الغلو معالمه ومخاطره [1]
ما من أمر إلا وللشيطان فيه نصيب إما بالغلو والإفراط، وإما بالتمييع والتفريط، والغلو كبير خطره، كثيرة مفاسده، عظيمة آثاره، ولقد حذر الله ورسوله منه، كما بين أهل العلم معالمه وصوره ومخاطره.(177/1)
تعريف الغلو لغة واصطلاحاً
الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، وعم نواله، وعظم عطاؤه، وتعددت آلاؤه، له الحمد سبحانه وتعالى، جعل الإسلام يسراً، وجعل المسلمين أمة وسطاً، نحمده سبحانه وتعالى على آلائه الجليلة، ونعمه الكثيرة، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا من بعد ذلة، أرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعه واقتفى أثره ونهج نهجه إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! فمن حديثنا السالف في جمعتنا الماضية جاءني من الإخوة المصلين من هو مستحسن وموافق، ومن هو طالب ومستزيد، ومن ما زال عنده بعض حيرة وتساؤل، ولأننا كما تعودنا دائماً نؤكد ونذكر أنفسنا بقصد وجه الله سبحانه وتعالى والإخلاص له، وإرادة الخير والهدى والمصلحة لأمة الإسلام والمسلمين؛ نشرع في بيان قد يطول، لكنه مهم ومفيد، ولأننا وكما أكدنا كثيراً في السابق لا نريد أن تكون أقوالنا وأحاديثنا ردود أفعال مؤقتة، أو عواطف متأججة لا يخالطها أصالة المنهج العلمي، واتزان التفكير المنهجي، ومن ثم فإن بعض الذين رأوا أهمية لمثل تلك الموضوعات التي تعالج أحوالنا، وما قد يقع من خلل في مجتمعاتنا؛ أراد الحديث عن التكفير وبيان خطورته، وآخر أراد أن يكون هناك مزيد من البيان لمثل هذه المسائل.
وسيكون حديثنا عن الغلو معالمه ومخاطره، ونبدأ فيه ببيان معناه، ثم نؤكد أصالة المنهج في سمة الإسلام وخصائصه.
الغلو في لغة العرب: مجاوزة الحد، وكل من غلا فقد تجاوز الحد.
والمعنى الاصطلاحي كما عبر عنه كثير من العلماء: مجاوزة الحد والتشدد فيه.
المبالغة في الشيء والتشدد فيه بتجاوز الحد أي: في الأمور الدينية المشروعة.
وألفاظ أخرى تدور في هذا الفلك منها التطرف، وهو في لغة العرب أيضاً: حد الشيء، وفي بيان المعنى اللغوي قال كثير من أهل العلم باللغة: إن التطرف هو طلب نهاية الحد أي: طرفه الأقصى والأبعد، وهو قريب من معنى الغلو في هذا، ثم التنطع وأصله من النطع وهو: ملاسة الملمس، ونطع الفم: وهو غار الفم وهو الحنك الأعلى، لا يظهر إلا إذا رفع الإنسان صوته، وتشدق في كلامه وتعمق، فصار -كما قال أهل اللغة- قريناً لكل تنطع وتعمق، والتشدد هو: أخذ الأمور بالشدة، وترك الرفق، والعنف كذلك مثله.
فهذه المعاني تدور كلها على الشدة التي تبلغ حداً يتجاوز الحد، وكلها متقاربة المعنى، فالغلو وأهله تجمعهم هذه الصفات في جملتها، تشدد في الأخذ بالدين، وتعمق في أفعالهم وأعمالهم، وعنف وتشدد في معاملة الآخرين، ولكننا قبل أن نمضي في هذا المعنى، ونفرع في صوره وأشكاله، أو نذكر معالمه وملامحه نقول سؤالاً مهماً: قولهم: (تجاوز الحد) أي حد هذا الذي يتحدث أهل العلم عن تجاوزه؟ إنه الحد الشرعي الذي يعتبر الخروج عنه مذموماً سواء كان تجاوزاً له وزيادة عليه بالغلو، أو كان قصوراً عنه وتركاً له بالجفاء، ومن هنا نعرف ما قاله أهل العلم أن الدين ضاع بين الجافي عنه والغالي فيه، الجافي عنه مفرط بالأخذ به، مقصر في التمسك بأحكامه، متهاون في التزامه وتطبيقه؛ والغالي فيه زائد عن المشروع فيه، متشدد في فهم أصوله الصحيحة، وقاس وعنيف وغير رفيق في معاملة الآخرين بما هو تجاوز للحد المشروع، فلا هذا مقبول، ولا ذاك مقبول.
ومن المهم كثيراً أن نقف على هذا الحد، وأن نعرف أصل الدين حتى نعرف بعد ذلك من يزيد عليه ويغلو فيه، أو من يقصر عنه ويجفوه، فإنه لا تتبين الأطراف إلا إذا عرف الأصل، ولا تعرف الغايات في الطرفين إلا إذا عرف الوسط، ولعلنا معنيون بذلك أكثر؛ لأن فهم أصل الدين وحقيقته وسماحته وخصائصه هو الذي يجعلنا ندرك تماماً مفهوم الغلو في الدين وفق ما جاء في مصطلح الشرع في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والحديث قد يطول بنا في هذا، والناس ما زالوا متعلقين بالحديث المباشر عن الغلو أو التكفير، ومرة أخرى أعيد الكرة: نريد منهجاً سديداً، ونريد فكراً رشيداً، ونريد علماً مؤصلاً، لا نريد هيشات فارغة، ولا حماساً متعجلاً، ولا معالجة آنية قاصرة، وفهم الدين في أساسه هو أعظم الأمور.(177/2)
سمات وخصائص الإسلام
وليس لنا حديث في هذا اليوم إلا في بيان الأصل، والحد المشروع في سماته وخصائصه العامة؛ ليتضح من بعد ما نرجو أن يوفق الله إليه من إكمال الحديث في الغلو ومعالمه ومخاطره.
وهذه سمات وخصائص الإسلام التي تتعلق بهذا المعنى في الخروج عنها إلى الغلو عنها أو الجفاء:(177/3)
الوسطية
السمة الأولى: الوسطية، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، إنه الوصف الرباني الإلهي لأمة الإسلام، والوصف إذا ذكر فله سمات مهمة: أولها: أنه ظاهر بين، إذا أردت أن تصف إنساناً فلا يمكن أن تصفه بصفة خفية لا يعرفها إلا المقربون منه، ربما نصفه بعرج في رجله أو شيء في عينه يراه الناس، لكني إن وصفته بشامة في داخل جسمه من عسى أن يدركها؟ فإن قلنا: أمة الإسلام أمة الوسط فمعناه أن هذه الصفة ظاهرة بينة.
وأمر ثان في الصفة وهو أنها ملازمة دائمة، لا نقول عن إنسان: إنه كريم؛ لأنه أنفق مرة واحدة، بل لا نعطيه الصفة إلا إذا كانت ملازمة له ودائمة في سائر أحواله: لعمر أبيك ما عرف المعلا كريماً وفي الدنيا كريم ولكن البلاد إذا اقشعرت وأصحر نبتها رؤي الهشيم فإذاً: الوسطية سمة في الإسلام في كل الأحوال، في السراء والضراء، في السلم والحرب، في معاملة الأحباء ومعاملة البغضاء لا يتغير ذلك.
كما هي الصفة اللازمة الدائمة، وكما كان سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ودعاؤه أن يرزقه الله سبحانه وتعالى العدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، إنه الأمر الدائم، والسمة اللازمة.
ونحن نعرف أن هذه الوسطية تجمع بين أمرين اثنين لابد من وجودهما في كل معنى من هذه المعاني: أولاً: الخيرية.
ثانياً: البينية الوسطية معنوية وحسية، فلا يمكن أن يكون الشيء وسطاً إلا إذا كان هو الأفضل والأعدل والأحسن والأكمل.
ومن دلائل هذه الخيرية والعدالة والأفضلية أنه وسط بين المذموم من الطرفين، وهذه سمة الإسلام، وسمة أهله، وسمة تشريعاته، وسمة عقائده، سمة الوسطية أمرها يطول إذا أردنا أن نتحدث عنها أو أن نفيض القول في دلائلها، وحسبنا أن نبرز ذلك في الأمور الظاهرة البينة مما كتبه عمر بن عبد العزيز في بعض رسائله لبيان حقيقة الإسلام، وصفة مواقف السلف رضوان الله عليهم، قال رحمه الله في هذا المعنى: (لقد قصر قوم دونهم -أي: دون سلف الأمة- فجفوا، وطمح عنهم آخرون فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم)، الوسطية خير وفضل، ينأى ويبتعد عن تساهل وتفريط، وعدم تعظيم للدين وأخذ به، ويجتنب كذلك تشدداً ليس من دين الله وتجاوزاً للحد ليس في شرع الله، فتكون حينئذ خيرية ووسطية بينية.
ومما قاله ابن القيم في بيان هذا المعنى: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين الجبلين، والهدى بين الضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له فالغالي فيه مضيع، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد.
واستمع إلى نماذج يسيرة يضيق المقام عن استقصائها: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77] ليس ذماً للدنيا، وليس إغراقاً فيها وتعلقاً بها، وجعلها مقصد الإنسان الأول والأخير والله سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32].
وفي موطن آخر التحذير من التعلق بالدنيا وجعلها غاية الهم وأعظم الشغل، قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد:20]، كما بين الله سبحانه وتعالى في هذا المثل، وجاء في آخر هذه الآية ما يبين لنا ذلك التوازن والتوسط الذي ينبغي أن نأخذ به في مثل هذا المثال.(177/4)
اليسر في دين الله سبحانه وتعالى
السمة الثانية: اليسر في دين الله سبحانه وتعالى، وقد جاءت الآيات بينة واضحة في إرادته وقصده، ووصف الإسلام وتشريعاته به كما قال الحق جل وعلا: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وكما قال الحق سبحانه وتعالى في أصل هذا الدين، ونعمة الله على البشرية ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157].
إنها شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ترفع الأغلال، وتضع الإصر والأحمال، بما جاء به من هذه الشريعة الميسرة، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين يسر فأوغلوا فيه برفق)، القائل هو أعظم الناس التزاماً بهذا الدين، وأكثرهم أخذاً بشرائعه وعباداته، ثم يقرر هذه الحقيقة: (إن هذا الدين يسر فأوغلوا فيه برفق)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً صفة بعثته ورسالته: (إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً) رواه مسلم من حديث عائشة.
وعندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن خير الدين أجاب بقوله: (الحنيفية السمحة)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد والطبراني بسند رجاله ثقات: (إن خير دينكم أيسره)، واليسر المقصود هنا الذي نقل لنا التزامه وتطبيقه في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، ليس اليسر هو الترخص والتفريط الناشئ عن عجز الناس وخور هممهم، وضعف عزائمهم، وقلة تعلقهم بأمر الله وثوابه سبحانه وتعالى، فإن ذلك عجز وليس يسراً.
وهذا أمر مهم في كل ما نذكره أن المقياس والمرجع في فهم اليسر وتحديده هو الكتاب والسنة، والتطبيق العملي في سيرة وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهاهو النبي في أمثلة وجيزة نوردها هنا -بحسب المقام- يدلنا على أهمية هذا اليسر والالتزام به، فهو يقول: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، وكما قال في غير ذلك مثل هذا المعنى: (لما جاءه الرجل يشكو إطالة إمامهم في الصلاة حتى شق عليه صلى الله عليه وسلم وقال: أيها الناس! إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز، فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة) رواه مسلم من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه.
ثم نرى ذلك في صوره المختلفة، وتعاملاته المتنوعة، فعندما بعث معاذاً وأبا موسى الأشعري كانت وصيته الأولى لهما: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا)، وما أعظمها من وصية لكل من يريد أن يصلح الأمة أو أن يدعو أبناءها أو أن يحكم بينها! فلابد من تقديم اليسر على العسر، ولابد من تقديم التبشير على التنفير، ولابد كذلك من المطاوعة لا الاختلاف والمنازعة، وهذا أمر بين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرشد فيه أيضاً إلى آحاد الأفراد في أعمالهم: (رأى حبلاً متدلياً من سارية من سواري المسجد فسأل عنه فقالوا: حبل لـ زينب تصلي فإذا تعبت تعلقت به، فقال: ليصل أحدكم نشاطه فإذا تعب فليرقد)، وهذا رد إلى اليسر.
(وذاك الرجل الذي نذر أن يقف في الشمس، وألا يتكلم، وأن يحج ماشياً، ولا يستظل، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم والناس حوله قال: ما هذا؟ قالوا: رجل نذر كذا وكذا قال: مروه فليستظل، وليركب، فإن الله غني عن تعذيب هذا نفسه).
صورة من صور حماسة النفس أراد بها هذا الرجل أن يجعلها وسيلة للتقرب إلى الله، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ورده إلى الأصل والحد المشروع الذي سيمته اليسر، وهذا أمر بين.
وحتى في علاج الأخطاء كان كذلك عليه الصلاة والسلام كما روى ابن مسعود فيما صح عند البخاري: (أن رجلاً أصاب قبلة من امرأة، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، فقال الرجل: أهذا لي؟ فقال عليه الصلاة والسلام: بل لمن عمل بها من أمتي)، ولا يفهمن أحد من ذلك أنه ترخيص في ارتكاب الإثم أو دعوة إليه، أو تهوين له في نفوس الناس، ولكنه إدراك لطبيعة الإنسان، وما قد يقع منه أثناء غفلته أو شهوته، وأصل إيمانه داع له للندم والاعتراف، فتفتح له ما فتح الله سبحانه وتعالى من أبواب المغفرة والرحمة، وإن كان أمراً مما يؤاخذ عليه الشرع بحد أو نحو ذلك أخذ به.
ولكنه مع ذلك أصل إيمانه في قلبه يدل على صدقه، وإخلاصه في توبته إلى الله سبحانه وتعالى، ولما جاء رجل من الناس قد شرب الخمر أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليه؛ لأنه قد ارتكب كبيرته، وأقيم الحد عليه، قال الراوي: ومنا الضارب بيده ومنا الضارب بنعله، ثم قال رجل: أخزاه الله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تعينوا عليه الشيطان).(177/5)
السماحة
السمة الثالثة: السماحة، وهي نوع وأمر يدل على ذلك اليسر، لكنه يظهر في أصول الأمر والتشريعات، كما قال الله سبحانه وتعالى في شأن الأمر الأعظم في حياة الأمة ودورها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، سماحة في عرض هذا الدين، وفي الدعوة إليه، وفي البيان له، حتى تقتنع به العقول، وتقبل عليه القلوب، وتتعلق به النفوس، وتلتزمه الجوارح، وتتحرك به لإعلانه ونشره والدعوة إليه.
والله سبحانه وتعالى يبين ذلك في قصة موسى عليه السلام مع فرعون، أطغى وأكفر من ذكر الله عز وجل من أولئك الذين خرجوا عن أمر الله سبحانه وتعالى، جاء الأمر إلى موسى وهارون عليهما السلام: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44]، وليس ذلك اللين عن ضعف أو خوف أو جبن، وليس ذلك اللين مداهنة أو مجاملة أو منافقة، إنما هو القول الجميل، والدعوة إلى الله تعالى بآياته، والتنبيه على حججه كما ذكر ابن كثير في التفسير، إنه أسلوب عرض فيه سماحة، وفيه لين في الأداء ليس في المضمون، وليس اللين أن نغير أحكام الله، ولا أن نبدل دين الله، ولا أن نقول: إن الجهاد قد ألغي أو عطل، ولا أن نقول بأن تعليم شرع الله عز وجل انحراف يؤدي إلى خطر، فإن ذلك ليس ليناً بل هو تحريف وانحراف، كما أن ذلك في جانب فهذا في جانب آخر.
وهذه السماحة عظيمة في كل شرائع الإسلام، حتى الشرائع التي ظاهرها عند بعض من يجهل ويهوى أنها تتناقض مع السماحة، وهي شريعة وفريضة الجهاد القائمة الماضية إلى قيام الساعة.
إنها ليست من القسوة في شيء، إنها ليست دموية ولا إرهابية، إنها سماحة للبشرية، ورحمة للإنسانية، شريعة الجهاد رحمة بالبشر؛ ليخرجوا من الظلمات إلى النور، ومن الظلم إلى العدل، ومن الطبقية والعنصرية إلى المساواة والأخوة الإنسانية والرابطة الإيمانية.
والله سبحانه وتعالى يذكر لنا ذلك، وتبينه شرائع الإسلام، {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] إما أن يسلموا فلهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإما أن يذعنوا لحكم الإسلام ويبقوا على ما هم عليه، ويخضعوا لتشريعات سلطان الإسلام، ويدفعوا الجزية إليه في مقابل ما يلقونه من الخدمة والنصرة، وإما أن يأبوا فمن يأبى النور ومن يأبى الحق ومن يتسلط على رقاب الناس يأتي الإسلام ليحرر الناس التحرير الحقيقي لا المزيف الكاذب، ولينصر النصر الحقيقي لا الكاذب، وذلك أمره بين، والله سبحانه وتعالى قد بين ذلك، وبينته وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في القتال: (لا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً)، ووصية أبي بكر الشهيرة إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه، حتى الشجر والنخل نهى عن عقره وحرقه إن لم يكن له داع وسبب، فليس الجهاد في إزهاق النفوس بلا سبب ولا مصلحة راجحة، ولا موجب لذلك من أولئك الكفرة الفجرة المعادين لأهل الحق والإسلام، بل والمعادين للبشرية والإنسانية.
ونرى ذلك كذلك في أمور أخرى كثيرة، كقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8].
وإذا كان ثمة عهد فالآيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، وقال عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة:4].
ذلك كله لابد أن نفقهه في إطار جامع واسع، وتلك هي سماحة الإسلام في سمة واضحة من سماته، وصفة جلية من صفاته.
نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بديننا، وأن يفقهنا في إسلامنا، وأن يلزمنا شرع نبينا، وأن يلزمنا هديه صلى الله عليه وسلم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(177/6)
الاستقامة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واعلموا أن من سمات أصل هذا الدين الاستقامة، وهي ملازمة النهج الصحيح الذي ثبت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد أمر المصطفى عليه الصلاة والسلام أمراً واضحاً بالوسطية والسماحة واليسر بعيداً عن تلك الأطراف الذميمة من الإفراط والتفريط أو الغلو والتشديد.
كما في قوله جل وعلا: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [هود:112]، أي: لا تزيدوا عن الحد، ولا تتجاوزوه حتى في معاملة الأعداء، فإن ذلك من سمة أهل الإسلام: العدل والإنصاف والاستقامة، كما قال جل وعلا: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى:15]، فليس هناك ثمة طغيان، وليس ثمة تفريط وترك واتباع للأهواء موافقة للأعداء، كما قال عليه الصلاة والسلام: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير دينكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)، رواه ابن ماجة بسند صحيح، أي: لن تستطيعوا البلوغ إلى الكمال، فاستقيموا كما جاء في الحديث الآخر تفسيره: (سددوا وقاربوا)، أي: اجتهدوا، ليس المقصود باليسر ولا بالسماحة الأخذ بالأدنى، بل قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المثل في الأخذ بالأعلى من الأمر المشروع والعبادة العظيمة، مع ما كان له من خصائص لم يشاركه فيها غيره من الصحابة، ونبههم على ذلك أنه ليس كمثلهم، وأمرهم ألا يفعلوا مثل فعله فيما هو من خصائصه عليه الصلاة والسلام، كما في قصة النفر الثلاثة الذين رأوا أن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم قليلة وقالوا: قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فبين سوء فهمهم، وقال: (ما بال أقوام يقولون: كذا وكذا، عندما قال أحدهم: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال الثاني: أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج، وقال الثالث: أما أنا فأصوم ولا أفطر، فقال عليه الصلاة والسلام: أما أنا فأصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني)، فبين عليه الصلاة والسلام الاستقامة في سائر أحواله وأعماله صلى الله عليه وسلم.
ولعلنا في وقفتنا الأخيرة نشير إلى أصل المعنى الذي يقع في أهل الغلو خروجاً عن هذه السمات من وسطية ويسر وسماحة واستقامة هي من صميم هذا الدين، وهي الحد المشروع الذي يعد الغلو خروجاً عنه، روى الشيخان في صحيحيهما صفة جامعة من جوامع كلم المصطفى صلى الله عليه وسلم في وصف أهل الغلو، عندما جاءت القسمة المشهورة، وجاء الاعتراض من ذلك الرجل على روايات مختلفة (عندما قال للرسول عليه الصلاة والسلام: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله! وفي رواية: لم تعدل! فقال عليه الصلاة والسلام: من يعدل إن لم أعدل؟! ثم وصف ذلك الرجل فقال: يخرج من ضئضئ هذا أقوام يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان).
ومن هنا قال أهل العلم: إن السمة الجامعة لكثير من فروع الغلو ترجع إلى هذين الأمرين: الجهل بالقرآن والشرع كما قال في هذا الحديث: (يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم)، قال الشاطبي في معناه: يأخذون أنفسهم بقراءة القرآن لا يتفقهون فيه ولا يعرفون مقاصده.
وقال النووي رحمه الله: ليس يصل إلى قلوبهم أي: القرآن؛ لأن المطلوب تعقله وتدبره، وهذا لا يحصل منهم، والجهل هو الباب الأعظم والأكبر للدخول إلى هذه المزالق الخطيرة، ويترتب عليه ما يترتب عليه، وقد قال ابن عمر رضي الله عنهما في مثل هذا المعنى: (انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المسلمين) لم يفقهوا أسباب النزول، ولم يفقهوا مقاصد الألفاظ ودلالاتها ومعانيها، ولم يفهموا بقية النصوص الشرعية التي تكمل بها الصورة، وينتقل حينئذ الأمر إلى السمة الثانية وهي التكفير للمسلمين، وبالتالي استحلال دمائهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان)، وذلك ما سنشرع في الحديث عنه، في الجمعة المقبلة إن شاء الله.
نسأل الله عز وجل أن يجنبنا الغلو غير المشروع، وأن يجنبا التفريط في الأخذ بأمر الله سبحانه وتعالى، وأن يجعلنا من أمة الإسلام الوسط الآخذة بأمره سبحانه وتعالى، والآخذة بهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم إنا نسألك لقلوبنا السلامة والعافية، ولأبنائنا الصحة والقوة، ولمقاصدنا الإخلاص وإرادة وجهك الكريم يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيها أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، وانشر الأمن في البلاد برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تبرم لهذه الأمة ما يعلي رايتها، وما يعز دينها، وما يوحد صفها، وما يقوي شوكتها، وما يسدد رميتها، وما ينصرها على عدوها يا رب العالمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في سبيلك في كل مكان يا رب العالمين، اللهم وحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وسدد رميتهم، انصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم اجعلنا من عبادك المؤمنين، واجعلنا من الذين تتوفاهم على حقيقة الإسلام يا رب العالمين! نسألك اللهم أن تجعل آخر كلامنا من الدنيا (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) يا أكرم الأكرمين! يا أرحم الراحمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم صل وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(177/7)
الغلو معالمه ومخاطره [2]
لقد جاء كتاب ربنا سبحانه وتعالى كاملاً مكملاً لا نقص فيه ولا خلل، وجاءت سنة حبيبنا واضحة وضوح الشمس لا نقص فيه ولا عوج، فيجب العمل بهما كما جاءا من دون زيادة ولا نقصان؛ فإن الغلو الزائد الذي لم يأت به كتاب ولا سنة منهي عنه في الشرع بكل صوره وأشكاله، فإن الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة.(178/1)
أسس الفهم الصحيح
الحمد لله أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، شرح به الصدور، وطمأن به القلوب، وهدى به البصائر، وجعلنا على بينة من أمرنا، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال، وفي كل آن، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا موصول في موضوع: الغلو معالمه ومخاطره، ووقفتنا اليوم مع الفهم الصحيح لحقيقة الغلو، وبيان بعض صوره، وقد أسلفنا القول من قبل أنه لابد لنا أولاً من فهم وفقه حقيقة الإسلام في وسطيته واستقامته، ويسره وسماحته؛ لأن هذا هو الحد المشروع الذي إنما يعرف الغلو بتجاوزه وتعديه، والزيادة عليه أو النقص منه.(178/2)
المرجعية لكتاب الله وسنة رسوله عند حصول النزاع
ولذلك أول أسس الفهم الصحيح هو الفهم للحق الذي جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير إفراط ولا تفريط.
الأمر الثاني: أن المرجعية عند حصول الاختلاف أو النزاع إنما هي لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، فلابد من معرفة هذه القضية، فعند اختلاف الآراء، أو تباين الأفكار، أو تعدد الاجتهادات فالفصل لا يرجع إلى الأشخاص، ولا يرجع إلى المذاهب، ولا يرجع إلى التقليد أو التعصب، وإنما إلى الاستنارة بضوء وأنوار الكتاب والسنة على ما تقتضيه الأصول العلمية المرعية، والاجتهادات العلمية المقبولة.
الأمر الثالث الذي ننبه عليه: هو أن هذا الرجوع فيه ثبات للمرجعية والمعيارية، وسلامتها من تنازع الأهواء وضغوط الواقع، فلو أنه لم يكن لنا رجوع إلى الثابت المعصوم من نصوص الكتاب والسنة لانفرط عقدنا، واختلف رأينا، وتشتت شملنا، وذلك أنما في كتاب الله حق لا باطل معه، ويقين لا شك فيه، وأمر صالح لكل زمان ومكان.
ثم هو من جهة أخرى سالم من التغير والتبدل رغم كل تغيرات الظروف والأحوال، وبذلك نفقه هذا الأصل المهم في حقيقة فهم الغلو، فإنه ليس فهماً ينشأ من واقع الناس، فإذا بدل الناس وغيروا في دين الله، وفرطوا فيه، صار الغلو عندهم مفهومه مفهوماً آخر.
وربما رأوا أن التمسك بالفرائض والمحافظة عليها، والاجتهاد في الطاعات، والزيادة في المشروع منها غلواً غير مقبول كما يظن أولئك الضعفة والكسلة المفرطون في الواجبات، المتخاذلون عن التزام الفرائض، ولو جعلنا ذلك مرجعه إلى الناس لربما جنحت أهواؤهم ممالأة لأعداء الله عز وجل، ومصانعة لهم، أو خوفاً منهم أو توهماً أن عندهم شيئاً من صواب، وذلك يؤدي بنا إلى الانحراف.
فلنعلم هذه الحقيقة المهمة، ثم لنفهم الإطار العام والمنهج الذي جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الغلو فيه حتى لا نجنح إلى مثل هذه الأمور التي أشرنا إليها.(178/3)
المعالم الرئيسية للفهم الصحيح لحقيقة الغلو(178/4)
الدعوة إلى الالتزام بالكتاب والسنة وعدم التجاوز
أولاً: الدعوة إلى الالتزام والنهي عن التجاوز هي مفتاح ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك للوقاية من الوقوع في الغلو، ولفهم حقيقته على وجهها الصحيح، نحن نقرأ في كل يوم وفي كل ركعة من كل صلاة فريضة وسنة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7].
إنها الدعوة إلى النهج المستقيم، المتزن المتوسط المعتدل الذي هو جوهر ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتحذير من الخروج عنه تجاوزاً أو تقصيراً، إفراطاً أو تفريطاً، والنهي هنا جاء محذراً من فئتين بوصفين ذكرتهما الآية الكريمة: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) وهم الذين عرفوا الحق وجحدوه، والضالون: وهم الذين ضلوا في معرفة الحق فلم يصيبوه، والخصلة الأولى بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها ظاهرة في اليهود، والثانية ظاهرة في النصارى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لما أمرنا الله أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم كان ذلك مما يبين أن العبد يخاف عليه أن ينحرف إلى هذين الطريقين.
ثم بين صوراً لذلك فقال: وكان السلف يرون أن من انحرف من العلماء عن الصراط المستقيم ففيه شبه باليهود ومن انحرف من العباد ففيه شبه بالنصارى؛ لأن العالم إذا انحرف فهو ينحرف مع معرفته وعلمه وفقهه، فهو عرف الحق وجحده، إما اتباعاً للهوى أو طلباً للدنيا أو خوفاً على النفس فيما لا يكون عذراً من الناحية الشرعية، والعباد الذين يضلون لا يعرفون الحق، فيبتدعون ويزيدون وينقصون من دين الله عز وجل.(178/5)
نهي الأمم السابقة عن الغلو الذي كان سبب هلاكهم
الوجه الثاني: التحذير من الغلو مقترناً بالنهي عنه في الأمم السابقة، كما ورد ذلك في آيات كثيرة من كتاب الله سبحانه وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:171]، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77].
وبين الله عز وجل صوراً من آثار ذلك الانحراف من الناحية العملية، وأنكر ذلك وحذر منه كما في قوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27]، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من ذلك عندما ربطه كذلك بمن سبق من الأمم السابقة في قوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم) أي: عندما قالوا: المسيح بن الله أو قالوا: المسيح هو الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وما جاءت هذه الآيات ولا تلك الأحاديث للإخباء عن أمر قد مضى في الأمم السابقة إلا ليكون وجهاً من أوجه العظة والعبرة، وأن سبب انحرافهم ومن بعد ذلك هلاكهم إنما هو خروجهم عن مقتضى دينهم، وغلوهم فيه، وانحرافهم عن جادة الصواب الذي جاءهم عن الله، وبلغتهم إياه رسل الله صلوات الله وسلامهم عليهم.(178/6)
النهي عن الغلو في صوره العامة
الوجه الثالث: النهي عن الغلو في صوره العامة كلها صغيرها وكبيرها؛ لأن معالجة الأمور الصغيرة إنما هي معالجة من باب أولى للصور الكبيرة؛ ولأن النهي عن المقدمات منع للوصول إلى النتائج، ولأن منهج الإسلام منهج متكامل، فيه وقاية وحماية، كما فيه علاج من بعد وقوع الضرر أو الأذى، كما ورد في الحديث الصحيح عن ابن عباس في حجة الوداع: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يلتقط له الحصى التي يرمي بها في منى، فالتقط له حصيات كحصى الخذف -أي: صغيرة في حجمها- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين!)، رغم أن المسألة -كما نرى- في ظاهرها يسيرة، في أمر الحصى أن تكون على هذا النحو، ولكنه عليه الصلاة والسلام حذر من الغلو ولو في هذا، بأن يأخذ الناس كبار الحجار ظناً منهم أنها أبلغ في تحقيق المراد بأمر الله، فنهى عن ذلك، ثم جعل النهي عن الغلو عاماً رغم أن الحدث خاص، ورغم أن المسألة ربما تعد مقارنة بغيرها يسيرة فقال: إياكم والغلو في الدين.
كما بين أهل العلم هذا في شرح الحديث فقالوا: وإن كان الأمر خاصاً فإن النهي عام عن كل ما فيه غلو وتجاوز للحد المشروع، أي: في صغير الأمور وكبيرها.
ومن صور التحذير والتنفير من الغلو بيان الشارع الحكيم لسوء عاقبته، وخطورة مغبته، وأنه لا يؤدي حتى إلى مقصود صاحبه، فإن المتشدد في العبادة أو الطاعة فوق الحد المشروع إنما يريد التقرب إلى الله، وإنما يريد الاستزادة من الخير ومضاعفة وكثرة الثواب والأجر، لكن النتيجة التي أخبر بها الشارع تؤدي إلى غير ذلك.
فجاء التحذير من هذا الغلو ببيان عاقبته السيئة الوخيمة، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكرر ويدلل ويبين فيقول: (هلك المتنطعون! هلك المتنطعون! هلك المتنطعون!)، هلكوا هنا معناه عام يشمل الهلاك في حقيقة الأمر المادي والمعنوي، فقد يهلك فينقطع عن تلك الطاعات والعبادات ويعجز عنها، وقد يهلك بانحرافه في اعتقاده ومخالفته لأمر الله، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد بين صفة ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال: (إن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى)، إن المنبت في صفة السفر لا يريد أن يرتاح، فهو يقول: أنا أمضي وأمشي إلى غايتي بقوة وعزيمة، من غير راحة ولا هدوء ولا توقف، يريد أن يبلغ الغاية في أقصر وقت، وبأعلى قوة وهمة، فإذا به ينقطع في وسط طريقه لا يستطيع الاستمرار، ثم يفقد الوسيلة التي بها يسير إلى الغاية إذ تنقطع دابته أو تهلك، فيكون حينئذ هلاكه مقطوعاً به في الصورة المادية في المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوماً قد تشددوا فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات: {ورَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27]).
وهذا أمر واضح ومهم وبين، وله كثير من الأدلة التي تبينه.(178/7)
صور وأمثلة على الغلو المذموم
بعد أن ذكرنا المعالم الرئيسة للفهم الصحيح لحقيقة الغلو، لعلنا نكمل هذا الفهم بالصور والأمثلة التي تدل عليه؛ لأنه بالمثال يتضح المقال.(178/8)
التشديد على النفس بما هو زائد عن الحد المشروع
من أول هذه الصور وأجلاها التشديد على النفس بما هو زائد عن الحد المشروع، ورد في حديث قبيصة بن مخلب عن أبيه رضي الله عنه: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن من الطعام طعاماً أتحرج منه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا يختلجن في نفسك شيء ضارعت فيه النصرانية) رواه أبو داود.
قال الشارح: لا يدخل في قلبك ضيق ولا حرج؛ لأنك على الحنيفية السمحة، فإذا شددت على نفسك بمثل هذا شابهت فيه الرهبانية، والمقصود هنا أن بعضاً من الأمور التي تدخل في دائرة الحلال العام ربما نجد من يشدد على نفسه في تحريمها، أو في البحث عن أصولها بحثاً ليس هناك ما يدعو إليه من ناحية الشرع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها).
وقد بين الحق سبحانه وتعالى لنا ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [المائدة:101]، وهذا ضرب من الضروب، يبعث عليه أحياناً شعور في الرغبة في التورع والاستزادة من الزهد، غير أننا ينبغي ألا ننسى الأمر المهم، وهو أننا متعبدون في دين الله على شرع الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا على نوازع النفس، ولا العواطف، ولا ردود الأفعال.(178/9)
تحريم الحلال وتحليل الحرام
قال ابن تيمية رحمه الله: التشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ولا مستحب بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات، أو تارة باتخاذ ما ليس بمحرم ولا مكروه بمنزلة المحرم والمكروه من الطيبات.
وهذه قضية أخرى، وصورة نفردها في شأن التحريم والتحليل.
جاء في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح قالت: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها وعندها امرأة فقال: من هذه؟ فذكرت من صلاتها -أي: عبادتها الزائدة عن الحد المشروع- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مه! عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه).
وهذا ظاهر في هذا التوجيه والإرشاد، وجاء من حديث عائشة ما يبين ذلك، وأثره في الصحابة وتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم لهم، قالت: (كان إذا أمرهم أمراً أمرهم من الأعمال ما يطيقون فقالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله! إن الله قد غفر لك من ذنبك ما تقدم وما تأخر)، كان يأمرهم من الأعمال بأوامر يطيقونها، وبعبادات يتيسر عليهم فعلها، فيرون أن ذلك دون طاقتهم وهمتهم وعزيمتهم، فيرغبون في الأكثر فيقولون: (إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله! إن الله قد غفر لك من ذنبك ما تقدم وما تأخر، قالت: فكان يرى الغضب في وجهه صلى الله عليه وسلم ثم يقول: إني أتقاكم لله وأعلمكم به).
أي: قمة ما كان يأمر به هو التقوى، وإرشاده لأمته هو الأفضل والأكمل والأمثل الذي لا مزيد عليه، فمن أراد زيادة فإنما يخرج عن نهج الاعتدال الذي هو سمة الدين، ومن أراد تشديداً فوق المشروع فإنه كأنما يرى في فعل النبي صلى الله عليه وسلم قصوراً ونقصاً، وهو يريد أن يكون أفضل أو أكثر.
وقد أثر عن مالك إمام دار الهجرة: أن رجلاً جاء فسأله وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ميقات أهل المدينة فأخبره به، وهو مكان معروف في خارج المدينة، فقال الرجل: لأحرمن من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الإمام مالك: هذه والله الفتنة! فسمع الرجل فرجع وقال: وأي فتنة يا أبا عبد الله! إنما هي أميال أزيدها أبتغي بها ثواب الله؟! أي: أحرم من هذا المكان فتزيد المسافة التي أسيرها وأنا محرم فيعظم أجري عند الله، فقال له: الفتنة أن تعمل عملاً تظن أنك فيه خير من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فليس هناك خير ولا كمال ولا فضل أتم وأكمل مما أثر عنه عليه الصلاة والسلام.(178/10)
الاهتمام بعبادات مع ترك حقوق وواجبات
من صور الغلو ترك الواجبات عند تزاحم الحقوق، فإن من الناس من يندفع إلى طاعة وعبادة، ويفرط في حقوق وواجبات أخرى هي من الشرع بمثابة تلك العبادات من حيث وجوبها، بل ربما تعلق وجوبها بحقوق للعباد، لا يكون التساهل أو التسامح فيها مثل ما قد يكون في حق الله عز وجل.
والمثل المضروب في ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح من حديث أبي جحيفة عند البخاري وغيره في قصة مؤاخاة سلمان الفارسي مع أبي الدرداء رضي الله عنه، حيث (جاء سلمان إلى أبي الدرداء في بيته، فوجد امرأته مبتذلة قال: ما لك يا أم الدرداء؟! قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له فينا ولا في الدنيا نصيب -أي: تفرغ لطاعته وعبادته فقصر في حقوق أهله- فجاء أبو الدرداء فقدم الطعام إلى سلمان فقال له سلمان: كل، قال: إني صائم، قال: عزمت عليك إلا أكلت، وكان متطوعاً فأفطر، ثم لما جاء الليل أراد أن يقوم ليصلي فقال له: نم، ثم أراد أن يقوم فقال له: نم، ثم أراد أن يقوم، فقال له: نم، حتى إذا كان آخر الليل قال: قم فصل الآن، فصليا، ثم لما أصبح الصبح قال سلمان: إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، فأخبر أبو الدرداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: صدق سلمان).
وكم نرى من اندفاع في باب من الأبواب يقابله قطعاً وبلا أدنى شك تفريط في أبواب أخرى، فينبغي أن نفقه ذلك وننتبه له.
قال ابن حجر في تعليقه على الحديث: فيه جواز النهي عن المستحبات إذا خشي أن ذلك يفضي إلى السآمة والملل، وتفويت الحقوق المطلوبة الواجبة أو المندوبة الراجح فعلها على فعل المستحب المذكور.
وفي حديث الرجل الذي نذر أن يمشي ويحج ماشياً ولا يستظل، نهاه النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك، قال ابن حجر: فيه أن كل شيء يتأذى به الإنسان ولو مآلاً مما لم يرد بمشروعيته كتاب ولا سنة كالمشي حافياً، والجلوس في الشمس، ليس من طاعة الله تعالى؛ فلا ينعقد به النذر.
وصور من مثل هذا نراها في واقعنا وخاصة عند بعض الشباب: إذا تعلق قلبه بالطاعة وأراد أن يعوض ما فاته من عمره، أو يكفر عما سلف من ذنبه، ربما شدد على نفسه بما لا يستطيع الاستمرار فيه، وفي كثير من الأحوال يفرط في حقوق أخرى.
نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة من الغلو، ونسأله عز وجل أن يجعلنا من أهل الوسطية والاعتدال، ومن أهل الاستجابة والطاعة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(178/11)
التشديد على النفس بما ليس بمشروع
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن التشدد والتشديد على النفس فيما ليس بمشروع يفوت كثيراً من الحقوق، ويحصل به اختلال عن التوازن، ولعلنا نضيف إلى ذلك أموراً تبين هذا في أصل سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيما بينه العلماء في ضوء هذه السنة الشريفة، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصيام صيام داود عليه السلام، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً)، وفي رواية عند البخاري نصها: (يصوم يوماً ويفطر يوماً ولا يفر إذا لاقى)، أي: لا يفر إذا لاقى العدو.
قال الطبري في شرح الحديث: إنما كان صوم داود من أفضل الصيام من أجل أنه مع صومه لا يضعف عن القيام بالأعمال التي هي أفضل من الصوم، وذلك لثبوته للحرب أمام أعداء الله عند التقاء الصفوف، وتركه الفرار هنالك والهرب، فمن أضعفه صوم النفل عن أداء شيء من فرائض الله عز وجل فغير جائز أن يصوم صومه ذلك، بل محظور عليه إذا كان يصوم تطوعاً ويضيع بسبب ذلك الصوم فرضاً أو واجباً، بل إذا ضيع بذلك الصوم المستحب والنفل ما هو أفضل منه من نفل الأعمال، فإن صومه مكروه غير محبوب، وإن كنا لا نؤثمه، هكذا قال رحمه الله.
وهذا يدلنا على أمر مهم: وهو النسبية، فإن ما يطيقه إنسان لا يطيقه غيره، وإن ما يطيقه إنسان في بعض أنواع العبادات قد لا يطيقها في غيره.
قد يطيق الصوم لكنه لا يطيق طول القيام، وقد يطيق طول القيام ولا يطيق أمر الصيام، فينبغي للإنسان أن ينظر ما لا تتأذى به نفسه من المشروع فيأخذ به، وأما ما يفضي إلى سآمته وانقطاعه أو تفريطه في حقوق أخرى فينبغي له أن يوازن، فلا يقدم على عمل بتوسع مع علمه أو يقينه بأنه يفرط في غيره.
وهذا أيضاً مما فقهه العلماء من صفة النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم).
قال الشاطبي في تعليقه على هذا الحديث: فانظر إلى ما كان من مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأحوال والظروف والأوقات، فربما في وقت ينشط لهذا، وربما في غيره ينشط لغيره، ولكن المهم هو ألا يتجاوز الحد المشروع بالتشديد على النفس بما يؤدي إلى انقطاعها أو سآمتها ومللها، وبما يؤدي إلى ترك المداومة على الأعمال.
نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بديننا، وأن يفقهنا في كتاب ربنا، وأن يلزمنا هدي نبينا صلى الله عليه وسلم.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا هداة مهتدين، اللهم إذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا سميع الدعاء! اللهم إنا نسألك لهذه الأمة أن تبرم لها أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، اللهم يا أكرم الأكرمين! يا أرحم الراحمين! اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، واصرف اللهم عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة.
اللهم وأصلح أئمة المسلمين وولاة أمورهم، واجعل ولايتهم فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم ووفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في أرض فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم اربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم، ووحد صفوفهم، واعل رايتهم، واجمع كلمتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، زلزل اللهم الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، وأنزل اللهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي! يا عزيز! يا متين! عباد الله! صلو وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
وترضوا على الصحابة الكرام وخصوا منهم بالذكر ذو القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم صل وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(178/12)
الترجمة النورانية لابن قيم الجوزية
الحديث عن سير العلماء والصالحين ليس لمجرد التسلية، بل الهدف الأسمى منه هو أخذ العبرة والعظة، والاقتداء بهم في علمهم وعبادتهم وأخلاقهم ومعاملاتهم.
والإمام ابن القيم أحد هؤلاء الأعلام الذين يقتدى بهديهم، ويستضاء بنورهم، وتستحث الهمم بالنظر في كتبهم وعلمهم، وقد برز في مجالات شتى: في مجال العلم والعبادة والأخلاق والسلوك والمعاملة، بل صار منظراً بارعاً، وطبيباً للقلوب ماهراً، وفقيهاً مبدعاً، ولأهل الزيغ والضلال قارعاً ومدحضاً، ولكلامهم وأباطيلهم مفنداً، فرحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.(179/1)
ابن القيم ونشأته رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل الله، ومن يضلل فلا هادي له، ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيد الأولين والآخرين، إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الرحمين.
أما بعد: فأيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وهذا موعدنا مع الدرس الثالث بعد المائة في يوم الجمعة الموافق للثامن من شهر الله المحرم عام 1415هـ.
وعنوان هذا الدرس: "الترجمة النورانية لـ ابن قيم الجوزية " وهي وقفات يسيرة مع ترجمة عالم من علماء الأمة، وعلم من أعلامها، ومجاهد من مجاهديها، الذين أجرى الله عز وجل على أيديهم خيراً كثيراً، ونفعاً عميماً، وخلد لنا من سيرتهم ومن آثارهم وكلامهم وعلمهم شيئاً كثيراً، والحقيقة أن هذا الموضوع أعرض منه ما أحسب أنه يفيد لعموم الإخوة، سيما في مثل هذا الدرس، وأعرض عما قد يكون من أمور يحسن عرضها للمتخصصين في علوم الشريعة أو بعضها على أقل تقدير، ونحن نريد أن نقتبس أنواراً من ترجمة ابن القيم في حاله وفي منهجه.
في حاله: من خلال أخلاقه وعلمه وعبادته وما يتعلق بذلك.
وفي منهجه: من خلال أمور كثيرة تميز بها وبرز فيها، وهي من أعظم ما نحتاج إليه في مثل أوقاتنا المعاصرة.
وأول ما نعرج عليه هو تسمية ابن القيم رحمة الله عليه.
هو: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقي الحنبلي يكنى بـ أبي عبد الله، ويلقب بـ شمس الدين، ويعرف بـ ابن قيم الجوزية، وهذه الشهرة قد تختصر فيقال: ابن القيم، وقد يقع الخطأ في تسميته كما هو واقع من كثيرين، فيقال: ابن القيم الجوزية أو ابن الجوزية وهذا وذاك غير صحيح.
فالقيم: هو الذي يقوم على الأمر، ويكون قائماً بشئونه وما يحتاج إليه، فيقال مثلاً: قيم المسجد: أي: المسئول عنه، القائم بشئونه، وقد كان أبوه قيماً على الجوزية، والجوزية مدرسة ودار فيها كتب، فـ ابن قيم الجوزية هو ابن الرجل الذي كان قيماً على الجوزية، ولو اختصرت فقلت: ابن القيم لكفى بغض النظر عما كان قائماً بشأنه من الأمور والأعمال.
كانت ولادته رحمة الله عليه في السابع من شهر صفر عام (691هـ) أي: في أواخر القرن السابع الهجري، وكانت وفاته في السابع عشر من شهر رجب عام (751هـ)، أي: على رأس النصف الثاني من القرن الثامن، وكانت مدة حياته ستين عاماً، وكان له خلالها جهد كبير وتاريخ عظيم.(179/2)
وقفات مع ابن القيم في حاله ومنهجه
نقف وقفات نقتبس أنواراً من حاله، ثم بعد ذلك ننتقل إلى أنوار نقتبسها من منهجه.(179/3)
الوقفة السادسة: استعراض مؤلفات ابن القيم في شتى العلوم
وقفة وجيزة في شأن العلم، نستعرض فيها بعض مؤلفات ابن القيم التي صارت من المؤلفات المشهورة، وسنذكر بعض ما يتعلق بها عندما نتكلم عن الأنوار المقتبسة من منهجه في التأليف.
فقد ألف رحمة الله عليه في الإيمانيات والروحانيات كتباً كثيرة ومن أشهرها وأوسعها وأنفعها "مدارج السالكين شرح منازل السائلين" للهروي.
وألف كذلك "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" وهو في أمر الصبر والشكر، وفيه كلام نفيس في التربويات والإيمانيات.
وألف "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" وهو في أمر المحبة الإلهية وما يتفرع عنها من كلامه على أمر المحبة والعشق، وما يتعاطاه الناس من ذلك، وما يذم منه، وما يمدح، ونحو ذلك مما توسع فيه، وهو كتاب من الناحية الأدبية يعتبر في الرتبة العليا الذي صاغ فيه ابن القيم الكلام بأسلوب عجيب فريد، وبسجع قوي غير ملول، وشنفه وطعمه بأبيات شعرية هي من أروع أبيات الشعر العربي في هذا الباب.
وألف أيضاً في الإيمانيات فيما يتعلق بأمور العقائد كتاب "الروح" و"حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح".
وألف في المسائل العلمية المتعلقة بالعقيدة والتوحيد والرد على أهل الكلام، كما كان شيخه؛ لأن العصر في ذلك الوقت كان يقتضي هذا، ولنا وقفة وجيزة ستأتي إن شاء الله عن الفترة والبيئة التي عاش فيها.
ألف "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل" وقد أتى فيه بمنطق القوم وبلسانهم وحجتهم، ونقضها على طريقتهم ومنهجهم، ودحضها بالحجج من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت كتبه من عناوينها فيها مدلولات عجيبة، فهذا اسمه "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل" وهي المسائل التي خاض فيها الخائضون فاضطربوا وحاروا، وتقلبت قلوبهم وأصبحوا على شوك الشك متقلبين، فهذا الكتاب شفاء لهذا المريض بهذه الشبه والشكوك، ينزعها منه ويدحضها له ويعدمها بالكلية، حتى يطمئن قلبه ويبرأ من علة الشك.
له كتاب آخر "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" وهي صواعق من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبطلت حججهم، وأفنت أمرهم، وأحرقت مقالاتهم، والكتاب من عنوانه مطابق لهذه العناوين.
وكذا ألف كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية".
وله النونية المشهورة واسمها "الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية" وغير ذلك أيضاً من الكتب.
وأما في شأن الفقه وما يتعلق بمسائله، فله الكتاب البديع الرائع الذي هو "إعلام الموقعين عن رب العالمين" ذكر فيه مسائل وضوابط في الفقه والقضاء والفتيا والتقليد والاجتهاد والتمذهب ونحو ذلك، وأتى فيه بنفائس عظيمة وجليلة ربما تستحق أن تكون مواضيع لدروس عديدة، وقد أفدنا من هذا الكتاب في دروس كثيرة، ومنها على سبيل المثال الدرس الذي كان بعنوان: اللباب في السؤال والجواب.
وألف كتاب: "الطرق الحكمية في طرق الإثبات" وغيرها من الكتب الكثيرة في هذا المجال.
وفي السيرة له الكتاب المشهور المعروف "زاد المعاد في هدي خير العباد" وهذا الكتاب فيه مزايا كثيرة جداً يضيق المقام عن حصرها، لكنه جمع فيه بين ما كان يسمى بكتب الشمائل وما كان يسمى بكتب السير والمغازي، فجمع المنهجين معاً في كتابه، إضافة إلى ما في هذا الكتاب من التحريرات التاريخية، والمسائل الفقهية الدقيقة التي توسع فيها كثيراً في بعض المواضع، فجمع في كتابه هذا بين التاريخ والفقه والسيرة والشمائل، وغير ذلك من العلوم، ومنها تعرضه لعلل بعض الأحاديث، وقد ألف هذا الكتاب أثناء سفره، أي: من غير كتب ولا مراجع، وإنما مما كان يحفظه في رأسه وفي قلبه من هذه النصوص والعلوم، وقد ذكر بعض الباحثين المعاصرين أنه ألف في السفر الكتب التالية: 1 - مفتاح دار السعادة.
2 - روضة المحبين.
3 - زاد المعاد.
4 - بدائع الفوائد.
5 - تهذيب سنن أبي داود.
هذه الكتب ألفها في حال السفر، ولو نظرت إلى بعضها لرأيت فيها علماً جماً لو عكف عليه الباحثون وتفرغوا له، ربما لم يأتوا بجزء منه، وهذا يدلنا على علمه الواسع.
وتميز ابن القيم بالكتب المتعلقة بالناحية التربوية النفسية، وله في ذلك: "إغاثة اللهفان" و"الجواب الكافي" وغيرهما من الكتب التي تتكلم على أمر الذنوب والمعاصي، وأمراض القلوب وعللها وأدوائها مما هو أيضاً معلوم وواسع.
وقد توسع ابن رجب في ذكر هذه المؤلفات كثيراً، فنحن من خلال هذه الوقفات نؤكد على ما ينبغي أن نستفيده من هذه الترجمة في شقها الأول: ما يتعلق بحال ابن القيم في أخلاقه وخلاله، وفي عبادته وتهجده، وفي علمه ومؤلفاته، وأيضاً في استفادته من شيوخه وتعلمه على أيديهم.
وننتقل الآن إلى الشق الثاني وأحسب أن له أهميةً أكبر من الشق الأول: وهو ما يستفاد من منهج ابن القيم رحمة الله عليه الذي قرره في كتبه، وعرف به في حاله وتقريره للمسائل التي تعرض لها.(179/4)
الوقفة الرابعة: أثر صحبة ابن القيم لشيخه ابن تيمية واستفادته منه
نحن نرى أن كثيراً منا في هذا العصر يريد أن يطلب العلم دون جهد أو عنى، ويريد أن يحصله دون طول زمن، بل يريد في لمحة من وقته أو ساعة من نهار أن يحفظ ويفهم ويدرك ويجيد ويتقن، وأما علماؤنا فقد كانوا على غير ذلك، وهذا مما ينبغي أن يتنبه له، ثم إنه قد استفاد رحمة الله عليه استفادةً واضحةً من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه؛ ولذلك وقفة أيضاً نأخذها هنا لنرى أثر الصحبة، والاقتباس، وتلقي العلم، والتربية الإيمانية العلمية والسلوكية التي غفل عنها كثير منا في هذه الأعصر.
صحب ابن القيم شيخه من عام (712هـ) حتى وفاته في عام (728هـ) أي: أنه لازمه ستة عشر عاماً، كان فيها مختصاً به، مرافقاً له، أكثر الأخذ عنه والمدارسة معه، واطلع على سائر أحواله، وقد وصف من حال شيخه الكثير والكثير، مما يدل على تأثره به وأخذه عنه، وأنه لم يأخذ عن ابن تيمية رحمة الله عليه العلم وحده، وإنما أخذ عنه العلم والسلوك، وأخذ عنه الحال الإيماني والوصف التربوي، كما أنه أخذ منه أمر مهم وهو المنهجية في أخذ العلم والاستنباطات ونحو ذلك مما يأتي ذكره، وقد قال ابن القيم في وصف هذه العلاقة أبيات.
يحكي فيها عن نفسه وما مضى به من الأحوال: يا قوم والله العظيم نصيحة من مشفق وأخ لكم معوان جربت هذا كله ووقعت في تلك الشباك وكنت ذا طيران أي: قبل أن يصحب شيخه ثم يقول: حتى أتاح لي الإله بفضله من ليس تجزيه يدي ولساني أخذت يداه يدي وسار فلم يرم حتى أراني مطلع الإيمان ورأيت أعلام المدينة حولها نزل الهدى وعساكر القرآن ورأيت آثاراً عظيم شأنها محجوبة عن زمرة العميان وقال ابن كثير رحمة الله عليه: إن ابن القيم صحب ابن تيمية لما عاد الشيخ من الديار المصرية في سنة (712هـ) ولازمه إلى أن مات، وأخذ عنه علماً جماً.
وقال ابن حجر في الدرر الكامنة: إنه غلب على ابن القيم حب شيخه؛ حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، بل ينتصر له في جميع ذلك، وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه.
وهذا الكلام من ابن حجر رحمة الله عليه ليس على إطلاقه؛ فإن ابن القيم قد استقى من شيخه أن المجتهد لا يقلد، وأن المصدر الذي ينبغي أن يعود ويرجع إليه العالم هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولذا فقد خالف ابن القيم شيخه في مسائل عديدة، ولم يكن موافقاً له في كل شيء، وإن كان استفاد منه كثيراً، وقد قرر ذلك في كتبه وطول النقل عنه، وكان يقول: أفدت ذلك من شيخنا، وكان يقول: ما أطلقت من قول شيخ الإسلام فأعني به ابن تيمية ونحو ذلك مما كان ينسبه إليه ويستفيده منه، ولكنه مع ذلك خالفه في مسائل ليست قليلة، وليس هذا موضع ذكرها، لكني أذكر بعض هذه المسائل، مثل مخالفته لشيخه في فهم كلام للإمام أحمد في مسألة الرضعة الواحدة، والاعتداد بها، وكيف تكون الرضعة.
وكذلك أيضاً مسألة تتعلق بعدة الأمة، فقد خالف فيها شيخه، وغير ذلك من المسائل.
وما نقتبسه هنا أيها الأحبة! أنه لا بد لطالب العلم من الشيخ الذي يتلقى عنه العلم، ويتعلم منه السلوك والسمت الصالح، ويأخذ عنه النهج الذي يفتح الله به عليه في معرفة ما يأخذ من العلم وما يدع، وكيف يأخذ هذا العلم، وكيف يصنع به ويستفيد منه وينشره، إلى غير ذلك من الأمور؛ لأنه ليس المطلوب هو مجرد حفظ العلم وتلقيه، بل كيفية الإفادة منه، والتعريف به، ونحو ذلك من الأمور اللازمة التي يحتاج إليها كثيراً.(179/5)
الوقفة الخامسة: تصانيف ابن القيم وتآليفه
وقفة أخرى نقتبس منها أيضاً أنواراً أخرى، وهي ما يتعلق بكتبه وتآليفه؛ لأنها أثر من آثار علمه، ويعجب المرء بما كان لسلفنا الصالح رضوان الله عليهم من همة وعزيمة، وما أمدهم الله عز وجل به من توفيق وتسديد.
يقول ابن كثير في شأن مؤلفاته: وله من التصانيف الكبار والصغار شيء كثير، وكتب بخطه الحسن شيئاً كثيراً، واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عشره من كتب السلف والخلف.
وهذا وصف إجمالي سنذكر بعض تفصيله.
وابن رجب يقول: كتب بخطه ما لا يوصف كثرةً، وصنف تصانيف كثيرةً جداً في أنواع العلم وكتابته ومطالعته وتصنيفه، واقتنى من الكتب مالم يحصله غيره.
وكان كلام ابن حجر في وصفه في هذا الباب من أجمل وأنفس ما يقال، يقول: وكان مغرماً بجمع الكتب، فحصل منها ما لم يحصل غيره.
يعني كان يجمع الكتب ويقتنيها، ونحن نعلم أن الكتب في ذلك العصر لم تكن مطبوعة بآلاف وعشرات الآلاف كما هو في عصرنا، فكان تحصيلها وجمعها وتتبعها ونسخها أمراً فيه مشقة وجهد وعناء لا يعرفه إلا من كابد ذلك أو بعضاً منه أو اطلع عليه.
يقول ابن حجر: وكان مغرماً بجمع الكتب، فحصل منها ما لم يحصل غيره، حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهراً طويلاً سوى ما اصطفوه لأنفسهم.
من أولاده إبراهيم وعبد الله كانا من العلماء، وقد درسا بعد موت والدهما في المدرسة الصدرية، وكان أحدهما من أهل الفتيا والقضاء، وهما من أهل العلم، فاصطفوا لأنفسهم كتباً، ومع ذلك كانت كتبه من الكثرة أنهم باعوا بعضاً منها على مدىً طويل من الدهر والزمن.
وقال ابن حجر في وصف تصانيفه -وهذا إطلاق عجيب دقيق مفيد من ابن حجر -: وكل تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف، وهو طويل النفس فيها، يتعاني الإيضاح جهده فيسهب جداً، ومعظمها من كلام شيخه يتصرف فيه في ذلك، وله في ذلك ملكة قوية، ولا يزال له يد في ذلك، ويبسط مفرداته وينتصر لها.
إن قبول المؤلفات وسريانها بين الناس دليل من أدلة التوفيق الإلهي، وقد ذكر العلماء في تراجم بعض أهل العلم هذا المعنى كثيراً، وهو أنه رزق القبول في تصانيفه، أو انتشرت تصانيفه، وتلقاها الناس بالقبول، أو سارت الركبان بتصانيفه في حياته وأخذ بها العام والخاص، ونحو ذلك من الأمور التي ذكرت في بعض العلماء الأعلام الذين ما نزال اليوم نقرأ كتبهم ونتتلمذ عليها، ونرجع إليها، ونعتبرها عمدة الكتب التي خلفها سلف الأمة، مثل: كتب ابن القيم وابن تيمية والإمام النووي وابن حجر والذهبي وغير أولئك من الأعلام رحمة الله عليهم أجمعين.
يقول الشوكاني معلقاً بعد نقل كلام ابن حجر: وله من حسن التصرف مع العذوبة السائدة وحسن السياق ما لا يقدر عليه غالب المصنفين، بحيث تعشق الأفهام كلامه، وتميل إليه الآذان، وتحبه القلوب، وليس له على غير الدليل معول في الغالب، وقد يميل إلى المذهب الذي نشأ عليه، ولكنه لا يتجاسر على الدفع في وجوه الأدلة بالمحامل الباردة كما يفعل غيره من المتمذهبين.
وانظر إلى هذا المعنى الذي أضافه الشوكاني وهو معنى ً جميل جيد وواقعي حقيقي، فإن ابن القيم رحمة الله عليه اشتهر بعذوبة عبارته، وسلاسة أسلوبه، وعلو بلاغته، وحسن عبارته، وكثرة استشهاده بالأمثلة والأشعار والبلاغات ونحو ذلك، مما يجعل كلامه مقبولاً في النفوس، وله وقع في القلوب كما قال: تميل إليه الآذان، وتعشقه وتحبه القلوب، وهذا قول واقعي يعرفه من قرأ في كتبه رحمة الله عليه.
وهذا أمر نحتاج إليه، وهو ما قاله عنه ابن حجر: يتعانى في التوضيح والتبيين وبسط المسائل حتى تعرف، فليس أمر التعليم وتفهيم الناس أمراً هيناً، وإنما يحتاج إلى معرفة طرق التدريس والتعليم، وقد كان ابن القيم قد أخذ بالحظ الأوفى والأوفر من هذا الوصف، وكتبه مع وضوحها وجمالها فيها العلم والتفصيل والتفريع الذي هو من شأن تخصصات العلوم ودقائقها، إلا أنه كان يسهب بحيث يفهم عنه ويقبل منه، ويكون قد أقام الحجة والدليل بالطريقة الواضحة البينة، وهذه الصفة من الأمور المهمة التي ينبغي أن نستفيدها وأن نقتبسها.(179/6)
الوقفة الثانية: علم ابن القيم رحمه الله تعالى
نقف وقفة نقتبس فيها من أنوار ترجمة وحال ابن القيم رحمة الله عليه في علمه.
قد قلنا ذاك الموجز في أخلاقه، وهذه العبارات الجامعة في عبادته، فلا نظن أن هذا وذاك جاء من كلام غير خبير، فقد ذكره من ترجم له أمثال ابن كثير وابن رجب وغيرهما، وابن كثير إمام عالم، فإذا قوم فهو تقويم العلماء، وإذا مدح وأثنى فهو يعرف من هذه العلوم ما يجعله يعرف مواقع الكلمات، وليس كما هو الحال في عصورنا المتأخرة، فأنت تجد من حفظ كلمةً أو كلمتين أو اطلع على كتاب أو كتابين، ربما وصف بأنه عالم الأمة وإمام الأئمة، لكن السابقين من العلماء ما كانوا يطلقون هذه الأوصاف إلا عن علم بها، وتحر فيها، ودقة في إطلاقها.
قال ابن كثير رحمة الله عليه في وصف علمه: سمع الحديث، واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة لاسيما علم التفسير والحديث والأصلين، وبالجملة كان قليل النظير في مجموعه.
يعني: قل أن يوجد له نظير في مجموع أحواله، من علمه، وعبادته، وأخلاقه، إلى غير ذلك كله.
وقال ابن رجب في وصف علمه -وقد توسع في ذلك؛ لأنه تلميذه الذي تلقى عنه وأخذ منه-: تفقه في المذهب، وبرع، وأفتى، ولازم ابن تيمية وأخذ عنه، وتفنن في علوم الإسلام، وكان عارفاً بالتفسير لا يبارى فيه، وبأصول الدين وإليه فيها المنتهى -تأمل هذه العلوم والأوصاف- والحديث ومعانيه وفقهه ودقائق الاستنباط منه، لا يلحق في ذلك، وبالفقه والأصول والعربية وله فيها اليد الطولى، وتعلم الكلام والنحو وغير ذلك، وكان عالماً بعلم السلوك، وكلام أهل التصوف وإشاراتهم ودقائقهم، وله في كل من هذه الفنون اليد الطولى.
فهذا يدلنا على شمول علمه في مسائل كثيرة وفي فنون متعددة.
وقال الذهبي -وهو من نعلم في تقويم الرجال-: عني بالحديث وفقهه، ومعرفة بعض رجاله، وكان يشتغل في الفقه، ويجيد تقريره وتدريسه، وفي الأصلين، وتصدى للاشتغال وإقراء العلم، ونشره.
ويقول ابن رجب: ما رأيت أوسع منه علماً، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه -ثم يستدرك ويدلنا ذلك على دقة العلماء- قال: وهو ليس بمعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله.
وقال القاضي برهان الدين الزرعي عن ابن القيم: ما تحت أديم السماء أوسع علماً منه، وقد درس في الصدرية -وهي إحدى مدارس الشام نسبة إلى صدر الدين الدمشقي - وأم بالجوزية، أي: كان إماماً فيها.
فهذه الأوصاف التي ذكرت عن بعض ما كان عليه من العلم، تجعلنا نقتبس من نور أهل العلم أنه لا بد من بذل الجهد والتفرغ والحرص على التلقي وعدم التعجل، فإن ابن القيم ما حاز هذه العلوم ولا نال هذه الرتب إلا بعد وقت طويل، وعمل كثير، وتلق متنوع، ورحلة في طلب العلم، وعكوف عليه، وسهر لأجل حفظه وإتقانه.
وقال الشوكاني عنه: برع في جميع العلوم، وفاق الأقران، واشتهر في الآفاق، وتبحر في معرفة مذاهب السلف.(179/7)
الوقفة الثانية: عبادة ابن القيم رحمه الله تعالى
نقتبس أنواراً أخرى من أمر وحال عبادته رحمة الله عليه، وقد ذكر المترجمون له في هذا الشأن حالاً عجيبة، وأوصافاً غريبة، وأموراً يتعجب منها كثير منا، وقد ضعفت هممنا، وكثرت بالحياة الدنيا انشغالاتنا، وقصرنا في الطاعات، وفرطنا في كثير من الخيرات.
كان ابن كثير من أصحابه وجلسائه الذين عرفوه وخبروه، يقول: وكنت من أصحب الناس له، وأحب الناس إليه، ومعنى هذا: أنه سيكون مطلعاً على خبايا أمره، وعلى أحواله الخاصة.
ثم يقول ابن كثير رحمة الله عليه -وتأمل هذه الكلمات عندما يقولها الإمام ابن كثير وهو من هو في علمه وفضلة وتأريخه وتراجمه المعروفة-: ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادةً منه، وكانت له طريقة في الصلاة يطيلها ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا ينزع من شأن عبادته وطوله فيها، وتفرغه لها وبذله من جهده ووقته فيها.
ولم يكن ابن القيم رحمة الله عليه رجلاً منقطعاً عن الناس متفرغاً للعبادة، حتى نقول: إن هذا الوصف يليق به؛ لأنه لم يكن عنده شأن آخر، بل كان عالماً صنف مصنفات يحار العقل في فهمها وتدبرها، ومعرفة ما فيها من غزير العلم، ودقائق المسائل، وكان مع ذلك مجاهداً في الدعوة إلى الله عز وجل، ينشر العلم ويلقنه، ويرد على المخالفين، ويقوم المبتدعين، ونحو ذلك، ومع ذلك كله ما شغل عن أمر هو من أهم الأمور وأعظمها وآكدها للعالم والداعية والمسلم على وجه العموم، وهو أمر الصلة بالله عز وجل، وأمر العبادة وربط القلب به، واستمداد العون منه.
ويقول ابن رجب - وهو ممن تتلمذوا على ابن القيم رحمة الله عليه، وقد وصفه في ذلك وصفاً أطول وأعجب مما ذكره ابن كثير -: وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار والافتقار إلى الله عز وجل، والانكسار له والانطراح بين يديه على عتبة عبوديته، ثم يقول على غرار ما قال ابن كثير: لم أشاهد مثله في ذلك، وكان في مدة حبسه مشتغلاً بتلاوة القرآن والتدبر والتفكر، ففتح عليه من ذلك خير كثير، وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة، وتسلط بسبب ذلك على الكلام في علوم أهل المعارف.
قال: وحج مرات كثيرة، وجاور بمكة، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراً يتعجب منه.
فذاك قرينه، وهذا تلميذه، وهما من المقربين إليه والمختصين به، العارفين بحاله، فإذا بهما يذكران هذا الوصف الذي يغلب على السامع عندما يسمعه أن هذا الرجل لم يكن له شأن إلا العبادة وحدها، ومع ذلك كان رحمة الله عليه يجمع مع هذا الشأن شئوناً أخرى عظيمة وجليلة؛ ولذلك سمت العبادة ونورها الذي يقذف بالقلب، وتوفيقها الذي يجعله الله عز وجل مسدداً لصاحبها؛ هو أمر مقتبس أصلاً من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه من العبادة مع كونه رسول الأمة، وقائد جيوشها، ومدبر أمرها، ورئيس دولتها، ومع ذلك كان هو الموصوف بالعبادة إلى الغاية القصوى التي لا منتهى إليها ولا قرب منها، وكذلك كان صحابته رهباناً بالليل، فرساناً بالنهار، كانوا يجمعون بين هذا وهذا، وعندما ضعف هذا السمت في أجيالنا المعاصرة، وفي المتصدرين للخير والإصلاح، والدعوة والعلم وطلبه، رأينا ضعفاً في الآثار: من قبول الحق، ومن سرعة الفهم، ومن غزارة العلم وغير ذلك من الأمور التي فتح الله عز وجل بها على أسلافنا من الأئمة؛ لأنهم أحسنوا ما بينهم وبين ربهم سبحانه وتعالى فسهل لهم أمورهم، وفتح لهم من أبواب خزائنه سبحانه وتعالى توفيقاً وتسديداً وإلهاماً ورشداً وصواباً في الرأي، ودقةً في الاستنباط، إلى غير ذلك مما عرفوا به واشتهروا به رضوان الله عليهم ورحمة الله عليهم أجمعين.(179/8)
الوقفة الأولى: أخلاقه وخلاله التي تحلى بها وعرف بها وأقوال العلماء فيه
إن أول وقفاتنا مع الأخلاق والخلال التي تحلى بها وعرفت عنه، ولا شك أن البدء بهذا من المهمات؛ لأن غاية العلم هو أن يثمر العمل، والإيمان في حقيقته تهذيب للسلوك وتقويم لأخلاق الإنسان، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في مستدرك الحاكم: (الإيمان والحياء جميعاً، فإذا نزع أحدهما نزع الآخر)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وقال أيضاً: (الحياء شعبة من الإيمان)، مما يدل على أن الإيمان لا بد أن يثمر بهذه السلوكيات والأخلاقيات والعبادات، فالعلم يورث العمل الصالح.
قال ابن كثير -وقد كان من أقران ابن القيم وزملائه وأحبابه-: كان ابن القيم حسن القراءة والخلق، وكان كثير التودد، لا يحسد أحداً ولا يؤذيه ولا يعيبه، ولا يحقد على أحد.
وهذه الكلمات الموجزة تنبئنا عما ينبغي أن يتصف به المسلم الحق، والعالم الذي فقه العلم حق الفقه، فهذا ابن كثير يخبرنا عن حسن سلوك ابن القيم رحمة الله عليه.
وتأمل إلى قوله: كان كثير التودد.
فهذا نور ينبغي أن نقتبسه، فإن المؤمن يألف ويؤلف، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون)، فالمؤمن منبسط الوجه باش الوجه دائم التبسم، محب لإظهار السرور على إخوانه؛ وبهذا يتميز كل صاحب إيمان وصاحب علم، وليس من ضرورة الالتزام والعبادة والتهجد الغلظة والفضاضة والتجهم، فإن بعض الناس ربما غلب عليه هذا السمت، لذلك لا تراه إلا مقطب الجبين، عابس الوجه، ويظن أنه بذلك يحقق مقتضى تعبده ولوازم تعلمه! وليس الأمر كذلك.
ويقول ابن كثير رحمة الله عليه واصفا ابن القيم: لا يحسد أحداً ولا يؤذيه ولا يعيبه.
جاء في مسند الإمام أحمد قصة الرجل الذي بشره النبي عليه الصلاة والسلام أنه من أهل الجنة ثلاث مرات، ثم صحبه بعض الصحابة ليرى حاله ويعرف سر بشارة النبي عليه الصلاة والسلام له، فلم ير عنده شيئاً يتميز به من كثير قيام أو صلاة أو نحو ذلك، إلا أن الرجل قال له: إني أبيت وليس في صدري غش ولا غل لأحد من المسلمين، فقال: هذه التي بها بلغت، وهي التي عنها نعجز.
فغاية التهذيب الإيماني أن يكون المرء حسن السريرة على إخوانه، يحسن الظن بهم، ولا يحمل الحقد في قلبه عليهم وإن أخطئوا عليه.
كانت هذه الصفة في ابن القيم بالرغم أن له خصومات مع بعض من خالفه في الآراء، حتى سجن وأوذي، ومع ذلك كان لا يحمل حقداً، فالرجل الكبير العظيم يكون مترفعاً عن الدنايا والصغائر، ولا يجعل لخلاف الرأي أثراً على محبة القلوب، وحسن الظن بالآخرين، والتماس العذر لهم.
ولذلك كان وصف ابن كثير مطلقاً، يقول: كان لا يحسد أحداً، ولا يؤذيه، ولا يعيبه، أي: ينتقصه بالعيب أو يقدح فيه سواءً في علمه أو في سمته أو غير ذلك.
وقال كذلك: ولا يحقد على أحد.
ولا يظنن ظان أن هذا السمت يدل على الهوان والضعف والذلة، وإنما كما قال ابن حجر عندما ذكر كثيراً من صفات ابن القيم: كان جريء الجنان، شجاع القلب، يقول الحق لا يخشى في الله لومة لائم، وقد خالف كثيرين وأصر على رأيه وأنه الحق، وسجن وأوذي فما تردد، ولا ارتجف قلبه ولا خاف ولا داهن في دينه.
فتجد أن تبسمك وإدخالك السرور على إخوانك فيهما تنقية قلبك وتهذيب نفسك، بما لا يفضي إلى أن تداهن في الحق أو أن تتراجع عما تعتقده صواباً، وإنما تجمع بين هذه المحاسن كلها، وهكذا كان ابن القيم رحمة الله عليه كما في بعض هذه الكلمات اليسيرة الوجيزة التي ذكرها عنه بعض من ترجم له من أهل العلم.(179/9)
منهج ابن القيم فيما يتعلق بمؤلفاته المختلفة وكيفية الاستفادة منه
يمكن تقسيم كتب ابن القيم إلى ثلاثة جوانب أساسية: الجانب الأول: فيما يتعلق بالعقائد.
الجانب الثاني: فيما يتعلق بالفقه.
الجانب الثالث: فيما يتعلق بالروح والتربية الإيمانية والسلوكية.
وليس هذا المقام مغنياً ولا كافياً في الإتيان على هذه المسائل بما يكفي ويجمع كل ما فيها، وإنما نشير من ذلك إلى ما يتسع له المقام، ويليق بحال مثل هذا الدرس العام.(179/10)
منهج ابن القيم فيما يتعلق بالجانب الإيماني التربوي
إن ابن القيم رحمة الله عليه لم يكن فقط ممن يقررون المسائل الفقهية على القواعد الأصولية، ويهتمون بالرد على الأقوال فحسب، وإنما خاض في علم القلوب وأحوال النفوس وما يتعلق بذلك، وأتى في هذا بعجب عجاب، وفند فيه كثيراً من الأخطاء، وبين فيه كثيراً من المحاسن التي غفل عنها كثير من الناس؛ ولذلك كان له في ذلك كتب كثيرة كما أشرت إلى بعض منها، ونستطيع أن نسميه من فقهاء الإيمان، هناك فقه الحكم الظاهر، وهناك الفقه الإيماني الذي هو من المقاصد الأساسية لهذا الدين، فنحن مثلاً عندما نأخذ كلام ابن القيم في آثار الذنوب والمعاصي، وعندما نأخذ كلامه على حياة القلوب وموتها وظلمتها ونحو ذلك، نرى ما كان عنده مما يسمى اليوم بعلم النفس، أو علاج الأمراض والعقد النفسيه ونحو ذلك، فإنه قد أتى في هذا الأمر بأشياء كثيرة مفيدة نافعة.
وأوجز أيضاً ملامح أساسية في هذا الشأن: الأول: وهذا يتكرر معنا كثيراً: الاقتباس من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في تقسيم القلوب ومعرفة أنواعها وأدوائها وعللها وعلاجها، فإن هذا قد أكثر منه ابن القيم رحمة الله عليه كثيراً.
الثاني وهو من الأمور المهمة جداً: البناء على الأثر العملي، ليست القضية في الأمور الإيمانية قضايا أقوال كما خاض في ذلك بعض المتصوفة، وبعض الذين أرادوا أن يخلوا أنفسهم من الأعمال، فقالوا أقوالاً جميلة، وتغنوا بأشعار موزونة رقيقة، وتمايلوا طرباً، ورأوا أن هذا هو حال أهل الإيمان فحسب، كان ابن القيم رحمة الله عليه -كما سأذكر بعضاً من نصوصه الكثيرة- يربط حقيقة الإيمان والعلو في الرتب الإيمانية وصفاء القلب ونقاء السريرة وغير ذلك من الأمور؛ بالتزام الشرع والإتيان بالفرائض والإكثار من النوافل، وبيان أنه ليس هناك تفريق بين علم الحقيقة وعلم الشريعة، كما يقولون.
الثالث: أن ابن القيم رحمة الله عليه فند الباطل من الآراء والأقوال والمعتقدات التي دخلت في أمر التعبد والسلوك ورياضة النفوس وتهذيب القلوب، فقد أنكر وحدة الوجود وبين زيفها، ورد على ترك التكاليف وبين حقيقة هذه الأمور بياناً شافياً وواضحاً.
الرابع وهو مهم جداً: ربطه بين العبادات والأعمال وآثارها الإيمانية في القلب والنفس، وقد أتى في زاد المعاد بأقوال مطولة نفيسة في بعض هذه المسائل، ربما عندما يسمعها السامع أو يقرؤها القارئ لا يرى إلا أنها من أقوال بعض أهل التصوف الغالين فيه، وما ثم شيء قد خرج من فيه ومن كلامه إلا الحق، وإنما كان ينطق بلسان يغترف من قلب شفاف ونفس طاهرة قد تهذبت بهذه الأعمال الإيمانية؛ لأن بعض الناس اليوم أرادوا -عن حسن نية في بعض الأحوال وعن جهل في أحوال أخرى- أن يردوا الغلو الذي وقع والشطحات التي حصلت من بعض من جنح في أمور العبادات والتزهد والترهب؛ فردوا معها أصل الأثر الإيماني، وأنكروا لذلك بعض الأمور إن لم ينكروها بنص قولهم فقد يفهم ذلك من أحوالهم ومجموع أقوالهم، كأن ينكروا ما يقذف في القلب من نور، وما يقع له من تطهير من أثر العبادة والإيمان، وما يقع أيضاً من أمور حسية سواءً بالرؤى الصالحة أو الكرامات أو غير ذلك من الأمور؛ حتى إن ابن تيمية رحمة الله عليه قد بين مثل هذا وأفاض فيه كما في بعض الرسائل والمسائل، حتى إنه عد الإلهام عند تساوي الأدلة مرجحاً عند صاحبه، يعني: يترجح به قول من الأقوال عند صاحبه، ما دام هذا الإلهام لرجل مؤمن صالح؛ لأن هناك شواهد من الأدلة تدلنا على أن التقوى والإيمان والصلاح له أثر في معرفة الحق، وله أثر أيضاً فيما يتعلق بهذه الآثار الإيمانية من ذوق حلاوة الإيمان وطعمه، ومن النور الذي يكون للعبد من أثر هذه الطاعات، ونحو ذلك من الأمور التي تقع له من توفيق وتسديد وإلهام وكرامة، وغير ذلك في حدود ما ثبت دون تجاوز، وأذكر بعض مقالاته في مثل هذه المسائل، وهذا الباب على كل حال من الأبواب المهمة التي أرى أن كثيراً من الشباب تدفعهم حماستهم إلى إنكار كثير من الأمور الإيمانية والتربوية أثناء إنكارهم للباطل الذي فعله بعض المتصوفة؛ ولذلك ترى بعضاً منهم يقول: إن مدارج السالكين لا تصح نسبته لـ ابن القيم! وذلك لأنه رأى أن ابن القيم تكلم على المنازل والمراتب على غرار ما كانوا يتكلمون فيه، مع أنه ما تكلم على ذلك إلا بكلام صحيح في جملته، واستدل لهم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ورد على الهروي كما سأذكر بعض الأمثلة في بعض ما خالفه فيه، أولم يوفق فيه في بعض الجمل والعبارات ونحو ذلك، وأيضاً بعضهم قد لا ينسب إليه "حادي الأرواح" أو "الروح" أو غيرها من الكتب، وأقول: ليس ثمة ما يدعو إلى عدم تصحيح نسبة هذه الكتب إلى ابن القيم فإن في كلامه وكلام شيخه من قبله وكلام غيرهما كـ الذهبي سيما في مواضع كثيرة من سير أعلام النبلاء وغيرها من كتب التراجم ما يدل على أن هذا أمر مألوف معروف، وهو أيضاً المنهج الذي اقتبسوه مما نقلوه عن السلف من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم، فأذكر بعض النقولات السريعة لنختم بها هذا الكلام.
بين ابن القيم رحمة الله عليه مذهب التصوف فقال: أصل هذا المذهب ملازمة الكتاب والسنة، وترك الأهواء والبدع، والتمسك بالأئمة والاقتداء بالسلف، وترك ما أحدثه الآخرون، والمقام على ما سلك الأولون.
وأيضاً يقول ابن القيم في معرض رده على بعض ما ذهب إليه غلاة المتصوفة: قيل لبعض الصوفية: قم إلى الصلاة فقال: يطالب بالأوراد من كان غافلاً وكيف بقلب كل أوقاته ورد يعني: هذا من الواصلين كما يقول، وإنما الصلاة عندهم للغافلين، أما الذين قلوبهم حية موصولة بالله عز وجل -كما يزعمون- فإنهم لا يحتاجون إلى ذلك.
فقال ابن القيم رحمة الله عليه: فمن لم ير القيام بالفرائض إذا حصلت له الجمعية- يعني: اجتماع القلب- فهو كافر منسلخ من الدين، ومن عطل لها مصلحةً راجحة كالسنن الرواتب، والعلم النافع، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنفع العظيم المتعدي، فهو ناقص، أي: أن فعله ناقص وفيه خلل.
أيضاً يبين المقياس الأساسي في معرفة هذه الأمور: لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتفع إلى الهواء فلا تغتروا به، حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود والشريعة.
ونقل عن عبد الله الخياط قوله: الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مع ما يقع في قلوبهم- يعني: بحسب ما يقع في قلوبهم-، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام فردهم من القلب إلى الدين والشريعة.
المسألة التي في الدين ليست مسألة قلوب وأذواق ومواجيد، وإنما الأصل في الشريعة العمل بالشرع، فهو الذي يورث القلب الخير والاستقامة والصلاح ونحو ذلك.
وأيضاً: علق على كلام للهروي في منازل السائرين، وإن كان هو متعقباً له، لكنه كان متأدباً معه، يقول ابن القيم في تعليقه على قوله: ويطوي خسة التكاليف: يقصد عبء التكاليف، لكن ليت الشيخ عبر عن هذه اللفظة بغيرها، فوالله إنها لأقبح من شوكة في العين وشجىً في الحلق -يعني: أن العبارة قبيحة لم يوفق فيها- وحاشا التكاليف أن توصف بخسة أو تلحقها خسة، وإنما هي قرة عين، وسرور قلب، وحياة روح، صدر التكليف بها عن حكيم حميد، فهي أشرف ما وصل إلى العبد من ربه، وثوابه عليها أشرف ما أعطاه للعبد سبحانه وتعالى.
وهكذا كانت له مثل هذه التعليقات والكلمات الجميلة.
وله أيضاً الفوائد الواضحة التي هي من آثار العبادة والعلم.
وقد ذكرت بعض النقولات التي تبين لنا هذا الأمر، وأحب أن أؤكد على أن كلام ابن القيم على التزكية في كتبه ومؤلفاته من أعظم ما يستفاد منه فيها رحمة الله عليه.(179/11)
منهج ابن القيم فيما يتعلق بالفقه
أنتقل إلى الملامح الأخرى المتعلقة بالناحية الفقهية: ابن القيم رحمة الله عليه كان في هذا الشأن متميزاً، وقد أفادنا منهجه كثيراً في مجالات متعددة.
فإن لـ ابن القيم في منهجه الفقهي ملامح ومعالم أساسية منها: الأول: الدعوة إلى مذهب السلف في المسائل الفقهية، وتقديمه لأقوال الصحابة والتابعين على أقوال من جاء بعدهم، والتفريق بين هذه وهذه في مراتب سيأتي ذكرها.
الثاني: التحرر وعدم الجمود.
الثالث: محاربة التلاعب بالدين.
الرابع: تفهم روح الشريعة.
وأوجز القول في كل واحدة من هذه الملاحم والمعالم: المعلم الأول: ارتباطه بسلف الأمة في المسائل الفقهية، فقد عقد ابن القيم رحمة الله عليه في أول كتابه "إعلام الموقعين" وكذا في آخره فصولاً مطولةً في أن فتاوى الصحابة والتابعين وعلمهم وما قالوه من الآراء هو الأقرب إلى الحق، والأوفق للصواب، والأكثر مطابقة لما يستنبط من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ممن جاء بعدهم، وفصل في ذلك ودلل عليه، لماذا؟ لأن بعض الناس في ذلك العصر وحتى في عصرنا يرون أن قول الصحابي أو قول التابعين شيء لا يهمنا، وأنه لا يهمنا إلا الكتاب والسنة، صحيح أنه يهمنا الكتاب والسنة، ولكن فهمهم أصوب، وعلمهم بهما أكثر؛ ولذلك طول ابن القيم في هذا المقام وأتى بكلام نفيس، وبحث جليل عظيم في آخر المجلد الرابع من إعلام الموقعين.
وهذه المنهجية مهمة جداً، على سبيل المثال: مسألة قول الصحابي الواحد الذي ربما لم تعضده السنة عن النبي عليه الصلاة والسلام، أو قد يكون ظاهره مخالفاً للسنة يقول: يحمل هذا على ستة أوجه -أذكر بعضاً منها-: إما أنه فعل ذلك نقلاً عن النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينسبه له، أو نسبه ولم ينقل لنا ذلك أو كذا أو كذا، ثم قال: الوجه السادس: أنه أخطأ وخالف في ذلك ما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: واحتمال وقوع خمسة من ستة أقرب من احتمال وقوع واحد من ستة، فيكون قول الصحابي مقدماً على غيره، وله مرتبته التي يعتبر بها ويستأنس بها.
وقال فيما يذكر في أصول الفقه: كلام الصحابي إذا لم يوجد له مخالف يعد معتبراً مأخوذاً به في الجملة، وإن كان كما ينقل عن الإمام أحمد أنه لا يجعله حجةً، لكنه لا يرى دفعه والإعراض عنه؛ لما للصحابة من منزلة ومزية في العلم والأخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
المعلم الثاني: أمر التحرر وترك الجمود، قد كان في عصر ابن القيم وقبله بأكثر من قرن نوع من العصبية المذهبية والتقليد والجمود، الذي جعل كثيراً من المسلمين يرون تقليد غيرهم هو الواجب اللازم عليهم، وضعف بذلك طلبهم للعلم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فنرى ابن القيم رحمة الله عليه هو أحد أقطاب المدرسة التي كانت في ذلك العصر تجدد معنى الارتباط بالكتاب والسنة، والأخذ منهما لمن تأهل لذلك واستجمع المواصفات التي يأخذ بها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد عاب التقليد وذمه وبين المأخذ الشرعي عليه، وبين أن المقلد قد قلد دينه دون أن يبذل جهده في تعرف الحق من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفصل في ذلك، وقد نقل عن بعض من كانوا آخذين بالمذاهب أقوالاً تدل على الإفراط الشديد في مسألة التقيد بالمذاهب والتقليد لها، حتى قال أحدهم: كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة، وكل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ! ونقل ابن القيم عن هؤلاء أنهم كانوا إذا نزلت بالمفتي أو الحاكم نازلة يقولون: لا يجوز أن ينظر فيها في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا أقوال الصحابة، بل إلى ما قاله مقلده ومتبوعه ومن جعله عياراً على القرآن والسنة، فما وافق قوله أفتى به وما خالفه لم يجز له أن يفتي به، وإن فعل ذلك تعرض لعزله عن منصب الفتوى والحكم! فمثل هذه المقالات المنتشرة ميزها ابن القيم وفندها ورد عليها، وبين أنواع التقليد المحرم، وذكر أنه أنواع ثلاثة: الأول: الإعراض عما أنزل الله عز وجل، وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء، وهذا كان شأن الكافرين والمشركين.
الثاني: تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يؤخذ بقوله.
الثالث: التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلد.
وقال: هذه كلها مذمومة.
وقد بين ابن القيم الخلاف بين التقليد وبين الاتباع، وبين من يقصر عن درجة الاجتهاد، وأن له أن يأخذ بقول غيره، ونقل عن الشافعي وغيره أنهم عندما لا يجدون دليلاً يأخذون بما أوثر عن الصحابة رضوان الله عليهم، وقلدوهم فيه، بل قد قال الشافعي في بعض فتاواه: أقول بهذا وأقلد فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهكذا كان ابن القيم يؤصل هذا المنهج ويوضحه، وأكثر ما بين ذلك في كتاب "إعلام الموقعين"، وذكر له أمثلة رائعة في كتاب "زاد المعاد" وغيرها من كتبه رحمة الله عليه.
المعلم الثالث: التلاعب بالدين، وأنه ليس لكل أحد أن يأخذ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو غير أهل لذلك، فيهرف بما لا يعرف، ويخلط ويأتي بالعجائب، فقد كان من منهج ابن القيم أيضاً حياطة الدين، وذلك بسد باب التلاعب بالدين، ومن أعظم ذلك انتصابه للكلام في الحيل والرد على الحيل وإبطالها؛ لأن الحيل المقصود بها ما يكون من التحايل بصورة فقهية من الناحية الشكلية، فيظنها الظان صحيحة ويجوز ويسوغ لنفسه بها فعل ما لا يجوز شرعاً، وعلى سبيل المثال: المحلل الذي يتزوج حيلة ليحلل المرأة لزوجها الذي بانت منه بينونة كبرى، وقد عقد ابن القيم مباحث مطولة في إعلام الموقعين وفي غيره أيضاً لإبطال هذه الحيل وما استدل به أربابها، فقد استدلوا ببعض الأمور وببعض ظواهر الآيات في قصص، واستدلوا بأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب) واستشهد بعضهم بقصة يوسف عليه السلام لما ورى وأخفى على إخوته قصة أخيه، وما صنع، قالوا: كل ذلك يدل على جواز الحيل.
وكذلك ما هو معلوم من قصة أيوب عليه السلام في قوله عز وجل: (((وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ)) [ص:44]، فإنه جمع مائة عود وضرب بها ضربة واحدة تحلة القسم، وغير ذلك من الأدلة.
فهو رحمه الله جاء على هذه الأدلة ورد على من استدل بها، وبين الخطأ في الاستدلال، ثم استعرض ذلك بما يدل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه سلف الأمة رضوان الله عليهم.
المعلم الرابع وهو مهم جداً: اعتبار المقاصد والنيات والعوائد والأحوال في مسائل الفتوى والأحكام، وقد عقد ابن القيم في أول المجلد الثالث من إعلام الموقعين فصلاً في هذا، فهو يقول: النية لها أثر في الحكم، ليس المقصود بالأحكام الفقهية الظواهر الشكلية، بل إذا كانت للمرء نية فإنها قد تؤثر في إبطال الصحيح من الأحكام، مثلاً: مسألة المحلل التي ذكرناها سابقاً، قد يعقد الرجل نكاحاً صحيحاً، لكن ما دامت نيته أنه يقصد بهذا النكاح هذا الغرض ولا يقصد غيره، بل يريد أن يتوصل به إلى أمر مذموم شرعاً؛ فهذه النية لها أثرها؛ ولذلك اعتبار المقاصد والحكم والعلل التي استنبطت من نصوص الشارع، والمقاصد التي روعيت في الأحكام الشرعية مع مراعاة اختلاف العوائد والأحوال؛ أمر عجيب جداً سيما في أمور المعاملات والبيوع.
وقد ذكر ابن القيم على تغير الفتوى باختلاف الأحوال والعوائد والمقاصد والنيات أكثر من مائة مثال، مما كان في عهد الصحابة، ومما اقتبسه من نصوص الكتاب والسنة، مما يدل على أن هذا الأمر مهم جداً، وإلا كان الأمر كما قال ابن القيم: فينسب حينئذ للشريعة أمور لا تصح نسبتها لها؛ لأن الشريعة مبنية على العدل، وكلها محاسن، فلا ينبغي أن تكون هناك أمور تعارض المقاصد الحسنة الكلية لهذه الشريعة الغراء، فهذه المعالم المنهجية مما ينبغي أن يستفاد منها، ومن اطلع على كتب ابن القيم يستفيد منها فوائد مباشرة وواضحة.(179/12)
منهج ابن القيم فيما يتعلق بالعقائد
كان للإمام ابن القيم رحمة الله عليه في جانب العقائد منهج واضح بين، وهو مستفاد من منهج السلف رضوان الله عليهم ورحمهم الله تعالى أجمعين، فقد قرر منهجهم في كتبه، وكانت له في ذلك ملامح عامة يمكن إيجازها في الأمور الآتية: الأمر الأول: الاعتماد الكامل التام على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعندما نقول هذا يحسب بعض الإخوة أننا نقول قولاً من باب تحصيل الحاصل، لكني أقول: ليس الأمر كذلك، فإنه في عصر ابن القيم وقبله وبعده وإلى عصرنا يوجد من طوائف المسلمين ومن بعض أعلامهم من كان يرى تقديم العقل على النقل، ومن الناس من يأخذ بمسائل علم الكلام وبالدلائل العقلية، وأوجد مسائل منطقية وأنواعاً من الفهوم والعلوم شوشت على صفاء المنهج العذب الذي يستقى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والحق أن ابن القيم رحمة الله عليه في كتبه كثيراً ما يستدل بالكتاب والسنة في الرد على بعض من خالف أو أخطأ أو ابتدع في مسائل الاعتقاد، وأذكر مثالاً واحداً فحسب على هذا الأمر دون تطويل فيه: وذلك في مسألة رده على من أول اليد بالقدرة، فقد احتج عليهم بآيات من كتاب الله عز وجل تلجم الخصم الحجة وتعجزه عن الرد، أوجز كلامه حتى لا يطول بنا المقام، لقد استشهد بقول الله عز وجل في قصة خلق آدم: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، فيقول: لو كانت اليد تؤول بالقدرة، فما وجه التثنية هنا؟ أي: لو كانت اليد بمعنى القدرة لكان يغني أن يقول: لما خلقت بيدي، ولك أن تضع هذا السؤال ثم تطوف بعقلك وفكرك ما شئت، فلن تجد جواباً إلا أن هذا المنهج غير صحيح، وأن الإثبات الذي اعتمده أهل السنة هو الصحيح، ثم ثنى على ذلك بنصوص كثيرة من القرآن فيها ذكر اليد واليدين لله عز وجل بما يبطل حجة الخصم ولا يدع مجالاً لمثل هذا التأول، وذكر آيات كثيرة في هذا الشأن نصوصاً من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، فهو يأتي بهذا المنهج ويعتمد عليه ويعول عليه.
الأمر الثاني الذي نقتبسه من نهجه رحمة الله عليه: هو أنه كان يأخذ بالحجج العقلية رديفاً؛ وذلك لأمور مهمة كثيرة منها: أن الشارع لم يلغ العقل أصلاً، وإنما جعل العقل الصحيح يوافق النقل الصحيح، وليس هناك تعارض كما قال ابن تيمية رحمة الله عليه.
ثم أيضاً لإقامة الحجة على من أخذوا بمثل هذه الحجج: فهو ينقض حجتهم بنفس منطقهم ومن خلال منهجهم، وهذا أيضاً قد برع فيه واستفاد كثيراً من شيخه رحمة الله عليهما جميعاً، ولقد برع في هذا خاصةً في كتابه "الصواعق المرسلة".
الأمر الثالث في هذا المنهج: أنه كان يستقرئ استقراءً عظيماً جداً لنصوص الكتاب والسنة في المقام الواحد، مع ذكر المأثور عن الصحابة والتابعين بجمع فريد، ومعنى ذلك: أنه لا يكتفي في الموضع الواحد بالدليل الواحد، الذي قد يكون للخصم فيه تأويل أو له عنده شبهة أو نحو ذلك، فأنت ترى أنه قد يأتي في المسألة الواحدة بمئات الأدلة، وهذا كان نهجه في تقرير المسائل العقدية، فقد كان يفصل فيها تفصيلاً، ويسهب إسهاباً، ويجمع جمعاً طويلاً في كل ما يتعلق بهذه المسألة من الأدلة النقلية النصية، ومن أقوال وأحوال الصحابة والتابعين، ولا شك أن الله عز وجل قد نفع به وبغيره من علماء الأمة؛ لكونهم نقلوا وثبتوا دعائم مذهب السلف الصحيح بهذه الأدلة النقلية الجامعة، وبإثبات ما نقل وأثر عن الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين، وأهل القرون الثلاثة المفضلة الأولى، الذين كانوا في جملتهم على الحق والصواب، ولم تكن قد كثرت في عصورهم الفتن، ولا تعددت الفرق.
الأمر الرابع: أن ابن القيم رحمة الله عليه كان يأخذ بمبدأ الشمول والكمال في مسألة تقرير هذه المسائل، بمعنى: أنه لا يأخذ المسألة جملةً ويرد عليها جملةً، بل يأخذها بشكل شامل فيرد منها ما يرد، ويقر منها ما يقر، وهذه مسألة من المسائل الدقيقة التي يغلط فيها كثير من الناس، فقد يأتي إلى مذهب من المذاهب أو مقالة من مقالات أهل الفرق، فيردها بالكلية، وقد يكون فيها بعض الحق والصواب، فلما استفصل ابن القيم رحمة الله عليه في هذه المسائل وطول النفس فيها، بين أن هذه المقالة فيها وجه حق وهو كذا وكذا، وفيها وجه باطل وهو كذا وكذا، أو قد يكون هذا حقاً، لكن بضوابط هي كذا وكذا، وهذا أمر مهم جداً من ناحية التأصيل العلمي، ومن ناحية مراعاة حقوق الآخرين، والحرص على أعراض المسلمين، حتى لا يتهموا بالباطل أو بالخطأ، أو بأنهم خالفوا الكتاب والسنة كما نرى من تعجل بعض المتعجلين في أوقاتنا المعاصرة، فما أن يسمع عن إنسان أنه قال كلمة أو قال كلاماً يحتمل بعض الأقوال إلا قال -على سبيل المثال-: إن فلاناً من الصوفية أو من الحلولية؛ لمجرد كلمة واحدة، ثم يرد كل ما عنده من قول وفعل، وهذا كما هو معلوم أمر غير صحيح في هذا الجانب.
هذه بعض الملامح السريعة في هذا الجانب.(179/13)
الأسئلة(179/14)
ذكر مراجع مترجمة لابن تيمية وابن القيم
السؤال
أرجو ذكر بعض المراجع عن ابن تيمية؟
الجواب
أنا حضرت لكم عن ابن القيم وسأذكر الاثنين معاً إن شاء الله تعالى لأختم بهذا: هناك كتب كثيرة ترجمت لهذين العلمين، وكثرة هذه الكتب تدل على أن لهما شأناً عظيماً، وفي تراجمهما وعلمهما فوائد كثيرة، بالنسبة لـ ابن القيم هناك " ابن القيم وموقفه من التقليد" تأليف الدكتور عوض الله حجازي، وهناك " ابن القيم حياته وآثاره" للدكتور بكر أبو زيد، وقد جمع فيه موارد ابن القيم في كتبه، وضمه إليه في مجلد في الطبعة الأخيرة (طبعة دار الراية).
وهناك "ابن قيم الجوزية عصره ومنهجه وآراؤه في الفقه والعقائد والتصوف" وهو كتاب واسع وجيد في جملته، تأليف: عبد العظيم عبد السلام شرف الدين.
وهناك أيضاً كتاب "منهج ابن القيم في التفسير" للسمباطي، و" ابن القيم وآثاره العلمية" لـ أحمد ماهر محمود البقري، و"ابن قيم الجوزية" لـ محمد بن مسلم الغنيمي، وهناك بعض الكتب الأخرى المتعلقة بعلم ابن القيم من الناحية اللغوية التي لم نتعرض لها؛ فقد كان له في اللغة والبلاغة شأن واسع.
أما ابن تيمية فقد ألف كثير من أهل العلم في ترجمته، منهم: تلميذه البزار له كتاب: "المراتب العليه في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه" وهناك أيضاً كتب كثيرة للمتأخرين والمعاصرين، ومن الكتب الجيدة والجامعة كتاب: "حياة شيخ الإسلام ابن تيمية لـ أبي الحسن الندوي، وهناك أيضاً كتاب لـ محمد خليل هراس ولـ بهجة البيطار كلاهما بعنوان ابن تيمية، وكتب كثيرة جداً ترجمت لـ ابن تيمية، وكثيرون صنفوا فيها استقلالاً، فيمكن أن يرجع إلى بعضها ويستفاد منها.
ونسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا نقتدي بهؤلاء الأئمة الأعلام، ونتأسى بهم في علمهم وسمتهم وحالهم، إنه ولي ذ لك والقادر عليه.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(179/15)
ذكر كتب تتعلق بآداب طلب العلم
السؤال
صحب ابن القيم ابن تيمية واستفاد منه، فهل هناك كتب جيدة تبحث في آداب طالب العلم وطلب العلم بتوسع وإسهاب؟
الجواب
هناك كتب كثيرة لعلي أشير إلى بعض القديم منها والجديد، وهي من الكتب المعروفة المشهورة منها: "تذكرة السامع والمتكلم" لـ ابن جماعة وهو من الكتب الجيدة النافعة، وكتاب الزرنوجي "آداب طالب العلم"، وأيضاً لـ أبي هلال العسكري "طالب العلم وآدابه" وهي رسالة صغيرة.
ومن الكتب التي جمعت الفوائد كتاب "جامع بيان العلم وفضله" لـ ابن عبد البر، وحد المعاصرين -وهو محمد الحاج -له كتاب في العلم وفضله وآدابه، وي الحقيقة رأيته من أوسع ما جمع من الكتب المعاصرة، وقرب كثيراً مما ذكر في كتاب ابن عبد البر "جامع بيان العلم وفضله".
ومن هذه الكتب النافعة المفيدة أيضاً كتاب "حلية طالب العلم" للشيخ بكر أبو زيد فيه كلام نفيس جداً، وجمع فيه نقولات جيدة، وله كتاب آخر يتعلق بهذا، بين فيه الأخطأ التي قد تقع من بعض طلاب العلم، وهو أثر التعالم في الفكر والكتاب، وهو كتاب أحسب أنه لم يسبق إليه من حيث مضمونه وفكرته، إضافةً إلى أنه جمع فيه من التراجم والوقائع فما وقع لأهل العلم شيئاً عجيباً ربما لا يتوافر لغيره؛ لأنه ممن عرفوا باطلاع واسع وجمع كبير للمعلومات.(179/16)
الحث على صيام يوم عاشوراء
السؤال
لو ذكرتنا بعاشوراء؛ لأن غداً التاسع؟
الجواب
نذكر الإخوة جزاهم الله خيراً بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهو صيام يوم عاشوراء، وقد صامه وقال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع)، وفي مسند الإمام أحمد أنه قال: (صوموا يوماً قبله ويوماً بعده).(179/17)
من كتب ابن القيم التي رد فيها على الصوفية
السؤال
هل يوجد كتاب خاص لـ ابن القيم للرد على الصوفية؟
الجواب
قد رد في مدارج السالكين وفي غيره على الأخطاء التي تنسب إلى الصوفية ممن غالوا وخرجوا عن حد الشرع، والمسائل الأخرى التي هي في دائرة المشروع أقرها وبين الدليل عليها، وبين فوائدها.
واسم التصوف اسم قديم غلب على الشق المذموم غير المشروع من الأعمال، وقد أطلق أيضاً على عموم ما يعرف عند أهل العلم بعلم السلوك والتصوف، أي: العلم المتعلق بالعبادات والطاعات وما يتعلق بالقلوب ونحو ذلك.(179/18)
حكم التحايل وضوابطه
السؤال
ذكرت أن التحايل لا يجوز، فإذا كان وراء هذا التحايل جلب مصلحة ودرء مفسدة عظيمة فهل يجوز؟
الجواب
حديثنا كان على سبيل الإيجاز، وإلا ففي بعض هذه المسائل تفصيل، ومثل هذا لا يعتبر تحايلاً، وإنما هو في جلب مصلحة ودرء مفسدة، فهو من باب مراعاة مقاصد الشريعة، وليس من باب التحايل.(179/19)
عدم وجود مذهب خاص بابن تيمية
السؤال
هل كان لـ ابن تيمية فقه أو مذهب خاص؟ ولماذا لم يشتهر؟
الجواب
كان ابن تيمية معروفاً بأنه مجتهد مطلق، بمعنى: أنه أخذ من أقوال الأئمة وخالفهم في بعض المسائل، وقد خالف الأئمة الأربعة في مسائل، وإنما اشتهر مذهبه في بعض المسائل، ولا يزال بعض أهل العلم في عصرنا يفتي ببعض ما خالف فيه شيخ الإسلام الأئمة الأربعة مثل: المسألة المشهورة التي هي: جعل طلاق الثلاث واحدة، ويقول بها بعض المشايخ مثل: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وغيره، لكن لم يكن ابن تيمية رحمة الله عليه متقدماً حتى يكون من الذين أخذت مذاهبهم ونقلت، ابن تيمية توفي سنة (728هـ) في القرن الثامن، والذين عرفت مذاهبهم واشتهرت بعضهم من أعيان القرن الثالث وبعضهم من أعيان القرن الثاني، ففرق بين هذا وذاك.(179/20)
تقويم كتاب تهذيب مدارج السالكين
السؤال
ما رأيك في كتاب "تهذيب مدارج السالكين" لـ ابن العزي؟
الجواب
الأمر الأول: هو كتاب جيد، حاول فيه صاحبه التهذيب والاختصار للتسهيل في هذا العصر، فالأصل في ثلاثة مجلدات، والمختصر في مجلد، وربما المجلد طلب الناس له اختصاراً حتى يكون مجيلداً وهكذا.
الأمر الثاني: أنه ابتعد فيه عن بعض ما كان يستطرد فيه ابن القيم من المسائل، لأنه كان يستطرد في بعض المسائل ويتفرع فيها، ويذكر بعض الأقوال، وهذا اختصرها، وردد فيها المعاني.
وعلى كل حال الاختصار جيد، ولم يعمل مختصره إلا التهذيب، وأيضاً فقهه الذي فقه فيه عن مؤلفه، والكتاب مفيد نافع إن شاء الله تعالى.(179/21)
استفسار عن استمرار شرح كتاب زاد المعاد وكتاب العقيدة
السؤال
هل هناك استمرار في شرح كتاب "زاد المعاد" وكتاب العقيدة أم تتوقف؟
الجواب
الدرس مستمر، لكنه تعتريه وقفات بحسب الظروف، لكن الأصل أنه مستمر فيما بعد الفجر، وتوقفه لا يضر؛ لأن الحاضرين له قلة ممن يصلون معنا في هذا المسجد.(179/22)
ذكر زواج ابن القيم وبعض أبنائه
السؤال
هل تزوج ابن القيم وله أولاد؟
الجواب
قد أشرت في أثناء الحديث أن له عبد الله وإبراهيم، وكانا أيضاً من أهل العلم، ودرسا بعد والدهما في المدرسة التي كان يدرس فيها.(179/23)
حقيقة نسبة القول بفناء النار لابن القيم
السؤال
هل صحيح أن ابن القيم يرى فناء النار؟
الجواب
هذه المسألة من المسائل التي فيها خلاف بين أهل السنة والسلف: وهي القول بفناء النار أو عدم فنائها، هل تفنى النار فيكون الخلود فيها المقصود به طول الأمد، فتفنى بمن فيها أو لا تفنى؟ قولان معروفان لأهل السنة، والأرجح والأشهر القول بعدم فناء النار، ونسب إلى ابن القيم أنه يقول بفنائها، وقد حرر بعض المعاصرين -وهو الشيخ بكر أبو زيد - هذه المسألة، وبين أن نسبة هذا القول إلى ابن القيم ليست صحيحة، وعلى كل حال هو قول معروف عن بعض أهل السنة أيضاً.(179/24)