا من خلالها، كأن تكون معلمة للبنات مثلاً أو أن تكون حاضنة لهن، أو أن تكون موظفة في وظيفة شريفة ليس فيها اختلاط بالأجانب ولا هجنة، فهذا أمرٌ لا مانع منه شرعاً بشرط التحجب وعدم الاختلاط، وعدم الخلوة، وأن لا يكون في ذلك هجنة في المروءة، وأن لا يكون فيه تفريط في الواجب الأول المتعلق بالبيت، أما إن اختل شرط من هذه الشروط فيكون العمل حينئذ محرماً.
وينبغي أن ننتبه هنا إلى أن بعض الأعمال التي هي أول ما يخطر في بال المرأة إذا أرادت الوظيفة، أن تبحث على أن تكون سكرتيرة مثلاً أو محاسبةً أو أي عمل من هذه الأعمال، وهذه مؤامرة كما ذكرنا، وهي خسيسة وتؤدي إلى خلوة الرجال الأجانب بالأجنبيات وتؤدي إلى الريبة وانتشار الفاحشة وهدم البيوت القائمة، ولذلك ينبغي أن نحذر منها، وأن نخافها كل الخوف، ولا شك أن الملتزمات إذا عملن في المجالات الحيوية، أبدين نماذج صالحة، ولا ينبغي أن تترك الوظائف الصالحة للفاسدات يفسدنها ويستغللنها في الباطل والإفساد.
لكن على الصالحات أن يزاحمن الفاسدات في هذه الوظائف على الوجه الشرعي، وبالشروط الشرعية التي بيناها.
أما قول الله تعالى في خطاب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33].
فهذه الآية خطاب من الله لأزواج رسوله صلى الله عليه وسلم وليست خطاباً لكل المؤمنات، بل فيها من الأحكام ما يختص بنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:32 - 33].
والأسلوب واحد، فهذا خطاب متسلسل لأمهات المؤمنين عليهن السلام، وفيه بيان لأنهن لسن مثل غيرهن من النساء، فأجرهن مضاعف ووزرهن مضاعف أجارهن الله من الوزر، وقد فعل ذلك.
فلذلك ليس الخطاب هنا لكل النساء، بل على غيرهن من النساء أن يسعين لما يسددن به الرمق، ولما يسددن به حاجتهن، ويستغنين به عن مسألة الناس، ويؤدي بهن إلى العفاف، لكن يكون ذلك بالضوابط والشروط الشرعية التي بيناها، ولا يكون فيه اختلاط ولا خلوة، إلا إذا اضطرت المرأة إلى ذلك.(12/34)
وضوء المرأة مع وجود الخاتم الضيق ونحوه
السؤال
كيف تتوضأ المرأة مع وجود ما يسمونه (العكيمة) في مؤخرة الرأس، والقرطين في الأذنين والخاتم الضيق؟
الجواب
الوضوء لا يشترط له إزالة ما تمسك المرأة به رأسها من المماسك إلا إذا كان ذلك كثيرا ًيغطي على أكثر الرأس، فإن كان ذلك كثيراً يغطي على أكثر الرأس وجب عليها أن تنزع بعضه حتى تمسح على رأسها دونه، وإن كانت الممسكة التي تمسك بها شعرها مرتفعة عنه يمكن أن تدخل يدها تحتها فلا يجب عليها نزعها لمسح الرأس، ولكن يجب نزع كل ذلك في الغسل، وأما القرطان في الأذنين فلا ينزعان لأجل الوضوء، وإنما ينزعان لأجل الغسل فقط، لإدخال الماء في ثقبي الأذنين على القول بوجوب ذلك، وقد اختلف فيه العلماء.
وأما الخاتم الضيق فإنه لا تلزم إزالته، ولا إجالته، فيجوز للمرأة أن تتوضأ وبيدها الخاتم، ولا يجب عليها إجالته ولا إزالته، بل يبقى على مكانه، وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم، وقد ذهب بعضهم إلى أنه يجب إجالته فقط، ومحل هذا الخاتم المشروع، فلذلك لو كان الرجل متختماً بذهب وجب عليه إزالته مطلقاً للوضوء ولغيره، وإذا كان متختماً بفضة وكانت للتسنن وكان درهمين فدونه فإنه لا يجب عليه إزالة الخاتم على الراجح.
والإجالة هي أن يحركه، والإزالة هي نزعه.(12/35)
شخصية المسلم
إن التغيير المنشود اليوم في عالمنا الإسلامي أساسه تغيير نفوس المسلمين إلى الأحسن، ولا يتم ذلك إلا بإعادة بناء الشخصية وتربيتها وتزكيتها بهذا الدين العظيم، وإن عملية بناء النفس عند الجادين المخلصين لا تعرف التوقف ولا التعثر، بل هي مستمرة عندهم حتى يأتيهم الموت، ولا تتضح معالم شخصية المسلم إلا بجهد عظيم متواصل، وببناء للنفس محكم متكامل يقوم على أسس دعا إليها الشرع وبينها.(13/1)
شخصية المسلم هي التي تميزه عمن سواه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإن كل ملة ونحلة وكل أيديولوجية لها قيم وأسس تبينها وتميزها عما سواها، وإن هذا الدين الذي هو الدين الحق عند الله سبحانه وتعالى له ميزات هي التي تميزه عما سواه، وهي التي يزداد بها منسوب الإيمان في قلوب ذويه، وهي التي يحسن الإنسان بها إيمانه فيصبح حسن الإسلام، ومن عدمها ولو كان مؤمناً بقلبه ولسانه وبعض جوارحه فإن إسلامه غير حسن، وحسن الإسلام هو الذي شرطه الرسول صلى الله عليه وسلم في تكفير الحسنات للسيئات، فيما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محا الله عنه كل سيئة كان سلفها، ثم كان بعد ذلك القصاص الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه).
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بعض أسس حسن الإسلام في قوله: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، فعلى هذا الأساس فإن المؤمن مطالب بأن يعرف أسس شخصيته التي يرتضيها له بارئه سبحانه وتعالى، فيتخلق بهذه الأسس ويزيدها في نفسه، وما كان عادماً له منها تاب واستغفر وتدارك التثبيط فيما مضى، وما كان متصفاً به بفطرته أو بتربيته حمد الله عليه ورسخه وزاد فيه.(13/2)
من أعظم الأسس التي تميز شخصية المسلم الأساس العقدي
إن الأسس التي تميز بناء شخصية المسلم متعددة المشارب، فأعظمها وأقدمها: الأساس العقدي، فعقيدة المؤمن المقتضية للإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره هي التي تميز تصوره لهذا الكون والحياة، وتميز كذلك تصرفه في حياته هذه، فإن الذي لا يحدد مبادئه بالإيمان يبقى ضائعاً في هذه الحياة مذبذباً كحال المنافقين الذين يقولون عندما يسألون في قبورهم: لا ندري، فالمنافق والمرتاب إذا سئل قال: لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.
والمؤمن الصامد الثابت إذا سئل في قبره: ما ربك وما دينك وما تقول في هذا الرجل؟ يقول: الله ربي، والإسلام ديني، والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد هو محمد هو محمد ثلاثاً، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا؛ ولذلك يجيبه الملائكة بقولهم: قد علمنا إن كنت لموقنا.
فهذا الأساس العقدي يميز شخصية المسلم ويلزمه بكثير من الأعمال وكثير من الأخلاق، وكثير من التصرفات، ويرد عنه ما يقابلها.(13/3)
الأساس العقدي يقتضي صرف العبادة لله وحده
كذلك فإن عقيدة المسلم هذه تقتضي منه أن يميز بين الخالق والمخلوق تمييزاً كاملاً، فمقتضيات الألوهية لا يعدل بشيء منها إلى المخلوق لعلمه أنها من خصائص الله سبحانه وتعالى وحده، ولا يمكن أن يصرف شيئاً منها للمخلوق، فلا يمكن أن تصرف عبادة للمخلوق أياً كانت لا في ظاهرها ولا في باطنها، فالمؤمن ذو الشخصية الإسلامية القوية لا يصرف شيئاً من عبادته الباطنية لمخلوق، فلا يرائي ولا يلتفت بشيء من عباداته لغير الله، لعلمه بالمراقبة الحقيقية (لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه).
وكذلك لا يعدل عنه بشيء من عباداته الظاهرة، فلا نذر للمخلوق، ولا رجاء ولا خوف؛ لأنه لا يأتي من عنده إلا ما كتبه الله، ومن هنا لن يصرف للمخلوق أي جزء من أجزاء العبادة بأي وجه من الوجوه؛ لأنها من خصائص الألوهية، حتى لو كان هذا المخلوق أشرف الخلق على الله وأكرمهم لديه وأحبهم إلى الناس وأنفعهم لهم، فرسل الله وملائكته المقربون عليهم السلام هم أبلغ عباد الله تحقيقاً لهذه العقيدة؛ ولهذا قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57] ويقول في وصف الأنبياء: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] ويقول في وصف من ارتضى عملهم، ويدخل فيهم الأنبياء وغيرهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:16 - 18].
هذا الأساس مقتض لهذا التميز وعدم الميوعة، أما من اختل لديه شيء من الأسس العقدية فسيضع كل شيء في غير موضعه، فيجعل العبادة في غير موضعها فلا يتجه بها اتجاهها الصحيح، ويجعل التوكل في غير موضعه فلا يتجه به الاتجاه الصحيح، ويجعل الخوف والرجاء في غير موضعهما فلا يتجه بهما الاتجاه الصحيح، ومن هنا يصاب بالتذبذب كحال المنافقين الذين قال الله فيهم: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:143].(13/4)
الأساس العقدي مقتض محبة الله وعبادته ومحبة رسوله
ومن هنا فهذا الأساس الأول مقتض من الإنسان محبة الله سبحانه وتعالى والتوكل عليه وحده ورجائه وخوفه والأدب معه، وكذلك مقتض لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر رسل الله، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتضية لتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وأن لا يعبد الله إلا بما بلغ عنه هذه ثلاثة أمور هي مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله.(13/5)
الأساس العقدي يقتضي من الإنسان الصبر والثبات والثقة بالله وحده
وكذلك فإن هذه الأسس العقدية تقتضي من الإنسان الصمود والصبر والثبات وعدم التزحزح، فالذي يؤمن بالله وحده ويعلم أنه لا نافع ولا ضار إلا الله، وأن الله كتب ما هو كائن في قدره النافذ، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف، وأن الأمة كلها لو اجتمعت على أن تنفعه بشيء لم تنفعه إلا بشيء قد كتبه الله له، وأنها لو اجتمعت على أن تضره بشيء لم تضره إلا بشيء قد كتبه الله عليه؛ لا يمكن أن يخضع ويذل لغير الله، ولا يمكن أن يؤثر رضا المخلوق على رضا الله، ولا يمكن أن يخاف إلا من الله سبحانه وتعالى وحده، ذلك لأن إيمانه بالله سبحانه وتعالى مقتض لمعرفته به، بمعرفته وأنه ديان السماوات والأرض الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، بيده مقاليد كل شيء، هو الحق الملك المبين لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويعلم أنه سبحانه وتعالى هو القادر على كل شيء فلا يعجزه شيء، وأنه المدبر للكون كله، وأنه لا يغفل عنه لحظة واحدة، ومن هنا فإن قناعته بهذا مقتضية منه تمام التعلق بالله والاتصال به والتوكل عليه ورجائه وخوفه، وعدم رجاء من سواه أو خوفه أو الاعتماد عليه في أي شيء؛ لعلمه أن كل من سوى الله لا يملك لنفسه فضلاً عن الغير حياة ولا موتاً ولا نشوراً ولا نفعاً ولا ضرراً، ومن هنا لا يحق أن يتوكل عليه ولا أن يرجى نفعه ولا أن يخاف ضرره.
وإيمان الإنسان الراسخ بأن الأنفس كلها بيد الله، وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، مقتض منه كذلك أن لا يثق فيما سوى الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي لا يبدو له البداء، فعلمه سابق لكل خلقه {أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:231] والمخلوق يبدو له البداء في كل لحظة، فيتغير رأيه ويعدل عن الآراء التي كان يراها.(13/6)
من الأسس التي تميز شخصية المسلم الأساس التعبدي(13/7)
مما ينمي العبادات ويزكيها الإخلاص لله وموافقتها للشرع
كذلك مما ينمي هذه العبادات ويزكيها: الإخلاص فيها لله سبحانه وتعالى وموافقتها لما شرع، وهذان الركنان هما ركنا صلاح العمل: الركن الأول: أن يكون الإنسان مخلصاً في كل حركاته وعباداته وحده ديان السماوات والأرض، لا يشرك معه غيره في شيء من تصرفاته، فهو الملك الحق المبين الذي يقول فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه، فأنا أغنى الشركاء عن الشرك) ومن هنا يحاول الإنسان الإخلاص في تصرفاته، وقد كان كثيرٌ من الصالحين إذا بدأ عملاً في العبادة ثم تذكر أن بعض النيات قد ندت عن ذهنه، أو قصر عنها تفكيره رجع عنها إلى الوراء حتى يبتدئ العمل بهذه النيات المخلصة كلها.
والركن الثاني: أن تكون هذه العبادة موافقة لما شرع الله، فكم من أقوام يعبدون ولا يستريحون ولا يفترون؛ لكن عبادتهم غير موافقة لما شرع الله فلا يتقبلها الله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:2 - 7]، فهؤلاء خالفوا فلم يتقبل الله تعالى عبادتهم وردها عليهم؛ ولذلك قال بعض العلماء: إن من أكبر المصائب على الإنسان العابد أن يكون أجنى جناياته عبادته التي يريد بها التقرب إلى الله، فإذا كانت الصلاة -التي هي القربة الأولى لدى الإنسان يتقرب بها إلى الله- هي الجناية الكبرى يوم القيامة، فهذا من أعظم المصائب.
ومن هنا فعلى الإنسان فيما يتعلق بعباداته أن يتعلم ما شرعه الله فيها، وأن يحافظ على ذلك، فهذا هو إقامتها والمحافظة عليها، فإنه لا ينبغي أن يمل الناس من دراسة أحكامها وسننها وهيئاتها وآدابها الكثيرة التي لا نرى تطبيق كثير منها، فكثير من الناس يعلم هيئة الركوع ولكنه لا يعطيه وقتاً ولا يطمئن فيه، وكثير منهم يعلم هيئة السجود ولكنه لا يؤديه كما شرع! فنراه منقبضاً يدخل مرفقيه عند بطنه ويمس جنبيه بضبعيه! ويخالف الهدي النبوي في هيئة الصلاة كلها.
إن دراسة الهدي النبوي في العبادة مقتض من الإنسان أن يحسن هذه العبادة، التي هي قيمة وأساس شخصيته، ومن هنا اعتنى كثير من أهل العلم ببيان الهدي النبوي في العبادات، ومن هؤلاء شمس الدين بن القيم رحمه الله الذي ألف كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد)، فحاول أن يجمع فيه الهدي الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هيئات التعبدات ليكون ذلك معيناً للمسلم على تطبيق ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء الحافظ البغوي رحمه الله فقد ألف كتابه (مصابيح السنة) ورتبه في كل عبادة وفي كل باب على فصلين: الفصل الأول: ما جاء في الصحيحين.
الفصل الثاني: ما كان في السنن والمسانيد والمعاجم.
وسمى الأول الصحاح والثاني الحسان، وإن كان أهل الحديث قد لاحظوا عليه هذا الاصطلاح؛ لأن أحاديث السنن منها ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف فلا توصف كلها بالحسن؛ ولهذا قال العراقي رحمه الله في الألفية: والبغوي قسم المصابحا إلى الصحاح والحسان جانحا أن الحسان ما رووه في السنن عيب عليه إذ بها غير الحسن لكن مع هذا جمع هذا الجمع المفيد الطيب الذي أفاد الناس في مختلف العصور، وجاء بعده الإمام التبريزي رحمه الله فاختصر (المصابيح) واستخرج منها أهم أحاديث الأبواب في كتابه (مشكاة المصابيح)، وهذا الكتاب ميسر وسهل وفي متناول الأيدي، وبالإمكان أن يرجع الإنسان فيه إلى الهدي النبوي في كل تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون ذلك أصلاً يرجع إليه في إحسان عباداته لله وحده.
إن هذه القيمة التعبدية هي التي بها النور، والإنسان محتاج إليه، فنور بصيرته وفهمه وأدبه مع الله إنما يستقى من قيمته التعبدية، فهي أساس عظيم من أسس شخصيته تستنير بها بصيرته ويستنير بها وجهه وقلبه ويصلح للتلقي عن الله سبحانه وتعالى والتفهم في كتابه، ومن عدم هذه القيمة لم ينل وقار العلم ولا هيبته، حتى لو أفنى عمره في الدراسات ولن يستشعر هذه العظمة والسعادة والراحة القلبية التي عبر عنها أحد العلماء في هذه البلاد بقوله: إن من أعظم النعم التي تذاق بها حلاوة الإيمان أن يأتي إلى الإنسان خطاب من ربه أن افعل كذا، فيكون قد علم حكمه وعرف هيئته الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم فأداه على وفق ما شرع، فيحصل له بهذا سعادة عجيبة.(13/8)
الإنسان مفطور على العبادة
الأساس الثاني بعد الأساس العقدي: هو الأساس التعبدي: فمن شخصية المؤمن أنه عابد بطبعه، والإنسان مفطور على العبادة، فإذا عرف أن الله يستحق العبادة أبره بهذه العبادة، وإن لم يعرف إلهه بدأ يلتمس شيئاً يعبده، فلا بد أن يعبد شجراً أو حجراً أو مدراً أو غير ذلك، لأنه بطبعه مفطور على العبودية، والذي يزعم من البشر أنه هو الإله منتكس الفطرة مكذب لنفسه؛ ولذلك كان عمل فرعون وغيره من الذين ادعوا الربوبية نشازاً في عالم البشرية، فالبشر لا يمكن أن يصدقوا هذا، ومن الغريب أنه إذا لم يهتد الإنسان إلى ربه وإلهه فإنه يعبد شيئاً هو أشرف منه في الواقع، فقد كان الناس في أيام الجاهلية يعبدون الحجارة التي يصنعونها؛ ولهذا نبهم خليل الله إبراهيم إلى أنهم أشرف من هذه الحجارة وأعظم منها.
وكذلك كانوا يعبدون أتفه الأشياء، فقد حدث طارق بن شهاب: أنهم كانوا إذا وجدوا حجراً فأعجبهم عبدوه، فإذا وجدوا حجراً آخر أحسن منه عدلوا عن الأول وكسروه وعبدوا الثاني، فإذا لم يجدوا حجراً جمعوا تراباً واحتلبوا عليه شاة فإذا يبس عبدوه من دون الله.
هذا من انتكاس الفطرة، والموافق للفطرة إنما هو العبودية، فالإنسان بطبعه عبد، والذين يدعون الحرية ويدعون إليها يعلمون أن تلك الحرية مقيدة، وأن لها حدوداً لا بد أن تنتهي إليها، فالإنسان مفطور على العبودية.(13/9)
قيمة الإنسان في هذه الحياة قيامه بالعبادة
لهذا فإن من أسس بناء شخصية المؤمن أن يكون عابداً لله سبحانه وتعالى وأن يكون مسارعاً في ذلك، وأن يعلم أن قيمته هي هذه العبادة، فقيمة كل شيء ما ينفع فيه، فمثلاً: هذا الجهاز قيمته أنه وضع للتسجيل، فما دام يقوم بوظيفته فهو ذو سعر مرتفع، وإذا خرب ولم يؤد هذا الدور لم يبق له ثمن، والإنسان كذلك خلق من أجل العبادة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]، فإذا فقد الإنسان هذه القيمة ولم يؤد هذه العبادة أو كان يؤديها بدور ناقص، مثل الجهاز إذا كان يسجل لكن بتشويش وأصوات مزعجة، فإنه تنحط قيمته ويقل سعره.
وبهذا فإن الفضل في البشرية إنما يكون بحسب التقوى والعبادة، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، وهذه القيمة لا شك أنها متدرجة متفاوتة، فأعظم العبادات وأجلها ما افترضه الله على عباده، ودونها سياجها المكمل لها من السنن والمندوبات، فالواجبات مثل البيت والسنن والمندوبات مثل السور الذي يحيط بالبيت ويعصمه من السراق ومن اللصوص والسيارات والبهائم، والبيت محتاج إلى هذا السور الذي يحيط به، وكذلك العبادات في تكميلها وتتميمها بهذه السنن والمندوبات، ومن فرط في شيء منها فإن ذلك سيكون على حساب الأصل؛ لأن العبادة كل متكامل، فإذا فرط الإنسان في المندوبات ساقه ذلك إلى التفريط في السنن، وإذا فرط في السنن ساقه ذلك إلى التفريط في الفرائض التي هي رأس المال.(13/10)
أثر النية الصالحة في رفع الدرجات
والله تعالى من فضله وكرمه أن أتاح للإنسان كثيراً من الفرص في مجال العبادات، من أعظم هذه الفرص فرصة النية، فالإنسان وقته محصور وجهده يسير لكن ينوي للعمل الواحد عشرين نية، فيكتب له عدد هذه النيات من الأعمال، ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً خرج فرأى كثيباً أهيلاً من الرمل فتمنى لو كان له مثله سويقاً فينفقه في سبيل الله، فلما مات عرض الله عليه صحيفة حسناته فإذا فيها كثيب أهيل من السويق، فقال: من أين لي هذا وما أبصرته عيناي قط؟ فقال: إنك مررت بكثيب رمل فتمنيت لو كان لك مثله سويق فتنفقه في سبيل الله فقد قبلته منك).
ونية المؤمن أبلغ من عمله، ولهذا قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100]، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
وهذه النية يمكن أن تنمى وينمى بها العمل ويزداد، فإذا جاء الإنسان وأدرك الناس في أثناء الصلاة فإنه ينوي أداء هذه الفريضة التي هي ركن من أركان الإسلام، ثم ينوي كذلك الحفاظ عليها حين أمره الله بذلك، وينوي المحافظة على الصلاة الوسطى؛ لأن أرجح شيء فيها أنها صلاة العصر، وينوي كذلك تكثير سواد المسلمين، وينوي كذلك أن أجر خطاه إلى المسجد: فلا يرفع خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطت عنه بها سيئة وكتبت له بها حسنة، وأن لا يمر على شيء إلا شهد له، وأن يعتدل في الصف كما تصف الملائكة عند ربها، وأن يحبس جوارحه عن المعصية ما دام في المسجد، وأن (يأتي لعلم يعلمه أو يتعلمه فيكون كالمجاهد في سبيل الله ويرجع غانماً) كما أخرج مالك في الموطأ، وأن يكون كذلك من الذين يتعرفون على الله في الرخاء حتى يعرفهم في الشدة، ومن الذين يتعرفون على ملائكة الله الذين يستغفرون لعباده وهم على أبواب المساجد يكتبون الناس الأول فالأول، وأن يكون كذلك من الذين يترهبون بعمارة المساجد ولو لحظة، وأن يلتمس دعاء المسلمين في المساجد، وأن يكون من عمارها: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة:18]، وأن يكون كذلك من الذين يلتمسون بركة الذين يعمرون هذه المساجد من الملائكة ومن صالحي الإنس والجن، فدعواتهم وأخلاقهم ومجالستهم تغفر بها الذنوب كما في الحديث الصحيح: (أشهدوا أني قد غفرت لهم، فيقولون: يا رب! فيهم عبدك فلان وليس منهم إنما جاء لحاجته، فيقول: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
كذلك نية تحية المسجد، إذا جاء الإنسان ووجد الإمام في أثناء الصلاة، فهذه الفريضة بالإمكان أن ينوي بها السنة، فينوي بها أيضاً تحية المسجد فتحسب له صلاة أخرى زائدة على أصل ذلك.
كل هذه النيات تكتب أعمالاً مستقلة في ميزان الحسنات الذي توزن فيه مثاقيل الذر وهي أصغر شيء: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].(13/11)
من الأسس التي تميز شخصية المسلم أساس المعاملة مع الله عز وجل
والأساس الثالث من أسس شخصية المسلم: أساس المعاملة، وهذا أساس عظيم جداً، ففيه الجانب الخلقي الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا)، وفيه جانب التعاون بين الناس الذي قال الله فيه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة:2].
وفيه جانب الاكتساب والسعي في الأرض الذي يقول الله فيه: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15]، فكل هذه الجوانب داخلة في هذا الأساس من أسس بناء شخصية المسلم وهو أساس التعامل.(13/12)
من حسن التعامل مع الله الصبر عند المصيبة
كذلك فإن من واقع التعامل مع الله سبحانه وتعالى الذي ينبغي أن يكون حاضراً في أذهان المؤمنين: أن المؤمن إذا أصابته أي مصيبة، أو نفذ فيه أي قدر من أقدار الله سبحانه وتعالى، تذكر الكلمة البليغة التي هي الأدب الشرعي في التعامل مع الله عند المصائب وهي: إنا لله وإنا إليه راجعون.
{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157].
(إنا لله) فنحن مملوكون له سبحانه وتعالى وتصرفه فينا نافذ ماض لا معقب لحكمه، (وإنا إليه راجعون) فنحن جميعاً راجعون إليه حتى لو تعدتنا المصائب الآن وتجاوزتنا، فلا بد أن نصل إلى الرجوع إليه؛ لأن مصير الأمور كلها إليه {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:53].(13/13)
من حسن التعامل مع الله دعاؤه والتضرع إليه
كذلك: الدعاء فإنه مقتض أن يتذكر الإنسان مذلته وفقره وعجزه فيتذكر ما يقابل ذلك من صفات الله المخالف للحوادث، يتذكر غنى الله المطلق، يتذكر دوامه وقيوميته التي لا انتهاء لها ولا انقضاء، يتذكر كرمه وجوده وسخاءه، يتذكر فضله وأن يده سبحانه وتعالى سحاء لا تغيض الليل والنهار.
ويتذكر حلمه ورأفته ولطفه فهو الذي يرى الناس على المعصية فيغفر ويستر، فما من أحد منا إلا ويتذكر مواقف بينه وبين الله يخجل منها، ويستحي أن يطلع الله عليه وهو على المعصية، ولكنه يستره ويسامحه وهو قادر على أخذه أخذاً وبيلاً بهذه اللحظة؛ نسأل الله أن يتبع الستر بالمغفرة وأن يغفر لنا ذنوبنا وخطايانا وإسرافنا في أمرنا.
فإذا تذكر الإنسان ذلك عرف أنه محتاج إلى هذا الدعاء، وأنه أساس من أسس شخصيته التي تميزه، فغير المسلم يدعو غير الله ويكثر من دعائه! والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13 - 14].
وهذا الدعاء لله سبحانه وتعالى هو حقيقة الغنى بالله عما سواه، والذي إذا أصابته أية مصيبة أو احتاج إلى أي حاجة، أو تذكر فقراً أو تذكر ذنباً بادر إلى باب الدعاء، فسيغلق الله عنه باب الفقر ويفتح له باب الغنى، فيستغني بالله عمن سواه، والذي إذا تذكر حاجة أو فاقة علقها بالمخلوق فبدأ يسأل الناس فإنه كلما سأل فتحت عليه أبواب أخرى من الفقر، فيجعل الله فقره بين عينيه، ويجعله متعلقاً بالآخرين دائماً، وهذا الذي كتبه الله على اليهود، فقد كتب الله عليهم الذلة والمسكنة، {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران:112] فهم دائماً يريدون من يحميهم، ويريدون من ينفق عليهم، ويريدون من يبدي لهم جانب الرحمة؛ لأنهم مفطورون على الذلة للمخلوق.
بخلاف أهل الإيمان فإن من أساس شخصيتهم أنهم يسألون الله الذي رضي لهم أن يسألوه فقال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] ولهذا يعلقون آمالهم ودعاءهم في حوائجهم كلها بالذي يقدر على قضائها، الذي لو اجتمعت الخلائق كلها في صعيد واحد فسألوه فأعطى كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، الذي لا يعجزه قضاء حوائج عباده، ولا تغيض يداه بل هما سحاءان بالليل والنهار، هذا هو الذي يستحق أن يسأل وأن يدعى ومن سواه لا يستحق ذلك، بل العباد مفطورون على البخل في الأصل؛ ولهذا يقول أحد الحكماء: لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب ويقول آخر: إذا عرضت لي في زماني حاجة وقد أشكلت فيها علي المقاصد وقفت بباب الله وقفة ضارع وقلت إلهي إنني لك قاصد ولست تراني واقفاً عند باب من يقول فتاه سيدي اليوم راقد(13/14)
من حسن التعامل مع الله التعرف على عجائب خلقه وتدبيره ولطفه
ثم إن التعامل مع الله سبحانه وتعالى مقتض أن يتعرف الإنسان على عجائب خلقه وتدبيره ولطفه، فإن الإنسان إذا لم يدرك هذه الحقائق يبقى جانب عظيم من تعلقه بالله مهملاً مغلقاً، لكن إذا رأى تصرف الله في هذا الكون الذي يخرج فيه النقيض من نقيضه والضد من ضده {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يونس:31]، يرى العجائب العجيبة، وذلك مقتض منه لزيادة التعلق به، وزيادة محبته وزيادة الإيمان به وزيادة الرجاء وعدم الانقطاع عنه مطلقاً.
من رأى عجائب كون الله سبحانه وتعالى ودقائق ملكوته لم ينزعج ولم تسد أمامه الأبواب، ولم يقنط ولم ييأس {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]، فإذا تعالى الباطل وعلت صيحاته وانتفش وانتفخ فإن أهل الإيمان يعلمون أن الفرج قريب، وأن النصر مع الصبر وأن الذي أهلك قوم نوح فأمر السماء ففتحت أبوابها بالماء المنهمر وأمر الأرض فتفجرت عيوناً {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:12]، وأهلك عاداً بالريح التي سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، وأهلك ثمود بالصيحة التي لم تبق لهم باقية، {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم:51] وأهلك قوم لوط بالحاصب الذي قلب مدينتهم، وأهلك أصحاب فرعون وفرعون بالتطام البحر والتقائه عليهم، غير عاجز عن أن يهلك أعداءه في أي زمان وأي مكان {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:43 - 45].
فمن هنا لا ييأس الإنسان ولا يحزن إذا رأى انتفاش الباطل، لعلمه أن له صولة ثم يضمحل.(13/15)
من حسن التعامل مع الله التعرف إليه في الرخاء
ومن أسس التعامل مع الله سبحانه وتعالى: أن يتعرف الإنسان إليه في الرخاء كما ذكرنا، وهذا مقتض لأن يكون الإنسان راغباً إلى الله في كل أحواله، فكثير من الناس لا يعرفون الدعاء إلا في وقت الشدة، أما في وقت الراحة والسعادة والطمأنينة والغنى والصحة فإنهم يبطرون بتلك النعم فلا يدعون الله!! وكثير من الناس إذا رأى من تسيل دمعته وتفيض عيناه ويمد يديه إلى بارئ السماوات والأرض يقول: هذا في مشكلة، هذا مصاب بمصيبة!! لتصور الناس أنه لا يدعى الله إلا في وقت المشكلات، والواقع خلاف هذا.
فعلى الإنسان أن يتعرف إلى الله في الرخاء وأن يكثر من دعائه، وأن يعلم أن هذا الدعاء هو حقيقة المذلة بين يدي الله، فحقيقة التذلل لله إنما تكون بدعائه، والإنسان محتاج إلى هذا في كل أوقاته، وهذا الدعاء هو مخ العبادة، وهو مقتض لأن يثني الإنسان على الله بالمحامد والثناء الذي هو أهله ومستحقه، وهي فرصة عجيبة تتاح للإنسان للثناء على الله، ومما يؤسف له أن كثيراً من الناس يهمل هذا الجانب من شخصية المؤمن، فلو عرضت عليه صحيفة كلامه لوجد فيها كثيراً من الثناء على المخلوقين، ولما وجد فيها من الثناء على الخالق إلا شيئاً يسيراً، مع أن الله هو الذي يستحق الثناء، وألسنة كثير من الناس لا تتعود الثناء على الله بصفاته ونعمه وآلائه الجسيمة وهو أهل للثناء (وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أعرابياً قام في المسجد فأثنى على الله فأبلغ الثناء، فخرج إلى بيته فجاء بذهيبة -أي قطعة من الذهب- فقال: خذ هذا بحسن ثنائك على ربك) جائزة على حسن ثنائه على الله.
وثبت في صحيح البخاري: (أن رجلاً من الأنصار خرج في سرية فكان يؤمهم، فكان إذا قرأ الفاتحة قرأ بعدها سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، ثم يقرأ سورة أخرى، فأنكر عليه أصحابه، فشكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال: (قل هو الله أحد) صفة الرحمن فأجدني أحبها، قال: حبك إياها أدخلك الجنة)، كان يحب الثناء على الله فأدخله ذلك الجنة.(13/16)
حسن تعامل العبد مع ربه يقوم على ثلاثة أسس
وهذا الأساس معناه أن الإنسان مضطر للتعامل مع غيره، وأولى من يتعامل معه ربه سبحانه وتعالى، فعليه أن يحسن المعاملة معه.
الأساس الأول: وهو أهم ضوابط إحسان المعاملة مع الله، الصدق في التوجه إليه، فإذا علم الله الصدق من عبده بالتوجه إليه هداه سبله وأراه طريق الحق وأخذ بناصيته إلى ذلك.
أما إذا رأى منه كذباً في التوجه إليه وأنه لم يكن صادقاً في ذلك فإن الله يغويه ويضله، كما قال الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:109 - 111]، إن صدق التوجه إلى الله سبحانه وتعالى يقتضي من الإنسان أن يتأدب مع الله في الأخذ وفي التلقي.
والأساس الثاني: أن يعرف نعمة الله ويقيدها بشكرها، وهذا أساس في التعامل مع النعم، فكثير من الناس لا يعرفون النعمة بوجودها وإنما يعرفونها بزوالها، فإذا فقدوا النعمة تذكروا أنهم كانوا في خير وعافية، وأن ذلك قد فارقهم فأسفوا وندموا!! وهذا مخالف لأساس شخصية المسلم؛ لقول الله تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23].
{إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19 - 22].
وعلى هذا فلابد أن نعرف نعمة الله بوجودها لا بزوالها، ثم بعد ذلك لا بد أن نعرف من أين أتت هذه النعمة، فكثير من الناس تطغيه النعمة فينسى من أين أتت، والله تعالى يذكر رسوله صلى الله عليه وسلم بمصدر نعمته عليه فيقول: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:1 - 4] ويقول في السورة التي قبلها: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:1 - 8] فيذكره بمصدر النعمة.
كثير من الناس يجهل مصدر النعمة بالطغيان، يطغى بالنعمة فينسى مصدرها.
{كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]؛ ولهذا فإن قارون حين أغناه الله نسي مصدر النعمة، فقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78].
والأساس الثالث في التعامل مع الله: هو تقييد نعمه بالشكر، ومعناه: أن كثيراً من الناس ينكر هذه النعمة بعد معرفته بها ومعرفته من أين أتت، كما قال تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل:83]، وأهل الإيمان يعرفون نعمة الله ويقيدونها بالشكر، فإذا شرب الإنسان أو أكل قال: الحمد لله، فتذكر هذه النعمة عليه، وإذا استيقظ من نومه ورد الله عليه روحه تذكر هذه النعمة فقال: الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره، وإذا من الله عليه بالعبادة حمد الله على ذلك، وإذا قال: سمع الله لمن حمده يقول: ربنا لك الحمد، وهكذا فالنعم المتسلسلة يصاحبها ويحاذيها الحمد الذي هو قيدها، والشكر الذي هو سبب زيادتها، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].(13/17)
من الأسس التي تميز شخصية المسلم أساس المعاملة مع النبي صلى الله عليه وسلم
ثم في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أمنّ الخلق على الناس، وقد شرط الله عليهم محبته في الإيمان (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) (لا، حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك).
ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مشروطة بالإيمان، والتعامل معه صلى الله عليه وسلم مقتض للتأدب معه تمام الأدب كما قال سبحانه وتعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:1 - 5]، فالتعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أساس التقدير والتوقير الذي شرطه الله سبحانه وتعالى وأمر به، يعتبر من مميزات شخصية المسلم في مجال التعامل.
أما من لم يأخذ بهذه القيمة من قيم شخصية المسلم فسيكون ما بين مفرط ومفرط، فالمفرط: سيحل الرسول صلى الله عليه وسلم في غير منزلته، ولن يعرفه على حقيقته، بل سيحجب عن صفاته الحقيقية وعن الأدب معه بمجرد خرافات وأقوال اختلقها أقوام ليس لها أساس، والنبي صلى الله عليه وسلم في غنى عنها، فقد شرفه الله وكرمه بالتشريف الكافي، ولا يحتاج إلى الإطراء بالباطل ولا يحتاج إلى الخرافات، بل آتاه الله المعجزات الحقيقية التي هي مقنعة لكل من سمع وبلغ.
النوع الثاني: المفرِّطون الذين يسيئون الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يوقرونه ولا يقدرونه ويعتدون على جانب النبوة فينسبون إليه بأفهامهم ما هو خلاف الواقع، ويظنونه كرجالاتهم، وليس كذلك، بل هو المعصوم الذي شرفه الله على سائر الناس وكرمه، والمؤمن بين هاتين الرذيلتين: بين الإفراط والتفريط.(13/18)
من الأسس التي تميز شخصية المسلم: أساس المعاملة مع المؤمنين
كذلك فإن من مقومات شخصية الإنسان المؤمن في مجال التعامل: تعامله مع إخوانه المؤمنين الذين وصف الله تعاملهم فيما بينهم بالرحمة والشفقة، فقال سبحانه وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:29]، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].
ومن هنا فالصفة العظيمة التي كتبها الله على نفسه وأمر بها عباده هي صفة الرحمة، فيتصف بها المؤمنون فيما بينهم، فهم الرحماء الذين يرحمهم الله، ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لا يرحم لا يُرحم)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
وهذه الرحمة يحتاج الناس إليها في تعاملهم فيما بينهم، وإذا انعدمت فإن الخيرية سترفع، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزال أمتي بخير ما دام كبيرها يرحم صغيرها، وصغيرها يوقر كبيرها)، فإذا نزعت الرحمة من الناس زالت الخيرية منهم، وعدموا الخير الذي اختارهم الله له: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].(13/19)
الناس في التعامل درجات باعتبار الحقوق الشرعية
وهذا الأساس من أسس بناء شخصية المسلم في التعامل مع الناس: مقتض كذلك لتفاوت درجات الناس في الحقوق الشرعية، فأحق الناس بحسن صحابة الإنسان أمه، ثم بعدها أبوه، ثم أدناه فأدناه، وكذلك حقوق الجار الذي حض النبي صلى الله عليه وسلم على أداء حقوقه، وحقوق الضيف، وحقوق ذي الشيبة في الإسلام، وحقوق أهل العلم والدين، فهذه الحقوق أعلى مما سواها من حقوق عوام المسلمين.
ثم بعد ذلك حقوق الداعين والساعين في طريق الحق، وأدنى من ذلك حقوق عوام المسلمين الذين لا يلتزمون بجزئيات الإسلام، ولا يتبعون سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفصيلاته، لكن مع ذلك فإن حق الأخوة لا ينصرم ولا ينقطع إلا بالكفر بالله؛ ولهذا فقد أثبت الله الأخوة بين المؤمنين مع وجود الظلم والبغي في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] الأخوان هنا هما الباغي والمبغي عليه، فكلاهما أخوان لنا، فالأخوة الإيمانية لا ينقضها البغي والظلم، لكن حقوق أهلها متفاوتة على ترتيب الحقوق الشرعية.(13/20)
حكمة الله في إيجاد الترابط الاجتماعي لوجود الحاجة بين الناس
الجانب الآخر من جوانب التعامل هو جانب الاكتساب: فالله سبحانه وتعالى قسم الأرزاق بين الناس، ومن حكمته فيما يقتضي حصول الترابط بينهم أن يعطي هذا ما هو في غنى عنه ويحتاج إليه غيره، ويعطي الآخر ما هو في غنى عنه ويحتاج إليه غيره، حتى يقع التكامل بينهم، وحتى يحتاج بعضهم إلى ما في يد بعض فيقع التبادل بينهم؛ ولهذا شرع لهم البيع وحرم عليهم الربا {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] ليقع التكامل فيما بينهم، وهذا التكامل لا بد أن يكون وفق الشرع.
فميزة المسلم المؤمن أنه يميز بين دائرتين متباينتين هما دائرة الحلال ودائرة الحرام، ففي طلب الرزق والاكتساب يعلم أن الله سبحانه وتعالى جعل له دائرة هي دائرة الحلال وأجاز له التصرف فيها والسعي الموافق للشرع بما ليس فيه مذلة ولا إساءة في الطلب، بل عليه أن يجمل في الطلب ويعلم أن رزقه مضمون، وأنه لا ينال بالحيلة، وكم رأينا من يبذل جهده ووقته طيلة عمره في محاولة جمع المال ويموت فقيراً لا يملك شيئاً! وكم رأينا من لم يتعب في هذه الدنيا ولم يبذل فيها جهداً يذكر ومع هذا مات غنياً وعاش غنياً غير محتاج إلى الناس!! فالقضية هنا ليست باتباع الحيل، بل يقول أحد الحكماء: مثَل الرزق الذي تطلبه مثَل الظل الذي يمشي معك أنت لا تدركه متبعاً فإذا وليت عنه تبعك ويقول الآخر: باتت تعيرني الاقتار والعدما لما رأت لأخيها المال والنعما تباً لرأيك ما الأرزاق عن جلد ولا من الكسب بل مقسومة قسما ومن هنا فعلى الإنسان أن يجمل في الطلب وأن لا يذل نفسه، وأن لا يجعل نفسه خادماً للدنيا، بل المطلوب أن تكون الدنيا خادمة له هو.
وفي هذا المجال عليه أن يعلم أن الدائرة الأخرى وهي دائرة الحرام دائرة مسدودة، ولا خير له فيها، وإذا زين له الشيطان أو النفس الأمارة بالسوء أو إخوان السوء أن يتزود من هذه الدائرة التي حرم الله؛ فليتذكر قصة إبليس مع آدم وحواء حين أخرجهما من الجنة، ليتذكر أن على حافتي الطريق أبواباً مفتحة وعليها ستور، ووراء كل باب داع يدعو للولوج، وفوقه داع الله ينادي يقول: يا عبد الله! لا تلج الباب فإنك إن تلجه لن تخرج منه.
ليتذكر الإنسان إذا عرضت عليه أية صفقة أو أي مكسب وهو مما حرم الله عليه، أنه يمكن أن يستدرج بهذا حتى يهوي في النار، فيحاول الابتعاد عن دائرة الحرام ما تيسر له ذلك، وليعلم أن (كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به)، وأن ضعاف الإيمان هم الذين يريدون أن يدخلوا هذه الدوائر ويتزودوا من هذا الحرام؛ ولهذا فولاؤهم المنبني على أساس العقيدة غير صحيح، فهم يوالون الكفار لا رغبة في دينهم ولا في قيمهم، ولكن لأنهم يخشون الدوائر، فيريدون أن يغنيهم الكفار مما تحت أيديهم، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:51 - 52].
وفي هذا المجال على الإنسان أن يتعلم حدود الحلال والحرام؛ ولهذا صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (من لم يكن فقيهاً أكل الربا شاء أو أبى)، وقال: (من لم يكن فقيهاً فليخرج من سوقنا)؛ لأنه يخاف أن يغلب غير الفقهاء على الأسواق فيتعاملون بمعاملات محرمة فتنتشر تلك المعاملات، وهي الغبار الذي ينال الناس من الربا، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه في آخر الزمان سيعم الربا فمن لم ينل منه ناله من غباره).
وهذا هو واقعنا اليوم، فالاقتصاد العالمي كله يقوم على الربا المؤدي إلى حرب الله ورسوله، ومن لم ينل منه ناله من غباره.
فعلى المؤمن وهو يسعى لبناء شخصيته أن يعلم أن من مقومات شخصيته الابتعاد عن الحرام.(13/21)
ليس من التعامل الشرعي مع الناس إحصاء ذنوبهم
عند التعامل مع الناس لا بد أن يتذكر الإنسان أنه مخلوق مثلهم، وأنه ليس محصياً لذنوبهم ولا مكلفاً بذلك، وأن عليهم ملائكة يحصون أعمالهم لا يفوتهم شيء منها، وأنه لا يكلف إلا نفسه، ويؤمر بتحريض الآخرين فقط، فهو يأمر وينهى لكن ليس حسيباً ولا مسيطراً ولا مهيمناً، إنما هو شاهد فقط، ولهذا أخرج مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلىً ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية).(13/22)
من الأسس التي تميز شخصية المسلم الرغبة فيما عند الله والدار الآخرة
والمقوم الرابع من مقومات بناء شخصية المسلم بعد المقوم العقدي والمقوم التعبدي ومقوم التعامل، هو: مقوم الرغبة فيما عند الله والرغبة في الآخرة.(13/23)
لو دامت الدنيا لأحد لما وصلت إلينا
وبهذا يعلم المؤمن أن تنافس الناس في هذه الدنيا وفي زهرتها وملكها قد سبق هذا الزمان، وأنها لو كانت تدوم لأحد لما وصلت إلينا اليوم؛ ولذلك قال أحد الوعاظ لأحد الملوك حين جلس في ملكه واستعرض جيشه وإمكانياته المختلفة، قال له: لو دامت لغيرك ما وصلت إليك! فتذكر مفارقة السابقين لها والحال الذين كانوا فيه، وهذا ما أرشدنا الله إليه في بيان أن السابقين قد عمروها أكثر مما عمرها اللاحقون، فأولئك قد مكن لهم في الأرض ما لم يمكن لنا، ومع ذلك خرجوا منها وتركوها وراء ظهورهم.
فلذلك لما خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من مكة في حجته، وقف على ضجنان وهو جبل في شمال مكة فقال: كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان فكنت إذا أبطأت ضربني وقال: ضيعت، وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعش، ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه، ثم أنشأ يقول: لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد لم تغن عن قيصر يوم خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها تفد أين الملوك التي كانت لعزتها من كل صوب إليها وافد يفد حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوماً كما وردوا وكما قال الآخر: ذهب الزمان فلا زمان جمانا وكأن ما قد كان لم يك كانا يا من لشيخ قد تطاول عهده أفنى ثلاث عمائم ألوانا سوداء حالكة وسحق مهوف وأشد ثوباً بعد ذاك هجانا والموت يأتي بعد ذلك كله وكأنما يعنى بذاك سوانا فبينا الإنسان مشتغل بهذه الدنيا يهدبها ويطول أمله فيها، وكلما فتح له منها باب تمنى أن يكون وراءه أبواب، إذا بالموت يهجم عليه فلا يرده حراس ولا أعوان ولا يجد مدافعاً عن الباب كما قال ابن مناذر: كل حي لاق الحمام فمودي ما لحي مأمل من خلود لا تهاب المنون شيئاً ولا تبـ ـقي على والد ولا مولود يرضخ الدهر في شماريخ رضوى ويحط الصخور من هبود ولقد تترك الحوادث والأيا م وهياً في الصخرة الجلمود يفعل الله ما يشاء فيمضي ما لفعل الإله من مردود فكأن أهل الموت ركب محثو ن سراعٌ لمنهل مورود إذا تذكر الإنسان سرعة زوال هذه الدنيا وتقلباتها علم أنها ليست دار بقاء ولا خلود، وأن حال الذي يرجو فيها البقاء ويريد أن لا يناله فيها كدر هو كما قال الشاعر: طبعت على كدر وأنت تريدها خلواً من الأقذار والأكدار وهذا ما لا يمكن أن يتم أبداً.
ومكلف الأيام غير طباعها متطلب في الماء جذوة نار(13/24)
كل ما في هذه الدنيا إلى فناء وزوال
فالمؤمن يعلم أن هذه الدنيا ليست دار بقاء، وأن ما فيها كله فان منتقل، وبالتالي لا تكون أكبر همه ولا مبلغ علمه، يعلم أن زخارفها لن يمضي عليها زمن يسير حتى تكون أقذر ما فيها! فإذا رأيت شيئاً يعجبك من الدنيا فتذكر حاله بعد عشرين سنة أو خمسين سنة أو مائة سنة، فإذا كان مبنى جميلاً فإنه بعد مائة سنة لن يستطيع أحد السكنى فيه بل سيبقى للحمام وغيره.
إذا رأيت أي شيء يعجبك من أمور هذه الدنيا فاعلم أنه إلى زوال.
إذا أعجبتك الدهر حال من امرئ فدعه وواكل أمره واللياليا فلهذا قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:131 - 132].
وهذا المقوم مقتض للرغبة فيما عند الله والزهادة في هذه الدنيا، فالمؤمن يعلم أنها فتنة، فالأموال والأولاد كثيراً ما تشغل الناس عن طاعة الله وعبادته؛ ولهذا كانت عذر الأعراب حين أمرهم الله بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} [الفتح:11]، وهي الفتنة التي قال الله فيها: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:28]، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدونه بعدي من زهرة الدنيا فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت، ولنعم صاحب المسلم هي إن أطعم منها الفقير والمسكين وابن السبيل) قيمة المؤمن الخلقية في مجال الدنيا هي أن يتذكر قول الله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24]، وكقوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45].
إذا أعجب الإنسان بأي شيء مما في هذه الدنيا مما يتنافس الناس عليه من الأموال والأولاد والملك وغير ذلك تذكر أن كل هذا إلى زوال، فالذين ينعمون بهذه الدنيا ويسعدون بما فيها من زخارفها عما قليل سينقلون عنها ويخرجون، وهذا ما نشاهده يومياً، فكم رأينا ممن كان يخدمه الناس وقد أصبح في حفرة لا ندري هل هي روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، قد انتقل من هذه الدنيا وخلفها وراء ظهره كما قال تعالى: {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94] انتقلوا من هذه الدنيا وخرجوا منها لم يصحبهم منها إلا أكفانهم وأعمالهم، وسكنوا بعد القصور القبور، وقطعوا عن أخبار العالم بعد أن كان كل واحد منهم لا يستطيع الصبر عن وسائل الإعلام ومتابعة القنوات الفضائية، يسهر عليها ليله كله، واليوم قد انقطعت عنهم الأخبار فلا يصل إليهم أي خبر.
فلهذا لا يغتر المؤمن بهذه الدنيا، وليعلم أن كل ما فيها مما يتنافس الناس فيه مصيره للزوال.
كل شيء مصيره للزوال غير ربي وصالح الأعمال(13/25)
الزهد في الدنيا لا يقتضي إهمال عمارتها
فمن أسس ومقومات شخصية المسلم أن يعرف قيمة هذه الدنيا ولا يزيدها عن حجمها، ومع هذا فما ذكرناه لا يقتضي منه إهمال العمل فيها فهي دار العمل، وهو مسئول عن عمارتها ومستخلف فيها، وقد استعمرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الأرض وجعلنا خلفاء فيها، ومن هنا أوجب علينا الأسباب لكنه بين لنا أن هذه الأسباب لا تقدم ولا تؤخر: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28 - 29].
فنحن مطالبون بأن نعمل وأن نعمر هذه الدنيا بخير ما استطعنا، لكن نحن مطالبون كذلك بأن لا نغتر بها وأن نعلم أنها ليست دار بقاء، ومن هنا فالتعامل الصحيح مع هذه الدنيا أن يجعلها الإنسان في يده وأن لا يجعلها في قلبه، فإنه إن جعلها في يده كان بالإمكان أن يستفيد منها وأن يتصرف فيها وأن يبعد قذرها عن نفسه، وإن جعلها في قلبه ملكته وكان وعاء لها وخادماً ولم يفته شيء من أقذارها وأكدارها.(13/26)
المبالغة في جمع الدنيا لا يوصل إلى السعادة
إن الذي حمل الناس على الإيغال والمبالغة في جمع هذه الدنيا هو أنهم يطلبون السعادة بها، والواقع أنهم يعلمون أنها لا تدوم على حال وأنها عرض يزال، ومن هنا فما يطرأ فيها من التغيرات سيصيبهم بالغموم والهموم فتزول السعادة لديهم.
وأنا أعرف أحد التجار الكبار أغمي عليه ذات يوم فنقل من مكتبه إلى المستشفى فلما حضر الأطباء أجروا له كل التحليلات اللازمة فلم يجدوا فيه أي مرض، فاكتشف أحد الأطباء أن الذي أصابه هو الجوع، قال: صاحبنا قتله الجوع والعطش، فبحثوا عن سبب ذلك فإذا هو منذ أيام يراقب مؤشر أسعار العملات، فلم يجد وقتاً لشرب ولا لأكل، يأتيه الخادم بكأس الشاي أو بالشرب فيضعه بين يديه وهو مشغول لا يتناوله والهواتف على أذنيه، ومتابع مؤشر العملات بين يديه، فيأتي العامل ويأخذ الكأس ويضع جديداً مكانه، وهكذا حتى يذهب الوقت دون أن يتناول أكلاً ولا شرباً! فقد أصبح خادماً لهذه الدنيا وباذلاً وقته ونفسه لخدمة الدنيا بدل أن كانت تخدمه، فلم يستفد منها شربة ماء حتى أهلكه الجوع والعطش! وأعرف آخر من التجار في هذه البلاد يحدثني عن نفسه فيقول: أنا وفلان من أغنى الناس في هذا المكان، ومع ذلك حرم علينا كل ما في هذه الدنيا من الشهوات، فحرم علينا كل ما فيه حلاوة وكل ما فيه دسم، وكل ما فيه ملح، فلا نتغذى إلا بالعيش والحليب الذي ليس فيه دسم! فكثير من الناس لا يميزون بين جعل الدنيا تحت أيديهم وبين تسخيرها لهم، كثير من الناس يتمنى أن يجعل تحت يديه الملايين أو المليارات لكن لا يعلم أن جعلها تحت يديه لا يقتضي انتفاعه منها، فكم من إنسان جعلت تحت يديه فلم ينتفع منها أصلاً، ولم تسد له أية حاجة، فهذه هي قيمة الدنيا الحقيقية.(13/27)
من أسس بناء شخصية المسلم أساس العلم
ومن أسس بناء شخصية المسلم: أساس العلم: وهو أساس مهم يميز المسلمين، فالمسلم دائماً يسعى لزيادة العلم، وهو يتذكر أن الله سبحانه وتعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، ويتذكر أن هذا العلم ميز الله سبحانه وتعالى به شهداءه على الناس وائتمنهم عليه، وبقدر علم الإنسان تتحقق خشيته لله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ويتحقق تلقيه عن الله: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]، وترتفع منزلته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
ومن هنا فالمؤمن حريص على ضالته التي يبتغيها في أي مكان، وهي الحكمة، فأنّى وجدها فهو أحق بها، يسعى للازدياد من الكتاب ومن السنة ومن الأحكام الشرعية، ومن كل علم يقربه إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يستنكف عن الازدياد من العلم؛ ولهذا قال الله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:17 - 18].
والمسلم الذي يفرط في الازدياد من العلم شخصيته ناقصة، وهو مهزوز لا يستطيع الاستقرار ولا الصمود؛ لأنه لم يتخذ من وسائل التحصين ما يكفيه سلاحاً ضد كيد أعدائه وضد شبهات الشيطان التي يلقيها، فهذه لا تزال إلا بالازدياد من العلم، ومن التشريف للمؤمن أن يثبت إيمانه بما يتعلم من القرآن والسنة كما في حديث حذيفة في الصحيحين: (إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال تعلموا من الكتاب ثم علموا السنة)، فكان هذا سياجاً للأمانة وتثبيتاً لها في القلوب، والذي يحاول أن يزداد كل يوم علماً أياً كان فهو سائر في طريق الجنة (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) والذي يعرض عن ذلك مصيره أن يحشر يوم القيامة أعمى، ويضمن الله له معيشة ضنكاً ونكداً في العيش في هذه الدنيا، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:126 - 127].
كذلك فإن حفاظ المسلم على الازدياد من العلم يقتضي منه حرصاً على أن يكون أحد ثلاثة: إما أن يكون عالماً، وإما أن يكون متعلماً، وإما أن يكون معيناً، ولا يمكن أن يكون الرابع الذي لا له ولا عليه؛ لأن الرابع هو الذي ضرب له النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً بالقيعان التي لا تمسك ماء ولا تنبت عشباً فقال: (وذلك مثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به)، فلهذا كان من بناء شخصية المسلم أن يكون متعلماً، فهو حريص على الازدياد من العلم بالفكر والمطالعة والسماع والاستفتاء
و
السؤال
{ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:82 - 83]، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه في صحيح البخاري: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه أي: خير المسلمين من تعلم القرآن وعلمه، فلهذا كان من أسس بناء شخصية المسلم التعلق بهذا القرآن وقراءته وتدبره، والذي لا يجد ذلك ولا يأنس بكتاب الله، ولا تتعود أصابعه على فتح المصحف، ولا يتعود يومياً على قراءة آيات من كتاب الله ينور بها بصيرته وبصره، فجوفه خال، وهو بمثابة البيت المهجور الذي ليس فيه خير! أما المؤمن الذي يقرأ القرآن ويتدبره سواء كان ذلك شاقاً عليه أو كان سهلاً عليه فهو موعود بالأجر العظيم والذخر الجسيم، الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به ولا يتتعتع فيه وهو عليه غير شاق مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق ممن يؤتى أجره مرتين.
فلذلك فإن الذين يعرضون عن هذا التعلم بالكلية ولا يهتمون به، ولا يجعلون جزءاً من أوقاتهم له، لم يتخلقوا بشخصية المسلم في هذا الباب.(13/28)
من أسس ومقومات شخصية المسلم: المقوم السياسي
كذلك من مقومات شخصية المسلم: المقوم السياسي: فمن مقومات شخصيته وأسسها أن موقفه السياسي محدد منطلق من عقيدة راسخة لديه لا يتزحزح عنها، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56]، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة:21 - 22]، هذا هو المقوم السياسي لشخصية المسلم {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [المجادلة:22].
فيعرف المؤمن لمن يكون ولاؤه وعلى من تكون عداوته، ومع من يكون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} [الصف:14]، فلا يلتبس عليه الأمر، ولا تزيغ به الأهواء، ولا يسير وراء كل ناعق ولا يتقلب مع الرياح ولا تذهب به المطامع يميناً وشمالاً، بل موقفه ثابت صامد على وفق ما رضي الله له وعلى وفق ما شرع له.(13/29)
من أسس ومقومات شخصية المسلم المقوم الاجتماعي
ثم المقوم الاجتماعي لشخصية المسلم: فمن أسس بناء شخصية المسلم أنه يحب الخير للناس ويحب أن ينفعهم، ويحب أن يكون من أودية الخير، فأهل السخاء هم أودية البشر في الأرض، تمطر السماء مكاناً بعيداً فتنقل تلك الأودية المياه وتسقي بها أماكن أخرى، فكذلك في الناس أهل سخاء يكدون ويجمعون ثم يصل خيرهم إلى من سواهم، ويتعدى نفعهم إلى الأباعد، وهؤلاء هم أودية السخاء في البشر، وهم مفاتيح الخير مغاليق الشر، والله سبحانه وتعالى امتدح الأنصار بهذا السخاء فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
فيسعى المؤمن في هذا المجال أن يكون وسيلة للخير ووسيلة لتخفيف المعاناة عن الناس، ووسيلة لفتح أبواب الخير أياً كانت وإغلاق أبواب الشر، لا يريد أن يستغل في باطل ولا أن يكون سبباً لأذى الناس ومعاناتهم، بل يعلم أن ذلك من أوصاف المنافقين والمرجفين؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58].
يريد أن يكون مشعل هداية ونور، وأن يرحم عيال الله، والناس كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله، يريد أن يخفف معاناة أقوام وما يلقونه من البأساء ليخفف الله عنه كما قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} [الإنسان:8 - 11].
هؤلاء يخافون ذلك اليوم؛ فلهذا يعدون العدة من الآن {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:9 - 10].(13/30)
من أسس ومقومات شخصية المسلم المقوم الثقافي
ثم المقوم الثقافي: فإن ثقافة المؤمن متميزة ليست كثقافة من سواه، فأهل الإيمان مصادرهم في التلقي معروفة واضحة، يعلمون أن الحق هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله، وأن الوحي كما أنزل وأن الدين كما شرعه الله، وأنه لا يمكن أن يزاد ولا أن ينقص منه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فمرجعهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويرجعون إلى الراسخين في العلم فيما اخلتفوا فيه من الحق، ويسألون الله الهداية والتنوير فيما اختلف فيه من الحق بين الناس، ومن هنا فليست ثقافتهم كثقافات الذين يتقيدون بالعصور، ويتقيدون بالحضارات والمدنيات المتباينة المتضاربة، بل ثقافة المؤمن تنطلق من الوحي المنزل الذي يقول الله فيه: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193 - 195]، فيحسمون مأخذهم ومرجعهم ولا يحتاجون إلى التذبذب والسير وراء كل ناعق في مجال الثقافة.(13/31)
من أسس ومقومات شخصية المسلم المقوم الاقتصادي
ثم المقوم الاقتصادي في شخصية المسلم: ومبناه على أن المسلم يعلم أن الأرض وما فيها لله وحده، وأن الرزق بيد الله، وأن المال مال الله، وما جعل تحت يده منه فليس له، وإنما هو أمانة عنده يتصرف فيها تصرف الوكيل ينتظر العزل في كل حين، والعزل إما أن يكون بالموت، وإما أن يكون بحجر، وإما أن يكون بالافتقار، وإما أن يكون بالسجن أو غير ذلك، وهذا ما نبه الله عليه بقوله: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] فهذا المال ليس لنا وإنما هو لله ونحن مستخلفون فيه مدة محددة لا نعلمها، ولكنها ستنتهي، فتارة يكون الإنسان غنياً وتارة يكون فقيراً، وتارة يتعاقب عليه الأمران، وكثير من الناس من ينظر إلى ذوي العروض فيظنهم أغنياء، والواقع أن كل واحد منهم يعتريه الفقر يومياً؛ لأن الفقر ليس معناه أن لا يكون الإنسان قادراً على الاكتساب، بل المقصود به أن تعرض له حاجة فلا يجد ما يحققها به.
فما من غني على وجه الأرض إلا ويعتريه الفقر عدة مرات يومياً، تعرض له كثير من الحوائج ولا يستطيع قضاءها، وهذا هو الفقر بعينه، فما الفرق بينه وبين الفقير في الحوائج الأخرى؟ الجميع فقراء إلى الله والله هو الغني الحميد، ومن هنا فنظرة المؤمن الاقتصادية أنه لا يحزن إذا حصلت الندرة في المواد، ولا يفرح ويبطر إذا حصل فيها الرخاء والاستمرار، لعلمه أن ذلك متعاقب، وتلك الأيام نداولها بين الناس، وأن الأمر كله بيد الله، ومن هنا فتصرفه في كل ذلك مضبوط بضوابط الشرع، فإذا حصل تضخم أو انكماش في الاقتصاد لم يقتض ذلك منه عدولاً عن الحق الذي جاءه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقتض ذلك منه ادخاراً لأكثر من حاجته، ولم يقتض منه كنزاً لما لا يزكى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35].
هذه مقومات شخصية المسلم، وعلى كل واحد منا أن ينظر إلى تنوعها واتساعها، فيرى شمول هذا الدين واتساعه وتميز أهله في مختلف الجوانب، ويعلم بذلك أن هذا الدين دين الله وليس دين الناس، وأنه هو الكفيل بقضاء حوائج الناس ومصالحهم كلها، ما كان منها دنيوياً وما كان أخروياً، وأنه لا يعتريه النقص وإنما يعتري النقص الناس، فهم الذين يقصرون في التطبيق والأخذ بالدين، أما الدين نفسه فقد أكمله الله (اليوم أكملت لكم دينكم).
ومن هنا يتشبث المؤمن بهذه القيم والمبادئ التي تميزه عمن سواه، ويعلم أن شرفه وعزه ومكانته مرتبطة بهذه القيم، وإذا فرط في شيء منها انتقص ما يقابل ذلك، فلله العزة ولرسوله وللمؤمنين؛ ولذلك لا يمكن أن يبتغي العزة في غير الدين، لعلمه أن عزته مرتبطة بهذه القيم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يهدينا سواء السبيل، اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وفيما أنزلت فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم تب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(13/32)
تاريخ الدعوة الإسلامية في موريتانيا
انتشر هذا الدين حتى وصل إلى كل أنحاء العالم، وكان الفضل في ذلك -بعد الله- للمجاهدين في سبيله من أهل العلم والفضل والصلاح.
وقد فتح الفاتحون بلدان المغرب العربي، ثم تحللت هذه البلدان، وأصبحت دويلات متناحرة يأكل القوي منها الضعيف، فجاء الاستعمار وهي لقمة سائغة فابتلعها.(14/1)
الله ناصر دينه
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة المؤمنون! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن هذا الدين دين الله، وليس دين الناس، فالله عز وجل ناصر دينه ومظهره ومعزه، بذل ذليل أو بعز عزيز، ثبت عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أنه كان مرتفقاً في ظل الكعبة، فأتاه خباب بن الأرت رضي الله عنه فقال: (يا رسول الله! ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتفقاً على برده، فرفع يده وجلس وقال: كان من قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرقه فيقسم نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه ولحمه، ولا يرده ذلك عن دينه، والذي نفس محمد بيده! ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولكنكم قوم تستعجلون).
إن هذا الدين دين الله عز وجل، وهو ناصره ومؤيده، وهو الذي امتحن عباده بنصرته ونشره، وهو غني عنهم، وسيعزه سواءً تقدموا بحمل مسئوليتهم أو تأخروا وتقاعسوا، فإن الله عز وجل لا يعجزه البدل ولا يعجزه الخلف، وهو القائل في محكم كتابه: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4].
وهذه الأمة أمة واحدة كما قال الله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، وإن العاملين لدين الله عز وجل الداعين إليه في مختلف العصور سلسلة واحدة؛ ولذلك قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد أبناء علات)، فالأنبياء كلهم على طريق واحد ومنهج واحد، وإنما يختلفون فيما ينزل إليهم من الشرائع والأحكام، لا في أصل التوحيد والعقائد، ولذلك قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13].
فالدين واحد، والعاملون له في مختلف العصور سلسلة واحدة، والتجربة فيه تجربة واحدة، فهذا الأثر وهذا الطريق هو المسلوك من لدن نوح عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولكن الناس يتفاوتون في تحمل مسئولياتهم وفي القيام بها، وكذلك بعض البيئات والواقع الذي يعيشه الناس يختلف تارات اختلافاً ليس عائداً إلى نفس المنهج، وإنما هو عائد إلى حياة الناس وما هم فيه.
لذلك فكلامنا عن الدعوة إلى الإسلام في بقعة من أرض الله تعالى لا يعني أن ذات هذه البقعة تتميز عن غيرها من بقاع الأرض كلها، بل الأرض كلها لله، وكل من فوقها عباد لله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]، فجميعهم سيأتون يوم القيامة فراداً، مقرون بتوحيد الله سبحانه وتعالى، وكلهم مكلفون بما بلغهم من دين الله عز وجل الذي أرسل به الرسل، وأقام به الحجة.
وكلامنا عن بقعة معينة من هذه البقاع، وعن رجالها الذين حملوا هذه الأمانة فأدوها؛ إنما هو تثبيت للقائمين على آثارهم، والقائمين على صراط الله تعالى والداعين إليه، وأيضاً إقامة للحجة على ذويهم وأتباعهم وذرياتهم الذين لم يسلكوا مسلكهم، ولم ينهجوا منهجهم، فكلامنا عن الرجال الذين حملوا هذه الأمانة في هذه البلاد إنما هو من باب قول الله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج:78]، فإن الله عز وجل لا يريد ترويجاً لدينه بأن يجعله منسوباً إلى رجل من البشر، فالدين دين الله، وهو الذي اختاره لعباده، ولا يرضيه سواه، ولكنه أراد شحذ الهمم وإثارة العواطف، وجعل إبراهيم أباً لكل المؤمنين: سواءً منهم من كان من ذريته، كذرية إسماعيل وإسحاق، أو من لم يكن كذلك، فكلهم على ملة إبراهيم بالمعنى الديني، فهم ذريته وهو أبوهم، والأبوة هنا أبوة دينية لا أبوة طينية، فإبراهيم أب لكل المؤمنين الموحدين ممن جاء بعده إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ ولذلك جعل الله تعالى كل الرسل من بعده من ذريته، فأكثر من بعث من الرسل كانوا من ذرية إبراهيم.
وكذلك من باب قول الله تعالى حكاية عن يوسف الكريم بن الكريم بن الكريم في قوله لصاحبيه في السجن: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي} [يوسف:38]، فالملة ما اقتنع بها ديانة وفطرة ووحياً وعقلاً، ولكنه مع ذلك يقول: (مِلَّةَ آبَائِي) ليبين ارتباط هذه الملة بالعاطفة، وأن محبتها راسخة في قلبه؛ فلذلك ذكر أن هذه الملة هي التي سار عليها آباؤه من قبله، فليس بدعاً من الرسل.(14/2)
أسماء موريتانيا قديماً وأصل هذه الكلمة
هذه البقعة من الأرض لها أسماء متعددة: فقد اشتهرت في القديم بأرض المرابطين الملثمين، واشتهرت قبل ذلك ببحر الرمال، واشتهرت بعد ذلك ببلاد التكرور، واشتهرت أيضاً بعد هذا ببلاد غانة، واشتهرت في فترة من الفترات ببلاد أوداجست، واشتهرت أيضاً ببلاد مالي، ثم سماها المستعمر بلاد موريتانيا، وهذه كلمة رومانية، وهي مركب إضافي أصلها مورأيتاه، ومعناها: أرض السمر أو أرض المسلمين، وكلمة (المورو) تطلق في اللغات الأوروبية كلها على المسلمين، وهي مشتقة من السحنة العربية؛ لأنهم عرفوا أن العرب هم الذين نقلوا الإسلام إلى بلاد أوروبا، فسموا كل المسلمين بهذا الاسم؛ ولذلك تسمعون الآن (المورو) في أسبانيا، وهم بقايا المسلمين الذين نجوا من محاكمات التفتيش التي كانت تقام عندما خرج المسلمون من بلاد الأندلس، وتسمعون جبهة (المورو) في جنوب الفلبين في مشارق الأرض، وهم المسلمون الموحدون الذين يخلصون العبادة لله تعالى ويجاهدون في سبيله، وكذلك أنتم سموكم بهذه التسمية ولم يريدوا بها إعزازكم، ولكنها وافقت أن هذه التسمية لا تطلق إلا على المسلمين، وأنتم سماكم الله المسلمين على لسان إبراهيم، ثم من بعده سماكم بهذا الاسم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، ويكفيكم الاسم الذي سماكم الله تعالى، ولكن هذا من باب التعارف.
هذه الرقعة لم تعرف الحضارة قديماً، وإنما كان أهلها بدواً يعيشوا على نتاج حيواناتهم، وبعض الثروات السمكية، وأيضاً على بعض الزراعة القليلة في الجنوب وفي بعض السهول في بعض هذه المناطق.
وكانت حدودها ليست الحدود الجغرافية المعروفة الآن في تاريخنا هذا، بل كان يدخل فيها بعض المناطق الأخرى، فمثلاً جنوب الجزائر مثل (توات) وما حولها كان منضماً لهذه الأرض؛ ولذلك لما هاجر سيدي أحمد المغيلي إلى هذه البلاد، جاء من (توات) وذهب إلى (ولاته) وكذلك لما سافر السيوطي من مصر إلى هذه البلاد مر بجنوب الجزائر.
وكذلك فإن أرض (جاوا)، وكذلك (أضواد) وما حولها هي من هذه البلاد قديماً، وكذلك مما كان من البلاد جنوب النهر، فهو أيضاً من هذه البلاد، وهذا النهر سماه البرتغاليون: نهر صنهاجة، وصنهاجة قبيلة كانت في هذه الأرض، وسموا النهر بها ثم حرفوها، ففي لغة البرتغال إذا نطقوا صنهاجة يقولون: صنج؛ ولذلك سميت (سنجال) فأصل هذه الكلمة صنج، وصنج معناه: صنهاج، فهي في الأصل منسوبة إلى هذه القبيلة المعروفة التي كانت تسكن هذه الأرض، وتعود إليها قبيلتان: إحداهما: (لمتونة)، والأخرى: (مسوفة) وهما من سكان هذه البلاد، وفيها يقول الداني وهو شاعر أندلسي قديم: قوم لهم شرف العلا من حمير وإذا انتموا صنهاجة فهم هم لما حووا علياء كل فضيلة غلب الحياء عليهم فتلثموا(14/3)
أهم الأحداث التاريخية في موريتانيا
هذه البقعة من الأرض لها أسماء متعددة: فقد اشتهرت في القديم بأرض المرابطين الملثمين، واشتهرت قبل ذلك ببحر الرمال، واشتهرت بعد ذلك ببلاد التكرور، واشتهرت أيضاً بعد هذا ببلاد غانة، واشتهرت في فترة من الفترات ببلاد أوداجست، واشتهرت أيضاً ببلاد مالي، ثم سماها المستعمر بلاد موريتانيا، وهذه كلمة رومانية، وهي مركب إضافي أصلها مورأيتاه، ومعناها: أرض السمر أو أرض المسلمين، وكلمة (المورو) تطلق في اللغات الأوروبية كلها على المسلمين، وهي مشتقة من السحنة العربية؛ لأنهم عرفوا أن العرب هم الذين نقلوا الإسلام إلى بلاد أوروبا، فسموا كل المسلمين بهذا الاسم؛ ولذلك تسمعون الآن (المورو) في أسبانيا، وهم بقايا المسلمين الذين نجوا من محاكمات التفتيش التي كانت تقام عندما خرج المسلمون من بلاد الأندلس، وتسمعون جبهة (المورو) في جنوب الفلبين في مشارق الأرض، وهم المسلمون الموحدون الذين يخلصون العبادة لله تعالى ويجاهدون في سبيله، وكذلك أنتم سموكم بهذه التسمية ولم يريدوا بها إعزازكم، ولكنها وافقت أن هذه التسمية لا تطلق إلا على المسلمين، وأنتم سماكم الله المسلمين على لسان إبراهيم، ثم من بعده سماكم بهذا الاسم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، ويكفيكم الاسم الذي سماكم الله تعالى، ولكن هذا من باب التعارف.
هذه الرقعة لم تعرف الحضارة قديماً، وإنما كان أهلها بدواً يعيشوا على نتاج حيواناتهم، وبعض الثروات السمكية، وأيضاً على بعض الزراعة القليلة في الجنوب وفي بعض السهول في بعض هذه المناطق.
وكانت حدودها ليست الحدود الجغرافية المعروفة الآن في تاريخنا هذا، بل كان يدخل فيها بعض المناطق الأخرى، فمثلاً جنوب الجزائر مثل (توات) وما حولها كان منضماً لهذه الأرض؛ ولذلك لما هاجر سيدي أحمد المغيلي إلى هذه البلاد، جاء من (توات) وذهب إلى (ولاته) وكذلك لما سافر السيوطي من مصر إلى هذه البلاد مر بجنوب الجزائر.
وكذلك فإن أرض (جاوا)، وكذلك (أضواد) وما حولها هي من هذه البلاد قديماً، وكذلك مما كان من البلاد جنوب النهر، فهو أيضاً من هذه البلاد، وهذا النهر سماه البرتغاليون: نهر صنهاجة، وصنهاجة قبيلة كانت في هذه الأرض، وسموا النهر بها ثم حرفوها، ففي لغة البرتغال إذا نطقوا صنهاجة يقولون: صنج؛ ولذلك سميت (سنجال) فأصل هذه الكلمة صنج، وصنج معناه: صنهاج، فهي في الأصل منسوبة إلى هذه القبيلة المعروفة التي كانت تسكن هذه الأرض، وتعود إليها قبيلتان: إحداهما: (لمتونة)، والأخرى: (مسوفة) وهما من سكان هذه البلاد، وفيها يقول الداني وهو شاعر أندلسي قديم: قوم لهم شرف العلا من حمير وإذا انتموا صنهاجة فهم هم لما حووا علياء كل فضيلة غلب الحياء عليهم فتلثموا(14/4)
محاولات العلماء لإقامة دولة في موريتانيا
استثار المامي الناس لبيعة خليفة ولإقامة دعوة للجهاد في سبيل الله، وكذلك الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سديه الذي دعا أيضاً للجهاد في سبيل الله، ورأى أن الدين مهدد من جهتين: إحداهما: البدو الذين يغيرون على الناس ويأخذون أموالهم وما لديهم من الممتلكات.
الثانية: جهة النصارى الذين يغزون من الجنوب، ويريدون إعادة الحروب الصليبية التي علا وجهها، وقد قال ذلك في قصيدتيه الرائية والهمزية، يقول في الرائية: حماة الدين إن الدين صار أسيراً للصوص وللنصارى فإن بادرتموه تداركوه وإلا يسبق السيف البدارا وكذلك حبيب الله بن القاضي من قبيلة ديدبا، فقد دعا أيضاً لبيعة خليفة، وجمع العلماء للمشورة فيه، فاختلف علماء ديدبا على قولين: القول الأول: ينبغي أن نقيم نحن إماماً وأميراً، فإذا اتفقت كلمة المسلمين بايعوه أو بايعوا غيره.
القول الثاني: قال: لا يحق لنا أن ننصب إماماً وحدنا، وإنما ننتظر بعد إشاعة هذه الدعوة بين الناس حتى يتفقوا عليها أو يرفضوها.
ولما أرادوا أن يتخلصوا حينئذ من إقامة الحجة عليهم، قالوا: نبايع أحدكم، فلم يترشح أحد من العلماء، لذلك لم تصل الإمرة لأحد، فبقيت المسألة دون أن يكون لها أثر.
ثم دعا سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم بعد هذا لإقامة دولة، وكان يرى من نفسه أنه يستحق إقامة بعض الحدود وإقامة الجمعة للناس، وإنه إنما نال ذلك بتفويض -على الأقل- من عبد الرحمن بن هشام في المغرب، وكان إذاك أمير دولة آل ملا إسماعيل، فأقام سيدي عبد الله جمعة في تجبجة، وأقام فيها بعض الحدود، وأرسل بعض تلامذته لذلك.
وكذلك قام في مختلف هذه البلاد بعض الدعاة الذين رجعوا من بلدان أخرى خارج هذه الأرض، فرأوا ما ينعم به أهل تلك البلاد من الانتساب إلى الخلافة العثمانية، فدعوا لربط الصلة بالخلافة العثمانية الموجودة في الأستانة في استانبول، فخرج وفد منهم لذلك، وما زالت ذراريهم إلى اليوم في استانبول، وأنا قد لقيت شيخاً منهم كبير السن كان جده من الذين وفدوا من هذه البلاد على السلطان عبد الحميد وبايعوه بالخلافة، وهو رجل من البصابيين، ما زال حياً اليوم في استانبول، وما زالت له زاوية، وما زال له أتباع في تلك البلاد، وقد خرج بفريق كامل لنصرة الخلافة عندما تداعت عليها الدول الصليبية ودول المحور، فأرادوا إسقاط الخلافة العثمانية فذهب هو لإقامة الحجة.
ومن هؤلاء أيضاً محمد محمود من تلاميذ الشركصي الذي ذهب أيضاً إلى الخلافة في الأستانة، وأرسله الخليفة في ذلك الوقت إلى النرويج سفيراً عن المسلمين كلهم للمفاوضة مع ملك النرويج في تسيير قافلة بحرية من الأسطول الإسلامي الذي كان محاصراً في بحر الشمال المتجمد.
وكذلك أحمد الأمين العلوي صاحب الوسيط، فقد كان يصبو للرجوع إلى هذه البلاد، لعل أهلها يعودون إلى بيعة أمير منهم يقف في وجه المستعمر الغاشم الذي بدأ يغزو البلاد، وقد تشبث بعض علماء هذه البلاد ببعض أمراء القبائل الذين كانوا أهل ديانة وعفة، فأرادوا أن ينصبوهم خلفاء؛ فلذلك اجتمعت كلمة بعض علماء (إيجيدي) على أن ينصبوا محمد أميراً لهذه المنطقة على الأقل، فنصب قاضياً منهم، وكان يقيم الحدود في وقته، فقد أقام حد القصاص على خمسة أشخاص، ولم يكن لديه آلة للقتل غير سكين يذبح به، وكان يقطع الأيدي، ويجلد الحد.(14/5)
استعمار فرنسا لموريتانيا وقيام المجاهدين في وجههم
ومع هذا فإن هذه الدعوات المختلفة لم تشهد وقتاً كانت آكد فيه من وقت مجيء المستعمر الكافر، عندما جاءت فرنسا بأساطيلها تجوب الأرض لاستعمارها، في وقت وصفها عبد الله الأسيطي، في مقدمة كتابه بقوله: وجنادع الروم تجوس وراءنا الأغفال وروعاتها تبين الحواصل الأحبال وهذا وصف دقيق لجيوش الروم في بداية غزوها لهذه البلاد، وإقامتها لمؤسساتها، واستعمارها لهذه الأرض، فلما جاء المستعمر أراد أولاً أن يتصل بأمراء القبائل، فدعوا بعض الأمراء ومنهم: أحمد سالم اللألي وغيره، فقالوا: نحن نريد أن تتفقوا معنا على الحماية، وعلى أن تكونوا خاضعين للدولة الفرنسية، ونحن نقيم بينكم العدل، ونحمي لكم دينكم، ونمنع أيّ فساد يقع، فقال: إني لا أجرؤ على هذا، أخاف أن يكفرني أهل الزوايا، فقالوا: ومن يجرؤ عليه؟ قال: لا يجرؤ عليه إلا رجلان لا يستطيع أهل الزوايا تكفيرهم، فأشار عليهم بالشيخ بابا بن الشيخ سديه والشيخ سعدبوه بن الشيخ محمد فاضل بن الشيخ بن مامي.
فالتقى المستعمر بهذين الإمامين، فكان رأيهما قد اتفق على أن أي إصلاح يراد في هذه الأرض لا يمكن أن يتم تحت تلك الظروف والوضعية التي تشهد فيها القبائل إغارات بعضها على بعض، والظلم سافر بين الناس، وأيضاً قد تخلص الناس فيها من كل وسائل النظام، فلم يعد هناك رمز للنظام يمكن الالتفاف حوله، وكان الشيخ بابا بن الشيخ سديا من قبل هذا يسعى لأجل لم شتات الناس وإقامة دولة، ولكنه لم يستطع لكثرة الحروب الأهلية، وكثرة الإغارات بين الناس، فاجتهد هذان الرجلان اجتهاداً قد يكون مصيباً وقد يكون خاطئاً، وقد يكون وسطاً له حظ من الصواب وله حظ من الخطأ، فاتفقا على أن يأذنا للمستعمر في دخول هذه البلاد، وشرطا عليه اثني عشر شرطاً، واتفقا عليها.
وكان جمهور العلماء مخالفين لهذين الرجلين، وأعلنوا الجهاد حتى من غير إمام، ومن غير أمير، ومن غير خليفة، فجاهدوا النصارى جهاداً مستميتاً، وسعوا في حث الناس على الهجرة، وكان اختلافهم في ذلك خلافاً فقهياً مبنياً على القواعد، فـ الشيخ بابا بن الشيخ سديه وكذلك الشيخ سعدبوه يريان أن ارتكاب أخف الضررين والحرامين أولى، وأن التغيير والإصلاح الذي يريدانه لا يمكن أن يتم تحت الظروف الحالية، والمستعمر لا طاقة لهم بقتاله وهم فيما بينهم متناحرون، وأنه إذا أقام لهم الهياكل استطاعوا أن يطردوه عن طريق السياسة والرأي، وذلك أن هذين الرجلين كانا قد اطلعا على أخبار الدول الأخرى، وكانت تصل إليهم الجرائد فيطلعان على أوضاع الناس، وعلى تشوف بعض الدول للحرية في ذلك الوقت، ورأيا أن المستعمر ليس له مستقبل مستمر في استعمار البلاد والبقاء فيها، أما غيرهما من العلماء فقد رأوا أن هذا المستعمر الكافر يجب جهاده بكل ما يملكه أهل هذه البلاد من قوة، وأنه لا يمكن أن يصمد أمام قوة لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
ودعا إلى الجهاد الشيخ وكذلك الشيخ محمد العاقب بن معيابا، وقام الجهاد في سبيل الله تعالى، وكانت عدتهم بسيطة جداً، وكان عدد أهله قليلاً جداً، ومع هذا وقف في وجه المستعمر وقفات عجيبة! وأنال الله تعالى به -الذين سعوا إليه- عزاً عجيباً! وهذا يدلنا على أن الرأي والصواب كان مع هؤلاء، ولذلك فإن محمد العاقب بن معيابا لما أرسل أرجوزته لأهل البلاد التي خضعت للمستعمر، أوجب فيها عليهم أحد أمرين: قال: أنتم بين قوي وضعيف، فالضعيف تجب عليه الهجرة، والقوي يجب عليه الجهاد، ولا عذر لكم في غير هذين الأمرين، وهي التي يقول في مقدمتها: مني إلى من في حمى المكبل والمكبل: يقصد به في ذلك الوقت كابولاني، وهو القائد النصراني في ذلك الوقت، يقول: مني إلى من في حمى المكبل من لما وراء العقل وأعيذكم بالله من فضيحة الدنيا ومن رأيكم المفيل إلى أن يقول في وصف النصارى: خيبتهم لخوبا والكبت لكابتين والتكبيل للمكبل ودعاهم في القصيدة للجهاد في سبيل الله، فقاموا بغارات شهدت توفيقاً عجيباً! وانتصروا فيها وغنموا، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر الذي أخرجه أبو داود وأحمد في المسند والحاكم في المستدرك والبيهقي وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد: سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)، والمقصود بدينكم هنا: الذي يطلب منكم الرجوع إليه وهو الجهاد في سبيل الله، انظروا إلى قوله: (وتركتم الجهاد) هذا هو الدين المتروك، (سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) معناه: حتى ترجعوا إلى الجهاد في سبيل الله.
والجهاد وحده هو الذي تكفل الله تعالى لمن قام به بالهداية في آيتين من كتابه، فالله تعالى يقول في خواتيم سورة العنكبوت: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، ويقول في سورة محمد: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:4 - 6].
فهذا ضمان من رب العزة والجلال القادر المقتدر على نصرة من جاهد في سبيله، وعلى هدايته إلى سواء الطريق.(14/6)
بعض الدعوات الفردية التي قام بها بعض العلماء
بعد هاتين التجربتين جاءت تجارب متفاوتة، وجاءت دعوات فردية، قام بها بعض العلماء في فترات وحقب تاريخية متفاوتة، دعوا لإعادة هذه الخلافة وهذه الدولة على ما كانت عليه، فمن هؤلاء مثلاً: مختار الكنسي، الذي دعا لإقامة خلافة راشدة، ولكن الوقت لم يساعده في بلده، مع أنه كان يرى من نفسه القوة على ذلك، وكان يساعد المظلومين بتسيير الجيوش لنصرتهم، ولكنه على الأقل استطاع أن يقيم دولة خارج الحدود، وهي دولة عثمان فوجي التي قامت في نيجيريا، فـ عثمان فوجي هذا كان من تلامذة المختار الكنسي، وهو الذي بعثه ليقيم دولة الإسلام في تلك البلاد، فأقامها وما زالت آثارها إلى وقتنا هذا، وكانت تطبق الحدود، وتغزو في سبيل الله وتجاهد، وفيها تعلم الحاج عمر طال الذي جاء إلى هذه البلاد، وحاول إقامة دولة إسلامية.
وكذلك الأمير عبد القادر الفوتي، وهو من قبيلة الهلان، قام في فوتا، فدعا لإقامة دولة الإسلام من جديد، وساعده رجال متفاوتون، واستجلب العلماء من مختلف المناطق، فلما أتى إليه بعض أهل العلم أقام الحجة على أهل تلك البلاد، وجاهد في سبيل الله تعالى، وطبق الحدود؛ ولذلك يقول الشيخ محمد المامي رحمه الله تعالى: لله در الأمير عبد القادر! فلقد شهدته ضحوة في فوتا يقطع أيدي السراق، ويقيم الحدود على الزناة.
فالأمير عبد القادر أقام دولة لم يكتب لها البقاء كثيراً، ولكنها هي التي بنى على أنقاضها الحاج عمر طال، فـ الحاج عمر جاء من نيجيريا، وقد فرأى الدولة التي أقامها أحفاد عثمان فوجي هناك، فأراد أن ينقل التجربة بكل ما فيها، فسعى من أجل إقامة دولة الإسلام في هذه البلاد، فأرسل جيشاً كثيفاً من تلامذته ومريديه وطلابه إلى جنوب النهر، فدعا بدعاية الإسلام في السنغال وفي غامبيا، حتى وصل هو نفسه إلى (بانجول)، وكان يقيم الحدود أيضاً ما استطاع، وكان يعلم الناس الإسلام، وكان يأخذ أولادهم، ويعطيهم بدل أولادهم نقوداً؛ لأن الناس كانوا قد تعودوا على المادية، فكانوا يبيعون أولادهم للحاج عمر، وهو لا يريد تملكهم، وإنما يريد تعليمهم دين الله تعالى، فإذا تعلموا أرجعهم إلى ذويهم وقال: أنت من قرية كذا فاذهب إلى قريتك، وأنت من قصر كذا فاذهب إلى قصرك، بعد أن تحملوا العلم والدين وتربوا تربية صالحة.
وكذلك دعا إلى هذه الدعوة الشيخ محمد المامي في الشمال، وحاول إرجاع الناس إلى إقامة هذه الدولة الراشدة، وإحياء عهد قد سبق في زمن الاستضعاف، وهو العهد الذي قام به الخمسة الذين يسميهم الناس بتشمشة، وهم خمسة رجال، لا يجمعهم نسب، وإنما اجتمعوا في ذات الله، فتعاهدوا على خواتيم سورة الفرقان من قول الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:63 - 64] إلى آخر الآيات، ودعوتهم ليست مثل الدعوات الأخرى؛ لأنهم لم يريدوا إقامة دولة ولم يحاولوا بيعة رجل، إلا أنهم حاولوا فيما بينهم أن يقيموا بعض هياكل الدولة وبناها التحتية على الأقل، فلذلك قسموا الأرض تقسيماً عادلاً بينهم، ويقول في ذلك الشيخ محمد المامي: تيامن من تضاعف وانفردنا بثغر لا يقال به منوناً وأقاموا قاضياً منهم يفصل بين الناس بالعدل، فأقاموا على الأقل بعض البنى، والشيخ محمد المامي أراد أن يدعو الناس إلى بيعة خليفة، وفي ذلك يقول في قصيدته النونية المشهورة: بلاد العامري لنا اصطفاها فبارك ربه فيها وفينا إلى أن يقول فيها: فصارت في جزيرتها حجازاً ونحن لها معداً آخرينا نوافي كل طاغية أتانا ومسكين بعيد الأقربينا وننبذ من أتى منا بأمر له أهل الشريعة منكرونا والأفوة قبل لم ينكر عليه مصير بلادنا حرماً أميناً إلى أن قال فيها: إلى كم قولكم مستضعفون وأنتم للمعالي تاركونا بنو العباس ما زالوا كراماً يقتل جمعهم ويصلبونا إلى أن أدركوا ثأراً لقرن وما أدركتم ثأراً قرونا إلى أن يقول: أطابيل الأنام جفوتموها بطبع في الخنازر لن يزينا وهل فيكم نساء محصنات وما كنتم لها يوماً حصونا وهل حضيت نساء تحت بعل إذا كان الرجال مخنثينا ويقول فيها: فلم يكتب عليكم من قتال ولا قتل على ما تزعمونا إلى أن يقول: أثيروا الغرب قبل قيام عيسى لعل الله ينعشه سنينا فيحكم حاكم بالعدل منكم فلستم بعده تتقاتلونا وينفي ظلم بعضكم لبعض إلى أن يقول فيها: فقلتم لا جهاد بلا إمام نبايعه فهلا تنصبونا وقلتم لا إمام بلا جهاد يعززه فهلا تضربونا إذا جاء الدليل وفيه دور كفى ردعاً لقوم يعقلونا فياشمشة أهل الذكر منكم سلوا إن كنتم لا تعلمونا تعين ذاك وليسأل سواكم سواهم من يجيب السائلينا كحرمة أو كباب بني علي فإني منهما في الداخلينا وآل الحاج أنصار كرام إلى أولاده جبنة ينسبونا(14/7)
ناصر الدين وسياسته المحنكة
الدعوة إلى الله تعالى استمرت في هذه البلاد، ثم جاءت الهجرات من قبل الأندلس عند سقوطها، ومن جهة القيروان وشرق الجزائر من قسنطينة من بني هلال وغيرهم، فلما جاء هؤلاء العرب النازحون من الأندلس ومن القيروان ومن قسنطينة ومن صعيد مصر، جاء معهم بعض العلماء الأفذاذ، وبدأت الحياة العلمية والدعوية تحيا وتنشط من جديد، ولذلك حاول أهل هذه البلاد أن يعيدوا الدعوة إلى ما كانت عليه في زمن المرابطين، فاجتمع رأي أهل الرأي منهم والعلم أن يبايعوا رجلاً منهم يتفقون عليه جميعاً على إقامة دين الله تعالى وحماية البيضة، فاتفقت كلمتهم على ناصر الدين بن أبي بكر وبايعوه على الخلافة، وقام بالأمر، وساعده رجال من مختلف الطبقات من هذا المجتمع، فكان العرب الوافدون وسكان البلاد من مختلف الفئات من الزنوج ومن البربر ومن العرب ومن الزوايا كلهم اندمجوا في هذه الدولة، وجاهدوا في سبيل الله تعالى، وأعلوا كلمته، وسعوا في ذلك، حتى إن هذه الدولة كان من سياستها أنها توسعت في بعض البلدان الأفريقية التي لم يصل إليها مد المرابطين من قبل، ففتحوا كثيراً من المدن والقرى في ما وراء نهر صنهاجة، وكذلك في جهة جنوب مالي وجهة غانا وجهة النيجر.
وكان من سياسة ناصر الدين أن كل بلد فتحوه ينصبوا عليه قائداً من أهله؛ لئلا تقع فيه ثورة، فكان لا ينصب قائداً على بلد مفتوح إلا من أهل ذلك البلد، وأخذ هذا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة، فإنه ولى عليها عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس وهو من أهل مكة، ولم يؤمر عليها أحداً من المهاجرين ولا من الأنصار، وكان عتاب وقت تأمير رسول الله صلى الله عليه وسلم له في العشرين من عمره.
وكذلك حين فتح الله عليه الطائف أمر عليها عثمان بن أبي العاصي، وهو من بني ثقيف من أهل الطائف.
وكذلك أرسل الضحاك بن سفيان أميراً على البحرين، وهو من بني كلاب، فأمره على بني كلاب، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يؤمر على كل جهة رجلاً من أهلها.
وهذه السياسة التي انتهجها ناصر الدين كان لها أثر فيما بعد، وذلك أن هذه الدولة لما سقطت بالحرب الأهلية التي تسمى بحرب (شرببا) كان من الآثار المتوقعة أن البلدان المفتوحة ستتساقط وتعود إلى ما كانت عليه من الكفر قبل فتحها، ولكن الله تعالى عصمها من الردة؛ بسبب تأمير أمراء عليها من بني جلدتهم، ويتكلمون بألسنتهم، ومن عشيرتهم.
أقام ناصر الدين هذه الدولة، وتبعه رجال ساعدوه وقاموا بهذا الأمر أحسن قيام، فأغاض ذلك النصارى من البرتغاليين والأسبان والفرنسيين، فأردوا تشقيق هذه الدولة من الداخل، فأثاروا النعرات العرقية والقبلية بين الناس، فاستجاب لها بعض الأفراد، فكان ذلك سبباً لهذه الحرب التي دامت خمساً وثلاثين سنة، وهي حرب (شرببا)، وفسرت تفسيرات مختلفة، وسميت بتسميات مختلفة، وكثير من الناس يسميها شرببا، ويزعمون أن شر معناها: الحرب وببا: اسم رجل، ولكن هذا غير واقع، فمعنى (شرببا): فتيلة مشتعلة، وذلك أنها فتنة وقعت بين المسلمين أنفسهم في عقر دارهم، ولم يعهدوا هذا من قبل، وإنما كانت الحروب بينهم وبين الكفار، فلذلك جعلوها مثل الفتيلة المشتعلة داخل الصف.
دامت هذه الحرب فترة من الزمن؛ قضت على ما كان من هذه الدولة من هياكل داخلية، ومع ذلك لم تكن شراً كلها، بل أثارت بادرة خير، واستطاع المسلمون فيها أن يحافظوا على كيانهم، وأن يحافظوا على ما معهم من العلم والدين، وبقيت كل فئة من هذا الشعب تحافظ على ما حملت من دين الله تعالى، وتسعى لحفظه، مع أن بعض الآثار السيئة المترتبة على هذه الحرب قد استمرت زمناً طويلاً، حتى إننا ما زلنا في عصرنا هذا نشهد بعض آثارها من الذلة والمسكنة في بعض طبقات الشعب.
وإذا قرأت تاريخهم في تلك الأيام ستجد أنه قد اندمج فيها كل فئات الشعب، وأن كل الناس قد ساروا في ركب الدعوة وفي سبيلها، وجاهدوا جميعاً فيها، ولذلك لم يكن قبل حرب (شرببا) في هذه البلاد طبقات اجتماعية، وإنما كان الناس كلهم مجاهدين في سبيل الله، ساعين لإقامة دين الله، حتى جاءت هذه الحرب فحصل ما رأيتموه وما شهدتموه من التفرقة العنصرية.
إن هاتين الدعوتين اللتين قام بالأولى منهما: عبد الله بن ياسين، وقام بالثانية: ناصر الدين، كانتا مثالاً للحركة الإسلامية المعاصرة، التي تقوم لله تعالى بالحجة على عباده، وتسعى لإقامة الحجة على الناس، ولإعادة الناس إلى المحجة البيضاء، ولإقامة الخلافة في هذه الأرض، ولذلك فإنهما قد قامتا بهذا العمل أحسن قيام، ووفقتا في أداء هذه المهمة على أحسن وجه.(14/8)
فتح بلاد صنهاجة وما حولها
صنهاجة قرية أصلها من اليمن، وهي معروفة إلى وقتنا هذا، وربما تكون النسبة إليها؛ لأن هؤلاء من النازحين المنطلقين من تلك البلاد، وكانت هذه البلاد سائبة، وأهلها همجاً حتى دخلها الفاتحون الأولون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوهم بإحسان، وكان ذلك أواخر خلافة الوليد بن عبد الملك، وكان القائد الذي افتتحها هو عقبة بن نافع الفهري من بني الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وقد فتح هذه البلاد ولم يتوسع في فتحها إلى الجنوب، وإنما فتحها شريطاً حتى وصل إلى المحيط فغرز رمحه فيه، وكان المحيط في ذلك الوقت يسمى بحر الظلمات، وهو المسمى اليوم بالمحيط الأطلنطي، فلما غرز فيه رمحه أشهد الله تعالى أنه لو كان يعلم أن خلف هذا البحر ذا نفس منفوسة لقطع البحر إليه حتى يبلغه دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.
فـ عقبة لو كان يعلم أن خلف هذا البحر أمريكا والعالم الجديد -كما يسمونها- لخاض البحر إليها حتى يفتحها، وحتى يبلغها دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاء أحفاده فحملوا هذه الرسالة، ولذلك تسمع اليوم في العالم الجديد -أمريكا- الأذان مدوياً في الأوقات الخمسة.
وقد رجع عقبة من هذه البلاد ولم يدوخها تمام التدويخ؛ لأن أهلها كانوا بداة يصعب دخولهم تحت يد الحضارة والإمارة، ولما رجع غدر به كسيلة البربري فقتله فلقي الله شهيداً، نسأل الله تعالى أن يتقبله، وأن يتقبل أصحابه الذين قتلوا معه.
ثم استمرت العلاقة الإدارية في هذا البلد تابعة للخلافة عن طريق الإمارة التي كانت في بداية أمرها في القيروان في تونس، ومنها انطلقت الفتوحات التي فتحت أيضاً أرض الشمال كالمغرب، ثم توسعت إلى الأندلس وقاد حملتها موسى بن نصير، وهو مولى سليمان بن عبد الملك، ثم تابع الحملات طارق بن زياد حتى فتح الأندلس.
وبقيت هذه البلاد تنتسب إلى الإسلام، ويتسمى أهلها بأسمائه محرفة على اللغة البربرية، فمثلاً كانوا يسمون محمداً (مهمد)، ويسمون أحمد (همد)، ويسمونه أيضاً: (هند) في بعض البلدان، وكل هذا من التحريف البربري في الأعلام.
واستمرت الحالة هكذا إلى أن خرج أحد أمراء هذه البلاد وهو يحيى بن إبراهيم القدالي من قبيلة (قدالة)، وهي بطن من بطون (مسوفة) التي هي من قبائل (صنهاجة).
فرحل إلى المشرق طالباً الزيادة في الدين والحج، فلما رجع من الحج وصل إلى القيروان -وكانت أكبر حواضر المغرب في ذلك الوقت- فلقي أبا عمران الفاسي وكان من علماء المالكية الكبار، فسأله أن يرسل معه من خيرة طلابه لينشر العلم والدين في هذه البلاد، فرأى أبو عمران أن الذين عنده لا يصلحون للبادية وأهلها، فهم من أهل الحاضرة ومن أهل القيروان المتعودين على حياة الرفاهية وسعة العيش، فكتب له كتاباً إلى تلميذه وجاج بن زلو وهو من المغاربة، وطلب منه أن يرسل معه من خيرة طلابه من ينشر العلم والدين في هذه البلاد، فلما جاء الكتاب إلى وجاج اختار من بين طلابه عبد الله بن ياسين السجلماسي، وهذا الرجل في الأصل من (جزولة)؛ ولذلك تجدون نسبته عبد الله بن ياسين الجزولي في بعض الكتب، وكان حاد الذكاء، مفرطاً في الفهم، وكان عالماً عملاقاً، ومع ذلك كان أيضاً صاحب سياسة وتدبير، فاختاره وجاج لتحمل هذه المسئولية، فكان عند حسن ظنه، فلما جاء إلى هذه البلاد ورأى حال أهلها، علم أن الدعوة الفردية لا يمكن أن تؤثر فيهم.(14/9)
أمير المسلمين يوسف بن تاشفين
ثم قتل يحيى بن عمر اللمتوني شهيداً في سبيل الله، فبايع عبد الله بن ياسين أخاه أبا بكر بن عمر الذي يشتهر بين العوام اليوم بـ ابن عامر، وهو أبو بكر بن عمر، فبايعه عبد الله بن ياسين والمرابطون معه، واضطلع بما كان يضطلع به أخوه من قبله، فقام بالأمر خير قيام، ولكنه فوجئ بظهور رجل في المغرب في وادي مراكش يدعي النبوة، فأرسل إليه جيشاً من المرابطين، وكان قائد هذا الجيش يوسف بن تاشفين، فلما وصل يوسف إلى تلك البلاد، رأى البون الشاسع بين ما يعيشه أهلها وبين ما يعيشه المرابطون الذين تربوا على ذلك المنهج، فأراد أن يقيم فيهم دولة الإسلام من جديد، فلما قتل هذا المتنبئ الذي ادعى النبوة، وقتل أصحابه ومزقهم شر ممزق؛ بنى مدينة مراكش، وجعلها عاصمة لدولة الإسلام في تلك البلاد.
ثم سير الجيوش والبعوث حتى خضع له أهل تلك الأرض كلها، وسمى نفسه أمير المسلمين؛ تأدباً مع الخلافة العباسية في المشرق التي كان الخليفة فيها يسمى أمير المؤمنين، فلم يرد يوسف أن يأخذ هذا اللقب، بل تسمى بأمير المسلمين، ولا يعرف في تاريخنا الإسلامي رجل تلقب أمير المسلمين إلا يوسف بن تاشفين وابنه علي، أما من سواهما فإنما يتلقب بلقب الخلافة: أمير المؤمنين، وهو لقب عمر بن الخطاب ومن بعده من الخلفاء.
ولما قويت شوكته وتغلب على المغرب، رأى أن الرجوع إلى هذه البلاد من الصعوبة بمكان، وأن حياة الناس متفاوتة بين الحضارة في الشمال والبداوة في الجنوب، فأرسل الرسل إلى ابن عمه أبي بكر بن عمر ليتقابل معه، فالتقيا، فنصبه على ما تحت يده من الأرض، ورجع أبو بكر إلى هذه البلاد، وقد أتحفه يوسف بالمال والرجال، وساعده بما يريد من المساعدات.
ثم وسع يوسف نفوذه حين استنجده أهل الأندلس من المسلمين المستضعفين، وإنما وقع استضعافهم بعد تخالفهم وتقاتلهم وتناحرهم فيما بينهم، فقطع إليه المعتمد بن عباد المنذري اللخمي البحر مستنجداً به، فخرج يوسف في ثلاثين ألف رجل مسلح من المؤمنين المجاهدين، فقطعوا البحر وجاهدوا الأسبان في شهر رمضان، وكان التقاء الصفين في يوم الجمعة، وكان يوسف يخطب في أسفاره كما يخطب في إقامته؛ لأنه يرى نفسه خليفة إماماً، فهو في كل بلد الإمام، فوقف على المنبر خطيباً يوم الجمعة في رمضان، فثارت في وجهه خيل الأسبان؛ فنزل من المنبر، واخترط سيفه، وأمر المجاهدين بالقتال فقال: يا خيل الله! اركبي، وبدأت المعركة، وكان بين يدي يوسف المعتمد بن عباد، وتناثر القطن من فوق رأسه عندما لعبت السيوف في طاقيته على رأسه، ولم تزل الدماء تسيل حتى انهزم الأسبان بعون الله، وكان ذلك اليوم مشهوداً، وهو يوم (الزلاقة) الذي نصر الله فيه المؤمنين وأعز فيه دينه وجنده.
وقد قتل في ذلك اليوم مائة وعشرون ألفاً من الأسبان الصليبيين، وكان المسلمون يعرفون الأسبان بتعليق الصلبان في رقابهم، فاستحر فيهم القتل حتى لم ينج منهم إلا فئة يسيرة هربت مع الأدفنش، وهو ملك الأسبان في ذلك الوقت.
ثم أراد يوسف أن يضم الأندلس إلى المغرب حتى يوحد دولته؛ لأنه رأى أن الحضارة متناسبة، فضم الولايات الأندلسية وأخضعها لسلطانه، ومن ذلك الوقت هابه المستعمر الكافر الصليبي، ولم يستطع الجرأة على ما كان يغير عليه من كور الإسلام وثغوره.
ثم مات يوسف بن تاشفين بعد أن مكث سبعين سنة يدعى أمير المسلمين، وتولى بعده ابنه علي، واستمر على نهج أبيه حتى توفي سنة خمسمائة وأربعة عشر.
وبقيت الولاية الجنوبية وهي إمارة أبي بكر وأبنائه في هذه البلاد، حتى سرى إليها داء الدول، وحصل فيها خلاف؛ فسقطت، ثم قامت على أنقاضها دولة (البدوكل) التي قامت في شمال هذه البلاد، وإن كانت لم تصل إلى مستوى دولة المرابطين من ناحية القوة والانتشار، وهي التي تربى فيها سيدي محمد الذي نشأ في هذه القبيلة، وتربى في هذه الدولة.
ثم جددوا دعوة الإسلام في هذه البلاد، وأقاموا علمه بارزاً، ولكنهم لم يستطيعوا زيادة الفتوح، ولم يستطيعوا أن يتجاوزوا ما وصل إليه المرابطون الأولون.
وهنا تأتي حقبة في التاريخ لا نعرف كثيراً من أبعادها، ولكننا موقنون أن الدعوة قائمة، وأن المجاهدين فيها كانوا يضحون بما كان يضحي به أسلافهم في سبيل الله، ولكننا لا نجد كثيراً من المعلومات عنها.(14/10)
عبد الله بن ياسين وما قام به من تربية وجهاد عظيمين
هذا الرجل رأى أن الدعوة الفردية والاتصال بالأشخاص مباشرة ليس ذا أثر بالغ يمكن أن يقيم دولة في هذه الأرض، فأراد عبد الله بن ياسين أن يخرج نخبة من هذا المجتمع يربيها تربية خاصة حتى تستطيع تحمل هذه الرسالة، وحتى تستطيع تحمل أعبائها، فانفرد بهم في جزيرة (تيدرا) -وهي القريبة من نواكشوط- ثلاث سنين يربيهم، حتى وصلت أعدادهم إلى ثلاثة آلاف، وكان يأخذهم بالشدة والقسوة، وكان من سياسته أنه يضرب من تخلف عن ركعة من الصلاة عشرة أسواط، ومن تخلف عن ركعتين عشرين سوطاً، ومن تخلف عن ثلاث ركعات ثلاثين سوطاً، ومن تخلف عن الصلاة الرباعية كلها جلده أربعين سوطاً، حتى إنه كان يجلد أمراء القبائل ورؤساءها إذا تخلفوا عن بعض الصلاة أو قصروا في بعض العبادات، وهكذا أخذهم بالشدة والقسوة حتى أخرج منهم جيلاً صالحاً لتحمل هذه المسئولية وللتضحية في سبيل الله.
فلما بلغوا ثلاثة آلاف مجند، من الذين أخلصوا دينهم لله تعالى، وتربوا تربية صالحة، والتزموا بهذا الدين ظاهراً وباطناً، وخضعت رقابهم له، وجعلوه فوق أهوائهم وفوق انتماءاتهم، وجعلوا هذا الدين هو مصيرهم، وهو الذي يرتبط به مستقبلهم، وربطوا به آمالهم وآلامهم؛ علم أنهم أهل لأن ينصرهم الله، فالنصر جائزة الله، ولا يمكن أن تعطى إلا لمن يستحقها؛ لذلك لم يغتر ابن ياسين بكثرة الأتباع والأشياع، ولم ينظر إليهم في بادئ الرأي وبادئ الأمر على أنهم رجال أقوياء وأهل حرب وقوة، وإنما نظر إلى أن القلوب هي محط التكليف، فبدأ أولاً بتربية النفوس وتكوينها، حتى إذا علم أنهم قد استووا إلى هذا المستوى خرج بهم على المجتمع، فلما رآهم الناس أيقنوا فيهم هدي الأنبياء وسلوكهم.
فهؤلاء قد تربوا على منهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فكانوا من ورثة الأنبياء حقاً؛ لذلك استجاب لهم الناس، ودخلوا في دين الله أفواجاً، ورضوا بما رضي به المرابطون، وأقاموا الأربطة في كل مكان، وسعوا لأجل إعزاز هذا الدين ونشره ونصره، فبعثوا القوافل، وجيشوا الجيوش، وأرسلوا السرايا والبعوث، فنشروا هذا الدين حتى دخل أهل كل هذه البلاد في الدين، وحتى فهموه واستجابوا لدعوته وقاموا بواجبه، حينئذ رأى عبد الله بن ياسين أن المراحل التي يمكن أن تمر بها هذه الدعوة خمس مراحل في البداية: المرحلة الأولى: هي تكوين جماعة مقتنعة بهذا المنهج الصحيح، ملتزمة به، تجعله أمامها، وتسعى من أجل الجهاد بالأنفس والأموال والألسنة دونه، وهذه المرحلة الأولى تحققت في جزيرة (تيدرا).
المرحلة الثانية: تكوين دولة تستطيع حماية البيضة، ورفع لواء الإسلام عالياً مدوياً مرفرفاً فوق بلاد الله تعالى، فأقام الدولة، وبايع أميراً، ولم يشأ أن ينصب نفسه خليفة؛ ليتغلب على حظوظ النفس، ولأجل ألا يكون هو صاحب كل المسئوليات، فتقاسم المسئوليات هدف رائع من الأهداف التي دعا إليها الإسلام.
المرحلة الثالثة: هي إقامة الحجة على الناس بإبلاغ دين الله إليهم، وهذه المرحلة هي التي سعى إليها الأمير بعد أن نصبه عبد الله بن ياسين.
المرحلة الرابعة: هي بث الأمن، وإقامة هياكل اجتماعية تكفل للناس استمرار دعوتهم وحياتهم، وتكفل لهم وسائل عيشهم باستمرار، وهذا ما سعى له ابن ياسين، وهو من حظ الدنيا: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77].
المرحلة الخامسة: هي أستاذية العالم، أن يبث نفوذه فيما حوله من الأرض حتى يجعلها كلها خاضعة لدين الله، إما أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتلتزم بدين الله، أو أن تمد الرقاب خاضعة وتمد الأيدي منبسطة بالجزية، وهذا ما فعله أهل تلك البلاد فخضعوا لهذه الدولة.
بايع عبد الله بن ياسين يحيى بن عمر اللمتوني فقام بالأمر خير قيام، ولكنه كان شجاعاً أكثر من اللازم، فكان إذا التقى الصفان في الجهاد في سبيل الله كان أمام الجيش، فلذلك كان عبد الله بن ياسين يعاقبه إذا رجع من غزوة، فيجلده خمسين سوطاً؛ لأنه تقدم عن صفه، والله تعالى {يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4]، فكان الأمير إذا رجع منتصراً يخاف من سطوة القائد الأعلى عبد الله بن ياسين إذا خالف النظام وتقدم على الصف.
ثم لما نشر عبد الله جيوشه وسراياه، وفتح كثيراً من البلاد، كان من سياسته أنه ينصب في كل بلد يفتحه قائداً عسكرياً وقائداً دينياً يربي الناس، وقد أخذ هذا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أرسل إلى اليمن معاذ بن جبل قائداً دينياً وأبا موسى الأشعري قائداً عسكرياً، وجعل كل واحد منهما أميراً فقال: (بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا)، وكان لكل واحد منهما فسطاط يزوره فيه صاحبه، فأخذ عبد الله بن ياسين من هذا الحديث الصحيح الذي في الصحيحين وغيرهما أن المسئولية أعظم من أن يتولاها واحد، فكان يرتب لكل قوم قائداً عسكرياً، وقائداً دينياً يربيهم على نفس المنهج.(14/11)
تزكية النفوس
لقد اهتمت الشريعة الإسلامية بتطهير النفوس وتزكيتها، ولا تكون تزكية النفوس إلا بالتحلية بالإيمان والقربات ومحاسن الأخلاق، والتخلية من المعاصي والذنوب والأخلاق الرذيلة، ولأهل العلم في هذا الباب تفصيلات تربوية يحتاجها كل مسلم يريد الوصول إلى مقامات اليقين.(15/1)
عناصر تركيب الإنسان وعلاقتها بمراتب الدين
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وألفه من ثلاثة عناصر: أشرفها الروح، التي هي نفخة غيبية من أمر الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85].
ثم العقل الذي شرف الله به هذا الإنسان على غيره من الحيوانات.
ثم البدن الذي هو من تراب.
إن هذه العناصر الثلاثة مجتمعة تشكل إنساناً، فرتب الله على هذه العناصر الثلاثة -عناصر الدين- فجعل الإيمان لمصلحة العقل، والإسلام لمصلحة البدن، والإحسان لمصلحة الروح، وجعل التكامل بين هذه العناصر مطلوباً، فلا يكون الإنسان كاملاً إلا بالموازنة والاعتدال بين هذه العناصر، ومن مال مع واحد من العناصر على حساب غيره كان مائلاً غير مستقيم، ومعوجاً غير معتدل، ولهذا شرع الله سبحانه وتعالى العناية بهذه العناصر الثلاثة، وجعل من أهمها وأعظمها خطراً عنصر الإحسان، الذي لا يمكن أن يتم الإيمان والإسلام إلا به، وعنصر الإحسان إنما يتعلق بتزكية النفوس.(15/2)
معنى التزكية
والتزكية في اللغة مصدر زكى الشيء يزكيه، ولها معنيان: المعنى الأول: التطهير، يقال: زكيت هذا الثوب تزكية، أي: طهرته، ومنه الزكاء، أي الطهارة.
والمعنى الثاني: الزيادة، ويقال: زكا المال يزكو إذا نما وزاد، ومنه الزكاة، لأنها تنمية للمال وزيادة له.
وعلى أساس المعنى اللغوي جاء المعنى الاصطلاحي في تزكية النفوس، فتزكية النفس شاملة لأمرين: الأمر الأول: تطهيرها من الأدران والأوساخ.
والأمر الثاني: تنميتها بزيادتها بالأوصاف الحميدة.
أما المعنى الأول فهو تخليتها عن الأوصاف الذميمة.(15/3)
حكم علم أمراض القلوب وحكم التداوي(15/4)
خلاف العلماء في حكم تعلم أمراض القلوب
والعلماء قد اختلفوا في حكمه، فذهب الغزالي رحمه الله إلى أنه فرض عين على كل مؤمن، فكل مؤمن يلزمه أن يتعلم أمراض القلوب وطريقة علاجها.
وبنى الغزالي رحمه الله تعالى رأيه هذا على أن الإنسان لا يخلو من هذه الأمراض في الأصل، فهي أصلية فيه، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق وأرضاهم وأطهرهم، قد شق الله صدره مرتين، وأخرج منه المضغة السوداء التي هي محل هذه الأمراض في الإنسان، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى أن يشق صدره وأن تنزع عنه هذا المضغة، فمن سواه أولى بذلك وأحرى.
وذهب الجمهور إلى أن تعلم أمراض القلوب ليس فرض عين وإنما هو فرض كفاية، إلا في حق من تحقق أو ظن وجود مرض من الأمراض فيه، فيلزمه أن يعالج ذلك المرض وأن يعلم مظاهره وأسس علاجه.
واستدل الجمهور على هذا المذهب، بأن الأصل في الإنسان السلامة، وأن فطرته سليمة في الأصل، ولهذا قال الله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] وبما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مولود إلا ويولد كما تخدج البهيمة بهيمة عجماء، فهل ترى فيها من جدعاء؟).
أي: فهل ترى في البهائم من جدع وقت ميلادها؛ فأعضاؤها متكاملة غير مقطوعة ولا منقوصة.
وأدلة الجمهور لا شك أوجه وأقوى، ولكن يمكن الجمع بينها وبين ما استدل به الغزالي بأن الذي هو في عامة بني آدم هو القابلية لهذه الأمراض لا وجودها، وبالتالي فشق الصدر بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم ليس علاجاً لمرض موجود، وإنما هو منع للقابلية، فهو العصمة التي لا يمكن أن يحل بعدها شيء من هذه الأمراض.(15/5)
حكم التداوي من الأمراض القلبية والبدنية
وعلى هذا فالأمراض القلبية مثل الأمراض البدنية، الأصل السلامة منها، ولكنها قد تعرض بعد الولاد، أو قد يولد الإنسان متصفاً ببعضها بلية وامتحاناً من الله سبحانه وتعالى كالأمراض البدنية، ومن هنا فمن ظن أو تحقق وجود مرض من هذه الأمراض وجب عليه عيناً أن يعالجه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم ينزل الله داءً من السماء إلا وأنزله له دواء، فتداووا عباد الله).
وقد حمل العلماء هذا الحديث على الوجوب في حق أمراض القلوب، وعلى الندب في حق أمراض البدن، وذلك في حق من يستطيع الصبر؛ لأن الصبر أولى، ولهذا فإن المرأة حين أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو الصرع، فقالت: (يا رسول الله! إني أصرع فادع الله لي، فقال: إن شئت دعوت لك وإن شئت فاصبري، قالت: إني أتكشف فادع الله ألا أتكشف، فدعا لها وصبرت)، والضرير الذي أتاه فقال: (ادع الله أن يرد علي بصري، قال: أو تصبر؟ قال: ادع الله أن يرد علي بصري، فدعا الله فرد عليه بصره).
فالصبر مقدم في الأمراض البدنية، وهو أولى لمن يستطيعه، وذلك لأنه استسلام لقدر الله، ولأمره سبحانه وتعالى، ورضا بما صنع، أما العلاج فلا ينافي التوكل على الله والاستسلام لأمره، لكنه لا يغير شيئاً من القدر أيضاً، فإذا كتب الله البرء أو الشفاء من مرض من الأمراض أو سقم من الأسقام، فإنه قد يشفيه بالعلاج وقد يشفيه بالدعاء وقد يشفيه بالصدقة وقد يشفيه بغير ذلك، وإذا كتب عدم شفائه واستمراره، فسيستمر حتى لو بذل الإنسان كل جهده في العلاج، وأتى على سائر أنواعه، فإن للأمراض آجالاً مسماة محددة في علم الله تعالى لا بد أن تبلغها.(15/6)
أهمية التزكية
إن تزكية النفس مهمة للإنسان جداً، وتأتي أهميتها من عدة أوجه: الوجه الأول، أن الله سبحانه وتعالى أقسم في كتابه أحد عشر قسماً على فلاح من زكى نفسه، وعلى خسران من أهمل ذلك، فقال: {وَالشَّمْسِ} [الشمس:1] هذا القسم الأول: {وَضُحَاهَا} [الشمس:1] هذا القسم الثاني: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:2] هذا القسم الثالث: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس:3] هذا القسم الرابع: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس:4] القسم الخامس: {وَالسَّمَاءِ} [الشمس:5] القسم السادس: {وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5] القسم السابع: {وَالأَرْضِ} [الشمس:6] القسم الثامن: {وَمَا طَحَاهَا} [الشمس:6] القسم التاسع: {وَنَفْسٍ} [الشمس:7] هذا القسم العاشر: {وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7] هذا القسم الحادي عشر، فهذه أحد عشر قسماً متوالية من ربنا سبحانه وتعالى الذي يصدقه عباده دون قسم، ولكنه أقسم للتأكيد أحد عشر قسماً على النتيجة وهي قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10].
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] الفلاح فلاح الحال في الدنيا والآخرة، (من زكاها) أي: من زكى نفسه، وهذا يدلنا على أهمية هذه التزكية.
الوجه الثاني من أوجه أهمية التزكية: أن الإنسان محب للكمال، وهو قد بدء بالضعف عند النشأة الأولى، ثم لا يزال يتدرج في الازدياد حتى يصير إلى حد الكمال فيبدأ حينئذ بالنقص والتراجع، وعلى هذا فحرص الإنسان على الكمال، مقتض منه للحرص على التربية، والتربية ثلاثة أقسام: الأول: التربية البدنية، وتشمل الوقاية من الأمراض والحرص على النظافة وتشمل العلاج من الأمراض بعد حصولها، والحرص على إكساب البدن ما يحتاج إليه من اللياقة، وإحسان التصرف في الأمور.
الثاني: التربية العقلية، وهي زيادة المعلومات، أن تزداد معلومات الإنسان في أمور دينه أو في أمور دنياه، وأن يزداد اطلاعاً بعقله على إنتاج البشرية، وما وصلت إليه تطوراتها وحضارتها، فازدياد العقل إنما يكون بزيادة العلم، وهذه تربيته، سواء كان ذلك في المجال النظري أو في المجال التطبيقي.
أما الثالث من أقسام التربية: فهو تربية النفوس، وهو صعب للغاية، لأن النفس خفية، يؤمن بها الإنسان ويعلم وجودها وقربها، لكنه لا يراها ولا يستطيع الوصول إليها بالمباشرة، فليست مثل البدن الذي إذا أصابه مرض، أو شاكته شوكه، أو لامسه برد أو حر تألم الإنسان لذلك، وليست مثل العقل الذي يشعر فيه الإنسان بالازدياد والنهم للزيادة من العلم والحرص عليه، بل هذه النفوس أخفاها الله سبحانه وتعالى وجعل ارتفاعها وخروجها ورجوعها خفي لا يطلع عليه الناس.
ولذلك فإن من أبلغ الأدلة على توحيد الله سبحانه وتعالى، أن تقول لمن ينكر وجود الله سبحانه وتعالى أو اتصافه بصفات الكمال لأنه لا يراه؛ أن تقول له: هل لك روح أم لا، فلا بد أن يستسلم وأن يقر بأن له روحاً، فاسأله: هل هي موجودة أو معدومة؟ فلا بد أن يقر بوجودها، فقل له: هل رأيتها؟ هل لامستها؟ هل رأيت لونها؟ هل شممت رائحتها؟ هل ذقت طعمها؟ فلا يستطيع أن يثبت شيئاً من ذلك؛ وإذا كانت روحه أقرب شيء إليه مجهولة بالنسبة إليه، فجهله بديان السماوات والأرض أعظم وأكبر، لكنه مضطر للاستسلام حينئذ، وهذه النفس تصاب بالأعراض التي تصاب به الأبدان، فهي محتاجة إلى تغذية دائمة، ومحتاجة إلى رعاية ومتابعة للازدياد من الخير، كما يزداد البدن من الطاقات والمعارف.
ومن هنا احتاج الإنسان إلى أن يراقب تطورات نفسه وأن يعلم أنها وعاء إيمانه، وأحب شيء إليه هذا الإيمان فإذا سلبه فلا فائدة في حياته كلها، من هنا فهو يحتاج إلى مراقبة هذا الإيمان لأنه يخلق ويجد، ويصدأ ويصقل في النفوس، ونظراً لخفاء ذلك وصعوبة تصوره كان أمراً مهما جداً، وكانت هذه المراقبة أمراً ضرورياً لا بد منه لتربية الإنسان.
وهذا الجانب من جوانب التربية وهو التربية الروحية، وحاجة الإنسان إليه كذلك من وجه آخر: هو أن التزكية هي طريق الجنة، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] فهي شرط إذاً لدخول الجنة.(15/7)
انقسام التزكية إلى تخلية وتحلية والكلام على التخلية
بعد أن عرفنا أهمية العناية بتربية النفس وتزكيتها، بقي أن نعرف أن تزكية النفس تنقسم إلى قسمين: إلى تخلية وتحلية.
والتخلية هي: تطهيرها من الأوصاف الذميمة.
وهذه الأوصاف الذميمة بعضها يتعلق بالأخلاق والعادات وبعضها يتعلق بالتصورات التي ترسخ والمفاهيم التي تسبق إلى التصور، فالجانب الأول ما يتعلق بالأخلاق والعادات، تفاوت الناس فيه هو تفاوتهم في الإيمان، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) ومن هنا فإن الذي يتجنب الأخلاق الذميمة، ويراقب نفسه فيها ويعاقبها عقاباً شديداً إذا حصل منها خلل أو خطأ؛ هو الذي يستطيع أن يزكيها وينميها.
(خاصم أبو ذر رضي الله عنه رجلاً من إخوانه المؤمنين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فعيره بأمه، فقال: يا ابن السوداء، فلقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية) فندم أبو ذر ندماً شديداً حتى أتى الرجل، فوضع عنقه على الأرض وأقسم بالله ليضعن رجله على عنقه عقاباً لنفسه، على أن صدر منها مثل هذا الخلق الذميم، فاستطاع أن ينتصر على نفسه وأن يتغلب على هذا الخلق وأن يتخلص منه، لعلمه أنه من أخلاق الجاهلية، ولهذا فإن النفس، هي بمثابة طفل صغير يتعود على أنماط من العيش والحياة، وإذا عولجت تلك الأنماط تغيرت، وإذا استمر عليها صعبت عليه مفارقتها، كالرضاعة مثلاً، فإنه يتعودها من بداية نشأته، وعند تمام الحولين يشق عليه الفطام، ولكنه ما إن تمضي أيام قليلة حتى يتعود على ترك الرضاعة، ولهذا قال البوصيري رحمه الله: والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم فكذلك هذه الأخلاق الذميمة، مالم يطلع الإنسان عليها أولاً ويتحقق أنها موجودة لديه ويتعرف على أوصافها وأعراضها فلا يمكن أن يعالجها، لأن من لا يشعر بمرض لا يهتم بعلاجه، ومن هنا احتاج الإنسان إلى أن يتابع الأوصاف الذميمة وأن يتعرف عليها وعلى مظاهرها حتى يتقيها، وإن استطاع أن يتخلص من الأوصاف الذميمة سواءً كانت في الأخلاق أو العادات فقد زكى نفسه.
فهذا هو الجانب الأول من التزكية الذي هو التخلية، لأن التخلية سابقة على التحلية.(15/8)
كيفية التخلية من الأوصاف الذميمة في التعامل مع الله
وإذا أردنا توزيع هذه الأوصاف توزيعاً شاملاً، فإننا نقول: إن هذه الأوصاف الذميمة كلها تتعلق بالتعامل، والتعامل ثلاثة أقسام: تعامل مع الله، وتعامل مع النفس، وتعامل مع الناس.(15/9)
مرض الشرك الأكبر
فالتعامل مع الله سبحانه وتعالى بالأوصاف الذميمة يكون بالأوصاف التالية: أولاً: الشرك، وهو أعظم الأمراض القلبية ضرراً وأخطرها، ولذلك كان أعظم الذنوب، فلا بد أن يتعلم الإنسان الشرك، وأن يعرف ما هو حتى يعلم هل هو متصف بهذا الوصف الذميم الذي هو أخطر الأوصاف أو ليس كذلك، فإذا عرف -ولله الحمد- أنه خالص منه، عرف أن ذلك يحتاج إلى متابعة ومراقبة، وأن نجاته من الشرك ليست من تلقاء نفسه وإنما هي نعمة أنعم الله بها عليه، فتستحق أن تقيد بالشكر، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم).
والإنسان محتاج إلى أن يتابع أنواع الشرك، وأن يعرضها على نفسه، فإذا وجد نوعاً من أنواع الشرك، تخلقت نفسه ببعض أخلاقه، أو ظهر عليها بعض مظاهره بادر للعلاج من ذلك.
ومن أعظم أنواع الشرك: الشرك في العبادة، وهو أنواع كثيرة، وله مظاهر متعددة، منها مثلاً: أن يسجد الإنسان للصنم، فهذا نوع واحد من أنواع الشرك وهو الشرك في العبادة.
ومنها: أن ينذر الإنسان لغير الله، أو أن يذبح لغير الله، أو أن يستغيث بغير الله، فكل ذلك داخل في هذا النوع من أنواع الشرك الذي هو شرك العبادة، لأن كل هذا تذلل وتضرع والتذلل والتضرع هو العبادة، ولا أحد يستحق أن يتضرع له الإنسان ويتذلل له إلا ديان السماوات والأرض وحده.
النوع الثاني من أنواع الشرك: الشرك في الدعوة، وهو التوكل والاعتماد على غير الله سبحانه وتعالى، وهذا أنواع كثيرة، فيدخل فيه -مثلاً- الاستغاثة بغير الله ودعاؤه، وكذلك يدخل فيه أن يعتمد الإنسان على الأسباب وأن يتوكل عليها، وأن يظن الإنسان أن مخلوقاً يملك له نفعاً أو ضراً، أو موتاً أو حياة أو نشوراً، ويدخل فيه الخوف من المخلوق أو الطمع فيه، ويدخل فيه الطيرة والرقى والتمائم والتولة التي هي من أمر الجاهلية.
ويدخل فيه أن يقطع الإنسان عملاً كان بدأه من أجل أنه رأى ما يكره، فهذا نوع من أنواع الطيرة ويدخل فيه كذلك خلطة الجن والكهانة، فكل هذا داخل في هذا النوع من أنواع الشرك.
والنوع الثالث من أنواع الشرك: الشرك في التشريع: لأن ديان السماوات والأرض وحده هو عالم الغيب والشهادة، وهو الذي يشرع لعباده ما يشاء؛ لأنه هو وحده الذي يعلم مصالحهم، ومن هنا قال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] فلا يمكن أن يشرع ويحل ويحرم ويأمر بأمر وينهى عن أمر إلا ديان السماوات والأرض وحده، ومن هنا فطاعة المخلوق في معصية الخالق تشريع لما لم يأذن به الله بوضع قوانين مخالفة لشرع الله، وكذلك مخالفة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالآراء الباطلة؛ كل هذا داخل في هذا النوع من أنواع الشرك الذي هو شرك التشريع.
النوع الرابع من أنواع الشرك: شرك المحبة: وهو تعلق القلب بغير الله سبحانه وتعالى محبة ورضاً، والله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يستحق المحبة، لأن المحبة إنما تكون على أساس الكمال، أو على أساس الطمع، وهو وحده المتصف بصفات الكمال المنزه عن جميع النقائص، وهو كذلك وحده الذي يملك لعباده ما ينفعهم وما يضرهم، فهو الذي يستحق أن يرجى ما عنده وأن يتعلق به وحده.
وهذه الأنواع من الشرك هي الشرك الأكبر، أما ما دونها من أنواع الشرك فهو الذي يسمى بالشرك الأصغر، وهو أخفى في بني آدم من دبيب النمل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.(15/10)
مرض الشرك الأصغر
الشرك الأصغر موجود في الناس، لكنه أخفى من دبيب النمل، ومنه: الرياء: أن يرائي الإنسان بعمله فيريد أن يراه الناس على ذلك العمل، فيمدحوه به، أو يتقربوا إليه به، أو يكون محلاً لتقديرهم واحترامهم، فهذا النوع شرك بالله سبحانه وتعالى، وهو غير مخرج من الملة لخفائه واستبطانه، لكنه محبط للعمل ومبطل له.
ومنه التسميع: وهو أن يسمع الإنسان، فيتحدث بأنه فعل القربة الفلانية، سواء كان صادقاً أو كان كاذباً، فكل ذلك إشراك بالله في هذا الجانب، وهو من الشرك الأصغر الذي يحبط ذلك العمل، لكنه لا يقتضي كفراً، ولا خروجاً من الملة.
ومثل ذلك كل اعتداء يقتضي كفراً أصغر كقتال المسلمين، والسعي لتفريق كلمتهم والاعتداء على حقوقهم، فقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم كفراً، لكنه كفر أصغر لا يخرج من الملة، قال صلى الله عليه وسلم (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، وقال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بع).
فيجب على الإنسان أن يتعلم هذه الأحكام وأن يعرضها على نفسه، فإن وجد في نفسه جانباً من جوانب الشرك أياً كان عرف أنه قد تلبس بأخطر الأمراض وأعظمها، فهو أعظم من كل الأمراض البدنية، وعليه أن يبادر لعلاجه، وعلاجه إنما يكون بتحقيق الإيمان، والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى منه، وإحسان العمل في المستقبل، كما قال تعالى في حق الكفار: {فإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله).(15/11)
مرض سوء الأدب مع الله
ثم بعد هذا يأتي المرض الثاني بعد الشرك، فيما يتعلق بالتعامل مع الله، وهو سوء الأدب مع الله: وهو مرض خطير من أمراض النفوس، وهو أنواع متعددة: منها سوء الأدب معه في العبادة: ومعناه: أن لا يؤدي الإنسان العبادة كما شرع الله، أو أن يؤديها وهو منصرف عنها بقلبه غير حاضر لها، فهذا سوء أدب مع الله لأنه يناديه ويناجيه ويخاطبه وهو منصرف القلب عنه: (ولا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإن التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه).
ومن سوء الأدب معه: الاعتداء في الدعاء: بأن يسأل الإنسان ما لا يمكن أن يتحقق له، فهذا سوء أدب مع الله وقد حكى الله عن نوح عليه السلام أنه قال: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47] وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الاعتداء في الدعاء.
كذلك من سوء الأدب مع الله سبحانه وتعالى: الاعتراض على قدره بأي مرتبه من مراتبه، واستعظام شيء عليه في خلقه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
فالاعتراض على الله تعالى في أي شيء من فعله، وعدم الاستسلام لحكمه وقدره أو لأي شيء من فعله؛ هو سوء أدب معه سبحانه وتعالى وعدم معرفة به، ومن هنا يجب على الإنسان أن يتتبع أنواع سوء الأدب مع الله، فإن وجد نفسه مسيئاً للأدب مع الله في أي جانب من الجوانب عرف أنه مبتلى بمرض عضال، وأن عليه أن يعالج هذا المرض قبل أن يصل به إلى سوء الخاتمة، نسأل الله السلامة والعافية.(15/12)
كيفية التخلية من الأوصاف الذميمة في التعامل مع النفس
كذلك في التعامل مع النفس فعلى الإنسان أن ينظر إلى أن أسس التعامل مع النفس ثلاثة هي:(15/13)
الإنصاف من النفس
أولاً: الإنصاف منها: فإذا كان الإنسان كلما اعتدت نفسه على الآخرين، وأخذت ما ليس لها من الحقوق، أهمل محاسبتها وتركها تستطيل على الآخرين وتأخذ من حقوقهم؛ فإنه مصاب بمرض عضال في التعامل مع النفس، لأن النفس أصبحت ذات سلطان عليه ولم يملكها، وفي الدعاء المأثور: (اللهم ملكنا أنفسنا بخير ولا تسلطها علينا بشر)، والإنسان محتاج إلى أن يملك نفسه، ولا يمكن أن يملكها ما دامت النفس هي التي تقوده تبعاً للهوى، وتتفيأ به مراحل الهوى فيسير وراءها في أي اتجاه سارت، ولذلك قال أحد الصالحين لولده حين رآه مالت نفسه إلى شيء فاشتراه: (أكلما اشتهيت اشتريت؟ إنك إذاً لعبد لنفسك).
إذا كان الإنسان كلما اشتهى اشترى، فهو عبد لنفسه لم يتغلب عليها ولم يملكها، ولهذا فعلى الإنسان أن يحرص على مراقبة نفسه فيما يتعلق بالإنصاف منها.(15/14)
ترك الانتصاف للنفس
الثاني: ترك الانتصاف لها: فعلى الإنسان أن لا ينتصف لنفسه إذا اعتدى عليه الآخرون؛ وعليه أن يصبر ويحتسب، وأن يعلم أن الصبر عند الصدمة الأولى، فإذا كان كلما اعتدى أحد على حق من حقوقه من أي وجه من الوجوه ثارت ثائرته وقامت قيامته وسعى للانتصار للنفس، فمعناه أنه مصاب بمرض عضال في التعامل مع نفسه.
كل واحد منا بالامكان أن ينظر الآن إلى تشخيص هذه الأمراض أمامه ويرى من أين داؤه: هل داؤه في التعامل مع الله أم في التعامل مع النفس، أم في التعامل مع الناس، وحينئذ يبادر لعلاج هذا المرض قبل فوات الأوان.(15/15)
اتهام النفس
الثالث: اتهامها: فهذه النفس ينبغي أن تكون دائما في قفص الاتهام، ومن لم يراقبها ولم يجعلها في قفص الاتهام، فإنها تغويه وتذله من حيث لا يشعر، ومن هنا فإن النفس بصيرة على الإنسان، فإذا أرخى لها الحبل على الغارب نادته: سأذهب بك إلى الحضيض، وإذا أخذ بزمامها استطاع أن يسير بها إلى المراتب العالية.
يقول السيوطي رحمه الله: ومن تكون نفسه أبيه تطمح للمراتب العليه رجا فخاف فأصاخ فأحب مأموره وما نهى عنه اجتنب أحبه الله فكان سمعه وعقله ويده ورجله واعتده من أوليائه وإن دعاه أجابه أو يستعن يعن أما الذي همته دنيه فلا مبالاة له سليه ففوق جهل الجاهلين يجهل وتحت سبل المارقين يدخل فخذ صلاحاً بعد أو فسادا وشقوة ترديك أو إسعاداً وقرباً أو بعداً وسخطاً أو رضاً وجنة الفردوس أو نار لظى فالإنسان من هذا الجانب مخير من زمام نفسه، إن شاء أطلق لها الزمام فسارت به إلى أسفل سافلين إلى الحضيض الأدنى، وإن شاء طمح بها إلى المراتب العلية، فانقادت له وراء ذلك، وإذا راقبها هذه المراقبة أتت طائعة فإذا دعاها إلى عبادة وخير استسلمت وانقادت، وإن دعيت إلى شر وجدت تأبياً وتمنعاً من ذلك.
أما الذي لا يعالج نفسه هذا العلاج، ولا يجتهد في مجاهدة نفسه عما تهوى أو تحب، فإنه إذا دعاها إلى العبادة تكاسلت، وإذا رأت أنه سيحملها علي طاعة من الطاعات نفرت مثل الدابة، فالدابة إما أن تكون مطيعة وإما أن تكون شروداً حروناً، فكذلك النفس، فإذا عودها الإنسان على إزالة هذه الأخلاق الذميمية، كانت كالدابة المطيعة المنقادة التي يحمل عليها ما شاء، وتسير به حيث شاء، وإذا عودها على هذه الأوصاف الذميمة وأرخى لها الحبل على الغارب كانت حرونا شروداً إذا احتاج إليها نفرت منه ولم يستطع أن يمسك بزمامها، وإذا أحست ببردعة أو بأي حمل سيحمله عليها نفرت منه.
إذاً: لا بد من مراقبة النفس هذه المراقبة، فالذي إذا سمع الأذان (حي على الصلاة، حي على الفلاح)، أخذه النعاس وبحث عن الوسادة فنفسه لم تنقد له بعد، وهي مريضة بهذا المرض العضال المخوف ومن نام على فراشه ولم يستيقظ من الليل ولم يستطع إذا تعار من الليل أن يذكر الله وأن يتوضأ وأن يصلي وأن يحل عقد الشيطان، فنفسه مريضة بهذا المرض.
والذي لا تطاوعه نفسه على صوم النذر، أو لا تطاوعه على صوم النفل أو لا تطاوعه على إنفاق المال، أو لا تطاوعه إذا أراد أي خير من الخيرات، فنفسه مبتلاة بهذا المرض العضال ولابد من معالجته قبل فوات الأوان، ولا بد أن يضعها في قفص الاتهام وأن يحاسبها محاسبة دقيقة، وليعلم أن أمامه حساباً آخر أكبر من هذا حساب عندما توضع الموازين القسط ليوم القيامة فتوزن فيها الأعمال بمثاقيل الذر، لذلك كان لزاماً عليه أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب.(15/16)
كيفية التخلية من الأوصاف الذميمة في التعامل مع الناس
ثم النوع الثالث: التعامل مع الناس، وهذا أيضاً له دلائل وضوابط:(15/17)
أداء حقوق النبي صلى الله عليه وسلم
الضابط الأول في التعامل مع الناس: أداء حقوقهم لهم: وهم متفاوتون في الحقوق تفاوتاً عجيباً، فأعظم الناس حقاً على الناس، رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو السبيل إلى الهداية والمبلغ عن الله سبحانه وتعالى، وقد شرط الله على المؤمنين في الإيمان محبته، وأن يكون أحب إليهم من أنفسهم، فإذا وجد الإنسان جفافاً فيما يتعلق بالتعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا سمع اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه سمع اسم إنسان من معارفه، أو من الذين يعرفهم، أو كان إذا بلغه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتأثر به وكان كأنما بلغه كلام أحد الناس، فهو مصاب بمرض عضال في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله تعالى يقول في كتابه: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * ولَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:1 - 5].
فاعتبار الإنسان لتعامله مع النبي صلى الله عليه وسلم وتأثره به، يعرف به هل هو سقيم مريض النفس في هذا الجانب، أم هو صحيح معافى، إذا كنت يا أخي تسمع حديثاً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تجد أثراً لذلك الحديث على نفسك، أو إذا سمعته كأنما سمعت كلام الناس المعتاد فأنت مريض في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضاً عضالاً عظيماً، ولا بد من علاجه.
إذا كنت لا تستشعر محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تستشعر الانتماء له وأنك تريد أن تبعث تحت لوائه يوم يدعى كل أناس بإمامهم: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [الإسراء:71] ولا تستشعر محبتك للورود عليه والشرب من حوضه شربة هنيئة لا تظمأ بعدها أبدا، أو لا تستشعر تعظيمك لأصحابه وخلفائه الحاملين سنته الناشرين دعوته، أو تستشعر اشمئزازاً من أي خلق من أخلاقه أو وصف من أوصافه؛ فاعلم أنك مبتلى بداء عضال.
أخي! لاحظ السنن والهيئات والأوصاف الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن وجدت في نفسك نفوراً من أية صفة من صفات النبي صلى الله عليه وسلم فاعلم بأنك مصاب بهذا المرض، فالذي ينفر -مثلاً- من توفير اللحية، أو من أي وصف من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم مبتلى بداء عضال في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والذي ينفر من الدعوة إلى الله التي هي وظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتلى بداء عضال في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والذي يشمئز من الذين يبلغون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحيث إنه إذا رأى إنساناً يبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتثالاً لقول المعلم الأعظم: (بلغوا عني ولو آية): (ليبلغ الشاهد منكم الغائب)، (ورب مبلغ أوعى من سامع)، (نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، ورب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)؛ فإذا كان الإنسان يشمئز من هؤلاء ولا يتحمل سماع ما يقولون؛ فهو مبتلى بداء عضال في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بد أن يعالجه قبل أن يكتب له سوء الخاتمة.
ولهذا فإن مالكاً رحمه الله كان في طريق العقيق، فسأله رجل عن حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: من هذا الذي يسأل عن حديث رسول الله عليه وسلم في الطريق؟ اجلدوه عشرين جلدة، فقيل له: يا أبا عبد الله! إنه القاضي! -قاضي المدينة- فقال: القاضي خير من أجلد، فجلدوه عشرين سوطاً، فرحمه مالك فدعاه إلى بيته وأجلسه في مجلسه وحدثه عشرين حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل سوط بحديث، فقال القاضي: وددت لو جلدني مائة فحدثني مائة حديث.
وكان مما قال مالك رحمه الله: (لو أدركتم ما أدركت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، فقد أدركت جعفر بن محمد وكان ذا دعابة، وكان إذا ذُكر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى كأنه ما عرفك ولا عرفته، وأدركت محمد بن المنكدر وكان إذا حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اصفر وجهه، وعلاه الغشي، حتى رحمناه وخرجنا عنه).
هذا هو التوقير الذي اشترطه الله على المؤمنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي لا يحس بهذا التقدير والتوقير في باطنه وقلبه، فهو مبتلىً بداء عضال في التعامل مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقلما ينتفع بشيء مما جاء به، فقد حيل بينه وبين النور الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.(15/18)
أداء حقوق الوالدين
كذلك في التعامل مع الوالدين اللذين هما أمن الناس على الإنسان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى الإنسان أن يعاملهما معاملة حسنة كما أمر الله بذلك فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36] {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23] {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8].
فإذا كان الإنسان يجد في نفسه ازدراءً واحتقاراً لوالديه، أو عدم عناية بأمرهما وشأنهما، أو نقصاً في احترامهما أو عدم نصيحة لهما أو برٍ بهما، فهو مبتلى بمرض عضال في التعامل مع الوالدين، وهذا المرض هو الذي يسمى بالعقوق وصاحبه لا يدخل الجنة، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة)، أنه سيموت على الكفر فتسوء خاتمته، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة عاق لوالديه، ولا منانٌ بالخير، ولا ماشٍ بالنميمة) فهؤلاء الثلاثة لا يدخلون الجنة، بمعنى أن من استمر على ذلك إلى الموت فستسوء خاتمته؛ نسأل الله السلامة والعافية.(15/19)
أداء حقوق الناس والزهد فيما بأيديهم
وكذلك في التعامل مع الآخرين لا بد من أداء حقوقهم إليهم أياً كانت هذه الحقوق، والله سبحانه وتعالى رتب بعضها بقوله: {عْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:36] فكل هؤلاء لهم حقوق يجب أداؤها على ما أمر الله به، ومن قصر في شيء من هذه الحقوق أو لم يؤدها، فإن نفسه مريضة مرضاً بحسب ذلك الحق الذي قصر فيه.
ثم بعد هذا من حقوق الآخرين عليك: الزهد فيما في أيديهم: أن تزهد فيما عندهم، لأنك كلما زهدت فيما عند الناس رغبت فيما عند الله، وهذا من تمام إيمانك بالله وتعلقك به.
ومنها عدم تغيير قلوبهم بما ليس بلازم شرعاً: فلا تغضب الناس في غير حق، أما في الحق فإن الحق أحق أن يتبع، لكن إذا لم يكن ذلك بحق وكنت من الفضوليين الذين إذا رأوا أي إنسان حاولوا إغضابه واستفزازه بأي وجه من أوجه الاستفزاز والإغضاب، فاعلم أنك مبتلى بمرض عضال في التعامل مع الناس، لأنك تسعى لإغضابهم بغير حق شرعي.
والغالب أن من ابتلي بهذا المرض قلما يستطيع تغيير منكر أو أن يغضب لغضب الله، أو يرضى لرضاه، فمن كان يغضب الناس بغير حق فقلما يوفق لإغضابهم في الحق، لأنهم تعودوا على أنه يسعى لإغضابهم في غير حق، فإذا رآهم على منكر فلا يستطيع أن يغضب لغضب الله ولا أن يغير ذلك المنكر، لأنه تعود أن يغضبهم بأمور تافهة خارجة عن الحق، فهذا مبتلى بداء عضال في التعامل، وعليه أن يعالجه قبل أن يموت عليه.
ثم بعد معرفة حقوق الله وحقوق النفس وحقوق الآخرين في التعامل، ومعرفة الإنسان للنقص الذي لديه في أي وجه من هذه الأوجه، يجب عليه العلاج.(15/20)
معالجة الأمراض الجامعة
وبعد ذلك ينبغي له أن يبحث عن الأمراض النفسية الجامعة، ومنها الشح والبخل، والحرص على الدنيا وإيثارها على الآخرة، وحب الدنيا ولذاتها.
ومنها الغضب: فمن كان سريع الغضب لأدنى الأسباب فهو مريض مرضاً نفسياً عضالاً حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم وأرشد إلى تركه، وهو من عمل الشيطان.
ومنها كذلك الحسد للآخرين: فإذا رأى من هو في نعمة من نعم الله حسده على ذلك، وسيبقى دائماً في قلق وهم؛ لأن نعم الله سابغة، ولا يمكن أن ترى عبداً من عباد الله إلا وهو في نعمة عظيمة من نعم الله: {إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، فإذا كانت نعم الله تغضبك فستبقى غضبان أبداً؛ لأن نعم الله سابغة على الناس، والحاسد إنما يضر نفسه؛ لأنه سيبقى في قلق دائم ولا يرد شيئاً عمن حسده.
كذلك فإن من هذه الأمراض الجامعة الكبر: حيث يتكبر الإنسان على الآخرين ويغمط الحق وينكره، ويدعوه إلى ذلك تكبره هو، كحال إبليس الذي قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] وهو أصل كثير من الأمراض القلبية.
وكذلك من هذه الأمراض التي يبتلى بها الناس: الفضولية وعدم الجد في الحياة؛ فهو مرض عضال من أمراض النفوس، فمن وجده في نفسه فليعلم أنه مبتلى بداء عضال من هذه الأمراض.
وعلاج هذه الأمراض كلها بالمبالغة في التوبة والاستغفار، والإنكار على النفس اتصافها بهذه الصفات، والحرص على إزالتها، والتعود على ما يخالفها، واللجوء إلى الله بالدعاء ليزيلها، ولذلك كان في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجبرني وعافني واهدني لأحسن الأعمال والأخلاق واصرف عني سيئها، فإنه لا يهدي لأحسنها ولا يصرف سيئها إلا أنت)، والإنسان محتاج إلى أن يدعو بهذا الدعاء دائماً، حتى يتحلى بالأوصاف الجميلة وينقطع عن الأوصاف القبيحة.
فإذا حصل الإنسان على هذا المستوى وهو التزكية بمعنى التطهير، فطهرت نفسه من هذه الأمراض، وتخلى عن الشرك بكل أنواعه، وتخلى عن الأمراض المتعلقة بالتعامل، وتخلى عن الأمراض الجامعة فطهرت نفسه من هذه الأمراض، أصبح مستعداً للتحلية، جاهزاً لها.(15/21)
الكلام على التحلية وذكر مقاماتها
والتحلية هي الشق الثاني من التزكية، وهي الاتصاف بالصفات الحميدة.
وهذه الصفات الحميدة أعظمها تنويراً الإيمان وزيادته بأن يكون إيمان الإنسان حسناً، وأن يحسن إيمانه وإسلامه، والناس في درجات الإيمان بينهم من التفاوت ما الله به عليم.
وهو تفاوت يكون تفاوتهم في النجاة على أساسه يوم القيامة، فأهل الجنة يتراءون يوم القيامة من الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء من شدة تباعد منازلهم، وأعلى الجنان الفردوس الأعلى من الجنة تحت عرش الرحمن للمقربين، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتته أم حارثة بعد رجوعه من بدر، قالت: (يا رسول الله! أخبرني عن ولدي أفي الجنة هو فأصبر، أم ليس فيها فسترى ما أصنع؟ فقال: أوجنة هي! إنما هي جنانٌ، وإن حارثة قد أصاب الفردوس الأعلى منها).
والله سبحانه وتعالى بين لنا في سورة الرحمن وفي سورة الواقعة التفاوت العجيب بين الجنتين وأهلهما، والتفاوت العجيب بين المقربين وأصحاب اليمين واضح، ودرجته متباينة متفاوتة، وهذا التفاوت يقتضي من الإنسان الحرص على ألا يكون فقط من أصحاب اليمين، بل أن يكون من المقربين، وأن يزداد إيماناً ويقيناً كلما تقدم به العمر، فيحاول أن يحلي نفسه بمراتب الإيمان العالية.(15/22)
مقام التوبة
وهذه المراتب منها أولاً: مقام التوبة، وهو مقام رفيع، يكون الإنسان به مخلصاً في توبته، فتكون توبته توبة نصوحة: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8] {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة:112]، فالذي يتحلى بهذه التوبة يذوق حلاوة الانتقال من مرحلة التخلية إلى مرحلة التحلية.
والتوبة ثلاث مقامات: المقام الأول: توبة الله على العبد، بمعنى: إرشاده وتوجيهه لأن يتوب إلى الله، وهذا شرط لعمل العبد، لأن العبد مالم ينعم الله عليه بنور التوبة، فيستمر في معصيته، لكن إذا شاء الله له النور، سلط عليه النور المشع العظيم -نور التوبة- فيراه ويتبعه فيتوب.
المقام الثاني: إذا تاب العبد وخرج من سيئه وندم عليه لقبحه شرعاً، وعزم ألا يعود إليه.
المقام الثالث: توبة الله على العبد، أي: قبول توبته.
إن هذه المراحل اثنتان من عند الله وواحدة من عند المخلوق، التوبة الأولى من عند الله، وهي توجيه العبد إلى أن يتوب، والتوبة الثانية التي تليها هي توبة العبد نفسه، والتوبة الثالثة هي توبة الله على العبد بقبول توبته، ولذلك قال الله تعالى: {ولقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:117] وهذا العطف بثم يقتضي المغايرة، فهي توبة جديدة: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118] والعطف كذلك بنية تكرير العامل والمعنى: وتاب على الثلاثة الذين خلفوا: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118] تاب عليهم ليتوبوا، معناه: سلط عليهم نور التوبة، وجههم إليه فاتبعوه ثم قبل منهم التوبة بعد ذلك، وهذه التوبة الأخيرة.(15/23)
مقام الشكر
وبعد مقام التوبة يترقى الإنسان إلى مقام الشكر على النعم، لأنه يشهد نعم الله التي كانت مستورة عنه بذنوبه وكانت مغطاة بسوء خلقه، وبأوصافه الذميمة التي كانت يتحلى بها، فلم يكن يستشعر نعمة الله.
عباد الله! كثير من الناس تجد أن القلق الذي يصيبهم والحزن الذي يغلق نفوسهم سببه أن الذنوب قد سترت استشعار نعمة الله عندهم فغيرت سلوكهم؛ لكن إذا تخلصوا من هذه الذنوب، اتسعت أخلاقهم واتسع بالهم وعرفوا أنهم لا ينالهم إلا ما كتب لهم، وأن الدنيا زائلة، وأنها دار الغرور، وبالتالي فكل ما فيها لا ينبغي أن يصيب المؤمن بحزن: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ٍ} [الحديد:23].
فمن تجاوز مظلة الذنوب وخرق جدار الصوت -فهي بمثابة جدار الصوت الذي يحيط بهذه الأرض- استطاع أن يشكر النعمة.
وشكر النعمة هو صرف جميع نعم الله في مرضاته، فالوقت نعمة من الله فيصرفه الإنسان في مرضاته، والإيمان نعمة من الله فيصرفه في مرضاته، الجوارح نعمة من الله فيصرفها في مرضاته، فيسعى حينئذ لأن تنكشف له أبواب النعم التي كانت مستورة عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، كثير من الناس حيل بينهم وبين أن يشاهدوا النعمة، فهم يعيشون فيها ولا يشاهدونها ولا يدركونها، فحينئذ لا يمكن أن يشكروها، لأنهم ما عرفوها أصلاً، بل هم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، وأكثرهم كافرون.(15/24)
مقام الخوف والرجاء
ثم بعد مقام الشكر، يصل الإنسان إلى الخوف والرجاء فيصل إلى مستوى يعيش فيه بين خوف الله ورجائه، طيلة حياته كلها.
فأنت الآن تزعم أنك تخاف الله ولكن ذلك الخوف لا يمنعك من الوقوع في المعصية، وتزعم أنك ترجو ما عند الله، ولكن ذلك الرجاء لا يمنعك من القلق والخوف من غير الله، ومعناه أنك ما تحققت بعد من مقام الخوف والرجاء.
فمقام الخوف والرجاء إذا وصلت إليهما، عشت بينهما، فشاهدت الأمور من عند الله لا من عند الناس، وكنت، بين هذين المقامين بحيث يأتي الوعد من الله سبحانه وتعالى على أعظم درجات الكمال، ويأتي منه الوعيد على أعظم درجات النقص، فيبقى الإنسان متردداً بين الحالين، كما قال تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:13 - 16] فتقول ولله الحمد: أنا لست الأشقى، ولم أكذب ولم أتول، لكن إذا جاء الوعد: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21] فتقول: أنا أيضاً لست كذلك.
فتبقى متردداً بين الخوف والرجاء، تعيش بينهما وتذوق حلاوة ذلك، وهذه الحلاوة إنما يذوقها من وصل إلى مقام التردد بين الخوف والرجاء، وهو أحلى مقامات العيش، ولذلك يعبر عنه أصحاب العشق الدنيوي بما تمثله أبو الطيب المتنبي: وأحلى الهوى ما شك بالوصل ربه وبالهجر فهو الدهر يرجو ويتقي فكذلك في التعامل مع الله سبحانه وتعالى، إذا كان الإنسان متردداً بين الخوف والرجاء دائماً ذاق حلاوة هذه المعاملة.(15/25)
مقام التوكل على الله
ثم بعد هذا مقام آخر، وهو مقام الرجاء والتوكل، الذي يقتضي من الإنسان أن يعلم علم اليقين أن الله لا يخلف الميعاد، وأن وعده هو الحق لا ريبة فيه، وأنه هو الذي في قبضته السماوات والأرض ومن فيهن، وهو الذي القلوب بين أصبعين من أصابعه، وهو الذي النفوس كلها في يده، ومن هنا فينظر إلى من خالفه في ذات الله نظرة المشفق الوجل، لعلمه أنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً ولا حياة ولا موتا ولا نشوراً، فينظر إليه هذه النظرة، وهذا المقام هو الذي وقف فيه نوح عليه السلام حين قال لقومه: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس:71] وكذلك هود عندما قال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56] وهذا المقام هو الذي تحلى به إبراهيم عندما رموه في النار فقال الله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] وتحلى به محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قال لهم الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} [آل عمران:173 - 174].
فأنت اليوم تهلع وتطمع وتخاف وترجو وأنت تزعم أنك مؤمن، والسبب أنك ما وصلت إلى هذا المقام، ولهذا يذكر عن أبي الحسن الشاذلي أنه حين أتى الإسكندرية استقبله علماؤها، فسألهم فقال: أتصلون؟ قالوا سبحان الله أنترك الصلاة؟ قال: أفتهلعون وتطمعون؟ قالوا: نعم، قال: إذاً أنتم لا تصلون، فالله تعالى يقول: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19 - 22].
والمقصود بذلك: المصلون الذين صلاتهم هي الصلاة الحقيقة الكاملة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، ففيها تذوق لآيات الله، وإدراك لعجائب خلقه، ومقارنة بين ما يشاهد من الآيات المنيرة وبين ما يسمع ويتدبر من الآيات المذكورة: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:105 - 106].(15/26)
مقام الرحمة وحسن الخلق
ثم بعد أن يصل الإنسان إلى هذه المقامات ويتحلى بها سيسعى إلى التعامل مع الناس وسيسعى إلى تحسين الخلق، بأن يصل إلى درجة يعدل فيها مع القريب والبعيد، يحسن فيها كل الإحسان حتى في حال القتل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث شداد بن أوس رضي الله عنه: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) فهو يقاتل الكفار وهو يرحمهم، لأنه يخاف أن يموتوا على الكفر، ويجلد العصاة وهو يرحمهم، لأنه يريد بذلك رجوعهم عما حرم الله عليهم، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهو في غاية الحرص على المأمور ليهتدي ويتوب، ولأنه يعلم أنه غير رب وغير معصوم وإنما أنجاه الله تعالى من الوقوع في هذه المعصية لطفاً ورحمة به، وابتلى بها غيره، فهو ينظر إليه على أنه مبتلى قد وقع في بلاء عظيم.
فهو من واقع حرصه عليهم يريد هدايتهم، ولا يريد التشفي فيهم، ولا التسلط عليهم ولا التجبر، وبهذا يستطيع أن يحسن التعامل مع الناس، وأن يحسن خلقه للآخرين، وحينئذ سيسعى الإنسان، للتحلي بالأعمال التي تكمل هذا الإيمان وتزيده، وهي نهاية المطاف في مجال التزكية.(15/27)
تحقيق الفرائض والسنن
وهذه الأعمال التي تقتضي من الإنسان أن ترسخ قدمه ولا تزل بعد ثبوتها، فيحتاج الإنسان فيها إلى كثير من المراقبة والمتابعة، ومن أعظم هذه الأعمال الفرائض التي افترضها الله عليه، فيحافظ عليها حفاظاً شديد جدّاً؛ لعلمه أنها هي الحد الحائل بينه وبين الكفر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بين العبد والشرك والكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر) وكذلك لعلمه أنها أعظم ما يتقرب به إليه: (وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) فهو يتصور أنه في طريق سائر إلى الله سبحانه وتعالى، ويعلم أن أبلغ ما يتقرب به إليه وأنجى ما ينجيه في هذا الطريق الفرائض.
ثم بعدها يأتي بالمكملات من السنن والمندوبات: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).(15/28)
الافتقار إلى الله تعالى
وهذه النوافل آثارها متفاوته جداً فيما يتعلق بالتزكية، فمن أعظم ما يقتضي التزكية ما فيه خضوع ومذلة لله، ولهذا كان كثير من العلماء يحب الفقر ويؤثره، لأنه مقتض منه للرغبة فيما عند الله سبحانه وتعالى، والتعلق به واللجاء إليه، وكان كثير من العلماء يعدون الفقر والحاجة عيداً لأنها تقتضي اتصالهم بالله وكثرة دعائه وكثرة التعلق به، كما قال الشاعر: العيد قالوا غداً ما أنت لابسه فقلت خلعة كاس ثوبه خلع أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به يوم التزاور في الثوب الذي خلع إلى أن يقول: عبد يرى الفاقة الأعياد والجمعا الفاقة هي عيده، وكذلك الجمعة هي عيده، لما فيها من اتصال بالله سبحانه وتعالى واللجأ إليه والضراعة بين يديه.
كذلك فالمقصود هنا بالفقر هو الحاجة التي تقتضي من الإنسان أن يمد يديه إلى الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] وليس المقصود به الفقر الذي يؤدي بالإنسان إلى الفقر إلى الناس وتكففهم، وتعلق القلب بما في أيديهم، فهذا من المذلة المخالفة لما نحن فيه تماماً، ولذلك فإن الله وصف المهاجرين بالفقر، وهم أعلى أهل الإيمان مقاماً، فعندما قسم الفيء بين المؤمنين بلغ بالمهاجرين أعلى مستوى من مستويات الإيمان فقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8].
فهؤلاء هم أعلى الناس إيماناً ومقامهم فوق المقامات الأخرى، وقد قدمهم الله على الأنصار، وقدم المهاجرين والأنصار على من سواهم من أهل المال فقال: {السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا} [التوبة:100] فهم أعلى الناس مقاماً، وفقرهم إنما هو إلى الله لا إلى الناس.
وكذلك علينا أن نعلم أن الفقر ليس بانعدام العرض، فكثير من الأغنياء معتبرون من جهة الشرع فقراء، لأنهم متعلقون بما جعله الله تحت أيديهم من المال، فهم بهذا في عداد الفقراء لا في عداد الأغنياء، وكثير من الفقراء هم في عداد الأغنياء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس) فالغنى غنى النفس، وليس عن كثرة العرض وكثرة الأموال، بل إن الأموال كثيراً ما تطغي، كما قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] وكثيراً ما يكون الإنسان معبداً لها يخدمها ويعالجها فلا يستفيد منها راحة ولا طمأنينة ولا سعادة، بل هو خادم لها طيلة حياته.
فعلى هذا إذا وصل الإنسان إلى مقام يحب فيه ما يؤدي إلى انكساره بين يدي الله سبحانه وتعالى، وتعلقه به، ورجائه والاتصال به، فهذا هو المقام المطلوب، ومما يعين عليه السهر، لأن كثرة النوم معينة للبدن على النفس، وهي مقتضية لفساد المزاج، ولأن يكون الإنسان الذي هو كثير النوم كثير السعي إلى الراحة، وكثير الأكل والغضب، فلهذا على الإنسان أن يحاول أن يتقلل من النوم ما استطاع.(15/29)
الصمت عن فضول الكلام
كذلك الصمت إلا ذاكراً لله تعالى فهو مما يعين على الوصول إلى هذا المقام، فالإنسان الذي يكثر الكلام في غير ذكر الله، لا بد أن يقسو قلبه، وقسوة القلب منافية للتزكية التي نسعى للوصول إليها، ولذلك أخرج مالك في الموطأ، أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية) وقد أخرج مسلم في الصحيح بعض هذا الحديث من حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى كل فإن إكثار الكلام مقتض لفساد المزاج، فالذي يكثر الكلام في غير حاجة لا بد أن يكون فضوليا، ًوالفضولي لا يمكن أن يكون جاداً، ومن لم يكن جاداً لا يمكن أن يتوجه أصلاً، ومن لم يتوجه لم يسلك، ومن لم يسلك لم يصل.(15/30)
قلة الصابرين على سلوك طريق المفلحين
وهذه هي الدرجات، فأول ذلك الصدق في التوجه، أن يصدق الإنسان في توجهه إلى الله، ثم يتوجه، ثم يسلك الطريق بعد أن يتوجه إلى الله، ثم بعد السلوك يصبر على هذا الطريق ويستمر عليه حتى يصل، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: إن عوائق الزمن كثيرة جداً، فلذلك قل من توجه، ثم قل من صدق في توجهه، ثم قل من سلك، ثم قل من وصل، وهذا ما نظمه الشيخ محمد سالم حفظه الله في قوله: لذاك قل القصد بدءاً ثم قل بعد السلوك ثم قل من وصل وقد ذكر هذا خليل رحمه الله أيضاً في كتابه الجامع، فكثير من الناس ينصرفون في العقبة الأولى من الطريق، وكثير منهم في العقبة التي بعدها، وآخرون في العقبة التي وراء ذلك، ومن هنا لا يصل من السالكين إلى طريق الحق إلا قلائل، وهم الذين يصبرون على هذا الطريق ويصمدون عليه إلى نهايته، وهم عدد قليل جداً: {وكَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249] فالذين يصبرون على هذا الطريق هم الأقل.(15/31)
قصة بني إسرائيل مع طالوت
عندما قص الله علينا قصة بني إسرائيل وامتحاناتهم التي امتحنهم بها في طريق الجهاد بين أنه في كل امتحان يسقط جمهور، ثم في الامتحان الذي يليه يسقط جمهور الناجحين في الامتحان السابق، حتى لم يبق إلا الفئة القليلة، ولذلك قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246] هنا قالوا: نقاتل في سبيل الله، وهذا أول امتحان.
{قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246] وهذا سقوط في الامتحان ورسوب فيه بالكلية، لأنهم لم يعودوا مجاهدين في سبيل الله وإنما أصبحوا مجاهدين في سبيل أوطانهم وأولادهم: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة:246] وهذا الرسوب المطلق وما نجح إلا عدد قليل: {مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246].
{قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة:247] هذا امتحان آخر.
{قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247] فرسبوا: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:247].
هذه دورة، وهذا الامتحان الثاني يكون للذين وصلوا إلى الدور الثاني، ثم بعد ذلك جاء امتحان آخر: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة:248 - 249] هذا امتحان آخر: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمَْ} [البقرة:249] الذين نجحوا في الامتحان الأول، والذين نجحوا في الدورة بعد ذلك، هنا تساقطوا ولم يبق إلا قليل من قليل، فلذلك قال: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة:249].
ثم بعد هذا الامتحان الآخر، {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [البقرة:249]، وهم قليل من قليل {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249] وهذا امتحان آخر فرسبوا فيه مع الأسف: {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:249 - 251].
ولذلك بين الله سبحانه وتعالى سنته في التدافع بين الناس في الأرض: {ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251] فهذا فضل الله على الناس يقتضي التدافع بينهم، فلو استبد أهل الباطل وحدهم ولم يجدوا من يقارعهم، أو استبد أهل الحق وحدهم، ولم يجدوا من يقف في وجههم لفسدت الأرض، لكن الدنيا دار امتحان، ولا بد أن يبقى فيها أهل الامتحان، ومن هنا لا بد أن يبقى الحق فيقف في وجهه أقوام، ويبقى الباطل كذلك فيقف في وجهه أقوام، ويبقى الصراع مستمراً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذه سنة الله في التدافع، فهؤلاء يردعهم هؤلاء وهكذا.(15/32)
ضرورة الصبر في درجات اليقين
فإذا وصل الإنسان إلى هذا المستوى احتاج إلى التحقق بالصبر واليقين: فالصبر بالصمود والاستمرار على ما هو عليه والخوف من أن ينتكس: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:60 - 61] فهؤلاء يعملون هذه الأعمال الجليلة ولكنهم يخشون أن ترد عليهم وألا تقبل منهم، فكل عمل عملوه يخافون ألا يتقبله الله منهم وأن يرده عليهم، ومن هنا فلا يصابون بالغرور، ولا يستعظمون أعمالهم أياً كانت، ويخافون من سوء الخاتمة، ومن الحور بعد الكور، وهم بهذا على وجل من عدم القبول.
أما من ركن إلى العمل، فقد وقع في جانب من جوانب الشرك وانحرف عن الجادة، وأخذ ذات الشمال عن السكة؛ لأنه ركن إلى العمل ولم يركن إلى من ألهمه هذا العمل ومن وفقه به، فيحس باتكاله على العمل ويلجأ إليه، والله تعالى يقول: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] فلذلك إذا ركن الإنسان إلى عمله وأعجب به، أو أحس بهذا العمل وأصبح يستشعره، فكثيراً ما يبتلى بالغرور، والمغرور لا يمكن أن يكون من جند الله المفلحين الذين سيبيض الله وجوههم، وستختار لهم منابر النور عن يمين الرحمن.
ثم بعد ذلك إذا استطاع الإنسان التحلي بالصبر، وحاول التحلي باليقين، بأن يكون المؤمن متنوراً بنور الله، بحيث تشرق نفسه، وتتخلى عن الأغلال بالكلية، فلا يحب إلا ما يحبه الله، ولا يبغض إلا ما يكرهه الله، ولا يرضى إلا ما يرضاه الله سبحانه وتعالى من عباده، فتصبح جوارحه مربوطة برضا الله سبحانه وتعالى متعلقة به، وتصبح بصيرته نافذة وتصوره صحيحاً؛ لأن الذي يجعل الإنسان يتصور تصوراً خاطئاً، أو يتوهم الأمور فلا تمشي على وفق ما يريد، أو يتخيلها على وجه فتكون على خلافه، هو الاستتار بغشاء الذنوب، والاستتار بأقذار هذه الدنيا وأوساخها، فإذا تخلص الإنسان من ذلك بالكلية أضاءت بصيرته، وأصبح نوراً على نور، فيزده الله نوراً كما قال الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} [النور:35].
وقد بين الله حال أولئك الذين يركنون إلى الأعمال وأنهم ظلام في ظلام، فقلوبهم مظلمة لاشتغالها عن الله سبحانه وتعالى وإعراضها عن الحق، وظواهرهم مظلمة لاشتغالها بالمعصية، فضرب لهم المثل، فقال في هذه السورة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:39 - 40].
نسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينورنا بنوره، وأن يملكنا أنفسنا بخير، وألا يسلطها علينا بشر، اللهم آت أنفسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
اللهم ارزقنا معرفة بك يا أرحم الراحمين.
اللهم اشغلنا بك عمن سواك يا أرحم الراحمين.
اللهم ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم استرنا بسترك الجميل اللهم استرنا بسترك الجميل اللهم استرنا بسترك الجميل.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(15/33)
صلة الأرحام
شرع الله سبحانه لعبادة شرائع الدين، وأكدها وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الشرائع صلة الأرحام، فمن وصلها وأدى حقها وصله الله ورضي عنه، وكان ذلك سبباً في زيادة عمره وبركة رزقه، ومن قطعها وأهمل حقها قطعه الله، وقطع نسله ورزقه.(16/1)
الأدلة الدالة على الإحسان إلى ذوي القربى وصلة الرحم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى شرع لعباده شرائع الدين، وأكدها وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم، وألزم عباده باتباعها، وحظهم على الأخذ بها إيجاباً وسلباً، فالإيجاب بالترغيب في اتباعها، والسلب في الترهيب من مخالفتها، ومن هذه الشرائع التي شرعها الله لعباده وارتضاها لهم: شريعة صلة الأرحام، إنها شريعة عظيمة، ذات مكانة عظيمة في هذا الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى.(16/2)
الكفر والفجور لا يمنع صلة الرحم
فالأرحام لابد أن تبل ببلالها، ولا يقطعها الكفر، لما ثبت في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (أتتني أمي بالمدة التي ماد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كفار قريش، وكانت على دين أهل مكة، فجاءت راغبة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشاوره فيها فقلت: إن أمي جاءت راغبة وهي مشركة، فقال: صلي أمك)، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصل أمها وهي مشركة.
ولذلك فسر ابن العربي وغيره قول الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] قالوا: تقسطوا إليهم، أي: تؤدوا إليهم قسطاً من أموالكم، فالإقساط في هذه الآية مشتق من قسط المال الذي هو جزؤه، على تفسير ابن العربي وغيره، وسبب نزول هذه الآية قصة أسماء مع أمها.
وكذلك الفجور فإنه لا يقطع صلة الرحم، حتى لو كان الإنسان مبتدعاً أو مضيعاً لما أمر الله بالحفاظ عليه، فإن ذلك لا يمنع صلة رحمه، بل يجب على الإنسان أن يصل رحمه، وأولى ما يصل به رحمه أن ينصح له، وأن يرشده إلى عدم تضييع ما أمر الله بالحفاظ عليه.
ولذلك فإن حق المضيع المبتلى في دينه هو النصح؛ ليرجع إلى دينه الذي ضيعه، فقد أخرج مالك في الموطأ أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية).
إن أعظم البلاء البلاء في الدين، فالإنسان المفرط المضيع الذي يقبل ويدبر في معصية الله عز وجل مبتلى بلاءً عظيماً، وبلاؤه في الدين، وشر البلية البلاء في الدين، ورحمته إنما هي بنصيحته والاقتراب منه؛ لعل المقترب يحول بينه وبين الشيطان.
فالابتعاد منه لا يزيده إلا تمادياً في أمره، ولا يزيد الشيطان إلا عوناً عليه، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة عن أن يعينوا الشيطان على أخيهم، فلابد أن يحاول الإنسان القرب من ذوي رحمه، وصلتهم بما يستطيع، إن هذه الصلة التي بينا نحتاج إلى تعريفها، وبالأخص في مثل زماننا هذا الذي كثرت فيه الوسائل وانتشرت.(16/3)
الآثار الدالة على صلة الأرحام
وكذلك ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تفسير ابن جرير بإسناد صحيح أن عمر كان يقول: أيها الناس! تعلموا أنسابكم لتصلوا بها أرحاكم، وفي رواية: تعلموا من أنسابكم ما تصلوا به أرحامكم، فإن الرحم لا توصل إلا بالمعرفة؛ فلذلك لابد أن يتعلم الإنسان رحمه.
وهذا الحق المؤكد الذي يترتب عليه صلة الله سبحانه وتعالى لمن وصله، ويترتب عليه قطيعة الله لمن قطعه، لابد أن يتعلمه الإنسان وأن يقوم به؛ لأن الإنسان لا يستغني عن صلة الله ولا يستطيع أن يقاطعه.
إن من تذكر نعمة الإيمان ثم بعدها نعمة الوجود ونعمة الجوارح ونعمة التثبيت على دين الله، عرف أنه لا يستطيع مقاطعة الله سبحانه وتعالى، فإن الهواء الذي يتنفسه أثر واحد من آثار رحمة الله، والجوارح التي ينعم بها أثر واحد من آثار رحمة الله {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:73] وقال تعالى: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50].
إن الاتصال بالله سبحانه وتعالى لا يستغني عنه الإنسان في حال من الأحوال، فأعظم عقوبة يعاقب الله بها العبد أن يلعنه أو أن يطرده عن رحمة الله، والملعون المطرود عن رحمة الله لا يمكن أن يتقبل الله منه أيّ عمل، ولا يمكن أن ينعم عليه بأية نعمة، نعم يمكن أن يرزقه، لكن يكون ذلك الرزق وبالاً عليه وحسرة يوم القيامة وندامة، لا ينعم عليه بنعمه؛ لأن النعم تشريف ولا يستحق التشريف إلا من اتصل بالله سبحانه وتعالى، أما من قاطع الله عز وجل فقاطعه الله، فأولئك هم الذين نسوا الله فنسيهم، وهم المقطوعون الذين لا يطمعون في مغفرة الله ولا في رحمته، يطردون عن رحمة الله ومغفرته، نسأل الله السلامة والعافية، ومن هؤلاء القاطعون: الذين يقطعون أرحامهم في هذه الحياة الدنيا.
إن أمراً كهذا نحتاج إلى تعلمه وإلى البحث عنه؛ لأن خطاب الشارع فيه صريح، ولأن الحض النبوي فيه واضح، فما أحوجنا إلى أن نتعلم هذه الشعيرة من شعائر ديننا، وبالأخص أن كثيراً من الناس اليوم قد سرت إليهم عادات الغربيين التي يزعمونها من الحضارة، ويزعمونها من الرقي والتقدم، فأخذوا بها، فقطعوا أنسابهم وهجروا أقاربهم.
بل إن من المؤسف جداً أن تجد الرجل ينعم بأنواع النعم في المدينة ويكون أبوه وأمه في غاية ما يكونان من البؤس والشقاء، وهو لا يشعر بحال أبويه اللذين ربياه صغيراً وحملاه، وهما أمن الناس عليه، وأعظمهم نعمة عليه.
ونتذكر قول أمية بن الأسكر رضي الله عنه وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شيخاً كبيراً قد كف بصره، وكان يسكن الطائف، وكان له ولدان رباهما أحسن تربية فصحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرجا في الغزو إلى القادسية وتركاه، فأرسل بقصائده يستقدمهما، يقول في إحدى هذه القصائد: يا ابني أمية إني عنكما غاني وما الغنى غير أني مرعش فاني يا ابني أمية إلا تشهدا كبري فإن نأيكما والثكل مثلان إذ يحمل الفرس الأحوى ثلاثتنا وإذ فراقكما والنأي سيان أمسيت هزءاً لراعي الضأن أعجبه ماذا يريبك مني راعي الضان انعق بضأنك في نجم تحفره من البواضع واحبسها بجمدان إن ترع ضأناً فإن قد رعبتهم بيض الوجوه بني عمي وإخواني يا أم هيثم ماذا قلت أبلاني ريب المنون وهذان الجديدان إما تري حجري قد رك جانبه فقد يسرك صلباً غير كذان أوما تريني لا أمضي إلى سفر إلا معي واحد منكم أو اثنان ولست أهدي بلاداً كنت أسكنها قد كنت أهدي بها نفسي وصحباني فلما بلغت هذه القصيدة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص أن يرسل إليه كلاب بن أمية بن الأسكر في أسرع وقت، فأرسله سعد إلى عمر بن الخطاب، فلما أتاه سأله: بم كنت تبر أباك؟ فقال: كنت أختار خير نياقنا، فأغسل ضرعها، وأغسل الإناء وأحتلبها فيه، وأمسكها عليها حتى يشرب منها ما شاء، فدعا عمر بـ أمية فأجلسه بين يديه، وأمر كلاباً أن يحتلب الناقة دون أن يخبره به، فاحتلب تلك الناقة فأمسكها عمر على أمية، فلما ذاق طعم اللبن قال: حلب كلاب ورب الكعبة، فأمره عمر أن يلزم أباه، وألا يكون منه أبعد من سجر الكلب حتى يلقى الله، ففعل ذلك.
وهذا التنبيه العظيم من أمير المؤمنين رضي الله عنه ينبه به الأبناء على أهمية الوالدين، فإنهما إذا خرجا من هذه الدنيا وماتا لم يستطع الإنسان برهما، ولم يمكنه أن يستغني عما كانا يقدمان له، أتذكر أن أحد الدعاة المشاهير كانت له أم هو بها بر، وكانت امرأة صالحة كثيرة الدعاء والصدقة، وقيام الليل، وقراءة القرآن، فلما ماتت، قال لإخوانه: إنه كانت لي أم كنت أترك بسبب دعائها، وكنت أمهل بسبب صدقتها، وإن الله قد أخذها إليه، فدعوني أتعبد لله وأتحصن؛ فإنني كنت أترك في مقابل ما كانت تلك الأم تقدمه.
كذلك ما زاد على هذا من الأرحام الذين بين الله ولايتهم في قوله تعالى: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب:6].
فالذين هم أولياء بعض ينبغي أن يتعرف بعضهم على بعض، وأن يقوموا بحقهم وألا يهملوه، وينبغي ألا يغتر أحد بالحفاوة الدنيوية؛ فإن الإنسان يمكن أن يسامح قريبه في هذه الدنيا في حقه، لكنه إذا جاء يوم القيامة حافياً عارياً أغرل ليس مع أحد حينئذٍ إلا عمله لا ترجى منه المسامحة.
فإذا جاء في ذلك الوقت، ورأى الحق بعيني رأسه، وزالت عنه الغمرة، وكان بصره يومئذ حديداً لا يمكن أن يسامح في حقوقه، فالأنساب قد انقطعت كما قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:101 - 104].
إن هذه الصلة لابد أن تبل ببلالها، وقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالحو المؤمنين، لكن لهم رحم أبلها ببلالها).(16/4)
الأحاديث التي تذكر بصلة الرحم
كذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد عنه في صلة الرحم عدد كبير من الأحاديث الصحيحة، منها ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق الخلق، فلما فرغ من خلقهم قامت الرحم فأمسكت بساق العرش، فقالت: يا رب! هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال الله تعالى: أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ فقالت: بلى.
فقال: ذلك لكِ)، هذا ضمان من الله عز وجل للرحم أن يصل من وصلها وأن يقطع من قطعها.
وكذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن ينسأ له في أثره ويوسع عليه في رزقه فليصل رحمه).
وكذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم في وصفه أنه كان وصولاً للرحم، فقد أخبرته خديجة بذلك عندما أرادت تثبيته عند أول نزول الوحي، فقالت له: (كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق).
وكذلك قال ابن الدغنة لـ أبي بكر رضي الله عنه حين لقيه مهاجراً إلى أرض الحبشة، حين آذاه قومه بمكة، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلى أرض الحبشة، فأذن له بذلك فخرج مسافراً فلقي ابن الدغنة وكان سيد القارة، فلما لقيه قال: إلى أين يا أبا بكر! فقال: أسيح في الأرض أعبد ربي، فإن قومي منعوني ذلك في دارهم، فقال: إن مثلك لا يخرج ولا يخرج، ولكن ارجع إلى دارك فكن فيها فاعبد ربك، فإنك جار لي، فرجع معه ابن الدغنة حتى أتى مجالس قريش من المشركين، فكان يقول: إن أبا بكر مثله لا يخرج ولا يخرج، فإنه ليصل الرحم، ويقري الضيف، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الحق، وإنه جار لي، فأقرته قريش على ذلك، فكان أبو بكر يصلي بمكة لا يخاف أحداً.
وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حض على تعلم الأنساب لصلة الأرحام، فقد أخرج الحاكم في المستدرك وابن حبان في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تعلموا أنسابكم تصلوا أرحامكم، فإن تعلم الأنساب معين على صلة الأرحام).
ولذلك جاء في لفظ هذا الحديث عند الحاكم: (فإن الرحم إذا قربت كانت قريبة ولو بعدت، وإذا بعدت كانت بعيدة ولو قربت).
والمقصود ببعدها وقربها في الجملة الأولى تعلمها، فإذا عرف الإنسان رحمه إلى إنسان معين، فإنه سيتخذ تلك الرحم قريبة حتى لو كانت بعيدة من ناحية النسب، وإذا لم يعرف النسب إليه كانت الرحم بعيدة حتى لو كان قريباً منه جداً كابن عمه أو ابن خاله، فلهذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الإرشاد العظيم.(16/5)
الآيات التي تذكر بصلة الرحم
فقد قال الله تعالى في كتابه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
فقراءة الجمهور: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامَ إن الله كان عليكم رقيباً) وتفسيرها: اتقوا الله، واتقوا الأرحام الذي تساءلون به، واتقوا الأرحام فلا تقطعوها وصلوها.
وقراءة حمزة الكوفي: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ إن الله كان عليكم رقيباً)، أي: الذي تساءلون به وتساءلون أيضاً بالأرحام، فإن الناس يقولون: أنشدكم الله والرحم، والمقصود بذلك: أذكركم الله وأذكركم الرحم، وذلك لما لها من المكانة والهيبة.
وعرف ذلك من القراءتين معاً من قراءة النصب وقراءة الجر، فكلتاهما تدل على مكانة الرحم في الإسلام، سواءً كانت مما يتقى أو كانت مما يتساءل به، فكلا الأمرين ذو حرمة ومكانة عظيمة.
ثم إن الله سبحانه وتعالى توعد في الجانب السلبي الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل وعيداً شديداً، ومن أبلغ ذلك ما جاء في سورة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]، فهذا وعيد شديد في حق قاطع الرحم.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى بصلاة الأرحام والإحسان إلى ذوي القربى في كتابه في آيات كثيرة، وعطف ذلك على الإيمان به سبحانه وتعالى فقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:36].
وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23 - 24] إلى أن قال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء:26].
وبين الله سبحانه وتعالى دخول صلة الرحم في البر، فقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [البقرة:177]، إن أمراً بدئ به قبل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في الإسلام لأمر عظيم.
وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى بين الوعد العظيم الذي وعد به من يصل ما أمر الله به أن يوصل، فقال في سورة الرعد: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد:21]، وبين كذلك في المقابل ما في قطيعة الرحم من النكس والرجوع إلى الأعقاب، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فبين سبحانه وتعالى موعظته للمؤمنين بما أمر به.
ووعظ الله لعباده ينقسم إلى قسمين: إلى وعظ بالأوامر والنواهي.
وإلى وعظ بالتذكير والتخويف.
وقد جمعت هذه الآية بين الأمرين معاً، ففيها وعظ بالأوامر والنواهي في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90]، وفيها كذلك الوعظ بالتخويف في قوله: {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فهذا بيان للتذكير ببأس الله الشديد، وبما عنده من المخوفات التي يخوف بها من خالف أمره.
إن الآيات في صلة الأرحام والإحسان إلى ذوي القربى كثيرة في كتاب الله عز وجل، وهي متنوعة تنوعاً عظيماً؛ يدل على العناية بهذا الأمر الذي أنزل الله فيه عدداً كبيراً من آيات كتابه.(16/6)
تعريف صلة الأرحام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى شرع لعباده شرائع الدين، وأكدها وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم، وألزم عباده باتباعها، وحظهم على الأخذ بها إيجاباً وسلباً، فالإيجاب بالترغيب في اتباعها، والسلب في الترهيب من مخالفتها، ومن هذه الشرائع التي شرعها الله لعباده وارتضاها لهم: شريعة صلة الأرحام، إنها شريعة عظيمة، ذات مكانة عظيمة في هذا الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى.(16/7)
معنى الصلة لغة وشرعاً
إن الصلة في اللغة تشمل كل اقتراب، فتشمل الزيارة والحديث والكلام والإهداء والتلطف وغير ذلك، فكل هذا يدخل في الصلة في اللغة.
وقد عرف البخاري صلة الرحم فقال: هي تشريك الإنسان قرابته فيما أوتي من أنواع الخيرات.
تشريك الإنسان قرابته: أي الذين بينه وبينهم قرابة، وهذا يشمل ما كان من الرحم وما كان من المصاهرة، فإن الله سبحانه وتعالى جعل نسب الآدمي رحماً وصهراً.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أيضاً في قوله: (ستفتحون أرضاً اسمها مصر، وهي أرض يذكر فيها القيراط، فإذا فتحتموها فاستوصوا بأهلها خيراً، فإن لهم نسباً وصهراً)، وفي رواية: (رحماً وصهراً)، وهذا يقتضي تشريك الإنسان ذوي قرابته في كل ما أوتي من أنواع الخيرات.
فإن كان الإنسان قد أوتي مالاً فتشريكه لذوي رحمه في ماله من صلة الرحم، وإن كان أوتي علماً فتشريكه لذوي قرابته فيما أوتي من العلم من صلة الرحم، وإن كان أوتي جاهاً فتشريكه ذوي قرابته في جاهه من صلة الرحم، وإن كان أوتي عقلاً فتشريكه لذوي قرابته في الرأي والتسديد والنصيحة هو من صلة الرحم، وهكذا فكل خير أوتيه الإنسان فإن تشريكه لذوي قرابته فيه هو من صلة الرحم التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم.(16/8)
تحديد ذوي الأرحام
يبقى بعد هذا تحديد الرحم، وتحديد الرحم لأهل العلم فيه أقوال كثيرة، فأشهر هذه الأقوال أن الرحم درجتان: الدرجة الأولى: ما يجب وصله؛ وهو الرحم الوارث الذي يرث، سواءً كان ذلك بالفرض أو بالتعصيب، فهذا الرحم تجب صلته قطعاً، فرضاً عينياً على كل إنسان، فيشمل ذلك الآباء والأبناء إلى منتهاهم: ارتفاعاً واستفالاً، ويشمل كذلك فروع هؤلاء إذا قربت، ويشمل كذلك الكلالة عند حصول الكلالة، أي إذا لم يكن للإنسان أصل ولا فرع وارث، ففروع أجداده إلى منتهاهم.
فهذه إذن هي الرحم المؤكد صلتها، وهي الرحم التي يرث صاحبها.
والمرتبة الثانية: هي ما عرفه الإنسان من نسبه مما يصله بغيره، فكل من عرفت النسب بينك وبينه فهو ذو رحم منك، حتى لو بعد ذلك النسب، ولكن القسم الأول آكد من القسم الثاني.(16/9)
صلة المقاطع من الأقارب
ولا يقطع هذه الصلة أن يكون ذو الرحم كاشحاً، أي: حاسداً مقاطعاً، بل ذلك مما يزيد الأجر، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (ليس الواصل بالمكافئ إنما الواصل من يصل من يقطعه)، فالواصل هو الذي يصل من يقطعه من أرحامه، وليس الواصل المكافئ الذي إذا أحسن إليه ذو رحمه أحسن إليه في المقابل، فهذا مكافئ فقط وليس واصلاً.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً أتاه فقال: (إن لي أقارب أحسن إليهم فيسيئون إليّ، فقال: إن كنت صادقاً فيما تقول فإن الله تعالى سيورثك دارهم)، والمقصود بذلك أن ذا الرحم الكاشح إذا أساء إلى رحمه فإن صلته تقتضي استمرار نسله، وطول عمره، وقطيعتهم للرحم تقتضي قرب آجالهم، وانتقاص ذريتهم، فلذلك سيرثهم هو، قال الزبيري وهو من مشاهير النسابين من قريش: قد جربنا ذلك في أنساب قريش، فما من بيت كان أهله يصلون الرحم إلا استمرت ذريتهم، وطالت أعمارهم، وما من بيت اشتهر أهله بقطيعة الرحم وعدم الصلة، إلا قصرت أعمارهم وانتفت ذرياتهم.
ومن القصص العجيبة في هذا الباب أن رجلاً من بني هاشم خرج مع رجل من بني جمح في عير له أجيراً عليه وعسيفاً، فلما كان في طريق الشام مر به قريب له، فسأله حبلاً فأعطاه إياه، وكان الحبل لصاحب العير، فسأله صاحب العير عن الحبل فقال: أعطيته قريباً لي! فضربه بعصاً على رأسه ففت بها دماغه، فتركه مسجاً بثوب على حافة الطريق وهو يجود بنفسه، فمر به ركب من أهل مكة، فقال: إذا أتيتم الحرم فاسألوا عن أبي طالب، فقولوا له: إن أخاك قد قتله فلان بعصاه في فضل حبل، فلما أبلغوه ذلك غضب أبو طالب وبنو هاشم لهذا الأمر، وقال أبو طالب فيه شعره المشهور الذي يقول فيه: أفي فضل حبل لا أبا لك ضربته بمنسأة قد جر حبلك أحبلا فلما رجع إليه سأله عن ذلك فأنكر، فتحاكموا إلى حكيم، فلم يرض أبو طالب إلا بالقسامة، وهي: أن يحلف له خمسون منهم خمسين يميناً عند الكعبة ما قتلوه، فأتى منهم خمسون ليحلفوا، فجاءت امرأة من بني هاشم وهي أميمة أخت أبي طالب، فافتدت ولدها طليباً بخمس أبعرة، فقالت: إن هذا منابه من الدية، فأنا أعطيك إياها فلا تحلفه، فلم يحلفه وحلف الآخرون، فلم تمض سنة حتى مات أولئك جميعاً، وورثوا بالقعدد، ولم ينج منهم إلا طليب وحده الذي لم يحلف.
إن هذه الصلة من ناحية النسب كما ذكرنا تكون في هذين المقامين: في المقام المؤكد الذي هو الرحم الوارث، وفي المقام الذي دونه، وهو الرحم الذي يعرف الإنسان النسب بينه وبينه.(16/10)
صلة الأرحام من جهة المصاهرة
أما الصلة من ناحية الصهارة فهي أقل من ذلك، فأصهار الإنسان أقارب الزوج أو أقارب الزوجة يدخلون في هذا الرحم؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل النكاح سبباً لحصول الرحمة والشفقة، فقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، فهذه المودة والرحمة التي تحصل بسبب الصهارة مقتضية للصلة والإحسان.
ولذلك صح في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح شاة قال: أرسلوها إلى أصدقاء خديجة)، وكان صلى الله عليه وسلم يحسن إلى أقارب خديجة، فقد كان ذات يوم مضطجعاً في فراشه يريد أن ينام، فدخلت امرأة فسمع سلامها فتهلل، وقام مرحباً بها، فسئل عن ذلك، فقال: (إنها كانت تأتينا في زمان خديجة).
وفي حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه أن عائشة رضي الله عنها حين هجرت عبد الله بن الزبير ابن أختها ذهب فأتاها بقوم من وجوه بني زهرة -وكانت عائشة ترحمهم وتحنو عليهم لمكانهم من النبي صلى الله عليه وسلم، فبنوا زهرة أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم- فرضيت عنه بشفاعتهم.
وكذلك ما يتعلق بالبعد في المسافة، فإن الرحم إذا ابتعدت عن الإنسان فإن صلته لها ستكون بحسب الذكر والقدرة، وبحسب ما يتمكن للإنسان، ولذلك أخرج ابن هانئ في مسائله: أن رجلاً أتى الإمام أحمد بن حنبل، فقال: إن لي رحماً، وإني مرابط في الثغر، وإنه في مكان ناء قاص، أترى أن أذهب إليهم فأصلهم أم أرجع إلى الثغر الذي كنت فيه فأحمي ثغور المسلمين؟ فقال له أحمد: استخر -أي: صل الاستخارة- ثم قال له: اذهب إلى ذوي رحمك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرشد من استأمره في الجهاد، فقال: (ألك والدان؟ فقال: نعم، قال: فيهما فجاهد)، فدل هذا على تقديم صلة الرحم.
وقال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله عن أحب الأعمال إلى الله: (إيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ أو قال: ثم مه يا رسول الله؟ قال: صلة الرحم)، فهي التي تلي الإيمان بالله في حبها إلى الله سبحانه وتعالى، فإن أحب الأعمال إليه الإيمان به ثم صلة الرحم.
والذين يصلون الرحم بالمال فقط دون أن يصلوهم بالسؤال أو الزيارة أو المحادثة أو التلطف، هؤلاء وصلهم ناقص، فإنهم لم يؤدوا الحق في كل ما افترض عليهم الحق فيه، ولذلك لابد من إشراك ذوي الرحم في جميع ما أوتي الإنسان من أنواع الخيرات، فيشمل ذلك الوقت والزيارة، وكثير من الأرحام صلتها ليست ببذل المال لها، فقد يكون ذو الرحم غنياً عنك، ولكن الصلة بالزيارة والسؤال عن الحال والاتصال، حتى يشعر بأن تلك الرحم مؤداة الحق وأنك لا تمل الاتصال بها، فإن شعور ذي الرحم بالملل مدعاة لخبث النفس، ولذلك يقول صخر بن عمر الشريدي: أرى أم عمر لا تمل عيادتي وملت سليمى مضجعي ومكاني وأيّ امرئ ساوى بأم حليلة فلا عاش إلا في شقا وهوان فعلينا أن نراجع أنفسنا، وأن نحاسبها في معاملة ذوي الأرحام، ففي واقعنا هذا نجد أن كثيراً من الناس يقطعون أرحامهم بالكلية، فيحبون أن لا ينسبوا إلى أحد، وأن لا ينتسب إليهم أحد، وأن لا تكون بينهم وبين أحد من أقاربهم علاقة، فيقطعون أشد الناس حقاً عليهم من الوالدين والإخوة والأخوات ويهجرونهم بالكلية! وما ذاك إلا خشية أن يشركوهم في شيء مما آتاهم الله، وهذا نظير الوأد الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه.(16/11)
حقوق ذوي الأرحام
ومثل ذلك ما يفعله بعض الآباء والأمهات من التفريط في حقوق الأولاد، وعدم الاطلاع على ما في نفوسهم وما يدور في خلدهم، وعدم مشاورتهم في الأمر، واستصغارهم في كل الأمور، فهو من قطيعة الرحم.
ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن فاطمة بضعة مني، يريبني ما يريبها، ويريبها ما يريبني)، وفي حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنهما في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال على المنبر: (ألا إن فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها فقد أغضبني، ومن أغضبني فقد أغضبها)، فهذا يقتضي عناية الوالد بأولاده، والتقرب إليهم ومعرفته بأحوالهم وما يحبون ويبغضون، وقيامه بهذا الحق، وهذا الذي يقتضي من الأولاد كذلك الحرص على بر الوالدين.(16/12)
صلة الرحم صدقة وصلة
فالقريب أولى؛ لأن في ذلك صدقة وصلة، ولهذا جاءت زينب امرأة ابن مسعود رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت امرأة من ثقيف وابن مسعود ليس قريباً لها فهو من هذيل، فجاءت هذه المرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله عن صدقتها على زوجها ابن مسعود، وكان من فقراء المهاجرين الأولين الذين خرجوا من أموالهم لله عز وجل، ولم يصحب من ماله إلا سيفه الذي هاجر به من مكة.
فجاءت امرأته تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صدقتها عليه أفيها أجر قال: (بل أجران، هي صدقة وصلة)، فلذلك فإن صدقة المرأة على زوجها هي صدقة وصلة.
وكذلك ما يهديه الرجل لامرأته وما يدفعه إليها مما آتاه الله من المال إذا نوى به الأجر فهو عظيم الثواب عند الله، ولهذا أخرج الشيخان في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فيّ امرأتك، أي: في فمها، فهو صدقة كذلك) أي: يعتبر أجراً عند الله سبحانه وتعالى.
ومثل ذلك إحسان الإنسان إلى أقاربه مطلقاً، حتى لو كان لديه من هو أقرب منهم، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن مخرمة أتاه فسمع صوته والنبي صلى الله عليه وسلم يقسم أثواباً أتته، فلما سمع صوت مخرمة أمسك ثوباً عنده، فلما دخل عليه رماه بين يديه فقال: (أرضي مخرمة؟ أرضي مخرمة؟)، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يداريه، أي: يسترضيه، وكان شيخاً كبيراً قد كف بصره، فخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يغضب عليه إذا وزع الأثواب ولم يعطه ثوباً، وكان بينه وبينه رحم، فهو من بني نوفل بن عبد مناف والنبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم بن عبد مناف.
وكذلك فإن القريب إذا كان محتاجاً فإن الأجر في صلته مضاعف، كما إذا كان القريب مريضاً فقيراً يحتاج إلى خدمة، فإن زيارتك له تؤديها بنيات كثيرة تثاب على كل نية بثواب عمل كامل، فنية الصلة وحدها تأتي بعمل كامل، ونية عيادة المريض، ونية المواساة، ونية خدمة المحتاجين، ونية التوسعة على الفقراء، كل هذه النيات يثاب عليها الإنسان بثواب عمل كامل عند الله سبحانه وتعالى، يضاعفه إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء.
وكذلك إذا قصدت الصلة من بعيد، فإن الخطى التي تسيرها تكتب في ميزان حسناتك، ويشهد لك كل ما تمر به من ذرات الهواء والتراب، وقد جاء عن فاطمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من خطوة بعد الجهاد في سبيل الله هي أحب إلى الله من خطوة في صلة الرحم)، فالخطوة أي: المسير الذي يسيره الإنسان.
وإن كثيراً من الناس قد تعترضه المشاغل والمشكلات الكثيرة، فتحول بينه وبين زيارة أقاربه فعليه أن يجعل لذلك أمداً ووقتاً يزورهم فيه وأن لا يقطعهم بحال من الأحوال، فإن استطاع أن يجعل ذلك أسبوعياً فبها ونعمت، وإن لم يستطع فليجعلها في كل خمسة عشر يوماً، فإن لم يستطع ففي كل شهر، وعلى الأقارب أن يساعد بعضهم بعضاً في الزيارة.
فلتكن زيارتهم متبادلة، فإذا كان هذا يزور في هذا الأسبوع، فالآخر يزور في الأسبوع الذي يليه وهكذا، حتى يقع التعاون على البر والتقوى ويقع التكامل، فلكل واحد منهما من الحق ما عليه.
نعم لكبار السن من الحق ما ليس عليهم، وللعجزة من الحق ما ليس عليهم.(16/13)
صلة الرحم لا يمنعها عدم المحرمية
وصلة الرحم لا يمنعها عدم المحرمية، بل على الإنسان أن يزور قريباته، حتى لو لم يكن محارم له، فإن كان للإنسان بعض النساء اللواتي بينه وبينهن رحم لكنه ليس محرماً لهن فإن ذلك لا يمنع زيارته وصلته، بل عليه أن يزورهن وأن يتفقد أحوالهن وأن يقدم لهن بعض ما آتاه الله من أنواع الخيرات في أي مجال من المجالات.
وقد كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يذهبان إلى أم أيمن مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيزورانها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فأتياها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جلسا إليها وسلما بكت أم أيمن بكاءً شديداً، فقالا لها: وما يبكيك؟! أما علمت أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا؟! فقالت: أما إني لا أبكي لأني لا أعلم أن ما عند الله خير لرسوله من هذه الدنيا، ولكني أبكي لانقطاع الوحي من السماء، فأبكتهما فبكيا بكاءً شديداً حتى قاما.
فكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور مليكة أم سليم وكانت قريبة لـ عبد الله بن عبد المطلب والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن عبد الله بن عبد المطلب أبوه عبد المطلب وأمه سلمى بنت صخر بن عمر النجارية وهي ابنة عم مليكة أم سليم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يزور تلك العجوز في بيتها ويصلي لها في بيتها ويدعو لها.(16/14)
وجوب صلة ذي الرحم ولو كان مبتدعاً
إن الذين يريدون سلوك هدي النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته عليهم أن يصلوا أرحامهم، والجفوة التي نشهدها بين كثير من الشباب الذين يتسننون ويأخذون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وبين أرحامهم، دليل على نقص الفقه في السنة.
فلو كان أولئك من المتضلعين بالسنة لوصلوا أرحامهم ولما قطعوها، حتى لو كان ذوو أرحامهم من المبتدعة، فإن ذلك لا يقتضي قطيعة الرحم، بل لابد أن يصلوا رحمهم حتى لو كان الرحم مبتدعاً؛ ليتخلقوا بخلق النبي صلى الله عليه وسلم، وليهتدوا بهديه.
فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم (أنه عندما قفل من غزوة بدر نزل بفج الروحاء أو بالصفراء، فأمر علي بن أبي طالب أن يضرب عنق النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط صبراً، ففعل، فأتاه كتاب من قتيلة أو نتيلة ابنة النضر أو أخته من مكة فيه هذه الأبيات: يا راكباً إن الأثيل مظنة من صبح خامسة وأنت موفق أبلغ به ميتاً بأن تحية ما إن تزال بها النجائب تخفق مني إليك وعبرة مسفوحة جادت بواكفها وأخرى تخنق هل يسمعنَّ النضر إن ناديته أم كيف يسمع ميت لا ينطق ظلت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحام هناك تشقق صبراً يقاد إلى المنية متعباً رسف المقيد وهو عان موثق أمحمد يا خير ضيء كريمة في قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت فربما منَّ الفتى وهو المغيظ المحنق أو كنت قابل فدية فلنأتين بأعز ما يغلو لديك وينفق فالنضر أقرب من أسرت قرابة وأحقهم إن كان عتق يعتق فلما قرئت الأبيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم دمعت عيناه، وقال: لو أتتني هذه الأبيات لأرسلته إليها برمته)، أي: بحبله الذي فيه، فهو امرؤ مشرك كافر، وكان محارباً لله ورسوله، ومع ذلك رق له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استنشد بالرحم.
إن من أراد التسنن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن يصل أرحامه، وأن يسعى لاستصلاحهم وانتصاحهم، وأن لا يقاطعهم، فليست مقاطعتهم بعلاج لما هم فيه من المخالفة للهدي النبوي، كذلك فإن على الذين أنعم الله عليهم بنعم لم تكن لدى من مضوا من أسلافهم، أن يعلموا أن قيد هذه النعم بشكرها، وإن من شكرها أن يصلوا أرحامهم بها، وعليهم أن يستشعروا نعمة الله عليهم، فليتذكروا حال أسلافهم وأجدادهم، وما كانوا فيه قبل أن يفتح الله عليهم ما فتح من أبواب الدنيا.
وليتذكروا كذلك أن الدنيا لا تدوم على حال، وأنها عرض زائل، وأن كل ما فيها إلى زوال، فما أعجل انقطاعها وانصرامها، فعلى من أوتي بعضها أن لا يغتر به، وأن يعلم أنه امتحان امتحنه الله به، وأنه إذا جعل الله الدنيا تحت يد البخيل، فإنه سرعان ما يذهب الله بها، كحال التراب الذي على الصخر عندما يأتيه المطر الشديد فيذهب به، كما ضرب الله بذلك مثلاً لحال الغني البخيل بالصخرة الصماء التي يجتمع عليها التراب، فيأتي المطر فيذهب به، فتبقى خالية ليس عليها شيء من التراب.
فعلى هؤلاء أن يتذكروا أن الله سبحانه وتعالى امتحنهم بما جعل تحت أيديهم، وبالنعمة التي آتاهم، فعليهم أن يشركوا فيها أقاربهم، وأن يعلموا أن الصدقة على القريب صدقة وصلة، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: والله لدرهم أنفقه على قريب لي أحب إليّ من عشرة أتصدق بها على معدم، ولعشرة أعطيها قريباً لي أحب إليّ من مائة أتصدق بها على معدم.(16/15)
البر بالوالدين والإحسان إليهما
وكذلك على الولد أن يفعل ما أمر الله به من التأدب فيما يتعلق بحق الوالدين، من خفض جناح الذل لهما من الرحمة، فيكون بين يديهما مأموراً ينتظر الأمر، ويحب أن يؤمر بأيّ أمر حتى لو كان شاقاً؛ ليبادر إليه، فهذا هو سبب دخول الجنة، وهو الذي أرشد الله إليه، وبين في كتابه عظمه وأهميته، حيث عطفه على الإيمان به {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، وفي الآية الأخرى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]، وغير ذلك من الآيات الصريحة في هذا الأمر.
فهذه كلها تقتضي أن يخفض الولد جناح الذل من الرحمة لوالديه، وأن لا يخاطبهما إلا بأبين عبارة، وأن لا يرفع عليهما الصوت، وأن يكون ذليلاً بين يديهما، يأمرانه بما يشاءا، فهذا الذي ينبغي للولد أن يكون عليه مع والديه.
وإذا كان الأمر كذلك تحسس الولد ما يرضي والده، وبحث عنه حتى ولو لم يأمره به، وتحسس كذلك ما يغضب والده، فيفر منه ويجتنبه حتى ولو لم ينهه عنه، وإذا حصل ذلك حصل التآلف في الأسرة، واجتماع الكلمة، وحصل فيها من محبة بعض أفرادها لبعض الشيء الكثير.
وقد رأينا عجباً من هذا، فقد رأيت رجلاً كان يسكن في هذه المدينة وكان من التجار، وكان أبوه شيخاً كبيراً هو سيد قبيلته، وكان الولد من أصغر أولاده، لكنه كان أبرهم به، فكان الولد يسارع إلى كل ما فيه بر لوالده، فيقول الوالد: إنه يسبقني إلى مرادي، فيأتي بالشيء الذي أريده قبل أن أفكر فيه؛ وهذا من شدة بره به.
وكان الوالد بعد هذا إذا رأى أحداً من أصدقاء ذلك الولد قام بخدمته؛ من شدة محبته لذلك الولد، وكان الوالد كحال شيوخ أهل البادية، قد لا يفهمون أو لا يستوعبون كثيراً من أمور الدعوة أو كثيراً من تفاصيل الأمور، لكنه كان إذا قيل له: إن ابنك محمد محمود في هذا الأمر، قال: محمد محمود لن يكون إلا فيما هو خير في الدنيا والدين.
وقد توفى الله هذا الرجل -نسأل الله أن يغفر له ويرحمه- فكان أبوه بعد ذلك إذا رأى أحداً من الذين كانت بينه وبينهم علاقة يقول: هذا من أصحاب محمد محمود، ومحمد محمود لا يصحب إلا الصالحين، كان أبوه يشهد له بهذا فيما بعد.
وهذا يدلنا على أن الخلاف الذي يحصل بين الوالد وولده سببه نقصان البر، فإن كان الولد براً بوالده فسيحب له ما يحب، وسيبادر إلى مرضاته، والتأثير في عقلية الوالدين ميسورة سهلة، فقد جبلهما الله على الرحمة، لكن على الولد أن لا يتعجل، وأن لا يبادر إلى المخالفة، بل عليه أن يتقرب إلى الوالدين، وأن يجعل نفسه أشد أولادهم براً، وإذا حصل على ثقتهما فلن يخالفاه في أيّ شيء يريده بعد ذلك.(16/16)
صلة الأرحام مما تتوارثه بعض الأسر
والبر من الأمور التي تتوارث في الأسر، فإذا كان الإنسان براً بوالديه فسيبره أولاده، ويستمر ذلك البر متوارثاً في السلالات، ونسأل الله السلامة والعافية، ففي المقابل إذا كان الإنسان عاقاً لوالديه فسيعقه أولاده، وقد جرب ذلك وحصل.
روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى شاباً ملوي اليد، قد يبست على الالتواء، فسأله فقال: ما ليدك هذه؟ قال: دعوة أبي، فقال: ماذا قال؟ فأنشده أبياتاً لوالده يقول فيها: وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه وبالمحض حتى آض نهداً عنطنطاً إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه فأخرجني منها لقىً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه فتحققت فيه دعوة أبيه، ويبست يده ملوية، وكذلك فإن بعض السلالات اشتهرت بالبر، ومن ذلك البيت النبوي الشريف، فإن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم اشتهر فيهم بر الوالدين واستمر ذلك فيهم، وكان من صفاتهم التي يعرفون بها، فقد كان كثير منهم يتخفى في أيام الفتن؛ لكثرة متابعات الناس لهم ومقاتلتهم لهم، لكن كان الناس يعرفونهم بالبر والازدياد فيه والمبالغة فيه.
وقد ذكر ذلك عدد من الذين ذكروا صفات أهل البيت من المؤلفين، فقد اشتهر ذلك فيهم، حتى إن بعضهم كان يصرح به، فقد صح عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين وأرضاهم أن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفون بالبر وصلة الرحم، فهي من صفاتهم المشهورة المعروفة، ولا غرابة في ذلك، فهم أهل بيت ليس عهدهم في ذلك بقديم، فهذه صفة النبي صلى الله عليه وسلم التي وصفه بها كل من عرفه.
ولذلك فإنها -أي: صلة الرحم- من أوائل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إليه ويأمر به، فقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب أنه كان في قوم من قريش، وكانوا تجاراً في الشام، في المدة التي ماد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان وكفار قريش، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه فسلمه إلى صاحب بصرى ليسلمه إلى هرقل، فلما أتاه كتابه سأل: هل بالشام أحد من قريش؟ فدل على أولئك الركب، فأتي بهم، فجمع وجوه الروم في قصر له، وأمر بأبوابها فأغلقت، ثم سألهم فقال: أيكم ألصق نسباً بهذا الرجل؟ قال: أبو سفيان فقلت: أنا ألصقهم نسباً به، فقال: أدنوه عندي واجعلوا أصحابه وراء ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إذا كذب فكذبوه، قال: فسألني اثني عشر سؤالاً عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مما سأله عنه أن قال: فبم يأمركم؟ قال يأمرنا بالصدق والبر والصلة، وأن نعبد الله وحده ونترك ما يقول آباؤنا.
فمن أول ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إليه الصلة، فهي إذاً كانت قديمة في دعوته صلى الله عليه وسلم، وكان المشركون يعرفون دعوته بأنها دعوة صلة.(16/17)
صلة الرجل أهل ود أبيه
وكذلك فإن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل بقي عليه بعد موت والديه شيء من برهما؟ فأخبره بخمس فقال: نعم، أن تصلي عليهما، وأن تستغفر لهما، وأن تنفذ عهودهما، وأن تصل أرحامهما، وأن تصل ذوي ودهما)، فهذه خمسة أمور تبقى بعد موت الوالدين من برهما.
وقد صح في الصحيحين عن ابن عمر (أنه كان في طريقه بين مكة والمدينة، فأتاه أعرابي فأعطاه ابن عمر حماراً له كان يركبه، وعمامة له كان يستظل بها من الشمس، فقال ابن دينار وهو مولى ابن عمر راوي الحديث عنه: رحمك الله يا أبا عبد الرحمن! إنهم الأعراب وإنهم يرضون بأقل من هذا، فقال ابن عمر: إن أب هذا كان صديقاً لـ عمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من أبر البر أن يصل الولد -وفي رواية: الرجل- ذوي ود أبيه)، أي الذين كان بينهم وبين أبيه ود، فمن أبر البر أن يصلهم ولده.
وهذا لا يختص بالوالد الذكر، بل يشمل كل والد والأم داخلة في عموم الوالد؛ وهكذا آباؤها وأمهاتها.
فالصلة أصلها للرحم، والرحم في الأصل مكان الولد من الأم، فالأرحام من جهة الأمهات في الأصل أكثر دخولاً في صلة الرحم من الأرحام من جهة الآباء، ولهذا كان العرب يفرقون في النسب بين الظهر والبطن، أو بين الظهر والرحم، فالأرحام قد تطلق على أقارب الأم فقط؛ لأن الولد خرج من رحم أمه، والرحم مشتق من ذلك.(16/18)
اغتنام صلة الأرحام قبل الانقطاع عن الدنيا
على الإنسان الذي يعلم أن مدة بقائه في هذه الحياة الدنيا قليلة، وأن انتقاله عنها سريع، أن يصل أرحامه قبل أن ينقطع عنهم انقطاعاً لا يجتمع معهم بعده، إلا في الجنة أو في النار، نسأل الله السلامة والعافية.
وفي هذا يقول أحد الحكماء: وصل حبيبك ما التواصل ممكن فلأنت أو هو عن قريب ذاهب إما أن تذهب أنت وإما أن يذهب هو، فأنت أو هو عما قريب ذاهب.
كذلك على الإنسان أن يعلم أن فرصه في صلة الرحم قليلة وستنقطع، فأنت الآن بالإمكان أن تذهب وتزور، وبالإمكان أن تجد فراغاً في الوقت لصلة الرحم، وبالإمكان أن تقدم جزءاً من مالك في صلة الرحم، لكن سيأتي وقت لا تجد فيه ذلك، فعليك أن تنتهز هذه الفرصة لهذا العمل الصالح المبارك، الذي يزيد في العمر ويبارك في الرزق ويعمر الديار، فقد جاء في حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن صلة الرحم تزيد في الأعمار وتعمر الديار وتكثر الأموال والأولاد، فهي سبب لكل هذه النعم العظيمة.
فعلى الإنسان أن يبادر إليها قبل أن يفوت الأوان، وأن يعلم أنه ليس بالإمكان دائماً أن يفعل ذلك، فلهذا على الإنسان أن يتذكر أن الصنيعة قد لا تتأتى في كل الأوقات، فليس كل وقت يتأتى للإنسان فيها أن يصل رحمه أو أن يفعل معروفاً، فإذا وجد ذلك فليبادر إليه، وإذا وجد محتاجاً يمكن أن يقدم إليه خدمة فليبادر إلى ذلك، وليعلم أنها امتحان من الله تعالى، كما قال الحكيم: واشكر فضيلة صنع الله إذ جعلت إليك لا لك عند الناس حاجات فالإنسان إذا كانت الحاجات إليه لا له فقد أكرمه الله بنعمة عظيمة ينبغي أن يبادر لشكرها، وأن يعلم أنه ممتحن بها، كحال الثلاثة الذين امتحنهم الله بالملك الذي أرسله إليهم، وهم: الأقرع والأبرص والأعمى، وقصتهم مشهورة معروفة قد حدثنا بها أكثر من مرة.(16/19)
من عواقب قطيعة الرحم
علينا أن نصل أرحامنا، وأن نعلم أن كثيراً من الضيق في الرزق، ومن نقص البركة في العمر، ومن عدم الارتياح والطمأنينة في الوظائف والأعمال سببه عدم أداء حق الرحم، وقد سمعت من بعض العقلاء في هذا البلد أنه جرب تجربة، وهي أن كل موظف أنفق راتبه الأول في صلة أرحامه سيبارك في راتبه ولن يبتلى بالديون بعد ذلك، وأن كل من لم ينفق راتبه الأول في صلة أرحامه قل ما يبارك له في راتبه، وقد ذكر أمثلة كثيرة من ذلك في واقعه وفي الذين يعرفهم.
فلا شك أن صلة الرحم سبب للبركة مطلقاً، فلذلك ينبغي للإنسان أن يعلم أن كثيراً مما يعانيه من عدم استجابة دعائه، أو من تأخر نجاحه في الامتحان، أو من التضييق عليه في الرزق، أو من عدم وجود الأولاد أو الزوج الصالح، أو غير ذلك من النعم، إنما تحبس بتأخره عن صلة رحمه، فليتعاهد رحمه وليبادر لصلته، فإن ذلك سبب لفتح الأغلاق.
كان رجل من الأنصار عاقاً بأمه، فلما أدركه الموت عرضت عليها الشهادتان فامتنع ولم يستطع أن ينطق بهما، فاشتد ذلك على الناس، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبروه بشأنه، فدعا أمه فسألها أن تغفر له وأن تسامحه، فامتنعت من ذلك، فأمر بنار فأوقدت، ثم قال: احملوه فارموه في النار، فلما رأته أمه يحمل إلى النار رحمته فسامحته وغفرت له، فحينئذٍ انطلق لسانه بالشهادتين، فما زال يكررهما حتى مات.
إن أمراً يحول بين الإنسان وبين النطق بالشهادتين لأمر عظيم، وبالأخص عند الموت والاحتضار، كذلك فإن كثيراً من الذين يخالطهم الإنسان ويعايشهم قل ما يسلم من الحيف عليهم والجور، فعليه أن يحاول استرضاءهم قبل أن يخاصموه بين يدي الله.
وقد حدثني رجل من العلماء والمعروفين بالصلاح في جزيرة العرب، أن أمه كانت امرأة صالحة قوامة صوامة، وكانت تخدمها جارية، فكانت ربما أساءت إليها، وهو لا يعلم إلا خيراً لا يعلم ذلك، فلما ماتت أمه رأتها جارة لهم من الصالحات في النوم، فقالت: اذهبي إلى ابني عبد الرحمن فأخبريه أني بخير وأني ما لقيت ضرراً إلا من فلانة، فقد كنت أسأت إليها فليسترضها عني، قال: فجاءتني المرأة تطرق عليّ الباب بعد صلاة الفجر فأخبرتني بما رأته في النوم، فذهبت إلى تلك الجارية أسترضيها، فقلت: هل لك حق على فلانة، فقالت: لا، وامتنعت في البداية أن تقر بشيء، فما زلت بها حتى أقرت أنها ماتت وهي تجد عليها في نفسها، قال: فاسترضيتها بمال حتى رضيت، ثم مكثت أسبوعاً فإذا المرأة تطرق عليَّ الباب بعد صلاة الفجر، فقالت: لقد رأيت أمك البارحة في حالة عجيبة من النعيم، فأخبرتني أنك سددت عنها باباً عظيماً كانت تجد منه أذى.
فلذلك على الإنسان أن يسترضي الذين يمكن أن يكون أساء إليهم من الخدم أو الجيران أو الذين يعاشرهم، فهم خصوم يوم القيامة، فعلى الإنسان أن لا يدعهم يحملون الضغائن فيأتون بين يدي الحكم العدل فيشكون إليه سبحانه وتعالى، وما دام الإنسان في هذه الدنيا يستطيع أن يسترضي خصومه فعليه أن يبادر لذلك.
إن الكلام حتى لو طال وانتشر في صلة الأرحام لن يؤدي شيئاً منها، وإن ما ذكرناه إذا لم نعد به إلى واقعنا ونطبقه في أمور حياتنا فلا أثر له ولا فائدة، لكن علينا أن نذهب إلى بيوتنا ونحن عازمون على أداء هذا الحق الذي سمعناه وسمعنا أدلته من كلام الله وكلامه رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأن نعزم على أداء الحقوق إلى ذويها، وعلى صلة الأرحام ما استطعنا، وأن نستسمحهم فيما مضى من التفريط، فإنها حقوق تحمل إلى الدار الآخرة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يزيدنا علماً، وأن يبارك لنا فيما سمعنا، وأن يجعله حجة لنا على علينا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى وآله وأصحابه أجمعين.(16/20)
المنهجية في طلب العلم
العلم خير ما تفنى فيه الأعمار، وأفضل ما يتنافس فيه الأبرار، حتى جعل الله للعلماء منزلة سامقة، ومكانة عالية، وأكرمهم بما لم يكرم به غيرهم، ولطالب العلم آداب وأركان وأجنحة ينبغي له معرفتها ومراعاتها في حال طلبه وانشغاله بالعلم، كما أن عليه أن يهتم بترتيب الأولويات، وتقديم الأهم على المهم.(17/1)
فضل العلم والعلماء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى عظم شأن العلم، فأشهد العلماء على أعظم شهادة بعد أن شهد بها وأشهد بها ملائكته، فقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:18].
وحكم بفضلهم على من سواهم، فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
وأخبر أنهم وحدهم المؤهلون لفهم كلامه، فقال: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].
وأخبر أنه يرفع درجاتهم في الدنيا والآخرة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
وأخبر أنهم وحدهم الذين يخشون الله حق خشيته، فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
وبين سبحانه وتعالى أنه فضل الجنس البشري على غيره من الأجناس بالعلم، فقال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:31 - 33].
ولم يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستزادة بشيء من أمر الدنيا إلا من العلم، فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، وقد نوه النبي صلى الله عليه وسلم بشأن العلم والعلماء، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، فإنما أنا قاسم والله المعطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).
وأخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
وأخرج البخاري في الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
وأخرج البخاري في الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان بها طائفة نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب بها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس، فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصاب بها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت عشباً، فذلك مثل من نفعه الله بما جئت به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به).(17/2)
اغتنام الأوقات قبل ضياعها
لا شك أن الفضل العظيم للعلم الذي نوه الله به في كتابه ونوه به رسوله صلى الله عليه وسلم، مقتضٍ من ذوي الهمم العالية الراغبين في رفع الدرجات، أن يبادروا وأن يتنافسوا، وأن يستغلوا الأوقات -قبل ضياعها- للالتحاق بالرعيل الذي انطلق، وبالركب الذي سار.
فهذه الدنيا مدتها ضئيلة يسيرة، وقيمتها هي الوقت الذي يمضيه الإنسان فيها، ومن لم يستغل هذا الوقت كان وبالاً عليه بين يدي الله؛ لأن الله يخاطب أهل النار يوم القيامة فيقول: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37].
لابد أن يتفكر المسلم أنه جاء إلى الأرض وليس من سكانها الأصليين ولا من أهلها، وإنما أهبط إليها إهباطاً من الجنة، وجاء لمهمته العظيمة بتأشيرة مدتها محددة، فعليه أن يؤدي عمله قبل أن تنتهي تأشيرته ويرجع، فالذي ذهب بتأشيرة مدتها محدودة، وتكلف التكاليف، وقطع المسافات، ثم رجع خائباً ولم يؤد أي عمل مما خرج من أجله؛ لا يمكن أن يعد رابحاً بأي مقياس من مقاييس الدنيا؛ فلذلك علينا أن نتذكر أننا جئنا هنا من أجل مهمة محددة، حددها الله في كتابه فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وأن مدة بقائنا في هذه الدار محصورة، قال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
فنحن راجعون إلى الله لا محالة، ومسئولون عن هذه المهمة التي من أجلها أهبطنا إلى هذه الأرض، ولا يمكن أن يدعي أحد منا أنه لم يؤت الوسائل، فقد أتاح الله لنا من الوسائل، وسخر لنا من النعم ما لا يمكن أن نحصيه، سخر لنا الليل والنهار وما فيهما، وسخر لنا السماء والأرض والبحار والأنهار والجبال والسهول، وجميع ما في هذه الأرض جعله مسخراً لعبادته وطاعته؛ ولذلك يمكن أن يستفيد الإنسان في عبادته من كل شيء في الأرض، قال بعض أهل العلم: ما من شيء في الأرض إلا وهو معين لابن آدم على عبادة ربه، إن كان فيه نفع انتفع به في قوة بدنه أو عقله، وإن كان فيه ضرر كان امتحاناً له ليثبت ويصمد، وإن لم يكن فيه نفع ولا ضرر كان فيه اعتبار وتذكر، وفي الجميع منافسة؛ لأن جميعها مسبحة لله، وجميعها ساجدة لله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، فتستشعر أن ثوبك ينافسك في القرب من الله والسجود له والتسبيح بحمده، وأن شعرك ينافس لسانك، وأن كل عضلة من عضلاتك وكل ذرة من ذراتك هي منافسة لك في التقرب إلى الله بالعبادة، كما تستشعر المنافسة من إخوانك وبني جلدتك والبشر جميعاً، فالله تعالى يقول: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57]، فالجميع يتنافسون في القرب منه وفي عبادته وطاعته، وإذا استشعر الإنسان ذلك أحس أن كل ما في الأرض مهيأ ومسخر ليعينه على طاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته، وأبلغ الطاعات والعبادات هي ما أوجب الله سبحانه وتعالى، كما قال: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، وما افترضه الله لا يمكن أن يعرف ويميز بينه وبين غيره إلا بالتعلم.(17/3)
العلم قبل القول والعمل
التعلم شرط لأداء الفرائض، وشرط لأداء السنن، وشرط لأداء المندوبات، وشرط لاجتناب المحرمات، وشرط لاجتناب المكروهات، وشرط لاستغلال الأوقات، لا يمكن أن تقدم على أي شيء إلا على أساس العلم، وإذا أقدمت على أي أمر دون أن تعرف حكمه فأنت عاصٍ قطعاً؛ لقول الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، فأنت مأمور بالتعلم قبل العمل، وقد عقد البخاري في الصحيح باباً قال فيه: باب العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، فبدأ بالعلم أولاً قبل القول وهو: شهادة أن لا إله إلا الله، وقبل العمل بذلك وهو الاستغفار، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، وهذا يقتضي منا أن نعلم أن العلم هو المفتاح الأول في النجاح في حياتنا وفي مهمتنا التي أهبطنا من أجلها إلى هذه الأرض، وهذا العلم لا يمكن أن نطيع ربنا إلا به، وما عصي الله إلا عن جهل به أو بشرعه، فالجهل بالله سبب لمعصيته؛ لأن الإنسان إذا لم يعرف الله ونهي عن أمر من الأمور، وكان يخاف عقوبة تترتب على تلك المخالفة، فإنه سيحاول الاحتيال عليها أو إخفاءها، لكن إذا عرف الله، وعرف أنه هو الجليل الكريم الكبير، وأنه لا يمكن أن يخفي عنه الإنسان شيئاً من تصرفاته، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد، وأنه يعلم السر وأخفى؛ حينئذ سيخافه ويقلع عن معصيته، كذلك قد يعصي شخص الله تعالى على أساس جهله بما يقدم عليه؛ لأنه يظن أنه عبادة وطاعة، فيفعله وهو في نفس الوقت معصية، فهذا جهل بشرعه لا به، فالجهل قسمان: جهل بالله وجهل بشرعه، وكلاهما سبب لمعصيته ومخالفته، ولا يمكن أن يتخلص الإنسان منهما إلا بطلبه للعلم.
الإنسان الرشيد يعلم أن الفرص المتاحة نادرة، وأن الوقت ضيق جداً، ونحن نستشعر في أيامنا هذه سرعة الزمان، فعجلاته أصبحت تدور بسرعة غير طبيعية، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (إن بين يدي الساعة أياماً تكون السنة فيها كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاشتعال السعفة)، وقت سريع جداً، ولا يزداد الزمان إلا إسراعاً، فلذلك نحتاج إلى استغلاله قبل فوات الأوان، فكل يوم نودع بعثاً إلى الدار الآخرة لا يرجعون إلا عند النشور، منهم من هو معاصر لنا في سننا، ومنهم من هو أصغر منا، يدفنون جميعاً في المقابر، ويقدمون إلى ما قدموا، وتزول عليهم الغشاوة، فيرون الأمر حق اليقين، ويبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، ولاشك أنهم سيندمون جميعاً، فالمحسن يندم على عدم الازدياد، والمسيء يندم على أصل إساءته، فما من أحد من أهل الآخرة إلا وهو في ندم، فالآخرة كلها دار ندم، المحسن يندم ألا يكون قدم زاداً أكثر لما يرى من تفاوت الناس، ولما يعلم من استحقاق الله للزيادة في الطاعة والعبادة، والمسيء يندم على أصل إساءته، لماذا فرط في جنب الله؟ ولماذا قصر في أداء حقوقه؟(17/4)
أركان التخطيط لطلب العلم
علينا أن نستغل أوقاتنا في طلب العلم والعمل به، وأولى ما تصرف فيه الأوقات أربعة أمور، هي خطة موضوعة لطلب العلم، فالناس مولعون بالتخطيط، ويبحثون عن استغلال الطاقات استغلالاً جيداً، ولا يكون ذلك إلا من خلال تخطيط محكم.(17/5)
دراسة البيئة الخارجية
الركن الثالث من أركان التخطيط: دراسة البيئة الخارجية، أي: المحيط الذي تعيش فيه، وهذا المحيط لاشك أنك ستجد فيه فرصاً تستطيع استغلالها في الوصول إلى أهدافك، وتجد فيه في المقابل أشياء فيها خطر عليك؛ لأنها ربما تقطعك عن بعض أهدافك، فالمحيط الذي من حولك لا يمكن أن تعيش بدونه، فأنت محاط به فتحتاج إلى دراسته، فتعرف ما فيه من نقاط إيجابية يمكن استغلالها وهي مثلاً: تعاون الناس في المجال العلمي.
احترامهم لمن يشتغل بالعلم.
الظروف المواتية للطلب.
وجود كثير من المنافسين الذين يحثونك على الطلب؛ لأنهم ينافسونك فيه.
فهذه فرص تزيدك في الطلب، وفي المقابل هناك مخاطر تقطعك عن الطلب، كالملهيات، والمشاغل الدنيوية، ومنها وسائل الإعلام، فرغم إيجابيتها ففيها بعض السلبيات وهي: أنها تقطع عن الطلب، وتنقص الوقت، وتنقص بركته مما يراه الإنسان من مظاهر، وما تنقل إليه من الأخبار المحزنة.
وهكذا تبحث عن المخاطر التي من حولك فتحاول التقلل منها والابتعاد عنها، وتحاول الاستفادة من الفرص.(17/6)
تزمين الخطط
الركن الرابع من أركان التخطيط هو: تزمين الخطط، وهو أن يكون لك وقت معين تقيس فيه ما قطعته من أشواط، فلابد أن تعلم (أن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى)، فأنت لا تستطيع أن تسهر الليل والنهار جميعاً في الطلب، وقد تقرأ في حياة بعض السلف كثرة الاشتغال في الليل والنهار، فمثلاً النووي رحمه الله مكث في وقت الطلب في دمشق أربع سنين لم ينم مضطجعاً، كان ينام مسنداً ظهره إلى اسطوانة، ولم يكن يضطجع خلال هذه المدة، واجتنب بعض المآكل لشبهة فيها ومخالفة لما يهواه، فمثل هذه الأمور نحن لا نطلبها في طالب العلم اليوم، لأن فيها جلد وقوة لا تحصل إلا من الأفذاذ والنوابغ، لكن نريد منك فقط تزمين وتقسيم الأهداف على الوقت الذي لديك، وأن تخطط لمدة محددة، ولو مت قبلها فهي في ميزان حسناتك، وليس هذا من طول الأمل ولا من التسويف، فخطط لمدة محددة، فإذا بلغتها فالحمد لله تكون قد نجحت فيما تريد، وإن لم تبلغها فأنت سائر على الطريق، والإنسان يثاب على نيته وعزمه، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وقد حضنا عليه الصلاة والسلام على الأيسر فالأيسر من الأسباب.
أخرج البخاري في الصحيح قال: حدثنا عبد السلام بن مطهر قال: حدثنا عمر بن علي عن معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين إلا غلبه)، وفي رواية: (ولم يشاد الدين إلا غلبه)، وفي رواية: (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة).
فأنت محتاج إلى أن تجعل جزءاً من الوقت لراحتك، وجزءاً لدنياك، وجزءاً لأهلك، وجزءاً لمشاغلك الدنيوية، لكن ما دمت طالباً للعلم فلابد أن تخصص وقتاً للطلب، وهذا الوقت تستغله استغلالاً مبرمجاً، لابد من ذلك، وحينئذ تزمنه وتوزعه، فالعلم لا يؤخذ جزافاً، ولا يمكن أن يحيط به محيط، فلابد أن يوزع، وأن يبدأ بأولوياته ومفاتيحه، وأن تترك الفروع والتوسعات، فإن الوقت غير مناسب لها.
فالوقت هو مثل وقت الناس الآن في الاستعداد لرمضان، فرمضان قد اقترب على الأبواب، وبدأ الناس يستعدون له؛ لأن شعبان سريع الذهاب، وكذلك مدة بقاء هذه الحياة الدنيا وسرعتها، وينبغي أن نتصور هذا التصور، وقديماً قال عبد الله بن المعتز أمير المؤمنين رحمه الله: إذا العشرون من شعبان ولت فواصل شرب ليلك بالنهار ولا تشرب بأقداح صغار فقد ضاق الزمان على الصغار وهكذا يضيق الزمان عن تتبع المسائل العلمية الدقيقة في كل فن من الفنون، ولم يعد الوقت مناسباً لها، وليس معنى هذا أننا نزهد فيها، لا، لكن نرى ترتيب الأوليات في طلب العلم، فلابد أن يبدأ الإنسان بالأولى ثم الذي يليه، فإذا أراد الإنسان أن يضع خطةً لطلبه للعلم، فعليه أن يبدأ أولاً بتحصيل شروط العلم، ثم يبدأ بعدها بالأجنحة التي تطير به، ثم يرتب أولويات العلوم التي يدرسها، وهذه ثلاثة أمور مهمة جداً في التخطيط للعلم.(17/7)
تحديد الأهداف وتحليلها
التخطيط لطلب العلم له أربعة أركان: الركن الأول: تحديد الأهداف وتحليلها: تحدد الأهداف التي تطلبها ثم تحللها حتى تجعلها جزئيات صغيرة، لتتمكن من أدائها، فإذا لم تحدد هدفك ستعيش مثل حياة البهائم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12]؛ لأنه ليس لهم هدف في الحياة، فهم يعيشون كما تعيش البهائم، لا يفكرون فيما بعد الموت.
فمدة حياتهم في تصورهم هي هذه المدة اليسيرة القليلة، وحظهم من المعاش ما أخذوه من ملذات الحياة الدنيا الزائفة الزائلة، ثم لا خلاق لهم في الآخرة، وهذا لا يرضى المؤمن به بوجه من الوجوه، المؤمن لا بد أن يفكر في معاده ومستقبله، ولابد أن يخطط لذلك، ومن هنا لابد أن يكون لديه هدف كبير وهو: تحقيق رضوان الله، وأن يرضى الله عنه.
فإذا رضي الله عنا لا يضرنا ما لم يتحقق لنا من أمور الدنيا، الذين قتلوا يوم أحد، وبقرت بطونهم، وأخرجت أكبادهم، وقطعت أنوفهم وآذانهم -رضي الله عنهم- هل ضرهم مما حصل شيء؟! والذين عاشوا بعدهم من الصحابة لحقوا بهم وماتوا جميعاً، إذاً: لم يفتهم شيء من هذه الحياة الدنيا، وأدركوا ما يريدون من رضوان الله.
من رضي الله عنه لا يضره ما فقد ولا يضره ما نقصه من هذه الحياة الدنيا، ومن لم يرض الله عنه -والله- لا ينفعه ما أحرز وما حقق من الأهداف، وما وصل إليه من المراتب، لا ينفعه ذلك شيئاً.
إذاً: لابد أن يكون الهدف الأسمى والغاية التي نريدها: تحقيق رضوان الله، وأن نتقرب إليه بما يرضيه عنا.
وإذا كان هذا الهدف واضحاً بين أعيننا فلابد أن نبحث عن تجزئته، وأن نحلل هذا الهدف، وتحليله سيجعله سهلاً؛ لأنك ستجعله مراتب، فمثلاً: تفسير الإمام البغوي تفسير كبير، وإذا كان من هدفك -مثلاً- قراءة هذا التفسير كاملاً، ولم تجزئه على الوقت، سيكون شاقاً وصعباً لديك، ويكون بمثابة جبل تحمله، لكن إذا جزأته وقرأت كل مقطع منه، فإنك تكون قد أنجزت هدفك إذا قرأت ذلك المقطع، فمثلاً إذا أردت قراءة سورة البقرة وآل عمران، وأنجزت ذلك، فأنت ناجح على كل حال، بخلاف الذي يريد قراءة الكتاب كاملاً ولم يكمله فهو فاشل، لأن الهدف الذي حدده لم يصل إليه، بخلاف الذي حلل الهدف وجعله أهدافاً صغيرة، فهو ناجح عندما يصل إلى كل هدف من الأهداف الصغيرة.
إذاً: لابد من تحديد الأهداف أولاً، ثم تحليلها إلى جزئيات لنتمكن من الوصول إليها.
كثير من الناس يعيش مع العموميات، فيقول مثلاً: نحن نريد إرجاع الأمة إلى الكتاب والسنة، هذه عموميات لا نختلف فيها، لكن كيف ذلك؟ ما لم يحلل الهدف ويحدد، لا يمكن أن تنجح أصلاً، كيف يقاس أن الأمة رجعت فعلاً إلى الكتاب والسنة؟! متى يكون لديك شهادة على أنها رجعت للكتاب والسنة؟! إذاً: هذا هدف غير محدد، وغير محلل، ولا يمكن قياسه، فلابد من تحديد الأهداف وتحليلها.(17/8)
دراسة البيئة الداخلية
الركن الثاني من أركان التخطيط هو: دراسة البيئة الداخلية: المقصود بالبيئة الداخلية: ما آتاك الله من الإمكانات، أن تعرف ما لديك من القوى، ما لديك من نقاط القوة وما فيك من نقاط الضعف لابد أن تدرسها تماماً.
فإذا كان هدفك الكبير أن تكون مرضياً عند الله، وتعلم أن ذلك لا يتم إلا من خلال العلم بشرعه، وتطبيق ما علمت، والدعوة إليه، والصبر على طريق الحق.
إذاً: أول الخطة: إحراز العلم، والعمل بكل جزئية تعلمتها، ثم بعد ذلك خطة الدعوة إلى ما تعلمته وعملت به، ثم بعد ذلك تربية نفسك وأطرها على الحق، والصبر حتى تصل إلى نهاية المشوار، وهو وقت الامتحان عند الموت.
فتدرس بيئتك الداخلية: ما لديك من نقاط القوة وما لديك من نقاط الضعف، فتجد لديك من نقاط القوة مثلاً: الهمة العالية التي لا ترضى بالدون، تريد الفردوس الأعلى من الجنة، تريد مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، تريد أن تسد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم مسداً كان يسده بعض أعلامها وعلمائها الكبار، تريد أن يكون لك أثر في تحمل هذه الرسالة، تريد أن تزيد عمر النبي صلى الله عليه وسلم من عمرك، فتقدم شيئاً من عمرك إمداداً في مدة عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن العمر المقصود به التبليغ، وقد توفاه الله بعد أن عاش مبلغاً ثلاثاً وعشرين سنة، بلغ فيها رسالات الله، وبقي بعد ذلك كل تبليغ يبلغه أحد من أمته امتداد في عمره؛ لأنه أداء لمهمته، فأنت تريد أن تقدم شيئاً من عمرك إمداداً وزيادة في عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتخطط لذلك.
إذاً: من دراسة البيئة الداخلية عرفت منها نقطة قوة لديك وهي الهمة العالية، وكذلك من نقاط القوة لديك: الصبر والتحمل والجلد، وجدت أنك صاحب جلد وصبر وتحمل، وأنك لست من الذين إذا أصابتهم أية نكبة أو أخفقوا في أي مجال ينقطعون ويرجعون، فهذه نقطة قوة في طلب العلم لابد منها: التحمل والصبر.
وكذلك من نقاط القوة: وجود الوسائل: وجود من تدرس عليه، ووجود المكان الذي تدرس فيه، ووجود الكتب التي تدرسها، ووجود الوقت الذي يمكن أن تستغله في الطلب، فهذه من نقاط القوة المهمة.
ومنها: الذكاء، ومستوى الضبط والفهم الذي يؤهلك للطلب، فهذه قوة لديك تمتلكها.
ثم بعد هذا تدرس نقاط الضعف، ولابد أن تبحث عنها في نفسك، فإذا كان لديك من نقاط الضعف مثلاً: عدم ترتيب الأولويات، أو عدم البرمجة، أو إقبال على الدنيا ونهم على جمعها، أو لديك تكاليف كثيرة وأعباء كبيرة، أو دخلت في انشغالات تأخذ حيزاًَ كبيراً من وقتك وتفكيرك، أو نحو ذلك من نقاط الضعف، فهذه نقاط لابد أن تخطط لسدها، فتستغل نقاط القوة لسد ثغرات الضعف.(17/9)
شروط طالب العلم(17/10)
معصية الهوى
الشرط السادس: معصية الهوى: فالإنسان المتبع لهواه لا يمكن أن يكون طالب علم؛ لأن الهوى يدعوه إلى الراحة والنوم، والانشغال مع الناس فيما هم منشغلون فيه، وتلقي أخبار الناس، ومتابعة أحداث العالم، فهذه أمور يدعو إليها الهوى، فمن لا يستطيع التغلب على هواه لا يمكن أن يكون طالباً للعلم.(17/11)
العمل بالعلم
الشرط السابع: الاتباع أو العمل بما تعلمه الإنسان؛ لأن العلم حجة لك أو عليك، فهو سلاح ذو حدين، إذا لم يعمل به الإنسان كان حجة عليه، أخرج أبو عمر بن عبد البر عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: إن أخوف ما أخافه يوم القيامة أن يقال لي: أعلمت أم جهلت؟ فأقول: بل علمت، فيقال: ففيم عملت فيما علمت؟ وأخرج الدارقطني وغيره عنه أنه قال رضي الله عنه: إن أخوف ما أخافه يوم القيامة كتاب الله، ألا تبقى آية آمرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء! قد أتيتك آمرة فلم تأتمر بي، ولا آية زاجرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء! قد أتيتك زاجرة فلم تزدجر بي.
هذه هي حياة القلوب، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يخافون من هذا القرآن أن يكون خصماً لهم يوم القيامة، كل آية مرت على الإنسان أو سمعها أو قرأها ينبغي أن يخاف أن تلعنه وهو يقرؤها، فرب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه! وكذلك العلم كله، رب سامع للعلم! والعلم يلعنه؛ لأنه لم يعمل به، وقامت عليه الحجة به، ومن الأسئلة الأربعة: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن علمه ماذا عمل به؛ وعن ماله: من أين اكتسبه، وفيما أنفقه؟).
وهذه الشروط السبعة نظمها ابن هلال في بيت واحد: فقال له: تغرب وتواضع واترع وجع وهم واعص هواك واتبع (تغرب) هذا الشرط الأول وهو الغربة، (وتواضع): هذا الشرط الثاني، (واترع): أي: تكلف الورع، افتعل من الورع، (وجع، وهم، واعص هواك، واتبع).
وبعد تحصيل هذه الشروط وهي غير شاقة يحرص الإنسان على أجنحة العلم التي تعينه على الطلب.(17/12)
المخاطرة
الشرط الخامس من هذه الشروط هو: المخاطرة: والمقصود بها أن تهون على الإنسان نفسه في طلب العلم، حتى يسترخص حياته، ويسترخص ماله، ويسترخص علاقاته في سبيل الحصول على العلم، فموسى عليه السلام ما نال العلم حتى ركب في سفينة مخروقة في عمق البحر، وهذه من المخاطرة، وأهل العلم من هذه الأمة خاطروا في طلبه بالأسفار الشاقة والطويلة، أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: ما بقيت قرية ولا مدينة من مدن الدنيا يذكر فيها حديث إلا سافرت إليها على رجلي هاتين.
والبخاري رحمه الله سافر من العراق قاصداً عبد الرزاق بن همام الصنعاني بصنعاء، فلما وصل إلى مكة قيل له: مات عبد الرزاق، فرجع من مكة إلى البصرة، فقيل له: إن عبد الرزاق حي يرزق فرجع إلى مكة على رجليه حتى جاءه الخبر اليقين بأن عبد الرزاق قد مات، وكل أحاديث عبد الرزاق عند البخاري بواسطة، لكن أراد أن يسمع منه مباشرة، أراد علو الإسناد، فسافر سفرين: من العراق إلى مكة مع الرجوع من أجل علو الإسناد فقط! مخاطرات كبيرة، وأسفار شاقة جداً.
وسافر أنس بن مالك من البصرة إلى المدينة في طلب حديث واحد، وسافر جابر بن عبد الله من المدينة إلى الشام في طلب حديث واحد، وسافر أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى مصر في طلب حديث واحد.
ويقول المكي بن إبراهيم -وهو شيخ البخاري الذي يروي عنه ثلاثياته التي هي أعلى شيء في صحيحه-: كتبت بأصبعي هاتين عن ستين من التابعين، ولو علمت أنه يحتاج إلي لكتبت عن أكثر.
فهؤلاء الأئمة خاطروا مخاطرات كبيرة جداً في طلب العلم، وتعبوا ونصبوا في جمعه، فأحرزوا منه ما أحرزوا، فلذلك لابد أن تهون على الإنسان نفسه في طلبه، فـ زكريا الأنصاري رحمه الله فقد بصره في طلب العلم، كان يقرأ الليل كله ولم يكن ذا مال، وكان سراجه ضعيف الضوء، ففقد بصره بسبب ذلك، وعدد كبير من العلماء فقدوا بعض أطرافهم أو أجزائهم بالمخاطرة في طلب العلم.
إذاً: لابد أن تهون على الإنسان نفسه في الطلب، وهذا شرط للحصول عليه، فالدر والحجارة الكريمة لا ينالها من لم يخاطر في طلبها، ومن لم ينغمس في البحر ويخاطر لا يمكنه أن يصل إلى هذه اللآلئ.(17/13)
الجوع
الشرط الرابع: الجوع: الإنسان ما دام شبعاناً، راغباً في الدنيا، مقبلاً عليها، لا يمكن أن ينال هذا العلم، وقديماً يقول الحكماء: البطنة تذهب الفطنة، العلم يحتاج إلى فطنة ونباهة، والبطنة تذهب الفطنة، والشافعي رحمه الله يقول: ما رأيت سميناً عاقلاً إلا محمد بن الحسن الشيباني، فالغالب أن الإنسان إذا شغل أجهزته الداخلية بكثرة الأكل فإن ذلك سينقص تفكيره، وبالتالي لا يمكن أن يحرز المطلوب من العلم؛ ولذلك فإن موسى عليه السلام لما نال من العلم ما نال قال لفتاه بعد ذلك: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62]، فعندما جاع نال ما يريده من طلب العلم.(17/14)
الورع
الشرط الثالث من هذه الشروط: الورع: الورع هو اتقاء المحرمات والمكروهات والشبهات، والذين يعرفونه قديماً بأنه اتقاء المحرمات والشبهات، يرون أن المكروهات داخلة في الشبهات، في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)، وقد اختلف أهل العلم في تفسير الشبهات على خمسة أقوال: القول الأول: أن المشتبهات هي ما سكت عنه الله سبحانه وتعالى فلم يرد فيه تشريع، فكل مسكوت عنه في الأصل يرونه شبهة، وهذا القول ضعيف؛ لأنه ورد في أحاديث أخرى أن ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه، ففي الحديث: (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها).
القول الثاني: أن المشتبهات هي المكروهات التي لم يرد فيها نهي جازم، ومع ذلك نهي عنها.
القول الثالث: أن المشتبهات هي ما اختلط فيه الحلال والحرام، مثل المال الذي بعضه حلال وبعضه حرام.
القول الرابع: أن المشتبهات هي ما تعارضت فيه النصوص، بعض الأدلة تحله، وبعض الأدلة تحرمه، وتعارضت لدى الإنسان.
القول الخامس: أن المشتبهات هي ما اختلف أهل العلم في حكمه، فاشتبه عليهم، ولا يكون ذلك إلا على أساس الاختلاف في قوة الدليل أو في دلالته.
فهذه هي الأقوال الخمسة، والذين يرون دخول المكروهات في المشتبهات لا يذكرونها في تعريف الورع، فلا يقولون: اتقاء المحرمات والمكروهات والمشتبهات، بل يقولون: الورع هو: اتقاء المحرمات والمشتبهات؛ لأنهم يدخلون المكروهات في المشتبهات، والورع شرط لطلب العلم؛ لأن طالب العلم إذا كان لا يتورع فلا يمكن أن ينال هذا النور؛ لأن العلم نور، والنور لا يمكن أن يبقى في المكان الموحش المظلم، النور يبحث له عن الألوان البيضاء الناصعة التي تزيده إضاءة، كما قال الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35].
وقد ورد عن الشافعي رحمه الله أنه قال: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي(17/15)
الغربة
ذكر أهل العلم سبعة شروط لطالب العلم: الشرط الأول: الغربة: فالإنسان ما دام في بيته وبيئته وبين أهله لا يجد وقتاً وفراغاً للطلب، وهذه الغربة يمكن أن تكون حقيقية، ويمكن أن تكون شعورية، قد يعتزل الإنسان أهل الدنيا في زاوية من بيته، فهو غريب ولو كان بين أهله.
ودليل اشتراطها أن موسى عليه السلام لم ينل العلم الذي رغب فيه حتى قال: {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60].
ومن أدلتها كذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينزل الله عليه الوحي حتى حبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، أخرج البخاري في الصحيح قال: حدثنا يحيى بن بكير قال: أخبرنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد)، فهذا التحبيب الذي حبب إليه الأنبياء أسوة وقدوة؛ ليحبب إلى طالب العلم الخلاء كذلك، ولهذا سئل يحيى بن معين رحمه الله عن أحب شيء إليه في الدنيا، فقال: إسناد عالي وبيت خالي.
يريد أن يعتزل الناس، ويريد إسناداً عالياً لا يتطلب كثيراً من البحث في الجرح والتعديل، ولا يتطلب كذلك تعباً في الحفظ (إسناد عالي وبيت خالي).
فلابد من هذه الغربة، ويمكن أن يفعلها الإنسان في بيته -كما ذكرت- وبين أهله، فيتخذ وقتاً لطلب العلم، لا يدخل عليه فيه أحد، ولا يرى فيه وجه أحد، ولا ينشغل فيه بأي شيء من أمور الدنيا.(17/16)
التواضع
الشرط الثاني: التواضع: طالب العلم لا يمكن أن يكون متكبراً أبداً؛ لأن المتكبر لا يمكن أن يستفيد من أحد؛ لأنه يرى نفسه خيراً من غيره، فلا يمكنه أن يأخذ ما عند غيره، وكذلك الأستاذ لا يمكن أن يقدم ما جمعه بالتعب والنصب لمن لا يحترمه، فيحتاج إذاً إلى أن يتواضع له حتى يأخذ عنه، ودليل ذلك أن موسى عليه السلام قال للخضر عليه السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66]، فلم يقل: سأتبعك، بصيغة القرار، وإنما قال: هل أتبعك؟ بصيغة الاستفهام (على أن تعلمن) فجعل نفسه طالباً وهو كليم الله، (مما علمت رشداً) بعض ما علمت فقط، وهذا غاية التواضع.
وكذلك جبريل لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم: (أسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام)، فبدأ يسأل بهذا السؤال المؤدب، ويسأل عن أولويات الدين وكبرياته، وأهم ما يسأل عنه، هو هذه الأمور الأربعة التي سأله عنها: سأل عن الإسلام؟ وعن الإيمان؟ وعن الإحسان؟ وعن الساعة؟ إذاً: من شروط العلم: أن يتواضع الإنسان لمن يأخذ منه، وهذا التواضع يقتضي منه قبول الحق دائماً، فالكبر ينافي الفطرة، لأن الإنسان في الأصل ولد على الفطرة، والفطرة تفسد بالمفسدات، ومفسدات الفطرة كثيرة، عد أهل العلم منها: التكبر، والعناد، والتقليد للأهل أو للأصحاب أو للمشايخ، ومنها كذلك: الانغماس في اتباع الهوى، فهذه مفسدات الفطرة التي تفسد على الإنسان فطرته الأصلية.(17/17)
أجنحة العلم المعينة على طلب العلم(17/18)
الشيخ الناصح
الجناح الخامس من أجنحة العلم التي يحتاج إليها الطالب: الشيخ الناصح الذي يرتب له الأولويات، ويختار له الكتب، ويفهمه ما يحتاج إلى تفهيم، ويؤدبه بأدب العلم، فهذا يحتاج إليه الإنسان كثيراً في الطلب، فكم من إنسان لديه كل المؤهلات للطلب، ولكن لم يجد شيخاً ناصحاً يمكن أن يسير معه إلى نهاية مشواره في الطلب، فتكون هذه ثغرة تعقيه عن الطلب، فتجده يجلس عند شيخ في مرحلة من الطريق، ثم يتركه ويبحث عن شيخ آخر وهكذا تجده منقطعاً بين الشيوخ، ولن يضل إلى مراده، ولو أنه وجد عالماً ناصحاً واستمر معه فإنه سيصل به؛ ولذلك فإن مالكاً رحمه الله يقول: حفظنا من علم ابن شهاب، وتعلمنا من علم ربيعة، فابن شهاب حفظوا منه، حيث كانوا يروون عنه الحديث، لكن ربيعة هو الذي كان يسدده ويرشده، ويتابع دراسته ويعتني به، ويختار له الفنون، ويختار له المشايخ الذين يروي عنهم؛ فلذلك انتفع بعلم ربيعة أكثر من انتفاعه بعلم شيوخه في الرواية.(17/19)
الطالب المنافس
الجناح السادس من أجنحة العلم: الطالب المنافس: فالإنسان يحتاج إلى مذاكرة، والهمة تضعف، وعليه؛ يحتاج الإنسان إلى منافس له، وهذه المنافسة تارة تقع حتى من الأعداء، وقديماً قال الحكماء: عداي لهم فضل علي ومنة فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا هم بحثوا عن زلتي فاتقيتها وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا وقد تكون منافسته جارية من القرناء والأصدقاء، فيزداد الإنسان علماً بمنافستهم، ولاشك أن الإنسان بحاجة إليهم دائماً في الطلب؛ لأنه يكل ويتعب، وفي كثير من الأحيان يصاب بإحباط من المحيط الذي حوله، فإذا وجد ذوي الهمة العالية الذين يمشون معه في الطريق؛ زادوه نشاطاً واستمراراً وانتفع بمذاكرتهم.(17/20)
البلغة
الجناح السابع من أجنحة العلم: البلغة: أي: المال الذي يكون يسيراً، وليس كثيراً حتى يشغل الإنسان، ولا قليلاً أقل من حاجته، بل القدر الذي يكفيه لسداد أموره، كالحصول على الكتب ونحوها، فهذا مما يحتاج إليه الطالب، وهو من أجنحة العلم التي يوصل إليه بها.(17/21)
التدريب
الجناح الثامن من أجنحة العلم التي يحتاج إليها الطالب: التدرب على التعليم والتلقين في وقت الطلب، فكثير من الناس فرغوا طاقاتهم للطلب، ولم يتعودوا على التدريس، فلم يدرسوا مدة الطلب، فلما كبروا لم يكونوا صالحين للتدريس، والتدريس مهارة مختصة لا يتقنها إلا من تدرب عليها.
فكثير هم أولئك المتقنون لكثير من العلوم لكن لا يستطيعون تقديم الدروس، ولا يستطيعون أن يشرحوا أي متن من المتون، وكثير هم أولئك الذين يعرفون كثيراً من المعلومات لكن لا يستطيعون توصيلها للناس، لأن تعبيرهم قاصر، أو ليست لديهم أساليب التفسير، وكثير هم أولئك الذين يعلمون المعلومات، ولكن لا يستطيعون الخطابة على المنابر، لضعفهم في شخصياتهم، فيحتاج الطالب في مدة الطلب أن يتعود على التدريس، وإذا وجد من يعلمه ذلك فبها ونعمت، ولو حتى مع زملائه في المذاكرة، وإن لم يجد فليبحث عن شيء يعلمه، كما كان الأعمش يتخذ تيساً فيحدثه ويشرح له ويقول: أفهمت؟ وهو تيس! فأراد أن يتعود على مهارة التعليم، حتى ولو لم يجد من يعلمه إلا هذا التيس.
فينبغي للطالب أن يتأهب لمثل هذه الأمور، وأن يتهيأ للخطابة والتعليم، وتقديم الكلمات، وتلخيص الدروس في وقت الطلب حتى يفلح عند تقديمها، ورب شخص ليس لديه من العلم إلا اليسير، ولكن بارك الله فيه؛ لأنه يزكيه ويقدمه، فينتفع الناس بعلمه ولو كان شيئاً يسيراً، وكم تعرفون من الدعاة الذين هم في عداد العوام من الناحية العلمية ولكن نفع الله بهم؛ لأنهم يزكون ما لديهم، فيقدمون ما عندهم ولو باللهجة العامية، ولو بالمستوى الضعيف، لكن ينفع الله بهم!(17/22)
الفهم
الجناح الرابع من هذه الأجنحة هو: الفهم، وهذا الفهم قسمان: قسم فطري خلقي، فالقرائح يخلقها الله كما يخلق أبدان الناس، فيركب في كل إنسان منها ما شاء، والقسم الثاني: مكتسب، فالإنسان بربطه بين المعلومات بتسلسلها، ومجالسته للناس، وازدياده من العلم يزداد فهماً فيه؛ ولذلك فإن كثيراً من الذين كانوا من أهل العلم في المرويات إذا وصلوا إلى التطبيق يقعون في أخطاء، ما لم يشاهدوا أهل التطبيق، فـ أبو حنيفة رحمه الله -وهو من هو في جلالة قدره في العلم، وكان سيد أهل العراق وإمامهم في عصره-ذهب إلى مكة يريد الحج، فجاءه طفل صغير من أهل مكة، فقال له: هل لك فيمن يدلك على مناسكك مقابل درهم أو شيء يسير جداً؟ قال: لا حاجة بي إليك، فجعل الطفل يتبعه، فلما دخل المسجد الحرام أراد أن يحيي المسجد بركعتين، فقال الطفل: ما أجهل هذا الشيخ بالسنة! ألا يعلم أن تحية مسجد مكة الطواف؟ فكانت واحدة.
ثم بعد هذا أراد الطواف فما عرف من أي أركان البيت يبدأ، ما عرف ركن الحجر، فجاءه الصبي فقال: ما أجهل هذا الشيخ بالسنة! ألا تدري أن الطواف يبتدئ من ركن الحجر؟! ثم بعد أن أنهى الطواف أراد أن يذهب إلى الصفا فما عرف مكان الصفا، فإذا بالصبي هو الذي يدله على ذلك، ثم كان يظن أن السعي مثل الطواف، الشوطان شوط واحد، من الصفا إلى الصفا شوط واحد، فدله الصبي أن الشوط من الصفا إلى المروة، ومن المروة إلى الصفا شوط آخر.
ثم بعد أن أنهى سعيه جاء إلى الحلاق، فجعل يساومه بكم يحلق له، فالصبي دله على أن هذا من الأمور التي لا تنبغي المساومة فيها، فهو نسك وعبادة، فكانت الأخرى.
ثم ولاه جانبه الأيسر فقال له الصبي: وله جانبك الأيمن، ففعل، فأعطى الصبي المبلغ وأضعافه؛ لأنه دله على هذه الأمور التي كان يجهلها من ناحية التطبيق، مع أنه عالم بها وبتفاصيلها، لكنه من ناحية التطبيق خفيت عليه، فاستفاد من علم هذا الصبي الصغير.
وجانب الفهم المكتسب يزيده التعبد لله سبحانه وتعالى، فالإكثار من ذكر الله يزيد البصيرة نوراً، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه لتستغلق علي المسألة فأجلس وأذكر الله فتفتح لي، وكان يجلس فيكثر من الاستغفار إكثاراً شديداً ويقول: يا معلم داود! علمني، ويا مفهم سليمان! فهمني، فيسهل ما استغلق عليه من المسائل.
فهذا الفهم المكتسب من أسبابه التعلم والمراجعة والمذاكرة ومجالسة أهل العلم، والتطبيق للمسائل العلمية.(17/23)
الوقت
الجناح الثاني من أجنحة العلم هو: الوقت، فالعلم يحتاج إلى أن يتفرغ له الإنسان، وقد قال ابن عيينة رحمه الله: إن العلم لن يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، وليس المقصود بكلك: جميع الوقت، بل المقصود الوقت الذي تخصصه للعلم اجعله للعلم خالصاً ليس فيه شيء آخر، فإذا كنت مشغولاً في وقت الطلب بإصلاح السيارة، أو مشغولاً بمتابعة الهاتف، أو مشغولاً بمتابعة وسائل الإعلام؛ فلا يمكن أن تفهم ما تطلبه ولا أن تحفظه، فإذاً لابد أن يكون الوقت المخصص للعلم، ليس فيه مشاريع أخرى، لابد أن يكون خالياً للعلم ليس فيه أي أهداف أخرى، ولا يطلب فيه تحقيق أي مآرب أخرى.(17/24)
الحفظ
الجناح الثالث من هذه الأجنحة هو: الحفظ: فالعلم لابد فيه من الحفظ لمتونه، فإذا كان الإنسان فاهماً لكل شيء ولكنه لا يحفظه فهو بذلك يكون آلة فقط، ليس معه رصيد ولا أساس، فهو مثل جهاز الهاتف الذي ليس له شريحة؛ فلذلك لابد أن يحفظ الإنسان متون العلم وكتبه، ولاحظوا أن الذين يحفظون القرآن يتميزون على من سواهم فهم أولى بالإمامة، (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهم أولى كذلك بالتقدم في أمر الدين: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، وينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)، والذين يحفظون السنن، ويحفظون كتب العلم، هم الذين يحفظونه على الأمة، وهم الذين مثل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقعة التي أمسكت الماء على الناس فسقوا ورعوا وزرعوا، وهذه لاشك أنفع وأكثر فائدة من غيرها؛ ولذلك فإن الشافعي رحمه الله يقول: علمي معي حيث ما يممت يتبعني قلبي وعاء له لا جوف صندوق إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق وابن حزم رحمه الله يقول: فإن يحرقوا القرطاس لا يحرق الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري يسير معي حيث استقلت ركائبي ويمكث إن أمكث ويدفن في قبري فحفظ العلم والمذاكرة فيه حتى يرسخ في النفوس من أجنحة العلم التي يحتاج إليها الطالب حتى يصعد بها.(17/25)
الإخلاص والتقوى
أجنحة العلم التي يحتاج إليها الطالب ليصل إلى المستوى المطلوب في دراسته كثيرة، وأول هذه الأجنحة: الإخلاص لله سبحانه وتعالى وتقواه؛ لأن العمل الذي يقرب إلى الله ويقصد به وجهه الكريم؛ إذا خلا من الإخلاص لم يتحقق فيه مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، فيكون مغايراً لقناعة الإنسان، فشهادة أن لا إله إلا الله تقتضي أن يكون العمل خالصاً لوجهه الكريم، وشهادة أن محمداً رسول الله تقتضي أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله، وإذا خلا العمل من الإخلاص ومن الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان عملاً مردوداً على صاحبه، لا يمكن أن يقبل بوجه من الوجوه، فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، فلذلك لابد من الإخلاص في الطلب، ولاشك أنه في كثير من الأحيان يغفل طلاب العلم عن الإخلاص، فيشعرون أنهم يدرسون من أجل النجاح في الامتحان، أو من أجل التفوق والتميز على قرنائهم، أو حتى من أجل بعض المآرب الدنيوية، وكل هذه الأمور تحصل للطلاب، لكن على الإنسان أن يحقق إخلاصه، وأن يراجع نيته في كل فترة، لابد أن يراجع نفسه عند بداية دراسته، وعند دخوله للقسم، وعند سماعه لأية محاضرة، وعند فتحه لأي شريط، وعند مطالعته لأي كتاب، فيراجع نيته ويجدد إخلاصه لله سبحانه وتعالى، فقد قال ابن عيينة رحمه الله: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، والعلم النافع مذكر بالله حتى لو دخلته بنية أخرى ستذهب تلك النية، فلابد أن تراجع نيتك وأن تجددها في كل وقت، وهذا مما يبلغ به الإنسان الدرجات العلى؛ لأنه كلما ازداد تقىً لله كلما فتح الله له خزائن من خزائن العلم لا يمكن أن ينالها بطاقته وجهده، فالله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، وهذا الفرقان يميز الإنسان به بين الحق والباطل، وتظهر له الأمور على حقيقتها؛ ولذلك فالتقوى سبب لنيل الإنسان لعلوم لم يكن لينالها بجهده، ولا يصل إليها في عمره، وليس له شيخ يعلمه إياها، وليس فيها كتب ومؤلفات، وليس عنده الوسائل لنيلها، لكن بتقواه لله تفتح له تلك العلوم؛ ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى آتى الخضر من لدنه علماً، وامتن على النبي صلى الله عليه وسلم بهذا العلم اللدني فقال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]، والذين يلتمسون ما عند الله بتقواه والتقرب إليه عرفوا من أين تؤكل الكتف، وعرفوا الباب فدخلوا منه فاستقاموا.
ولاشك أن هذا الإخلاص تشوبه الشوائب، وأن التقوى تقع فيها الخدوش بمخالطة الناس والأهواء وبغير ذلك، لكن لابد أن يعالج الإنسان ذلك، وأن يستمر على الطريق ولا يتراجع، فيحاول إصلاح نفسه مع طول الوقت.(17/26)
ترتيب الأولويات
بعد تحصيل الشروط والأجنحة يبدأ الإنسان في ترتيب أولوياته، ولاشك أن هذا الترتيب يحتاج إلى عناية كبيرة، وهو مما تختلف فيه مناهج المؤسسات، وتختلف فيه مناهج المشايخ، فليس لترتيب العلوم منهجية موحدة، بعض الناس يبدأ بعلوم الآلات ويترك علوم المقاصد؛ حتى يحرز من الآلات ما يستطيع به فهم المقاصد، ولكن هذا فيه خطر؛ لأنه قد ينقطع عن الطلب فيكون عارفاً فقط بالنحو والصرف والبلاغة، ولم يعرف شيئاً من الفقه ولا من الحديث! وهذه مشكلة.
والعكس في منهجية أخرى يبدأ الطالب بعلوم المقاصد ثم بعد ذلك تأتي الآلات، لكن في كثير من الأحيان يمتلئ الطالب بالمقاصد، وتبقى ثغرة كبيرة جداً فقدها من الوسائل، فيحتاج إذاً إلى الاعتدال والموازنة، فيأخذ من كل علم طرفاً في البداية، وأهل العلم ألفوا في كل علم كتباً متفاوتة الحجم، كتب صغيرة للمبتدئين، وكتب متوسطة، وكتب كبيرة جامعة، فلابد أن يبدأ الإنسان من كل علم بكتاب من المختصرات أولاً؛ حتى يأتي ويغطي المساحة التي يريد دراستها، والعلوم الشرعية وآلاتها تصل إلى خمسة وأربعين علماً فقط، أي: خمسة وأربعين تخصصاً، فكل علم من هذه العلوم يأخذ الإنسان فيه كتيباً صغيراً أو مختصراً فيقرؤه، وإذا حفظه فهذا أفضل وأكمل، ثم بعد ذلك يأتي التوسع، وسيجد نفسه قادراً على المتابعة، وإذا استطاع أن يأخذ من كل علم عدداً من الكتب يحفظها فيه؛ فسيكون أهلاً حينئذ للازدياد حتى يصل إلى مستوى الاجتهاد، وإذا لم يستطع فعلى الأقل يكون لديه عدد من الكتب في العلوم السياسية، فهذا من الأمور التي لابد منها.(17/27)
أهمية التأصيل الشرعي بالأدلة
بعد اللغة والفقه يحتاج الطالب إلى التأصيل الشرعي بالأدلة، فاليوم كثرت الفتن والخلافات بين الناس، وهذه الخلافات ليس في الأمة معصوم يمكن أن يحسمها، فالذي يمكن أن يحسمها هو الدليل، ومن تمسك بالوحي فقد اعتمد على ركن ركين، فلذلك يحتاج الإنسان إلى تأصيل لجزئيات معلوماته الفقهية، وأن يكون معه حجج، وهذا التأسيس يكون بأن يأخذ الطالب كتاباً من كتب أدلة الأحكام من القرآن، ثم كتاباً من أدلة الأحكام من الحديث مختصراً فيبدأ به، فطالب العلم الذي يريد التأسيس البدائي في أدلة الأحكام من القرآن عليه أن يأخذ كتاب الإكليل للسيوطي مثلاً، واسمه: الإكليل في استنباطات التنزيل، وهو كتاب مختصر جداً، لكن فيه الاستنباطات من خمسمائة آية هي آيات الأحكام.
وكذلك يأخذ كتاباً من أدلة الأحكام من الحديث مثل: منتقى الأخبار، أو بلوغ المرام، أو نحو ذلك من الكتب، فيكون محيطاً بهذه الأحاديث حافظاً لها، ويعرف ما فيها من العلل، ويعرف تخريجها، ويستطيع الاعتماد عليها في استنباطه، وإذا وجد من ينتقي له الأصح، ويسقط ما كان ضعيفاً منها، فهذا جيد، فأهل العلم عندما يؤلفون في أدلة الأحكام يجمعون ما صح وما لم يصح لديهم؛ لأنه من المعلوم أن قصدهم بالصحيح والضعيف الظن فقط، وهذا الغالب، ولذلك قال العراقي رحمه الله في الألفية: وفي الصحيح والضعيف قصدوا في ظاهره لا القطع والمعتمد وإمساكنا عن حكمنا على سند بأنه أصح مطلقاً وقد خاض به قوم فقيل مالك عن نافع فيما رواه الناسك مولاه واختر حيث عنه بسند الشافعي قلت: وعنه أحمد فلذلك يقصدون بقولهم: هذا صحيح أو هذا ضعيف: الظاهر الذي ظهر لنا منه، وإلا فيمكن أن تكتشف فيه علة، ولو كان ظاهره الصحة، ويمكن أيضاً أن يكون ما عللناه به وضعفناه به لا يضر، فيكون صحيحاً من وجه لم نطلع نحن عليه، فلذلك يجمعون في كتبهم -في أدلة الأحكام- الصحيح والضعيف، ولكن في كثير من الأحيان يحكمون عليها، فالحافظ ابن حجر مثلاً في البلوغ في كثير من الأحاديث يحكم عليها، يقول: إسناده جيد أو ضعيف، فيحتاج الطالب إلى حسن الاختيار في هذا المجال.(17/28)
أهمية تزكية النفس
من الأولويات في حياتنا المعاصرة ما يتعلق بالتربية، فلابد أن يكون الإنسان لديه من الدوافع التربوية ما يدعوه للاستمرار، ويتعلم كيف يعالج نفسه؟ فالنفس مثل الدابة إذا أهملها الإنسان كانت حروراً شروداً، وإذا رباها انقادت له، فيحتاج الإنسان إلى تربية نفسه، ثم بعد ذلك يربي أهل بيته وطلابه ومن يؤثر فيهم، وهذه التربية تحتاج في الواقع إلى تأسيس قوي من الإيمانيات، والروحانيات، وإحسان التعامل مع الله، والدافع العقدي الذي يدفع الإنسان للعمل من خلال عقيدته، حتى يرتبط كل شيء بعقيدة الإنسان، فهذا الجانب التربوي مهم جداً في التأسيس لدى الإنسان، وهذا الجانب يجده الإنسان في كتب متخصصة، ولابد أن يكون لديه تأسيس منها، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في إحياء علوم الدين للغزالي رحمه الله: كتاب لا يستغني عنه طالب علم، ومع ذلك حذروا من مواضع؛ لأن فيه كثيراً من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وفيه أيضاً بعض الاصطلاحات والأمور التي لا يحتاج إليها طالب العلم، لكن مع ذلك فيه أمور من نكت الشريعة ومعانيها ما يحتاج إليها الإنسان في التربية، مثل: معاني الصلاة، وقضايا الطهارة، وقضايا الإخلاص لله، وقضايا معالجة النفس، وقضايا أمراض القلوب، مثل: الحسد والبخل، وغير هذه الأمور مما لا يستغني عنها الطالب.
بعد أن يضع الإنسان لنفسه هذه المنهجية، ويختار المختصرات التي سيتقنها، يرتبها على حسب ما تيسر له، فإذا كان مثلاً في مكان ليس فيه من يعرف علماً من العلوم فإنه يؤخر ذلك العلم إلى وقت آخر، فاستغلال الباب المفتوح أولى من البحث في الباب المغلق.(17/29)
أهمية الفقه
من الأولويات التي لابد من العناية بها في هذا الزمان: الفقه الذي يحل مشكلات الناس، ويتدخل في كل جزئيات حياتهم، وهو من العلوم التي يعيشها الناس، فالناس بحاجة إلى ما يصلح طهارتهم وصلواتهم، وبحاجة إلى ما يصحح عقودهم وأنكحتهم وبيعاتهم، وهم بحاجة إلى متابعة دقيقة لواقعهم، ولا يكون ذلك إلا بالفقه، فكثير من طلاب العلم الآن إذا عرضت له مشكلة حتى في طهارة زوجته من حيضها ونفاسها لا يستطيع أن يحل لها المشكلة، ويظنون أن هذا من الأمور التي ليست مهمة في الدين، وبعض الناس يتندر على مسائل الحيض والنفاس، ويرى أن هذه المسائل لا يشتغل بها الناس كثيراً، لكن الواقع أن هذا ما يعيشه الناس، ومشكلاتهم اليومية هي هذه، فإذا لم يكن للناس حلول فيها، ولم تستطع أن تجد حلاً لأقرب الناس إليك، في أدنى مشكلة، فكيف تحل أمر الأمة بكاملها؟! إذاً: يحتاج الطالب إلى التأسيس في مجال الفقه، والفقه قد توسع كثيراً، فأصبح فيه عدد كبير من المذاهب، وفي كل مذهب عدد كثير من الكتب، ولا يستطيع الإنسان الإحاطة بذلك، لكن بحسبه في البداية أن يأخذ مختصراً واحداً من مذهب واحد، فإذا أتقنه يقرأ بعد ذلك من الكتب الفقهية شرحاً لذلك المختصر الذي لديه، وسيجد فيه توسيعاً لمادته، سواءً كان من مذهبه أو من مذهب آخر.(17/30)
أهمية علوم اللغة العربية
من أهم ما يشتغل به الإنسان في العصر الذي نحن فيه في بداية الطلب: ما يتعلق بلغة العرب التي بها نزل القرآن، وبها تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإنسان الذي ليس لديه تأسيس لهذه اللغة لا يستطيع التلقي، ولا الفهم عن الله، ولا الفهم عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فالناس الآن لم يعد أحد منهم عربياً بالسليقة، بل كلهم يدرسون أن الفاعل مرفوع، وأن المفعول منصوب، وأن المضاف إليه مجرور، كل الناس يدرسون هذا، ولا يستطيع أحد أن يتكل على سليقته في عالمنا المعاصر، فإذا كان الحال كذلك احتاج الإنسان إلى أن يأخذ من لغة العرب بعلومها المختلفة مبادئ تأسيسية، وهذه المبادئ لابد أن يبدأ فيها بمفردات اللغة، وقديماً كان الناس يحفظون في مفردات اللغة دواوين العرب، والوقت اليوم ضيق عن متابعتها، وفيها كثير من المضامين السيئة، نعم؛ فيها بعض الشعر الذي فيه مروءات، وفيه شهامة، يحض على الكرم والضيافة والشجاعة والأخلاق الحميدة، لكن منها أيضاً أشعار أخرى مضامينها سيئة، وكذلك بعض الدواوين الإسلامية، وقديماً كان بعض أهل العلم يذكرون أن ديوان غيلان بن عقبة المنقري التميمي فيه ثلث مفردات اللغة العربية، ولكن الواقع أن الديوان أيضاً فيه ما في أشعار الجاهليين، فيه كثير من الغزل، والمدح لأقوام قد لا يستحقون ذلك المدح كله، وفيه معاني كبيرة يحتاج إليها الإنسان في تأسيس لغته وتقويم لسانه، وفيه ألفاظ يحتاج إليها الإنسان كذلك في فهم الكتاب والسنة، وقد كان الأولون يحفظون أشعار الناس جميعاً، ف عبد الله بن العباس رضي الله عنهما كان لا يسمع شعراً إلا حفظه؛ ولذلك كان ترجمان القرآن، واشتهرت مسائل نافع بن الأزرق رئيس الخوارج لما أتاه في مكة يسأله عن تفسير كتاب الله، فكان كلما سأله عن كلمة بين له معناها، فيقول: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ فيقول: نعم، أما سمعت قول فلان فينشده، فمنها أنه سأله عن آية: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] ما معنى مجذوذ؟ قال: غير مقطوع، قال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، أما سمعت قول الحارث بن حلزة اليشكري: فترى خلفها من الرجع والوقع منيناً كأنه إهباء فكان يسأله عن المسائل ويسأله عن شواهدها من اللغة، وبينما هو معه إذ جاءه عمر بن أبي ربيعة المخزومي وهو شاب من قريش في حداثة سنه، فسأله ابن عباس عن آخر ما قال من الشعر، فأنشده قصيدته: أمن آل نعم أنت غادٍ فمبكر غداة غد أم رائح فمهجر بحاجة نفس لم تقل في جوابها فتبلغ عذراً والمقالة تعذر تهيم إلى نعم فلا الشمل جامع ولا الحبل موصول ولا أنت مقصر وهي ثمانية وستون بيتاً، فأنشدها كاملة فحفظها ابن عباس، فقال له نافع بن الأزرق: لله أنت يا ابن عباس! نضرب إليك آباط الإبل في طلب العلم فتعرض عنا، أو فتضجر بنا، ويأتيك شاب حدث من قريش ينشدك سفهاً فتسمعه! فقال ابن عباس: ما سمعت سفهاً، فقال: بلى أما سمعت قوله: رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيخزى وأما بالعشي فيحصر فقال: ما هكذا قال، إنما قال: رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصر ولو شئت أن أعيدها عليك لفعلت، فلما كان من الغد سأله عن قول الله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه:118 - 119]، قال: ما معنى تضحى؟ قال: تبرز للشمس، أما سمعت قول المخزومي بالأمس: رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصر فلابد من التأسيس في اللغة.(17/31)
أهمية مطالعة الكتب
مرحلة أخرى لطالب العلم، وهي ما يستفيده الإنسان مطالعةً، فالإنسان بعد التأسيس أصبح مشاركاً في بناء نفسه، وليس كل العلوم يجد الإنسان وقتاً لقراءتها على الشيوخ، والكتب هي شيوخ موجودة معنا، لكن شيوخ من جنس آخر كما قال الحكيم: لنا جلساء لا يمل حديثهم ألباء مأمونون غيباً ومشهدا يفيدوننا من علمهم علم من مضى وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا فلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا فإن قلت أحياء فلست بكاذب وإن قلت أموات فلست مفندا فهذه الكتب هي في الواقع شيوخ تأخذ عنها، وإن كان فيها بعض الخطأ، فإنه لا تخلو الكتب من الخطأ، فقد قال البويطي رحمه الله: لما أكمل الشافعي كتابه ناولينه فقال: خذ هذا الكتاب على خطأ كثير فيه، قلت: يا أبا عبد الله! أصلحه لنا، قال: كيف وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، أبى الله العصمة إلا لكتابه؟ الكتاب المعصوم الوحيد الذي ليس فيه أي خطأ هو كتاب الله، وما سواه من كتب لابد أن يوجد فيها أخطاء، لكن مع هذا التأسيس يجد الإنسان ما يصحح به الخطأ، ولا ينبغي أن يعتمد على الكتب الأصلية دون رواية، وأما الشروح فقد لا يحتاج فيها إلى رواية، لكن متون الكتب وأصولها لابد من روايتها، أي: سماعها على شيخ، وذلك الشيخ أيضاً لابد أن يكون له رواية فيها، فتبحث هل لديه رواية في الكتاب الفلاني؟ هل سمعه من شيخ؟ هل قرأه على شيخ؟ لأن كثيراً من الشيوخ يخطئون في قراءة بعض الكتب التي لم يرووها ولم يسمعوها عن شيخ، فيقعون في أخطاء كبيرة جداً، ولذلك قال أبو حيان رحمه الله: يظن الغمر أن الكتب تهدي أخا فهم لإدراك العلوم وما يدري الجهول بأن فيها مزالق حيرت ذهن الفهيم إذا رمت العلوم بغير شيخ ضللت عن الصراط المستقيم وتلتمس الأمور عليك حتى تصير أضل من توما الحكيم فيحتاج الإنسان إذاً إلى رواية لها، وتقويم لسانه في قراءتها.(17/32)
آداب المطالعة
يحتاج الطالب إلى منهجية في المطالعة، ومنهجية المطالعة هي ألا يشوش الإنسان فكره إذا أراد قراءة كتاب ما، وإذا بدأ المطالعة في كتاب لابد أن يكمله، ولابد أيضاً أن تكون هذه المطالعة مطالعة علمية، فالمطالعة غير العلمية هي أن تقرأ في كتاب وليس لديك قلم ولا ورقة، ولا تحفظه، بل تقرأه فقط، فلا تحرز منه فائدة، والمطالعة العلمية هي أن تجعل لك دفتراً لكل كتاب تطالعه، وتضع فيه اسم الكتاب، وتبدأ الصفحة الأولى بتاريخ، وتكتب: بدأت القراءة الساعة كذا لليوم الفلاني من الشهر الفلاني من العام الفلاني في الكتاب الفلاني من الصفحة كذا، حتى تكمل ما تطالعه منه، وتقسم الدفتر إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: للزوائد النادرة، والأشياء العجيبة التي استفدتها من الكتاب، ولا تكتب الأشياء المكررة والموجودة في الكتب كلها؛ لأنها موجودة في الكتب، ولا فائدة من نسخك لكتاب مطبوع، لكن تكتب الفوائد النادرة، والأشياء الغريبة جداً.
القسم الثاني: لما فهمته أنت من الكتاب مما ليس فيه، وهو ما يسمى: قراءة ما بين السطور، فتستفيد معلومات بفهمك وربطك للمعلومات بمعلومات سابقة لديك، فتكون بذلك استفدت من هذا الكتاب فهماً ومقارنة، فتكتب المعلومات التي استفدتها حتى لا تضيع منك، وستبقى مادة لديك في المستقبل لكتبك ودروسك التي أنت فهمتها من الكتب، ولو لم تكن مخصوصة ولا موجودة فيها.
القسم الثالث: للإشكالات: كل كتاب قرأته لابد أن يعرض لك فيه كثير من الإشكالات، بعضها ناشئ عن أخطاء مطبعية، وبعضها ناشئ عن أخطاء من المؤلف نفسه، وبعضها ناشئ عن عدم فهم منك أنت، وبعضها ناشئ عن اختلاف في الدلالة، فدلالة اللفظ الواحد قد يكون مشتركاً، وقد يكون مجازاً، وقد يكون مستعملاً في وقت المؤلف استعمالاً شائعاً، وفي وقتك غير ذلك.
فتحتاج إلى تقييد هذه الإشكالات للرجوع إليها في مراجع أوسع، أو لسؤال من تلقاه من أهل العلم عنها، فالاستشكال علم كما قال أهل العلم، فإذا استشكلت شيئاً فقد ازددت علماً؛ لأنك ستبحث عنه، وسيقتضي ذلك منك اطلاعاً على ما لم تكن لتصل إليه لولا ذلك الإشكال، وكم من شوارد علمية نالها الإنسان ولم يكن يبحث عنها، وإنما بحث عن مسألة أخرى دونها، ففتح الكتاب وقرأ فاستفاد علماً آخر أكثر مما كان يبحث عنه! فإذاً: ستقسم دفتر المطالعة لكل كتاب إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: تقييد النوادر التي هي مخصوصة في الكتاب.
القسم الثاني: تقييد ما فهمته أنت ولم يكن مدوناً في الكتاب.
القسم الثالث: للإشكالات التي عرضت لك أثناء قراءتك للكتاب.
وتستمر على هذه المنهجية حتى تكمل ذلك الكتاب، وتحتفظ بالدفتر، ثم تأتي إلى كتاب آخر.
ومن المهم جداً في المطالعة العلمية: أن تكون لديك مقارنة بين الكتب المتقاربة، مثلاً إذا كنت تدرس سورة يونس، فتريد مطالعة كتب التفسير في هذه السورة، والمقطع الذي لديك هو من الآية رقم واحد إلى الآية رقم عشرة مثلاً، فستأخذ من كل مدرسة من مدارس التفسير تفسيراً أو اثنين أو ثلاثة، فتتطلع على ما فيها، فيغنيك بعضها عن بعض، كما هي قاعدة أهل الفرائض: تكتفي بأحد المثلين، وبأكبر المتداخلين، وبحاصل ضرب أحد المتباينين في الآخر، وعندها يتباين الرءوس والسهام بحاصل ضرب أحدهما في الآخر، فتنظر بهذه الأنظار إلى الكتب، فمثلاً: إذا قرأت في كتب التفسير بالأثر، ستجد أنهم ينقلون مثلاً عن ابن عباس كذا، وعن مجاهد كذا، وعن عكرمة كذا، وعن سعيد بن جبير كذا، وعن الضحاك كذا، وعن مقاتل كذا، وعن زيد بن أسلم كذا، وعن عبد الرحمن بن زيد كذا، وعن محمد بن كعب القرظي كذا، وعن أبي العالية كذا، وعن قتادة بن دعامة السدوسي كذا.
وهذه الآراء غالباً تكون متداخلة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن تفسير السلف إنما يقصد به المثال، كما لو سألت عن الخبز: ما هو؟ فرفعت خبزةً فقلت: هذا الخبز، فليس معناه أنك تزعم أن الخبز محصور فيما رفعت، بل المقصود أن تبين له فرداً من أفراد الماهية ليفهم به الماهية، وإذا سألك إنسان عن تفسير قول الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:1 - 4]، قال: ما هو القلم؟ فرفعت قلماً وقلت: هذا القلم.
ليس معناه أنك تزعم أن القلم الذي علم الله به هو هذا، بل المقصود أنك تريد شيئاً يفهم به المقصود، ويفهم به ما يطلب فهمه، وهكذا كان تفسير السلف، ومن هنا لم تتبع الروايات، ولم تتعب في تتبعها، ثم تأخذ بعض التفاسير التي تعتني بالرأي، ثم تأخذ بعض التفاسير الفقهية، ثم تأخذ بعض التفاسير اللغوية، وتأخذ بعض تفاسير المتأخرين، فتجمع نتيجة الجميع، فتكون ملخصة لديك تستطيع تقديمها في درس في تفسير الآيات العشر الأول من سورة يونس، ثم تذهب للمقطع الثاني وهكذا.
وإذا كنت مدرساً فستكون لديك مادة جاهزة لكتاب أو لمقرر علمي، وستختصر بها على الطالب كثيراً من المتابعات، وبالأخص إذا كنت صاحب توثيق، فكل قول تنقله من كتاب توثيقه بالصفحة والجزء، حتى يرجع إليه إذا وقع فيه إشكال في الطباعة أو في الخط، فإذا كنت صاحب توثيق فستنفع الطلاب، وستختصر عليهم المسافات والوقت.
وبالإمكان أن يرجع الطالب إلى بعض الورقات التي أعدت في منهجية الطلب، وفيها بعض الكتب المقترحة لطلاب العلم في التأسيس في كل علم من هذه العلوم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(17/33)
كم ترك الأول للآخر
الغريب أن هذه الكتب جميعاً فيها أماكن تبقى مصونة، وأرزاق تبقى مدخرة لبعض المتأخرين، فيفتح الله لهم فيها ما كان مسدوداً على من سواهم؛ ولذلك قال ابن مالك رحمه الله في مقدمة التسهيل: وإذا كانت العلوم منحاً إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين.
ويقول أحد علمائنا رحمه الله: وقسمة الحظوظ فيها وادخلوا فهم المسائل التي تنعقل فيحرم الذكي بالفهم الجلي إن لم يكن من حظه في الأزلي فالقضية كلها أرزاق، ومن هنا فقد يرزق المتأخر فهماً لم ينله المتقدم، وأنتم إذا دخلتم أية مكتبة ستجدون فيها كثيراً من كتب التفسير، فيعجب الإنسان لماذا لا يستغني الناس بتفسير فلان عن بقية التفاسير؟!
و
الجواب
أن بعضها لا يغني عن بعض؛ لأن الله سبحانه وتعالى أنزل إلينا هذا القرآن بأساليب متنوعة مختلفة، وجعل فيه رزقاً لكل جيل من أجيال هذه الأمة، كل جيل يفهم منه ما لم يفهمه من قبله، فلذلك لو أردت أن تستغني فقط بتفسير ابن جرير الطبري المتوفى سنة ثلاثمائة وعشر من الهجرة، أو أن تكتفي فقط بتفسير أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي المتوفى سنة ثلاثمائة وثلاثة، أو أن تكتفي فقط بتفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي المتوفى سنة ثلاثمائة وسبعة وعشرين؛ فإنك حينئذ ستقتصر على ما كان لدى السلف، وقد تجدد بعدهم الكثير من الفهم الذي لم يصلوا إليه في القرآن، وهي أرزاق، ولو كان السابقون لخصوا وأخرجوا الزبدة من الكتب لما بقي للمتأخرين أثر وفائدة، بل لأمكن الاستغناء بتآليف المتقدمين عن المتأخرين، وهذا لا يقول به أحد، فلذلك احتيج في كل عصر من العصور إلى مؤلفات جديدة، ولا يزال الوقت دافعاً إلى ذلك، وبعض الناس اليوم إذا رأى من يؤلف أي كتاب يزهده فيه فيقول: لماذا تؤلف في هذا وقد ألف فيه السابقون؟ ولكن الواقع أن لكل أهل عصر مفاهيمهم، وهذا يقتضي منهم أن يفهموا كثيراً مما كان غامضاً، ومما يكون متشابهاً من متشابهات القرآن، فالقرآن {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7]، وهذا التشابه يزول مع الزمان، قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس:39]، فـ (لما): هي في الماضي المنقطع، معناه: أنهم سيأتيهم تأويله، وهذا يقتضي بالضرورة أنه سيشرح لهم، وتأويله: هو بروزه للأيام ومشاهدة معانيه، كما قال ابن رواحة رضي الله عنه: خلوا بني الكفار عن سبيله نحن ضربناكم على تنزيله واليوم نضربكم على تأويله أي: بروزه للأيام، ولذلك نفهم اليوم في كثير من آيات القرآن ما لم يفهمه السابقون والسلف الصالح، وليس ذلك تفضيلاً للمتأخرين على المتقدمين، بل هو رزق الله، كما رزقنا آلات ووسائل لم تكن لديهم، مثل آلات رفع الصوت، وآلات التسجيل، وآلات الطباعة، وآلات معرفة الوقت، فهذه وسائل لم تكن لدى المتقدمين، وفتح الله لنا فيها، فكذلك الفهم والأشياء المعنوية يفتح الله فيها أيضاً للمتأخرين بحسب.
ما يرزق الله سبحانه وتعالى به الناس.(17/34)
الأسئلة(17/35)
طريقة الحفظ
السؤال
كيف يحفظ الطالب المتون العلمية (أي: ما هي آلية الحفظ)؟
الجواب
بالنسبة لآلية الحفظ يحتاج فيها الإنسان إلى ما يلي: أولاً: تقويم ما يريد أن يحفظه الطالب، فالإنسان إذا حفظ شيئاً على وجه الخطأ، فلا فائدة من حفظه له، مثل كثير من الذين يقرءون القرآن، ويتقدمون أئمة للناس وهم يخطئون ويكسرون في كل كلمة، فما فائدة حفظ هؤلاء؟! لو حفظوا آية واحدة متقنة لكانت خيراً لهم من حفظ القرآن كله على وجه الخطأ، فلذلك لابد من التصحيح أولاً.
إذاً: أول خطوة في الحفظ هي: تصحيح ما تريد حفظه.
ثانياً: أن يأخذ الإنسان الشيء الذي يستطيع حفظه، فتجد بعض الطلاب يريد مسابقة الزمن، فهو يريد أن يحفظ صفحات في وقت واحد، هذا غير صحيح، خذ أسطراً يسيرة، فإذا أحكمت حفظها وأتقنتها فأنت رابح، لا تتعب نفسك بصفحة كاملة أو صفحتين في وقت واحد، فهذا متعب للذهن، خذ الشيء اليسير، ثم الشيء اليسير بعده، ثم الشيء اليسير بعده، وكلما كان التجزيء ممكناً يكون أفضل في الحفظ وأقوى.
ثالثاً: الوقت المختار للحفظ، وهو إما آخر الليل وإما أول النهار، هذا أحسن وقت للحفظ، السدس الأخير من الليل أو الصباح الباكر، بعد صلاة الفجر، فهذا أحسن وقت للحفظ؛ لأنه أصفى للذهن؛ ولأن الإنسان في هذا الوقت في الغالب لا يسمع كثيراً من الأصوات المزعجة، ولا يشم كثيراً من الروائح المزعجة، ولا ينشغل بكثير من الانشغالات، وأي وقت آخر ليس فيه انشغالات، ويجد فيه الإنسان راحة جسمية وقلبية، فهو أيسر للحفظ.
رابعاً: كثرة التكرار، فإذا أردت حفظ حديث واحد مثلاً، أو أربعة أسطر من كتاب، أو خمسة أبيات؛ فاجلس وكررها كثيراً حتى ترسخ ويتقوم بها لسانك، ثم احفظها عن ظهر قلب من غير نظر إليها، ثم اتركها فترة لتتخمر في ذهنك، ثم عد إليها واقرأها وأكثر من التكرار؛ لأن التكرار الأول لابد بعده من فترة تخمير، وهو عبارة عن امتحان للنفس، ثم تعود إلى هذا التكرار مرة أخرى ولو كانت محفوظة لديك، فلابد أن تكررها، ويمكن أن تضع لنفسك عدداً معيناً من التكرار، ويوجد شيخ من العلماء المشاهير كان متقناً لكثير من الكتب ويحفظها مع كبر سنه، فسئل: ما السبب؟ فقال: كنت أكررها ألف مرة، أكرر النص أو المتن ألف مرة، وأكرر الشرح مائة مرة! فلذلك لابد أن يفرغ الإنسان وقتاً للحفظ، فإذا كانت أربعة أبيات أو خمسة أبيات، أو حديثاً واحداً، وتأتي بهذا العدد من التكرار، فسيرسخ المحفوظ رسوخاً بيناً، وبالأخص إذا كان التكرار متقطعاً، مثلاً: تكررها مائة مرة الآن وتنقطع عنها في الصباح، ثم مائة مرة في وقت الظهيرة، ثم مائة مرة في المساء، ثم مائة مرة في الليل، فيكمل لك ألف تكرار في مدة قصيرة، وسترسخ لديك رسوخاً بيناً، ومع تقدم سنك لا يضعف حفظك لها ولا إتقانك لها، بينما الأمور التي قرأتها فقط أو كررتها أربعين مرة أو عشرين مرة فإنه إذا تقدم بك العمر فستنساها.
خامساً: المراجعة الدائمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال في حفظ القرآن: (تعاهدوا القرآن فلهو أشد تفلتاً من صدور الرجال من الإبل في عقلها)، ومثله المحفوظات كلها، فإذا كان القرآن الذي هو نور ووحي يتفلت من الصدور، فكيف بما سواه من كلام البشر؟! فلذلك تحتاج إلى مراجعة مبرمجة، كل أسبوع يكون عندك يومان للمراجعة، ليس فيهما استزادة، لا تحفظ فيهما، عطل الحفظ يومين من الأسبوع لمراجعة ما حفظته طيلة الأسبوع.
وهكذا الذي يريد حفظ القرآن، فما حفظه في النهار من القرآن يصلي به في الليل حتى يرسخه في ذهنه.
ولابد أن تأخذ يوماً كاملاً من الشهر تعتزل الناس فيه، وتراجع كل محفوظاتك التي حفظتها خلال الشهر.
وبعض الكتب قد تحفظها في ستة أشهر مثلاً، فإذا حفظتها حفظاً متقناً في ستة أشهر، فينبغي عليك أن تعطي كل شهر يوماً لتراجعها فيه، وبذلك يرسخ ما حفظته، ولا تحتاج بعد هذا للرجوع إليه.
إذاً: هذه بعض وسائل الحفظ وثباته، ونسأل الله أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه.(17/36)
العلم سراجنا
العلم نور يستضيء به السائرون إلى الله عز وجل، ولهذا كان العلماء هم أهل الخشية والخوف والمراقبة لله عز وجل، وكما قيل: من كان بالله أعرف كان لله أخوف.
فيجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلم ما يهمه من أمر دينه، وما يستطيع أن يعبد الله به على بصيرة.(18/1)
فضل العلم والعلماء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله عز وجل قد وصف نفسه بالعلم، وأثنى على العلماء من عباده، واستشهد العلماء على أعظم شهادة بعد أن شهد بها وأشهد بها ملائكته، فقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]، وأخبر أن العلماء وحدهم هم الذين يخشونه حق خشيته، فقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وأخبر أنه يرفع منزلتهم ويعلي درجتهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَا فْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وأخبر أنهم وحدهم هم الذين يصلحون للتلقي عن الله عز وجل، فقال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]، وحكم لصالحهم في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وكذلك نوه الرسول صلى الله عليه وسلم بمنزلتهم، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العلماء ورثة الأنبياء)، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا -معاشر الأنبياء- لا نورث، ما تركناه صدقة، إنا لم نورث ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثنا هذا العلم فمن أخذ به أخذ بحظٍ وافر)، وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم الحض على طلب العلم، فقد أمره الله بذلك في قوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، وحض صلى الله عليه وسلم على طلبه، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً؛ سهل الله به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
وكذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم في السنن أنه قال: (إن العالم يستغفر له كل شيء، حتى الحيتان في البحر).
وكذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم في السنن والمسند أنه قال: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالم أو متعلم).(18/2)
ضرورة طلب العلم
وكل هذا يستشعر به المؤمن المخلص ضرورة طلب العلم، ومنزلته ودرجته عند الله تعالى، ويعلم أنه لا يمكن أن يعبد الله تعالى إلا عن طريقه، فلا يمكن أن يعبد الله على جهل، وما عصي عز وجل إلا عن جهالة، إما عن جهالة به أو عن جهالة بتشريعه، والذين يعصونه من الذين يعرفون أنهم خالفوه قد جهلوه؛ لأنهم لم يتصلوا بمعرفة الله؛ فلذلك عصوه، والذين يعصونه وهم لا يعلمون أنهم عصوه فقد جهلوا تشريعه وما أرسل به رسله؛ فإن الله عز وجل لم يترك البرية سدى، وإنما أرسل إليها الرسل ليعلموها ما أنزل إليهم من ربهم، وليرشدوها إلى ما يرضيه عز وجل، ومن هنا ختم الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم المقفي لما سبق والخاتم له، الذي جاء بهذه الآيات والأحاديث التي سقناها، وحض صلى الله عليه وسلم على هذا العلم وعلى الاتصاف به، وجعل منزلة الناس إنما هي بحسب ما تعلموه وحملوه.
ومن هنا فضّل الله سبحانه وتعالى المهاجرين والأنصار على الأعراب الذين انشغلوا عن طلب العلم.(18/3)
أقسام الناس في العلم
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الناس حيال هذا العلم قد انقسموا إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: قومٌ تعلموا ما ينفعهم وينفع من سواهم، فعلموا الناس وأرشدوهم، وعملوا هم بما تعلموا، وهؤلاء في أعلى الدرجات.
القسم الثاني: قومٌ تعلموا ما يعملون به وينجيهم من عذاب الله، ولكن لم يعلموا الناس، ولم يستطيعوا أن يصلوا إلى ذلك المستوى، وهؤلاء هم الدرجة التي تليها.
القسم الثالث: قومُ لم يرفعوا بذلك رأساً، ولم ينتفعوا بهدى الله الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فأعرضوا عما جاء به، فلم يتعلموا ولم يعلموا.
وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لهذه الأقسام الثلاثة، فقد أخرج البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب منها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت عشباً، فذلك مثل من نفعه ما بعثني الله به فعلم، وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به)، فهنا بيَّن هذه الطبقات، وجعل المعرضين عن هذا التعلم الذين لا يرفعون به رأساً ولا ينتفعون به في أدنى الدرجات وأحطها وأبعدها عن الحق.
ومن أجل هذا قال الله سبحانه وتعالى في وصف الأعراب: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97]، فليس وراء الجهل بحدود ما أنزل الله على رسوله عيب، ولذلك أخرهم الله تعالى بالمنزلة، وجعل ولاية المؤمنين لهم ناقصة.
فالله تعالى جعل الولاء درجتين: الدرجة الأولى: الولاء العام بين عامة المسلمين وهذا الولاء هو المذكور في قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وفي قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بعض} [التوبة:71].
الدرجة الثانية -وهي أقوى من سابقتها-: الولاء بين العاملين لنصرة الدين والساعين لإعلاء كلمة الله.
وهذا الولاء أخص وأقوى من سابقه، وهذا الذي أكده سبحانه وتعالى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال:72].
فجعل هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يشاركوا في إقامة دولة الإسلام ولم يتعلموا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما جلسوا في باديتهم وما كانوا عليه، مع أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، جعل ولاء المؤمنين لهم مختصاً بمن لم يكن بينه وبين المؤمنين عمل، فقال: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال:72]، فجعل هذا الولاء الخصوصي في أن يهاجروا، فالهجرة مشاركة في إقامة دولة الإسلام، ومشاركة كذلك في تعلم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.(18/4)
تفضيل طلب العلم على العزلة
ومن هنا لم يأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في التعرب بعد الهجرة إلا لأفراد قلائل، منهم: سلمة بن الأكوع، فقد أذن له الرسول صلى الله عليه وسلم في التعرب لما علم أنه قد جمع من العلم ما يكفيه، وأنه لا يقدر على كثير من خطوط الخلطة، وكذلك أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر رضي الله عنه بالتعرب، بل أخبر أن ذلك سيقع فقال: (رحم الله أبا ذر، يعيش وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده)، وذلك لما علم من حدته، وأنه لا يستطيع الصبر على كثير من الخلطة، فأذن له بالخروج بعد أن يجد أمارات يعرفها.
وقد رأى هذه الأمارات حين ثارت الفتنة في خلافة عثمان بن عفان، فخرج من المدينة، وبقي بالربذة حتى مات.
ولهذا فالاشتغال بتعلم ما جاء به رسول صلى الله عليه وسلم هو أفضل ما يشتغل به الإنسان من عبادة الله، ومن أجل هذا سئل مالك رحمه الله تعالى عن المقرب للقتل الذي لم يبق من عمره إلا ساعة واحدة في أي عبادة يصرفها؟ فقال: علم يتعلمه.
فقيل له: يا أبا عبد الله! إنه لا يعمل به؟ فقال: تعلمه أفضل من العمل به.
وقد صرح الشافعي رحمه الله بأن طلب العلم أفضل من صلاة النافلة، وذلك ما رواه السيوطي رحمه الله في قوله: والعلم خير من صلاة نافلة فقد غدا الله برزق كافله وقد كان الشافعي رحمه الله مثالاً في ذلك، فحين زار أحمد بن حنبل رحمه الله خصص له بيتاً للضيافة، فنزل في تلك الغرفة وبقي وحده، وبقيت ابنة لـ أحمد بن حنبل تراقبه، فلما أصبح قالت لأبيها: عجبت لضيفك هذا الذي يشار إليه؛ فإنه أكل كثيراً ونام كثيراً وصلى بغير وضوء! فتعجب أحمد من ذلك، فسأله فقال: أما أني أكلت كثيراً فقد سمعت أن من طوى بطنه عن طعام أخيه وهو يشتهيه لم يحسن أدبه معه، وأما أني نمت كثيراً فلم أنم، وإنما سمعت حديثاً فأعملت ذهني في الاستنباط منه، وأخرجت منه أربع عشرة مسألة -وهو حديث أنس بن مالك في قصة تردي الشاة من سلع-، وأما أني صليت بغير وضوء فما انتقض وضوئي حتى أذن المؤذن، فالوضوء الذي صليت به العشاء هو الذي صليت به الفجر.
ومن أجل هذا حرص كثير من سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى على أن ينظموا وقتهم وأن يقسموه، وأن يجعلوا جزءاً لا بأس به من أوقاتهم لتعلم هذا العلم، وجعلوا ذلك رباطاً في سبيل الله، حتى إن أحمد بن حنبل رحمه الله ذهب في تفسير قول الله تعالى في مصارف الزكاة: {وفي سَبيلِ الله} [التوبة:60]-وهو المصرف السابع من مصارف الزكاة الثمانية- إلى أن المقصود بذلك المجاهدون في سبيل الله الغازون، وطلبة العلم الذين يدرسونه، والحجاج والمعتمرون، وجعل طلاب العلم بمثابة الغازين المجاهدين في سبيل الله يستحقون سهماً من الزكاة حتى لو كانوا أغنياء.
وكذلك فإن المالكية رحمهم الله تعالى نصوا على أن المشتغلين بتعلم فروض الكفاية يتحملون فرض كفاية عن الأمة، فيستحقون الارتزاق على ذلك من بيت المال إذا كان بيت المال منتظماً، فإن لم يكن للمسلمين بيت مال كان لهم حقٌ في أموال الناس، وقد فصل العلماء في هذه المسألة، وشيخي رحمه الله يقول: من واجب الإسلام جمع مال تقضى به حقوق بيت المال إن لم يكن كحاملي علوم فرض الكفاية من الموسوم بحسن إدراك مع السريرة والطيب في سجية وسيرة ومن خلا من هذه الأوصاف منعه لفقد الاتصاف بل طلب العلم بتلك المرتبة خالٍ من المصلحة المجتنبة من هو في التكليف ما لم يطق وعبث في فعله والمنطق وكل يوم حجروه حجرا فكيف يأخذ عليه أجرا ذكره البواق في الإبداع فانظر تجده يوم يدع الداع(18/5)
أقسام العلم الذي ينتفع به
وكذلك فإنهم نصوا في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث -وفي رواية: إلا من ثلاثة-: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية) على أن العلم الذي ينتفع به ينقسم إلى قسمين: إما علم بثه في صدور الرجال وأوصله إليهم، فيتناقله الناس وما يزال ينمو له، ويزداد أجره بحسب من استفاد منه.
وإما أن يكون المقصود أن يقف أوقافاً على طلبة العلم، كما فعل ذلك الخلفاء الراشدون، وفعله كثير من أئمة الإسلام في مختلف العصور، ومن أجل ذلك قامت المدارس الوقفية في أكثر بلدان الإسلام، ففي دمشق وحدها وصل عدد المدارس الوقفية التي ليس للناس عليها سلطة وإنما يسيطر عليها العلماء وطلاب العلم في أيام النووي رحمه الله تعالى إلى قرابة السبعين في مدينة دمشق وحدها، وقد كانت دمشق من عواصم الإسلام، ومنها (دار الحديث) التي تعلم فيها النووي وابن الصلاح، وغيرهما من كبار الأئمة، وكذلك منها (الصالحية) التي تعلم فيها آل قدامة وابن تيمية وغيرهم، ومدارس أخرى كثيرة جداً اشتهرت في ذلك الوقت، وكذلك في مصر اشتهر عدد كثير من المدارس الوقفية التي كانت مستقلة تمام الاستقلال، فلا يتأثر فيها العلماء ولا طلاب العلم بأية مواقف أخرى، وإنما كانوا ينفردون لطلب العلم ويجدون ارتزاقهم من هذه الأوقاف، فيعلمون الغرباء ويرجع هؤلاء الغرباء وافدين إلى بلادهم بما حملوه من هذا العلم؛ تحقيقاً لقول الله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122].
ولاشك أن العلم الذي يبث في صدور الرجال ذو منزلة عالية؛ لأنه لا ينتفع به أحد مدة هذه الدنيا إلا كتب لمن نقله أجراً، ومن أجل هذا ازداد فضل السلف على الخلف، فكلما ازداد خلف هذه الأمة ازداد أجر وشرف سلفها؛ لأن أجورهم تتضاعف فتضرب في أعداد اللاحقين إلى يوم القيامة؛ فأجور هذه الأمة كلها في ميزان حسنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دون ذلك في ميزان حسنات أصحابه الذين بلغوا هذا العلم، ونقلوه عنه، ثم دون ذلك في ميزان حسنات التابعين، وهكذا طبقة طبقة حتى يصل ذلك إلينا، ثم إلى ما شاء الله بعدنا، وفي هذا يقول شيخي رحمه الله: وكل أجرٍ حاصلٍ للشهدا أو غيرهم كالعلماء والزهدا حصل للنبي مثله على أجور ما كان النبي فعلا مع مزيد عدد ليس يحد وليس يحصي عده إلا الأحد إذ كل مهتدٍ وعامل إلى يوم الجزاء شيخه قد حصل له من الأجر كأجر العامل وضعف ذا من ناقص وكامل وشيخ شيخه له مثلاه وأربعٌ لثالث تلاه وهكذا تضعيف كل مرتبة إلى رسول الله عالي المرتبة ومن هنا يعلم تفضيل السلف وسبقهم في فضلهم على الخلف فمن أجل هذا حرص الناس على أن يحملوا ويبلغوا ما حملوه؛ فإن من بلغه علم عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الجزء الذي بلغه من الدين، ومن هنا يتشرف بخلافة الرسول صلى الله عليه وسلم في ائتمانه على ما بلغه، ولو كان آية واحدة فعليه أن يسعى لتبليغها، وقد وعده الله على ذلك الأجر الكثير، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بلغوا عني ولوا آية)، وثبت عنه أنه قال: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب؛ فرب مبلغٍ أوعى من سامع)، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم متواتراً أنه قال: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فربّ حامل علم ليس بفقيه، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه).(18/6)
العلم أمانة
إن الذي اؤتمن على هذه الأمانة فلم يؤدها قد تعرض لوعيد شديد، ققد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم ولا يفقهونهم؟! فوالذي نفس محمد بيده ليعلمن قوم جيرانهم وليذكرنهم أو ليعاجلن لهم العقوبة)، فقد شدد على أولئك الذين حملوا بعض ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فلم يؤدوه حق أدائه؛ لأن ما جاء به قد سلمه وأداه إليهم، وهذا من تمام رسالته، فهو رسولٌ إلينا جميعاً ولم يلقنا؛ لأن الله تعالى شاء أن يقبضه عند عمره المحدد، لكن بقيت رسالته ودعوته في أعناق الذين تحملوها أمانة لديهم، فتبليغهم لها من تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم لها، فيجب عليه أن يبلغ من تقوم به الحجة، ويسقط عنه بعد ذلك، كما قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]، وقال تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54]، فإنما يلزمه أن يبلغ من تقوم بهم الحجة على الناس، وقد فعل ذلك، ثم بقي أن كل من بلغه شيء عنه يجب عليه أن يبلغه، وتبليغه من تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته ورسالته، فيقوم بالخلافة عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأداء ما تحمل على الوجه الصحيح، ويكون كالوصية التي لا يحل فيها التغيير ولا التبديل، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة:180 - 181].
فلذلك من بلغه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فيجب ألا يغير فيه وألا يبدل، وأن يؤديه ويبذله لمن طلبه، ومن أجل هذا حض الرسول صلى الله عليه وسلم على أقوامٍ سيأتون في آخر الزمان يلتمسون علمه وما جاء به، وأخبر أنهم وصيته، فقال: (ليأتينكم أقوام يطلبون هذا العلم، فاستوصوا بهم خيراً)، فجعلهم وصية يجب الرفق بهم والتلطف إليهم؛ لأنهم جاؤوا بوصية سابقة من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فإن حصول الشرف للإنسان يوم القيامة إنما يكونُ بحسب علمه؛ لأنه لا يمكن أن يكون عاملاً إلا بما تعلم، وما لم يتعلمه من هذا الدين فإن قدر على تعلمه حسب عليه وحوسب عليه حينئذ، وما قدر على تعلُمِه وتعلَمَه وعمل به نال ثوابه، وما قدر على تعلمه فتعلمه ولم يعمل به كان حجة عليه، وكان أيضاً في ميزان سيئاته، فلذلك يلزم أن يقبل الناس على طلب هذا العلم، وأن يخصصوا له جزءاً من أوقاتهم، وليس المقصود أن يعطلوا أعمالهم وأن يلتحقوا بمدارس فيتركوا مصالح الأمة متعطلة، بل المقصود أن يتعلم كل شخص منهم ما تيسر، وأن يخصص جزءاً من وقته على حسب طاقته بما تيسر من هذا العلم، كما قال تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20].
فلم يعذر أحداً من هؤلاء، لا التجار، ولا المجاهدون في سبيل الله، ولا المرضى، وهؤلاء كل فئة منهم تمثل فئة جليلة من فئات هذه الأمة، وتمثل طبقةً من طبقاتها، ولذا لم يعذر أحداً منهم في ترك التعلم، بل أمرهم أن يتعلموا ما تيسر وما يكفيهم بقيام هذه المهمة وهذا الواجب، كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286]، ومن أجل هذا حض الله تعالى في كتابه أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن على نقل هذا العلم الذي سمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأين، وكان خصوص أمرهن بذلك أنهن يشاهدن من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشهدن منه ما لا يشهده كثير ممن سواهن، فلذلك قال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، وهذا يشمل ما فعل وطبق عملياً وما سمعنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولياً، فأمرهن بتبليغ ذلك كله.
ومن أجل هذا كان لأمهات المؤمنين أبرز حظ ونصيب في تبليغ هذه الرسالة ونقل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقل ما أفتى به ونقل أحواله كلها إلى الأمة، وقد سعين لتبليغ ذلك وتعليمه، وهذا هو الذي ائِتسى بهن فيه من خلف من علماء هذه الأمة على مختلف العصور، فقد كان كثير منهم يقتدي بـ أبي هريرة رضي الله عنه الذي قال: (والله لأرمين به بينكم)، وكذلك يقتدي بـ أبي ذر الذي قال: (والله لو جعلتم الصمصامة على هذه -وأشار إلى قفاه- وعلمت أني أنفذ خبراً واحداً مما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجهزوا علي لأنفذته).
فلذلك سعى هؤلاء الأسلاف إلى تبليغ هذا العلم في مختلف الظروف، حتى إن بعضهم كان سجيناً فيجد النافذة في وقت من الليل يجتمع عليها أفراد من الناس فيملي عليهم العلم، ولا يجيبهم في شيء من السؤال عن أحواله هو؛ لأن الوقت ضيق، وهو أمانة لديه، فيملي عليهم شيئاً مما اؤتمن عليه فيكتبونه.
والسرخسي رحمه الله أملى كتابه (المبسوط) وهو سجين في السجن، يقال: إنه كان في بئر، وكان الطلاب يقفون حيث يسمعون صوته ويكتبون عنه من مكانه ذلك، حتى كتبوا هذا الكتاب الكبير -المبسوط- الذي يزيد على ثلاثين مجلداً.
وكذلك كان عدد منهم إذا مرض قال: إنه ما يسره إلا أن يبلغ ما في هذا الكتاب، أو أن يبلغ هذا العلم الذي رواه.
وعدد كبير منهم سعى في مرض موته بأن يبلغ أكبر حظ ممكن من العلم الذي معه، حتى كان الأطباء يتضجرون من ذلك، كحال ابن عرفة، وكحال عدد كثير من الذين مرضوا وعولجوا، فإن كثيراً منهم كان يُتعب نفسه في أيام المرض؛ لأنه يعلم أنه منتقلٌ عن هذه الدنيا وميت لا محالة، فيريد أن يبلغ شيئاً من العلم الذي حمله قبل أن يذهب وينتقل معه.(18/7)
شروط طلب العلم(18/8)
عدم إرادة الدنيا
كذلك فإن من الشروط التي لابد من تحققها حتى يلتحق الإنسان بهذه الزمرة ألا يطلب على ذلك مثوبة في هذه الدنيا، فإن طلب المثوبة على تبليغ الرسالة مخالف لهدي جميع الأنبياء، ومخالف لشرع الله عز وجل، فإن الله قص علينا قصص جميع الأنبياء الذين قص قصصهم، وكلٌ منهم نجد في قصته: (لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا)، فلا يسألون أجراً عما يبلغونه عن الله عز وجل، فمن طلب بعلمه أجراً دنيوياً أو طلب عليه أي مثوبة دنيوية فإنه لا يمكن أن يستقر معه؛ لأنه لم يعمل بهدي الأنبياء ولم يلتزم قيد العلم.(18/9)
الحفظ
وكذلك من هذه الشروط المكملة أن يكون الإنسان حافظاً بذهنه ما يتعلمه، وألا يتكل على كتابه أو تسجيله؛ فإن العلم محله الصدر، والذي يملك مكتبة كبيرة ضخمة ولا يقرأ ما فيها لا يمكن أن يعد من العلماء، بل لا يكون عالماً حتى يحوي ذلك صدره، كما قال الراجز: ليس بعلم ما حوى القمطر ما العلم إلا ما حواه الصدر وقال الشافعي رحمه الله: علمي معي حيث ما يممت يتبعني قلبي وعاء له لا جوف صندوق إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق وكذلك قال أبو محمد علي بن حزم رحمه الله: إن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري يسير معي حيث استقلت ركائبي ويمكث إن أمكث ويدفن في قبري(18/10)
العمل بالعلم
ومن هذه الشروط: الاتباع.
فلابد أن يتبع الإنسان ما علمه، وإلا قامت به الحجة عليه، ولذلك قال أبو الدرداء رحمه الله: (إن أخوف ما أخافه كتاب الله، ألا تبقى آية آمرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء! قد أتيتك آمرة فلم تأتمرني، ولا آية زاجرة إلا جاءتني فقالت: يـ أبا الدرداء! قد أتيتك زاجرة فلم تنزجر بي!) وكذلك قال: (إني أخاف أن يقال لي يوم القيامة: أعلمت أم جهلت؟ فأقول: بل علمت، فيقال: فما عملت فيما علمت؟!) فمن علم فقد قامت عليه الحجة، وانقطعت أعذاره بين يدي الله عز وجل، ولهذا من أعدت له العدة ليتعلم كذلك، فقد انقطعت حجته، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37].
فإذا حصلت النعمة بالعمر والوقت، وهيئت الأسباب للعلم فلم يتعلم الإنسان فقد قامت عليه الحجة وكأنه قد علم، كما في قوله تعالى في هذه الآية: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37].(18/11)
معصية الإنسان لهواه
ومن هذه الشروط: معصية الهوى.
فلابد للإنسان أن يكون مخالفاً لهواه حتى يحصل على هذا العلم، فمن لم يخالف الهوى وتبعه فإن هواه أبعد ما يكون عن طلب العلم، فطلبه شاق على الأبدان شاق على الأذهان؛ لأن الإنسان يسهر فيه الليالي ذوات العدد، ويتأذى بأذى الناس، وينصرف عن جمع الدنيا والانشغال بها، فهذا شاق على النفوس مخالف للهوى، فلا يكون من لا يصبر على مخالفة هواه عالماً أبداً، والله سبحانه وتعالى حض على مخالفة الهوى، وجعل ذلك طريق الجنة في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41].
والعلم طريق الجنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة).(18/12)
هوان نفس طالب العلم عليه
ومن هذه الشروط: أن تهون على الإنسان نفسه في طلب هذا العلم، وأن يضحي في سبيل ذلك، فإن لم يضح في سبيله وإنما أخذ منه ما تيسر ولم يوله قيمة، ولم يعتبره بأي اعتبار لم يكن ليناله، ولهذا فإن موسى عليه السلام لم ينل هذا العلم حتى خاطر وركب البحر في سفينة مخروقة، وكذلك فإن علماء هذه الأمة رحلوا في طلب العلم لمسافات شاسعة، فقد سافر جابر بن عبد الله من البصرة إلى المدينة في طلب حديث واحد، وسافر عبد الله بن أنيس رضي الله عنه من المدينة إلى الشام في طلب حديث واحد، وسافر أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى مصر في طلب حديث واحد، ومن أجل هذا فإن ركوب الخطر هو أصل التضحية، فالتضحية لا تكون إلا مع الخطر عندما تعارضها المصالح، وما دامت المصالح متفقة مع ما يبذله الإنسان فإن ذلك لا يُسمى تضحية، ولا يكون مجاهداً بسببه؛ لأنه لم يبذل جهداً، وإنما أنفق الزائد من جهده، ومن لم يضح فمعناه أنه: لم يبذل جهداً، وبهذا يفسد على نفسه بعض الأمور التي يهواها، ولا يُعد من المضحين المجاهدين، ومن أجل هذا قال أحد الحكماء في الأخوة: إن أخاك الحق من يسعى معك ومن يضر نفسه لينفعك ومن إذا ريب الزمان صدَّعك شتت فيك شمله ليجمعك فلا يكون الإنسان مضحياً إلا إذا بذل من الجهد ما يؤدي به إلى أن يفقد بعض ما يتمناه ويهواه.(18/13)
الصبر على الجوع
ومن هذه الشروط: الجوع.
فإن البطنة تذهب الفطنة، والإنسان إذا اشتغل بالأمور المادية، وملأ بطنه فإن ذلك يشغله عن الأمور المعنوية، ومن هنا فإن موسى عليه السلام لم ينل هذا العلم حتى قال: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62]، والذين أحرزوا حظاً لا بأس به من هذا العلم ما نالوا ذلك إلا في فترات الجوع عليهم والقلة، وهم الذين أصبحوا مثلاً يؤتسى بهم في التاريخ كله.(18/14)
الإخلاص في طلب العلم
إن هذا العلم مهمة شاقة وأمانة عظيمة، فلذلك يقتضي كثيراً من الشروط قبل طلبه.
فأهم هذه الشروط وأبلغها الإخلاص لله تعالى فيه؛ فإنه عبادة، فسماعه وكتابته وتلقيه كل ذلك عبادة عظيمة، والعبادة إذا كانت بغير إخلاص فهي مردودة على صاحبها، كما ثبت في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، فلذلك يجب على من أراد طلب العلم -ولو لحظة واحدة- أو أراد سماع شريط أو أراد قراءة أسطر كتاب أو قصد مكاناً لطلب العلم أياً كان ألا يضيع شيئاً من هذا الإخلاص حتى تحسب له خطاه، وحتى تشهد له الحصى، فلو مات في طريقه تلك كان كمن مات في هجرته إلى الله ورسوله، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100].
فعلى من قصد هذا العلم من أي مكان أن يحتسب خطاه من أول خطوة، وألا يغفل شيئاً مما يمر به من الخطا أو غيره، حتى لو مات في طريقه فسيموت على هذه النية، ويكون كالمهاجر في سبيل الله، ولو وصل كتبت له الأجور كاملة لا ينقص منها شيء.
وهذا الإخلاص شرط لقبول العمل وشطر لصحته؛ فإن العمل لا يكون صالحاً إلا بأمرين: الأول: الإخلاص لله سبحانه تعالى.
والثاني: الموافقة لما شرعه.
فلا يكون العمل صالحاً إلا إذا جمع هذين الركنين: الإخلاص والموافقة.(18/15)
الغربة عن الأهل
ثم بعد هذا الشرط الأول -الذي هو الإخلاص لله سبحانه وتعالى- تأتي شروط أخرى يعد بها الإنسان نفسه ليلتحق بهذا الركب، وليكون من الذين يخلفون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلمون، وقد ذكر العلماء منها عدة شروط كلها بتجربة من هدي الأنبياء والصالحين.
فمن هذه الشروط: الغربة، فمن جلس في مكانه بين أهله قل ما يحصل على علم، ولذلك يقول الشاعر: الأهل والجهل ساكنان في بلد فاصبر عن الأهل أو فاصبر على الثاني حتى لو كان أبوه عالماً فأزهد الناس في العالم أهله، فيمكن أن يعيش الشخص في البيت مع عالم من العلماء الأجلاء لكنه يكون زاهداً فيه بقربه منه، ومن هنا رحل موسى عليه السلام إلى الخضر، وقال: {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} [الكهف:60].
ولم ينل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي حتى حبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار (حراء) فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك، ويرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها حتى جاء الحق.
وكذلك فإن الذين اشتهروا بالعلم من هذه الأمة إنما رحلوا في سبيله، وطلبوه في أماكن مختلفة، ولذلك فإن كثيراً منهم عندما يسألون عن منتهى آمالهم يقولون: إسنادٌ عالٍ -وبيتٌ خالٍ- كما كان أحمد بن حنبل ويحيى بن معين إذا سئُلا عن بغيتهما يقولان: إسنادٌ عالٍ وبيتٌ خالٍ.
أي: أنهما يبحثان عن أعلى الناس إسناداً، كالذي ليس بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة رجال في طبقة أحمد مثلاً، فهذه ثلاثية أحمد، وهي الأحاديث التي رواها عن أبي الزبير عن جابر، فأولها حديث: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، فهذه الأحاديث تكون عالية الإسناد جداً، ولهذا كانوا يبحثون عنها لسهولة تصحيحها، ولأنها لم يتناقلها كثير من الناس.
ثم بعد ذلك بيت خالٍ يتفرغ فيه الإنسان للعلم، ويستطيع فيه أن يراجع، وأن يحفظ، وأن يستذكر ويتدبر، ولذلك يقول آخر: قالت مسائل سحنون لقارئها لن تدرك العلم حتى تلعق الصَّبرا لا يدرك العلم بطالٌ ولا كسل ولا ملول ولا من يألف البشرا فلابد من هذه الغربة.(18/16)
التواضع للمعلم
ومن هذه الشروط: التواضع.
فلا يمكن أن يكون الإنسان متعلماً حتى يتواضع لمن يعلمه ومن يأخذ عنه، فهذا موسى عليه السلام وهو كليم الله وقد اجتباه الله برسالاته وبكلامه، ومع ذلك حين جاء إلى الخضر: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66] فلم يقل: إني (متبعك) بصيغة الجزم، بل قال: (هل أتبعك) بصيغة الاستفهام تواضعاً، ثم قال: (على أن تعلمني) فجعل نفسه طالباً، ولم يقل: على أن تذاكرني، أو أن أستفيد منك، فلم ينسب الفعل لنفسه، بل قال: (على أن تعلمني)، ثم قال: (مما عُلِمت) بصيغة (من) التبعيضية، ومعناه: بعض ما علمت، ولا أريد أن تعلمني كل ما عندك.
ثم قال: (تعلمني مما علمت رشداً)، وذلك أن هذا العلم بضاعة غالية، ومن خصه الله به فإنه لا يمكن أن يدفع هذه البضاعة ويسلمها لمن لا يحترمه، ولمن لا يجد فيه تقدير العلم وأدبه، فأهم آداب العلم التواضع، ولذلك فإن من تكبر من العلماء أو من طلاب العلم فسيسلك طريق إبليس الذي تكبر بما علمه الله، فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فعلى من طلب العلم أو نال حظاً منه أن يتواضع بقدر ما تعلم، ومن هنا يقول الحكيم: وإن كريم الأصل كالغصن كلما تزايد من خير تواضع وانحنى فلذلك لابد أن يتواضع الإنسان حتى يحصل على ما كتب له من هذا العلم.(18/17)
الورع
ومن هذه الشروط: الورع.
فمن كان غير ورعٍ وغير متقٍ للشبهات وغير متقٍ للحرام والمكروهات فلا يمكن أن يحصل على علم؛ لأن هذا العلم نورٌ، والنور يفر من مكان الظلمة، فمن أراد أن يوقد نوراً في مكان فليختر أصقل مكان، وليختر الزجاج الصقيل المضيء، فهو الذي تحسن فيه الإنارة، وأما المكان المظلم الأسود الموحش فإنه لا يستقر فيه النور، ومن هنا فإن على الإنسان الذي يريد طلب العلم أن يجتهد في الورع، وأن يتقي الحرام، وأن يتقي المكروهات والمشتبهات، وبذلك لا يفر منه هذا العلم، بل يستقر في صدره.
ويروى عن الشافعي رحمه الله أنه قال: شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يعطى لعاصي ويروى عنه رحمه الله أنه قال: أتيت مالكاً فجلست إليه، فلما انفض المجلس دعاني فتبعته، فقال: يا بني! إني أرى أن الله قد قذف في قلبك بشيء من نوره فلا تطفئه بظلمة المعصية.
فنصحه بهذه النصيحة البالغة، ومن هنا فإن صاحب المعصية ذليل، وصاحب العلم عزيز، فإذا اجتمعت الذلة والعزة اجتمع ضدان، وإذا اجتمع الضدان فإن النتيجة تتبع الأخس دائماً كما يقول المناطقة، فيكون الإنسان حينئذ متدنياً إلى أسفل الدرجات، ومن أجل هذا كان الذين يضلون الناس بالعلم أخطر عليهم وأكثر ضرراً من الذين يضلون عن جهل، ولهذا كان عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى كثيراً ما يقول: وهل أفسد الدين إلا الملوكُ وأحبار سوء ورهبانها فأحبار السوء والرهبان الذي ليس معهم ورع يبيعون ما معهم من العلم، فيفتون على مقتضى ما تملي عليهم سيادة أسيادهم، وبذلك يَضِلون ويُضلون.(18/18)
آداب طلب العلم
ومن أجل هذا فإن تفاوت الناس في العلم إنما هو بحسب ما بذلوه من الجهد والوقت حتى يحفظوا ويفهموا، وبعد ذلك عليهم أن يبلغوا، وقد ذكر العلماء آداب ذلك مرتبة: فأولها: الاستماع.
لقول الله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17 - 18].
الثاني: الفهم.
لأن ما استمع إليه فلم يُفهم لا يستفيد به الإنسان، بل يكون كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد:16].
الثالث: الحفظ لما سمعه وفهمه.
فالحفظ هو القيد الثالث في ذلك.
الرابع: العمل بما سمعه.
وفهمه.
وحفظه.
الخامس: بث ذلك ونشره، ومعناه: تعليم ما سمعه وفهمه وحفظه وعمل به، ولابد أن يتأخر التعليم عن هذه القيود السابقة، فإذا كان يسمعه ويفهمه ثم ينقله إلى غيره دون أن يعمل هو به ودون أن يحفظه فإنه لابد أن يتخالف قوله، ولا يكون متقناً لما يحدث به، ثم إذا سمعه وفهمه وحفظه فأراد أن يُسمعه وأن ينقله إلى غيره قبل أن يعمل به كان كالداعي لما لم يعمل به، وهذا مخالف لهدي الأنبياء، فقد قال الله تعالى حكاية عن خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88]، فلذلك لابد أن يبدأ هو بتعلم ما يدعو إليه، ثم بعد ذلك يبلغه للناس حتى يعملوا به، ولهذا فإن ابن الجوزي رحمه الله كان من الخطباء المؤثرين، وكان إذا خطب بكى وأبكى، فلا تقع نازلة ولا أمر، يهم الناس إلا قدم فيه خطبة يرجع الناس إليها، حتى ولو كان كثير منهم يخالفه في المذهب فإنه سيعدل عن مذهبه ويرجع لما قاله ابن الجوزي لحسن أسلوبه، ولما يربط به كلامه من الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، وهذا الأسلوب القرآني هو المؤثر.
فكثير من الناس يدرسون كتب الفقه، فيدرس أحدهم -مثلاً- مختصر خليل، وفيه مائة وعشرون ألف فرع فقه، أو يدرس الرسالة، وفيها ثمانية عشر ألف فرع فقه، أو يدرس غير ذلك من الكتب الفرعية التي فيها كثير من الفروع، لكن لا نجد نور ذلك ولا ورعه في حياته وسلوكه.
وسبب ذلك أنه لم يقترن ما تعلمه بالوعد والوعيد، ولم يقترن بالترغيب والترهيب، بل قرأ هذه الأحكام جافة كمواد القانون الوضعي، وإن كان أولئك العلماء ما قصدوا بهذا إلا خيراً، لكنهم علموا أنهم يضعون مناهج لمدارس فيها تخصصات مختلفة، وفيها كتب مساندة مساعدة، فـ خليل رحمه الله ألف كتاباً آخر سماه (الجامع)، ذكر فيه آداب طلب العلم، وذكر فيه الأخلاق، وتهذيب النفوس، وربطه بهذا الجامع، وكذلك غيره، فـ ابن أبي زيد في رسالته وضع في مقدمتها المقدمة العقدية، وفي خاتمتها (الجامع) الذي فيه الآداب والأخلاق الشرعية.
لكن كثيراً من الناس يقتصر على دراسة ما بينهما، فيهمل الطرف الأول الذي هو الأساس، ويهمل الطرف الثاني الذي هو ذروة السنام، ويبقى في الوسط فقط، ومن هنا حصل الخلل في تربية الناس من أجل إهمالهم لجانب حياة القلوب, والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، فذات يومٍ كان ابن الجوزي رحمه الله تعالى في مجلسه، وقد تهيأ للجمعة، فأتاه بعض الأرقاء يشكون إليه سوء معاملة ذويهم، وأرادوا أن يخطب خطبة عن العتق فوعدهم خيراً، فلما خطب حضروا فلم يذكر في خطبته شيئاً عن العتق، فجاؤوه فقالوا: ألم تعدنا بأنك ستتكلم عن العتق في خطبتك؟ فقال: حتى الآن لم يتيسر لي ذلك، فأتوه يذكرونه بعد ذلك فلم يفعل، فلما كانت الخطبة الثالثة خطب خطبة بليغة، فبادر الناس إلى عتق أرقائهم، فأتاه هؤلاء يشكرونه وسألوه عن سبب التأخير؟ فقال: إني لأستحيي من الله تعالى أن أخطب الناس وأندبهم إلى أمرٍ لم أفعله، ولم أكن أملك من أعتقه، فذهبت أجمع دريهمات أشتري بها رقبة وأعتقها حتى إذا أمرت الناس امتثلوا؛ لأنني قد انتهيت في نفسي.
ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا أراد أن يأمر الناس بأمرٍ جمع أهل بيته وآل الخطاب فقال: (إني متقدمٌ إلى الناس في هذا الأمر، وأنتم أول من أتقدم إليه فيه، فوالذي يحلف به عمر بن الخطاب لا ينقل إلي أن أحداً منكم خالف ذلك إلا جعلته نكالاً)، فيبدأ بآل بيته -وهم أول من ينهاهم ويعظهم- ثم بعد ذلك يوجه الكلام للناس، وسيمتثلون ما يأمر به بعد أن يمتثل به آل الخطاب ومن يتأثر بـ عمر رضي الله عنه.(18/19)
مسئولية العلماء
من شرط النفع بهذا العلم أن يدرك الإنسان مسئولية العلماء في هذه الأمة؛ لأنهم ورثة الأنبياء، وهم الذين يحملون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم الذين قامت عليهم الحجة بما تعلموه، وهم الذين امتلأت صدورهم بهذا الوحي، فلم يكن الله ليجعلهم بدار هوان، فعليهم أن يكونوا مثلاً حسناً في التضحية والبذل في سبيل الله، وأن يقدموا ما لم يقدمه سواهم، وأن يكونوا أسوة وقدوة صالحة للناس، فإذا لم يفعلوا ذلك فقد ضيعوا ما حملوه، وفرطوا في هذه الأمانة التي تلقوها، ولذلك فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تعرف منزلتهم العلمية بتضحياتهم في سبيل الله، فقد ثبت أن يوم اليمامة أسرع فيه القتل في القراء، والمقصود بالقراء العلماء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان من شهداء اليمامة خمسمائة ممن يحملون القرآن، وهؤلاء كانوا هم أول من يستقبل السلاح، وهم الصفوف الأمامية؛ لأن معهم ما يشجعهم ويتقدم بهم، فلذلك عرفوا بهذا، وكان المنافقون لا يكرهون أحداً مثل ما يكرهون هؤلاء القراء، ومن أجل ذلك قالوا فيهم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً وأجبن عند اللقاء فأنزل الله فيهم (المقشقشة) سورة التوبة، ومازال يقول: (ومنهم ومنهم) حتى فضح كل أمورهم، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
فمن أجل هذا كان على من يتعلم العلم ومن يعلمه أن يكون مثلاً حسناً، وأن يقدم التضحية اللائقة به لنصرة الله تعالى، وأن يلتزم بأخلاق هذا العلم وآدابه، فإنه لو كان فظاً غليظاً أو كان جافياً أو كان مخالفاً للسنن فقد رد وقطع الطريق على كثير من السالكين، فيكون من قطاع الطرق من حيث لا يشعر؛ لأنه قطع الطريق على أقوام كانوا سيلتزمون هذا المنهج ويسلكون هذا الطريق، وهو الذي فتنهم وردهم عن ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن منكم منفرين)، وحذر غاية التحذير من ذلك، ولذلك قال الصحابي: (فما رأيته غضب غضباً في موعظة كما غضب يومئذٍ)، فحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من التنفير غاية التحذير، وما غضب في موعظة مثلما غضب في موعظته هذه التي يحذر فيها من تنفير الناس عن اتباع سنته، وعن هذا العلم وعن عبادة الله عز وجل.
كذلك فإن على من يسلك هذا الطريق أن يعلم أن عليه للناس حقاً، وأن يبحث عن واقعهم وأمورهم، وأن يهتم بتلك الجوانب التي يعيشونها، فإن الجوانب التي يعيشها الناس أولى بالبحث والتنقيب من الجوانب التي لم يعد لها ذكرُ في حياة الناس، وقد كان مالك رحمه الله إذا سُئل عن مسألة يسأل: هل وقعت أم لم تقع؟ فإن قيل: وقعت؛ استعان بالله عليها حتى يجيب فيها، وإن قيل: لم تقع قال: إن لها رجالاً سيشهدونها وهم أولى بها.
وكان يقولُ: لست من الأرائكيين.
والأرائكيون هم الذين يقولون: أرأيت لو كان كذا ماذا يكون الجواب؟! أي: أنهم هم الذين يتوقعون المشكلات التي لم تقع، فهؤلاء حذر منهم لأنهم يتكلفون، والتكلف منهي عنه، والله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86].
وكذلك على هؤلاء الذين يشتغلون بهذا الجانب المهم من دين الله تعالى أن يعلموا أنهم شهود على الأمة، وعليهم بذلك أن يحافظوا على عدالتهم؛ لأن الشاهد إذا لم يكن عدلاً فهو مردود الشهادة، وقد أخرج أبو عمر في مقدمة (التمهيد)، والخطيب البغدادي في (شرف أصحاب الحديث) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)، فمن ليس عدلاً فليس من حمال هذا العلم، ولا يمكن أن يوثق به على هذه الأمانة الجسيمة، فلا يكون من الموقعين عن رب العالمين، ولا من خلفاء الأنبياء ولا ورثتهم.(18/20)
العلماء وأبواب السلاطين
كذلك فإن عليهم أن يقنعوا بما آتاهم الله تعالى، وأن لا يذهبوا إلى أبواب السلاطين، فقديماً قيل: إذا أراد الله فتنة العالم ألزمه أبواب السلاطين.
ولذلك كان بعض العلماء رحمهم الله تعالى إذا دعاه أحد الأمراء أن يأكل في بيته امتنع أن يأكل في بيته أو أن يشرب، فقيل له في ذلك فقال: من أكل مرقة السلطان افترق لسانه عن قول الحق، فلا يستطيع أن يقول الحق بعد ذلك.
وقد حصلت قصة واقعية لعالم من علماء دمشق، وهي أنه كان يدرس في جامع بني أمية، فدخل عليه إبراهيم باشا، وهو ملك مصر، وكان قد استحوذ على الشام، ولم يجد من يعارضه، وقويت شوكته وسلطانه بذلك، فلما دخل دمشق منتصراً استقبله الناس، فبقي هذا العالم في مسجد بني أمية يدرس الناس، فسأل إبراهيم عمن لم يستقبله من وجوه الناس وعلمائهم وقاداتهم فذكروا له هذا العالم، فقال: اذهبوا بنا إليه.
فجاء مغضباً، فدخل مجلسه فلم يقم إليه، وإنما سلم عليه واشتغل بالتدريس، فجلس إبراهيم قبالة وجهه، وأوسع الناس له في الحلقة، فلما طال مجلسه بسط الشيخ رجله إليه -وهذا عيب عند أهل الشام، وأهل مصر ينزعجون منه كثيراً-، فبعد أن خرج الأمير إلى بيته أرسل إلى هذا العالم مالاً جزيلاً كثيراً، فلما أتاه هذا المال رده وقال: قولوا للأمير: إن من يمد رجله لا يمد يده! فالذي يمد رجله لا ينبغي أن يمد يده، فلذلك عليهم أن يقنعوا بخلق من يرثونه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم اجعل قوت آل محمد كفافاً)، وعرض عليه أن يكون نبياً ملكاً، وأن يكون نبياً عبداً فاختار أن يكون نبياً عبداً، وعاش على ذلك، فقد كان الحصير يؤثر في جنبه، وقد عاش هذه الحياة حتى نقله الله إلى دار الكرامة، وقد كان يمضي الشهر والشهران والثلاثة ولا توقد في بيوت آل محمد نار، فهذا كافٍ ومقنع لهم، وعليهم أن يلزموه.(18/21)
أقسام العلم، وأقسام الناس فيه
من الأخلاق التي ينبغي أن يأتسي بها من سلك هذا الطريق أن يعلم أن العلم ينقسم إلى قسمين: علم ينفع في الدارين، وعلم ينفع في إحداهما فقط.
فعليه أن يبدأ أولاً بالعلم النافع في الدارين، وألا يهمل العلم النافع في إحداهما، خاصة أنه قد يكون فرضاً كفائياً على الأمة، بل قد يتعين على بعض الناس، كما إذا لم يطمح له سواه، وعلى هذا فإن الذين يشتغلون بطلب العلم عليهم ألا يتحجروا، وألا يقفوا وارء الكتب التي يدونها أسلافهم ويجعلونها مناهج دراسية فلا يطلبوا ما زاد على ذلك، بل عليهم أن ينهلوا من ثقافات هذه العصور التي هم فيها، وأن يختاروا منها خيرها، وأن يكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فحينئذ سيؤتيهم الله فرقاناً يميزون به بين الحق والباطل، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، ومن كان له فرقان يميز به بين الحق والباطل أمن الفتنة -إن شاء الله تعالى- من كل ما يقرؤه.
وعلى الإنسان أن يتزود من ثقافة زمانه حتى يكون بذلك مستطيعاً للإفتاء فيه؛ فإن الفتوى مركبة من قضيتين: أولاهما قضية واقعية وأخراهما قضية شرعية.
فالقضية الواقعية هي أن هذه الصلاة كانت إلى هذه الجهة مثلاً، والقضية الشرعية أن الصلاة إذا كانت إلى هذه الجهة فهي باطلة، فكل حكم شرعي مركب من هاتين القضيتين: قضية واقعية وقضية شرعية، فمن عرف الشرع ولم يعرف الواقع لا يحل له الإفتاء؛ لأنه عرف أخرى القضيتين ولم يعرف أولاهما، ومن عرف الواقع فقط فكان فقيهاً فيه ولم يعرف الشرع أيضاً لا يحل له الإفتاء، فلابد أن يجمع الإنسان بين هاتين القضيتين: أن يكون مطلعاً على حال واقعه، وأن يكون مطلعاً على الحكم الشرعي حتى يستطيع تنزيله على الواقع الذي يعيش فيه.
كذلك فإن الله عز وجل عندما أمرنا بالتعلم أطلق ذلك، كما في قوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد استفاد بعض التجارب حتى من الأمم الكافرة، فاستفاد تجربة فارس في الخندق، واستفاد تجارب أخرى من أقوام آخرين، فتجربة ختم الكتاب إنما استفادها من الروم، كما ثبت ذلك في الصحيح، وكذلك غير هذا من التجارب المفيدة النافعة التي كان يأخذها من حضارة الأمم الراقية، فعندما بلغه أنهم لا يقرؤون كتاباً إلا مختوماً اتخذ خاتماً، فكان يختم به كتبه، فكل ما هو نافع ينبغي أن لا يترك، وأن لا يختص به أعداء الدين، ومن هنا فإن الجدلية التي سادت بعض بلداننا في حقبة من التاريخ أدركنا آخرها كانت بين فريقين من الناس: الفريق الأول: قوم يلتزمون بالماضي، ويعيشون على المساطر السابقة، ولا يريدون التجديد في أي شيء، ويرون أن الجديد من حيث هو مردود شرعاً، فهؤلاء هم المتحجرون، وضرر تحجرهم أكثر من نفعه، وقد أخروا مسيرة الدعوة، وأخروا مسيرة العلم في بعض البلدان تأخيراً كبيراً، ولذلك فإنهم هم المثقفون في وقت مجيء الاستعمار، وهم المثقفون في وقت ذهابه، ولم يكن لهم دور في دفعه وقتاله ولا في تبوؤ مكانه بعد ذهابه، فأخروا هذه الدعوة زماناً طويلاً.
الفريق الثاني: شباب تربوا في أحضان الاستعمار ونهلوا من ثقافته، لكنهم رغبوا في الجديد أياً كان، وأنفوا من القديم أياً كان، فأهملوا الجانب الشرعي، فلذلك كانوا جيلاً فاسداً، وما زال كثير من أفراده يعيشون بيننا، ونحن نشهد تلك الأجيال التي عاشت في آخر أيام المستعمر وفي أول زمان ذهابه، وهي من أسوأ طبقات المجتمع في الالتزام الشرعي وفي العلم، ولم تستفد العلم الذي كان لدى الأسلاف، ولم تستفد التزاماً ولا دعوة كما حصل بعد حصول هذه الدعوة المباركة، فكانت برزخاً وسطاً بين جيلين من الناس، ولذلك تجد أن كبار السن وصغار السن هم أحسن هذا المجتمع، فكبار السن -على الأقل- معهم علم والتزام ودين، وصغار السن معهم حرص على العلم، وحرص على الدعوة، والتزام بما علموه مما سمعوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين هاتين الطائفتين طبقة متوسطة، لا هي أخذت بما كان عليه السابقون، ولا هي أتت بما جاء به المشددون، ومن هنا قال أحد العلماء: شكا دين الهدى مما دهاه بأيدي جامدين وملحدينا شباب يحسبون الدين جهلاً وشيب يحسبون الجهل دينا وكذلك قال آخر: أشكو إلى الرحمان من دهر غدا قد قلّ من تلقاه فيه على هدى فذوو الهداية لا ثقافة عندهم وذوو الثقافة ناكبون عن الهدى والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(18/22)
الجيل الرباني الأول
لقد امتن الله على البشرية ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فأخرجها به من الظلمات إلى النور، وقد قام صلى الله عليه وسلم بتربية أصحابه تربية تؤهلهم لخدمة الدين والقيام بأعبائه، وتحقيق مطالبه والتعاون على نصرته، ونحن اليوم نعيش غربة الإسلام آخر الزمان، فينبغي على كل مسلم منا أن ينصر الإسلام، ويؤازر الصالحين بقدر إمكانه، لعل الله يلحقنا بالجيل الرباني الأول.(19/1)
إغاثة الله للأمة بالإسلام بعد الجاهلية
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى ختم الأمم بهذه الأمة المشرفة العظيمة التي جعلها خير أمة أخرجت للناس، وشرفها بأنواع التشريف، فأرسل إليها أفضل الرسل، وأنزل عليها أفضل الكتب، وشرع لها خير شرائع الدين.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى أهل هذه الأمة شهوداً على الناس عدولاً، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
وشرفها بأن جعلها أجيالاً متفاوتة، وأفضل هذه الأجيال وأشرفها القرن الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.(19/2)
فضيلة القرن الأول من المسلمين
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير القرون القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً فيقولون: نعم، فيفتح لهم).
وذلك الجيل الأول الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الأسوة والقدوة لمن يأتي بعدهم، فقد اختارهم الله لنبيه صلى الله عليه وسلم كما اختاره هو من سائر الخلائق، وشرفهم بصحبته والأخذ عنه، والتربي على يديه صلى الله عليه وسلم، ولذلك نالوا من السبق والتقدم في الإسلام ما لا يمكن أن يدركه من وراءهم، فقد قال الله في كتابه: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10].
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا أصحابي! فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).
إن تلك المنزلة العظيمة والمزية الكبيرة التي خص الله بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتضية منا جميعاً أن نحرص على الاقتداء بهم، وأن نحرص على أن نحاول أن نهتدي بهديهم لعلنا نلحق بهم، فهم السابقون الذين وصفهم الله بالسبق في كتابه، وأثنى عليهم به فقال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100].
لذلك جدير بنا أن نتدارس حياتهم وآثارهم، وأن نتعلم هديهم وسلوكهم، وأن نحاول الاقتداء بهم في الشأن كله.
إن أولئك القوم لم ينالوا هذه المنزلة ولا هذا الشرف بوراثة عن آبائهم وأسلافهم، ولم ينالوه كذلك بالأموال والجمع لحطام الدنيا، ولم ينالوه بالشهادات الراقية، وإنما نالوه بأن أسلموا أنفسهم لله سبحانه وتعالى، فصدقوا ما عاهدوه عليه، ونصروا رسوله صلى الله عليه وسلم، واتبعوه وكانوا معه، فبذلك نالوا هذا الفوز العظيم الذي لا يصلي أحد منكم إلا دعا لهم به، ولا يمكن أن يفعل أي معروف إلا كان تابعاً له فيه.
فهم السابقون السابقون، وهم المقدمون على الناس في كل شيء، فجدير بنا اليوم أن نراجع بعض ما تقدم به أولئك الرهط.(19/3)
حال العرب قبل البعثة
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بمكة في بيئة جاهلية يظهر فيها من القيم كثير مما تعرفونه، فتلك البيئة كان أهلها يعبدون الأصنام من دون الله، وكانوا يشرعون لأنفسهم، فهم الذين يحلون ما أرادوا ويحرمون ما أرادوا، وكانوا يغيرون شرع الله عمداً ويفخرون بذلك، ويقول شاعرهم: ونحن الناسئون على معد شهور الحل نجعلها حراما وكانوا كذلك يقطعون أرحامهم ويفسدون في الأرض، فالغني يزداد غنى باستغلال الفقراء، والفقير يزداد فقراً؛ لأنه لا أحد يرحمه.
وكانوا كذلك يتقاتلون لأتفه الأسباب وأقلها، فقد كانت حرب البسوس قبيل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودامت ثلاثين سنة، بسبب أن ناقة وطئت بيضة قبرة فكسرتها، ودامت حرب داحس والغبراء أربعين سنة بسبب أن فرساً غلبت أخرى في الجري، وكانوا أهل جاهلية جهلاء بكل مفاهيمها، ومن أعظم ذلك أن من ليس من أهل الحسب لم يكن يطوف بالبيت الحرام إلا عريانا.
وقد وقف أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه القضية مثالاً على جهل أهل الجاهلية، وضعف عقولهم، وتردي أوضاعهم، فقد جاءت امرأة فطلبت من يعيرها ثوباً لتطوف به فلم تنله، فأرسلت شعرها على جسمها وقالت: اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله وطافت عريانة.
كذلك كان حال أهل الجاهلية في تلك الجاهلية الجهلاء، وفي تلك الظروف التي كان العرب فيها تحوط بهم الحضارات الكبرى كحضارة الروم بالشام، وحضارة فارس بالعراق، وحضارة الحبشة في القرن الأفريقي.(19/4)
بعثة النبي صلى الله عليه وسلم
في تلك الظروف كانت جزيرة العرب مقسمة في الولاء تبعاً لهذه الحضارات والمماليك الكبرى، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالبينات والهدى في وسط جزيرة العرب؛ لينذر أم القرى ومن حولها، فعندما بعث -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- هيأه الله لتحمل هذه المسئولية الجسيمة، فقد اختاره الله من أوسط نسب قومه، فهو أشرفهم نسباً، والأوسط بمعنى الأشرف والأفضل من ناحية الآباء ومن ناحية الأمهات، ولا يمكن أن يغمز أحد فيه من جهة النسب؛ لئلا يكون ذلك حائلاً بين الناس وبين اتباع دعوته، وما هذا إلا لطف من الله سبحانه وتعالى بعباده الذي يعلم ضعفهم، فعرفوا نسبه وعرفوا مكانته، وإلا فالأنساب لا تقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فالناس جميعاً سواسية بين يديه وهم عباده جمعياً.
لكنه اختار أن لا يمتحنهم بما يتنافى مع طباعهم، فأرسل إليهم من هو أشرفهم نسباً، وكذلك هيأه في خلقته فجعله أحسن الناس صورة، ولذلك وصفه من راءه بأن وجهه مستدير كفلقة القمر، وقال هو عن نفسه: (أوتي يوسف شطر الحسن وأوتيت الحسن كله).
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قد أتم الله خلقه فلم يكن يعرف أحد أحسن منه خلقاً لا فيمن تقدمه ولا فيمن تأخر عليه، وعرف في الجاهلية قبل البعثة بالصدق والأمانة والإخلاص والكرم والجود والتفاني في خدمة الناس، ولذلك حينما بعث إليه فارتاع من الملك أول ما أتاه قالت له أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: (كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق).
فقد عرف بهذا صلى الله عليه وسلم حتى لم يكن أحد يتهمه في مقال قاله، ولذلك عندما أذن له بالجهر بالدعوة وقف على الصفا فصاح في الناس ثلاثاً: (واصباحاه! فاجتمعوا عليه، فقال: يا بني عبد مناف! أليس إذا أخبرتكم أن وراء هذا الجبل خيلاً ستغير عليكم تصدقونني؟ قالوا: ما عرفنا عنك كذباً، فقال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، فأعلن دعوته من ذلك المكان الشريف وصدقوه فيما عرفوا فيه من الصدق والأمانة والإخلاص والنزاهة.(19/5)
معايير دعوة النبي صلى الله عليه وسلم
وعندما بعث صلى الله عليه وسلم لم يتصل بعلية القوم وكبارهم، ولم يحتقر أحداً أن يبلغ إليه رسالات الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن قيم أهل الدنيا ومغاييرهم ليست هي المعايير عند الله.(19/6)
التخلص من كل مظاهر الشرك
وتخلصوا كذلك من كل مظاهر الشرك بالكلية، فهذا عمر بن الخطاب الذي كان يصنع صنماً من التمر ويسجد له، فإذا جاع أكله، أصبح بعد إيمانه يقول للحجر الأسود الذي به شرف وشرف آباؤه: والله إني لأعلم إنك لحجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
تغيرت المفاهيم التي كانت سائدة لديهم، فأصبحوا جميعاً يصرحون بعداء ما كان آباؤهم يعبدونه من دون الله، فهذا خالد بن الوليد الذي كان يقاتل قائداً من أجل نصرة اللات والعزى، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إيمانه ليقطع شجرة العزى، فلما قطعها ضرب في جذعها بالسيف فخرجت له عجوز من الجن ثائرة الرأس تدعو بالويل والثبور فأتبعها بالسيف حتى قتلها وهو يقول: يا عزى كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك(19/7)
التخلص من الأخلاق والقيم السيئة
ثم تخلصوا كذلك من الأخلاق والقيم السيئة التي نهاهم الله عنها، فقد أنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم في التحذير من مفاهيم الجاهلية: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23].
فأهل الجاهلية الذين لم يؤمنوا ولم يصدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين أصمهم الله وأعمى أبصارهم وختم على قلوبهم، فلا يمكن أن يعرفوا معروفاً ولا أن ينكروا منكراً، وهم شر الدواب عند الله كما وصفهم الله بذلك، فلم يجعلهم من جنس البشر، بل قال: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:22 - 23]، وقال فيهم: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنفال:55].(19/8)
إزالة المفاهيم الجاهلية الخاطئة من عقول الناس
وأول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم صياغة الرجال، فقد بدأ بتكوين أولئك القوم وتربيتهم على خلاف مفاهيم الجاهلية، فأزال من أذهانهم كل ما يتصل بالجاهلية، فتلك المفاهيم الخاطئة التي كانت سائدة في الجاهلية عالجها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى محاها بالكلية، ولذلك قام فيهم خطيباً ذات يوم فقال: (إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتفاخرها بالآباء).
فقد أذهب الله عنهم ذلك بالكلية، وأصبح الرجل منهم يعرف أن أباه عدو له، وأن أخاه عدو له إذا لم يسر معه على طريق الحق.
ولهذا أنزل الله فيهم: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة:22]، انظروا إلى الفرق الشاسع والكبير بين حالهم وحال أهل الجاهلية الذين كانت القبيلة بكاملها تقاتل من أجل نصرة فرد من أفرادها ظالم وقع في ظلم سافر، ومع ذلك تنصره القبيلة بكاملها، فإذا غضب غضب لغضبه سبعون ألفاً لا يسألون مما غضب، كما قال الأحنف بن قيس.
فهم بعد هذا أصبحوا يقاطعون ويقاتلون آباءهم وإخوانهم وأبناءهم وعشيرتهم في ذات الله عز وجل.(19/9)
الحرص على هدايته الناس أجمعين
فهذا عبد الله بن مسعود راع للغنم من هذيل وهو حليف في بني زهرة في قريش، حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على هدايته فآمن واتبع وصدق، وكان من أفضل هذه الأمة، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: (رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد).
كان رضي الله عنه نحيفاً رقيقاً لفقره، فصعد في شجرة فرآه بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك بعضهم من حموشة ساقه -أي: من رقة ساقه- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتضحكون من حموشة ساق ابن مسعود، فلهي عند الله أثقل من جبل أحد).
فالمعايير التي عند الناس ليست هي المعايير عند الله، بل قد يرى الرجل الذي لا يعرفه أحد وهو عند الله يوزن بالآلاف، ويرى الرجل الضخم السمين لا يساوي عند الله جناح بعوضة.
وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالرجل الضخم السمين يوم القيامة لا يساوي عند الله جناح بعوضة)، لذلك اتصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن يثق بهم ثلاث سنين لا يدعو إلا من يثق به، وهذا يدلنا على أهمية الثقة بين الناس، فمن المهم أن تتصل القلوب وأن يقع بينها التعارف والانسجام والتفاهم، فإن ذلك معين على تقبل الحق وسماعه، فقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين لا يدعو إلا من يثق به.
وقد فعل ما فعل من سبقه من الأنبياء، فقال: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران:52]، فاستجاب له الذين أراد الله بهم الخير من ذلك الجيل المشرف فاجتمعوا حوله.(19/10)
تضحية الجيل في سبيل الدعوة وتفانيهم في حب المصطفى
كذلك جعل هؤلاء القوم أنفسهم وقوداً لهذه الدعوة، فرضوا أن يقدموا أرواحهم لله عز وجل، وأن يجاهدوا في سبيله بكل ما يملكون، فعندما آمن مصعب بن عمير كان أعز فتى في قريش، وكانت أمه من أغنى النساء في مكة، فكانت كل يوم تشتري له ثوباً جديداً غير الثوب الذي كان يلبسه بالأمس، ولا يأتي نوع من أنواع الطيب إلا كان مصعب أول من يستعمله.
فلما أسلم وهو فتى شاب من أحسن ما يكون الفتيان، وكان يشبه في خلقه برسول الله صلى الله عليه وسلم، حبسته أمه بين أربعة جدران، وعذبته بأنواع التعذيب، وقطعت عنه كل ما كانت تعطيه، وخلعت عنه كل ملابسه، وذلك من أجل كلمة واحدة وهي أن يكذب بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فامتنع من ذلك وصمد وصبر على هذا المنهج، حتى كان أول سفير في الإسلام، وأول إنسان عهد إليه ببناء دولة الإسلام، فكان أول من هاجر إلى المدينة من المهاجرين.
وكذلك فإن عبد الله بن أم مكتوم كان رجلاً ضريراً أعمى، ولكنه كان مستنير البصيرة، حي القلب، مقبلاً على الله محباً للخير، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم جاءه فآمن وصدق، ثم لم يزل يغدو عليه كل يوم يريد أن يتعلم من الدين كل ما ينزل وكل ما يتجدد.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواعد بعض علية القوم من المشركين الذين يأتون لمجادلته ويأتون للرد عليه، فكان من ردهم عليه أن يقولوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27]، وهذه سنة سالفة لمكذبي الرسل، فقد قالها مكذبو نوح عليه السلام، ثم لم يزل مكذبو الرسل يرددونها فيظنون أن المعيار في الفضل هو بكثرة المال والولد.
فيقولون: لم يتبعك الوليد بن المغيرة، ولم يتبعك العاص بن وائل، ولم يتبعك أبو حكيمة زمعة بن الأسود، ولم يتبعك عمرو بن هشام، ولم يتبعك عتبة بن ربيعة، وإنما اتبعك ضعفاء الناس وفقراؤهم.
وكانوا يرون أن هؤلاء لا يمكن أن يحصل منهم خير ولا نصرة، ولذلك قال عروة بن مسعود رضي الله عنه يوم الحديبية عندما قدم سفيراً عن قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد! إني أرى قومك قد لبسوا جلود النمور وصحبوا العوذ المطافيل يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوة أبداً، وما أرى معك إلا أشابه من الناس، جدير أن يفروا عنك ويتركوك! يظن أن أولئك القوم الذين ليسوا أكثر الناس مالاً ولا أولاداً ولا أكبرهم مكانة اجتماعية بين الناس، يمكن أن يتفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن ينصروه، وهذا بمفاهيم أهل الجاهلية.
ثم إن عبد الله بن أم مكتوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في وقت مجيء الوفد من قريش لمجادلته، فلما دخل عليه استحيا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوده مع أولئك القوم الذين يحتجون عليه بأنه لم يصحبه إلا الضعفاء، فعبس رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد التخلص منه في ذلك الوقت حتى يمضي علية القوم.
فعاتبه الله في كتابه في شأن ذلك الرجل الضرير فأنزل الله فيه: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 - 4].
زكى الله عبد الله بن أم مكتوم وجعله من خيرة الناس، فكان ثاني من هاجر إلى المدينة بعد مصعب بن عمير.
وقد ولاّه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة في بضع عشرة غزوة كما في الصحيح، يوليه على المدينة وعلى إمامة المسجد النبوي والخطابة فيه؛ لأنه عاتبه فيه ربه سبحانه وتعالى، وشهد له وزكّاه.
ثم لما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم ضاقت الأرض بما رحبت بـ عبد الله بن أم مكتوم؛ لشدة محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فحرص على الشهادة في سبيل الله ليلتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما بعث أبو بكر رضي الله عنه أول جيش إلى العراق تجهز ابن أم مكتوم وخرج فيهم، ولم يزل يقاتل ويتعرض للموت حتى كان يوم القادسية فدعا الأمير سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فقال: يا سعد إني رجل ضرير لا أرى شيئاً أرهبه فأعطني اللواء فلن أزال أتقدم حتى ألقى الله أو يفتح للمسلمين.
فأعطاه سعد الراية فما زال يتقدم بها والفرس بين يديه وعن يمينه وعن شماله لا يبالي بهم، حتى لقي الله شهيداً رضي الله عنه وأرضاه.
إن ذلك الجيل الأول رجالاً ونساء وكباراً وصغاراً حققوا من الأمثلة مثل هذا الذي حققه عبد الله بن أم مكتوم؟ فما منهم أحد إلا وقد كان أشد الناس حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلالاً له وتصديقاً بما جاء به، وقناعة بتحقق وعد الله الذي وعده به، ولذلك لما رجع عروة بن مسعود إلى قريش قال: يا معشر قريش! لقد زرت النجاشي في ملكه، وكسرى في ملكه وقيصر في ملكه فما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، فوالله إنهم حوله لكأن على رءوسهم الطير، وإذا امتخط لم تقع مخاطته إلا في يد رجل منهم فيدلك بها وجهه ورأسه، وإذا تكلم أصغوا لكلامه، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه.
فقد كانوا يعظمون رسول الله صلى الله عليه وسلم التعظيم الذي أمرهم الله به في كتابه، فقد قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح:8 - 9].
فهذا خبيب بن عدي بن مالك الأنصاري خرج غازياً في بعث الرجيع فقاتل بني لحيان فأمسكوه أسيراً، وجلبوه إلى مكة وباعوه لقريش، فحبسته قريش بمكة حتى خرج الشهر الحرام ثم ذهبوا به خارج الحرم ليقتلوه، فلما نصبوا الخشبة ليصلبوه عليها، تقدم إليه أبو سفيان بن حرب فقال: يا خبيب أتحب أن ابننا محمداً عندنا نقتله وأنك في قومك في عزك ومكانتك؟ فانتفض خبيب وقال: والله الذي لا إله غيره ما أحب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصاب بشوكة في مكانه الذي هو فيه، وأنجو أنا من القتل والصلب، وأعلن أبياته منشداً لها في قوله: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان لله مصرعي وذلك في ذات الإله فإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع وسأل الله أن يبلغ سلامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل الله ملكاً يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام خبيب وما لقي، وأن الله سبحانه وتعالى رضي عنه وأرضاه.
وكذلك فقد كان كل فرد من أفرادهم حريصاً على أن يكون من الذين يمكرون في أهل الجاهلية، ومن الذين يعلون كلمة الله بكل ما يستطيعون، ولذلك عجب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يوم بدر عندما ابتدره الفتية الصغار من الأنصار يقولون: يا عم إذا رأيت أبا جهل فأرناه، فيقول: وما حاجتكم إليه؟ فيقول كل فرد منهم: أريد أن أكون أنا الذي أقتله لما أعرف من عداوته لله ولرسوله، فيعجب عبد الرحمن بن عوف من هؤلاء الفتية الصغار الشباب الذين يحرص كل واحد منهم أن يكون هو الذي يقطع رأس الكفر، ويزيله بالكلية.(19/11)
نساء الجيل الأول وعبيده وغربائه
وكذلك نساؤهم فقد كن عند هذا المستوى من تحمل الأمانة والسعي لإعلاء كلمة الله بكل ما يطلب منهن، وبكل ما يستطعن تقديمه في سبيل الله وإعلاء كلمته.
فتخرج المرأة مهاجرة من مكة إلى المدينة أربعمائة وستة عشر كيلو في شدة الحر على رجليها، لا تحمل نفقة ولا زاداً حتى تصل، وقد خرج وفد من النساء مهاجرات ساخطات لشأن أهل الجاهلية، حتى قدمن المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله فيهن في سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10].
فشرفهن الله عز وجل جل بهذا التشريف العظيم الذي ما زال المسلمون يقرءونه في صلاتهم ويتعبدون الله بتلاوته.
وكذلك عبيدهم الذين كانوا يعانون من الظلم والمسكنة والمهانة في الجاهلية، فقد كان منهم من أعلى كلمة الله ونصره، وبذل في سبيله ما لا يستطيع أحد أن يبذله اليوم، وكانوا بتلك المنزلة العالية، حتى إن أبا ذر يوم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله فقال: (يا محمد! ومن تابعك على هذا الأمر؟ قال: رجل وامرأة وعبد وصبي).
كل شريحة من شرائح المجتمع خرج منها سابق هو أفضلها، فكان من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم حينذاك الرجل أبو بكر، والمرأة خديجة بنت خويلد، والعبد بلال، والصبي علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
وكذلك الحال بالنسبة للغرباء الذين أتوا من ديار بعيدة، فهذا صهيب الرومي كان بمكة وكان تاجراً ثرياً، وكان كبير السن قد بلغ أكثر من المائة، وكان رامياً معروفاً لا يخطئ في رمايته، فلما أراد أن يهاجر إلى الله ورسوله أرادت قريش منعه من ذلك، فجمع ماله فنثره بين أيديهم، فقال: يا معشر قريش! ماذا تبغون مني؟ فأنتم تعلمون أني شيخ قد بلغت أشدي، وتجاوزت المائة، وليس بيني وبينكم رحم، وإن كنتم تطلبون المال فهذا مالي في وجوهكم، وإن كنتم تريدون ردي عن ديني فوالذي يحلف به صهيب لا يصل إلي أحد منكم حتى يخرج سهم من كبده.
ونثر كنانته وفيها السهام وهم يعرفونه بالرماية، فتركوه وخرج مهاجراً إلى الله ورسوله.
وكذلك عدد من الذين أتوا من أماكن نائية من أطراف جزيرة العرب عندما سمعوا بهذا النبأ العظيم وببعثة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، جاءوا يلتمسون ما جاء به من عند الله، وقد أخبرنا أحد هؤلاء بأمر عجب، ألا وهو عمرو بن سلمة رضي الله عنه قال: (كنت في قومي وأنا صبي صغير فسمعنا بمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكنت أتلقى الركبان وأتحسس الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يأتي وافد من قبل المدينة إلا سألته عما أنزل من القرآن، فكنت أحفظ كل ما بلغني عنه.
فلما أسلم قومي وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يجعلوا إمامهم أقرأهم لكتاب الله، فكنت أقرأهم، وكنت إذا ذاك صبياً صغيراً، فكنت أصلي لهم -أي: أؤمهم في الصلاة- فقالت: امرأة من نسائنا: غطوا عنا سوءة إمامكم، فاشتروا لي ثوباً ألبسه، فما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحي بذلك الثوب).
هذا الطفل الصغير كان ذا همة عالية، فكان لا يرى راكباً من جهة المدينة إلا أتاه وسأله عما نزل من القرآن، فحاول حفظه حتى كان أحفظ قومه لكتاب الله، وكان إمامهم مع أنه كان لا يجد ما يستر عورته من الملابس، لكنها علو الهمة وعلو القدر وعلو المنزلة عند الله عز وجل.(19/12)
الإيثار من أبرز صفات الجيل الأول
إن ذلك الجيل قد رباهم الله وهيأ لهم الظروف؛ ليخلعوا أمر الجاهلية بالكلية، فأنتم تعلمون حرص أهل الجاهلية وبخلهم، وأن كل إنسان منهم لا يمكن أن ينذر أحداً بخير، لكن ذلك الجيل الفاضل عندما حاصرهم أهل الجاهلية وحاربوهم وحبسوهم في الشعب لا يبيعون إليهم ولا يشترون منهم، ولا ينكحون منهم ولا ينكحون إليهم ثلاث سنين، جعل الله لهم هذه البيئة الصالحة لمقاطعتهم الجاهلية، حتى تتحقق فيهم قيم الإسلام، فلولا حصار الشعب لم يستطع أولئك القوم أن يحققوا قيم الإسلام تماماً كما هي؛ فمثل الإيثار الذي تحقق بينهم إذ ذاك إذا سمعه أحد الآن عجب له.
تصور أن عدداً كبيراً من الفقراء الذين لا يملك أحد منهم ثوباً ولا لقمة عيش، وهم في حرب يحاصرهم الأقربون والأبعدون، ولا يستطيع أحد منهم أن يخرج لحاجة، يجد أحدهم كساء أو جبة مدفوناً في الأرض فينفضه فيأتي به أصحابه، ولا يستأثر به دونهم، ويجد أحدهم جلداً يريد أكله وهو في غاية الجوع فيغسله ويأتي به أصحابه؛ ليشتووه ويأكلوه جميعاً.
إنه الإيثار الذي أثنى الله به على الأنصار فيما بعد! يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: لقد رأيتنا في الشعب مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد اشتد بنا الجوع فخرجت لبعض حاجتي فوقعت يدي على شيء، فإذا هو جلد فأخذته فأتيت به أصحابي، فغسلناه وشويناه وأكلناه.
ويقول عتبة بن غزوان رضي الله عنه: (لقد رأيتنا بالشعب مع النبي صلى الله عليه وسلم وما منا أحد إلا وهو يعصب الحجر على بطنه من الجوع، ولقد خرجت ذات ليلة لقضاء بعض حاجتي فوقعت يدي على شيء، فإذا هو جبة فنفضتها فأتيت بها أصحابي، فاقتسمتها أنا وسعد بن مالك اتزرت بنصفها واتزر بنصفها، ثم والله الذي لا إله غيره لقد رأيت أولئك النفر وما منهم أحد إلا وهو وال على مصر من الأمصار).
بعد هذا الأذى وهذا الحصار المطلق فتح الله لهم أبواب الفتح، واستجابت لهم الأمم؛ لصدقهم مع الله سبحانه وتعالى، فنصرهم بالرعب وهيأ لهم الأسباب.
فأولئك القوم الذين هم بهذا القدر من القلة، كما وصفهم الله تعالى في قوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} [الأنفال:26]، آواهم الله ومكن لهم في الأرض، وأزاح عروش الملوك أمامهم، وجعل سيوفهم علامة على الرعب في وجوه الأمم كلها، ففتحت الأرض أمامهم، ولم يستطع ملك من الملوك ولا قائد من القادة أن يقف في وجه أضعف أولئك القوم.
إنهم نصروا الله سبحانه وتعالى وصدقوا معه، فنصرهم الله كما تعهد بذلك، فقد قال في كتابه: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] , وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105 - 106].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
وقال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21].
فكتب الله لهم الغلبة والعزة والتمكين.(19/13)
مقارنة بين أحوالنا وأحوال الجيل الأول رضوان الله عليهم
تعال بنا لحظة لنقارن وضعنا نحن مع وضع أولئك القوم.
إن أحفاد هؤلاء القوم بعد أن فتحت عليهم الدنيا أبوابها انشغلوا عما شرف به أولئك القوم، فأصبح الرجل من أحفاد الصحابة يعيش هنا في هذه المدينة أو غيرها من مدائن الإسلام لا يفكر إلا فيما يجمعه من الأموال، ولا يفكر بغزو في سبيل الله، ولا إعلاء لكلمة الله، ولا جهاد في سبيله، ولا أن يرعب عدواً من أعداء الله، ولا أن يذل عدواً من أعداء الله، ولا أن يقول كلمة الحق مدوية صارخة، ولا أن ينصر الله في أي موقف، يريد أن يعيش مائة سنة معافى في جسمه آمناً في سربه، لا يتعرض لأذى بمقال أو حال، ولا يتكلم أحد فيه، ولا يتلقى أي تهديد ولا أي أذى، فهل هكذا عاش أولئك القوم؟ إن أولئك القوم الذين تحبون الاقتداء بهم، وتريدون مجاورتهم في الفردوس الأعلى من الجنة، ما نالوا ذلك إلا بما بذلوه، فكيف تتمنون الأماني بدون أن تسلكوا الطريق؟! إن هذا الطريق كل من سلكه قد تعهد الله له بأن يوصله إلى هذا المقام، فقد انتدب الله لمن خرج في سيبله لا يخرجه إلا إيمان به وتصديق برسوله، أن يرجعه إلى المكان الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة، أو أن يدخله الجنة.
لذلك إذا قارنا أوضاعنا مع أوضاع البعثة سنجد انتشاراً للشرك في هذه الأرض حتى بين المسلمين، قد يفعل بعضهم من الشرك ما لا يظنه شركاً، ونرى انتشاراً للفواحش والظلم، ونرى استبداداً على الناس، ونرى قطيعة للرحم، ونرى أن الغني يزداد غنى من غير حل، وأن الفقير يزداد فقراً كذلك؛ لاستغلال الأغنياء للفقراء أبشع استغلال.
ونرى الفقراء يزدادون فقراً، فلا يمكن أن يحقق أحد منهم ما هو مضطر إليه وما هو محتاج له إلا بالعناء المبين، والمشقة الكبيرة، بل قد فرض على الناس من أنواع الظلم ما يجعل الذي يريد أن يعيش من حلال لا يستطيع ذلك إلا بالربا والمحرمات.
ونرى كذلك إدباراً عن منهج الله وإعراضاً عن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كثير من البيئات، ونرى حرصاً بالغاً على جمع هذه الدنيا وحطامها كما كان أهل الجاهلية يفعلون، ونرى تناصراً بين الناس على أساس النسب القبلي كما كان في الجاهلية من غير قناعة بذلك من الناحية الدينية.
لذلك كان لزاماً علينا أن نراجع مسيرتنا حتى نعود إلى ما كان عليه ذلك الجيل، وحتى يحقق لنا الله ما وعدنا من النصر والتمكين في هذه الأرض.
إن علينا عباد الله أن نراجع هذه المسيرة بالبدء بمدارسة ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستسلام المطلق له، والأخذ به، وأن نعلم أن ما يصيبنا في سبيل ذلك ليس شراً لنا، فالمفاهيم التي ترسخت في أذهاننا لابد أن نزيلها، فإن الذين قتلوا يوم أحد شهداء في سبيل الله، وقطعت آذانهم وأنوفهم، وبقرت بطونهم، وقد حكم الله بأنهم لم يمسسهم سوء، فكل ما أصابهم ليس بسوء عند الله عز وجل.
إذ قد حقق الله لهم أعلى الدرجات، وخصص لهم مقامهم في الفردوس الأعلى من الجنة، وشهد لهم بأنهم شهداء في سبيله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171].
إن حال أولئك كان حال الصدق مع الله سبحانه وتعالى، ولهذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد قبل موته بثمانية أيام، فقال: (إني شهيد على هؤلاء بأنهم صدقوا الله ما عاهدوه عليه)، فترحم على أصحاب أحد وصلى عليهم.
إن هذا المكان الذي ناله أصحاب أحد في الإسلام بالإمكان أن يناله الحاضرون اليوم والسامعون، فما هو إلا بالتضحية في سبيل الله، والبذل لإعلاء كلمة الله، وإيثار الآخرة على الدنيا، والأخذ بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته، والتمكين له مهما كلف ذلك.(19/14)
سبل اللحاق بالجيل الرباني الأول(19/15)
التعاون على إقامة السنة ونصرة الحق
علينا عباد الله أن نحرص على أن نتمسك بما نسمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما جاءنا من الهدي المبين الذي نؤمن به ونصدق، وأن نعلم أن سلوك هذا الطريق يحتاج منا إلى مجاهدة، وهذه المجاهدة تحتاج إلى تعاون فيما بيننا، فلا يمكن أن يسلك الناس هذا الطريق من غير أن يجاهدوا أنفسهم في سلوكه؛ لكثرة المغريات والفتن المضلة، ولا يمكن كذلك إذا جاهدوا أنفسهم على سلوكه أن يستمروا عليه إلا بالتعاون على البر والتقوى.
فكل إنسان منا عرضة للنسيان، وعرضة للفتن، وعرضة للضعف أمام الشهوة، وعرضة للضعف أمام الضغوط، لكنه إذا وجد من يتعاون معه فيذكره بما نسي، ويعظه إذا فتر، ويرغبه حين الترغيب، ويرهبه حين الترهيب، ويعينه إذا احتاج إلى العون، فإننا سننطلق جميعاً إن شاء الله تعالى في طريق الحق.(19/16)
مؤازرة الصالحين قدر الاستطاعة
علينا عباد الله أن نحرص على الصحبة الصالحة المعينة على هذا الطريق كما حرص عليها أولئك النفر، فقد جاء أعرابي فرأى ما هم فيه، فأحبه وهو يعلم أنه لا يستطيعه، فقال: (يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت).
انظروا إلى هذا الإعرابي الذي جاء من غنمه وباديته وهو يحب أن يفعل ما يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولكنه يعلم في نفسه العجز عن ذلك، فقال: (يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟! قال: أنت مع من أحببت).
فإذا حرص الإنسان على أن يحقق أمر الله في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، حرص على أن يكون مع الصادقين، فإن الله يرفع مقامه ومنزلته بذلك الحرص ويكون هو من المؤازرين إن لم يكن من الذين يحملون الثمر، فقد ضرب الله هذا المثل لهذه الأمة في الإنجيل فقال: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]، فالزرع يخرج شطأه في البداية فتخرج السنبلة التي تحمل الحب وهي ضعيفة ملتوية، لكنها يحيط بها السنابل من كل جانب، وتلك السنابل لا تحمل الحب لكنها تتحمل الضربات عن السنبلة التي تحمل الحب، فتحول بين الطفيليات وبين الوصول إلى الحب، وتؤازرها في وجه الرياح، وبذلك تكون مشاركة، فمن كان عاجزاً عن أداء عمل لكنه يستطيع أن يناصر أهله بما يستطيع، فإن ذلك كاف في تحقيق مأموله والوصول إلى مراده، حتى يكون: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:29].
إن علينا عباد الله أن نعلم أن هذا الزمان الذي نحن فيه زمان الفتن المضلة التي لا يبقى بيت حجر ولا مدر إلا دخلته.
فعلينا أن نستعيذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن نحاول النجاة منها، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بتمسكنا بالهدي الأول، وأن لا نتجاوزه، وأن نحرص عليه جميعاً، فقد وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيام بين يدي الساعة المتمسك فيها بدينه كالقابض على الجمر.
إن ما ترونه اليوم هو الغربة الثانية التي أخبركم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء).
(طوبى للغرباء) إما أن تكون خبراً وإما أن تكون دعاءً، فقد تحمل على الخبر، فمعناه أنهم قد طابوا، وأن الله اختار لهم طوبى، وهو إما مقام في الجنة أو منزلة عظيمة عند الله.
أو أن يكون ذلك دعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاؤه مستجاب، فقد دعا لهم بأن يطيب ما هم فيه من أمور الدنيا، وأن ينالوا تلك المنزلة العالية في الجنة يوم القيامة.
إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن خير كثير يكون في آخر هذه الأمة، وخرج إلى المقبرة يوماً فأخذ عوداً فنكت به في الأرض، فقال: (وددت لو رأيت إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني قوم آمنوا بي ولم يروني، للواحد منهم أجر خمسين، قالوا: منا أو منهم؟ قال: بل منكم، إنكم تجدون على الحق أعواناً ولا يجدون على الحق أعوانا).
إننا لم ندرك صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أفضل وأسمى وأكمل، فعلينا أن نحرص على إدراك أخوته حتى نكون من إخوان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا به ولم يروه، فهم الذين يتحقق فيهم الخير الآخر الذي يكون في هذه الأمة.
فهذه الأمة لن تعدم خيراً، وسيكون في آخرها خلافة على منهج النبوة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقوم الساعة حتى يقوم اثنا عشر خليفة، وقال كلمة فأسر بها، قال جابر بن سمرة فسألت أبي، فقال: كلهم من قريش).
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تلك الخلافة على منهاج النبوة كما في حديث حذيفة بن اليمان في مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة).(19/17)
المسابقة إلى الخيرات
إن علينا معاشر المسلمين أن نتسابق في ميدان الإيمان، وأن يحرص كل واحد منا على زيادة قربه من الله سبحانه وتعالى قبل أن يسخط عليه، وأن نحاول إذا سمعنا من هذا الدين وهذا الهدي شيئاً أن نكون من الآخذين به، فقد كان أولئك الجيل الصالح إذا سمع أحدهم كلمة واحدة مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم تمسك بها، ولم يتركها بعد أبداً.
أخرج مسلم في الصحيح عن عنبسة بن أبي سفيان بن حرب عن أخته أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى لله اثنتي عشرة ركعة من غير الفريضة في اليوم والليلة بنى الله له قصراً في الجنة).
قالت أم حبيبة: فما تركت ذلك منذ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عنبسة: وأنا ما تركته منذ سمعته من أم حبيبة.
فهكذا كان الحرص، بحيث إذا سمع الإنسان حكماً واحداً أخذ به ولم يتركه، وكان صادقاً عندما يقول: ما تركته منذ سمعته، ولذلك حين قطعت رجل أحدهم في سبيل الله أخذها فقبلها وقال: هذه الرجل لم تحملني إلى حرام منذ خمسين سنة.(19/18)
ضرورة التخلص من مظاهر الجاهلية
إن علينا -عباد الله- بعد مدارستنا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نزيل ما بقي عالقاً بأذهاننا من أمور الجاهلية، فما نراه اليوم من حرص على الدنيا، وأخذها من غير حلها، وما نراه من فشو الكذب والغش، وما نراه من فشو قطيعة الرحم، وما نراه كذلك من المذلة لأعداء الله، وما نراه من الهوان أمام أمم الشر؛ كله من مظاهر الجاهلية الجهلاء.
إن رجلاً من أبناء المسلمين وقف في ملأ عظيم من الناس في الأسبوع الماضي، فذكر زعيماً من الزعماء وقال: إن الناس لم يتفقوا على محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن أهل دولة كذا قد اتفقوا على هذا الزعيم الفلاني.
تباً له كيف يقارن أحداً برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لو كان من الصالحين! فكيف يقارن زعيماً من زعماء الدنيا وظالماً من ظلمتها برسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إن ذلك الملأ الذي قالت فيه هذه الكلمة ودوت فيه في الأبواق، لم يستنكر أحد منهم، ولا وقف أحد منهم للرد عليه، بل قد أعجبوا بكلامه؛ لأنهم جميعاً يتسابقون في ميدان واحد هو ميدان النفاق.(19/19)
جمع الناس على نصرة الدين والدعوة ليس فيه مخالفة للسلف
إننا -عباد الله- بأخذنا بذلك الهدي لا يمكن أن نلام بأننا قد نقدنا، فما يفعله أقوام من المناورة والمجادلة عندما يقولون: إن الذين سبقونا من أهل القرون الماضية قد كانوا على خير وهم خير منا، ولم يكونوا يفعلون هذا الذي تفعلونه.
إن هذه الحجة واهية؛ لأننا وأهل القرن الماضي، وأهل القرن الذي قبله جميعاً عيال على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباع لهم.
ولا يمكن أن يأتي أحد بأفضل مما جاء به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان مقتدياً فليقتد بالأفضل، وليس ذلك طعناً في الذين قبلنا ولا نقداً عليهم، فقد أفضوا إلى ما قدموا، ونحن مهمتنا أن نستغفر لهم، وأن ندعو الله لهم، كما أثنى الله على اللاحقين من هذه الأمة بذلك.
فالله سبحانه وتعالى قد بشر بأجيال آتية في هذه الأمة في عدد من آي كتابه، فقد قال في سورة الحشر بعد ذكره للمهاجرين والأنصار، قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
فهذا حالنا مع كل السابقين من آبائنا وأجدادنا والقرون السابقة نقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
ومن بشارات الله بهذه الأجيال اللاحقة قوله تعالى في سورة الجمعة: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة:3]، فهذه بشارة بالجيل الذي سيأتي.
(وآخرين منهم) أي: من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
(لما يلحقوا بهم) أي: أنهم سيلحقون، فـ (لما) هي للماضي المنقطع، معناه: أن ذلك سينقطع فسيلحقون بهم.
فهذه بشارة من الله سبحانه وتعالى بأجيال لاحقة في هذه الأمة فيها الخير العظيم، ويكفي من تشريفها أن الله سبحانه وتعالى وعدها باللحاق بالأجيال الأولى.
(لما يلحقوا بهم) هذا إخبار بأنهم سيلحقون بهم، وهذا كاف من رفع القدر والمنزلة أن يوصفوا بأنهم سيلحقون بالأجيال السابقة من هذه الأمة، وبالسابقين من المهاجرين والأنصار.
إننا عباد الله في هذا البلد في غرب هذه الأمة الإسلامية، وقد ورد في ذكر فضل غرب هذه الأمة كثير من الأحاديث، فقد أخرج مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، وهم أهل الحق.
فعلينا أن نحرص على أن نكون من أولئك الطائفة الظاهرين على الحق الذين هم من أهل الغرب، حتى نلقى الله سبحانه وتعالى، وقد بذلنا ما عاهدنا الله عليه، وصدقنا فيما وعدناه سبحانه وتعالى.
وعلينا أن نعلم أن الله غني عنا، وأنه سيعز دينه بعز عزيز أو بذل ذليل، وأننا إذا تراجعنا عن نصرة هذا الدين فسيخرج الله من الأجيال من ينصره، ولا يخاف في الله لومة لائم، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتاب عليّ وعليكم إنه هو التواب الرحيم.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بكل شيء تحب أن تحمد به على كل شيء تحمد عليه، لك الحمد في الأولى والآخرة، لك الحمد كثيراً كما تنعم كثيراً، لك الحمد أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى.
أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولا تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، ونسخت الآثار وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرءوف الرحيم.
نسألك بعزك الذي لا يرام، وبنورك الذي أشرقت له السماوات والأرض؛ أن تهدي قلوبنا، وأن تسترنا عيوبنا، وأن تكشف كروبنا، وأن تجعل التقى زادنا، وأن تحقق مرادنا، وأن تصلح أولادنا! اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا! ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا! اللهم استعملنا في طاعتك، واجعلنا هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه! اللهم اجعلنا قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، واسقنا من حوضه بيده الشريفة شربة هنيَّة لا نظمأ بعدها أبداً، وبيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وآتنا كتبنا بأيماننا تلقاء وجوهنا يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأوهن كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين، اللهم أظهر دينك وكتابك على الدين كله ولو كره المشركون! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم ثبت أقدامهم وسدد سهامهم، واجمع على الحق قلوبهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم! اللهم احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم، ونعيذهم بعظمتك أن يغتالوا من تحتهم! اللهم أنزل رجزك وبأسك وسخطك وعذابك على كفرة أهل الكتاب الذين يحاربون أولياءك، ويصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك؛ اللهم لا تحقق لهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية! اللهم أخرجهم من بلاد المسلمين صاغرين يا ذا القوة المتين! اللهم طهر المسجد الأقصى من رجس اليهود، اللهم أخرجهم من بلاد المسلمين صاغرين يا ذا القوة المتين! اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين، واجعل المال في أيدي أسخيائنا! اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، واختم بالحسنات آجالنا، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك! اللهم لا تدع في عشيتنا هذه ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً وفيها لنا صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين.
اللهم لا تخرج أحداً منا من هذا المسجد إلا وقد غفرت له! اللهم إنك أعلم بنا منا فاقض ما في علمك من حوائجنا، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، واجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(19/20)
المستقبل لهذا الدين
الدلائل والمظاهر الكثيرة تشير إلى عودة هذا الدين العظيم ليحتل مركز الصدارة والسيادة على الأمم والمجتمعات، كما كان عليه الحال في المراحل الأولى من ظهوره، ومهما تمكن الكفر وساد الظلم وحورب الحق، وتواطأ القريب والبعيد على عداوة الإسلام، فإن لهذا الطغيان نهاية ولابد، وليس أدل على ذلك من المبشرات التي وقعت وتقع وتدل على أن المستقبل لهذا الدين، وأن الله سينصر جنده وأولياءه، وهو وعد من الله لن يتخلف، والله لا يخلف الميعاد.(20/1)
كمال هذا الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، لا معقب لحكمه، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، وهو الذي يقول في محكم التنزيل {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]، وقد شاء بحكمته البالغة أن يختم الرسالات والنبوات ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يجعل الدين الذي جاء به مكملاً للأديان، فقد أكمل به الله الدين لأهل الأرض، فلا يمكن أن يأتيهم خطاب من عند الله بعده؛ ولذلك قال في نهاية تنزيل أحكامه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ} [المائدة:3] فقد ارتضى الله هذا الدين دِيناً للبشرية كلها، وخاطبها بذلك، وقد جاء في الصحيح أن حبراً من اليهود جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين! آيةٌ في كتابكم لو فينا -معاشر اليهود- أنزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: وما هي؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] قال: أما إني لأعلم أين أُنزلت، ومتى أُنزلت، لقد نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقفٌ بعرفة يوم جمعة، ولم يعش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية إلا اثنين وتسعين يوماً، فكان ذلك في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، فعاش عشرين يوماً من شهر ذي الحجة، وثلاثين يوماً هي شهر المحرم، وثلاثين يوماً هي شهر صفر، وتوفي في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، وقد أنزل الله عليه هذه الآية؛ إيذاناً بأن الوحي قد انقطع، وبأن الدين الذي ارتضاه الله للبشرية هو هذا الإسلام الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.(20/2)
مظاهر حفظ الله لهذا الدين
وقد تعهد الله بحفظه ونشره ونصره، وأنتم تعلمون أنه القادر على الوفاء بما تعهد به، وأنه لا يخلف الميعاد، وكان تعهده بحفظه بارزاً في عدة مظاهر:(20/3)
حفظ كتابه العزيز
المظهر الأول منها: حفظ الكتاب الذي أنزله، فالكتب السابقة، إنما كان يستحفظها أهلها، فيحفظها الأحبار والرهبان، وهذا الكتاب تولى الله حفظه بنفسه؛ ولذلك قال الله في ذكر التوراة: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة:44].
وقال في القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وقال فيه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، وقال فيه: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:193 - 196]، فتولى الله حفظه بنفسه، فهذا القرآن المحفوظ في الصدور، المتلو بالألسنة، المكتوب في المصاحف، مادام موجوداً على الأرض، فذلك معناه استمرار هذا الدين وحفظ له، ولا يمكن أن يعتدى على هذا الدين، ولا أن ينقص منه شيء، مادام هذا القرآن قائماً في الأرض حجةً على أهلها، وقد تحدى الله به الثقلين -الإنس والجن- أن يأتوا بسورةٍ من مثله، وقد حاول ذلك بعض البلهاء فما وصلوا إلى نتيجة، جاء مسيلمةُ الكذاب وهو من فصحاء بني حنيفة، فحاول أن يحاكي سورة من القرآن، فما جاء إلا بالمضحكات التي يعجب منها العقلاء، سمع سورة الفيل {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5] وهي غاية في البلاغة والإيجاز، تضمنت تقريراً كاملاً عن قصةٍ عظيمةٍ من قصص التاريخ، وذكرت ما فيها من العبر والآيات، وبينت آثارها، وما ترتب عليها، فجاء هو فسلطه الله على نفسه، فلم يأتِ إلا بقوله: [الفيل وما الفيل، وما أدراك ما الفيل، ذنبه قصير، وخرطومه طويل!!] وهذا كلام سمج، يضحك منه العقلاء، وكذلك عندما سمع قول الله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات:1 - 4]، على ما في هذه السورة من البلاغة العظيمة، ومن أعظمها: ما فيها من البديع {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذاريات:1] فالفاء في (ذرواً) مفتوحة {فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا} [الذاريات:2] والفاء في (وقراً) مكسورةٌ {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} [الذاريات:3] والفاء في (يسراً) مضمومة، وجاءت هذه على ترتيب الحركات الفتحةُ، ثم الكسرةُ، ثم الضمة، بالإضافة إلى ما فيها من الإعجاز اللفظي، وحاول مسيلمة الكذاب أن يأتي بشيء يقابل هذا فقال: [والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً!!] فلم يأت بشيء كذلك يستحق أن يسمع.
والمتأخرون من أعداء الله تعالى ساءهم وجود هذا القرآن واستمراره، فعندما اجتمعت الحكومة الإنجليزية في سالف الزمان؛ لتنفيذ مؤامرةٍ على المسلمين، قام فيهم خطيبهم، وحمل نسخةً من المصحف الشريف، وقال: ما دام هذا الكتاب موجوداً بأيدي المسلمين، فلن تصلوا منهم إلى مرادكم؛ فلذلك يبقى هذا الكتاب حافظاً لهذا الدين؛ لأن المستقبل له، فالمسلم إذا وجد ضيقاً، وتكالبت عليه الأمم يجد الفرج في كتاب الله، وإذا وجد مرضاً وألماً يجد الفرج في كتاب الله {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]، إذا جهل حكماً أو جهل خُلقاً فيجد الجواب في كتاب الله، فيه حل لكل المشكلات؛ ولذلك لا يمكن أن يحس بالغربة من رفيقهُ القرآن، ولا يمكن أن يحس بالعراء من يعيش في ظلال القرآن، فلا بد أن تستذكر هذه الأمة، وأن تستحضر هذه المعونة التي مجدها الله بها، ببقاء كتاب الله بين أظهرها، وهو تسليةٌ عن كل ما يحصل، فكلما جاءت ضائقة، أو احتج المشركون بشبهة؛ ففي القرآن ما يفرج ذلك، اقرءوا إن شئتم قول الله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ} [الإسراء:106 - 109]، وكذلك اقرءوا قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:32 - 33] إذا اشتكى الناس هزيمة من الهزائم، لجئوا إلى القرآن، فوجدوا فيه قصص السابقين وما نالوا من الأذى والضيق، فعلموا حينها أن حالهم سيتسع، إذا قرءوا في وقت ضيق وشدة قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:110 - 111]، عرفوا أن ما هم فيه إنما هو حلقة من حلقات سلسلة التاريخ، وسنةٌ من امتحانات الله التي يمتحن بها العباد، وأنه كلما جاء العسر فمعه يسران {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6]، وإذا جاء الضيق وصبروا، فإن النصر مع الصبر، وإذا جاء الكرب فإن الفرج مع الكرب، وبهذا يتقوى المسلم قوةً ليس لها حدود.
أحد العلماء ضايقه الناس فسجن ونُفي، وصودرت ممتلكاته، فأتاه شخص وهو في السجن، فنظر إلى حاله فإذا هو في غاية السرور والسعادة، فقال: يا أبا العباس ما يسرك؟! قال: ماذا يفعل أعدائي بي؟ قتلي شهادة، ونفيي سياحة، وسجني خلوة، جنتي في صدري، هذا القرآن بين يدي، فلا يمكن أن يُضايق من يجد المتسع في كتاب الله.(20/4)
وجود المجددين على رأس كل مائة سنة
من مظاهر بقاء هذا الدين واستمراره: أن الله سبحانه وتعالى وعد النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنةٍ من يجدد لها أمر دينها، وهؤلاء المجددون الذين يجددون أمر الدين ما فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم، ولا ابتعثوا من قبل دولة ولا سلطة، إنما ابتعثهم الملك الديان؛ لتجديد أمر الدين، وفاءً بوعده لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فهم يجددون ما جهله الناس من أمر الدين، وأخرج الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث وأبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين) أولئك اصطنعهم الله سبحانه وتعالى ووفقهم؛ ليجعلهم أمناءه على وحيه، ولم يكن الله ليأتمن على وحيه المهلكين، لا بد أن يختار له الأمناء الموقعين عن رب العالمين، الذين يميزهم الله بما آتاهم وبما وفقهم له وسددهم، ليحفظوا دين الله سبحانه وتعالى، وأنتم تعلمون أن هذا القرآن منزه عن القذر والوسخ والأنجاس، وإذا كان في بيت أحدهم فسيجعله في أشرف مكانٍ في البيت وأطهره وأنظفه، وهذا إنما هو بأمر الله، فكذلك لا يمكن أن يختار الله أوعيته إلا أنظف الناس قلباً، وأتقاهم لله، وأكثرهم إخلاصاً له، وتضحية في سبيله، أولئك هم الذين يؤتمنون على كتاب الله.
ثم إن هذا التجديد الذي تعهد الله به لهذا الدين، يشمل تجديده من ناحية ما يتجدد من الوقائع، فالنوازل والوقائع تتجدد، والناس يبحثون فيها عن حكم الله، فيخرج الله من يستنبط الحكم فيخرجه من القرآن ومن السنة، ويبينه للناس وكأنه أنزل الآن، وكذلك ما يردون به على شبهات المفترين، وابتداع المبتدعين، وما يؤيدهم الله به من التوفيق للأدلة وبيانها.
وكذلك من أوجه التجديد: ما يجددونه من بعث روح الأمل في الناس، وبعث التضحية فيهم، وتنبيههم إلى المخاطر المحدقة بهم، فكل ذلك من تجديد أمر الدين؛ لأن الأمة إذا أحست أن الدين مهدد، فلا شك أنها ستبذل قصارى جهدها في الدفاع عن دينها الذي هو أغلى شيءٍ لديها.(20/5)
هذه الأمة خاتمة الأمم وأكثرها
من مظاهر استمرار هذا الدين: أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الأمة خاتمةً للأمم، وهي أكثر أمم الأنبياء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه عرضت عليه الأمم، فكان يرى النبي وحده، والنبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرهيط، حتى رأى سواداً كثيراً فظن أنهم أمته، فقيل: هذا موسى وأمته، ولكن انظر إلى الأفق قال: فنظرت فإذا سوادٌ عظيمٌ قد سد الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة من غير حساب ولا عذاب)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم كذلك في صحيح البخاري أنه قال: (ما من نبيٍ بعثه الله قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر) أي: أوتي معجزةً لو رآها البشر جميعاً لآمنوا، (وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)؛ وقال: (لا يبقى بيت شجرٍ ولا مدر إلا دخله هذا الدين)، والشجر أي: البيوت المبنية من الأكواخ والأشجار ونحو ذلك، والمدر: الطوب، أي: لا يبقى بيتٌ من الشجر والطوب إلا دخله هذا الدين، وكذلك أخبر أنه سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، وهذا واقع الآن فالأذان يرفع في جميع أصقاع الأرض، لا توجد مدينةٌ في أنحاء العالم إلا وفيها من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وسيزداد ذلك ويعم، فهذا وعد الله الذي لا يخلف الميعاد، والله تعالى بين هذا الوعد في عدد من آيات كتابه، فقد قال تعالى في سياق قصة موسى عليه السلام: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وقال تعالى في ذكر زبور داود: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105 - 106]، وقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:39 - 41].
وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
وقد بين الله سنته الماضية في أحلك الظروف وأقساها على المسلمين، عندما كان يوم الأحزاب، وحوصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه في المدينة، وجاءتهم قريش وأحلافها من جهة الغرب، وغطفان وأحلافها من جهة الشمال، واليهود ومن معهم من جهة الشرق، فأحاطوا المدينة من كل جانب، وأصبح الأعراب الذين حول المدينة يتربصون بهم الدوائر، يريدون الاعتداء على سارحتها، أو على زرعها، ويظنون أن من فيها سيتخطفون في الأرض، ولن تبقى لهم باقية، واشتد الحال بالمسلمين حتى وصل إلى ما بين الله في محكم التنزيل في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:9 - 11]، ثم جاء فرج الله عز وجل، وهذا الفرج لم يكن متوقعاً إلا لدى أهل الإيمان والتقوى؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:25 - 27]، وكل ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى وتقديره، وفي ذلك الوقت كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (أوتيت مفاتيح الأرض، وأوتيت كنوز كسرى وقيصر) وقال: (لتفتحن كنوز كسرى وقيصر، فتنفق في سبيل الله) فكان المنافقون يقولون: يعدكم محمدٌ أنه ستفتح عليكم كنوز كسرى وقيصر، وها أنتم اليوم لا يستطيع أحدٌ منكم أن يخرج لقضاء حاجته، وفي ذلك الوقت كان المسلمون لا يتجاوزن ألفاً وخمسمائة مقاتل، وهم محاصرون في المدينة، ليس لهم مدد خارجي، وليس لهم أي سلاح ضارب، فلم تمضِ ست سنوات حتى دخلت الجزيرة العربية كلها في دين الله، وخرجت الجيوش الإسلامية فاتحةً إلى العراق والشام، وتوالت الفتوح، وتضاعفت الرقعة، وفتحت كنوز كسرى وقيصر وأنفقت في سبيل الله.
إن هذه السرعة في ذلك الزمان الأول مؤذنة بسرعة النصر في هذا الزمان، فزماننا هذا أسرع، وما يحصل فيه مما ليس متوقعاً أكثر، فقبل سنوات قليلة من كان يتوقع منكم ما حصل اليوم من التطورات في هذا الزمان؟! فمثلاً: التلفون المحمول! من كان يتوقع أننا سنستخدم مثل هذه التقنية عن طريق هذا الجهاز؟! قبل سنواتٍ يسيرة لم يكن أحد يحلم بمثل هذا النوع، لكن ذلك يقع بين الكاف والنون، إذا أراده الله تحقق، ومن هنا لا يُستغرب أن يأتي نصر الله من غير أن نفكر في الوسائل، ومن غير أن نتعب أنفسنا في التخطيط، فسيأتي النصر لا محالة، لكن له شروط لا بد من تحققها، وهذه الشروط يسهل جداً على الأمة الإسلامية أن تحققها، فلا يطلب تحقيقها في جميع الأفراد، بل يطلب تحقيقها في الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، وهذه الشروط بينها الله بقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النور:55] إذاً: هذه هي الشروط، وهي ميسورةٌ سهلة، وتحقيقها ليس شاقاً، وإذا تحققت لابد أن يأتي النصر الموعود.(20/6)
وجود الثوابت المسلمة التي لا يناقش فيها أحد
ومن مظاهر استمرار هذا الدين، ما ثبت الله به المؤمنين من الثوابت المسلمة التي لا يناقش فيها أحد، مثل قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52] فالكفار ماذا يطلبون من المسلمين؟ أعداء الله ماذا يريدون؟ هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين: إما أن ينال المسلمون الشهادة في سبيل الله، وإما أن ينالوا النصر وهزيمة الأعداء؟ فهذا مثبتٌ عجيب لقلوب المؤمنين، وهو يقتضي منهم ألا ينهزموا فهم الرابحون على كل حال، {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52] إما الشهادة في سبيل الله، وهي أحسن، وأبلغ وأكبر من النصر على الأعداء وهو الذي يلي ذلك.(20/7)
وجود الآيات والدلائل التي تبين أن الحق هو هذا الدين
ومن هذه المظاهر: أن الله سبحانه وتعالى يريهم من الآيات في هذا الكون ما يدل على صدق وعوده، وصدق آياته المذكورة في كتابه، كما قال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، فنحن اليوم نشهد حالات كثيرة من إيمان الكفرة الفجرة، الذين يدخلون في دين الله أفواجاً، ويرجعون إلى هذا الدين طواعيةً من غير إكراه، بعضهم يرجع إليه بسبب اكتشافٍ علميٍ اكتشفه، فوجد أنه موجودٌ لدى المسلمين في كتابهم، أو في سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الذين يُسلمون بسبب الإعجاز العلمي عددهم كثير، ونجد آخرين يُسلمون بسبب مشاهد ومظاهر رأوها في وقت الحرب مع المسلمين، فقد أسلم كثيرٌ من الجنود الأمريكان عندما رأوا جثث المجاهدين المستشهدين في أفغانستان تمكث الأسابيع ولا تتغير، ليس لهم أية رائحة كريهة، أو تغير في اللون، أو اختلال في الجسم، إنما يعلو محياهم النور، وتظهر الابتسامة، وكذلك أسلم عددٌ كثيرٌ من الجنود الروس، بسبب ما شاهدوا من قبل في وقت الجهاد الأفغاني من النصرة التي نصر الله بها المؤمنين، ومن غرائب ذلك ما أخبروا به اليوم، فقد أخبروا الأمريكان في حربهم في أفغانستان، وقالوا لهم: مادمتم لم تشاهدوا الإبل، فلا بأس عليكم.
قالوا: ما هي الإبل؟ قالوا: كنا في الليل نرى بالرادار إبلاً أو جمالاً تقدم إلى المعسكر، فنراقبها بالرادار والتصوير، فإذا دخلت المعسكر تفجرت، فكانت كالصواريخ أو القنابل!! وقد شاهدت في جريدةٍ أمريكية عن بعض الجنود الأمريكان الذين كانوا مشاركين في تلك الحرب في أفغانستان أنهم شاهدوا في الليل جملاً عملاقاً يتقدم، فذكروا نصيحة الروس، فضربوه بالرصاص؛ فلم يؤثر فيه، كلما ضربوه قطع مسافةً إليهم، حتى وصل إلى المعسكر فتفجر، وهو مشاهد على الشاشات ليس معه أي أحد، وليس محملاً بأي شيء، لكن هذا من مكر الله وكيده.
وكذلك عدد من الذين يحضرون هذه الحروب، فيشاهدون من المجاهدين الصبر والمثابرة في الجهاد في سبيل الله، فيسلمون بسبب ذلك، فأحدهم أسلم في باكستان وقال: إنه لن يخرج من باكستان حتى يحفظ القرآن، وذلك بسبب أنه رأى الطائرات تقصف المجاهدين في خنادقهم، فإذا ولت وفرغت حمولتها، خرج منهم رجل فوضع إصبعه في أذنه وأذن، فما يكتمل الأذان حتى يخرج الناس من الخنادق، ويقيمون الصلاة، ثم يرجعون إلى خنادقهم قبل أن تأتي الطائرات، فهذه من الأمور التي يشاهدها الكفار، فيشهدون بها، وتكون سبب إسلام بعضهم.(20/8)
من المبشرات التي تدل على أن المستقبل لهذا الدين(20/9)
دخول كثير من الكفار في دين الإسلام لأسباب متعددة
وهنالك بعض الآيات الكونية التي لا تتعلق بنصرة الدين، لكنها تتعلق بصحة ما جاء في القرآن، فإسلام عدد كبير من الأطباء بسبب شفاء بعض المرضى الميئوس منهم بسبب شرب زمزم، أو بسبب قراءة القرآن؛ واضحٌ منتشر، وكذلك بعض الأمور العجيبة التي ترونها، وقد تكون أمراً معتاداً لدينا نحن، لكن يجعله الله سبباً لإسلام بعضهم، لقيت شاباً إنجليزياً في (برمنجهام) قد أسلم وحُسن إسلامه، فسألته أسلمت على يد من؟ فقال: أسلمت على يد هرة!! لم يسلم على يد أحدٍ من الدعاة، ولا بسبب شريطٍ ولا بسبب كتاب، إنما أسلم على يد هرة، فسألته عن ذلك، فذكر أنه كان سائقاً لليموزين -أي: تكسي- فاستأجره رجلٌ في وقت المساء.
وهو من شرق آسيا لا يدري هل هو من باكستان أو بنغلاديش أو غيرها، فحان وقت صلاة المغرب، فطلب منه أن يتوقف، وأن يترك العداد يشتغل حتى يصلي صلاة المغرب عند مسجد من المساجد، قال: فدخل الرجل يصلي وأنا مرتاح؛ لأنني من الصباح وأنا واقف والعداد يشتغل، فليس علي خسارة! فخرجت من السيارة فإذا هرة جميلة عند باب المسجد، فذهبت لأداعبها، وألعب معها، ففرت مني ودخلت المسجد، فرجعت كئيباً حزيناً، فما وصلت إلى السيارة حتى خرجت مرةً أخرى تنظر إليّ، فرجعت إليها، فدخلت المسجد، ثانيةً وثالثة، فعرفت أنها تُحس أن شيئاً ما يعصمها في الداخل، وأنني لا أتجاسر عليها إذا دخلت، فتبعتها قليلاً لأرى ما بالداخل، فنظرت فإذا جميع المصلين في حال الركوع، وهم جميعاً خاشعون لله، نظرت إلى أناس كلهم يدينون لرب العالمين في هيئةٍ واحدة، فكان هذا سبب إسلامه.
وآخر أبوه يهوديٌ متعصبٌ متطرف من أغنياء الإنجليز، وهو طبيب من مشاهير الأطباء في لندن ويعمل معه طبيب ليبي في نفس المستشفى الذي يعمل فيه، فحصل بينهما شجار، فهذا اليهودي قال: ما من شعبٍ من شعوب الدنيا أوسخ ولا أقذر من المسلمين، فالطبيب الليبي قال له: هذا غير صحيح، وإن أقذر شيء في الإنسان لدى المسلمين أطهر من وجهك أنت، أنت تغسل وجهك كم مرة في اليوم؟ قال: مرة في الصباح.
قال: المسلمون ينظفون موقع خروج النجاسة، ويغسلونه خمس مرات، في أوقات الصلاة، وذكر له الوضوء، فأنكر هذا، فقال: تعال معي لتشهد ذلك في مسجد من المساجد، فخرج معه، فلما أتيا إلى مسجد لندن في إحدى الصلوات الجهرية -أظن أنها صلاة العشاء- وقف قبل الصلاة عند مكان الوضوء، فإذا الناس مقبلون على الوضوء، يأتي الإفريقي والآسيوي والإنجليزي والعربي المسلم، كلهم يتوضأ بنفس الهيئة، يغسل كل عضو ثلاث مرات، وهم لا يشاهدون هذا الرجل، ثم دخل المسجد وقال له: انتظرني هنا فقد حان وقت الصلاة، وأنت لا يحل لك أن تدخل المسجد، دعني أصلي وأعود إليك، فوقف حول الميضئة والناس مازالوا يأتون فيتوضئون ويدخلون، قال: انتظرت قليلاً فإذا الباب عندما يفتح يخرج إلي منه صوت جميل بنغمة هادئة، فأحببت أن أسمعه عن كثب، فاقتربت إلى الباب، فأدخلت وجهي فقط، فسمعت الإمام يقرأ قراءة هادئة جداً، والناس وراءه في صمت رهيب يستمعون إليه، سمعت ذلك وقتاً ثم خرجت، ولم يشد هذا الأمر انتباهي كثيراً، فأنا كثيراً ما أسمع الأغاني والأناشيد، فهذا أمر طبيعي عندي، فوقفت في المكان الذي تركني فيه صاحبي، فلما قضى الناس الصلاة وسلموا، صاروا يخرجون أفواجاً، وكلما مر عليّ أحد منهم نظر إليّ نظرة مستغرب، وبدأ يقترب مني ويسألني ما شأنك؟ حتى تجمهر حولي عدد من الناس يقولون: إن وجهك مضيء يُشرق، وكنت أنكر ذلك ولا أظنه صحيحاً، حتى جاء صاحبي، فقال: ماذا في وجهك؟ قلت: ليس به شيء قال: بلى إن وجهك يضيء كالقمر، قال: فأنكرت ذلك فتقدمت إلى المرآة فنظرت، فإذا فيه بقايا من النور الذي ذكروا، فوجد أنه الجزء الذي دخل منه في المسجد، فقد أصبح مثل فلقة القمر، فكان هذا سبب إسلامه، وهذا الذي حصل لهذا الرجل لا يحصل الكثير من المسلمين ممن يدخل المسجد، لا يحصل لهم هذا النور، لكنها آية خصه الله بها.
ومثل هذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في محلم بن جثامة، الذي قتل رجلاً يشهد أن لا إله إلا اله وأن محمداً رسول الله عند إسلامه: (اللهم لا تغفر لـ محلم)، فمات فدفنوه فلفظته الأرض، ثم دفنوه أخرى فلقطته الأرض، ثم دفنوه ثالثةً فلفظته الأرض، فواروه بالحجارة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الأرض لتواري من هو شر منه)، ولكنها آية، كذلك هذا الرجل الذي ابيض وجهه، كثير من المسلمين ممن هو خير منه لا يحصل له هذا، لكنها آية كانت سبب إسلامه.
ومثل ذلك طبيبٌ أمريكي متخصصٌ في الأمراض الباطنية، جاءته امرأةٌ مغربية مصابة بالسرطان في مراحل متقدمة، وأخبرها أنه ليس لها أي علاج، وأعطاها بعض مسكنات الألم، ونصحها بالخروج من المستشفى؛ لأن بقاءها فيه مُكلف، بل نصحها أن تذهب إلى قريتها أو مكانها حتى تموت، وكان ذلك بأسلوب مهذب، وفهمت منه المرأة اليأس من حياتها، وأنها لا يمكن أن تعيش، فقالت له بكل صراحة: أنا موقنة بأنني سأموت، لكن أخبرني فقط كم تتوقع بقي من عمري؟ قال: حوال شهر.
فذهبت هذه المرأة، وطلبت من زوجها أن يرتحل بها إلى مكة المكرمة، فذهب بها إلى المسجد الحرام، فلم تقبل الخروج منه، وجلست تشرب ماء زمزم وتقرأ القرآن، فلما مضت المدة المسموح بها في التأشيرة، وجدت أن شعرها قد ازداد وقد كانت تشرب الكيماويات التي تزيل الشعر، ووجدت أن صحتها قد تحسنت، وبعد مدة وجدت أنها قد برأت تماماً، ولم تعد تحس بشيء، فرجع بها زوجها إلى نفس الطبيب الأمريكي، فلما شاهدها كاد يغمى عليه من الهول، وأمر بإجراء فحوص عاجلة لها، فوجد أن كل شيء سليم! وهو لا يصدق هذا، سألها عن السبب، فذكرت له ذلك، فكان هذا سبب إسلامه.
وآخر أيضاً كان يعالج الأمراض النفسية، ووجد أن الأصوات من أبلغ المؤثرات، فكان يجمع أشرطة الأغاني والموسيقى وغيرها من مختلف أنواع الشعوب، حتى أصوات الطيور يسجلها، فيسمع المرضى تلك الأشرطة، حتى وقع على شريطٍ من القرآن بتلاوة الشيخ محمد علي المنشاوي من سورة الرعد، فوجد أنه أشد تأثيراً على المرضى من كل الأشرطة، فحاول أن يستعرض ما فيه، فسمع الكلام وإذ بالصوت عادي جداً ليس مثل أصوات المغنيين الجميلة، فعرف أن القضية لا تتعلق بالنغمة والصوت، وإنما تتعلق بمضمون الكلام، وبحث عن تفسير هذه السورة، حتى وصل إلى قول الله تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] فقال: هذه النكتة! فكان ذلك سبب إسلامه، ومثل هذا كثيرٌ جداً في أنحاء العالم.(20/10)
اعتراف أعدائه به
ومن هذه المبشرات التي تقتضي استمرار هذا الدين أن أعداء الدين اليوم معترفون به، وأعتاهم الجيش الأمريكي أكبر مؤسسة لعداء الإسلام وأقواها، ومع ذلك فإن للجيش الأمريكي معهداً لتكوين أئمة مساجد الجيش الأمريكي، وقبل ثلاث سنوات طبع الجيش الأمريكي نسخةً من المصحف، واتخذ قراراً بأنها تعتبر قطعة سلاح، أي: أنها محترمة، لا يحل لأي عسكري إلا أن يحترمها غاية الاحترام مثل احترام السلاح.(20/11)
رجوع كثير من عصاة المسلمين إلى طريق الهدى
ومن هذه المبشرات التي تدل على أن المستقبل لهذا الدين: رجوع كثير من أوساط المسلمين إلى الله سبحانه وتعالى، فنحن نشهد اليوم زيادة أعداد المساجد، وزيادة المصلين فيها، والذين كانوا منكم في هذه المدينة قبل فترة، لا شك أنهم يتذكرون عندما كان عدد المساجد فيها يسيراً، وكان رواد المسجد عدداً يسيراً من الشيوخ وكبار السن، واليوم -ولله الحمد- أعداد المساجد بهذا الحجم، وروادها بهذا العدد، وكثير منهم من الشباب الذين هم في مقتبل العمر، ومثل ذلك في أوساط النساء، وهن اللواتي كثيراً ما يعتلي بهن أصحاب الفجور، ويجعلونه من حبائل الشيطان ومن وسائل الإغواء، فاللواتي يلتزمن، ويهتدين، ويتسترن من النساء، أعدادهن متزايد، وليس ذلك خاصاً بشريحةٍ ولا طبقة، بل هو منتشرٌ في المستويات الراقية من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك في بلاد الكفر، فأعداد المساجد الآن في باريس وحدها تتضاعف في كل عام تقريباً، ما من عام يمر إلا ويزداد العدد بمثله تقريباً، بالإضافة إلى إقبالٍ شديد عليها، فقلما يبنى مسجد إلا ويمتلئ، وبالأخص في أيام الجمع، بل إن كثيراً من الذين فجروا وفسقوا وأوغلوا في أنواع الفجور والعصيان؛ أصبحوا اليوم من الداعين إلى الإسلام، بل وأصبح كثير منهم من الدعاة البارزين المشاهير، وتسمعون اليوم عدداً كبيراً من الخطباء والوعاظ الذي كانوا عصاة، ثم هداهم الله كالشيخ أحمد القطان في الكويت، والشيخ محمد العوضي، والشيخ عادل الكلباني والشيخ محمد بن سعيد القحطاني والشيخ سعيد بن مسفر القحطاني، والدكتور عمرو خالد المصري الذي كان من بيئةٍ موغلة في الإسراف في أمور الدنيا، ومن أرقى الطبقات الاجتماعية في مصر، وقد تربى بعيداً جداً عن دين الله والالتزام به، وقد أصبح اليوم يهتدي على يديه أعداد كبيرة جداً من الناس، وقد حضر مؤتمراً إسلامياً في باريس، وهو مؤتمر اتحاد المنظمات الإسلامية العاملة في فرنسا، وحضر هذا المؤتمر أكثر من مائة ألف من المسلمين، وكان من أبلغ المحاضرين المؤثرين فيه.
وهكذا عددٌ كبير من الذين يرتادون المساجد اليوم في كل مدينة من مدن العالم، كانوا قد فجروا وبغوا وطغوا ووصلوا إلى ذروة العصيان، ثم هداهم الله، فرجعوا طائعين غير كارهين، وأقبلوا على الدين من جديد، وقد حدثني أحد المهندسين الجزائريين وقد كان من هؤلاء الذين طغوا من قبل، قال: لم أكن أعرف شيئاً اسمه الصلاة، وكنت يوماً من الأيام راجعاً من العمل في وقت صلاة العصر، فرأيت أمام البيت والدي وهو شيخٌ كبي، ر ولا أسلم عليه إلا مرةً في الأسبوع، مع أننا نسكن في بيتٍ واحد!! فقلت: من أين جئت يا أبتي؟ قال: من المسجد، قلت: ما هو المسجد؟!، فأخذ بيدي فإذا مسجد قريب من باب دارنا، لكنه في زقاق ضيق ومختفي بطرف البيت، قلت: ماذا تعمل فيه؟ قال: أصلي أنا والمجموعة التي معي، فإذا هو يصلي مع تسعة كهول كبار السن، قال: فقلت له: إذا مت أنت وهؤلاء الكهول فسيهدم هذا المسجد ولن يتذكره أحد، قال: لا.
بل سيصل المصلون إلى باب دارنا هنا، فقال لي المهندس: واسمه محمد حبيب الله البشير: فوالله الذي لا إله غيره، لقد خرجنا من ذلك البيت توسعةً للمسجد، فالبيت أعطوه للمسجد فصار توسعة له.
واليوم شباب الجزائر خير من كهولها، وهذا دليلٌ على أن الصحوة بدأت من جديد؛ ولذلك فإن بعض طلاب العلم الدارسين هنا في موريتانيا من أبناء الجزائر يذكرون أن آباءهم كانوا أعداءهم، يمنعونهم من الصلاة، ويمنعونهم من قراءة القرآن، ويمنعونهم من الأذكار، وإذا وجدوا عندهم أي كتاب مزقوه، ويحاولون أن يكون معاشهم من الخمر وأنواع الفجور، ومع ذلك خرج من هؤلاء طلاب للعلم، مهاجرون بدينهم، يدرسونه -إلى الآن- في المحاضر.
وأذكر شاباً أتانا قبل سنوات هنا في المحضرة من بلاد المغرب، وما زال موجوداً هنا في موريتانيا حسب ما أعتقد، ذكر أنه مات أبوه وترك له خمّارة! فكان يبيع فيها الخمر، ألفى أباه يكتسب بذاك الكسب، ولم تكن له هوايةٌ إلا جمع الدراهم والدنانير، وهو مشتغل بذلك، يقول: حتى أتاني شاب أنيق نظيف، فكان يجلس إليّ ويتحدث إليّ، ثم بدأ يدعوني لزيارة المسجد، فزرت معه مسجداً، ثم دعاني لقراءة الحزب من القرآن، وهو أمرٌ معهود في المغرب، فأهل المسجد جميعاً يأخذون المصاحف ويقرءون حزباً واحداً بنغمة واحدة، قال: ثم بدأت ألتزم بأوقات الصلاة إلا صلاة الفجر، ثم فوجئت أن هذا الشاب الصديق صار يأتيني في وقت الفجر ويوقظني، فأذهب معه إلى المسجد، وبعد فترة ناقشني في قضية العمل في الخمر، وقال: أليس الأولى بك أن تحول هذا المتجر إلى متجر من نوع آخر أكثر ربحاً، وأكثر زواراً ورواداً، وأطيب، قال: أول مرة أسمع أن الخمر كسب خبيث، تفاجأت فترة مما قال، ثم عرفت أنه قد صدقني، وأنه محبٌ لي، فكان هذا سبب هدايته والتزامه.(20/12)
تاريخ الأمة شاهد على أن بعد الذل عزاً
تاريخ الأمة حافلٌ بالعز بعد الذل، وليس هذا مستغرباً، تعرفون أن التتار لما دخلوا بغداد في عام (654) من الهجرة، وذبحوا الخليفة وسبعمائة ألف معه على شاطئ النهر!! وكانت المرأة من التتار تأتي عدداً من رجال المسلمين فتقول: انتظروني هنا حتى آتي بالسكين أذبحكم بها، فينتظرونها حتى تأتي بالسكين فتذبحهم واحداً بعد الآخر وهم ينظرون؛ بسبب الوهن الذي دب في النفوس، وما هي إلا فترة يسيرة حتى عادت بغداد إلى مكانتها، ورجع إليها المسلمون بكل قوة، وانهزم التتار، ولهذا يقول أحد الشعراء فيها: بغداد صاحبة الزمان صروفا شتى ولابسة الزمان ظروفا شابت وعاودها الشباب ولم تزل أماً لأفذاذ الرجال عطوفا لم تنس عهد بنين قد ثكلتهم وسرى بهم ريح الذناء عصوفا ونظير هذا كثير، فعندما استقر العُبيديون بالقاهرة، وقتلوا علماء أهل السنة، ذبحوا منهم أكثر من ثلاثمائة عالم، وأرادوا القضاء على السنة بالكلية، حتى زعم زاعمهم أنه لن تقوم للسنة قائمة بعد اليوم في مصر، ولم تمض سنوات قليلة حتى ذهب الله بهم ورجعت إلى السُنة مكانتها وقوتها، جاء صلاح الدين الأيوبي الذي كان من خدمهم فأصبح قائداً لأهل السنة، وأصبح على تلك المكانة، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً ويقوم ثلث الليل دائماً، وكان محدثاً، فاجتمع حوله يوماً عدد من طلاب الحديث، فسألوه أن يحدثهم بحديث مسلسل بالابتسامة، وهو حديث مشتهر على ألسنة المحدثين، فحدثهم به ولم يبتسم، فقالوا: لو سمح سيدنا بالابتسامة حتى يتسلسل لنا الحديث، فقال: إني لأستحي من الله أن أبتسم وبيت المقدس بيد الصليبيين، ثم غزا الصليبيين حتى أخرجهم من بيت المقدس وحرره منهم، وكذلك ما حصل للأتراك المسلمين عندما غزوا مدينة هرقل وهي القسطنطينية التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (تفتح عليكم القسطنطينية مدينة هرقل، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش جيشه)، خرج محمد الفاتح لحصارها، وهو يعلم أن ملوك المسلمين وأمراءهم من قديم الزمان كانوا يغزونها من أجل هذا الوعد، ويرجون أن يكونوا هم الموعودين بهذا الوعد: (نعم الأمير أميرها، ونعم الجيش جيشه)، فقد غزاها يزيد بن معاوية ومعه أبو أيوب الأنصاري، وغزاها عدد كبير من قادة المسلمين فلم تفتح، فغزاها هو ففتحها الله عليه، فلما فُتحت ودخل عزيزاً منصوراً كنيسة (أياصوفيا) وهي الجامع الكبير باسطنبول الآن، واجتمع المسلمون للصلاة قال: هل أحد في الجيش منذ أن بلغ لم تفته تكبيرة الإحرام في صلاة الفجر في الجماعة؟! قالوا: لا.
قال: إنها مسألة كنت أحتسبها عند ربي، ولم يكن يطلع عليها أحد، ولكني اضطررت لأن أبينها اليوم، فما فاتتني تكبيرة الإحرام في صلاة الفجر في الجماعة منذ بلغت إلى وقتي هذا، فتقدم فصلى بالناس.(20/13)
التضييق عليه وعلى أهله يفتح له آفاقاً جديدة
ومن هذه المبشرات التي تدل على أن المستقبل لهذا الدين: أن الشيوعية الحمراء التي تمسخ الشعوب وتهجرها، وتعرفون ما حصل فيها من قبل من الاستبداد والشدة، وتعرفون أن شعب الشيشان قد تعرض من قبل للتهجير والإبادة، وأُخرج من بلاده كاملاً، شعب بكامله يُهجر من بلاده، وكذلك الشعوب المجاورة فإنها خضعت تحت سلطان الشيوعية سبعين سنة، وهاهم اليوم تخرج منهم النماذج الفذة المدافعة عن الإسلام، مثل القائد جوهر دوداييف رحمه الله، والقائد شامل باسييف وغير هؤلاء من المجاهدين في سبيل الله، وأذكر قبل سقوط الشيوعية أننا كنا في زيارة هنالك، فلقينا امرأة روسية مسلمة كبيرة السن، فأخبرتنا أنها لو وجدت من يريها المصحف لأعطته كل مصوغاتها ومقتنياتها، مقابل رؤية المصحف فقط!! تقول: أتمنى أن أرى المصحف، ولا تعرف كم جزء هو، فهممت أن أعطيها مصحفاً، فنصحني أصحابي وقالوا: لا تفعل، فإنك لو فعلت لماتت من حينها فرحاً به!! وكان الوقت إذ ذاك في شدته وقسوته، وكان الشباب يدرسون أحكام الطهارة والصلاة والعبادات تحت الأرض في الأقبية، وهم الذين خرجوا اليوم يقودون المسلمين في الجمهوريات الإسلامية كلها، أولئك الذين كانوا يتعلمون الأحكام في ظل سلطان الشيوعية الذي يضرب بيدٍ من حديد، وأذكر أن شباباً من طاجكستان أتوني وهم يريدون الدراسة، فوجدت أن كل واحدٍ منهم يلبس ثياباً قد جعل فيها مخابئ للكتب، وكانوا يشترون نسخاً من الكتب الصغيرة جداً -المضغوطة- يضعونها داخل ملابسهم، بحيث لا يطلع عليها أحد بوجه من الوجوه، ويخرجونها بصعوبة من داخل ملابسهم، ثم يردونها بعد نهاية الدرس.
كل هذا دليلٌ على أن هذا الدين عظيم، وأنه لن يتراجع أبداً ولن ينهزم، وأن البلايا والمحن التي تصيب هذه الأمة إنما هي معالم على طريق الحق، ونكبات أصابت من هو خير منا، وسيستمر الأمر خيراً مما كان، فلابد أن يبقى في هذه الأمة من يجاهد في سبيل الله ويعلي كلمة الله وينصر الحق، والآثار واضحة شاهدةٌ بهذا، لا ينكرها بوجه من الوجوه إلا مكابر.
أخبرني رجلٌ من الفلسطينيين: أنه لقي حبراً من أحبار اليهود في فلسطين، فقال له: ماذا تعلم عن المعارك القادمة؟ فقال: ما شأنك وشأنها؟ قال: نسمع أن اليهود سيهزمون في فلسطين، وأن دولتهم ستسقط؟ قال: نعم، ذلك واقع، لكن لستم أنتم أصحاب ذلك، قال: وما يدريك؟ قال: أصحاب ذلك من يكون عددهم في صلاة الفجر في المساجد كعددهم في الجمعة! إذا وصل العدد الذي يشهد صلاة الفجر في الجماعة قدر العدد الذي يشهد صلاة الجمعة فسيحصل ذلك، وهذا الذي قاله هذا اليهودي قد بدأت اليوم ملامحه، فالرجل الذي حدثني بهذا قد توفي رحمه الله، وهو شيخٌ من شيوخ القدس اسمه بيوض التميمي من ذرية تميم الداري رضي الله عنه، وكان عضواً في المجمع الفقهي، واليوم يخبرني عددٌ من الذين يأتون من فلسطين بإقبالٍ عجيبٍ على الله سبحانه وتعالى، وبالأخص في الشباب والنساء، ويذكرون من التزام الناس ما لا يتصوره أحد في ظل القمع الصهيوني والإهانات والأذى.
سئل عبد الفتاح مورو عن النهضة في تونس، وعن الصحوة الإسلامية فيها ما سببها، مع أن تونس من قبل ركز عليها الفرنسيون من أجل مسخها حضارياً بالكلية، وما لم يقوموا به قام به (بورقيبة)؟ فقال: كانت بداية الصحوة في تونس قطرةً من دم سيد قطب، قالوا: كيف ذلك؟ قال: لما قتل سيد قطب وصل خبر قتله إلى المسلمين في تونس، والشباب غارقون في أمرهم، لا يعرفون شيئاً عن واقع الأمة، ولا عن الدعوة، ولا عن الجهاد في سبيل الله، فحينئذٍ فكروا في هذا الأمر، فبدأت الصحوة في تونس بثلاثة أشخاص، كانوا يتدارسون مختصر الأخضري في المسجد، وبهؤلاء الثلاثة بدأت هذه الصحوة المنتشرة التي دخل الناس بسببها في دين الله أفواجاً، وهذا من العجائب الغريبة، ومثله ما حصل قديماً في ليبيا، عندما ظن الإيطاليون الفاشيون أنهم قضوا على الروح الجهادية في ليبيا بالكلية، فوجدوا أن المجاهدين يزداد عددهم، وفي كل فترة يزداد العدد، والحصار والقتل والتشريد مستمر، وكل ذلك يزيدهم عدداً، فقال أحدهم كلمته المشهورة: (إن المجاهدين المسلمين كشجرة الصنوبر، كلما قطع منها غصن نبت غصنان) فالعدد يزداد ولا يزيده القتل ولا التشريد ولا السجون إلا زيادةً وتقدماً.
ومن كان يظن أن تركيا التي مسخها مصطفى كمال أتاتورك، وحرم فيها الأذان بالعربية، وحرم فيها الحجاب، ستعود إلى حالها اليوم؟! إن الذي يزور تركيا الآن وقد زارها من قبل عشر سنين أو قبل خمسة عشر سنة يرى العجب خلال هذه الفترة، مدرسةٌ واحدة في تركيا يحفظ فيها أعداد هائلة من الشباب القرآن حفظاً عجيباً جداً ما رأيت مثله، شاب يحفظ القرآن، يحفظ الكلمة والتي قبلها والتي قبلها حتى يكمل القرآن إلى الخلف، يحفظه إلى الوراء كما يحفظه إلى الأمام، ويحفظه بأرقام الآيات وأرقام السور، إذا قلت له: هات الآية رقم كذا من السورة الفلانية، فإنه مباشرةً ينطلق، هذه المدرسة قائمة إلى الآن، ونظيرها كثير جداً من المدارس العلمية والقرآنية، وإقبال الناس على الحجاب والالتزام شيء كثير جداً، فكل هذا يدلنا على أن المستقبل لهذا الدين، وأن كل مضايقةٍ له لا يمكن أن تؤثر فيه، ولا يمكن أن تزيده إلا إقبالاً، وتعلمون أن الصحوة في هذا البلد استفادت كثيراً مما حصل من قمع الصحوة في الجزائر، لما قُمع الناس في الجزائر تحمس الناس هنا للدين، فرجع كثير من الشباب الموريتانيين للالتزام بالدين حين سمعوا الأخبار، وهكذا كلما حصلت واقعةٌ، كما إذا حصلت مشكلة في فلسطين فأوذي المسلمون هناك، أو في العراق أو في أي مكان؛ ينتشر الإسلام في أطرافٍ أخرى، وقد مثّل له أحد الناس باليبس من الأرض، فالأرض اليابس منها قدر الربع، والبقية كلها بحار، لكن لو قُدر أن جزيرة من الجزائر خسف بها فاختفت، فلا بد أن يظهر من اليبس قدرها أيضاً، إذا اختفت قارةٌ من القارات، فستظهر قارة أخرى؛ لأن القضية مبنية على هذا التوازن، فلهذا إذا حصلت المضايقة على الإسلام في جانب، ظهر الانفتاح والزيادة في جانب آخر، وما هذا إلا نظير قول الشاعر: كأن عيني وقلبي بعدكم طرفا غُصنٍ من البانة الخضراء فينانِ يسيل جانبه ماءً إذا اشتعلت ناراً مؤججةً في الجانب الثاني أو كما قال: أبو بكر بن جريج رحمه الله: قلبٌ تقطع فاستحال نجيعا فجرى فسال مع الدموع دموعا رُدت إلى أحشائه زفراته فقبضن منه جوانحاً وضلوعا عجباً لنارٍ أظلمت في صدره فاستنبطت من جفنه ينبوعا لهبٌ يكون إذا توقد في الحشا أيضاً ويظهر في الجفون ربيعا فكلما اشتدت المضايقة في جانب من الجوانب يتسع الحال في جانبٍ آخر، وقد تعهد الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ألا يسلط على هذه الأمة عدواً من سوى أنفسها، فيستأصل بيضتها، وإذا سُلط عدو على جانب من الجوانب؛ فسيحصل رخاءٌ في المقابل في جانب آخر، كلما حصلت شدة في مكان، فاعلموا أن الاتساع واقعٌ في مكان آخر، وهذا مبشر عجيب؛ والشدة لما وقعت على المؤمنين بمكة جاء الفرج بالهجرة، فالفرج لم يأت في البداية في دارهم الأصلية مكة، لكنه جاء في مكان آخر، وقد كانوا يبحثون عن مكانٍ مطمئنٍ، فهاجروا إلى الحبشة، فلم يكن المطمأن هنالك، بل كان بالأرض التي هي بين الحرتين، وقد أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أرضٌ ذات حرارٍ ونخلٍ بين جبلين، فظنها الأحساء وهجر فكانت المدينة، إن وعد الله سبحانه وتعالى حق، ولا بد أن يتحقق، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الناصرين لدينه، وأن يعزنا بالدين، وأن يعز بنا الدين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(20/14)
التوبة وأثرها
التوبة واجبة على جميع العباد؛ إذ إن العباد غير معصومين من الزلل والعصيان، ولكن الكارثة التي استشرت عند المسلمين اليوم هي الإصرار على المعاصي وترك باب التوبة دون أوبة، وهناك موانع وعوائق تحول بين العبد وتوبته إلى الله عز وجل، ينبغي على العبد معرفتها ليتجنبها ويكون على حذر منها.(21/1)
التوبة إلى الله تعالى(21/2)
أقسام التوبة
ثم إن هذه التوبة تنقسم إلى قسمين: توبة نصوح صادقة صاحبها صادق في توبته، صادق في توجهه إلى الله، قاصد بذلك الخروج من الذنب، وهذه هي التوبة المقبولة.
وتوبة غير نصوح، فصاحبها عازم على الرجوع ناوٍ للتكرير، إنما يتوب بلسانه وقلبه يكذب ذلك، وهذه التوبة هي زيادة افتراء واقتراف -نسأل الله السلامة والعافية-؛ لأن صاحبها لم يعزم على ترك المنهي عنه أصلاً، وإنما قال بلسانه قولاً لا ينويه بقلبه، وأشهد الله على ما يقول وهو كاذب، فكلامه الذي يقوله يلعنه، واستغفاره الذي يستغفر به يلعنه؛ لأنه يكذبه من باطنه وقلبه.(21/3)
الحالات التي لا تقبل فيها التوبة
تقبل التوبة إلا في حالين: الحال الأول: حال الغرغرة فإذا غرغر الإنسان وهو قد ودع الدنيا وختم على صفحات أعماله وأصبح الموت أقرب إليه من شراك نعله فحينئذ لا تقبل توبته؛ لأن أعماله قد ختمت، وهو يشاهد قبل الموت أحوالاً عجيبة هي التي ذكرها الله في قوله: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، فالمرء عندما يدبر عن الدنيا ويقبل على الآخرة يرى أموراً عجيبة لم تكن تخطر على باله، ولم يكن يتصورها بوجه من الوجوه، يشاهد ملائكة ربه، فيرى ملك الموت الذي يأتيه لقبض روحه، ويرى الملائكة الآخرين الذين كأن وجوههم الشموس يجلسون مد البصر وهم مادو أيديهم: أخرجوا أنفسكم.
ويشاهد كذلك الفتان الذي يدعوه للموت على غير الإسلام، فـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد المؤمنين أن يستعيذوا بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ففتنة المحيا هي قبل الموت عند الغرغرة، وفتنة الممات هي سؤال القبر الذي يسأل فيه الإنسان: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ وفي هذه الحال حال الغرغرة لم يعد للإنسان أمل الرجوع، فلذلك توبته هي من قبيل توبة فرعون عندما أدركه الغرق فقال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ} [يونس:90 - 91]، فلا يتقبل الله ذلك، فلهذا ترد التوبة ولا تقبل في حال الغرغرة، وأكثر الكفار يتوبون في وقت الغرغرة؛ لأنهم يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، ولهذا ذهب أكثر أهل التفسير إلى أن النصارى جميعاً يبدو لهم عيسى قبل موتهم، فيخبرهم أنه عبد الله ورسوله وليس ابن الله، وذلك مصداق قول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء:159]، فيعرض عليهم عيسى بن مريم بصورته عند الموت فيقول: أنا عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم، ولست ابن الله، ولست الله.
فتقوم عليهم الحجة بذلك، ويشهد عليهم عيسى يوم القيامة، لهذا قال: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} أي: ليؤمنن بعيسى {قَبْلَ مَوْتِهِ} أي: قبل موت الشخص من أهل الكتاب {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء:159] بذلك أنه قد بلغهم أنه ليس ابن الله، وليس هو الله، وإنما هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، هذا مذهب جمهور أهل التفسير.
وذهب آخرون إلى أن الضمير يعود على عيسى بن مريم، فيكون معنى (إلا ليؤمنن به قبل موته) أي: قبل موت عيسى بن مريم فإن عيسى بن مريم سينزل في آخر الزمان، ولن يموت قبل ذلك، وإذا نزل آمن به كثير من أهل الكتاب وصدقوا عندما يقتل الخنزير ويكسر الصليب ويحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويقاتل اليهود حتى يقتل المسيح الدجال.
الحال الثاني الذي لا تقبل فيه التوبة: إذا طلعت الشمس من مغربها.
لأن الحجة قد قامت، فهذه الدنيا كلها دار امتحان، والناس فيها مبتلون بهذه الأعمال، والامتحان إذا انكشف وعرفت نتيجته وعرف جوابه فلن يعود النجاح حينئذ وارداً، فإذا وقف الأستاذ وحل الامتحان وشرحه للناس فما فائدة أن يأتي شخص في مؤخرة الركب ويقول: أنا أحل لك الأسئلة وأعيد عليك ما قلت لنا؟! هل يعتبر هذا ناجحاً في الامتحان؟! لا يعتبر ناجحاً فيه، فكذلك بعد أن تطلع الشمس من مغربها فإن الناس قد قامت عليهم الحجة النهائية في هذه الدنيا، وقد أقبلت الآخرة مرتحلة، وأدبرت الدنيا مرتحلة كذلك.
ومن هنا لا تقبل التوبة ممن كان حياً قبل مطلع الشمس من مغربها، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [الأنعام:158]، فإذا طلعت الشمس من مغربها فهذا بعض آيات ربك، وإذا جاء ذلك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، ويدخل في ذلك أنواع التوبة من الذنوب كلها.(21/4)
صحة التوبة من ذنب مع مقارفة ذنب آخر
وتصح التوبة من ذنب مع مقارفة ذنب آخر؛ لأن الإنسان له جهات متعددة، وكل هذه الجهات تقع فيها الذنوب والطاعات، فيمكن أن يكون طائعاً بجوارحه عاصياً بلسانه أو بقلبه أو بماله، فيتوب من إحدى الجهات وهو متلبس بذنب آخر، ولا يبطل ذلك توبته، بل قد تتقبل توبته في ذلك الذنب وحده ويبقى ما عدا ذلك في المشيئة، ومن هنا قال الله سبحانه وتعالى في إعلان البراءة من المشركين: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]، فإن تابوا من الكفر -ولا يكون ذلك إلا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والدخول في الإسلام- وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين، فجعل الإسلام توبة مما سبقه من الكفر، والتوبة بهذا المعنى تشمل كل ذنب من الذنوب، فكل ذنب سواءٌ أكان شركاً أكبر لا يغفر، أم كان ذنباً لا يترك كحقوق العباد، أم كان ذنباً في المشيئة كحقوق الله المتمحضة فالإنسان مطالب بأن يتوب منه.(21/5)
مراحل التوبة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى افترض على عباده أجمعين أن يتوبوا إليه، فقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8]، وهذه التوبة هي لطف من الله وفضل، وإقالة للعثرات، يقيل الله سبحانه وتعالى عثرات عباده الذين فرطوا في جنبه، فيفتح لهم باباً من قبل المغرب اسمه باب التوبة، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها، وبهذا تتاح الفرصة لكل من أخطأ وأذنب أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فيخرج من ذنبه بتوبته إلى الله سبحانه وتعالى، ولهذه التوبة ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: هي توبة الله على العبد، وهي نور رباني يقذفه الله في قلب المذنب ليرجع عن ذنبه ويعود إلى الله سبحانه وتعالى، وهي توبة الله الأولى على العبد.
المرحلة الثانية: هي توبة العبد نفسه، واستغفاره ورجوعه عمَّا فرط فيه بجنب الله، وندمه على ما مضى، وعزيمته أن لا يعود إلى ذلك الذنب، وإرجاعه للحق إلى مستحقه إن كان ذلك في حقوق العباد، وهذه التوبة هي من فعل المكلف، وهي التي يثاب عليها، وهي الواجبة عليه؛ لأن الأولى هي من فعل الله لا يستطيع العبد التدخل فيها.
المرحلة الثالثة: هي توبة الله الثالثة على العبد، بمعنى: قبوله لتوبته.
والتوبة عمل من الأعمال، والأعمال كلها عرضة للقبول وللرد، فما شاء الله قبله من الأعمال، وما شاء رده وهو الغني الحميد، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وبذلك إذا رضي الله توبة من عبده فإنه يتقبلها، ويسمى ذلك القبول توبة في عرف الشرع، ولهذا قال الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة:117 - 118]، فهذه توبة الله على العبد ليتوب.(21/6)
الإسلام الحسن هو الذي يكفر الذنوب
ثم بعدها إذا تاب العبد وأحسن تاب الله عليه، وأعظم التوبة الدخول في الإسلام بعد الكفر، فإنه يجب ما قبله، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإسلام يجب ما قبله)، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أن الإسلام المقصود هنا هو الإسلام الحسن لا كل إسلام، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محا الله عنه كل سيئة كان أزلفها)، ثم كان بعد ذلك القصاص الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه.
فالإسلام الذي يكفر الذنوب هو الإسلام الحسن الذي يخلص فيه المرء لله، ويحسن ما أمره الله به، ويجتنب ما نهاه عنه، ويفعل ذلك تقرباً إلى مولاه واستسلاماً لأحكامه، فمن يعمل العمل ابتغاء ظهور أو ابتغاء التسمية أو ابتغاء الذكر في هذه الدنيا، أو يعمله لقصد حصوله على هدف من أهدافه أو غرض من أغراضه فإن ذلك العمل لا يقبل، بل يرد على صاحبه، وليس إسلامه حسناً، بل الإسلام الحسن هو الذي يقتضي الاستسلام الكامل لأمر الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، فإذا كان العبد لا يستسلم تمام الاستسلام لأمر الله فما وافق هواه من الشرع أخذ به وما خالف هواه رده أو التمس المعاذير لنفسه فهو غير حسن الإسلام، وعمله مردود عليه، ولا يقبل الله توبته حينئذ، ولا تكفر عنه سيئاته السابقة لذلك الإسلام المزيف.
ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:49 - 52]، فهذه التوبة المفترضة على المؤمن إذا أحسن إسلامه تكفر ما سبق، وهي بحسب الذنب الذي يتوب الإنسان منه، فإذا كان الذنب شركاً بالله فإن التوبة منه لا تكون إلا بالإسلام، وإذا كان الذنب بترك حق من حقوق الآدميين فإن التوبة منه لا تكون إلا بإرجاع ذلك الحق لمستحقه، وإذا كان الذنب بحق من حقوق الله المحضة فإن التوبة منه بالندم على ما فرط فيه الإنسان في جنب الله، والإسراع للخروج منه إذا كان متلبساً بالجريمة في وقتها، وكذلك النية على أن لا يعود إلى هذا الذنب، فبهذا تصح توبته.(21/7)