الغفلة سبب من أسباب الوقوع في المعاصي
ومن أسباب المعاصي أيضاً: الغفلة، أي: الغفلة التي يغفل فيها الإنسان عن حقيقة هذه الحياة الدنيا وحقيقة وجوده فيها، وحقيقة عظمة خالقه وربه ومولاه، وحقيقة ما تنتهي إليه هذه الدنيا من زوال وفناء، وحقيقة الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والصراط وزلاته، وهذه النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والوقائع اليومية كلها زواجر ومذكرات، ومع ذلك كأن على قلوبنا وعلى عيوننا أكواماً وأكواماً وأكواماً من الحواجز التي لا تجعلنا نبصر ولا نتبصر، نسأل الله عز وجل السلامة، كأنما يصح في كثير من العاصين أنهم لهم قلوب لا يعقلون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، وكأن الإنسان قد عطلت حواسه فغدا أعمى أصم أبكم أكسح أشل كأنه لا يدرك شيئاً في هذا الوجود.
هذه الغفلة إنما تأتي من سكرة الهوى، وإنما تأتي من لذة الشهوة، وإنما تأتي من موت القلب، وإنما تأتي من إلف المعصية وإلف عقوبتها، فيظلم القلب بها، ويغدو المرء -عياذاً بالله- يسمع الآيات تندك لها الجبال ولا يكترث لها، ويرى الأحداث والزلازل والوقائع والفتن والمحن -وكلها عقوبات- والمذكرات من الله عز وجل وكأنه في وادٍ آخر، وكأنه غير مخاطب بهذه الآيات ولا معني بهذه الحوادث ولا معاقب بهذه الأقدار، نسأل الله عز وجل السلامة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عند الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) فهو في ذلك الوقت قد طغت عليه غفلته عن الله عز وجل وعن عقوبته وعن حقيقة ما يرتكب من المعصية، وعن حقيقة ما يجترئ عليه من حرمة الله عز وجل ومجاهرته بالمعصية، ولا يشك الإنسان أنه غافل مثل الإنسان المخدر الذي يكون قد شرب مسكراً أو مخدراً فإنه لا يعي من أمره شيئاً، ويهرف بما لا يعرف، ويفعل ما لا يقدر، ولذلك فإن حال العاصي كحال هذا المدمن المخدر الذي لا يدرك شيئاً مما يفعل، نسأل الله عز وجل السلامة.(108/12)
تذكر حلاوة المعصية من أسباب معاودتها
ومن أسباب وقوع الناس في المعاصي تذكر الذنب وحلاوته، فعندما يبتعد عن المعصية وعندما يقلع عن الذنب ولو لم يكن قاصداً لذلك، وإنما ألجأته الظروف فسافر في عمل فبعد عن بعض معاصيه وشهواته أو كذا أو كذا، فإن الذي يدفعه مرة أخرى إلى تلك المعاصي هي اللذة التي ما يزال عقله يرددها عليه ويصورها له، فيهيج نفسه إلى معاودتها، كحال الإنسان إذا أكل أكلة طيبة دسمة حلوة لذيذة فإنه ربما كلما ذكرها تحلب ريقه مرة أخرى، وانبعثت نفسه إلى مثلها.
وكذلك الإنسان ينبغي له ألا يورد على نفسه تلك اللذائذ، بل ينبغي له أن يصورها في نفسه تصويراً قبيحاً، ويتصور الآثار الوخيمة في مثل هذه المعاصي.
تلك هي بعض الأسباب التي تجعل الناس يقعون في هذه المعاصي، ويتشبثون بها أو يقيمون عليها.(108/13)
المسلم والمعصية
ثم أنتقل إلى نقطة ثالثة لعلها من أهم النقاط: المسلم والمعصية.
ليس المسلم هو الذي لا تقع منه المعصية، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، ولكن المسلم الصادق المؤمن المخلص عنده من رحمة الله ومن نعمة الله ومن آثار الإيمان ومن بركات الإسلام ومن خيرات الطاعة ما يجعله متميزاً عن الكافر؛ لأنه ليس بعد الكفر ذنب، فهل ترون كافراً يفكر في آخرة أو يفكر في حقيقة العبودية أو حقيقة الألوهية أو غير ذلك مما أشرنا إليه؟! لا يفكر؛ لأنه قد طمس قلبه وانتهى أمره إلى غير رجعة إلا أن يأذن الله له أن ينور قلبه بالإيمان بعد الكفر.
أما المسلم فله مزايا: من أعظم هذه المزايا وآكدها: أنه يستشعر أثر الذنوب والمعاصي، ويعرف أن لها آثاراً قوية عظيمة ليست على مستوى الفرد، بل على مستوى المجتمع، وليست على مستوى البشر بل على مستوى الكون كله، ولذلك أفاض أهل العلم في ذكر هذه الآثار، ولست بصدد ذكرها تفصيلاً، وإنما أجمل ما ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في مقالاته الجامعة، أما تفصيل ذلك وتفريعه فقد عقد له كتاباً كاملاً أسماه: (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)، صنفه رحمة الله عليه جواباً على سؤال ورد إليه عن المعاصي وكيفية البرء منها والإقلاع عنها والهجر لها، فصنف ذلك المصنف العظيم، يقول ابن القيم في ذكر أثر المعاصي على الفرد: من ذلك: قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الوقت، ونفرة الخلق، والوحشة بين العبد وبين ربه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم، ولباس الذل، وإهانة العدو، وضيق الصدر، والابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت، وطول الهم والغم، وضنك العيش، وكشف البال.
كل هذا من آثار هذه المعاصي، أفلا يشعر الواحد منا ببعضها؟! أفلا ينقبض يوماً صدرك ويعلوك الهم ويركبك الغم؟! أفلا تجد يوماً أنك تريد أن تحفظ فتحرم الحفظ؟ أفلا ترى يوماً أن عدواً قد سلط عليك، أو أن سفيهاً قد اجترأ عليك؟! والسلف رحمهم الله كانوا يردون كل شيء يقع لهم إلى الذنوب التي وقعت منهم، إنه فقه إيماني بصير يجعل كل شيء مرده إلى قول الله سبحانه وتعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، فنحن إنما نؤتى من قبل أنفسنا، ومن زيغ قلوبنا، ومن تحول نياتنا، ومن سوء سلوكنا، ومن فلتات كلماتنا، ومن نزغات شهواتنا، ومن خيانة أبصارنا، إنما نؤتى ونحرم ونعاقب من مثل هذه المعاصي، فالمسلم الحق رغم وقوعه في المعصية إلا أنه يستشعر أثرها، ولذلك الذي يدرك الأثر يوشك -بإذن الله عز وجل- أن يطلب يوماً خلاصه من هذا، فالذي يعرف سبب المرض كالزكام الذي يحل به أو سبب الحساسية التي تقع له، ولو تحملها مرة وثانية فإنه بعد فترة سيطلب العلاج، ويلتمس البرء من هذا، أما الذي لا يستشعر ذلك من أصحاب الغفلة أو الكفر -نسأل الله السلامة- فإنه لا يطلب علاجاً؛ لأنه لا يرى ضرراً، ولا يستشعر مرضاً.
وذكر ابن القيم في موضع آخر شأن الآثار التي تنتظم الكون كله من أثر المعاصي، فقال: اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات، وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح، وهذا والله! منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه، فاعزلوا عن هذا السبيل بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة، وبابها مفتوح، وكأنكم -أي: إذا تباطأتم وسوفتم- بالباب وقد أغلق، وبالرهن وقد غلق، وبالجناح وقد علق، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
فلله در ابن القيم ما أجمع كلماته! فقد جعل كل شيء في الأرض وفي السماء وفي البشر وفي الملائكة، وفي الليل وفي النهار متأثر بهذه المعصية، وحق له ذلك، والله عز وجل يقول: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41]، قال ابن القيم في (الجواب الكافي) في تفسير هذه الآية: من آثار المعاصي حصول الفساد في الماء والهواء.
وما أمر الزلازل وتلوث البيئة وما يقع من كوارث هنا وهناك إلا من أثر هذه المعاصي والذنوب، وكيف لا تكون هذه عقوبات لهذه المعاصي، إنها ليست قضية معصية، إنها قضية عداوة واجتراء وعدم تقدير ولا توقير لله سبحانه وتعالى، أفرأيتم لو أن عبداً حقيراً جاء إلى ملك عظيم وسلطان كبير ثم اجترأ عليه بكلمة شتمه بها أو بسلوك تعدى فيه على حرمته أو تعدى فيه على بعض ماله فلا شك أنه لا يقوم لغضبه قائم، وأنه يبطش به بطشاً يجعله عبرة للمعتبرين، بل ربما يتجاوز غضبه هذا الفرد ليعم سائر الرعية كلها، بل قد يدمر حتى غير البشر من الممتلكات والأموال، وهذا واقع في حق الناس، فكيف إذا كان الأمر في حق الله سبحانه وتعالى ملك الملوك ورب الأرباب سبحانه وتعالى؟! فإنه جل وعلا -كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام- أشد غيرة من خلقه، وإن غيرة الله عز وجل أن تنتهك محارمه، وما أحلمه سبحانه وتعالى! وما ألطفه بعباده فإنه يمهل، ولكنه لا يهمل، ولو كان الله سبحانه وتعالى يؤاخذ الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة، ولكان أكثر الناس يستحقون أن يخسف بهم، وأن يطمس على قلوبهم، وأن تعمى أبصارهم، وأن تهلك أموالهم، وأن يقع لهم من الوباء والبلاء ما الله سبحانه وتعالى به عليم، ولكنه جل وعلا من لطفه ومن صلاح الصالحين ومن دعاء الداعين يخفف بعض ذلك.
وقد ذكر ابن القيم أن الحيوانات والبهائم تشكو إلى الله عز وجل من العاصين والفاسقين؛ لأنه بهم وبمعصيتهم يمنع الله عز وجل القطر من السماء، ويقع الجدب في الأرض، وتقع البلايا والرزايا، وما لهذه البهائم من ذنب، ولكنه ذنب هذا الإنسان الذي استعلى على الله عز وجل وتجبر وتكبر وطغى وبغى وفسد في هذه الأرض، ولا يألو على شيء، فيسير هنا وهناك، وينسى قبضة الله عز وجل وقوته وقهره، ولذلك تشكو هذه الحيوانات، وكما قيل: لولا شيوخ ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لم تمطروا، فإن الله سبحانه وتعالى ما أنزل عقوبة إلا بذنب، وما رفعها إلا بتوبة، كما ذكر أهل العلم والإيمان.(108/14)
مزايا معرفة المؤمن لآثار الذنوب والمعاصي
ومن مزايا المؤمن بعد معرفته للآثار: استشعاره لآثارها في واقع حياته المباشر، كما كان حال بعض السلف، وهذه أمثلة لذلك، يقول ابن القيم: إذا لم تقدر على قيام الليل ولا صيام النهار فاعلم أنك محروم قد كبلتك الخطايا والذنوب! فكم نأت لنقوم الليل فنقعد كأنما قد أصابنا الشلل! وكم نعزم أن نصوم فنهفو إلى الطعام والشراب! وما ذلك إلا لأن النفس قد علتها الذنوب، وهذه من آثارها، كما قال بعض السلف: إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل، ولذلك كان بعض السلف يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟! قال: ستري مسبل، وخيري حاصل، ولكني منعت حزبي البارحة، فلم أقدر عليه، فلا شك أنه من ذنب أذنبته.
وهكذا كان السلف يوصون ويفندون مثل هذا، جاء رجل يستفتي بعضهم، فقال: أعياني قيام الليل فما أطيقه، فقال: يا ابن أخي! استغفر الله وتب إليه، فإنها علامة سوء.(108/15)
مبدأ محاسبة النفس
ومن مزايا المسلم أنه دائماً عنده مبدأ المحاسبة لنفسه، ولذلك إذا وقع في المعصية عاد في أثناء محاسبته لنفسه فتذكرها وتذكر مغبتها وتذكر عقوبتها، فكان ذلك عوناً له على تركها والإقلاع منها، ولذلك يقول عامر بن عبد الله: رأيت نفراً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وصحبتهم، فحدثونا أن أحسن الناس إيماناً يوم القيامة أكثرهم محاسبة لنفسه، ولذلك كان جيل التابعين على هذا النسق، فقد كان الحسن البصري رحمة الله عليه يبكي في الليل حتى يبكي جيرانه ببكائه، فيأتي أحدهم إليه بالغداة ويقول له: لقد أبكيت الليلة أهلنا! فيقول له: إني قلت: يا حسن! لعل الله نظر إلى بعض هناتك فقال: اعمل ما شئت فلست أقبل منك شيئاً أبداً.
وهذا من جميل الدقة في محاسبة العبد لنفسه.(108/16)
الورع والاحتياط
ومن مزايا المسلم: شدة الورع والاحتياط، فإنه يرى الذنب اليسير القليل عظيماً؛ لأنه كما قيل: لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر من عصيت، وهذا الأمر من أهم القضايا وأعظمها، ولذلك ما كان المؤمنون الصادقون يستصغرون الذنوب ولو كانت صغيرة هينة، بل جاءنا حديث أنس رضي الله عنه علمهم به قبلنا ويعلمنا ويعلم غيرنا: (إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات).
فالذنب هو الذنب، لكنه كان عند الصحابة من الموبقات العظام، وكان عند غيرهم أدق من الشعر؛ لأن أولئك هونوه فهان، ولم يستحضروا -والعياذ بالله- عظمة الله سبحانه وتعالى، ولم يكن له في نفوسهم وقع عظيم ولا خطر كبير، ولذلك قال أحد السلف: (لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت)، ولما سئل سعيد بن جبير عن أعبد الناس؟ لم يقل: أعبد الناس الصائم الذي لا يفطر، ولا القائم الذي لا يفتر، ولا الذاكر الذي لا يفتر، وإنما قال: أعبد الناس عبد اجترح ذنباً فكلما ذكر ذنبه استغفر ربه.(108/17)
الاستغفار
من مزايا الإنسان المسلم أنه يفيء إلى المغفرة والاستغفار، ومن مزايا المسلم أنه يأخذ بنهج ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (يا معاذ! اتق الله حيثما كنت! وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)، ويأخذ بقول الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]، وكثير من الناس لا يلتفتون إلى هذا المعنى الخطير المهم، فإذا وقع في المعصية استولى عليه الشيطان وقال: ماذا تفعل بعد هذا؟ وما الذي تريد؟ هل تريد أن تصلي وأنت الآن قد فعلت كذا وكذا؟! فأرغم شيطانك وقل كما قال تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102]، وهذا أقل القليل، فهل تبقى مستمراً مع المعاصي، أم -على أقل تقدير- تأتي بطاعات لعلها تنسخ تلك المعاصي وتمحو آثارها؟ ولذلك الاستغفار وفعل الصالحات من أعظم هذه الأمور.(108/18)
استعظام المعصية
ومن مزايا الإنسان المسلم استعظامه للمعصية، فقد ورد عن كهمس بن الحسن أنه قال: يا أبا سلمة! أذنبت ذنباً وأنا أبكي عليه أربعين سنة، فقال: ما هو يا أبا عبد الله؟! قال: زارني أخ لي فاشتريت له سمكاً بدانق، فلما أكل قمت إلى حائط جار لي، فأخذت منه قطعة طين فمسحت بها يدي، فأنا أبكي عليه منذ أربعين سنة! أي: أنه رأى ذلك ذنباً عظيماً، فكيف بمن يأخذ أموال الناس ويأكلها ويعتدي عليها ولا يلتفت إلى شيء من ذلك؟!(108/19)
قلة الذنوب
ومن مزايا المسلم أيضاً: قلة ذنوبه، فالمسلم الصادق يقع في الذنب، ولكنه لا يقع في الذنب صباحاً ومساءً وفي كل وقت وآنٍ وعلى كل ظرف وفي كل مكان، كلا! فليست هذه صفة المسلم الحق، وإنما يقع منه الذنب إذا وقعت له غفلة واستزلاً من الشيطان، ثم يئوب إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال ابن سيرين: إني لأعرف الذنب الذي حملت به هذا الدين، قيل له: ماذا؟ قال: ذنب أذنبته منذ أربعين سنة، قيل له: ما هو؟ قال: قلت لرجل: يا مفلس! فهذا الذنب ظل أربعين سنة يذكره.
قال بعض أهل العلم: قلت ذنوبهم فأحصوها، وكثرت ذنوبنا فأعيتنا، فلا يستطيع الإنسان أن يحصي ذنوب يوم واحد، فإنه إذا بدأ من أول النهار إلى الظهر ربما كثرت ذنوبه عن حد الحصر والعد، وبدأ بعضها ينسي بعضاً، نسأل الله عز وجل السلامة.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يحتاط لنفسه بمثل هذه الأمور، والله سبحانه وتعالى قد وصف وبين أثر ذلك في نفس الإنسان المسلم، فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]، فقد يقع بالذنب في حين غفلة، ثم يتذكر ويعود إلى التوبة، وكذلك قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَة} [آل عمران:135] والفاحشة: ما يفحش وينتشر، بمعنى: أنه أمر عظيم وكبير، قال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] فهذا هو دأب وشأن المسلم أنه يتوقى آثار الركون إلى المعصية، وأن تكون مستولية عليه لا يستطيع الفكاك منها، فهو قليل الذنوب، مدرك لآثارها، راجع إلى ربه، مكثر من الاستغفار، مبادر إلى الطاعات في أعقاب السيئات، ولذلك تجده قريباً من أثر الوعظ في نفسه، وهذا أمر مهم يحتاج كل مسلم إلى أن يأخذ حظه منه.(108/20)
العلاج من المعاصي والذنوب
أنتقل إلى النقطة الرابعة وهي: ما يتعلق بالدواء الشافي للوقاية من هذه المعاصي: إن الأمر ليس وصفة سحرية، ولا خطوات نظرية، بل هو أمر قلبي إيماني نفسي يبدأ بتغيير جذري يتناول القلوب في أعماقها والنفوس في أغوارها والنوايا في طواياها قبل أن يتناول صوراً ظاهرة قد تخلو من تأثر القلب وتغير النفس، فتعود بعد ذلك تتجدد المعصية، كما يذكر الرافعي فيقول: إذا سافرت وسافر الهم معك، فأنت مقيم لم تبرح.
أي: أن الذي يسافر من بلد إلى بلد لنزهة يسري بها عن نفسه ولكنه لم يحمل معه همومه فكأنه لم يسافر.
يقول: فإذا أقلعت عن المعصية وحبها في قلبك ولذتها في نفسك وخيالها في خاطرك فكأنك ما صنعت شيئاً.
وكما نقول بلهجتنا العامية: يا زيد! يا ليتك ما غزيت! وكأن الإنسان ينفخ في قربة مخروقة، ولا أعني بذلك أن أهون أمر الانتقال من المعصية، فإن في ذلك خيراً، ولكني أريد أن أقول: إن الأمر الأساسي والعلاج الأكثر تأثيراً والأبعد مدىً والأقرب -بإذن الله عز وجل- إلى أن يكون علاجاً شافياً ناجعاً لا يتجدد بعده المرض ولا تستفحل معه العلة هو العلاج القلبي الإيماني الذي يستأصل حب الشهوة المحرمة، ويقضي على لذة المعاصي الآثمة من القلب، فيطمه عنها، فإذا فطم عنها فإن الصغير يحب الحليب، ويحب رضاع ثدي أمه، ولكنه لو استمر على ذلك لكان يكفيه عيباً وعاراً أن يكون كبيراً ويبقى رضيعاً في حجر أمه، كذلك الذي ما يزال يرضع ثدي المعصية ويركن إلى حضنها، ولا يستطيع أن يفارقها، ولا يستطيع أن يستقل، وكلما مضى في الأرض جذبته إليها، وكلما أراد أن يعلو هبط إلى مستواها، وإلى دناياها، ولذلك يبقى كمثل الغلام الذي لا يفطم، أما إذا فطم فقد يكون في أول الأمر يحن إلى ثدي أمه، لكنه بعد ذلك يرى في الرجوع إليه عيباً وعاراً، وصغاراً وشناراً، ولا يجد فيه حتى ما يحتاج إليه من الغذاء، ثم يستبدل به غذاءً آخر، وما يزال ينوع في أغذيته، ويستجد منها ألواناً وأصنافاً؛ لأنه قد استغنى عن ذلك الغذاء، والتمس غذاءً آخر فيه أكثر النفع وأعظم الفائدة، وكذلك من فطم نفسه عن المعصية فلا يعد إلى الحنين إليها، ولا يرجع إلى حضنها، وليستبدل من الطاعات غذاءً للقلوب فيه نورها وفيه سكينة للنفوس وفيه همة تشحذ عزمه في معالي الأمور وفيه قوة في طاعة الله عز وجل، وفيه تحرر من قيد هذه المعاصي والشهوات، كما فطم عن الحليب وغدا يأكل أنواع الطعام، فمن فطم عن المعصية فإن أبواب الطاعات رحبة أمامه، من ذكر باللسان، ومن تأمل في خلق الله بالعين، ومن تدبر في أحوال الأمم بالعقل، ومن كسب من الحلال باليد، ومن سعي إلى الخير بالرجل، ومن قضاء للشهوة بالحل، بل كل لحظة وكل ثانية وكل جارحة فيها أبواب من الطاعات عظيمة، فإذا أقلعت فإنك لن تبقى خالياً ولا فارغاً، وإذا تركت المعاصي فإن كلما تطلبه من لذة ستجده في الطاعة، وكلما تطلبه من استفراغ الطاقة والقوة ستجده في الطاعة، بل إنه ينتهي العمر وتعجز الطاقات عن أن تبلغ المدى الأعظم الأكمل الذي تتوق إليه نفوس المؤمنين في طاعة خالقها ومولاها سبحانه وتعالى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).
واستمع إلى الجيلاني رحمة الله عليه وهو يقول لغلام له: استغث بالحق عز وجل، ارجع إليه بأقدام الندم والاعتذار حتى يخلصك من أيدي أعدائك.
من هم أعداؤك؟ النفس المزينة، والشيطان المستولي، والمعصية التي تداعب الخاطر والعقل.
يقول الجيلاني: حتى يخلصك من أيدي أعدائك، وينجيك من لجة بحر هلاكك، تفكر في عاقبة ما أنت فيه وقد سهل عليك تركه، أنت مستظل بشجرة الغفلة، اخرج من ظلها فقد رأيت ضوء الشمس وعرفت الطريق، شجرة الغفلة تربى بماء الجهل، وشجرة اليقظة والمعرفة تربى بماء الفكر، وشجرة التوبة تربى بماء الندامة، وشجرة المحبة تربى بماء الموافقة -أي: الموافقة لأمر الله عز وجل- فالنفوس والقلوب إنما تريد تحويل وجهة فقط، كمن يكون سائراً في طريق ينتهي به إلى هاوية، الحل يسير؛ أن يأخذ طريقاً آخر يؤدي إلى الفوز والفلاح والنجاح، فإذا تغيرت الوجهة سيرى في ذلك الطريق غير ما يرى في الطريق الأول، وسيرى فيه من الناس غير الذين يراهم في الطريق الأول، فإذا حولت مجرى المعصية إلى مجرى الطاعة فإنك تجد طائعين لا تراهم هنا، وإنك تجد فتوحات من الله عز وجل وخيرات لم تكن تراها هناك، وإنك تجد آثاراً ومعالم وابتلاءات وأموراً أخرى لم تكن تراها في ذلك الطريق، وإنما هو تغيير الوجهة.(108/21)
معرفة حقيقة الدنيا
ومن المعين على ترك المعاصي والذنوب: معرفة حقيقة الدنيا، فهذه الدنيا التي تصرف فيه كل جهدك ووقتك لأجل نيل بعض ملذاتها وشهواتها كلها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، فما بال عقلك قد خرج إلى هذا الدنو والسفه في التفكير، حتى لا تعرف ما قيمة الدنيا التي تجعل كل وقتك وجهدك لنيل بعض شهواتها وملذاتها؟! يقول ابن القيم رحمة الله عليه: إذا خرج عقلك من سلطان هواك عادت الدولة له.
فالجسم دولة، وهناك من يحكم، إما أن تحكم الشهوة فيلغى العقل ويكون الإنسان -عياذاً بالله- كما نرى حال العاصين؛ فأحدهم يشرب الخمر فإذا بالوقار الذي عليه والجاه الذي عنده يتلاعب به الصبيان، ويتسافه عليه السفهاء، ويستخدم عقله في شهوات ترديه وتهلكه، عياذاً بالله! ولذلك أوجز قول ما كتبه الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه في وصف الدنيا، حيث يقول له: أما بعد: فإن الدنيا دار ظعن، وليست بدار إقامة، وإنما أنزل إليها آدم عقوبة فاحذرها، فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، لها في كل حين قتيل، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها، هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فكن فيها كالمداوي جراحه، يحتمي قليلاً مخافة ما يكره طويلاً، ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرارة الخداعة الخيالة التي قد تزينت بخدعها، وفتنت بغرورها، وختلت بآمالها، وتشوفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المزنوة، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسي المعاد فشغل بها لبه حتى زلت عنها قدمه، فعظمت عليها ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت وألمه وحسرات الفوت، وعاشق لم ينل منها بغيته فعاش بغصته، وذهب بكمده، ولم يدرك منها ما طلب، ولم تسترح نفسه من التعب، فخرج بغير زاد، وقدم على غير مهاد، فكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها.
فمن أعظم ما يهيئ للتوبة بعد تعظيم الله عز وجل وتذكر حقه سبحانه وتعالى تذكر ما يئول الأمر إليه، وتذكر العقوبة التي توعد الله بها العاصين، فلينتبه إلى هذا الأمر.(108/22)
تزكية القلب
ومن الأمور المعينة على ترك الذنوب والمعاصي: زكاة القلب، فعندما يكون في البدن بعض الآفات فإن علاجه هو إخراجها منه، أي: إخراج هذه الآفات، ولذلك يحتجم المحتجم ليخرج الدم الفاسد، وتستأصل بعض الأعضاء التي تتلف لأجل سلامة البدن، وكذلك بالنسبة للمعاصي؛ فإنها مفاسد تحتاج إلى إخراجها، ولكن الإخراج ينبغي أن يكون إخراجاً استئصالياً من القلب، ولذلك فإن من أمور التوبة وأسبابها: تزكية القلب، والمراد بذلك: أن يستفرغ من الأخلاط الرديئة التي لها تعلق بالمعاصي سواء كان حباً لها أو رغبة فيها أو تعلقاً بها.(108/23)
تذكر الآخرة
ومن الأمور المعينة كذلك: تذكر الآخرة، فلابد للإنسان أن يتذكر آخرته، وآخرة كل أحد موته، وأن يتذكر الآخرة العظمى التي يخرج فيها الناس لرب العالمين، فإذا استحضر ذلك كان هذا من أدعى الدواعي ومن أعظم الأسباب لحصول الخوف من الله عز وجل، ونزع مغالبة النفس لصاحبها على المعصية، فإن هناك لذة وشهوة في هذه المعاصي، وهناك خوفاً إذا بلغ المدى المطلوب فإنه يحسم هذه اللذة.
ولنضرب لذلك مثالاً: عندما يرى إنسان طعاماً وهو محب له، ونفسه ترغب فيه، ولكنه يعلم أن عليه حراساً، وأنه إذا وضع يده فيه سوف ينال عقاباً وخيماً، وسوف يجلد كذا، فإنه يقول: يكفي أن ننظر إلى الطعام، وأن نشم رائحته وكفى، وإذا علم أن النظر أيضاً إلى هذا الطعام قد يصيبه بالأذى فإن نفسه حتى اللذة القلبية تفطم وتنتهي، فلا يعود محباً لهذا الطعام، بل لو أكل مرة من هذا الطعام ووجد العقوبة ربما يكره هذا النوع من الطعام ولا يعود لنفسه ميل له حتى لو أتي له به؛ لأن نفسه قد أصبحت لا تحبه، لأنه عرف أن مرة من المرات كانت عقوبته في مثل هذه اللذة، وكذلك إذا علم العبد شأن الآخرة وتذكرها وبلغ خوفه منها وخوفه من عقوبة الله فيها مبلغاً عظيماً فإن ذلك يمحو ويطمس كلما في القلب من تعلق بالشهوة وحب للذة التي فيها، ولذلك كان سلف الأمة رضوان الله عليهم على هذا النهج.
مر ابن مسعود على نافخ كير فوقع من خوفه في هذه النار، وكان يمر على الحدادين فيبصر الحديدة وقد أحميت فيبكي رضي الله عنه من تذكر الآخرة، وهكذا كان الصحابة والسلف على مثل هذا الأمر.(108/24)
أهمية تحطيم أدوات المعاصي
ومن الأمور المعينة على ترك الذنوب والمعاصي وهو أمر مهم: تحطيم أدوات المعاصي؛ لئلا تنزع النفس إليها مرة أخرى، وهذا أمر معروف، فإن تصور الشيء من أعظم ما يجعل في النفس وجوده وشخوصه، ولذلك فإن الذي يجعل الناس يقعون في المعاصي اليوم هو أنهم يرونها بأعينهم، ويسمعونها بآذانهم، فإن شخوصها ووجودها وأمثلتها قد تسلبهم قوتهم في الممانعة وعصمتهم في المدافعة فيقعون فيها، فلذلك هذه الأصنام ينبغي أن تحطم، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعلم من أصحابه أنهم مؤمنون موحدون، وكان أول عمل عمله عندما دخل مكة أن ضرب هذه الأصنام وأسقطها وقال: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]؛ لئلا تبقى هناك أصنام ينظر إليها، حتى لا يتعلق بها، ولا يفكر فيها، ولا تخطر ببال مطلقاً؛ ولذلك نهي عن تلك الصور العظيمة للصالحين؛ حيث أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنها كانت أولاً على هذا النحو، ثم داخلها بعد ذلك التعظيم، ثم نصبت أصناماً، ثم عبدت من دون الله سبحانه وتعالى! فكلما وجدت صورة المعصية وآلتها كلما كان ذلك مانعاً أو حائلاً من استمرار التوبة والبعد عن المعاصي، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] فهذا الإله إذا وجد وجد معه الهوى إليه والحب له، ولذلك يجب أن يكون الحال كما قال أحد الكتاب: فمطرب يحطم آلات الطرب، ورسام يمزق اللوحات، ومراهق يحرق المجلات والصور الداعرة، ومدمن يكسر زجاجات الخمر ويحرق المخدرات، ومراب يسحب أموال الربا ليفرقها، ومتبرجة تحرق ثيابها كلها -أي: ثياب التبرج- صور تتكرر لما كان من فعل إبراهيم عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم في تحطيم هذه الأصنام، ولذلك لابد من مثل هذا.(108/25)
ضرورة تغيير بيئة المعصية
ومن الأمور المعينة على ترك الذنوب والمعاصي: أنه لابد من تغيير بيئة المعصية حتى لا تؤدي البيئة مرة أخرى إلى تجددها، وشاهد ذلك الحديث الذي فيه ذكر الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً ثم أكمل تمام المائة، فلما جاء إلى العالم العابد نصحه بأن يخرج من هذه، فقال: (ولكن اخرج من أرضك فإنها أرض معصية، والحق بقرية كذا وكذا فإن فيها أناساً يعبدون الله)، فأحياناً لابد أن يترك الإنسان الأماكن الوبيئة والمجتمعات الرديئة والصحبة الفاسدة الفاسقة؛ لأنها مثل الميكروبات، فالميكروب موجود في الهواء، فإذا جئت إلى منطقة ملوثة ولو كنت لا ترغب في هذا الميكروب، ولو كنت لا تحبه ولا تريده، لكنه يسري في جسدك ويبتليك بالمرض، وهذا شاهده واضح وظاهر لا يخفى أثره.(108/26)
الحسم من أهم الأمور التي يكون بها نجاح التوبة
ومن أمور التوبة ونجاحها الحسم دون تردد، وترك التسويف: لعل وعسى وسوف وغداً وبعد غد، فهذه يجب تركها، فإن الذي يمرض لو قيل له: إن عندك بدايات للسل أو السرطان فقال: غداً أراجع، غداً أجري التحليلات، بعد شهر آخذ أشعة، فإن المرض يكون قد استشرى وتمكن، لكن يجب على مثل هذا المريض أن يذهب مباشرة إلى الطبيب ويطلب الحسم، ولو كان الحسم ببتر عضو فإن سلامة بقية الأعضاء أولى من ترك هذا العضو يفسدها، ولذلك لا يسوفن أحد في مسألة ترك المعصية.
فأول خطوة بعد الندم الإقلاع عن المعصية، وهذا الإقلاع لابد منه بكل صوره: بتحطيم أصنامها وشخوصها، وبالانتقال عن بيئتها، وبالبعد عن تذكرها، وبفطم القلب بالخوف من الآخرة عن ورودها على القلب مرة أخرى على سبيل اللذة والشهوة والمحبة، ولذلك لابد من الحسم في هذا حتى لا يتمكن الشيطان مرة أخرى من تمكين الغفلة ونسيان التذكر والبعد عن التوبة، ولابد أن يستشعر الإنسان هذا.(108/27)
استشعار أثر الطاعة
ومما يعين على التوبة: أن يستشعر أثر الطاعة، فهناك يستشعر أثر المعصية فيكون ذلك دافعاً له للبعد عنها، وكذلك إذا استشعر آثار الطاعات ولذة التوبة وحلاوتها، فإن أي إنسان لو اختلف مع إنسان وهذا الإنسان كان صاحب فضل عليه، وصاحب منة عليه، وصاحب أفضال كثيرة عليه، ولكن حصل بينه وبينه ما شوش العلاقة، فإنه يبقى مهموماً مغموماً حتى يصلح ما بينه وبينه، فإذا اصطلح معه فإنه يقبل حينئذ وهو منشرح الصدر، ويعانق ويبتسم، وتهتز نفسه طرباً، ويرقص قلبه فرحاً، فكيف إذا كنت قد أخطأت وأذنبت وتجرأت على خالقك ورازقك والمدبر لأمرك واللطيف بك سبحانه وتعالى، فما أعظم لذة الصلح والتوبة لله سبحانه وتعالى، وكم فيه من انشراح صدر وطمأنينة قلب! وكم فيها من هدوء قلب وزوال للغموم والهموم! وكم فيها من إشراق في الوجه وقوة في البصر وإشراق في البصيرة! وكم فيها من الخير! وحسبك أن الله سبحانه وتعالى يفرح بها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (للهُ أفرح بتوبة عبده من أحدكم ضاعت منه ناقته في أرض فلاة وعليها زاده وطعامه، فلما أيس منها نام تحت ظل شجرة ينتظر الموت، فلما استيقظ وإذا بناقته عنده، فأخطأ من شدة الفرح قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك).
فالله عز وجل يفرح بتوبة عبده، فكيف بفرح العبد؟! فتأمل أيها العاصي! ما تجد من لذة التوبة ولذة الأنس بالفرح الإلهي الرباني، فإن ذلك من أعظم هذه الأمور.(108/28)
أهمية الدعاء في نجاح التوبة وترك المعصية
ومن الأمور المعينة على ترك المعاصي والفيء إلى ظل التوبة: الدعاء، فليس هناك أنجع ولا أنفع ولا أسرع في التأثير من هذا الدعاء إذا خرج من قلب مخلص، فادع الله أن يخلصك من الدنايا، وأن يفطم نفسك عن حب المعاصي، وأن يصرف بصرك وبصيرتك عن الشهوات، وأن يرزقك حب الطاعات، فإن ذلك مما يرجى -بإذن الله- أن يكون فيه أعظم الخير وأكبر التوفيق.
إذا كثرت منك الذنوب فداوها برفع يد في الليل والليل مظلم ولا تقنطن من رحمة الله إنما قنوطك منها من خطاياك أعظم فرحمته للمحسنين كرامة ورحمته للمذنبين تكرم ومن ذلك: قراءة القرآن والاستعاذة من الشيطان.(108/29)
آثار التوبة وفوائدها
ولهذه التوبة آثار كثيرة وعجيبة؛ فالإنسان يجد بعض اللذة المشوبة بالخوف وبالتنغيص في هذه المعاصي، فما من لذة في المعصية إلا ويشوبها خوف واضطراب، إما خوف الناس والحياء منهم وأن يقفوا منه على هذه العورة وتلك السوءة، أو خوف الله عز وجل الذي يجعله يهتم ويغتم لما قد يوقع عليه من العقوبة الآجلة أو العاجلة، وكذلك يبقى مع هذه اللذات في هذه المحرمات أمور منغصة، فإنه ينتهبها نهباً، ويختلسها خلسة، ويأخذها على عجل، ويستتر بها عن أعين الناس، ويرى أنه يأتي أمراً حراماً، ولا يمكن أن يجد فيها لذة، ومهما زاد منها، فإنها ظلمة في القلب وضيق في الصدر، نسأل الله عز وجل السلامة.
فلينظر إلى الآثار الإيجابية في التوبة، وقد ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في (مفتاح دار السعادة) أقوالاً كثيرة في هذه الآثار منها أنه قال: توجب له من المحبة والرقة واللطف وشكر الله وحمده والرضا عنه عبوديات أخر عظيمة وعجيبة، كما قيل: وربما صحت الأجسام بالعلل، قد يقدر الله الذنب فيعقبه التوبة فيحصل ذلك الفرح والفرج والخير من الله سبحانه وتعالى.
ومنها: أنه إذا شهد ذنوبه ومعاصيه وتفريطه في حق الله عز وجل استكثر القليل من نعم ربه -يعني: أنه يقول: هذه النعم كثيرة علي وأنا عاصٍ، فإذا وجد التوبة والطاعة أيضاً استقل هذه الطاعات في عظيم نعم الله سبحانه وتعالى، ولا يدرك ذلك إلا إذا سار في طريق الطاعة، وأناب إلى طريق التوبة.
ومنها: أن الذنب يوجب لصاحبه التيقظ والتحرز من مصائد عدوه، فالذي يذنب ثم يقلع عن الذنب إلى التوبة فإنه يكون أعرف بهذه المعاصي وأبعد عنها، وشديد الحذر وعظيم الحيطة منها، كما قال عمر رضي الله عنه: (إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية)، فإذا عرفها كان أبصر بمداخلها، ولذلك كان الصحابة أعرف الأمة بالإسلام وتفاصيله وأبوابه وطرقه، وأشد الناس رغبة فيه ومحبة له وجهاداً لأعدائه وتكلماً بأعلامه، وتحذيراً من خلافه لكمال علمهم بضده، فالذين يقعون في المعصية ثم يكتب الله لهم التوبة -كما نسمع من حال كثير من التائبين- يكون عندهم علم بما يقع من هذه المعاصي، وكيف أساليبها، وكيف فتنتها، وكيف آثارها، وأضرارها، فيكون لسان حالهم في الوعظ والتذكر أبلغ ممن لم يكن كذلك، وليس في ذلك تسهيل ولا دعوة إلى تلك المعاصي.
ومنها: أن القلب يكون ذاهلاً عن عدوه من الشياطين والأبالسة، فإذا تاب علم أنه كان مستسلماً للعدو فتنبه إلى مثل هذا الأمر.
ومن ذلك: أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد بعبده خيراً أنساه رؤية طاعاته، ثم يبتليه بالذنب، ويجعله نصب عينيه، فينسى الطاعات، ويجعل همه كله ذنبه، فيستغفر الله سبحانه وتعالى إلى آخره.
ومن آثار التوبة: أن ينشغل الإنسان بعيوب نفسه، وأن ينصرف عن عيوب الناس، فأكثر ما تجد العصاة لهم ألسنة لا يسلم منها أحد، ولهم أبصار تهتك كل ستر، عياذاً بالله! وينشغلون بالقيل والقال وبتتبع السقطات وتلمس العثرات، أما المؤمن إذا أقلع عن ذنبه وفاء إلى ربه وتاب إلى الله سبحانه وتعالى علم أن عنده ذنوباً تشغله عن ذنوب الآخرين، وأن عنده عيوباً لو قضى عمره كله في إصلاحها لشغلته عن عيوب الناس الآخرين.
فلذلك أيها الإخوة الكرام! ينبغي أن نكون -بإذن الله عز وجل- على هذا القدم من الهمة في الإقلاع عن المعصية، ومحو رسومها وشخوصها وكلما يمت إليها بصلة في واقع قلوبنا ونفوسنا، وفي واقع بيوتنا وبيئاتنا، ونسعى إلى ذلك في واقع مجتمعاتنا؛ لأن المعصية في المجتمع لها أثر عليك، مثل الهوى الملوث، فإذا خرجت في السوق ورأيت المنكرات والمعاصي فإنها تؤثر عليك شئت أم أبيت، فلابد أن يكون هناك حرب على هذه المعاصي، ودروع تقي سهامها، واحتياطات تمنع من شرورها، ولابد فوق ذلك كله من توبة فيها ندم وحرقة تدفع -بإذن الله عز وجل- إلى أن يكون هذا الندم وقوداً يدفع إلى طاعة لله سبحانه وتعالى لا تنقطع.
والله نسأل أن يمنعنا عن المعاصي، وأن يسهل لنا ويوفقنا إلى الطاعات.(108/30)
الأسئلة(108/31)
تذكر المعاصي ونسيانها
السؤال
هل الأفضل نسيان المعاصي أم تذكرها؟
الجواب
النسيان والتذكر لكل منهما وجه إيجابي وآخر سلبي، فإذا كان تذكرها ليتذكر مغبتها وجرأته فيها على الله ويزداد ندماً فذلك قد يكون فيه خير يدفعه إلى مزيد من الندم والبكاء والتضرع والذلة، ويدفعه إلى مزيد من العمل الصالح والإنفاق والتوبة والاستغفار، وأما إذا كان تذكرها للترغيب فيها والاستلذاذ بها والحنين إليها فذاك لا شك أنه داعية إلى المعصية فينبغي أن يفطم نفسه عن مثل هذا.(108/32)
كيفية الاستمرار على التوبة
السؤال
كيف يعود الإنسان نفسه على الاستمرار على التوبة؟
الجواب
ليس هناك وصفة طبية، وإنما هي: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] فاصدق الله واعزم على عدم الوقوع في المعصية، وأقلع إقلاعاً حاسماً ليس فيه تهاون ولا تسويف ولا أنصاف حلول، ثم اشرع في التوبة تذق لذتها، وابدأ في الطاعة ترى حلاوتها، فإنك حينئذ من طريق إلى طريق تتحول الوجهة بإذن الله عز وجل، وإذا صحت النوايا صح من الله سبحانه وتعالى تيسير الأمور ونزول التوفيق بإذنه سبحانه وتعالى.(108/33)
معرفة حكم الشرع في المعاصي
السؤال
هل هناك شبهات في تحريم التلفاز والسجائر والشيشة والفيديو وغير ذلك؟!
الجواب
هل نضحك على أنفسنا؟ فهل تظن أن أحداً ممن ينظرون إلى الأفلام التي فيها النساء الكاسيات العاريات، والتي فيها الكلمات الفاسقة الفاجرة، والتي فيها المواقف المحمومة المشبوهة، والتي فيها كل ما هو من سخط الله، هل نظن أن أحداً من أولئك يفعل ذلك وهو يرى ذلك حلالاً أو يراه قربة وطاعة، أو يراه خيراً ومصلحة؟! إن أحداً لا يرى ذلك في أغوار قلبه وأعماق نفسه، ولكنها غفلة وهوى وضعف وأسر وقيد قد كبلته به المعاصي، فهو لا يملك لنفسه حولاً ولا قولاً وهو كرضيع لا يزال يفيء إلى أمه يرضع منها إن لم يفطم نفسه ظل على ذلك، وكان ذلك عاراً وشناراً عليه، وهل أحد يظن في مثل هذه الآثام أن فيها منفعة دنيوية أو أخروية، أو أن فيها مصالح طبية، أو أن فيها منافع اقتصادية؟! أغلب الناس يعلمون حقيقتها، ولكنهم يغالطون أنفسهم، أو ليست عندهم همة وعزيمة في مثل هذا الأمر.(108/34)
فعل المعاصي في الخلوة
السؤال
هناك شاب عندما يكون وحده يمارس بعض الأعمال والمعاصي، كمشاهدة الأفلام وغير ذلك، فهل هذا من أعمال النفاق؟
الجواب
ذلك دليل ضعف إيمان ودليل عدم تمكن للطاعة وحبها وللإيمان وقوته في القلب، وإلا فإن المؤمن الصادق يكون أشد احتياطاً وتورعاً من المعصية، وأكثر إقبالاً وحباً للطاعة حال خلوته أكثر من حال جلوته مع الناس، وهذا ميزة ما بين المؤمن الصادق وغيره.(108/35)
الحذر من الاستغراق في الضحك واللعب
السؤال
بعض الملتزمين قد يقضون أوقاتهم في الضحك واللعب بعيداً عن ذكر الله والجد، وهذا يسبب ضعف الإيمان والغفلة، فما توجيهكم؟
الجواب
هذا من أعظم البلاء الذي قد ينتكس به حال الإنسان من حال خيرية إلى حال رديئة، فيجب الحذر من ذلك.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(108/36)
عائشة الحميراء
لقد حازت عائشة رضي الله عنها على خصائص وفضائل بوأتها مكانة عالية ودرجة رفيعة، ومن هذه الخصائص والفضائل: مكانتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدة حبه لها، ولم ينزل عليه الوحي في لحاف واحدة من أزواجه سواها، ومرضه ووفاته ودفنه عليه الصلاة والسلام كان في بيتها، وقد كانت حسنة العشرة معه، ومن فضائلها علمها رضي الله عنها، فقد قال عنها الصحابة والتابعون والعلماء: إنها أعلم وأفقه نساء الدنيا، ومن فضائلها زهدها وإنفاقها للمال في سبيل الله وجهادها وعبادتها وورعها رضي الله عنها وأرضاها.(109/1)
فضائل عائشة رضي الله عنها وخصائصها ووصفها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله هو لكل خير يرتجى، وإليه من كل شر الملتجأ، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن بهم اقتدى، وإن هدى الله هو الهدى، من تمسك به اهتدى، ومن حاد عنه ضل وغوى.
أما بعد: فهذا الدرس الخامس والخمسين، وهو بعنوان: (عائشة الحميراء قدوة النساء) وقد سلف لنا أحاديث عديدة حول ما يتعلق بالمرأة المسلمة وبعض الموضوعات المتعلقة بها، وحديثنا عن عائشة رضي الله عنها يخدم هذا الجانب على وجه الخصوص، وإن كان في موضوع سيرتها ما هو نافع ومفيد للمجتمع المسلم كله رجالاً ونساءً؛ لأن في مواقفها وتعاملها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما مر بها من الأحداث والوقائع مع الصحابة رضوان الله عليهم ما فيه كثير من الدروس والعبر.
والحديث الذي يجري في هذا الصدد أيضاً له سبب آخر؛ لأن ما يتعلق بتراجم النساء وقدوات المؤمنات يعتبر قليلاً في جانب ما هو منصوب من القدوات في صفوف الرجال، فنحن نعلم أن الحديث يكثر عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الأئمة العلماء، وعن سلف هذه الأمة، ونذكر الإمام أحمد والشافعي وأبا حنيفة والإمام مالكاً وغيرهم من هؤلاء، ويقل ذكر قدوات النساء، فلعل ذكر عائشة رضي الله عنها يعتبر مثالاً يحتذى؛ لما لها من عظيم الفضائل وكثير الخصائص رضي الله عنها وأرضاها.
فـ عائشة رضي الله عنها -كما قال الذهبي - بنت الإمام الصديق الأكبر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر عبد الله بن قحافة عثمان بن عامر القرشي القرشية التيمية المكية النبوية أم المؤمنين رضي الله عنها، فقد حازت الفضل من كل جوانبه، ونالت الشرف من سائر أوجهه، وهي التي ولدت في ظلال الإسلام، كما قالت: (لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين).
فقد ولدت في الإسلام وفي بيئة إسلامية، وحتى ندرك بإيجاز أول ما يتعلق بسيرة عائشة رضي الله عنها نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم عقد عليها وهي ابنة ست سنين، ودخل عليها وهي ابنة تسع سنوات، وتوفي عنها صلى الله عليه وسلم وهي ابنة ثماني عشرة سنة).
فتأمل هذه السيرة التي أهلتها بعد ذلك إلى أن تكون قدوة من القدوات، وعلماً من أعلام الأمة الإسلامية كلها مع هذه الفترة الوجيزة، لكنها كانت فترة عظيمة لالتصاقها برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكر أهل السير في وصفها أموراً وأوصافاً كثيرة، كما أفاض في ذلك ابن كثير في البداية والنهاية عندما ترجم لها في سنة وفاتها، قال: أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، وزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب أزواجه إليه، المبرأة من فوق سبع سماوات رضي الله عنها وعن أبيها.
وأمها هي أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية، وكانت عائشة رضي الله عنها تكنى بـ أم عبد الله، ولم يكن لها ولد؛ لأنها لم تلد مطلقاً، لكنها ربت ابن أختها أسماء وهو عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، فكانت تكنى به رضي الله عنها.
وقد أوجز ابن كثير في هذه الترجمة ما سأذكره بإيجازه ثم يأتي تفصيل بعضه.
ذكر ابن كثير جملة وافرة من خصائص عائشة رضي الله عنها فقال: لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً سواها، ولم ينزل عليه الوحي في لحاف امرأة غيرها، ولم يكن في أزواجه أحب إليه منها، فهذه كلها أمور لم يشاركها فيها غيرها.
قال: وقد أتاه الملك بها في المنام في سرقة من حرير مرتين أو ثلاثاً يقول له: هذه زوجتك.
فتزوج بها بأمر الله ووحي الله سبحانه وتعالى.
قال: ومن خصائصها أنه كان لها في القسم يومان: يومها ويوم سودة حين وهبتها ذلك تقرباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن خصائصها أنه مات في يومها وفي بيتها وبين سحرها ونحرها صلى الله عليه وسلم، وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعات الدنيا وأول ساعة من ساعات الآخرة له عليه الصلاة والسلام، ثم دفن في بيتها.
ومن خصائصها أنها أعلم نساء النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي أعلم نساء الأمة على الإطلاق بلا نزاع في ذلك بين أهل العلم.
وقد قال أهل العلم في وصف علمها شيئاً كثيراً يأتي ذكره لاحقاً.
فهذه عائشة رضي الله عنها بما ذكر في وصفها على سبيل الإجمال، وفضائلها كثيرة مشهورة في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قد جاء ونزل في حقها آيات تتلى من كتاب الله عز وجل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ففي الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أريتك في المنام ثلاث ليال جاء بك الملك في سرقة من حرير -يعني: مغطاة بقطعة من حرير- يقول: هذه امرأتك.
فأكشف عن وجهك فإذا أنت، فأقول: إن يكن هذا من عند الله يمضه) وقد أمضاه الله سبحانه وتعالى.
وفي فضيلة قربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظيم محبته عليه الصلاة والسلام لها ما ورد في الحديث الصحيح عن عمرو بن العاص -وهو ممن أسلم في السنة الثامنة للهجرة- أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (أي الناس أحب إليك يا رسول الله؟ قال: عائشة قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها) فكانت هي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال الذهبي بعد إيراده هذا الحديث تعليقاً عليه قال: وهذا حديث ثابت صحيح رغم أنوف الروافض، وما كان عليه الصلاة والسلام ليحب إلا طيباً، وقد قال: (لو كنت متخذاً خليلاً من هذه الأمة لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام أفضل) يقول الذهبي: فأحب عليه الصلاة والسلام أفضل رجل وأفضل امرأة من أمته، فمن أبغض حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حري أن يكون بغيضاً إلى الله ورسوله.
وأقوال الرافضة في عائشة رضي الله عنها مرفوضة مردودة قبيحة، حتى إن بعضهم قد غالى في ذلك وقال قولاً يكفر به صاحبه إن اعتقده، قال بعض الغلاة ممن كانوا على هذه النحلة والملة في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] قال: هي عائشة.
تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
عن هشام بن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة) لمعرفة الصحابة محبة النبي عليه الصلاة والسلام لـ عائشة، فقد كانوا يهدون إليه في اليوم الذي يكون عندها، حتى يكون ذلك اليوم أكثر سعداً وفرحاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة: (فاجتمعن صواحبي إلى أم سلمة) وكانت أم سلمة من كبار أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سناً، وسيأتي تفصيل الحزبين اللذين كانا في أزواج النبي عليه الصلاة والسلام بحكم طبيعة المرأة وغيرتها.
قالت: (فجئن إلى أم سلمة فقلن لها: إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فقولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر الناس أن يهدوا له أينما كان.
فذكرت أم سلمة ذلك له فسكت فلم يرد عليها، فعادت الثانية فلم يرد عليها، فلما كان الثالثة قال: يا أم سلمة! لا تؤذيني في عائشة؛ فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها) وهذه فضيلة لها عن باقي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
وتحكي عائشة حال أزواجه صلى الله عليه وسلم، وهذا بيان طبيعة فطرة المرأة مع العصمة في الشرع والبعد عن المخالفة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
تقول عائشة: (إن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كن حزبين: فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة، والحزب الآخر فيه أم سلمة وسائر أزواجه، وكان المسلمون قد علموا حب رسول الله عليه الصلاة والسلام عائشة، فإذا كانت عند أحدهم هدية يريد أن يهديها إلى رسول الله أخرها حتى إذا كان في بيت عائشة بعث بها إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فتكلم حزب أم سلمة مع أم سلمة لتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها ذلك القول، فقالت في هذه الرواية أم سلمة: أتوب إلى الله من ذلك يا رسول الله.
ثم إنهن دعون فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلنها إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام تقول له: إن نساءك ينشدنك العدل في بنت أبي بكر.
فكلمته فقال: يا بنية! ألا تحبين ما أحب؟ قالت: بلى.
فرجعت إليهن وأخبرتهن، فقيل لها: ارجعي إليه.
فأبت أن ترجع، فأرسلوا بعد ذلك زينب بنت جحش رضي الله عنهن جميعاً، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلظت له في القول وقالت: إن نساءك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة، فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة -أي: ببعض القول- وعائشة قاعدة، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينظر إلى عائشة هل تتكلم؟ قال: فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسككتها -أي: ذكرت لها من القول ما ألجمها وأسكتها- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إنها ابنة أبي بكر) فشهد لها هذا الموقف بفضلها على أ(109/2)
علم عائشة رضي الله عنها
أنتقل إلى جانب مهم من جوانب سيرة عائشة رضي الله عنها، ذلك هو علمها؛ لأن هذا الجانب يكاد يكون في غاية الضعف عند نسائنا في هذه الأيام، فإننا إذا تحدثنا عن طلب العلم والحرص على دروس العلم ونحو ذلك فكأن الغالب في أذهاننا أن ذلك الحديث مخصوص بالشباب دون الشابات، وبالرجال دون النساء، وكذلك نجد أن البيئة التي نعيش فيها تظهر فيها نماذج من طلبة العلم والحريصين عليه حفظاً لكتاب الله عز وجل، وحفظاً لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واطلاعاً على أقوال أهل العلم وكتب الفقهاء وغير ذلك، نجد ذلك في صفوف الرجال والشباب أكثر منه في صفوف النساء، حتى توهم الناس أنه لا يكون للمرأة قدرة على أن يكون حظها من العلم مثل حظ غيرها من الرجال، بل قد سرى وهم إلى بعض الرجال أن المرأة زوجة كانت له أو بنتاً أو أختاً أنها دون أن تكون لها صلة بالعلم والاستنباط والفهم والفقه، مع أن هذا غير صحيح، ونشأ عن هذا فقر مهم، وفي نفس الوقت خطير؛ لأن النساء لهن حاجات ومسائل قد يمنعهن الحياء أن يسألن عنها الرجال، وخاصة في أمور المعاشرة مع الأزواج، وفي أمور الطهارة الخاصة بالنساء، فلما قل الفقه في النساء أصبح وقوع الخلل منهن لعدم سؤالهن للرجال حياءً أو تحرجاً أو غير ذلك أصبح هذا ظاهراً بشكل كبير، وهذا أيضاً مدخل خطير؛ لأن عدم تهيؤ المرأة واستعدادها وميلها وعلمها بإمكانية طلبها للعلم ونبوغها فيه ونفعها لبنات جنسها جعلها أكثر عرضة وتهيئةً لأن يصطادها أعداء الله عز وجل، وأن يشغلوها بأفكار ومطالعات وقراءات بعيدة عما ينفعها في دينها ودنياها وفي آخرتها.
ولذلك في الحقيقة أرى أن جانب العلم -سيما في الأمور التي تخص المرأة- من المهم جداً أن تنتدب له النساء الصالحات القانتات العابدات، وأن يحث الرجل من له عليه ولاية من النساء على أن تأخذ حظها من العلم لتنفع نفسها وتنفع بنات جنسها، وإن حديث الرجال إلى النساء قاصر في تأثيره وفي لمسه لحاجتهن ومعرفته بأحوالهن، ولذا يكون لسان المرأة إلى المرأة أبلغ، وتعليم المرأة للمرأة أقوى، ولأن الحواجز والموانع الشرعية من الحجاب وغير ذلك تمنع من أن يكون التواصل العلمي والتربوي كاملاً، فإنه لا يغني ذلك من جانب الرجال الغناء الكامل، بل لا بد أن يكون في صفوف النساء المسلمات عالمات ومربيات وداعيات؛ لأن علمهن بأحوال النساء وقربهن منهن وقدرتهن على معاشرتهن ومواجهتهن ومكاشفتهن ومصارحتهن تؤدي دوراً أكبر، ولذلك أسوق هذه القدوة في العلم للنساء وللرجال، فإن عائشة رضي الله عنها قد كان الرجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أشكل عليهم الأمر وأعجزتهم المسألة رجعوا إليها رضي الله عنها، فأخبرتهم حكم وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها.
فلذلك قال الذهبي رحمة الله عليه: إن عائشة أفقه نساء الأمة على الإطلاق.
وذكر أن مسند عائشة من الأحاديث يبلغ ألفين ومائتين وعشرة أحاديث، اتفق البخاري ومسلم منها على مائة وأربعة وسبعين حديثاً، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين حديثاً، وانفرد مسلم بتسعة وستين حديثاً، ولا يوجد في النساء من هي أكثر رواية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من عائشة، ولم يكن زواج النبي صلى الله عليه وسلم بالعدد الكثير من النساء عبثاً، وإنما كان ليطلعن على ما لا يطلع عليه إلا المرأة من زوجها في شأن الأمور الدقيقة، فينقلن هذا العلم والأحكام الشرعية المتعلقة بأخص خصائص ما بين الرجل وزوجته لنساء الأمة ورجالها على حد سواء، ولذلك قال الذهبي: لا أعلم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بل ولا في النساء مطلقاً امرأة أعلم منها.
وقال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزوجه وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل.
وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة رضي الله عنها أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأياً في العامة.
وتأمل هذه الجملة الأخيرة، بل تأمل هذا النص كله: (كانت أفقه الناس وأعلم الناس) فالفقه غير العلم، العلم حفظ، والفقه استنباط، فقد جمعت بين الأمرين معاً (وأحسن الناس رأياً في العامة) أي أنها تعرف أمور الناس ومجريات الحياة، وما ينبغي أن يكون من التوجيه، وكيف تكون هذا الأساليب.
وقد ورد في مسند الإمام أحمد بسند صحيح أن عائشة رضي الله عنها استدعت قاص أهل المدينة الذي كان يقص لهم القصص ويعظهم بالمواعظ وقالت له: لَتعاهِدَنيِّ أو لأقاطعنك.
قال: علام يا أم المؤمنين -أو: زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ - قالت: (أن لا تمل الناس وأن لا تقنطهم، وإذا حدثتهم فحدثهم يوماً ويوماً) تعني: لا تملهم في الحديث.
وقالت له: لا تملهم بطول حديثك وتكراره، ولا تقنطهم بتأييسهم من رحمه الله عز وجل وإكثار الخوف عليهم دون أن تفتح لهم باب الرجاء.
وتلك العبارة تدلنا على أنها كانت أحسن الناس رأياً في العامة.
وقال عروة: ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا طب ولا شعر من عائشة رضي الله عنها.
وهذه الرواية عن عروة تروى بوجه آخر مفصل يبين لنا أن عائشة كانت على ذكاء وافر وفطنة عجيبة، يقول عروة -وهو ابن أختها-: صحبت عائشة رضي الله عنها فما رأيت أحداً قط كان أعلم بآية أنزلت، ولا بفريضة، ولا بسنة، ولا بشعر ولا أروى له، ولا بيوم من أيام العرب، ولا بنسب، ولا بقضاء ولا طب منها.
فانظر! فقد كانت تعرف الأنساب، ولا غرو في ذلك؛ فهي ابنة نسابة قريش أبي بكر رضي الله عنه.
وكونها تعلم علم القرآن والسنة والفقه لا غرو في ذلك؛ فقد كانت زوجة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
يقول عروة: قلت لها: يا خالة! الطب من أين علمتيه؟ أي: عرفنا أنك علمت الفقه والأحكام من الرسول عليه الصلاة والسلام، والنسب من أبي بكر، والشعر من حسان، لكن من أين لك هذا الطب؟ فقالت: كنت أمرض فينعت لي رسول الله صلى الله عليه وسلم الشيء لأتعالج به، ويمرض المريض فينعت له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسمع الناس ينعت بعضهم لبعض فأحفظه)، فكانت رضي الله عنها طبيبة قلوب وطبيبة أبدان، فهذا يدل على الفطنة، ويدل على أن عائشة لم تكن اهتماماتها اهتمامات سطحية كحال بعض نسائنا اليوم.
فإن بعض النساء اليوم عندها فطنة، وعندها ذكاء، وعندها سرعة حافظة، لكنها موجهة توجيهاً غير سليم، فتراها تمزج الموديلات للملابس بين هذا وهذا، وتحفظ ذاك، والأول والثاني، وتعرف أن هذا طراز قديم وهذا طراز حديث، بينما عائشة رضي الله عنها كانت لها أذن واعية وقلب مستقبل لكل ما فيه منفعة في هذه الدنيا وفي الدين على وجه الخصوص، ولذلك قال عروة: فلقد ذهب عامة علمها لم أسأل عنه.
وعروة هو ابن أختها، والذي كان ملازماً لها، والذي روى كثيراً من علمها، فلكثرة علمها وتشعبه يقول: إنها ماتت وتوفيت وذهب عامة علمها ولم يستطع أن يسألها عنه لكثرته، فمضى الزمان وانتهى عمرها قبل أن يأخذ علمها الغزير.
وكانت تحفظ الشعر وترويه كأحسن ما يروي الناس الشعر، ولا تنس أن هذا كله والنبي عليه الصلاة والسلام توفي عنها وهي ابنة ثماني عشرة سنة، واليوم ربما ابنة الثامنة عشرة لا هم لها إلا أن تحسن وجهها، وتنعم صوتها، وتتكسر في مشيتها، لا تعرف اهتماماً من أمور الدنيا ولا من أمور الدين، ولا تفكر في آخرة، ولا تحوز علماً، ولا تتأهل إلى تربية، ولا تتصدى لفتيا، ولا شيئاً من ذلك مطلقاً، وهذا يدلنا على البون الشاسع بين ما كانت عليه أزواج النبي عليه الصلاة والسلام ونساء المؤمنين وبين ما آل إليه الحال في نساء هذا الزمان إلا من رحم الله في عصرنا هذا، ولذلك ينبغي للمرأة أن تفطن لما يتعلق بتحصيل العلم، فقد كانت عائشة رضي الله عنها على هذا النحو الواسع من العلم.
وعن الشعبي أن عائشة رضي الله عنها قالت: (رويت للبيد نحواً من ألف بيت) وكان الشعبي يذكرها -أي: عائشة - فيتعجب من فقهها وعلمها، فإذا كان هذا العلم الذي تحفظه فما ظنك بالتربية العلمية والعملية التي تلقتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا لجأ إليها الصحابة رضوان الله عليهم ونهلوا من علمها وأخذوا من فقهها كثيراً.
قال ابن سعد في الطبقات: كانت عائشة رضي الله عنها أعلم الناس، يسألها الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضاً: ما كان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يشكون في شيء إلا سألوا عنه عائشة، فيجدون عندها من ذلك علماً.
بل قد صنف الزركشي كتاباً كاملاً سماه: "الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة" أي: فيما استدركت عليهم من الأخطاء التي وقعوا فيها، أو الأقوال التي خالفتهم فيها بحجة ودليل من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك ما ورد في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روى عمر رضي الله عنه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) فقالت عائشة رضي الله عنها: (رحم الله ابن الخطاب، ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وإنما قال: إن الكافر ليعذب ببكاء أهله عليه) وكانت تستدرك وتقول: (حسبكم كتاب الله (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]).
فكان عندها فقه عجيب، وبصر نافذ، وإحاطة شاملة بكثير مما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكما قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: ما(109/3)
المعاملة الزوجية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عائشة
أنتقل إلى جانب مهم يهم الرجال والنساء معاً، ذلك هو جانب المعاملة الزوجية التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق أجمعين وبين عائشة رضي الله عنها، وهي من علمنا فضلها وخصائصها.
جملة من الروايات والقصص في معاملة رسول الله عليه الصلاة والسلام لـ عائشة تكشف لنا عما ينبغي أن يكون عليه الرجل مع زوجته، وما ينبغي أن تكون عليه الزوجة مع زوجها.
فمن ذلك تلطفه عليه الصلاة والسلام ورقته وحنانه ومحبته وتودده لـ عائشة رضي الله عنها، كما ورد في الصحيح عن عائشة تقول: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بالحراب في المسجد، وإنه ليسترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم، ثم يقف من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو) فهذا الرسول عليه الصلاة والسلام -وهو من هو عظمة- يتودد إلى عائشة، ويمكنها من أن ترى بعض ما يدخل السرور على نفسها، ويقف لأجلها حتى يكون رداءاً وساتراً لها، ولا يتحرك حتى تنتهي من مطالعتها ومن متعتها وسرورها تلطفاً منه عليه الصلاة والسلام ومراعاة لها ولسنها، فما بال الرجال يأنفون من أقل من هذا بكثير، بل يستكثرون به على أزواجهم، ويظنون أن في ذلك إذهاباً لهيبتهم، وأنه لا بد أن يكون الواحد منهم متجهم الوجه، مقطب الجبين، ينظر بعينه شزراً، وتتقد عينه جمراً، وإن لم يكن كذلك فلا يكون رجلاً، هذا لا شك أنه من فرط الجهل لأصول المعاشرة.
فإن الإنسان قد يتوقى ويتحرز من الناس البعيدين أو الأغراب، أما من تكثر الخلطة معهم فلا بد من أن تكون معهم على لين وتودد وتلطف، وعلى ترسل في المعاملة من غير تكلف، وعلى إبداء ما عندك دون حرج؛ لأنك ستلقاهم كل يوم، فلو تحفظت وتحرجت وتهيبت فإنك لا تستطيع أن تستمر على ذلك.
قد ترى الإنسان عندما تتعرف إليه أول أمره لا يتكلم معك في خاص أموره، ولا فيما يتعلق ببعض ما يحترز منه من الدعابة أو المزاح أو كذا، لكن إذا أكثرت خلطته وعشرته بدا لك منه كل شيء، فكيف يكون الرجل مع زوجته وهي أقرب الناس إليه وأكثرهم عشرة له ثم لا يتلطف ولا يتودد ولا يكون في سيرته معها على ما هو طبعه وسجيته دون أن يكون متكلفاً ولا متجهماً؟! وكذلك من لطائف هذه المعاملة الزوجية ما ورد في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت عليّ غضبى).
ليس هناك من غضاضة ولا جرم ولا كبيرة من الكبائر أن تغضب المرأة على زوجها، لما قد يقع من أسباب الاختلاف المعتادة في حياة الناس، ولكن انظر إلى أدب عائشة وإلى فطنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له: (كيف ذاك يا رسول الله -أي: كيف تعرف رضاي من غضبي-؟! فقال: إذا كنت راضية عني قلت: لا ورب محمد.
وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم، فقالت عائشة رضي الله عنها: أجل والله ما أهجر -يا رسول الله- إلا اسمك) فهذا يدل على أنه قد يقع ما يوجب الخلاف والنزاع، ولكن لا بد أن يكون له حده، فلا تتجرأ المرأة على زوجها ولا تشتمه ولا تنتقصه ولا تذكره بما يسوءه، ولا تنعته بما لا يحب ولا تصفه بما يكره، ولا تنبزه بما هو عيب وإن كان فيه، لئلا توغر صدره وتجعل -كما نقول- من الحبة قبة، ولئلا تنفخ في نار هذه الشحناء اليسيرة والمخالفة اليسيرة، فإذا بها تغدو مشكلة كبيرة وصراعاً عنيفاً لا يحل بسهولة، ثم انظر إلى أدب عائشة رضي الله عنها وحسن تقديرها وتعظيمها لرسول الله عليه الصلاة والسلام مع إشعارها بأنها غضبى حتى يتلطف معها، فإنها تشعره بأقل القليل الذي يغني عن غيره، فكانت تقول: (لا ورب إبراهيم) وإذا كانت راضية تقول: (لا ورب محمد) وما أخطأت في القولين كليهما، وإنما أحسنت في الأدب، وانظر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام! ما قال لها: إني أعرف أنك غاضبة ليقابل غضبها بغضب، وإنما ليستل ويدخل هذا المدخل اللطيف الودود المحبب ويقول لها مداعباً وملاطفاً: إني أعرف هذه الحالة وهذه الحالة.
وبين لها أنه قد بلغته رسالتها وعرف مقصدها، وأراد أن يمحو ما كان من سبب هذا الغضب.
ومن ذلك أيضاً ما ورد في حديث النعمان بن بشير قال: (استأذن أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا عائشة ترفع صوتها عليه فقال: يا بنت فلانة!) وهذه أساليب العرب العجيبة في تعاملهم، هي ابنته لكن في هذا الفعل لم يكن راضياً عنها، فلم يرد أن ينسبها إليه وهي تفعل فعلاً لا يحبه فقال: (يا ابنة فلانة!) نسبها إلى أمها، ثم قال: (ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم! فحال النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينها، أراد أبو بكر أن يتوجه إلى عائشة ليضربها ويعنفها، وقد استنبط بعض أهل العلم أنه يجوز لأب البنت أن يربيها وأن يزجرها بحضرة زوجها، لكن انظر): (فحال النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينها) مع أن النبي عليه الصلاة والسلام هو -إذا صح التعبير- المعتدى عليه، وعائشة هي التي رفعت صوتها عليه، ومع ذلك حال بينها وبينه: (ثم خرج أبو بكر رضي الله عنه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يترضاها) يترضى عائشة ويتلطف معها وقال: (ألم تريني حلت بينك وبين الرجل؟!) يستشفع بالموقف الدفاعي الذي وقفه عليه الصلاة والسلام، ثم استأذن أبو بكر مرة أخرى فسمع تضاحكهما، أي: النبي عليه الصلاة والسلام وعائشة.
قد أزال عليه الصلاة والسلام بحسن معاملته هذا الأمر الذي كان سبب هذا الغضب، فقال أبو بكر: (أشركاني في سلمكما كما أشركتماني في حربكما) ما أجمل هذا الموقف! وما أرق رسول الله صلى الله عليه وسلم! وما أحسن تأتي.
عائشة ولينها وانكسارها لرسول الله عليه الصلاة والسلام! ومعلوم أن الحياة الزوجية لا تخلو من المكدرات، ولكن هذه المعاملة هي التي تزيل أسباب الكدر، وإذا كانت هناك مكدرات فإن هناك مهدئات ومسكنات من هذه المعاملة اللطيفة، فلذلك رفعت المرأة صوتها على زوجها ولم يكن زوجها أي أحد، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبل منها مراعاة لطبيعتها وغضاً للطرف عما سبب لها ذلك الغضب، ثم بعد ذلك حال بينها وبين أبيها، ثم جعل يترضاها ويستشفع بما كان منه من موقف تجاهها، ثم تضاحك الزوجان مرة أخرى وعاد الوئام في لحظات، وإن لم يكن الأمر كذلك فإن الكلمة تجر أختها، وأحياناً الحركة تجر غيرها، وتزداد الشقة والخلاف والنزاع.
والحديث هنا لعله يكون أكثر توجيهاً للأزواج والرجال أكثر منه للنساء، كل هذه المواقف تربية في سيرة عائشة وهدي رسول الله عليه الصلاة والسلام لكلا الجنسين، ففي حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: (سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته ما شاء -أي: أكثر من مرة- حتى إذا رهقني اللحم سابقني فسبقني، فقال: يا عائشة! هذه بتلك).
موقف جميل جداً لعل الواحد منا يتنزه عما هو أقل منه، ويرى أن ذلك خارم لمروءته وجارح في عدالته وإنزال من منزلته، فإذا ظن ذلك فليستغفر؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، ولنا فيه قدوة وأسوة حسنة، فإنه كان يتلطف بهذا، وهذا يدلنا أيضاً على عظمة رسول الله عليه الصلاة والسلام من وجه آخر، فإنه كان يجيش الجيوش، ويدرس الدروس، ويربي الرجال، ولم يشغله كل ذلك عن أن يكون مؤدياً لحق أهله ومراعياً لزوجته حتى في تفرغه لمسابقتها ومداعبتها وملاعبتها، وغير ذلك من الأمور التي ينشغل عنها الناس اليوم، ولا يفطنون لها ولا يتوددون بها إلى أزواجهم، فتبقى الحياة كاحتكاك الحديد بالحديد ليس هناك بينهما حسن التلطف والتودد الذي يزيل هذا الاحتكاك ويجعل المسائل على أحسن وجه مما يجعل الحياة الزوجية هانئة سعيدة.
ومن لطفه عليه الصلاة والسلام وعظيم محبته لـ عائشة رضي الله عنها -وهذا حب فريد منه عليه الصلاة والسلام يعلمنا به أن الحب في ظل الشرع أمر لا حرج فيه- ما روته عائشة رضي الله عنها فقالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العظم فأتعرقه - أي: تأكل عروق العظم ما بقي من اللحم - ثم يأخذه فيديره حتى يضع فاه على موضع فمي) كان يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم تحبباً وتلطفاً معها وإشعاراً لمنزلتها عنده صلى الله عليه وسلم.
وهنا أيضاً حادثة لطيفة فيما يتعلق بين الزوجات مع أزواجهن، والرواية عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج أقرع بين نسائه، فطارت القرعة لـ عائشة وحفصة معها، وكان إذا كان بالليل يمشي مع عائشة يتحدث وقت الليل، ثم بعد ذلك يرجع فينام، فقالت حفصة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك تنظرين وأنظر -تعني: تجربين هذا البعير وأنا أجرب بعيرك-؟ فقالت: بلى.
فركبت فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى جمل عائشة وعليه حفصة فسلم عليها ثم سار حتى نزلوا، وافتقدته عائشة، فلما نزلوا جعلت رجليها بين الإذخر وجعلت تقول: يا رب! سلط علي عقرباً أو حية تلدغني، رسولك ولا أستطيع أن أقول له شيئاً) تبدي ما كان من ندمها في هذا الشأن.
فهذه مواقف يسيرة من معاملة الرسول عليه الصلاة والسلام لـ عائشة رضي الله عنها، وحسن أدب عائشة مع المصطفى عليه الصلاة والسلام.
وهذا كله يدلنا على ما ينبغي أن يكون بين الرجل وزوجته.(109/4)
الأحكام الفقهية المتعلقة بسيرة عائشة رضي الله عنها
هناك بعض ما يتعلق بالأحكام الفقهية في قصة عائشة رضي الله عنها، وهذا نوع من المزواجة حتى ننتقل من مرحلة إلى أخرى؛ لأن هناك مواقف أخرى سيأتي ذكرها لاحقاً.
ففي مسند الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بتربان -بلد بينه وبين المدينة بريد وأميال وهو بلد لا ماء به- وذلك من السحر انسلت قلادة من عنقي فوقعت، فحبس علي رسول الله صلى الله عليه وسلم لألتمسها حتى طلع الفجر، وليس مع القوم ماء، فلقيت من أبي ما الله به عليم من التعنيف والتأفيف، قال: وفي كل سفر للمسلمين منك عناء وبلاء! فأنزل الله الرخصة في التيمم، فتيمم القوم وصلوا، قالت: يقول أبي حين جاءت الرخصة من الله للمسلمين: والله -ما علمت- يا بنية إنك لمباركة، ماذا جعل الله للمسلمين في حبسك إياهم من البركة واليسر) فهذا مما كان من أسباب الأحكام الفقهية في شأن عائشة رضي الله عنها.
ومن ذلك أيضاً فيما يتعلق بالأحكام الفقهية المنقولة والملتصقة بسيرة عائشة، ما روي عن أبي قيس مولى عمرو قال: (بعثني عبد الله بن عمرو إلى أم سلمة وقال: سلها: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم؟ فإن قالت: لا فقل: إن عائشة تخبر الناس أنه كان يقبل وهو صائم، فقال لها ذلك، فقالت له: لعله لم يكن يتمالك عنها حباً أما إياي فلا)؛ لأنها كانت رضي الله عنها كبيرة في السن، وهذا حكم فقهي فيما يتعلق بها رضي الله عنها.
ومن ذلك أيضاً ما روته بكرة بنت عقبة أنها دخلت على عائشة وهي جالسة في معصفرة -أي: لباس مزين أو فيه صفرة- فسألتها عن الحناء، فقالت: شجرة طيبة وماء طهور.
وسألتها عن الحفاف فقالت: إن كان لك زوج فاستطعت أن تنزعي مقلتيك فتصنعينها أحسن مما هما فافعلي.
وهذا من أعظم فقه عائشة بالنسبة للنساء، تقول: إن كان لك زوج فاستطعت أن تنزعي مقلتيك -أي: عينيك- فتصنعيهما أحسن مما هما عليه فافعلي.
وذلك لتكون أقرب وأحب إلى زوجها.(109/5)
عائشة رضي الله عنها وموقفها من حادثة الإفك
بعد ذلك هناك الموقف العظيم في سيرة عائشة رضي الله عنها، وهو موقف في الحقيقة جدير بأن يكون درساً مستقلاً، ولكني أدرجه ضمن هذا الدرس؛ لأن الحديث عن عائشة يستلزم ذكره، وهو ما يتعلق بحادثة الإفك، وهي حادثة طويلة ذكرها الله عز وجل في كتابه، وبرأ فيه عائشة رضي الله عنها.
هذه الحادثة موجزها أن عائشة كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بعض غزواتهم، فلما أرادوا أن ينصرفوا كانت ذهبت لقضاء حاجتها، فجاء القوم ليحملوا هودجها على البعير وحملوه ولم يشعروا بأنها ليست فيه؛ لأنها كانت خفيفة الوزن في ذلك الوقت، ومضوا، فلما رجعت إلى مكانها وإذا القوم قد غادروا فظلت في مكانها لم تتحرك، بل قالت: سيشعرون بي ويرجعون ليأخذوني.
وإذا بـ صفوان بن المعطل رضي الله عنه كان في آخر الجيش، وبعد مضي الجيش بقليل مر، فإذا به يرى سواداً، فاقترب فإذا هو يرى عائشة رضي الله عنها، قالت: وكان قد رآني قبل أن ينزل الحجاب، فاسترجع -أي: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون-.
قالت: فاستيقظت على استرجاعه، فأناخ جمله، قالت: والله ما كلمني حتى بلغنا القوم.
فلما بلغت عائشة رضي الله عنها القوم تكلم المنافقون وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول، وخاضوا في وصم عائشة بالفاحشة مع صفوان بن المعطل، وكانت عائشة رضي الله عنها سليمة القلب سليمة النية لم تسمع بذلك ولم تشعر به.
ثم لما قدم القوم المدينة خاض الناس في ذلك واتسع الكلام، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أثر فيه هذا القول وقال: (من يعذرني في رجل يتكلم في أهلي)، وكان هناك خلاف بين الأوس والخزرج في هذا الشأن؛ لأن عبد الله بن أبي كان من أحد الفريقين، وكانت مسألة ومحنة عظيمة.
ثم إن عائشة لم تكن قد شعرت بشيء، حتى كانت في يوم من الأيام خرجت لتقضي حاجتها مع أم مسطح بن أثاثة، وكان أحد المهاجرين الذين خاضوا في هذا القول وقالوا بهذه الفرية، فلما رجعت عائشة عثرت أم مسطح في حجرة، فلما عثرت قالت: تعس مسطح.
فقالت عائشة رضي الله عنها بسلامة فطرتها وحسن إسلامها: بئسما قلت في رجل من المهاجرين ممن شهد بدرا.
تدافع عن مسطح، فقالت لها: إنك لا تعلمين ما قال فيك.
وعلمت بالخبر بعد ذلك، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها: (إن كنت ألممت بشيء فاستغفري الله وتوبي).
فسكتت عائشة رضي الله عنها ولم ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم استعظاماً لما قاله لها عليه الصلاة والسلام، وظلت عائشة شهراً كاملاً لا يرقأ لها دمع تبكي وهي حزينة على هذا الأمر، حتى أنزل الله سبحانه وتعالى براءتها من فوق سبع سماوات، واستأمر النبي عليه الصلاة والسلام قبل ذلك واستشار بعض أصحابه، فأما بريرة فأثنت وقالت خيراً، وأما أسامة فقال كذلك، وأما علي رضي الله عنه فقال: سل الجارية فإن تسألها تصدقك الخبر، وكانت أزمة شديدة تتعلق بعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن حكمة الله عز وجل أنه لم ينزل الوحي في ذلك سريعاً، بل أبطأ شهراً كاملاً حتى أظهر الله المنافقين، وبين مواقف المؤمنين، وكان درساً عظيماً ذكره الله عز وجل في سورة النور فيما يتعلق بوجوب التثبت في الأخبار، وفي حسن الظن بالمسلمين، وفي مقارنة المسلم نفسه بأخيه هل يتوقع ذلك من نفسه؟ هل يرضى ذلك لنفسه؟ فإن كان الجواب بالنفي فإنه ينفي ذلك عن أخيه المسلم أيضاً، وفي ذلك أيضاً تعظيم لحرمة المسلم وعدم الاجتراء عليه في عرضه، أو في ماله، أو في نفسه.
وكان هذا الدرس العظيم مدرسة كاملة متعددة الجوانب، حتى إن الإمام ابن حجر رحمة الله عليه لما ذكر هذا الحديث ذكر فيه أكثر من ثلاثين فائدة، كل فائدة من هذه الفوائد تحتاج إلى درس طويل.
وشاهد هذا الأمر هو أن عائشة رضي الله عنها قد كانت قوية الشكيمة، فإن بعض النساء من رقتهن وعاطفتهن الغالبة إذا ووجهت بأمر لم تفعله ثم كثر الكلام ربما غلب على ظنها أن تعترف بهذا الذي لم تفعله وتستغفر منه أو تتبرأ منه بعد ذلك؛ لأنها لم تستطع أن تواجه الضغوط من أقوال الناس والشائعات وغير ذلك، لكن عائشة لعلمها بطهارتها وبراءتها وقفت هذه الوقفة القوية، بل إنها كانت لها وقفة شديدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لما نزلت براءتها قال لها أبو بكر رضي الله عنه: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: تستسمحي منه وتنهي الأمر-.
فقالت: والله لا أقوم إليه أبداً، ولا أحمد إلا الله.
ثبات في الموقف وبيان لما كانت عليه من معرفة نفسها وطهارتها، وفي نفس الوقت كان درساً للمسلمين عظيماً جداً يقع الناس فيه كثيراً، كما قال الله عز وجل: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} [النور:15].
والتلقي في الأصل يكون بالأذن، ولكن قال بعض المفسرين: إن هؤلاء الذين لا يتثبتون في الأخبار ربط الله تلقيهم بالألسنة؛ لأنهم من الآذان مباشرة يجرونه على الألسنة، ولا يمرونه على عقولهم، ولا يمرونه على الواقع، ولا يتأنون فيه، ولا يستثبتون منه، بل ينشرونه مباشرة، ولذلك بين الله عز وجل أن هذا من أعظم الفرية ومن أعظم البهتان الذي ينبغي أن يتوقاه المسلم، سيما إذا كان يتعلق بعرض أخيه المسلم الذي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن شدة وعظمة حرمته؛ لأنه أعظم من حرمة الكعبة نفسها، وأن حرمة المسلم عند الله عز وجل لها أبلغ وأعلى المراتب، ولذلك كان في وصف هذه الحادثة على لسان عائشة ما يصور الحالة النفسية التي مرت بها، وقوة شخصيتها حتى تجاوزتها، وطهارتها عما وصفت به رضي الله عنها وأرضاها.
وكما قلت ففي الحديث عن حادثة الإفك طول لا يتسع له هذا المقام، ولكن أذكر بعض ما كان من وصف عائشة رضي الله عنها في هذا الحادث، فقد روت أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لها: (أما بعد: يا عائشة! فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه، قالت: فلما قضى مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله فيما قال.
قال: والله ما أدري ما أقول لرسول صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: ما أدري ما أقول لرسول الله عليه الصلاة والسلام.
فقلت -وأنا يومئذ حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن-: إني والله قد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم من كثرة ما قيل، وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة -والله يعلم أني بريئة- لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني).
كان هذا هو الحال، لو اعترفت لكان ذلك أقرب إلى تصديق جميع الناس، ولو أعلنت براءتها لكان أبعد عن التصديق؛ لأنه قد كثر القول وانتشر وشاع، وهذه سمة الشائعات، سمة الشائعات أنها تشيع وتنتشر وتكثر حتى يسمعها الإنسان من أكثر من مصدر، فإذا سئل عنها جزم بها، وإذا قيل له: هل أنت متحقق قال: نعم متحقق.
فإذا سألته عن النسبة والنسب وعن الخبرة والبحث وجدته صفر اليدين، لو قلت له: ممن سمعت؟ قال: سمعت كذا وكذا، هل الذي سمع رأى بنفسه؟ كلا.
هل سمع ممن وقعت له الحادثة؟ كلا.
فبقي الأمر في آخر الأمر كما قال الله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ} [الصافات:151 - 152] إن تناقل الأخبار من غير تثبت من أفتك الأسباب بالمجتمعات وأدعى لإشاعة الشحناء والبغضاء والاختلافات والنزاعات بين الناس، ولذلك قالت عائشة بعد أن عجز أبو بكر وعجزت أمها عن أن يردا على رسول الله عليه الصلاة والسلام قالت هذه المقالة: (والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا قول أبي يوسف -نسيت اسم يعقوب من شدة حزنها وما وقع لها من البلاء: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] قالت: (ثم تحولت فاضطجعت على فراشي)، وهذا يدل على قوة شخصيتها رضي الله عنها وأرضاها.
وكان ممن حد في ذلك حسان وحمنة بنت جحش ومسطح بن أثاثة، أما غير أولئك فكانوا من المنافقين، وقد كفر أولئك عن ذنبهم بالحد الذي أخذوه ثم بالتوبة الصادقة، وقال حسان في مدح عائشة رضي الله عنها: رأيتك وليغفر لك الله حرة من المحصنات غير ذات غوائل حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل وإن الذي قد قيل ليس بلائق بك الدهر بل قيل امرئ متماحل فإن كنت أهجوكم كما بلغوكم فلا رفعت صوتي إليَّ أناملي وكيف وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافل وإن لهم عزاً يرى الناس دونه قصاراً وطال العز كل التطاول عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدهم غير زائل مهذبة قد طيب الله خيمها وطهرها من كل سوء وباطل فهذه الحادثة كانت من أعظم الحوادث في سيرة عائشة رضي الله عنها وأرضاها.(109/6)
مجموع أوصاف عائشة رضي الله عنها(109/7)
زهد عائشة رضي الله عنها وإنفاقها في سبيل الله
كانت عائشة رضي الله عنها زاهدة منفقة في سبيل الله عز وجل، وهذا أمر مهم بالنسبة للنساء اللاتي إذا جاءهن المال أحببن أن يتجملن، وأن يأكلن، وأن يشربن، ونسين أن يتصدقن، بينما عائشة رضي الله عنها تضرب المثل في ذلك بأبلغ صوره، حتى إنه كانت تهدى إليها الأموال الكثيرة الوفيرة ثم تنفق منها، كما ورد في الحديث الصحيح أنه جاءها مال فأنفقت منه، ثم لما جاء المغرب قالت لمولاتها: ائتي لنا بطعام الفطور.
قالت: لو أبقيت لنا شيئاً حتى نشتري طعاماً.
قالت: لولا ذكرتني.
قد نسيت حاجتها لما كان منها من أمر الإنفاق وحب الإنفاق في سبيل الله عز وجل، ولذلك كانت رضي الله عنها على هذا النحو من الإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى، وذكر في ذلك كثير من الأحاديث التي تبين أيضاً مشاركة المرأة لزوجها فيما يتعلق بشظف العيش وما يكون من الشدة التي تمر به أحياناً، وقد عايشت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان يوقد في بيته نار، يمر الهلال والهلالان والثلاثة وطعامه الأسودان: التمر والماء، كما قالت رضي الله عنها، فما غضبت لذلك، بل كانت هي أول من خيرها النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة التخيير المشهورة أن يعطيهن من النعيم والمتاع، أو يكون لهن اتباع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فآثرت رسول الله.
وقد كان الصحابة يؤثرونها بالعطايا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن معاوية رضي الله عنه بعث لها ثياباً رقاقاً فبكت رضي الله عنها وقالت: (ما كان هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) ثم تصدقت به، وهذا يدلنا على طبيعتها التي نريد للمرأة المسلمة اليوم أن لا تغرها الأموال وأن لا يغرها لين الثياب، بل تكون أسمى من ذلك وأرقى، خاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أكثر أهل النار من النساء، ولذلك ندبهن دوماً إلى التصدق، فكانت عائشة رضي الله عنها مثالاً راقياً وعالياً في هذا الأمر الذي يتعلق بشأن الإنفاق في سبيل الله عز وجل.
وأيضاً وصفت بأنها كانت للدنيا قالية، وعن سرورها لاهية، وعلى فقد أليفها باكية، وقد أوصاها النبي صلى الله عليه وسلم -كما في سنن الترمذي - بأن يكون زادها في هذه الحياة الدنيا كزاد الراكب، ولذلك كانت على هذا النحو من التخفف من الدنيا والإنفاق في سبيل الله عز وجل، وقد كان عمر رضي الله عنه يتعهدها بالعطايا، وقد ورد في حديث مرسل أنه جاء له في بعض المعارك درج فيه بعض الجواهر واللآلئ، واختلف الصحابة في تقسيمه فقال: ما قولكم أن يكون لـ عائشة؛ فإنها كانت حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالوا: الأمر كذلك.
فعهد به إلى عائشة وبكت وقالت: لعله أن لا يصلني عطاؤه من قابل.
أي: أرادت ألا يكون الأمر كذلك.
ولكنها عاشت بعده رضي الله عنها وأرضاها، فهذا بعض ما كان مروياً من زهدها رضي الله عنها وإنفاقها في سبيل الله عز وجل.
وعن عروة رضي الله عنه في وصفها أنه قال: رأيتها تقسم سبعين ألفاً وهي ترقع درعها.
فكانت رضي الله عنها على هذا النحو.(109/8)
عبادة عائشة رضي الله عنها
لها وصف آخر مهم بالنسبة للنساء على وجه الخصوص، وهي أنها كانت عابدة؛ لأنها عاشت في بيت النبوة ورأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم الليل، فقالت لـ عبد الله بن قيس وهذا من وصاياها: (لا تدع قيام الليل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعداً)، وعند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن أبي موسى قال: (أرسلني مدرك لـ عائشة رضي الله عنها لأسألها فجئت وهي تصلى فقلت: أقعد حتى تفرغ، ثم قلت: هيهات، أي: متى ستفرغ من صلاتها)، أي: من شدة طولها، وكانت رضي الله عنها ربما تقرأ الآية فتكررها، كما أثر عنها أنها كانت تقرأ قول الله عز وجل في الصلاة: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] فتكررها وتبكي وتقول: (اللهم من علي وقني عذاب السموم).(109/9)
جهاد عائشة رضي الله عنها
ولها وصف أو سمة مهمة وهي مشاركتها في الجهاد، وهذا يدلنا على أن المرأة المسلمة لها دور بارز في جوانب شتى من الحياة، فقد ورد أنها كانت مع نساء المسلمين في يوم أحد في إغاثة المسلمين ومعاونة جرحاهم وسقيا الماء، كما ورد من حديث أنس أنه قال: (رأيت عائشة وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما، ينقلان القرب على متونهما ثم يفرغانها في أفواههم -يعني: في أفواه الرجال من الجرحى- ثم يرجعان فيملآن القرب ثم يجيئان يفرغانها في أفواه القوم).
وقد ورد لها موقف فريد أيضاً في وقعة الخندق، فقد كانت من النساء اللائي كن في المدينة وقد تحصن بالبيوت، وكانت فيها جرأة رضي الله عنها، فخرجت في أثناء غزوة الخندق تتبع بعض الآثار لتؤمن بعض الأماكن، وجاء في أثرها بعض الصحابة ومروا بها فابتعدت عنهم قليلاً، ثم دخلت حديقة ومعها عصاً أو وتد، فلقيت عمر رضي الله عنه أمامها، فقال لها: ما جاء بك؟ لعمري -والله- إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تحيز إلى فئة يفر الناس.
قالت: فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت بي ساعتئذ.
ثم كان في القوم طلحة فرد على عمر وخفف عنها، وهذا ما يتعلق أيضاً بمشاركتها في هذا الجانب.(109/10)
زواج عائشة رضي الله عنها برسول الله صلى الله عليه وسلم
أحب أن أختم بمسألة مهمة آثرت إرجاءها، وهي ما يتعلق بزواج عائشة رضي الله عنها، فقد خطبها النبي صلى الله عليه وسلم وهي ابنة ست سنين، وبنى بها ودخل عليها وهي ابنة تسع سنين، وكان ذلك في العام الثاني للهجرة بعد عودته من غزة بدر، وكما قال بعض الكتاب: لما انتصر رسول الله عليه الصلاة والسلام وأعز الله الإسلام والمسلمين وفرح الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك واطمأنت أقدامه في المدينة، كان الوقت مناسباً أن يبني بـ عائشة رضي الله عنها.
وفي وصف تلك الحالة التي كانت تذكرها عائشة ما كان من شأن تغير الجو على المسلمين المهاجرين من مكة، فإنهم لما جاءوا إلى المدينة استوخموا هواءها وأصابتهم حماها، حتى إن عائشة كانت تدخل على بلال رضي عنه وعلى أبي بكر وبلال يقول من شدة شوقه إلى مكة ومن شدة معاناته لهذا المرض: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي أذخر وجليل وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل جبال من جبال مكة.
وأبو بكر كانت تدخل عليه وهو من شدة الحمى يقول: كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله وقد أصاب عائشة رضي الله عنها مرض حتى تساقط شعرها، وكان جميماً، أي: شعرها قليل.
وعند ذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد وصححها، وبارك لنا فيها وفي صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها إلى الجحفة) تقول عائشة رضي الله عنها: فلما شفيت أخذت أمي تهيئني للزواج، وكانت أمي تعالجني للسمنة -تريد أن تسمنها بعد أن ضعفت بسبب هذه الحمى- قبل أن تدخلني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما استقام لها ذلك حتى أكلت القثاء بالرطب فسمنت كأحسن سمنة، ثم قالت: جاءتني مرة وأنا ألعب مع صويحباتي فقالت: هاك هاك -يعني: تعالي- فجئت حتى حسنتني حتى أخذت نفسي، ثم جاءت بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: أهلك يا رسول الله.
وذكرت عائشة رضي الله عنها ما كان من وليمة عرسها ومهرها وما كان من سهولة ذلك، قالت: (والله ما ذبح جزوراً ولا شاة، وإنما كان طعام يتعهد به سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء به دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه القوم).
ومن لطائف ما ورد -وبعضه يرد بحديث فيه انقطاع وضعف، وهذه الرواية لها حديث يجبر هذا الضعف- أن بعض النساء من الأنصار كن يزين عائشة رضي الله عنها، وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم لبن فأراد أن يعطيهن فقلن: لا نريد.
فقال: (لا تجمعن جوعاً وكذباً) فقد كن يحببن ذلك اللبن، ولكنهن امتنعن حياءً من الرسول صلى الله عليه وسلم.(109/11)
عائشة رضي الله عنها والزواج المبكر
هنا الأمر المتعلق بالزواج المبكر الذي يحتقره بعض الناس، ويذكرونه ذكراً فيه ازدراء وانتقاد، وما يعلمون أن في هذا الانتقاد انتقاداً لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقول: إن الزواج المبكر فيه خير كثير، من هذا الخير بالنسبة للمرأة -على وجه الخصوص- أنه للمرأة عصمة ووقاية من الانحراف والمعاصي، حتى لا يكون هناك مجال للتعرض للفتنة أو الاعتداء عليها أو نحو ذلك.
ثم مصلحة الاستقرار النفسي المبكر، بدلاً من أن يبقى الحال كما هو حال الناس اليو، م تبلغ الفتاة وهي ابنة عشر وتتزوج وهي ابنة ثلاثين، وتبلغ سن اليأس وهي ابنة أربعين، فيكون ما مضى من عمرها في الحرمان أكثر مما مضى في نعمة الزواج والمعاشرة، وهذه الفطرة البشرية لا تكون مستقرة إلا بما يحقق غايتها ورغبتها وفق شرع الله عز وجل، ولذلك نجد اليوم جنوحاً في الأفكار، وشطحاً في العواطف، واختلالاً في التفكير، واضطراباً في المعاملة، كله ناشئ بسبب أن النفس لم تجد بغيتها وحاجتها الغريزية الفطرية في الوقت المناسب، وبالهيئة المناسبة التي شرعها الله عز وجل.
وفي هذا من الفوائد أيضاً تكثير النسل، وتقارب ما بين الأب وأبنائه، فتكثير النسل يمتد مداه طويلاً، كما قال الشافعي: رأيت جدة ولها إحدى وعشرين سنة.
أما الآن فتجد أن عمرها إحدى وعشرون سنة وهي لم تتزوج بعد.
فالجدة التي رآها الشافعي كان لها تسع سنوات فتزوجت وولدت بعد سنة، فكان عمرها عشر سنوات، ثم بعد تسع سنوات تزوجت ابنتها وبعد سنة أخرى ولدت، فكانت الأم قد انتهت من العشرين ودخلت في العام الواحد والعشرين فصارت جدة بذلك، فهذا تكثير للنسل.
وفيه أيضاً أنه يكون هناك قرب بين الأب والأم وبين الأبناء من حيث السن، فلا يكون الفارق كبيراً، فإن الفارق الكبير في بعض الأحيان مؤثر في التربية سلباً، فإنه إذا تزوج وهو كبير يأتي أبناؤه صغاراً، فيكون عنده من العاطفة والشفقة بهم شيء كثير، فيغلب جانب حبهم والعطف عليهم دون أن يكون موجهاً أو مربياً لهم، ويكون فارق التفكير والاهتمامات بين الأب وابنه كبيراً، بينما في غير هذه الصورة في الزواج المبكر يكون على غير هذا النحو والنهج، ثم هذا كله يدلنا على ما كان من التيسير في الأمور دون التعقيد فيها.
فهذه جملة من المواقف التي تتعلق بسيرة عائشة رضي الله عنها، وما لم أذكره أكثر مما ذكرته، وأذكر هنا الكتب والأشرطة في حياة عائشة رضي الله عنها؛ لأن ما ذكرته قد قرأت فيه ترجمة لـ عائشة في (سير أعلام النبلاء) وهو من أجمع وأنفع ما ذكره أهل العلم، وكذلك ترجمتها في (البداية والنهاية) لـ ابن كثير رحمة الله عليه، وكذلك فصل في فضائل عائشة رضي الله عنها من كتاب (فضائل الصحابة) للإمام أحمد رحمة الله عليه، وكذلك كتاب خاص عن عائشة رضي الله عنها بعنوان: (عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين) ضمن سلسلة أعلام المسلمين، وهناك (السمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين) وهناك (الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة) للزركشي، وهناك أيضاً فيما يتعلق بالزواج المبكر رسالة أو كتاب مختصر في مسألة الزواج المبكر والرد على من نفوه، وبيان فوائده وجوازه ومشروعيته للدكتور ملا خليل خاطب وغيرها أيضاً من الكتب، فإن ترجمة عائشة رضي الله عنها واسعة، وفيها كثير من الجوانب.(109/12)
الأسئلة(109/13)
حقيقة رواية هشام بن عروة عن عائشة مباشرة وبواسطة
السؤال
هل روى هشام بن عروة عن عائشة مباشرة أم بواسطة أبيه؟
الجواب
روى عن عائشة مباشرة، وروى عن عائشة بواسطة أبيه.(109/14)
وجه مخالفة عائشة لعمر في مسألة تعذيب الميت ببكاء أهله عليه
السؤال
في مسالة تعذيب الميت ببكاء أهله عليه هل كانت عائشة مصيبة في نفيها قول رسول الله عليه الصلاة والسلام ذلك أم عمر هو المصيب؟
الجواب
لم تنف عائشة قول الرسول، وإنما وَهَّمت عمر بن الخطاب في روايته، ذكرت أن عمر وهم في روايته، وأن تصويب الرواية: (إن الكافر ليعذب ببكاء أهله عليه)، والقول في هذا ما قالته عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
أسأل الله عز وجل أن يكون في عائشة وغيرها من أزواج رسول الله عليه الصلاة والسلام ونساء الصحابة قدوة لنسائنا، وأن نكون أيضاً نحن عاملين على تنشئة أزواجنا وبناتنا وأخواتنا على هذا النهج القويم، وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(109/15)
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها
للكلمة أهمية كبرى، فبها تشتعل الحروب وبها تتوقف، وبها تستحل الفروج، وبها تتفكك الأسر، وبها يتم البيع وينفسخ، وبها يدخل المرء في الإسلام وبها يخرج منه؛ لذلك وضع الإسلام للكلمة ضوابط، بحيث لا تلقى عبثاً دون تأمل لما يترتب عليها من نتائج وآثار، ومن ذلك: تحذيره من إطلاق اللسان في أعراض الناس، والتحدث بما لا ينفع ولا يعني، وغير ذلك.(110/1)
أهمية الكلمة ومعناها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، ونصلي ونسلم على خير خلق الله وخاتم رسل الله نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه، وعلينا وعلى سائر عباد الله الصالحين والدعاة.
أما بعد: فهذا الموضوع عنوانه: الكلمة مسئوليتها وفاعليتها.
والحق أن هذا الموضوع متشعب الجوانب، ويطول الحديث فيه، إلا أن التركيز سيكون على بعض ما أحسب أنه أكثر أهمية، وفي الوقت نفسه أكثر دروجاً واستعمالاً في واقع حياة الأمة المسلمة، وواقع حياة شباب الصحوة والدعوة على وجه الخصوص، وعندما نقول: (الكلمة) فلا نعني بها -قطعاً- الكلمة المفردة، وإنما الكلمة الكلام، كما قال ابن مالك: كلامنا لفظ مفيد كاستقم واسم وفعل ثم حرف الكلم واحده كلمة والقول عم وكلمة بها كلام قد يؤم أي: يقصد بالكلمة الكلام.
وعندما نقول: كلمة الحفل ليست هي كلمة واحدة، وإنما مجموع ذلك القول يقال له: كلمة.
إذاً الكلمة هي كل كلام ينطق أو يكتب.
وللكلمة سبيل لوصولها ونشرها، ألا وهو النطق بها عن طريق اللسان وتستقبلها الآذان، أو الكتابة لها على صفحات الورق وتستقبلها العيون بالقراءة والاطلاع.
وأول ما أبدأ به أهمية الكلمة.
إن الكلمة تكاد تكون كل شيء في حياة الإنسان عموماً، فهي ذات جوانب متعددة في الأهمية: الأمر الأول: إعلان المبادئ والمعتقدات، فالكلمة هي التي تعلن بها إسلامك وإيمانك، كما أنها هي التي يعرف بها كفر الكافرين وجحود الجاحدين، كما قال القائل: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا والألسنة -كما يقال- مغاريف القلوب، هي التي تعبر عما استقر فيها من الإيمان والمعتقدات، ولذلك قال جل وعلا: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26] وكلمة التقوى هنا هي كلمة التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وقال سبحانه وتعالى في شأن المنافقين الذين كفروا وظهر كفرهم على فلتات ألسنتهم في غزوة تبوك: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة:74] فذاك إعلان بإسلام وهذا والعياذ بالله نطق بكفران.
الأمر الثاني: الكلمة يقع بها إبرام العقود والمعاهدات، فأنت إذا أردت أن تبيع وتشتري فعقد ذلك وصحته مبني على النطق بالكلمة، بأن يقول الأول: بعت.
ويقول الآخر: اشتريت.
بل حتى فيما هو أعظم من ذلك من العقود التي وصفها الله عز وجل بأنها غليظة مؤكدة كعقد الزواج، بأن يقول الأول: زوجتك.
ويقول الآخر: قبلت.
فينعقد عقد له أهميته، قال الله جل وعلا فيه: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:21] وبهذه الكلمة أيضاً تعقد وتبرم المعاهدات، كما كان في معاهدات النبي صلى الله عليه وسلم التي أبرمها مع اليهود في أول قدومه المدينة، وكما كان يعقد المعاهدات أيضاً مع قريش كما في صلح الحديبية، وكما هي سائر العقود والمعاهدات التي تبدأ بكلمة كما أنها تنقض بكلمة، فعقد الزواج الذي يقع بالكلمة كذلك يفصل بكلمة الطلاق، فليست الكلمة مجرد أحرف ينطق بها، ولا هي مجرد الصوت الذي يقال فيه: إنه تموج الهواء عند اصطدام جسمين أو تباعدهما، أو اهتزاز الأحبال الصوتية.
بل الكلمة أعمق من ذلك، هي الحكم والعقل والتفكير والإرادة والنظرة المستقبلية التي يعمل التفكير في هذه الجوانب كلها قبل أن ينطق بها، فلا يُعقد عقد ولا يُبرم عهد بمجرد كلام سائب لا خطام له ولا زمام كما يقال.
الأمر الثالث: النطق بالأحكام والاتهامات والتزكيات، فاللسان هو الذي ينطق بالحكم فيقرر الإدانة، أو يعلن البراءة، كما أنه هو الذي يقذف بالتهم التي قد تكون صحيحة وقد تكون باطلة، فهذا يتهم ذاك بسرقة أو زناً، والله جل وعلا قد جعل لذلك حداً إما أن يثبت مثل هذا الجرم، وإما أن يكون قد قذف بغير علم أو بغير بينة، فيكون مؤاخذاً على هذه الكلمة، بل محدوداً عليها كما هو معروف في حد القذف الذي يرمي به الإنسان غيره بتهمة الزنا والفاحشة، نسأل الله عز وجل السلامة، كما أن هذا اللسان وهذه الكلمة هي التي تصف الإنسان بإسلام وإيمان، أو قد يتجاوز الأمر إلى اتهام بتفسيق أو تبديع أو كفر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما) فليست الكلمة أمراً هيناً، بل لها أعظم أهمية في مثل هذا الميدان الخطير.
الأمر الرابع: الخوض في المنهيات والمحرمات، وحسبك أنك قد لا تستطيع أن تحصي آفات اللسان من تدخل فيما لا يعني، ومن فضول كلام، ومن خوض في باطل، ومن كذب وغيبة ونميمة ومراء وجدال ومزاح في غير الحق، وغير ذلك من الأمور التي يطول ذكرها، كلها أيضاً يقع الخوض فيها باللسان نطقاً أو كتابة، أو بالكلمة نطقاً أو كتابة.
الأمر الخامس: اللهج بالأذكار والدعوات، وهذا جانب أيضاً من جوانب الخير والعبادات، فإن أكثر العبادات مبني على النطق بالكلمات، فالصلاة تلاوة للقرآن وترديد للأذكار ونطق بالدعوات، إضافة إلى ذكر الله عز وجل وتلاوة القرآن وغير ذلك، كله أيضاً يكون بهذه الكلمة.
الأمر السادس: نشر الدعوة والتعليم، سواء أكانت هذه الدعوة دعوة خيرة أم غير خيرة، وسواء أكان هذا التعليم نافعاً أو ضاراً، فاللسان والكلمة على وجه الخصوص هي التي تنشر تلك الدعوة أو تروج لذلك العلم، ولذلك كل هذه الجوانب لو تأمل الإنسان فيها لوجد أنها تحيط بمعظم مجريات الحياة ومعظم ما يتعامل به الناس، فإن أمر العقائد والمبادئ، وأمر العقود والمعاهدات، وأمر الأحكام والاتهامات، وأمر المنهيات والمحرمات، والطاعات والعبادات، ثم الدعوة والتعليم يكاد يكون جل -إن لم يكن كل- جوانب الحياة.(110/2)
خصائص اللسان
للسان خصائص كثيرة، ويظهر ذلك في أمور كثيرة، منها: الأمر الأول: اللسان واسع المدى رحب الميدان.
فأنت إذا أردت أن تنال من شخص بيدك فإنه لا يقع لك ذلك إن لم يكن قريباً منك، أو لم تكن متمكناً منه حتى توجعه ضرباً أو غير ذلك، وإذا أردت أيضاً أن تصيبه -على سبيل المثال- بطلقة رصاص فإنه لابد أن يكون شاخصاً أمامك، ولو كان عن بعد لا تستطيع أن تصيبه دون أن تراه، وأية وسيلة من وسائل إلحاق الأذى أو إيصال النفع لا يمكن إلا أن تكون بطريقة مباشرة، سواء كانت مباشرة قريبة لصيقة، أم كانت مباشرة محدودة أو نسبية، بينما اللسان يمكن أن يقوم بكل هذا دون أن يحتاج إلى مثل هذه القيود أو الضوابط، فهو يستطيع أن يبلغ من الآخرين مقتلاً دون أن يراهم، بل ربما دون أن يعرفهم، بل ربما لم يسمع عنهم إلا مرة واحدة، وكذلك يستطيع أن يسوق الخير لإنسان وإن كان بعيداً عنه وإن كان لا يراه، إذ إنه واسع المدى رحب الميدان، لا يحده حد ولا يسده سد كما يقال.
الأمر الثاني: سهولة الاستعمال.
فليس عضو من أعضاء الإنسان أسهل حركة وأيسر استعمالاً من اللسان، إذا أردت أن ترجم بيدك فإن هناك جهداً وعناء، وتحتاج أن تكون في وضع وهيئة معينة، وإذا أردت أن تتحرك وأن تمشي برجلك فلابد أيضاً أن تبذل جهداً وأن تكون في وضعية معينة، أما هذا اللسان فإنك تتكلم به وأنت متكئ، وأنت مضطجع، وأنت واقف، وأنت في سرعة وشغل، وأنت في أية حالة من الأحوال يمكن أن تعبر بهذا اللسان، وأن تستعمله دون جهد أو عناء، وهذا أيضاً دليل على الخصائص التي تكمن فيها خطورة اللسان، إما أن تؤدي إلى مزيد من الخير، وإما أن تؤدي -إذا استخدمت في غير الخير- إلى مزيد من الشر والضرر.
الأمر الثالث: أن اللسان خفي المنال.
فأنت إذا ضربت إنساناً ما فلا يمكن أن تضربه بخفية، بل لابد أن تلامس يدك رأسه أو بطنه، وقد يظهر أثر ذلك أيضاً فَيُشَجُّ رأسه أو يصيبه الأذى المادي المحسوس، ولا يمكن أن تتبرأ من تبعة ذلك الفعل؛ لأن أدلته المادية واضحة شاهدة للعيان، أما اللسان فإنك يمكن أن تلسع به لسعاً ثم تهرب بعد ذلك هروباً يسعفك فيه اللسان نفسه فتقول: لم أقصد كذا، ولم أقل كذا.
وإنما عنيت كذا، وقد تستخدم التلميح دون التصريح، وتستعين بالتورية عن الكذب، وتستطيع أن تبلغ مآرب شتى وأنت تخفي حقيقة ما أردت من الشر، أو تستر حقيقة ما تنوي من الخير، أما غير ذلك فإنه تلحظه العيون، وتلمسه الأيدي، ولا يمكن أن يخفى على الناس، وهذه الخصائص لها أثرها في النفع أو الضرر.(110/3)
مكانة الكلمة وبيان خطورتها وآثارها
عندما رأينا أهمية الكلمة، والخصائص الواسعة والتصرفات المطلقة للسان والكلمة نقف وقفة مهمة أمام رعاية الشرع لأمر الكلمة وضبطه لها، وبيانه لخطورتها.(110/4)
آيات قرآنية وأحاديث نبوية تدل على أهمية الكلمة وخطورتها وآثارها
إذا وقفنا مع بعض النصوص القرآنية والأحاديث النبوية نجد نصوصاً كثيرةً تنبه وتؤكد على تلك الأهمية، وتشير إلى الخطورة وعمق الآثار، كما تنبه إلى أبواب الخير وتحذر من أبواب الشر، وليس ذلك فحسب، بل ستجد في كلام الصحابة والسلف والعلماء، بل في كلام الحكماء، بل في الأمثلة والأشعار كلاماً طويلاً كثيراً في شأن الكلمة واللسان، بسبب تلك الأهمية والخصائص التي أشرت إلى بعض منها، فأنت تعلم قول الله جل وعلا: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء:148] حتى ذكر السوء لا يقال؛ لأن فيه إشاعة للفاحشة وتسهيلاً لها، وترويجاً لذلك السوء أو نشراً لذلك الظلم، أو تهويناً لأمر ما يخبر عنه ويشيع ذكره، ولذلك ذم الله عز وجل الذي يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وتوعدهم بالعذاب، ونهى الله عز وجل عن الاتهام للناس بالوقوع في الزنا ما لم يكن هناك بينة من شهود أربعة يشهدون شهادة واضحة صريحة لا تورية فيها ولا تلميح؛ لأن مجرد ذكر هذا القول يجعل الكلمة تشهر وتروج، ثم يروج من ورائها ما تتضمنه من ذكر الفواحش وتسهيلها على الناس، ولذلك يقول الله عز وجل أيضاً: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:16 - 18] بدأ بذكر الوسواس الذي يجول في الخاطر، ثم حذر الله عز وجل بما أعده من الأسباب الخفية والقدرة الشاملة التي لا تدع شاردة ولا واردة إلا أحصتها.
ثم ذكر أهمية القول والحساب عليه تنبيهاً على خطورته وتأكيداً لأهميته، ويقول الله عز وجل في آية المجادلة محذراً من شأن النجوى والتناجي بالإثم والعدوان: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} [المجادلة:8]، ثم ينادي الله عز وجل أهل الإيمان بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} [المجادلة:9 - 10] لو كانت النجوى التي تسر بها خيراً فما بالك لا تشيعها وتعلن بها؟! وما بالك تذكر أخاك بكلمات هامسة تنال فيها من عرضه أو تشوه صورته؟! إن كان في قولك حق فهو أولى أن تواجهه به في نصيحة خفية قصدها الخير ودافعها المحبة والشفقة.
ثم تأمل حديث سفيان الثقفي الذي أخرجه الترمذي وصححه، وكذا النسائي وابن ماجة، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك.
قال: قل: آمنت بالله ثم استقم، قال: فما أتقي؟ فأومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى لسانه) أي أنه نبهه إلى أن يتقي زلات اللسان وخطورة الكلمات.
وعند الترمذي بسنده -وحسنه- عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: أنه طلب الوصية من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك) وما أعظم هذا الحديث وأجل هذه الوصية! لو أن المسلم تأمل فيها في واقعنا المعاصر فسيجد أكثر الناس بعيدين عنها غير منتبهين لها.
وإمساك اللسان من الأمور الواجبات، وكذلك الضبط والتفكير والعلم الشرعي والورع الإيماني والإدراك الواقعي الذي ربما نعرج عليه إن شاء الله تعالى.
وفي حديث البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من يتكفل لي بما بين لحييه ورجليه أتكفل له بالجنة).
وفي رواية: (من يتوكل لي).
وحديث معاذ المعروف المشهور: (وهل يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم).
وحسبك حديثه عليه الصلاة والسلام تنبيهاً وتحذيراً حيث يقول: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً).
ولذلك جعل ضبط الكلام وجعل الكلمة في مسار الخير مرتبطاً بالإيمان، كما في حديثه عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم والآخر فليقل خيراً أو ليصمت) فالكلمة لها مجرى ولها سبيل، إن غلب على الظن أنها تورث خيراً وإصلاحاً، وتقرب بعيداً وتؤلف نافراً، وتقوي همة في الخير فإن ذلك هو المسار الصحيح، أما إذا تحقق المرء بأن الكلمة التي ينطق بها أو يكتبها تدعو إلى فجور، أو تغري بفاحشة، أو تورث شحناء، أو توقد بغضاً وحقداً وحسداً فإنه مأمور شرعاً بأن يكف عنها، وإن نطق بها أو أجراها كتابة فإنه آثم يلحقه إثمها، كما يلحقه ما يترتب عليها من الأضرار والآثار الوخيمة الوبيلة؛ إذ إن المرء موكول بمنطقه إن خيراً فخير وإن شراً فذاك مما يئول إليه أيضاً.(110/5)
أقوال وأشعار وأمثال تدل على أهمية الكلمة وخطورتها وآثارها
أذكر بعض الأقوال والأمثال والأشعار التي نطق بها مسلمون وغير مسلمين، مما يدل على أن أمر الكلمة عموماً عند بني الإنسان لها هذه الأهمية، لما سبق من الإشارة إلى مجالاتها وخصائصها.
فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول: (والله الذي لا إله إلا هو ما من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان) هذا اللسان قد جعله الله عز وجل أشبه بالمسجون، لكن العقل الذي لا يتدبر والقلب الذي لا يتذكر يطلق اللسان، فإذا به -وإن كان محدوداً في مساحته وفي إطاره- يشرق ويغرب ويؤذي، ويكون أذى اللسان أكثر من أذى السنان كما يقولون.
وهذا ابن وهب يقول: إن في حكمة آل داود مكتوباً: (حق على العاقل أن يكون عارفاً لزمانه، حافظاً للسانه، مقبلاً على شانه).
وعن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه.
** فهماً كاملاً من لم يضبط لسانه ويحفظه.
.
وعن عمر بن عبد العزيز أنه قال: من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه فيما لا يعنيه.
لكن انظر إلى واقعنا اليوم ستجد كلاماً طويلاً عريضاً، وادعاء هائلاً، وعملاً قليلاً، وحقيقة باهتة، لا تعدو أن يكون نسبتها إلى ذلك الكلام كنسبة القطرة إلى البحر إلا من رحم الله عز وجل.
وعن بعض الحكماء أنه قال: الصمت يجمع للرجل فضيلتين: السلامة في دينه، والفهم عند صاحبه.
فالذي يتكلم كثيراً لا يستطيع أن يفهم إلا قليلاً، وكما يقال: الجوارح تتوزع عليها المهام، فإذا اشتغل اللسان كثيراً يكون ذلك على حساب العقل والفطنة، وإذا امتلأ البطن بالطعام صار الحال كما قيل: إذا امتلأت البطنة ذهبت الفطنة.
وهكذا عندما تركز البصر في أمر ما فإنك تجد أن سمعك لم يعد مدركاً، وعندما يجول خاطرك في قضية ما فإنك قد لا تسمع أو قد لا تبصر من مر بك؛ لأن الحواس إذا تركزت في جانب ربما يقل إدراك واستيعاب الحواس الأخرى لها.
وعن منح بن عبيدة أنه قال: ما من الناس أحد يكون منه لسانه على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله.
وعن بعض أهل الحكمة أنه قال: أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت.
لأنك إذا قلت الكلمة فمن الصعب عليك أن تردها؛ لأنه قد يمنعك من ذلك كبر، وقد يمنعك من ذلك أن من سمعها منك قد شرقوا وغربوا وتفرقوا، فلا تستطيع أن تنسخ تلك القولة عند كل أحد، وأما إذا لم تقلها فإنها ما زالت تحت سيطرتك تفكر فيها وتتأمل في مراميها ثم تخرجها عن بصيرة وعلم.
ولذلك قال الآخر: إذا تكلمت بكلمة ملكتني ولم أملكها، وإذا لم أتكلم بها ملكتها ولم تملكني.
وقال الشاعر أيضاً: خل جنبيك لرام وامض عنه بسلام مت بداء الصمت خير لك من داء الكلام وفي كثير من الأمثال ما يدل على عمق وأثر هذه الكلمة، كما في بعض الأمثال: (رب كلمة قالت لصاحبها دعني).
أي: اتركني ولا تنطق بي؛ فإنك لا تدري ما أجر عليك من البلاء والوباء إذ لم تراع الله عز وجل في نطقي، أو لم تنتبه إلى ما يترتب على نطقي أو إشاعتي من خطر وزلل.
وكما قال قائل: إن الحرب أولها كلام.
وهذا كما وقع في قصة داحس والغبراء من نشوب حرب دامت سنوات بسبب موقف، ثم كلمة من هنا وكلمة من هنا وإذا بأرواح تزهق ودماء تجري وبيوت تهدم وديار تحرق، وهكذا، فعلى المرء أن لا يغفل عن هذه الخطورة.
يقول بعض المعاصرين: إن الكلمات الجميلة تؤدي إلى معان ونتائج طيبة تحتاج إلى التأمل، وتؤدي أيضاً إلى مزيد من تأكيد أهمية وخطورة الكلمة.
أما الكلمات السائبة فإنها تؤدي إلى نتائج خائبة، وهذه معادلة صحيحة، أي أن الكلمات السائبة التي لا اهتمام بها ولا ضبط لها فإنها في غالب الأمر تؤدي إلى نتائج خائبة.
ومخرج كلمة الخير والشر واحد والمفتاح بيدك، فتأمل ماذا تقول.
ومن لم يستطع وزن كلماته فليحتمل من خصمه لكماته، وهذه أيضاً واقعة، إذ قد يخطئ المرء بكلمة لا تجد عند الآخر محملاً فتكون اللكمة أسبق إليه من الكلمة.
يقول قائل: العاقل العالم لسانه وراء عقله، والجاهل عقله وراء لسانه، تراه لا يفكر إلا بعد أن ينطق بالكلمة وقد مضى القول وانتهى الأمر.
والكلمة البانية لا يستطيعها صاحب الكلمة النابية، فمن تعود على فحش القول وإشاعته، فإن كلامه في الغالب لا يوافقه، أو لا يتفق أن يكون كلاماً بانياً.(110/6)
فاعلية الكلمة وأوجهها
بعد أن ذكرنا مسئولية الكلمة وأهميتها وخصائصها وخطورتها نذكر بعد ذلك فاعلية الكلمة، وسنذكر لفاعلية الكلمة عدة أوجه.(110/7)
أولاً: القبول والتصديق
الكلمة تنطق بها وتكتبها فتجد من يقبلها ويصدقها، وقد يساعد على ذلك أمور، منها: الصلة والثقة، فإذا كنت موضع ثقة عند السامعين لك فإن كل كلمة تقولها يأخذونها مأخذ القبول والتصديق، ويعتبرونها مسلمة ويبنون عليها تصرفات وأحكاماً إلى غير ذلك.
ومن أساليب الوصول إلى القبول والتصديق: التركيز والتكرار، وهذا ما تستخدمه وسائل الإعلام، فمع طلوع الفجر تذكر الخبر، وعند الظهيرة تؤكده، وعند العصر تردده، ثم تصوره، حتى يصدق الناس ما كان كذباً من الأخبار، وكما يقول بعض الناس -وهي مقالة باطلة، لكن لنا في الواقع بعض الشواهد الناطقة-: اكذب واكذب حتى يصدقك الناس.
وكما نسمع في الطرفة الدائمة أن أشعب دعا الناس إلى وليمة كاذبة، فكان كلما لقي واحداً قال له: العشاء عند فلان.
فتناقل الناس الخبر، وصار هو يسمع ما يتناقله الناس من أن العشاء عند فلان، فقال: لعل الخبر صحيح.
فذهب مع الناس.
وهكذا الكلمة عندما تترد وتتكرر وتتنوع أساليبها وتغزو عقول الناس فإنهم يقبلونها ويصدقونها، بل تكاد الكلمة عبر وسائل الإعلام أن تحاصر الإنسان محاصرة، فهي تغزوه من جهة النظر، وتغزوه من جهة السمع، فغزوه من جهة النظر عبر القراءة وعبر المشاهدة، ومن جهة السمع عبر الإذاعة وعبر وسائل أخرى متنوعة من شريط وبث مباشر وغير مباشر، فيقع للكلمة فاعليتها الخطيرة.
ولذلك نبه النبي صلى الله عليه وسلم على خطورة الكلمة التي تنتشر وتذاع لكثير من الناس دون الكلمة التي تخص؛ لأنك لو قلت كلمة لفرد واحد وأخطأت فيها فإن الأمر هين وميسور، ويمكن أن يصحح الخطأ، لكن الكلمة التي تنتشر وتذاع وتعم الآفاق في بضع ساعات، بل ربما في بضع دقائق، بل ربما في بضع ثوان هذه كلمة خطيرة.
فمن هذا ما ورد في صحيح البخاري عن النبي عليه الصلاة والسلام: أنه رأى في رحلته إلى السماوات العلا رجلاً يوضع في شدقيه كلاليب من نار، يشق بها شدقه الأيمن من أوله إلى آخره، ثم يشق بها شدقه الأيسر فيعود الأيمن كما كان، ثم يشق مرة أخرى ويلتئم من جديد، وهكذا، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عن هذا الرجل قال: هو الرجل يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق، ولذلك تأتي الخطورة والفاعلية من هذا الجانب.(110/8)
ثانيا: التفاعل بالمشاعر
عندما يقبل الناس ويصدقون الكلمة يبدأ تفاعل الكلمة في مشاعرهم وعواطفهم، فإذا بهم يبغضون ويكرهون، أو يحبون ويميلون، فأنت إذا سمعت كلمة تأتي من إنسان ما أو من بلد ما أو من كتاب ما، وهذه الكلمة وصفت لك فعلاً وصفاً محبباً وجميلاً فإنها تجعل هذا الفعل أحب إليك من الماء البارد على الظمأ الشديد، وقد تكون هذه الكلمة نفسها تصف لك هذا الفعل وصفاً شائناً منفراً، مما يجعلك تقول: يا ليت بيني وبينه بعد المشرقين وبعد المغربين فليست القضية مجرد قبول وتصديق، فإذا قبلت وصدقت فإن ذلك يبدأ تفاعله في مشاعرك، فتقبل على الأمر فعلاً أو تركاً.
وهذا له أثره أيضاً، وإن كان هذا الأثر مهماً والفاعلية خطيرة، لكنها دون التي بعدها، وهي التأثير بالفعل المباشر، ليست المسألة مسألة مشاعر، فأنت قد تبغض الفعل الذي بغض إليك، لكنك لا تملك حولاً ولا قولاً، لكن ما بالك عندما تأتي الكلمة وتُقَبلُ وتُصَدقُ ثم تخلص إلى المشاعر عند من يملك أن يؤثر تأثيراً مباشراً، فإذا بتقرير يحتوي على كلمات لها دلالات معينة، وعمق يؤدي إلى نتائج ينبني عليها تأثير مباشر من إلحاق ضرر أو أخذ مال أو خراب بيت، إلى غير ذلك من الأساليب.
وهكذا قد تجد فيما يتعلق بالجوانب غير الإسلامية في وسائل الإعلام أن هناك تشويهاً عبر الكلمة يحصل به بلاء عظيم وشر مستطير، ليس بمجرد مشاعر ولا كلمات، بل بأفعال خطيرة تؤدي إلى تغيير في مسار حياة أفراد كثيرين وأسر كثيرة، بل تؤدي إلى انحراف شامل يشمل المجتمع كله.(110/9)
ثالثاً: قلب الحقائق
عندما يكون الأمر مقصوراً على أفراد بأعيانهم فإن الأمر سهل، لكن هذا التكثيف ورواج الكلمة يقلب الحقائق، ويحصل تلاعب بالأسماء والمسميات، فيروج عند الناس شر ويصبح خيراً، ويشيع بينهم باطل على أنه حق، ويقرون منكراً على أنه معروف، وتنتكس الموازين من خلال الكلمة التي -كما نرى اليوم تسمي- الدعارة فناً، وتسمي الربا فائدة واستثماراً، وتسمي الفجور والفسق حضارة وتقدماً، وتسمي الكذب والخداع شطارة ومهارة، إلى غير ذلك.
عندما تمارس الكلمة صداها ودويها بين الناس، وتقبل وتصدق وينفعل بها الناس، ويرون لها تأثيراً مباشراً في الأفعال التي تقر إذا بالمجتمعات الإسلامية تعظم أصحاب الفن، وأصحاب الكرة، وأصحاب الأقلام من مفكرين أو مبدعين، مع كونهم لا يخدمون ولا ينصرون الإسلام، بل ولا الفضائل.
إذاً أصبح الأمر لم يعد مجرد كلمة، بل الكلمة ومعها صورتها التطبيقية العملية، فتنغرس المفاهيم الخاطئة والمعكوسة في حياة الناس.(110/10)
رابعاً: شيوع النفاق
عندما تحصل كل هذه الفعاليات والتأثيرات يحصل عند الناس نفاق، هذا إذا لم تنقلب عندهم الحقائق وأنكروها بقلوبهم، لكنهم كما نقول في تعبير عامي: (مع السيل يا شقرى)، فما دام هؤلاء يمدحون بالألسن والأقلام، وما دام هذا -كما يقال-: يؤكل به العيش ويسلم به الإنسان، إذاً فليكن هذا هو ميدان الكلمة شعراً ونثراً، نطقاً وكتابة، وهذا يجعل الناس يأنفون من الحق الصريح، يجفلون من الكلمة الصادقة، ولا تكون مقبولة فيما بينهم، ولا يعود أصحابها أصحاب مكانة وعزة، بل على العكس من ذلك، فمن يقول كلمة الحق اليوم يقولون له: أنت لا تعرف كيف تسير الحياة، لا تعرف كيف تورد الإبل، لا تعرف من أين تؤكل الكتف؛ لأن الحياة انطبعت بعد كل هذه الآثار بطابع النفاق الذي يظهر ما لا يبطن، والذي يوافق المسيرة وإن كانت خاطئة.(110/11)
أسباب جنوح الكلمة عن مسارها الصحيح
تأمل أيها الأخ فاعلية الكلمة في هذه الميادين، لتدرك أن لهذه الكلمة خطورة لا يمكن أن يستهان بها مطلقاً، وإذا أردنا أن نوضح أكثر وأكثر فإننا ننتقل إلى الأسباب التي تنحرف بها الكلمة، لماذا لا تكون الكلمة صادقة وخالصة وجريئة وقوية؟! ولماذا لا تكون أيضاً حكيمة وواعية تؤدي أثرها في مراعاة من يسمعها، ومراعاة الظرف المحيط، ومراعاة المستوى العقلي كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام وفقه منه الصحابة ذلك، فقال ابن مسعود: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة).
وكما في صحيح البخاري عن علي رضي الله عنه أنه قال: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!).
لماذا تجنح الكلمة عن المسار الصحيح في صدقها وأصالتها، وفي أسلوبها وحكمتها؟! هناك أسباب كثيرة منها:(110/12)
السبب الأول: الجهل
إنه الآفة العظمى التي يقع بها كثير من البلاء؛ لأن الكلمة الخاطئة أساسها الجهالة العمياء، جهل بالشرع، وجهل بالواقع، وجهل بالآثار المترتبة على الكلمة، فإن بعض الذين يفتون بغير علم، وإن الذين يقولون أقوالاً ينصرون فيها أعداء الله على أولياء الله كثير منهم جهال، لم يعرفوا الحكم الشرعي في مثل هذا الأمر، ولم يعرفوا الضوابط والمصالح الشرعية في هذه القضايا، ولذلك آفة الأخبار نقلتها من الجهلة، فربما يفتي العالم بالفتيا الصحيحة، فإذا بها ينقلها عنه جهلة يخطئون فيها، وينسبون الخطأ للعالم، فلا تبقى الفتوى صحيحة ولا العالم عالماً، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم مغبة وخطورة ذلك فيما يقع في آخر الزمان، عندما أخبر -كما في صحيح البخاري - عن أحداث آخر الزمان فقال: (يقل العلم، ويكثر الهرج.
قالوا: وما الهرج؟ قال: القتل) فقلة العلم شيوع للكلمة الخاطئة الجانحة في صوابها -أي: من حيث الحكم الصحيح- وفي أسلوبها من حيث الوضع والأسلوب الصحيح، وكم في حديث وهدي النبي عليه الصلاة والسلام من بيان لضرورة ضبط الكلمة، بل في كتاب الله عز وجل تحذير خطير لهذا: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل:116] فهذا النطق ليس أمراً هيناً، بل لابد أن يئول إلى علم صحيح غزير، ولذلك كان العلماء يتدارءون الفتوى فيما بينهم، والجهلاء يتسابقون عليها، وحسبك أن الصحابة كانوا يتدارءون الفتوى فيما بينهم حتى تعود إلى الأول منهم، كما روى بعض التابعين حيث قال: (ربما رأيت الفتوى تعرض على المائة من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام كلهم يدرأ بها عن نفسه ويلقي بها على أخيه).
فالعلم هو أحكم ضابط وأعظم مشعل ينير الطريق للكلمة الصحيحة الصادقة الحكيمة.(110/13)
السبب الثاني: التسرع
يقول المثل: في العجلة الندامة وفي التأني السلامة فالتسرع قد يكون عند المرء، فتجد الواحد يتسرع إما لرد فعل، كما لو أخطأ عليه شخص فتراه يرد الخطأ مضاعفاً، أو كما لو استفزه مستفز فتراه يخرج عن طوره وطوعه، ويخرجه غضبه عن إصابة الحق إلى الوقوع في الباطل، ولذلك أُثر عن عمر بن عبد العزيز في وصف المؤمن أنه قال: المؤمن من إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل، وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق.
فالمؤمن فيه سكينة إيمانية أسَّسها عنده ذلك العلم الشرعي، والفقه والورع الإيماني، فليس هو الذي يتسرع فتنطلق الكلمة منه ويعقبها ندم وحسرة قد لا يجديان ولا ينفعان، فالتسرع إذاً من هذه الأسباب.(110/14)
السبب الثالث: الانطباع على كثرة الكلام وعدم استشعار المسئولية
بعض الناس لا يرتاح لسانه إلا إذا نام، أما إذا كان مستيقظاً فلابد أن يتكلم كلاماً نافعاً أو ضاراً، محتاجاً إليه أو غير محتاج إليه، طلب منه أولم يطلب منه، فتجد بعض الناس لا يكون في مجلس إلا ويستأثر بالكلام، فإذا به يخبر عما سلف من أيامه وعن حياته، ويعلم الناس بما وقع له في حله وترحاله، وما أكل في الصباح وما ينوي أن يأكله بالمساء، كأن الناس منشغلون به ومهتمون بحاله أو منتفعون بمقاله، وهؤلاء هم صنف الثقلاء، الذين يثقلون على الناس بكثرة كلامهم وجلوسهم وغلظ أسلوبهم، وقد كان بعض السلف يستثقلهم، وكان من مشاهير هؤلاء الذين يستثقلون الثقلاء الأوزاعي وهو من التابعين، وله في ذلك لطائف وطرائف كثيرة منها: أنه رئي مرة وهو يسير بين ثقيلين فقيل له: كيف الحال؟ فقال: الروح في النزع.
أي: بلغت روحه الحلقوم.(110/15)
السبب الرابع: الهوى
الهوى الذي يهوي بصاحبه، فيجعله يطلق الكلمة كالرصاصة القاتلة، أو كضربة السيف القاصمة، يهوى ويحب فيوافق حتى في الباطل، كما هو لسان ذلك المحب العاشق يقول: يميناً إذا كانت يميناً وإن تكن شمالاً ينازعني الهوى عن شماليا فهو دائماً وأبداً موافق لهواه: والهوى في الوقت نفسه قد يكون لوناً آخر من بغض أو حسد، أو من نفرة وجفاء، فيئول بصاحبه إلى أن يستخدم الكلمة في غير موضعها، فيغتاب أو يسعى بنميمة أو يشوه سيرة أخيه المسلم، أو يطعن في عرضه أو غير ذلك من الصور التي ليس لها دافع، فهو يعلم علم اليقين أن هذا باطل، وقد حذر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه من الغيبة، وقال لهم: (الغيبة: ذكرك أخاك بما يكره.
فقالوا: يا رسول الله! أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) فهذا بهتان أعلى من الغيبة، فأنت تجد من يعلم أن هذا القول غير صحيح في فلان من الناس، وهو يعلم أن هذا القول لو كان صحيحاً فإن الشرع يمنع منه، ويعصم لسان المؤمن أن يغتاب أخاه، وأن يكشف عورته، وأن يهتك ستره، بل يأمره بأن يستر عليه وبأن يوري عنه، وأن يسعى له بنصيحة مخلصة بطريقة حكيمة، ومع كل ذلك يعمى بصره وتعمى بصيرته عن كل هذه المعالم، ويقوده الهوى في تياره الجارف وطغيانه الجانح وموجه الذي يكتسح كل شيء، ليس له هم إلا أن ينال من ذلك الذي نفر منه أو حسده لأمر ما أو لآخر، وحسبك أنك تجد هذا ليس بين أهل الدنيا، بل أيضاً بين أهل الدين، وحسبك تحذيراً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم وسوء ذات البين، فإنها الحالقة، أما إني لا أقول: تحلق الشعر.
ولكن تحلق الدين) فكيف بك تغتاب وأنت تعلم حكم الغيبة وأنها في أعلى مراتب الحرمة بنص كتاب الله، وفي أبشع الصور المنفرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12] وتتجاوز كل هذا، إذاً سيئول بك الحال إلى أن تستهين بكلام الله وبشرعه وحكمه، وبهدي رسول الله عليه الصلاة والسلام وسنته وإرشاده، وسيئول بك الحال إلى الفجور في الخصومة، فتنال صفة من صفات النفاق تنقص بها شيئاً من إيمانك، ثم لا يسلم بك الحال إذا تماديت في الهوى أن تخرج عن إطار مهم جداً، فتتجاوز الأمر إلى تكفير قد تقع مغبته عليك، نسأل الله عز وجل السلامة، فأمر الهوى أمر خطير جداً.(110/16)
السبب الخامس: ابتغاء الدنيا وابتغاء المصالح الذاتية والمنافع الشخصية
المصلحة التي تشترى بها الكلمة وتباع هي -للأسف- عند ضعاف النفوس وأراذل الناس، وإن كان بعضهم ينتسب إلى أهل العلم وليس هو منهم، تباع الفتوى وتشترى بعرض من الدنيا قليل.
إذاً من أهم أسباب انحراف الكلمة عن مسارها الصحيح ابتغاء الدنيا وابتغاء المصالح الذاتية والمنافع الشخصية، ألا ترى أقلاماً تتحرك بالباطل ليلاً ونهاراً لأنها تأخذ أجر ذلك درهماً وديناراً؟! ألا ترى من يزينون الباطل ويزخرفونه وهم يعلمون وباله وضرره، لا لشيء إلا لما يملأ جيوبهم من الأموال؟! ألا ترى كم يسعى بعض أولئك إلى اتهام وانتقاص واعتداء على أخيار وأبرار، لا لشيء إلا لما يأملون من هذه الملذات والشهوات؟! وحبسك أن الأمر لا يعدو كلمة واحدة أو مقالة واحدة، بل في دنيا الناس اليوم إعلام كامل مستأجر، صحف كاملة تشترى وتباع، إذاعات كاملة تهب نفسها لتكون بوقاً تسعى في ركاب أهل البغي والظلم والطغيان، وتوافق على كل شي، وتمشي مؤيدة لكل باطل، كل ذلك لأجل تلك المصلحة.(110/17)
السبب السادس: الخوف وحب السلامة
حب السلامة يثني عزم صاحبه عن المعالي ويغري المرء بالكسل المؤمن الصادق لا يخشى في الله لومة لائم، لا يعني ذلك أن يكون متهوراً، بل هو أولى الناس بالحكمة، لكن لا يذل نفسه، ولا يبيع مبدأه ولا يغير منهجه، ولا يساوم في دينه بحال من الأحوال.
وحسبك عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، الذي أعطى الكلمة ثمنها وقيمتها العظمى عندما ساومه ملك الروم وهو في الأسر على أن يعطى نصف الملك أو أن يعطى الملك كله في مقابل كلمة كفر، ثم إن ملك الروم أخرج أسيرين من المسلمين واحداً إثر واحد وغمسهما في زيت مغلي، يدخل أحدهما لحماً ويخرج عظماً أمام عيني عبد الله بن حذافة السهمي، ليخاف ويؤثر السلامة ويعطي الدنية في دينه، ويخرج الكلمة الذليلة التي يأباها قلب المؤمن الحر، فلم يرض بذلك، حتى كان مقابل الكلمة أو الموقف مصلحة المسلمين دون تغيير في مبدأ ولا مساومة على دين فأعطاها، فقال عمر رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة.
وقام عمر -وهو من هو- وقبل رأسه أول الناس.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام حديثاً عظيماً جليلاً، قال: (أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) كلمة حق عند سلطان جائر، لم يخش قائلها السيوف المصلتة، ولا المصير المظلم، ولا السجون المنتظرة، ولا السياط الملتهبة، بل إنه ينظر إلى الحق الذي يرفعه، وما أعظم موقف الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه عندما قدر الكلمة والموقف، فجاءه من جاءه من أصحابه يسهل عليه أن يقول كلاماً يسلم به ولا يسلم دينه، وقال له: إن لك أبناء وإن لك عيالاً وكذا.
فقال له: إن كان هذا عقلك فاسترح.
وجاءه آخر فقال له نحو ذلك القول، فقال له: انظر إلى من وراءك.
فنظر فإذا الجماهير الغفيرة كل واحد آخذ دواته وقلمه يريد أن يكتب كلمة ابن حنبل ويأخذ بها.
فقدر هذا الموقف ولم ترهبه السياط ولا الوعد ولا الوعيد، وانظر إلى ذلك العالم من علماء سلف هذه الأمة عندما كان يجرى له عطاء من بيت مال المسلمين، وهو يحدث الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءت الفتنة امتنع عن موافقة الباطل، فقال له الخليفة: إذن نقطع عنك جرايتك.
فأخذ بزر قميصه فخلعه، وقال: ما دنياكم التي تحرصون عليها إلا كمثل زري هذا.
قال بهذا الكلام في وجه الخليفة، هنا يكون للكلمة قيمتها وللموقف أثره، ولذلك علق الخطابي على حديث: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) فقال: إنما كان هذا أفضل الجهاد لأن من جاهد العدو كان على أمل من الظفر بعدوه.
ثم قال: ولا يتيقن العجز عنه؛ لأنه لا يعلم يقيناً أنه مغلوب.
وهذا الذي يقول كلمة الحق عند السلطان الجائر يعلم أن يد السلطان أقوى من يده، فصارت المثوبة فيه على قدر عظم المئونة.
ثم قال الخطابي معلقاً أيضاً: ليت شعري من الذي يدخل اليوم على الملوك الجائرين والسلاطين الباغين فلا يصدقهم على كذبهم؟! ومن الذي يتكلم بالعدل إذا شهد مجالسهم؟! ومن الذي ينتصح منهم إن نصحوا؟! إذاً اجتنابهم هو أسلم لك -يا أخي- في هذا الزمان، وأحوط لدينك أن تقل من مخالطتهم وغشيان أبوابهم، ونسأل الله الغنى عنهم والتوفيق لهم.
هذا في زمان الخطابي، وهو متوفى في القرن الرابع الهجري، فكيف وقد فشا في كثير من بلاد الإسلام جور وظلم، بل حكم بغير شرع الله عز وجل؟! وذكر أيضاً عن بعض الحكماء أنه قال: إن الذي يحدث للسلاطين التيه في أنفسهم والإعجاب بآرائهم كثرة ما يسمعونه من ثناء الناس عليهم، ولو أنهم أنصفوهم فصدقوهم على أنفسهم لأبصروا الحق، ولم يخف عليهم شيء من أمورهم.
ولذلك قال صاحب الظلال في شأن فرعون: كيف يمكن لفرعون واحد في الأمة أن يتحكم في مصائرهم؟! قال: ليس هذا من فعله، ولكنها الأعناق مدت له فجر، والظهور حنيت له فركب، وأسعفه من حوله من أهل الملأ ووافقوه على مقالته: لا أريكم إلا ما أرى.
وهكذا تأتي هذه الكلمة في موضعها فتكون من أفضل الجهاد، فإذاً: من الأسباب التي تمنع من الكلمة الصادقة وتحرفها عن مسارها الخوف وطلب السلامة.(110/18)
ممارسات وصور عملية غير إسلامية تصرف الكلمة عن مسارها الصحيح
أنتقل في آخر الأمر إلى الممارسات والصور العملية لهذا الانحراف للكلمة عن مسارها الصحيح.
فلعلي أقسِّم هذه الصور إلى قسمين: صور إسلامية، وصور غير إسلامية، والصور غير الإسلامية تصدر ممن لا ينصرون الدين ولا يشهرون رايته، وتجد ذلك في صور شتى: أولاً: الصمت عن الحق، ولذلك الساكت عن الحق شيطان أخرس، فأنت تجد كثيراً من الصحف والمجلات تنادي زوراً وبهتاناً بحقوق الإنسان وبالعدالة وبالديمقراطية وغير ذلك، بينما تغض الطرف وتكسر الأقلام وتكمم الأفواه عندما يكون هناك أمر متعلق بالمسلمين، فلتجر الدماء سيولاً ولتزهق الأرواح بالآلاف في البوسنة والهرسك ولا شيء في ذلك، ولتنتهك حقوق الدعاة والعلماء في كثير من بلاد الإسلام، ومع ذلك تصدر الصحف في بلاد المسلمين صباح مساء ليس فيها حتى إشارة، وإنما تجد فيها إثارة وتعدياً واستعداءً وتهييجاً للعقول وصرفها عن إدراك مثل هذه المخاطر، والأمر في هذا بين واضح، وفي المقابل فتجد أن إذاعات الكفر أحياناً تخبر بكثير من الوقائع والفضائع التي تحصل للمسلمين، وحسب ذلك بعداً للكلمة الحرة الصادقة، وحسبه أيضاً إهانة للكلمة التي لا تستطيع أن تكون عادلة فتذكر الأمر في كلا الأمرين.
ثانياً: التشويه لصورة المسلمين والدعاة، بل لصورة الإسلام نفسه، فلم تعد اليوم حملات الكلمات الجائرة مقصورة على من يسمونهم الأصوليين أو المتطرفين أو الإرهابيين، بل صارت تتناول شرائع الإسلام وأحكامه، بل تتناول أعلامه التاريخيين من السلف رضوان الله عليهم تندراً بهم واستهزاء، بل -عياذاً بالله- تجد كثيراً من المجلات التي تنطق بألسنتنا قد تناولت شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض التهكم والسخرية، بما يكون صاحبه إن اعتقده كافراً لا شك في كفره، هذه الصورة التي نسمعها ونقرؤها تجدها قد غلبت على كثير من الكلمات المسموعة والمقروءة إلا ما رحم الله عز وجل، وإذا بحثت عن الكلمة الصادقة في ركام هذه الكلمات الكاذبة فلا تجدها، والله المستعان.
ثالثاً: الترويج للفسق والفجور، والدعوة إلى الشهوات والملذات الآثمة، فأنت ترى سيلاً من الكلام والترويج للفن بألفاظ فجة جارحة للحياء العام، ومع ذلك تنشر مع الصور ومع غيرها، وتجعل الكلمة مسخرة للدعوة للرذيلة نسأل الله عز وجل السلامة، وتجد القصة التي تدعو إلى الآثام وإلى الحب والغرام والهيام، وتجد القصيدة الماجنة المفسدة، وتجد الأغنية بما فيها من كلمات وميوعة.
إذاً لم تعد في هذه الكلمات إلا ممارسات غير إسلامية تدعو إلى مثل هذا الأمر.
رابعاً: التشتيت في الفراغ.
بمعنى أن الكلمة وإن لم تمارس ذلك الانحراف لكنها لا تقدم شيئاً نافعاً، وإنما تذكر لنا خبراً عن أطول (سندويتش) في العالم، وعن ذلك الذي أطال شاربه حتى صار طوله كذا سنتيمتراً، وأخباراً تافهة ومعلومات سخيفة، وتشويشاً من هنا وهناك، حتى لا يمكن أن تنتفع بكلمة، فربما تنقل الكتاب كاملاً أحياناً -سيما الكتب الحديثة التي ذكر الطنطاوي أنها مشتقة من الحدث الذي يجب الوضوء أو الغسل منه- فتجد كلاماً فراغاً وهذراً لاغياً يفسد القلوب ويفسد الأفكار، ويضيع الأوقات ويحجب الناس عن أن يقضوا وقتهم في الكلمة النافعة الصادقة.(110/19)
ممارسات تصرف الكلمة عن مسارها الصحيح بين المسلمين
ننتقل إلى صور بين المسلمين، بل ربما بين بعض الخيرين من شباب الصحوة والدعوة، فإن هناك صوراً غير حميدة أدت إلى انحراف الكلمة عن مسارها وعن حكمتها وأسلوبها، وهي أيضاً ممارسات كثيرة أذكر بعض صورها.(110/20)
المبالغات في المدح والذم
يعجب المرء حقيقة من المبالغات التي تدل على نوع من الخفة وسذاجة التصور، أو تدل أحياناً على نوع من الغش للآخرين، فإنك تسمع مبالغة فجة لا تقبلها العقول السليمة، فإن هناك من يقول: ألم تسمع محاضرة كذا وكذا؟ لا يمكن أن تسمع في حياتك مثلها لا قبلها ولا بعدها.
أو كتاب كذا؟ لا يمكن أن يكون هناك أفضل منه على الإطلاق، وكذلك لا يمكن أن تجد أعلم في العالم كله من فلان أو فلان.
وغير هذا من الإطلاقات، أما فلان فكذا وكذا، أما الأمر الفلاني فهو كذا وكذا، وفي المقابل أيضاً ذم مطلق.
إن الإطلاق العام يدل على عدم البصيرة والوعي والعلم، مع أن الإسلام دعا إلى التثبت والانضباط، حتى في الأمور التي تتعلق بالكفرة من يهود أو نصارى نجد الاستثناء فيها وارداً، كما في قصة يعقوب عليه السلام قال: {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف:66] مع أنه قد كان مجروحاً مكلوماً في نفسه، ومع أنه قد سلفت له معهم تجربة، لكنه قال: {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف:66] أما الإطلاقات العامة التي ليس لها ضابط ولا حد ولا قيد فاعلم أنها من خطأ اللسان ومن خطأ الكلمة؛ إذ لابد من وضع الأمور في نصابها، وهذه المبالغات تفقد الناس القدرة على التمييز، فيتعودون على التهويل، فما يقبل أبداً الكلام المعتدل المتزن، فتقول -مثلاً-: فلان له كتاب جيد فيعتبر هذا الكلام ليس تزكية، وليس إشارة إلى الفائدة التي فيه إن لم تقل عنه: إنه جيد في غاية الجودة ونافع في غاية النفع وكذا.
فإنه لا يدرك من كلامك أنك أعطيته تقويماً تريد منه أن ينتفع به؛ لأنه تعود على مثل هذه المبالغات، وكذلك لو قلت له: فلان تقي.
وحسبك بهذه الكلمة تزكية، لكنها لا تكفيه، لابد من أن تقول له: إنه أتقى الأتقياء، وما رأيت أعبد منه، وما وقعت العين على مثله.
وكذا وكذا من هذه الأمور التي قد قالها بعض أهل العلم في أئمة أجلاء كبار، ومع ذلك نقدوهم وذكروا مما يظنونه خطأً في أقوالهم، كما قال الذهبي: ما رأت عيني مثل ابن تيمية رحمة الله عليه، ولا رأى مثل نفسه.
ومع ذلك فقد كتب رسالة مطولة ذكر فيها بعض ما رأى من المسائل مخالفاً فيه رأي شيخه، لكن هذه المبالغات -سيما في جانب التزكيات- تحدث هذا الاضطراب بين الشباب، كما أنها أيضاً تحدث أحياناً غشاً، فإنك عندما تبالغ تعطي صورة غير صادقة فينخدع بها غيرك، وقد تكون قلتها عن عاطفة، لكن هذه العاطفة لا تكفي مبرراً ومسوغاً لعدم ضبط هذه الكلمات.(110/21)
الطعن والقدح
لا شك أننا نعرف ونسمع عن بعض الشباب الذين ليس لهم هم إلا قوائم الطعن والجرح التي يصنفون فيها الأسماء ويصنفون فيها الرتب من تفسيق أو تبديع أو تكفير، ثم يسجلون فيها المقالات والكلمات بتتبع وتقص مقصده الوقوف على الأخطاء، ثم يشغلون بذلك ليلهم ونهارهم، ويجعلون ذلك ديدنهم في حلهم وترحالهم، بل يبذلون في ذلك أموالهم، بل يرحلون فيه من مدينة إلى أخرى، وما ثمة عند هؤلاء وقفة مع تذكر لحرمة المسلم في ماله وعرضه ونفسه، وما ثمة مراعاة للذم والوعيد الشديد لأهل الغيبة والنميمة، ولا شيء من ذلك، وهذا الأمر يدل على قسوة في القلوب وتبلد في الإحساس وعمىً في البصيرة، نسأل الله عز وجل السلامة.
وهؤلاء أيضاً قد سلم منهم الأعداء؛ لأن جهدهم قد صب في نقد وجرح وثلم وإسقاط الأخيار من الصلحاء والدعاة والعلماء، وهذا المسلك مسلك شيطاني؛ لأنه باسم الدين أو بلسان الدعوة، ولأنه يهدم في هذا الدين ويقوض بنيان الدعوة، إذ يقول: الحق أحق أن يتبع، ولابد من تعرية الباطل، ولابد من كشف الخطأ.
وغير ذلك من الأوهام التي ما سلفت في سلف الأمة ولا دلت عليها الأدلة، ولا شهد لها فعل النبي عليه الصلاة والسلام، بل كان يقول -كما في سنن أبي داود -: (لا يبلغني أحد عن إخواني شيئاً فإني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر)، وينقض أيضاً الوصية النبوية بالستر على المسلم: (من ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) وكذلك بالتماس الأعذار وحسن الظن مع إبداء النصح، وغير ذلك من الآداب الكثيرة التي لا حصر لها ولا حد في شرع الله عز وجل.(110/22)
إطلاق الأحكام ونقل الكلام دون تثبت
نجد كثرة من الشباب يطلقون الأحكام جزافاً، سواء أكانت في الفتيا أم كانت في الحكم على الناس، فأحدهم يحكم على أهل بلد كامل بأنهم مبتدعة، وآخر يحكم على أهل محلة أخرى بأنهم فسقة، وهكذا يطلق الأحكام الدقيقة الخطيرة التي لم يطلب منه أصلاً أن يحكم فيها ولا أن يخوض فيها دون أن يراعي في ذلك حرمة ولا خطورة، فأنت تجد أقل فعل يفعله إنسان ما ينال به عنده حكم الابتداع في أمور عجيبة وغريبة، حتى جعلوا بعض اللبس نوعاً من الابتداع، لا ابتداعاً في الهيئة، بل ابتداع في الدين، حتى جعلوا أحياناً صوراً من القول وطريقة في الهيئة والكلام أو في المشية والحركة جعلوا لها حكماً في الابتداع، وغير ذلك من الأمور الخطيرة المريعة، وأحدهم لا يفقه شيئاً من الأحكام وتراه يدخل في مثل هذه الأمور.
والنقل أيضاً آفة كبرى، ينقل بعضهم عن بعض أموراً عجيبة، وإذا في الأمر خبر ليس له أساس من الصحة، ثم يتصور تصوراً عجيباً وفريداً وغريباً، حتى إن الإنسان ليحار في أولئك القوم الذين ليس لهم هم إلا نقل الكلام والسعي به بين الناس ونشره من غير تثبت ولا روية، وقد أمرهم الله عز وجل أن يتثبتوا، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6].
وأذكر لذلك مثالاً واقعياً يتعلق بي، فقد جاءني مرة من يذكر لي خبراً فقال: إن فلاناً يقول: إنك ذكرت لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز قولاً في مسألة الأشاعرة وناقشته فيها.
فقلت: لا أعلم هذا الأمر أبداً ولم يقع.
ثم تذكرت مجلساً تحدث فيه أحد الحضور وقال للشيخ: إن هذه المسألة قد كثر فيها اللغط وتكلم فيها بعض من لا علم له، وصار بسببها فتنة، وأنت العالم المقدم المسموع الكلمة، فلو قلت فيها كلمة ونشرتها أو أذعتها أو سجلتها لكان في ذلك إحقاقاً للحق وبياناً للعلم.
ولست أنا الذي تحدثت بها، لكنه رجل كان في ذلك المجلس، ومع ذلك نسب القول إلي، ثم ظننت الأمر عارضاً، وإذا بي كدت أبكي من شدة الضحك وأضحك من شدة البكاء؛ إذ جاءني رجل آخر وقال لي: إن فلاناً يطلب منك صورة من البحث الذي قدمته للشيخ عبد العزيز بن باز عن الأشاعرة، فالكلمة صارت بحثاً مكتوباً تطلب صورة منه ليطلع عليه.
وهكذا تروج الكلمة دون تثبت وينفخ فيها النافخون، حتى إنني سمعت لأحد الرجال في أمر وقع عندنا أنه ينسب فعله إلى فلان من الناس، مع أن فلاناً هذا كان ساعياً في درء هذا الفعل الذي وقع، فهذه أيضاً صورة أخرى.(110/23)
استخدام أسلوب التورية والتلميح الذي يقصد به الطعن والتجريح
قد لا يكون الطعن صريحاً كما قد يفعله بعض من أشرت إليهم وذكرت وصفهم، لكن بعض الناس يستخدم أسلوباً في نظري هو أخبث وأكثر شراً وضرراً؛ إذ إنه يستخدم أساليب وكلمات تحتمل الوجهين، لكنه يعلم أن السامع له لا يدرك من هذه الكلمات إلا المعاني الذميمة، فهو يقول: فلان في عقيدته نظر، لم يقل: هو كافر ولا مبتدع ولا معتدل ولا غير ذلك، أو يقول: فلان عنده بعض التميع.
ولك أن تفهم هذه الكلمة المائعة، وقد يصل إلى تميع يستبدل فيه الحق بالباطل والاعتقاد الصحيح بالاعتقاد الزائغ، ويستخدم أساليب من هذا النوع، كأن يقول: فلان لا أطمئن له، أو لا أرى أن ينتفع أو أن يكون في موضع الانتفاع منه.
أو نحو هذه الكلمات التي ليست بالطعن الصريح، لكنها في الوقت نفسه تقع موقعاً من السوء، ويقع بسببها من الضر وانتشار الخطر ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، سيما إن صدرت ممن يكون مسموع الكلمة أو مقدماً عند السامعين له أو السائلين له، وهذه -وللأسف- أيضاً صورة منتشرة، بل قد تكون أحياناً منتشرة في كلام مسموع منتشر على أشرطة، أو حتى في كلام يروج بين المجالس؛ إذ إن صاحبها قد يلجأ إلى الأمر الذي ذكرته في خصائص اللسان، وهو أنه خفي المنال، فإذا واجهته بهذا الكلام قال: لم أقصد بالتميع تميعاً في العقيدة، وإنما أقصد به كذا وكذا وكذا.
يأتي بكلام آخر، ولم أقصد بقولي: فيه نظر إلا أنه موضع التأمل والتدبر.
وهكذا يمكن أن يخرج من هنا وأن يدخل من هناك، أو أن يدخل من هنا ويخرج من هناك.(110/24)
الخوض فيما لا يعني والجدال والمراء
هناك صور كثيرة عند الشباب الذين هم في مقتبل العمر وفي أول الابتداء، ومن هذه الصور الحديث فيما لا يعني، فكم تجد طفلاً صغيراً ينتطح بين الكبار، أو غراً جاهلاً يدخل في المسائل العويصة، أو يسأل عن أمور لم تقع، أو عن مشكلات لا حاجة له إليها، فهو يصرف نفسه عما هي أهل له وعما هي محتاجة إليه إلى غير ذلك مما لا ينبغي له، وفي الحديث: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).
وعن ابن عباس في وصيته لرجل أنه قال: (لا تتكلم بما لا يعنيك فإن ذلك فضل، ولست آمن عليك الوزر، ودع الكلام في كثير مما يعنيك حتى تجد له موضعاً، فرب متكلم في غير موضعه قد عنت، ولا تمار حليماً ولا سفيهاً؛ فإن الحليم يقليك -أي: يهجرك- والسفيه يؤذيك، واذكر أخاك إذا توارى عنك بما تحب أن يذكرك به إذا تواريت عنه، ودعه مما تحب أن يدعك منه، فإن ذلك العدل، واعمل عمل امرئ يعلم أنه مجزي بالإحسان ومأخوذ بالإجرام).
وقال مورق العجلي: أمرنا بأمر أنا أطلبه منذ عشرين سنة لم أنله ولست بتاركه فيما أستقبل.
قيل له وما هو؟ قال الصمت عما لا يعني.
وكتب أحدهم لـ يونس بن عبيد الله يسأله عن حاله: كيف أنت؟ فكتب له يونس كتاباً قال فيه: أما بعد: فإنك كتبت إلي تسألني: كيف أنا وكيف حالي.
فأخبرك أن نفسي قد ذلت لي بصيام اليوم البعيد في الحر الشديد، ولم تذل لي بترك الكلام فيما لا يعني.
وهذه قصص فيها عبرة وحكمة وقد جاء رجل من أهل البصرة إلى عبيد بن عمير وقال له: إني رسول إخوانك من أهل البصرة.
قال: وإنهم يقرءونك السلام ويسألونك عن أمر هذين الرجلين علي وعثمان رضي الله عنهما - وكان هذا بعد استشهاد علي وعثمان بوقت طويل- ما قولك فيهما؟ فقال: هل هناك شيء آخر؟ قال: لا.
فقال: جهزوا الرجل.
فلما جهزوه وفرغوا من جهازه.
قال: اقرأ عليهم السلام وأخبرهم أن قولي فيهم هو قول الله عز وجل: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134].
وكما أثر عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: تلك فتنة طهر الله منها أيدينا فلنطهر منها ألسنتنا.
وأخيراً الجدال والمراء، فقد كثرت في مجالس الشباب المماراة والمجادلة، فيدخلون في حال الإنسان يسألونه ويجادلونه ويناقشونه حتى يخرج عن طوره، فيقول ما لم يكن يحب أن يقول، فيخطئ حيث أراد أن يصيب، أو يقع بينهم نوع من الفرقة والشحناء، وهذه صور فيها انحراف للكلمة عن مسارها، والصور أكثر مما ذكرت، وحسبي الإشارة؛ فإن الحر تكفيه الإشارة عن صريح العبارة.(110/25)
الأسئلة(110/26)
توجيه الشباب باتخاذ الأسلوب الشرعي عند تقويم الأخطاء
السؤال
كثر من الشباب الملتزم عقد جلسات ليعرفوا الآخرين بعيوب المسلمين، فهم ينتقصونهم لأفعالهم وأعمالهم، ويشتغلون بالمهم عن الأكثر أهمية، ويكون هذا شغلهم الشاغل، ويعتقدون أن هذا من صميم دعوتهم، بل حالهم يدل على أن هذه هي دعوتهم ليس غيرها؛ لأنهم لم يشتغلوا بغيرها معها، مع علمهم بمخططات دول الغرب لتدمير الإسلام وأهله، فما هو توجيهكم لهؤلاء؟
الجواب
نقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:134] ولستَ مسئولاً إلا عما ترى من خطأ فتقومه بالأسلوب الشرعي من النصح وإنكار المنكر بأساليبه، أما غيبة الناس وجرحهم وانتقاصهم والثلب في أعراضهم والانتقاص من جهود العاملين المخلصين، فإن ذلك لا يفيد إلا أعداء الإسلام.
لكن الاختلاف السائغ المبني على اجتهاد صحيح أمر لا يفسد للود قضية، وقد اختلف من قبل صحابة النبي عليه الصلاة والسلام وائتلفت قلوبهم وعمرت المحبة فيما بينهم، وتلاحمت صفوفهم، بل اختلفوا في الحكم ووافق بعضهم بعضاً في الصورة العملية حتى لا تشق عصا المسلمين أو تفرق صفوفهم، فـ ابن مسعود كان يرى القصر في الحج وعثمان كان يرى الإتمام، فأتم فقال ابن مسعود: (رحم الله عثمان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قصر وأبو بكر وعمر) ثم لما حانت الصلاة صلى خلف عثمان فأتم، قالوا له: أنكرت عليه ثم صليت معه؟ قال: (الخلاف شر) فما دام الأمر لا يستدعي مفاصلة والحكم جائزاً هنا وهناك، والأمر بين فاضل ومفضول أو راجح ومرجوح، أو لهذا دليل يمكن أن يسوغ العمل به فالأمر لا يقتضي مثل هذا الخلاف.(110/27)
علاج الغيبة
السؤال
الغيبة مرض خطير وداء وخيم، فما هو العلاج الأمثل لذلك؟
الجواب
إمساك اللسان عن المحرمات واستحضار شدة العذاب والوعيد الذي ذكر في شأن الغيبة، إضافة إلى العدل والإنصاف، فهل تحب أن يغتابك الناس ويذكروك بسوء؟ فكما لا تحب ذلك لنفسك فلماذا تحبه للآخرين؟ وانظر كذلك إلى الآثار الواقعية التي تترتب على مثل هذه الغيبة، فإنها تزرع الشحناء والبغضاء، وتفرق الصفوف وتوهن في قوة المسلمين، وكل ذلك أضرار إذا تأملتها أدركت خطورتها.(110/28)
كيفية معالجة الأخطاء الواقعة من الأشخاص وضوابط ذلك
السؤال
إذا كان كان الحديث عن شخص آخر نوعاً من أنواع الغيبة فكيف يمكن لنا أن نحسن من أحوالنا إذا لم نجتمع ونناقش الأمور التي تمس مجتمعنا؟
الجواب
إذا أردت أن تناقش الأخطاء فناقشها مجردة عن الأشخاص، على هدي النبي عليه الصلاة والسلام (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا) وإذا أردت أن تناقش المشكلات فليس من لوازم أمرها أن تعرف أصحابها، لكن إن كان صاحب الفسق معلناً فسقه مجاهراً به معلناً حربه لله ولرسوله فإنه لا غيبة له، بل التحذير منه نافع ومفيد في هذا الشأن، أما أخ مسلم صالح عابد ساع بالخير باذل وقته وجهده وفكره في نشر الخير والدعوة إليه فهذا إن كان فيه خطأ فإن كثير صوابه يغطي ويغمر قليل خطئه، وإن قليل خطئه موهوب ومغفور في كثير صوابه، وإن قليل خطئه يستوجب منك أن تبذل له النصح الذي تقدمه بالشكر له والثناء عليه، والحث له على المضي في الخير الذي هو فيه، ثم تستدرك وتقول: لكني أحسب أن في قولك أو في بعض فعلك كذا وكذا، وأنت فيك خير، وأنت الذي نظن بك أفضل مما نظن بأنفسنا وكذا وكذا فإن هذا هو التقويم والتصويب.
ولعلي أختم بأمر جامع يضبط هذه المسارات كلها.
أولاً: العلم الشرعي الذي تحصل به البصيرة والمعرفة، ويبعد الإنسان به عن الوقوع في الخطأ.
ثانياً: الإدراك الواقعي بحال الأمة الإسلامية والدعوة الإسلامية، وحال الأعداء واضطهاد المسلمين، وحاجتنا للوقت، وحاجتنا للجهد، وحاجتنا للوحدة والائتلاف، ولدرء مفاسد أعداء الدين الذين يبثون الفرقة بين صفوفنا وفي مجتمعاتنا، وأن ندرك من خلال الواقع هل هذه الكلمة موقعها في هذا الوقت، فإذا كانت هناك حملة على الدعاة والصالحين، فما بالك تجرح جرحاً قد تكون فيه مصيباً أو مجتهداً لكنه لم يقع موقعه المناسب في هذا الظرف أو في ذلك الزمان.
وهكذا إدراكك للواقع، وما يترتب على الكلمة من الآثار وما تتوقع لها من القبول عند الناس ينبغي أن يعصمك هذا الإدراك عن كثير من الخلل.
ثالثاً: الورع الإيماني الذي يجعلك تعف عن الوقوع في المحرمات، وتربأ بنفسك عن الدخول في المهاترات والمنافسات، وتغلب الخير الذي ترجو ثوابه من الله عز وجل، ولا تكون لك غاية ولا هم إلا ابتغاء رضوان الله عز وجل، وتلتفت إلى حديث عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ابتغى رضا الناس بسخط الله رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن ابتغى سخط الله عز وجل برضا الناس سخط الله عليه وأسخط عليه الناس).
فالله أسأل أن يعصمنا من الزلل في القول والعمل، والله أسأل أن يكتب لنا الأجر والثواب، وأن يوفقنا للحق والصواب، وأن يعصمنا ويقينا من شرور أنفسنا؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصل -اللهم- وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(110/29)
أيام معدودات وليال محدودات
إن الأيام معدودة، والأنفاس محدودة، والعمر له نهاية، والعاقل من يفكر في نهايته أين ستكون، واللبيب من يتدبر حاله إلى أين سيئول، ولذا فعلينا أن نستيقظ من رقدتنا، وأن ننتبه من غفلتنا قبل أن ينزل بنا هاذم اللذات، ومفرق الجماعات، وأن نغتنم العمر في الطاعات، خاصة الأوقات الفاضلة كالعشر الأواخر من رمضان، وليلة القدر.(111/1)
ذهاب الوقت وطوي الساعات لن يعود
الحمد لله عالم الخفيات، رب الأرض والسماوات، أنزل الرحمات، وأفاض البركات، وزاد الخيرات، وجعل لعباده في أيام دهره نفحات، تمحى فيها السيئات، وتضاعف الحسنات، وترفع الدرجات، فله الحمد ملء الأرض والسماوات، أحمده سبحانه وتعالى حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ويوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد حتى يرضى، وله الحمد بعد الرضا كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم التقى، ومنار الهدى، الرسول المجتبى، والنبي المصطفى، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي َتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! في الجمعة الماضية كنا نقول عما قريب نستقبل العشر، واليوم نقول: قد مضى نصفها، وعما قليل يودع رمضان، تنتهي أيامه، وتقوض خيامه، عما قليل يؤذن بالرحيل، نفتقد من بعده كما هو غالب الحال الصلوات الخاشعة، والدعوات الضارعة، والتلاوات المرتلة، والمساجد الممتلئة، والنفقات المتكاثرة، والزيارات المتواصلة، نفتقد من بعده قلوباً مشرقة بالإيمان، ونفوساً مطمئنة باليقين، وجوارحاً مشغولة بالطاعة، نفتقد من بعده خيراً كثيراً، فأي شيء نقول في هذا المقام؟! إنها أيام معدودات، وليال محدودات، لا تتصور أن بها نهاية رمضان، بل تخيل أنها نهاية عمرك، أو أنها نهاية الدنيا كلها، لو قيل لك: لم يبق إلا هذه الأيام، وسوف تطوى صفحات حياتك، وتلفظ أنفاسك، وتودع دنياك، وتوضع في قبرك، وتقبل على ربك ما الذي ستفعله؟ هل ستبقي وقتاً للنوم الطويل والراحة المديدة؟ هل ستخصص زماناً للنزول إلى الأسواق، والجلوس مع الأصحاب؟ هل ستبقي جهداً وفكراً لتحصيل مزيد من الأموال، وتكثير مزيد من الأرصدة، ولحاق أسواق الأسهم قبل إغلاقها، والبنوك قبل إقفالها؟ هل سيكون شيء من ذلك؟ أم أنك لن تجد مطلقاً شيئاً يشغل بالك، ولا يقلق همك، ولا يملأ قلبك إلا ما ينبغي أن يكون من إقبالك على الله، وعدّ الدقائق بل الثواني لكي تملأها بشيء ينفعك بين يدي الله عز وجل، نعم لم يبق إلا خمسة أيام وأربع ليال قد تزيد يوماً وليلة، وقد لا يكون إلا ذاك، والزمن إذا مر لا يعود.
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها الوقت الذي بدأنا به هذه الخطبة لن يعود، اليوم الذي مضى لن يكرر (ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ويقول: أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، وإذا ذهبت فلا أعود أبداً).
تصور ذلك إن أردت لنفسك خيراً، وأردت أن تكون هذه الأيام أياماً غير أيام الدنيا كلها؛ لأنها الأيام الأخيرة التي تتصور أنه ليس لك بعدها حياة، وليست عندك بعدها فرصة عمل: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وشبابك قبل هرمك).(111/2)
نداء للكسالى ليفروا إلى الله
أيها الكسالى! فروا إلى الله بالجد والنشاط والعمل؛ لم هذا النوم؟ لم هذا الكسل؟ لم هذا التراخي؟ لم هذه الأقدام التي كأنما تخط خطاً وهي تسير؟ أين الذين يبكرون إلى الجمعة؟ إننا نراهم وهم يأتون تباعاً متأخرين؛ لأن هناك ضعفاً، ولأن هناك عدم استشعار بأن الأمر جد، وأن الخطب عظيم، وأن الكرب جسيم، وأن الأمر أكثر وأعظم من أن يسوف فيه أو يؤجل له.
كثيرة هي المعاني التي نشعر بها في واقعنا، ونرى أنها صورة تعكس شيئاً من المعاني الضعيفة الهزيلة في نفوسنا مما ينبغي أن يغير ويبدل، ولو نظرت لرأيت ضعفاً عظيماً، ولرأيت تراخياً مستغرباً مستهجناً من مؤمن يدرك أن الأمر جد، وأن الحياة قليلة، وأن الأيام منتهية، وأن الإقبال بين يدي الله عز وجل قريب عاجلاً أو آجلاً: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فإذا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
اليوم تستطيع وغداً لا تستطيع، اليوم أنت في الحياة، وغداً أنت تحت طباق الأرض في عداد الأموات، كم ودعنا في هذه الأيام الماضية من أقارب أو أصدقاء! أليسوا كانوا يؤملون ويؤملون ويقولون: سنفعل في العشر، وسنفعل في آخر الشهر، أين هم اليوم؟ وأين سنكون نحن بعد لحظات أو بعد أيام؟ الله عز وجل وحده عالم بهذا.
أيها المقصرون! متى على الله تقبلون؟ أيها المعرضون! متى عن شرودكم تنتهون؟ فروا إلى الله عز وجل من كل شيء لا يحبه ويرضاه إلى كل أمر يحبه ولا يرضاه.(111/3)
نداء للغارقين في الشهوات ليفروا إلى الله
أيها الغارقون في الشهوات الذين تحبون الملذات! أقبلوا، فروا إلى الله ستجدون لذة المناجاة، وحلاوة الطاعة، وسرور الدعوات، ودمعة السجود في الخلوات أفضل من الدينا وما فيها؛ لأن ذلك هو سعادة القلب وسرور النفس، وهو أعظم من كل ما تجدونه في الأزواج والأولاد والأموال؛ لأن لذة الطاعات هي التي تخلص إلى القلب والنفس فيكون لها أثرها المحمود.
أيها الجاهلون! الذين لا تعلمون شيئاً من كلام الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تعرفون الله بذاته وأسمائه وصفاته كما عرفها لكم في كتابه، لأنكم منقطعون عن العلم لا تسمعونه، لا تقرءونه، لا تطلبونه، وتنشغلون بكل شيء من اللهو! فروا إلى الله بالعلم به، والتذكر له، والإقبال عليه، والمعرفة له بكتابه، وبما جاء في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أيها المسوفون الذين يمدون الأمل طويلاً طويلاً! فروا إلى الله باليقين بأن الأجل يقطع الأمل ويعترضه، فتعود الآمال كلها متبددة، ينبغي لنا أن نعيش ذلك، وأن نستشعره، وأن يكون صورة ذلك الفرار إلى الله قلباً معلقاً بالله، وعيناً دامعة من خشية الله، ولساناً رطباً بذكر الله، وأقداماً ساعية لمرضاة الله، وأيدي عاملة بأمر الله، وحياة مغمورة معمورة بكل ما يرضي الله؛ ليكون من وراء ذلك قلب مطمئن بالله، ونفس راضية بقضاء الله، وجوارح معافاة بأمر الله، وبركة في الرزق والمال من فضل الله، تتحول الحياة كلها من جحيم إلى نعيم، من شقاوة إلى سعادة، من ضيق إلى سعة: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126].
ينبغي لنا أن ندرك أن هم قلوبنا، وضيق صدورنا، وكدر عيشنا، وغم حياتنا إنما هو لأننا لسنا مع الله كما ينبغي، فإن فعلنا ذلك كان الأمر على غير ذلك بإذن الله عز وجل، ولذلك ينبغي لنا أن نعلق في هذه الأيام الأمل فيما بقي منها، فإن فيها خيراً كثيراً، وإن فيها فرصة عظيمة، لا ينبغي أن يكون فيها شيء من غفلة، ولا كسل، ولا تراخي، ولا انشغال بغير مرضاة الله وطاعته.
لا تقل لي: قليلاً من هنا وقليلاً من هنا، فإن الوقت أعظم وأجل، وإن الخطب أكبر وأدهى من أن يقبل مثل هذه الشركات، لا بد لنا من حرص تام وإقبال عظيم يمثل هذه الصورة في الأمر الرباني الكبير: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] لو أن النذير وراءنا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أخبرتكم أن خيلاً ببطن هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب أليم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (بعثت أنا والساعة كهاتين، وجمع بين الأصبعين) كم مقدار تلك المسافة؟ نعم زادت مئات وآلاف من الأعوام لكنها في عمر الزمان قليلة، وكل أحد بانتهاء حياته وإقبال مماته، تلك هي الحقائق التي نغفل عنها ولا نكاد نتذكرها، لا تحيا بها قلوبنا، ولا تتأثر بها نفوسنا، قد تتكلم بها ألسنتنا كما أتكلم، لكننا والحال إلا من رحم الله ليست كما ينبغي أن يكون في حقيقة بواطننا، وفي ظواهر أعمالنا وأحوالنا.
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يعيننا على طاعته ومرضاته، وأن يحسن ختام شهرنا، وأن يمن فيه علينا بالمغفرة والرضوان، والعتق من النيران، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(111/4)
نداء للظلمة ليفروا من مظالمهم إلى الله
علينا أن ننادي أنفسنا جميعاً: أيها الغافلون! فروا إلى الله بذكره، بدعائه، بتلاوة آياته، بالتضرع بين يديه، فإن لم تفعلوا فيما مضى من الأيام فبقيت هذه الأيام، إن فاتت يوشك ألا ترجع، إن مضت يوشك ألا تعود، ويوشك أن تعود وأنت في حال سقم، أو في حال لا تستطيع فيها أن تؤدي ما تستطيعه اليوم، فلماذا التسويف؟ ولماذا التأخير؟ ولماذا هذا التكاسل والتراخي؟ أيها الظالمون! الذين ظلمتم واعتديتم كيف تصلون وتصومون وتدعون وأنتم عن الظلم لا تقتصرون؟ فروا إلى الله بترك المظالم وإرجاعها إلى أهلها، والبراءة منها قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
أيها الأزواج الظالمون لأزواجهم! فروا إلى الله بحسن العشرة، بالعدل والإكرام، وإيفاء الحقوق، وإدخال السرور، فإن معاملة الخلق طريق إلى معاملة الخالق، روى أبو هريرة أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأل سؤالاً عظيماً وقال: (يا رسول الله! ما أكثر ما يدخل الناس الجنة)؟ هل هناك سؤال أعظم من هذا وأجل؟ هل هناك شيء ينبغي أن يكون محور تفكيرنا وشغل بالنا أكثر من هذا وأعظم؟ جاءت الإجابة في كلمتين موجزتين من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: (تقوى الله، وحسن الخلق)، معاملة الناس، الإحسان إليهم، كف الأذى عنهم فرار إلى الله غداً.
يا من أخذت المال! يا من اعتديت بالضرب! يا من أسأت بعنيف القول وغليظه! غداً يقتص منك، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء)، يعني: يقتص من الشاة التي لها قرون ونطحت شاة لا قرون لها يوم القيامة، فكيف بمن أكل الحقوق؟ كيف بمن استولى على الأموال بغير حق؟ كيف بمن ظلم أهله أو زوجه أو أبناءه؟ فروا إلى الله، فإنها أوقات مباركة، وليال فاضلة، وأواخر فيها عتق من النار، فيها إدراك لليلة القدر، فيها ختام شهر يعتق الله عز وجل من النار من شاء ممن أخلص وأقبل عليه سبحانه وتعالى.(111/5)
أنموذج نبوي للفرار إلى الله
فما بالنا نفر منه لا إليه؟! ما بالنا نعرض عنه هنا وهناك؟! ما بالنا نذهب يمنة ويسرة؟! ما بالنا نتخبط في الدنيا، نريد من هذا مالاً، ونريد من هذا سنداً، ونريد من هذا حماية، وكأننا نسينا رب الأرباب، وملك الملوك، وجبار السماوات والأرض؟ إنها مسألة مهمة، إنه لا بد لنا أن نتأمل في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسيرة أصحابه رضوان الله عليهم، تأملوا الدعوات التي نكررها أحياناً مما حفظنا من دعوات المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك).
تأمل هذه الكلمات لتشعر أنك محاط بكل ما يذكرك بالله إن كان قلبك حياً بالإيمان بالله: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك)، إن خفت سخط الله ففر إلى رضاه، (وبمعافاتك من عقوبتك)، إن خفت العقوبة فاطلب العفو منه، فهو سبحانه وتعالى العفو الكريم، وعذ به منه سبحانه وتعالى؛ فإنه لا منجى ولا ملجأ لك منه إلا إليه سبحانه وتعالى.
تلك كلمات نطق بها الإيمان واليقين على لسان سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، والله جل وعلا يقول: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر:38] من ذا الذي يملك لك من الله شيئاً؟! من ذا الذي يمكن أن يعطيك شيئاً لم يكتبه الله لك، أو أن يمنع شيئاً قد كتبه الله لك؟! تلك الوصية التي قالها النبي لغلام صغير؛ لأن القلوب كانت مؤمنة، والنفوس كانت حية: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
إن لم يكن أحد يقدم أجلاً ولا يؤخر، إن لم يكن أحد يقدر رزقاً ولا يقتر، فأي شيء يجعلنا نتعلق بهذه الحياة أو بأولئك الأحياء؟ لم لا يكون التعلق بالله ونحن نودع هذا الشهر في الأيام القلائل، والليالي المعدودات، والزمن المحدود، والثواني التي سوف تنقضي شيئاً فشيئاً!(111/6)
وجوب المبادرة بالأعمال الصالحة
إذاً: لا بد من المبادرة: (بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا غنى مطغياً، أو فقراً منسياً، أو هرماً مفنداً، أو مرضاً مقعداً -إلى أن قال:- أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر).
إلى متى (سوف)؟ وإلى متى (لعل)؟ وإلى متى (غداً)؟ وإلى متى (في الموسم القادم)؟ وهل يضمن الإنسان عمره؟ هل يستطيع أحد أن تكون عنده وثيقة بأنه باق إلى رمضان القادم ليعوض ما فات، ليستدرك ما نقص، ليحيي قلبه بعد الموات، ليرجع من غفلته إلى ذكر ربه؛ قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] خاطبنا الله جل وعلا، فعندما أمرنا وحثنا وذكرنا بأن نأخذ حظنا من الدنيا فأي شيء قال؟ {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} [القصص:77] لكن ما الغاية؟ ما الأمر الأساسي؟ ما المحور الجوهري؟ {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} [القصص:77] ذلك نصيب محدود قد تنساه إن علقت قلبك بالله عز وجل، فكيف بك وهو محور حياتك، وأوكد همك، وأعظم شغلك، ومستنفذ جهدك، ومستغرق وقتك، حتى كاد قلبك ألا يكون فيه مكان للآخرة، ولا اعتبار بموعظة، ولا تذكر لنهاية الحياة بالموت؟(111/7)
ففروا إلى الله
إذاً: لو تأملنا ذلك لوجدنا أننا في حاجة إلى أن نفر إلى الله؛ لأنه عندما دعانا لكسب الدنيا قال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] مشي بقدر وقت نكتسب فيه العيش، قال: {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15]، لكنه عندما دعانا إلى الآخرة، عندما حثنا إلى طريق الجنة لم يقل ذلك جل وعلا، بل قال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] إنه ميدان سباق ليس فيه مشي ولا سعي ولا جري، بل هو أعظم من ذلك.
ثم لما بين الحق جل وعلا لنا الأمر إذا ضاقت المشارب وأظلمت الدنيا، وإذا وجد المرء نفسه كما هو حاله في كل آن ضعيفاً يحتاج إلى مدد من القوة، عاجزاً يحتاج إلى مدد من القدرة، فقيراً يحتاج إلى عطاء من عطاء ذي الجود والكرم سبحانه وتعالى، جاء الخطاب بقوله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] إنه أمر عظيم، إنه خوف يدفعك إلى الفرار، إنها نار تدفعك إلى الفرار، إنه مصير يدفعك إلى الفرار، فإلى أين المفر؟ وأين المهرب؟ وكيف النجاه؟ وأين طريقها؟ إنه لا ملجأ من الله إلا إليه، لا بد أن تقر هذه الحقائق في قلوبنا في نفوسنا أن ندرك أنه لا بد لنا من الله، وأن نكون بالله ومع الله ولله وفي الله، تكون حياتنا كلها كما قال الحق عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163] هل أنفاسك، هل أوقاتك، هل أموالك، هل أزواجك، هل أولادك؛ كلها لله أم أن حظ النفس قد غلب؟ وأبواب الرحمة في هذا الشهر، وأبواب الجنان مفتحة، وأبواب النيران مغلقة، والشياطين مصفدة، والغفلة مع ذلك مستحكمة، والتكاسل عن الإقبال إلى الطاعات سمة ظاهرة، متى يفيق النائمون؟ متى يستيقظ الغافلون؟ متى ينشط المتكاسلون؟ متى يقبل المعرضون؟ متى الرجوع إن لم يكن في مثل هذه الأيام، في مثل هذه الخمس الباقيات من شهر البر والإحسان، شهر الذكر والقرآن، شهر المسارعة إلى الجنان، شهر جعل الله له باباً مخصصاً في الجنان وهو باب الريان، إذا لم يكن الرجوع هذه الأيام فمتى نفعل ذلك؟ إن المرء ليعجب من نفسه، وإن الإنسان ليفكر في حاله، لا شك أن هذه الحال قد سرى إلى قلوبنا فيها موات إلا ما رحم الله، وإلى نفوسنا كدر وظلمة إلا ما رحم الله، فعلينا أن ننعى أنفسنا، أن نتذكر ولو على أقل تقدير في هذه الأيام الباقيات، فروا إلى الله فروا إلى التوبة من ذنوبكم فروا منه إليه واعملوا بطاعته فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن فروا مما سوى الله إلى الله.
والفرار إليه فرار من كل ما يكرهه ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه ظاهراً وباطناً من الجهل إلى العلم من الكفر إلى التوحيد من المعصية إلى الطاعة من الغفلة إلى الذكر، كل شيء يحتاج في حياتنا إلى تبدل، نحتاج أن نشعر أن وراءنا ما يلحقنا، ويوشك أن يدركنا، أرأيتم إذا خاف الوليد الصغير ماذا يصنع؟ إنه يفر سريعاً إلى أمه فإذا وصل إلى حضنها اطمأن أفضى بهمه رفع صوته بالبكاء وجد الصدر الحنون، وجد اليد الحانية، ولله المثل الأعلى، وسعت رحمته كل شيء، وقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] والله سبحانه وتعالى كما بين رسوله صلى الله عليه وسلم قد سبقت رحمته غضبه.(111/8)
خطورة الموقف والقدوم على الله
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50]، نريد أن يكون هذا الشعار ظاهراً في حياتنا، في هذه الأيام وفي غيرها، اكتبوا هذه الآية، اجعلوها نصب أعينكم، احفظوها في قلوبكم، رددوها بألسنتكم، فإني موقن أننا لو فعلنا ذلك لاستشعرنا في كل مرة خطراً يحدق بنا، وفراراً يعجلنا، وفيئاً إلى رحمة ورضوان ينتظرنا بين يدي الله سبحانه وتعالى.
فررت إليك يا ربي وبي شوق إلى توبه إلى أمر عظيم قد يزيل الهم والكربه يفيء الناس تواقين إلى أيامه الرحبه عندما نتأمل نجد أننا بحاجة دائماً وأبداً إلى أن نستشعر هذه الصورة، صورة للخطر القريب الداهم الذي ليس هناك وقت لانتظاره وتأجيله؛ لأنه يجعلنا نتصور ما يكون يوم القيامة مما أخبرنا الله به: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37] تلك هي الحقيقة نقرؤها، نؤمن بها، لكنها لا تخلص بقوة لتهز نفوسنا، ولتسكن قلوبنا، ولتؤثر في حياتنا كما ينبغي أن تؤثر: مثل وقوفك يوم الحشر عرياناً مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا النار تزفر من غيظ ومن حنق على العصاة وتلقى الرب غضباناً اقرأ كتابك يا عبدي على مهلٍ انظر إليه ترى هل كان ما كانا ونحن نعلم ما جاء في كتاب الله عز وجل عندما يقول الكافرون: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف:49] الصحف منتظرة، والأيام المقبلة يمكن أن تعمرها بحسنات مضاعفة، يمكن أن تعمرها بدعوات مكفرة لما مضى، يمكن أن تعمرها بإدراك ليلة القدر فتمحو عنك ما سلف من الوزر، ويعظم لك الله عز وجل الأجر، ويكون من الخير ما لا تقدر قدره، ولا يمكن أن تحيط بوصفه؛ لأنه خير من الله عز وجل الذي لا تنفد خزائنه سبحانه وتعالى.
ليس هناك مزيد من القول، بقيت أيام قلائل ليس هناك غيرها في رمضان، ستنتهي وينتهي الشهر، وينتهي معه كل ما خصه الله عز وجل به من الفضائل والخصائص والأجور، فمن فاته فإنه محروم، وإنه قد خرج من موسم الخير صفر اليدين، كيف يكون حال التاجر إذا جاء الموسم وهو لم يخرج بربح قليل ولا كثير، بل خرج بخسارة عظيمة، وأوزار كبيرة؟! شقي ذلك شقاء ما بعده شقاء، وحرم حرماناً ليس مثله حرمان، وسعد بالخير من أقبل على الطاعات، ومن فرغ لها الأوقات، ومن شغل بها القلب، ومن علق بها النفس، ومن استنفذ فيها الجهد، فإن هذه هي الأيام المباركة، هي الليالي الفاضلة، هي الرمق الأخير من هذا الشهر العظيم، ومن هذا الفيض من الخير العميم، الذي ساقه الله عز وجل لنا، فهل نكون من العقلاء الذين يدركون مصالحهم، ويعرفون الخير الذي ينتظرهم، أم نكون من الغافلين الكسالى المتراخين الذين ما زالت عقولهم وقلوبهم في أودية شتى، ورءوسهم تخفق نعاساً، أم نكون من الحمقى الذين يعرضون وقت الإقبال، ويتركون الخير وهو مبسوط مبذول، وذلك والعياذ بالله من أشقى الشقاء الذي من وقع فيه فقد حرم خيراً كثيراً؟ أسأل الله جل وعلا أن يردنا إليه رداً جميلاً، وأن يحسن لنا ختام شهرنا، وأن يوفقنا فيما بقي منه لبذل كل جهد في طاعته ومرضاته، أن يشغل فيه أوقاتنا بالطاعات والدعوات والتلاوات والصلوات، وأن يعلق قلوبنا بطاعته ومرضاته، وأن يعلق نفوسنا برضوانه ورحمته، وألا يشغلنا عن طاعته بشاغل، وألا يصرفنا عنها بصارف، وأن يجعل هذا الشهر الكريم تكفيراً لذنوبنا، وعتقاً لرقابنا من النار، وأن يجعله بإذنه سبحانه وتعالى عوناً لنا على طاعته فيما بقي من أيام دهرنا وعمرنا، وأن يبدلنا من بعد إعراضنا إقبالاً، ومن بعد غفلتنا ذكراً، ومن بعد تقصيرنا تشميراً.
نسألك اللهم أن تقبل بقلوبنا عليك، وأن تعلق نفوسنا بحبك وطاعتك ومرضاتك يا رب العالمين.
اللهم اجعل عبادتك أحب إلى نفوسنا من الماء على الظمأ، اللهم اجعل قلوبنا تحب الطاعات، وتلتذ بها، وتجد حلاوتها، وتستحضر عظمة الرب فيها، وتمتلئ بالخشوع في أدائها برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، والشوق إلى لقائك، ولذة النظر إلى وجهك الكريم في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، اللهم وفقنا للطاعات، واصرف عنا الشرور والسيئات، واغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آت، برحمتك يا رب الأرض والسماوات.
اللهم اهدنا واهد بنا، نسألك اللهم التقى والهدى، والعفاف والغنى، وأن تجعلنا هداة مهديين، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم املأ أوقاتنا بالطاعات، ولا تشغلنا اللهم بالغفلات ولا بالمعاصي والسيئات، اللهم إنا نسألك لأمتنا وحدة من بعد فرقة، وعزة من بعد ذلة، وقوة من بعد ضعف يا أرحم الراحمين.
اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واجمعهم على الحق والهدى والتقى يا رب العالمين! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء، مكن اللهم في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا اللهم فيما يرضيك آمالنا، اللهم اختم لنا شهر رمضان برضوانك، والعتق من نيرانك، واجعلنا اللهم ممن وفقته لقيام ليلة القدر وصيام يومها.
اللهم يا رب العالمين، يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين؛ منّ علينا بعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا وأزواجنا وذرياتنا من النار يا رب العالمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان، واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
اللهم رحمتك ولطفك بإخواننا المسلمين المضطهدين، والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وآمن روعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، اللهم اجعل ما بقي من هذا الشهر تفريجاً للكربات، وتنفيساً للهموم والغموم، ومحواً للسيئات يا رب العالمين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون!(111/9)
صفحات من سيرة المصطفى
لقد تميزت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بخصائص ومزايا عظيمة، فهي صفحات تاريخية مشرقة وضاءة، يستضاء بها في الظلم، ويسترشد بها في الضلال، ويؤتسى بها في العمل بأنواعه، ومن صفحات التاريخ النبوي غزوة أحد، فقد تميزت هذه الغزوة بالدروس والعبر التي تقوّم اعوجاج المسالك، وتحيي الإيمان في القلوب، وتثبت الأقدام عند النزال في ساحات الوغى، وهذه الغزوة أظهرت شجاعة الرسول القائد صلى الله عليه وسلم وصحابته، وأظهرت أهل النفاق وكشفت مساوئهم وما تنطوي عليه نفوسهم.(112/1)
مقدمات غزوة أحد وحال المسلمين معها
الحمد لله رب الأرباب، ومسبب الأسباب، ومنزل الكتاب، وهازم الأحزاب، له الحمد سبحانه وتعالى هو الكريم الوهاب، وهو الغفور التواب، نحمده سبحانه وتعالى حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ويوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! عود إلى صفحات من التاريخ، تميزت باختصاص عظيم، وجعلت قدوة وعبرة ونفعاً وفائدة للمسلمين، صفحات من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، تشدني إليها كلما جاء شهر شوال وهو الشهر الذي وقعت فيه غزوة أحد من العام الثالث للهجرة، وكلما قلبنا صفحات هذه الغزوة وجدنا أن فيها سفراً عظيماً للدروس والعبر التي تقوّم اعوجاج مسالكنا، وتحيي وتقوي ضعف إيماننا، وتثبت مواضع أقدامنا، وتكشف ما وراء المظاهر إلى حقائقها.(112/2)
رسالة العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشأن قريش
نعم! لقد أعدوا عددهم وشغلوا وسائل إعلامهم وحشدوا جيوشهم، وقالوا مقالة سابقيهم: لتدركوا ثأركم ولتوقفوا مسيرة هذا الدين الذي غزاكم في عقر دياركم، ذلك كان حال قريش، فأي حال كان حال محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته؟ هل كانوا غارقين في شهواتهم، ملتهين بملاعبهم ومسارحهم وغير ذلك مما نعلمه اليوم؟! روى أهل السير: أن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم برسالة سرية مع رجل قطع المسافة في نصف المدة أو أقل يخبره بتجهز قريش، وكان مما جاء في رسالته: إن قريشاً قد أجمعت المسير إليك فما كنت صانعاً إذا حلوا بك فاصنعه الآن.
تهيأ قبل أن يأتوا إليك، واستعد قبل أن يطرقوا بابك، وتجهز قبل أن يكونوا في أرضك، وقد توجهوا إليك في ثلاثة آلاف، وقادوا مائتي فرس ومعهم سبعمائة دارع، وثلاثة آلاف من الإبل، وقد أوعبوا من السلاح، أي: قد جمعوا ما لديهم من السلاح كله، هل اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؟ لقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم الرسالة لـ أبي بن كعب فقرأها عليه، فقال: اكتم الخبر، ثم مضى إلى سيد الأنصار وأخبره الخبر وقال: اكتم عني ذلك.(112/3)
الاستخبارات النبوية تأتي بأخبار قريش وجيشها
ثم لما تقارب الأمر وحل الجيش قام النبي صلى الله عليه وسلم وبعث الحباب بن المنذر قبل الغزوة عندما وصلت قريش إليهم، وقال له عليه الصلاة والسلام: اذهب إليهم وائتني بخبرهم، ولا تخبرني بخبرهم بين أحد من المسلمين، قال: فدخل فيهم وحزر ونظر وجاس بينهم.
وهذا من شجاعته من جهة، ومن فرط ذكائه وحسن حيلته وتدبيره من جهة، ثم انظروا إلى التقرير الاستخباراتي الذي جاء به هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه (قال: يا رسول الله! والله لقد رأيت أعداداً حزرتهم ثلاثة آلاف يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، ومعهم أفراس حزرتها مائتين من الخيل، ومعهم أدرع حزرتها سبعمائة، وإبل حزرتها ثلاثة آلاف، ثم سأله النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت معهم الظعن -أي: النساء-؟ قال: نعم يا رسول الله! رأيتهم ومعهم الدفاف والأكبار -أي: الطبول والدفوف- فقال صلى الله عليه وسلم: أردن أن يحركنهم وأن يذكرنهم قتلى بدر، هكذا جاءني خبرهم، ثم قال له: لا تذكر مما قلت شيئاً ولا حرفاً، ثم قال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم بك أجول وبك أصول).
إنه الاعتماد على الله، والتوكل عليه، والثقة به، والالتجاء إليه، إنه اليقين الذي لا يتزعزع معه قدم، ولا يطيش معه عقل، ولا يخالج النفس منه اضطراب، ولا يداخل القلب منه خوف، إنه علم لمعرفة الحقيقة لا ليكون أثرها الوهن والضعف والخذلان، بل ليكون أثرها من قوة الإيمان وعظمة اليقين، مع شدة وصدق الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى: (اللهم بك أجول وبك أصول) هذا كان شعار المصطفى صلى الله عليه وسلم.
تلك مقدمات تبين لنا اليقظة والانتباه والرصد وجمع المعلومات، وتبين أن أعداء الحق لا يفترون ساعة ولا تتوقف مكائدهم لحظة، فلا ينبغي أن يكون المسلمون في غفلة، وأن يكونوا مسرفين في حسن الظن حتى بلغوا حد السفه والسذاجة، حتى وصفوا أعداءهم بأنهم شركاؤهم، وقالوا في حق من تربصوا بهم الدوائر وثبتت جرائمهم وتيقن عداؤهم: إنهم لا بأس أن يكونوا معه في صف واحد في مواجهة أمور انطلت حيلها وترددت كلماتها في وسائل الإعلام، حتى راجت وصارت هي حجة كل أحد في كل مسلك خاطئ، وفي كل اعوجاج مستمر، نسأل الله السلامة!(112/4)
تهيؤ قريش لغزو المدينة
ولست اليوم أتحدث عن أحداثها، غير أني أتحدث عن مقدماتها؛ لأنها مقدمات تكشف لنا عن حال المجتمع المسلم، ما الذي كان في القلوب والنفوس؟! ما الذي كان في الخواطر والعقول؟! كيف كان ذلك المجتمع ينتبه ويلتفت نظره إلى ما حوله؟! هل كان منكفئاً على نفسه غارقاً في ذاته؟! هل كان متعلقاً بأمنه وسلامته فحسب؟! هل كان يدرك ما حوله وينتبه له أم لا؟! وكيف كان التفاعل مع ذلك؟! لا شك أننا جميعاً نعلم كيف كان التهيؤ لهذه الغزوة من قبل قريش أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك.
بعد أن انجلى غبار بدر بما كان فيه من ظفر ونصر لأهل الإسلام والإيمان، وما كان فيه من هزيمة عظيمة لأهل الكفر والطغيان، سعى أرباب قريش كـ عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وعبد الله بن أبي ربيعة، ممن قتل آباؤهم وأقرباؤهم؛ سعوا إلى أبي سفيان، وإلى من كان له مال في تلك القافلة التي نجت، وقالوا: يا معشر قريش! إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فما عليكم أن تعينونا بهذا المال على حربه، فلعلنا أن ندرك ثأرنا بمن أصاب منا.
ففعلوا، ودخل معهم أحابيشهم وهم الذين كانوا في حلف مع قريش، وانضوى معهم بعض قبائل كنانة وبعض أهل تهامة، بل ذكر الواقدي في مغازيه: أنه اجتمع معهم مائة نفر من ثقيف، واحتشد أولئك جميعهم في ثلاثة آلاف رجل، ومعهم مائتا فرس وسبعمائة درع، وثلاثة آلاف بعير، وأوعبوا من السلاح ما أوعبوا.
ولعلنا لا نبعد إذا قلنا: إن قريشاً اليوم حاضرة كما هي بالأمس، وقد ألبت وأجلبت لثأرها من أمة الإسلام، ولئن جمعت قريش ثلاثة آلاف ومائتي فرس وثلاثة آلاف جمل أو نحو ذلك، فقد جاء القوم اليوم بمئات الآلاف من الجند والطائرات الخارقة وغير ذلك مما تعلمون، وأنفقوا لأجله الأموال، وجيشوا لأجله الجيوش، والله جل وعلا يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].(112/5)
موقف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الخروج إلى أحد لمقاتلة المشركين
ننتقل إلى صفحة أخرى قبل المعركة ولن نذكر من المعركة شيئاً مطلقاً.(112/6)
دعوة للاقتداء بالصحابة في النهوض للجهاد
تلك هي النفوس الأبية، ذلك هو المجتمع المسلم، فهل ترون في نفوسنا اليوم والأعداء قد حلوا بديارنا، وقد أخذوا مسرى نبينا صلى الله عليه وسلم؛ هل ترون نفوساً تتوق إلى الشهادة؟ أم أن مجرد ذكري ذلك يعد اليوم خطراً عظيماً وتهمة ثابتة، بل ربما لا يجرؤ أحد على قوله: لا لذلك؛ لأن القلوب قد امتلأت رعباً.
إن تلك الجيوش الضخمة لم يزالوا يعلنون عن كفاءتها وقدرتها، ثم إذا بها في وحل لا تستطيع أن ترد عن نفسها شيئاً، ولا تستطيع أن تحقق نصراً، ولا تستطيع أن تواجه فتية صغاراً بأحجار وأسلحة قليلة ضئيلة.
إن السنة ماضية، وإن آيات القرآن لا تتخلف مطلقاً فيما جاءت به من وعد الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وقال عز وجل: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249].
كان ذلك يقيناً في قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك عادة الله فينا كما ذكر أولئك الأصحاب، وقالوا: قد نصرك الله عليهم في يوم بدر على قلة عددنا.
كل هذا كان واضحاً في الأذهان، وكان حياً وساكناً في القلوب والنفوس، وكان الأمر كذلك من جهة أخرى، فهم قوم مستقيمون على أمر الله، قائمون بطاعة الله، سائرون على خُطا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكونوا يخشون أن يؤتوا من قبل تخلفهم عن أمر الله، ولا تنكبهم لهدي وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا معارضاتهم ومخالفاتهم المعلنة المشهرة لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ألسنا اليوم في ظروف أشد وأصعب مما كان في يوم أحد؟ ماذا رأيت في صحف اليوم؟ صفحة كاملة، فيها إعلان لمسابقة ملكة جمال إحدى الدول العربية بين ثلاثين فتاة، يتم التنافس بينهن حتى تفوز إحداهن بعد معركة طويلة بعرش الجمال.
وكاتب يكتب أيضاً عن بلادنا وديارنا ليقول: إنه فرح جذل بأخبار عن وجود قاعات (السينما) وإنها قد بدأت بالأفلام المتحركة للأطفال، فإنه يرجو ويأمل أن تتطور حتى تعرض الأفلام المختلفة.
هذا هو واقع الحال، وتلك هي الصورة التي كانت في عهد نبينا صلى الله عليه وسلم، فهل إلى رجوع من سبيل؟ وهل إلى نظر وتأمل إلى حقيقة المجتمع المسلم وما كان عليه؟(112/7)
نفوس تواقة إلى الشهادة في سبيل الله
ثم قام خيثمة والد سعد بن خيثمة وقد ذكرت قصته مرة: جاء يوم بدر وكان خيثمة يريد أن يخرج وكذلك سعد ابنه يريد أن يخرج، وكان لابد لأحدهما أن يبقى، فلم يؤثر أحدهما الآخر حتى اقترعا، فجاءت القرعة لـ سعد على أبيه، فقال أبوه مستغلاً مقامه وقدره وحقه في البر: أو تؤثرني بها يا سعد؟ فجاء قول سعد: لو كان غير الجنة يا أبي، فمضى سعد ومضى شهيداً.
فلما كان يوم أحد قام خيثمة رضي الله عنه وقال: (يا رسول الله! إن قريشاً جمعت الجموع، وتبعتها العرب من أهل البوادي ومن تبعها من الأحابيش، ثم جاءونا قد قادوا الخيل وامتطوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا يحصروننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرحلون وافرين لم يكلموا -أي: لم يجرحوا - فيجرئهم ذلك علينا حتى يشنوا علينا الغارات، وعسى الله أن يظفرنا بهم، فتلك عادة الله لنا، أو تكون الأخرى وهي الشهادة، فقد أخطأتني يوم بدر، وقد كنت حريصاً عليها يا رسول الله).
وقام إياس بن أوس وقال: (نحن بني عبد الأشهل، نرجو يا رسول الله أن نَذبح في القوم وأن نُذبح؛ فنصير إلى الجنة ويصيروا إلى النار، مع أني يا رسول الله لا أحب أن ترجع قريشاً إلى قومها فيقولون: حصرنا محمداً وأصحابه في يثرب وآطامها، فيكون ذلك جرأة لقريش، وقد كنا يا رسول الله قبل أن تأتينا في جاهليتنا والعرب يأتون إلينا ولا يطمعون منا بشيء حتى نخرج إليهم بأسيافنا فنذبهم عنا، فنحن اليوم أحق إذ أيدنا الله بك وعرفنا مصيرنا أن نخرج إليهم يا رسول الله).
مقالات قوية تكشف عن نفوس أبية، تكشف عن حماسة متقدة، تفصح عن إيمان عميق وعن يقين راسخ، قد علموا ما علموا من عدة قريش وسلاحها، وقد عرفوا قوتها ومن جاء معها من أحلافها، كل ذلك كان معلوماً عندهم، لكنهم كانوا يريدون الجنة، ويريدون شهادة في الجهاد في سبيل الله في مواجهة أعداء الله عز وجل، وكانوا يريدون رفع راية الإسلام وإعزاز الدين، وإظهار العزة في أهل الإسلام، لا طأطأة للرءوس، ولا انحناء للأبدان، ولا تراجعا بالأقدام، ولا شيئاً من مظاهر الذل بحال من الأحوال.
أرادوا أن يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، سيما وأن بدراً لم تكن مخصصة لقتال، ولكن لقافلة وغنيمة، فقد فات كثيراً من الصحابة تلك الغزوة فأرادوا أن يعوضوا، لا يعوضون بمال ولا يعوضون بزروع وثمار، بل يعوضون بمعارك فيها ضرب بالسيوف وطعن بالرماح، يعوضون بدماء تسيل وأنفس تزهق! لكنها أمنيات وآمال لا تكون إلا لأهل الإيمان، قالها أنس بن النضر في أثناء أحد بعد أن احتدم غبار المعركة: (واها لريح الجنة! والله إني لأجدها دون أحد)، وقال قبلها: (والله لئن أشهدني الله يوماً كيوم بدر ليرين الله ما أصنع).(112/8)
نفوس أبية وحماسة متقدة
فلننظر إلى المجتمع المسلم عندما تحل به الظروف العصيبة، عندما تحيط به الأخطار، عندما تأتي الأخبار بأن الأعداء على الأبواب، وبأن حرباً ضروساً يوشك غبارها أن يصل إليهم.
استمعوا إلى هذه المواقف التي هي في حقيقتها غنية عن كل تعليق: كان ممن تحدث حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم أسد الله وأسد رسوله، ومعه سعد بن عبادة سيد من سادات الأنصار، والنعمان بن مالك، فكان مما قالوه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنت في بدر في ثلاثمائة رجل فأظفرك الله عليهم، ونحن اليوم بشر كثير قد كنا نتشوق لهذا اليوم وندعو به، فقد ساقه الله إلينا في ساحتنا.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مائلاً لهذا الرأي، فقام مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري رضي الله عنه فقال: يا رسول الله نحن والله بين إحدى الحسنيين: إما أن يظفرنا الله بهم، فهذا الذي نريد، فيذلهم الله لنا فتكون هذه وقعة كوقعة بدر، فلا يبقى منهم إلا الشريد، أو الأخرى يا رسول الله! فإنها والله الشهادة، والله يا رسول الله! ما أبالي أين كنا إن كانت الشهادة يا رسول الله! فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً) وكان حمزة رضي الله عنه كما قال أهل السير صائماً في يوم الجمعة، وكذلك كان صائماً في يوم السبت يوم غزوة أحد نفسها، فقال: (والله يا رسول الله! والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاماً حتى أناجزهم بسيفي خارجاً من المدينة، ثم قام النعمان بن مالك فقال: (يا رسول الله! أنا أشهد أن البقر المذبح قتلى من أصحابك، فلم تحرمنا الجنة؟ فوالله الذي لا إله إلا هو لأدخلنها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم؟ قال: إني أحب الله ورسوله، ولا أولي يوم الزحف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت).
وكان النعمان من شهداء أحد.
ثم قام خيثمة والد سعد بن خيثمة وقد ذكرت قصته مرة: (جاء يوم بدر وكان خيثمة يريد أن يخرج وكذلك سعد ابنه يريد أن يخرج، وكان لابد لأحدهما أن يبقى، فلم يؤثر أحدهما الآخر حتى اقترعا، فجاءت القرعة لـ سعد على أبيه، فقال أبوه مستغلاً مقامه وقدره وحقه في البر: أو تؤثرني بها يا سعد؟ فجاء قول سعد: لو كان غير الجنة يا أبي، فمضى سعد ومضى شهيداً.
فلما كان يوم أحد قام خيثمة رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! إن قريشاً جمعت الجموع، وتبعتها من العرب من أهل البوادي ومن تبعها من الأحابيش، ثم جاءونا قد قادوا الخيل وامتطوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا يحصروننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرحلون وافرين لم يكلموا -أي: لم يجرحوا -، فيجرئهم ذلك علينا حتى يشنوا علينا الغارات، وعسى الله أن يظفرنا بهم، فتلك عادة الله لنا، أو تكون الأخرى وهي الشهادة، فقد أخطأتني يوم بدر، وقد كنت حريصاً عليها يا رسول الله)، وقام إياس بن أوس وقال: (نحن بنو عبد الأشهل، نرجو يا رسول الله! أن نَذبح في القوم وأن نُذبح؛ فنصير إلى الجنة ويصيروا إلى النار، مع أني يا رسول الله! لا أحب أن ترجع قريشاً إلى قومها فيقولون: حصرنا محمداً وأصحابه في يثرب وآطامها، فيكون ذلك جرأة لقريش، وقد كنا يا رسول الله! قبل أن تأتينا في جاهليتنا والعرب يأتون إلينا ولا يطمعون منا بشيء حتى نخرج إليهم بأسيافنا فنذبهم عنا، فنحن اليوم أحق إذ أيدنا الله بك، وعرفنا مصيرنا أن نخرج إليهم يا رسول الله).
مقالات قوية تكشف عن نفوس أبية، تكشف عن حماسة متقدة، تفصح عن إيمان عميق وعن يقين راسخ، قد علموا ما علموا من عدة قريش وسلاحها، وقد عرفوا قوتها ومن جاء معها من أحلافها، كل ذلك كان معلوماً عندهم، لكنهم كانوا يريدون الجنة، ويريدون شهادة في الجهاد في سبيل الله في مواجهة أعداء الله عز وجل، وكانوا يريدون رفع راية الإسلام وإعزاز الدين، وإظهار العزة في أهل الإسلام، لا طأطأة للرءوس، ولا انحناء للأبدان، ولا تراجع بالأقدام، ولا شيئاً من مظاهر الذل بحال من الأحوال.
أرادوا أن يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، سيما وأن بدراً لم تكن مخصصة لقتال، ولكن لقافلة وغنيمة، فقد فات كثير من الصحابة تلك الغزوة فأرادوا أن يعوضوا، لا يعوضون بمال ولا يعوضون بزروع وثمار، بل يعوضون بمعارك فيها ضرب بالسيوف وطعن بالرماح، يعوضون بدماء تسيل وأنفس تزهق، لكنها أمنيات وآمال لا تكون إلا لأهل الإيمان، قالها أنس بن النضر في أثناء أحد بعد أن احتدم غبار المعركة: (واه لريح الجنة والله إني لأجدها دون أحد)، وقال قبلها: (والله لأن أشهدني الله يوماً كيوم بدر ليرين الله ما أصنع) تلك هي النفوس الأبية، ذلك هو المجتمع المسلم، فهل ترون في نفوسنا اليوم، والأعداء -لا أقول: قريبون منا- قد حلوا بديارنا، وقد أخذوا مسرى نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد دخلوا إلى مواقع ديارنا إلا ما رحم الله، هل ترون نفوساً تتوق إلى الشهادة؟ أم أن مجرد ذكري ذلك يعد اليوم خطراً عظيماً وتهمة ثابتة، بل ربما لا يجرؤ أحد على قوله: لا لذلك؛ لأن القلوب قد امتلأت رعباً.
إن تلك الجيوش الضخمة التي ما يزال يعلن عن كفاءتها وقدرتها، ثم إذا بها في وحل لا تستطيع أن ترد عن نفسها شيئاً، ولا تستطيع أن تحقق نصراً، ولا تستطيع أن تواجه فتية صغاراً بأحجار وأسلحة قليلة ضئيلة.
إن السنة ماضية، وإن آيات القرآن لا تتخلف مطلقاً فيما جاءت به من وعد الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وقال عز وجل: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249].
كان ذلك يقيناً في قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك عادة الله فينا كما ذكر أولئك الأصحاب، وقالوا: قد نصرك الله عليهم في يوم بدر على قلة عددنا، كل هذا كان واضحاً في الأذهان، وكان حياً وساكناً في القلوب والنفوس، وكان الأمر كذلك من جهة أخرى فهم قوم مستقيمون على أمر الله، قائمون بطاعة الله، سائرون على خُطا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكونوا يخشون أن يؤتوا من قبل تخلفهم عن أمر الله، ولا تنكبهم لهدي وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا معارضاتهم ومخالفاتهم المعلنة المشهرة لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ألسنا اليوم في ظروف أشد وأصعب مما كان في يوم أحد؟ ماذا رأيت في صحف اليوم؟ صفحة كاملة، إعلان لمسابقة ملكة جمال إحدى الدول العربية بين ثلاثين فتاة، يتم التنافس بينهن حتى تفوز إحداهن بعد معركة طويلة بعرش الجمال.
وكاتب يكتب أيضاً عن بلادنا وديارنا ليقول: إنه فرح جذل بأخبار عن وجود قاعات (السينما) وإنها قد بدأت بالأفلام المتحركة للأطفال، فإنه يرجو ويأمل أن تتطور حتى تعرض الأفلام المختلفة.
هذا هو واقع الحال، وتلك هي الصورة التي كانت في عهد نبينا صلى الله عليه وسلم، فهل إلى رجوع من سبيل؟ وهل إلى نظر وتأمل إلى حقيقة المجتمع المسلم وما كان عليه؟(112/9)
استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في البقاء أو الخروج
النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بلغته الأخبار عن تجمع قريش ومن معها لمقاتلته وأصحابه، توجه إلى أصحابه يستشيرهم ويرى رأيهم في صورة هي أعظم صور المشورة وأعظم صور التلاحم بين القيادة والأمة، دعك من ديمقراطية زائفة، ودعك من انتخابات مزورة، ودعك من صور كثيرة مبهرجة، واخلص إلى جوهر الإسلام في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
رأى رؤياه عليه الصلاة والسلام وقصها على أصحابه قال: (رأيت بقراً تذبح، ورأيت ثلمة في سيفي، ورأيت أني آوي إلى درع حصينة، وأولت البقر: نفراً من أصحابي يقتلون، وثلمة في سيفي: بعضاً من أهل بيتي يقتلون، والدرع الحصينة: المدينة، فلو رأيتم أن نبقى فيها، فإن أقاموا هم أقاموا بشر مقام، وإن أتوا إلينا قاتلناهم، فكان لنا عليهم النصر والظفر).(112/10)
صغار الصحابة يتسابقون للجهاد في سبيل الله
لننظر إلى صورة أخرى فيما بين يدي المعركة: عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكان قبل بلوغه أحد، بدأ بتفقد الجيش فوجد مع الجيش جمعاً من الصغار دون الخامسة عشرة، وجد منهم عبد الله بن عمر رضي الله عنه وزيد بن ثابت وأسامة بن زيد والنعمان بن بشير وغيرهم، فردهم النبي صلى الله عليه وسلم، هل خرجوا ليلعبوا في الملاهي كأطفالنا اليوم، بل كشبابنا الكبار اليوم؟! هل خرجوا ليأخذوا الحلوى أو ليأخذوا المسابقات؟! لا، بل خرجوا ليقاتلوا فردهم النبي صلى الله عليه وسلم، (وممن رد معهم سمرة بن جندب فقال له أحدهم: يا رسول الله! إنه رام، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم، فقام رافع بن خديج وقال لزوج أمه مري بن سنان الحارثي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز سمرة وإني والله لأصرعه، فقام مري وقال: يا رسول الله! أجزت سمرة وأن ابني هذا يصرعه، فقال النبي: تصارعا، فصرع رافع سمرة فأجازهما النبي صلى الله عليه وسلم).
شباب كان في ذلك السن يتوق إلى الجهاد، كان معداً إعداداً إيمانياً، كانت تربيته تربية معلقة بالسماء، معلقة بالله عز وجل، معلقة بالآخرة وثوابها، معلقة بنصر الدين وإعزازه، لا تلتفت إلى صغائر الأمور وسفسافها.
تلك هي الصورة لأولئك الصغار، فأين صغارنا اليوم ومن يكون في الخامسة عشرة؟! إنه في الصف الثالث المتوسط، ماذا نطلب منه؟ إننا لا نأمنه أن يذهب إلى المتجر فيشتري شيئاً؛ لأنه لا يستطيع أن يسير خطوات وحده، دون أن يكون معه أحد من أهله من شدة خوفه وتكريس هذه التربية في نفسه، ولعلي لو مضيت وفتشت لوجدت شيئاً كثيراً.(112/11)
موقف من مواقف الرسول عليه الصلاة والسلام مع أصحابه في أحد
بين يدي المعركة أيضاً (رفع النبي صلى الله عليه وسلم سيفه وقال: من يأخذ هذا بحقه؟ فقام إليه رجال فمنعهم منه، حتى قام أبو دجانة رضي الله عنه وقال: ما حقه يا رسول الله؟ قال: أن تقاتل به حتى ينحني، فقال: أنا آخذه يا رسول الله، فأخذه ومشى مشية المتبختر بعصابة حمراء ربطها على رأسه، فقال بعض الصحابة: فلقد رأيت أبا دجانة يفري بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرياً).
هل هناك من ينتدب لتلك المهام الصعبة؟ هل هناك في أمة الإسلام من يقول اليوم: أنا لها؟ إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد أما اليوم تدعو الدواعي وتأتي الأمور الملحة فلا تكاد تجد أحداً يتقدم لها، ولا ينتدب إليها، ولا يجدد القدوة بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
(ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: لن تراعوا لن تراعوا، وهو على فرس لـ أبي طلحة عري ما عليه سرج…).
بأبي هو وأمي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان المقدام في كل أمر: (كنا إذا حمي الوطيس واحمرت الحدق نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم) كما قال ذلك الفارس المغوار علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.
تقدم أبو دجانة ووفى بحق سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدى دوره كما كان يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قلت لكم: إن حديثي ليس عن الغزوة بل عما سبقها.(112/12)
وقفة مع موقف المنافقين في غزوة أحد
هنا وقفة نقفها مع المنافقين قبل أحد، انخذل عبد الله بن أبي ابن سلول بمن معه من المنافقين ومن أجابه إلى دعوته، كان عبد الله بن أبي ممن يريدون البقاء في المدينة، فلما خرج الجيش خرج معهم وقبل الوصول إلى المواجهة قال: عصاني وأطاع الولدان والغلمان، فرجع ورجع معه من بين ألف رجل ثلاثمائة رجل.
هذا شأن المنافقين المثبطين، وما أكثرهم في ديار وبلاد ومجتمعات المسلمين، لم لم يقعد في المدينة من أول الأمر؟ أراد أن يثير البلبلة، وأن يشيع روح التثبيط والخذلان، وقد كادت قبيلتان من القبائل أن ترجع معه كما ذكر الله جل وعلا ذلك في القرآن: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122].
(لما رجع ابن أبي فلحق بهم عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنه وقال لهم: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حل عدوكم؟ فقالوا: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، ولكننا لا نرى أنكم تقاتلون)، وهذا تناقض مع القول الأول، وإرجاف ليس له معنى.
القوم على مشارف المدينة والمعركة ظاهر أنها قائمة، ولكنهم يقولون تلك المقالة، فقال عبد الله رضي الله عنه: (أبعدكم الله يا بعداء، وسيغني الله عنكم نبيه صلى الله عليه وسلم، وقال بعض الأنصار: يا رسول الله! ألا نستعين بحلفائنا من اليهود؟ فقال: إنا لا نستعين بمشرك).
تلك هي الصورة في الاستعداد لكل مواجهة عسكرية أو غير عسكرية، إنه إيمان قوي، إنها نفوس أبية، إنهم صغار يطمحون إلى مطامح الرجال، إنهم رجال ينتدبون إلى مهمات الأعمال، إنهم مجتمع لا يستمعون إلى الإرجاف، ولا يفت في عضدهم خور الخائرين ولا خذلان المخذلين، بل يبقون خلف رسولهم ووراء منهجهم ولنصرة دينهم ولإعلاء كلمة الله عز وجل، لا يأبهون لشيء مطلقاً، تلك هي صورة المجتمع المسلم.
ولنا وقفات أخرى سنرى فيها الوصية الجامعة التي نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بها.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يبصرنا بهدي وسنة وسيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا بها مستمسكين إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(112/13)
وقفة مع وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه قبل غزوة أحد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن.
وإليكم وقفة موجهة إلينا بين يدي كل ملمة تحيط بنا؛ إنها كلمات قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بين يدي غزوة أحد قبل أن تلتحم الصفوف، خذوا هذه الوصية التي رواها الواقدي في مغازيه، قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه من العمل بطاعته، والتناهي عن محارمه، ثم إنكم اليوم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه، ثم وطن نفسه على الصبر واليقين والجد والنشاط، فإن جهاد العدو شديد كربه، قليل من يصبر عليه إلا من عزم له على رشده.
إن الله مع من أطاعه، وإن الشيطان مع من عصاه، فاستفتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله، وعليكم بالذي أمركم به، فإني حريص على رشدكم.
إن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف، وهو مما لا يحبه الله ولا يعطي عليه النصر ولا الظفر).
كلمات جامعة ينبغي أن تنزل من قلوبنا موقعها، قبل أن يكون في آذاننا مسمعها، كلمات يخبرنا فيها النبي صلى الله عليه وسلم، كيف ينبغي أن يكون حالنا عندما يتكالب علينا أعدائنا؟.
يقول عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل، فلينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
تلك الوصية الجامعة يخبرنا فيها النبي صلى الله عليه وسلم بجماع الأمر، بالائتمار بما أمر الله والانتهاء عن محارمه، استقامة واستجابة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24].(112/14)
خطر المعاصي والمنكرات على المجتمعات
إن الخلل إذا وقع والمعاصي إذا انتشرت والفسق إذا عم، تكون عاقبته وخيمة، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25].
وفي حديث أم المؤمنين زينب رضي الله عنها قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج قدر هذا، وحلق بين السبابة والإبهام، فقالت: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)، وقد كثر -والله- الخبث وقل من ينكره، بل قل في الناس أحياناً من يدركه ويشعر به.
إن مأساتنا عظيمة، وإن الخطر بنا محدق؛ لأنه في أعماق نفوسنا وقلوبنا، والنبي صلى الله عليه وسلم حذرنا فقال: (ولكن من رضي وتابع)، فكم من أمور منكرة قد رضينا بها أو ألفناها أو غضضنا عنها طرفنا، وصممنا عنها آذاننا، ولم ننطق بشيء يحذر منها أو ينبه عليها، بل إن قلوبنا في كثير من الأحوال لم تعد تنقبض ولم تعد تغتم بكثرة تلك المنكرات، وربما فشا ذلك في معظم مجتمعات المسلمين إلا ما رحم الله.
إن كثيراً من وسائل الإعلام مقروءة ومسموعة ومرئية تطالعنا صباح مساء بما يخالف هذه الوصية تماماً، فإنها لا تدعو إلى صبر ولا إلى يقين ولا إلى جد ولا إلى نشاط، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الوصية: (فعليكم بالصبر واليقين والجد والنشاط) أين نحن من هذا الجد والنشاط ونحن نتابع موسماً رياضياً الأول يدخل عليه الثاني ويتبعه الثالث، وقنواتنا العربية اليوم لم تقصر، فهي لم تترك بقعة في العالم إلا نقلت ألعابها وترهاتها حتى لا يفوتنا شيء من ذلك، كأنه قد فرغت أوقاتنا وانتهت مهماتنا وصلحت أحوالنا وقويت أمتنا وانتصرت جيوشنا، فلم يعد لنا هم إلا أن نتابع هذا المسلسل أو تلك المباراة أو تلك المسابقة، أو اتصل على ذلك الرقم أو افعل كذا وكذا، في نوع من تتفيه العقول وتسفيهها، وشغل الأمة ورجالاتها فضلاً عن شبابها ونسائها بهذه الأمور السخيفة العارضة، حتى يصل الخور إلى القلوب والنفوس فتركن إلى عدوها وتهزم قبل أن تأتي المعارك.
ولذلك كم من هزيمة وقعت للنفوس والقلوب، بل نحن اليوم نرى من أبناء جلدتنا من يتكلمون بألسنتنا وهم يجوسون خلال ديارنا ويقولونا كلاماً هو أشد وقعاً وأظهر ضرراً مما يقوله أعداؤنا فيما يفت في عضدنا، وفيما يسكننا ويركعنا ويذلنا لأعدائنا، والمؤامرات اليوم لا تخفى على أحد، ولم يعد أحد يجهل اليوم المؤامرات الكبرى التي تحيط بأمتنا الإسلامية.
وكما قلت: قد غزيت ديارها واستبيحت دماؤها وانتهكت أعراضها وسلبت مقدساتها وفعل بها ما فعل، وهي ما تزال ترقص وتغني، وما تزال تقول أموراً عجيبة في شأن أعدائها، نسأل الله عز وجل السلامة.(112/15)
الصدق في المواقف بين واقع الصحابة وواقعنا المعاصر
لقد كانت مواقف التصديق واضحة في أحد، بمعنى أن أقوال الصحابة صدقتها الأفعال: (ويوم انكشف المسلمون بعد أن تخلى الرماة عن مواقعهم وأراد بعض المشركين أن يتوجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، فأحاط به سبعة من الأنصار واثنان من قريش، فكانوا يدافعون عنه ويذودون عنه ويجعلون ظهورهم ونحورهم دروعاً له، حتى سقط السبعة شهداء بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو طلحة الأنصاري يذود عن رسول الله ويرمي، فإذا أشرف الرسول صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! لا تشرف؛ حتى لا يصيبك سهم من القوم، نحري دون نحرك يا رسول الله! ثم إنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً ومعه بعض الأسهم فقال: انثرها لـ أبي طلحة، فنثرها فكان ينبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشهداء يتساقطون فداء لرسول الله عليه الصلاة والسلام).
ويوم قال قائل: (أما سمعت أن رسول الله صلى الله عليه قد مات، قال الأنصاري: فعلام الحياة بعده؟! موتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم).
ويوم أن انجلى غبار المعركة: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتفقد سعد بن الربيع سيد من سادات الأنصار، فوجد وبه رمق في اللحظات الأخيرة من حياته، فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام، فقال: وعلى رسول الله السلام، أبلغ قومي أنه ليس فيكم خير قط إن خلص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف، دافعوا عن دينكم وعن رسولكم إلى آخر نفس من أنفاسكم).
تلك هي وصية الثبات، وذلك هو مجتمع الإسلام، وهذا هو واقعنا، وتلك عظة وعبرة؛ كل منا مطالب وقد قامت عليه الحجة بمعرفة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يتدبر بعقله، وأن يتأمل بفكره، وأن يحيي هذه المعاني في قلبه، وأن يشيعها في أهله، وأن يدعو إليها صحبه ومجتمعه، وأن نحرك أمتنا لتجديد مسيرة وسيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم.
إنه لا ينبغي لأمة الإسلام أن تحني رءوسها ولا أن تذل نفسها لأعدائها، ولا أن تتراجع عن ثباتها على منهجها وسيرها على إسلامها واستمساكها بدينها ورفعها لراية الجهاد في سبيل الله، سيما وهي اليوم معتدى عليها بلا أدنى شك، حتى لو قلنا: إن الجهاد جهاد مدافعة عند العدوان، فقد وقع العدوان وما زال يقع فأين الدفاع؟! وأين الجهاد؟! نسأل الله عز وجل أن يذب عن ديننا، وأن يذب عن أمتنا، وأن يحفظ للمسلمين أرواحهم وديارهم وأموالهم وأعراضهم، وأن يؤلف بين قلوبهم، وأن يوحد بين صفوفهم، وأن يردهم إليه رداً جميلاً، وأن يجعلهم مجتمعين على التقى والهدى.
اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيها أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم من أرادنا وأرد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم رد كيدهم في نحرهم واشغلهم بأنفسهم واجعل بأسهم بينهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، عاجلاً غير آجل يا رب العالمين.
اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم وحد كلمتهم وأعل رايتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا رب العالمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، احفظ لها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، وسعة رزقها ورغد عيشها برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله، {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، خصوصاً على أجلهم قدراً وأرفعهم ذكراً ذوي القدر الجلي والمقام العلي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(112/16)
خطوات عملية في أوقات المحن [1]
تعيش الأمة الإسلامية في هذا العصر في فتن ومحن، وبلايا ورزايا لا تخفى على ذي بصيرة، ولابد لها من البحث عن مخرج من ذلك، وبين يدينا خطوات ونقاط ينبغي الأخذ بها في معالجة الأوضاع، وتصحيح المسيرة.(113/1)
رسالة المنبر
الحمد لله منه المبتدى وإليه المنتهى، وهو في كل خير يرتجى، ومن كل شر وضر إليه الملتجأ، نحمده سبحانه وتعالى، هو المحمود على كل حال وفي كل آن، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، بعثه الله إلى الناس أجمعين، وأرسله رحمة للعالمين، وهدى به من الضلالة، وبصر به من الغواية، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وكان أسبقنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وكان أبعدنا عنه، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! (خطوات عملية في أوقات المحن) ذلك ما يسأل عنه الناس، ويريدون معرفته، ويعزمون على الأخذ به، وهو موضوع حديثنا اليوم؛ لأننا في هذا المقام ينبغي أن نذكر أنفسنا ونذكر إخواننا بأن مقام الخطبة مقام عظيم، لابد فيه من أن تتوفر كثير من الصفات، ولكننا نشير إلى أهمها.
أولاً: المقصد الأعظم؛ فإن هذا المنبر ليس لمناظرة سياسية، ولا لمظاهرة إعلامية، إنما هدفه الأعظم ومقصده الأكبر: الإخلاص لله عز وجل، وابتغاء رضوانه وإن سخط الناس، وقصد وجهه سبحانه وتعالى دون الالتفات إلى الناس.
وثانياً: الهدي الأقوم، والاقتداء بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، كيف كان في خطابته وفي تأثيره وفي وضوحه وفي صراحته، وكيف كان في علاجه لأمراض الأمة، وتناول شئونها العامة والخاصة، وكيف كان ذلك دائماً ناشئاً عنده صلى الله عليه وسلم من معايشته لأصحابه وأمته، ومن معرفته العظيمة الواضحة الجلية لحاجتها.
وأمر ثالث: مراعاة المصالح والمفاسد، والأخذ بالحكمة والبصيرة.
أما والناس يريدون -كما يقولون- كذا وكذا، فليس هذا مثل وسائل الإعلام يقدم ما يطلبه الجمهور، فنسأل الله عز وجل أن يجعل لهذه المنابر إخلاصاً لله كاملاً، ومتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم تامة، وحكمة فيها بالغة.(113/2)
جوانب فكرية في معالجة الفتن والمحن
هذه الخطوات نذكرها حتى نفهم ونفقه، وربما نؤكد ونكرر ونزيد ونعيد لأهمية مثل هذه المعاني، ولست أطيل؛ وإنما أؤكد وأركز على المهم من هذه المعاني التي لابد لنا منها.(113/3)
وضوح الرؤية وقوة العصمة
أولاً: وضوح الرؤية، وقوة العصمة: لابد أن نكون على بصيرة واعية، ووضوح تام، وبينة فاصلة من أمر ديننا، وكتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، لسنا في شك من أي قضية وحقيقة قرآنية أو نبوية، لسنا نبحث هنا وهناك، لسنا نقبل ما يروج من الشائعات، وما يكون له صدى واسع ودوي كبير من الأخبار أو الأقوال أو المقالات؛ لأننا كما قال الحق عز وجل في خطابه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]، بينة من الله واضحة، آيات أنوارها ساطعة، أحكام أدلتها باهرة، لابد أن تكون معرفتنا بذلك ووضوح رؤيتنا فيه حتى في سنن الله الماضية، وفي حكمته البالغة التي نقرؤها في آيات كتابه، ونرى تطبيقها في واقع الحياة؛ كل ذلك له أهميته.
ومن ذلك لا يمكن حينئذ أن يكون شك ولا ارتياب، ولا حيرة ولا اضطراب، إذ هذه هي البينة الواضحة، والرؤية التي ليس فيها غبش مطلقاً، قال تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس:105].
قال الله جل وعلا في خطابه لرسوله ليخاطب البشرية كلها والناس أجمعين: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:104 - 106].
ثم من بعد آيات قليلة يعود الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليصرح بها أمام الناس كلهم والخليقة جمعاء قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس:108 - 109].
نبقى على ثوابتنا، ونعرف عاقبتنا وخاتمتنا؛ لأن الله جل وعلا قد قال: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]، ونوقن أيضاً في وضوح رؤيتنا أن الدائرة على الكافرين، كما كسر الكياسرة، وقصر القياصرة، وأغرق فرعون، فإن ظلمة اليوم من الغزاة المعتدين أمريكان أو بريطانيين عاقبتهم ولو بعد حين إلى ذل وهوان، فلا ينبغي أن تكون هناك عجلة، ولا ينبغي أن تكون هناك حيرة، قد تكون لهم جولة، وقد يكون لهم نصر في دائرة أو ميدان، فهل يعني ذلك أن يدب اليأس إلى النفوس؟ وهل يعني ذلك أن الكفر ظهر على الإيمان؟ وهل يعني ذلك أن نتشكك في حقائق القرآن؟ وهل يعني ذلك أن تضطرب الآراء وتحتار؟! لقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ببصيرته النافذة، وكان قد أعلن عن نتائج كثير من معاركه وغزواته قبل بدئها، ألم يكن في يوم بدر قد قال: (والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم: هذا مصرع أبي جهل، هذا مصرع عقبة بن أبي معيط، هذا مصرع أمية بن خلف) لماذا؟ لأن يقينه بالله كان عظيماً؛ ولأنه يعرف أن سنة الله ماضية في نصرة من نصر الله، إن تخلف وعد فلم يكن تخلفه لذات الوعد؛ وإنما لتخلف شروط تحقق الوعد، فلا ينبغي أن نسرف في عواطفنا، وأن نجاري هذه الموجات الإعلامية التي تتلاعب بعواطف الناس، ثم لا يكون لهم من بصيرتهم ورؤيتهم ويقينهم ومعرفتهم القرآنية والإسلامية ما يكشفون به ذلك.
ولقد كانت كسرة في يوم أحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، فأي شيء صنع عليه الصلاة والسلام؟ هل استسلم لليأس؟ وهل شك أصحاب محمد في نبوته؟ وهل ظنوا أن الإسلام قد ذهبت ريحه وانقضت أيامه وزالت دولته؟ لم يكن من ذلك شيء، بل خرج بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي يليه ليلاقوا عدوهم؛ ليثبتوا أن الهزيمة لم تصل إلى القلوب، وأنها لم تبلغ النفوس، وأنها لم تخالط العقول، وأنها لم تغير الشعور، ذلك هو الذي كان يقصده رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن يقصد مجرد المواجهة المادية بقدر ما كان يريد تثبيت الروح والقوة والفهم المعنوي لأصحابه رضوان الله عليهم.
وهكذا كان في كل واقعة عليه الصلاة والسلام، يوم بدأت حنين بما بدأت به من ارتداد بعض الأصحاب في أول الأمر، واختلاط الرؤية، وتضارب جيش المسلمين، ونزول السهام والنبال عليهم كوقع المطر؛ ثبت عليه الصلاة والسلام، وأي شيء كان يقول؟ بعض الذين كانوا من مسلمة الفتح لم يثبت الإيمان في قلوبهم، قال بعضهم: بطل اليوم سحر محمد.
لم يكن عندهم وضوح رؤية، لم يكن عندهم صدق إيمان بعد، فهل نقول مثل ذلك إن وقعت واقعة أو حلت كارثة؟ كلا؛ ينبغي ألا يكون ذلك، لقد قالها عليه الصلاة والسلام: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، رفع بها صوته، ثبت في موقعه، تقدم في مواجهة عدوه، ثابت العقول إلى رشدها، ورجعت العزائم إلى قوتها، انعطفت الجيوش إلى مقدمتها، فعادت الجولة لأهل الإسلام والإيمان.
ويوم كسر المسلمون في بغداد في محرم من عام (656هـ)، وكان ما كان من قتل ثمانمائة ألف وألف ألف كما ذكر ابن كثير، واستحر القتل أربعين يوماً، وسالت الميازيب من دماء المسلمين، وبلغ نتن جيفهم إلى بلاد الشام؛ قامت الأمة من كبوتها، ونهضت من وهدتها، واستعادت عزيمتها؛ لأن كتابها بين يديها؛ لأن سنة نبيها صلى الله عليه وسلم أمامها؛ لأن القوة المولدة موجودة، بقي أن نوصلها بنا، وأن نرجع إليها لنشحن أنفسنا بها.
وفي اليوم الخامس والعشرين من شهر رمضان في يوم الجمعة عام ثمانية وخمسين وستمائة من الهجرة، أي: بعد أقل من ثلاثة أعوام؛ نهض المسلمون، وواجهوا التتار، وكسروهم، وهزموهم، وتتبعوهم حتى لم يبق منهم أحد.
وذلك ما ينبغي أن نعرفه، فليست مواجهتنا لأهل الكفر والعدوان في ميدان واحد، ولا في جولة واحدة، ولا في دولة واحدة، فإن رأينا ذلك كذلك، وخسرنا الجولة، أو ذهبت الدولة كأنما نسينا كل شيء! كلا ينبغي أن ندرك أننا نواجه أعداءنا على مدى طويل من الزمان كما فعلوا وكما يفعلون، وأننا نواجههم في كل الميادين قتالية وفكرية وخلقية وعقدية كما يفعلون: قطفوا الزهرة قالت من ورائي برعم سوف يثور قطعوا البرعم قالت غيره ينبني في رحم الجذور قلعوا الجذر من التربة قالت إنني من أجل هذا اليوم خبأت البذور كامن ثأري بأعماق الثرى وغداً سوف يرى كل الورى كيف تأتي صرخة الميلاد من صمت القبور تبرد الشمس ولا تبرد ثارات الزهور وذلك ينبغي أن نستحضره في رؤيتنا: أن يبقى ولاؤنا لله، ولعباد الله، ولدين الله، وأن يبقى بغضنا لأعداء الله، وتربصنا بهم الدوائر، وشحذ هممنا للقائهم، وتغذية أبنائنا ورضاع ذلك مع لبانهم؛ فإنها ليست جولة واحدة إن اغتصاب الأرض لا يخفينا فالريش قد يسقط عن أجنحة النسور والعطش الطويل لا يخفينا فالماء يبقى دائماً في باطن الصخور هزمتم الجيش إلا أنكم لم تهزموا الشعور قطعتم الأشجار من رءوسها وظلت الجذور أبقوا الجذور للإيمان في قلوبكم فسوف تبسق شجرته، وتينع ثمرته، ويعظم ظله ويشمخ بإذن الله عز وجل رغم أنف كل قوى الأرض قاطبة وإن عظمت، وإن تضخمت، وإن هول الناس هولها وعظموا أمرها!(113/4)
معرفة الخلل وطريق العمل
ثانياً: معرفة الخلل، وطريق العمل: لا ينبغي أن نخادع أنفسنا، ما الذي آل بنا إلى هذا الأمر؟ ما الذي جعل عجزنا واضحاً فاضحاً؟ ما الذي جعل ذلنا ظاهراً بيناً؟ ما الذي جعل خلافنا مؤسفاً محزناً؟ ما الذي حل بنا؟ نعم! ذلك كيد من أعدائنا، وهل يتصور من الأعداء إلا ذلك؟ لكننا نريد أن نكاشف أنفسنا أن نضع النقاط على الحروف أن نقرأ آيات القرآن الكريم: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].
انتبه إلى هذه المعاني! ولقد جاءت صريحة واضحة، ليس فيها مداراة ولا مجاملة، خوطب بها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وصفوة البشر من أصحابه رضوان الله عليهم في حادثة واحدة، في معصية ومخالفة واحدة، في يوم أحد جاء الخطاب الرباني: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران:165]؟! كيف وقع هذا؟! كيف حل بنا هذا؟! كيف وبيننا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! كيف ونحن ننصر دين الله؟! لقد كان ذلك والرسول معهم والصحب هم الصفوة المختارة، فهل تجاوزتهم سنة الله؟ وهل لم يمض عليهم قدر الله؟ {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] كلام واضح، ومحاورة صريحة نفتقدها، ونداري أنفسنا، ونغالطها، ونرمي بالتبعة على الحكام، أو نلبسها على العلماء، أو ندفع بها نحو الأعداء، وكأننا من كل ذلك برآء، وكأننا مطهرون ليس فينا نقص ولا عيب، وكأننا لسنا سبباً من أسباب هذا البلاء، وكأننا لسنا طريقاً من طرق تسلط الأعداء! ولقد تنزلت الآيات في يوم أحد والجراح ما زالت نازفة، والحزن ما زال في القلوب يعصرها، وفي النفوس يفريها ويؤلمها، ومع ذلك جاء الوضوح القرآني والمنهج الرباني، فهل نحن قادرون على أن نقول: نحن أصحاب الأخطاء، ونحن جزء من البلاء، ونحن الذين ركنا في بلادنا وديارنا وأوضاعنا وأحوالنا إلى الأعداء؟! هل نقولها؟ ينبغي أن نقولها، وينبغي ألا نلتفت يمنة ويسرة، أن ننظر إلى ذوات أنفسنا، أن ننظر في المرآة إلى أحوالنا، أن نكشف خللنا، فإذا عرفنا مصدر الخلل يمكن أن نعرف مصدر الإصلاح والعمل، وذلك أمره بين.
إذا شكا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أمر يسير ومخالفة واحدة، فكيف نحن نسأل اليوم: لم يجري ذلك؟! ولم يحل بنا ذلك؟! ألسنا نرى معاصي تبلغ إلى درجة الكفر بنبذ دين الله، والاستهزاء بكتاب الله، والتعدي على شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم تقع في ديار المسلمين وبلسان عربي مبين؟ ألسنا نرى فسقاً وفجوراً مما تعلمون؟! وهذه مرة أخرى في وصف أحد: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران:152] أي: تقتلونهم قتلاً قوياً سريعاً، وذلك في أول المعركة، {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:152].
لـ ابن القيم كلمات كثيرة، انتخبت منها واحدة يقول فيها: من آثار المعاصي والذنوب، قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الوقت، ونفرة الخلق، والوحشة بين العبد وبين ربه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم، ولباس الذل، وإهانة العدو، وضيق الصدر، والابتلاء بقرناء السوء، وطول الهم والغم، وظنك العيش، وكسف البال.
كل ذلك يتولد عن المعصية والغفلة عن ذكر الله كما يتولد الزرع عن الماء.
لم لا نبحث في ذلك كما كان يعرفه ويتشربه سلفنا الصالح؟ روى ابن مسعود -يروى عنه موقوفاً ومرفوعاً-: (إن العبد ليحرم العلم بالذنب يصيبه).
كانوا يرون أن خفاء المسألة أو نسيان النص إنما هو بسبب الذنب.
ومن مقالات السلف: كان أحدنا يجد أثر الذنب في خلق زوجه ودابته.
إذا رأى من زوجته خلقاً سيئاً اتهم نفسه أنه قد قصر أو أساء، فابتلاه الله بذلك، ففي أدق الدقائق وأبسط الأمور كانوا يعرفون ويوقنون أنها من الأسباب، فيبدءون أولاً بعلاج أنفسهم.
لله در أبي هريرة رضي الله عنه حيث يقول لنا: ما بالك تبصر القذاة في عين أخيك ولا تبصر الجذع في عين نفسك!.
نحن بصيرون بالبحث والتنقيب والاستخراج لعيوب الناس، ونحن أعمى الناس عن عيوبنا، وأغفل الناس عن تقصيرنا، إن كنا نريد في هذه المحن والفتن أن نخرج منها بخير فليكن معرفة تقصيرنا وتفريطنا أول ما نبدأ به، ونحن نعلم أن طريق العمل كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
نسأل الله عز وجل أن يقوي قلوبنا، وأن يعز نفوسنا، وأن يربطنا به، وألا يجعل لنا إلى سواه حاجة.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(113/5)
جوانب نفسية في معالجة الفتن
الجانب النفسي: وهو مهم جداً، ونذكر فيه أمرين:(113/6)
المشاركة الشعورية للأمة الإسلامية
المشاركة الشعورية العميقة الصادقة، أين أخوة الإيمان؟ أين نصرة الإسلام؟ أين الصورة المثالية العظيمة الفريدة، والمثل الحي الكامل الذي ضربه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم بقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
لقد كنت أحدث نفسي وحدث بذلك بعض الناس، قلت: إني أنكر من نفسي أن حزنها ما زال قليلاً لا يكافئ المصاب والخطب العظيم، وإن ألم القلب ما زال دون المطلوب بكثير، وإننا ما زلنا نستطيع أن نضحك وأن نفرح، وأن نلهو وأن ننام، وأن نطعم وأن نشرب، وكأن خنجراً لم يطعن في قلوبنا، أو لم ينفذ إلى ظهورنا، وكأننا لسنا مصابين بذلك المصاب الضخم الهائل، كأننا لن يكون لنا هذا الأثر النفسي حتى يكون المصاب في أنفسنا وفي أعراضنا، وفي بيوتنا وحرماتنا.
لقد كان صلاح الدين لا يضحك ولا يتبسم، فلما قيل له في ذلك قال: كيف أضحك وبيت المقدس في أيدي النصارى؟ ذلك كان همهم وحزنهم قد خالط شغاف قلوبهم، وجرى مع دمائهم في عروقهم، لم يملكوا معه أن يناموا وأن يهجعوا، ولا أن يلهوا ولا أن يضحكوا، لابد أن نعمق هذا الشعور، وأن نجعله عظيماً في قلوبنا لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان لابد أن نستشعر هذه المعاني، وأن نعمقها في نفوسنا ونفوس أبنائنا، ألا يتبلد الإحساس ونحن نشاهد المناظر أمامنا؟ كم طفلاً رأيناه مشوه الوجه قد قتلت براءته! كم أماً رأيناها تبكي على رضيعها وصغيرها! كم رأينا ممن فقدوا دورهم وأموالهم! ليس اليوم ليس في العراق فحسب؛ بل في فلسطين على مدى خمسين عاماً، وفي كشمير مثلها، وفي غيرها وفي غيرها، وما زال الحزن في نفوسنا قليلاً! ولقد قلت هذا لأنني أعني به نفسي، وأرى أننا إن لم يكن لنا حرقة نشعر بها تقض مضاجعنا، وتؤرق نومنا، وتجعلنا لا نهنأ بعيشنا؛ فلنتهم أخوتنا، ولنتهم صدق مودتنا، ولنتهم تلاحمنا كالجسد الواحد الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلب يفيض أسىً وعين تدمع والجسم من فرط الضنى متضعضع نار تمور بها الحشى وتألم يفري نياط القلب فهي تقطع حر يسام أذىً ويهتك عرضه قهراً فيالله كم ذا مفزع! وفتاة طهر بالحجاب تلفعت عنها حجاب الطهر قهراً ينزع وبيوتهم فوق الرءوس تهدمت والطفل مات وأمه تتوجع أفليس في قلوبنا رحمة إنسانية، وأخوة إيمانية، وعاطفة إسلامية؟! ما لم نبكها، ما لم نحركها، ما لم نبتغ بذلك أن نقويها فلن تكون لنا تلك الحركة الإيجابية التي نرجوها ونأملها.(113/7)
القوة والعزة والاستعلاء بالإيمان
ثانياً: القوة والعزة: فلسنا نريد لهذه الأحزان أن تنال من عزيمتنا، ولا أن توهن من قوتنا، ولا أن تضعف من عزتنا، كلا، نريدها وقوداً يتفجر قوة، ويتطاير عزة، نريد أن نؤكد في كل الظروف والأحوال، بل في ظروف المحن والفتن على وجه الخصوص أننا نستعلي بإيماننا، وأننا نتشرف ونفخر بإسلامنا، وأننا نرفع رءوسنا، وأننا سادة الدنيا، وأننا معلمو البشرية، وأننا قادة الإنسانية، وأننا دعاة الحرية.
نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، نحن الأمة التي اختارها الله عز وجل لتكون الأمة الباقية إلى قيام الساعة، ولتكون الأمة الشاهدة على الأمم يوم القيامة قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
ما بالنا نفوسنا فيها حزن، وقلوبنا فيها ذل، وأحوالنا في تقهقر؟ إذا دام الأمر كذلك فإنه لا يرجى أن يتولد لنا عمل، ولا أن تكون لنا حركة، لابد أن نستحضر قول الحق جل وعلا: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، أقدامنا فوق كل الرءوس وإن علت وشمخت بقوتها المادية؛ فإن قوتنا الإيمانية أعظم، وإن جولتنا أوسع وأشمل، وإن نصرنا عليهم مؤزر مؤكد، ليس في ذلك أدنى شك لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ينبغي أن ندرك ذلك، وأن نستحضر موقف ربعي بن عامر، وكلكم يعرفه، وقد قلناه وكررناه؛ لأنه موقف يدل على ما ينبغي أن يعمر قلوبنا ونفوسنا، يوم دخل على أبهة الملك عند رستم، وكان قائداً عظيماً من قادة الفرس في بهرج الدنيا، وزخرف الحضارة، وقوة الجند، وهيبة الملك، فهل لفت نظره شيء من ذلك؟ هل أضعف شيء من ذلك قوته وعزيمته؟ هل نال من فخره وعزته؟ دخل يخرق الطنافس برمحه، ويسير إلى أن يجلس على سرير ملكه، ثم يخاطبه عندما سأله ذلك
السؤال
ما الذي جاء بكم؟ فقال بعزة المؤمن: (جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة)! لله درك من نموذج للعزة ووضوح الرؤية نفتقده ونفتقر إليه، فكن مسلماً قوياً عزيزا.
فإنك لا تلين لهم جنابا وإنك لا تقيم لهم حساباً ولا تبدي لهم قربىً وزلفى ولا تهدي لشيبهم خضابا وغيرك ينسج الألفاظ عهراً يدغدغ في عهارتها الرغابا وغيرك لا يجيد الرقص إلا على أوتارهم ولها استجابا ورأسك يا أمير القوم قاس ومن قبل المشيب أراه شابا لأنك مسلم ستظل حرباً على الأشرار ترهقهم عذاباً تذكروا وصيحوا دائماً لأن الإيمان أعلى وأجل، ويوم قام أبو سفيان بعد غزوة أحد، وقد رأى شيئاً من نشوة انتصار عابر، يصيح وينادي: أين محمد؟ أين أبو بكر؟ أين عمر؟ ويقول الرسول: لا تجيبوه.
حكمة وحيطة، فلما قال: اعل هبل.
أراد أن يفتخر بعقيدته ويعلي جاهليته، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أجيبوه.
فانتدب الفاروق عمر، فلما قال أبو سفيان: اعل هبل.
قال: الله أعلى وأجل.
فقال: يوم بيوم بدر.
قال: لا سواء، قتلاكم في النار وقتلانا في الجنة.
يبقى راشد العقل، قوي العزم، رابط الجأش، لا تنال الأحداث من قوته وعزته، نسأل الله عز وجل أن يقوي قلوبنا، وأن يعز نفوسنا، وأن يربطنا به، وأن يجعلنا أوثق بما عنده مما في أيدينا، وألا يجعل لنا إلى سواه حاجة.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: لابد لنا أن نستحضر هذه المعاني، وأن نتواصى بها، ولقد كنت أريد أيضاً أن أضيف إلى حديثي هذا الجانب العملي، وهو جانب فيه كثير من الخطوات، وكثير من الميادين، ولكن المقام يقصر عنه، وبعض إخواننا قد يرى أن طول الحديث يتعبه أو يرهقه، مع أني لست ممن يريد طول الحديث شهوة في الكلام، وأيضاً: نحن نقضي من الأوقات في كثير من الأمور التافهة ما الله سبحانه وتعالى به عليم، ثم لا يكون لنا اجتهاد ولا صبر أن نتذاكر وأن نتحدث، وأن تطول مراجعتنا وأخذنا وردنا في حالنا وبلائنا، وفيما نستعين الله سبحانه وتعالى به في مواجهة أعدائنا.
لعلنا -أيها الإخوة الأحبة- أن نكثر من التجائنا إلى الله عز وجل، ودعائنا إليه سبحانه وتعالى، وسأجعل حديث الجانب العملي في لقائنا وجمعتنا القادمة إن مد الله في الأعمار.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرد كيد الكائدين، وأن يدفع شرور المعتدين.
اللهم سلط على الغزاة المعتدين من الصليبين الحاقدين، واليهود الغاصبين رجزك وغضبك وبأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم إنهم قد طغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد؛ فصب اللهم عليهم سوط عذاب، وكن لهم يا ربنا بالمرصاد، اللهم لا تبلغهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية.
اللهم لا تجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، ولا تجعل من المؤمنين للكافرين ولياً ولا ظهيراً، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم إنهم قد طغوا وبغوا، وتجبروا وتكبروا، وحاربوا الإسلام والمسلمين، واستحلوا الحرمات، وسفكوا الدم الحرام؛ اللهم فانتقم منهم يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! اللهم سلط عليهم جند السماء، وزلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم أعطب أسلحتهم، وأسقط طائراتهم، وأغرق بارجاتهم، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك.
يا ذا الجلال والإكرام! يا من أمره بين الكاف والنون! سدت الأبواب إلا بابك، وانقطعت الأسباب إلا أسبابك، وليس لها من دونك كاشفة، اكشف اللهم البلاء عن الأمة، وارفع الغمة، والطف بنا فيما يجري به القضاء يا رب الأرض والسماء! اللهم إنك على كل شيء قدير، وأنت بكل شيء عليم، إليك الملتجأ، وأنت المرتجى، نسألك اللهم أن تقضي لأمة الإسلام والمسلمين خيراً، وأن تجعل لهم من وراء هذه المصائب والرزايا والبلايا خيراً، وأن تكتب لهم فيها نصراً وعزاً يا ذا الجلال والإكرام! اللهم رحمتك بالشيوخ الركع، والأطفال الرضع، والصبية اليتامى، والنسوة الثكالى.
اللهم ارحم إخواننا في العراق وفي فلسطين، وفي كشمير وفي الشيشان، وفي أفغانستان وفي كل مكان.
اللهم انصر المستضعفين، اللهم انتصر للمظلومين، اللهم إنا نسألك أن تمسح عبرتهم، وأن تسكن لوعتهم، وأن تؤمن روعتهم، وأن تقيل عثرتهم، وأن تفرج همهم، وأن تنفس كربهم، وأن تعجل فرجهم، وأن تفك حصارهم، وأن تقهر عدوهم، وأن تزيد إيمانهم، وأن تعظم يقينهم، وأن تجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور، واجعلنا على بصيرة وبينة من أمرنا، اللهم لا تفتنا ولا تفتن بنا، وإذا قضيت فتنة فاقبضنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين.
اللهم ثبت المجاهدين، اللهم أمدهم بقوتك وحولك ونصرك وعزك وتأييدك يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل لنا في هذه الأيام المباركة عملاً صالحاً ترضى به عنا، وترفع به البلاء عنا، وتنصر به إخواننا، نسألك اللهم أن تسخرنا في نصرة دينك، وأن تستخدمنا في طاعتك، وأن تجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن توفق ولي أمرنا لهداك، وأن تجعل عمله في رضاك.
اللهم الطف بنا فيما تجري به المقادير يا رب العالمين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
وأقم الصلاة! إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(113/8)
خطوات عملية في أوقات المحن [2]
إن المحن والمصائب قد توالت وتتابعت على أمة الإسلام بسبب ما تمادت فيه من ارتكاب للذنوب والمعاصي والسيئات، وإن من أعظم ما يثبت المؤمن وينهض بالأمة عند المحن هو التزود من الطاعات والعبادات لله سبحانه وتعالى، وكذلك دعاء الله سبحانه والتضرع بين يديه، لعل الله أن ينظر إلى هذه الأمة الضعيفة بعين الرحمة، فيفرج عنها ما هي فيه.(114/1)
أهمية الخطوات العلمية لنهضة الأمة عند حلول المحن
الحمد لله أكرمنا بالإيمان، وأعزنا بالإسلام، وهدانا بالقرآن، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمداً عبد الله جل وعلا ورسوله الكريم، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! قد يكبر الجرح، ويكثر النزف، وتعظم البلية، وتتضاعف الرزية، ولكننا ينبغي أن نعي أن البكاء لا يشفي، وأن الدمع وحده لا يروي، وأن الحزن وإن عظم لا يغني، وأنه لابد من أن نعود إلى نفوسنا لنشحذها همة وعزيمة، وإلى قلوبنا لنملأها إيماناً ويقيناً، وإلى عقولنا لنحشوها رشداً وبصيرة وهداية، وإلى أحوالنا لنشيع فيها إصلاحاً وإحساناً واستقامة.
لابد ألا نكون متأثرين بردود الأفعال، ولا يكون كل حدث يمر، وكل مصيبة تحل سحابة صيف تنقشع فتعود العقول إلى غيها، والألسنة إلى لغوها، وتعود النفوس إلى لهوها، والأوضاع إلى حالها، لا يتغير من ذلك شيء، فلا يحصل من أثر الخير الذي نرجوه ما نؤمله من رحمة الله، وما ننتظره من نصر الله، وما نتوق إليه وندعو به من هزيمة أعداء الله؛ لأن سنن الله جل وعلا ماضية؛ ولأن قدره غالب سبحانه وتعالى.
خطوات عملية لنهضة الأمة الإسلامية، أسلفنا الحديث فيها عن الجانب الفكري في أمور أساسية مهمة: من وضوح الرؤية، وقوة العصمة، ومن معرفة الخلل، وطريق العمل، وجوانب نفسية: من المشاركة الشعورية الإسلامية، ومن روح العزة الإيمانية.
واليوم نقف مع الجانب العملي، ولئن طال حديثنا فيه فإنه جدير بذلك، ولئن قال بعض من قد يسمع حديثنا هذا: ما لك ترجع إلى البدايات الأولى؟! ما لك تذكر بالمعلوم المعروف من ديننا كأنما نحن لا نعرف ذلك؟! فأقول: إن مشكلتنا الكبرى أننا نغالط أنفسنا ولا نصارحها، ونجاملها ولا ننصحها، وأننا كثيراً ما نبحث عن الأخطاء، ونعلق المسئوليات على هذا وذاك، ونرمي أعداءنا بفاحش القول وعظائم التهم، ولا ننظر إلى أنفسنا لنرى قصورنا، ولنعرف الوهن الذي يأتي من قبلنا، ولننظر إلى الثغرات التي يجوس الأعداء من خلالها عبرنا.
نحن نريد -كما أسلفت مرات وكرات- أن يكون ما يمر بنا من قدر الله عز وجل محركاً لنا نحو ما يريده الله جل وعلا منا، وقد ذكرنا ما يتعلق بالفكر والنفس؛ لأنه أساس المنطلق؛ ولأنه قاعدة الارتكاز؛ ولأنه نور المستقبل الذي يبصرنا بالطريق الهادي والموصل إلى مرضاة الله عز وجل.(114/2)
من الخطوات العملية عند حلول المحن كثرة الطاعات
وأما الخطوات العملية في نهضة الأمة فكثيرة؛ ولكنني أوجز المهم منها في هذه القواعد التي أحسب أننا نحتاج إلى مزيد من الحديث عنها.
أولاً: كثرة الطاعات.
ونحن نعرف أن الخير إنما يستجلب من الله بالتقرب إليه، وأن من أراد رحمته تعرض لها بطاعته، وأن من أراد مغفرته سعى إليها بمناجاته، وأنه لا يمكن أن ننال رحمة الله ولا نصره ولا عزه ما لم ننصر الله جل وعلا، ما لم نقبل عليه، ما لم نحسن صلتنا به، ما لم نعلق حبالنا به، ما لم نجعل توكلنا عليه، ما لم نفض بحوائجنا وذلنا وتضرعنا بين يديه؛ ما لم يكن أمرنا كذلك فستظل قلوبنا مشرقة ومغربة، وستظل آمالنا مخيبة ومضيعة، مرة نعلقها بمجرمين يتحدثون بألسنتنا، وفسقة يتصدرون في ديارنا، ومرة نعلقها بأعدائنا من اليهود أو النصارى، ومرة قد نظن أن في أنفسنا قوة، وأن بين أيدينا أسباباً تغنينا عن صلة الله عز وجل، فحينئذ نؤتى كما أتينا هنا وهناك، ليست بغداد ولا أفغانستان، وليس ما قبلها وما بعدها، وإنما هو هذا الأمر الذي ينبغي أن نحرص عليه.
وأقولها في البدهيات وفي الأصول والأساسيات؛ لأنها التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم؛ لا يقل أحد: إن هذا أمر نعرفه؛ فإن تقصيرنا فيه ظاهر، وأقولها من بدايتها ومن أولها، ومن ألفها وبائها حتى ننتهي إلى يائها: حافظ على أداء الفرائض من الصلوات، قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، هذه العبادة والشعيرة والركن والفريضة، هي صلة العبد بربه كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم، كما روى مسلم في صحيحه من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله).(114/3)
من أسباب ضعفنا هجر الصلوات
ولعلي أقولها صريحة: من أعظم أسباب ضعفنا وذلنا أنه قد كثر فيما بيننا هجر الصلوات، وعدم أدائها بالكلية، فضلاً عن التفريط والتقصير والتأخير، وغياب القلب، وذهاب العقل في أثناء أدائها، فإذا كانت هذه الركيزة وتلك الفريضة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها من آخر ما يحل من عرى الدين، فكيف بنا بعد ذلك نسأل: أين نصر الله الغائب المرتقب؟! أين العز والتمكين الذي تتوق إليه النفوس؟! إنه أمر واضح وبين.
احرص على شهود الجماعات، أين هذه الجموع الغفيرة في الصلوات؟ ومع النداء والأذان؟ وفي الصفوف الأولى؟ كيف نريد أن نتقدم لمواجهة أعدائنا ونحن لا نبادر ونتقدم لطاعة ربنا؟ كيف نتنافس في ميادين الجهاد في قتال عدونا ونحن لا نتنافس في السبق إلى مرضاة ربنا، وأداء فرائضه سبحانه وتعالى؟! إنه لابد لنا أن نعي وعياً عميقاً أن هذا مرتبط بذاك، وأنه مقدمة له، وأنه سبب معين عليه، وأنه الذي يكون بإذنه سبحانه وتعالى بداية لما يأتي بعده من الخير: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم:31]، والله جل وعلا قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النور:56]، {وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ} [الحج:35]، {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} [النساء:162]، بصيغة الجمع والجماعات التي بترت إلا من رحم الله، حتى قال ابن مسعود مقالته في عهده وزمانه، محذراً ومنبهاً ومذكراً بالعهد الأول الذي بناه وعلمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا يقول ابن مسعود؟ (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن؛ فإن الله تعالى جعل لنبيكم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم تصلون في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).
كيف نواجه أعداءنا ونستنزل نصر ربنا وفينا نفاق؟! أخبر ابن مسعود بأنه كان أمراً واضحاً جلياً معلوماً عند جيل الصحابة (وما يتخلف عنها إلا رجل معلوم النفاق)، ويخبرنا أنها من سنن الهدى، وأن تركها ترك لسنن الهدى، وأن ترك سنن الهدى مقدمة للضلال والغي والانحراف الذي تلفعت به أمتنا ردحاً من الزمن، وما يزال فئام من أبناء الإسلام يعيشون في ظلامه وغياهبه، ويدرجون في ضلالاته ومتاهاته، بعيداً عن هدى الله، بعيداً عن الصلة بالله، بعيداً عن طاعة الله، بعيداً عن بيوت الله، بعيداً عن الأخوة في الله، بعيداً عن استماع آيات الله.
كيف نرشد؟ كيف نصلح؟ كيف نستطيع أن نقوى ونعز؟ كيف نستطيع أن نجابه ونقاوم وفينا مثل هذا الخلل الأعظم الكبير؟! إنه خطاب قد قاله الله جل وعلا في كتابه، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وتواصى ويتواصى بذلك كل أهل الإسلام في كل زمان ومكان، ولعلي أعيد ما قلته: قد يقول القائل: ما لنا نتحدث في هذه الأصول، وتلك البدهيات المعروفة؟ وأقول: هل أغنى عرفانها والعلم بها عن التحقق والالتزام بها؟ أين نحن من ذلك ونحن لا نرى إلا خللاً وضعفاً وتقصيراً وتفريطاً وابتعاداً عن كل هذه الأمور الأساسية المهمة؟!(114/4)
أهمية جهاد النفس على إقامة الصلوات
ولعلي أشير إشارة قد أكثرت من الحديث فيها من قبل: لئن لم يقو أحدنا أن يغالب راحته، وأن يجاهد نفسه، ويخرج في غلس الليل ليشهد صلاة الفجر، مبكراً إليها، مقدماً بين يديها سنتها التي هي خير من الدنيا وما فيها، فكيف نزعم أننا نستطيع أن نجاهد أعداءنا، وأن نصنع كذا وكذا! {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، تشهده الملائكة، وينام عنه مئات الآلاف، بل أحسب أنهم ملايين من المسلمين، يصب الأذان سمعه في ضوء الفجر، ولا يصب في آذان كثيرة قد بال فيها الشيطان كما أخبر رسول الهدى صلى الله عليه وسلم عندما أخبر عن ذاك الذي لا يصلي حتى يوقظه حر الشمس، قال: (ذاك رجل قد بال الشيطان في أذنيه)، أخبر أهل العلم في شرح هذا الحديث بأن المراد: أنه تمكن منه تمكناً حتى جعله موضعاً لقاذوراته ونفاياته.
أفلسنا -أنا وأنت- قد نكون من هذا الصنف في بعض الأحوال؟ وأن بعضاً من المسلمين لم يعد في قائمة حياته وبرنامجه اليومي أن يصلي صلاة الفجر في وقتها، فضلاً عن أن يؤديها في جماعة، وأن وقت الدوام والعمل أو السفر والارتحال أعظم عند كثير من الناس من طاعة الله، وعبادة الله، وأداء فريضة الله، ثم نشكو من بعد ذلك، ولا نطلب الشفاعة التي نلتمسها في طاعة الله عز وجل، ولا نطلب الوقاية والحماية التي أخبر بها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في حديث جندب بن عبد الله عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: (من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم) رواه مسلم.(114/5)
الصوم قوة معنوية وتربوية في مواجهة الصعاب
وهذا باب واسع، زد من الصيام؛ فإنه عبادة وتربية، وطهارة وتزكية، إنه قوة إيمانية، إنه قدرة على مواجهة صعوبات الحياة، وتهذيب شهوات النفس، إنه ضرب من ضروب القوة المعنوية المهمة، والاستعلاء الإيماني الفريد، والقدرة على حزم الأمر، وإمضاء الإرادة، وشحذ الهمة، ونحن نحتاج إلى ذلك حاجة عظيمة؛ لأن الصيام جنة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه شفيع لأصحابه يوم القيامة مع القرآن؛ ولأنه كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بينه وبين النار سبعين خريفاً) لم لا نجعل هذا ديدناً لنا؟ لم لا نجعل من هذه الأحداث رداً لنا إلى مزيد من الطاعات؟ أليس قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، وقام به، وعمله، وانتدب إليه، واتبعه عليه أصحابه فكان كثيرون منهم يدمنون ويديمون ويواصلون الصوم في كثير من الأيام وخاصة فضائلها، فكانوا حينئذ خفافاً لينطلقوا إلى طاعة الله، وليلحقوا بالصفوف في الجهاد في سبيل الله؟ ونحن إذا جاء هذا النداء، وقد ملئت بطوننا، وثقلت أجسامنا، وعظمت شهواتنا، وشغلت بهذه الملذات أفكارنا، فلا نكاد ننطلق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38].
ينبغي أن ندرك أن ضعفنا من قلة عبادتنا، والصوم عبادة فيه الخفة والقوة المحلقة نحو مرضاة الله سبحانه وتعالى، جاء في حديث عثمان بن أبي العاص أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الصيام جنة من النار كجنة أحدكم من القتال، قال: وصيام حسن صيام ثلاثة أيام من الشهر) رواه ابن خزيمة في صحيحه.
فلا أقل من أن نحرص على هذا فيكون لنا منه زاد.(114/6)
إنفاق الأموال في نصرة المسلمين
والثالث ما نذكره في كثرة الطاعات: الإنفاق في مصارف المسلمين ونصرتهم.
ولئن كان هذا الإنفاق سبباً من أسباب المادة فإنه قبل ذلك سبب من الأسباب المعنوية الإيمانية التي يُمحص بها الإيمان، والتي تبتلى بها النفوس، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم كما روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة: (شر ما في الرجل شح هالع، وجبن خالع)، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجتمع في قلب عبد: الإيمان والشح.
وقال الله جل وعلا: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
إنها النفوس المرتبطة بالأموال، المتعلقة بالملذات، كيف نستطيع تهذيبها؟ كيف نستطيع أن نجعل فيها تعظيم أمر الله، ونصرة دين الله، وإعانة عباد الله قبل أن تكون مسخرة لشهوات البطون والفروج والملذات والترف والنعيم؟ ما بالنا ننفق أموالنا في شهواتنا، ولا يكاد أحدنا تجود نفسه إلا بأقل القليل على مضض وتردد إذا دعي للإنفاق في سبيل الله، ويقول: أريد الجهاد في سبيل الله، ولا يجاهد بماله ليكون ضرباً من ضروب الجهاد كما روى أبو داود والنسائي في سننهما من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)؟ ونعلم كثيراً من الآيات التي تقدم الأموال على الأنفس، فهل جاهدنا بأموالنا؟ وهل جعلنا ما هو فرض علينا أولاً، وما هو زائد على الفرض لننصر ديننا، ونعلي راية ديننا، أم أننا ما زلنا نبخل بذلك؟ {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
ليس أحد بأعز على الله عز وجل من أن يمضي فيه أمره، وأن تجري عليه سنته: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111]، والرسول عليه الصلاة والسلام أخبرنا -كما في الصحيح- بأنه: (من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا) ألست تكفل يتيماً قد مات والده مجاهداً مستشهداً في سبيل الله؟ ألست تعين حينئذ على مواجهة أعداء الله؟ ما بالنا ننفق أموالنا لنقوي أعداء الله، ولنجعل الأموال في أيديهم ليستعينوا بها على حرب الإسلام وأهله؟ نداء نقوله بالعقل والقلب، وقبل ذلك بالدين والشرع: المدخنون كم ينفقون من الأموال؟ هذا ينفق قليلاً وهذا ينفق قليلاً، وإذا بنا نقول وتقول الأرقام: إن عشرات البلايين من الريالات تنفق في بلدنا هذا على هذا الدخان! أفهذا عقل عند من يرون أنهم مستهدفون من أعدائهم؟! أفهذا تصرف حكيم عند من يقولون: إنهم يريدون أن يطوروا أحوالهم وينصروا أمتهم؟! وانظر إلى ما وراء ذلك من السرف والترف في الزواج وفي غيره! وانظر إلى الإنفاق في البذخ وفي غير هذه الأبواب المعروفة التي يشعر المرء كأن شيئاً منها لم يتغير، وكأن ما جرى وما قد يجري لا يخصنا، ولا يغير من واقعنا شيئاً.
هل غيرنا بعض ما نصرفه على كماليات لا فائدة منها ولا حاجة إليها، فضلاً عن محرمات ومكروهات وموبقات نصرف فيها الأموال، لندفعها إلى أيدي الأعداء، ولنشتري منهم، ولنأخذ منهم هذه المهلكات والمدمرات؟ ثم نقول بعد ذلك: إننا أمة مستهدفة، ونريد أن نواجه أو نقاوم! ذلك أمر عجيب! بخل في الطاعات، وسرف في المحرمات، ولسنا نريد أن نقول: كونوا كما كان أسلافنا، لسنا نريد أن نذكر بـ عثمان يوم جهز جيش العسرة، وسخر كل ما بيده في خدمة دينه، ونصرة أمته، وإعلاء إسلامه، ومواجهة أعدائه: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:10]، مجرد التقدم في هذا الباب يجعل هناك فرقاً في المراتب، واختلافاً في الدرجات، وينبغي لنا أن ندرك هذا وأن نعرفه.
ولعلي هنا أختم بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو يجمل لنا هذه الجوانب التي ذكرتها؛ قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاث أحلف عليهن: لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كما لا سهم له، وإن أسهم الإسلام ثلاثة: الصلاة، والصوم، والزكاة) هذه الأسهم أين حظنا منها؟ وأين نصيبنا؟ أول هذه الخطوات العملية: كثرة الطاعات؛ فإنها بداية التصحيح.(114/7)
من الخطوات العملية عند حلول المحن استدامة الدعوات
ثانياً: استدامة الدعوات: وليس الدعاء إذا حلت المصائب، ولا إذا نزلت النكبات، بل كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من سره أن يستجيب الله له عند الكرب والشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء) رواه الترمذي والحاكم وصححه.
{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62] إنه الله سبحانه وتعالى الذي قال لنا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] أين نحن من دعائنا قبل الصلوات، وفي أثناء الصلوات، وبعد الصلوات؟ أين دعاؤنا في المجتمعات والمنتديات التي ينبغي أن تفتتح بالدعوات وأن تختم بالدعوات؟ أين نحن من دعائنا في السكون والخلوات، في جوف الليل، وقبيل الفجر، وفي الساعات الأخيرة من هزيع الليل الأخير، يوم ينزل ربنا إلى السماء الدنيا فيقول: (هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه، وذلك الدهر كله)؟ ليس في يوم النكبة، ولا في زمن المحنة، بل في كل يوم.(114/8)
صور من إجابة الدعاء
نريد أن نرى كيف كان اليقين بهذا الدعاء يوم كان الإيمان في القلوب راسخاً، ويوم كان الصلاح والاستقامة في الأحوال الباطنة والظاهرة بيناً، فكان أحدهم يدعو جازماً بإجابة الله للدعاء، حتى اشتهر من بين الصحابة رضوان الله عليهم من كان مجاب الدعوة كما في شأن سعد بن أبي وقاص، الذي خاطبه المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: (أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة)، فسمع سعد رجلاً ينال من علي وطلحة، فنهاه وزجره فلم ينزجر، فقال: اللهم سلط عليه.
فجاء جمل هائج يسير بين الناس، حتى وقع على الرجل بعينه فدكه، ثم داسه بأقدامه حتى قتله.
وسعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، ادعت عليه امرأة زوراً وبهتاناً أنه أخذ شيئاً من أرضها، فلما خوطب بذلك قال: كيف هذا وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من اقتطع قيد شبر من أرض طوقه يوم القيامة من سبعين أرضين)؟ ثم قال: (اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واقتلها)، فعمي بصرها، وسقطت في دارها فماتت.
وأبو معاوية الأسود في مواجهة مع الروم خرج علج من علوجهم، فكان من أشدهم أذىً على المسلمين، فجاء إليه بعض المسلمين وقالوا: هذا فعل كذا وكذا، فادع الله عليه.
فأخذ حربته ودعا وقال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، ثم قال: أين تريدون؟ قالوا: المذاكير.
فرمى بها فما أخطأ موضعهم الذي قالوه، فقتل الله عدوه سبحانه وتعالى.
ونحن نقول هذا لأن بعض الناس ما زالوا يقولون: وما نفع الدعاء؟ دعونا فلم يجب الله دعاءنا! وما علموا أنهم ما استوفوا شروط إجابة الدعاء، وأنهم قد سدوا طريق الدعاء والقبول بكثير من ضعف اليقين، إضافة إلى الإعراض عن الطاعات، والوقوع في المعاصي والسيئات.
ونحن نقول ذلك حتى نعظم هذا الإيمان في قلوبنا ثقة بالله سبحانه وتعالى، وإفضاءً إليه بمكنون نفوسنا، وضعف حالنا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل عند كل مواجهة لعدوه، وعند كل خطب يحل به.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرفع عنا البلاء، وأن يكشف الضراء، وأن يلطف بنا فيما يجري به القضاء، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا دوام وإخلاص الدعاء؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(114/9)
لزوم الأخذ بالأعمال الصالحة حسب الأولوية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من تقوى الله سبحانه وتعالى كثرة الطاعات، واستدامة الدعوات، والحرص على الاستقامة في الأحوال.
ولعلي -أيها الإخوة الأحبة- أؤكد أننا نحتاج إلى مثل هذه المعاني والأصول والقواعد والأركان والفرائض، وأن نكون صرحاء مع أنفسنا، فلسنا في غنى عن التذكير بهذا والتواصي به، بل نحن في حاجة إلى التقريع عليه والتوبيخ على التقصير فيه، وفي حاجة إلى أن نحزم الأمر ولو بشيء من الشدة والغلظة؛ حتى نؤدي هذه الواجبات، ونقوم بتلك الأركان.
وليس هذا هو الأمر العملي الذي نتحدث عنه فحسب، فإن الذي ذكرناه الآن إنما هو الدائرة الأولى في ذات نفسك، ولنا دوائر من بعد: دائرة الدعوة والتربية والإصلاح لعموم الأمة، ودائرة رابعة مهمة، وهي: دائرة الوقاية والمقاومة لأعداء الله.
وينبغي أن نأخذ الأمور أولاً فأول، فإذا عجزنا عن الأصول فنحن في الفروع أعجز، وإذا تركنا الواجبات فنحن للتطوعات أترك وهكذا، ولئن كنا نريد لأنفسنا الخير فلنكن على أهبة الاستعداد لنصارح أنفسنا بواقعنا؛ حتى لا يقال: إنه قد كان منا ما كان، ونحن نطلب النهايات ولم نأت بالبدايات، ونرجو النتائج ولم نعمل بالمقدمات، ونريد المسببات ولم نأخذ بالأسباب، فلعل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى.
اللهم اهدنا، واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين.
اللهم لا تفتنا، ولا تفتن بنا، وإن قضيت فتنة فاقبضنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين.
اللهم إنا نسألك أن ترينا الحق حقاً وأن ترزقنا اتباعه، وأن ترينا الباطل باطلاً وأن ترزقنا اجتنابه، وأن تهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأن تخرجنا من الظلمات إلى النور.
اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم اجعلنا عباداً لك مخلصين، وجنداً في سبيلك مجاهدين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك إخلاصاً في القول والعمل، وأن تجنبنا الفتنة والزلل، وأن تغفر لنا ما مضى وما هو آت، وأن توفقنا للطاعات، وأن تجنبنا المعاصي والسيئات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك بالصليبيين المعتدين، اللهم عليك باليهود الغاصبين، اللهم عليك بهم وبحلفائهم أجمعين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم رد كيدهم في نحورهم، وقنا اللهم من شرورهم.
اللهم اجعل الدائرة عليهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، اللهم لا تبلغهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، أنزل اللهم عليهم سخطك، وأحل بهم نقمتك، واشدد عليهم وطأتك، وأرنا فيهم عجائب قدرتك يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار.
اللهم إنهم قد أفسدوا في البلاد، اللهم إنهم قد طغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد، اللهم فسلط عليهم سوط عذاب، وكن لهم يا ربنا بالمرصاد، اللهم شردهم كل مشرد، ومزقهم كل ممزق، واجعلهم لمن خلفهم آية وعبرة يا رب العالمين.
اللهم لا تجعل لهم في ديار الإسلام قراراً، اللهم لا تجعل لهم فيها أمناً ولا استقراراً، اللهم لا تجعل لهم فيها نصراً ولا عزاً ولا استكباراً، اللهم اجعلها عليهم ذلاً وعاراً، وأشعلها عليهم ناراً يا ذا الجلال والإكرام يا رب العالمين.
اللهم الطف بعبادك المؤمنين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم آمن روعاتهم، وسكن لوعاتهم، وأقل عثراتهم، وامسح عبراتهم، وفرج همومهم، ونفس كروبهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء.
اللهم اجعلنا أوثق خلقك بك، واجعلنا أفقر الفقراء إليك، وأغنى الأغنياء بك، ولا تجعل لنا إلى سواك حاجة.
اللهم إنه لا حول ولا قوة لنا إلا بك، اللهم فأمدنا بحولك وقوتك وعزتك ونصرك وتأييدك يا رب العالمين.
اللهم أفرغ في قلوبنا الصبر واليقين، وثبت أقدامنا في مواجهة المعتدين.
اللهم وحد صفوفنا، وألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا.
اللهم اجمعنا دائماً على الحق والهدى والتقى يا رب العالمين.
اللهم اجعل هذا البلد مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم وحد كلمتهم، وثبت خطواتهم، وقو شوكتهم، وسدد رميتهم، وأعل رايتهم، وانصرهم على أعداء الإسلام والمسلمين يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن تحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأن تجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
وأقم الصلاة! إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(114/10)
خطوات عملية في أوقات المحن [3]
لا مخرج لهذه الأمة من الفتن والمحن التي ابتليت بها إلا بأمرين مهمين: الأول: النظر في حال الأمة وتقصي جميع العيوب والنقص الموجود.
الثاني: إصلاح ومعالجة هذا النقص وهذا الزلل بدءاً بالأسرة الصغيرة وانتهاءً بالأمة والشعوب، وإذا لم نكن كذلك فإننا سنبقى على حالنا، وربما نرجع إلى الأسوأ والعياذ بالله، وحينها يحل علينا غضب الله سبحانه.(115/1)
الجوانب الإصلاحية لنهضة الأمة ونصرتها
الحمد لله أكرمنا بالإيمان، وأعزنا بالإسلام، وهدانا بالقرآن، وأمرنا بالعدل والإحسان، ونهانا عن الظلم والطغيان، وجعل طاعته جل وعلا سبباً لنزول رحمته، وتحقق نصرته، وجعل معصيته سبباً لحصول النقم، ورفع النعم، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وأكمل به الشريعة والدين، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا موصول في واجباتنا العملية التي يلزم أن نتواصى بها، وأن تكون الأحداث التي تجري معيدة لنا إليها، ومذكرة لنا بها، ومعينة لنا على أدائها، وقد أسلفنا القول في أمرين اثنين: من كثرة الطاعات، وصدق الالتجاء ودوام الدعوات.
واليوم نتحدث عن نصر المسلمين، ليس ذلك النصر الذي يختزله بعضنا فلا يراه إلا في ميدان قتال يعجز عنه الآن كثير من الناس، ولا تتيسر أسبابه ولا طرقه، بل ولم تتهيأ عند كثير من الناس أسبابه وإعداده المطلوب، ولكن نصر المسلمين بالإصلاح الداخلي الذي يكون متواكباً ومتزامناً، والذي يكون طريقاً مؤدياً إلى قوتهم وقدرتهم على مواجهة عدوهم.
نداءات ثلاثة نحتاج إليها: أصلحوا أنفسكم، وربوا أبناءكم، وغيروا مجتمعاتكم، وإن الدائرة الأولى هي دائرة الانطلاق التي نواجه بها أنفسنا من غير مغالطة ولا مجاملة، وقد ذكرنا شيئاً من ذلك، إلا أننا نوضح المفاتيح الأساسية المهمة التي نحتاج إليها، فإننا نحتاج أن نحارب جهل النفوس بالعلم، وأن نحارب ظلمها بالإنصاف والعدل.(115/2)
محو الجهل بالعلم
أول هذه الجوانب الإصلاحية: من الجهل إلى العلم.
كم نحن مدركون لحقيقة خطر نفوسنا التي بين جنبينا! قال تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53]، نحمل بين أضلعنا سبباً إن لم نفطن له ونحرص على تقويمه كان من أسباب ضعفنا وانحرافنا.
قال ابن القيم رحمه الله فيما ينبغي معرفته عن النفس الأمارة بالسوء: أن يعرف أنها جاهلة ظالمة، وأن الجهل والظلم يصدر عنهما كل قول وعمل قبيح.
ويبين الواجب فيقول: إنه لا بد من بذل الجهد في العلم النافع الذي يخرجها عن وصف الجهل، والعمل الصالح الذي يخرجها عن وصف الظلم.
ولقد استعاذ الرسل والأنبياء من الجهل بمعناه الواسع، إذ ليس الجهل هو مجرد ترك العلم أو عدم العلم، بل ربما يكون مع العلم، وذلك بما يكون من إعراض، وعدم التزام واهتمام واقتداء، فيكون ذلك صرفاً للناس عن الحق، واتباعاً للنفس في الهوى والشهوة وغير ذلك، ومن هنا جاء على لسان موسى عليه السلام كما في كتاب الله: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67]، قال القرطبي رحمه الله: وفي هذا دليل على قبح الجهل، وأنه يفسد الدين.
ومن هنا لا بد لنا أن ندرك هذه القضية الخطيرة، وأن نجعل لجهلنا علاجاً شافياً كما أخبر رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: (إنما شفاء العي السؤال)، وذلك أمر مهم لا مناص من الأخذ به؛ لأنه إن وجد ذلك الجهل بوصفه العام وجدت معه كثير من الصور السلبية من الإعراض والجحود، ومن فعل المنكرات، وارتكاب السيئات؛ لأن هذا هو الذي قاله الله جل وعلا، وبينه سبباً وعلة كما في قصة لوط عليه السلام: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:55]، وكان سياق حديث الأنبياء لرسلهم يبين هذه العلة، كما قال هود عليه السلام: {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [الأحقاف:23].
ولعلنا هنا نسائل أنفسنا: ما الذي نعرفه من ديننا الذي يعادينا الناس من أجله، وتتكالب الأمم علينا لوجوده في قلوبنا وفي نفوسنا وفي عقولنا وفي مجتمعاتنا؟ ألا نستحيي أن يكون علمنا بكتاب ربنا أن نقرأ منه آيات من عام لعام، وأن يكون فهمنا له أقل من القليل، وأن يكون تدبرنا في آياته نادراً عابراً غير أصيل ولا مكين في واقعنا وفي حياتنا؟! ومن هنا أقولها، ونحتاج أن نذكر بها، وقد أسلفنا فيها أحاديث وليس حديثاً واحداً: تعلموا القرآن تلاوة واستماعاً، تدبراً وانتفاعاً.
عجباً! نحن عرب، لساننا لسان القرآن الكريم، ثم إذا بنا في قصار السور لا في كبارها لا نعرف مفردات ولا معاني للكلمات، ونقرأ بعضاً من هذه الآيات وكثيراً ما يغيب عنا جزء أصيل من معانيها، وتمر الأيام، وتتوالى الأعوام وكأن شيئاً لا ينقصنا، وكأن قضية خطيرة ليست حاضرة بيننا: أن نعرف كتاب ربنا الذي هو أساس عزنا، ودستور حياتنا، ونور بصائرنا، وهداية قلوبنا، كيف نزعم ذلك ونحن عنه بعيدون، ونحن به غير عالمين، ونحن في واقعنا إلى حد ما في كثير من الأحوال غير متبعين؟ إنها قضية مهمة! وأعجب من ذلك أننا لا نعرف هذا ولا نسعى إليه مع توفر الأسباب وكثرة الوسائل، فمن لا يحسن القراءة لن يعجز أن يصغي إلى حسن التلاوة، ومن لا يجد الوقت ليذهب إلى درس، فإنه يستطيع أن يحضر الدرس إليه، ويسمعه في شريط في بيته أو سيارته، ومن لا يستطيع هذا ولا ذاك يستطيع أن يقرأه في كتاب، ويستطيع أن يسمعه في مذياع، ويستطيع أن يراه في شاشة؛ لكنها الهمة التي قصرت، والغفلة التي عمت، لكنه صدأ القلوب الذي ران عليها، لكنه سهولة أن نوزع العلل والأخطاء على الآخرين، ولا ندرك قصورنا الذي نحتاج إلى علاجه.
تعلموا السنة النبوية، سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، أحاديثه التي لم تترك لنا شيئاً من أمور حياتنا إلا وجاءت لنا فيه بإرشاد ودليل وهدي منه عليه الصلاة والسلام، كم نحفظ من الأحاديث؟! كم نفقه من معانيها؟! كم قرأنا من شروحها؟! كم نعرف من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟! إن الواقع محزن، ولا بد أن ندركه، ليس على مستوى عوام الناس، بل في طلبة الجامعة من تسأله وتتحدث معه إلى أمور أساسية كلية من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، بل والأحداث الكبرى فيها، فلا يرد جواباً، ولا يحوز علماً، ولا يعرف شيئاً، ثم بعد ذلك نقول: إننا نريد أن نفعل ونفعل، ونريد أن نواجه أعداءنا، ونحن لم نعرف الهدي الذي نسير عليه، والهدى والنور الذي نتبعه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
هل قرأت أخي كتاباً كاملاً في السيرة؟ هل قرأت كتاباً كاملاً في حديث وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في مهمات الأحوال والأعمال التي تحتاج إليها؟ إن لم تكن تستطيع ذلك فاعلم -والحجة قائمة عليك- أنها موجودة مسجلة، كل الكتب الكبرى والأساسية، وكذلك الأحاديث التي تبث وتذاع، وكذلك السيرة التي تدرس في الدروس كلها بين أيدينا، ولكنها -مرة أخرى- الهمم العاجزة، والدنيا المشغلة، والتراخي العظيم الذي نعجز به ونقصر فيه عن كثير من واجباتنا.
ثم نقول: تعلموا الفرائض.
وهذا من العجائب! بعض أهل الإسلام ليس في شرق الأرض ولا غربها، بل في هذه الديار، بل في هذه المساجد، بل في هذه المدارس التي تدرس علوم الدين؛ لا يعرفون أحكاماً من فرائض الإسلام وأركانه الخمسة، وفي ديار الإسلام الأخرى كذلك ما هو مثل هذا وأكثر! ولقد قلت مرة، ولمست شيئاً من ذلك منذ سنوات في زيارة لبعض بلاد الإسلام، قلت: إن سألت فيها مسلماً عن أركان الإسلام هل عددها ستة أو خمسة؟ فمن أجابك بإجابة صحيحة فعض عليه بالنواجذ؛ فإنه من خير القوم؛ لأن الجهل قد عم، والناس لا يسألون، وهذا عجب! تجد من الناس من يبلغ به العمر عتياً، وهو في الحكم الفقهي قد بطلت صلاته كلها؛ لأنه لا يعرف أحكام الطهارة، أو لا يأتي بها على وجهها، وغير ذلك كثير، وعندما تأتي الأسئلة في الأوقات والمناسبات تعرف أن الناس لا يفقهون من دينهم إلا اسماً عابراً، ورسماً ظاهراً إلا من رحم ربك.
ثم نقول بعد ذلك مرة أخرى، وأعيدها ثانية وثالثة، إنه حديث إلي وإليك: كم نحن مفرطون في علمنا بديننا، وفوق الجهل العظيم الذي هو جهل العلم هنالك جهل الغفلة، وجهل الترك، وجهل المعارضة والمخالفة، وهو الذي أشرنا إليه، والأمر في هذا خطير وعظيم.(115/3)
تغيير الغفلة إلى الذكر
ثانياً: غفلة وذكر: وهي تابعة لذلك العلم الذي يورث الذكر، ويمنع الغفلة، وصحوة وغفلة، كم نحن في حاجة إلى ذلك، قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء:1 - 3] أليس هذا وصفاً يصدق في كثير منا معاشر المسلمين؟ ألسنا نمر بكثير من الأمور دون أن نتيقظ؟ أليس حال كثير منا نوم بلا يقظة، وتسويف بلا حزم، وابتلاء بلا اعتبار، قلوب عميت، وأنفس رتعت، وبصائر ضلت، وعقول في الغي سادرة، وألسن باللغو ناطقة، وآذان للفحش مصغية؟ أليست هذه الأحوال المهلكة هي سبب تسلط الأعداء علينا، وبها حلت بنا النكبات، ونزلت بنا المصائب؟ ألسنا في حاجة إلى أن نصحو من نومنا، وأن نتذكر من غفلتنا، أم أننا كما نقول في أمثالنا: (عادت حليمة إلى عادتها القديمة)؟ حادثة مرت، وسحابة صيف انقشعت، وعدنا إلى لغو القول، ولهو السمر، وغي الفعل والعقل، وكأن شيئاً لم يكن، ثم نقول من بعد: ما الذي جرى؟ ما الذي حصل؟ أين نصر الإسلام؟ أين نصر المؤمنين؟ ونحن في هذه القضية على هذا النحو من الغفلة، آيات تتلى، وأحاديث تروى، وعبر تتوالى، ومصائب تتعاظم، والقلوب ما زالت غافلة قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:92].
احذر أخي المسلم! فإن القضية خطيرة، وإن الغفلة مهلكة، وإن سهو القلوب وغي النفوس عظيم في أثره الدنيوي من موات هذه القلوب وقسوتها، ومن ضلال تلك النفوس وظلمتها، ومن انحراف تلك العقول وغيها، وإنه من بعد ذلك في الآخرة -والعياذ بالله- سبب لاستحقاق عذاب الله قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]، فهل نريد أن يصدق فينا هذا الوصف وقلوبنا لا تعي، وأعيننا لا تبصر، وآذاننا لا تسمع -ليس السماع ولا البصر الحقيقي، وإنما ما وراءه من الانتفاع والاعتبار والتذكر واليقظة- أم نريد أن نكون من الغافلين، ثم يكون وصفنا القرآني أننا كالأنعام بل أضل، وأنه -والعياذ بالله- يكون حالنا أن نكون من حطب جهنم ومن حصاها وجثاها؟ أفلا قلوب تتذكر؟ قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
أنرضى أن نكون على وصف أولئك الذين ضلوا وانحرفوا وزاغوا وغيروا وبدلوا؟ أنرضى أن نكون نحن أمة القرآن، أمة محمد صلى الله عليه وسلم على خطا المنحرفين الضالين من اليهود والنصارى؟ أنرضى وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه)؟ ما بالنا؟! أين العقول؟! أين القلوب؟! أين الآذان والأبصار؟! قضية مهمة، وغفلة خطيرة حذر منها علماؤنا وأئمتنا، وبينوا خطورتها، ولا بد لنا أن نعي ذلك، وأن ننتبه له، يقول ابن تيمية رحمه الله: الغفلة عن الله والدار الآخرة تسد باب الخير الذي هو الذكر واليقظة، والشهوة تفتح باب الشر والسهو والخوف، فيبقى القلب مغموراً بما يهواه ويخشاه، غافلاً عن الله، رائداً غير الله، ساهياً عن ذكره، قد اشتغل بغير الله سبحانه وتعالى.
ويقول: الغفلة والشهوة أصل الشر قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].
والأمر خطير -أيها الإخوة الأحبة- والعلاج في الذكر واليقظة، وأقولها في كلمات ثلاث مرة أخرى: تذكروا الآخرة، تذكروا الموت وما بعده، الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، ورحم الله الحسن يوم قال عندما رئي الخوف في عينيه، وبادياً في اصفرار وجهه؛ قال: أفكر في ليلة صبحها يوم القيامة.
نحن أمة الإسلام والقرآن كم نقرأ في الآيات ما تندك له الجبال، وتتصدع له الصخور الصماء! والله جل وعلا قد قال لنا ذلك، وبينه في كتابه سبحانه وتعالى حيث يقول: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد:31] والتقدير: لكان هذا القرآن.
قرآن يحيي موات القلوب فما بال قلوبنا لا تتذكر وتعتبر.
ونقولها ثانية: أديموا المحاسبة، كيف تمضي الأيام، وتنصرم الأعوام، ونحن لا ننظر إلى الوراء، لا نحاسب أنفسنا، لا ننظر إلى سجلاتنا؟ ما بال التجار في كل عام؛ بل في كل شهر؛ بل في كل فترة يراجعون الحسابات ويبحثون عن سبب العجز، ويبحثون من المقصر فيه، ويحاسبون ويعاقبون؟ والليل يتبعه النهار، والنهار يتبعه الليل، واليوم يأتي به ما بعده، والأسبوع يخلفه غيره، ونحن بدون محاسبة (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم).
وأخيراً في هذا الباب: اعتبروا بالأحداث، والله جل وعلا يقول: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2]، لا ينبغي أن يمر الأمر، والخطب الجلل، والمصيبة العظمى فنذرف عليها دمعة واحدة، ونتحدث عنها مرة واحدة، ثم لا يكون شيء وراء ذلك! والأمر -كما قلت- في غاية الخطورة.(115/4)
تحويل الكسل إلى عمل
وثالث أحوالنا في إصلاح أنفسنا: أن نحول الكسل إلى عمل: نحن قد ركنا إلى الدنيا إلا من رحم الله، وانشغلنا بها عن كثير من الهمم العالية، والنفوس والعزائم الماضية التي لا ترضى بالدون، التي تطلب المعالي من الأمور، والتي تعرف المنافسة والمعيار الذي تتقدم به بين يدي الله قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، ليس ميدان القول، ليس ميدان الادعاء، ليس ميدان الأمنيات، وإنما هو ميدان العمل قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]، ليس هناك مجال للتقصير بعد كل هذا الذي ذكرناه، فإذا المساجد خاوية، وإذا المصاحف على الرفوف باقية، وإذا دروس العلم لا يكاد يحضرها أحد، وإذا محاريب الليل ودعوات السحر لا تكاد تسمع أو ترى إلا قليلاً قليلاً لم ذلك ونحن نريد إصلاح نفوسنا، قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران:30].
أصلحوا أنفسكم بهذه المعاني المهمة من علم ينفي الجهل، ومن ذكر ينفي الغفلة، ومن عمل يرفض الكسل.(115/5)
تربية الأبناء
وبعد ذلك: ربوا أبناءكم: إن الذي يفشل في ميدان إنشاء الجيل الصالح، والنبتة التي تثمر خيراً وظلالاً وارفاً، وثماراً يانعة للإسلام والمسلمين، فإنه فيما سوى ذلك يكون أكثر فشلاً.
أبناؤنا بين أيدينا، مسئوليتهم في أعناقنا، أقواتهم بعد فضل الله عز وجل من أيدينا، ثم بعد ذلك كله ماذا نصنع؟ وأي مهمة نقوم بها؟ أليس كثير من هذا الأمر المهم ضائعاً غير مرعي ولا ملتفت إليه؟ ما بالنا نشكو من انحراف الشباب؟ من هم أولئك الشباب أو الشابات؟ أليسوا هم أبناء لهذا وهذا؟ أليس لهم مسئولون من آباء وأمهات فرطوا في الأمانات، وضيعوا المسئوليات؟ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
قال ابن كثير رحمه الله: قال مجاهد في تفسير هذه الآية: اتقوا الله وأوصوا أهليكم بتقوى الله.
وقال قتادة: تأمرهم بطاعة الله، وتنهاهم عن معصية الله، وتقوم عليهم بأمر الله، وتأمرهم به، وتساعدهم عليه.
وقال الضحاك: حقٌ على المسلم أن يعلم أهله وقرابته وعبيده ما فرض الله عليهم، وما نهاهم الله عنه قال تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14].
هذه مهمة عظيمة! وهذه قضية خطيرة! إن المرأة التي يخطط الأعداء لإفسادها نحن تركنا ميدان المرابطة، وجعلناهم يتسللون من خلف ظهورنا، وإلى عقر دورنا، ونحن غافلون، وتاركون للمرابطة والمهمة الجسيمة.
وأقولها مرة أخرى: إن لم نرب أبناءنا وبناتنا فلا يحق لنا أن نشكو من سوء الأحوال في مجتمعاتنا، وهذه مهمة ليس لأحد فيها عذر، لن يأتي حاكم ليفسدك في بيتك، لن تمنع قوة في الأرض كلها أحداً أن يعلم أبناءه في قعر بيته.
ولقد ذكرت مراراً أن الشيوعية الحمراء التي سقطت بعد سبعين عاماً ظهر من تحت الأرض في الأقبية شيوخ حنيت ظهورهم كانوا يقرئون أبناءهم وأحفادهم القرآن في منتصف الليل على ضوء الشمع، فتكشفت سبعون عاماً من الكفر عن جذوة إيمان متقدة في القلوب، وألسن عجمية ناطقة بآيات الله في تلاوة حسنة بديعة رائعة! فهل قال أولئك: إنهم معذورون، وإن المناهج التي تدرس لا تدرس الإسلام أو لا تدرس القرآن؟ ونحن مناهجنا تدرس ذلك، ومع ذلك لا نقوم بمجرد التذكير والتأكيد والتعليم لأبنائنا على هذه المعاني المهمة! ما بال أبنائنا وألسنتهم قد أصبحت من أشد الألسنة في الفحش والسباب والشتم واللعن حتى صارت تلعن الدين، وتسب الذات الإلهية والعياذ بالله! ما بال ألسنتهم قد صارت تنطق بألسنة القوم من الكافرين، الذين أصبح من أبنائنا من يتكلم بلسانهم، ومن يخفق قلبه بمشاعرهم، ومن يميل هواه إلى هواهم؛ وذلك لأننا فرطنا في بيوتنا ومدارسنا، وفي مجتمعاتنا ومنتدياتنا، وفي إعلامنا وفي منهاجنا في كثير من ذلك.
وأقولها مرة أخرى في نداءات ثلاثة: اقتربوا منهم، وكونوا قدوة لهم، لا يصلح الفرع ما لم يصلح الأصل، كيف نريد أن نكون مربين لأبنائنا ونحن أسبق منهم إلى ما ننهاهم عنه؟! إنها كارثة عظيمة أن كثيراً من انحرافات الأبناء والبنات ناشئة من سلوك الآباء والأمهات، فكيف نرجو حينئذ أن تكون الأجواء صالحة والأجيال الناشئة أجيالاً خيرة؟! وهذه قضية مهمة أسلفنا فيها القول عندما نادينا بإصلاح الأنفس، فكونوا قدوة لأبنائكم، علموهم ورغبوهم في العمل.
أيها المؤمن! أبناؤك أمانة في عنقك، علمهم دينهم، علمهم معاني الخير، علمهم سير الأصحاب، علمهم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، كن عاملاً من عوامل الخير والإرشاد لهم، ثم رغبهم في هذا العمل، وكن معهم قدوة حتى تتدرج الأحوال، ويصبح هذا النبت الصغير هو عدة المستقبل علماً وعملاً وتقوى وإصلاحاً، وذلك هو الأمر المهم، وهو السلاح الخطير الذي ما جاءت قوى الشر اليوم إلا عندما رأت بذرته في المساجد تحفظ القرآن الكريم، وفي مجالس العلم تتلقى سنة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
عندما وجدوا الأمهات وهن يحرصن على العفاف والحجاب والستر، ويردن أن يبقين على ذلك ولو فصلن من أعمالهن، ولو منعن من تعليمهن، ليس في بلاد الكفر فحسب؛ بل في البلاد الإسلامية، وليس في البلاد الإسلامية فحسب؛ بل في بلاد عربية إسلامية، يوم رأوا ذلك قالوا: هنا مكمن الخطر، لئن هزمنا هذا الجيل فإن أجيالاً قادمة ستهزمنا بقوة إيمانها وإسلامها، حولوا بينهم وبين تنشئة جيل جديد على الإسلام.
فأنت مستهدف بهذا، وعندك السلاح بيدك، ثم لا تقاوم ولا تعمل شيئاً، وتفرط وتضيع في الأمانة.
وأخيراً: تابعوهم، وقوموا مسيرتهم، قال صلى الله عليه وسلم (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر).
نسأل الله عز وجل أن يصلح ذرياتنا، وأن يصلح نفوسنا وقلوبنا، وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(115/6)
إصلاح المجتمع
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وإن ما ذكرناه في نصر المسلمين بإصلاح أحوالنا وأبنائنا يتبعه أيضاً إصلاح وتغيير مجتمعاتنا، واعلم أن كل واحدة من هذه القضايا جديرة بأن يكون فيها حديث طويل، لكننا نريد المجمل المهم، نريد القاعدة الكلية، نريد العنوان وما وراء ذلك تعرفونه، وكلنا يعرف تقصيره، وكلنا يعرف تفريطه، وإنما نريد الذكر والتذكير، ثم بعد ذلك ينبعث القلب، ويلتمس الطريق، ويبحث عما ينقصه من أسباب النجاة.
ولعلنا نواصل حديثنا بمشيئة الله تعالى في تغيير المجتمعات؛ فإن الإسلام لا يكتفي منك بأن تصلح نفسك وأهلك، ثم تقول: ما لي وما للناس؟ ولا أن تتبنى فهماً خاطئاً لقوله جل وعلا: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105].
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا شرور أنفسنا، وأن يعيذنا من فساد قلوبنا، وأن يسلمنا من ضلال عقولنا، وأن يقينا انحراف جوارحنا.
نسألك اللهم أن تردنا إليك رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك يا رب العالمين! وأخرجنا من الظلمات إلى النور.
اللهم إنا نسألك نقاء قلوبنا، وزكاة نفوسنا، ورشد عقولنا، وإخلاص نياتنا، وصواب أعمالنا، وحسن أقوالنا، ومضاعفة أجورنا، ورفعة درجاتنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم من علينا بالعفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ما مضى وما هو آت، وأن توفقنا للصالحات، وأن تجنبنا الشرور والسيئات، ارزقنا اللهم الإخلاص في القول والعمل، وجنبنا اللهم الفتنة والزلل يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك بالصليبيين المعتدين، وعليك اللهم باليهود الغاصبين، اللهم عليك بهم أجمعين، اللهم عليك بحلفائهم ونصرائهم يا رب العالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، زلزل اللهم الأرض من تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين.
اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم.
اللهم فرق كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار؛ يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين.
اللهم رحمتك ولطفك بإخواننا المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في أرض فلسطين وفي العراق وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وأمن روعتهم.
اللهم إنا نسألك أن تلطف بهم فيما تجري به المقادير، اللهم صبرهم على البلاء، ورضهم بالقضاء، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين.
اللهم عجل فرجهم، وفرج كربهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم يا رب العالمين.
اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين، سدد اللهم رميتهم، ووحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم ووفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
وأقم الصلاة! إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(115/7)
الأم المربية [1]
تشكل المرأة شريحة عريضة في المجتمع، فإذا صلحت صلح المجتمع، وإذا فسدت فسد المجتمع، وقد اهتم الإسلام بالمرأة، وبدورها في المجتمع، ولذلك يجب الاعتناء بها تربية وتعليماً وأخلاقاً وسلوكاً.(116/1)
أهمية التربية ودأب الصالحين في ذلك
الحمد لله خلق الخلائق، وأبدع الصنائع، وأحكم الشرائع، وأظهر الحقائق، وبين الطرائق، وهدى إلى النجدين، فإما شاكراً وإما كفوراً، أحمده سبحانه وتعالى، أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، من اتبع شرائعه غنم، ومن خالفها وتنكبها غرم، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال، وفي كل آن حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع آذاناً صماً.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:(116/2)
الأم الصالحة صمام أمان في المجتمع
أيها الإخوة المؤمنون! الأم المربية في المجتمع المسلم صمام أمان، ومصدر قوة، ومصنع جيل، ومعمل تربية، كان لنا حديث عن هذه الأم المربية ببيان مكانة الأم في هذا الدين العظيم، ومنزلتها العالية التي تجعلها في مكانة تؤدي دورها، وتقدم رسالتها في إجلال وتعظيم، واحترام وتكريم، يعترف بفضلها، ويقر ببرها، ويسعى ويجتهد في الوفاء بحقها.
ومن هنا: فإن هذه الأم المربية إذا غابت من واقع حياتنا، أو ضعف دورها في بيوتنا، فإن خطراً عظيماً يتهددنا، وإن تفككاً في مجتمعاتنا ينتظرنا، وإن ضعفاً في أجيالنا سوف يكون له أثره الذي لا نحبه ولا نرضاه.
الطريق إلى الأم المربية كيف نحرص ونبذل الأسباب لوجودها؟ ذلكم مطلب مهم، وقضية كان من المفترض أن تعتني بها وسائل الإعلام، ومناهج التربية على أعلى المستويات، نبدأ ذلك بتربية البنات، إن أم اليوم كانت بنتاً من قبل، فكيف تربى البنات؟ وكيف تعد البنت لمستقبل الحياة؟ هل تعد وتربى وتعلم لتكون زوجة راعية، وأماً مربية؟ هل تعرف دورها وتعلم رسالتها؟ هل تهتم بما تحتاج إليه من العلم والمعرفة ومن الخبرة والتجربة لتؤدي دورها، أم أن مسار التربية الخاصة والتوجيه العام في وسائل الإعلام أو مناهج التعليم ينحو بها منحىً آخر، ويريد منها مطالب أخرى غير هذه المهمة الشريفة، غير هذه المنزلة العظيمة، غير هذه المكانة الخطيرة في واقع المجتمع والأمة؟(116/3)
الاهتمام بالتربية وصلاح الذرية
إن قضية التربية بعمومها، وقضية تربية البنات بخصوصها مسألة تحتاج إلى أن تحظى من المسلمين جميعهم بأعلى درجات الاهتمام، وأن يوفروا لها كل أسباب النجاح، والمعني بهذا هم أنتم أولاً، وبالدرجة الأولى معاشر الرجال والأولياء، أرباب الأسر، القوامين على النساء، إنها ليست مهمات تشريف، ولكنها مهمات تكليف، إنها ليست مجرد فخر أو اعتزاز، وإنما هي مسئوليات وتبعات، إنها واجبات مناطة بالأعناق، وديون محفوظة على الذمم، وواجبات شرعية مسئول عنها بين يدي الله سبحانه وتعالى.
انظروا إلى رسل الله وأنبيائه كيف كانت هممهم، وكيف كان تفكيرهم منصباً ومتوجهاً إلى ذريتهم، وما ينبغي أن يغرسوه في قلبها من الإيمان، وفي نفسها من التزكية، وفي أخلاقها من الفضائل، وفي سلوكياتها من المحامد، وفي أفكارها من الرشد، وفي قلوبها من الحب والفيض بما ينبغي أن يكون من المعاملات والصلات بين الناس، يقول الله سبحانه وتعالى في قصة إبراهيم الخليل، وابنه إسماعيل، وهما يقيمان البيت ويعليان بنيانه: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة:128].
كانوا يدركون أن هذه مهمتهم، فعندما كانوا يسألون الله لم تقتصر مسألتهم على أنفسهم، بل كانوا يشملون من جعل الله عز وجل مسئوليتهم في رقابهم، وكان هذا موضع الاهتمام في القلوب والأفكار والنصوص، وينعكس حينئذ في الاهتمام العملي، والتوجيه والإرشاد التربوي، والرعاية الفائقة، والعناية العظيمة التي ينبغي أن يوليها الآباء والأمهات لأبنائهم.(116/4)
اهتمام الناس بدنيا الأبناء
{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] ما هي وصايا الآباء والأمهات لأبنائهم؟ ما الذي يقولونه لهم؟ ما الذي يحبذونه منهم؟ ما الذي يرغبونهم فيه؟ ما الذي يحثونهم عليه؟ ما الذي يدور في البيوت؟ ما الذي يقال فيها؟ ألسنا ونحن اليوم على أعتاب الاختبارات نرى أن كثيراً من الاهتمام يكاد يستولي على أذهان الآباء والأمهات في سائر الأوقات بسبب الدراسة والعلم والنتيجة، دون أن يكون وراء ذلك أو معه أو فيه ما يلفت النظر إلى حقائق الإيمان، وأخلاق الإسلام، ولزوم وجوب التربية، والصلة بالله، ونحو ذلك من الأمور العظيمة والمهمة؟! والله سبحانه وتعالى يبين لنا أيضاً في قصة يعقوب عليه السلام: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة:133] في آخر لحظات الحياة أي شيء كانت وصيته؟ أي أمر كان منصباً عليه اهتمامه؟ هل هو البيوت والدور والتركات والمواريث؟ هل هو العناية بالأمور الدنيوية والشكلية؟ إن قلبه الذي كان معموراً بالإيمان، والذي كان مسكوناً بالتقوى، وفكره الذي كان موصولاً بالله سبحانه وتعالى؛ جعل أهميته وتركيزه في آخر لحظات حياته على قضية الإيمان، والإسلام، والتربية، والاستقامة على منهج الله عز وجل، إن من يذكر هذا في مثل تلك اللحظات الحرجة التي يفارق فيها دنياه، ويودع الحياة بما فيها، ومن فيها لا شك أنه كان ذاكراً لهذه المهمة، ومعتنياً بها في كل أوقاته، وذلك ما ينبغي أن يلفت أنظارنا إلى هذه السير، وفي هذه الآيات.
وليس هذا حديثاً إلى الرجال فحسب، بل هو كذلك حديث إلى النساء إلى الأمهات المربيات اللائي ننظر إليهن وإلى دورهن على أنه محوري وأساسي وجوهري، فيما نريد لأمتنا من الصلاح وفيما ننشده من تغيير أحوالنا إلى الأفضل والأمثل بإذن الله عز وجل، وكما قلت: إن دور تربية الأم في البيت هو أشد تأثيراً، وأقوى نفعاً من كثير من الوسائل المادية، والأسلحة العسكرية وغيرها.(116/5)
الخطاب الرباني في وجوب التربية
ثم الالتفات إليكم معاشر المؤمنين بالخطاب الرباني بآيات الله عز وجل، وكلامه سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] إن المسئولية ليست منوطة بك وحدك، ولست مسئولاً عن نفسك فحسب، بل إن الأهل من الزوجة والذرية أبناء وبنات لهم حق عليك، وأمانة في عنقك، والأمر في هذا عام، والنداء لأهل الإيمان للرجال والنساء والآباء والأمهات معاً، كلهم يجب عليهم أن يعملوا وأن يؤدوا الواجبات، وأن يحرصوا في تربية أبنائهم على ما يقيهم من الوقوع في سخط الله عز وجل، واستحقاق عذابه، نسأل الله عز وجل السلامة، فهل استشعر كل مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وأب وأم هذه المسئولية؟! واستمعوا إلى عباد الرحمن الذين ذكر الله صفاتهم على أنهم قدوة لنا ومثال يحتذى ماذا كان في قولهم: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] قال ابن جرير في تفسيره: أي يعبدونك، ويحسنون عبادتك، ولا يجرون علينا الجرائر.
كيف يكون الأبناء قرة أعين إذا لم تعلمهم القرآن؟ كيف تكون البنات قرة أعين إذا لم نلقنهن السنة؟ كيف تكون الذرية صالحة بارة وفية تقدم الخير للآباء والأمهات ما لم تسلك بها سبيل الصالحين والصالحات؟! إننا اليوم نشكو ونعلم أن هذه الشكوى تتعاظم من عقوق الأبناء أو انحرافهم، ونقول كما قال العرب: يداك أوكتا، وفوك نفخ، إن مرد ذلك في غالب الأحوال إليك أيها الأب، إليك أيتها الأم حيث لم تحرصوا على التربية، ولم تنشئوا التنشئة الصالحة، ولم تعلموا القرآن والسنة، ولم تحدثوا بالسيرة وتراجم الأصحاب، ولم تبثوا روح العزة، لما لم تحرصوا على أن يخرج من تحت أيديكم من هو خير منكم، وأكثر علماً وفضلاً، وأعظم إلى الخير سبقاً، ثم تشكون من بعد وأنتم ما بذلتم جهداً، ولا أعطيتم وقتاً، ولا حرصتم على تربية، ولا قدمتم علماً، ولا بذلتم توجيهاً وإرشاداً، مسألة مهمة والدعاء موصول بالله عز وجل، ولكن العمل مطلوب: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74].(116/6)
من وسائل التربية تجاه البنات
إن مسألة التربية وآثارها في المجتمع مهمة جداً ليس في الحياة الدنيا فحسب بل في الحياة الأخرى، إن كل مؤمن يفكر في أخراه، ويريد النجاة في آخرته، ويريد السعادة فيما يئول إليه أمره ومصيره: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دون ذلك لتقر بهم عينه.
هل تريد أن تنعم بإذن الله عز وجل بأبنائك وزوجك يوم القيامة، أم تريد أن يحال بينك وبينهم؟(116/7)
تربية البنات على الإيمان وهدى الإسلام
إن التنشئة والتربية الصالحة، والسير على طريق الإيمان وهدى الإسلام، وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم كفيلة بأن تلحقهم بك، وأن تنتفع منهم بإذن الله عز وجل، كما ثبت في الصحيح: (أو ولد صالح يدعو له).
إنها مسألة مهمة، وقضية خطيرة، تتضح خطورتها في الجانب السلبي الآخر لمن فرط لمن ضيع لمن لم يؤد الأمانة لمن لم يقم بالمسئولية لمن فرط في أولئك الذرية: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15] قال أهل التفسير في معناها: يفرق بينهم فلا يجتمعون، إما بأن يكون بعضهم في الجنة والآخرون في النار، وإما -والعياذ بالله- أن يكونوا جميعاً في النار ولا يجمعون، فيجتمع عليهم عذاب وحزن لا سرور فيه، نسأل الله عز وجل السلامة.
كيف تربى البنات؟ قضية مهمة في مسألة الأم المربية، ألسنا اليوم نرى بنات لا هم لهن إلا موضات اللباس، وألوان مكياج الزينة، لا تفكر إلا في جوانب محدودة معدودة من الأمور الدنيوية البهرجية؟ وربما تعني كثيراً في جانب التعليم بفروع من العلم لا تعود عليها بكثير من النفع والفائدة.
وربما كان في هذا الجانب فائدة، لكن المهمة الأولى من هو هذا الطفل؟ ما نفسيته؟ ما معنى التربية؟ ما وسائلها؟ ما مناهجها الإسلامية؟ من يعلم هذا للبنات؟ من يعدهن ليكن المربيات؟ مسألة أساسية مهمة، وواجب خطير، تؤكد ذلك علينا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وتبينه سيرته العطرة عليه الصلاة والسلام: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته: فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيتها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، ألا وكلكم راع ومسئول عن رعيته) أين هذه الرعية؟ ألسنا اليوم نرى الشعوب وهي تطالب حكامها والمسئولين عنها بأن يوفروا العدالة، وأن يوفروا الأرزاق، وأن يوفروا ويوفروا، فأين مطالبات الرعية في بيوتنا؟ وأين حقوقها المهضومة؟ أين هذا الأب وتلك الأم من الحقوق في العدالة والتربية والتعليم والتزكية؟ أين هذه المهام الضائعة التي ليس لها من يطالب بها، وننشغل بالمطالبة بما يوصف في بعض الأحوال بأنه من حقوق المرأة وهو بعيد عن حقيقتها وطبيعتها وحقوقها ومكانتها كما أرادها الله عز وجل؟ من الذي يطالب؟ هل رأيتم في المحاضرات والندوات أو في وسائل الإعلام من يجعل هذه قضية لا بد أن نعنى بها، وأن نطالب بها، وأن نوفر الأسباب لحصولها؟ ثم انظر إلى التركيز الخاص الذي يجعله النبي صلى الله عليه وسلم لتربية البنات على وجه الخصوص، وذلك لما لتربيتهن من أثر محمود على الأجيال المستقبلية، وقد أسلفت قول القائل: (إذا علمت رجلاً فقد علمت فرداً، وإن علمت امرأة فقد علمت جيلاً أو أمة) لذلك يأتينا حديث النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري ومسلم وغيرهما: (إن من بلي بهذه البنات فأحسن إليهن كن له ستراً من النار) لماذا؟ لأنه يعد زوجة صالحة، وأماً مربية، لأنه يعد للأمة من يخرج أجيالاً مؤمنة متوضئة.
مسألة مهمة يؤكدها ويعضدها حديثه صلى الله عليه وسلم عند الشيخين أيضاً: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين) وذكر منهم النبي صلى الله عليه وسلم: (الرجل تكون عنده الأمة، فيعلمها ويحسن تعليمها، ويؤدبها ويحسن أدبها، ثم يعتقها فيتزوجها) لم خصها بالذكر؟ لأن هذه التربية وذلك الأدب سيكون له عظيم الأثر.(116/8)
الاهتمام بمناهج التعليم والتخصصات الشرعية
الوسيلة الثانية: مناهج التعليم للفتيات وللبنات: هل تعطي هذه المهمة حقها ونصيبها؟ هل يدرس في المناهج تخصص اسمه: تربية الأبناء؟ قليلة هي التخصصات التربوية، وقليل في التخصصات التربوية ما يختص بتربية الأبناء بالتفصيل، كأن هذه قضية ليست مهمة، وكأنه تخصص يقدم عليه غيره، نعم لا ننكر وجود تخصصات نافعة للمرأة، هناك الاقتصاد المنزلي تدرس فيه الفتاة الطبخ والخياطة، وتنظيم المنزل والديكور، وكل ذلك لمن؟ إنه لبني آدم فهل نحسن هذه الأمور المادية أو نعلمها كيف تحسن تنظيم هذه الأمور وليست من مهماتها الأساسية، ولا نعلمها ما يهمها في الأساس من فكر ونفسية أبنائها؟ كيف نعلمها كيف تغذيهم بالطعام والشراب ولا تغذيهم بالإيمان والإحسان؟ كيف نعلمها كيف تحسن تفصيل الملابس ولا تحسن تفصيل الأخلاق والسلوكيات.
ينبغي أن يكون ذلك مهماً، وبدراسة الإحصائية: فإن النسب التي لها تخصصات مباشرة في هذه قليلة لا تتجاوز خمسة بالمائة من إجمالي ما تتخصص فيه الفتيات والطالبات في جوانب المعرفة المختلفة كلها، وهل نحن نريد منها أن تكون في ذلك الجانب أو هذا؟ قد يكون لنا حاجة لها كطبيبة، وحاجة لها كمدرسة، وحاجة لها ككيميائية، لست أنازع في هذا الآن، لكن أولئك كلهن نحن في حاجة إليهن كزوجات ومربيات، وإن كن طبيبات أو معلمات أو غير ذلك من المهمات.
فإذاً لا بد في كل تخصص أن يدرس النساء ذلك؛ فضلاً عن أن يكون تخصصاً تنتدب له من تشاء من النساء والفتيات، ليكن مربيات ومعلمات لأخواتهن من بعد، أين مناهج التعليم من هذا وهي في عصرنا الحاضر وفي الدعوات الملحة وعصر العولمة، ما تزال تنحو إلى بعيد وبعيد عن هذا المجال، وتتشعب في أمور من التخصصات التي لا تقدم ولا تؤخر في أمر بناء الأمة وحسن تربيتها؟!(116/9)
الإعلام
ثم الثالثة وما أدراك ما الثالثة! يصدق فيها أنها ثالثة الأثافي: وسائل الإعلام: هل ترون أنها تخرج لنا امرأة صالحة مصلحة، وزوجة راعية مؤدبة، وأماً مربية مسئولة؟! ما هي صورة المرأة في وسائل الإعلام؟ لا أقول أنا هذا وأنا قد أكون شيخاً أو داعية ولا تقولوه أنتم وأنتم ربما من أهل الخير والصلاح في جملتنا نسأل الله عز وجل أن نكون كذلك، لكن يقول هذا أهل الإعلام أنفسهم في دراساتهم؛ يقولون: إن الإعلام يقدم المرأة نموذجاً رجولياً، كأنما هي تريد أن تكون نسخة من الرجل ولكنها وللأسف مشوهة، تقدم المرأة وهي تمارس العنف، وهي تمارس أدوار الإغراء والفتنة والإلهاء، ما رأيناها في أكثر الأدوار وهي تؤدي دور التربية، وحسن التعليم، والتنشئة، والقيام بالواجبات المهمة والرسائل العظيمة في حياة الأمة.
هذه قضية مهمة! نرى الندوات، ونرى البرامج التلفزيونية، فما نرى إلا حديثاً عن التجميل والجمال، وما نرى في غالب الأحوال إلا حديثاً عن الطب والأمراض، وما نرى بعد ذلك إلا حديثاً عن الطبخ، كل قنوات التلفاز لا تخلو من برامج إعداد الأطعمة، قد تفتح هذه القناة وتنتقل إلى الثانية وترجع إلى الثالثة في الصباح فلا ترى إلا أواني الطبخ من هذه إلى تلك، ومن مطبخ إلى آخر، أين ما وراء ذلك مما هو أعظم أهمية؟! ونجد بعد ذلك الإعلام وهو يناقش حرية المرأة بمفاهيم غربية، وهو يناقش استقلالية المرأة بمفاهيم غير إسلامية، بل قد كتبت بعض الكاتبات من بلادنا تنقل عن امرأة غربية أنه لم تعد المرأة اليوم تحتاج إلى الرجل، ليس لأنها تعمل وتكسب، فهذا قد عفا زمانه، وقد تقرر في كثير من المجتمعات، بل تقول: إنها اليوم تستطيع أن تأخذ بموجب التقنيات الحديثة من البنوك التي تعرفون عنها، وتستطيع أن تنجب دون رجل، فإذاً تستطيع أن تعيش حياتها دون رجل، وتستطيع أن تكون منفصلة عن دنيا الرجل، ويكون ذلك كأنما هناك مجتمعان منفصلان وأمتان مختلفتان، رجال لا صلة لهم بنساء، ونساء لا صلة لهن برجال، وتذكر هذا ولا تقول إنها تدعو إليه، لكنها تقول: إن هذه القضايا ينبغي أن ننتبه لها والعالم من حولنا يتغير، فسبحان الله! إن تغير الناس من إيمان إلى كفر فهل يعني ذلك أن نتبعهم؟! وإن تحولوا من صلاح إلى فساد، ومن انضباط إلى انحلال كما هو حال كثير من أصقاع العالم اليوم، بل حتى أصقاع العالم الإسلامي، فهل نسير وراء القوم حيث ساروا، ونمضي إلى حتفنا كما رأينا حتفهم رأي العين بأعيننا؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) أي: فمن غيرهم، وهذا في وسائل الإعلام لا نرى اليوم إلا المرأة الممسوخة في فطرتها، التي تقدم كما يقولون ويزعمون ثقافة المرأة وعقلها وفكرها، فننظر ونريد أن نصدقهم فلا نرى شيئاً يصدق ذلك، لأنهم لا يعرضون لنا المرأة إلا بشعرها ونحرها ونهدها وغير ذلك مما تعلمونه وتسمعون عنه، وتشاهدونه.(116/10)
محاضن الدعوة
الأمر الرابع: وهو محاضن الدعوة: أعني الدعوة للنساء، نحن نرى جهوداً كثيرةً تبذل للدعوة في المحاضرات والكتب وغير ذلك، لكن كثيراً منها والقسم الأوفى منها للرجال دون النساء، ما العناية بالمرأة في محاضن الدعوة؟ ثم ما الموضوعات التي تلقى وتعرض على المرأة؟ أكثر الموضوعات تحدثها عن الحجاب والاختلاط! والاختلاط والحجاب! والحجاب والاختلاط! نعم هذه مسائل مهمة، لكن لماذا نقتصر عليها؟ أين دور المرأة في التربية؟ أين توعيتها بالواقع المعاصر؟ أين تعريفها بما يحاك للمرأة عموماً والمرأة المسلمة خصوصاً في مؤتمرات الأمم المتحدة وما تدعو إليه من الفساد والانحلال وغير ذلك؟ أين هي مما نعلمها إياه في شأن الداعيات المسلمات؟ أين هي من تذكيرها بـ أم شريك الأسدية رضي الله عنها التي ذكر ابن حجر في ترجمتها أنها كانت تخالف رجال قريش إلى بيوتهم، يخرجون فيصدون عن الإسلام، ويؤذون محمداً صلى الله عليه وسلم ويواجهون المسلمين، ثم تخالفهم إلى بيوتهم فتدعو نساءهم حتى فشا الإسلام في بيوت قريش، فنذروا بها، أي: بدءوا يبحثون من الذي يجوس خلال الديار؟ من الذي غير أفكار النساء؟ فوجدوا أم شريك فأخذوها واعتقلوها إلى آخر ما هو معلوم من قصتها.
ولها في قصة أم سليم رضي الله عنها، وأم حرام بنت ملحان وغيرهن من النساء قدوة، لماذا لا نكثف جهود الدعوة النسائية؟ بل أين الداعيات من النساء ليتحدثن إلى بنات جنسهن؟ قلة قليلة! ولذلك ستأتي المنافسات الغير محمودة، وسيخاطب المرأة غير أهل العلم والصلاح والتقى، لأنها لم تعد تصغي إليهم إما لأن حديثهم إليها قليل وهو مصروف إلى الرجال، وإما أن حديثهم إليها مقصور على جانب أو جانبين قد عرفتهما وحفظتهما، وتريد غيرهما، وإما لأن طرائق هذه الدعوة وعرضها ليست مرغبة ولا مشجعة.
ومسألة مهمة في هذا الباب: أن يركز هذا الحديث كذلك في ميادين الأم المربية، ومؤسسات المرأة الاجتماعية، وهذه الجمعيات المختلفة للمرأة أين دورها في هذا؟ نعلم أن كثيراً من الجمعيات تقوم بدورات في الحاسب الآلي، وفي اللغة الإنجليزية، وفي الطبخ، وفي الخياطة، وكل ذلك لا اعتراض عليه، لكن أين حجم الدورات في التربية؟ في معرفة نفسية الأطفال؟ في معرفة علاج مشكلات الأطفال؟ في معرفة علاج القضايا التربوية؟ وجوانب التربية ووسائل التربية وغير ذلك ثقافة محصورة محدودة تعطينا ثماراً فجة في نساء وفتيات لا نجد أنهن نماذج جيدة ليكن زوجات صالحات، وأمهات مربيات، فهذه قضية مهمة، والحديث فيها يطول كثيراً.(116/11)
وصايا للمرأة المسلمة
ولذلك لا بد أن نوجه هذا الحديث إليكم معاشر الرجال، وإلى النساء من قبلكم إلى هذه المرأة التي نريد منها أن تكون أماً مربية، نقول: أولاً: استشعار الأهمية: لا بد أن تستشعر المرأة المسلمة أهمية دورها في التربية، وعظمة رسالتها في التنشئة، وأن تدرك أن هذا أمر مهم، وأن تحمل همه لا أن تحمل هماً في ماذا تلبس من الملابس، وماذا تتزين من الزينة فحسب، هذه مهمات ثانوية للأسف أنها بدأت تكون هي التي تشغل الاهتمام والتفكير، وهي التي لأجلها توفر الأموال، وتبذل الأوقات دون أن يكون حمل الهم في القضية المهمة الأساسية.
ثانياً: معرفة القيمة الحقيقية لهذه المهمة العظيمة: اليوم عندنا مشكلة وهي: أنه إذا قالت المرأة إنها ربة بيت كأنها تستحي بذلك، وتغض طرفها كأنها في منزلة دونية، وفي مرتبة سفلية، لماذا؟ لأنها ليست موظفة، وليست مدرسة، وكأن هذه المهمة مهمة تافهة، وكأن وجودها في البيت يعطل نصف المجتمع، كأن المرأة في بيتها لا تعمل شيئاً، ولا تؤدي دوراً، وليس لها قيمة، ولا لفعلها ولا لدورها مكانة، فهذه قضية خطيرة يبثها اليوم عن قصد أو غير قصد الإعلام، وتشيعها كذلك البيئة الاجتماعية، حتى غدت المرأة اليوم ترى أن دورها في التربية دوراً ثانوياً ينبغي أن تحرص على تركه، أو على أن تجمع معه شيئاً آخر ليجعل لها مكانة، وهذه قضية مهمة وخطيرة.
لا بد أن تعرف المرأة أن مكانة الأم المربية هي المكانة السامية، وهي مكانة صمام الأمان الذي يحول بين أعداء الأمة وبين أجيالها، وهي لذلك في أسمى مكانة وفي أخطر موقع من مواقع المواجهة مع أعداء الله عز وجل، وفي أخطر موقع من مواقع البناء، وصناعة الأجيال، ومواجهة المستقبل بإذن الله سبحانه وتعالى.
ثالثاً: تحصيل العلوم الشرعية: لا بد للمرأة أن تحرص على أن تتعلم من الأحكام الشرعية، ومن القرآن والسنة والسيرة ما يكون نفعاً لها، وغذاءً لأبنائها، اليوم نحتاج من الأم أن تربي صغارها على قصص الصحابة والتابعين، وأجيال الأمة من الصالحين والصالحات، اليوم نريد من الأم أن تحفظ أبناءها الصغار قبل أن يذهبوا إلى المساجد والمدارس آيات من القرآن، وأذكاراً يقولونها في سائر جوانب حياتهم، عند منامهم واستيقاظهم، ودخولهم وخروجهم إلى غير ذلك، كيف سيكون ذلك والأم جاهلة أمية لا تعرف القراءة والكتابة، ولم تعلم شيئاً من أمور دينها؟! إن تعليم المرأة كما رأينا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن تأديبها يعطى الأجر مرتين؛ لأن في حسن التأديب أجراً خاصاً فعلى كل رجل وأب أن يتيح الفرصة لبناته ولزوجته أن يتعلمن؛ لأن ذلك سيكون له أثره.
ثم كذلك معرفة المتطلبات التربوية، فلا يكفي أن تتعلم العلوم الشرعية، بل تربطها بالعلوم التربوية الإسلامية لتعرف التنشئة ومشكلاتها، والتربية ووسائلها وغير ذلك مما له أثر محمود ومعروف.
ثم كذلك ممارسة الدعوة الإسلامية في صفوف النساء لمعرفة هذه الحقائق كلها، فنسأل الله عز وجل أن يجعل نساءنا زوجات صالحات، وأمهات مربيات، وبنات حانيات، ونسأله أن يحفظ أسرنا وذرياتنا من كل سوء ومكروه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(116/12)
مهمة الأم المربية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من تقوى الله عز وجل تقواه في الذرية والأبناء قياماً بمسئوليتهم، وعناية بتربيتهم، وحرصاً على تعليمهم، وبذلاً لكل الجهد لصلاحهم وإصلاحهم، ومن وراء هذا الموضوع تشريعات كثيرة، لكنني أختم هذا المقام ببيان قضية أساسية موجزة وهي: أن مهمة الأم المربية ربما ترتكز على ثلاث جوانب رئيسة أولها: المحافظة على الفطرة (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) الدور الأكبر للأم في ذلك.
ثم جانب التعليم والتربية بكل آفاق التعليم والعلوم والمعارف الإسلامية وغيرها.
ثم بكل آفاق التربية أخلاقية وإيمانية وسلوكية، وإبداعية وفكرية وغير ذلك.
ثم الجانب الثالث وهو التحفيز والتنمية وإعلاء الهمم، ورفع شعار العزة، وحماسة العمل، والدفع بالقوة الإيجابية في هذه الحياة ذلك ما نسأل الله عز وجل أن يبصر به زوجاتنا وأمهاتنا حتى يكون لهن الدور الأعظم في تنشئة أجيالنا، ولنا حديث فيما بعد عما يقطع على هذه المهمة طريقها نسأل الله أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يسلك بنا سبيل الصالحين، وأن يلبسنا ثياب المتقين، وأن يحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى، والعفاف والغنى، وأن تجعلنا هداة مهديين، اللهم وفقنا لطاعتك ومرضاتك، واصرف عنا اللهم الشرور والسيئات، ووفقنا اللهم للصالحات، واغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آت برحمتك يا رب الأرض والسماوات! اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله محمد رسول الله، اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وحسن أقوالنا، وأصلح أعمالنا، وارفع درجاتنا يا رب العالمين، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
اللهم ارفع كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك يا رب العالمين.
اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(116/13)
الأم المربية [2]
إن الأم المربية الحانية على أولادها، الساعية إلى تنشئتهم تنشئة صالحة هي مصدر القوة والإعزاز لهذه الأمة، وهي صمام الأمان، فلابد أن تعرف المرأة دورها الحقيقي وواجبها إذا أرادت أن تنشئ جيلاً صالحاً يحمل هم هذه الأمة.
ولقد خاض الغرب غمار الحرب على المرأة فأخرجوها من بيتها، وأشركوها مع أخيها الرجل، وفي نهاية المطاف اعترفوا بعظم الخطأ والذنب الذي ارتكبوه في حق المرأة، وعلموا أنها لا يصلح لها إلا البيت، فلنأخذ العبرة من غيرنا، ولنتبع كتاب ربنا.(117/1)
دور الأم في تربية الأبناء
الحمد لله لا إله غيره، ولا رب سواه، لا يضل من استهداه، ولا يخيب من رجاه، ولا يحرم من استعطاه، له الحمد سبحانه وتعالى جل جلاله، وتقدست أسماؤه، وعظم عطاؤه، وعم نواله، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم التقى، ومنار الهدى، الذي بعثه الله جل وعلا إلى الناس أجمعين، وأرسله رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وأسمع به آذاناً صماً، وفتح به قلوباً غلفا.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الأم المربية مصدر قوة، وصمام أمان في المجتمع، حديث بدأناه نصل القول فيه حتى يستوفي هذا الأمر حقه لما له من أهمية وفائدة، ولعلنا نقرر في بداية هذا الحديث الدور العظيم للأم في تربية الأبناء، وتنشئة الأجيال، وندرك ذلك من خلال أمرين: أن هذا الدور للأم مرتبط بالأطفال، والطفل هو الأمة كلها، هو مع غيره وبقية الأطفال يكونون جيل المستقبل القريب قبل البعيد، ومن هنا فإن الدور الإصلاحي والتربوي الذي يوجه إلى هؤلاء الأطفال منذ ولادتهم ومنذ نعومة أظفارهم إنما يقوم به يد الأم المربية، وصدرها الحاني، وفكرها وعلمها النير، وسلوكها وخلقها الفاضل، وحينئذ ندرك أننا أمام مفتاح التغيير كما أشرنا.
الجانب الثاني: أن الطفل والنفس البشرية بعمومها عظيمة في غرابتها وفي تقلباتها، والطفل عالم من المجهول، لا يكاد يعرف مسالكه ودروبه الخفية إلا تلك الأم، إنها تكاد تقرأ في نظراته حاجته، وتعرف من قسمات وجهه مشاعره، إنها التي تستطيع أن تكتشف ما لا يكتشفه الرجل بحال من الأحوال، وإذا كان الأمر كذلك فإننا لا بد أن نعطي هذه المهمة لمن يعرف خفاياها، ويبصر دقائقها، وذلك من الأهمية بمكان.(117/2)
التربية مسئولية مشتركة بين الوالدين
وهنا وقفة لا بد منها: فإن التربية مسئولية مشتركة بين الوالدين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، وفي حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) وفيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (والرجل راع ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها).
فلا بد من تكامل وتعاون، لكننا ندرك أن الدور الأكبر في مثل هذا للمرأة سيما في سن الطفولة الأولى، لماذا؟ لأن عند الرجل مشكلتين طبيعيتين من واقع طبيعته وخلقته ودوره وعمله في هذه الحياة، ومن حيث الكم فإن الوقت الذي يقضيه مع أبنائه أقل بكثير مما تقضيه الأم معهم، وذلك بطبيعة عمله وحاجته إلى الكسب والكدح في هذه الحياة الدنيا، وارتباطه بالمشكلات في هذه الحياة.
ومن حيث الكيف فإن الأب غالباً ما يعود إلى بيته مرهقاً متعباً جسدياً بسبب العمل والبذل والجهد، ومنشغلاً فكرياً بسبب المشكلات والتخطيط والترتيب.
فهو أقل استعداداً للعطاء النفسي والعاطفي والفكري من هذه الأم، التي يدور محور رحى حياتها حول أبنائها، فقلبها لا يخفق إلا بالمحبة لهم، ونفسها لا تضيق إلا في الحزن أو الأسى على أحوالهم، وفكرها لا ينشغل إلا بتدبير أمورهم، فهي قد خلقت وجبلت لتكون كذلك، ومن هنا ندرك أهمية هذا الدور، وندرك أنه إذا اختفى أو غاب أو تقلص إلى حد كبير، فإن أحداً لا يمكن أن يعوضه، ولا يستطيع أن يتقنه، ولا يمكن أن يستمر فيه على المدى الطويل.(117/3)
مهمة المرأة المربية كمهمة الدولة الحاكمة
ومن هنا أنتقل إلى تصوير هذه المهمة: إن مهمة المرأة المربية كمهمة الدولة الحاكمة، أليست الدولة الحاكمة لها رعايا تحتاج إلى تدبير شئونهم الاقتصادية، ورعاية أمورهم السياسية، ومعرفة أحوالهم القضائية وغير ذلك من الأمور؟ والأم كذلك تقوم بدور مجلس الوزراء كله، فهي تقوم بمهمة تربية وتعليم، وثقافة وإعلام، وإدارة واقتصاد، ومهمة صحة جسدية ونفسية، وقس على ذلك غيره من الأحوال المختلفة، فإنك ستجد أن القول الذي يطلق وهو: أن المرأة ملكة في بيتها ليس مجرد تصوير تشريفي أو لبيان المكانة، بل هو كذلك لبيان الدور والرسالة، فهي تقوم بهذه الأدوار كلها، وتقوم بتلك المهمات جميعها، وتسوس تلك الدولة المصغرة في عش الزوجية والأسرة الآمنة، فهل ترون هذا الدور بعد هذا التصوير دوراً هامشياً تافهاً، أو دوراً يحتقر وينتقص، أو دوراً يرى أنه ليست له فائدة ولا أثر؟! وقفة مع النظرة التي تغيرت وتبدلت نحو السوء وللأسف في واقع مجتمعاتنا إلى الأم المربية إلى ربة المنزل إلى الزوجة الحانية، إلى التي تهدهد بيدها سرير رضيعها؛ وهي بذلك تهدهد أوضاع الحياة من حولها: هذه المرأة المربية عندما نفقدها في المجتمع تحصل لنا مشكلات كثيرة، اليوم تجد بعض النساء تستحيي أن تقول: إنها ربة منزل، اليوم تجد وسائل الإعلام في غالب أحوالها تقول: إن نصف المجتمع مشلول معطل إذا كانت المرأة في بيتها، فكأنها في بيتها ساهية لاهية عابثة لا تقوم بدور، ولا تؤدي مهمة ولا تقدم نفعاً، ولا تقرب فائدة بحال من الأحوال، ثم كذلك فوق هذا أصبحت المنافسات لهذه المهمة كثيرة، وهي متعددة ومتنوعة، صرفتها شواغل من الإعلام الذي صرف عقول النساء، واستلب أوقاتهن، وغير أفكارهن، وأوجد الخلل في مشاعرهن.
وجانب آخر في صور اجتماعية فارغة كثيرة، أصبحت المرأة حاملة حقيبتها، ماضية في هذه المناسبة أو تلك، وفي هذه الزيارة أو تلك، وبعد ذلك كأنما ليس وراءها مهمة، وليس عندها حصن تقوم عليه وترعاه وتحرسه، وبعد ذلك العمل الذي تشعبت نواحيه، والذي أصبحنا اليوم نسمع ضرورته وأهميته، وأنه يجب ألا تبقى امرأة إلا وقد عملت في كل ميدان، وفي أي وقت، وفي سائر الأنحاء، وكأنها ليست هناك مهمة.
وليس هذا منعاً لعمل المرأة في كل جوانب الحياة التي يشرع فيها العمل، وفي قدره وبحاجته، ولكننا ندرك أننا سنجني ثماراً مرة كلما وسعنا هذه الدائرة وأطلقناها، ورغبنا فيها على حساب معرفة المهمة الكبرى للمرأة.(117/4)
تجربة الغرب في خروج المرأة إلى الميدان للعمل
واستمعوا إن شئتم إلى تجارب الأمم الأخرى والتي ينظر إليها البعض على أنها مجتمعات وحضارات يراد أن نقتدي بها، لا أريد أن أشير إشارات مطلقة، فإن الإشارات المطلقة معروفة، ومجتمع الغرب اليوم وحضارة العصر اليوم لا أقول: إنها تجني ثماراً مرة، ولكنها تعيش حياة الضنك والضيق التي وصفها الله عز وجل بقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] ليست بالآلاف ولا بعشرات الآلاف، ولا الملايين، بل بعشرات الملايين من الأطفال الذين يعتبرون لا أسر لهم من الآباء والأمهات، اللائي ينشأ عندهن أو يأتيها هذا الطفل وهي لاهية ساهية منشغلة بعملها، منطلقة في حياتها، إضافة إلى أمور أخرى.
ولكني أنقل لكم تجربة واحدة في مقالة محددة لشخص معروف، وهو الزعيم السوفيتي السابق غورباتشوف الذي يقال: إنه صاحب الإصلاح الأكبر في تلك البلاد، يخبرنا عن التجربة التي خاضها هو ومن معه، ويخبرنا عن الدور الرائد الذي قاموا به في مساواة المرأة، وفتح الأبواب أمامها، وغير ذلك من النجاحات، ثم يقف ويستدرك ويقول: ولكن طوال سنوات تاريخنا البطولي والشاق عجزنا عن أن نولي اهتماماً لحقوق المرأة الخاصة، واحتياجاتنا الناشئة عن دورها كأم وربة منزل ووظيفتها التعليمية التي لا غنى عنها للأطفال.
إن المرأة استعملت في مجال البحث العلمي، وفي مجال الإنتاج، والخدمات، وشاركت في النشاط الإبداعي، ولم يعد لها وقت للقيام بواجباتها في المنزل وتربية الأطفال وإقامة جو أسري طيب، لقد اكتشفنا أن كثيراً من مشاكلنا في سلوك الأطفال والشواب، وفي معنوياتنا وثقافتنا في الإنتاج تعود جزئياً إلى تدهور العلاقات الأسرية، ولهذا السبب فإننا نجري مناقشات جادة بخصوص مسألة ما يجب أن نفعله لنسهل على المرأة العودة إلى رسالتها النسائية البحتة.
إنهم في ذلك الوقت منشغلون بهذا الأمر؛ لأنهم وجدوا آثاره الوخيمة، وأضرارها العظيمة في شتى مجالات الحياة.
إن غياب دور الأم المربية يعني أطفالاً مشوهين نفسياً؛ لأنهم فقدوا عطف وحنان الأمومة؛ أثبتت الدراسات العلمية أنه تبقى آثاره غائرة في قلوب ونفوس هؤلاء الأطفال، وينشئون وعندهم من الاضطراب النفسي، والحرمان العاطفي، ما يكونون به غير أسوياء، وغياب دور المرأة ومعها كذلك غياب دور الأب هو الذي أوجد في مجتمعاتنا اليوم انحرافات فكرية وسلوكية، حتى رأينا ما لم نكن نرى من قبل، وسمعنا ما لم نكن نسمع من قبل، ورأينا كيف أثرت هذه الأوضاع في حياة شبابنا على واقع مجتمعاتنا.(117/5)
رد شبهة الزاعمين أن مكوث المرأة في البيت يؤثر على الجانب الاقتصادي
وإذا مضينا حتى إلى الجانب الاقتصادي الذي يكثر الحديث فيه والجدل حوله ويقال: إن المرأة معطلة فنصف المجتمع مشلول، الاقتصاد يحتاج إلى تحريك، التنمية الاقتصادية في أمس الحاجة إلى المشاركة الكاملة للمرأة.
ونحن نقول: إن عمل المرأة مطلوب في المجالات التي يحتاج إليها، أو إذا هي احتاجت إليها بالضوابط الشرعية، ولكننا نقول قبل ذلك ومعه وبعده: ينبغي أن نوفر الأسباب الكاملة لأداء المهمة الأولى بأحسن صورة ممكنة.
ومرة أخرى نقول: إنه من تضليل الرأي العام، ومن خداع الناس أن نردد مثل هذه المقالات، وإذا خرجت المرأة للعمل فهل ذلك يعود بالضرورة على الأسرة أو على المجتمع بنفع اقتصادي كما يصور في ضخامته وفي عظمته؟! إن وراء ذلك خادمة يؤتى بها، وحاضنة أو مربية يؤتى بها، وحضانة أو مكان يدفع إليه بالأبناء لتعويض غياب المرأة، وكل ذلك إنفاق لم يكن له وجود بحضور المرأة في بيتها.
ثم انظر كذلك ما قد يضاف من السائق والخدمات الأخرى الملازمة والمصاحبة لذلك، فإن الأمة المنشغلة بالأعمال بذلك الرحابة الواسعة كثيراً ما يحتاج مع وجودها وانشغالها في عملها إلى شراء الأطعمة من الخارج، وأنتم اليوم ترون كم هي المطاعم منتشرة؟! وكم هي النيران في البيوت مطفئة؟! لأنه لا أحد عنده وقت ليقوم بهذه المهمة، ولأن المرأة إذا أدخل في ذهنها أنها أعلى وأسمى من أن تطبخ أو أن تؤدي دوراً تغذي فيه أبناءها أو ترعى زوجها؛ فإن وراء ذلك من الإنفاق الاقتصادي ما وراءه، بل قد أثبتت الدراسات الاقتصادية أن المرأة إذا عملت أنفقت على نفسها أكثر، فهي تحتاج إلى نوع من الملابس أكثر، وإلى نوع من الزينة أكثر، وتحتاج أيضاً من المتطلبات للعمل أكثر، وإلى مناسبات أخرى ترتبط بالعمل اجتماعياً أكثر، وهذا كله إنفاق، ويكون حينئذ الأثر الاقتصادي مربوطاً بالمصلحة المتعينة في الحاجة التي تحتاجها المرأة، أو فيما يكون في جملته حاجة المجتمع دون حاجة إلى مثل هذا التهويل والتعظيم.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في إشارة مهمة إلى الدور الاقتصادي للمرأة في داخل منزلها: (خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد، وأرعاه على زوج في ذات يده)، إن المرأة المسلمة العاقلة هي مدبرة اقتصادية في منزلها تحسن الإنفاق، وتزيد التوفير، وتجعل نوعاً من الاقتصاد الذي يقي الأسرة أو يؤمنها أو يعينها في أوقات المحن.
ثم إن المرأة في بيتها عندما تستشعر ذلك الجهد الذي يبذله زوجها، والمال الذي يحصله، تعرف أنها معنية بمثل هذه السياسة الاقتصادية، أما إذا كانت لا تأخذ إلا المال وتصرفه، وتخرج وليس وراءها مسئولية إنفاق وتدبير، فإنها حينئذ لا تكون على ذلك النحو.(117/6)
الدور الحقيقي للأم في مملكتها
ووقفتنا الأخيرة: الحديث عن الدور الحقيقي لهذه الأم في تلك المملكة التي تحدثنا عنها، وهنا أقسم الحديث إلى قسمين: الأول دورها العام بشكل مجمل في البيت والأسرة.
الثاني: الدور التربوي المفصل الذي يتناول تربية الأطفال في المجالات المختلفة.
أما دورها الأول فهو دور السكن للجميع، هذه المرأة ليس دورها لأطفالها فحسب، بل دورها أوسع لزوجها ولأطفالها، ولجو الأسرة كله، اليوم نرى التشنج والتوتر، نرى الصراخ والنزاع والشقاق، نرى الأبناء وهم يعيشون في أجواء من الخصومات الزوجية لأن المرأة لم تع دورها، ولم تقم برسالتها، يقول الله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] ويقول الحق سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189] تهيئة الأجواء العامة، أجواء الهدوء والسكينة، أجواء المحبة والمودة، أجواء التعاون والتكامل، أجواء الروح التي تسري من قلب هذه الأم إلى زوجها، فتشيع فيه المحبة والعطف والقرب والتلاحم، وإلى أبنائها فتشيع فيهم الحنان والعطف والرعاية الكبيرة العظيمة، وإذا بهذه الأسرة جنة من جنان الله عز وجل في الأرض لا تكاد ترى فيها نزاعاً ولا شقاقاً، تلك البيئة تصلح حينئذ أن تكون بيئة تربية، وتصلح حينئذ أن تكون بيئة من اللبنات القوية في بنيان المجتمع مهما وجهت لها من سهام الأعداء غزواً فكرياً أو انحلالاً خلقياً، أو ضغطاً أو نحو ذلك، فإنها تكون بإذن الله عز وجل كالصخرة الصلبة التي تتكسر عليها السهام والنصال.
الجانب الثاني: الإدارة الناجحة، المرأة هي الحاكمة في بيتها بحسن تدبيرها ورعايتها، وذلك في وجوه كثيرة من أهمها: تنظيم الأوقات والأغراض، بعض النساء وخاصة من تخرج من بيتها كثيراً لغير فائدة فإنك تجد أن الوقت عندها مضيع، والأغراض مبعثرة، وأنه ليس هناك دقة في أوقات الطعام، ولا في أوقات المنام للأطفال وغير الأطفال، فتجد حينئذ جواً من الفوضى والاضطراب يسود ذلك المنزل.
ومن جهة أخرى: استغلال الفرص والأحداث، هذه الأم الحكيمة المربية، وتلك الزوجة العاقلة الراعية تحسن عند كل حدث من الأحداث -اجتماعية كانت أو اقتصادية خاصة أو عامة- أن تدبر، وأن ترتب، فإذا ضاقت ذات يد الزوج أحسنت استغلال الفرص، وأحسنت تربية الأبناء وتذكيرهم بالنعم، وتذكيرهم بحال غيرهم ونحو ذلك، وإذا جاءت حالة أخرى لبست لها لبوسها، وإذا جاء حادث وفاة ذكرت، وإذا جاء حادث فرح بينت ونحو ذلك، فيكون لها الدور الكامل في مثل هذا.
وأخيراً تؤدي دور التكامل والتعاون مع الرجل في نوع من الوفاق والملاءمة الكاملة، ونحن إنما نشير بذلك إشارات، والأمثلة في تاريخ أمتنا كثيرة.
ثم إذا نحن نظرنا إلى التفصيل فذلك موضوع يحتاج إلى بيان أكثر، وهو تفصيل تربية الأبناء إيمانياً وعبادياً وخلقياً وفكرياً ونفسياً، وذلك ما نجعل له حديثاً مستقلاً، نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في ديننا، وأن يلهمنا كتاب ربنا، وأن يربطنا بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن يجعل أزواجنا أمهات مربيات، وزوجات صالحات، وبنات بارات، إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(117/7)
الدورات الصيفية للشباب من عوامل التربية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعمر قلوبنا بالتقوى.
وإن مما ينبغي لفت النظر إليه ونحن اليوم نستقبل أول أيام الإجازة الصيفية أن ننبه الآباء والأمهات على مسئوليتهم التربوية تجاه أبنائهم في هذه الإجازة الممتدة أشهراً متعاقبة، وأوقاتاً متطاولة، أن يعنوا بإعطائهم من الوقت والجهد والتوجيه ما هم في أمس الحاجة إليه، وهنا أشير إشارات متنوعة: هناك برامج كثيرة في بلادنا تشغل الأوقات، وتعمر القلوب بالتقوى، وترطب الألسنة بالذكر، وتوجه العقول إلى الخير، وتقوم السلوك والأخلاق على النهج القويم، حلقات ودورات صيفية للقرآن الكريم، حفظاً وتلاوةً وتجويداً وتفسيراً وتعليماً، تمتلئ بها مساجد هذه البلاد الطيبة، يتلقى فيها الأبناء في هذا الوقت جرعة عظيمة مكثفة، من كتاب الله عز وجل بحسب فراغ الوقت، وامتداد الصيف، فإذا بهذه القلوب تتشرب آيات الله عز وجل، والصدور تحفظ عن ظهر قلب كلام الله سبحانه وتعالى، وإذا بها تشيع فيها أحكام وآداب وأخلاق القرآن الكريم التي تهدي إلى ما هو أقوم كما أخبر الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9].
كذلك الدورات العلمية الشرعية التي تمتلئ بها كثير من المساجد الكبيرة، وأقربها إلينا ما نذكر به دائماً مسجد الملك سعود الذي فيه الدورة الصيفية الشرعية المستمرة لسنوات طويلة، دروس في الفقه، وأخرى في السيرة، وثالثة في علوم القرآن، ورابعة في غيره، وفي هذا يوجد في وقت يسير ومتاح ومتعاقب في الأيام والأسابيع المتوالية معنا في هذه الدورات من مسابقات علمية تحث على معرفة كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاطلاع على كتب الأئمة والعلماء، ومعالجة أوضاع واقعنا المعاصر لشبابنا وشاباتنا على وجه الخصوص.
فأي خير أعظم وأنفع لأبنائنا وبناتنا من مثل هذه الدورات! وهي متاحة للذكور والإناث بحمد الله عز وجل، ومن وراء ذلك المخيمات الدعوية بما فيها من البرامج الترفيهية المباحة، وفرص للأطفال في اللهو واللعب والتوجيه والإرشاد، معنا في ذلك أيضاً من البرامج المختلفة المتنوعة من الأمسيات والندوات الشعرية، وفوق ذلك وقبله المحاضرات التوعوية الإرشادية النافعة، وحسبنا أن نشير إلى أن المخيم القريب منا في أرض المطار القديم، قد زاره ووفد إليه في العام الماضي نحو نصف مليون من الرجال والنساء، وبعد ذلك ومعه كذلك المراكز الصيفية المتنوعة المختلفة، بما فيها من برامج الرياضة والفكاهة والترفيه، ومع ما فيها من الدورات التأهيلية والتدريبية، ومع ما فيها أيضاً من الدروس والمحاضرات والبرامج المتنوعة.
فأي خير أعظم من هذا! ونحن نرى ذلك ونرى أن استمراره وزيادته إنما يشكل بؤرة لاحتواء الشباب، واستغلال أوقاتهم فيما يعود عليهم بالنفع والفائدة، وكذلك للأبناء الكبار فرص من العمل في بعض الوظائف يتعودون فيها على الجد، ويحرصون فيها على الكسب، ويكتسبون خبرات الحياة، والآفاق في ذلك واسعة، فما على الآباء والأمهات إلا أن يولوا العناية والاهتمام، لا أن يصيحوا ويقولوا: ماذا نفعل؟! وليس عندنا وقت، إن لم يكن عندك وقت فليكن لك وقت أن تجلس معهم، وأن تتجاذب معهم أطراف الحديث، وأن تتشاور معهم في الالتحاق ببعض هذه البرامج، فإذا دخلوا فيها شغلوا أوقاتهم بالنافع المفيد، وأصبح دورك في المشاركة معهم في بعض البرامج متمماً ومكملاً وكافياً بإذن الله عز وجل.
فهذه فرص عظيمة، وهذه مزايا قل أن يوجد مثلها في غير هذه البلاد، فلا ينبغي لنا إلا أن نحرص على الانتفاع منها، والتشجيع عليها، والطلب من الاستزادة منها، والتنويه والذكر لدورها وفائدتها وأثرها، وذلك ما أحببت أن أشير إليه كرابط لدور التربية للآباء والأمهات.
نسأل الله عز وجل أن يصلح أحوالنا، وأن يصلح شبابنا وشاباتنا، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، ومن ورثة جنة النعيم، اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وحسن أقوالنا، وأصلح أعمالنا، وأخلص نياتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وبلغ فيما يرضيك آمالنا.
اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عدداً واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، رد اللهم كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، وخالف كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، أرنا اللهم فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، أنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنهم طغوا وبغوا وتجبروا وتكبروا، وأذلوا عبادك المؤمنين، وانتهكوا حرمات المسلمين، اللهم فاكفناهم بما شئت يا رب العالمين، واشف اللهم فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم رحمتك ولطفك بإخواننا المسلمين المضطهدين، والمعذبين والمشردين المبعدين، والأسرى والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، اللهم اجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، واجعل اللهم لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء.
اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه وشر وضر يا رب العالمين! اللهم يسر لنا أمنها وأمانها وسلمها وسلامها، ورزقها ورغد عيشها، وردها وجميع المسلمين إلى دينك رداً جميلاً يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا بالحق مستمسكين، ولكتابك متبعين، ولسنة نبيك صلى الله عليه وسلم مقتفين، ولآثار السلف الصالح متابعين، اللهم يا رب العالمين لا تضلنا بعد الهدى، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا رب العالمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أرض العراق وفي أرض فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم وحد كلمتهم وأعل رايتهم، وقو شوكتهم، وسدد رميتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
عباد الله صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(117/8)
الأم المربية [3]
لقد جعل الله عز وجل في المرأة من المؤهلات الخلقية والفطرية ما يكون لائقاً بمكانتها ودورها في المجتمع الإسلامي من تربية للأطفال، والقيام بحقوق الزوج، والرعاية الكاملة لكل أفراد الأسرة، فواجب الأم هو تربية هذا النشء ليكون حافظاً لهذا الدين، متربصاً بأعدائه الذين يريدون أن ينالوا منه ويقضوا عليه.(118/1)
مكانة المرأة ودورها الرائد في التربية
الحمد لله الكبير المتعال، ذي العزة والجلال، الموصوف بصفات الكمال، المنزه عن كل نقص وإخلال، منه المبتدأ وإليه المرجع والمآل، له الحمد كما يحب ويرضى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الأم المربية مصدر قوة مؤثرة، ومكمن تغيير عظيم، ومصنع تربية للأجيال.
الأم المربية في واقع أمتنا الإسلامية اليوم قضية مهمة، وجودها على الصورة المنشودة والمنهج المطلوب يعد مفتاح التغيير الإيجابي المنشود، إن أهمية الأم المربية لا تقل بل ربما تزيد عن أهمية الجيوش العسكرية المدججة بالسلاح، وأهمية إصلاح مناهج التعليم، وتهذيب وسائل الإعلام؛ لأن قوتها التأثيرية تستطيع أن تواجه كل ذلك، وتستطيع بإذن الله سبحانه وتعالى أن تنتصر على كل ذلك إن كان مناوئاً لدينها وإسلامها.
وديننا العظيم، ومنهجنا الإسلامي القويم أعطى لهذه المهمة أولوية عظمى، ووفر لها جميع الأسباب التي تعين على حسن أدائها واستمرار رسالتها، ودوام عطائها، لتكون المجتمعات مجتمعات إيمان وإسلام من قعر البيوت من ثدي الأمهات من رحم المنجبات، ليخرج حينئذ الجيل المؤمن في قلبه ويقينه، ولتخرج الأيدي المتوضئة، والجباه الساجدة، تواجه كل فساد وانحراف يمكن أن تعج به المجتمعات.(118/2)
الأم المربية أنشأت العلماء
ولذلك أي شيء يمكن أن يلفت النظر إذا رأيت ذلك الشاب التقي النقي الورع، أو حتى رأيت ذلك الرجل العالم الداعي المصلح، إن كثيراً من الناس يفكرون في جهده وتعليمه وشيوخه وينسون أن الأصل الأول، وأن البصمة الأولى، وأن البداية والانطلاقة إنما كانت من أم مربية! خذوا كل من تشاءون من أمثلة الأئمة والعلماء في التاريخ، نقبوا في صفحات حياتهم، ارجعوا إلى أيام طفولتهم، سترون وراءهم أماً عظيمة مربية، فهذا سفيان الثوري إمام التابعين، وعلم المحدثين، ورمز الزاهدين، ربته أمه وقالت له: يا بني! اطلب العلم، وأنا أكفيك بمغزلي، كان أبوه ميتاً فجعلت عملها لكي تفرغه لطلب العلم، كانت تعلم ما الخير وما الأفضل والأمثل، ما الذي ينبغي أن تنشئ عليه صغيرها، ما الطريق الذي ترسم له مساره فيه، وتدرج به في خطواته الأولى عليه، وقد كانت تتخوله دائماً بالوعظ والتوجيه وهو في نعومة أظفاره، فكانت تقول له: يا بني! إذا كتبت عشر طرق -أي من الحديث- فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم يزد ذلك فاعلم أنه لا يضرك ولا ينفعك.
تريد أن تلقنه أن العلم إنما يكون للعمل، وأن أثر العلم ينبغي أن يستقر إيماناً وتقى في القلب والنفس، وأنه ما لم يكن ذلك كذلك فلا نفع ولا جدوى، بل ربما يكون ضرراً وإثماً لا قدر الله، أليست هذه الأم كانت أياديها التربوية ومنهجيتها التعليمية هي البداية لذلك الإمام الجليل، والعالم العظيم؟ انظروا إلى الصحابيات من الأمهات المربيات وكيف كان الأثر التربوي يغرس منذ نعومة الأظفار بذرة إيمان في سويداء القلوب، وسمات أخلاق في أعماق النفوس، فهذه الربيع بنت معوذ رضي الله عنها تقول: (أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء فقال: من كان صائماً فليتم صومه، ومن لم يصم فليمسك -أي: عندما بدأ بأمره أو توجيهه عليه الصلاة والسلام لصيامه- قالت: فكنا بعد ذلك نصومه، ونصوم أبناءنا -أي: الصغار- قالت: فكنا نصومهم ونأخذهم إلى المسجد، ونأخذ معنا لهم اللعبة من العهن، فإن بكى أحدهم لهيناه بها حتى يتم صومه ويؤذن المغرب) تلك هي التنشئة، وتلك هي ملامح ومعالم التربية، أخرجت جيل الأتقياء الأصفياء، جيل الأعزاء المجاهدين، أخرجت جيل العلم والعلماء، ويوم افتقدنا هذه الأم المربية، ويوم خرجت إلى الأسواق لاهية عابثة، ويوم شغلت بالأعمال وخلفت وراءها أبناء وبنات ليس لهم من يرعاهم ولا يربيهم أخرجت لنا أجيالاً لم يعد لها حظ من سمت الإيمان، وصفة الإسلام، واستغربت في فكرها، وامتهنت في شكلها وهيئتها، وذلت في عزتها، وضعفت في إيمانها.(118/3)
أقوال الغربيين تشهد لمنهج الإسلام في وظيفة المرأة
ولعلي أمضي بكم إلى ساحة أخرى أريد منها أن أؤكد أن هذا المعنى مهم ومعترف به حتى عند غير المسلمين من العقلاء والحكماء؛ لأن بعضاً من أبناء جلدتنا قد التوت أعناقهم فلا يرون إلا جهة الغرب، ولا يرون إلا المجتمعات المتحضرة كما يقولون، وربما لا تكاد آذانهم تصغي أو تسمع إلا لقول أولئك ولا ترى النموذج والقدوة إلا في أفعالهم وأحوالهم.
أما وقد أصبح ذلك حال بعضهم فلا حرج أن ننقل لهم أقوال القوم وأحوالهم، لنريهم بعض ما يعيدهم إلى رشدهم وصوابهم، هذه كلمات ومواقف ينبغي أن نلتفت إليها، وسأذكر من بعد منهجاً عظيماً نحتاج إليه وإلى التذكير به.
أول ذلك ما ذكرته زوجة لأحد رواد الفضاء الأمريكيين السابقين وقد كانت ربة منزل، ليست موظفة ولا عاملة، وإنما مهنتها كما نكتب في مهن بعض أزواجنا ربة بيت، وبعض نسائنا اليوم تطأطئ رأسها خجلاً إن سئلت ما هو عملك؟ وكأن هذه المهمة أصبحت شيئاً يستحيا منه، أو مرتبة لا تريد المرأة أن تكون فيها، مع أنها أسمى المراتب وأعلاها، وأعظم الوظائف وأكثرها أهمية وجدوى، حتى من الناحية الاقتصادية تقول هذه المرأة الغربية: أنا مسرورة جداً ببقائي في البيت إلى جانب زوجي وأطفالي، حتى في الأيام العصيبة التي كنا فيها في حاجة إلى المال لم يطلب مني زوجي أن أعمل، وكانت فلسفته أننا نستطيع أن نوفر حاجاتنا الضرورية إن قل المال، لا تأكل هذا النوع وكل هذا، ولا تركب هذه السيارة واركب هذه، يمكن تدبير الأمور قالت: ولكننا لا نستطيع أن نربي أبناءنا إذا أفلت الزمام من يدنا.
إن لم يكن في بيتك أم مربية فما هو البديل؟ خادمة! هي لم تحمل هذا الطفل في رحمها، ولم تعانِ في ولادته، ولم تكن يوماً مرضعته، ولا يهمها شأنه، ولا يعنيها مستقبله، ولا تنتمي إلى مجتمعه، بل ربما لا تنتمي إلى دينه ومعتقده.
أو ما هو الحل الآخر؟ أن يسرح الأبناء إلى مؤسسات هنا أو هناك كما هي في مجتمعات الغرب، تكون كما يقول الرافعي رحمه الله للعشرين منهم أم واحدة، هذه موظفة ليست أماً، فلا تعطيهم شيئاً من معاني الأمومة فضلاً عن أن تمنحهم شيئاً من معالم التربية.
البدائل قضية مهمة، فقد نستطيع أن نسد ثغرات هنا أو هناك، الأعمال والوظائف فيها رجال ونساء، إن تخلينا أو اضطررنا إلى التخلي عن امرأة في مكان ما فلسنا عاجزين عن أن نأتي بغيرها من الرجال أو النساء بحسب الحال، لكنك إن لم تجد في بيتك أماً مربية هل يمكن أن تكون أنت أيها الرجل أماً مربية، خاصة في سن الصغر؟ هل يستطيع رجل واحد أن يحتمل البقاء مع طفل في الثانية أو الثالثة من عمره أكثر من ساعة أو ساعتين دون أن يدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور ويصيح ويضيق، فإنه لم يخلق لذلك، ولم يكن في نفسه وفكره وطبيعته لذلك، بينما هو يستطيع أن يحتمل الصعاب، وأن يرابط الأوقات الطويلة في عمله دون كلل أو ملل؛ لأن الله جل وعلا قد ركبه وخلقه على هيئة تصلح لذلك.
ومن هنا أيضاً نقول من مقالات بعض القوم: المرأة التي تشتغل خارج بيتها تؤدي عمل عامل بسيط، ولكنها لا تؤدي عمل امرأة، فإن الفطرة التي فطر الله الناس عليها قد جعلها في هذه المرأة مناسبة لهذه المهمة، أولاً في الأصل الخلقي الطبعي هل رأيتم في حياتكم رجلاً يحمل ويلد؟ وإن كنا نقرأ أحياناً من الطرائف والعجائب والغرائب ما يكتب في بعض الصحف مثل هذا، ولست واقفاً عنده، لكنني أقول: كل الناس حتى الذين يرتقون إلى أعلى الدرجات في المطالبة بالمساواة لم نسمع عن أحد منهم أنه طالب أن يساوى الرجل بالمرأة في الحمل والوضع والولادة، لماذا؟ لو كان من الناحية النظرية لدعوا إلى ذلك وطالبوا به، لكن هذا محال لطبيعة الخلقة، فإذا سلموا في هذا فلماذا لا يسلمون في طبيعة الفطرة والخلقة فيما وراء ذلك؟! يقول أحد الغربيين أيضاً: إن الرجل يبحث عن المرأة تعمر البيت بوجودها وحركتها وعملها، وليست المرأة التي تملأ المعامل والمصانع والمكاتب والشوارع، وتخلف وراءها بيتاً يفترسه الضياع والفساد بوسائله المباشرة وغير المباشرة.(118/4)
بر الأم من الجهاد
ومن أظهر ذلك وأبلغه ما رواه أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إني لأشتهي الجهاد ولا أقدر عليه -أي: ربما كان من أهل الأعذار- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل بقي من والديك أحد؟ قال: أمي، قال: قابل الله في برها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج، ومعتمر، ومجاهد، فإن رضيت عنك فاتق وبرها) ذكره الهيثمي في المجمع وقال: رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط والصغير ورجالهما رجال الصحيح، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب، وقال: إسنادهما جيد.
ومثل ذلك وأظهر منه حديث معاوية السلمي رضي الله عنه، قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق فقلت: يا رسول الله! إني أريد المسير معك للجهاد ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أن له أماً تحتاج إليه: ارجع إلى أمك فالزمها، قال: فجئته من قبل وجه آخر، فقلت: يا رسول الله! إني أريد المسير معك للجهاد ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، فقال: الزم أمك، فقلت له ثالثة، فقال: ويحك الزم رجلها فثم الجنة) رواه النسائي وابن ماجة في سننهما بسند صحيح، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، ذلكم أن الجنة تحت أقدام الأمهات.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر فقال في سياق حديث طويل: (ودخلت الجنة فسمعت فيها قراءة فقلت: قراءة من هذه؟ فقيل لي: قراءة الحارث بن النعمان فقال: كذلكم البر! كذلكم البر! وكان الحارث من أبر الناس بأمه) رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.
ومن هنا ندرك أن هذا المقام الجليل، والمكانة الرفيعة، والوجوب الشرعي لبر الأم إنما هو تقدير لدورها العظيم ورسالتها السامية، واعتراف بأثرها البليغ في قوة الأمة، ومكانة أجيالها، وصنع أسباب المناعة والحماية والوقاية من الآثار السيئة، ومن الشرور والأضرار الوخيمة.(118/5)
تقديم حق الأم على حق الأب
ووقفتنا الأولى: ومضة سريعة في المكانة والأهمية التي جعلها إسلامنا للأم، ولدورها الرائد في التربية.
قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14] قال ابن عطية في تفسيره: ذكر الله الأم في هذه الآية في أربع مراتب، والأب في مرتبة واحدة، وجمعهما الذكر في قوله تعالى: (بوالديه) ثم ذكر الحمل للأم ثم الوضع لها، ثم الرضاع الذي عبر عنه بالفصال، وهذا يناسب ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر، وللأب الربع، وذلك حين جاءه الرجل فقال: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أبوك).
وهذا أمر بين واضح ودور فطري خلقي أراده الله عز وجل لكمال البشرية، ولحسن انتظام الحياة في هذه الدنيا، وروى الترمذي: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله! إني أصبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة؟ فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: هل لك من أم؟ قال: لا، قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم قال: فبرها) أي: ذلك طريق توبة وتكفير ذنب.(118/6)
الهجوم الغربي على الأسرة الإسلامية
وأكمل لكم الثالثة في بيان الأهمية والخطورة، فإن هذا الدور إذا اختل ليس مجرد مناقض للفطرة، وليس مجرد أمر لم نستطع أن نجد له بديلاً، ولكنهم كذلك وضعوا هنا خطوطاً حمراء هي أحد المقاتل الخطيرة التي تضعضع كيان مجتمعاتنا الإسلامية، ويوشك أن يعيث من خلالها الفساد في ديارنا، ومن هنا فإن النقطة الثالثة هي الهجوم العظيم المتنامي على الأسرة عموماً وعلى المرأة خصوصاً، وعلى دور الأم المربية بشكل أخص، البروتوكولات المنسوبة إلى اليهود يقولون فيها: سوف ندمر الحياة الأسرية بين الأميين -أي: غير اليهود- ونفسد أهميتها التربوية.
ولما علم أولئك القوم أن سراً من أسرار قوتنا وترابطنا، واستعصاء أجيالنا على مخططات التدجين والتهويد إنما هو إلى أولئك الأمهات العظيمات المربيات قالوا: لا بد أن نلغي دور هذه الأم المربية، والزوجة الراعية، والبنت الحانية، وأن نصدع هذه اللبنة القوية المتماسكة.
وأنتم تعلمون كم تعقد الأمم المتحدة من المؤتمرات التي تحشد لها الأمم من شرق الأرض وغربها، وأي شيء تريد منها! عناوين كذابة، وشعارات براقة، ومضامين فاسدة ومفسدة للصحة الإنجابية أي: كيف تمارس المرأة كل أنواع الفسق والفجور والزنا والخنا، ثم تكون هناك بعض التعليمات والتوجيهات للوقاية من الأمراض، وماذا يقولون؟ كثير من الكلام تعلمونه.
لماذا كل هذا الجهد المبذول والتخطيط المتتابع منذ عقود والأموال المصروفة المبذولة؟ واليوم الدعوات التي نسمعها لإصلاح المجتمعات العربية والإسلامية، وفي مقدمة هذا الإصلاح وضع المرأة كما يقولون ويروجونه وفق تصوراتهم، ومناهجهم، وآرائهم وأحوالهم.(118/7)
المؤهلات الخلقية والفطرية للمرأة في التربية
هذه قضية مهمة لعلي أقف وقفة لا بد لنا أن نعيها نحن معاشر المسلمين: المؤهلات الخلقية والفطرية للمرأة في التربية:(118/8)
القرب والملابسة
وأخيراً: القرب والملابسة: من الأقرب إلى الأبناء؟ بل من الأقرب إلى الأزواج؟ من الأعرف بطبائعهم؟ من الأقدر على اكتشاف أسرارهم؟ أليست الأم هي التي تعرف ماذا يحب هذا وماذا يحب ذاك من الطعام والشراب؟! أليست هي التي تغسل الملابس وتعرف ما قد يكون فيها؟ أليس الأبناء أحياناً وإن كبروا يسرون بأسرارهم ومشكلاتهم إلى أمهاتهم؟ لماذا؟ لأن هذه طبيعة حانية، ولأنه استقرار في كل وقت يجده، يبحث عن أبيه فمرة في شرق، ومرة في غرب، وإذا كلمه وجد صرامة الوجه، وتقطب الجبين، والشدة التي يعرفها لا تناسب ذلك، لا يعني ذلك أنه ليس للأب من دور في التربية، ولكننا نذكر الدور الأساس في المراحل الأولى، وتبقى للأم أدوار مستمرة، فكل رجل مهما بلغ من الكبر فهو طفل عند أمه، لا يكبر الإنسان على أمه أبداً.
هذه التربية! هذه الأم! هذا الدور لا بد أن نعني به وأن نحرص عليه؛ لنؤمن بيوتنا، ولنعد أجيالنا.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ نساءنا وزوجاتنا وأمهاتنا ومجتمعنا من كل الشرور والمفاسد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(118/9)
الخصائص النفسية
أولها: الخصائص النفسية: فإن المرأة مجبولة على العاطفة الفياضة، والحنان المتدفق، ألا ترون ذلك فيما صورته أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يبين هذه العاطفة، وذلك حين قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوماً وقد كان يمر ببعض الأسرى وامرأة تأخذ وليدها فتضمه إلى صدرها فيقول: (أرأيتم هذه طارحة ولدها في النار؟! قالوا: يا رسول الله! هي أرحم به من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بكم من هذه بولدها) لكنه أراد أن يبين أن الرحمة الإنسانية في أعلى صورها إنما هي عند المرأة الأم.
وذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم الحديث الذي كان من أقضية سليمان عليه السلام، وهو أن امرأتين تنازعتا في طفل، كل واحدة تدعي أنها أمه -فبأي شيء حكم؟ - قال: أحكم بأن يشق نصفين، فتعطى كل واحدة نصفه، ولم يكن يريد أن يكون هذا حكماً منفذاً؛ لكنه عندما قاله قالت إحداهما: لا تفعل، هو لها وهي أمه، فهل أقرت بهذا على أن تلك أمه؟ كلا، بل حكم لها بأن تأخذ هذا الابن؛ لأنه أثبت أن رحمتها به آثرت حياته ولو كان بعيداً عنها، فأيقن أنها أمه، هذه الصورة من الرحمة والعطف والحنان كيف ينشأ الأطفال إذا حرموا منها؟! لماذا تشكو المجتمعات الغربية اليوم ممن يسمونهم (التن إيجرس) الذين هم أبناء ما فوق العاشرة والعشرين؟! لماذا ترون هناك أبناء الخامسة عشرة وهم ينفذون جرائم قتل كاملة؟! إنهم لم يجدوا حناناً ولا عطفاً من الأم، عاشوا في بيئة صحراوية من المشاعر والعواطف، عاشوا في بيئة ليست مستقرة في ظلال الأسرة الوارفة، فخرجوا إلى المجتمع أشراراً لا يبغون فيه إلا فساداً.
وانظروا إلى الصبر والاحتمال، وهو من الطبيعة النفسية عند المرأة على الصغار كما قلت من قبل، هذه أم طفل ترضعه، وآخر يحبو تنتبه له، وثالث يدرج توجهه، وتعيش في هذه المملكة ما لو عاشه الرجل كما قلت ساعة واحدة لكاد أن يساق إلى مستشفى المجانين، كيف ذلك؟! لأن الله جعل لها صدراً رحباً، واحتمالاً عظيماً في هذا الباب ليس له نظير.(118/10)
طبيعة الاستقرار في المرأة
الأمر الثاني وهو مهم كذلك: طبيعة الاستقرار في المرأة: والقرآن العظيم والمنهج الإسلامي القويم يتطابق مع أصل الخلقة والفطرة: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المرسلات:20 - 21] الرحم قرار يستقر فيه كل واحد منا، فقد استقر فيه تسعة أشهر، هل لأحد منكم أن يدعي: أنه لم تكن له أم حملته ووضعته وأرضعته وغذته ورعته وربته؟! هذا الاستقرار هو من طبيعة المرأة، ولذلك حتى المرأة العاملة هل تبقى في البيت وقتاً أطول من زوجها أو لا؟ نعم.
لماذا؟ لأن في طبيعتها الاستقرار، ومن هنا جاء التوجيه الرباني: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33] ليس ذلك تحريماً للخروج أو العمل في صورته الشرعية، ولكنه ذكر للطبيعة المناسبة للمرأة تغليباً، ولذلك انظروا إلى الرجال ألا ترونهم في أيام العطل والإجازات إذا بقي أحدهم في بيته لم يستطع أن يبقى إلا جزءاً من الوقت ثم يخرج؛ لأنه ليس من طبيعته الاستقرار، بل هو متنقل مرتحل عامل متغير، هذه طبيعة الكد والكدح والسير في هذه الحياة: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الأنعام:11]، وهذا ضرب آخر يتناسب مع الرجل، فإذاً: طبيعة القرار والاستقرار جعلها الله لتكمل بها هذه الحياة.(118/11)
دور الأم الفلسطينية البطولي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من الأمور المهمة: العناية بدور الأم وتربيتها لأبنائها، ولعلي أشير هنا إشارات لا بد من ذكرها والتنبيه عليها، وهي لفت نظر إلى الأمهات العظيمات المربيات في أرض فلسطين، ما الذي أخرج لنا هذا الجيل من الشباب الصغار في مقتبل العمر يكشفون صدورهم للرصاص ومدافع الدبابات وقصف الصواريخ، وهم يبتسمون ويجددون قول أسلافنا: الله أكبر فزت ورب الكعبة؟! ثم نرى من بعد الأم وهي تقول: لا تعزوني ولكن هنئوني بشرف استشهاد أبنائي، ألم نر ذلك؟! ألم نعرف أن هذه القوة التي تواجه اليوم ألد أعدائنا وأحقرهم وأذلهم من اليهود عليهم لعائن الله إنما كان الدور العظيم بعد فضل الله عز وجل وأدوار أخرى لأولئك الأمهات؟ ألسنا نعرف أن قوة الإنجاب وكثرته في أرض فلسطين أحد الأسلحة العظيمة التي تقلق أعداء الله عز وجل، ثم يقال لنا: قللوا نسلكم، وأخرجوا نساءكم، وضيعوا أجيالكم، ومن بعد سوف تضيع كلمتكم وتذهب ريحكم.
أمثلة عظيمة نراها وتؤكد لنا هذا المعنى، ونحن وإن كنا نألم ونحزن لما يجري في أرض العراق وفي فلسطين ونتفاعل معه في الخطب، لكننا كذلك نحتاج إلى أن نقف وقفات عملية لنؤدي دورنا ونقوم بواجبنا، أحد الكتاب يقول مقالة قوية معبرة: إن دور الأم في التربية أعظم من دور الثورة، نحن نريد ثورة على الظلم لإقرار العدل، وعلى الذل للتحلي بالعز، نحن نريد ثورة نغير بها الواقع في حياتنا، وإن من أعظم أسباب هذه الثورة دون أن تكون ثورة حمراء، ودون أن تكون ثورة في مبتدئها ثورة دماء، ودون أن تكون رعونة رعناء؛ هو دور التربية، ومفتاح التغيير، ومصدر القوة، وإن أسلحة التربية في الأجيال المؤمنة أعظم وأفتك من الأسلحة الذرية وأسلحة الدمار الشامل التي يكذبون على الناس بوجودها، ويعرفون أن حقيقة قوتنا في إيماننا وإسلامنا، وتربية أجيالنا، فيحاربوننا في مكمن قوتنا، ودعك من غير ذلك من الأضاليل والأكاذيب، وإلا فلماذا هذه الدعوات من الديمقراطيات والإصلاحات وغيرها من المغالطات التي يروجونها وفق المنظور الغربي والحضارة الغربية.
وأقول: أيها الإخوة! إن هذا المعنى مهم جداً، ونحن عندما نقول ونتحدث في هذا فلسنا نتحدث بعيداً عن واقعنا، ولسنا لا نعي ما يجري حولنا، ولكننا نريد أن نكون أصحاب عمل، وقد قلنا من قبل في حديث مستفيض عن خطة الإصلاح ومنهجه في القرآن ومبدئه من قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] وهذا الذي نتحدث عنه حديثاً مهماً مكملاً لهذا الدور العظيم الذي عبر عنه شاعر العراق الرصافي بقوله: ولم أر للخلائق من محل يهذبها كحضن الأمهات فحضن الأم مدرسة تسامت بتربية البنين أو البنات وأخلاق الوليد تقاس حسناً بأخلاق النساء الوالدات وليس ربيب عالية المزايا كمثل ربيب سافلة الصفات وليس النبت ينبت في جنان كمثل النبت ينبت في فلاة فاعلم أن هذا الابن والشاب إذا كان صالحاً فإن وراءه في الغالب أماً مربية صالحة، ولقد كان القاسم وإبراهيم يدخلان على عائشة رضي الله عنهما من التابعين، وكان أحدهما في لسانه لكنة يلحن في العربية فقالت: (قد علمت من أين فصاحة هذا وعجمة هذا، هذا ربته أمه، وذاك ربته أمه) وكانت أمه أعجمية ليست عربية فبقي أثر تربيتها إلى أن صار رجلاً عظيماً عالماً إلا أن بعض الأثر ما زال ظاهراً، ولذلك مقولة عظيمة تقول: إذا علمت رجلاً فقد علمت فرداً، وإذا علمت امرأة فقد علمت جيلاً.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ بيوتنا وأبناءنا وبناتنا من كل الشرور والمفاسد، وأن يعطينا الزوجات الراعيات، والأمهات المربيات، والبنات الحانيات.
نسأله عز وجل أن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا، وأن يفقهنا في ديننا، وأن يجعلنا بكتاب الله مستمسكين، وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم معتصمين، ولآثار السلف الصالح مقتفين، اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم طهر قلوبنا وزك نفوسنا، وأخلص نياتنا، وحسن أقوالنا، وأصلح أعمالنا، وضاعف أجورنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، زلزل اللهم الأرض تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، واجعل بأسهم بينهم، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم، اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، ولا تبلغهم اللهم غاية، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين.
اللهم اشف فيهم صدور قوم مؤمنين، يا قوي يا عزيز يا متين؛ يا منتقم يا جبار يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك لطفك ورحمتك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين في أرض العراق وفي فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين.
اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، ووفر أقواتهم، وأدم عزهم، ووفر أمنهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء.
اللهم إنا نسألك أن تثبت أقدامهم، وأن توحد صفوفهم، وأن تقوي شوكتهم، وأن تسدد رميتهم، وأن تنصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العلمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير، وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله، استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون!(118/12)
الوصايا الربانية [1]
في سورة الأنعام ثلاث آيات توصي بأصول الفضائل، وتحذر من أصول المحرمات والرذائل، وأول ذلك الأمر بالتوحيد والتحذير من الشرك بالله عز وجل، وذلك رأس الوصايا؛ لأنه لا فلاح إلاّ بعد تحقيق التوحيد، والبراءة من الشرك وأهله.(119/1)
أهمية الوصايا الربانية
الحمد لله جعل في الإيمان أمناً وأمانة، وفي الإسلام سلماً وسلامة، وفي القرآن رحمة وهداية، وفي الشرائع حكمة ووقاية، له الحمد سبحانه وتعالى لا إله غيره، ولا رب سواه، لا يضل من استهداه، ولا يخيب من رجاه، ولا يحرم من استعطاه، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه؛ هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم التقى، ومنار الهدى، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا جميعاً لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! معاشر المسلمين! وقفات ستتوالى -بإذن الله عز وجل- مع وصايا في غاية الأهمية، أبدؤها بلفت النظر إلى أهميتها، فقد روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم قال: (من يبايعني على هذه الآيات وتلا: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151] إلى آخر الثلاث الآيات، ثم قال صلى الله عليه وسلم: فمن وفى فأجره على الله، ومن انتقص شيئاً أدركه الله به -أي: في الدنيا- كانت عقوبته، ومن أخر إلى الآخرة كان أمره إلى الله؛ إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه مقالة عظيمة، تكشف عن أهمية ما نقف معه من هذه الوصايا القرآنية حيث قال: (من أراد أن يقرأ صحيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151])، إنها وصية مختومة ممهورة بختم ومهر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكر القرطبي هذه الرواية عن غير ابن مسعود وقال فيها: (وعليها خاتمه الذي لم ينفك).
فهذه الوصية التي وجهها الحق جل وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم، وجعلت خطاباً وتوجيهاً لأمته، هي التي رأى الصحابة أنها خلاصة تلك الوصية، وخلاصة تلك الديانة العظيمة والشريعة الكاملة التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.(119/2)
أهمية آيات الوصايا العشر في سورة الأنعام(119/3)
قطع للعذر وإقامة للحجة
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب).
وذكر ذلك القرطبي نقلاً عن ابن عباس بقوله: (الآيات المحكمات التي ذكرها الله جل وعلا في آل عمران أجمعت عليها شرائع الخلق، ولم تنسخ في ملة قط)، أفليس مثل هذه الوصايا حري بنا أن نعنى بها؟ وهي آيات تتلى في كتاب الله عز وجل، وهداية وجهت لخير الخلق عليه الصلاة والسلام، ولذا فإننا نقف معها هذه الوقفات المتتاليات، نسأل الله عز وجل أن يفتح علينا في معانيها، وأن يوفقنا لحسن قبولها والعمل بها.
قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151] الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما ذكر القرطبي: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس ما حرم الله عليهم، قال: وهكذا يجب على من بعده من العلماء أن يبلغوا الناس ويبينوا لهم ما حرم الله عليهم وما أحل، لقوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187]، فما نقوله اليوم يكون حجة لنا أو علينا، فإن امتثلنا وعملنا، وإن بلغنا ودعونا وذكرنا كان ذلك نوراً على نور، وهدىً على هدىً، وتقىً على تقىً، وإن كانت الأخرى فقد قامت الحجة، وانقطع العذر، وصار الأمر إما إلى عقوبة معجلة أو مؤجلة، أو إلى رحمة من الله واسعة، نسأل الله عز وجل من فضله.(119/4)
خطاب للمسلمين غير المسلمين
وثمة أمر آخر: وهو الخطاب الذي يوجهه النبي صلى الله عليه وسلم، ويوجهه من بعده من حملة رسالته وأتباع سنته، فقوله: (قُلْ تَعَالَوْا) هذا النداء للخلق جميعاً، ويخص المسلمين وغير المسلمين معاً، فإن هذا النداء هو نداء هذه الشريعة الخاتمة، والرسالة التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم.
وما سبق من هذه الآيات يبين لنا حكمة وضع هذه الآيات في هذا السياق؛ وذلك أن الآيات السابقة كانت تخاطبنا عن المشركين من أهل الجاهلية، وعن أفعالهم الشنيعة التي أحلوا فيها ما حرم الله، وحرموا فيها ما أحل الله؛ اتباعاً لأهوائهم، وتقريراً لأعرافهم، وتثبيتاً لجاهليتهم، ومن هنا جاء الخطاب الرباني في مواجهتهم قبل هذه الآيات والوصايا بقوله سبحانه: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:150]، فأولئك حرفوا وبدلوا وغيروا، فجاء النداء لتصحيح المسار، فإنه لا حلال إلا ما أحل الله، ولا حرام إلا ما حرم الله، ولا شرع إلا ما جاء عن الله أو بلغه رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، فليس هناك اختيارات، وليس هناك أنواع من الأهواء التي تقدم شيئاً أو تؤخره، وإلا كان ذلك ضرباً من مناقضة أصل الإيمان، ومخالفة صفاء التوحيد، كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] أي: يقبلوا قبولاً تاماً من أعماق قلوبهم ونفوسهم دون أدنى شك، ولا أقل حرج، ولا أيسر معارضة، ولا شيء مما فيه ضرب من الاعتراض بحال من الأحوال.
ولذلك جاء هذا الخطاب وهذه الوصية التي أمر بها المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ لتبين لنا جملة الأمور المهمة، كما روي عن ابن عباس: أن هذه الوصايا قد أجمعت عليها الشرائع كلها، ولم ينسخ منها شيء قط، وأنها خلاصة هذا الدين وجوهره، وأن بها العصمة من كل زلل، ومن كل فتنة، ومن استمسك بها فقد أدى ما عليه، وقد وفّى لله جل وعلا بما أمره به ونهاه عنه، وبعد ذلك فمن قصر أو فرط فحسابه على الله عز وجل.(119/5)
بيان لأصول المحرمات وأصول الفضائل
ومن هنا فإن هذه الآيات والوصايا تشتمل على أصول المحرمات في الأقوال والأفعال، وأصول الفضائل وأنواع البر، فهي تجمع ما نهي عنه وما أمر به من الكليات التي تستقيم بها الحياة، ابتداءً من اعتقاد القلب ويقين النفس، وانتهاءً بفعل الجوارح والسلوك، ومروراً بألفاظ اللسان وأقواله، وتعريجاً على العلاقات والصلات والمعاملات والأحكام والتشريعات، فهي شاملة لذلك كله، ففيها قوام الدين كله؛ لأنها تشتمل على جوهر هذا الدين العظيم.
أما المتبعون لأهوائهم الذين يقدمون الظنون على الحقائق، والذين يحللون ويحرمون بحسب أهوائهم، فقل لهم: تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم، فإن الذي يحل ويحرم إنما هو ما ثبت في الوحي وجاء به الشرع الكريم، ونطق به الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم.(119/6)
أحوال السلف في تلقي الوصايا الربانية
ولقد كانت استجابة الأصحاب في زمن المصطفى عليه الصلاة والسلام للشرع استجابة فريدة نادرة، ذلك أنه قال لهم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، فكانت استجابتهم ليست مقتصرة على مجرد امتثال الأمر واجتناب النهي، بل المبادرة إلى ذلك كانت بالفعل سبقاً وحرصاً ومبالغةً عند بعض الناس في بعض الأحوال، كما كان ابن عمر رضي الله عنهما يحرص على اقتفاء السنة واتباع أثر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى كان ينيخ ناقته حيث أناخ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته، وحتى يستظل في سفره بالشجرة التي استظل النبي تحتها، فكان لا يدع شاردة ولا واردة ولا شاذة ولا فاذة إلا حرص أن يترسم فيها خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما قال ما قال، وجاءه بعض الناس بأقوال أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قال: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر!) ليبين أن المعقد إنما هو في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الأقوال إنما تفهم في ضوئهما، وترجع إليهما، وتنطلق منهما، وما وافقهما فهو الحق، وما خالفهما فربما كان اجتهاداً وقع فيه خطأ.
وهكذا نرى من جهة أخرى جانب الانتهاء عندهم عن التحريم، فلقد كان الصحابة رضوان الله عليهم كما وصفهم الحسن رضي الله عنه بقوله: كانوا يدعون بينهم وبين الحرام سبعين باباً من الحلال.
أي: كانوا يتقون الشبهات، ويبتعدون عن المحرمات بعداً عظيماً؛ لما سيأتي ذكره في هذه الآيات والوصايا، كما في قوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} [الأنعام:151]، أي: اجعلوا بينكم وبينها مسافة؛ ولأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد قال: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات يوشك أن يقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه).
وكم هي أقوالنا اليوم: هذا لا بأس به، وهذا ليس فيه شيء، وهذا من المكروهات، فما زلنا نفعل هذا، ونغض الطرف عن هذا، ونقع في هذا، حتى وقعنا في جملة أحوالنا في كثير من المحرمات إلا من رحم الله عز وجل.
روى البخاري في صحيحه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تحدث إلى أصحابه يوماً وفي يده حرير وذهب، وقال: هذان حرام على ذكور أمتي حلال لإناثها، وكان في القوم رجل في يده خاتم من ذهب، فنزعه من فوره فوضعه، فلما انتهى المجلس قالوا له: لو أخذت خاتمك فانتفعت به، فقال: ما كنت لآخذه وقد طرحته لله ولرسوله)، أي: مع حل ذلك، لكنهم كانوا يريدون ألا يكون بينهم وبين شيء من النهي صلة ولا تعلق.
ولما نزل قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] لم تبق لحظة واحدة ولا دقيقة واحدة قبل التنفيذ، بل كانت المبادرة التي شقت فيها دنان الخمر، وسكبت الكئوس من الأيدي، ومجت تلك القطرات من الأفواه؛ لأن القلوب مسلمة لأمر الله؛ ولأن الإيمان مستكن ومستقر فيها، ولسان حالها كما قال جل وعلا: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7].
هذه الآيات موجهة لهذه الحقيقة الكبرى وفي ظلالها، وبعدها الآيات التي فصلت فيما كان عليه أهل الشرك والجاهلية في زمان مضى، وهي كذلك في جاهلية اليوم وأزمنة العصر الحاضر تختلف صورها، وتختلف مظاهرها، لكن تتحد حقائقها، وتتفق أصولها في مناقضتها ومخالفتها لأمر الله عز وجل وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
وجملة هذه الوصايا فيها قيام الحياة كلها؛ ففيها قيام حياة القلوب بالتوحيد والإيمان، وقوام حياة الأسرة بالبر والإحسان، وقوام حياة المجتمع بالعفة والطهارة، وقوام حياة الإنسانية بالعدل والوفاء، فالإسلام العظيم يربي الفرد، ويقيم الأسرة، ويطهر المجتمع، ويظل الإنسانية بعدالته؛ لأنه دين كامل، وتشريع عظيم.
هذه الوصايا موجزة في ثلاث آيات فحسب، اشتملت على جملة من المأمورات والمحظورات التي بها تستقيم حياة الناس جميعاً مسلمهم وغير مسلمهم؛ فإن الإسلام جاء بالعدل والإنصاف، والوفاء بالحقوق، وإعطاء الناس ما لهم، ومطالبتهم بما عليهم.(119/7)
من الشرك تحكيم القوانين الوضعية
وحقيقة الشرك بالله كما يقول السعدي في تفسيره: أن يعبد المخلوق كما يعبد الله، أو يعظمه كما يعظم الله، أو يصرف له شيئاً من خصائص الألوهية والربوبية، وهكذا الذين يعظمون غير الله تعظيماً يشابه تعظيمهم لله، فيخضعون لهم، ويوافقونهم، ويتابعونهم، ويقرون لهم بما يخالفون به شرع الله عز وجل، فإنه يصدق فيهم قول الله عز وجل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31].
ثم نبين بعد ذلك أمراً مهماً، وهو ما يتعلق بصور كثيرة من معارضات هذا التوحيد التي -وللأسف الشديد- فشت وانتشرت في ديار الإسلام إلا ما رحم الله، ولعل أبرزها ما قلنا إنه متصل بهذه الآيات في معناها، وهو تحكيم غير شرع الله، والرضا بحكم غير حكم الله، أو النظر إلى حكم الله وتشريع رسوله صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلح لهذا الزمان، ولا يتناسب مع هذا العصر، وأنه ينبغي لنا أن نغير ونبدل ونحسن؛ حتى نظهر أمام المجتمعات الدولية بمظهر حضاري كما يقال.
ولست أريد أن أتحدث من تلقاء نفسي، فكلام علماء الإسلام في القديم كثير، أكتفي منه بنزر يسير، وأنقل لكم بعض أقوال علماء العصر في هذا الزمان، سواء من مات منهم أو من بقي؛ لنرى أن القضية ليست قضية تشدد أو تطرف كما يقال، بل هي قضية دين حق: آيات تتلى، وأحاديث تروى، ومفاهيم واضحة، ومعاقد عقدية فاصلة ينبغي أن تكون واضحة.
قال الجصاص رحمه الله في هذا المعنى: من رد شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الإسلام، سواء رده من جهة الشك فيه، أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة.
ويقول ابن تيمية رحمه الله: الإنسان متى أحل الحرام المجمع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه، كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء.
إذاً: فخطئوا فقهاء الإسلام كلهم، وخطئوا إجماع الأمة كلها؛ لتقولوا لنا: إن مثل هذا القول يدخل في هذا الباب أو ذاك الباب، أو هذا التصنيف أو ذاك التصنيف.
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية سابقاً: إن من الكفر الأكبر المستبين: تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، ثم ذكر القوانين الوضعية فرنسية وبريطانية مما يحكّم أو يحكم به في بعض ديار الإسلام.
وقال ابن باز رحمه الله المفتي السابق: قد أجمع العلماء على أن من زعم أن حكم غير الله أحسن من حكم الله، أو أن غير هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام فهو كافر.
كما أجمعوا على أن من زعم أنه يجوز لأحد من الناس الخروج على شريعة محمد أو تحكيم غيرها فهو كافر ضال، وكم نسمع اليوم من يأتينا بأمثلة قد ذكرها أيضاً علماء العصر! فقد ذكر الشنقيطي هذا الحكم، فقال: الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على لسان أوليائه، مخالفة لما شرعه الله عز وجل على ألسنة رسله، لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم.
ثم ضرب لنا أمثلة فقال: كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف، بل يلزم استواؤهما في الميراث، وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم، وأن الطلاق ظلم للمرأة، وأن الرجم والقطع ونحوها أعمال وحشية لا يسوغ فيها بالإنسان، ونحو ذلك.
وأظننا جميعاً نعلم أن مثل هذه المقالات تقال، وتكتب في الصحف، وتسمع في الإذاعات، وترى في المقابلات على الشاشات، ويتحدث بعض الناس فيها على أنها سجال ورأي وحرية فكر! ولا يفرقون بين حرية فكر وحرية كفر تنقض الدين من أصوله، وتأتي على مناقضة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأختم بقول لشيخ الأزهر سابقاً محمد الخضر حسين يقول فيه: أما أن تفعل البلاد الإسلامية ما فعلته البلاد الغربية من تجريد السياسة من الدين، فهو رأي لا يصدر إلا عمن يُكِن في صدره أن ليس في الدين من سلطان على السياسة، وهذا ما يبثه فئة يريدون أن ينقضوا حقيقة الإسلام من أطرافها؛ حتى تكون بمقدار غيرها من الديانات الروحانية التي فصلها أهلها عن السياسة، ثم صبغوا هذا المقدار بأي صبغة أرادوا، فيذهب الإسلام، فلا القرآن نزل، ولا محمد صلى الله عليه وسلم بُعث، ولا الخلفاء الراشدون جاهدوا في الله حق جهاده، ولا الراسخون في العلم سهروا في تعرف الأصول من مواردها، وانتزاع الأحكام من أصولها.
هذه أقوالهم تقول: إن من يقول ذلك ينقض عرى الإسلام، ويخلخل قاعدة التوحيد والإيمان، نسأل الله عز وجل السلامة، ونسأل الله عز وجل أن يثبت الإيمان في قلوبنا، وأن يرسخ اليقين في نفوسنا، وأن يجعل توحيدنا خالصاً لوجهه الكريم، سالماً من كل شرك وشبهة ورياء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(119/8)
وجوب الإيمان بالله عز وجل وتوحيده
قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151].
فأول الأمر وبدايته: الإيمان بالله خالصاً له سبحانه وتعالى، والتوحيد له نقياً من كل شائبة، ولعلنا هنا نقف وقفات عديدة؛ لأن الناس يتصورون الشرك في تلك الأصنام التي كانت حول الكعبة في مكة، ويتصورونه فيمن يسجد لتلك الأصنام أو يذبح لها، ويقتصر فهمهم على مناقضة التوحيد أو خالطه بغير ما هو منه.
ولذلك ينبغي أن ننتبه إلى أن القرآن في هذه الوصايا بدأ بأكبر المحرمات وأفضعها وأشدها إفساداً للعقل والفطرة، وهو الشرك بالله تعالى، سواء كان الشرك باتخاذ الأنداد له جل وعلا، أو باتخاذ شركاء يُرى أنهم يشاركونه في تصريفه للأمور وتدبيره لها، أو اتخاذ شفعاء يكونون عنده وسطاء، أو اتخاذ تشريع وحكم غير تشريعه وحكمه الذي أنزله في كتابه وبلغه رسوله صلى الله عليه وسلم.
فكل شيء وكل ضرب من ضروب الشرك ينبغي أن يكون في قائمة أعظم المحرمات المنهي عنها؛ إذ التوحيد قاعدة بناء الإسلام، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23]؛ لأنه عمل على غير إيمان، ولأنه عمل من غير توحيد، قال عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
إن أمر توحيد الله عز وجل عظيم؛ ففيه الاعتراف بربوبية الله جل وعلا خلقاً وتدبيراً، والاعتراف بألوهيته سبحانه وتعالى خضوعاً وتعبداً، والاعتراف بأسمائه وصفاته تعظيماً وإجلالاً، إنه يشتمل على كل مشاعر القلب التي تخرج منه كل تعلق بغير الله، وكل رجاء في غير الله، وكل خوف من غير الله، وكل ذل لغير الله عز وجل؛ ليبقى موحداً قوياً في صلته بربه سبحانه وتعالى، وليبقى حينئذ مقراً بخلق الله وتدبيره ورزقه وإحيائه وإماتته وتصريفه لكل أمر، وليبقى عالماً بأن الذي أنعم ينبغي أن يعبد، وإذا عبد ينبغي ألا يشرك معه غيره، وإذا كانت له أسماء وصفات فليس له معها ولا بها ولا فيها أحد يشابهه، كما قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
إن امتلاء القلب بهذه الحقيقة هو أساس هذا الدين كله، وهو الذي طهر محمد صلى الله عليه وسلم منه قلوب وعقول الكافرين والجاهليين، فأصبحوا من خلص أصحابه رضوان الله عليهم، وأصبح عندهم صفاء في توحيدهم، وقوة في يقينهم، ورسوخ في إيمانهم، وتجرد في إخلاصهم، وعظمة في تقواهم، وصدق في توكلهم، وقوة في ثقتهم بالله عز وجل، وعظمة في حبهم له، وشدة في خوفهم منه سبحانه وتعالى، وذلك هو جوهر الإيمان والتوحيد، وليس مجرد كلمات تقال فحسب، وليس مجرد اتباع للأوامر فحسب، بل هو ذلك الشعور الذي يستقر في سويداء القلب، وفي أغوار النفس، فيملك على الإنسان كل مشاعره، وكل خواطره، وكل أقواله، وكل أفعاله، وكل أحواله، فيكون في كل حركة وسكنة وكلمة وسكتة يعبر عن صلته بالله عز وجل وتوحيده له سبحانه وتعالى.(119/9)
الوصية بالتوحيد والتحذير من الشرك
وقوله عز وجل: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151] الآيات، فيها أوامر، وليست كلها محرمات، ولذا قال المفسرون: إن ذكر أصول المحرمات يدل على ما يقابلها من المباحات، وإن الله نوّع بين نهي عن محرم وأمر ببر وواجب؛ ليشتمل ذلك على هذا وذاك كل بحسبه في بلاغة القرآن المعجزة، فبماذا كانت البداية؟(119/10)
التحذير من بعض مظاهر الشرك الموجودة في واقع الأمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجرين إلى جنات النعيم نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أوصيكم أحبتي الكرام! بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولنعلم أن هذه الوصية أول ما بدأت بالتحذير من الشرك بالله عز وجل؛ وذلك لأنها مفتاح لما يريد الله عز وجل من الخير لأهل الإيمان والتوحيد؛ لأن الإيمان والتوحيد هو أساس الأمر ومبدؤه ومنتهاه، قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وفي الصحيحين من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة).
ولو أردنا أن ننتبه إلى الصور الكثيرة التي يعج بها واقع أمة الإسلام اليوم لوجدنا مخاطر كثيرة ينبغي الحذر منها، وأكتفي بالإشارة إلى اثنين منها:(119/11)
من المخاطر تمييع الولاء والبراء
وثانيهما هو: مما عد اليوم من المحظورات التي ينبغي أن نكف ألسنتنا عنها، وأن نمنع أقلامنا من الكتابة فيها، وأن نعطلها من التدريس والتعليم، أتعلمون ما هو هذا الأمر؟ إنه أمر تنزلت به آيات من عند الله عز وجل، ولا يمكن لأحد من الخلق مهما كان أن يمحوها ويلغيها، بل لا يستطيع أن يغير حرفاً واحداً منها مهما كان شأنه.
إنها الحقيقة التي أريد أن أكشفها لكم بالآيات، وبما جاء في كتاب الله عز وجل، قال عز وجل: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165]، ويقول الحق جل وعلا: {لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:28]، ويقول كذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة:1]، إنه أمر الولاء والبراء، المحبة لله، والبغض في الله، إنه أمر يصورونه على أنه مناقضة للعدالة، أو مخالفة للسماحة.
وليس فيه شيء من ذلك، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعدل الخلق، وأسمح الناس، وأرأفهم بالخلق جميعاً، ودعا وبصر وهدى غير المؤمنين، لكنه علم وعلّم أن بغض الكفر في ذاته وبغض الفحش والفاحشة في ذاتها أصل مرتكز من عقيدة المؤمن، وبين أن أهل الكفر إن ناصبوا العداء، وإن كادوا واستخدموا أساليبهم في المكر والدهاء، فإنه لا ينبغي لمؤمن يؤمن بالله ورسوله إلا أن يُكِن بغضهم، وأن يعتقد عداءهم، وأن يسعى إلى مواجهتهم، وذلك هو ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويوم جاءت المواقف الفاصلة بين إيمان وكفر مضى بعض الأنصار مع حلفائهم من اليهود في المدينة ينشدونهم النصر، ويطالبونهم الوفاء بالعهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكلوا وتخاذلوا وأحجموا، فأي شيء قال ذاك الصحابي؟ قال: (اللهم إني أبرأ إليك من هؤلاء وحلفهم، وأكون مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم)، وفي هذه الحادثة تنزل قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51].
وكثيرة هي الصور التي نراها مخالفة لحقيقة التوحيد وهي ليست سجوداً لصنم, ولا بقاء عند قبر، وإن كان ذلك كله من المعارضات والمناقضات التي تجرح التوحيد، وقد تنقض أصله، وتدخل صاحبها في دائرة الشرك أو الكفر، أصغر أو أكبر كل بحسبه وبحسب حكمه.
إذاً: أحبتنا الكرام! أول ما حرم الله علينا هو: ألا نشرك به شيئاً، فإن التحريم لهذا تحريم قاطع؛ لأنه أساس كل ما يأتي من المحرمات والمأمورات.
فنسأل الله عز وجل أن يبرئ قلوبنا من الشرك به، وأن يطهر نفوسنا من الشرك به، وأن يطهر عقولنا من الشرك به، وأن يجعلنا أعظم اعتماداً عليه، وأصدق توكلاً عليه، وأشد إخلاصاً له، وأعظم خوفاً منه، وأصدق ثقة به، وألا يجعل في قلوبنا خوفاً ولا رهبة ولا رجاءً ولا تعلقاً إلا به سبحانه وتعالى.
اللهم إنا نبرأ إليك من الشرك والكفر وأهله، اللهم إنا نسألك أن تحبب إلينا عبادك المؤمنين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا.
اللهم أصلح أحوالنا، واختم بالصالحات أعمالنا وآجالنا.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واهدنا اللهم لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأخرجنا من الظلمات إلى النور برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، واحفظ اللهم عليها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، وسعة رزقها، ورغد عيشها يا رب العالمين.
اللهم احفظ ديار المسلمين من كل سوء ومكروه.
اللهم رد كيد الكائدين، وادفع شرور المعتدين، وسلم ديار المسلمين، واحقن دماءهم، واحفظ أعراضهم وأموالهم يا رب العالمين! اللهم رد كيد الأعداء في نحورهم، واشغلهم في أنفسهم، واجعل الدائرة عليهم، لا ترفع اللهم لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعلهم اللهم لمن خلفهم آية، وأنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! عباد الله صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
اللهم صلَّ وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(119/12)
من المخاطر تقديم العقل على النقل
الأول هو: تقديم العقل على النقل, وكم نرى اليوم من ينظر إلى الأحكام والتشريعات فيقول: هذه لا تتفق مع العقل، وكيف يمكن أن نطبق هذا؟ وكيف نستطيع أن نفعل هذا؟ إن هذه الأحكام لا تتطابق مع مقتضى العقل وحقيقة المصلحة! وكم سمعنا ذلك حتى في أحكام قد يرونها يسيرة، فكم تسمع من امرأة أو رجل يجادلك في تشريع الله عز وجل في حجاب المرأة المسلمة، ويناظر في ذلك بأمور يزعم أن من العقل، وحقيقتها أنها من الهوى، ويزعم أنها عليها دلائل من الحقائق، وهي ضلالات من الأوهام! وكم نرى صوراً من ذلك في واقع الحياة!(119/13)
الوصايا الربانية [2]
بر الوالدين من أعظم أبواب الطاعات، ولذا أمر الله عز وجل به وحث عليه، بل إن الله عز وجل قرن بر الوالدين بعبادته سبحانه في غير ما موضع من كتابه الكريم، وما ذاك إلا لما للوالدين من المنزلة والمكانة والقدر، فيجب على كل مسلم أن يكون باراً بوالديه، مطيعاً لهما.(120/1)
وصية الله عز وجل بالوالدين
الحمد لله الذي شرح الصدور بالإسلام، ونور القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، وجعل لنا في الطاعة خيراً وسعادة، وكتب لنا في الاستقامة عطاءً وزيادة، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداًَ نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وحبيبنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثّر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وأشهد أنه -عليه الصلاة والسلام- قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فها نحن نمضي مع الوصايا الربانية التي عرفنا قدرها ومقامها، ووقفنا على أهميتها وخطورتها، وأدركنا من قبل أنها سر النجاة، وسبب السعادة، والمخرج -بإذن الله- من كل فتنة، والعصمة من كل محنة؛ لأنها هدى الله عز وجل، وأوامره ووصاياه التي بدأها بقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151].
ووصية هذا الموضوع هي الوصية التي أقرتها الفطر البشرية السوية، واتفقت عليها جميع الشرائع السماوية، وأقرتها وتواطأت عليها جميع المجتمعات الإنسانية، وهي التي تدل على الخلق المرضي، والعقل المهدي، والنهج السوي، وهي التي تكشف عن أصالة المعدن، وحسن الوفاء، وكريم المعاملة، إن هذه الوصية التي نتحدث عنها اليوم تكررت في كتاب الله كثيراً، وتنوع الأمر بها والحرص عليها ودوام التذكير بها في سنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم مراراً وتكرارً، إنها قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الأنعام:151].
إنها الوصية بالوالدين، بر الوالدين، فالإحسان إلى الوالدين جاء في القرآن كثيراً متنوعاً، وها هو تقديم الجار والمجرور في ذكر الوالدين وتأخير الإحسان لإظهار الاختصاص والقصر، وإطلاق لفظ الإحسان منكراً ومنوناً ليكون عاماً شاملاً، ليكون إحساناً في القول والفعل، وقسمات الوجه، ونظرات العين، ولمسات اليدين، وكل حركة وسكنة، وفي كل وقت وآنٍ، وفي كل ظرف وحال؛ لأنه إحسان مطلق، وإحسان يكون في كل أحوالهما، وفي كل أحوال أولادهما كذلك.
والفيروزآبادي في تعريفه لبر الوالدين ذكر كلاماً نفيساً فقال: هو الإحسان إلى الوالدين، والتعطف عليهما، والرفق بهما، والرعاية لأحوالهما، وعدم الإساءة إليهما، وإكرام صديقهما.
غير أن كلامه وكلامي وكلام كل الخلق ليس بشيء مع كلام الله عز وجل ومع أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعندما كنت أبحث وأقلب رأيت أن أمسك لساني إلا من ذكر الآيات ورواية الأحاديث؛ لندرك أن القضية دين وتشريع رباني، وأنها سنة وتشريع وهدي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومهما قال القائلون أو عبر أهل العلم فإن ما جاء في الكتاب والسنة أبلغ وأعظم، ولذا آثرت أن نقف مع هذه الوصية ومكانة الوالدين وبرهما مع الآيات القرآنية العظيمة.(120/2)
وجوه تعظيم حق الوالدين وبرهما
الحمد لله الذي شرح الصدور بالإسلام، ونور القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، وجعل لنا في الطاعة خيراً وسعادة، وكتب لنا في الاستقامة عطاءً وزيادة، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداًَ نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وحبيبنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثّر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وأشهد أنه -عليه الصلاة والسلام- قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فها نحن نمضي مع الوصايا الربانية التي عرفنا قدرها ومقامها، ووقفنا على أهميتها وخطورتها، وأدركنا من قبل أنها سر النجاة، وسبب السعادة، والمخرج -بإذن الله- من كل فتنة، والعصمة من كل محنة؛ لأنها هدى الله عز وجل، وأوامره ووصاياه التي بدأها بقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151].
ووصية هذا الموضوع هي الوصية التي أقرتها الفطر البشرية السوية، واتفقت عليها جميع الشرائع السماوية، وأقرتها وتواطأت عليها جميع المجتمعات الإنسانية، وهي التي تدل على الخلق المرضي، والعقل المهدي، والنهج السوي، وهي التي تكشف عن أصالة المعدن، وحسن الوفاء، وكريم المعاملة، إن هذه الوصية التي نتحدث عنها اليوم تكررت في كتاب الله كثيراً، وتنوع الأمر بها والحرص عليها ودوام التذكير بها في سنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم مراراً وتكرارً، إنها قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الأنعام:151].
إنها الوصية بالوالدين، بر الوالدين، فالإحسان إلى الوالدين جاء في القرآن كثيراً متنوعاً، وها هو تقديم الجار والمجرور في ذكر الوالدين وتأخير الإحسان لإظهار الاختصاص والقصر، وإطلاق لفظ الإحسان منكراً ومنوناً ليكون عاماً شاملاً، ليكون إحساناً في القول والفعل، وقسمات الوجه، ونظرات العين، ولمسات اليدين، وكل حركة وسكنة، وفي كل وقت وآنٍ، وفي كل ظرف وحال؛ لأنه إحسان مطلق، وإحسان يكون في كل أحوالهما، وفي كل أحوال أولادهما كذلك.
والفيروزآبادي في تعريفه لبر الوالدين ذكر كلاماً نفيساً فقال: هو الإحسان إلى الوالدين، والتعطف عليهما، والرفق بهما، والرعاية لأحوالهما، وعدم الإساءة إليهما، وإكرام صديقهما.
غير أن كلامه وكلامي وكلام كل الخلق ليس بشيء مع كلام الله عز وجل ومع أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعندما كنت أبحث وأقلب رأيت أن أمسك لساني إلا من ذكر الآيات ورواية الأحاديث؛ لندرك أن القضية دين وتشريع رباني، وأنها سنة وتشريع وهدي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومهما قال القائلون أو عبر أهل العلم فإن ما جاء في الكتاب والسنة أبلغ وأعظم، ولذا آثرت أن نقف مع هذه الوصية ومكانة الوالدين وبرهما مع الآيات القرآنية العظيمة.(120/3)
أثر دعاء الوالدين على الأبناء أو لهم
وثمة أمر مهم في غاية الأهمية، وهو أن دعاء الوالدين له خصوصية في القبول في شأن أولادهما، وإن كان الدعاء على الأبناء، أي: ليس لهما، وقد صح في الحديث قصة جريج العابد، وأن أمه دعت عليه فقالت: اللهم! لا تمته حتى يرى وجوه المومسات.
فتحققت هذه الدعوة، كما وردت في الأحاديث الصحيحة.
وثمة حديث أيضاً يوضح ذلك، وهو قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم) رواه أحمد في مسنده، وقال الذهبي: سنده قوي.(120/4)
استمرار بر الوالدين بعد وفاتهما
ومن أدل الدلائل كذلك على الأهمية أنه ما من أمر ولا من شرع ولا من حكم إلا وينتهي بانتهاء الحياة، إلا هذه الشعيرة العظيمة وهذه الوصية المهمة، فإن بر الوالدين لا ينتهي بوفاتهما، وكثير منا يعلم ذلك الحديث الذي رواه أبو أسيد الساعدي في قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فيقول: هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ وهذا دليل على حرص الصحابة، قد قضى حظه وقدرته وما يسر الله له من البر في حياة والديه، ثم جاء يسأل من بعد: هل بقي شيء حتى أصلهما؟ وهل ثمة ما يعمل حتى أستمر فيه؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم.
الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما) فهل هناك دين أعظم من هذا الدين في الوصية بالوالدين حتى بعد الوفاة؟ ففتش عن أصدقائهما، وأكرم أصدقاءهما لأجلهما، وابحث عن أقاربهما ومعارفهما فاجعل ذلك استمراراً لبرهما حتى بعد موتها، وهذا من عظيم ما في ديننا هذا، وقد طبق الصحابة ذلك، فهذا ابن عمر يلقى أعرابياً وهو في طريق السفر قرب مكة، فيُركِبه حماره، وينزع عمامته ويضعها على رأسه، ويسلم عليه ويكرمه، حتى إذا انصرف قال أحد أصحابه: إنهم الأعراب وإنهم يرضون باليسير! يعني: لمَ صنعت ذلك كله؟ ولمَ هذه الحفاوة وذلك الإكرام؟ فقال ابن عمر رضي الله عنه: (إن والد هذا كان من أهل ود عمر، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه) رواه مسلم في صحيحه.(120/5)
أثر بر الوالدين في تفريج الكربات
وهناك كذلك أمر آخر، وهو أثر البر في تفريج الكربات، وأكثرنا يعرف الحديث في قصة الثلاثة الذين آواهم الغار فسقطت عليهم صخرة فسدت مخرجهم، فقالوا: لا نجاة إلا أن نتوسل إلى الله بأخلص الأعمال التي عملناها.
فكان مما قاله أحد الثلاثة أنه كان لا يسقي أبناءه وزوجه إلا بعد أن يسقي والديه، فجاء مرة بغبوق -أي: باللبن- فإذا هما نائمان، فلم يشأ أن يقدم عليهما غيرهما، ولم يستطع أن يزعجهما فيوقظهما، فظل واقفاً حتى انبثق ضوء الفجر، فقال: اللهم! إن كنت عملت هذا لوجهك وابتغاء مرضاتك ففرج عنا.
فتزحزحت الصخرة، فدل ذلك على أن من أسباب التفريج الحرص على هذا البر.(120/6)
بر الوالدين سبب في سعة الرزق وحسن الخاتمة وبركة العمر
وهكذا سعة الرزق، وحسن الخاتمة، وبركة العمر، كل ذلك مربوط بالبر، كما صح من حديث أنس رضي الله عنه: (من أحب أن ينسأ له في أثره ويبارك في رزقه فليصل رحمه)، ومن أعظم الرحم وأولاها وأولها بر الوالدين.
ومن هنا كذلك جاءت الرواية الأخرى في هذا الحديث بلفظ آخر من حديث علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سره أن يمد له في عمره، ويوسع له في رزقه، وتدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه).(120/7)
بر الوالدين من أسباب مغفرة الذنوب
وثمة أمر آخر، وهو أن بر الوالدين من أسباب مغفرة الذنوب، فكم نصلي! وكم نستغفر! وكم ننفق نبغي مغفرة الذنب! وكل عمل صالح فيه مغفرة للذنب، غير أن ذلك ورد له اختصاص، فقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني أصبت ذنباً كبيراً فهل لي من توبة؟ فقال له عليه الصلاة والسلام: هل لك من أم؟ قال: لا.
قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم.
قال: فبرها) رواه الترمذي والحاكم بسند صحيح، ولعل هذا التوجيه موضع عجب، وأحسب أن كثيراً منا ربما لم يسمع هذا الحديث من قبل، فهو يقول: (أصبت ذنباً كبيراً) يريد طريقاًَ لتكفير الذنب، فيسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن أمه فيقول: إنها ليست حية.
فيقول: (هل لك من خالة) والخالة بمثابة الأم، فقال: نعم.
فيقول: (فبرها) أي: فسيكون برها طريقاً إلى تكفير ذنبك ومغفرة ما أصابك من أثره.
وهذا ولا شك من أعظم الأمور.(120/8)
بر الوالدين طريق من طرق الجنة
وإذا قلنا: ما أعظم شيء نأمله ونرجوه؟ وما أعظم أمنية نفكر بها ونتعلق بها؟ فإن الجواب عند كل مؤمن ومسلم واحد، وهو دخول الجنة، ونيل رضوان الله عز وجل، فإليك طريقاً ممهداً سالكاً موصلاً إلى تلك الغايات العظيمة، وهو بر الوالدين.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل الجنة فقال: (دخلت الجنة فسمعت قراءة، فسألت: من هذا؟ فقيل: حارثة بن النعمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم البر، نعم البر.
وكان حارثة من أبر الناس بأمه) فهذا الربط بين إخبار النبي عن كونه في الجنة وبره بأمه ظاهر الدلالة في أن هذا العمل بظهوره في حياته وعنايته به وحرصه عليه واستمراره فيه جعل له هذا المقام العالي وتلك الرتبة الرفيعة.
وكذلك جاء الحديث العظيم الذي رواه أبو هريرة وفيه يثلث النبي صلى الله عليه وسلم القول فيقول: (رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه.
قالوا: من يا رسول الله؟! قال: من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخل الجنة) أي: لم يقم ببرهما بما يدخله الجنة؛ لأنه فرط وقصر، أو عق وجحد، والعياذ بالله.
وإذا تأملنا ذلك فإننا واجدون الصراحة والوضوح في تلك النصوص، ومن ذلك ما رواه الترمذي وابن حبان وصححه عن أبي الدرداء قال: قال عليه الصلاة والسلام: (الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه).
قال بعض الشراح: (أوسط أبواب الجنة) أي: خيرها.
والمقصود بالوالد الوالدان معاً الأم والأب، فهما اللذان يكون من خلالهما باب هو خير الأبواب إلى الجنة، وهو باب برهما والإحسان إليهما.
ولو مضينا لوجدنا ذلك أكثر وأظهر، فإن معاوية بن جاهمة السلمي قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله! إني كنت أردت الجهاد معك ابتغي وجه الله والدار الآخرة.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك! أحية أمك؟ فقال: نعم.
قال: ارجع فبرها.
قال معاوية: فأتيته من الجانب الأيمن فقلت: يا رسول الله! إني أردت الجهاد -وكرر القول- فقال له: ويحك! أحية أمك؟ قال: نعم.
قال: ارجع فبرها.
قال: فأتيته من أمامه فأعاد القول، فقال له رسول صلى الله عليه وسلم: ويحك! الزم رجلها فثمَّ الجنة) رواه النسائي وابن ماجة والإمام أحمد والحاكم بسند صحيح، فهل ثمة ما هو أوضح وأظهر في الدلالة على عظمة هذا البر وهو يكرر الأمر ثلاثاً ويريد الجهاد مصراً والنبي يرده إلى ذلك الباب والمسلك والطريق ليمهد له به عملاً له أجره في الآخرة وله نفعه في الدنيا بإذن الله سبحانه وتعالى؟! وهكذا نرى الأمر واضحاً -كما قلنا- في رضا الله عز وجل، فقد ورد الحديث صريحاً بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد) كما رواه أهل الحديث بسند حسن.(120/9)
بر الوالدين من الجهاد في سبيل الله عز وجل
ووجه آخر من العظمة أن برهما معدود من الجهاد في سبيل الله، والجهاد من أعظم الأعمال وأشرفها، وأجلها من حيث كونه بذلاً للروح وإزهاقاً لها في سبيل الله عز وجل، وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد، فقال له عليه الصلاة والسلام: (أحي والداك؟! فقال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو.
وروى أنس أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه.
فقال له صلى الله عليه وسلم: هل بقي من والديك أحد؟ فقال: أمي.
قال: قابل الله في برها، فإذا فعلت فأنت حاج ومعتمر ومجاهد) رواه أبو يعلى في مسنده والطبراني في معجمه بسند جيد، وصححه العراقي.
ففي هذا أنه قال: (أريد الجهاد ولا أقدر عليه) فدله على عمل -صلى الله عليه وسلم- يكون به من المجاهدين؛ لأنه قال في الحديث السابق: (ففيهما فجاهد).
وعن ابن مسعود أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا الحديث عظيم في تقديم بر الوالدين على الأمور العظيمة والأعمال الجليلة- فقال: (أي العمل أفضل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عبادة الله.
قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين.
قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فقدم بر الوالدين على الجهاد.(120/10)
اقتران حقهما بحق الله جل وعلا
أول هذه الوجوه: اقتران حقهما بحق الله عز وجل، وكم هي الآيات التي جاءت بالأمر بالتوحيد وثنت بالإحسان إلى الوالدين! كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] واقترن كذلك في قوله جل وعلا: {أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] فأي حق أعظم من حق يأتي تالياً مباشرة لحق الله سبحانه وتعالى؟! قال ابن عباس: (ثلاث لازمات لثلاث، وقرن بينهما فقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة:92] فلا تتم طاعة الله إلا بطاعة الرسول {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] فلا تتم إقامة الصلاة إلا بإيتاء الزكاة، وقال في شأن الله عز وجل: {أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] فلا يتم شكر الله إلا بشكر الوالدين.
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم ما يشير إلى ذلك ويبينه ويوضحه؛ لأن المكانة عظيمة، كما في حديث أسماء رضي الله عنها في بيان الوجه الثاني، وهو الصحبة والإحسان ولو مع الكفر؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فهل رأيت قدراً أعظم ومكانة أرفع من أن يكون إنسان على غير الإيمان والتوحيد ثم يأتي أمر الله متنزلاً بالآيات بحسن صحبته؟ فقد جاءت أسماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (جاءت إليّ أمي وهي راغبة) قال بعض الشراح: أي: فيما عندي.
تريد وصلاً من إحسان دنيوي، قالت: (فاستفيت رسول الله صلى الله عليه وسلم) فلم يكن أحد يصنع شيئاً إلا بعد أن يعرف حكمه ومكانه في دين الله، فقالت: (يا رسول الله! إن أمي قدمت إليّ راغبة، أفأصل أمي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم صلي أمك) وهذا مقام عظيم.(120/11)
بر أبي هريرة بأمه
ولعلنا نقف مع هذه القصة لـ أبي هريرة لنرى صورة حية من المشاعر الفطرية التي تبين لنا عظمة وسماحة ديننا، وأنه يريد الخير لعموم الناس فكيف بخصوصهم؟ ألسنا نريد للكافر أن يؤمن؟ ألسنا نريد للضال أن يهتدي؟ ألسنا نريد للمنحرف أن يستقيم؟ إن لم نكن نريد ذلك فنحن في خطأ وعلى انحراف، فإن أردناه فليكن لأقرب المقربين إلينا وأحب الناس إلينا وأعظمهم فضلاً علينا وهم الوالدان، فهذا أبو هريرة يخبر ويقول: (كانت أمي مشركة، فكنت أدعوها إلى الإسلام فلا تستجيب.
قال: فدعوتها يوماً فنالت من رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: تكلمت عليه بما لا يليق- قال: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله! إن أم أبي هريرة قد نالت منك، وإني أدعوها).
فماذا طلب أبو هريرة من الرسول بعد أن سمع الذي أغاظه في حبيبه ورسوله عليه الصلاة السلام؟ قال: يا رسول الله! فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم! اهد أم أبي هريرة) يقول: فرجعت مسرعاً مستبشراً بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا بالباب مجافىً -يعني: مفتوحاً قليلاً- فأردت أن أدخل، فقالت: مكانك يا أبا هريرة.
قال: وسمعت خضخضة الماء، فاغتسلت ولبست درعها، ثم خرجت وقالت: يا أبا هريرة! إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي من الفرح -وكانوا يحبون الخير- قال: فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! حبب أبا هريرة وأم أبي هريرة للمؤمنين)، قال أبو هريرة: فما رأيت أحداً من أهل الإيمان إلا وهو يحبني.
إنها صورة لعظمة هذا الدين، وعظمة التربية الإيمانية، فانظر كيف كان حرص أبي هريرة! فقد كان يكرر الدعوة، وانظر كيف كظم غيظه عندما نالت من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم! لأنه كان يرجو لها الخير، ويؤمل لها الهداية، وإنما حزن وغضب وبكى، ولكنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها بالهداية، فلما هداها الله لم يطق من فرحته إلا أن بكى فرحاً بعد أن بكى حزناً، ثم جاءت هذه الصورة المشرقة لندرك في الحقيقة كيف كان فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام، قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] عجباً لهذا السلوك! وعجباً لهذا الدين العظيم الذي يعلمنا ذلك!(120/12)
عظم عقوق الوالدين وعقوبة العاق
ولعلي هنا أقف وقفة أحسب أن الجميع سيكون ملتفتاً إليها، فهل بعد هذه الوجوه وبعد هذه الآيات الواضحات والأحاديث الصحيحة والصور المشرقة العملية التي كانت في حياة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هل يتصور أحد أنه يخطر في البال عقوق للوالدين؟ وهل يمكن بعد هذا كله أن يكون في النفس متسع أو في القلب مجال لقسوة أو غلظة؟ وهل يمكن بعد هذا كله أن يلفظ اللسان بما لا يليق؟ إن العقوق بعد هذا كله يظهر تماماً على أنه الأَمُ وأشد وأسوأ ما يمكن أن يصدر عن الإنسان، إنه يكشف حينئذ عن انحراف في الفطرة، وضعف واختلال في الإيمان، ونقص في حقيقة التمثل والالتزام بالإسلام، إنه يدل على انفصام بين كليات هذا الدين وحقائقه الكبرى وهداياته العظمى التي تنزلت بها الآيات وجاءت بها الأحاديث، ولذلك قال بعض أهل التفسير في هذا الموطن في تفسير قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة:83] قالوا: جاء بالأمر وليس بالنهي عن العقوق.
قال القرطبي: لأنه لا يتصور العقوق في حق الوالدين.
كيف يمكن أن يتصور عقوقك لامرأة حملتك في بطنها تسعة أشهر، وأرضعتك عامين، وظلت تغذوك بحنانها وعطفها، فتسهر ليلها، وتمرض في تمريضك، ويشغل بالها أمرك أكثر مما يعنيها أو يشقيها أو يتعبها شيء يتصل بها؟! إن الإنسان الذي يجحد بعد ذلك أو يعق يمثل الصورة الشوهاء للانحراف السيء في غاية السوء، ومن هنا جاء الأمر بالإحسان، كما قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة:83] وكذلك ذكر الآيات الكثيرة كقوله سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} [الأحقاف:15] وذكر ذلك على التفصيل كما هو في الآيات، وكما جاء في الحديث: (من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أبوك) فقال أهل العلم: لبر الأم ثلاثة أرباع وربع للأب.
وقالوا: لأنها حملت وولدت وأرضعت، وهذه كلها لا يشاركها فيها الأب، وإن كان حق الوالدين جميعاً عظيماً.
لذلك كان من المتوقع ومن البدهي أنَّ من يخرج عن هذه الأوامر الربانية وهذه السنن النبوية أنه قد خالف الدين مخالفة عظيمة تستوجب له وعيداً خطيراً، ومن هنا وجدنا أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر مقترناً بأعظم ذنب في الوجود كله، والحديث في هذا معلوم، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى، يا رسول الله.
قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين.
وكان متكئاً فجلس فقال: وشهادة الزور، وشهادة الزور.
فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) فأكبر الكبائر وأعظم الذنوب على الإطلاق ثانياً وتالياً بعد الشرك بالله عز وجل هو عقوق الوالدين.
وما الذي تخشاه؟ وما الذي تخاف منه في هذه الدنيا؟ أليس حرمان رضوان الله؟ أليس الخوف من عذاب الله؟ إن الذي يخوض في هذا المضمار يستوجب الوعيد الشديد، فقد روي عن النبي صلى الله عيه وسلم في حديث ابن عمر أنه قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان بعطائه، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، والرجلة) والديوث هو الذي يرضى السوء في أهله، والرجلة هي المرأة المتشبهة بالرجال.
رواه الحاكم وصححه، ورواه البزار بإسناد جيد.
بل إن الأمر يرى رأي العين، فإنه ما من ذنب إلا وقد يؤجل عذابه أو يقدم إلا ذنبين اثنين لابد أن يكون لهما عقوبة معجلة وإن بقيت لهما عقوبة مؤجلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أنس رضي الله عنه: (بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي والعقوق) رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وفي رواية أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم) وترجم البخاري في الأدب المفرد لهذا الحديث بقوله: (باب عقوبة عقوق الوالدين).
وعقوق الوالدين أعظم القطيعة للرحم، فأي شيء بعد هذا يمكن أن يقال؟ وأي قول بعد قول الله وبعد قول رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وما هو واقعنا اليوم؟ فكم نسمع من قصص مبكية محزنة مؤلمة! وكم نرى من صور عجيبة غريبة شاذة!(120/13)
واقع الناس في بر الوالدين
روي في كتب الأدب عن الأصمعي أنه قال: عزمت أن أبحث عن أعق الناس وأبرهم.
فظل يبحث ويسير في حياته وهو يبحث عن هذا الأمر، قال: حتى رأيت مرة شاباً ومعه شيخ كبير مربوط بحبل ينزع دلو ماء، وهذا يشتد عليه ويغلظ له، ويعرض له بالضرب أحياناً، قال: فقلت له: ويحك! ألا تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف؟! فقال: ثم هو مع ذلك أبي! قال الأصمعي: فرأيت أنه أعق الناس.
قال: ثم نظرت -أي: في حياته مرة أخرى- فرأيت شاباً يحمل شيخاً في زنبيل كبير، ثم يزق له كما يزق الطير لفرخه -يعني: كل لحظة يأتي فيطعمه، ويأتي فيسقيه، ويأتي فيحمله- فقال: هذا أبي.
قال: فقلت: هذا أبر الناس.
فلاحظ الصور المتباينة، لاحظ الواقع الذي بلغ أن سمعنا في مجتمعاتنا ليس عن أبناء رموا بآبائهم أو بأمهاتهم في دور العجزة أو في المستشفيات وتركوهم، بل رأينا ما وصل فيه الأمر إلى حد القتل وغيره، فما الذي جرى؟! وهل هذه الوصايا لا تتلى؟! ألم نختم القرآن في رمضان؟! ألا تقرأ هذه الآيات في الصلوات؟! ألا يعرف الناس هذه الأحاديث؟! ألم يروا كيف كانت سيرة الأصحاب؟! ألا يجدون في كل شيء من ديننا ما يدل على عظمة هذا الأمر ورفعة هذه الصفة وأهمية هذه الخلة في حياة المسلم، وأن ضدها من العقوق هو أشنع شيء وأبشعه؟! إن الصورة تحتاج إلى مراجعة.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يبرون آباءهم ويبرهم أبناؤهم، ونسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لكل ما يرضي آباءنا وأمهاتنا، وأن يسخرنا لرضاهما، وأن يجعل طريقنا إلى رضاء الله من رضاهما، ونسأله سبحانه وتعالى أن يحسن ختام من بقي لهم من آباؤهم وأمهاتهم، ونسأله عز وجل أن يبعدنا ويجنبنا عن كل ما يسخطهما أو يسيء إليهما؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.(120/14)
كيفية الطريق إلى بر الوالدين(120/15)
ذكر سيرة البارين بوالديهم
ومما يعين كذلك ذكر سير أهل البر بآبائهم وأمهاتهم، فقصة أبي هريرة نموذج من نماذج عدة ليست في حياة الصحابة فقط، بل في حياة الصحابة والتابعين وصلحاء المؤمنين إلى يوم الناس هذا، فانظر كيف يكون التوفيق حليفهم! وانظر كيف تكون السعادة مالئة قلوبهم! وانظر كيف يكون الأثر في أبنائهم! لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بروا آباءكم تبركم أبناؤكم) والأمر في هذا ظاهر الدلالة، والحساب فيه والقصاص بيّن للعيان، فكم رأينا من مسيء لوالده -والعياذ بالله- ووالده كان مسيئاً بوالده، والعكس كذلك، فمن عق والده فإنه يجد العقوق من أبنائه، وذلك ظاهر.(120/16)
قيام الوالدين بدورهما وواجبهما
ثم هناك أمر مهم، وهو أداء الوالدين لدورهما، وقيامهما بواجبهما، هو أيضاً من أعظم أسباب البر، فهل علمت ابنك كتاب الله وسنة رسوله؟ وهل وجهته إلى الخير؟ وهل كنت قريباً منه؟ وهل حرصت على تربيته؟ وهل أحسنت في اختيار أصدقائه؟ ذلك هو الطريق الذي يعود عليه بالخير استقامة في سلوكه، وبراً بأبيه وأمه، أما إن أسلمته للضياع، وألحقته برفقاء السوء، وغبت عنه ولا تدري ما يصنع ولا ما يقول، ثم تعض أصابع الندم وتقول: عقني فما عقك إلا من تفريطك وتقصيرك.
والأمر يطول، والحديث يتكرر في مثل هذا، ويلحق به ما هو في هذه الآيات كذلك، كقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31] وليس المقصود ما كان عند أهل الشرك من أنهم يقتلون أولادهم كما كان في بعض أحوال الجاهلية، فبعض الناس يقتل ابنه يوم لا يرشده ولا يعلمه ولا يربيه، ويوم يبعثه إلى بلاد الكفر أو إلى بلاد الفساد والانحراف العقدي والخلقي، فكأنما هو يقتله؛ لأنه يقتل إيمانه، ويقتل خلقه، ويقتل فضيلته، ويقتل شرفه وخيره ونحو ذلك.
إذاً هذا باب آخر من الأبواب، وثمة أبواب أخرى كثيرة، ومنها التذكير الدائم بهذه المسألة، والحديث يطول، والمقام يقصر، نسأل الله عز وجل أن يحفظنا، وأن يحفظ لنا آباءنا وأمهاتنا، وأن يشيع البر في أبنائنا وبناتنا، وحسن التربية والرعاية في آبائنا وأمهاتنا.
اللهم! إنا نسألك أن تؤلف بين القلوب، وأن توحد بين الصفوف.
اللهم! إنا نسألك أن نبر آباءنا، وأن نسعى إلى رضاهما، وأن نجتهد في طاعتهما في المعروف، وأن نبذل غاية ما نستطيع في الإحسان إليهما وإدخال السرور عليهما، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! وفقنا لطاعتك ومرضاتك، واسلك بنا سبيل الصالحين، واجعلنا من عبادك المخلصين، واكتبنا في ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، وأحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم! اجعل بلدنا آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتك فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
اللهم! احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، احفظ -اللهم- لها أمنها وأمانها، وسلمها وإسلامها، ورغد عيشها وسعة رزقها يا رب العالمين.
اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(120/17)
استحضار فضل الوالدين
والأمر الثاني الذي يعين على ذلك استحضار فضل الوالدين، كما دلت على ذلك الآيات، مثل قوله تعالى: {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24]، فتذكر نفسك وحالك وأنت طفل لا تملك من دنياك ولا من أمرك ولا من حالك، ولا من تدبير شئونك شيئاً، وتذكر كل تلك الفضائل التي لا يمكن بحال من الأحوال أن تقدر قدرها فضلاً عن أن توفي حقها، ولو أن كل عاق أو كل مخطئ في حق والديه إذا أراد أن يلفظ الكلمة، أو إذا أعرض، أو إذا صنع شيئاً من ذلك تذكر الحليب الذي أرضعته إياه أمه، والمال الذي أنفقه عليه أبوه، والحماية التي كان يتعرض فيها للمصاعب والمخاطر لكي يحميه، لو تذكر -كما يقول بعض أهل العلم- ولو قبضة أو انقباضة من انقباضات وقت الولادة ومخاضها لشعر أنه قد أجحف في حق نفسه، وأنه ينبغي له أن يطأطئ رأسه خجلاً من تصرفه، وأنه قد أتى بما لا يليق بحال من الأحوال، حتى إن البهائم -وهي بهائم- تعطف الأمهات على أبنائها، ونرى الأبناء كيف ترتبط بأمهاتها، وهذه سنة فطرية في الخلائق، فكيف بالإنسان الذي أعطاه الله العقل وأنزل عليه التشريع وضرب له الأمثلة من رسل الله وأنبيائه وصالح الأمة وعلمائها وأفاضلها؟!(120/18)
استحضار الثواب في البر
وأمر ثالث كذلك، وهو استحضار الثواب والفضل والأجر في البر، فقد رأينا أن طريق الجنة عبرهما، ورأينا أن استنزال رضاء الله برضاهما، ورأينا أن تكفير الذنوب بالإحسان إليهما، ورأينا أن تفريج الكروب بإكرامهما، فأي شيء نريد؟ وكل ما نريد نجد طريقه يمر عبرهما، فلمَ لا نفكر في ذلك ونتأمله؟! وانظر إلى الجانب الآخر المقابل، وهو التذكر للوعد والوعيد والعقوبة المنتظرة في الدنيا قبل الآخرة لكل من أساء ولو بكلمة؛ لأن الله قال: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] فجاء بالأدنى، وجاء بما قد يكون الأعلى.(120/19)
التدبر في الكتاب والسنة
أحسب أنه مهما أطلنا الحديث وأعدناه فإن الأمر يستحق، وإن المسألة تستدعي، وإن الواقع يدلنا على وجود خلل كبير في هذا الباب، فما الطريق إلى تقويمه؟ وما الطريق إلى رجوعه إلى جادة الصواب؟ هنا أمور كثيرة يضيق المقام عن حصرها، لكن أولها وأعظمها: التدبر في كتاب الله، والاغتراف من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحديث ليس حديث هذا الرجل أو ذاك، وليست موعظة ذلك الواعظ أو هذا، وليس استنباط ذلك العالم أو غيره، إنه كلام الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن كنت مؤمناً ومسلماً فالمخاطب لك هو الله، والموجه لك هو رسوله عليه الصلاة والسلام.(120/20)
الوصايا الربانية [3]
الله عز وجل أعلم بما يفسد الخلق وما يصلحهم، ولهذا حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأمر بمحاسن الأخلاق والصفات ما ظهر منها وما بطن، فلا سعادة للبشرية جمعاء إلا باتباع أوامر ربها عز وجل واجتناب نواهيه.(121/1)
تحريم الفواحش الظاهرة والباطنة
الحمد لله الرحيم الرحمان، الكريم المنان، ذو الفضل والجود والإحسان، حبب إلينا الإيمان، وكره لنا الكفر والفسوق والعصيان، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، علم الهدى، ومنار التقى، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: فها نحن نواصل حديثنا في الوصايا الربانية التي جاءت في سورة الأنعام، وقد سلف لنا الحديث عن التوحيد والنهي عن الشرك، ومر بنا أمر بر الوالدين وأهميته وآثاره الدنيوية والأخروية، ووصية اليوم عظيمة مهمة، لها أثرها في النفوس والقلوب، ولها أثرها في الأمن والأمان، ولها أثرها في العرض والشرف والأنساب، قال جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151] والفواحش: كل ما فحش وزاد عن الحد بحيث يكون في غاية الذم والقبح.
وذلك يتناول المعاصي والذنوب الكبيرة في جملتها، ما كان منها ظاهراً -أي: في الجوارح قولاً أو فعلاً كقذف أو زنا- وما كان منها باطناً بالقلب، سواءٌ أكان كفراً وشركاً، أم استكباراً، وغير ذلك من أدواء القلوب.
وسياق الآيات فيما مضى يبين لنا أن النهي مختص بأمور بعينها، كما مر في الشرك وفي بر الوالدين، وكما يأتي في النهي عن أموال اليتامى وعن عدم الوفاء والقيام بالميزان والقسط، ومن هنا ذكر أهل التفسير أن من المعاني الظاهرة للفواحش اختصاصها بالزنا -أعاذنا الله وإياكم منه ومن القرب منه-؛ لأن السياق يحدد أموراً بعينها ومحرمات بذاتها، فغلب بعض أهل التفسير اختصاص هذه الفواحش في الآية بالزنا، وكل ما زاد عن حده فإنه داخل في عموم ذلك، وقد ذكر كثير من أهل التفسير عند هذه الآية ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كانوا في الجاهلية لا يرون بأساً بالزنا في السر، ويستقبحونه في العلانية، فحرم الزنا في السر والعلانية) وذلك فيه دلالة على هذا المعنى الذي غلبه بعض أهل التفسير.
ووقفتنا الأولى في قوله جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا} [الأنعام:151] والنهي عن القرب مبالغة في النهي عن الفعل؛ لأنه إذا قيل: لا تقترب من هذا المكان فلا شك أنه من باب الأولى أنك لا تصل إليه ولا تدخل فيه، ومعنى ذلك -كما هو معلوم- أن المعنى ترك كل ما يقرب من الزنا ويوصل إليه، ويهيج النفوس والشهوات إليه، ويبعث الفكر فيه، ويعلق النظر به، ويرعي السمع ويصغيه إليه؛ لأن كل الجوارح تتأثر وتفضي إلى القلب حتى ينعقد العزم وتتوجه الإرادة من بعد لفعل ما تأثر به ذلك القلب، فالعين تنظر، لكن الأثر يكون في القلب ميلاً وشهوة إلى ما رأت العين، والأذن تسمع، والقلب يميل ويهفو، وكذلك كل ما يتعلق بفعل الإنسان يعود أثره على قلبه ونفسه ميلاً وتوجهاً.(121/2)
سد الذرائع في الشريعة الإسلامية
وهنا ننظر إلى التشريع الحكيم في ديننا العظيم، وفي هدي رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، فكل جارحة من الجوارح وكل عمل من الأعمال يعلق القلب بهذه الفاحشة الكبيرة ورد النهي عنه، وجاء المنع به؛ لأن غير ذلك يعد غير قابل للتطبيق، فلو كنت قد فتحت الأبواب والنوافذ على مصراعيها فلابد أن تدخل إليك القاذورات من كل جانب، فإن أردت الحفظ والصيانة، وإن أردت الوقاية والحماية فلابد أن تغلق الأبواب، وذلك هو ما وردت به الآيات، كقوله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وجاء الأمر كذلك للنساء في قوله سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]، وورد الحديث كذلك في سنن الترمذي بسند حسن عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الآخرة) وعندما سأل جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة أو الفجاءة قال: (اصرف بصرك) رواه النسائي.
وكذلك وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن هذا النظر وما يؤدي به إلى أمور من العظائم والمحرمات، وأكبرها وأبشعها وأقبحها الوقوع في فاحشة الزنا.
ونحن اليوم نرى واقعاً لا يتفق مع هذا من وجوه عدة، وأخطرها وأعظمها تحليل الحرام، فإن كثيرين من الناس اليوم لا يرون النظر إلى العورات محرماً، بل ويطلقون عبارات تدل على جواز مثل هذا وتهوينه في النفوس والقلوب، فمن قائل: العين بحر.
أي: لا ساحل لها تنظر متى شاءت وكيفما شاءت، ومن قائل: النظر إلى الجمال عبادة، وهو معنىً قبيح من يقصدونه في النظر إلى العورات والمحرمات، وجعلوا تلك المحرمات عبادات، ومن جهة ثانية وجود وكشف العورات، حتى إن من يريد أن يغض بصره يجد عناءً ومشقة، حيث تفجؤك العورات المكشوفة في الطرقات والأسواق، بل وفي المعاهد والجامعات، وتفجأك العورات المكشوفة المثيرة على الشاشات، وعلى الصفحات؛ إذ لا تكاد ترى اليوم مجلة -وإن قالت: إنها علمية أو ثقافية- إلا وفي صدرها أو في صفحاتها الكبرى داخلية أو خارجية صوراً للنساء باديات الشعور أو النحور أو غير ذلك، وهذا من بعد يجعل قلب الإنسان إذا دخل في هذا الميدان يعلق، فإن النظرة إن لم تصرفها أثرت في القلب فصار يطلبها ويكررها، ويجيل النظر بحثاًَ عنها، كما قال الشاعر: وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر لأن الإنسان إذا فطم نفسه فطمت، وإذا علقها بما تحبه من الشهوات وما تميل إليه من الملذات تعلقت وأبت أن تفطم.(121/3)
خطر الإعلام الهابط على الأخلاق
إننا لنرى أموراً في هذه الأيام عجيبة، فإن القنوات الفضائية العربية المنطلقة من البلاد الإسلامية والممولة من المسلمين ترى فيها عجباً، فلم يعد الأمر اليوم مقتصراً على امرأة تظهر بادية الوجه والشعر، بل ولا ظاهرة اليدين والذراعين، بل ولا مكشوفة كاملة إلا ما يغطي السوءتين؛ لأن ذلك اليوم قد صار من الأمور المعتادة، إذ اليوم تأتي هذه العورات مع اللقاءات والكلمات والقبلات والمعانقات، وغير ذلك من الأمور التي لم يعد باقياً منها إلا ممارسة الفواحش على هذه القنوات، أعني القنوات العربية المسلمة باعتبار ملاكها ومموليها، ولا أريد أن أذكر إحصاءات وأرقاماً، فإن الأمور مفزعة إلى أقصى ما يمكن تصوره، ولكن أذكر منها اثنتين: الأولى: في دراسة لخمسمائة فيلم من الأفلام التي تعرض كانت النسبة أن نحو اثنين وسبعين في المائة مما يعرض في هذه الأفلام مركز في مناظر وحوارات الحب والجنس والجريمة، أي: ثلاثة الأرباع.
فأين ما يزعمونه من معالجة المشكلات؟ وأين هي الثقافة في تلك الأفلام والمسلسلات؟ وأين وأين مما يقال ويدعى؟ ونحن نعلم ذلك ونقرأ عنه، وربما ابتلينا به فشاهدناه كذلك.
الثانية: وفي دراسة أخرى على مائة فيلم وجد أن فيها بنسبة ثمانية وتسعين في المائة لقطات أو كلمات مما يثير الغرائز الجنسية، ويهيج هذه المعاني الساقطة.
ونحن عندما نقول ذلك ننتقل إلى وجوه أخرى كثيرة، ونحن نعلم ما يدور في مجتمعاتنا وديارنا الإسلامية اليوم، حتى الأذن المصغية قد جاء النهي عن إصغائها إلى ما يثير هذه الكوامن، فالله جل وعلا في سياق الأمر الوارد والتوجيه الوارد لأمهات المؤمنين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم -وهن الطاهرات العفيفات المؤمنات القانتات العابدات- ورد الأمر إليهن بقوله: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] لا يقلن كلاماً متكسراً متأنثاً فيه الإغواء والإغراء، والتهييج والإثارة، حتى لا يؤدي ذلك إلى الفتنة وإثارة الشهوة.(121/4)
أثر الأغاني الماجنة في الدعوة إلى الفواحش والمحرمات
نحن نعلم اليوم ما يبث من الأغاني الماجنة التي تدعو صراحة وبكل بجاحة ووقاحة إلى ارتكاب المحرمات والفواحش بشكل لا يحتاج إلى استنباط ولا تحليل، وكلها في جملتها لا تكاد تخرج عن الحب والغرام والعشق والهيام، وهي تدعو إلى اللقاء والعناق وإلى الانتقال والانقطاع عن الناس لأجل ذاك الحبيب أو تلك المعشوقة كما يقولون.
ومن أراد التأكد فليطلع على الدراسات العلمية الإعلامية على تلك الأغنيات، وكم رصد فيها من الكلام والحركة التي كلها تصنف بالمقاييس العلمية لا الدينية، أي: لسنا نحن الذين نقول: وجه أو كفان أو شعر أو غير ذلك، وإنما قالوها بالمقاييس العلمية العادية التي لا تعتبر لأحكام الشريعة اعتباراً، وذكروا ما ذكروا في ذلك.(121/5)
نهي الشرع عن خروج المرأة متعطرة
ثم نزيد الأمر ونأتي بأمور أخرى؛ فإن التشريع الحكيم قد أوردها وذكرها، فنهى عن الرائحة التي تكون مثيرة أيضاً، وقد جاء ذلك عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم؛ لأن من الناس من إذا ذكرت ذلك له قال: ما هذا التشدد، وما هذا التضييق؟! ولمَ أنتم تفكرون بالتفكير والهوس الجنسي كما يقولون؟ فليستمعوا إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وليجترئوا إن كانوا قد خلت قلوبهم من الإيمان بأن يوجهوا مثل هذه التهم -والعياذ بالله- إلى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي قال ولسنا نحن، ولأنه هو الذي حذر ونبه ولسنا نحن، وهو يبلغ عن رب العزة والجلال، فأين يمضي أولئك الذين يقولون تلك الأقاويل ويطلقون تلك التهم على عوارمها ولا يدرون أنهم يجترئون على الله جل وعلا وتشريعه وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة) لماذا؟ لأن تلك الرائحة منها قد تلفت النظر إليها، وقد تعلق القلوب بها، وقد تكون سبباً للفتنة.
وفي الحديث الآخر الذي رواه النسائي في سننه والإمام أحمد في مسنده من رواية أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة استعطرت فخرجت على قوم ليجدوا ريحها فإنها زانية) والمقصود بذلك ليس حكم الزنا المعروف، فإنه لا يثبت بذلك، ولكن إشارة النبي صلى الله عليه وسلم تفهم من وجوه، وهي أن الزنا المعروف هو زنا الفرج، لكن ثمة زناً للنظر وللعين وللأذن، حتى للرائحة، أو إشارة إلى أن مثل هذا اليسير قد يدعو إلى غيره حتى يصل الأمر إلى الوقوع في الفاحشة.(121/6)
الأموال التي تنفق على العطور وأدوات التجميل في دول الخليج
هناك إحصائية تجارية علمية تقول لنا: إن عاماً واحداً قبل بضع سنوات كانت الأموال التي صرفت على العطور عموماً نسائية ورجالية في عام واحد في دول الخليج بلغت سبعمائة وتسعة وتسعين مليون دولار، أي: ما يعادل ثلاثة مليار من الريالات السعودية.
ونحن لا نقول: إن العطور محرمة.
لكن ذلك يمثل نوعاً من الإسراف، ويمثل أيضاً في الاستخدام نوعاً من التجاوزات لدى بعض الناس، وهو كذلك نمط استهلاكي لا يبلغ أن يصل إلى مثل هذا الحد المخيف من الأموال المنفقة.
وإذا جئنا إلى تكملة تلك الاحصاءات في هذا الشأن لنرى كيف تصب في خانة في جملتها تدعو أو تروج أو تقرب إلى الوقوع في المعاصي فإننا نكملها لنرى أن هذه الاحصائية تقول لنا: إن الإنفاق في ذلك العام كان على صبغات الشعر بنحو أربعة ملايين دولار.
أي: خمسة عشر مليون ريال، وكلها تنفق لصبغات شعر ليصبح مرة أشقر ومرة أغبر ومرة أحمر، ولست أدري كيف يكون ذلك أيضاً يبلغ مثل هذا الحد! ويضاف إلى ذلك أن المستهلك في ذلك العام بلغ ستمائة طن من أحمر الشفاة، وتأمل كم يكون الطن؛ لأن أحمر الشفاة خفيف، فكم الذي استهلك منه؟! أليس ذلك يدعونا إلى النظر والتأمل؟! وكيف تنفق هذه الأموال بهذه الأقدار ونحن نعلم أن جزءاً منها على أقل تقدير ينشأ عنه الممارسة المحرمة الخاطئة؟! وكم نحن اليوم في مشكلة كبرى في هذه القضية الخطيرة؟! ألسنا اليوم نشكو ونعلم يقيناً زيادة نسبة الانحرافات الخلقية، والفواحش، والخلوات التي يضبط فيها الشباب والشابات؟! ألسنا نعلم اليوم ونقرأ أحداثاً عن كون هروب الفتيات متزايداً في كل عام؟! ألسنا نسمع ونعلم ما قيل وذكر ونشر عن اعتداء الشباب على الفتيات، والصور التي نقلت عبر الأجهزة والآلات؟! إلى أين يبلغ الحد والمدى؟! لا يعلم ذلك إلا الله؛ لأنه بقدر الاخلال والنقض لما حرم الله وعدم الالتزام بما شرع الله بقدر ما يكون من الآثار الوخيمة الوبيلة.(121/7)
دراسة تبين خطر القنوات الفضائية على الفتيات
أقف وقفة مع دراسة أرجو أن تضع بعدها يديك على قلبك، وربما على رأسك، وأن تنتبه لما وراءك في بيتك، إنها دراسة لها أيضاً بضع سنوات، أجريت على مجموعة من الطالبات والفتيات بلغ عددهن خمسة آلاف، ورصدت هذه الدراسة أحوالهن قبل دخول الفضائيات وبعدها، وإليك هذه الأرقام المخيفة المفزعة التي تحتاج منا -كما قلت- إلى التدبر الخطير.
هناك أولاً نسبة كانت تبلغ تسعة وثمانين في المائة قبل دخول الفضائيات لديهن حرص على العلم والتعليم والتفوق في المجال الدراسي، وست وسبعون في المائة كان رأيهن الحذر والمنع من الاختلاط، وكانت لدى هذه الشريحة نسبة خمسة في المائة من أمراض الأعراض النسائية واضطراب الدورة الشهرية وغير ذلك، ثم ماذا بعد تلك القنوات؟ زادت الأمراض تلك إلى أن وصلت إلى نحو ثلاثة وعشرين في المائة من أفراد العينة، واسمح لي أن أذكر بعض الألفاظ مما لا أذكره ولا أستحسن ذكره في مثل هذا المقال، فإن سبع عشرة في المائة من تلك العينة من الفتيات أفدن أنهن أصبحن يمارسن العادة السرية بعد مشاهدة الفضائيات، وأن خمساً وثمانين في المائة من مشاهداتهن تتعلق بالمشاهد الجنسية والأفلام الجنسية، وأن ستاً في المائة فقط أفدن بمتابعة البرامج الثقافية والترفيهية، ولم يرد إلا صفر لمتابعة البرامج العلمية! لست أنا ولا أنت من يقول ذلك، بل يقوله الدارسون والباحثون بالاحصاءات والاستبيانات الميدانية، وبعد ذلك يقولون لنا: إنكم تبالغون، وإنكم تهولون، وإنكم منغلقون، لماذا لا تفتحون الأجواء لتعلم الثقافة والفكر والانفتاح؟ ولست أدري أين هي الثقافة في العورات المكشوفة، والأرداف المهتزة، والكلمات المحمومة وغير ذلك؟! فأين هي الثقافة في العري والرقص والمجون والفنون المزعومة؟! إن هذه الثقافة بالفعل في جملتها تدور حول ذلك، وما هو متضمن فيها أو منفرد عنها مما يدخل في تثقيف أو علم قليل في كثير، تذهب فائدته ويُلغى أثره، ولا يبقى إلا أثر ذلك الفساد المحموم والإثارة المغرية التي وصلت في بلادنا هذه إلى ما رأيناه وقرأنا عنه في الاعتداء وسط الطرقات، وفتح أبواب السيارات، ونزع وجذب الفتيات أمام الناس في الطرقات، هل كنا نصدق أن ذلك يبلغ إليه أمرنا؟!!(121/8)
أسباب انتشار الأمراض الجنسية الفتاكة
هناك ما يسمى باليوم العالمي لمكافحة الإيدز، ذلك المرض الذي نقول -وسنظل نقول-: إنه عقوبة ربانية لكل من شذ عن الفطرة السوية، وتنكب وارتكب المحرمات الشرعية.
تقول الاحصاءات: إن خمسة وأربعين مليوناً من البشر مصابون بالمرض أو حاملون له، وإن عشرين مليوناً من البشر قد ماتوا بسببه من قبل، وإن الأعوام الماضية تسجل زيادة يبلغ معدلها في العام ما بين ثلاثة مليون ونصف إلى أربعة مليون، وإن خمساً وتسعين في المائة من الحالات في البلدان النامية وضعوا تحتها خطوطاً حمراء، وأن كل يوم يسجل نحو ستة آلاف حالة جديدة، وقد رصدت الحالات أيضاً في بلادنا وديارنا.
أما الأسباب فإنها مباشرة في الدراسة العلمية: الرقم الأول: الممارسات الجنسية التي يسمونها غير الآمنة، ونحن نسميها الآثمة المحرمة، وبعد ذلك يقولون: نحتاج إلى التثقيف والتوعية، ونحتاج إلى أخذ الاحتياطات الصحية! بدلاً من أن يقولوا: أوقفوا هذا الفساد والعهر والمجون، أوقفوا هذا الشذوذ الذي بلغ إلى ممارسة الفاحشة مع الحيوانات والبهائم.
وهذا واقع معلن عنه، وله جمعيات ونوادٍ وعضويات وبطاقات، وهذا هو الأمر الذي نستيقنه؛ لأننا نوقن بقوله جل وعلا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه:124].
إننا لم نبلغ ذلك، ونسأل الله أن لا نبلغه ولا قريباً منه، لكنني أقول: ما بلغناه اليوم كنا قبل أعوام لا نتصور أن نبلغه، فالخرق يتسع على الراقعين، بل الراقعون يحجبون عن قول كلمة الحق أو التحذير، ونحن اليوم نرى ذلك في كل ما يهيج ويدعو إلى هذا، وكأن صدى هذه الآية غائب، فأين هذه الآية: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151]؟ ليتها تكتب في كل سوق، وفي كل متجر، وفي كل معهد؛ لأننا نحتاج إلى أن نعود إلى الأخلاق، وأن نعود إلى العفة، وأن نعود إلى الطهارة، وأن نعود إلى البصر الذي يغض والأذن التي تمسك عن سماع الحرام، وغير ذلك مما هو معلوم.(121/9)
المرأة والعمل
وإذا مضينا فإننا نرى صوراً كثيرة، فعمل المرأة لا أحد من أهل العلم والعقل والبصيرة وفهم هذا الدين يقول: إنه محرم في كل وجه وفي كل صورة.
وإن ذلك يمثل -كما يقولون- ضيقاً في الفكر وتحجراً في الرأي، وتشدداً في التعامل، كلا، لكننا نقول: أتجعلون أصل حياة المرأة مبنياً على العمل؟ وتقولون: إن المرأة التي لا تعمل -أي: خارج المنزل- معطلة، وأكثر من نصف المجتمع معطل؟ خذوا -أيها القوم- ما يقوله من تتغنون بهم في الغرب، فهذه دراسة أمريكية على المرأة ربة الأسرة القابعة في بيتها التي تزعمون أنها مقيدة ومكبوتة وأنها معطلة، هذه الدراسة تقول: إنها بالتحليل العلمي تقوم بسبع عشرة وظيفة، فهي طاهية، وهناك من تعمل طاهية، وهي ممرضة؛ لأنها تمرض أبناءها، وهناك مهنة ممرضة، وهي خادمة لأنها تخدم، وهي مدبرة منزل، وتلك وظيفة، وهي كذا وكذا، حيث عدوا سبع عشرة وظيفة، وقالوا: إن عدد الساعات التي تعملها قد تصل في اليوم إلى تسع عشرة ساعة، فأعطوني امرأة تعمل في دوام تسع عشرة ساعة! وعندما قدروا المبالغ المالية قالوا: إن جملة أجرها في العام ينبغي بموجب هذا التحليل أن يصل إلى خمسمائة ألف دولار (نصف مليون دولار).
فكل واحد يقرر لزوجته هذا المبلغ الآن؛ لأنها تقوم بهذه الوظائف.
ثم انظر إلى العمل التي تقوله الدراسات في بلادنا العربية، فنحو ألفين وخمسمائة امرأة عاملة في بلد عربي كبير أجريت عليهن دراسة، فقالت هذه الدراسة: إن نحو سبعين في المائة يتعرضن للمضايقات في الأعمال بسبب الاختلاط بالرجال، وإن من هذه المضايقات أربعاً وخمسين في المائة منها تأخذ أشكالاً جنسية، وسبع عشرة في المائة هي عبارة عن تحرش جنسي! وأما في بعض الدول الخليجية فأجريت دراسة عن سبب عمل المرأة، فوجد أن خمساً وثلاثين في المائة من العينة كان سبب عملها إرادتها لتحقيق الذات؛ إذ ليس ثمة حاجة، ولكن تريد أن تقول: إني امرأة عاملة.
وتريد أن لا يقال لها: إنك في البيت معطلة.
أو: إنك زيادة عدد لا قيمة لك ولا فائدة، وأربع وثلاثون في المائة قلن: إنهن يعملن لشغل أوقات الفراغ، وأربع وعشرون في المائة قلن: إنهن يعملن لأجل الكسب والإعانة على مصاعب الحياة.
وعندما نأتي إلى التحليل نجد دراسات أخرى تقول لنا: إن نحو أربعين في المائة مما تحصله المرأة من أجرها ينفق على ملابسها وزينتها عند خروجها لعملها، فنحو الثلث أو أكثر قد ذهب منها في غير فائدة، وكثير من الدراسات التي أجريت على العاملات في الخليج قالت: إن نسبة أكثر من خمسة وسبعين في المائة من أولئك النساء لدى كل واحدة منهن خادمة في البيت أو أكثر لاحتياجها، فستنفق أيضاً راتباً عليها.
وقالت دراسة في اليابان: إن إجمالي ما يعود من اقتصاد المرأة على الاقتصاد العام لا يزيد عن عشرة في المائة؛ لأن المال الذي تحصله المرأة تنفقه كثيراً على أمور تخصها مباشرة، ولا يوظف فيما قد يكون من تنمية اقتصادية عامة.
وبعد ذلك لا نقول هذا، وإن كان يقوله أهل العلم والاقتصاد والتحليل والخبرة، ولا نقول: إن كل امرأة يجب أن تكون في بيتها ولا يجوز خروج امرأة للعمل، ولكنا نقول: تعمل في ميدان يناسبها، وبضوابط شرعية تحفظها، ولمدة بحسب الحاجة، حتى تعود إلى مملكتها، فهل تريدون أن تبقى المرأة عاملة حتى تبلغ الستين لتتقاعد كما يتقاعد الرجل؟! اتقوا الله.
وقد جاءت الاحصاءات بأن أكثر من ثمانين في المائة يقلن: إن العمل يشكل لهن جهداً مضاعفاً؛ لأنها ستعود إلى بيتها، وسيكون لها عمل مع أبنائها ومع أسرتها ومع شئون منزلها، ولا يكون ذلك كذلك حتى في بلاد أخرى.
تقول الاحصاءات: إن اليابانيين الرجال لا يقضون إلا عشرة في المائة من الوقت في مجال خدمات المنزل، وأما تسعون في المائة منه فهو للنساء، فلعل اليابانيين يلحقون بنا ركب المتخلفين؛ لأنهم جعلوا مهمة التربية ومهمة رعاية الأسرة للمرأة، فنحن تخلفنا لذلك، ولعلهم يلحقون بنا ويصيرون متخلفين عند أولئك الذين يقولون هذه المقالات.(121/10)
وجوب الغيرة على الأعراض
أيها المؤمنون! أيها المسلمون! أيها الغيورون! إن الخطر داهم، وإن المشكلة عظيمة، وإن الخرق الذي يتسع يوشك أن لا يمكن رقعه أو رتقه، وهذا حديث ابن مسعود في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا أحد أغير من الله تعالى، ومن أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) وفي حديث الشيخين أيضاً أن سعداً رضي الله عنه قال -ولعل بعض الناس ممن ذكرت وصفهم يعترضون على سعد، ويتهمونه بتهم مما أسلفت القول فيها-: (لو رأيت مع امرأتي رجلاً لضربته بالسيف غير مصفح) فمالك يا سعد؟! هل أنت من المتعصبين؟ وهل أنت من غير المنفتحين؟ وهل أنت من الذين لا يقدرون حرية المرأة؟ ولا أريد أن أسلسل القول، فإن الصحابة وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم وأجل من أن يوصف أحد منهم بمنقصة ولو كانت صغيرة، فلما بلغ ذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (أتعجبون من غيرة سعد؟! والله إني لأغير منه، والله أغير مني، ومن أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) وهذا حديث يدلنا على أن المعنى أن نكون غيورين على أعراضنا، قائمين بأمر الله عز وجل في حفظها وسترها وصونها، ولا أريد أن أتوسع وإن كان الأمر يحتاج، فإن تلك المشكلات أدت إلى تأخر في الزواج، وإلى كثرة العوانس، وجاء من بعد ذلك كثرة الطلاق، وأصبحت الأحوال الاجتماعية متوترة توتراً عجيباً، حتى إنه صار من المعلوم المنتشر في وسائل الإعلام أن نسب الطلاق قد بدأت تتجاوز ثلاثين في المائة من نسب الزواج، أي: كل ثلاث حالات زواج ربما تنتهي واحدة منها بالطلاق، ومعنى ذلك ما معناه مما نعرفه من الآثار الوخيمة.
ومن هنا كذلك نجد الأحاديث في مثل هذا المعنى عظيمة وكثيرة، والحديث يطول، والآية ظاهرة: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151].
نسأل الله عز وجل أن يسلم قلوبنا وأعيننا وأبصارنا من الفواحش وما يدعو إليها، وأن يطهرنا ويطهر مجتمعاتنا رجالاً ونساءً شيباً وشباناً مما يدعو إلى تلك الفواحش ويقرب إليها.(121/11)
حماية الأعراض مسئولية الجميع
إنني أوصي جميع إخواني المسلمين بتقوى الله؛ استجابة لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، وإن من أعظم التقوى كف الجوارح عما حرم الله، نظراً وسمعاً ولمساً وخلوة وغير ذلك مما هو معلوم لا يكاد أحد يجهل حكمه، بل كثيرون من الناس يعرفون دليله وحجته، وهنا صرخة مدوية لكل منا، فما منا إلا وهو زوج لامرأة، أو أب لبنت أو بنات، أو أخ لأخت أو أخوات، فقم بدورك حفظاً للعورات، ولكل ما نحتاج أن نحافظ عليه من الشرف والعرض، لا بالإكراه والإجبار، وإنما بالتربية الإيمانية، والتوعية الإسلامية، وذكر مساوئ مخالفة ما حرم الله، وذكر الشواهد والوقائع في مجتمعنا، فإنك إن التفت يميناً أو يساراً لم تعدم جاراً أو شخصاً تعرفه أو قريباً من الأقارب قد انزلقت قدمه فوصلت إلى الهاوية بسبب ترخص يسير في أول الأمر، ونحن نعلم ما هو معلوم في طبائع النفوس البشرية وتدرجها في أمور المحرمات، نظرة فابتسامة فسلام فكلام، ويأتي بعده ما بعده، وقد أصبحنا نشعر بذلك ونلمسه، فالله الله في أنفسنا وأعراضنا وأزواجنا وبناتنا وشبابنا وشاباتنا، فإن النار تزداد اشتعالاً، ويوشك أن لا يسلم منها أحد، سلمنا الله وإياك من كل سوء ومكروه.
اللهم! إنا نسألك أن تصرف عنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأن تصرف عنا المحن والفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم! إنا نسألك أن تطهر قلوبنا، وأن تزكي نفوسنا، وأن تغض عن المحرمات أبصارنا، وأن تصم عن الآثام أسماعنا، وأن تجعلنا من عبادك المؤمنين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم.
اللهم! إنا نسألك أن تمكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، وأن تقمع أهل الزيغ والفساد، وأن تنشر رحمتك على العباد، وأن ترفع في الأمة علم الجهاد.
اللهم! إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم! احسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا -اللهم- من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم! استرنا ولا تفضحنا، اللهم! لا تفضحنا على رءوس الأشهاد، نسألك -اللهم- أن ترزقنا إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وعلماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراًًًًًً، وطرفاً دامعاًًً، وتوبة قبل الموت، ومغفرة بعد الموت، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيها أهل طاعتك، ويذل فيها أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، رد -اللهم- كيدهم في نحورهم، واشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، واجعل الدائرة عليهم، وأنزل -اللهم- بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين.
اللهم! رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين، امسح -اللهم- عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل -اللهم- لنا ولهم من كل هم فرجاًَ، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء.
اللهم! اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتها وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم! احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، احفظ -اللهم- لها أمنها وأمانها، وسلمها وإسلامها، وسعة رزقها ورغد عيشها يا رب العالمين.
اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم! صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(121/12)
الإيمان مفهوماً وتأثيراً
ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكنه ما وقر في القلب وصدقه العمل، فلا يقبل الإيمان القولي مجرداً عن العمل، ولا يقبل الإيمان العملي مجرداً عن التصديق والإقرار بالقلب؛ ولذا جمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بين هذين الأمرين، فكانوا سادة الأمة وقادتها، وفتحوا البلاد والأمصار بالإيمان الذي حملوه في صدورهم، وتحقق في أقوالهم وأفعالهم، وأثبتوا رسوخه في قلوبهم، وظهرت آثاره في سلوكهم ومعاملاتهم.(122/1)
أهمية الحديث عن الإيمان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، ونصلي ونسلم على خير خلق الله، وخاتم رسل الله، نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه، وعلينا وعلى سائر عباد الله الصالحين والدعاة، ونحمد الله جل وعلا أن هيأ لنا هذا اللقاء الطيب المبارك الذي نصل فيه ما سلف من هذه الدروس والمواعظ العامة، وأسأله جل وعلا أن يكتب لنا بها أجراً، وأن يرزقنا من ورائها نفعاً، وأن يجعل لنا فيها خيراً، وكما جمعنا في هذا البيت من بيوته أن يجمعنا في مستقر رحمته، ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، ونسأله جل وعلا مزيد التوفيق والتسديد، والهداية والإلهام إلى الطاعة، هو جل وعلا الهادي والموفق سبحانه وتعالى.
وبعد: أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وهذا هو درسنا الخامس بعد المائة الأولى ليوم الجمعة، الثاني من شهر جمادى الأولى عام (1415هـ).
وعنوان هذا المجلس: الإيمان مفهوماً وتأثيراً.
ولعلنا نتفق جميعاً على أن أهم شيء في هذه الحياة كلها، وأهم شيء في هذا الوجود كله، والأمر الذي قامت لأجله السماوات والأرض، وخلقت لأجله الجنة والنار، والثواب والعقاب، هو أمر الإيمان، وحقيقة التوحيد، ومضمون شهادة أن لا إله إلا الله، إذ إن الله جل وعلا إنما خلق الخلق لعبادته وتوحيده سبحانه وتعالى، وإنما جعل هذه الحياة كلها ابتلاءً واختباراً، لتعقبها بعد ذلك حياة أخرى فيها حساب، وبعد ذلك إما ثواب وإما عقاب، وكل ذلك أساسه ومداره على الإيمان.
ولعلنا أيضاً نتساءل: ما الداعي إلى أن نتحدث في مثل هذا الموضوع؟ وربما قال كثير منا: إنه أمر متفق عليه ولا خلاف فيه، والعلم به حاصل، إلا أنني أقول: إن أمر الإيمان لما كانت له هذه الأهمية العظمى وجب أن يكون هو الأمر الذي لا يفتر الذاكر عن ذكره، ولا يغفل المعلم عن تعليمه، ولا يتناسى الناس أمره، ولا يجعلون مجلساً من مجالسهم يمر دون تذكرة به أو دعاء إليه أو تعريف به؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم -وهم أعلم الأمة، وأزكاها نفوساً، وأطهرها قلوباً، وأعظمها إيماناً، وأكثرها عبادة- كان أحدهم ينادي صاحبه ويقول له: تعال بنا نؤمن ساعة.
وإن القلوب تغشاها الغفلة، ويضرب عليها الران، وتتكاثر عليها ظلمات المعاصي، فتحتاج دائماً وأبداً في كل ظرف وحال، وفي كل بلد ومكان، وفي كل عصر وأوان، وفي كل حالة من حالات الإنسان؛ إلى أن يتذكر حقيقة الإيمان التي تجلو صدأ قلبه، والتي تربطه في هذه الحياة الدنيا بالحياة الأخرى، والتي تشد حبل صلته بخالقه ومولاه سبحانه وتعالى.
ولذلك جاء مثل هذا الحديث التذكيري الذي أسأل الله جل وعلا أن يجعله حياة لقلوبنا، وأن يجعله تقوية لإيماننا، وزاداً لنا في حياتنا، وقد جعلت الموضوع متعلقاً بمفهوم الإيمان وتأثيره؛ لأن الفهم أساس العمل، ولأن التأثير ثمرة العمل، وعمل بلا فهم كبناء بلا أساس، وعمل بلا أثر كشجر بلا ثمر، إذ عندما يعمل العامل من غير حسن فهم، وكمال تصور، ودقة في العلم، وشمول فيه يخبط خبط عشواء، ويقع في الضلال والانحراف، وتتلقفه الشبهات، ويأخذ في سبل الشياطين إلا من رحم الله، ولأنه إذا فهم ثم لم يعمل العمل الذي يترك بصماته وآثاره في حياته وسلوكه، وفي أقواله وأفعاله، فكأنه إنما أتى بظاهر من القول وظاهر من العمل لم تخلص حقيقته إلى قلبه وسلوكه.(122/2)
حقيقة الإيمان وأثره على حياة المؤمن(122/3)
لا يقتصر الإيمان على القول باللسان ولا العمل ولا التصديق
ونبدأ بأمر الفهم وهو المقدم في هذا المقام، ونتساءل سؤالاً بدهياً ربما يتبادر إلى أذهان كثير منا أنه من الوضوح بمكان، بحيث لا يسأل عن مثله، ولكن ما سأذكره من خلال الآيات القرآنية يجعل لهذا السؤال بعداً أعظم وأوسع مما قد يخطر ببال بعضنا: ما هو الإيمان؟ هل الإيمان مجرد القول الذي ينطق به اللسان؟ وهل هو دعوى يمكن لكل أحد أن يدعيها؟ إذاً: كما قيل: (لو كانت الأمور بالدعاوى لقال من شاء ما شاء) إن الإيمان ليس مجرد القول، بل قد أثبت الله عز وجل النطق بالإيمان مع نفي حقيقته، فقال سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] أولئك قوم نطقوا بألسنتهم، ورفعوا بالإيمان رايتهم، وصدعوا به في كل مجلس، ونطقوا به في كل محفل، ومع ذلك قال الله عز وجل: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] فنفى عنهم حقيقة الإيمان مع أنهم أظهروها ونطقوا بها باللسان؛ فإذاً: ليس الإيمان مجرد القول، فهل الإيمان هو العمل والالتزام بالمقتضيات والقيام بأداء الصلاة والزكاة، وسائر الأركان؟ لو كان الأمر كذلك لكان بعض أهل النفاق أحظى بوصف الإيمان، وأحظى بالرتب العليا فيه من كثير من الناس، إذ المنافقون يظهرون من الأعمال والمنافسة في الخيرات ما قد يظهر به عند كثير من الناس أنهم قد بلغوا الرتب العليا من الإيمان.
ونأتي مرة أخرى إلى الآيات القرآنية فنجدها تصف أقواماً قاموا بالأعمال الإيمانية، ولكن نفى الله عز وجل عنهم الإيمان، فجاء في وصف أهل النفاق: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، وفي سورة التوبة: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54] أولئك قوم جاءوا بالشعائر الإيمانية الواضحة البارزة، فالصلاة قد أطلق عليها في القرآن مسمى الإيمان كما قال جل وعلا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، لكنهم قوم نفى الله عنهم الإيمان، بل قد قال جل وعلا: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145].
فإذا لم يكن الإيمان هو مجرد القول، ولا مجرد العمل، فهل الإيمان هو حقيقة التصديق والإدراك والعلم والمعرفة؟ والجواب القرآني ينفي ذلك أيضاً، فالله سبحانه وتعالى يقول في حال الكافرين: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14] جحدوا بها: أي أنكروها بعد أن عرفوها، واستيقنتها أنفسهم: أي بلغت معرفتهم بها درجة أعظم من درجة العلم، وهي درجة اليقين الذي يعرف به كل الأمور المتعلقة بهذه الحقيقة، فقد عرفوا الحق وأيقنوا بدلالة الإيمان ومع ذلك ما آمنوا، بل صرفهم الظلم والعلو عن ذلك.
ويبين الله سبحانه وتعالى أيضاً هذه الحقيقة في قوله جل وعلا: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] فهم لا يكذبون محمداً صلى الله عليه وسلم، وكان كفار قريش يسمونه الصادق الأمين فقد رأوا من الأدلة البرهانية والمعجزات النبوية ما كان حجة واضحة داحضة لكل شك، فقد انفلق القمر فلقتين حتى كان فوق كل جبل منهما فلقة، ورأوا ذلك عياناً، ثم أصبحوا بالرسول صلى الله عليه وسلم مكذبين، وبالله سبحانه وتعالى كافرين، نسأل الله تعالى السلامة.
وأبو جهل يمثل صورة من صور نفي الإيمان مع تحقق المعرفة، يقول: كنا وبنو هاشم نتنافس الشرف، فإذا كانت لهم السقاية كانت لنا الرفادة، وإذا كانت لهم كذا كان لنا كذا حتى إذا تساوينا وتجاثينا على الركب قالوا: منا نبي، فمن أين لنا بنبي؟ فوالله لا نصدقه الدهر كله.
إذاً: ليست القضية أنهم كان ينقصهم الدليل حتى يعرفوا الحق، كلا، فقد عرفوا الدليل، وأقيمت الحجة، وانقطع الشك، لكن القلوب المظلمة المعرضة لم تؤمن بالله سبحانه وتعالى.
وقال قوم مسيلمة الكذاب: (كاذب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر) أي: مادام هذا صاحبنا فنصدقه وإن كنا نعلم حقيقة كذبه، وذلك نكذبه وإن كنا نعلم حقيقة صدقه.(122/4)
أمثلة في بيان حقيقة الإيمان وأثره على الحياة
إذاً: فالإيمان ليس قولاً، وليس عملاً، وليس معرفة، فأي شيء هو هذا الإيمان؟ قد نقول: إنه جماع هذه كلها، ولكني أريد أن أعمق هذا المعنى تعميقاً يجعل له حقيقته الواجب معرفتها.
وأضرب لذلك مثلاً بعيداً، ثم آتي بمثل آخر أقرب حتى ندرك أن قضية الإيمان وأن مفهومه أعمق وأوسع وأكثر شمولاً مما قد نتصوره في بعض الأحيان: لو أن إنساناً جاء إلى أرض صحراوية جرداء لا شجر فيها ولا ماء، وليس فيها من معالم الحياة شيء يذكر، ثم غاب عنها فترة من الزمن وجاء إليها فإذا هي جنان خضراء، وأشجار وثمار، وظلال وارفة، وأزهار زاهية، وثمار يانعة، فإنه لا شك سيعجب عجباً شديداً، بل قد يحكم أو يجزم أو يتصور أن هذه الأرض ليست هي التي رآها من قبل، بل هي أرض جديدة مختلفة، وسيكون عنده يقين جازم أنه قد حصلت أمور أوجبت مثل هذا التغيير، وهذه الأمور بالنسبة له في مثل هذا المثل أمور مادية محسوسة، لابد أن يكون قد جاء إلى هذه الأرض أقوام فحرسوها وزرعوها وحفروها وأخرجوا منها الماء، وفعلوا بها وفعلوا واجتهدوا فيها وجدوا حتى حصل مثل هذا الأمر.
ونحن حينئذٍ كأننا نمثل بين شيئين مختلفين، كأننا نذكر صورة من صور الموت والجفاف والجفاء، وصورة أخرى من صور الحياة والحيوية والرواء، وبينهما بعد شاسع وفرق كبير، حتى كأن الأمر لا يرتبط أوله بآخره، أو لا ترتبط هذه بتلك.
وأنتقل إلى المثل الحسي الواقعي بعد هذا المثل التجريبي النظري: جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الجزيرة وقد كانت صحراء جرداء من المبادئ، وكان فيها الكفر ضارباً أطنابه، والظلام مرخياً أستاره، والناس يتخبطون في الجهل والعمى، ويتخبطون في أنواع من الشرك والكفر، وبينهم شحناء وبغضاء، وبينهم حروب مشتعلة وعداوات وحزازات، وعندهم تفاهات في الأفكار.
ثم هؤلاء الناس بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وجدنا فيهم تغيراً كاملاً شاملاً مستوعباً، فإذا أهل الظلمات هم أهل النور والضياء، وإذا الفرق المتناحرة أمة واحدة، وإذا أصحاب الأفكار التافهة هم أصحاب الغايات العظيمة، وإذا بأولئك القوم الذين كان فيهم كثير وكثير من أوصاف الرذيلة قد صاروا معلمي البشرية وقادتها في المبادئ والأخلاق والفضائل والأفكار والأعمال.
فكأن المثل ينطبق مرة أخرى! كأن هؤلاء ليسوا هم الذين كانوا من قبل! ليس هؤلاء القوم هم الذين رأيناهم في تلك الحالة! وسنبحث حينئذ كما بحث صاحبنا في المثل الأول عن السبب.(122/5)
الإيمان هو الذي غير حياة الصحابة وليس الماديات
وينطلق كثير من الناس إلى نظرات مادية فيقول: لعل هؤلاء القوم تغيرت أحوالهم الاقتصادية فأصبح عندهم ارتفاع في مستوى المعيشة، وبالتالي تغيرت أنماط حياتهم أو سلوكياتهم أو طريقة كلامهم ومعاملاتهم ونحو ذلك، وقائل قد يقول: لعله قد تغيرت أنماط من حياتهم الاجتماعية بأن وفد إليهم أقوام آخرون، أو بأن سافروا واغتربوا ورحلوا إلى بلاد أخرى ونحو ذلك.
وإذا جئنا إلى هذه الحقيقة التي ضربنا بها المثل في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قريشاً هي كما هي ما تغير اقتصادها، ولا أمور حياتها الاجتماعية، هي كما هي في رحلة شتائها وصيفها في كبريائها وغطرستها في أحرارها وساداتها وفي عبيدها وهي كما هي في شرب خمرها وفي لهوها وعبثها ما تغير فيها شيء في أحوالها المادية.
فما الذي إذاً غير هؤلاء الناس؟ ما الذي غير العقول؟ ما الذي غير النفوس؟ ما الذي غير الكلمات؟ ما الذي غير الأعمال؟ ما الذي صاغ الأفكار؟ ما الذي غير كل هذا التغيير الجذري الشامل وبنى هذا البناء العظيم المتكامل؟ سنجيب بكلمة باردة ربما لا ندرك شأوها وعظمتها، سنقول: إنه الإيمان إنها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ولكنا نريد أن نعمق ذلك من خلال الآيات القرآنية أيضاً، فقد وصف الله جل وعلا بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ووصف الرسالة التي جاء بها، وما حقيقتها، وما الذي جاءت به إلى البشرية: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ} [الشورى:52].(122/6)
الإنسان بلا إيمان كالجسد بلا روح
انظر إلى هذه الآية وتأمل قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52] هذا الإيمان هو الروح، ولا قيمة لجسد بلا روح، ما الفرق بين الإنسان الحي والذي يموت، ويكون تواً قد مات قبل لحظات؟ إنك لا تنكر من أمر هذا الميت شيئاً، جسمه طري، وكل شيء فيه كامل تام، ماذا يقول الناس؟ كلمة واحدة باردة: فلان مات! ما معنى مات؟ خرجت روحه.
لكن ما حقيقة هذا المعنى؟ إنه ألغي من الوجود كله، لم يعد له حركة ولا أثر، ولا فكر ولا كلام ولا عمل، وكذلك الإنسان في حقيقة أمره بلا إيمان لا قيمة له لا وجود له لا قيمة لعمله لا أثر لقوله، هو تماماً كجسد بلا روح، ولو أننا رأينا يوماً مريضاً قد أنهكه المرض وأعياه حتى اصفر لونه، وخارت قواه، وغارت عيناه، وأصبح الناس ينتظرون موته بين لحظة وأخرى، ثم أراد الله عز وجل له أن يحيا وأن يبقى، فإذا بهذه القوى الخائرة تعود مرة أخرى فينشط، وإذا بتلك الصفرة التي كانت من أثر المرض تعود قوة وحيوية، إذا بالناس يقولون: سبحان الله! سبحان المحيي! لأنه قد بلغ مبلغاً كأنه قد مات! ثم بعد ذلك قد عادت إليه الحياة: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52].(122/7)
الإيمان هو النور الذي يضيء طريق الحياة
فإذا جاء الروح في الجسد، وتحرك الجسد ومضى لينطلق في هذه الحياة، فأي شيء يحتاج إليه؟ إنه يحتاج إلى النور؛ لأن هذه الحركة قد تكون وبالاً عليه قد تجره إلى أن يمشي في الظلمات، فإذا به يقع في الهاوية إثر الهاوية، وإذا بالحفرة تسلمه إلى أختها، وإذا به كحال الإنسان الذي يمشي في ظلام دامس، يمشي فيخبط في رأسه مرة يمشي فينقلب من أثر قدمه مرة يمشي فإذا به يصاب هنا ويصاب هناك، ولا يصل إلى غايته، ولا يصل إلى مبتغاه، ولا يمكن أن يحقق هدفاً، ولا أن يجني ثمرة، وكذلك الإنسان بلا إيمان يفقد النور الذي يسير به في هذه الحياة.
والله سبحانه وتعالى قد ضرب لنا أمثلة كثيرة بشأن الإيمان وتمثيله بالنور الذي هو أهم شيء للإنسان في سيره في هذه الحياة، فحقيقة الإيمان إذاً: هي الروح المغيرة المحركة، وهو النور الذي يبصر به الإنسان حقائق الدنيا حقائق الآخرة حقائق الناس حقائق الأفكار حقائق الأحوال حقائق الأعمال نور يهدي به الله سبحانه وتعالى من يشاء من عباده.(122/8)
الإيمان تغيير جذري يتناول جميع جوانب الإنسان
قضية الإيمان -أيها الإخوة الأحبة- قضية تغيير جذري شامل، وبناء متكامل، ومعنى ذلك أن الإيمان يتناول كل شيء في حياتك، يتناول خاطرة عقلك، ولفظة لسانك، وعمل جوارحك، وآمالك وطموحاتك، وأهدافك وغاياتك، كل شيء ينبغي أن يكون منضبطاً بهذا الإيمان، حتى خفقة القلب والمحبة والميل يجب أن تكون مضبوطة بالإيمان بالله عز وجل؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله).
ولا شك أن من الجرح في الإيمان: أن تحب أعداء الله، وأن تبغض أولياء الله عز وجل، الإيمان ينبغي أن يكون مستولياً على كل شيء، فالكلمة إن نطقت فبمقتضى الإيمان، والعمل إن عمل فعلى منهج الإيمان، والأمل إن وجد فإنه أمل منبثق من حقيقة الإيمان، والغاية إن سعى إليها فإنما هي غاية من غايات الإيمان، وهذا كله معناه أن تتغير الحياة كلها في صغير الأمور وكبيرها، وفي سائر الأحوال والأعصار، لتتغير تغيراً جذرياً شاملاً وفق حقيقة الإيمان، ووفق حقيقة لا إله إلا الله.
ولقد أدرك الكفار هذه الحقيقة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: (قولوا لا إله إلا الله كلمة تملكون بها العرب والعجم)، فما كان أسهل أن يقولوها! لكنهم كانوا يدركون أن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد بها معنىً عظيماً يكون فيه الحكم لله سبحانه وتعالى، والعلاقة مبنية على مقتضى الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والمحبة والبغض مرتبطة بالإيمان بالله سبحانه وتعالى، وأن تغير الحياة كلها وفق هذا المعنى العظيم وهذه الحقيقة الشمولية الكبيرة التي لا تحدها حدود، وهي حقيقة الكون كله، وحقيقة الحياة الدنيا، وحقيقة الحياة الآخرة.
ولذلك فالإيمان تغيير جذري يتناول ميل النفس، ومشاعر القلب، وخواطر العقل، وكلمات اللسان، وعمل الجوارح، ويتناول كل شيء، ويكون مع الإنسان كالدم الذي يجري في عروقه، وكالنفس الذي يتردد في صدره، وأسألكم: هل يمكن للإنسان أن يستغني عن النفس؟
الجواب
لا؛ لأنه إن منع عنه النفس انقطعت عنه الحياة، والأمر كذلك بالنسبة للإيمان، فإن رفعت عنه حقيقة الإيمان أو لم تتغلغل حقيقة الإيمان؛ فكأنه قد قطعت عنه أسباب الحياة، وأصبح ميتاً وإن كان يدب بين الأحياء.
وأمثل أيضاً بهذا المثل في صورة أخرى: لو أن إنساناً جاء ليكتم نفسك، هل تبتسم في وجهه؟! وإذا صبرت على ذلك وقتاً من الزمن ثم بدأت تختنق ماذا تصنع؟ إنك تستنفر كل قواك وإن كان هذا الذي يكتم أنفاسك قوياً أو جباراً أو تخشاه، لكن المسألة هنا مسألة موت أو حياة، فيدك ستنطلق، ورجلك ستتحرك، وبدنك سيتغير كله؛ لأنك تدافع عن حياتك ووجودك كله.
فكذلك ينبغي إن حوربت في إيمانك، أو شككت في إيمانك، أو جاء من يمنعك من إيمانك ومقتضيات إيمانك؛ فإن الأمر كأنما يريد أن يسلبك حياتك، وأن يقتل فيك وجودك وحيويتك، فكما لا تستطيع أن تملك صبراً على ذلك الذي يكتم نفسك، فينبغي ألا تملك صبراً على كل ما يخالف مقتضى حقيقة إيمانك.(122/9)
صور من تغيير الإيمان الجذرية
هذه صور من مفاهيم هذا الإيمان، وأضرب مثلاً قرآنياً من سيرة الأنبياء السابقين، ثم أضرب أمثلة من سيرة صحب محمد صلى الله عليه وسلم؛ لندرك حقيقة التغيير الكامل الذي يتناول كل شيء، حتى ندرك هل نحن متحققون بالإيمان تحققاً كاملاً، أم أن في إيماننا ضعفاً، وفي إيماننا دخناً، وفي إيماننا بعض التصورات الخاطئة؟(122/10)
أثر الإيمان على سحرة فرعون
سحرة فرعون لما دعاهم فرعون وأقبلوا عليه كان أول قولهم: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41].
أول شيء سألوا عنه وهم في ظلمات الكفر، وهم بعيدون عن الإيمان: (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) أرادوا مصلحتهم الذاتية على حساب المصالح الأخرى، وأرادوا حظهم الدنيوي دون اعتبار لحظ الآخرة، وانظروا إليهم وهم يقولون: (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ)، لم يسألوا: هذه القضية حق أم باطل صدق أم كذب ظلم أم عدل؟ ما سألوا عن شيء من ذلك؛ لأنهم لا إيمان لهم، وبالتالي لا مبادئ عندهم لا قيم عندهم لا أخلاقيات عندهم ليس عندهم مقومات الحياة الإنسانية ولا مؤشرات الفطرة البشرية.
وأجابهم فرعون بنفس المنطق المادي الدنيوي الذي ليس له من الإيمان حظ ولا نصيب: {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:114] أي: سيكون لكم أجر مادي، وستكونون من المقربين من فرعون وخاصته وحاشيته، وكان ذلك عندهم مما تهواه قلوبهم، ويخطف أبصارهم، وربما يبذلون كل ما يستطيعون لينالوا حظوة عند فرعون.
ثم مضت القصة كما نعلم، وألقى موسى عليه السلام عصاه: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:117] فماذا حدث؟ آمن السحرة برب هارون وموسى.
ما الذي استغرقه هذا؟ جزء يسير من الزمن، كانوا قبل لحظة رمي العصا كافرين، وبعدها مؤمنين، فانظروا إلى التغيير الذي وقع فيه في كلامه في أفكاره في آماله في مقالبه لنرى أن هذه اللحظة كانت ومضة واحدة سريعة لكنها شملت تغييراً فكرياً نفسياً عاطفياً قوياً عملياً في كل شيء، هؤلاء السحرة الذين قالوا: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41] وكانوا يريدون إبطال الحق ومعاداته، ماذا قالوا بعد أن آمنوا؟ {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70] وذكروا هارون مقدماً على موسى في سورة طه، ومؤخراً عنه في الشعراء، وهارون ما ألقى عصا ولا جابه سحرهم، إنما أرادوا بهذا أن يقولوا: آمنا بالإيمان الحقيقي، آمنا برب هارون الذي لم يعمل لنا شيئاً، ولم يواجهنا بعصا، كما آمنا برب موسى، فنحن لم نؤمن بالعصا لم نؤمن بهذه القوة الظاهرية، وإنما عرفنا أنها تعبر عن صدق في الرسالة، وحقيقة الإيمان الذي بعث به موسى عليه السلام.
وجاء فرعون بالمنطق الدنيوي الذي بقي عليه: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] هؤلاء الذين كانوا ينتظرون من فرعون نظرة، وينتظرون منه عطاء، انظروا إلى قولهم وموقفهم! قالوا له وقد تغيرت أفكارهم وآمالهم ومشاعرهم وطموحاتهم: مسكين أنت يا فرعون! ما زلت في ظلمات الكفر! ما زال عقلك بليداً! ما زالت أفكارك تافهة! ما زال حيزك محدوداً ضيقاً! أما نحن فقد تغيرنا فقالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72].
افعل ما تشاء فإن ما تفعل كله في ميدان الحياة الدنيا، ونحن عندنا أمر آخر وحياة أخرى، فإن أردت أن تقتل فلتقتل فإن وراء الموت حياة أخرى، وإن أردت أن تحرم فافعل فإن وراء الحرمان نعيماً، وهذه لحظة إيمان واحدة.
ثم لما جابههم وجادلهم قالوا: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:51] في السابق كانوا يريدون الأموال والعطاء، والآن يريدون المغفرة والرضوان من الله سبحانه وتعالى، هكذا غيرهم الإيمان في موقف واحد، كانوا قد دخلوا على فرعون راكعين خاضعين معظمين له، كانوا يريدون من فرعون العطاء والنوال، ويرجون عنده المنزلة والجاه، ثم إذا بهم يعرضون عن ذلك كله، ولا يلتفتون إليه، ولا يرهبون قوة فرعون ولا سلطانه ولا جبروته، كل ذلك يعبر لنا عن أمر -كما قلت في الكلمات هو أمر بارد- قد لا يظهر له ذلك التأثير نقول: السبب أنهم آمنوا، لكن انظر إلى حقيقة هذا الإيمان وفهمه الشامل الذي غير كل شيء في هؤلاء القوم.(122/11)
تغيير الإيمان في حياة الطفيل بن عمرو الدوسي
وكذلك مواقف من صحب النبي صلى الله عليه وسلم تبين لنا أن الإيمان جذري شامل يغير كل شيء وفق حقيقة التوحيد والإيمان.
فهذا الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة، وآمن بالنبي عليه الصلاة والسلام، ودخل في دين الإسلام، والإسلام مازال في أول أمره، وآيات القرآن لم ينزل منها كثير، والأحكام لم يأت فيها بعد تفصيل.
ثم مضى الطفيل إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام فلما قدم عليهم لقي زوجته فقال: إليك عني فلست منك ولست مني، مفاصلة اقتضاها إيمانه الذي استولى على قلبه، فلم يطغ عليه حب الزوجة كما لم يطغ عليه تقدير الأب، فلما لقي والده قال: إليك عني فلست منك ولست مني! أي شيء اعتراك يا طفيل؟ قال: إني آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم، ودخلت في الإسلام، فانقلبت حياته كلها، وتغيرت مشاعره، وغير علاقاته وصلاته وفق هذه الحقيقة الإيمانية.(122/12)
أبو ذر خامس خمسة في الإسلام
وأبو ذر رضي الله عنه هو خامس خمسة في الإسلام، بعد أن أسلم مضى إلى قبيلته ودياره، ولم يقدم على النبي صلى الله عليه وسلم إلا في العام السابع للهجرة، فما صنع أبو ذر وقد ملأ الإيمان جوانح نفسه، وقد دخل إلى سويداء قلبه، وخالط شغاف قلبه، وجرى مع دمائه في عروقه؟ لقد فاض إيمان أبي ذر واستولى عليه هذا الإيمان حتى جهر به في كل مكان، وصبه في كل الآذان، وخاطب به كل القلوب، وإذا به عندما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم ومعه قبيلتان هما: قبيلة أسلم وقبيلة غفار، كانتا من قبائل الكفر والشرك وقطع الطريق والسطو والسلب والنهب، أتى بهما أبو ذر وحده رضي الله عنه وقد نور الله عز وجل قلوبهم بالإيمان على يده.(122/13)
ربعي بن عامر واعتزازه بإيمانه
فهذه بعض نماذج لهذا التغيير، حتى إن الأهداف والطموحات تتغير، فقد كان الأعرابي في الجزيرة العربية قبل الإسلام لا تتجاوز طموحاته الشاة والبعير والرعي، ولم يكن عندهم طموح، وكانت أهدافهم حتى على المستوى المادي محدودة، فكانوا ينظرون إلى ملك كسرى، وإلى ملك قيصر، وإلى من وراءهم من الغساسنة والمناذرة أنهم شيء عظيم لا يمكن أن يرتقوا إليه، ولا أن يتطاولوا معه، ولا أن ينافسوه، لكن لما جاء الإسلام والإيمان تغيرت الأهداف والغايات.
وجاء ربعي بن عامر رضي الله عنه، وهو بملابس رثة، ودخل إلى أبهة الملك ومعه حربته يخرق بها الطنافس، ويرقى إلى أعلى مكان عند العظيم الذي يعظمونه، فيسأل: أي شيء جاء بكم وقد كنتم لا يجرؤ أحدكم أن ينظر إلينا؟! قال: جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
لقد أصبحوا أصحاب رسالة وغاية، أصبحوا معلمين وأساتذة وقادة بهذا الإيمان.
ومن خلال هذا الإيمان تغيرت الطموحات، فإذا شاب صغير كـ ربيعة بن كعب رضي الله عنه وهو في الرابعة عشرة من عمره يسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (سلني ما شئت؟ فيقول: أسألك مرافقتك في الجنة)، تغيرت الآمال والأفكار والطموحات، كل ذلك هو مفهوم الإيمان وحقيقته، ولذلك ينبغي ألا نظن أن الإيمان هو القول، أو نضم إليه العمل فحسب دون أن يكون هناك اليقين الراسخ، دون أن يكون هذا التغيير الشامل، دون أن يكون هذا التحول الجذري الذي يتناول جميع مظاهر الحياة، ينبغي أن نأخذ هذا الإيمان من هذا المفهوم العظيم.(122/14)
مؤمن آل فرعون وصدعه بالحق
وانظر إلى مثل قرآني أيضاً: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28].
قال هذا القول في وسط بيئة الكفر الفرعونية، قاله كما جاء في القرآن الكريم بعد قول فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].
وهذا الضعيف المغمور في بيئة فرعون كان يكتم إيمانه، فلما جد الجد، وحق الحق، نطق لسانه، وتحركت عاطفته، وأظهر الوضوح التام والمنهج الصائب الذي لا خطأ فيه.(122/15)
امرأة فرعون مثل عظيم في الإيمان
بل انظر إلى مثل قد ضربه الله عز وجل لأهل الإيمان جميعاً في سائر الأعصار والأزمان كما قال جل وعلا: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11].
امرأة فرعون الكافر المدعي للربوبية مؤمنة في وسط هذه البيئة الكفرية، ثم هي تقول: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)، وهي بالنسبة لأهل الدنيا في أعظم وأرقى درجات الثراء والغنى في القصور والرياش والمال والجاه، لكن ما رأت ذلك شيئاً، بل احتقرته وازدرته، وكان عندها استعلاء على كل ذلك، استعلاء على الجبروت والطغيان الذي كان يمثله فرعون، استعلاء على الجاه والمال والحياة الدنيا التي كانت تمثلها دنيا فرعون: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11].(122/16)
ظاهرة ضعف آثار الإيمان في حياة الناس
أيها الأحبة الكرام! ومما أود الإشارة إليه أن مفهوم الإيمان هو الحقيقة المستقرة في القلب، المنطوق بها على اللسان، الظاهرة على الأعمال والجوارح وسائر الأركان، المغيرة لكل شيء في حياة الإنسان وفق حقيقة الإيمان.
فهو أمر عظيم جداً، ولذلك كل تغيير في حقيقة الأمر ينبغي أن ندرك أنه يرتبط بأمرين اثنين: مبدأ يعتقد أو شهوة تتبع.
انظر إلى أحوال الناس وإلى أعمالهم فإنما يفعل أحدهم الفعل بسبب شهوة دفعته إليه، وإذا لم يكن محباً لهذا فقد يفعله بسبب مبدأ ومعتقد ربطه به، أفلا ترى أهل الإيمان يتركون الدنيا ونفوسهم بها متعلقة، وقلوبهم فيها بحكم الفطرة البشرية راغبة، لكنهم يعرضون عنها؛ لأن عندهم اعتقاداً ومبدأً وإيماناً.
وأحياناً إذا ضعف إيمانهم قادتهم الشهوة إلى مخالفة الإيمان، فما من عمل عند الإنسان إلا وله دافع نفسي، وإما أن يكون الدافع مبدئياً إيمانياً، وإما أن يكون شهوانياً غريزياً، فإذا استحكم الدافع الإيماني فإنه يضبط الشهوة فيجعلها محكومة بحكم الإيمان، وإذا استعلى الجانب الغريزي الشهواني انطلقت هذه الشهوة في ميادين تتعارض مع الإيمان، وتطمس نوره في القلب، وتظلم بها النفس، ويحصل ذلك في حياة كثير من المسلمين وكثير منا إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، فإذا كان هذا هو مفهوم الإيمان فما بعض تأثيراته وآثاره التي نحتاج أيضاً إلى نتأملها تأملاً عظيماً؟(122/17)
لا تكفي العبادة لإثبات قوة الإيمان دون التضحية بالدنيا
إن القضية التي تتبادر إلى ذهن كثير من الناس في كثير من الأحوال أن أثر الإيمان الأعظم والأظهر هو أمر العبادة والخشية والخشوع هو أمر الدموع التي تذرف من خشية الله سبحانه وتعالى هو أمر العبادة التي يتقرب بها الإنسان لله جل وعلا، وهذا لا شك أنه من أعظم آثار الإيمان، ولكن مثل هذا الأثر قد لا يكون ممحصاً ومميزاً، فإنك تجد كثيراً من الناس يؤمن بالله عز وجل، ويعبد، ويزهد، ويدعو ويتقرب إلى الله عز وجل بما شاء الله له أن يتقرب، لكنه لا يثبت إيمانه، ولا يظهر أثر إيمانه في مواقف أخرى، وإذا بك ترى انفصاماً في حياة بعض الناس، فهو في المسجد ساجد عابد، وهو خارجه لاه عابث أو منشغل بالدنيا، أو هو قد جعل له غايات أخرى أو نحو ذلك.
وقد نبه بعض الصحابة تنبيهات إلى أن هذا الأثر مهم، لكنه ليس هو الأصل الأول والأخير، لكنه ليس هو الأثر الوحيد، فإن من الناس من يتصنع البكاء، ومن الناس من يستطيع أن يكون في زحام مع أهل العبادة وأهل الزهد في صورة من الصور، لكن هناك أمور أخرى سأذكر بعضاً منها هي أكثر وضوحاً وتمحيصاً وتمييزاً لآثار الإيمان.(122/18)
الحرص على الحياة والخوف من الموت محك اختبار لقوة الإيمان
أقول: قد أشار بعض الصحابة إلى ذلك، فرأى ابن مسعود رجلاً مطأطأً رقبته فقال: (يا صاحب الرقبة! ارفع رقبتك فإن الخشوع خشوع القلب).
ليست القضية هي هذه المظاهر التي في صدقها خير كثير بإذن الله عز وجل، لكنها في بعض الأحوال تكون من مداخل الشيطان.
ورأت عائشة رضي الله عنها فتية يمشون مشية ضعيفة وقد انحنت رءوسهم، فقالت: (من هؤلاء؟ قالوا: قوم عباد نساك، قالت: رحم الله عمر كان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع، وكان هو والله الناسك حقاً).
وأذكر ثلاثة آثار أراها من أعظم الآثار ذات التمييز والتمحيص، والتي يظهر أثرها فيمن يشهدها، ويكون لها فعلها في الناس: نحن نعلم أن أعظم شيء تنخلع له القلوب، وترتعد له الفرائص، وترتجف منه الأوصال، وتقشعر منه الجلود؛ هو الموت والخوف على الحياة، هذا أكثر ما يجعل الإنسان مضطرباً خائفاً حائراً زائغاً، فإذا جاء الإيمان الحق فإن من أعظم آثاره التحرر من الخوف على الحياة.
كم تحول الناس عن مقتضيات إيمانهم، وتحولوا عن مستلزمات إسلامهم، وغيروا مبادئهم، وباعوا دينهم خوفاً على هذه الرقبة أن تنفصل عن الجسد، وخوفاً على الحياة وتشبثاً بها، ولذلك قد ذم الله عز وجل اليهود بهذا الذم القبيح في وصفهم المستحقين له، قال في حقهم: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96].
يحرصون على الحياة وإن باعوا المبادئ، وإن داسوا على الإيمان، وإن تخلوا عن المعتقد، المهم أن يحيا وأن يعيش.
أما المؤمن فمن أعظم آثار إيمانه أنه إذا وضعت حياته في كفة وإيمانه في كفة ضحى بالحياة في سبيل الله، ورأى أنه ينبغي أن يستبقي إيمانه بالله وإن ذهبت في سبيله الحياة، فهذا يمحص الناس ويفرق بينهم، قد نتزاحم في المساجد وقت الرخاء قد نفعل ما نفعل من أعمال البر والخير؛ لأنها ميسورة، أما إذا جاء الأمر متعلقاً بالروح والموت، والاستشهاد في سبيل الله، أو تقديم الروح افتداء لدين الله عز وجل؛ فهنا يتردد المترددون، وينكث الناكثون، ويتخاذل الضعفاء.(122/19)
الصحابة يثبتون إيمانهم وعدم حرصهم على الحياة
هنا يتميز الناس، وهنا تميز أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا بأحدهم عندما يندق السهم في صدره وينفذ إلى قلبه يضحك ويتبسم ويقول: فزت ورب الكعبة؛ كان أحدهم يقبل على الموت ويذهب إليه ويرمي بنفسه إليه دون أن يختلج له طرف، أو أن يضطرب له قلب، أو أن يخالطه خوف.
هذا أنس بن النضر رضي الله عنه في أحد لما فاتته بدر قال: (لئن أشهدني الله يوماً كيوم بدر ليرين ما أصنع)، فلما جاء يوم أحد وحصل ما حصل من تحول موازين المعركة قال أنس بن النضر: (واهاً لريح الجنة! والله إني لأجد ريحها دون أحد) ثم انطلق ومضى، مضى إلى أي شيء؟ لم يمض ليلقي بموعظة في المسجد أو ليزور أخاً في الله، مضى إلى سيوف تبرق، وإلى دماء تسيل مضى إلى الموت وهو يراه أمام عينيه، فجعل يضرب في صفوف المشركين، ويلقي بنفسه عليهم، لا يعبأ بالموت ولا ينظر إليه، ولا يخشى منه، حتى استشهد وفي جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة، وفي صحيح البخاري عن بعض الصحابة أنه قال: (ليس منها شيء في ظهره).
هؤلاء قوم تحققوا من إيمانهم، أما أن يكون الإيمان أقوالاً وادعاء، وبعض الأعمال التي فيها خير فإن ذلك مرتبة، ومرتبة أعلى منها هي مثل هذه المرتبة عندما مثل بها علي رضي الله عنه فقال: أي يومي من الموت أفر يوم لا قدر أو يوم قدر يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر عندما يهدد الإنسان بالموت أو يرهب بأن تسلب منه الحياة، هنا تظهر آثار الإيمان القوية: هذا عبد الله بن حذافة السهمي لما كان في أسر أهل الكفر قال له عظيمهم وملكهم: تدخل في ديني وأعطيك شطر ملكي.
ينظر منظار المادة، قال: لو أعطيتني ملكك وملك غيرك ما تركت ديني، فجيء ببعض أسرى المسلمين يغمس أحدهم في زيت مغلي يدخل لحماً ويخرج عظماً، ثم الثاني والثالث، ليؤثروا على عبد الله بن حذافة ويقولون: اعلم أن مصيرك كمصيرهم إن لم تجب إلى ما أردنا.
يريدون أن يزعزعوا ثقته، أن يملئوا نفسه رعباً وقلبه خوفاً، لكنه كان في واد آخر غير واديهم، فدمعت عينه دمعة، فأخبر الملك بذلك، فأوقف الأمر وقال: لعله قد لان، ثم سأل: ما يبكيك؟ قال: قد ذكرت أن لي نفساً واحدة تغمس في هذا القدر فتزهق في سبيل الله، ولقد وددت لو أن لي بعدد شعر رأسي أنفس تزهق في سبيل الله عز وجل! بكى أن عنده نفساً واحدة تزهق في سبيل الله، وكان يتمنى أن تكون عنده أنفس كثيرة ليحقق إيمانه، ويبذل حياته في سبيل هذا الإيمان، يريدون منه أن يتزعزع بهذه السيوف التي تبرق بهذا الجبروت الذي يسيطر، لكن إيمانه كان أعلى وأقوى وأسمى من كل ذلك.
وهكذا نجد هذا الأثر واضحاً جلياً في مثل هذه الأمثلة، وليس مقصودنا الاستطراد والاستيعاب.(122/20)
الحرص على متاع الحياة الدنيا محك اختبار لقوة الإيمان
وأثر آخر: هو أيضاً من أعظم الآثار الإيمانية التي نرى ضعفها في واقع حياة كثير منا إلا من رحم الله، وهو أمر المال والحرص على متاع الحياة وعلى لقمة العيش: كثير من الناس يقول لك: مالك تلقي بنفسك إلى التهلكة؟ دعنا نأكل لقمة عيش، ولعله كما في ذهني أن يكون لنا حديث في درس قادم إن شاء الله عن هذا المعنى وحده، فكم أذل الحرص أعناق الرجال! وكم ذهب الذهب بكثير من الأبصار! وكم مال المال بكثير من الرجال! فهذه الحياة الدنيا إذا جاءت المساومة عليها والضغط فيها هنا يظهر الإيمان قوياً، وتتجلى آثار الإيمان العميق، فيبقى الثبات قوياً، وتبقى الدنيا كلها لا قيمة لها في مقابل الإيمان والدين، أما ما يحصل في حياة كثير من الناس بأن يغيروا فيما نهوا، وأن يتلونوا كالحرباء، وأن يبيعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل، فأولئك لا شك في ضعف إيمانهم، وفي تزعزع يقينهم، وفي غلبة الأهواء على نفوسهم وقلوبهم، نسأل الله عز وجل السلامة.
فهذا التحرر من الخوف على الرزق تظهر له أمثلة كثيرة جداً في حياة الصحابة، بل وفي حياة من جاء بعدهم من أهل الإيمان، فـ عثمان رضي الله عنه كان إنفاقه في سبيل الله كثيراً حتى إنه جهز جيش العسرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)، وقصة أبي بكر وعمر شاهدة لهذا، لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى التبرع بتجهيز جيش العسرة كما في سنن الترمذي قال عمر رضي الله عنه: اليوم أسبق أبا بكر، فأخذ عمر رضي الله عنه نصف رأس المال كله بما فيه -كما يقول أهل الأموال- الأصول الثابتة والأموال السائلة، وذهب متبرعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما أبقيت لأهلك يا عمر؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله وشطر مالي، قال: فما هو إلا أن وافى أبو بكر فوضع ما جاء به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله) يعني: تصدق بكل ماله، رأس المال والأرباح، وكل شيء جعله في سبيل الله عز وجل.
ماذا يقال لمثل هذا الصنيع بالمقياس المادي؟ يقال لمثل هذا أو لفاعل هذا من الناس: إنه رجل أحمق وأخرق، وإنه رجل لا يعرف كيف يدبر أمور حياته، ولا يعرف كيف يؤمن مستقبله، ولا يعرف كيف يختزن القرش الأبيض لليوم الأسود كما يقولون، أما الصحابة وأهل الإيمان فكانوا ينفقون ولا يخشون الفقر؛ لأن الدنيا كلها في كفة، ونصرة إيمانهم ودينهم في كفة أخرى، وإذا سوموا على الإيمان بهذه الدنيا والأموال فلا أثر ولا قيمة للدنيا مطلقاً، وقد رأينا قصة عبد الله بن حذافة السهمي.
وذكر عن بعض أهل العلم أنه جيء به في فتنة خلق القرآن ودعي إليها، وكان ممن ينفق عليه من بيت مال المسلمين؛ لأنه يعلم في المساجد، فأبى أن يجيب إلى ذلك فقيل له: إذاً نقطع عنك جرايتك أي: نقطع عنك مصدر الرزق، فماذا قال هذا المؤمن الواثق بالله عز وجل الذي ظهر أثر إيمانه جلياً واضحاً؟ تقول الرواية: فأخذ بزر قميصه فخلعه، ثم قال به في وجه من أمامه قائلاً: ما دنياكم التي عليها تحرصون إلا كمثل زري هذا، هذه الدنيا لا قيمة لها عندنا، نخلعها وقت ما نشاء مثل الثوب أخلعه وقت ما أشاء، وألبسه وقت ما أشاء، ويبقى الجسم والجسد هو الأساس.
وهكذا نجد الأمثلة في ذلك كثيرة، والإمام أحمد قد ضرب في ذلك مثلاً، فإنه ما خشي الموت، ولا مالت به الدنيا حتى جاءه من يهون عليه فيقول له: إن لك أبناء، وإن لك نساء، وإن لك كذا وكذا فقال لمحدثه: يا أبا سعيد إن كان هذا عقلك فاسترح.
أي: هذه عقول تفكر بالتفكير الدنيء بالتفكير الذي لا يرتقي إلى مستوى الإيمان العظيم.(122/21)
مراقبة الله سبحانه وتعالى محك اختبار لقوة الإيمان
ثالث هذه الآثار: وهو الذي نختم به حديثنا، هو الأمر العظيم في يقظة الضمير ومراقبة الله عز وجل: فالمراقبة هي التي تجعل الإنسان في مشهده ومغيبه في ظاهره وباطنه في سره وعلانيته، على مقتضى ما يحب الله سبحانه وتعالى، هذه اليقظة الإيمانية هي التي حكمت قلوب المؤمنين فعرف كل منهم الحق الذي له فلم يتجاوزه، وعرف كل منهم الواجب الذي عليه فلم يقصر فيه، فما وجد اعتداء، ولا وجدت خيانة، ولا وجدت مراوغات، ولا وجدت صور أخرى من صور فساد الحياة؛ لأن الناس كانوا يراقبون الله عز وجل، فيصدقون إذا صدقوا لأجل الله، ويحرصون على الإتقان في أعمالهم لوجه الله، وكل حياتهم فيها استشعار لمراقبة الله عز وجل، بل ربما كان بعضهم إذا كان خالياً بنفسه منفرداً لوحده أكثر احتياطاً وشدة مع نفسه، وتربية لها وتذليلاً لها بين يدي الله منه أمام الناس، وكان كل منهم يستيقن بذلك يقيناً ظاهراً واضحاً بيناً يملك عليه نفسه، والأمثلة أيضاً في ذلك كثيرة؛ وكما قال القائل في هذا الشأن: ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم وكذلك سئل بعض السلف عن غض البصر، كيف الطريق إليه؟ فقال: علمك بأن نظر الله إليك أسبق منك من نظرك إلى ما حرم عليك، يعني: أن تعلم وأن توقن أن الله مطلع عليك، وناظر إليك قبل أن تنظر إلى ما حرم الله عز وجل عليك.
وهكذا كان هذا الإيمان مملكة كاملة تحكم ضمير المؤمن فلا يتجاوز حداً من حدود الله، ولا يرتكب شيئاً من معاصي الله إلا غفلة أو سنة ثم يعود، وهذا من طبيعة الفطرة الإنسانية البشرية، لكن هذه اليقظة الإيمانية هي التي أوجدت الأمثلة الرائعة الرائدة في حياة الأمة الإسلامية، كما ورد في بعض كتب السير والتراجم: أن أبا بكر رضي الله عنه اتخذ عمر قاضياً يقضي بين الناس إذا اختلفوا، فما أتاه أحد، ولا اختلف عنده أحد، ولا احتكم إليه أحد، وقال عمر: (ما حاجتي إلى قوم عرف كل منهم الذي عليه فأداه، وعرف الذي له فلم يتجاوزه).
وهكذا نعلم قصة المسلم من جيش القادسية، رجل من غبراء الناس لم يذكر له اسم، ولا عرف بميزة، أرسله سعد ليبشر عمر بفتح القادسية، وأرسل معه ما أخذ من إيوان كسرى ملك الفرس، وماذا كان فيه؟ كان فيه التاج والذهب واللؤلؤ والجوهر، وأشياء مما لم تكن تخطر على بال أولئك المسلمين الذين عاشوا حياة شظف وبادية ليس فيها شيء من هذا الترف.
فجاء هذا المسلم البسيط من أقصى شمال الجزيرة إلى المدينة وعنده هذه الثروة العظيمة! لم تحص عليه، ولم تدرج عليه، ولم يوقع باستلامها، ولم يدخل في بوابات لتفتش جيوبه، وإنما سلمت له هكذا، ومضى بها في هذا الطريق الطويل، وقدم بها على عمر رضي الله عنه فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين! إن سعداً يبلغك السلام، ويبشرك بنصر الإسلام والمسلمين، وهذا ما في إيوان كسرى.
فنظر عمر إلى هذا فاستعظمه واستكثره، ثم بكى وقال: (إن قوماً أدوا هذا لأمناء، فقيل: لقد عففت فعفوا ولو رتعت لرتعوا).
هذا رجل من عامة الناس ليس مشهوراً، ليس مذكوراً، ليس معروفاً، فهذا نموذج لمن كان الإيمان يحكم حياته ويقوم مراقبته في كل شأن من شئون الحياة، وهكذا تجد أمثلة كثيرة ليس هذا هو مقام ذكرها، وإنما أردت أن أبين أن هذه الآثار الثلاثة من أعظم الآثار التي تميز إيمان المؤمن، وتمحصه وتبين حقيقة موقفه.(122/22)
تذكرة وعبرة
وإذاً: عندما نتحدث مثل هذا الحديث -أيها الإخوة الأحبة- إنما نجعله تذكرة لأنفسنا، ومراجعة لحساباتنا، هل استولى الإيمان على قلوبنا؟ هل حكم مشاعرنا في محبتنا ومودتنا وبغضنا وكرهنا؟ هل ضبط ألفاظ ألسنتنا وكلماتنا؟ هل حكم سلوكنا؟ هل ظهرت الآثار فآثرنا الأخرى على الدنيا؟ هل تحققنا بأثر الإيمان فراقبنا الله في السر والعلانية؟ هل انقلبت حياتنا انقلاباً صحيحاً كاملاً لا حظ فيها ولا شركة لغير الإيمان بالله؟ هل تجردنا لهذه الحقيقة؟ هل وقفنا المواقف الإيمانية التي نعمق فيها حقائق الإيمان لتثبت وتصد كل شيء يعتورها أو يجابهها أو يصادمها من أمور القوة أو الغطرسة أو الجبروت أو الطغيان أو الفتنة أو الشهوة أو المال أو الجاه أو غير ذلك؟ أظن كل واحد منا لو سأل نفسه لوجد في الإجابة تقصيراً كثيراً، ولوجد هناك ما يستدعي أن يلوم نفسه، وأن يعاتبها، وأن يحاسبها، وأن يشدد عليها، وأن يحيي معاني الإيمان في قلبه، وأن يتطلب المواطن والمواضع والأعمال والأحوال التي تعيد الحياة إلى قلبه، والنور إلى نفسه، أن يعيد الارتباط بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، وأهل الإيمان الذين ضربوا لنا الأمثلة الرائعة التي أشرنا إلى بعض منها.
نحن -أيها الأحبة- في حاجة إلى إحياء إيماننا إلى تقويته إلى إزالة الشركة التي دخلت مع إيماننا فصارت لنا أهواء غير مقتضيات الإيمان، وصارت رغبات غير رغبات الإيمان، وصارت لنا أهداف وغايات ومطامح وأمور، بل ربما سلوكيات وأعمال لا تتفق معها سلوكيات الإيمان، ولذلك كان أمر الإيمان فاصلاً ومفاصلاً، ومقتضياته واضحة وجلية، وممحصة مميزة.
فالله أسأل أن يجعلنا من أهل الإيمان والتقوى، وأن يعظم الإيمان في قلوبنا، وأن يرسخ اليقين في نفوسنا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والله أسأل أن يحفظنا، وأن يعصمنا بالإيمان والتقوى، وبالصلاح والاستقامة والهداية، ونسأله جل وعلا لنا ولكم المزيد من التوفيق والسداد، والثبات على الحق، والجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(122/23)
الأسئلة(122/24)
الوسائل المعينة على زيادة الإيمان
السؤال
ما هي الوسائل المعينة على زيادة الإيمان وارتقاء الروح؟
الجواب
أحب -أيها الإخوة- أن نكون صرحاء مع أنفسنا، ولذلك أسأل سؤالاً أوجهه إلى نفسي وإليكم: هل نحن نجهل الوسائل التي تزيد الإيمان أم أننا لا نعمل بها؟ في تصوري أن الجواب يتعلق بالشق الثاني لا بالشق الأول، أيجهل أحدنا أن من أسباب زيادة الإيمان الإكثار من الطاعات والنوافل والصلوات في جوف الليل؟ أيجهل أحدنا أن من وسائل زيادة الإيمان دوام الاستغفار وكثرة الأذكار وتلاوة القرآن، وترطيب اللسان بذكر الله عز وجل؟ أيجهل أحدنا أن من زيادة الإيمان دوام الدعاء والتذلل لله سبحانه وتعالى؟! أيجهل أحدنا أن من وسائل زيادة الإيمان تذكر الآخرة واستحضار الموت واستعظام الوقوف بين يدي الله عز وجل؟ أيجهل أحدنا أن من أسباب تقوية الإيمان زيارة المقابر وتذكر الآخرة؟ أيجهل أحدنا أن المواعظ التي تذكر بالآخرة والآيات التي تذكر بها هي مما يزيد الإيمان؟ أيجهل أحدنا أن الإنفاق وأن الجهاد من زيادة الإيمان وأسباب زيادته؟ أيجهل أحدنا أن من أسباب ضعف الإيمان غفلتنا عن هذه المعاني وارتكابنا للمعاصي؟ أقول: إن أكثرنا إن لم يكن كلنا لا يجهل شيئاً من ذلك، نحن لا نفتقر إلى العلم، بل نفتقر أكثر ما نفتقر إلى العمل، وليس إلى العمل فقط، وإنما إلى استمرار العمل، وليس استمرار العمل فقط، وإنما إلى حقيقة كمال وتأثير العمل، نحن نصلي وقلوب أكثرنا إلا من رحم الله غافلة لاهية، نحن ندعو وأبصارنا تطوف هنا وهناك، وعقولنا تمضي في أودية الدنيا ومشكلاتها ومشاغلها، نحن نقرأ القرآن لكن التدبر قليل لكن التأمل نادر لكن التأثر محدود.
فإذاً: ينبغي أيها الإخوة! أن يواجه كل منا نفسه: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14]، وانظر أخي إلى مواطن تعلم من نفسك فيها تأثراً إيمانياً، وصفاء روحانياً، فانظر إليها أين تكون، والزمها حتى لا تفوتك، ألست في بعض الأحوال تسمع من يذكرك بالآخرة ويشتد عليك ويذكر الآيات فتتأثر ويلين قلبك، وتدمع عينك؟ إذاً: فقد عرفت فالزم، ألست ترى في بعض الأحوال كما يكون أحياناً في رمضان، ومع جمع الناس، ومع كثرة الصلاة والتلاوة أنك سريع العبرة، كثير التذكر، حاضر القلب؟ قد رأيت ذلك، وقد لمسته، وقد عرفته وذقته، فما بالك تتخلى عنه؟ إنه ضعف العزيمة، إنه الانشغال بالدنيا، إنه عدم وجود المذكرات والمرغبات والملزمات التي نتواصى بها فيما بيننا، فنحن كما قلت: لا نجهل، ولكننا لا نعمل، والله عز وجل أسأل أن يبرئنا من هذه العيوب وأن يحيي قلوبنا ويزيد إيماننا.(122/25)
كلمة توجيهية لمن يقعون في الذنوب والمعاصي
السؤال
نريد توجيه الناس إلى ما يفعلونه تجاه ما يحصل لهم من الفتن والظلم والبلاء والوباء والغلاء والفواحش في كلمة جامعة، فجل الناس يشكون من هذا؟
الجواب
هذا كلام حق، فقد كثرت الفتن، وأطلت برءوسها، وتعددت الشبهات، وتغيرت أسماؤها وألوانها، وقد كثرت صور الفساد والفواحش في كثير من البلاد والعباد، ولا شك أن هذا يستلزم مزيداً من التوقي والتحصن ومزيداً من العمل والاجتهاد.
فإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم والرسول عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم والقرآن يتنزل عليه، والبيئة نقية طاهرة نظيفة ليس فيها لغط من القول، ولا فاحش من الفعل، ولا منكر من الأحوال، ولا ظهور بالآثام، ومع ذلك كان الواحد منهم يخشى الذنب والغفلة، كأنما هو محاط بها وغارق فيها، وموجهة إليه سهامها، إذا كان هذا حالهم فما ينبغي أن يكون حالنا! الحق أننا نحتاج أولاً إلى الوقاية من الواردات التي ترد على الأسماع والأبصار، وترد على الأفكار، لأنها تخلص إلى القلب، فتضعف الإيمان، وتزرع الشك، وتبذر بذور الشهوة الآثمة المحرمة، فاصرف بصرك عما حرم الله، وصم أذنك عما حرم الله، وامنع فكرك أن يفكر في غير ما أحل الله حتى تحفظ نفسك أولاً، ومن جميل كلام ابن القيم أنه قال: دافع الخطرة، أي: خاطر السوء الآثم من البداية، فحاول أن تجعل الحواجز وأسباب الوقاية، فإن لم تفعل صارت فكرة تعشعش في رأسك وفي عقلك، فدافعها، فإن لم تفعل صارت شهوة، أي: نزلت إلى قلبك وتمكن حبها منه، فحاربها؛ لأن المسألة تحتاج إلى مدافعة، فإن لم تفعل صارت همة وعزيمة، فحاربها وامنعها، فإن لم تفعل وقعت في الذنب، فتداركه بضده، أي: التوبة والاستغفار، فإن لم تفعل صار عادة يصعب عليك الانتقال عنها.
فينبغي أن نأخذ بأسباب الاحتياط، فلا تجعل سمعك وبصرك وفكرك مفتوحاً لهذه الأمور، ثم تشكو بعد ذلك: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء تبغي النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس(122/26)
بيان مرتبة إنكار المنكر بالقلب
السؤال
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) فهل الإنكار بالقلب دليل على ضعف الإيمان؟
الجواب
هو دليل أولاً على وجود الإيمان، وهو كذلك دليل على رتبة في الإيمان أدنى من غيرها؛ لأن هذه مسألة مهمة يرى بعض الناس أو يظن أو يتوهم أن إنكار القلب لا شيء، وهذا خطأ مخالف لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره) فكل ما ذكر في الحديث من أسباب التغيير: يغيره بيده بلسانه بقلبه فإذاً: الإنكار بالقلب نوع من التغيير، قد يقول قائل: وكيف يكون نوعاً من التغيير ولم تنطق به لسان، ولم تتحرك به يد؟ أقول: أولاً لا بد أن نوقن بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ونؤمن به، ولسنا في شك من هذا، فهو قد أثبت الإيمان للمنكر بقلبه، وأثبت وجود التغيير وحقيقة الإنكار للمنكر بالقلب، وإن كان الإنكار باللسان أو باليد بحسب الإمكان أقوى وأعظم، كيف يكون الإنكار بالقلب مؤثراً؟ أولاً: أعظم أثر له أنه يحفظ الإيمان في قلبك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) إذا لم يتغير قلبك وينكر فقد برئ منك الإيمان إلا أن يشاء الله شيئاً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)، وفي بعض الأحاديث الأخرى: (ولكن من رضي وتابع) أي: من وافق وأحب، وهذا فرقان ما بين أهل الإيمان وأهل النفاق، قد يسكت اثنان عن أمر فلا ينكرانه بلسان، ولا يغيرانه بيد، لكن أحدهم في قلبه حزن وألم وضيق وتبرم لهذا المنكر، وذاك فرح به سعيد، يتمنى لو ارتكب المنكر بنفسه، فهذا فرق عظيم غير ظاهر للناس، ولكنه معلوم عند الله عز وجل.
وأمر آخر: أن القلب إذا تغير فأنكر انقبض عن صاحبه المنكر، فكان هناك نوع مجافاة أو اعتزال، فيرى صاحب المنكر أن القلوب منه نافرة، وأن النفوس عنه منقبضة، وأن الوجوه في وجهه مكشرة، فيجعله ذلك محاصراً حصاراً نفسياً يدفعه إلى أن يترك المنكر ليكون مع الناس.(122/27)
علاقة الهموم والغموم بضعف الإيمان
السؤال
كثيراً ما تتنازع الإنسان الهموم والغموم، فهل هذا من ضعف الإيمان؟
الجواب
ليس على إطلاقه، فإذا كان همك بالإسلام، وغمك على أحوال المسلمين، وضيق صدرك لأنك لا تستطيع أن تؤدي الواجبات كما فرضت عليك، ولأنك تريد أن تعمل بالدعوة والجهاد ولكنك لا تستطيع، فهذا همٌّ جيد وحسن، وهو همّ مطلوب يذكي حرارة الإيمان في القلب ويشعل جذوتها في النفس، وهذا أمر مطلوب، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس حملاً لهم الدعوة والإسلام، حتى قال الله عز وجل في شأنه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] أي: لعلك مهلك نفسك وراءهم تريد إيمانهم، وترغب في إسلامهم، وتحزن لضلالهم.
وقد كان كذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في نفسه وقلبه من الرأفة والرحمة والشفقة على الناس ما يريد به الخير لهم كلهم، وقد قال عن نفسه عليه الصلاة والسلام: (مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجعل الفراش والهوام يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم من النار) وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن.
أما إذا كان مهموماً لأنه لم ينل الترقية، أو مهموماً لأنه نقص راتبه أو لكذا فهذا لا شك أنه هم دنيوي دنيء ينبغي أن يستعلي المسلم بإيمانه عن هذا.
ولا شك -أيها الإخوة- أن هناك أموراً فطرية بشرية؛ الإنسان قد يفقد عزيزاً يموت فيحزن ويغتم، وهذا شيء لا شيء فيه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا)، وإن الإنسان قد تقع به المصيبة أو تمر به الضائقة فينشغل بها فكره، ويقع في قلبه بعض الهم، فلا شيء في ذلك في أمر الحياة وفي الناحية البشرية الفطرية، لكن أن يكون كل همه دنياه ومشاغله، وأمواله وتجاراته، وكل حزنه على ما يفوته من هذه الدنيا، فلا شك أن ذلك من صور ضعف الإيمان.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(122/28)
السيرة العمرية [1]
عمر رضي الله عنه هو ثاني الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وشهيد المحراب، وقرين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في الحياة وبعد الممات؛ كان إسلامه عزة للإسلام والمسلمين، ومناقبه وفضائله كثيرة مشهورة، فيجب علينا إحياء سيرته رضي الله عنه؛ لتتجدد في هذا الجيل المعاني التي كانت في سيرته رضي الله عنه.(123/1)
أحوال المسلمين في هذا الزمان
الحمد لله، الحمد لله الكريم المنان، دعا إلى الطاعة والإيمان، وأمر بالعدل والإحسان، جعل لكل شيء قدراً، وكتب لكل حي أجلاً، أحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه؛ هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بعثه كافة للناس أجمعين، وجعله رحمة للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! لا شك أن أوضاع المسلمين وأحوال مجتمعاتهم تنبئ عن وجود مفارقات ومخالفات، ويظهر من خلالها ذلك البعد عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتفاوت ذلك من بلد إلى بلد ومن فرد إلى فرد، وبقدر هذا التفاوت وبمقدار ذلك البعد يكون العناء والشقاء، وتكون الذلة، ويقع الصغار، وبقدر ما تعود الأمة إلى كتاب ربها، وتسعى إلى تتبع هدي نبيها صلى الله عليه وسلم، بقدر ما ترجع إليها عزتها المفقودة، وهيبتها الضائعة، وقوتها المبددة.
ونحن في هذا الزمن الذي فشا فيه الظلم في كثير من البلاد، وجثم على صدور معظم العباد، تتلهف النفوس إلى العدل الذي يطمئنها، ويدخل عليها السرور.
ونحن في هذا الزمن الذي رق فيه الدين، وضعف فيه اليقين عند كثير من المسلمين، تتلهف قلوبنا إلى نماذج من اليقين الراسخ والإيمان الصادق.
ونحن في هذا الزمن الذي سرى فيه الضعف، وفشا فيه الكسل، ودب بين كثير من أبناء الأمة الخور، نتلفت لنرى صور القوة الإيمانية، ونبحث عن صور العزة الإسلامية.
ونحن في هذا الزمن الذي كثرت فيه المداهنة، وانتشر النفاق، نبحث عن صورة الحزم والعزم والجد والمفاصلة في دين الله عز وجل.
ونحن في هذا الزمن الذي ضُيعت فيه الأمانة، وغابت فيه المسئولية؛ حتى غدت المسئوليات أموراً ملهيات وأموراً مغريات، وأصبحت تعتمد على المجاملات، نبحث عن صورة المسئولية في نموذجها الإيماني الذي يراقب الله عز وجل، ويحرص على مصلحة الأمة.
ونحن في ظل هذه الصور من التخلف والمخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى نحتاج إلى النماذج التي تذكرنا بمنهج الإسلام، وتذكرنا بتربية محمد صلى الله عليه وسلم، وتذكرنا بالتاريخ العريق الذي ضرب فيه المسلمون أروع الأمثلة على شمول هذا الدين وكماله، وعلى تنظيمه لشئون الدنيا ورعايته لأمور الآخرة في المجتمع الإسلامي الذي يرفع شعاراً إسلامياً في كل أمر من أمور الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها، نحن نريد نماذج من مدرسة النبوة.(123/2)
ذكر بعض فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه
عندما كنت أتصفح بعض هذه النماذج رأيت نموذجاً أرى أنه النموذج الذي يعد قمة شامخةً من قمم الإسلام السامقة، تحنو أمامه كل الهامات التي ترتفع غروراً، وكل العظمة التي تنتفخ وليس لها أصل ولا فصل، وعندما نتأمل في هذه السيرة وفي تلك الشخصية نجد كثيراً من الحنين والشوق إليها؛ لما ضاع من معانيها ومعالمها في حياتنا.
إنها معالم السيرة العمرية؛ سيرة الفاروق رضي الله عنه، ثاني خلفاء هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتحدث دائماً ويتردد في آذاننا نبأ العدل العمري، وقصص الحزم العمري، وفصل القول العمري، ونعرف قصة الدرة العمرية، ونعرف العسس بالليل في سيرة عمر، وهكذا أموراً وأموراً كثيرة أخرى، فعندما طالعت بعض هذه المواقف رأيت أنني أنشد إليها شداً، وأنجذب إليها جذباً؛ لأنه بقدر ما يكون فيك من فراغ وضعف بقدر ما تنجذب إلى القوي، ونحن اليوم تغيب عنا كثير من معالم السيرة العمرية في العدل والحزم والجد والمسئولية والورع والتواضع والقوة في الدين؛ فأحببت أن يكون لنا من السيرة العمرية ذكرى نحيي بها ما مات من هذه المعالم والمعاني في عقولنا وقلوبنا، ونتذكرها لتكون واقعاً حياً في حياتنا، وعندما نقول: عمر رضي الله عنه، وعندما نذكر الفاروق رضي الله عنه فليس لنا أن نتحدث عنه بألسنتنا، وليس عندنا من قدرة مهما رأينا من عظمته ومهما رأينا من سبقه وقوته ونصرته لدين الله ليس في أساليبنا ولا في بلاغتنا ولا في إمكاننا أن نصف عمر بمثل ما وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمثل ما نطق به الصديق أبو بكر رضي الله عنه، وبمثل ما قال عثمان وعلي وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إننا في الحقيقة عندما نتحدث عن عمر بألسنتنا نجهل قدر عمر، ونغض من مكانته، وإذا أردنا أن نعرفه أو أن نهيئ القلوب لتلقي سيرته أو أن نحيي في نفوسنا ما مات من هذه المعاني العزيزة، فلنستمع إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في عمر المبشر بالجنة، ففي الحديث الصحيح عند البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال: (بينما أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقيل: لـ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فأسرعت بعيداً منه، وتذكرت غيرتك يا عمر! فبكى عمر رضي الله عنه، وقال: أمنك أغار يا رسول الله؟!)، إنها صورة تمثل لنا تلك الشخصية في وصف النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يعبر عن هيبته من غيرة عمر ومن حياء عمر ومن قوة عمر، وذلك في المنام في رؤيا يرى فيها قصراً لـ عمر في الجنة تتوضأ إلى جانبه امرأة.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده في يوم من الأيام نساء من قريش -ذكر بعض أهل الحديث أنهن من أزواجه- وكن يتحدثن إليه، وتعلو أصواتهن بين يديه، فدخل عمر رضي الله عنه، فانقمعن، وابتدرن إلى حجبهن فقال: يا عدوات أنفسكن أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلن: نعم؛ فإنك فظ غليظ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كذلك -وما كانت فيه فظاظة، ولكنه حزم، وما كانت فيه غلظة، ولكنها قوة وهيبة- فلما رأى ذلك النبي الكريم صلى الله عليه وسلم تبسم وضحك عليه الصلاة والسلام، وقال: (إيهٍ يا ابن الخطاب! والذي نفسي بيده! ما لقيك الشيطان قد سلكت فجاً قط إلا سلك فجاً غيره).
عجباً لهذه القوة، ولتلك الهيبة، ولذلك الإيمان، ولتلك العظمة التي فرق منها إبليس الذي أقسم بأن يغوي بني آدم، وأن يقعد لهم بكل صراط، وأن يقف لهم على كل ناصية، وأن يكون مقدماً لهم في كل ميدان من ميادين الشر، فإذا به ينقمع عن عمر، وإذا به يخشى الفاروق، وإذا به يفرق من الفاروق رضي الله عنه، هكذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
وجاء أن عمر قال: من يحدثنا حديث الفتن؟ فقال حذيفة: أنا يا أمير المؤمنين! فقال: إنك والله! لجريء، قال حذيفة: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فتنة الرجل في أهله وماله وأنها يكفرها الصلاة، قال: لست عن هذا أنشدك، وإنما أسألك عن الفتن التي تموج كموج البحر، فقال حذيفة: يا أمير المؤمنين! إن بينك وبينها باباً -أي: ليست في زمانك ولا في عهدك، ولا يمكن أن ترفع رأسها وبيدك سيفك ودرتك، ولا يمكن أن يظهر صوتها وصوتك بالحق جاهر- فقال عمر رضي الله عنه: أيفتح أم يكسر يا حذيفة؟ قال: بل يكسر يا أمير المؤمنين! قال: فإذاً لا يغلق، فقيل لـ حذيفة: أكان عمر يعلم ما الباب؟ فقال: نعم، فهبنا أن نسأله، حتى سأله بعض منا خفية، فقال: الباب عمر.
رضي الله عنه وأرضاه).
لقد كان يفر منه الشيطان، وتفر منه الفتنة، وينخنس الظلم، ويتوارى الضعف، فكان رضي الله عنه وأرضاه مجمعاً لخصال من الخير عظيمة.
وهذا أنس رضي الله عنه -كما في مسند الإمام أحمد - يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر رضي الله عنه، وأشدهم في دين الله عمر).
عمر ذاك الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، ذاك الذي لا تعرف المداهنة والنفاق إليه سبيلاً، ذاك الذي لا تعرف الشفاعة بغير الحق إليه طريقاً، فهل عرفنا من هو عمر بهذه الأقوال اليسيرة من بعض مناقبه الكثيرة رضي الله عنه؟ إننا عندما نتحدث عن عمر نتحدث عن قول علي رضي الله عنه في مفهوم حديث الفتنة الذي ذكرته، فإنه قال: (إن موت عمر ثلمة في الإسلام لا تُسد إلى يوم القيامة)، ولقد كان علي رضي الله عنه صادقاً مصدقاً في لهجته رضي الله عنه وأرضاه.
وهاهو علي رضي الله عنه -كما في مسند الإمام أحمد - يقول على ملأ من أصحابه، في الزمن الذي ظهرت فيه الفتن، وغلا في علي رضي الله عنه من غلا، فأراد أن يرد الناس إلى الجادة، وأن يعلمهم الصواب، وأن يعرفهم مقادير الرجال، فصاح في صحبه: (ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بلى، قال: أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
ثم صاح مرة أخرى: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد أبي بكر رضي الله عنه؟ قالوا: بلى، قال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه)، فليمت بغيظه كل شانئ لـ عمر رضي الله عنه.
وفي بعض الروايات: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوماً وعن يمنيه أبو بكر وعن يساره عمر، ثم قال: هكذا نبعث يوم القيامة).
ويوم اهتز أحد قال: (اسكن أحد؛ فما فوقك إلا نبي وشهيد وصديق)، هكذا كان عمر رضي الله عنه.
وهذه بعض الملامح والمعالم التي تهيئنا بأن نطيل الحديث في سيرة عمر، وأن نستخرج المخبوء من الكنوز المشعة المضيئة والمعاني العظيمة والدروس الكثيرة في سيرة عمر رضي الله عنه.(123/3)
ذكر بعض وصايا عمر رضي الله عنه
نحن اليوم نرى الناس في عصرنا قد مالوا إلى الدنيا، وشغلت بها عقولهم، وانخطفت من بريقها أبصارهم، وتعلقت بحبها قلوبهم، يوم نرى ذلك نسمع قول عمر يدوي في سمع الزمان، ويصب في قلب كل مسلم ذي إيمان، وهو يقول: (إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم؛ فإن كل محب يخوض فيما أحب).
وعندما نرى ذلك التميع والترخص والخور والضعف والتكاسل والتماوت الذي سرى في كثير من أبناء الأمة الإسلامية، بل في المتصدرين من قوادها وزعمائها، نستمع إلى قول عمر في حكمة موجزة، وكلمات بليغة معبرة سطرها في تاريخه الكريم، في تاريخه الوضيء وهو يقول: (إن هذا الأمر لا يصلح له إلا اللين في غير ضعف، والقوي في غير عنف).
لقد أرسلها حكمة، وطبقها واقعاً، فساس الأمة أعظم سياسة، وكان لها في عهده عظمة لا منتهى لها، حينما دك عروش كسرى وعروش قيصر، وحينما ذهبت جيوش الإسلام تفتح الأمصار، ثم يمضي الخليفة رضي الله عنه وأرضاه يمشي برجليه، ويركب على جمله؛ يتناوب مع غلام له، خرج من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم يشق الصحراء إلى شمال الجزيرة؛ ليأخذ بيده مفاتيح بيت المقدس، ويفتحها باسم الله، ويرفع فيها ذكر الله عز وجل.
هكذا كان عمر رضي الله عنه، وهذا بعض ما يهيئنا إلى سيرته، وعندما نرى في واقعنا كثرة الجدل وقلة العمل نسمع عمر رضي الله عنه وهو يدعو قائلاً: (رحم الله امرأً أمسك فضل القول، وقدم فضل العمل)، فنحن أمة قوالة؛ تجيد كثيراً فن الخطب وتكثر كثيراً من الكلام مكتوباً ومقروءاً، مسجوعاً ومنثوراً ومنظوماً، ثم ليس لها في ميدان العمل إلا النزر القليل الذي لا يقدم متأخراً ولا يحرك ساكناً، إلا ما رحم الله، أما عمر فكان قليل الكلام كثير العمل رضي الله عنه وأرضاه.
وعندما نرى الأمانة التي ضُيعت والمسئولية التي غيبت نسمع عمر يخشى أن يُسأل عن بغلة تعثر في أرض العراق: لِمَ لم يسو لها الطريق؟ ونحن نعلم عمر وهو يعس في الليل؛ لينظر هل من شاكٍ أو من باكٍ أو محزون، ونذكر واقع الأمة اليوم ونسمع عمر وهو ينادي في سمع الزمان: (من استعمل رجلاً لمودة أو قرابة لا يحمله على استعماله إلا ذلك فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ومن استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله)، وعندما يكثر اللغط واللغو، وتمتلئ المجالس بذكر السوءات وتلمس العثرات تأتينا مقالة عمر وهي نصيحة أثمن من الذهب والألماس وكل ما يغلو ويعز في هذه الدنيا وهو يقول لنا: (إياكم والحديث عن الناس! فإنه داء، واشغلوا أنفسكم بذكر الله؛ فإنه دواء).(123/4)
فائدة معرفة سيرة عمر رضي الله عنه
أيها الأحبة! بمثل هذه المقالات اليسيرة أشوقكم لأشتاق معكم ونمضي لنتلمس كل مَعْلَم من معالم سيرة عمر على حدة؛ حتى نجدد مثل هذه المعاني والمعالم؛ لأن أمتنا اليوم قد تغيرت أحوالها كثيراًَ؛ فتحتاج إلى مثل هذه السيرة، وقد حل بها ما حل مما يصفه الواصفون، ويطنب فيه المطنبون، ويفيض فيه الشعراء والأدباء، حتى قال قائلهم في وصف أبناء هذه الأمة وما حل بها من نكبات وما شغلوا به مع ذلك كله من الترهات: ديست كرامتهم واحتل موطنهم وأنفهم راغم في الوحل ممدود وهم إلى اللهو سباقون غايتهم هز الخواصر والأوتار والعود هذا فتىً تائه والعشق ديدنه وذاك صب أسير القلب معمود وثالث طيف ليلاه يؤرقه وتستبد به أجفانها السود وهؤلاء أضاعوا العمر في سفه وآخرون سكارى أو عرابيد أولئك الذين ضلوا من أبناء أمتنا أولئك الذين ضاعوا وغفلوا كيف لنا أن نعيدهم؟! وأن نذكرهم؟! وأن نسعى نحن وهم؟! وأن نتلمس خطا عمر الذي كان واحداً من مدرسة النبوة على منهج الإسلام وبتربية محمد صلى الله عليه وسلم؟! نريد أن نذكر أنفسنا ونذكر مجتمعاتنا وأمتنا حتى تتجدد في الجيل الجديد هذه المعاني والمعالم، كما قال الشاعر: فمن يذكر أبناء العروبة والإسـ ـلام بالعز والإكرام والغلب ومن يقص عليهم ماضياً عطراً ومن يذكرهم بالفتية النجب ومن يعلمهم أن البطولة في إجادة الطعن لا في جودة الخطب وأن دينهم الغلاب منذ أتى لم يقبل العيش بين اللهو والطرب وأن آباءهم سادوا الورى زمناً بالكد والجد لا بالنوم واللعب هذا الذي أرت أن أحييه في نفسي وفي نفوسكم، وأن أذكر به نفسي وإياكم، فالله أسال أن يجدد لنا سيرة الخلفاء الراشدين، وصحب محمد ومن كان معهم من التابعين.
والله أسأل أن يلزمنا هدي نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يلزمنا كتابه.
والله سبحانه وتعالى أسال أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(123/5)
قصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى العمل والاجتهاد في نصرة دين الله عز وجل، وتتبع آثار السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين.
أيها الإخوة الكرام! إنما أردت في هذا المقام أن أهيج القلوب والنفوس إلى سيرة رجل من رجال الإسلام، عاش ثلاثين عاماً في الجاهلية في ظلماتها، فكان نسياً منسياً، وكان ظلماً وظلاماً، ثم أشرق قلبه بالإيمان، فدخل تاريخ البشرية كله، ورفع راية العدل في ربوع الأرض، ونشر نور الإسلام، وأدخله في قلوب ونفوس كثير من الناس بإذن الله سبحانه وتعالى.
كان عمر في الجاهلية نسياً منسياً، فعاد بعد الإسلام ذكراً مجيداً عاطراً.
كان عمر رضي الله عنه في الجاهلية من أشد الناس وأغلظهم وأفظهم، ثم إذا هو في شأن الإيمان والخشية والتقوى من أرقهم في دين الله سبحانه وتعالى، وكان ذا قوة وشكيمة، فإذا به يجعلها قوة في دين الله، وحراسة لدين الله، وحماية لعباد الله، هكذا كان عمر في جاهليته، لم يكن فيه من الصفات والمزايا غير أن خيراً كان يستقر في نفسه، وكانت فيه خلال تتوارى في ظلمات الجاهلية، فاستخرجها الإسلام، وفتح لها الآفاق، ورباها محمد صلى الله عليه وسلم حتى عظمت كأعظم ما تكون الجبال.
فهذه أم عبد الله بنت حنتمة -وهي من المسلمات المهاجرات- كانت تعد عدتها من أجل الهجرة إلى الحبشة، يوم أن كان عمر ما يزال يرسف في أغلال الجاهلية، وكان من أشد كفار قريش على أهل الإسلام، فأتى عمر رضي الله عنه ودارت في ذهنه أول خاطرة من الخواطر المهيئة لإسلامه: كيف يخرج هؤلاء الناس من أرضهم؟ وكيف يتركون أهلهم وقرابتهم؟ وكيف يخلفون أموالهم وديارهم؟ أي شيء سرى في أولئك القوم فغيرهم؟ وأي أمر خالط عقولهم وقلوبهم فنورهم؟ تروي لنا هذه الصحابية قصتها فتقول: لما أردنا أن نرتحل مهاجرين إلى الحبشة أقبل عمر ووقف علي، وكنا نلقى منه البلاء والأذى والغلظة علينا، فقال لي: الانطلاق يا أم عبد الله؟ الرحيل؟ الوداع؟ الفراق؟ الهجرة؟ ترك الأهل والديار والأموال؟ الانطلاق يا أم عبد الله؟ قلت: نعم، والله! لنخرجن في أرض الله؛ لقد آذيتمونا وقهرتمونا؛ حتى يجعل الله لنا فرجاً! إنها كلمات ما سمع بها عمر من قبل، ومبادئ ما رآها متجسدة في الواقع من قبل، فإذا بـ عمر رضي الله عنه يرق، وتفجأه هذه القوة في موقف الحق، وهو يعرف القوة في أسمى معانيها، فيقول رضي الله عنه: صحبكم الله! تقول أم عبد الله: فرأيت منه رقة لم أرها من قبل، فلما جاء عامر بن ربيعة قلت له خبر عمر، فالتفت إلي وقال: لعلك طمعت في إسلام عمر؟ فقلت: نعم، قال: والله! لا يسلم؛ حتى يسلم حمار الخطاب! قالها مستبعداً إسلام عمر، مستنكراً أن يكون هذا الشديد على المسلمين الغليظ عليهم ممن سيكون يوماً ناصراً ومعزاًَ لهم بإذن الله، فانظر إلى أقدار الله كيف تسوق المرء إلى رضوان الله عز وجل، فكانت هذه أول ومضة.
ثم يذكر عمر رضي الله عنه كيف ساقته الأقدار مرة أخرى إلى إشراقة أقوى، فيروي لنا قوله: إنه مضى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعرض له، خرج ليتعرض للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، قال: فإذا هو قد سبقني إلى المسجد.
أي: إلى بيت الله الحرام، قال: فقمت وراءه، فكان يقرأ من سورة الحاقة، قال عمر: ما رأيت مثل هذا الكلام، ثم قلت لنفسي: إنه شاعر، فتلا قول الله عز وجل في هذه السورة: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة:40 - 41]، قال: فقلت في نفسي: فإنه كاهن، فتلا قوله سبحانه وتعالى: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:42]، ثم تلا الآيات، قال عمر رضي الله عنه: فوقع الإسلام في قلبي، ولكن بقايا الجاهلية وظلماتها ما تزال تصارعني، وتأتي دعوة رسول الله مع قدر الله، وتنطلق الدعوة النبوية الكريمة: (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين)، أي: إما بـ أبي جهل.
الذي هو عمرو بن هشام، أو بـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لأنهما كانا أشد الناس على المسلمين، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون إحدى هاتين القوتين للمسلمين على الأقل، فأصابت الدعوة عمر رضي الله عنه.
فتلك ومضة، ثم إشراقة، ثم دعوة، ثم يأتي القدر، ليروي لنا أهل السيرة قصة إسلام عمر رضي الله عنه: اجتمعت قريش لتنظر في شأن قتل محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بدأت هجرة أصحابه إلى الحبشة؛ تريد أن تتدارك الأمر، فقالوا: من يقتل محمداً؟ فقال عمر: أنا لها! كان صاحب قوة ومواقف، ولو كانت غير حق، فقالوا: أنت لها يا ابن الخطاب! فتوشح سيفه، وخرج يتيمم موقع محمد صلى الله عليه وسلم، وقد سمع أنه هو وأصحابه يجتمعون في مكان ما في الصفا، فلقيه رجل -اختُلف في اسمه أو في إسلامه- فجرى بينه وبينه حوار ساقته إليه الأقدار الإلهية، فإذا بهذا الرجل يعترض عمر، وهو قد خرج متوشحاً سيفه ليقتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أراد أن يتوشح سيفه ليقف منافحاً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال له الرجل: أين تريد يا ابن الخطاب؟! قال: أريد محمداً الصابئ الذي فرق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب آلهتها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله، هكذا كان عمر في ذلك الموقف، وهو يعيب محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم انقلب إلى أنه لو سمع شطر كلمة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى لها دواءً إلا قطع لسان صاحبها، أو فصل ما بين رقبته وجسده، هكذا صار عمر رضي الله عنه، فانطلق، فقال له الرجل: لبئس الممشى مشيت يا عمر! وكان رجلاً ذكياًَ حصيفاً، فقال له: والله! لقد غرتك نفسك؛ ففرطت، وأردت هلكة بني عدي؛ أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي في الأرض وقد قتلت محمداً؟! أراد أن يصرف عمر بمثل هذه المقالة المخيفة، لكن عمر لا تثنيه هذه الكلمات العارضة وهذه التهديدات؛ فإنه من علو همته قد قال: أنا لها، فأراد أن يكون لها، وأراد الله عز وجل أن يكون لها بطريقة أخرى، فلم ينثن عمر عن هذا، فلما رأى الرجل عزمه قال: أوغير ذلك يا ابن الخطاب؟! قال: وما ذاك؟ قال: أختك وختنك قد سبقوا إلى دين محمد وصبئوا.
أراد أن يحرف الطريق، فرأى عمر -وقد كان ذلك ديدنه بعد ذلك في خلافته- أن يبدأ بأهله أولاً، فتوجه صوب بيت أخته وختنه؛ حتى يقوم ما اعوج في نظره، ثم ينصرف بعد ذلك إلى الغاية الأخرى، وأراد الله به الخير، فجاء وهم مع خباب بن الأرت يتدارسون القرآن خفية في ذلك الزمن في العهد المكي، فسمع هينمة القرآن، ثم دخل عمر بقوته، وبشدته، وبهيبته، دخل وقد اختبأ خباب رضي الله عنه حينذاك، ودخل عمر يسأل: ما هذه الهينمة التي تُسمع؟ قالوا: لا شيء؛ كنا نتحدث، كانت القلوب ترتعد من عمر خوفاً، لكن قلوب المؤمنين لا تأبه بالطغاة والجبارين، فلما رأى عمر هذه المقالة، قال: والله! لقد سمعت نبأً، وبدأ يرعد ويتوعد، فأراد ختنه سعيد بن زيد رضي الله عنه أن يواجه عمر بالحق، وأن يجهر في وجهه بالدعوة، وأن يظهر علو الإيمان وقوة الإسلام، فقال: يا عمر! أرأيت إن كان الحق في غير دينك؟ فماذا قال عمر؟ لم يكن قوله كلاماً وإنما كان ضرباً ولكماً، فوثب عمر على ختنه يضربه ويصارعه، فجاءت المرأة الضعيفة بجسمها، القوية بإيمانها، العزيزة بإسلامها، جاءت تذوده عن زوجها، وتضربه بيدها، فنفحها نفحة أزاحها عنه، وأدمى وجهها، فتحركت قوة الإيمان في قلبها رضي الله عنها، وقالت: يا عدو الله! أتضربني على أن أوحد الله؟ قال عمر في غيظته وشدته: نعم، فقالت له: ما كنت فاعلاً فافعل؛ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله! فأدركت عمر رقة، وجاءته دعوة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فقال: أعطوني صحيفتكم أقرأ فيها، وما كان هناك ذلك الخوف ولا التميع، فقالت: إنك امرؤ كافر نجس؛ وإنه لا يمسه إلا المطهرون، قم فاغتسل يا ابن الخطاب! فصارت تأمر عمر وتوجهه، فاستكان بداية لسكينة الإيمان، واغتسل عمر، وجاء يقرأ، والروايات في ذلك فيها أقوال كثيرة، ومنها: أنه قرأ أول طه: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه:1 - 6]، قرأها عمر رضي الله عنه فانخلع لها قلبه، ورأى فيها عظمة؛ حتى قال: من كان هذا وصفه لا يصح أن يعبد معه غيره، ثم قال: دلوني على محمد، فدلوه على المكان بعينه، وهو دار الأرقم بن أبي الأرقم في أسفل ا(123/6)
السيرة العمرية [2]
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوياً شديداً في الحق؛ ولهذا لقب بالفاروق؛ لأنه فرق بين الحق والباطل، ومواقفه في نصرة الحق كثيرة جداً، سواء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه أو في زمن خلافته، وهذه الشدة والقوة لم تكن تخرجه عن طور الحق والمشروع، وإنما هي في نصرة الحق وتأييده.(124/1)
مشاهد من قوة عمر رضي الله عنه وشدته في الحق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! القوة العمرية معلم من معالم السيرة العمرية، نجعله موضوع حديثا هذا اليوم، ونحن نستجني سيرة عمر رضي الله عنه، ونعيش معها، وننظر إلى جوانب العظمة فيها، ونستلهم الدروس منها.
وكما أشرت فيما مضى فإن الجوانب العظيمة في الشخصية العمرية، وإن المواقف العظيمة في السيرة العمرية تستحق منا كثيراً من الوقفات، وعديداً من مواقف التأمل والتدبر، وهذا أحدها، وهذا موقف من مواقفها.
فلقد كان عمر مشهوراً بقوته، ومعروفاً بحميته، ولكن لننظر إلى هذه القوة في أي مجال كانت، وفي أي ميدان صالت، ولنرى حدودها ومواقفها، ولنرى منافعها ومآثرها؛ حتى ندرك جوانب النقص في حياتنا، وأسباب الضعف والخور في نفوسنا، وما يُرى في بيئاتنا وكثير من مجتمعاتنا من صور الكسل والخور والخمول مما لا يليق بالمسلم ولا يليق بمجتمع المسلمين، وقد كانت قوة عمر في الحذر من الكافرين؛ فقد كان لا يأمنهم على دينه، وكان لا يأمنهم على رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يأمنهم على أمة الإسلام، وكانت قوته متجسدة في عمق إيمانه، وفي رسوخ يقينه، وفي همة نفسه، وفي علو إيمانه واستعلائه به عند الله عز وجل، فنفسه تأبى عليه إلا أن يكون قوياً في حيطته، شديداً في حذره من أولئك القوم، وقد تجسد ذلك في أوائل حياته في الإسلام، وفي أوائل سيرته مع ركب المؤمنين من صحب محمد صلى الله عليه وسلم.(124/2)
قوة عمر رضي الله عنه وشدة حذره من الكفار
لما أراد عمر الهجرة هو وبعض الصحابة قص علينا خبره؛ فقال: اتعدت -أي: تواعدت- أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل السهمي عند أضاة بني غفار، وكان موعدهم أن من أتى منهم مضى، ومن حُبس تُرك، قال: فجاءني عياش وحبس عنا هشام، ثم مضى هو وعياش بن أبي ربيعة مهاجرين إلى المدينة النبوية قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغا قباء، ونزلا في بني عوف، فجاء أبو جهل وأخوه الحارث، وقد كان أبو جهل أخاً لـ عياش من أمه، وأدركا عمر وعياشاً وهما في قباء، فجاء أبو جهل وقد كان يمثل موقف القوة وصورتها في صف الكافرين، كما كان عمر يجسد صورة من صور القوة في صف المسلمين، فجاء أبو جهل إلى أخيه عياش وهو يريد أن يثنيه عن عزمه، ويريد أن يثبطه عن هجرته، فجاء إليه وهو يقول: إن أمك قد نذرت ألا يظلها سقف، وألا يمس رأسها دهن حتى تراك.
وهذا أسلوب من أساليب الضغط النفسي، وأسلوب من أساليب التأثير العاطفي، وفي بعض الروايات: فما زال أبو جهل يفتل في الذروة والغارب، أي: ما زال يدور ويحور ويناقش ويعارض حتى كأن عياشاً لان له، فالتفت عياش إلى رفيق هجرته عمر يريد رأيه ومشورته، فانظر إلى قوة عمر في شدة حيطته وحذره، فإذا بـ عمر يقول لـ عياش رضي الله عنه: والله ما أرادا إلا دينك.
أي: أي شيء يريدون؟ أهم أحن عليك من أمك؟ أهم ينظرون إلى هذه المعاني الإنسانية؟ أهم يلتفتون إلى هذه الأمور العاطفية؟ وقد كان عمر أبعد في نظره وأعمق في فكره وأقوى في قوته من عياش رضي الله عنه، فهتف بها واضحة قوية: والله ما أرادا إلا دينك! ثم قال: فاحذرهما، ولا تذهب معهما، فوالله لو آذى أمك القمل لادهنت وامتشطت، ولو اشتد عليها حر مكة لاستظلت.
أي: دع عنك مثل هذه الأقاويل المثبطة، ودع عنك مثل هذه الخدعة الهامشية التافهة، إذ كان عمر أعلى وأقوى من هذا كله؛ فقال هذه المقالة لـ عياش، ولكن عياشاً قد تأثر بذلك رضي الله عنه، فقال: ولي مال في مكة آخذه فأعين به المسلمين، لكن عمر ما يزال في موقفه من الحيطة والحذر وقوته في حماية الدين والحياطة له، فقال: إنك تعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فخذ شطر مالي ولا تذهب معهما، فرأى إلا أن يذهب، فقال عمر: أما وقد عزمت أن تذهب فخذ ناقتي هذه؛ فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها.
انظر إلى هذه القوة التي تستمر في هذه المواقف ولا تخور، ولا تنثني، ولا تتغير، بل كان يستمر في الحيطة إلى آخر الأمر، وقد كان من الأمر ما قال عمر، فلما كانوا في بعض الطريق قال أبو جهل: قد استوحشت واستصعبت جملي، فهلا أركبتني ناقتك يا عياش؟! فأناخ عياش، وما عنده حيطة عمر وقوته وشدته، فلما أناخ واستبدل الناقة قيداه وكتفاه، ثم ذهبا به إلى مكة أسيراً يضربانه، وفي بعض الروايات: أنه جلده كل واحد منهما مائة جلدة، وكان أبو جهل يقول: هكذا افعلوا بسفهائكم كما نفعل بسفهائنا.
فـ عمر رضي الله عنه كانت قوته واضحة في الحيطة والحذر من الكافرين؛ لا يأمنهم، ولا يغتر بقولهم، ولا ينخدع بمعسول كلامهم.(124/3)
موقف عمر مع عمير بن وهب
وهكذا كان له موقف آخر: يوم جاء عمير بن وهب بعد بدر، وكان قد خلا بـ صفوان بن أمية يندبان ما كان من قتلى قريش في بدر، ويتحرقان شوقاً لقتل محمد صلى الله عليه وسلم، فأعطى صفوان عميراً مالاً وجهزه ليمضي إلى قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ سيفه وذهب إلى المدينة، بحجة أنه يريد أن يفدي ابناً له عند المسلمين من أسارى بدر، فلما رآه عمر وقد أناخ ناقته عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى سيفه معلقاً برقبته مضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليسبقه إليه، فقال: يا رسول الله! هذا عمير بن وهب عدو الله مرني لأضرب عنقه، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (أدخله علي يا عمر)، فجاء به عمر وهو ممسك بتلابيبه -شد عليه ملابسه- حتى دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتعد فرائصه فرقاً وخوفاً من عمر، فقال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: (أرسله يا عمر!)، فاستجاب عمر أمر النبي عليه الصلاة والسلام، فماذا صنع؟ أكان يترك النبي مع عدو من أعداء الله؟
الجواب
لا، وإنما خرج عمر وقال لبعض الأنصار: ادخلوا فكونوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يخلصن إليه عدو الله، وإنما خرج لأن نفسه لم تتحمل أن ترى هذا الكافر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه قوته في الحذر من الكافرين.
وكانت قوته أيضاً في إذلال الكافرين، فقد كان دائماً يحقق معنى العلو والاستعلاء بالإيمان المأمور به في قوله عز وجل: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، فكان يرى كل مؤمن مهما كان فقيراً ضعيفاً هو أقوى وأعز من كل كافر مهما كان غنياً قوياً فتياً.
وهكذا كان عمر دائماً في كل المواقف تظهر قوته ليذل أهل الكفر والكافرين.(124/4)
قوة عمر رضي الله عنه عند هجرته إلى المدينة
في يوم هجرته يروي علي رضي الله عنه فيقول: ما هاجر أحد من المهاجرين إلا مستخفياً إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه لما أزمع الهجرة توشح سيفه، وتنكب قوسه، وأخذ أسهمه بيده، ثم أتى البيت فطاف متمكناً، ثم صلى خلف المقام، ثم مر على حلق قريش حلقة حلقة وهو يقول: شاهت الوجوه، والله لا يغضب الله إلا هذه المعاصي، ثم نادى فيهم بقوة: من أراد أن تثكله أمه، من أراد أن ييتم ولده، من أراد أن يرمل زوجه فليلحق بي إلى بطن هذا الوادي! فهل لحق به أحد من المشركين؟ لم يجرؤ أحد منهم -وفيهم من فيهم من الصناديد والعظماء- أن يفكر في مجرد اللحاق بـ عمر رضي الله عنه، لقد أذلهم بهذه المقالات الإيمانية وبهذا الاستعلاء الإيماني وهو يطوف بهم في مجالسهم، ويسفههم بلسانه، ويتحداهم بفعله؛ حتى يظهر عزة الإيمان وعزة الإسلام.(124/5)
اعتزاز المسلمين بإسلام عمر رضي الله عنه
وكانت قوة عمر أيضاً في الاعتزاز بالدين وإعزاز المسلمين، فهذا ابن مسعود -كما يروي الإمام البخاري - رضي الله عنه يقول: (ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر رضي الله عنه)، لقد كان في قلبه فيض من القوة، وفي نفسه بحر متلاطم من العزة يأبى إلا أن يعز به هذا الدين، وأن ينصر به إخوانه المؤمنين، فلما أسلم عمر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي قد رأى في الإسلام انتشاراً، وقد رأى في صحبه كثرة تناسب الظهور، فقال عمر: ما ينبغي لنا أن نختفي بديننا، فاستجاب له النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فخرج المسلمون في صفين في أحدهما عمر بن الخطاب فاروق الأمة، وفي الآخر: حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم، فلما رآهم المشركون -ورأوا على وجه الخصوص عمر وحمزة - علتهم الكآبة ودخلهم الهم والغم وما استطاع أحد منهم أن ينطق ببنت شفة، وما تكلم أحد منهم بكلمة؛ لهذه القوة والهيبة التي كان عمر يعز بها دين الله، وينصر بها عباد الله.(124/6)
عزة عمر يوم أحد
ولما كان يوم بدر وانتصر المسلمون، وجاء بعده يوم أحد وحل ما حل بالمسلمين، وجاء أبو سفيان بعد المعركة واندلاع غبارها يسأل: أفيكم محمد؟ أفيكم أبو بكر؟ أفيكم عمر؟ فصاح به عمر: قد أبقى الله لك ما يخزيك يا أبا سفيان! ثم قال أبو سفيان: اعل هبل، قال عمر: الله أعلى وأجل.
فقال: الحرب سجال يوم بيوم بدر، فقال عمر رضي الله عنه: لا سوى؛ قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
وكلما جاء بكلمة رد عليه عمر رضي الله عنه، حتى قال: اعل هبل، فقال عمر رضي الله عنه: الله مولانا ولا مولى لكم، هكذا كان عمر لا يرضى الدنية في دينه، ولا يرضى الضيم على المسلمين ولا الذلة على أمة الإسلام، حتى كان يتحرق ويتحرك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.(124/7)
موقف عمر في صلح الحديبية
ونعلم موقفه الشهير في صلح الحديبية، فبعد أن قُضيت وانتهت بدر وأحد والخندق، وبعد أن أعز الله المسلمين، وجاءوا إلى بيت الله معتمرين، ثم صدوا عنه من قبل المشركين، وجاء بالمفاوضة، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم الرجوع والقبول بالصلح، جاء عمر وقد تحركت غيرته الإيمانية، وحميته الإسلامية فقال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟)، إنها كلمة ما زال عمر يشقها في آذان المسلمين إلى اليوم، هذا هو ظاهر الموقف، أما النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فقد كان مسدداً بالوحي، فقال: (إني رسول الله؛ وإنه لن يضيعني أبداً)، لكن عمر هكذا كان لا يحب أن يرى موقفاً فيه إهانة للإسلام، أو إذلال للمسلمين بأي حال من الأحوال، وهكذا كان عمر في مواجهة الكافرين.
وأيضاً فإن قوته كما ظهرت في نصرة المسلمين، وفي إعزاز الدين، فقد ظهرت في مواجهة الكافرين، فكان في قلبه وفي نفسه شدة وغلظة عليهم، هدفها هو: إعلاء راية الله عز وجل، وإخضاع كل قوي وجبار ومتكبر لنهج الله ولشرع الله ولهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.(124/8)
موقف عمر رضي الله عنه من أسارى بدر
ويوم انجلى غبار المعركة في بدر، وكان بين يدي المسلمين سبعون أسيراً من صناديد قريش، استشار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر، فقال أبو بكر رضي الله عنه: (يا نبي الله! بنو العم والعشيرة والإخوان؛ فإني أرى أن تأخذ منهم فدية، فيكون ما أخذنا منهم قوة، عسى الله أن يهديهم فيكونوا لنا عضداً).
هذه رقة أبي بكر، وهذا لينه، فانظر إلى شدة عمر، وإلى حزمه وقوته رضي الله عنه، لما التفت له الرسول فسأله: (ما ترى يا عمر؟!)، فقال: والله! ما أرى رأي أبي بكر، قد كان صريحاًَ في الحق، قد كان مخلصاً في النطق، قد كان جريئاً فيما يظنه مصلحة للمسلمين، قال: (والله! ما أرى رأي أبي بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان فأضرب عنقه، وأن تمكن حمزة من فلان -أخ له- فيضرب عنقه، وأن تمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه؛ حتى يعلم أن ليس في قلوبنا هوادة للكفار)، وهؤلاء كانوا صناديدهم وقادتهم وأئمتهم، ثم تنزل الوحي من فوق سبع سموات يشير إلى أن رأي عمر رضي الله عنه كان رأياً وجيهاً حكيماً: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:67]، هكذا كان عمر رضي الله عنه في مواجهة الكفر والكافرين.(124/9)
موقف عمر رضي الله عنه من أبي سفيان في صلح الحديبية
وانظر إلى موقف آخر من المواقف الطريفة والعجيبة التي تتجلى فيها قوة عمر بأظهر ما تكون في شدته على الكافرين: يوم نقضت قريش عهدها في صلح الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتدت على حلفائه، ورأت أنها بذلك قد ارتكبت خطأً فادحاً، ويوشك النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرك جيوش الإيمان وجند الإسلام فيسطو على خضراء قريش وبيدائها، فأرسلوا أبا سفيان حكيمهم ومفاوضهم عله أن يهدئ من روع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: شد العقد، وزد في المدة.
فجاء أبو سفيان إلى بيت بنته أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكان منها ما كان؛ إذ طوت عنه فراش النبي صلى الله عليه وسلم، فاستغرب، وقال: (أرغبت به عني أم رغبت بي عنه؟!) فقالت: (إنه فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنك امرؤ نجس)، ثم مضى إلى أبي بكر يريد أن يكون شفيعاً له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أبو بكر، ثم مضى إلى علي وقال: أنت أقرب الناس إلى محمد فكلمه، فقال: (قد والله رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رأياً، ولا يكلمه فيه أحد)، ثم أخطأ أبو سفيان خطأً فادحاً فذهب إلى عمر ليكون شفيعاً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش وكفارها وصناديدها، فأي شيء قال عمر رضي الله عنه؟ قال: (أنا أشفع لكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! والله لو لم أجد إلا الذر لقاتلتكم به)، أين عقلك يا أبا سفيان! أو عمر يشفع في أعداء الله؟ ولو لم يجد من قوة إلا الذر والنمل لقاتل به الكفار؛ من شدته عليهم، وحنقه منهم، وتأديبه لهم، هكذا كان عمر في قوته في مواجهة الكافرين، وهكذا كانت صورته التي جعلته مؤهلاً بعد ذلك لقيادة المؤمنين.(124/10)
قوة عمر رضي الله عنه وصراحته في الحق وموقفه في ذلك يوم الحديبية
ومع هذه القوة في هذه الجوانب كانت لـ عمر قوة في جانب من أهم الجوانب، ذلك أنه كان قوياً في الصراحة في الحق، وقوياً مع ذلك في الالتزام والسمع والطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي موقف الحديبية لما قال له النبي ما قال، سكت عمر، وسكن غضبه، وهدأت حميته، وعلم ما كان من نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال -كما في بعض الروايات-: (فلم أزل أكفر وأستغفر من الذي قلت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية).
ثم انظر أيضاً إلى صراحته التي قد يظهر لأول الأمر أنها لا تتفق مع قوته، فيوم جاء النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية، وأرادت قريش أن ترده، أراد أن يبعث إلى قريش مبعوثاً ليخبرها أن النبي وصحبه لم يأتوا إلا معتمرين، وللبيت معظمين، وما جاءوا محاربين مقاتلين، فدعا الرسول عليه الصلاة والسلام عمر ليبعثه إلى قريش، وهو المؤمن العظيم في إيمانه، القوي الشديد في قوته، لكنه كان أيضاً قوياً في الصراحة، وقوياً في رعاية المصلحة الإسلامية، ولم تكن قوته تهوراً، ولم تكن حميته طيشاً واندفاعاً، فقال للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إني أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب -أي: قومه- أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني، عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمشورة عمر رضي الله عنه، وما كان في ذلك الموقف جبن ولا خوف، بل كان فيه قوة وشجاعة في الحق، ونظر إلى رعاية المصلحة الإسلامية، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم أمره لامتثل؛ فإنه كان وقافاً عند حدود الله، قوياً في التزام أمر الله سبحانه وتعالى.
وفي يوم الحديبية أيضاً بعد أن وقف عمر موقفه، والتزم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، جاء أبو جندل وهو من المستضعفين المسلمين المحبوسين في مكة، جاء وهو يرسف في قيوده، وأبوه هو الذي أمضى العقد ممثلاً لقريش، جاء يريد أن يلتحق بالمسلمين، وتصوروا هذا الموقف: هذا مسلم مستضعف يعذب لأجل دينه، جاء راكباً مقيداً بقيوده، وهو يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخوانه المسلمين رأي العين، يريد أن ينضم إليهم، وأن يلحق بهم، وأن يكون معهم، ولكن العهد والميثاق قد أُبرم، والمسلمون عند شروطهم، ولا أحد أوفى بعهوده منهم، فماذا فعل عمر رضي الله عنه؟ لم يخرق الالتزام، ولم تأخذه شدته وقوته، ولكن كانت قوته فيها التزام، وكانت شدته تظهر على أعداء الإسلام، فقال عمر رضي الله عنه: (فماشيت أبا جندل، وكنت أقول له: اصبر يا أبا جندل! اصبر يا أبا جندل!) هذا جانب الالتزام وقوته فيه، ثم قال له: (إنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم مثل دم الكلب)، وجعل يدني قائم السيف منه، ماذا يريد عمر؟ قال: (وكنت أريد أن يأخذ السيف فيضرب به عنق أبيه)، أي: بدون أن يكون هناك إخلال بالعهد؛ لأن أبا جندل لم يكن ممن أبرم العهد ودخل فيه، قال: (فما زلت أقول له: إنهم المشركون، وإن دم أحدهم مثل دم الكلب، وأدني منه قائم السيف لعله أن يضرب به عنق أبيه، فضن الرجل بأبيه)، ومضت القضية، وهكذا كان موقف عمر رضي الله عنه مع قوته، فهو قوي في التزام أمر الله وفي التزام أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانت قوته طيشاً ولا تهوراً رضي الله عنه وأرضاه، وهكذا ينبغي أن تكون لنا القوة في هذه الجوانب.
فأسأل الله عز وجل أن يرزقنا القوة في دين الله، والقوة على أعداء الله، والقوة في نصرة عباد الله.(124/11)
شدة عمر رضي الله عنه في دين الله عز وجل
أيها الإخوة المؤمنون! عندما نقف هذه الوقفات مع قوة عمر قد يقول القائل: فأين السماحة؟ وأين اللين؟ فأقول: قد أسرف الناس اليوم في أمر السماحة واللين وما يتصل بهما؛ حتى انقلب الأمر إلى مجاملات، ثم إلى مداهنات، ثم إلى منافقات، ثم إلى تنازلات، ثم إلى إعطاء الدنية في الدين، ثم إلى بيع الدين بالدنيا.
نسأل الله عز وجل العافية.
وكأني بـ عمر لو شهد مثل مواقفنا ومجتمعاتنا وأقوالنا لتفجر غيظاً من هذا التميع والتساهل والترخص بحجة إظهار سماحة الإسلام، والإسلام كله سماحة، وكله لين، وكله رفق، لكن فيه شدة، كما قال عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، هذا وصف النبي الكريم ووصف صحبه رضوان الله عليهم، أفلا نرضى أن نأخذ بهذا الوصف؟ أفلا نجرؤ أن نقتفي آثار القوم، وقد كان عمر كذلك، وقد بين لنا حقيقة موقفه في شدته، ولم يدع لقائل مقالاً، ولم يدع لشبهة بقاءً، فإذا هو يخطب الناس عندما ولي أمره، فهو يعلم ما في قلوبهم من هيبته وشدته وقوته، وقد كان الناس في عهد أبي بكر يدنون منه؛ حتى إذا مشى في الطريق جاء صبيان المسلمين إلى أبي بكر يلاعبونه، فيمسح رءوسهم، وهكذا كانت سجيته: لين هين، أما عمر فكان الرجال يفرقون منه، ويتفرقون عنه، ويخافون عندما يرونه، وكانت هذه هيبته وشدته، لكنه جعل لكل شيء موضعاً، فقد رقى المنبر يشرح منهجه في القوة، وقال للناس مقالة عظيمة شرح لهم فيها موقفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر من بعده فقال: (بلغني أن الناس هابوا شدتي، وخافوا غلظتي، وقالوا: قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وأبو بكر والينا دونه، فكيف وقد صارت الأمور إليه؟!) إنه يتحدث بما يجول في خواطرهم، وبما يهجس في نفوسهم، فإنهم يقولون: عمر كان شديداً بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وغليظاً بين يدي أبي بكر، فكيف وقد صارت الأمور إليه، والأمر رهن إشارته؟! فإذا به يقول: (ومن قال ذلك فقد صدق، كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكنت عبده وخادمه، وكان لا يبلغ أحد صفته من اللين والرحمة، وكان كما قال الله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، فكنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه سيفاً مسلولاً حتى يغمدني أو يدعني فأمضي).
لقد كان رضي الله عنه رهن الإشارة وطوع الأمر، فإن دعته قوته إلى أمر وأجيز مضى، وإن منع وقف.
قال: (وكنت مع أبي بكر، وكان من لا تنفد دعته وكرمه ولينه، فكنت خادمه وعونه، أخلط شدته بلينه، وأكون سيفاً مسلولاً حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، ورغم أني وليت أموركم أيها الناس! واعلموا أن تلك الشدة قد أُضعفت -أي: تضاعف، فتصوروا ماذا خالط قلوب القوم وهم يسمعون عمر يقول هذا؟ - ولكن إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، أما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحداً يظلم أحداً أو يتعدى عليه؛ حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن بالحق -هذه هي القوة فانظر إلى اللين- وإني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف ولأهل الكفاف).
وقد كان عمر رضي الله عنه كما قال، فكان منهجاً في القوة فريداً، وكان يضع كل شيء في موضعه وضعاً عجيباً.(124/12)
هيبة الناس من عمر رضي الله عنه لشدته وحزمه
وانظر أيضاً إلى موقف آخر يوضح فيه عمر هذا الأمر توضيحاً عجيباً فريداً: اجتمع بعض الصحابة ورأوا من عمر في شدته ما يدعوهم إلى أن يكلموه في ذلك، فانتدبوا عبد الرحمن بن عوف، وكان أجرأهم على عمر، فجاء إلى عمر وقال: (يا أمير المؤمنين! لن للناس، فإنه يقدم القادم -أي: من بلاد المسلمين- فتمنعه هيبتك أن يكلمك في حاجته حتى يرجع ولم يكلمك، قد خاف الناس أن يكلموك بحوائجهم)، فماذا قال عمر رضي الله عنه؟ قال: (أنشدك الله، أقال لك هذا فلان وفلان؟) أي: هذا ليس قولك وحدك، بل هو قول جمع من الصحابة، فقد كان عمر يعرف ذلك منهم، ويعرف هيبتهم له، وجرأة عبد الرحمن عليه، فقال: (نعم، فقال عمر: يا عبد الرحمن! لقد لنت للناس حتى خشيت الله في ديني، ثم اشتددت عليهم حتى خشيت الله في شدتي، وايم الله! لأنا أشد منهم فرقاً -أي: خوفاً من الله- منهم مني)، أي: أنا أشد خوفاً من الله من خوفهم مني، فأين المخرج؟ فماذا يقصد عمر؟ قال: (إني ألين ولا أترك اللين إلا عندما أرى أنه ضعف في الدين، وأشتد ولا أطلق الشدة إلا أن أرى أنها غلظة ليست في موضعها، وأجتهد في ذلك رعاية المسلمين ومراقبة لله، فوالله! إني لأشد منهم فرقاً منهم مني)، ثم جر رداءه وخرج يبكي رضي الله عنه وأرضاه، فالتفت عبد الرحمن بن عوف وهو يقول: (أف لهم من بعدك يا عمر! أف لهم من بعدك يا عمر!).
وهكذا نجد هذه الفلسفة وهذا الشرح والبيان في موقف عمر في قوته رضي الله عنه، فقد كان كما قال الشاعر: في الجاهلية والإسلام هيبته تثني الخطوب فلا تعدو عواديها في طي شدته أسرار مرحمة للعالمين ولكن ليس يحكيها وبين جنبيه في أوفى صرامته فؤاد والدة ترعى جراريها أغنت عن الصارم المسلول درته فكم أخافت غوي النفس عاديها قد كانت شدة عمر نصرة للحق، وكان لينه تقريباً لأهل الحق، وهكذا كان عمر رضي الله عنه لا تأخذه في الله لومة لائم، وهكذا كان يجسد ما أنبأنا الله عز وجل به في شأن وصف أهل الإيمان الذين يحبهم الله عز وجل ويحبونه، فقد جاء في وصفهم قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، وقد كان عمر كذلك، فقد كان يعس ويرعى شأن العجائز والأطفال والصغار، بل كان يبكي ويرق لهم، بل كان يخدمهم بنفسه رضي الله عنه، وهكذا جسد المعنى الذي ذكره النبي الكريم في قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)، وكان عمر رضي الله عنه يريد بقوته أن يعز الإسلام، وأن يظهر قوته، ويريد بلينه أن يدعو إلى الإسلام وأن يظهر سماحته، فكان في كل موقف داعياً لله عز وجل، وكان في كل موقف ملتزماً أمر الله سبحانه وتعالى، وكان مجسداً لصورة الإسلام الحق في أبهى وأجلى وأنصع صوره، وما أحرانا أن نتلمس مثل هذه القوة بمثل هذا المنهج في سيرة عمر رضي الله عنه.
فالله أسأل أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، والله أسأل أن يجعلنا آخذين بالقوة في الدين، والشدة على أعداء الدين، واللين للمسلمين.(124/13)
السيرة العمرية [3]
اشتهر عمر رضي الله عنه بالعدل؛ فقد كان عادلاً حتى على نفسه وأقرب المقربين إليه وأحب الناس إليه، وكان حريصاً في هذا الباب على متابعة ومراقبة ومحاسبة عماله، حتى لا يحصل منهم حيف أو ظلم على الرعية، وبهذا انتشر العدل في زمنه، وزادت الفتوحات، واتسعت رقعة الدولة الإسلامية، فرضي الله تعالى عن عمر وأرضاه.(125/1)
تولية أبي بكر رضي الله عنه عمر من بعده
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! المسئولية العمرية معلم بارز من معالم السيرة العمرية النورانية، وقد وقفنا من قبل مع قوة عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه، فلننظر إليه اليوم وهو يتحمل أمانة الله عز وجل، وهو يتكلف مسئولية الأمة كلها، فكيف تأهل عمر لهذا المنصب الرفيع، إنه لم يتقدم إليه بنفع من قرابة، ولا بدفع من وساطة، وإنما كان إيمانه في قلبه، ويقينه في فؤاده، وبلاؤه في نصرة دين الله عز وجل، وحفاظه على الأمة، وغيرته على الدين، وشدته على الأعداء، إلى غير ذلك من المواصفات العظيمة التي كانت مؤهلاً لأن يتسلم هذا المنصب الرفيع في أمة الإسلام، وأن يكون خلفاً لـ أبي بكر الذي كان خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
لما اشتد المرض على أبي بكر رضي الله عنه دعا بعض الصحابة من المهاجرين والأنصار، وقال: (اختاروا لكم أميراً من بعدي؛ فإنكم في حل من عقدي وبيعتي، وأوشك أن أنتقل إلى ربي)، فلم يجتمع أمرهم على أحد، وقالوا: (قد فوضنا الأمر إليك يا أبا بكر، فنظر أبو بكر فيمن صحب محمداً صلى الله عليه وسلم فوجدهم كلهم أصحاب فضل وسبق، وكلهم أصحاب جهاد وبلاء، وكلهم أصحاب بذل وعطاء؛ فإذا به يقلب الأسماء اسماً اسماً، وإذا به يتصفح الوجوه وجهاً وجهاً، وإذا به يستنطق التاريخ حدثاً حدثاً ويوماً يوماً، وإذا به يستقر رأيه على عمر رضي الله عنه، ثم ينطلق مستشيراً أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وقد كانت الشورى منهجاً نزل في القرآن وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المسدد بالوحي من الرحمن، وسار على إثره من بعده صحابته رضوان الله عليهم، فأي شيء قيل عن عمر؟ دعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف ليسأله عن عمر؟ فقال عبد الرحمن رضي الله عنه: (ما تسألني عن أمر وأنت أعلم به مني؟) أي: لا يوجد رجل أخبر بـ عمر من أبي بكر، لكن أبا بكر أراد أن يستفرغ جهده في النصح للأمة وتحمل المسئولية في أمر هو من أعظم أمورها وأخطر قضاياها، فقال: (وإن يا عبد الرحمن؟!) أي: وإن كنت به خبيراً فإني أقضي في توليته مستشيراً، فأجاب عبد الرحمن بكلمات موجزات، وقال: (هو والله! أفضل من رأيك فيه)، ولعمري إنها لكلمات عظيمة؛ فأي رأي لـ أبي بكر في عمر؟ إنه رأي التقدير والتعظيم لرجل قد ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام في شأنه على وجه الخصوص ما ذكر، ثم دعا أبو بكر رضي الله عنه عثمان بن عفان رضي الله عنه واستشاره، فقال عثمان: (علمي به: أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله)، ثم دعا أسيداً وبعض الأنصار، فقال أسيد: (اللهم أعلمه الخيرة بعدك)، ثم قال عن عمر: (يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن)، ثم قال مقالة واضحة جلية في أهلية عمر: (ولن يلي الأمر أحد أقوى عليه منه)، وكان الأمر كما قال، فاستقر رأي أبي بكر على عمر، فتكلم بعض الناس في أمر عمر وشدته وقالوا: أتولي بعدك عمر؟! أما تخاف الله يا أبا بكر؟! فأمر أبو بكر أن يجلس، وكان قد أقعده المرض، وقال: أبالله تخوفونني؟! والله لئن سئلت لأقولن: وليت على أمة الإسلام خيرهم)، وكان يرى ذلك أبو بكر والصحابة رضوان الله عليهم، واستقبل عمر رضي الله عنه الخلافة في صبيحة الثلاثاء بعد دفن أبي بكر وانتقاله إلى الدار الآخرة ليلقى ربه ومولاه.(125/2)
مباشرة عمر رضي الله عنه للمسئولية بنفسه
بدأت ملامح القيادة العمرية والتصوير الدقيق لعظمة وأهمية ودقة المسئولية في صورة عملية تكررت في كل لحظة من اللحظات، وفي كل ليلة من الليالي، وفي كل يوم من الأيام عبر عشر سنوات طوال امتدت فيها خلافة عمر رضي الله عنه، ولم يكن الأمر كلاماً وثناءً، ولم يكن قولاً وادعاءً، وإنما كان ممارسة وتطبيقاً تنظر إليه الأمة كلها في شرق الأرض وغربها، عبر مرور الزمان، وعبر تغير المكان، فالكل رأى هذه الصورة المشرقة الوضيئة لمسئولية عمر، ولقيادة عمر، ولنموذج الحاكم المسلم الذي ضرب أمثلة رائعة في شتى المجالات يقصر حديثنا دونها، وتضيق مقاماتنا عن استيعابها، وتقل طموحاتنا وخيالاتنا في هذا العصر الذي تخلفت فيه أمتنا عن أن ندركها أو نتصورها.
فكان أول أمر عمر هو أول أمر ينبغي أن يبدأ به كل مسلم في كل عمل وكل مسئولية صغيرة كانت أو كبيرة، إنه أمر الاستعانة بالله عز وجل، إن المرء ضعيف بنفسه، قليلة حيلته، ذاهبة خبرته ما لم يسدد من الله سبحانه وتعالى، ولقد كان عمر من أعظم الناس اتصالاً بالله، وأعظمهم ارتباطاً وخشية وخوفاً من مولاه، فلما تلقى الأمر ولما تحمل المسئولية كان أول ما قال دعاءً يستعين الله سبحانه وتعالى فيه على أن يعينه، فقال: (اللهم إني ضعيف فقوني، اللهم إني غليظ فليني، اللهم إني بخيل فسخني)، فكان عمر يرى في أمر نفسه شدة، وكان يريد لنفسه في أمر أمته أمراً يحبه الله عز وجل ويرضاه، ثم قال عمر: (لو علمت أن أحداً أقوى على هذا الأمر مني لكان ضرب العنق أحب إليَّ من أن ألي هذه الولاية)، أي: لم تكن فرصة أو غنيمة اكتسبها، ولم يكن شرفاً كان يسعى إليه، ولم يكن أمراً من الفخر كان يتطلع إليه، بل كانت مسئولية عظيمة ناء بها ظهره، وأشغلت ليله ونهاره.
ولذلك بدأ عمر يرسم ملامح المسئولية، وأولها: المباشرة والمشاركة، فلم يتخذ عمر أبواباً، ولم يتخذ حجاباً، ولم يجعل بينه وبين الناس باباً، ولذلك كان أول مجلس جلسه في بداية سياسته أنه بين للناس ما ينبغي أن يؤدى من الرعية للراعي، ومن الراعي للرعية في فقه إيماني عمري، قال فيه عمر رضي الله عنه: (الرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى إلى الله عز وجل، فإذا ركع ركعوا)، بين في هذا أن أمر الصلاح متعلق بصلاحه؛ لأنه القائد والحاكم والآمر والناهي، فإن أدى حق الله وإن خاف الله انعكس ذلك في رعيته، ثم قال للناس: (والله! لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني شيء من أمركم فآلوا فيه عن أهل الصدق والأمانة، ولئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساءوا لأنكلن بهم، ما يكون من أمر بين يدي إلا وأكون أنا الذي أتولاه، وأنا الذي أباشره، وأنا الذي أشارك فيه، لا أكون بعيداً عنكم، ولا مترفعاً عنكم، ولا مبتعداً عن أموركم)، أي: أنه سوف يباشر ذلك بنفسه رضي الله عنه وأرضاه.
ولقد طبق ذلك؛ فكان عمر بنفسه يطعم ويسقي، ويسأل ويفصل، ويقضي ويحكم، ويعس ويستقضي، وكان يذهب كل مذهب، حتى قال فيه الصحابة: لقد أتعبت من بعدك يا عمر! ثم إنه لم يخلد إلى الراحة، ولم يسكن إلى الاستراحة، وإنما كان الأمر عنده مسئولية عظيمة، فهذا معاوية بن خديج يأتي من مصر في زمن عمر يبشره بالفتح ودخول الإسكندرية، فوافى المدينة في وقت الظهيرة، فأتى إلى بيت عمر ناحية مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجده فيه، فدخل إلى المسجد، فلما قدم عمر قالوا: رجل من مصر يسأل عنك، فذهب إلى المسجد فدعاه إلى بيته، ثم قال له: (ما قلت يا معاوية! إذ لم تجدني؟) يعني: أي ظن دار في خاطرك؟ فقال معاوية: (قلت: إن أمير المؤمنين قائل)، أي: نائم في وقت القيلولة، فقال عمر وقد ضرب على صدره: (بئس ما ظننت؛ والله لئن نمت النهار لأضيعن رعيتي، ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي!) قالوا: وكان عمر لا ينام إلا غراراً من ليل أو نهار.
أي: خفقات يخفقها، لا يطمئن فيها قلبه، ولا يغمض جفنه؛ لأنه يرى أنه تحمل مسئولية الصغير والكبير، وشرق الأرض وغربها، والجنود والرعية كلها، فكان لا يرى هذه الراحة ولا يأنس بها؛ لأن في قلبه هماً عظيماً يشارك فيه الأمة في كل مأساة من مآسيها، وفي كل مصيبة من مصائبها، وفي كل حاجة من حاجاتها.(125/3)
موقف عمر رضي الله عنه مع رعيته عام الرمادة
ولما جاء عام الرمادة -وهو عام المجاعة الذي أصاب المدينة وبعض بلاد نجد، وبلغ الأمر مبلغاً- كان عمر أول المشاركين في تحمل هذه المعاناة، وأول المبالغين في الشدة على نفسه رحمة الله عليه ورضي الله عنه، وكان من شأنه -كما ذكر كُتَّاب السيرة- ما روى أسلم -وكان من مواليه والعاملين معه- فقال: (كنا نقول: لو لم يرفع الله المجاعة عام الرمادة لظننا أن عمر يموت هماً بأمر المسلمين)، أي: أنهم كانوا يخشون عليه الموت من شدة همه وغمة لحال الأمة في ذلك الوقت.
وقد روى الواقدي عن بعض أزواج عمر ونسائه: (أن عمر ما قرب امرأة من أهله في عام الرمادة؛ هماً بأمر المسلمين) أي: من شدة همه وتحمل مسئوليته، حيث إنه كان يتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الإمارة: (إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة)، فكان عمر يحمل الأمانة كما ينبغي أن تحمل، وكان يخشى الخزي والندامة خشية لا يتصورها كثير من الناس، وهكذا كان عمر في مباشرته وفي مشاركته لرعيته أنه بين أول صورة من صور المسئولية.(125/4)
توجيه عمر رضي الله عنه وإرشاده للأمة
ثم قام بأمر ثانٍ وهو: أمر التوجيه والإرشاد، وهو أمر من مهمات المسئولية، فأي شيء كان يوصي عمر به رعيته؟ لقد قال لهم في أول أمره وفي بداية خلافته: (اقرءوا القرآن تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية.
اتقوا الله عباد الله! وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإخباري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم)، هذا هو توجيهه لكي يحصل التكامل والتعاون بين الراعي والرعية، حيث قال: (أعينوني على أنفسكم بكفها عني، فلا تشغفوا، ولا تخالفوا، ولا تعتدوا، ولا تظلموا، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإخباري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم).(125/5)
حب عمر رضي الله عنه لنقد الناس ونصيحتهم له
كان عمر رضي الله عنه يطلب من الناس أن ينقدوه وينصحوه، ويوجهوه ويأمروه وينهوه ما دام ذلك بأمر الله وبأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو وهم خاضعون لأمر الله ولهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان يقول رضي الله عنه: (أحب الناس إلي من رفع إلي عيوبي)، ولم يكن ذلك أيضاً إعلاناً سياسياً، ولا قولاً ادعائياً، وإنما كان صورة حية عملية، وكان عمر يأتيه الآتي من الناس ويقول: اتق الله يا عمر! ويهز عمر بقوته وهيبته، فيطأطئ عمر رأسه، وينسكب دمعه من عينه خشية لله عز وجل، وكان يسمع للصغير والكبير، وللقاصي والداني؛ حتى إنه كان يبحث عمن يستشيره ومن يسأله بحثاً عجيباً.(125/6)
مسئولية عمر المالية ومنهجه في ذلك
ثم هناك أمر ثالث في مسئولية عمر المالية، وما أدراك ما ارتباط المسئولية بالنواحي المالية، كان عمر يرسم في ذلك على نفسه ثم على ولاته صورة من أعظم الصور التي يضمن بها ضبط الحقوق ووضعها في مواضعها، فقال للناس من أول يوم وفي بداية أمره: (لكم علي ألا أجتبي من خراجكم ولا من فيئكم شيئاً إلا من وجهه -أي: الشرعي- ولكم علي إذا وقع في يدي ألا يخرج إلا في حقه، ثم قال: إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة ولي اليتيم من مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وان افتقرت أكلت بالمعروف، وإذا أيسرت قضيت، أما أموالكم وخراجكم وبيت مال المسلمين فلا حق له فيه إلا كحق ولي اليتيم، إن افتقر أكل بالمعروف بقدر ما يحتاج مقابل عمله، وإن أيسر استغنى، قال: (وإن استغنيت استعففت)، أي: أنه استغنى من أن يأخذ شيئاً، وإن أخذ أخذ بالمعروف، ثم إن أيسر قضى إلى بيت مال المسلمين.
وهكذا كان عمر في صورته العملية، فقد كان يعمل في بعض الأحوال بالتجارة؛ ليكسب قوته وقوت عياله، فأرسل مرة إلى رجل من الصحابة من يستقرض له أربعة آلاف درهم يريد أن يستعين بها في أمر تجارة من الشام، فرد الصحابي رسول عمر، وقال له: قل له: يأخذها من بيت المال، فإذا غنم فليردها.
فغضب عمر وأسرها في نفسه، وشق ذلك عليه، فلما لقي ذلك الصحابي قال له: (أنت القائل: فليأخذها من بيت المال ثم ليردها؟ قال: نعم، قال: ولعلي إن فعلت ذلك فمت قلتم: أخذها أمير المؤمنين دعوها له، وأؤخذ بها يوم القيامة، لا والله! لا أقدر، ولكن أردت أن آخذها من رجل صحيح شحيح مثلك، حتى إذا مت أخذها من ورثتي)، وهكذا كانت عفة عمر عن الأموال العامة وسياسته ومسئوليته فيها، وقد جاء إليه مرة حفص بن أبي العاص، ودخل إلى بيت أمير المؤمنين، وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبي بكر، وصاحب أعظم منصب في الأمة التي ورثت ملك كسرى وقيصر، فدخل على عمر، فقدم له عمر طعاماً، فأمسك الرجل يده، فقال: (مالك لا تصيب من طعامنا؟!) إنه طعام الخليفة في دار الخليفة في وقت خلافته وعظمته، فقال الرجل: إن طعامك جشب غليظ، وإني راجع إلى طعام لين قد صنع لي فأصيب منه.
فقال عمر: (أو أعجز أن آمر بشاة أو بعناق فتذبح، ثم يسلخ عنها جلدها، ثم آمر بدقيق فيعجن، ثم آمر بهما فيضرم عليهما النار؟) فوصف الطعام حتى عجب الرجل، وقال: والله! إنك لعالم بالطعام يا عمر! فقال عمر رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده! لولا أن تنتقص حسناتي لشاركتكم لين عيشكم؛ فإني سمعت الله عز وجل يقول: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20]).
لقد كان عمر يعف ويتوقأ ويزهد؛ لأنه تلقى ذلك من مدرسة النبوة؛ فقد دخل يوماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نام على حصير أثر في جنبه، فحزن عمر، وجرت دمعته في عينه، وطأطأ رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لك يا عمر؟! قال عمر: كسرى وقيصر في العيش الرغيد الهنيء ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجد بينه وبين الحصير وقاءً يقي جنباً؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم)، هكذا تربى عمر رضي الله عنه، فلم يكن في قلبه تعلق بالمال، ولم يكن في نفسه شغف بالثروة، وإنما كان عنها معرضاً، وفيها زاهداً، ولمصلحة المسلمين مسخراً، ولذلك كان عمر في هذا سريع التجاوب، لقيه مرة أبو الدرداء رضي الله عنه وهو علم من أعلام الزهد في مدرسة النبوة من صحب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لـ عمر يعظه ويذكره ويذكر نفسه: (أتذكر حديثاً حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: وما هو يا أبا الدرداء؟! قال: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب)، فقال عمر: نعم، فقال أبو الدرداء: فما صنعنا بعده؟ فجعلا يتذاكران ويبكيان رضي الله عنهما وأرضاهما).
فإذاً: لم تكن المسئولية عند عمر مغنماً، ولم يكن ذلك في شأنه، وكان يطبق هذا على ولاته أيضاً، كما سنذكر.
وهناك معلم رابع من معالم مسئولية عمر وهو: الدقة والشمولية، والدقة في هذه المسئولية وشمولها لا يخرج عنها صغير ولا كبير، ولا قوي ولا ضعيف، وليس فيها محاباة لأحد، ولذلك كان عمر رضي الله عنه من دقته أنه كان ينظر في إبل الصدقة أمراضها، وكان ينظر إلى البعير من إبل الصدقة قد أصابه المرض، ويقول: (إني لخائف أن أسأل عنك يوم القيامة).
وهكذا قال في الرواية المشهورة التي ذكرها ابن سعد في طبقاته وغيره: (والله! لو أن جملاً مات بشط الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه)، فكان دقيقاً في مسئوليته غاية الدقة، حتى إن علياً رضي الله عنه رآه مرة وهو يمشي ويستبكي، فقال: (مالك يا أمير المؤمنين؟! قال: إبل من إبل الصدقة ند فأنا في أثره حتى أرجعه! فقال علي: لقد أتعبت من بعدك)، وهكذا كان عمر رضي الله عنه.
ثم إنه كان إذا أمر بأمر أو نهى عن نهي جمع أهل بيته وذوي قرابته، ثم قال لهم: (فإني قد أمرت بكذا وكذا، أو نهيت عن كذا وكذا، وإن الناس ناظرون إليكم لمكانكم مني -أي: لأنكم أقرباء الخليفة، أو أصهار أمير المؤمنين- فإذا وقعتم وقعوا، وإذا هبتم هابوا، والله! لا أرين أحداً منكم أتى ما نهيت عنه إلا ضاعفت له العذاب لمكانه مني، فمن شاء منكم فليتقدم، ومن شاء منكم فليتأخر).
وكان عمر رضي الله عنه يتنبه لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2]، وكان يخشى مما ذكر الله عز وجل من وصف اليهود وكبرائهم، وأنهم كانوا يأمرون الناس بما يخالفونه، فكان يطبق ذلك على نفسه وعلى خاصة أهله.(125/7)
بغض عمر رضي الله عنه للمداهنة والمجاملة
كان أيضاً لا يدع مجالاً للنفاق والادعاء والكذب، بل كان دائماً يضع حداً فاصلاً بين الحق والباطل، ولا يقبل مداهنة ولا مجاملة، وكان مرة في مجلسه، فتذاكر بعض الناس مآثر عمر، وهو جالس معهم، فقال بعضهم: (والله! ما رأينا رجلاً أقضى بالقسط ولا أقول بالحق، ولا أشد على المنافقين منك يا أمير المؤمنين! فأنت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: عوف بن مالك -وكان يعلم من عمر عدم حبه للنفاق والمراءاة والمداهنة-: (كذبتم؛ إني قد رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً من عمر أبا بكر رضي الله عنه)، فماذا قال عمر في مثل هذا الموقف، وهو أمير المؤمنين يمدح، ثم يأتي من يقوِّم المدح ويرد ما كان فيه من باطل؟ قال: (صدق عوف، وكذبتم، والله! لـ أبو بكر أطيب من ريح المسك وإني أضل من بعير أهلي)، أي: يوم كان قد أسلم كنت لا زلت بعد في الجاهلية، فهذه بعض معالم المسئولية في سيرة عمر رضي الله عنه.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يتحملون الأمانة حق التحمل، ويقومون بكل ما استرعانا الله عز وجل فيه من المسئولية؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.(125/8)
منهج عمر رضي الله عنه في تولية القضاة ومحاسبتهم
إن من أعظم معالم المسئولية العمرية منهج عمر في تولية الولاة ومحاسبتهم؛ فإنه كان يشرف بنفسه على ما تحته أو ما عنده من الأمور، وكان يولي على الآفاق والأمصار، وعلى الجند والجيوش، فأي الرجال كان يولي عمر؟ لقد كان يعرضهم عوداً عوداً، ويخبرهم واحداً واحداً، ويسأل عنهم، ثم بعد ذلك لا يطمئن حتى يتابع أعمالهم، فكان عمر رضي الله عنه يقول: (إني لأستحيي أن أستعمل رجلاً وأنا أجد أقوى منه)، أي: ولو كان هذا الرجل صالحاً لهذه المسئولية، ولكن هناك من هو أصلح منه، فإن عمر كان لا يرى جعله على هذه الولاية وهذا الشأن، وهكذا كان عمر رضي الله عنه على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم الذي حذر من مغبة آخر الزمان، وذكر من أوصافه: (أنه يوسد الأمر إلى غير أهله، وتضيع الأمانة)، أما في عهد عمر فقد كان معلم النبوة بارزاً ظاهراً، ولذلك كان كثيراً ما يستشير أصحابه ويقول: دلوني على رجل لأمر كذا وكذا، فذكروا له فلاناً من الناس، فقال: لا حاجة لي فيه، قالوا: فمن تريد يا أمير المؤمنين! قال: (أريد رجلاً إذا كان في قوم وليس أميرهم كأنه أميرهم، وإذا كان فيهم وهو أميرهم كأنه رجل منهم)، يريد عمر نموذجاً مصغراً، وصورة منه رضي الله عنه، فقد كان شديداً في الحق ليناً لأهل الحق، كان يريد رجلاً إذا كان في الناس وليس أميرهم كأنه أميرهم من حبهم وتوقيرهم له، وتقديمهم إياه، وإذا كان فيهم وهو أمير عليهم كأنه واحد منهم من قربه منهم، ومن لينه معهم، ومن بساطته بينهم، ومن عدم غلظته عليهم، وهذه المواصفات لم تكن خيالاً أو تنظيراً، بل كان عمر يمحص ويمهد ويختبر وينتقي مثل هذه المواصفات في أعيان الصحابة وأعيان الرجال الأبطال ممن جاء بعدهم.
وكان إذا ولَّى رجلاً كتب له كتاباً، وأشهد عليه جمعاً من الأنصار والمهاجرين؛ حتى يعظم المسئولية في نفس هذا الوالي، وحتى يعظم خوف الله في قلبه، فكان يقول له فيما يكتب عليه مما قد يشابه اليوم ما يسمى بالقسم الذي يقسمه أصحاب المسئولية أو نحو ذلك، كان يقول له في كتابه: (إنه ينبغي له ألا يظلم أحداً في جسده، ولا في ماله، ولا يستغل منصبه لفائدة أو مصلحة له، ولا لمن يلوذ به)، وكان يقول لولاته: (إني لم أستعملكم على دماء المسلمين ولا على أعراضهم، ولكن أستعملتكم لتقيموا الصلاة، وتقسموا بينهم، وتحكموا بالعدل.
إني لم أبعثكم جبابرة، ولكن بعثتكم أئمة؛ فلا تضربوا المسلمين فتضلوهم، ولا تمدحوهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم فتظلموهم)، وكان يشهد على هذا الكلام عندما يولي الولايات، وكان يأخذ على كل والٍ ألا يغلق بابه دون الناس.
بل قد ورد في بعض السير أنه بلغه أن بعض ولاته اتخذ قصراً أو داراً وجعل له باباً، فبعث إليه محمد بن مسلمة -وكان المفتش الإداري العام عند عمر رضي الله عنه- وبعث معه من يحرق هذا الباب أول بلوغه، وقال: (اتخذت باباً دون الناس حتى لا يصل إليك ذو الحاجة المظلوم؟!) وهكذا كانت ولايته رضي الله عنه، وقد كان ولاته من الصحابة، فكيف إذا كانوا من غيرهم؟! ورد أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: (أن سو بين الناس في مجلسك وجاهك؛ حتى لا ييئس ضعيف من عدلك، ولا يطمع شريف في حيفك).
ثم بعد هذا الاختيار والانتقاء والوصايا والإشهاد لا يقنع بذلك، فقد قال مرة لجمع من الناس: (أرأيتم إن استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته بالعدل أكنت قضيت الذي علي؟ -أي: هل أخليت مسئوليتي باختيار الأفضل وتوصيته وأمره؟ - قالوا: نعم يا أمير المؤمنين! قال: لا؛ حتى أنظر في عمله: أعمل بما أمرته أم لا؟).(125/9)
اتخاذ عمر رضي الله عنه مبدأ الإشراف والمراقبة والمتابعة لعماله
كان عمر يأخذ مبدأ الإشراف والرقابة والمتابعة، وأذكر نموذجاً واحداً من نماذج شتى يضيق المقام عن حصرها، هذا أحد النماذج التي كان عمر يفتح لها صدره وبابه ليسمع شكاية الناس في الولاة، ثم يأتي بالوالي والرعية في المجلس بين يديه، وينظر أمير المؤمنين في القضية: سعيد بن عامر الجمحي رضي الله عنه كان والياً لـ عمر على حمص، فجاء إليه أهل حمص، فسألهم عن أميرهم، فشكوا إليه أربع خصال، فاستدعاه عمر من حينه إلى المدينة إلى مقر الخلافة؛ ليكون في مجلس القضاء الفصل، والحكم بالعدل بين يدي عمر رضي الله عنه، فجيء بـ سعيد وجيء ببعض أهل حمص الذين قالوا هذه المقالة، وتقدموا بشكاواهم، وكان سعيد بن عامر يدافع ويرد على ذلك بين يدي عمر، وقبل أن يقدم على عمر قال: (اللهم لا تخيب فراستي فيه)، فقد كان عمر يحزن أشد الحزن إذا وجد في ولاته تغيراً؛ لأنه كان ينتقيهم ويختارهم، ويتفرس فيهم، وينظر فيهم بفراسة المؤمن التي آتاه الله إياها، فكان يرى سعيد بن عامر مثلاً من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يحب أن يكون فيه نقص أو تغير، لكنه كان يرى العدل، وكان يرى ضرورة ضبط الأمور في هذه المسئولية، فلما جاء أهل حمص قال لهم: ما شكايتكم؟ قالوا: كان لا يخرج إلينا حتى يرتفع النهار، فالتفت عمر إلى سعيد: ما تقول؟ فيقول: أما إني ما كنت أحب أن أقول، ولكنه ليس لأهلي خادم، فإذا أصبح الصباح عجنت عجيني، وخبزت خبزي، فلا أخرج لهم إلا وقد مضى من النهار شيء، فحمد الله عمر رضي الله عنه، ثم قال لأهل حمص: وما شكايتكم؟ قال: لا يرد على أحد بالليل، فالتفت إليه عمر، فقال: قد تركت النهار لهم، وتركت الليل لربي، فحمد الله عمر رضي الله عنه، ثم قالوا له: إنه يغيب عنا يوماً في الشهر فلا يظهر إلا آخر النهار، فقال: أما إني كنت لا أحب أن أقول، ثم قال: إنه ليس لي إلا ثوب واحد، فإذا اتسخ غسلته، وانتظرته؛ حتى يجف، فأخرج إليهم متأخراً، قالوا: وكان يغشى عليه المرة بعد المرة، أي: يصاب بإغماء، قال: أما إني ما كنت أريد أن أقول، ولكني شهدت مصرع خبيب بن عدي رضي الله عنه في مكة يوم صلبه كفار قريش وقالوا له: أتحب أن محمداً صلى الله عليه وسلم مكانك؟ فقال: ما أحب أن يشاك محمد صلى الله عليه وسلم بشوكة وأنا آمن في أهلي، ثم قتل، قال: ففي نفسي أني لم أكن نصرته يومئذٍ، وكنت من الكافرين، فكلما ذكرت موقفه أُغمي علي، فحمد الله عمر على أن هذا النموذج من ولاته يمثل سياسته ويمثل نظرته للمسئولية، ثم بعث به إلى حمص مرة أخرى، وبعث في إثره بأربعة آلاف درهم، كتب له أن ينفقها على نفسه وأهله؛ لأنه قد بلغت حاله من الزهد والفقر مبلغاً عظيماً، فدخل سعيد بن عامر على أهله -وقد كان في ذلك الوقت يتوقع مجيء جيش من جيوش الكفر- وهو مهموم مغموم، فقالت له زوجته: أي شيء يا سعيد! أجاء العدو؟ قال: لا، بل أعظم، قالت: فاذكر من عندك، قال: فإني لا آمنكم عليه، قالت: خذ الأمان لنفسك، قال: قد بعث عمر إلي بأربعة آلاف درهم، وأمرني أن أنفقها على نفسي وأهلي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن فقراء المهاجرين يسبقون أغنياءهم إلى الجنة بأربعين خريفاً)، وأخشى ألا أكون من السابقين، قالت: قد أمنتك، فدونك المال، فجعل يربطه خرقاً خرقاً ويوزعه، حتى ما انتهى يومه إلا وقد وزعه كله.
فهذا نموذج من نماذج ولاة عمر رضي الله عنه، وهذه ثمرة ذلك النظر الثاقب في الرجال، وتلك المراقبة الدقيقة في متابعة الأعمال، فرضي الله عن عمر على ما قدم لأمة الإسلام والمسلمين.
ونسأل الله عز وجل أن يجدد فينا سيرة عمر وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.(125/10)
عمر رضي الله عنه والتنمية
أما التنمية العمرية فقد ساس عمر الناس وقادهم وسعى في صلاحهم، وجهد في خيرهم وعطائهم ورخائهم؛ لتبرز لنا صورة مشرقة من صور التطبيق الإسلامي الأمثل لإدارة شئون الحياة، وللتعامل مع مستجدات الأمور، ونحن اليوم نسمع حديث التنمية والرخاء يتردد صباح مساء، وكثير من حديث الناس والساسة وأهل التحليلات والأخبار إنما يدور حول هذه القضايا، وقد مر بنا قريباً مؤتمر السكان والتنمية، وغير ذلك مما هو حديث الناس اليوم عن الدول المتقدمة والدول المتخلفة، وعن الفقر، وعن مستوى المعيشة، وغير ذلك، ويُنسب كثير من النقص والقصور زوراً وبهتاناً واعتداءً وافتراءً إلى دين الإسلام! والإسلام من ذلك براء.
فهذه صورة الحياة الإسلامية والرفاهية الإسلامية في عهد عمر رضي الله عنه تبرز لنا الجانب المهم الذي ينبغي أن يكون يقيناً راسخاً عند كل مؤمن ومسلم، وهو أن الحياة في ظلال القرآن وفي هدي النبي صلى الله عليه وسلم وعلى منهج الإسلام هي الحياة الهنيئة الوضيئة في هذه الحياة الدنيا، وهي التي تؤهل -بإذن الله عز وجل- إلى رضوان الله ورحمته في الحياة الأخرى، وأما غير ذلك فهو الشقاء وإن عظمت الأموال، وهو النكد والتعاسة والبلاء وإن اتسعت أسباب الرزق وتنوعت سبل التقدم، كما قال جل وعلا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].
إن عمر رضي الله عنه كان قد جعل للتنمية أسساً في طبيعة الفكر والحكم والمبادئ التي ساس بها أمته، فجعل المساواة والعدالة والحرية والشورى أسساً تنطلق من خلالها كل الإبداعات، وتتفجر عبرها سائر الطاقات، ويحصل من خلالها التنافس في مجال الخيرات، ولذلك جعل عمر هذه القوائم دعائم وأسساً لم يتخل عنها في إعلانه، ولا في تطبيقه، ولا في ممارسته، فجعل ذلك أمراً بيناً واضحاً، فهو في المساواة يعلن للأمة في ملأ منها قائلاً: (والله! الذي لا إله إلا هو ما أحد إلا وله في هذا المال حق أعطيه أو منعه، وما أحد أحق به من أحد، وما أنا فيه إلا كأحدكم، ولكنا على منازلنا من كتاب الله، وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي: التفريق إنما هو في العطاء والبذل للإسلام، قال عمر: (الرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وضناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته في الإسلام، والله! لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من المال وهو مكانه قبل أن يحمر وجهه)، أي: في طلبه واستجداءً لغيره، قالها عمر بلسانه ثم طبقها بفعله، كما سنتحدث في بعض ومضات من تنمية عمر رضي الله عنه.
لقد كان عمر رضي الله عنه يطبق المساواة عملياً، فحينما جاءت بعض البرد -وهي الثياب الطيبة الرخية من بلاد اليمن- وزع عمر على الصحابة وعلى المسلمين، وأخذ لنفسه مثلهم، ثم لما رقي المنبر قال: (اسمعوا وأطيعوا)، قال: سلمان: (لا سمع ولا طاعة)، قال: (ما بك يا أبا عبد الله، قال: أعطيتنا برداً برداً وأخذت بردين، فقال عمر: قم يا عبد الله بن عمر! من أين هذه البردة؟ قال: إنها لي، وقد أعطيتها لأبي، قال عمر: لم يكن لي ثوب) وكان عمر طويلاً جسيماً، فأخذ ثوب ابنه وجعله معه، فقال سلمان: (أما الآن فقل نسمع ونطع بإذن الله عز وجل).(125/11)
عدالة عمر رضي الله عنه
ثم جاء عمر ليؤسس العدالة، ويبين أنها أمر مهم لكي تستوي الفطرة البشرية، ولكي يمكن أن تنطلق الطاقات والابداعات، فإذا بـ عمر يقول مقدراً حقيقة مهمة هي أعظم من كل الدساتير التي تنادي بحقوق الإنسان اليوم، يقولها عمر في كلمات موجزة: (ليس الرجل بمأمون على نفسه إن أجعته أو أخفته أو حبسته أن يقر على نفسه)، أي: بما لم يكن، وهذا دليل على حرية الإنسان وكرامته في الإسلام، وأن حقه محفوظ، وأن العدل ينصفه من كل من يعتدي عليه أو يجور، وإذا بـ عمر يطبق ذلك عملياً، كما في القصة المعروفة الشهيرة: لما أجرى عمرو بن العاص -وكان والياً على مصر- الخيل سبق أحد الأقباط ابناً لـ عمرو بن العاص، فأخذ هذا الابن درة وضرب بها المصري، وقال: أتسبق ابن الأكرمين؟! فخشي عمرو من هذا الحدث أن يبلغ عمر، فذكرت بعض الروايات أنه حبس الرجل أو أخره، ثم خرج الرجل من مصر إلى المدينة ينشد عدالة عمر، فاستدعى عمر عمرو بن العاص وابنه، وجمع الناس، فلما حق له الحق وعرف الواقعة أعطى درته للقبطي، وقال: اضرب بها ابن الأكرمين، ثم لما ضربه، قال: (جل بها على صلعة عمرو بن العاص، فوالله! ما ضربك إلا من سلطان أبيه)، فقال: القبطي -وقد رأى العدالة-: قد ضربت الذي ضربني يا أمير المؤمنين! وإني مسلم لله رب العالمين، قال: (والله! لو ضربته لما منعتك منه)، ثم التفت إلى عمرو بن العاص وهو يقول كلمته الأثيرة الشهيرة الذائعة: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!).(125/12)
تثبيت عمر رضي الله عنه لأصل الشورى في حياة المسلمين
ويمضي عمر في الأصل الثالث، وهو أصل الشورى في حياة الأمة الإسلامية فيجعله أمراً واضحاً في كل شأن من شئون الحياة، فكانت الأمور في عصر عمر تجد، فكان يشاور رضي الله عنه ولا يستبد، وكان يعطي الحرية لكل من شاء أن يقول بالحق ما شاء، وأن يطلب بالحق ما شاء، ومن ذلك: أنه خرج هو ورجل يقال له الجارود، فمضى معه في الطريق، فإذا بامرأة تعترض طريق عمر، وقالت: يا عمر! لي إليك حاجة، فوقف عمر يسمع منها، فقالت: يا عمر! عهدي بك وقد كنت تسمى عميراً في سوق عكاظ تصارع الفتيان، فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية! واعلم أن من خاف الموت خشي الفوت، فقال الرجل الذي مع عمر: إيهٍ! قد اجترأت على أمير المؤمنين، فأسكته عمر وقال: دعها يا جارود! أتعلم من هذه؟ هذه خولة بنت حكيم التي سمع الله قولها من فوق سبع سموات، فلعمر الله لـ عمر أحرى أن يسمع من قولها.
ويقول حذيفة رضي الله عنه: (دخلت على عمر وهو مهموم حزين، فقلت: ما أهمك يا أمير المؤمنين؟! قال: إني أخاف أن أقع في منكر فلا ينهاني أحد عنه منكم تعظيماً لي)، أي: أنه كان يخشى أن تصد هيبته الناس من أن يأخذوا حريتهم في بيان الباطل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال حذيفة: (والله! لو رأيناك خرجت عن الحق لنهيناك، ففرح عمر لذلك وقال: الحمد لله الذي جعل لي أصحاباً يقومونني إذا اعوججت).(125/13)
الفتوحات في عهد عمر رضي الله عنه
عندما جعل عمر المساواة والحرية والعدالة والشورى مبدأً عاماً في كل جانب من جوانب حياة الأمة تهيأت الأسباب الحقيقية لكل ما يأتي بعد ذلك، فكانت هناك أبواب عظيمة جعلها عمر -بإذن من الله عز وجل وتوفيقه- باباً من أبواب الخير والرخاء والقوة المادية للأمة الإسلامية، ومن أعظم هذه الأبواب: باب الجهاد والفتوحات الإسلامية، لم تكن الأمة في عهد عمر راكنة إلى الأرض، راضية بالدون، مخلدة إلى متاع الحياة الدنيا، ولم تكن ممن يصدق عليها قول الله عز وجل: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38]، لم يثقلهم شيء، فانطلقوا في فجاج الأرض، انطلق صحب محمد صلى الله عليه وسلم يقودهم عمر، ويوجههم ويفرقهم ويوزعهم على شتى البقاع والأمصار، فإذا بعهد عمر عهد الفتوحات العظيمة.
ففي العام الرابع عشر فتحت بعلبك وحمص، وفي العام الخامس عشر فتحت المدائن، وكانت في هذه السنة وبعدها اليرموك والقادسية وفتوح الشام وفتوح العراق، وفي العام السادس عشر فتحت حلب وأنطاكية، وفي السابع العاشر كانت معركة جلولاء وفتحها، وكان فيها من الفيء ثمانية عشر ألف ألف في هذه الوقعة وحدها، وفي السابع عشر فتحت الأهواز، وفي الثامن عشر فتحت حران والموصل وتستر ونصيبين، وفي التاسع عشر فتحت تكريت وقيسارية، وفي التاسع عشر والعام العشرين أيضاً: فتح عمرو بن العاص أرض مصر، وفي العام التاسع عشر فتحت الجزيرة وإرمينيا، ومن بعدها في عام اثنين وعشرين فتحت أذربيجان وجرجان، وهذه بلاد نسمع عنها اليوم قد عفا عليها الزمن بعد أن ذهبت من بلاد الإسلام منذ أن فتحها عمر رضي الله عنه.
وقد كان فتح جرجان ونهاوند على يد المغيرة رضي الله عنه، والدينور وهمدان على يد حذيفة رضي الله عنه، ومن بعد ذلك أتم عمرو بن العاص فتح طرابلس في الغرب، ففتحت البلاد، وتوسعت الأراضي، وزاد الخير، وعم النوال بلاد الإسلام والمسلمين بفضل الله عز وجل ثم بإقامة شريعة الجهاد التي لم تكن إرهاباً ولا قتلاً ولا سفكاً للدماء، بل كثير من هذه البلاد قد فتح صلحاً، وأقر أهل البلاد المسلمين على دخولها، وعلى حكمهم وعلى حفظهم وعلى أداء جزيتهم للمسلمين.
وكذلك كان أعظم هذه الفتوح، وهو فتح بيت المقدس، الذي مضى إليه عمر رضي الله عنه بنفسه، ويأتي لنا حديث عنه بإذن الله عز وجل.(125/14)
موقف عمر رضي الله عنه من الأراضي التي ملكها المسلمون بعد فتحها
ولما فتحت هذه البلاد رأى عمر الخير يأتي من جوانبها كلها، فرأى عمر رضي الله عنه أن هذا المال وهذا العطاء حق للمسلمين، وكان ينظر نظراً بعيد المدى، لا ينظر إلى اليوم والغد فقط، وإنما ينظر إلى الأمة الإسلامية في شتى الأصقاع، وينظر إلى الأجيال التي ستأتي من بعده، فلما فتحت أرض العراق، وكان الشأن أن الأرض والسبي توزع على المقاتلين بحسب بلائهم وبحسب مشاركتهم في الجهاد، لكن عمر رأى أن هذا الفتح أعظم من أن يقسم بين أولئك الجند وحدهم، ثم لا يكون نصيب ولا شيء لسائر الأمة ولا لمن يأتي بعدهم، فماذا صنع عمر؟ لم يستبد برأيه، وإنما جمع أهل الشورى وطرح رأيه مستنبطاً بفقه دقيق عميق من كتاب الله عز وجل، لينظر إلى مصلحة الأمة، وليؤسس لها أسساً تفيدها وتنفعها في قوتها ورخائها وعزتها، قال عمر رضي الله عنه مستنبطاً من كتاب الله عز وجل أن هذه الأرض يرى عمر أن تكون وقفاً لعموم الأمة الإسلامية في عصره والعصور من بعده، وأن يقر أهلها عليها، فلا يكونون من السبي؛ حتى يؤدوا الجزية، ويعطوا الخراج أيضاً، ورأي عمر هذا استنبطه من كتاب الله؛ قال: يقول الله عز وجل: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7]، هذا أمر الفيء بعامته، قال: ثم خص الله به الفقراء من المهاجرين، ففي قوله جل وعلا: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8]، ثم يقول عمر: ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم أي: بالمهاجرين غيرهم، فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، ثم قال: وهؤلاء هم الأنصار فيما نعلم، ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم، فقال جل وعلا: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]، قال: فكانت هذه عامة للمسلمين وللمقاتلين وغيرهم، كيف أقسمها بينهم؟ أيأتي من بعدهم فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الآباء وحيزت؟ نظر عمر هذا النظر فخالفه بعض الصحابة، وخالفه بعض من كان من المقاتلين، وقالوا: حقنا يا أمير المؤمنين! فأعطنا إياه، فاستشار عمر، وما زال يستشير؛ حتى جمع جمعاً من الأنصار من الأوس والخزرج وقال لهم مقرراً كل الحقائق التي أشرت إليها من العدالة والحرية والمساواة والشورى، قال قولاً بسط فيه الرأي لهم، وسطر فيه ما رأى من الخير للأمة، فقال رضي الله عنه وأرضاه: (إني لم أجمعكم إلا لتشتركوا معي في أمانتي التي حملت، وإني واحد منكم كأحدكم، وأنتم الذين تقرون بالحق خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا هواي، معكم من الله كتاب ينطق بالحق، فقالوا: قل نسمع يا أمير المؤمنين! فقال: سمعتم كلام هؤلاء الذين يقولون: إني ظلمتهم حقوقهم، وإني أعوذ بالله أن أرتكب ظلماً، ولئن كنت ظلمتهم شيئاً هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت)، ثم شرح ما سبق أن أسلفته من الآيات، قال: ورأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها -أي: على المسلمين كلهم- لتكون وقفاً لهم، وأضع عليهم فيها الخراج -أي: على الأرض- وعلى رقابهم الجزية، فتكون فيئاً للمسلمين المقاتلة والذرية ولمن يأتي بعدهم، أرأيتم هذه الثغور -أي: البلاد التي على حدود بلاد المسلمين- لابد لها من رجال يلزمونها، أرأيتم هذه المدن -البصرة والكوفة ونحوها- لابد من شحنها بالجند، وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يُعطى هؤلاء إذا اقتسم هؤلاء؟ فأجمع الصحابة على رأي عمر فأمضاه، وكان الخير تلو الخير في ذلك، كما سنذكر بعد.
فهذا باب من أبواب التنمية في الفتوحات وما كان فيها من الغنائم وما جعله عمر وقفاً على الأمة الإسلامية.(125/15)
إحياء عمر رضي الله عنه للأرض الموات
وهناك أمر ثانٍ: وهو إحياء الأرض الموات، كان عمر يذكر الناس بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)، وهذا هو أمر التنمية، وهذا هو أمر الاستصناع والاستثمار، أن تبسط أيدي الناس في أرض الله عز وجل، وأن يعطوا منها، وأن يكلفوا بإعمارها، وأن يستخرجوا خيراتها، وأن يستثمروا ما فيها مما جعله الله من الأرزاق، فرأى عمر رضي الله عنه بعض الناس يأخذون هذه الأراضي ليستصلحوها وليحيوها، لكنهم يحتجزونها ويبقونها كما هي، فقال عمر رضي الله عنه: (إنه ليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين)، ثلاث سنوات للإحياء والاستثمار، أما أن يجعلها تحت يده ليستكثر بها من الأراضي فلا.
وجاء رجل من أهل البصرة إلى عمر وقال: إن قبلنا أرضاً ليست من أرض الخراج، فلو رأيت أن تقطعنيها لتكون مرعىً لخيلي، فكتب عمر إلى أبي موسى رضي الله عنه: (إن كانت كما يقول -أي: هذه الأرض ليست من الخراج، وليس فيها مصلحة للأمة- فأقطعه إياها واجعلها له)، وهكذا كان عمر رضي الله عنه يجعل الناس يأخذون ويعملون ولا يبقى أحد عالة أو فقيراً.(125/16)
حث عمر رضي الله عنه على مبدأ العمل والصنعة والحرفة
كان عمر يأخذ مبدأ ثالثاً: وهو مبدأ العمل والصنعة والحرفة، حتى لا يبقى في الأمة أحد كالاً أو عاجزاً، فقد كان عمر يسمع بالرجل وعبادته وشأنه فيحبه ويعظمه، فيسأل بعد ذلك عن حرفته أو مهنته، فيقال: إنه يُنفق عليه، فيسقط من عينه رضي الله عنه، وكان عمر يقول: (إني لأحب الرجل يعمل العمل ويحترف الحرفة)؛ لأن العمل هو الأساس الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم الأمة أن فيه الشرف والعزة لصاحبه، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (ما أكل أحد قط طعاماً خيراً من أن يأكل من كسب يده) وكان يذكر عن داود عليه السلام أنه كان يأكل من كسب يده، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر للأمة أنه كان يرعى الغنم لأهل مكة بقراريط يأخذها منهم، وهكذا كان عمر بنفسه في أول أمره يتجر لنفسه ويعمل لنفسه، ثم بعد ذلك فرض له الصحابة من بيت المال.(125/17)
إعمار عمر رضي الله عنه للمدن وتخطيطه لها
ثم من معالم التنمية العمرية إعمار المدن وتخطيطها، فليس الإسلام -كما يظن البعض- دردشة أو تخلفاً، رأى عمر رضي الله عنه هذه البلاد وهي تفتح والناس وهم يصيحون في الأرض، فرأى أن يمصر الأمصار، وأن يقيم البلاد، فأنشأ البصرة والكوفة والفسطاط وغيرها من البلاد.
وكان عمر رضي الله عنه يكتب في دقيق الأمور وجليلها، ويفصل في صغيرها وكبيرها، كتب عمر إلى سعد بأن يدعو صاحب التنزيل -وصاحب التنزيل بمثابة رئيس المهندسين الذي يخطط- فيأمره أن يحدد لهم خطط المدينة، وأن يجعل فيها مناهج -أي: شوارع كبيرة، وهي الشوارع الرئيسة كما تسمى اليوم- بعرض أربعين ذراعاً، وما يليها ثلاثين -أي: الشوارع التي أقل منها- وما يليها عشرين وأن يجعل فيها أزقة -وهي: الطرق الصغيرة- عرضها سبعة أذرع ليس دون ذلك شيء.
فقام بهذا العمل، وأسست على ذلك المدن، ثم أيضاً بنوا هذه البيوت بالقصب، ثم جاء الحريق فأحرقها، فاستأذنوا عمر أن يبنوا باللبن، وكان عمر المستشار في كل أمر من أمور الأمة في كل مكان، فكتب إليهم أنه لا بأس بذلك، وكتب إليهم يبين أنه ينبغي ألا يؤدي الأمر إلى الإتراف والركون إلى الدنيا، فقال: (لا يزيد أحدكم على ثلاثة أبيات، ولا تطيلوا في البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة، وابنوا ما لا يقربكم من الترف، ولا يخرجكم من القصد).(125/18)
فتح عمر رضي الله عنه قناة بين النيل والبحر الأحمر
كان عمر ينظر أيضاً إلى أمور عجيبة دقيقة، فقد كتب إلى عمرو بن العاص واستدعاه هو وجماعته من أهل مصر، فلما جاء قال عمر رضي الله عنه: (إن مصر بلد كثيرة الخير والطعام، ولقد ألقي في روعي الرفق بأهل الحرمين والتوسيع عليهم حين فتح الله عليهم مصر وجعلها قوة لهم، ورأيت أن أحفر خليجاً من نيلها حتى يسيل في البحر؛ فهو أسهل لما نريد من حمل الطعام إلى المدينة ومكة، فاذهب يا عمرو! وشاور أصحابك)، يريد أن يفتح القناة بين النيل والبحر الأحمر؛ ليسهل الطريق، فذهب عمرو إلى أهل مصر يستشيرهم فخاف أهل مصر أن يضر ذلك بنيلهم وبشربهم وبزراعتهم، فقالوا: نخشى ذلك، فعظم الأمر على أمير المؤمنين يا عمرو! يعني: اجعله عظيماً وخطيراً حتى يصرف النظر عنه، فجاء عمرو إلى عمر رضي الله عنه يعظم له الأمر، ويهوله عليه، فقال عمر -وله فراسة-: (كأني بك يا عمرو! ذهبت إلى أهل مصر فقالوا: نخشى على مائنا وزرعنا، فعظم الأمر لأمير المؤمنين، قال: والله إنه لكما قلت يا أمير المؤمنين! قال عمر: فامض لما أمرتك فاحفر الخليج، فلا يأتين قابل إلا وقد فرغت منه)، فكان كما كان، فما أتى عام إلا وقد جرت السفن فيما بين النيل والبحر الأحمر كما ذكر أهل التاريخ والسير.
وهكذا كان عمر رضي الله عنه يجهد للأمة، فدون الدواوين، وأنشأ النظم الإدارية الحديثة، ورعى الأمة بسياسة حكيمة، فعم الرخاء والنوال، وهكذا يكون كل من سار على منهج الإسلام، والتزم هدي النبي صلى الله عليه وسلم ورأى العدالة والحرية والمساواة وأخذ بالشورى كما كان عمر رضي الله عنه.
فالله نسأل أن يجدد في أمتنا سيرة عمر رضي الله عنه، وأن ينهج بنا نهج صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(125/19)
انتشار الرخاء في عهد عمر رضي الله عنه
كان عمر رضي الله عنه يأخذ بالإسلام والتقوى، فعم الخير والنوال، وأنقل لكم صورة تبين الرخاء الذي عم بلاد الإسلام في عهد عمر: فهذه أسس السيرة والتاريخ تجمع على هذه المعلومات وهي: أنه ما كان مولود يولد في الإسلام إلا وله من بيت مال المسلمين مائة درهم، فإذا ترعرع -أي: نشأ- وكبر قليلاً صار له مائتا درهم، وكان عمر في أول أمره لا يكتب ذلك للمولود حتى يفطم؛ لأنه لا يحتاج إلى طعام ولا عطاء؛ لأنه يرضع من أمه، فمر مرة فرأى امرأة ومعها غلام يبكي، فقال: (يا أمة اللهّ! انتبهي لغلامك)، ثم بعد فترة رآه يبكي فزجرها، ثم رآها بعد ذلك، فقال: (مالك يا أمة الله؟! قالت: إني أراغمه على الفطام، قال: ولم تفطمينه قبل وقته؟ قالت: إن عمر لا يفرض إلا لمن فطم)، أي: أنها تريد عطاء عمر لأنها في حاجة، فبكى عمر رضي الله عنه حتى غلبه النشيج، ثم قال: (ألا كل مولود في الإسلام له عطاء من بيت مال المسلمين)، أي: أن كل مولود بلا استثناء يعطى من بيت المال بلا منة، وبلا أن يكون هناك داعٍ إلى طلب يمنعه منه الحياء، كل ذلك كان في عهد عمر رضي الله عنه، ثم كان يأخذ كل من كان يحتاج من اللقطاء أو غيرهم؛ حيث جعل لهم نفقة من بيت مال المسلمين، ثم إنه جعل العطاء عاماً في الأمة كلها مما يأتي من الخراج والأرض الموقوفة والغنائم وغيرها، فجعل لأهل بدر ألفين ألفين، وخص الحسن والحسين فجعل لهما خمسة آلاف إلحاقاً بأبيهما علي رضي الله عنه لقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطى بعد ذلك الصحابة السابقين ثلاثة آلاف، وأعطى أسامة بن زيد أربعة آلاف، فجاء عبد الله بن عمر، وقال لـ عمر: (أعطيتنا ثلاثة آلاف، وأعطيت أسامة أربعة آلاف، وليس أبوه في الإسلام مثلك؟ فقال عمر رضي الله عنه: فإن أبوه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وإنه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك)، وهكذا كان يحكم بقدر البلاء في الإسلام والقرابة والصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى فرض لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لكل واحدة منهن اثني عشر ألف درهم، فجاء عطاء عمر إلى زينب أم المؤمنين رضي الله عنها، وقالوا لها: هذا من عمر، فقالت: (رحم الله عمر قد كانت غيري من أخواتي أقدر على قسمه مني)، أي: أنها ظنت أن عمر أعطاها إياه لتفرقه على المحتاجين والفقراء، فقالوا: (بل هو لك، فاستترت منه بثوب، وقالت: أفرغوه، فلما أفرغوه قالت: استروه بثوب، فلما ستروه بثوب، قالت لمولاة عندها: خذي منه قدر يديك، واذهبي به إلى بيت آل فلان، ثم جاءت المرة الأخرى فقالت لها: خذي منه كذا خذي منه كذا، فقالت لها: يا أم المؤمنين! والله! إن لنا في هذا لحقاً، قالت: ما تحت الثوب فهو لكم، -أي: ما بقي- قالت: فكشفنا عنه فإذا هو خمسة وثمانون درهماً، وفرقت كل ذلك، ثم قالت رضي الله عنها: اللهم لا يدركني بعد عامي هذا عطاء لـ عمر)، فماتت قبل أن يحول الحول رضي الله عنها وأرضاها، وكان عمر يعطي كل أحد، ويبلغ عطاؤه كل إنسان، حتى إنه مر مرة بيهودي قد أسن وبلغ به الكبر عتياً، وهو في حالة رثة، فقال له عمر: (من أي أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي، قال: فما لك هكذا؟ قال: أشكو الجزية والحاجة والتعب، فأخذ عمر رضي الله عنه بيده إلى بيت المال وأعطاه، ثم قال: انظروا هذا وأضرابه فأعطوهم من بيت مال المسلمين؛ والله! ما أنصفناه في شيبته وقد أخذنا منه في شبيبته)، وهكذا كان عطاء عمر يصل إلى كل مكان، حتى جاء مرة رجل من أهل العراق اسمه خالد بن عرفطة العذري، فقال عمر: (كيف حال الناس؟) وانظروا إلى حال الناس في عهد عمر، فقال هذا الرجل: (يا أمير المؤمنين! إني تركت الناس يسألون الله أن يزيد في عمرك من أعمارهم، ما أحد وطئ القادسية -أي: شارك فيها- إلا وعطاؤه ألفان أو خمسة عشر مائة وإنه ما من مولود يولد إلا لحق في مائة -يعني: له مائة- وجريبين -أي: كيسين من طعام- كل شهر، ذكراً كان أم أنثى، وما يبلغ لنا ذكر إلا لحق على خمسمائة أو ستمائة) هذا لرجل يصف هذه الحال، ثم يستكثر هذا العطاء لأن هذا العطاء أكثر من حاجة ذلك الصغير أو ذلك البالغ أو نحو هذا، فقال: (فإذا خرج هذا بأهل البيت منهم من يأكل الطعام ومنهم من لا يأكل -أي: منهم الصغير- فما ظنك به؟ إنه لينفقه فيما ينبغي!) رأى هذا أن في هذا زيادة، فأراد من عمر أن يقلل في عطاء الناس، فقال عمر رضي الله عنه: (الله المستعان! إنما هو حقهم أعطوه، وأنا أسعد بأدائه إليهم منهم بأخذه، فلا تحمدني عليه؛ فإنه لو كان من مال للخطاب ما أعطيتموه)، ثم بين أسساً في الاستثمار والتوسع والتخطيط للمستقبل فقال: (ولكني قد علمت أن فيه فضلاً -أي: زيادة- ولا ينبغي أن أحبسه عنهم؛ فلو أنه إذا خرج عطاء أحد هؤلاء ابتاع منه غنماً فجعله بثوابه، فإذا خرج عطاؤه مرة ثانية، ابتاع الرأس والرأسين فجعله فيها؛ فإنه أنفع له، وإني أخاف عليكم بعدي: أن يليكم ولاة لا يعطونكم عطاءً، وإني أنصح لك كما أنصح لأقصى رجل في ثغور المسلمين)، فكان رضي الله عنه يريد منهم أن يستثمروا الأموال، وألا يكونوا معتمدين على العطاء، وهكذا كتب عمر إلى عماله: (أن أعط الناس على تعلم القرآن)، وكانت الجوائز والمنح للسابقين في الإسلام، ولمن يعملون بالأعمال الإسلامية، والتشجيع والمكافئات في هذه الميادين لا في غيرها، فكتب إلى عماله: (أن أعطوا الناس على تعلم القرآن)، فكتب إليه هذا الوالي -وفي بعض الروايات أنه سعد -: (إن الناس قد أقبل بعضهم على تعلم القرآن لا يريد إلا العطاء)، أي: أصبحوا يتعلمون لأجل أن يأخذوا هذه المكافئات من عمر، وهو يريد أن عمر يمنعها، فقال عمر: (أعط على القرآن، وأعط على المروءة والصحبة)، أي: من قصر في تعلم القرآن، ولكنه سبق في ميدان آخر فأعط هؤلاء، وأعط هؤلاء، بل قد أمر عمر رضي الله عنه لامرأة بخادم ونفقته؛ فقد روي أنه رأى امرأة تحمل قربة ماء قد ناءت بها، فسألها عن حالها، فقالت: إني أشكو التعب وليس لي خادم يخدمني، فحمل عنها عمر رضي الله عنه، ثم قال لها: (ائت أمير المؤمنين؛ فلعله أن يخدمك خادماً، فقالت: إني لا أصل إليه، قال: بل تأتينه فتجدينه)، فجاءت فإذا هو عمر رضي الله عنه، فأمر لها بخادم ونفقة.
لقد اتسع العطاء وعم الرخاء في عهد عمر، حتى إنه كان يكتب مع الجيوش الغازية بتسمية الأطباء والقضاة والمرشدين يعينهم ويصرف عليهم من بيت مال المسلمين، وهذا كله من فضل الله عز وجل، ثم من فضل هذا الدين العظيم، وكذلك من الالتزام العظيم من عمر بمنهج الله عز وجل وبما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبإقرار الحق، وإقامة العدل، فكانت هذه الصورة المشرقة، ولم يدع عمر رضي الله عنه لأجل التنمية إلى منع النسل أو تحديده، كما يزعم الزاعمون، ولم يدع إلى أية حلول من هذه الحلول العرجاء العوجاء، وإنما كان عمر يؤسس الأسس المنهجية، ثم يتحرك في صورة عملية، ثم يجعل الأمة كلها على قلب رجل واحد، فكان هذا الخير الذي عم ديار الإسلام والمسلمين، ويتكرر ذلك في كل زمان ومكان بحسب قرب الناس من دين الله والتزامهم شرع الله عز وجل.
فالله نسأل أن يلزمنا دينه، وأن يلزمنا شرعه، وأن يقيمنا على هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يلحقنا بآثار أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين.(125/20)
العدالة العمرية
العدالة العمرية معلم عظيم من معالم السيرة العمرية التي نتفيأ ظلالها، ونستقي أخبارها، ونجني من ثمارها، والعدل أساس في الحياة الإنسانية كلها، وبانعدامه تختل الأمور، وتضطرب الأحوال، وتقع الشحناء والبغضاء، ويفشو الظلم والاعتداء، وما من نفس بشرية ما تزال على فطرتها إلا وهي مفطورة على إباء الظلم، ومفطورة على حب العدل، وتجد أن في العدل راحتها وطمأنينتها، وتجد فيه أساساً لانطلاقها وحريتها، وتجد من خلاله فرصة لعملها واستثمارها، وبدونه تتعطل الطاقات، وتكبت الحريات، وتتبلد الأحاسيس، ويفوت الناس خير كثير.
وعمر رضي الله عنه جاء في فترة من الزمان عصيبة وعجيبة، تضاعفت فيها مساحة الدولة الإسلامية أضعافاً مضاعفة، ودخل فيها في دين الإسلام آلاف مؤلفة، وتشعبت الأمور، واختلفت طرائق الحياة، وتغيرت موارد الرزق، وتفجرت خيرات الدنيا، وكان عمر رضي الله عنه قد عاش مع النبي صلى الله عليه وسلم بيئة فيها بساطة، وفيها محدودية في مساحتها وفي إطارها، ولكنه تعلم المبادئ، وتلقن الأسس، وتلقى المنهج الذي يطبق على الفرد كما يطبق على الأمة وإن بلغت الملايين من البشر، ويطبق على الرقعة الصغيرة كما يطبق على الدنيا كلها في شرقها وغربها، وتلقى قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90]، وقول الله جل وعلا: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، وتلقى من محمد صلى الله عليه وسلم نموذج العدالة الأكمل في فعله عليه الصلاة والسلام، فلذلك جعل عمر رضي الله عنه هذا المعلم ركناً ركيناً وأساساً مكيناً في سياسته، وفي معاملته، وفي إدارته، وفي فتوحاته وجهاده رضي الله عنه وأرضاه.(125/21)
مزايا عدالة عمر رضي الله عنه
ولـ عمر منهجية فريدة متميزة لعلنا أن نشير إلى بعض ملامحها، وأن نقتبس بعض أنوارها في هذه الوقفة الوجيزة التي تقصر عن الإشارة إلى المزايا في عدالة عمر فضلاً عن الإحاطة بها: أولاً: جعل عمر العدالة شعاراً وعنواناً معلناً لكل الناس، ظاهراً في كل المحافل، منصوباً عليهم في كل أمر وفي كل حكم وفي كل قضاء، وهكذا أراد أن يقول للناس: إن العدل حق لكم، وأن العدل أساس في حياتكم.
فنجد عمر رضي الله عنه أنبأ عن ذلك في مقالة بدأ فيها بنفسه، وضرب المثل من شخصه، فقال: (أيما عامل ظلم أحداً وبلغتني مظلمته فلم أغيرها فأنا الذي ظلمته)، إنه يريد أن يقول: إن العدالة أمر لابد أن يكون عاماً شاملاً واسعاً معلناً، وكذلك نجده يكتب إلى ولاته وعماله أن يوافوه في موسم الحج؛ ليلتقي بهم، ويسألهم عن أحوال الرعية، ويسمع ما يقال عنهم من الشكاوى، ويواجههم بها، فلما اجتمع مرة في موسم من المواسم جمع من ولاته وأمرائه قام في الناس رضي الله عنه وأرضاه وقال: (أيها الناس! والله ما أبعث إليكم عمالي ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكني أبعثهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفسي بيده! لأقصنه منه أمام الأمة كلها)، لقد أعلن أمام الأمة كلها ولاة ورعية، ضعفاء وأقوياء، صغاراً وكباراً، أغنياء وفقراء، أن العدالة شعار مرفوع ينبغي أن يعم الناس جميعاً.
ولكن عمر لم يكتف بذلك، بل جعل العدل غاية وأساساً لا مجرد لافتة ترفع، ولا كلمات تقال، وإنما أراد أن يجعله محوراً تنجذب إليه كل الأمور، وتنطلق منه كل الأحكام، وتعود إليه كل الولايات، وترتبط به جميع أمور الحياة التي كان يسيرها عمر رضي الله عنه من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجده لا يتجاوز العدل مطلقاً، ولا يغفل عنه أبداً، ويأمر أن يكون هو الذي يكون المحور الأساسي في شتى الأمور التي تدار في حياة الأمة الإسلامية، فها هو يكتب إلى أبي موسى رضي الله عنه أحد ولاته يبين أن العدل ينبغي أن يكون الغاية، فإن فات في مرحلة فلا يفوتن في الأخرى، وإن وقع خطأ فلا ينبغي أن يسكت عنه، بل ينبغي أن يصحح، فكتب إليه قائلاً: (لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك وهديت فيه إلى رشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل)، وتأمل قول عمر: (فإن الحق قديم لا يبطله شيء)؛ لأن الحق مرتبط بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وقع خطأ في اجتهاد فليصحح، فإن كانت غفلة فلتتبعها يقظة، وينبغي أن يكون عند الإنسان العود إلى العدل والإنصاف، وإلى إحقاق الحق وإزهاق الباطل، ولذلك أراد عمر أن يرسخ المعاني الإيمانية في الآيات القرآنية، كقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58].
ويبين عمر أيضاً في توضيح غاية العدل وأساسه أنه لابد فيه من التجرد والتنزه عن الأهواء، وعدم التأثر بأية عوامل خارجية من قرابة أو صحبة أو معرفة أو علو منزلة، ولا يرقب الوالي في قضائه وفي حكمه وفي قسمه به بين الناس إلا وجه الله عز وجل، ولا يخاف إلا عقاب الله عز وجل، فكان عمر إذا جاءه من يتقاضى جثا رضي الله عنه وأرضاه على ركبتيه، وقال: (اللهم أعني عليهما -أي: على المتخاصمين- فإن كل واحد منهما يريدني عن ديني)، أي: أنه يريد أن أقضي له على حساب ديني وعلى حساب أمانتي وعلى حساب التزامي كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (وما أبالي إذا اختصم إلي رجلان لأيهما كان الحق)، أي: وإن كان للضعيف أو للفقير أو للوضيع، فالحق هو الذي يحكم ولا يحكم عليه، وقال: (ليس بيني وبين أحد من الناس هوادة)، أي: في الحق وإقامة العدل.(125/22)
تقرير عمر رضي الله عنه وترسيخه لمنهج العدل
ثم يمضي عمر في تقرير منهجية العدل وترسيخه داعياً إلى إزالة العوائق التي تحول بين الناس وبين العدل؛ فإن بعض الناس قد يتنازل عن حقه، وقد يسقط ما له، وقد يترك قضيته، لا عن رضا وطيب نفس، ولكن من خلال بعض العوائق التي توضع في طريقه، كأن يماطل في حقه، أو يخوف من قريب أو بعيد، أو يبعث إليه من هنا وهناك، فيأتي ويعلن أنه قد أسقط حقه، وأنه قد تنازل عن قضيته، فأراد عمر ألا تكون هذه المظاهر تدل على إقامة العدل مع أنها أسست على صور من الظلم أو من منع العدل، فـ عمر رضي الله عنه يكتشف هذا بثاقب نظره، ويوصي بألا يكون هناك ما يبطئ إقامة العدل، أو ما يجعل الناس لا يندفعون لطلب الحق بقوة وجرأة، فإذا به يكتب إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ويقول له: (إذا حضر الخصمان، فعليك بالبينات العدول والأيمان القاطعة، ثم ادن الضعيف حتى ينبسط لسانه ويجترئ قلبه؛ فإنه ربما هاب السلطان والحكم، وربما هاب قوة الحكم فلم يفصح عن حجته، ولم يبن عن قضيته، فإن كان هذا في نفسه فأزل هذا العائق من نفسه، وتعاهد الغريب -أي: الذي جاء من بلد آخر لأجل هذه القضية، يريد أن ينتهي منها ليرجع إلى أهله- فإنه إن طال حبسه ترك حاجته وانصرف إلى أهله، وإنما ضيع حقه من لم يرفق، وآس بينهم)، أي: بين الخصوم، أي: ساوي بينهم، وفي أي شيء يساوي بينهم؟ هل في المنزلة والقدر أو في مجلس الحكم؟ ليس هذا مراد عمر؛ فهذا أمر مفروغ منه، ولكنه يقول: (وآس بينهم في لحظك وطرفك)، أي: في نظرتك إليهم، فإذا نظرت إلى هذا فانظر إلى ذاك، وإذا بششت في وجه هذا فبش في وجه ذاك؛ لئلا يكون لهذا مظنة في الاسترسال ولذلك مظنة في الانقباض، قال: (آس بينهم في لحظك وطرفك، واحرص على الصلح ما لم يتبين لك القضاء).
وهكذا يبين أساس العدل، وكيف يكون في نفس المؤمن، فيقول رضي الله عنه: (باب العدل الاعتبار، ومفتاحه الزهد)، ولعمري إن هذه الكلمات من عمر رضي الله عنه لكلمات تستحق أن تكتب بماء الذهب على صفحات النور، إذ يبين فيها الدافع الإيماني الذي يوجد الاندفاع والالتزام بالعدل، ثم يبين العائق الذي قد يصد الإنسان عن قيامه بالعدل، فهو يقول: (باب العدل الاعتبار، ومفتاحه الزهد)، ثم يشرح ويقول: (والاعتبار: ذكر الموت بتذكر الأموات، والاستعداد له بتقديم الأعمال، ومن ذكر ما بعد الموت اعتبر وارتدع عن الظلم، وعلم أنه إن ظلم أو جار أو قسط فإن من وراء ذلك حساباً، وإن من بعد الحساب عذاباً، فكان ذلك باب للعدل، وهو إقامة الخوف من الله عز وجل، ومراقبته في قلب المؤمن، فمن لم يخش الله لا يخشى أحداً من الناس، ومن لم يستحي من الله فإنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت))، ثم يكمل عمر الشق الثاني بحكمته البليغة فيقول: (والزهد: أخذ الحق من كل أحد عنده له حق، وتأدية الحق إلى كل أحد له حق، ولا يُصانع في ذلك أحد، الزاهد: الذي نزع من نفسه التعلق بالدنيا وشهواتها، حينئذٍ لا يميل في حكمه طمعاً في دنيا الغني، ولا يميل في حكمه خوفاً من بطش القوي، فقد زهد -بمعنى: أنه لم يجعل للدنيا ولا لأهلها في نفسه ميزاناً- فمن استكمل ذلك فإنه قد استكمل الأساس الركين الذي يقيم به العدل بين الناس).
ولئن كان هذا قول عمر ومنهجه الذي بسطه لولاته، فإن تطبيقه العملي كان أروع وأعظم وأقدر من كل هذه المقالات على بلاغتها ووضوحها وشيوعها وذيوعها، فها هو عمر يعطينا المثل في تطبيق العدل على نفسه وعلى أهله وعلى ولاته وعلى الأشراف والعظماء، فكل يخضع لسلطان العدل، وكل يأخذ حقه بالعدل.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(125/23)
جعفر بن أبي طالب - الشهيد الطيار
جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو شقيق علي بن أبي طالب رضي الله عنه، هاجر الهجرتين إلى الحبشة، ثم هاجر إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام بالمدينة مدة قصيرة، ثم أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجيش في مؤته فحمل الأمانة وتقلد المسئولية حتى استشهد رضي الله عنه.(126/1)
قرابة جعفر بن أبي طالب من النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته عنده
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فباسم الله نبدأ، وعليه نتوكل، ونسأله سبحانه وتعالى التوفيق في كل ما نأتي وما نذر، ونسأله الإخلاص في القول والعمل، وأن يجنبنا الفتنة والزلل، ونسأله أن يجمعنا في مستقر رحمته ودار كرامته في مقعد صدق عند مليك مقتدر إخواناً على سرر متقابلين.
أخي الكريم! حديثنا عن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه الشهيد الطيار.
وجعفر رضي الله عنه واحدٌ من خريجي مدرسة النبوة المباركة، المدرسة التي خرجَّت لنا معالم القمة والقدوة في سائر جوانب الحياة، في العقيدة صفاءً وعمقاً وثباتاً، وفي العبادة كثرةً وإخلاصاً وخشوعاً، وفي الفكر إدراكاً ونضجاً ووعياً، وفي المعاملات المالية ورعاً وبذلاً وزهداً، وفي سائر جوانب الحياة المختلفة.
ووقفاتنا مع الصحابي الجليل جعلتها في خمس محطات: الأولى: في الحب والقرب.
والثانية: في التضحية والهجرة.
والثالثة: في الفطنة والدعوة.
والرابعة: في الجود والكرم.
والخامسة: في الشجاعة والإقدام.
ولقد نال جعفر رضي الله عنه في كل هذه الجوانب قصباً من السبق عظيماً، وقدراً وافراً كريماً، ولعل هذه الوقفات الموضوعية تعيننا على الانتفاع من سيرة جعفر رضي الله عنه، وهي كذلك لا تخلو أو لا تقطع سير وسرد الحياة التي كانت له في صورة قصص وأحداث.
ونبدأ بمحطتنا الأولى محطة القرب والحب، فـ جعفر قريب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبيب.
وأما قربه فمن وجوهٍ كثيرة، فهو ابن عم رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ إذ هو جعفر بن أبي طالب، واسم أبي طالب: عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم، وهو الأخ الشقيق لـ علي وعقيل ابني أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وأمهم جميعاً فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، فالنسب موصولٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة الأب ومن جهة الأم.
وقد أسلم جعفر بن أبي طالب -كما ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب- بعد علي رضي الله عنه بقليل.
وروى ابن إسحاق -كما نقل عنه ابن عبد البر وكذلك ابن حجر في الإصابة- أنه أسلم بعد واحد وثلاثين رجلاً، وكان هو الثاني والثلاثين.
وفي روايةٍ أخرى أنه كان الخامس والعشرين، فهو من السابقين الأوائل إلى الإسلام.
وورد في بعض الروايات أن الذي دعاه هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وفي روايات أخرى -وإن كانت الروايتان السابقتان أشهر وأظهر- أنه كان في أوائل من أسلم بعد خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وعلي بن أبي طالب وزيد وبلال والمقربين القريبين من رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وبالجملة فإن الذين سبقوا إلى الإسلام كانت لهم مزايا ومحاسن هي التي جاءت بهم إلى الإسلام دون غيرهم ممن أعرضوا وصدوا وممن قاوموا وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذين أسلموا وأقبلوا على الإسلام كان لهم زكاء نفس، ورجاحة عقل، وطهر قلب، ثم أراد الله عز وجل قبل ذلك بهم الخير، فأقبل بقلوبهم على الإسلام ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(126/2)
إسلام جعفر رضي الله عنه(126/3)
بعض القصص التي تبين حب النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه
ومن وجوه الحب قصص كثيرة مع هذا القرب الذي كان للنسب، والذي كان تبعاً لذلك بالمعاشرة والمعايشة؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في فترة من الزمان في ظل رعاية وكنف أبي طالب والد جعفر رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب تربى ونشأ في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعفر شقيقه، وهو أسن من علي بعشر سنين، فكان قريباً ومخالطاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام.
وروى البخاري من حديث البراء بن عازب قصةً تنبئنا عن هذا القرب والحب، قال رضي الله عنه: (اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد صلى الله عليه وسلم) إلى آخر ما هو مذكور في قصة الحديبية، ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بما أخذ به من شأن الصلح، ثم مضى الأجل، فلما دخلها النبي صلى الله عليه وسلم –أي: مكة- في عام القضاء ومضى الأجل.
أتوا علياً –أي: كفار مكة- فقالوا: قل لصاحبك: اخرج عنا فقد مضى الأجل، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعتهم ابنة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا عم، يا عم.
فتناولها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأخذ بيدها، وقال لـ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: دونكِ ابنة عمكِ.
فحملتها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، فقال علي: أنا أحق بها، وهي ابنة عمي -أي: ليرعاها ويربيها؛ لأنها ابنة حمزة رضي الله عنه-.
وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي –أي: خالتها زوجتي- وقال زيد: ابنة أخي.
فقضى بينهم النبي صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى هذا القضاء العظيم وإلى هذا العقل الراجح، وإلى التربية النفسية الفريدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كلٌ يفضي إلى ابنة حمزة بنسب أو سبب، فكيف يكون القضاء؟ ولابد من أن يقضي لواحدٍ، فكيف يكون لغيره الرضا؟ فقضى بها النبي عليه الصلاة والسلام لخالتها، وهي زوجة جعفر رضي الله عنه، وقال: (الخالة بمنزلة الأم) ثم قال لـ علي: (أنت مني وأنا منك) وقال لـ جعفر: (أشبهت خلقي وخُلقي) وقال لـ زيد: (أنت أخونا ومولانا) فأثنى على كل واحد منهم بما طيَّب نفسه وخاطره، وقضى عليه الصلاة والسلام بما هو الأصلح والأكمل.
وشاهدنا هنا قوله لـ جعفر: (أشبهت خلقي وخُلقي) وقد كان أشبه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم برسول الله من حيث الخلقة، وأضاف النبي بنص حديثه الخُلقُ، وذلك دليل موافقةٍ وحبٍ.
وذكر الذهبي في السير رواية هذا الحديث من طريق ابن إسحاق عن أسامة بن زيد عن أبيه زيد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ جعفر: (أشبه خَلْقك خَلْقي، وأشبه خُلقك خُلقي، فأنت مني ومن شجرتي) رجاله ثقات، وأخرجه أحمد في المسند.
ومثل ذلك رواه ابن سعد في الطبقات، وهذا دليل قربٍ وحبٍ واضح فيما كان لـ جعفر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواية أخرى لهذا الحديث عن هانئ بن هانئ عن علي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أشبهت خَلقي وخُلقي).
ومن صور المحبة الفياضة لـ جعفر في قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم ما عُلم بعد ذلك مما سيأتي في سيرة جعفر يوم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً من الحبشة إلى المدينة المنورة، فوافى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بعد غزوة خيبر، وفتح الله عز وجل لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أدري لأيهما أُسر: بقدوم جعفر أم بفتح خيبر؟)، فجعل ذلك الفتح العظيم الذي كان من أعظم الفتوح من حيث الغنائم، ومن أعظمها وأجلها من حيث تطهير الجزيرة من اليهود -عليهم لعائن الله- جعله في قمة السرور، لكنه قارن ذلك ووزاه وسواه وقارنه بحبِّه صلى الله عليه وسلم لـ جعفر وسروره بقدومه.
قال الذهبي رحمه الله في السير: وقد سُر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقدوم جعفر، وحزن والله لوفاته.
ذكر ذلك في مقدمة ترجمته في السير.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب بعد جعفر أبناء جعفر، ويضمهم إليه، ويشمهم ويردفهم ويقربهم؛ لما كان لـ جعفر رضي الله عنه وأرضاه من الحب والمنزلة الأثيرة.
روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفرٍ تُلقي بصبيان أهل بيته، وإنه قدم من سفرٍ فسبق بي إليه، فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني فاطمة رضي الله عنها فاردفه خلفه، فدخلنا المدينة ثلاثةً على دابةٍ) أي: كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ورد كذلك في شأن قدوم جعفر ما يكشف عن مزج تلك المحبة بالإجلال والتقدير لـ جعفر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر ابن عبد البر في سياق هذه الرواية: أنه لما قدم جعفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقاه المصطفى عليه الصلاة والسلام واعتنقه، وقبَّل بين عينيه، وقال: (ما أدري لأيهما أنا أشد فرحاً بقدوم جعفر أم بفتح خيبر؟) وأنزله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جوار المسجد.
وهذا التقبيل بين عينيه إجلالٌ وحبٌ، والاعتناق دليل شوقٍ من الرسول صلى الله عليه وسلم لـ جعفر، وقد نأت به هجرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ ما قبل هجرته عليه الصلاة والسلام، مدة سبع سنين إلى يوم فتح خيبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين.
وقد ذكر ابن حجر في الإصابة -أيضاً- أن في المسند عند الإمام أحمد من حديث علي رفعه قال: (أعطيت رفقاء نجباء) وعد منهم سبعةً.
منهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وسياق الحديث على أن هذه الكوكبة من أقرب وأحب أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم إليه، ولذلك بلغ الحزن برسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغاً يوم استشهد جعفر بن أبي طالب.
روت عائشة رضي الله عنها قالت: (لما جاءت وفاة جعفر عرفنا في وجه النبي صلى الله عليه وسلم الحزن) وعن أسماء بنت عميس زوج جعفر رضي الله عنه قالت: (دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بني جعفر،، فرأيته شمهم –أي: قبَّلهم واعتنقهم- وذرفت عيناه عليه الصلاة والسلام، فقلت: يا رسول الله! أبلغك عن جعفر شيءٌ؟ قال: نعم.
قتل اليوم، قالت: فقمنا نبكي، فرجع وقال: اصنعوا لآل جعفر طعاماً؛ فقد شغلوا عن أنفسهم).
ووردت روايات أخرى تحكي لنا حزن النبي صلى الله عليه وسلم على جعفر، كقوله عليه الصلاة والسلام فيما وردت به بعض الروايات: (على مثل جعفر فلتبك البواكي).
وكان عليه الصلاة والسلام يحب جعفر ويقربه، وتلك بعض مواقف الحب والقرب في محطتنا الأولى.(126/4)
تضحية جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وهجرته في سبيل الله
وأما المحطة الثانية: فالتضحية والهجرة، وهي السمة الغالبة على حياة جعفر رضي الله عنه، فقد هاجر ثلاث هجرات لم يهاجرها غيره من الصحابة إلا نفرٌ قليل.
قال ابن عبد البر في الاستيعاب: هاجر الهجرتين إلى الحبشة، وهاجر إلى المدينة المنورة، فحياته كلها كانت هجرةً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولإقامة الدين والدعوة إليه، ولإقامة شعائره وشرائعه، فهو ممن هاجر إلى الحبشة في الهجرة الأولى، وهاجر إلى الحبشة مع زوجه أسماء بنت عميس رضي الله عنها الهجرة الثانية، وولد له أولاده الثلاثة في الحبشة، وعاش فيها ردحاً من الزمن.
وقال ابن حجر في الإصابة: وعلى يديه أسلم النجاشي ومن تبعه في الحبشة، وذكر روايةً عن ابن مسعود أن جعفر بن أبي طالب كان أمير المهاجرين في الحبشة، وروى ذلك ابن سعد في الطبقات.
وذلك كله يدلنا على أن جعفراً رضي الله عنه كان من أهل الإيمان الراسخ، واليقين العظيم، والتضحية الكبيرة، حيث ترك داره وأرضه وبلاده، وهاجر إلى الحبشة بعد أن أذن بذلك وأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال: (إن بأرض الحبشة ملكاً عادلاً لا يظلم عنده أحد، فالحقوا بأرضه -أو ببلاده-)، فذهب جعفر رضي الله عنه في الفوج الأول الذي لم يكن يتعدى عددهم -كما في بعض روايات السيرة- اثني عشر أو ثمانية عشر ما بين رجل وامرأة، ثم كان كذلك في الفوج الثاني الذي زاد على ثمانين رجلاً وامرأة، وكانت له المواقف العظيمة هناك، وكانت هجرته على هذا النحو، ثم لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فسجلت له هجرة إضافية أو هجرة ثالثة، فكان ممن كانت حياته كلها هجرةً وتضحيةً في سبيل الله، وفي سبيل إعلاء كلمة الله عز وجل.
ثم إن أبا موسى الأشعري روى لنا قصة المهاجرين من الحبشة، وكيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر أبو موسى رضي الله عنه أنه خرج ومعه نفرٌ من قومه من بلاده من اليمن، قال: نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقذفت بنا السفينة إلى أرض الحبشة، فوافينا جعفراً وأصحابه، ثم خرجنا معهم جميعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافينا المدينة في أعقاب خيبر.
وهنا وقعت قصةٌ كذلك تدلنا على مسألة الهجرة وأهميتها وفائدتها، ترويها لنا أسماء بنت عميس، وهي مذكورة في البخاري ومسلم وغيرهما من كتب السنة المشهورة، هذه الرواية فيها: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدم ودخل على بيته، وعند زوجته امرأةٌ فقال: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، فقال عمر رضي الله عنه: ألحبشية -أي: هل هي الحبشية التي جاءت من الحبشة-؟ فقالت: نعم.
فقال الفاروق عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم.
وكان تفاخر القوم ليس بالأحساب والأنساب، وإنما بالبذل والتضحية في سبيل الله، وبالقرب وبالخدمة والذود والحماية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فغضبت أسماء رضي الله عنها من ذلك وحزنت -وكانوا أحرص شيءٍ على الخير والفضل في هذا الدين- فقالت: كلا.
والله! كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطعم جائعكم، ويعلم جاهلكم، وكنا في دار البعداء والبغضاء في الحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، والله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن كنا نؤذى ونخاف.
فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (ليس بأحق بي منكم، له ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم -يا أهل السفينة- هجرتان) فأثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم لفضل الهجرة وترك الديار والأهل والعيش في الغربة حفاظاً على الدين وحرصاً على إقامته، فقال: (له ولأصحابه هجرةٌ، ولكم يا أهل السفينة! هجرتان)، فقالت أسماء رضي الله عنها: (فجعل أهل الحبشة يأتون إليَّ أرسالاً؛ يسألونني عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ لأنهم كانوا أفرح الناس بالخير.
وهذا يدلنا على فضل الهجرة عموماً، والهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصاً، وقد نال جعفر بن أبي طالب قصب السبق في كل هذه الهجرات التي كانت في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.(126/5)
فطنة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ودعوته إلى الحق
وفي سياق الهجرة ننتقل إلى المحطة الثالثة لنفرد بعض أحداث الهجرة في هذه المحطة المهمة، محطة الفطنة والدعوة، لقد كان جعفر رضي الله عنه ذكياً أريباً أديباً، حسن المنطق، راجح العقل، وافر الذكاء، يحسن القول في وقت القول، ويحسن ما يذكر في القول مما ينفع ولا يضر، وكان رضي الله عنه وأرضاه داعيةً حكيماً حصيفاً أريباً.
ولذلك كان مُقَدَّم القوم والصحابة في الحبشة، كما أشرنا أن ابن سعد في الطبقات روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان أميراً للمؤمنين في الحبشة.
ونعلم جميعاً القصة الشهيرة التي نريد أن نذكر سياقها في قصة بعث قريش لـ عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص ليذهبا إلى النجاشي ويطلبا منه تسليم الصحابة رضوان الله عليهم الذين هاجروا إلى الحبشة، فإن قريشاً بجاهليتها الجهلاء وغطرستها العمياء ورغبتها في العدوان والإيذاء لم تترك المهاجرين وقد تركوا لها مكة كلها وذهبوا إلى الحبشة، فلحقت بهم، وأرادت أن تردهم لتشفي غيضها بعذابهم وإيذائهم، ولتمنع تسرب الدعوة من الجزيرة إلى خارجها، ولئلا يشوه المسلمون سمعتها وصورتها عند الآخرين من الأمم والأقوام، فبعثوا حينئذٍ عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، وسياق الرواية نذكره من رواية أم سلمة رضي الله عنها، وكانت من المهاجرات إلى الحبشة، وهذا السياق عند الإمام أحمد في مسنده، وهو الذي ذكره ابن إسحاق وابن هشام في السيرة، وبنحوه ذكره ابن سعد في الطبقات، والبيهقي في دلائل النبوة، وهو سياقٌ فيه كلامٌ نفيس وعرض جميل يدل على الذكاء والفطنة، وعلى الدعوة كذلك.
قالت أم سلمة رضي الله عنها: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، آمننا على ديننا، وعبدنا الله فلا نؤذى، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا إلى النجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، فجمعوا له أدماً -أي: جلداً- كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له.
وهذا ما يسمى اليوم بالضغط السياسي، حيث هيئوا له، وأهدوا للبطارقة الهدايا حتى يوافقوهم على قولهم.
ثم قالت: بعثوا بذلك -أي: بهذه الهدايا- عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص -وكانا على غير الإسلام- وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريقٍ هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا إلى النجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم -لا يريدون للنجاشي أن يسمع قولهم- فقدما على النجاشي فدفعا إلى كل بطريقٍ هديته، وقالا: إنه قد صبأ إلى بلدكم منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدينٍ مبتدعٍ، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردوهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً.
فقالوا: نعم.
وانظر إلى دهاء عمرو بن العاص؛ حيث قال لهم: فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم.
أي: فلا هم منا ولا هم منكم، فليست لكم بهم صلة، وليس عندكم شيءٌ لأجله تحفظونهم أو تراعونهم.
ثم أشاروا إليهم أن يدفعوا النجاشي إلى أن يسلمهم دون أن يسمع لهم.
فجاءا إلى النجاشي وقربا إليه هدايا، ثم قال لهما: تكلما.
فقالا له: أيها الملك! إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدينٍ مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً وبما عابوا عليهم.
فقالت بطارقته: صدقوا، فأسلمهم إليهما -تسليم مجرمين كما نقول اليوم، أو اتفاقيات تسليم لمجرمين أو لإرهابيين كما يزعمون اليوم-.
فغضب النجاشي وقال: لاها الله إذاً: لا أسلمهم إليهما ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم ماذا يقولون، فإن كانوا كما يقولان -أي: عبد الله وعمرو بن العاص - سلمتهم إليهما، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم.
قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما أن جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن.
فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله قال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين آخر من أديان هذه الأمم؟ قالت: وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب.
-وفي بعض الروايات أن جعفراً قال: إذا جئنا فأمسكوا فإني أكون أنا الذي أكلمه.
فماذا قال جعفر؟ قال: أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله عز وجل إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، وكف الأذى، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه، وآمنا به، فعبدنا الله عز وجل فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدى علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، فاخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
وأعتقد لو أن مؤتمراً إسلامياً كاملاً يعقد حتى يصوغ مثل هذه الدعوة الجليلة الذكية لقصر عن ذلك.(126/6)
مسائل مهمة في مواجهة جعفر بن أبي طالب لعمرو بن العاص رضي الله عنهما أمام النجاشي
وهنا مسائل كثيرة في هذه الحادثة يقصر مقامنا عن ذكرها، فالمسلمون كانوا أقليةً في بلدٍ غير إسلامي، وهم لحالهم ذلك كأنما يمثلون أوضاع الجاليات المسلمة في بلادٍ غير إسلامية كما هو حال كثيرٍ من المسلمين اليوم، فأول أمرٍ نلحظه هنا مشورة المسلمين فيما بينهم، ثم وحدة كلمتهم واجتماع أمرهم؛ إذ لم يتفرقوا ولم يختلفوا، بل أجمعوا أمرهم، ووحدوا كلمتهم، وانتدبوا المتحدث باسمهم، فليست هناك أقوالٌ ولا آراءٌ متعددة يظهرون بها لغير المسلمين.
ثم إن جعفراً رضي الله عنه أحسن المقالة، وأظن أن من يسمع قول جعفر لابد من أن يوافقه ويؤيده مباشرةً؛ فإنه بدأ بقوله: (أيها الملك) وهذا ليس فيه شيء من التعظيم لغير المسلم، بل فيه وصفٌ لحقيقته التي هو عليها، فهو ملك تلك البلاد، فليس في مثل هذا حرجٌ شرعيٌ، بل فيه تنزيل حسنٌ؛ لكي يكون هناك جسرٌ يمتد منه الحديث وتتحد به الأرضية لكي يقبل على ذلك القول ويسمع له ويصغي.
ووردت روايات أخرى في غير هذا السياق أنهم كانوا إذا دخلوا على النجاشي يركعون له، وأن عبد الله وعمرو بن العاص فعلا ذلك، فلما جاء جعفر لم يصنع مثل هذا، فقال له: لِمَ لا تركع كغيرك؟ قال: إنا لا نركع ولا نسجد إلا لله عز وجل.
فكان هذا الموقف أيضاً لفت نظرٍ إلى أن المساومة في أمرٍ شرعيٍ ثابتٍ أو عقديٍ أساسيٍ لا مجال فيه مطلقاً، لكن قوله: (أيها الملك) ليس فيه غضاضة ولا حرجٌ شرعيٌ بحال.
ثم بدأ يسرد له، فذكر له مساوئ الجاهلية، ذكرها بصيغةٍ موجزةٍ بليغة محكمة، وبينها وفصلها، فقال: (كنا نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف).
فأي صورةٍ هذه؟ وأي مجتمعٍ هذا؟ وأي أخلاقٍ هذه؟ إنها تلك التي تنفر منها كل نفس سوية، ويأباها كل عقلٍ راشد، تلك هي صور الجاهلية على حقيقتها المؤلمة، والكفر على صورته البشعة وأخلاقه الرذيلة الذميمة وأحواله الاجتماعية الطبقية العنصرية الظالمة الباغية.
ثم قال: (فبعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه).
وهذا هو سر اختيار الصحابة وإجماعهم على جعفر؛ لأنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أعرف به وألصق به من غيره من بقية الصحابة، فقوله فيه يكون عن بصيرةٍ وعلمٍ وخبرةٍ وقربٍ أكثر من غيره، ولذلك قال هذه المقالة.
ثم بين دعوة الإسلام، فبدأ بالتوحيد فقال: (فدعانا إلى الله عز وجل لنعبده ونوحده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان).
ثم ذكر الجانب الأخلاقي الإنساني في الإسلام؛ لأن هذه الجوانب الإنسانية قاسمٌ مشترك بين الأمم وبين الناس جميعاً من أصحاب الفطر السوية، والمسلمون يحسن بهم أن يظهروا هذه الجوانب لغير المسلمين؛ لأنها الجوانب التي تلفت العقول والأنظار، وتسلب أو تجبي أو تستميل النفوس والقلوب إلى حقائق الإسلام، ولذلك عرضها فقال: (أمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، وكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة)، ثم ذكر بعد ذلك الأمر بالتوحيد والصلاة والزكاة، وهذا تلخيصٌ حسنٌ لجوامع الإسلام وأسسه وقواعده دون أن يخوض في التفصيل والتفريع؛ لأنه في مقام عرضٍ إجماليٍ يبين حقيقة هذا الدين في كلياته وأصوله وقواعده، ويظهر محاسنه ومنافعه وفوائده.
ثم ذكر بعد ذلك ما يكشف حقيقة الكفر والشرك والجاهلية في معارضتها للأخلاق الفاضلة، ومضادتها لحقوق الإنسان، ومنعها لحرية الرأي والتعبير والاعتقاد، فقال: (فلما رأى قومنا ذلك عذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل) أي أنهم شقوا عليهم وعذبوهم وآذوهم، فظهر حينئذٍ أن هذا ظلم وبغي، وكل صاحب نفسٍ حرةٍ وفطرة سوية يكون مع هؤلاء المظلومين ضد المعتدين، بغض النظر عن الدين والمعتقد، وهذا نراه اليوم أيضاً لدى بعض الأفراد والجماعات والمجموعات والمنظمات من غير المسلمين، حيث قد يكون عندهم تشبثٌ حقيقي بحقوق الإنسان، ورغبةٌ في رد الظلم والعدوان من أي أحدٍ كان، ولذا نرى منهم مواقف عجيبة، ليست منطلقة من منطلقات الإسلام، لكنها منطلقة من منطلقات الإنسان، ولذلك نرى من يسمونهم نشطاء السلام يدافعون عن إخواننا في فلسطين، ويرفعون قضيتهم، وربما قتل بعضهم كما هو معلومٌ ومعروف، وهم في ذلك يرون أنهم يدافعون عن حقٍ وعدل، ويمنعون ظلماً وجوراً، وينصرون إنساناً مضطهداً دون أن ينظروا إلى دينه وعقيدته، فبعض المعاني الإنسانية المشتركة راعاها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في دعوته بذكاءٍ وفطنة، ثم ختمها بأحسن ختامٍ عندما أثنى على النجاشي وبلاده بما هو فيها من غير زيادة، والمسلم الحق من يذكر الحق والواقع بإنصافٍ وعدل، حتى وإن كان عند غير المسلم، فقال: لما حصل ذلك خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك.
وهذا يستدعي من النجاشي حميته وقوته وعطفه، كيف يلتجئ إليَّ أناس فأخذلهم؟ وكيف يرغبون في جواري فأطردهم؟ وكيف ينشدون عدلي فأظلمهم؟ ولذلك أحسن جعفر رضي الله عنه هذا العرض إحساناً بالغاً فائقاً، وأثنى على النجاشي وبلاده في مجمل أوضاعها بما هو حقٌ، وليس في هذا حرجٌ شرعي، ليس من حرجٍ أن نقول عن نظام بعض تلك البلاد أو بعض قوانينها أو بعض أحوالها ما هو عدلٌ وحق وما فيه مصلحة ومنفعة، وإن لم يكن قائماً على أساسٍ عقدي صحيح، وإن لم يكن منطلقاً من الإسلام وعقائده ومبادئه، ولذلك قال له هذا القول.
ثم ختم بقوله: (ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك) فلما قال هذه المقالة الجامعة الوافية الذكية، قال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله عز وجل شيء؟ وهنا جاهزية الداعية المسلم الذي لا يتلكأ، فقال جعفر: نعم، فقرأ عليه صدراً من سورة مريم، واختيار القراءة أيضاً موفق؛ فإن صدر سورة مريم فيه قصة زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام جميعاً، وفيه ذكر أمورٍ يعرف جعفر أن النجاشي يعرفها من كتابه ودينه، فقرأها فبكى -والله- النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى بلوا مصاحفهم.
ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.
انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكما أبداً.
فردهما، ولكن هل استسلم عمرو بن العاص، وهو داهية العرب كما نعلم؟ فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لأتينه غداً أعيبهم عنده بما استأصل به خضراءهم.
أي: سوف آتي غداً في جولةٍ أخرى، وأذكر عن هؤلاء المسلمين قضيةً سوف تغير موقف النجاشي عليهم.
فأي شيءٍ سيذكر؟ سيذكر أمراً متعلقاً بالعقيدة والدين، لنعلم أن المحرك الأساسي والجوهري في اتخاذ المواقف إنما هو العقيدة والمبدأ قبل المصلحة والمنفعة.
فقال له عبد الله بن أبي ربيعة -وكان أكبر الرجلين كما تقول رواية أم سلمة -: لا تفعل؛ فإن لهم أرحاماً.
فقال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون في عيسى بن مريم أنه عبد! وما لـ عمرو بن العاص وهو وثني مشرك ولعيسى بن مريم وللمسيحية والنصرانية؟! إنما يريد الفتنة، وهذا هو الذي يستغله -أيضاً- أعداء الإسلام من اليهود وغيرهم، فإنهم لا يريدون حقاً وعدلاً، وإنما يريدون أن يطعنوا المسلمين ويسيئوا إليهم ويؤلبوا عليهم.
فغدا عليه من الغد، فقال: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً.
ونلاحظ أنه لم يقل ما يقولون، إنما أراد أن يجعل القضية في حس النجاشي ضخمةً وعظيمة، حتى إذا سمع النجاشي القول كان غضبه في غاية العظمة والشدة، فأرسل إليهم ليسمع منهم، وهذا من عدل النجاشي؛ فإنه لم يسمع من طرفٍ في كلتا الحالتين.
تقول أم سلمة ولم ينزل بنا مثلها.
أن هذه معضلة، فالقوم في كتبهم تحريف، ونعرف أنهم يقولون: إن عيسى هو ابن الله.
أو: عيسى هو الله.
ونحن قطعاً ويقيناً في عقيدتنا وديننا أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
قالت: فقال بعضهم: ما تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول فيه ما قال الله عز وجل، وما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم، وكائن في ذلك ما كان.
فلما دخلوا عليه قال: ما تقولون في عيسى؟ قال له جعفر رضي الله عنه: (نقول فيه الذي جاء به نبينا عليه الصلاة والسلام: هو عبد الله وروحه ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول).
وهذا الكلام مختصرٌ موجز، لكنه دقيق وحكيم؛ فإنه قال: نقول فيه ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم.
فليس القول من عندنا، وليس اجتهاداً، وإنما هو دينٌ ووحيٌ، ثم قال: (عبد الله)، وذلك ينفي أنه ابن الله، وينفي أنه الله عز وجل -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً-، لكنه أضاف المعنى المعجز الذي نؤمن به، وهو (وروحه) أي: التي قذفها في مريم عليها السلام، (ورسوله) فهو نبي مرسل كرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: (وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول) أيضاً ليبرئ مريم عليها السلام مما يقذفها به بعض اليهود والمحرفين منهم على وجه الخصوص، فهو جمع في ذلك محاسن عقيدة الإسلام في هذه المسألة المهمة، فلا هو ابن الله، ولا هو الله، ولا هو بشرٌ كسائر البشر، بل هو كلمةٌ وروح ألقاها الله إلى مريم، وليست مريم عليها السلام فيها شيء من شبهة أو من قذفٍ أو غير ذلك.
وهنا استطراد يسير نذكره لبعض علماء الإسلام، وهو أبو بكر الباقلاني، حيث جاءه بعض النصارى، وأرادوا أن يثيروا بعض الشبه، فقالوا له: إن زوجة نبيكم قد وقع لها ما وقع -يعنون بذلك حادثة الإفك، ويرمون بذلك عائشة(126/7)
كرم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وجوده
وأما المحطة الثالثة فمحطة الجود والكرم، ولقد نال منها جعفر مبلغاً ورتباً لم ينلها كثيرٌ غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة -وأبو هريرة كما نعلم كان من أهل الصفة، ومن فقراء المسلمين الذين كانوا ليس لهم مصدر عيش ولا قوت ولا طعام إلا ما يكون من الغنائم في الجهاد، وما يكون من إكرام المسلمين وهداياهم وصدقاتهم لهم- يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (كان أخير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيطعمنا في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء، فيشقها فنلعق ما فيها) أي أن العكة من العسل تكون ليس فيها شيء، فيشقها حتى يلعقوا بقاياها التي فيها من شدة كرمه.
وكان يعطي ما عنده، ولا يستبقي شيئاً قليلاً ولا كثيراً، ولذلك كثر مدح أبي هريرة على وجه الخصوص له؛ لأنه كان من الفقراء، ويعلم رضي الله عنه شدة الفقر والجوع.
وأبو هريرة كان متعلقاً بـ جعفر لهذا الكرم؛ لأنه كان يتفقد أهل الصفة دائماً، ويعطيهم ويطعمهم، قال أبو هريرة: (ما احتذى النعال، ولا ركب المطايا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب).
أخرجه الترمذي والحاكم وصححه، وذكر ابن حجر رحمه الله أنه: يعني بذلك في مجال الكرم؛ لأن هذا هو تقييد الحديث.
وقد ذكر ابن حجر في الإصابة أن هذا الحديث ساقه أبو هريرة بقوله: (ما احتذى النعال، ولا ركب المطايا، ولا وطئ التراب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب) ورواه الترمذي والنسائي، وإسناده صحيح كما قال ابن حجر رضي الله عنه.
وهذه رواية ساقها الترمذي فيها طرافةٌ، وفيها ذكر لهذه المنقبة العظيمة لـ جعفر رضي الله عنه، روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إن كنت لأسأل الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الآيات من القرآن أنا أعلم بها منه -يسأله عن معاني بعض الآيات، وهو أعلم بها، ولا يريد السؤال ولا يريد الجواب، وإنما يريد حديثاً حتى يقول له: تفضل وادخل البيت، فينال شيئاً من طعام- يقول: كنت أسأل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الآيات من القرآن وأنا أعلم بها منه، ما أشاء إلا ليطعمني شيئاً، فكنت إذا سألت جعفر بن أبي طالب لم يجبني حتى يذهب بي إلى منزله، فيقول لامرأته: يا أسماء! أطعميني شيئاً، فإذا أطعمينا أجابني).
أي أنه كان يعرف أن أبا هريرة إنما يريد الطعام أولاً.
ثم يقول أبو هريرة في تتمة الحديث: (وكان جعفر يحب المساكين، ويجلس إليهم، ويحدثهم ويحدثونه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكنيه بأبي المساكين) وهذه كنيةٌ اشتهرت لـ جعفر رضي الله عنه، فهو أبو المساكين.
وفي رواية أبي هريرة أيضاً عند الترمذي قال: (كنا عند جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أبي المساكين، فكنا إذا أتيناه قرب إلينا ما حضر، فأتيناه يوماً فلم يجد عنده شيئاً -يعني: يقربه لهم- فلما لم يجد عنده شيئاً أخرج جرةً من عسل فكسرها، فجعلنا نلعق منها)، فمن شدة كرمه رضي الله عنه أنه كان يكسر جراراً للعسل حتى يلعقوا ما فيها.
ثم كذلك وردت الرواية عند البخاري في هذا المعنى الذي ذكرناه، وذلك من وجوه الكرم والجود التي كانت معروفة عن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا يدل على بروز هذا الخلق عند جعفر رضي الله عنه؛ لأن جعفراً كان في الحبشة، وإسلام أبي هريرة إنما كان في العام السابع بعد خيبر، ونعلم أن جعفراً رضي الله عنه -كما سيأتي- شارك في مؤتة واستشهد فيها، أي أن عاماً واحداً هو الذي كان يجمع بين أبي هريرة وجعفر في المدينة، ومع ذلك كان كرم جعفر رضي الله عنه مشتهراً حتى لقب بأبي المساكين، حتى كان أبو هريرة -وهو من هو- يذكر أنه ما احتذى النعال، ولا ركب المطايا، ولا وطئ التراب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أو أفضل من جعفر بن أبي طالب، لما كان لأثر كرمه وجوده على أبي هريرة، وعلى غيره من فقراء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وهذا يدلنا على هذه المنقبة العظيمة التي تدل على نفس سمحة سخية، وعلى رغبة في الأجر والمثوبة، وعلى رغبة في إدخال السرور إلى قلوب الضعفاء والمحتاجين.(126/8)
شجاعة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وإقدامه
وأما وقفتنا الأخيرة والأثيرة ومحطتنا الختامية فهي مع الشجاعة والإقدام، وهنا بيان لمعرفة النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة، وإرادته إظهار المناقب والمراتب لبعضهم، فإن جعفراً رضي الله عنه كان في الحبشة وقتاً طويلاً، فلم يشهد غزوة بدرٍ ولا أحد ولا الخندق ولا الحديبية ولا خيبر، لكنه وافى مع الصحابة خيبر، فقسم له النبي عليه الصلاة والسلام من غنائم خيبر.
وأول معركة أو غزوة عظيمة كانت بعد ذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم جعفراً من قادتها، وهذه المعركة الشهيرة هي التي سميت غزوةً واشتهرت بأنها غزوة وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يشارك فيها، وهي غزوة مؤتة، وهي أول تحرك عسكري للمسلمين خارج الجزيرة العربية، وخارج المواجهة مع العرب وقبائل العرب لمقاتلة ومنازلة الروم، وهي الغزوة الوحيدة التي أمَّر فيها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمراء، وهي الغزوة الوحيدة التي نص النبي صلى الله عليه وسلم على نتيجتها وخبرها وحياً وقت وقوعها قبل عودة الصحابة ورجوعهم رضوان الله عليهم أجمعين.
وقد أمَّر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم زيد بن حارثة وقال: (فإن قتل فـ جعفر بن أبي طالب، فإن قتل ف عبد الله بن رواحة) والنبي صلى الله عليه وسلم كان يدرك عظمة هذه المواجهة.
فالمواجهة كانت عجيبة إذ كان عدة جيش المسلمين ثلاثة آلاف، وأقل عددٍ ذكر في الروايات لجيش الروم أنه كان ثلاثين ألفاً، أي: عشرة أضعاف، وفي بعض الروايات: مائة ألف، وفي بعضها: مائتا ألف.
فما هي النتيجة المتوقعة لعشرة أضعافٍ من الجيش يقابلون عشرهم مع قلة الزاد والعتاد، وطول السفر والشقة؟ من المفترض أن لا يأخذوا إلا سويعة من الزمان فيفنوهم عن بكرة أبيهم.
ولست بصدد الحديث عن الغزوة، ولكني أقول: ما نتيجتها في آخر الأمر؟ وكم عدد الذين استشهدوا في غزوة مؤتة من هذا العدد الذي كان يبلغ ثلاثة آلاف؟ أظن أن أكثرنا لا يستحضر الرقم، وقد يتعجب منه كثيراً.
لقد كان شهداء غزوة مؤتة اثني عشر شهيداً، ربعهم قيادة الجيش، القواد الثلاثة رضوان الله عليهم أجمعين، حيث لم تكن القيادة بمعزل، بل كانت في مقدمة الصفوف، ثم كيف تسنى لهم أن يواجهوا الجيش حتى يفصل عنهم؟! ثم ولوا خالد بن الوليد كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، وكما وقع به الحال، ثم استطاعوا أن ينسحبوا انسحاباً عسكرياً قوياً، ولم يكن انسحاب هروب أو فرار، بل كانوا هم الكرار؛ إذ لو كان انسحاب هروبٍ لكان انسحاباً متعثراً مرتبكاً، ولكان مغرياً للأعداء أن يلحقوا بهم وأن يبيدوهم، لكن الأعداء قد رأوا الهول فاكتفوا بأن انسحب المسلمون من أمامهم، ورأوا أن هذه فرصة عظيمة لهم أن لا يواجهوا هؤلاء الناس الذين كانوا يحبون الموت أكثر من حب أولئك للحياة.
وهنا وقفاتنا مع جعفر رضي الله عنه.
قاتل زيد حتى استشهد، فحمل الراية جعفر رضي الله عنه، وقاتل قتال الأبطال، كما قال بعض الصحابة: (والله لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة حين اقتحم عن فرسٍ له شقراء، فعقرها ثم تقدم حتى قتل رضي الله عنه).
ومن هنا ذكر أصحاب السير -وأولهم ابن إسحاق: أن أول من عقر في الإسلام هو جعفر بن أبي طالب.
أي أنه لما كانت المعركة بكثافة جيش العدو، وليس فيها مجال لركض الخيل، وكانت فرسه تعيقه عن ذلك نزل عنها فعقرها، ثم قاتل رضي الله عنه واقفاً على قدميه، وقطعت يده اليمنى فحمل الراية بيسراه، فقطعت يسراه، ثم خر شهيداً رضي الله عنه وأرضاه.
وإليك هذه الروايات التي ذكرنا فيها رواية عقر فرسه، وقد رواها أبو داود في السنن، وذكر ابن عبد البر في الاستيعاب أنه لما قاتل جعفر قطعت يداه، والراية معه لم يلقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبدله الله جناحين يطير بهما في الجنة)، ولذلك سمي بالطيار، وسمي بذي الجناحين.
وصح عند البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا رأى عبد الله بن جعفر قال: (يا بن ذي الجناحين، يا بن ذي الجناحين) يعني ما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وخذ هذه الرواية، وهي رواية قد كثرت في كتب السيرة وفي كتب السنة على اختلاف فيها، قال الراوي: ولما قتل وجد به بضع وسبعون جراحة، ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح كلها فيما أقبل من بدنه.
وقيل: بضع وخمسون.
والأول أصح، كما قال ابن عبد البر: بضع وسبعون ما بين ضربةٍ وطعنة كانت في مقدمة جسمه.
وذلك دليل شجاعة وإقدام وثبات وقوة إيمانٍ ويقينٍ وفروسية كانت لـ جعفر رضي الله عنه وأرضاه.
وفي رواية ابن إسحاق: (قص النبي صلى الله عليه وسلم القصة في وقتها) أي: في وقت حدوثها.
وهي رواية بألفاظ أخرى في الصحيح أيضاً، فلما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخذ الراية زيد فقاتل بها حتى قتل شهيداً.
ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيداً، ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه كان في عبد الله بن رواحة ما يكرهون، فقال عليه الصلاة والسلام: ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيداً، ثم قال: لقد رفعوا في الجنة على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله ضراراً عن سريري صاحبيه، فقلت: عمَ هذا؟ قيل: مضيا وتردد) أي: تردد عبد الله ثم مضى، وإنما تردده رضي الله عنه ليس خوفاً على نفسه، وإنما خوفاً على المسلمين، وإلا فلـ عبد الله بن رواحة في أول المعركة ما يدل على هذا، فعندما وصل المسلمون إلى مؤتة وعلموا ضخامة الجيش الذي ينتظرهم وقفوا يتشاورون: ماذا نصنع؟ فقال بعضهم: نرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يمدنا بمدد.
فقال عبد الله بن رواحة: (والله للتي تكرهون هي التي خرجتم تطلبون -أي: الشهادة في سبيل الله- فامضوا لما أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فثبتهم وحضهم رضي الله عنه، فما كان ليتردد خوفاً أو جبناً –حاشاه-، وإنما كان يفكر في أمر المسلمين إذا هو أقدم واستشهد كيف قد يضطرب حالهم، ثم مضى لأمره ولما ولاه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستشهد، فكان لتردده أثرٌ.
ووردت الرواية عند ابن إسحاق -وهي مما سبقت إشارتنا إليها- أن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر وأصحابه دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عجنت عجيني وغسلت بنيَّ ودهنتهم ونظفتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ائتيني ببني جعفر.
فأتيته بهم، فشمهم، ودمعت عيناه، قالت: فقلت: بأبي وأمي ما يبكيك يا رسول الله؟! أبلغك عن جعفر وأصحابه شيءٌ؟ قال: نعم.
أصيبوا هذا اليوم، فقمت أصيح وأجمع النساء، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: لا تغفلوا آل جعفر؛ فإنهم قد شغلوا).
وروي أيضاً أنه لما جاء ذلك قال: (على مثل جعفر فلتبك البواكي)، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام: أنه قد ضرج بالدم، وأنه يطير بجناحين مخضبين بالدم في الجنة، وفي هذا إشعار بما كان له من فضل وإقدام في جهاده في سبيل الله عز وجل.
وفي شجاعته أيضاً ذكر الرواة ما ذكروا من هذا الأمر، ومن ذلك رواية عقره لفرسه، ذكرها -أيضاً- الذهبي في سيره، وهي مروية بإسناد رجاله ثقات.
وقد وردت أيضاً رواية أبي هريرة عند الترمذي في سننه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت جعفراً يطير في الجنة مع الملائكة)، قال الترمذي: هذا حديث غريب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه من يضعف.
وقد ذكر العلماء رواياتٍ عديدة في هذا الشأن، ساق منها ابن حجر رحمه الله قول ابن عمر لابن جعفر بن أبي طالب: (السلام عليك يا ابن ذي الجناحين) ثم قال شارحاً: كأنه يشير إلى حديث عبد الله بن جعفر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هنيئاً أبوك يطير مع الملائكة في السماء) أخرجه الطبراني بإسناد حسن.
ثم ذكر ابن حجر طرقاً عن أبي هريرة وعلي وابن عباس، وقال في طريق ابن عباس: (إن جعفراً يطير مع جبريل وميكائيل له جناحان عوضه الله من يديه) قال: وإسناد هذه جيد –أي: إسناد هذه الرواية جيد-، وهذه الرواية مسوقةٌ سياقاً آخر من حديث ابن عباس: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ وأسماء بنت عميس قريبة منه إذ قال: يا أسماء! هذا جعفر مع جبريل وميكائيل مر بي فأخبرني أنه لقي المشركين يوم كذا وكذا، فسلم، فردي عليه السلام، وقال: إنه لقي المشركين فأصابه في مقادمه ثلاثة وسبعون، فأخذ اللواء بيده اليمنى فقطعت، فأخذه بيده اليسرى، فعوضه الله من يديه جناحين يطير بهما مع جبريل وميكائيل في الجنة يأكل من ثمارها)، وهذا مما وردت به روايات يعضد بعضها بعضاً.(126/9)
رثاء الشعراء لجعفر رضي الله عنه وثناء العلماء عليه
وهكذا ختمت هذه الحياة العطرة التي كانت في أولها هجرة وفي آخرها شهادة لـ جعفر بن أبي طالب، وسطر حسان بن ثابت ذلك الموقف العظيم والشهادة المباركة لشهداء وقواد غزوة مؤتة، فكان مما قاله رضي الله عنه: غداة مضى بالمؤمنين يقودهم إلى الموت ميمون النقيبة أزهر أغر كضوء البدر من آل هاشم أبيٍّ إذا سيم الظلامة مجسر فطاعن حتى مات غير موسدٍ بمعترك فيه القنا تتكسر فصار مع المستشهدين ثوابه جنان وملتف الحدائق أخضر وكنا نرى في جعفر من محمد وقاراً وأمراً حازماً حين يأمر وما زال في الإسلام من آل هاشم دعائم عز لا ترام ومفخر وبعد حسان بن ثابت جاء كعب بن مالك فأرسل شعره رثاءً، فقال: وجداً على النفر الذين تتابعوا يوماً بمؤتة أسندوا لم ينقلوا صلى الإله عليهم من فتية وسقى عظامهم الغمام المسبل صبروا بمؤتة للإله نفوسهم حذر الردى ومخافة أن ينكلوا إذ يهتدون بجعفر ولوائه قدام أولهم فنعم الأول حتى تفرجت الصفوف وجعفر حيث التقى وعث الصفوف مجدل فتغير القمر المنير لفقده والشمس قد كسفت وكادت تأفل فذهب ومضى أبو المساكين رضي الله عنه، والمساكين يندبون فقده، وذهب فارس الفرسان، والشجعان يندبون فقده، ومما قاله العلماء والأئمة في ذكره ووصفه، ما جمع هذه الألقاب والمناقب كلها.
فقد صدَّر الذهبي رحمه الله ترجمته في السير بقوله: السيد الشهيد، الكبير الشأن، علم المجاهدين، أبو عبد الله ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي الهاشمي، أخو علي بن أبي طالب وهو أسن من علي بعشر سنين، هاجر الهجرتين، وهاجر من الحبشة إلى المدينة، فوافى المسلمين وهم على خيبر إثر أخذها، فأقام بالمدينة أشهراً، ثم أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش غزوة مؤتة بناحية الكرك، فاستشهد، وقد سر رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً بقدومه، وحزن -والله- لوفاته.
لقد أوجز الذهبي رحمه الله إسلامه وسبقه، وهجرته وفضله، ثم إمرته وجهاده واستشهاده رضي الله عنه بهذه الكلمات العظيمة الدالة على فضل جعفر رضي الله عنه.(126/10)
معالم من حياة جعفر رضي الله عنه(126/11)
الخصال التي يعظم بها أجر المؤمن
ثم كذلك نلحظ أمراً أخيراً مهماً، وهو الخصال العظيمة التي يعظم بها أجر المسلم، ويخلد ذكره عند الناس، وتكون له في القلوب محبة عظيمة ومكانة كبيرة، فذلك ما كان من جوده وكرمه رضي الله عنه وأرضاه، وما كان من شجاعته وإقدامه، فكان في هذه الأحوال -أي: حال السكون وحال الإقامة- على ذلك القدم من السبق في الإحسان والجود والإكرام، وكان في موضع الشدة والقتال على ذلك القدم من السبق في الشجاعة والإقدام رضي الله عنه وأرضاه.(126/12)
المسلم والدعوة إلى الله عز وجل
وهنا مسألةٌ مهمة، وهي أن دعوة المسلم يحملها بين جنبيه، وينشغل بها فكره، ويهتم بها قلبه، وينطق بها لسانه، ويجتهد في الإحسان والإتقان بقدر ما يستطيع حتى تؤدي الدعوة ثمرتها وتبلغ غايتها، كما رأينا في فطنة ودعوة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، نسأل الله عز وجل أن يلحقنا به وببقية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن على خيرٍ وتقىً وهدىً، وعلى استمساكٍ بكتاب الله واتباعٍ لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونسألك -اللهم- أن تلحقنا بهم في الشهداء الصالحين، وفي المؤمنين العاملين برحمتك يا أرحم الراحمين.(126/13)
ارتباط الإسلام والإيمان بالحق لا بالأشخاص
الأمر الثاني: نلحظ أن جعفر رضي الله عنه لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاً طويلاً، وذلك يدلنا على أن أساس الإيمان والإسلام ليس الارتباط بالأشخاص، وإنما الاعتقاد بالحق، والارتباط بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمرٌ عظيم؛ فإن جعفراً بقي محافظاً على إسلامه مع من معه من الصحابة، وكانوا يحرصون على الإيمان والطاعة والعبادة، ويأخذون ما قد يرد إليهم من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم كانوا دعاةً يدعون إلى الإسلام، ويقيمونه فيما بينهم، وربوا عليه أبناءهم، وأقاموه في مجتمعهم دون أن يكونوا قريبين ومتصلين مباشرةً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثالث: الحرص على السبق والفضل في مناقب الخير، والدعوة والبذل والنصرة لدين الله عز وجل، كما رأينا في قصة المفاضلة بين عمر وأسماء رضي الله عنهما، فقد كانوا أحرص على الخير، وكان أحب شيءٍ إليهم أن يبذلوا، وأن يسبقوا في طاعة الله ومرضاته ونصرة دينه وعون عباده.(126/14)
الأجر والفضل بالعمل والكسب لا بالنسب والقرب
إن الفضل والأجر والمثوبة بالسبق والعمل والبذل، وليس بالنسب والقرب والحب وحده؛ فإن جعفراً رضي الله عنه وإن كان من النبي صلى الله عليه وسلم قريباً وإليه حبيباً إلا أنه كان لله عز وجل باذلاً، وبأمره قائماً، ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم متبعاً، وبشأن دعوته قائماً، فكان حينئذٍ على هذا المقام العظيم والقدر الجليل الذي كان له رضي الله عنه وأرضاه.(126/15)
الأسئلة(126/16)
الكتب التي ترجمت لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه
السؤال
نرجو الإرشاد إلى بعض الكتب التي ترجمت لـ جعفر رضي الله عنه؟
الجواب
ليس هناك -فيما رأيت- كتاب أفرد ترجمة جعفر، إلا أن يكون من بعض الكتب المتأخرة ولم أطلع عليه، لكن ترجمة جعفر موجودة في أمهات الكتب التي ترجمت للصحابة، كطبقات ابن سعد، و (الاستيعاب في معرفة الأصحاب) لـ ابن عبد البر، و (الإصابة في معرفة الصحابة) لـ ابن حجر، وفي (سير أعلام النبلاء) للذهبي، وغيرها من الكتب الأصيلة التي أوردت تراجم الصحابة رضوان الله عليهم، ولـ جعفر كذلك ترجمات واردة فيمن اقتصروا على ترجمة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم في بعض ما أفردوه من هذه الكتب.(126/17)
حكم الهجرة في هذا الزمان إلى بلاد أهل الكتاب
السؤال
هل يجوز للمسلم في زماننا هذا أن يهاجر إلى بلاد أهل الكتاب الذين اشتهر العدل بينهم أم أنه لا يجوز؟
الجواب
هذه أحوال تحتاج إلى تفصيل، فأين هو مقيم؟ هل هو في بلد يضطهد فيه في دينه، ولا يستطيع إقامة شعائر الله، ولا يستطيع أداء أركان الإسلام؟ إذا كان كذلك فقد تكون حينئذٍ هجرته إلى بلدٍ يأمن فيه على نفسه وماله وولده، ويأمن على إقامة شعائره وشرائع دينه أمراً جائزاً سائغاً، بل قد تكون في حق بعض الناس واجباً إذا كانت الإيذاءات قد تصل به إلى الفتنة في دينه، لكن المهم في الحقيقة ليس هو جواز هذه الهجرة أو عدم جوازها، بل الأكثر أهميةً هو كيف يكون حاله إذا ذهب إلى غير بلاد المسلمين؟ وهل يذوب فيها ويصبح مع القوم؟ وهل يبيع دينه ويداهن في دينه، أم يكون كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتين على الحق، داعين إليه، لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يعطون الدنية في دينهم؟ ومع ذلك فقد نجدهم يحسنون القول الحق والعدل والإنصاف فيما عليه أولئك القوم من خيرٍ أو من نفعٍ وفائدة، وقد يحسنون خطابهم بجوانب من الإسلام التي تؤثر فيهم وتقنعهم بعظمته، وبما فيه من الخير العظيم.(126/18)
تعريف الأدم
السؤال
ما هو الأدم؟
الجواب
الأدم هو الجلد.(126/19)
الحكمة في اختيار جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لقيادة معركة مؤتة
السؤال
لماذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم جعفراً ليقود معركة مؤتة؟
الجواب
السؤال لا يرد كذلك، لكن نقول: لو التمسنا حكمة لذلك فإننا نلتمس وجوهاً عدة، من أهمها: بيان أن الصحابة الذين كانوا في الحبشة وإن كانوا بعيدين عن النبي صلى الله عليه وسلم فليسوا بأقل فضلاً، ولا بأقل قدرةً عن أن يتسلموا المهام العظيمة في الدفاع عن الإسلام وفي إعلاء رايته والجهاد في سبيله من غيرهم.
والأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحرص على استبقاء أقاربه أو أصحابه، أو من لهم به صلة دون غيرهم، بل قدَّم زيد بن حارثة وهو حبه عليه الصلاة والسلام الذي كان مولاه، والذي كان من المقربين إليه، ثم قدَّم جعفر بن أبي طالب وهو ابن عمه والأثير لديه، وهذا يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد الخير بمن هم قريبون منه بتقديمهم لما هو خير لهم في دنياهم وأخراهم.
ومن جهة أخرى لا يفرق بين الناس، فيستأثر بعضهم بأمورٍ ويقدم بعضهم إلى أمور مما فيه مظنة الهلكة ونحو ذلك.
وأيضاً فيه موازنة لجملة المهاجرين من أصحاب الحبشة؛ إذ كان جعفر مقدمهم فقدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليشعر أولئك جميعاً أنهم مقدمون، وأنهم على قدم المساواة مع بقية إخوانهم.(126/20)
بيان أن النجاشي الذي هاجر إليه الصحابة هو الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل النجاشي الذي أسلم وصلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي كان المهاجرون عنده؟
الجواب
أكثر الذين تكلموا في هذا رجحوا أنه هو باعتبار هذه الحادثة، وإظهاره لهذا المعنى من الإسلام، وبعضهم يقول: إنه نجاشي آخر.
أي: ملك آخر بعده.
وقد وقعت واقعة ذكرها أهل السير، وهو أن بعض أقارب النجاشي هذا الذي كان مع جعفر قد انقض عليه، وخرج عليه وقاتله يريد أن يزيحه من مكانه وملكه، وكان الصحابة في ذلك الوقت في قلق، يخشون أن يغلب غير هذا النجاشي العادل فيظلمهم أو يبطش بهم حتى إنهم نفخوا بعض القرب، وجعلوا بعضهم يخرجون إلى البحر على هذه القرب حتى يكونوا من جهة المعركة لينظروا كيف سيرها، حتى إذا رأوا شيئاً من الأمور مما قد يضرهم يتهيئون له.
فالذي ذكره بعض أهل العلم هو أنه هذا النجاشي الذي ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه.(126/21)
عدد قتلى الروم في غزوة مؤتة
السؤال
كم كان عدد قتلى الروم في غزوة مؤتة؟
الجواب
فيما ذكر أنه بلغ المئات، فقد كانوا أضعاف عدد المسلمين، وقتلاهم أضعاف شهداء المسلمين.(126/22)
معنى اسم جعفر
السؤال
هل اسم جعفر له معنىً؟
الجواب
يقولون في اللغة: إن الأسماء لا تعلل مطلقاً.
وإن كان بعض الأسماء يمكن أن تكون لها معانٍ من أصل كلامها الاشتقاقي، وليس بالضرورة أن يراد المعنى الذي هو راجعٌ إلى الاشتقاق.(126/23)
تعريف البطارقة
السؤال
من هم البطارقة؟
الجواب
البطارقة هم رجال الدين المسيحي الذين كانوا عند النجاشي، وكان يلقب الواحد منهم بالبطريق، مثل القسيس ورجل الدين.(126/24)
بلاد الحبشة
السؤال
هل بلاد الحبشة ما زالت معروفة إلى اليوم؟
الجواب
بلاد الحبشة هي التي هي إلى اليوم بلاد الحبشة، وهي من البلاد التي دخلها الإسلام مبكراً في الفترة المكية بسبب هجرة الصحابة رضوان الله عليهم في هجرة الحبشة الأولى والثانية.(126/25)
حال الرواية التي فيها أن جعفراً يطير
السؤال
هل الرواية بأن جعفراً يطير رواية صحيحة؟
الجواب
جملة الروايات مذكورة عند الترمذي وعند غيره، قال عنها ابن حجر رحمه الله: إن إسنادها قوي وجيد.(126/26)
أسماء أولاد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه
السؤال
ما هي أسماء أولاد جعفر؟
الجواب
هو يكنى بـ أبي عبد الله، وعبد الله أكبر أبنائه، وله ابنٌ ثانٍ اسمه عون، وثالث اسمه محمد.(126/27)
بعض سيرة أسماء بنت عميس رضي الله عنها
السؤال
نريد بعض سيرة أسماء بنت عميس رضي الله عنها؟
الجواب
أسماء بنت عميس رضي الله عنها امرأة فاضلة عظيمة، لما استشهد جعفر رضي الله عنه تزوج بها أبو بكر رضي الله عنه، وهي التي تولت غسل أبي بكر رضي الله عنه، فلما مات أبو بكر خلفها عليه وتزوج بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فتزوجها خيرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لفضلها ومقامها وإيمانها وهجرتها رضي الله عنها وأرضاها.
وقد أنجبت من علي رضي الله عنه، وأنجبت من جعفر، وكان هناك بعض مفاضلة بين أبنائهم، وقالت في ذلك قولاً حكيماً رضي الله عنها وأرضاها.(126/28)
وقت موت أبناء جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم
السؤال
هل مات أبناء جعفر قبله أم بعده؟
الجواب
أبناء جعفر ماتوا بعده، وليس قبله، وكان عبد الله من أشهرهم، وهو أيضاً من أجل صغار الصحابة، وله فضل عظيم ومناقب جليلة رضي الله عنه وأرضاه.(126/29)
نظرة الغرب نحو المسلمين وواجب المسلمين نحو ذلك
السؤال
جعفر بن أبي طالب رمز من رموز التضحية، ضحى بكل شيءٍ في سبيل دينه وعقيدته، وبه وبأمثاله أعز الله دينه، أما رموز اليوم ممن يلتزمون دين الله ويعلنون ولاءهم لله والتزامهم بالمنهج الصحيح فهؤلاء في عصرنا إرهابيون بمفهومٍ غربي يدعمه ويعضده الإعلام العربي والإسلامي، فما رأيكم في هذه المفارقة؟
الجواب
إن القلة المسلمة هنا أو هناك على هذه الشاكلة، بل اليوم أصبح الكلام على المسلمين كلهم على هذا النحو، وبقدر تفريط المسلمين في دينهم وعدم اعتزازهم وتشبثهم بالتمسك به بقدر ما يكون ضعفهم وهوانهم وتسلط الأعداء عليهم، وهنا لابد حينئذٍ من قوةٍ وثبات، وبيان للحق، وبيان لمحاسن الإسلام، وردٍّ لهذه الشبه، وحكمةٍ يمنع بها التهور الذي يضر الإسلام وأهله أكثر مما ينفعهم.(126/30)
حال حديث طالب الشهادة بصدق
السؤال
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من طلب الشهادة بصدقٍ نالها ولو مات على فراشه) فما صحة الحديث؟
الجواب
الحديث عند البخاري في الصحيح بلفظ: (من طلب الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه).(126/31)
بيان الشهيد الذي يشفع في سبعين من أهله
السؤال
هل الشفاعة في سبعين من الأهل ينالها الذي طلب الشهادة ومات على فراشه؟
الجواب
فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء، لكن المتبادر إلى الذهن عند ذكر الشهيد هو الذي يموت في القتال في سبيل الله عز وجل.(126/32)
عدد الغزوات التي حارب فيها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه
السؤال
كم غزوةً حارب فيها جعفر؟
الجواب
لم يشهد إلا غزوة مؤتة، وفيها كان قائداً، وفيها كان شهيداً رضي الله عنه وأرضاه.
والحمد لله رب العالمين، وصل -اللهم- وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(126/33)
تاج العفة والرءوس المريضة
العرضُ من الضروريات الخمس التي دعا الإسلام إلى حفظها، فهو مصون في الإسلام، فيجب على المسلم أن يحافظ على عرضه وأن يحافظ على عرض أخيه المسلم، وأن يعف عن الحرام، كما أنه يجب على المسلم أن يحافظ على أهل بيته ومحارمه من الفساد وأسبابه، فهو مسئول عن ذلك بين يدي الله عز وجل.(127/1)
تعريف العفة ومعناها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الكبير المتعال، الموصوف بصفات الكمال، المتفرد بالعزة والجلال، منه المبتدى وإليه المرجع والمآل، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو جل وعلا أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وله الحمد أولاً وآخراً دائماً وأبداً ملء السموات والأرض وملء ما شاء من شيء بعد، أحمده سبحانه وتعالى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: فنحمد الله جل وعلا على أن جدد الأنفاس؛ لنعاود التذكر والتفكر في آياته، ونستلهم العبر والفوائد من أحاديث وهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولنجدد العهد بحلق الذكر ومجالس العلم، سائلين الله جل وعلا أن يتقبلنا في عباده الصالحين، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما يعلمنا، وأن يزيدنا علماً، ويعيننا على طاعته، ويجعلنا من عباده الصالحين؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأسأل الله جل وعلا أن يجمعنا في دار رحمته ومستقر كرامته في مقعد صدق عند مليك مقتدر إخواناً على سرر متقابلين؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو أكرم مسئول وأعظم مجيب، ونسأل الله جل وعلا من عظيم فضله ووافر عطائه وعظيم جوده سبحانه وتعالى.
وكلامنا سيكون عنوانه (تاج العفة والرءوس المريضة)، ويأتي ضمن دروس لفضلاء من أهل العلم والمشايخ كان أكثرها يدور حول موضوع المرأة والأسرة وبناء المجتمع الإسلامي في ظل هذه التغيرات العظيمة في المجتمعات المعاصرة، وفي ظل الهجمة الشرسة على نظم الإسلام وتشريعاته، وفي ظل الانحرافات السلوكية الأخلاقية التي غزت بلاد الإسلام والمسلمين عبر الفضاء من خلال القنوات الإعلامية، وعبر المخالطة من خلال السفر والاختلاط، ونحو ذلك من أسباب أخرى كثيرة، وموضوعنا يتعلق بأساس مهم وركيزة عظمى من ركائز حفظ المجتمع المسلم؛ لأن أمر الأسرة عظيم.
وسنحاول أن نلم بأطراف هذا الموضوع الذي يتشعب في الحقيقة إلى موضوعات كثيرة كل منها جدير أن يفرد بحديث مستقل، فنتحدث أولاً عن معنى العفة، ثم نعرج على عوامل تحقيق العفة، ونسلط الضوء على ثمارها ومنافعها عندما تتحقق في واقع المجتمع، وبعد ذلك ننتقل إلى الشق الآخر لنقف على عوامل تضييع العفة، والأوهام والشبهات الباطلة المتعلقة بهذا الموضوع، ثم نختم بالمخاطر والآثار السلبية الناشئة عن التفريط في العفة.
أولاً: معنى العفة.
قال ابن فارس في (معجم مقاييس اللغة): العين والفاء أصلان صحيحان.
أي: أصل الكلمة مبني على هذين الحرفين، ويرجعان إلى أصلين صحيحين: قال: الأول: الكف عن القبيح.
والثاني: الدال على قلة الشيء.
فأصل الكلمة يعود إلى الكف عن القبيح وإلى معنىً آخر هو قلة الشيء، وبينهما ربط يأتي الحديث عنه.
ثم قال: العفة: الكف عما لا ينبغي، والعفة -وهي الأصل الثاني- بالضم هي بقية اللبن في الضرع.
أي: هي الشيء القليل كما مر.
وقال الراغب الأصبهاني في (مفردات القرآن): العفة: حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة.
أي أن هذه العفة معنىً يقوم بالنفس، فيمنع من غلبة الشهوة فيما حرم الله سبحانه وتعالى، قال: والمتعفف هو المتعاطي للعفة بضرب من الممارسة والقهر، وأصله -أي: أصل معنى العفة-: الاقتصار على تناول الشيء القليل الجاري مجرى العفافة.
وهذا هو الربط بين المعنيين.
فالعفة: الكف عن الحرام.
ومن كف عن الحرام فإنه يأخذ القليل من الحلال الذي يكفيه ويعفه ويحصل به النفع له، ويمتنع به الضرر عنه وعن غيره في بناء المجتمع المسلم.
وقال صاحب (لسان العرب): العفة هي الكف عما لا يحل ويجمل.
والأمر هنا في كلامه أوسع.
فالمراد بالعفة الكف عن المحرم وعما لا يجمل أيضاً، أي: عما يكون قبيحاً في أعراف الناس الصحيحة، بمعنى الكف عما لا يتفق مع الذوق العام مما يكون مستهجناً في وسط المجتمع المسلم.
قال: وعف عن المحارم والأطماع الدنية يعف عفة وعفاً وعفافاً فهو عفيف، وعف إذا كف، أما الاستعفاف فهو طلب العفة والعفاف.
ولذلك ورد في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم (ومن يستعفف يعفه الله)، وقال جل وعلا في محكم التنزيل: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور:33] أي: ليطلبوا العفة والعفاف من طريقه الذي سنشير إلى بعض معالمه وملامحه.
قال: والاستعفاف هو طلب العفاف، وهو الكف عن الحرام والسؤال من الناس.
فإذاً ظهر لنا أن معنى العفة الكف عن المحرم الذي حرمه الله سبحانه وتعالى، والاكتفاء بما حل وإن كان قليلاً؛ لأن القليل الذي أحله الله هو الذي يشبع الغريزة، ويطمئن النفس، ولا يحتاج معه العاقل إذا عرف عواقب الأمور إلى زيادة عن هذا الحد المشروع.
وفي مقابل العفة معنىً آخر، هو الخسة والدناءة، فثمة رجل عفيف ورجل دنيء، والعفة لا يقتصر في معناها على جنس دون جنس، فليست العفة خاصة بالنساء دون الرجال، بل يقال: امرأة عفيفة ورجل عفيف، وكذا فيما يقابلها، ثم أيضاً مما يتصل بمعنى العفة أن نعرف طبيعة النفس الإنسانية، والنفس هي كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم بعض مناحيها بقوله: (لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لابتغى ثانياً، ولو كان له واديان لابتغى ثالثاً، ولا يملأ فم ابن آدم إلا التراب)، فطبيعة النفس البشرية أنها لو تركت لهواها لا تشبع.
فالعفة التي هي اقتصار على القليل الكافي هي أمر فيه نوع من التربية والتهذيب للنفس، أما لو تركت النفس كما تشاء فإنها لا تقتصر على العفة، بل تتجاوزها إلى ما وراءها.
فإذاً العفة تقبض النفس التي في أصل طبيعتها نهم وشغف لا ينتهي مطلقاً، وإن كان النهم في بعض الجوانب يستحسن، كما ورد أيضاً في حديث المصطفى (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا)، فطلب العلم أصله صحيح، والنهم فيه محبوب، وطلب الدنيا أصله صحيح، ولكن النهم فيه غير مرغوب؛ لأنه لا ينتهي إلى حد، ولا يزال الأمل بالإنسان حتى يقطعه الأجل، ولو مد للإنسان لحظة من عمره لكان له فيها آمال جديدة يزيدها إلى سالف آماله.
فإذاً: لو تركنا النفس بطبيعتها لما انتهت إلى حد، وشارب ماء البحر لا يفيده شرب الماء لملوحته إلا الزيادة في العطش.
فلابد من ضابط، والضابط هو ما جاء في شرع الله من قليل نافع كافٍ حلال يحصل به المقصود، ويتحقق به النفع، ومن ثمَّ كان للعفة صلة في معناها بالتوسط والاعتدال، والعفة عندما تقتصر على شيء وتترك شيئاً فإنها تأخذ بالوسط الذي لا يبلغ الغاية في مداه، ولا يحرم النفس مما تشتهيه وتحتاج إليه، فكانت العفة -أيضاً- ضرباً من الوسطية، ونوعاً من تحقيق المراد الذي تحتاج إليه النفس من غير إفراط ولا تفريط.(127/2)
عوامل وأسباب العفة
عوامل وأسباب العفة كثيرة، وأبوابها متعددة، وحسبنا أن نشير إلى الأسس المهمة منها مع التعريج على بعض فروعها.(127/3)
الإيمان
أولاً: الإيمان.
فأعظم واق من المعاصي وأعظم رادع عن المحرمات وأعظم مذكر دائم للإنسان يرافقه في سره وعلنه في حله وترحاله وفي شهوده وغيبته هو الإيمان بالله عز وجل.
الإيمان الذي ينشئ مملكة الضمير التي لا تجعل العبد المؤمن يستحضر أموراً مهمة من أعظمها وأجلها الخوف من الله، والحياء من الله، وتذكر الآخرة، واستشعار لعظمة الله يبعث على الخوف من الله، واستشعار لنعمة الله يبعث على الحياء من الله، واستحضار لهول الآخرة يبعث على قمع الشهوة في النفس وردعها عن تجاوز الحد، ولذلك كانت التربية الإيمانية والزاد الإيماني بأركان الإيمان الستة أعظم ما يقوي العبد على التزام أمر الله، ويعينه على المصابرة والامتناع عما حرم الله سبحانه وتعالى.
سئل بعض السلف من أهل الإيمان والصلاح والتقى: كيف السبيل إلى غض البصر؟ فقال: علمك بأن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما حرم عليك.
فهل نحن نستحضر مراقبة الله عز وجل، واطلاعه علينا، ومعرفته التي أخبرنا بها في كتابه، كما في قوله جل وعلا: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]؟! وهل نتحقق بذلك ونستشعره في خفقات قلوبنا وخلجات أفكارنا وتصرفات جوارحنا؟! أثر عن بعض السلف أنه كان يربي بعض الصغار من ذوي قرابته، فكان هذا الصغير ينظر إليه عابداً متهجداً ذاكراً تالياً داعياً لله سبحانه وتعالى، فالتفت إليه هذا المربي يوماً وقال له: استحضر في قلبك وإن لم تنطق بلسانك أن تقول: (الله ناظرٌ إلي، الله مطلع علي)، فكلما هممت بهم أو فعلت فعلاً فقل ذلك في قلبك، قال: فما زلت أتعود ذلك وأنا صغير السن، فلما كبرت كان ذلك من نعمة الله علي ومن عصمة الله لي.
ونحن نعلم أمثلة كثيرة، منها: المثل القرآني العظيم الذي فسرته آيات القرآن في سورة كاملة في قصة يوسف عليه السلام، قال عز وجل: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] جاء هذا الوقت الذي فيه كل الإغراء والإغواء مع الأمن والإحسان، فقال يوسف عليه السلام: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23]، ثم اعترفت وقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32]، فكان جوابه: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33].
وذكر ابن القيم في (روضة المحبين) قصة في عهد عمر رضي الله عنه، وهي تتعلق بشاب صالح كان عمر رضي الله عنه ينظر إليه ويعجب به ويفرح بصلاحه وتقواه، ويتفقده إذا غاب، فرأته امرأة شابة حسناء، فعشقته وتعلقت به، وطلبت السبيل إليه، فاحتالت لها عجوز وقالت: آنا آتيك به.
ثم جاءت إلى الشاب وقالت له: إني امرأة عجوز، وإن لي شاة لا أستطيع حلبها، فلو أعنتي على ذلك لكان لك أجر.
قال ابن القيم في سياق القصة: وهو كان أحرص ما يكون على الأجر.
فذهب معها، فلما دخل البيت لم ير شاة، قالت: أنا آتيك بها.
فظهرت له المرأة الحسناء، فاستعصم عنها وابتعد منها، وأراد أن يذكرها الله عز وجل فتعرضت له، فلما أيست منه دعت وصاحت وقالت: إن هذا هجم عليّ يراودني عن نفسي.
فتوافد الناس إليه فضربوه، فتفقده عمر في اليوم الثاني، وأتي به إليه، فقال عمر: (اللهم! لا تخلف ظني فيه) وقال للفتى: (أصدقني الخبر) فقص عليه القصة، فأرسل عمر إلى جيران الفتاة ودعا بالعجائز من حولها حتى عرف الغلام تلك العجوز، فرفع عمر درته فقال: (أصدقيني الخبر) فصدقته لأول وهلة، فقال عمر: (الحمد لله الذي جعل فينا شبيه يوسف)، هكذا أورد ابن القيم رحمه الله هذه القصة.
ومن ذلك الحديث الصحيح الذي ورد في مثل الثلاثة الذين آواهم الغار فسقطت صخرة فأغلقت عليهم باب الغار، فدعوا بأفضل الأعمال التي تقربوا فيها وأخلصوا فيها لله، فكان من قول أحدهم: (اللهم! إنه كانت لي ابنة عم، وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأردتها عن نفسها فأبت، حتى ألمت بها سنة من السنين -يعني: حالة من الفقر- جاءتني فأعطيتها مائة وعشرين ديناراً على أن تخلي بيني وبين نفسها، فلما تمكنت منها -وفي رواية: فلما قعدت بين شعبها- قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه.
قال: فقمت عنها خوفاً من الله عز وجل بعد أن تمكنت منها، اللهم! إن كنت عملت هذا العمل ابتغاء وجهك ففرج عنا) فكان هو آخر الثلاثة، كما ورد في الحديث.(127/4)
الأحكام التشريعية الإسلامية
العامل الثاني: التشريع.
أي: الأحكام التشريعية التي جاء بها الإسلام، يقول الحق عز وجل: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، والأحكام التي جاءت في الإسلام تتفق مع فطرة الإنسان، وتحقق المصالح، وتمنع المفاسد، وهي تحقق أعلى المصالح، وتدرأ أقل المفاسد فضلاً عما هو أكثر منها، ويمكن أن نسلط الضوء على هذه التشريعات في جوانب ثلاثة: الجانب الأول: الجانب الوقائي، وهو مهم، أي: التشريعات الوقائية، فإن الإسلام حطم كل الدواعي والطرق والوسائل والمرغبات والمقربات من الحرام ومما يجرح العفة ويضيعها، فحرم النظر إلى غير المحارم، كما في قول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] وكذلك: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس)، وهذا النظر قد حرمه الله عز وجل.
وحاسة السمع -أيضاً- لها تأثير، فجاء التشريع يضبط أمرها، فـ بشار بن برد كان من فحول الشعراء وكان أعمى، فكان يقول أبيات الغزل والحب والعشق والغرام، فسئل: كيف يصف هذه الأوصاف وهو كفيف البصر؟ فقال: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحياناً ولذلك قال الله عز وجل في شأن نساء المؤمنين وفي شأن أمهات المؤمنين على وجه الخصوص: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] نهاهن عن قول متكسر متميع له وقع في والسمع أثر في القلب، وإيقاد للشهوة وميل إلى المحرم.
وحاسة الشم -أيضاً- ورد فيها حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة خرجت متعطرة فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فهذا -أيضاً- لأن له تأثيراً، بل الصوت قد جاء النهي عنه في قول الله عز وجل: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} [النور:31] حتى لا يسمع ذلك الصوت الذي قد يكون في الغالب يلفت النظر أو يدعو إلى الفتنة ونحو ذلك.
ثم اللمس، فإنه قد ورد النهي عن مصافحة الرجال للنساء، وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع النساء وما مست كفه كف امرأة لا تحل له قط.
وهذا كله من أسباب الوقاية والطهر، فكل الحواس لها أثر على القلب، فالعين تنظر، لكن القلب يتأثر، والأذن تسمع، والقلب يتغير، والأنف يشم، والقلب يتأثر، فإذا وضعت هذه الحدود والحواجز التي هي –كما يقال- خطوط الدفاع الأولى والثانية والثالثة فإنها صمامات الأمان، فمن أخذ بها وقي بإذن الله عز وجل.
ومن التشريعات الوقائية -أيضاً- التحريم المطلق للخلوة، كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء.
قالوا: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت).
وكذلك النهي عن الاختلاط بما يحمله من المعاني التي تقع بها كثير من أسباب الفساد.
ومن الأحكام -أيضاً- في باب النساء أنه إذا خرجت المرأة لحاجة أو إذا اضطرت إلى أن تقضي بعض أمورها فإنها مدعوة بحكم الله عز وجل أن تتحجب، فهذا الحجاب -أيضاً- هو تشريع من تشريعات الوقاية والأمن والسلامة، وكما يقولون: درهم وقاية خير من قنطار علاج.
ودائماً يقولون: السلامة قبل وقوع المصيبة.
لأن العلاج بعد المرض أصعب من فعل بعض الأسباب قبل المرض، ولذلك يدعون إلى تطعيم الأطفال، وهذه التطعيمات هي تطعيمات وقائية قبل حصول المرض، حتى يكون الجسم مستعداً، فإذا جاء المرض كان عنده أهبة الاستعداد لمواجهته وصده بإذن الله عز وجل، فهذه -أيضاً- تشريعات وقائية، وقد جاء الأمر للنساء بأن يكن غير مختلطات بالرجال، كما قال عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33].
الجانب الثاني: جانب التشريعات الاجتماعية.
فإن الإسلام -أيضاً- جاء بتشريعات اجتماعية تحفظ للمجتمع وعيه وأمنه وسلامته وصيانته بإذن الله عز وجل.
وأبرز هذه التشريعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فليس هناك عبارة (ليس لي تدخل) في الإسلام، ولا يوجد هذا الأمر، بل كل إنسان مسئول، وكل مطالب بأن يقول كلمة الحق، وأن يؤدي أمانة النصيحة؛ لأن المرأة المتبرجة أو الرجل الذي يؤذي النساء في المجتمع لا يضر نفسه، ولا يضر هذه المرأة وحدها، وإنما يعود الأمر على الجميع، فالمضرة تلحقني وتلحقك، وتلحق الثاني والثالث، فإذا لم يقم الناس بهذا الأمر وهذا التشريع الاجتماعي فإن الآثار الوخيمة تتسع حتى تشمل كل أحد، ولا ينجو منها بعد ذلك إلا من رحم الله، ولا ينجو منها الناجي إلا بصعوبة ومشقة وعناء، وإن عالم اليوم نعرف ونرى ونحس ونلمس أنه يغزو الصالحين في عقر بيوتهم، ويغزوهم وهم في الشوارع سائرون لقضاء حوائجهم، أو ذاهبون إلى الأسواق لشراء حاجاتهم، وفي أي جانب من الجوانب أصبح الغزو يأتيك يمنة ويسرة عبر الفضاء ومن تحت الأرجل، عبر الأذن سماعاً، وعبر العين رؤية، وعبر أمور كثيرة متنوعة متعددة؛ لأن الناس غضوا الطرف أولاً، وأمرَّوا المنكر والوسيلة إليه حتى صار أكبر منه، ثم بعد ذلك تفاقم الأمر واتسع الخرق على الراقع.
ومن الآداب التشريعية الاجتماعية التي يتساهل الناس ويترخصون فيها الاستئذان، وتربية الأطفال وتعويدهم على هذه الأمور، والتفريق بين الإخوة من الذكور والإناث في المضاجع، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: (وفرقوا بينهم في المضاجع) وذلك إذا بلغوا العاشرة، فهذه الأمور كلها من التشريعات المهمة في هذا الجانب.
الجانب الثالث: التشريعات العقابية، فمن وقع في هذه الحوادث وتلك الأدواء ولم يستمع للنصيحة ثم تجاوز الحد ووقع في المحرم فتردعه التشريعات العقابية والحدود على اختلاف أنواعها، فالرجم للزاني المحصن، والجلد للزاني غير المحصن، وهكذا كل الأحكام المتعلقة بهذه النواحي لتكون رادعاً، ولتكون عبرة لكل من تسول له نفسه أو يدعوه شيطانه إلى ارتكاب المعصية أو خرق حاجز العفة في المجتمع.(127/5)
التربية عامل من عوامل العفة
العامل الثالث: التربية.
والتربية أمرها عظيم؛ فإن الإيمان النظري الذي نحفظه نصوصاً أو نقرأه علماً، وإن التشريعات التي نعرفها فقهاً ونتقنها تفريعاً لا تغني عنا شيئاً إذا لم تحصل التربية عليها والالتزام بها، وهناك -أيضاً- جوانب متعددة متعلقة بالتربية، منها: الجانب الأول: المجاهدة والتعبد.
فلابد -لَنحَصِّل العفة- من أن نحرص على عمق وقوة وحسن ودوام الصلة بالله عز وجل، وأن نكثر التلاوة والذكر والدعاء، وأن نكثر الصلاة والمناجاة والتبتل والتضرع، وأن نكثر الصوم؛ فإنه عبادة من العبادات التي تتطهر بها النفس، ويتزكى بها القلب، وتنحصر وتضيق فيها مجاري الشيطان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)، وهذا نوع من العلاج والتربية، وقال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، فضيقوا مجاريه بالصوم) فهذه التربية العملية العبادية من أهم الجوانب التربوية.
الجانب الثاني: التنشئة والتعود.
وهذا يتعلق بالصغار، ونلمحه باختلاف البيئات، فهناك بيئة لا تراعي التربية الإسلامية، فالفتاة التي في سن العاشرة عندهم صغيرة السن، وقد تكون في الثانية عشرة وهي ما زالت طفلة، وتبلغ الرابعة عشرة وما زالت دون السن الذي يعتقدون أنها تكون فيه في مبلغ البنات أو البالغات، وكذلك الطفل يظل طفلاً ويدخل على النساء من المحارم وغير المحارم وهو في العاشرة، ثم في الثانية عشرة ثم في الخامسة عشرة، وهذا التسيب تلحظه عند من لا يحسن ولا يلتزم التربية الإسلامية، بينما تجد في البيئة الإسلامية أن الفتاة الصغيرة التي في الخامسة من عمرها ترى أمها وترى بيئتها تتحجب وتلتزم فتطلب الصغيرة الحجاب قبل وقتها، وتشعر وتعرف وتدرك بالفطرة التربوية على العادة أن فرض الحجاب أمر طبيعي، فهي تنظر إلى المرأة غير المحجبة على أنها تفعل فعلاً قبيحاً، وعلى أنها ليست كأهلها، وليست كأمها أو أختها أو خالتها، فهذا الشعور لا يعرفه الصغير على أنه حلال أو حرام، ولا يعرفه بدليل من كتاب وسنة، وإنما يعرفه بالتنشئة والتعود، كما قال الشاعر: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه أما من لم ينشأ على هذه التنشئة ثم بعد ذلك نأتي إليه فنقول: هذه آيات القرآن وهذه أحاديث.
فكيف وقد عاش هذه البيئة؟! وكيف وقد مارس هذه الممارسة؟! فهذا -أيضاً- أمر مهم.
الجانب الثالث: المعرفة والتعلم.
ينبغي أن نعلم الشباب في أول مراحل العمر، وفي أول تفتح الذهن هذه المعاني المتعلقة بالأجر والثواب، كقوله صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله -وذكر منهم-: وشاب دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة حق على الله أن يعينهم -وذكر منهم-: والمتعفف يريد النكاح)، كما ورد الحديث عند النسائي في سننه.
فإذاً نعلّم ونعرّف الشباب بهذه المعاني وبأجرها عند الله، ونعلّمهم ونعرفهم بما يضاد هذه، حتى يكون هناك تلخيص صحيح.
الجانب الرابع: التفكر والتطلع، فالقضية التربوية دائماً تعتمد على إحلال الخير محل الشر، وأن الفراغ في حد ذاته ضرب من الشر؛ لأن النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، فينبغي أن نعود الشباب في أول أعمارهم على أن تكون أفكارهم وتطلعاتهم وطموحاتهم ترقى إلى رقي تام، وإلى الآفاق الواسعة، لا كما يشيع اليوم في صفوف الشباب من أثر هذه الهجمات التي أشرت إليها، فإذا كل فكره هو في الفتاة التي يحبها، والهندام الذي يتزين به، أو العطر الذي يتعطر به، أو التسريحة التي يسرح بها شعره، وعلى ذلك قس في جانب الفتاة ما هو أعظم وأدهى، فهناك ألوان للعيون زرقاء وخضراء، وألوان للصبغات في الشعر من شقراء وغير ذلك، وكل هذا أصبح هو الذي يملأ الفكر ويشغله، فأين رسالة الإسلام؟ وأين التفكير في العلم؟ وأين قوة البدن ورياضة الجسم؟ وأين الارتباط بمآسي المسلمين والتفكر في أحوالهم؟ لو شُغل الشباب والفتيات وعودوا على هذه المعاني وكان هناك ما يسمى بنظرية التفاني التربوية التي يسمو فيها الإنسان عن الشهوات الطبيعية الفطرية التي إذا أتيح لها الفرصة تمكنت من الإنسان لكانت النتائج إيجابية، وإذا شغل الإنسان نفسه بغيرها لم تتحكم فيه.
وأضرب لذلك مثالاً: هذه الشهوات مع الإنسان في كل وقت، لكنها في وقت تقع وتظهر وتبرز، فالطلاب أو الشباب في سن الطلب من الفتيان والفتيات يشغل بالهم شيء من أثر هذه المؤثرات، لكن إذا جاء وقت الاختبارات يحصل عندهم عمل مهم، فيحصل عندهم جهد يبذلونه في هذا العمل وتفكيرٌ ينشغلون به، واهتمام قلبي ونفسي يتوجهون به إلى هذه الاختبارات، وفي ذلك الوقت وفي هذه الفترة تجد أنهم يدعون مثل تلك الأمور جانباً وراء ظهورهم.
إذاً فالأمر كذلك في كل وقت لو أننا استطعنا هذا، وعلى الشاب وعلينا أن نفقه هذه المعاني.
الجانب الخامس: القوة والانتصار.
القوة والانتصار يحصلان بقوة الإرادة التي تحمل الإنسان على الدواعي التي تدعوه، فيكون حينئذٍ أسيراً أو عبداً لشهواته، فمثلاً: بعض الناس من أصحاب النهم في الطعام إذا أردت أن تعذبه فامنع عنه الطعام أو قلل كميته، وإذا أردت أن تأخذ منه أي شيء فامنع عنه الطعام أو قلل الكمية ثم اطلب ما تشاء فسوف يتنازل؛ لأن فكره الأول والأخير هو في هذا، فإذا منع منه يمكن أن يعطي من ماله، ويمكن أن يتنازل، المهم أن ينال طلبه.
وكذلك في جانب شهوة الجنس، فمن كانت هي أوفر همه وأعظم شغله فإنه قد يبيع أخلاقه، ويبيع دينه، ويضيع ماله، ويسيء إلى سمعته، ويسيء إلى أهله؛ لأنه جعل نفسه أسيراً لهذه الشهوة، فمتى يكون قوياً؟! فليس القوي هو الذي يتبع شهوته، بل القوي هو الذي يملكها، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب).
فهذا مقياس تربوي مهم لابد من أن ننتبه له، وأن نربط -أيضاً- أنفسنا بوعد الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].(127/6)
التوعية عامل من عوامل العفة
العامل الرابع: التوعية.
وما أدراك ما هذه التوعية التي نحتاج إليها! إننا -للأسف- في كثير من مجتمعات المسلمين نجد هذه التوعية عكس المطلوب، فالتوعية التي نقصدها أن نبرز المنافع والمصالح التي تنشط من العفة ومن التزام أمر الله عز وجل، ليس بمجرد قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان هذا يكفي المؤمنين، لكن بما يضاف إلى ذلك من أمور مصلحية حياتية، فإنه تحصل منافع كثيرة عندما يطبق الإنسان شرع الله عز وجل، وفي المقابل ينبغي -أيضاً- أن تبين الآثار السلبية لنوعي المجتمع -الشباب والشابات-، وذلك ببيان أن ما يجول في أفكارهم وما تطمح إليه نفوسهم بعيداً عن منهج الله عز وجل سوف يعود ضرره عليهم عاجلاً أو آجلاً أمراضاً في أبدانهم، وقلقاً في نفوسهم، واختلالاً في أمنهم، إلى غير ذلك من الأمور التي ابتلي بها من تركوا أمر الله عز وجل، ويصدق في هذه الأوضاع كلها شطر آية من كتاب الله عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] إنه ضنك يحصل في الاقتصاد وفي الاجتماع وفي الأمن، وفي كل جانب من جوانب الحياة، عندما يتخلف الناس عن التزام شرع الله عز وجل.
فهذه التوعية أمرها مهم.(127/7)
الاستعانة بالله عز وجل
العامل الخامس: الاستعانة.
وأعظم الاستعانة هي بالله عز وجل، فإن هذا الزمان زمان فتن، وإن هذا الزمان زمان شهوات ومغريات، وزمان صار فيه شياطين الإنس أعظم كيداً ومكراً من شياطين الجن، وحاول الأبالسة أن يصرفوا الناس عن دينهم وعن عفتهم وعن أخلاقهم، حتى جاءوا بما لا يتصوره العقل، بل بما يترفع عنه الحيوان البهيمي، وبما لا يتفق مع الإنسانية في قليل ولا كثير، فلابد للإنسان من أن يستعين بالله عز وجل، وأن يكثر الدعاء، وأن يكثر الالتجاء إلى الله عز وجل حتى يعف نفسه عما حرم الله، وحتى يقوي عزمه في مواجهة هذه المغريات والمثيرات، وحتى يسهل له ما يعف به نفسه.(127/8)
الأخذ بالمباح
الأمر السادس: الأخذ بالمباح؛ لأن الفطر والغرائز أمر من أصل خلقة الله عز وجل لا يمكن تجاهلها.
ومن أعظم أسباب العفة تصريف الغرائز البشرية الفطرية الطبعية فيما أحل الله عز وجل، ولهذا أبيح أمر الزواج المبكر الميسر، ولو فتح هذا الباب لانسدت أبواب من الشر عظيمة، ولو فتح هذا الباب لسكنت النفوس، وغضت الأبصار، وعفت الألسنة، وانقمعت الفتنة من نزوات الشهوة، وزال كثير وكثير وكثير من الأمور التي تشكو منها مجتمعات إسلامية كثيرة، فقد يبلغ الشاب في سن الخامسة عشرة ولا يتزوج إلا في الثلاثين في أغلب الأحوال، فيكون في هذا الزمن الممتد عرضة لتحطيم الحواجز، ولخدش الحياء وتضييع العفة، وهكذا تبلغ الفتاة في العاشرة أو الثانية عشر ولا تتزوج إلا في العشرين أو الخامسة والعشرين.
ونرى ونعلم ما يحصل -أيضاً- من تجاوز هذه الحدود العمرية -سواء في الشباب أو الشابات- في بعض المجتمعات الإسلامية التي يعجز فيها الفتى عن أن يتزوج حتى يبلغ الخامسة والثلاثين إلى الأربعين، وتعجز الفتاة عن الزواج حتى الثلاثين وبعد الثلاثين، وليس هذا كلاماً جزافاً، بل كلنا يعلمه في مجتمعات كثيرة، ونلمسه ونراه، وأعرفه في كثير من بيئاتنا ومجتمعاتنا وذوي قرابتنا.
ثم نستسلم أو نقول بالأقوال التي يروجها بيننا دعاة الباطل، ومنها أن الزواج المبكر لا يتناسب مع مقتضيات العصر، ولا يتناسب مع الوعي والفكر لدى الشاب الصغير وتلك الفتاة الصغيرة.
ونحو ذلك، ويحصل التعسير الذي يقع في الزواج وما ينتج عنه.
فإذاً من أهم الأسباب الأخذ بالمباح من الزواج المبكر الميسر، وكذلك أبواب التعدد العادل النافع؛ فإن شرع الله عز وجل أتى بما ينفع ويشفي، وبما يدفع الضر ويبعد الأذى عن المجتمع المسلم.
فهذه بعض العوامل الرئيسة التي بها تتحقق العفة في المجتمع الإسلامي الإيماني.(127/9)
ثمار العفة
الجانب الثالث: ثمار العفة.
فماذا نجني عندما نحقق هذه العفة ونلتزمها ونشيعها بين شبابنا وشاباتنا؟ إننا نجني الثمار التالية: أولاً: السلامة من الفواحش، والفاحشة هي الأمر الذي يفحش أو الذي يتجاوز الحد وتعافه النفس والفطرة السوية، قال الله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32].
فإذا التزمنا بتلك التشريعات وبتلك الجوانب التي ذكرناها -من تربية إيمانية، وتشريعات وقائية، وتربية إسلامية، وتوعية تنبيهية تحذيرية، واستعانة بالله عز وجل- فكل هذه العوامل ستجعلنا بمنأى عن هذا الدنس والهاوية الخطيرة السحيقة.
ومن الثمار: السلامة من أضرار الفواحش، وما أدراك ما أضرار الفواحش؟ فالعالم الغربي الذي كسر حواجز العفة يعج بالأمراض الجنسية المعروفة التي حيرت عقولهم، ودمرت صحتهم، وفتكت بهم، وزرعت بينهم الخوف والرعب، والتي سلبتهم حرية ولذة الاستمتاع الذي يسعون إليه ويجرون وراءه، وكلفتهم وراء ذلك الضرائب العظيمة والضخمة من اقتصادهم وأموالهم التي أهدرت بالمليارات في إجراء الأبحاث والتماس العلاج والطب ومراكز الأبحاث ونحو ذلك من الأمور، إضافة إلى ما ينشأ عن ذلك من اختلال الأمن والجرائم والاغتصاب مما سيأتي ذكره في الشق الآخر.
ومن الثمار العظيمة: نقاء المجتمع وطهارته، فإذا وجدت هذه العفة لن ترى امرأة متبرجة، ولا شاباً متسكعاً، بل ترى جداً في الشباب وعفة في الفتيات، وترى مجتمعاً طاهراً نقياً ليس فيه ذلك الابتذال ولا تلك الدناءة والخسة.
وكذلك من الثمار: قوة الإرداة التي تحدثنا عنها، والأجر والثواب العظيم من الله سبحانه وتعالى، والتوكل، لقوله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] فهذه العفة من الحرام فيها تجديد وتقوية وزيادة للإيمان.
والعفة -أيضاً- سبب من أسباب النجاة من النار، كما ورد في حديث أخرجه أبو يعلى في مسنده والطبراني في معجمه -وتكلم بعض أهل العلم في بعض رجاله بأنهم غير معروفين- قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا ترى أعينهم النار: عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين كفت عن محارم الله).
ثم -أيضاً- من أعظم الثمار الصحة وحصول اللذة؛ لأن الذين يجرون وراء الشهوات يفقدون صحتهم، ويفقدون قوتهم التي يأخذون بها هذه اللذة الجنسية، ولذلك أثبتت البحوث العلمية أن القوة باقية ومستديمة بهذا الاعتدال الذي ينشأ أولاً عن الابتعاد عن الحرام، وثانياً عن العفة بمعناها الذي ذكرناه، أو الاقتصار على القليل النافع المفيد والابتعاد عن كثير الضرر؛ لأن كل شيء زاد عن حده انقلب إلى ضده، وهذه مجتمعات الغرب تركت الحبل على غاربه، فليس هناك عندهم شيء ممنوع ولا محرم من زناً ولواط وشذوذ ونحو ذلك، فماذا انتهى إليه أمرهم؟ انتهوا إلى أمراض جنسية مهلكة، وإلى أمراض الضعف، وإلى أمراض أخرى، وهم الآن يبحثون عن علاجات تقوي صحتهم، إلى غير ذلك من الأمور.
يقول أحد الأطباء: إنه رأى شيوخاً ناهزوا الخامسة والسبعين وهم لا يزالون في كامل قوتهم وصحتهم، وهم قادرون على المعاشرة والإنجاب، سئل هؤلاء عن سبب ذلك، فأجابوا أنهم لم يمارسوا العادة السرية في فترة شبابهم، وعندما بلغوا مبلغ الرجال لم يدخلوا في أبواب الحرام، وعندما تزوجوا أخذوا بالتوسط والاعتدال، ثم ابتعدوا عن الأمور التي يستخدمها الناس من هذه الأمور الطبية، فأبقى الله عز وجل لهم هذه الصحة؛ لأن هذا المنهج هو المنهج الطبيعي المتوافق مع الفطرة.
أخي الكريم! إن ما يتعلق بكل ما قيل في ثمار الطاعة وحلاوتها، وما يتعلق بنورانية القلب، وما يتعلق بهذه المحاسن الكثيرة والمنافع العديدة التي تأتي في باب ترك المعاصي والتزام أمر الله سبحانه وتعالى من قوة القلب، وطيب النفس، ونعيم القلب، وانشراح الصدر، والأمن من مخاوف الفساق والفجار، وقلة الهم والغم والحزن، وعز النفس عن احتمال الذل، وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعصية، إلى آخر الأمور المعروفة كله يكون ببركة الطاعة والبعد عن شؤم المعصية وآثارها الوخيمة.(127/10)
عوامل تضييع العفة
الجانب الرابع: عوامل تضييع العفة.
وهي في الجملة عكس ما قلناه في عوامل تحقيق العفة، لكني أشير إليها في أمور محسوسة ملموسة مما نعيشه في واقعنا، وما نلمسه في واقع مجتمعات المسلمين في كثير من بلادهم وبقاعهم.(127/11)
الإثارة الإعلامية المحرمة
من أهم هذه العوامل: الإثارة الإعلامية المحرمة، وهذه اليوم هي من أعظم أسباب تضييع العفة وتهييج الشهوة والدعوة إلى الفسق والفجور، خاصة ما جاء للناس من بلاء القنوات الفضائية، وما يبثه أهل الكفر وأهل العهر من الكفرة والفاسقين والمنحلين إلى الفضاء الذي خلقه الله لننتفع به، فسخره أهل الباطل ليكون مصدراً للفساد، وهو المصدر الذي نزل منه الوحي ونزل منه النور من عند الله سبحانه وتعالى، فانظر إلى جحود الإنسان كيف يسخر النعمة في الباطل والفساد والإفساد! هذه الإثارة التي تدخل فيها المجلة الرقيعة، والقصة الوضيعة، والتمثيلية المبتذلة، والفيلم الإغرائي إلى آخر ما لا ينتهي حصراً ولا عداً ولا لوناً ولا شكلاً مما يُغزى به المسلمون في عقر ديارهم.
والعجب كل العجب، والغرابة كل الغرابة، والاندهاش كل الاندهاش من مجتمعات أو أسر إسلامية تسمح أو يسمح فيها رب الأسرة أن يشاهد أبناؤه أو بناته أو هو نفسه مثل هذه الأمور ولا يرى في ذلك غضاضة، ولا يرى فيها خبراً حتى إذا وقع الفأس في الرأس قال: من أين هذا؟ سبحان الله! ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء فكثيرون من الآباء -وربما الأمهات- لا يفكرون تفكيراً جاداً، ولا ينتبهون انتباهاً صحيحاً لما يقولون، بل يكونون هم سبباً وعاملاً رئيساً من عوامل وقوع أبنائهم في الأمور المحرمة، أو وقوعهم بعد ذلك فيما لا تحمد عقباه مما يترتب عليه مخاطر وأضرار كثيرة.(127/12)
التغريب الفكري والعملي
ثانياً: التغريب الفكري والعملي، فبعض الناس اليوم أمامه كل الاتجاهات الأربعة، ولكنه لم يعرف إلا الاتجاه الغربي، فنسي الشمال والجنوب والشرق، وليس هناك أمامه إلا الغرب، فقبلته إذا توجه الغرب، وفكره إذا فكر الغرب، وبعض الناس فتنوا بهذه الحضارة وبهرجها، ونظروا إلى أحوالهم على أنها هي التأخر والرجعية والتخلف وغير ذلك من السمات والأوصاف، وأشاع بعض الناس من الذين فتنوا من الكتاب أو القصاص أو المفكرين أشاعوا هذه القالة بين الناس وبين مجتمعات المسلمين، وأنه لا تقدم إلا في الغرب، ولا حضارة إلا في الغرب، ولا أدب ولا سلوك إلا في الغرب إلى آخر ذلك.
ومثل هذا أيضاً الجانب العملي، وذلك بما وقع -أيضاً- في كثير من بيئات المسلمين بالسفر المتكرر والاختلاط الدائم بهذه البيئات التي انحلت حتى تحللت، فلم يبق فيها شيء مرتبط بشيء مطلقاً، حيث ظهر السفر والسياحة في تلك البلاد، وشد كثير من المسلمين رجالاً ونساءً وأسراً وشباباً وشابات رحالهم وتوجهوا إلى تلك البلاد، فحصل من ذلك ما حصل من الأمور التي نعرفها.(127/13)
الدعوة إلى تحرير المرأة
ثالثاً: استعباد المرأة الذي يسمونه (تحرير المرأة)، الذي سخر المرأة لتكون فتاة إعلام وفتاة غلاف، وعراها لينظر إلى جمالها ثم يضحك عليها، وتُنَصَّب هذه ملكة للجمال، وتلك ملكة لجمال الورود، وتلك ملكة لجمال الأشجار، وثالثة ملكة لجمال البحار إلى غير ذلك مما يضطرب فيه العقل ويحار، وكل ذلك كان من أعظم أسباب الفساد والإفساد، حتى في تلك المجتمعات، وهكذا من قلدهم –وللأسف- من مجتمعات المسلمين.(127/14)
التسيب الاجتماعي
رابعاً: التسيب الاجتماعي على المستوى العام والخاص، أما على المستوى العام فنراه -وللأسف- في كثير من البلاد الإسلامية من إقرار الاختلاط في التعليم بمراحله المختلفة، وسأذكر بعض ما يقولون من الأوهام والأباطيل مما يقال ويشاع بين الناس، وأنه ليس هناك ضرر من هذا الاختلاط، وأن العفة في القلب، وأن الثقة ينبغي أن تعطى للفتاة، وغير ذلك مما يقال.
فهناك تسيب اجتماعي على المستوى العام، وهناك تسيب اجتماعي على المستوى الخاص في دائرة الأسرة، فهذا ابن عمها، وهذا ابن خالتها، وهذا صديق ابن عمتها، حتى صار الرجال كلهم كالمحارم! والعجب -أيضاً- مما يقع من التفريق الذي لا أساس له من الصحة ولا منطق له بالعقل، فتجد في بعض المجتمعات التي فيها بعض المحافظة تتحجب الفتاة ولا ترى الأجانب من الرجال، لكن تكشف أو تتكلم أو لا تراعي هذه الأحكام الشرعية مع السائق أو مع الخادم، وتقول: هذا سائق.
أو: هذا خادم! أو العكس بالنسبة للشباب: هذه خادمة.
أو هذه مربية! فيا سبحان الله! فكل خادم أو سائق أو عامل أو تاجر هو رجل، وكل مربية أو أستاذة هي امرأة.
فهذه من الأمور والثغرات التي ترخص فيها الناس وجنوا من ورائها الحنظل والعلقم والمر، ووقعت من وراء ذلك ما وقعت من المشكلات والأمور التي نسمع عن بعضها، وقليل منها في مجتمعنا، ونسمع عن الكثير في مجتمعات أخرى.(127/15)
تعسير المباح
الجانب الأخير: التعسير للمباح الذي يدفع إلى التيسير في المحرم، فنعرف اليوم ما يشاع من أمور لابد من توافرها للزواج، ومن مهور غالية، وأنه لابد من سكن شكله كذا، ولابد من أثاث لونه كذا، ونحو ذلك مما عقَّد الأمور وصعبها، حتى غدا النادر من الشباب من لا يستطيع الزواج إلا بعد معاناة شديدة، وربما بعد وقوع في حمأة الرذيلة بصورة أو بأخرى، نسأل الله عز وجل السلامة والعافية.(127/16)
الرد على بعض الأوهام والشبهات التي يروجها من يريد هدم العفة
هناك بعض الأوهام والشبهات التي يروج بها أهل الباطل مثل هذه الثغرات، وأسرد سرداً، ثم أذكر بعض التفصيل، فهذه الموجة الإعلامية الانحلالية مقبولة بحجة الترفيه والترويح عن النفس، ولا شيء فيها؛ لأن الإنسان أو لأن الشباب والشابات عندنا -بحمد الله- عندهم عقول، ولأن المجتمع عندنا -بحمد الله- محافظ! وهكذا نقول الأقوال الوهمية والدعاوى غير الحقيقية، ونغالط أنفسنا، ثم نقف بعد ذلك أمام النتيجة المرة.
وننبه على جانب واحد من هذه الجوانب يتعلق بالنساء على وجه الخصوص، ومن يقوم على شئونهن من الأزواج والآباء، إنه أمر الحجاب، فتجد كثيراً من الفوارق والمفارقات العجيبة، فهناك دعاوى كثيرة.
منها: أن الطهارة والعفة في القلب، فلا تغرنك المرأة المحجبة التي قد تجلببت بالسواد، وأرخت الحجاب على وجهها وكذا، فإنه كم وراء الحجاب من فتاة تتوصل بهذا الحجاب إلى الفتنة أو إلى الفساد.
وهذه كلمات يقولونها وينمقونها، وكم من فتاة لا يضرها أن تكشف عن وجهها أو أن تحسر عن شعرها أو تبدي ذراعها؛ لأنها واثقة من نفسها.
وهذا هو الذي يصبونه في الآذان صباح مساء، من خلال البرامج الإعلامية، فهذه فتاة تقول: أنا واثقة بنفسي، أنا مؤمنة بقدرتي وقوتي.
ثم بعد ذلك تزول هذه الثقة، وتتحطم هذه القوة، ويحصل ما يحصل مما يعلم! ومنها -أيضاً- أن الفتاة تقول: ما زلت في سن الشباب، فإذا كبرت تحجبت.
وهذه -كما يقولون- البضاعة البائرة التي تنزل في السوق ولا يريدها أحد، فتتحجب بعد أن تكون عجوزاً، ولو لم تتحجب وهي عجوز ما نظر إليها أحد، وما سأل عنها أحد، ولا تكلم معها أحد، بل قد جاء التشريع القرآني بأن القواعد من النساء يختلفن عن غيرهن؛ لأنهن لا ينظر إليهن، ولا يرغب فيهن، فالحجاب إنما يكون للمرأة في سن الشباب.
والعجب أنك ترى امرأة كبيرة في السن عليها وقار الحجاب ونور التستر وسيما الحشمة وهي تمسك بيد ابنتها وقد تكشفت وتبرجت وتعطرت وتغنجت، فإذا سئلت هذه المرأة المحجبة والأم المربية قالت: دعها تتمتع بشبابها؛ فإن العمر فيه فسحة! فهذا أيضاً من الأمور العجيبة التي سرت –وللأسف- في مجتمعات المسلمين.
وثالث هذه الأوهام والأباطيل القول بأن كل ممنوع مرغوب، فإذا حجبت المرأة رغبنا فيها، فاكشفوا عنها حتى تصبح أمراً عادياً ولا تلفت النظر.
فيا سبحان الله! لو كان الأمر كذلك فمن أين جاء الاغتصاب الذي نسمع عنه هناك في تلك البلاد، ولو كانت هذه القضية تنتهي إلى هذا الحد الذي يتصورونه ببلادة ذهن وغباء عقل لما كان بين الرجل وزوجته عشرة؛ لأنه سيألفها وسيراها، وبالتالي تصبح عنده شيئاً عادياً وكأنما هي جزء من الأثاث، فهؤلاء يغالطون أنفسهم، وينسون أصل خلقة الإنسان وفطرته، وهذه -أيضاً- من الأمور التي تروج بين كثير من فتيات المسلمين.
وأيضاً من هذه الأمور أن بعض الفتيات تقول: سأتحجب، ولكن عندما أقتنع أولاً، فنحن نريد أن تكون عندنا قناعة، ونريد أن نثبت من هذا بالعقل.
بمعنى أنها لا تريد أن يكون الحجاب مجرد حكم شرعي، وهذا لا شك أنه من جهة أخرى أمر عظيم، ولكن هل هي تريد أن تقتنع حقيقة أم أنها تفرح ببعض جمالها وشبابها وتريد أن تغري أو أن تبدي؟! وكذلك في هذا الباب أن بعض الفتيات تقول: أريد أن أتبرج أو أتكشف قليلاً حتى أرغب بعض الشباب في الزواج بي، فهي تعرض نفسها حتى يأتي -كما يقولون- فارس الأحلام فتتزوج، وحينئذٍ -إن شاء الله- تتحجب.
فنقول: سبحان الله! أي مبدأ هذا؟! إنه مبدأ اليهود الذي يقول: إن الغاية تبرر الوسيلة.
فهي تريد أن تتزوج، لكن ما الذي يضمن لها أن لا تختطف وأن لا تغتصب، فما دامت معروضة لهذا الغرض فقد يأتي الغرض على غير ما تريد، وهذه كلها أباطيل وحيل إبليسية شيطانية.
ومن قائلة أيضاً: إن الحجاب يعيق عن الحركة، والأجواء الحارة أيضاً لها أثر في هذا! إلى غير ذلك من أمور كثيرة شاعت بين المسلمين وللأسف الشديد.(127/17)
المخاطر الناشئة عن ترك العفة
أختم بما يتعلق بالمخاطر الناشئة عن ترك العفة، وهذه قد عرجنا عليها في أثناء حديثنا، والحقيقة أن التفصيل فيها بالإحصاءات والأرقام التي وقعت في المجتمعات التي تركت كل مبدأ وكل خلق وكل فضيلة فضلاً عن أنها تركت كل دين وتشريع، فهناك مخاطر أمنية، فلم يعد هناك أمن على النساء ولا على الأعراض ولا على الأموال، واختلط الحابل بالنابل في هذا الشأن، وهناك المخاطر الصحية من هذه الأمراض الفتاكة التي ابتلى الله عز وجل بها أولئك القوم؛ لأنه قد ورد في حديث -وإن تكلم فيه بعض العلماء بالضعف-: (ما فشت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم).
وهذا في الحقيقة واقع في هذا المجتمع المعاصر، وفي البيئات المنحلة الإباحية.
وهناك -أيضاً- أمور خطيرة، وهي المتعلقة بتغير الفطرة الإنسانية، حيث وجد الشذوذ من خلال هذه الإباحية التي تركت العفة والحصانة، ووجد -أيضاً- التخنث من الرجال بالنساء، ووجد الاسترجال من النساء بالرجال، وظهر ما يسمى بالجنس الثالث، فلم تعد المرأة امرأة فيها حياء ورقة وأنوثة، ولم يعد الرجل رجلاً فيه شهامة وقوة ورجولة، فلم تعد الأمور تتبين.
يقول الشيخ الطنطاوي حفظه الله في بعض كتبه: إنه ركب مرة في إحدى المواصلات العامة في بعض البلاد العربية الإسلامية، قال: فرأيت إنساناً لم أستطع أن يتبين لي هل هو رجل أو امرأة.
لشدة ما قد يختلط في هذا الجانب، وهذا فساد عظيم.
ومن أعظم المخاطر تحطم الأسرة، فقد تحطمت الأسرة، ولم يعد هناك رباط زوجي؛ لأنه لا داعي للزواج ما دام هذا الأمر متاحاً مباحاً، وتحطم الأسرة به تحطم المجتمع، وأيضاً فوق هذا كله هناك ضياع للأطفال وتشردهم وسيرهم في الخط الإجرامي الذي يتوه فيه هؤلاء ويعبثون في المجتمع وأمنه.
وأيضاً قلة نسبة المواليد، والابتعاد في ضرورة هذه الإباحية عن الإنجاب، وعن تكوين الأسرة، إلى غير ذلك مما يطول ذكره، ويعلم في كثير من الأحوال عند كثير منا أمره.
نسأل الله عز وجل أن يجنبنا هذه المخاطر، وأن يرزقنا العفة والحصانة لنا ولنسائنا ولأبنائنا وبناتنا ومجتمعاتنا؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.(127/18)
الأسئلة(127/19)
تربية الأولاد بين توجيه البيت وهدم المدرسة والشارع
السؤال
نحاول توجيه بناتنا وأولادنا بالقدوة الحسنة في البيت، ولكن المدرسة والشارع قد يعيقان التوجيه، خاصة في مسألة تربية البنات وتوجيههن للحجاب، فنريد التوجيه للطريق الذي نسلكه في التربية والتوجيه بما لا يأتي بأمور عكسية، خاصة في أمور الفتيات؟
الجواب
السؤال مهم وخطير وواقعي، فلذلك أقول: في المجتمع المتكامل إسلامياً تجد أن العوامل الأخرى تعينك وقد تكفيك المئونة، أما في مجتمعات لا تطبق الإسلام، أو يكون التطبيق الإسلامي فيها منتقضاً في أكثر جوانب الحياة فتجد أن دورك يحتاج إلى أن يكون مضاعفاً؛ لأنها قضية محسومة، فلكل فعل رد فعل يضاده في الاتجاه ويساويه في القوة، فهناك فعل كثيف وهجوم شديد يحتاج إلى قوة في الرد، لذلك أهم وأولى ما يعتنى به التنشئة في الصغر؛ لأن الطفل يشب على ما تعود، سواء في ذلك الفتى والفتاة، وهذا أمر مهم.
الجانب الثاني: الترسيخ الإيماني لكل المعاني الإيمانية المتعلقة بالرقابة والمخافة من الله عز وجل، وهذا أهم؛ لأنه لا يستطيع الأب ولا الأم مطلقاً أن يفعلا -كما يتصور بعض الآباء والأمهات- رقابة صارمة دائمة، سواء بالقوة أو بالسوط أو بالصراخ، فكل ذلك لا يفيد؛ لأنك -أيها الأب- ستخرج من البيت، وستغيب قطعاً، وتنشغل أحياناً، وهنا إذا زال هذا الجانب الرقابي وليس هناك جانب داخلي يحصل الانحراف والتفلت.
الجانب الثالث: استمرار الإبعاد عن الأمور المثيرة المحرمة قدر الاستطاعة، فإذا علمت أن ثمة –مثلاً- مناسبة اجتماعية فيها بعض الأمور المحرمة فعليك أن تنأى بنفسك عنها، ولتبتعد عنها، ولتبعد أهلك عنها.
الجانب الرابع: توفير الأجواء الطيبة الطاهرة العفيفة النقية في كل مجال قدر الاستطاعة.
وأما الجانب العملي فزواج الشباب والشابات في أقرب الأوقات، وبأيسر الأمور قدر الاستطاعة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عقد على عائشة وهي ابنة ست، ودخل بها وهي ابنة تسع.
فهل نحن خير أو أعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ثم لماذا هذه المغالطة؟ فـ الشافعي رحمه الله قد قال: رأيت جدة لها واحد وعشرون عاماً.
أي أنها كانت بلغت وعمرها تسع سنوات، وهو السن الأقل في البلوغ غالباً، فتزوجت وعمرها عشر سنوات فأنجبت بنتاً، فبنتها بعد تسع سنوات تزوجت، وكانت الأم قد بلغ عمرها عشرين، وبعد سنة ولدت البنت فصارت أمها جدة وعمرها واحد وعشرون، ولذلك من عوامل التربية قلة الفارق في السن بين الآباء والأبناء والأمهات والبنات.
وأما اليوم فيكون الرجل في الأربعين وينجب له أول ولد يتدرب عليه، ويتعلم -كما يقولون- الحلاقة في رأسه، ولم يتعود على القرب من ابنه، وكثيرون منا لا يستطيعون أن يخاطبوا أبناءهم الصغار، ولا يستطيع أن يتحاور معه، وفي الغالب لا يتكلم معه، ودائماً الابن مع أبيه ساكت لا يتكلم، والكلام هو الأمر: اذهب وأحضر، اذهب، افعل، لا تفعل.
بينما عندما يكون هناك التقارب في الشيء تجد الفرصة لممارسة التربية والتوجيه الأكبر، ثم نحن لماذا نستصغر الشباب؟ نستصغرهم لأننا فقدنا المعاني الإيمانية والتربوية، فهذا أسامة بن زيد قاد جيشاً وهو ابن السابعة عشرة، ومحمد بن القاسم فتح الهند والصين وهو في السابعة عشرة! وأما نحن اليوم فنرضى أن يكون القائد متزوجاً، لكننا ننظر إلى الطالب في السنة الثالثة الثانوية وننظر إليه كأنه ما زال رضيعاً، فهذه النظرة نحن أوجدناها، ثم بنينا عليها ما بنينا من الأحكام، بل قل: الأوهام.
فهذا -أيضاً- أمر مهم، فكل يأخذ بما يستطيع ويجد ويخلص، ومن كان مخلصاً سهل الله عز وجل له، ويخاف الناس الآن من أمور المعاش، مع أن الرازق هو الله عز وجل، وقد يقولون: هذا كلام صحيح، ونحن نؤمن أنه: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] لكننا لا نريد أيضاً أن نكتفي بالقليل وبالكفاف، بل نريد أن نأكل خمس وجبات في اليوم، ونريد أن يكون عندنا العديد من أنواع الأثاث.
ونحن فرضنا أشياء وأموراً لا حاجة لها، ولو نظرنا إلى أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيات أزواجه، ولو نظرنا إلى سلمان رضي الله عنه لوجدنا عجباً، وستقول لي: ذاك في عصره! فأقول: نعم.
ولكن هناك نسبة في الأمور، فهل لابد من أن يكون عندك فلة؟! أو يكون عندك كذا غرفة؟! نسأل الله عز وجل السلامة.(127/20)
كيفية التخلص من فتنة الصور
السؤال
أشكو من مشكلة التعلق ببعض الصور في ذهني، حيث تعاودني أحياناً وتسبب لي مفاسد كثيرة، فما هو الحل؟
الجواب
الذاكرة التصويرية هي إحدى المعجزات الربانية عند الإنسان، فنحن قد نلتقي فيرى بعضنا بعضاً، ثم نفترق، لكن في ذهني أستطيع أن أتصور الصورة، وأتخيل المجلس ومن فيه وكيف كان، ومن كان متبسماً، ومن كان متكئاً، ومن كان ناعساً إلى آخره، فهذه القدرة تجعل الإنسان يستعيد الصور، فإذا رأى صوراً محرمة أو مثيرة تكون إثارتها في وقتها، لكنه لا يسلم بعد ذلك من شرها.
لذلك قال ابن القيم رحمه الله تعالى مقالة نفيسة طويلة أشير إليها إشارة، قال فيها: دافع الخطرة.
أي: الخاطر الذي يمر ادفعه مبكراً ولا تجعله يأتي؛ لأنه بعد أن يدخل سيصعب إخراجه.
قال: دافع الخطرة، فإن لم تفعل صارت فكرة -أي أنها كانت في الخارج فجاءت إلى الداخل- فدافعها، فإن لم تفعل صارت شهوة، فحاربها، فإن لم تفعل صارت همة وعزيمة، فقاومها، فإن لم تفعل وقعت في المحذور، فتداركه بالتوبة وبضده، فإن لم تفعل تعودت عليه، وصعب عليك الانتقال منه.
ثم -أيضاً- مثل في مقالة أخرى بمثل، وهو الحب والرحى، أي: الرحى التي تطحن الحب، يقول: إن جئت في هذه الرحى بتبن وبعر فطحنته فسيكون هذا هو الناتج.
فإذا أدخلت أفكاراً سيئة وصوراً رديئة وطحنتها في فكرك فسيتبلور هذا الفكر إلى مسارات عملية محددة من جنس تلك الأفكار، فمن فكر في الجهاد ومن فكر في الدعوة ومن شغل باله العلم طحنت هذه الأمور طحناً، فجاءت حباً نظيفاً مغربلاً يستفيد منه الإنسان.(127/21)
وجوب غض البصر عن الحرام
السؤال
في غض البصر يكون هناك صراع، والنفس تدعو، والقلب يشتاق، فكيف المخرج من نظرة البصر؟
الجواب
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ترك شيئاً لله عز وجل عوضه خيراً منه)، ويقول (ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة) قال أهل العلم: من هم بها متمكناً قادراً عليها ثم تركها لله عز وجل وخوفاً وارتداعاً بالإيمان كتب له بذلك حسنة فتفكر -أخي- في عواقب الأمور وفي عاقبة الهوى وعاقبة النظر، قال الشاعر: وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر وهذا مثل الذي يجعل نظره دواراً، وأذكر أني ركبت مرة مع أحد أصحاب التكاسي، فوجدت على طبلون السيارة مكتوباً: حرم الله الزنا ولم يحرم النظرة! ومكتوب أيضاً: العين بحر! يقول هذا القائل: وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر ولو كنت عطشان ترى الماء لكنك لا تشرب منه فما هي الفائدة من رؤيته؟ لو لم تر الماء لكان أحسن لك، ولكنت مرتاحاً وهادئ البال، فإذا تركت النظر فأنت في أمن وسلام وطمأنينة بإذن الله عز وجل.(127/22)
حكم من يدخل أقاربه على زوجته
السؤال
زوج أختي يدخل بعض أقاربه على زوجته، ومنعته كثيراً ولم ينته، فهل إذا وجدت رجلاً في البيت وهو غير موجود أبلغ أمن الهيئة؟
الجواب
خذ الأسباب الشرعية النافعة والمفيدة، وكرر الوعظ والنصح، فبعض الإخوة يقول: قد نصحته فما انتصح.
فأقول: يا أخي! كرر لعل القلب كان لاهياً فيتذكر، ولعله في مرة من المرات كان غارقاً في الأمور المحرمة ومرة يتيقظ، فلا تيأس وحاول.(127/23)
الطلاق حكم وأحكام
إن الناظر بنظرة عميقة إلى مشروعية الطلاق في الإسلام يجد أن الشرع لم يسن الطلاق إلا لحكم عظيمة قد لا يدركها كثير من الناس اليوم، وخاصة لمن يسمع الشبهات التي تثار حول هذا الموضوع من أعداء الدين، ومن هذه الحكم: الحاجة الماسة إليه عند تعذر الحياة الزوجية بين الزوجين، وقد جعله الشرع بيد الرجل؛ لأنه أكثر تحملاً وتعقلاً وصبراً من المرأة، كما جعل الخلع من حق المرأة بضوابطه الشرعية؛ حتى يحفظ لكل من الرجل والمرأة حقه.(128/1)
الحكم المتعلقة بالطلاق
الحمد لله أتم النعمة، وأكمل الدين، ورضي لنا الإسلام ديناً، أحمده سبحانه وتعالى على ما أنعم علينا به من الإيمان، وما أكرمنا به من الإسلام، وما وفقنا له من الطاعة والالتزام، أحمده جل وعلا حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً يكافئ فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، سبحانه لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا وإياكم اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون! ما يزال حديثنا موصولاً في موضوع المرأة والأسرة، وما يتصل ببناء المجتمع الإسلامي في هذا الشأن العظيم المهم من شئونه الاجتماعية.
وحديث اليوم يتصل بأمر من الأمور التي يكثر فيها مخالفة الناس لشرع الله، والتي يكثر فيها جهل الناس في ذلك الأمر بشرع الله، ويختلط عليهم كثير من حكمه وأحكامه.
هذا الموضوع بعنوان (الطلاق حِكم وأحكام)، فيه أمور مهمة، وهو في حد ذاته وما يتصل به في شأن الأسرة من أعظم وأهم الأمور التي يحتاج المجتمع الإسلامي إلى معرفة الأحكام والاطلاع على الحكم فيه، والبعد عن مخالفات شرع الله سبحانه وتعالى؛ لما يترتب على ذلك من تهديم الأسر، وتقويض البيوت، وتشتيت الأبناء، وتقطيع الأواصر بين أسر المجتمع الواحد.
والناظر بنظرة غير عميقة ولا مستقصية لحكم التشريع وأحكام الله سبحانه وتعالى، والذي يذعن ويسمع للشبهات المثارة حول هذا الأمر، يظن لأول وهلة أن الطلاق شر كله، والنساء على وجه الخصوص ينظرن هذه النظرة أكثر من الرجال، والحق أنه ليس في شرع الله عز وجل إلا الخير المحض، وإلا الصلاح التام، وإلا الكمال المطلق، ولا يأتي النقص ولا يظهر الشر إلا من سوء أفهام الناس ومن مخالفتهم لتشريع الله سبحانه وتعالى.
فلنقف هذه الوقفات المهمة في هذا الشأن الخطير من شئون الأسرة والمجتمع.(128/2)
الحاجة إليه
إن الحاجة إلى الطلاق أمر قد تفرضه طبيعة الحياة، فما هو الحل إذا انقبضت النفوس بين الزوجين، وحصلت النفرة واختلاف القلوب بينهما، أو وجد من أسباب النزاع والخلاف واختلاف وجهات النظر ما لا يكون معه وفاق ولا اتفاق؟! لو لم يكن ثمة مخرج لهذا التشريع وما فيه من الأحكام والضوابط لانقلب الأمر إلى جحيم لا يطاق، ما ظنك بزوج وزوجة يرغمان على الحياة معاً تحت ظل سقف واحد وهما يبغضان بعضهما ولا ينسجمان مع بعضهما؟! كيف يكون الحال؟ سيوجد عسف وظلم واعتداء من الرجل، ونكود وجحود وإعراض من المرأة، وضياع للذرية وللجيل الناشئ في ظل هذا النزاع والشقاق والخصام الذي ينفرط معه العقد، والذي لا تتحقق بالوجود في ظله الأهداف المنشودة للأسرة الإسلامية، من حصول الأنس والمودة والسكن بين الزوجين، وحصول الرعاية والتربية والتنشئة الصالحة للذرية، ومن ثم إذا تعذرت استمرارية الحياة الزوجية بما يحقق أهدافها كان الطلاق في هذا الشأن نوعاً من العلاج، ودواء يشفي هذه الأسقام داخل الأسرة، ومعلوم أثر هذه الأسقام وما تنشئه من بلايا ورزايا في المجتمع كله، فإن الرجل قد ينطلق في خارج هذا الجو المحموم والمرأة كذلك، فيحصل من ذلك من الفساد المعنوي والحقيقي ما الله سبحانه وتعالى به عليم.
والمسيحية في بعض مذاهبها تمنع الطلاق؛ تزعم في ذلك أنها تقدس الطلاق، وتزعم في ذلك أنها تكرم المرأة وتحفظ حقها، ومع ذلك يشهد الواقع بأن مثل هذا الأمر غير مقبول على الإطلاق والدوام، وغير منضبط أو متحقق في سائر الأحوال والزيجات، ولابد أن هناك ما يستدعي وجود الطلاق، ولذا قال بعض أولئك الذين كانوا في ظلال المسيحية ثم أكرموا بنعمة الإسلام: لقد حرّمت المسيحية الطلاق، لكن في الوقت نفسه نجد أنظمة بلادها وقوانينها الرسمية تنص على إباحته، وفي المقابل أيضاً فإن الغرب الذي في بعض مذاهبه يمنع الطلاق فيه اليوم نسبة الطلاق أعظم بكثير وبأضعاف مضاعفة من نسبة الطلاق في مجتمعات المسلمين؛ لأن الطلاق في الإسلام له أحكامه وآدابه، التي لو التزمها أبناء الإسلام لما كثرت وفشت فيهم نسبة الطلاق.
إذاً: فإن هذا الأمر هو من الدواعي التي قد تقتضيها شئون الحياة، فلما كان كذلك مما تقتضيه الحياة ومما تقتضيه الفطرة جاء شرع الإسلام به.(128/3)
الحكمة من جعل الطلاق بيد الرجل
إن جعل الطلاق وأمر فصم عروة الزواج بيد الرجل له حكم عظيمة جليلة.
إنما جُعل للرجل في مقابل ما كان منه من إنفاق في المهر ومن تكلفة في النفقة وغير ذلك.
كذلك الرجل بطبيعة خلقته وفطرته أكثر تحملاً للمشكلات، وأكثر صبراً على المعضلات، وأوسع صدراً فيما يتعلق بالمنغصات، وبالتالي فإن له خصيصة أخرى إذ هو أكثر تغليباً للعقل على العاطفة، وأكثر ترجيحاً لعواقب الأمور من أوائلها، ومن ثم فإن تقديره لما يترتب عليه الطلاق من مخاطر ومضار عليه وعلى زوجه وعلى أبنائه أكثر مما قد يكون من تقدير المرأة التي تغلبها عاطفتها، والتي قد تندفع عند غضبها، إذ لو كان الأمر لها لكان منها الطلاق في كل يوم ربما عدة مرات، كلما غضبت من زوجها في أمر أو قصر في حق أو لم يشتر لها ما تطلبه.
وهذه حكمة من حكم الله سبحانه وتعالى، مصلحتها للمرأة كما هي للرجل؛ إذ لو جعل الأمر للمرأة لتسرعت بحسب عاطفتها ثم تندمت، فما عسى الندم أن ينفعها حينئذ.
أما أهل الغرب الذين لا يدينون دين الإسلام فقد لفت نظرهم هذا التشريع الحكيم، فقال أحدهم وهو يحلل هذه الحكم التشريعية: والغرض من هذا التقييد للمرأة في المبادرة إلى الطلاق هو وضع حد لممارسة الطلاق؛ لأن الرجال يعتبرون أقل استهدافاً لاتخاذ القرارات تحت اللحظة الراهنة من النساء.
فالرجل ليس سريعاً في اتخاذ القرار عند أدنى عارض أو عند أدنى غضب، وهذه ميزة في الأصل، أما من خالف هذه الحكمة فليس هو حجة على دين الله، بل دين الله عز وجل حجة عليه، ومبين لخطئه وزلله.(128/4)
الحكمة من جعل الخلع من حق المرأة وضوابط ذلك
لئن كان هذا الحق للرجل فإن للمرأة حقاً أيضاً يكافئ هذا الحق، ويجعل له حده وضوابطه التي تتحقق به المصلحة، فللمرأة حق الخلع في مقابل حق الطلاق للرجل؛ لأن المرأة قد تقول: هذا الرجل متى أبغض المرأة له حق أن يطلقها، فما شأن المرأة إذا أبغضت زوجها، أو إذا لم تشأ أن تستمر في الحياة معه، بحيث لا يكون ذلك لأدنى سبب ولا لأتفه عارض وإنما لسبب جوهري؟! فهل يحكم عليها أن تبقى في عقده وتحت سلطانه وهي غير راضية أو غير راغبة في ذلك؟
الجواب
كلا، فإن لها حق الخلع من زوجها، ولكن هذا لا يكون أيسر كما في الأمر الأول، بل له ضوابط منها: أنه ينبغي للمرأة أن تبدي الأسباب التي تستدعي الخلع للقاضي الذي يقضي بذلك ويعطيها حقها، وقد وقع ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ووقع في صورة تبين فيها رعاية الإسلام لحق المرأة ومراعاة مشاعرها وعواطفها، والحفاظ على حياتها وعلى استمراريتها على ما يترجح فيه مصلحتها.
فهذا ابن عباس كما في صحيح البخاري وغيره يقول: (إن امرأة ثابت بن قيس جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني لا أعيب على ثابت في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام)، وفي رواية أخرى عند البخاري: (ولكني لا أطيقه) أبدت أنها قد انقبضت من نفسها، وتمكن كرهه وبغضه من قلبها، وأنها لا تعيب عليه في خلق ودين، فكيف لو كان يعاب في خلق ودين بحكم الشرع؟! لكان لها حق أولى من هذا.
قالت: (إني لا أعيب عليه في خلق ولا دين ولكني لا أطيقه).
وفي الرواية الأخرى: (ولكني أكره الكفر في الإسلام).
قال بعض أهل الشروح من المحدثين: إنها تكره أن تكفر العشير؛ لما في قلبها من بغضه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته؟ -أي: التي دفعها لها مهراً لها عند زواجه بها- قالت: نعم، قال: فردي عليه حديقته، وفسخ النبي صلى الله عليه وسلم نكاحها).
فهذا يدل على هذا الحق، ولكن ليس الأمر مرسلاً ومطلقاً على ما قد تقتضيه أهوية النساء، أو تدفعهن إليه عواطفهن، فإن هذا الأمر جد خطير، إنه فصل لميثاق غليظ ولعقد عظيم قد عظمه الله عز وجل وعظم شأنه؛ فلذلك ينبغي ألا يكون هذا الأمر مفهوماً عند النساء أو عند المرأة على صورة ساذجة، كما قد تتأثر بوسائل الإعلام والتمثيليات، إذا كلمها زوجها كلمة ما قالت له: طلقني، أو قالت له: لا أستطيع الحياة معك، كلا، فقد ورد في الحديث عن ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: (أيما امراة سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة) رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وأخرجه ابن حبان في صحيحه.
قوله: (أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس) أي: إن كان هناك بأس وأمر مشروع فلها أن تطلب الطلاق، أما إن كان من غير ما بأس وإنما لمجرد التشهي والهوى، أو لمجرد الإغراء والإغواء، أو التأثر بالأجواء الاجتماعية والأعراف غير الشرعية؛ فإن هذا من أعظم الأمور وأخطرها.(128/5)
ترغيب الإسلام في النكاح وتبغيضه الطلاق
إن ترغيب الإسلام في النكاح وتبغيضه للطلاق يدلنا على أن الأمر له إطاره العام، وله ضوابطه المحكمة، فما أكثر الآيات والأحاديث في الترغيب في النكاح، وما ورد من آيات وأحاديث عن التعدد وما يترتب على ذلك من المنافع والمصالح، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (النكاح من سنتي، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، فهذا الترغيب في هذا العقد مع عظمه ووصف الله عز وجل له بأنه الميثاق الغليظ لم يكن بعد هذا كله ليفسخ أو يترك هملاً للأمزجة والأهواء لتلعب به.
ومن الأدلة على تبغيض الشرع للطلاق ما اشتهر بين الناس عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) وهذا الحديث لا يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو حديث مرسل، وله شواهد من حديث معاذ ولكنه منقطع، ومن حديث علي ولكنه ضعيف، وإن كان معنى الحديث صحيحاً، وتشهد له أحاديث أخرى.
وهذا حديث بريدة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من خبب على امرئ زوجته أو مملوكه فليس منا) رواه الإمام أحمد بسند صحيح، وأخرجه ابن حبان في صحيحه.
قوله: (من خبب) أي: من أفسد.
وتأملوا في هذا الحديث، من أفسد المرأة على زوجها كما يحصل في واقع مجتمعات المسلمين، وكما يحصل في كثير مما يذاع ويشاع في وسائل الإعلام، مثل: اطلبي منه كذا، افعلي معه كذا، انظري إلى فلانة فهي كذا، حتى يفسدوا المرأة على زوجها؛ فيحصل الشقاق، وقد يتبعه الطلاق، لكن جعل الإسلام وجعل نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام هذا الأمر من الأمور الخطيرة، التي لا تمت للإسلام ولا لهدي رسوله صلى الله عليه وسلم بصلة.
وهذا حديث أبي هريرة أيضاً عند ابن حبان في صحيحه، ورواه أبو داود والنسائي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس منا من خبب امرأة على زوجها).
وقد أشار نبي الإسلام إلى أن شأن الطلاق هو من أعظم ما يفرح الشيطان، ومن أعظم ما يبلغ به الكيد بين الرجل والمرأة، ففي صحيح مسلم من حديث جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه -أي: من الشياطين- فأدناهم منزلة منه أعظمهم فتنة -أي: الذي يكون عظيم الفتنة والإفساد بين عباد الله هو الذي يكون مقرباً إليه- فيأتون إليه فيقول أحدهم: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما فعلت شيئاً -يعني: هذه فتنة يسيرة ليست عظيمة- حتى يأتيه أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه إبليس منه ويقول: نعم أنت فيلتزمه)؛ لأنه عمل أعظم نتيجة إبليسية شيطانية في مجتمع المسلمين، وهي الإفساد ما بين الرجل والمرأة.
إذاً: الإسلام قد جعل هذا الأمر غير مرغوب فيه، وجعله من أساليب الشيطان ومن أعظم الفتنة، وجعل السعي فيه ليس من سمت المسلمين في شيء.(128/6)
الأحكام التشريعية العامة المتعلقة بالطلاق
قبل أن ننظر إلى الطلاق فلننظر إلى أحكام الإسلام وتشريعاته في هذا الشأن كله، فإن هناك أمرين وتشريعين مهمين وهما من أعظم التشريعات التي لو التزمهما الرجال والنساء لضاقت دائرة الطلاق، حتى يكون في دائرة محدودة بحيث يتعين الطلاق ويصبح علاجاً.(128/7)
الأمر بالعشرة الحسنة والإحسان للزوجات من قبل الأزواج
يقول الله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، وهذا نبي الهدى عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يفرك مؤمن مؤمنة، -أي: لا يبغضها- فإن سخط منها خلقاً رضي منها آخر)، هذا الإحسان من الرجل لزوجته أمر قد جعله النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب التفاضل في ميزان الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)، هذا الأمر لو تحقق به الرجال لما طلبت المرأة السبيل إلى الشقاق أو النزاع فضلاً عن السبيل إلى الطلاق.(128/8)
حسن تبعل المرأة لزوجها وطاعتها له
في المقابل تشريع آخر وهو طاعة المرأة لزوجها وحسن تبعلها له وتجملها له، والتماس رضاه والقيام بحقه، فإن هذا الأمر لو تم لكان مكافأة على الأمر الأول، ولحسنت به مسيرة الحياة الزوجية، وابتعدت أسباب الشقاق والطلاق بإذن الله عز وجل، والمصطفى عليه الصلاة والسلام يقول: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ لعظم حقه عليها) رواه أبو داود في سننه.
ولما جاءت المرأة كما في الصحيح تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجال فضلوا علينا بالجهاد والغزو في سبيل الله عز وجل، فقال: إن حسن تبعل إحداكن لزوجها يعدل ذلك) فهذا التشريع هو الذي ينبغي أن نلتفت إليه، وقبل أن نلتفت إلى النهاية فلننظر إلى البداية.
وثمة أحكام عامة أخرى تتعلق بالطلاق وهي مهمة؛ فإن الطلاق ليس إلا مرحلة نهائية تسبقه مراحل عديدة وأدوية وعلاجات متنوعة، تسد الطريق إليه وتبعد الوصول إليه، فالله عز وجل يقول: {والَّلاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:34 - 35].
هذه مراحل أربع: موعظة، تذكير بحق الزوج على زوجته، تذكير بطاعة الله عز وجل، باتباع هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وعظ وتخويف بالآخرة، فإن لم يجد ذلك نفعاً فهجر في المضجع وإظهار للغضب، فإن لم يكن ذلك فضرب غير مبرح، يشعر بوجود الخطأ، ويهدف إلى التقويم والتهذيب والتأديب، فإن زاد الأمر عن حده فحكم من أهله وحكم من أهلها.
انظر إلى المراحل الثلاث فهي بين الرجل وزوجه لا يخرج عن إطار الخلاف بينهما، حتى لا يتسع ويتشعب، وتأخذ به أم المرأة شرقاً ويأخذ به أهل الزوج غرباً ثم يشيع، فإذا أراد أطراف النزاع اللقاء كان قد اشتبك النزاع وتوسع، فلم يعد للاثنين فيه خيار، وقد فرض عليهما استمراره من غيرهما؛ لذلك فالأصل أن يكون هذا النزاع أو الخلاف في دائرة الزوجين ابتداء، ثم إن أعياهم الأمر فلهما أن يختارا حكماً من أهله وحكماً من أهلها؛ للإصلاح وتقريب وجهات النظر وتأليف القلوب، ولفت النظر إلى أهمية الأسرة ورعاية الأبناء ونحو ذلك.(128/9)
وقفات مع بعض الأحكام التفصيلية المتعلقة بالطلاق
ننتقل إلى الأحكام التي فيها بعض التفصيل في الطلاق لمن بلغ هذه المراحل كلها، وهنا يقع جهل عظيم ومخالفات كثيرة واجتراء عظيم على حدود الله من كثير من المسلمين.
الطلاق كما قلنا وقدمنا: أمره جد خطير، وعندما ننظر إلى الحكم الشرعي في هذا الطلاق فإننا نقف وقفات وجيزة مع الدلائل الفقهية.(128/10)
الطلاق السني والطلاق البدعي وحكمهما
وقع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فأبلغ عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء) وهذا تفسير لقوله عز وجل: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء).
والمقصود بهذا الحديث أن الطلاق السني الشرعي الصحيح الذي شرعه الإسلام أن يطلق الرجل امرأته في حالة طهر لم يجامعها فيه، ولو أن الناس طبقوا هذا الحكم، بحيث إذا غضب الرجل وأراد أن يطلق امرأته وكانت حائضاً انتظر حتى تطهر؛ لذهب في أثناء هذا الانتظار ما كان من ثورة الغضب، ولذهب كذلك ما كان من عدم تقدير لمخاطر الطلاق، وغالباً ما يصرف النظر عنه، كذلك لو أراد أن يطلقها وكانت في طهر قد جامعها فيه فإنه يحتاج -ليلتزم السنة النبوية- أن ينتظر فراغها من الطهر ثم الحيض ثم طهر آخر حتى يمضي الطلاق، لكن جهل الناس بهذا الحكم، فجعلوا الأمر على غاربه، ولما سئل ابن عمر: (فهل حسبت تلك طلقة؟ قال: فمه؟) أي: أنه يقع الطلاق، ولكن فيه مخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم.(128/11)
العدة للنساء وما يتعلق بها من أحكام
لقد شرع الإسلام العدة للنساء، وهي فترة للمراجعة والمداولة، وجعل الطلاق ثلاثاً، وليس من أول مرة يبت الحكم فيه، فلذلكم كل هذه التشريعات تضيق الدائرة في الوصول إلى المرحلة النهائية، وتجعل الفرصة سانحة للمراجعة، يبين هذا قوله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ * فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:229 - 230] أي بعد أن أنهى كل الطلقات.
{فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230].
يقول عز وجل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] العدة ثلاثة قروء، وفسرها أهل العلم: إما ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار.
وهذه العدة قد بين الله عز وجل فيها الحكمة فقال جل وعلا: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1].
والحكم في العدة أن العقد باق كما هو، وأن الزوجية مستمرة كما هي، وأن المرأة ينبغي أن تقضي عدة طلاقها في بيت زوجها، فلو تصورنا بقاءها مدة ثلاثة أشهر في بيت زوجها وهي مطلقة، فإنها فرصة له ولها أن يراجعها، والمراجعة كما هو الراجح عند الفقهاء تقع ولو بدون إشهاد، والإشهاد فيها سنة، والمراجعة تقع بالمعاشرة دون التصريح بلفظ الرجوع، فهذا تضييق لإمضاء الطلاق حتى يمكن التراجع عنه، فهذه أولى، وقد تكون طلقة ثانية، فإذا جاءت الثالثة فإنها لا تحل له.
وإذا انتهت عدتها في الأولى فله أن يراجعها لكن بعقد ومهر جديد، فليس النساء لعبة في أيدي الرجال، وهذا التشريع الحكيم لو التزمه المسلمون لما وقعت هذه الفتن، والله سبحانه وتعالى لما بين هذه الأحكام ربطها بالتقوى والخوف منه عز وجل، وذلك للفت النظر إلى مراعاة حقوق الله ومراقبة الله في هذا الشأن العظيم، فقال سبحانه وتعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1]، قال: (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) واليوم إذا طلقت المرأة أخذت عفشها وأبناءها ومضت إلى بيت أهلها، فوجدت الأبواب مفتوحة، والصدور مرحبة، وهؤلاء يفسدون ما بين الرجل وزوجته، ويسيئون إلى حياة ابنتهم، ولو كان الرجل عاقلاً لقال لابنته: إن شرع الله عز وجل يقضي أن تبقى المرأة في بيت زوجها، فإن هذا أدعى إلى حصول التوافق مرة أخرى، والرجوع والتراجع في حل هذه القضية، وحتى يعود الشمل ملتئماً على أسس واضحة من جديد بإذن الله عز وجل؛ لذا قال جل وعلا: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1].
فهذا شأن الطلاق بإيجاز، انظر إلى وقوعه، وانظر إلى العدة التي جعلت له، ثم انظر إلى التحذير في التلاعب فيه وإلى التهاون فيه، أخرج الحاكم في مستدركه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة).
مثال هذا التلاعب: أن يطلق الرجل ثم يقول: لا أقصد، وكنت أمزح، نقول: هذا التلاعب في هذا العقد العظيم، وفي هذه الأسرة المهمة، وفي هذا البناء العظيم المهم؛ لا يقبل بحال من الأحوال.
ورد في سنن ابن ماجة بسند حسنه بعض المحدثين عن أبي موسى رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما بال أقوام يلعبون بحدود الله، يقول أحدهم: قد طلقتك قد راجعتك قد طلقتك) والله جل وعلا قال في آية الطلاق: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [الطلاق:1].
إذاً: الأمر ليس لعباً ولا هوى وتسيباً كما يفعل كثير من الرجال اليوم وفقاً للأهواء أو وفقاً لبعض الأعراف، فإذا دعا ضيوفه حلف بالطلاق إلا أن يأكلوا، وإذا فعل أي أمر من توافه الأمور جعل الطلاق على لسانه، وكأنه كلمة عادية من الكلمات، ومن هنا وجد هذا الخلل الذي قد يقع في المجتمعات من مخالفات المسلمين لتشريع الإسلام.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ أعراضنا، وأن يحفظ أزواجنا، وأن يحفظ أبناءنا، وأن يحفظ أسرنا، وأن يحفظ مجتمعنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاسغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(128/12)
حكم التلاعب بالطلاق وتخبيب النساء على الأزواج وضوابط ذلك
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي القاصرة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى التي ينبغي أن يلتفت إليها الرجال، مراعاة الله عز وجل في معاملة أزواجهم، ورعاية حقوق النساء، وعدم التلاعب بهذا الشأن العظيم من شئون المجتمع والأسرة، والذي هو من حدود الله سبحانه وتعالى.
إن الصور التي نراها في واقع مجتمعات المسلمين كثيرة، وهذه الصور لا تمت إلى هذا التشريع الحكيم ولا إلى هذه الضوابط والحدود بشيء، فنرى -كما أسلفت- من يستهين بأمر الطلاق، فيطلق في كل لحظة وآن، وعند أي عارض وعند أي أمر أغضبه، وتجد بعض الرجال وقد فقد مروءته وشهامته ورجولته، فاستعمل الطلاق أسوأ استخدام، يهدد به زوجته في كل لحظة: إن فعلت كذا وإلا فسأفعل كذا، إن لم تفعلي كذا وإلا سأطلقك، فجعل الأمر كأنه تلاعب بحدود الله، وجعله كأنه سيف يرفعه على زوجه أم أبنائه ومربية أبنائه، كيف يمكن أن يكون هذا شأن رجل شهم كريم؟! إن الرجل المسلم الشهم هو الذي يرعى حق زوجته، ويعرف عظمة عقد الزواج، ويعطي حدود الله عز وجل حقها؛ لا يمكن أن يكون بهذا الشأن.
وكذلك نسمع عن كثير من الناس في عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم الاجتماعية الحلف بالطلاق على كل شيء، أو إمضائه في كل أمر، فإذا زاد ملح الطعام طلق، وإذا نقصت برودة الماء طلق، فتراه يطلق في اليوم والليلة أكثر من مرة! هذا التشريع الذي جعل للرجل حكمته وعقله وصبره، أفسده أمثال هؤلاء الذين ليس فيهم من صفات الرجولة الحكمة والصبر والقوة والشهامة والنخوة.
والنساء اللاتي يخببن النساء على أزواجهن من أهلهن أو من بعض أقاربهن، أو من الأجواء الاجتماعية النسائية، فواحدة تقول لها: قولي له كذا، فإن لم يفعل فنكدي عيشه حتى يطلقك، ويسمعن ويشاهدن عبر الإذاعات والشاشات من مسلسلات وتمثيليات تخبيب وإفساد النساء على أزواجهن ما الله سبحانه وتعالى به عليم، حتى شاع بين النساء طلب الطلاق، حتى إذا عرض عارض أخذت نفسها إلى بيت أهلها، وهجرت زوجها مع أن الهجر حق للزوج، فضيعت بذلك أبناءها، وضيعت مستقبلها، وأفسدت حياتها، وبسبب هذا الشقاق والنزاع بين الأسر وجدت أسباب الرذيلة والفساد والانحلال في المجتمع، وكل هذا يقع بسبب الأعراف الاجتماعية والعادات الجاهلية والحملات الإعلامية الفاسدة.
ولو نظرنا إلى القواعد والضوابط والأحكام العامة والعلل الحكيمة في هذا التشريع لوجدنا أنه تشريع حكيم عالج الداء علاجاً ناجعاً، فلو سدت الأبواب أمام بقاء الأسرة فليكن الطلاق كما جاء في تشريع الله هو المخرج من هذا المأزق، وكما طبق ذلك صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وكما هو في الأحكام التفصيلية الفقهية، والأمر في هذا يطول، والمخالفات فيه كثيرة، وكم العناء والشقاء الذي جر على مجتمعات المسلمين؛ بسبب جهلهم بهذه الأحكام، وعدم التزامهم لهذه الحكم، وبسبب ذلك تفرقت الأسر وضاع الأبناء.
نسأل الله عز وجل أن يسلمنا من هذه الويلات، وأن يفهمنا شرع ربنا، وأن يعيننا على الاقتداء بهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً يقربنا إليك يا ربنا.
اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا بما يرضيك آمالنا.
اللهم أقل عثراتنا، واستر عوراتنا، وامح سيئاتنا، واغفر زلاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك.
اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر.
اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار.
اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى، اللهم الطف بهم يا رب العالمين! اللهم عجل فرجهم، وفرج كربهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم.
اللهم ثبتهم على الإيمان واليقين، ولا تجعل ما قضيت عليهم فتنة لهم في الدين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم اصرف عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم اجعل عمل ولاتنا في رضاك، ووفقهم لهداك، وارزقهم بطانة صالحة تدلهم على الخير وتحضهم عليه، وتحذرهم من الشر وتنهاهم عنه برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، ووحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وقو شوكتهم يا رب العالمين، انصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز يا متين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، خصوصاً على أجلهم قدراً وأرفعهم شأناً، ذوي المقام العلي والقدر الجلي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(128/13)
إلى أهل القرآن طلاباً وحفاظاً ومدرسين
لا شك أن أهل القرآن المشتغلين به تلاوة وتدبراً، وحفظاً وتعلّماً، وتعليماً وتفسيراً، لهم منزلة رفيعة، ومكانة سامية، فهم خير الناس لاتصالهم بأعظم كتاب وأفضل كلام، ولهذا ينبغي للمسلم أن يعرف فضل تلاوة القرآن، ومنزلة أهله، وما أعده الله لهم من الحياة الطيبة والرفعة في الدنيا، والمكانة العالية والفضل العظيم في الآخرة، حتى يدفعه ذلك إلى اللحاق بأهل القرآن ليحصل له ما حصل لهم من الخير.(129/1)
المنزلة العظيمة التي جعلها الله لأهل القرآن وثمرات تعلمه وتعليمه في الدنيا والآخرة
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام الدائمان التامان الأكملان على النبي الكريم سيدنا ونبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، عنوان محاضرتنا هذه الليلة: (إلى أهل القرآن طلاباً وحفاظاً ومدرسين) والله أسأل أن يجمعنا وإياكم في مستقر رحمته، ودار كرامته، وأن يجعلنا من أهل القرآن العاملين به، والتالين له، والمتدبرين له، والناشرين لعلومه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
نبدأ هذا الموضوع بالحديث عن أهل القرآن ليعرفوا أنفسهم وليعرفهم الناس.
لا شك أن هناك فضلاً عظيماً ومنزلة سامية جعلها الله عز وجل لأهل القرآن الذين يشتغلون به تلاوة وتدبراً، وحفظاً واستذكاراً، وتعلماً وتعليماً، وعملاً ودعوة وتطبيقاً.
ولا شك أن هذا القدر وهذه المنزلة من أسمى وأرقى وأعلى ما يمكن أن يحوزه مسلم بعمل من الأعمال التي يرجو بها القرب من الله عز وجل.(129/2)
خيرية أمة الإسلام مخصوصة بأهل القرآن
ثمرات تعلم القرآن وتعليمه في الدنيا والآخرة كثيرة ومنها: أولاً: الخيرية الفائقة.
لقد أخبرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي لا أظن أن أحداً لا يحفظه، ولكنه يحتاج إلى مزيد التأمل والتدبر والتفكر في مضمونه وفي دلالته، حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم خيرية الصالحين والعابدين من أمته مخصوصة بأهل القرآن، كما في الصحيح من حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وفي لفظ آخر عند البخاري: (إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه).
واعلم أن المرتبط بالقرآن تعليماً وتعلماً هو في الرتبة العليا، والمنزلة الرفيعة في هذه الأمة التي شرفها الله عز وجل.(129/3)
ضمان أهل القرآن لشفاعته لهم
ثانياً: الشفاعة النافعة بإذن الله عز وجل.
نحن نعلم أن كل أحد في هذه الحياة الدنيا يلتمس أسباب النجاة، ويحرص على الفكاك من النار، والعتق من سخط الله سبحانه وتعالى، وإذا بالقرآن الذي يحرص عليه صاحبه، ويرتبط به، ويسعى دائماً إلى أن يكون عظيم الصلة به هو الذي يشفع لصاحبه، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
من ذلك ما ورد في صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما، اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)، قال معاوية أحد الرواة: بلغني أن البطلة هم السحرة، فهذا وعد منه عليه الصلاة والسلام أن القرآن يشفع لصاحبه.
وفي الأَثر أن المرء إذا انشق عنه قبره يلقاه القرآن في صورة إنسان، ويكون المرء قد شحب لونه من هول ذلك اليوم، فيطمئنه القرآن ويقول له: ألا تعرفني؟ فيقول: لا، فيقول: أنا الذي أظمأتك في الهواجر، أنا الذي أسهرتك في الليالي، ثم يشفع فيه فيشفع بإذن الله عز وجل.
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما).
وقد ذكر ذلك علماء الإسلام مذكرين بعظيم المنزلة والشرف الذي يحوزه حافظ القرآن والعامل به، قال ابن الجزري رحمة الله عليه عن القرآن: وهو في الأخرى شافع مشفعُ فيه وقوله عليه يسمع يعطى به الملك مع الخلد إذا توّجه تاج الكرامة كذا يقرا ويرقى درج الجنانِ وأبواه منه يكسيان وقد ورد في ذلك أحاديث وآثار كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته.(129/4)
صاحب القرآن يحمل أعظم معجزة عرفتها البشرية
ثالثاً: المعجزة العظيمة.
اعلم يا صاحب القرآن أن لديك أعظم معجزة في هذا الوجود، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن معجزته الكبرى الخالدة ما دامت السماوات والأرض هي هذا القرآن المعجز الذي يحيي القلوب، ويوقظ العقول، وينشط الضعيف الكسول، ويجمع الخير كله من أطرافه، فأنت عندما ترتبط به فإنك ترتبط بأعظم معجزة لله عز وجل في هذا الوجود، وكما ورد في مصنف ابن أبي شيبة عن إسماعيل بن رافع عن رجل عن عبد الله بن عمرو أنه قال: من قرأ القرآن فكأنما أُدرجت النبوة بين جنبيه، إلا أنه لا يوحى إليه.
وفي صحيح الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر -أي: أعطي معجزة تكون سبباً كافياً لإيمان البشر وإظهار صدق نبوة هذا النبي- وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)، فأنت -إذاً- متصل بالوحي، وبالرسالة، وبالمعجزة الخالدة.(129/5)
حامل القرآن ينافس في أعظم الأمور وأشرفها
رابعاً: المنافسة الكبيرة.
فإذا تشاغل الناس بالصفق في الأسواق، وتنافسوا على ملذات الدنيا وشهواتها، وتسابقوا إلى الرفعة والجاه فيها، وتزاحموا على أبواب السلاطين؛ فأنت تنافس في أعظم الأمور وأشرفها، حتى إن أهل الفقه والإيمان ليرون أنك قد سبقتهم سبقاً عظيماً، وفقتهم فوقاً كبيراً، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع صاحب القرآن مع صاحب المال المنفق في سبيل الله، وجعل عملهما من أعظم الأعمال التي يحرص كل أحد على المنافسة فيها، والمسابقة إليها، والمواظبة عليها قدر استطاعته.
ففي البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الكتاب وقام به آناء الليل والنهار، ورجل أعطاه الله مالاً فهو يتصدق به آناء الليل والنهار).
فإذا تنافس المتنافسون في الدنيا، فأنت في أعظم منافسة، وإذا تسابق المتسابقون لها فأنت في أعظم ميدان، فاعرف لحامل القرآن قدره ومنزلته.(129/6)
حامل القرآن متبع لأفضل الخلق من الملائكة والبشر
خامساً: المتابعة الشريفة.
عندما تتمسك بكتاب الله عز وجل فإن أسوتك جبريل عليه السلام، وأسوتك محمد صلى الله عليه وسلم، وسلفك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب وزيد بن ثابت، والكوكبة العظيمة الشريفة من صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وتكون سلسلتك متصلة بالأئمة الأعلام والعباد والزهاد والأتقياء والصلحاء، فإنك في الحقيقة تسلك طريقاً قد سبقك إليه الأشراف والأطهار، بل سبق إليه الرسل والأنبياء والملائكة المقربون! فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم كان يتدارس القرآن مع جبريل عليه السلام، فإذا تدارست القرآن فتذكر تلك المدارسة التي ليس في الدنيا أشرف منها؛ فهي مدارسة بين أمين الوحي جبريل وبين خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، فما أعظم هذه المتابعة، وما أشرف هذه السلسلة.
وانظر إلى آثار كثيرة، وأحاديث عديدة تبين لك أن الاشتغال بالقرآن هو اشتغال بما اشتغل به الذين قد بلغوا الرتبة العالية والمنزلة الرفيعة والقرب من الله عز وجل.
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه سمع رجلاً يقرأ القرآن في المسجد، فقال: يرحمه الله! لقد أذكرني كذا وكذا من سورة كذا)، ولم يكن القارئ يقصد المراجعة ولا المدارسة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بمن يقصد ذلك ترداداً وتذكيراً وحفظاً ومراجعة ومدارسة؟! فهذا رجل دعا له النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أحيا وقته، وأحيا بيت الله عز وجل بتلاوة القرآن قال: (يرحمه الله! لقد أذكرني كذا وكذا من سورة كذا)، والحديث في صحيح البخاري في باب: (نسيان القرآن، وهل يقول: نسيت آية كذا وكذا)؟ واعلم أنك عندما تثني ركبتيك في حلق القرآن، وعندما تتأدب بين يدي حافظ القرآن الذي يعلمك ترتقي بهذا إلى شرف عظيم، وتصعد إلى رتبة عليا، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول: لقد أخذت من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، والله! لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم.
ويقول شقيق صاحب ابن مسعود رضي الله عنه: فجلست في الحلق أسمع ما يقولون -أي: عن ابن مسعود - فكان القول ما قال أي: في عظيم منزلته وعلمه بكتاب الله عز وجل.
وعن سليمان بن يسار -كما في مصنف ابن أبي شيبة -: أن عمر رضي الله عنه انتهى إلى قوم جلوساً يقرئ بعضهم بعضاً، فلما رأوا عمر سكتوا، فقال: ما كنتم تراجعون؟ قالوا: كنا يُقرئ بعضنا بعضاً، قال: اقرءوا ولا تلحنوا.
فلقد كانت سُنّة ماضية ونحن على إثرها سائرون، حلق ومدارسة، وحفظ ومذاكرة، فما أجلّها من متابعة، وما أعظمها من موافقة.
وفي حديث مسروق عن عائشة رضي الله عنها عن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم قالت: (أسر إليَّ النبي عليه الصلاة والسلام: أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا قد حضر أجلي).
ونعلم أيضاً قصة ابن مسعود رضي الله عنه لما طلب النبي عليه الصلاة والسلام منه أن يقرأ عليه القرآن، فقال ابن مسعود متعجباًً: (أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: نعم، فإني أحب أن أسمعه من غيري)، فلا تستكثرن ذلك ولا تأنفن منه، ولا يكونن أحد ممتنعاً أن يسمع القرآن ممن هو أدنى منه، فلقد طلب النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ذلك من ابن مسعود رضي الله عنه (فقرأ عليه من أول النساء حتى بلغ قوله عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] قال: حسبك! حسبك! قال ابن مسعود: فالتفتُّ إليه فإذا عيناه -صلى الله عليه وسلم- تذرفان بالدموع).
وفي حديث أنس المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي بن كعب: (إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن)، فانظر -رعاك الله- هذه المتابعة الشريفة، والقدر العظيم، فإن الوحي ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم بأن يقرأ على أبي رضي الله عنه القرآن، قال أبي: (آلله سماني لك؟! قال: نعم، قال: وقد ذكرت عند رب العالمين؟! قال: نعم، فذرفت عيناه) وحُقّ له أن يبكي رضي الله عنه وأرضاه.
فاعلم يا حامل القرآن! ويا متعلم القرآن! ويا مدرس القرآن! أنك في هذه المتابعة تنال أعلى أوسمة الشرف، فإذا سار الناس شرقاً وغرباً فأنت تسير في إثر محمد صلى الله عليه وسلم، وتعمل عمل أصحابه، وتجلس مجالس الصالحين والعابدين والمتقين لله رب العالمين.(129/7)
حامل القرآن مقدم على غيره في ميادين الشرف والرفعة
سادساً: الشرف والرفعة.
حامل القرآن مقدم في أعظم الأمور وأشرفها، حسبك بعد التوحيد الركن الثاني من أركان الإسلام: الصلاة التي يجتمع لها المسلمون في كل يوم خمس مرات، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله عز وجل)، فهذه الصلاة التي هي أعظم العبادات وأعظم الأركان -بعد الشهادتين-، وأكثرها تكرراً، وقد جاء عن الصحابة والسلف أنهم لم يكونوا يرون شيئاً تركه كفر إلا الصلاة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، فهذه الصلاة التي تعلم منزلتها وعظمتها أنت المقدم فيها، والمنتدب للإمامة فيها.
ومن ذلك: أن شهداء أحد لما كان النبي عليه الصلاة والسلام يدفن منهم الاثنين والثلاثة في القبر الواحد كان يسأل إذا أراد أن يجمع بينهم عن أكثرهم حفظاً للقرآن فيقدمه في الدفن، فحتى بعد موتك أنت مقدم يا حامل القرآن.
وفي صحيح مسلم أن عمر رضي الله عنه سأل عامله على أهل مكة، فقال: من خلفت على أهل مكة؟ قال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: رجل من الموالي، فقال عمر -كالمتعجب أو المستنكر-: استخلفت عليهم مولى؟! فقال: إنه قارئ لكتاب الله، فقال عمر رضي الله عنه: أما إن نبيكم قال: (إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين)، وهذا لا شك أنه من الأمور العظيمة، حتى كان الصحابة يقول أحدهم: كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في أعيننا.
ولقد كان المستشارون في مجلس الخليفة الأعظم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عِلْية القوم وجِلّة الصحابة من قدماء المهاجرين والأنصار، وكان يحضر في هذا المجلس حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه وهو غلام صغير السن، ما أُدخِل في مثل هذا المجلس إلا أنه كان عالماً بكتاب الله عز وجل، ونعلم قصة عمر رضي الله عنه لما سأل في مجلسه عن قول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] ما تعلمون منها؟ قالوا: بشارة ساقها الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي القوم ابن عباس، فسأل عمر هذا وهذا، ثم التفت إلى ابن عباس وقال: ما عندك فيها يا ترجمان القرآن؟ فيقول: أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نُعي إليه، فيقول عمر: والله ما أعلم منها إلا ما ذكرت يا ابن عباس، وكان بعض الأنصار يقولون لـ عمر: ما لك تدخل بيننا هذا الغلام وفي أبنائنا من هو أسنّ منه؟ فسأله عمر بينهم عن كتاب الله عز وجل ليظهر علمه، ويجلو علو كعبه في مقاله وعلمه بكتاب الله، فيرى حينئذ أين وكيف يكون التقدم والشرف وعلو المنزلة.(129/8)
حامل القرآن طيب المظهر والجوهر
سابعاً: الطيب ظاهراً وباطناً.
حامل القرآن طيب يشع منه القول الطيب، والسلوك الطيب، والسمت الطيب، بل والرائحة الطيبة، ففي سنن الترمذي بسند حسّنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (تعلموا القرآن فاقرءوه، فإن مثل القرآن لمن تعلم فقرأ وأقام به كمثل جراب محشو مسكاً تفوح رائحته على كل مكان، ومثل من تعلمه فرقد وهو في جوفه كمثل جراب أوكئ على مسك).
فأنت في يقظتك وفي منامك يفوح منك الطيب ظاهراًُ وباطناً، قد طيبت باطنك وطهرت قلبك ونقيت نفسك بهذا الكلام الطاهر الشريف كلام رب العالمين.
وفي صحيح البخاري عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو)، فعلى كل حال ما دام القرآن بين جنبيك فأنت طيب ظاهراً وباطناً.(129/9)
حامل القرآن قائم بوصية النبي صلى الله عليه وسلم
ثامناً: وصية مهمة.
أنت قائم بالوصية العظمى التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ما خلف درهماً ولا ديناراً، ولا أوصى بأرض ولا ضياعٍ، وإنما كما ورد في صحيح البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قيل له: هل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، فقيل: كيف أمر الناس بالوصية ولم يوص؟ فقال ابن أبي أوفى: أوصى بكتاب الله عز وجل.
فهذه وصية النبي لأمته، فأنت آخذ بهذه الوصية، قائم ببعض الواجب فيها، فاعلم أنك في هذا الميدان على قدر ومنزلة شريفة.(129/10)
حامل القرآن متصل بأسباب السماء
تاسعاً: الصلة السماوية.
عندما تقرأ القرآن وترتبط به فإنك تربط أسباب الأرض بالسماء، فإن هذا القرآن قد أنزل من فوق سبع سماوات، وأنزل لتحيا به القلوب، وأنزل لينير ظلمات هذه الأرض، ويشع فيها النور بهدي الله عز وجل، فإذا قرأت القرآن فإنك تستنزل الأسباب، وتكون ذا صلة بالسماوات، وهي صلة حسية لا معنوية، فقد ورد في حديث أسيد بن حضير أنه كان يقرأ سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده، إذ جالت الفرس -أي: تحركت واضطربت- فسكت فسكنت، فقرأ مرة أخرى فجالت الفرس، فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف، وكان ابنه يحيى قريباً منها -أي: نائماً- فأشفق أن تصيبه الفرس، فلما اجتره رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها -أي: ما يرى هذه الظلة التي رآها في أول أمره- فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال له: (اقرأ يا ابن حضير اقرأ يا ابن حضير، -يعني: حبذا لو واصلت القراءة- قال: يا رسول! أشفقت أن تطأ يحيى وكان منها قريباً فانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها، قال: وتدري ما ذاك؟ قال: لا، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم).
وفي حديث مشهور عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)، ولا شك أن هذه صلة عظمى، ومنزلة عالية.(129/11)
حامل القرآن حاصل على الأنوار الربانية التي تضيء قلبه وطريقه
عاشراً: النورانية الربانية.
فإن هذه منزلة عظيمة ينبغي أن تحرص عليها، وأن تذكرها، وأن تعرف قدرها، فإن هذا النور الرباني يضيء قلبك ويضيء طريقك، والله عز وجل قد قال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] فهذا النور بين جنبيك يضيء طريقك، فاعلم أنك في هذه المنزلة على رفعة وقدر سامٍ شريف، فهو أمر عظيم، وقد قال ابن سابق -كما روى ذلك ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب فضائل القرآن-: إن البيوت التي يقرأ فيها القرآن لتضيء لأهل السماء كما تضيء السماء لأهل الأرض، وإن البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ليضيق على أهله، وتحضره الشياطين، وتنفر منه الملائكة، وإن أصفر البيوت -أي: أشدها إفلاساً- لبيتٌ صِفْر من كتاب الله عز وجل.
فلا شك أن هذه أيضاً منزلة عظيمة ينبغي أن تحرص عليها.(129/12)
حامل القرآن حائز على الحصانة الإلهية
الحادي عشر: الحصانة الإلهية.
أنت محفوظ بهذا القرآن بحفظ الله عز وجل، حسبنا أن نعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إن سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غُفر له).
وفي الحفظ أيضاً حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أيضاًً في الآيات الأخيرة من سورة البقرة، وفي ذكر العصمة من الدجال في قراءة عشر آيات من الكهف، وأحاديث كثيرة يأتي ذكر بعضها لاحقاً.(129/13)
انتساب حامل القرآن إلى الله عز وجل
الثاني عشر: الانتساب العظيم.
عندما تكون في صلة مع كتاب الله عز وجل فإنما أنت في هذا الميدان العظيم منتسب إلى الله، ورد في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن أهل القرآن هم أهل الله وخاصته)،فأنت منتسب إلى الله عز وجل، وأعظِمْ بها من نسبة وشرف.
يقول الناظم: وبعد فالإنسان ليس يشرفُ إلا بما يحفظه ويعرفُ لذاك كان حاملو القرآنِ أشراف الأمة أولي الإحسان وإنهم في الناس أهل اللهِ وإن ربنا بهم يباهي وقال في القرآن عنهم وكفى بأنه أورثهمُ ما اصطفى فما أعظم هذه المنزلة العالية الرفيعة.
قال ابن الجزري في النشر: (ولما تكفل الله بحفظه -أي: القرآن- خص به من شاء من بريته، وأورثه من اصطفاه من خليقته، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32]، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إن لله أهلين من الناس، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن أهل الله وخاصته)).(129/14)
الأجر والثواب الذي يحصله حامل القرآن
إن كان هناك قدر ومنزلة لحامل القرآن في الدنيا والآخرة، فاعلم أن وراء ذلك أجراً عظيماً كما في الحديث الذي في سنن الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للقارئ بكل حرف يقرؤه من القرآن حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف).
وعن عائشة في الصحيح مرفوعاً: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) أي: أجر القراءة وأجر المشقة.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو حديث عظيم جدير بالتأمل- أنه قال لأصحابه: (أيكم يحب أن يغدو إلى بطحان -وهو وادٍ بظاهر المدينة- فيأتي منه بناقتين كوماوين -أي: سمينتين عظيمتين- في غير إثم ولا قطيعة رحم؟) أي: يذهب فيجدها، وكانت الإبل أعظم أموالهم وأغلاها وأنفسها، وكانت تقوم ثرواتهم بها، فكيف بك كلما أردت من هذه الإبل تذهب إلى هذا المكان فتأخذ ما شئت؟! (قالو: يا رسول! كلنا يحب ذلك، فقال: فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل).
ولكي نقترب من المعنى أكثر نقول: لو قيل لأحدنا: لو ذهبت إلى مكان ما فإنك ستجد سيارتين أو ثلاث من أفخر أنواع السيارات فتأخذها، فماذا يصنع الناس؟ سيتسابقون تسابقاً شديداً.
والله عز وجل قد ذكر عظيم الأجر والمثوبة بقوله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:30] وهذا أمر واضح، ومن أوضحه ومن أعظمه أجراً أنه يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارقَ، أي: ارتفع، حتى تكون منزلته عند آخر آية يقرؤها من كتاب الله عز وجل.(129/15)
المنافع الجليلة التي يستفيدها حامل القرآن
مع كل هذا القدر العظيم والمنزلة الرفيعة، ومع الأجر الكثير والمثوبة العظيمة، فإن هناك نفعاً غزيراً وفائدة عميمة -إضافة إلى كل ما سبق- تجنيها عندما ترتبط بكتاب الله عز وجل، وحسبك من هذه الفوائد أن نذكر بعضاً منها: أولاًً: المتمسك بالقرآن حفظاً وتلاوةً وتعلماً يحوز أموراً كثيرة، منها: أولاً: الاستشهاد، وقوة الحجة.
فأنت إذا حفظت القرآن كانت الحجة جارية على لسانك، ليناً بها لسانك، فلا تحتاج إلى أن تحصر، وإلى أن تتتعتع، فإذا ذكر أمر فإنك تجيب بكتاب الله عز وجل، فقد ذكر عن السلف مواقف كثيرة، كان القرآن فيها يجري على ألسنتهم إجابة على كل سؤال، وفتيا لكل مستفتٍ، ودمغاً لكل باطل، وهكذا من كان قريب الصلة بالقرآن فإن القرآن يجري على لسانه، فيكون قوي الحجة، سريع الاستشهاد، كثير الاستدلال، لا يلقي القول على عواهنه، فما من كلمة أو كلمتين أو جملة أو جملتين إلا بيّنها بآية من كتاب الله عز وجل تثبت قوله وتؤكده وتقويه.
ثانياًً: علم العلوم كلها في كتاب الله عز وجل.
فأنت عندما تتعلم القرآن فإنك تتعلم -بصورة مباشرة أو غير مباشرة- النحو والصرف والبلاغة والفصاحة، وأشياء من التاريخ، وأحوال الأمم السالفة، وتعرف ضروباً من علوم النبات والزراعة والمياه والبحار، وأشياء أخرى كثيرة، فإن القرآن كتاب جمع علوماً عديدة، حتى إن المرء قد يسأل السؤال في غير ما يجيده ويحسنه، فإذا كان حافظاً للقرآن استذكر من القرآن ما يجيب به في أمر لا يعهد أنه يعرف مثله، فإن سئل في تاريخ ربما أجاب وليس من أهل التاريخ، وإن سئل في لغة وفي إعراب ربما استشهد بالآية وإن لم يكن قد قرأ النحو أو عرفه، فإذا صرت مع القرآن فاعلم أنك تجمع أطرافاً من العلوم وأسساً تقودك إلى أن تجيد وأن تتقن وأن تنتفع وأن تستفيد.
ثالثاً: حياة القلوب.
فهذا القرآن هو الحياة الحقة للقلوب، فأنت إذا كنت دائم الصلة بالقرآن، كل يوم عندك حلقة تتلقى فيها، وليل تقومه بهذا القرآن، ووقت تمضيه في المراجعة والمدارسة، فإن هذا القرآن هو حياة القلب، وهو غياث النفوس، وهو الذي يذكّر ويعظ، فأنت إذاً حي القلب بإذن الله؛ لأنك دائم الصلة بكتاب الله.
فما ظنك بأناس لا يقرءون القرآن إلا لماماً؟! ولا يفتحون المصحف إلا نادراً؟! ولا يسمعون الآيات إلا من العام إلى العام أو في رمضان؟! ما ظنك بقلوبهم؟ ألا ترى أنها تصبح أقسى من الصخور والجلاميد؟ ألا ترى أنها قد يغلق عليها أو يختم عليها عياذاً بالله؟ فاحمد الله؛ لأنك باشتغالك بالقرآن تحفظ الحياة على قلبك، وتحفظ الانشراح والسعة لصدرك، فما أعظمه من نفع وفائدة تدرك أثرها عندما ترى المحرومين من هذه النعمة الكبرى.
رابعاً: الجدية والإنتاج.
أنت عندما تحفظ القرآن وتسعى في تعلمه تتعود على أن تكون رجل جد ومواظبة واستمرار، ولست ممن يبدأ العمل فيقطعه، ولست ممن يسرع إليه السأم فينقطع عما بدأه، ولست ممن يستهول الأمر ويستعظمه فيعجز ويضعف، عندما تجعل حفظ القرآن نصب عينيك، ثم تثني له ركبتيك، ثم تسعى إليه في المسجد، ثم تقعد بين يدي المدرس، ثم تفعل هذا وهذا، فإنك إذا نجحت في هذا السبيل فأنت في سواه بإذن الله عز وجل أنجح، ولا شك أنك تتعود بذلك على طلب العلم، وعلى ارتياد المساجد، وعلى كثير من هذه الأمور التي تجعلك مُجدّاً منتجاً ومنتفعاً، غير ما يكون عليه كثير من الشباب العابث اللاهي الذي لا يحسن شيئاً، كما قال القائل في وصف بعض ميوعتهم وتهتّكهم: أغار عليك من إدراك طرفي وأشفق أن يذيبك لمس كفي فأمتنع اللقاء حذار هذا وأعتمد التلاقي حين أغفي خامساً: الصحبة الصالحة.
الإنسان كأصحابه، والصاحب ساحب -كما يقولون-، فأهل الرياضة ينادمون أهل الرياضة، وأهل الفن يصاحبون أهل الفن، وأهل الأموال والأرقام الفلكية والحسابات المتعددة والطرح والقسمة والضرب مع أصحابهم، وهكذا كلٌ مع أضرابه، والطيور على أشكالها تقع.
فإن سرت في ركب القرآن تطلبه أو تقرؤه أو حتى تسمعه أو حتى تحضر مجالسه فأنت تنتفع بصحبتهم كما في الحديث: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)، وهذا أمر لا شك أنه عظيم، انظر إلى كثير من الشباب أين ضاعوا، وفي أي الأودية تاهوا، ومع من ساروا، وأي صحبة اختاروا! فإنك تجد أنك قد استفدت فائدة جليلة، وكسبت مكسباً عظيماً جداً.
سادساً: الاستثمار الأفضل للوقت والجهد.
فإنك في فترة الصبا يمكن أن تكون مع الصبيان العابثين اللاعبين الذين يلعبون في الشوارع والطرقات، والذين ليس لهم همّ إلا الجري هنا وهناك، وإن صغار الصحابة وصغار السلف قد ضربوا لنا أمثلة رائعة لا بأس أن نُعرّج تعريجاً يسيراً على بعض منها حتى تدرك أنك إن دخلت هذا الميدان من صغر سنك فأنت تستثمر الوقت وتصوغ الشخصية بشكل مغاير ومختلف.
فقد جاء في ترجمة سفيان بن عيينة رحمة الله عليه أشياء عجيبة في صغر سنه، من ذلك أنه قد بدأ طلب الحديث بعد العاشرة، وجلس إلى عمرو بن دينار وهو في الثانية عشرة من عمره، وكان يقول عن نفسه: كنت أجيء إلى حلقة عمرو بن دينار وأنا كالمسمار، طولي بضعة أشبار، وذيلي بمقدار، فإذا جئت قال الكبار: افسحوا للمحدث الصغير! ويذكر أيضاً في ترجمته أنه لقي عمرو بن دينار قبل أن يعرفه، فقال -وقد رآه في الشارع-: يا غلام! امسك حماري حتى أغدوا إلى المسجد فأصلي ركعتين، قال: لا أفعل حتى تحدثني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وما عسى أن ينفعك الحديث؟ قال: إذاً لا أفعل، وأبى أن يمسك حماره حتى يحدثه، قال: فحدثني ببضعة أحاديث، ثم دخل وصلى وخرج، قال: ما انتفعت بما حدثتك؟ قال: فأعدت عليه الأحاديث، قال: فعجب مني! قال: فلما مضى سألت عنه، قيل: هذا عمرو بن دينار فلزمت مجلسه.
فالصغير عندما يذهب إلى حلق القرآن لا يعود عابثاً من العابثين، ولا صغيراً من الصغار، فكيف بالشاب، أو من بدى في مقتبل العمر وفي ريعان الشباب إذا دخل في هذا الميدان، فلا شك أنه يستطيع -بإذن الله عز وجل- أن تكون حجته بين يدي الله عز وجل قوية، عندما يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، فلئن أفنى بعض الشباب أوقاتهم في السيارات!! وفي الملاعب!! وفي السفر!! فأنت تستثمر هذا الوقت استثماراً عظيماًً في هذا الجانب.
سابعاً: الحصانة والتحصن.
وهذا ما أشرت إليه إلماحاً، فإنك عندما تدخل في هذا الميدان تحصن نفسك كما ورد في الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، ومنها حديث أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا تتخذوا بيوتكم مقابر، صلوا فيها، فإن الشيطان ليفرُّ من البيت يسمع سورة البقرة تقرأ فيه)، فأنت تحصن بيتك وتحصن نفسك وتحصن ولدك وتحصن أهلك، عندما تقرأ أو تراجع، فإذا بك تمر بآية الكرسي وتمر بخواتيم البقرة، وتقرأ آيات سورة الكهف، وتمر بالآيات التي فيها استعاذة من الشياطين، فكلما قرأت كلما حصنت نفسك، وانظر اليوم إلى حال الناس وإلى الظاهرة التي تفشت وانتشرت، كم نرى من الناس قد مسّتهم الشياطين، وقد ابتلوا بالسحر، وقد تلبست بهم العفاريت من الجن، والسبب أنه لا حظّ لكثير منهم في القرآن والذكر، وتحصين البيوت بتلاوة كتاب الله، فأنت بطبيعة اشتغالك بالقرآن تديم هذه التلاوة، وتحصل هذه الفائدة النافعة، وهكذا تجد هذه الأمور كلها ميسرة.
ثامناً: السلامة من الملل والسآمة لمن صدق الله وأخلص النية.
لو كنت تريد حفظ القصائد والأشعار ونحوها، أو كنت تريد حفظ العلوم والمتون وتردادها، فإنه -لا شك- يسري إلى نفسك الملل، وبذلك -إن لم ترغم النفس وتخالفها- قد تنقطع، أمّا عند تردادك للقرآن واشتغالك به فلا خوف من الملل مطلقاً، فإنه لا يمل على كثرة ترداده.
وقد عد الماوردي ذلك من إعجاز القرآن، فقال: ومن إعجازه أن تلاوته تختص بخمسة بواعث عليه لا توجد في غيره، أحدهما: هشاشة مخرجه، والثاني: بهجة رونقه، والثالث: سلاسة نظمه، والرابع: حسن قبوله، والخامس: أن قارئه لا يكلّ، وسامعه لا يملّ، وهذا في غيره من الكلام معدوم.
فليس هناك تعب ولا ملل من تلاوة القرآن وتكراره، فأنت تجني هذه الفوائد دون أن يتسرب إلى نفسك ملل ولا تعب.
والنويري أيضاً عدّ ذلك من إعجاز القرآن، فقال: إن قارئه لا يمل قراءته، وسامعه لا تمجه مسامعه، بل الإكباب على تلاوته وترديده يزيده حلاوة ومحبة، ولا يزال غضاً طرياً، وغيره من الكلام ولو بلغ ما عساه يبلغ من البلاغة والفصاحة يمل من الترديد، ويُسأم إذا أعيد، وكذلك غيره من الكتب لا يوجد فيها ما فيه من ذلك: تزداد منه على ترداده ثقةً وكل قول على الترداد مملول وكما قال الشاطبي أيضاً: وإن كتاب الله أوثق شافعٍ وأغنى غَنَاءً واهباً متفضلاً وخير جليس لا يمل جليسه وترداده يزداد فيه تجمُّلاً(129/16)
وصايا وتوجيهات لأهل القرآن(129/17)
وصايا عامة لأهل القرآن
ثم ننتقل أيها الإخوة الأحبة بعد أن ذكرنا أنفسنا بمنزلة أهل القرآن والتعريف بهم، إلى الشق الثاني المهم، وهو: التوجيه بالوصايا لأهل القرآن، وأولها الوصايا العامة: أولاً: الإخلاص.
وأهميته لا تخفى؛ فهو أول الأمر وآخره، وأوسطه وجوهره, ولا شك أن الأمر بدءاً بدونه لا قيمة له، ومن لطيف ما ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في كتاب الفوائد أنه قال: العمل بغير إخلاص كالمسافر يملأ جرابه رملاً، يثقله ولا ينفعه، يتعب بدون نفع ولا فائدة.
ثانياً: ألا يحرموا أنفسهم علوم القرآن، فلئن حفظت فجود، ولئن جودت ففسر، ولئن فسّرت فتعلم البلاغة، ولئن تعلمت البلاغة فعليك بأسباب النزول، وخذ حظك، فإنه لا يشبع منه أحد، ولا يمكن أن يصدر عن منهله أحد مطلقاً، وحسبك في ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه في الصحيح: والله الذي لا إله غيره! ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه.
ثالثاً: العمل بالعلم، فإن هذا القرآن حجة لك أو حجة عليك، فكل مرتبط بالقرآن لابد أن يستشعر هذه المسئولية، أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال: إن هذا القرآن كائن لكم ذخراً، وكائن لكم أجراً، وكائن عليكم وزراً -يعني: بحسب ما تعملون به أو تتخلفون عنه- فاتبعوا القرآن ولا يتبعنكم القرآن، فإنه من يتبع القرآن يهبط به في رياض الجنة، ومن يتبعه القرآن يزخ في قفاه فيقذفه في جهنم.
وهذا لا شك أنه من الأمور المهمة التي نحتاجها، وقد كان هذا دأب الصحابة، قال أبو عبد الرحمن السلمي: كان الذين يقرئوننا القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوزون بنا العشر من الآيات حتى نعرف ما فيها من العلم والعمل، فتعلمنا العلم والعمل معاً.
ولئن كان هذا الأمر غير متيسر ولا مأخوذ به فلا ضير أن تقرأ وأن تحفظ وأن تراجع، لكن لا تحرم نفسك من أن تستزيد وأن تتعلم، وأنت ملزم أن تعمل بما علمت.
رابعاً: أن تطلب بصلتك بالقرآن الآخرة لا الدنيا، فإن أردت أن تحفظ فاجعل حفظك لله، وإن علّمت فاجعل تعليمك لله، فإن أول من تسعّر بهم النار يوم القيامة: قارئ للقرآن، يأتي به الله عز وجل فيسأله: (فيم قرأت القرآن؟ فيقول: فيك -يا رب- قرأتُ القرآن وعلمتُه، فيقال: كلا! بل فعلت ذلك ليقال: قارئ، وقد قيل، فيؤمر به فيلقى في جهنم) فاطلب وجه الله عز وجل بقراءتك وتلاوتك وحفظك وتدريسك.
وهذا أبو إياس معاوية بن قرة كما أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه يقول: كنت نازلاً على عمرو بن النعمان بن مقرن، فلما حضر رمضان جاءه رجل بألفي درهم من قِبَل مصعب بن الزبير، فقال: إن الأمير يقرئك السلام ويقول: إنا لا ندع قارئاً شريفاً إلا وقد وصل إليه منا معروفاً، فاستعن بهذه على نفقة شهرك هذا، فقال عمرو: اقرأ على الأمير السلام وقل له: والله ما قرأنا القرآن نريد به الدنيا.
وردّ عليه ما آتاه!! فهكذا كان أهل القرآن.
وفي حديث عمران بن الحصين أنه مرّ على قاص يقرأ القرآن، ثم سأل -أي: طلب من الناس مالاً كما يصنع بعض الناس اليوم عندما يقرءون قراءات التطريب والتنغيم، ثم يبسطون أرديتهم ليضع الناس فيها أموالاً، فهؤلاء القراء يتكسبون بتلاوة القرآن!! - فلما رأى عمران بن الحصين ذلك استرجع -أي: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون- ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرءون القرآن يسألون به الناس) والحديث في مسند الإمام أحمد، فلا تكن هذا الذي ذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر بأنه كائن في أمته في آخر هذا الزمن.
خامساً: تحسين الصوت وحسن التلاوة.
اجتهد في ذلك ما استطعت فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يأذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن) ونعلم أن النبي قال لـ أبي موسى الأشعري: (إنك أوتيت مزماراً من مزامير آل داود) فاجعل من أهدافك أن تحسن بالقرآن صوتك، وأن تزين صوتك بالقرآن، فإن ذلك مما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك أحاديث كثيرة، منها حديث البراء بن عازب رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (زينوا القرآن بأصواتكم) أخرجه ابن حبان في صحيحه.
وجاء في صحيح ابن حبان من حديث أبي قتادة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بـ أبي بكر رضي الله عنه وهو يصلي خافضاً صوته -أي: بالقراءة- ومر بـ عمر يصلي رافعاً صوته رضي الله عنه، قال: فلما اجتمعا عند النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي بكر: يا أبا بكر! مررت بك وأنت تصلي تخفض من صوتك، قال: قد أسمعتُ من ناجيتُ، قال: ومررت بك يا عمر وأنت ترفع صوتك، فقال: يا رسول الله! أوقظ الوسنان وأحتسب به، فقال النبي لـ أبي بكر: ارفع من صوتك شيئاً، وقال لـ عمر: اخفض من صوتك شيئاً) فكن بين بين، وحسّن بهذا القرآن صوتك، وأسمعه الناس كما كان ابن مسعود يغشى به مجالس كفار مكة حتى يسمعهم كلام الله عز وجل.
سادساً: المنافحة والدفاع عن القرآن.
إذا كنت من أهل القرآن فلا بد أن تكون من الدعاة إلى القرآن، ومن المدافعين عن القرآن والمنافحين عنه، ولا ينبغي لك أن تسكت عمن يتهجم على القرآن، أو يستهزئ به، فإن سكتّ على هؤلاء فلست في الحقيقة من أهل القرآن؛ لأن من قدّر القرآن وجمعه في صدره وحفظه في قلبه فإنه يعز عليه أن يهجره الناس، فضلاً عن أن يتهجموا أو يعتدوا على القرآن، وحسبك في ذلك مواقف الصحب الكرام رضوان الله عليهم، ومن ألطف وأبهر المواقف ما كان من عمر رضي الله عنه كما في صحيح مسلم: (أن عمر كان في المسجد، قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: يقرؤها قراءة لا يعرفها عمر - فكدت أساوره في الصلاة -أي: كدت أقطع عليه الصلاة-، فلما قضى صلاته لببّته بردائه وقلت: من أقرأك هذه السورة؟! قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قلت: كذبت -أي: أخطأت- فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها على غير ما سمعتك تقرأ، قال: فانطلقت به أقوده إلى رسول الله، فلما جاء إلى مجلس النبي عليه الصلاة والسلام وأبلغه الخبر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أرسله يا عمر، اقرأ يا هشام، فلما قرأ هشام قال النبي عليه الصلاة والسلام: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف)، وبين له أن هذا وهذا كله من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سابعاً: التميز في الشخصية، فأنت تحمل بين جنبيك كلام الله عز وجل، وقد أخذت المعجزة العظيمة، وقد سبق بيان ما لصاحب القرآن من القدر والمنزلة، فما ينبغي لك أن تكون مثل غيرك، وحسبنا في ذلك قول ابن مسعود: (ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون).
وقال النووي عن حامل القرآن: ومن آدابه أن يكون على أكمل الأحوال، وأكرم الشمائل، وأن يرفع نفسه عن كل ما نهى القرآن عنه إجلالاً للقرآن، وأن يكون مصوناً عن دنيء الاكتساب، شريف النفس، مترفعاً على الجبابرة والجفاة من أهل الدنيا، ومتواضعاً للصالحين وأهل الخير والمساكين، وأن يكون متخشعاً ذا سكينة ووقار.
يقول الفضيل بن عياض: ينبغي لحامل القرآن ألا يكون له حاجة إلى أحد من الخلفاء فمن دونهم.
وعنه أنه قال: حامل القرآن حامل راية الإسلام، لا ينبغي له أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو؛ تعظيماً لحق القرآن.
وقال الحسن: إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل ويتفقدونها بالنهار.(129/18)
وصايا خاصة لمتعلمي القرآن الكريم
أولاً: المواظبة والاستمرار: كثيراً ما ينقطع هذا الخير ويتوقف رصيد الحفظ، بل تُنسى الآيات والسور المحفوظة شيئاً فشيئاً بسبب الانقطاع، وخير الأعمال أدومها وإن قل، وكان من دأب النبي عليه الصلاة والسلام أنه ما بدأ بطاعة ثم تركها، وفي ترجمة الإمام أحمد عن إبراهيم الحربي أنه قال: صحبت ابن حنبل أربعين سنة فما رأيته في يوم إلا وهو أزيد من الذي قبله.
فكيف تتكامل وتنقطع؟ واعلم أن الاستمرار هو الذي يؤتي الثمار، وأما الانقطاع فهو مظنة الضياع، وهذه حكمة احفظها والتزمها لعلها أن تنفعك إن شاء الله تعالى.
ثانياً: الوقت المناسب: فلا تضحك على نفسك! بأن تخصص خمساً من الدقائق أو عشراً، أو تخصص ساعة نصفها يذهب في لغو ولعب وانصراف ذهن، فإنك حينئذ لم تأت بالأمر على تمامه، وهذا يقع من طلبة التحفيظ، فيأتي أحدهم بعد صلاة المغرب متأخراً، ثم يصلي السنة مطولاً، ثم يلتفت متحدثاً، ثم يجلس متلفتاً، ثم يردد مع المؤذن في أذان العشاء، ويقول: قد قضيت الوقت وداومت وواظبت، فما صنع هذا شيئاً ينفعه وإنما ضحك على نفسه، وأغرى به شيطانه، فينبغي له أن يفطن إلى ذلك، وينبغي له كذلك أن يختار الأوقات المناسبة، فلا يجعل حفظه ومراجعته في أردأ الأوقات، بعد أن ينهي كل الأعمال، والمذاكرات، وبعد أن يقضي كل المصالح، وبعد أن ينهي كل المشاوير والأعمال، فيأتي وقد كَلّ ذهنه، وتعب جسمه، فمهما أعطى من وقت فإنه لا ينتفع به، وقد قال الخطيب البغدادي: أجود أوقات الحفظ الأسحار، ثم نصف النهار، ثم الغداة، وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع، وأجود أماكن الحفظ كل موضع بعيد عن الملهيات، وليس الحفظ بمحمود بحضرة النبات والخضرة وقوارع الطرق؛ لأنها تمنع خلو القلب، وينبغي أن يصبر على ذلك إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى.
ثالثاً: الإصغاء والتلقي: بعضهم يسرع ويتحمس ويسابق قبل أن يتقن ويسمع ويتلقى، وهذا قد جاء في القرآن الكريم لما كان النبي عليه الصلاة والسلام من شدة حرصه يسابق جبريل خوفاً أن يتفلت منه القرآن، فنزل قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:17]، وبعض الطلبة يريد إذا جاء المدرس يلقنه أو يقرأ عليه الدرس الجديد يظن أنه قد بلغ المنزلة والوضع الذي لا يحتاج معه إلى هذا التلقي، فلا يصغي له بأذنه، ولا يلقي له سمعه، ولا يحضر معه قلبه، ويتبرم بذلك ويريد الانصراف، ثم إذا به يخطئ فيما كان ينبغي أن يتلقاه وأن يتعلمه، وهذا كثيراً ما يقع فيه الطلاب فيخطئون في الحفظ، ويكون حفظهم الأول حفظاً خاطئاً، ويستمر معهم هذا الحفظ الخاطئ.
رابعاً: الجد والاجتهاد: فإن أمر الحفظ والمراجعة وعلوم القرآن ليس أمراً ينال بالتمني ولا بالأحلام والأوهام، ولا بكثرة الطعام، ولا مع كثرة الراحة والمنام، هو أمر قد شمر له المشمرون، وتسابق إليه المتسابقون، وتنافس فيه المتنافسون، ووصل فيه السابقون ليلهم بنهارهم، وكانوا يقرءونه في حِلّهم وترحالهم، بل كانوا يرددونه وهم على صهوات الخيول وقت المعارك والجهاد والسيوف تسمع قعقعتها، والغبار يملأ الأجواء، والميدان تعلو فيه رائحة الدماء، قد كانوا يبذلون فيه جهداً عظيماً، ولذلك ينبغي أن تدرك هذا الأمر، ومع هذا فلا يهولنك الحفظ كما يقع لبعض الطلاب: فيرى بعد أن يبدأ في جزء أو جزءين أن العقبة كئود، وأن المهمة في غاية المشقة، وأنه لا يمكن أن يبلغ النهاية، إذا ظن ذلك فقد حطم نفسه، وهدم ركن عزيمته، وانقطع به سبيله في غالب الأحوال.
أخي الطالب! اعلم أن الله قد قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، فليس الأمر صعباً، بل هذا من إعجاز القرآن كما ذكر ذلك الماوردي فقال: من إعجاز القرآن تيسيره على جميع الألسنة، حتى حفظه الأعجمي الأبكم، ودار به لسان القبطي الألكن، ولا يحفظ غيره من الكتب كحفظه، ولا تجري به ألسنة البكم كجريها فيه، وما ذلك إلا بخصائص إلهية فضله بها على سائر كتبه.
كيف تقول: إنك لا تستطيع أن تحفظ أو ترى ذلك صعباً، وأنت ترى من لا يحسن العربية، ولا يجيدها ولا يتقنها، يحفظ ويرتّل ويجوّد، فإذا نطق بكلام آخر غير القرآن لم يستطع أن يقيمه، ولم تفهم منه كلمة، كما هو معروف في الأعاجم الذين يقرءون القرآن يحبرونه تحبيراً، فإذا تكلموا العربية كسَروها تكسيراً! وهذا من الإعجاز ومن التيسير للقرآن، فهو ميسر مذلل، لكنه يحتاج إلى جد واجتهاد، واعلم أنك في هذا مأجور بإذن الله عز وجل.
خامساً: اغتنام الفرص: كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام حين أوصى بقوله: (اغتنم خمساً قبل خمس) فاحرص على الحفظ والتلقي في صغر السن، واحرص على ذلك في سن الطلب أي: في أوقات الدراسة قبل أن تتخرج وتصبح موظفاً، وتصبح رباً لأسرة، فإذا عجزت في الأولى فأنت في الثانية أعجز، فلذلك ينبغي أن تغتنم الفرص قدر استطاعتك.
سادساً: الاستفادة من الزملاء في المدارسة والمذاكرة والتشجيع والمنافسة: بعض الطلاب ليس له مع إخوانه وزملائه صلة إلا صلة الود والمحبة، والأنس والمصاحبة، والأحاديث والمفاكهة، والنزهات والرحلات، لكن قل ما تجدهم يجتمعون لمراجعة ومدارسة وتسميع القرآن.
سابعاً: توقير القرآن ومعلم القرآن: فإن بعض الطلبة لا يلتزمون هذا الأدب المهم وقد ذكر أبو شامة في أول شرحه على الشاطبية بعض هذه الآداب التي ينبغي أن يلتزمها الطالب، ومنها: أن يلزم مع شيخه الوقار والتأدب والتعظيم، وقد قيل: بقدر إجلال الطالب للعالم ينتفع الطالب بما يستفيد من علمه، وينبغي أن يعتقد أهلية ورجحان معلمه، وذلك أقرب إلى أن ينتفع به، وأن يكون مجلاً له وحافظاً لهيبته، ومن آدابه: أن يتحرى رضا معلمه وإن خالف ذلك هوى نفسه، ومن ذلك أيضاً: أن يدخل إلى حلقة القرآن بكامل الهيئة، فارغ القلب من الشواغل متنظفاً بسواك، وقد قص شاربه وظفره وأزال أي رائحة كريهة، منها أيضاً: ألا يترك طالب القرآن حلقته ولزومه معلمه لأي عارض بسيط من العوارض، أو لأي عذر يسير مما قد يمكن احتماله.(129/19)
وصايا خاصة لحفاظ القرآن الكريم
هذه جملة يسيرة من وصايا الحفاظ، ولا شك أنهم يحتاجون إلى مزيد من التوجيهات والتنبيهات، والوصايا العامة التي ذكرتها آنفاً تعنيهم كما تعني الطلاب، ثم يزاد عليها الوصايا التالية: أولاً: إحكام التمكين: فلا يدفعك الفرح بختمك أو بحفظك عن أن تتمكن وتراجع وتديم هذه المراجعة في أول الأمر خاصة؛ لأن القرآن سريع التفلّت، ففي البداية وعند أول الختم راجع ما استطعت أن تراجع، ولو أن تختم في ثلاث، وهذا هو الحد الأقصى لختم المصحف، ولا يفقه من قرأ في أقل من ثلاث، ولو استطعت أن تختم في كل ثلاث فإن ذلك مطلوب منك.
ثانياً: دوام التلاوة: كما في حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي رواه أبو موسى: (تعاهدوا القرآن؛ فوالذي نفسي بيده! لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها).
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما مثل صاحب القرآن كصاحب الإبل المعقلة -أي: المربوطة- إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت).
ولذلك لابد من المداومة على التلاوة بالليل والنهار، والحل والترحال، في الصلاة وفي خارج الصلاة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم -كما في مسلم وفي مسند الإمام أحمد - يذكر الله في كل أحيانه.
وفي حديث علي: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء ما خلا الجنابة)، وفي حديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع رأسه في حجر إحدانا -أي: من أزواجه- فيتلو القرآن وهي حائض) أي: يقرؤه ويديم التلاوة قائماً وقاعداً ومستلقياً، وإن كان متطهراً -أي: متوضئاً- أو غير متوضئ لا يمنعه من تلاوة القرآن إلا الجنابة.
قال ابن الجزري: فليحرص السعيد في تحصيله ولا يمل قط من ترتيله وليجتهد فيه وفي تصحيحه على الذي نقل من صحيحه وهذا لا شك أنه من الأمور المهمة، قال النووي في (التبيان): ينبغي لحافظ القرآن أن يحافظ على تلاوته ويكثر منها، وكان السلف لهم في ذلك عادات مختلفة في قدر ما يختمون، فروى ابن أبي داود عن بعض السلف أنهم كانوا يختمون في كل شهرين ختمة، وعن بعضهم في كل شهر ختمة، وعن بعضهم في كل عشر ليال ختمة، وعن بعضهم في كل ثمان، وعن الأكثرين في كل سبع ليال، وهذا بعد التمكن من إتقان الحفظ، فإنه ينبغي أن تديم التلاوة ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
ثالثاً: اتقان التجويد: فلئن طُلب ذلك من الطالب فإنه من الحافظ آكد وألزم، فإن الحافظ يُعدّ في رتبة من يكون مدرساً ومحفظاً، فلابد أن يعنى بالتجويد، وبعض الناس يظن أن التجويد لا أهمية له!! وهو -كما نعلم- فرض كفاية، لكن كل أحد في اختصاصه مطلوب منه دواعي ومؤهلات ذلك الاختصاص، فالحافظ لاشك أنه يلزمه تعلم التجويد وإتقانه بصورة أكبر من غيره، ولذلك ينبغي له أن يتقن التجويد إتقاناً جيداً، وأن يحفظ في ذلك متناً كالجزرية أو غيرها، وأن يقرأ ويضبط شرح هذا المتن لكي يلمّ بالتجويد، وأن يختم ختمة كاملة على شيخ متقن مُجاز حتى يجاز ويمكنه أن يجيز غيره في هذه الرواية، فالقرآن إنما هو بالتلقي، والقراءة التي يقرأ بها بعضنا جيدة، لكن الحافظ ينبغي له أن يقرأ على الشيخ حتى يتصل سنده، ويكمل -بإذن الله عز وجل- المطلوب منه في هذا الشأن.
رابعاً: تعليم القرآن بعد تعلمه وإتقانه: فإن هذا من أعظم أسباب العون على دوام التلاوة والتمكن من إتقان القرآن وتجويده.
خامساً: الاستزادة من القرآن: فإذا حفظ ينبغي له أن يجوّد، وإذا جوّد طلب الإجازة في روايته، فإذا وجد في نفسه مكنة انتقل ليجمع القراءات السبع أو العشر، أو يجمعها من طرقها المتعددة إذا استطاع؛ لأن هذا -كما قلت- يرتبط بالقرآن وما مضى من القدر والمنزلة والشرف، إضافة إلى القيام بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تكون سبباً من أسباب حفظ القرآن بكل قراءاته وحروفه التي نزل بها، والتي بلغها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سادساً: أن يفرح بنعمة الله عز وجل فرحاً مشروعاً، فلئن فرح الناس إذا تخرجوا من الجامعات أو إذا أخذوا الدكتوراه فإن التخرج من حفظ القرآن أعظم وأشرف: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، جاء في بعض التفاسير أن ذلك الفرح إنما هو الفرح بكتاب الله عز وجل، وقد ذكر الآجري في كتابه: (أخلاق حملة القرآن) ما ينبغي للحافظ من بعض الآداب التي ننصح بالرجوع إليها.(129/20)
وصايا خاصة لمعلمي القرآن الكريم
أولاً: الحرص على تلقين الطلاب: فينبغي للمدرس ألا يجعل الطالب يحفظ إلا بعد أن يتلقى منه ويسمع جزءه منه، وذلك على سبيل الدوام بقدر الاستطاعة، ولا يكون المدرس متهاوناً في ذلك فيسري هذا التهاون إلى الطالب، فيظن نفسه أنه قد أجاد وأفاد، فينطلق ليحفظ حفظاً خاطئاً.
ثانياً: حسن التوزيع والترتيب في الوقت: فبعض المدرسين ينشغل بالطالب الأول حتى يمضي نصف الوقت، ثم يمضي النصف الثاني من الوقت مع العشرين الباقين!! وهذا أمر فيه تخليط، إذ ينبغي له أن يحسن التوزيع بين التسميع وبين التلقين وبين توزيع الحلقة في المراجعة؛ حتى يستطيع أن يفيد الطلاب، وأن يحقق الغاية التي ترجى إن شاء الله تعالى.
ثالثاً: التدقيق في الحفظ والمراجعة: فلا ترخّص ولا تتساهل، سيما في الحفظ الجديد كما ذكرنا، إذ لابد أن تحرص على إتقان الطالب وتمكنه من حفظه بأكمل وأتم صورة يستطيعها؛ حتى يضمن له أساساً صحيحاً يمكن البناء عليه، وكذلك المراجعة لا تدعه يفرط ويكسل في هذا الجانب.
رابعاً: البذل للمقبلين: فإن بعض الطلبة أصحاب همم عالية، وأصحاب إمكانات حباهم الله عز وجل إياها، فلا تقتصر -أخي المدرس- على الوقت المقرر، فإذا جاء هذا وقد حفظ نصف جزء أو خمس صفحات أو غير ذلك قلت له: إلى يوم غد إن شاء الله، ويأتي الغد فيضيق الوقت فإلى بعد غد، فكلما تحمّس الطالب ثبّطته، وكلما انطلق أعقته، وكلما زاد نقصته، فكنت سبباً في عدم اندفاعه.
فينبغي إذا كان صاحب همة إن أراد بالليل فبالليل، وإن أراد بالنهار فبالنهار، وإن أراد بعد الفجر فلا بأس، وإن أراد قبله فلا شيء في ذلك.
وخشية الإطالة فإني قد أعرضت عن ذكر بعض ما ورد من التراجم، ومن ذلك: أن أحدهم قد مضى إلى قارئ دمشق يقرأ القرآن عليه، قال: فخرجت مع الأذان الأول -أي: قبل الفجر- حتى أسبق إلى الحلقة، فجئت فإذا قبلي ثلاثون! فمتى جاء هؤلاء الثلاثون؟! فتأمل وتدبر.
خامساً: حسن المعاملة للطلبة وترغيبهم: فلا تكن منفّراً، ولا تكن أيضاًَ مرخصاً، فالأمر الوسط هو الأمر الحسن.
سادساً: أن تكون ذا فطنة تستطيع أن تحوز في الوقت القليل وبالجهد القليل أكبر قدر من الفائدة: على سبيل المثال في أمر المراجعة: لك أن تقسم الطلبة إلى اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة، وتجعل ذلك التقسيم غير ثابت، بل ينبغي أن يتغير بين يوم وآخر، أو بين بضعة أيام وأخرى، حتى لا يكون هذان الطالبان يلازم أحدهما الآخر للمراجعة، والمدرس بعد تسميع كل طالب يرجع إلى صاحبه فيبدآن في حصة المراجعة، والمدرس يمر في أقل من خمس دقائق على الجميع فيرى ويسمع ويعرف إن كان الأمر يسير سيراً حسناً أم لا، ثم يغير الطلبة حتى لا يرخص أحدهم لزميله، أو يتجاوز الأول للثاني، فكل مرة يغير هذا مع هذا وذاك مع هذا؛ حتى يستطيع -إن شاء الله- أن يضبط الطلاب جميعاً.
ولا شك أن هناك أموراً ووصايا كثيرة مذكورة في مواضعها، من التزام الآداب، وإخلاص النية، والحذر من كراهة قراءة أصحابه على غيره، كما يقول النووي رحمة الله عليه: كما يقع من بعض المعلمين الجاهلين، أن يحب أن طلابه لا ينتفعون إلا به، فإذا كان عند غيره في القرآن انتفاع أو مزيد علم أو إحكام وتجويد فأخذ بعض طلابه من هذا الشيخ أو من هذا المدرس فائدة غضب لذلك واستشاط، وزجر ووعد وتهدد، فهذا لا شك أنه غير لائق به.(129/21)
وصايا وتوجيهات متعلقة بحلقات تحفيظ القرآن الكريم
هذه بعض الملامح المهمة التي نرى أنها تجعل الحلقة تقترب نحو المثالية: أولاً: ينبغي أن يكون العدد ما بين خمسة عشر طالباً إلى عشرين لا يزيد حتى يؤتي العمل ثمرته.
ثانياً: وقت الحلقة في كل يوم ما بين ساعة ونصف إلى ثلاث ساعات، فلا يقل عن ساعة ونصف عملية -وليست نظرية- لأن النظرية معناها أن تمضي ساعة ونصفاً منذ بدء الحلقة، لكنها يتخللها أمور لا تجعل الوقت الفعلي أحياناً سوى أقل من ساعة أو نحوها، أما الوقت الفعلي فيكون بعد حذف الأوقات الضائعة وعدم حسابها على الحلقة.
ثالثاً: التعاون والتواصل مع الآباء وأولياء الأمور: فإن هذا يسهل كثيراً من العوائق، ويساعد في الوصول إلى الثمرة إن شاء الله.
رابعاًًً: دعم المجتمع ومعرفته بهذه الفضائل والثمار: حتى يتوافر الدعم العام الذي يشجع المدرس والطالب ويعينهما على الاستمرار والمواصلة.
خامساً: إكرام المدرس وتشجيع الطالب: إكرام المدرس فلا ينبغي أن يُنظر إلى حافظ القرآن ومدرسه ومعلمه نظرة فيها شيء من الازدراء أو الاحتقار، أو أنه أدنى منزلة، أو أقل مالاً، أو نحو ذلك؛ فإن هذا مما يعيق، وكذلك تشجيع الطلاب، فلا ينظر إلى من اشتغل بالقرآن أنه أدنى ممن اشتغل بالدرجات وتحصيل الامتياز في المدرسة، أو غير ذلك.
هذه بعض الملامح العامة التي أسأل الله عز وجل أن يكون فيها النفع والفائدة، وأسأله جل وعلا أن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته.(129/22)
الأسئلة(129/23)
اقتران الدروس بالرقائق
السؤال
هناك دروس علمية مليئة بالفوائد، ولكن هلا طبعت بالطابع الإيماني، وهلا خلط بعضها بشيء من الرقائق؟
الجواب
أرجو أن يكون الأمر كذلك، وإن كان لهذه الأمور أهلها المجيدون فيها، والقادرون عليها.(129/24)
إمامة الصغير للناس
السؤال
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فكيف يكون الحال عندما يكون أقرؤهم صغيراً؟
الجواب
إذا كان صغيراً مميزاً فهو الذي يؤم القوم إن كان أقرؤهم، وقد ثبت ذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حياة السلف، وقد ذكر الذهبي في تراجم بعض القراء بأنه جمع القراءات وهو بعد العاشرة بقليل.(129/25)
لبس الزي الشرعي المخصص لطالب التحفيظ
السؤال
هل من نصيحة لبعض الطلاب الذين يحضرون التحفيظ بغير الزي المخصص؟
الجواب
قد ذكرنا في آداب الطلاب أنه ينبغي لهم أن يتهيئوا ويتطهروا، ويتنظفوا بالسواك، ويقصوا أظفارهم، وأن يمتنعوا من الروائح الكريهة، وغير ذلك، فهذا من أدب القرآن قبل أن يكون من نظام التحفيظ.(129/26)
صحة ما جاء في الاستعانة على قيام الليل بقراءة آيات معينة قبل النوم
السؤال
ما صحة قول: من قرأ العشر الآيات الأولى والأخيرة من سورة الكهف بنية الاستيقاظ من آخر الليل أيقظه الله؟
الجواب
لا أذكر أن له أصلاً، والله أعلم.(129/27)
رفع الصوت في صلاة النافلة
السؤال
هل يجوز أن أتلو بصوت مسموع -قليلاً- في صلاة النافلة؟
الجواب
في النافلة أو في غير النافلة الأصل في صلاة المنفرد أن يُسمع نفسه، ولابد أن ننبه إلى بطلان الصلاة التي يصليها بعض الناس ويقول: إنه يقرأ في سره ولا يحرك لسانه ولا شفتيه، فهذا لا تقبل قراءته بقلبه دون تحريك لسانه، وهذه من المسائل المهمة، ففي صلاة السر لابد أن يحرك لسانه وشفتيه، وألا يقرأ قراءة قلبية بل لفظية ليسمع نفسه، وبعض الناس يسمع نفسه ويسمع سبعين عن يمينه وسبعين عن يساره -أي: يرفع صوته فوق الحاجة- وهذا لا ينبغي، فإذا كنت تصلي صلاة نافلة فلا بأس أن ترفع صوتك، ولو جهر المصلي بصوته في صلاة السر فلا شيء في ذلك، وإن كان الجهر في غالبه مأثور في صلاة النافلة في الليل، والسر مأثور في صلاة النافلة في النهار.(129/28)
حكم عدم التدبر أثناء الحفظ والمراجعة
السؤال
عندما يراجع الطالب لا يتدبر ولا يتأمل، بل يجمع ذهنه في الحفظ والترتيل ومخارج الحروف؟
الجواب
لا بأس، افعل ذلك أولاً، وسيأتي التدبر ثانياًَ، إن كنت باقياً على صلتك بالقرآن فاعلم أنك سوف تتمكن وتجوّد، ويصبح التجويد ملكة لك لا تحتاج أن تفكر في غنة ولا في سبب مد، فستكون القراءة بعد ذلك سليقة لك، فتتفرغ بعد ذلك للتدبر والتأمل والتفسير.(129/29)
أهمية أخذ القرآن عن المتقنين له
السؤال
لي أخ يأبى أن يسمع من قارئ متقن، ويقول: إن هذا ليس ضرورياً، والتجويد ليس مهماً، وهو معي في جدال مستمر؟!
الجواب
كل شيء له باب وله مفتاح، وله أصول وآداب، وله سنن، بل له واجبات، فلابد من أخذ الأمور كما ينبغي أن تؤخذ.(129/30)
حكم نسيان المحفوظ من القرآن
السؤال
ما حكم من حفظ ثم نسي؟
الجواب
قد ورد في ذلك الوعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك من أعظم الذنوب التي عرضت عليه من ذنوب أمته.(129/31)
الامتناع عن قراءة القرآن بداعي الخجل
السؤال
بعض الناس إذا قيل له: اقرأ آيتين من القرآن خجل؟
الجواب
هذا أمر شخصي لا أظن فيه بأساً، إذا كان لا يتقدم أمام الناس خجلاً فينبغي أن يتعود شيئاً فشيئاً، وأن يترك الحياء في مثل هذه الأمور، فإنها من الأمور التي قد جعلت لها أسس وسنن مأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(129/32)
ضرورة الاستمرار في مراجعة القرآن وعدم الانقطاع
السؤال
حفظت القرآن بدون مراجعة بعد تلك المرة، وكلما بدأت المراجعة تقدمت قليلاً ثم توقفت لأني لا أدرس في حلقة، ولا أستطيع ذلك، وأنا حفظت بطريقة جيدة ولله الحمد، فماذا علي أن أفعل؟
الجواب
الحل أن تراجع، وألا تتوقف عن المراجعة، والمقطع الذي لا تضبطه حفظاً اقرأه ولو نظراً، وكرر قراءته نظراً فإن ذلك ينفع، المهم ألا تقطع ولا تنقطع.(129/33)
التحذير من جلساء السوء
السؤال
بعض طلبة التحفيظ يخالطون بعض الشباب غير الملتزمين الذين قد يصرفونهم عن التحفيظ فما توجيهكم لهم؟
الجواب
أقول: إن يكن فيهم خير يأت بهم الله، فأديموا نصحهم، ولا يكن ذلك سبب في أن يحرموا من حلقة القرآن، فسيظل القرآن بهم حتى يمنعهم بإذن الله مما لا يليق بهم، ويمنعهم مما يضيع أوقاتهم أو يقترفون فيه الإثم والذنب، ويرجعون به إن شاء الله، مع نصح مدرسهم، ووعظ إخوانهم، وحسن سياستهم لهم.(129/34)
تفريغ القلب لتدبر القرآن
السؤال
أحاول أن أتدبر القرآن، ولكن تأتيني أفكار وتشويشات؟
الجواب
وكلنا ذلك الرجل إلا من رحم الله!! فاستعن بالله وبالدعاء وبجمع القلب وإحضار العقل ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.(129/35)
أخذ الأجرة على تعليم القرآن
السؤال
ما حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن؟
الجواب
فيه خلاف بين أهل العلم، والأشهر أنه مكروه، وهو محرم عندما يكون على سبيل الاشتراط والإلزام، مثل: أنه لا يُعلّم إلا أن يُعطى أجراً قدره كذا وكذا، ورخص فيه بعض السلف، فلا بأس أن يأخذ إذا لم يشترط، وإذا لم يقدر، وهذا لا شك أن فيه فسحة ورخصة، ليكون هناك من يتفرغ للقرآن وتدريسه، ولا حرج في ذلك إن شاء الله ما دام المرء مبتغياً بذلك وجه الله عز وجل.(129/36)
دعوة للآباء لتسجيل أبنائهم في حلقات التحفيظ
السؤال
نشكو غياب الوعي لدى الآباء، فلا يسجلون أبناءهم في التحفيظ، ولا يهتمون بمثل هذه الأمور؟
الجواب
قد ذكرنا القدر والمنزلة والنفع والفائدة والأجر والمثوبة لحملة القرآن، وأظن الآباء لو تأملوه لحضروا بأنفسهم لحلقات التحفيظ، فضلاًً عن أن يُحضروا أبناءهم.(129/37)
التوسط في اللهو المباح
السؤال
كيف نوفق بين قول من قال: حامل راية الإسلام لا ينبغي أن يلهو مع من يلهو، وقول ابن مسعود رضي الله عنه فيما ينبغي أن يكون عليه حال حامل القرآن، مع ما عليه أغلب شباب التحفيظ وبعض الحفاظ من اللعب بالكرة وغيرها من الألعاب؟
الجواب
ينبغي لك أن تكون متزناً في حكمك، ومعتدلاً في رأيك، فليس اللهو محرماً بالكلية، وإن بعض اللهو يستجم به، كما جاء عن أبي الدرداء في الساعات الأربع، قال: ومنها ساعة أستجم فيها لنفسي فهي عون لي على الساعات الثلاث، والأمر المباح الذي ينشط ويرفه الناس لا حرج فيه، وصاحب الرسالة ليس بالضرورة أن تراه دائماً حزيناً باكياً، فربما تبسم وقلبه ينطوي على هموم الأمة، وملء نفسه همة تطمح إلى ذرى القمم وأعالي الجبال، ثم أخي لا تعمم وتقول: الأغلب أو الأكثر، ولا تكن متشائماً في نظرتك، فإن هذا مما حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم: (من قال: هلك الناس فهو أهلَكُهم)، وفي ضبط آخر للرواية (فهو أهلَكَهم) أي: هو الذي أراد إهلاكهم أو فهو أهلَكُهم، أي: أشد هلاكاً منهم.(129/38)
قراءة القرآن بحضرة الأغاني
السؤال
هل يجوز قراءة القرآن وهو يسمع الغناء، ولكن لا يستطيع أن يغير مكانه؟
الجواب
إذا كان هناك غناء واستطاع أن يغير مكانه فهذا الأولى، وهو الذي ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان يردف ابن عباس وراءه، فسمع مزماراً فتنحى عن الطريق، وجعل إصبعه في أذنه وكان يقول له: (هل تسمع؟ هل تسمع؟) حتى لا يسمع اللهو والباطل، وإن كان في مكان لا يستطيع التحول عنه إلى غيره، فهذا مغالبة للباطل إن شاء الله تعالى، فهو يغالب بالحق الباطل، ويصر على أن يرفع صوت القرآن على صوت الغناء.(129/39)
إتيان المعاصي والذنوب ليس سبباً للتخلي عن حفظ كتاب الله
السؤال
قد يخالف المسلم ما يحفظ ويرتكب ذنوباًَ، ولكن مع ذلك يقول: لن أتوقف عن الحفظ والمراجعة، ولست مصراً على المعاصي وأتوب وأستغفر، فما الحكم في مثل هذه الحالة؟
الجواب
كلنا ذاك الرجل، وخير الخطائين التوابون، واحرص وكن مع القرآن، فسيكون ذلك إن شاء الله أبعد لك عن هذه الآثام والذنوب إن شاء الله تعالى.
أسأل الله جل وعلا لنا ولكم التوفيق والفائدة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(129/40)
بدر والعشر
إن المتتبع لما حدث في معركة بدر من اندفاع الصحابة لامتثال أوامر الله عز وجل وأوامر رسوله ليتملكه العجب، كيف لا وهم يعلمون أن عاقبة هذا الفداء إزهاق للأرواح وذهاب للأنفس والمال، لكن لا يلبث هذا العجب أن يتلاشى عندما يعلم أن سبب ذلك هو قوة صلتهم بربهم سبحانه وتعالى، فهم ما أقدموا على ذلك إلا بعد أن علموا بأن الله سيجازيهم على ما بذلوه بالخير العميم والأجر العظيم، وعلموا أن الله تعالى ناصر دينه ومعز أوليائه.(130/1)
بدر والعشر وواقعنا المعاصر
الحمد لله جعل في رمضان خلة الصبر، وجعله مخصوصاًَ بمعارك العز والنصر، وخصه بليلة القدر، وجعلها خيراً من ألف شهر وسلاماً حتى مطلع الفجر، ووعد فيها بمحو الوزر ومضاعفة الأجر، أحمده سبحانه وتعالى حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، أحمده على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، النبي المجتبى، والرسول المصطفى، علم التقى ومنار الهدى، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: فحديثنا عن بدر والعشر وواقع العصر؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد جعل لنا في تشريعاته وفيما قضى وقدر فيما سلف من الأيام والتواريخ عبراً وعظات ينتفع بها العبد.
فبدر حدث عظيم وفي تاريخ الإسلام، يوم الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، والحديث فيها يطول، غير أنّا نقف وقفات نستلُّها من بين تلك الأحداث، ونربطها بما نرومه ونتطلع إليه ونقبل عليه في العشر المرتقبة في ختام هذا الشهر، ونصل ذلك كله بواقع أمتنا ومسلك حياتنا، وما هي أحوالنا في كل ما نتصل به من أمر ربنا وفرائضه، وما نتصل به من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وسننه، وقفة مع الفداء بلا امتنان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين تكلموا بألسنتهم، وعقدوا العزائم في قلوبهم، وصدقوا ذلك بأفعالهم، ومزجوه بدمائهم، وسطروه في تاريخهم، يوم استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عندما تعين القتال بعد إذ لم يكن، حين تحولت المسألة من ثروة إلى ذات شوكة، فقال عليه الصلاة والسلام: (أشيروا عليّ أيها الناس)، فتكلم أبو بكر فأحسن، وتكلم عمر فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال مقالته الشهيرة: يا رسول الله! امض لما أراك الله فنحن معك، فوالله ما نقول لك ما قالت بنوا إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، ولكنا نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالله لو سرت بنا إلى برك الغماد فجالدت بنا لسرنا معك حتى تبلغه.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (أشيروا عليّ أيها الناس)، فقام سعد بن معاذ سيد الأنصار فقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل.
فقال سعد يعبر بلسان الإيمان وبكلام اليقين وبموقف الثبات وبرؤية ما وراء هذه الحياة: آمنا بك وصدقناك، وشهدنا على أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة.
ثم قال: صل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، واترك ما شئت، وما أخذت منا أحب إلينا مما تركت لنا، وما أمرتنا بأمر إلا ونحن تبع لأمرك، فامض بنا -يا رسول الله- لما أردت، فنحن معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا، وإنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فانفر على بركة الله.(130/2)
ضرورة التوفيق بين ميادين الخير
هذه ومضة مهمة ونحن نقبل على عشرنا، فماذا نفعل في ميدان من ميادين الخير مع تفاوتها؟ علينا أن نعمل لعل الله أن يرى منا ومن طاعتنا وعبادتنا وذكرنا ما يحبه ويرضاه، ولعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم منا من بعد ما نحن سائرون في أثره ومقتفون له في هذه العشر من قيام أو اعتكاف أو عبادة أو غير ذلك.
(لعل الله يريك منا ما تقر بها عينك) هذه التضحية قالها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في ميدان الجهاد والسيوف تبرق، وعلائم الموت تخفق، والصفوف على وشك أن تلتحم، عندما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى مواجهة جيش عدته ثلاثة أضعافهم، فما وهنوا لما أصابهم وما ضعفوا وما استكانوا، وما تراجعوا وما ترددوا، ولكن أقدموا وعزموا وجزموا، وأعلنوا الفداء والتضحية بلا منة، بل المنة ذكروها لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم (فصل من شئت، واقطع من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، واترك ما شئت، وما أخذت من أموالنا أحب إلينا مما تركت لنا) وصدقوا ذلك، فكم نحن في حاجة إلى أن نصدق الله عز وجل في كل ميادين التضحية، ليس في مجرد أذكار نذكرها، ولا ليال بالقيام نعمرها، ولا مجرد خلوة لله عز وجل وعليه نقصرها، وكل ذلك خير، غير أن البذل والفداء والتضحية في سبيل الله وفي سبيل نصرة دين الله وفي سبيل الذود عن عباد الله المؤمنين أمر له في الإسلام مقام رفيع ومكان سام ومنزلة عظيمة، فينبغي أن لا نقتصر في المنازل والمراتب في السير إلى الله وابتغاء رضاه على مجرد الأذكار والصلوات والعبادات والدعوات، فهذه ميادين وتلك ميادين، هذا يستمد من هذا وهذا يؤيد هذا، دون أن نقتصر على صورة محدودة ننفصل بها عن ديننا وننقطع بها عن أمتنا، ولا يكون في همنا ولا في فكرنا ولا فيما يشغل بالنا مصير أمتنا ومواجهتها لأعدائها وحاجتها إلى النصرة والفداء والبذل دون منِّ أو استكثار، كما رأينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(130/3)
نماذج من المتسابقين نحو الجنان
خطوة أخرى: سباق نحو الجنان.
ألسنا نريد ذلك في عشرنا التي نرتقبها؟! ألسنا نريدها في كل أعمال الطاعات والعبادات؟! ارقبها وانظر إليها في صور وضيئة مشرقة نادرة عزيزة المثال في حياة البشر، انظر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى مسلم من حديث أنس رضي الله عنه وهو يتحدث عن غزوة بدر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) وليس القيام هنا إلى تلك الجنة بقيام ليل ولا بتلاوة قرآن، ولكن بمجاهدة عدوٍ وإعزاز دين ورفع رايةٍ، (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فسمع عمير بن الحمام فقال: يا رسول الله! جنة عرضها السماوات والأرض -يستوثق ويتأكد-؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم.
فقال عمير: بخ بخ.
فقال له المصطفى عليه الصلاة والسلام: ما يحملك على ما قلت؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها.
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: فأنت من أهلها.
فأخرج تمرات يأكلها، ثم قال: ما أطولها من حياة حتى أتمها.
فرمى بتمراته وانطلق يغمس نفسه في العدو حتى قضى شهيداً إلى الله عز وجل) إنها أقوال تترجم إلى أعمال، إنها أخبار يراها المؤمنون رأي العين، ليس مجرد تصوير، بل كأنما لمسوها وكأنما عاينوها، كما قال أنس بن النضر في يوم أحد: (وآه لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد).
ترجمت تلك المعاني إلى سباق حقيقي إلى الجنان ببذل المهج والنفوس والأرواح، لا بمجرد الاقتصار على جزء من الطاعات والعبادات دون غيرها.
وتأمل وتدبر في حادثة أخرى لعلها أقل شهرة، وربما لا يعرفها كثير من الناس، ذكر ابن حجر في الإصابة عن ابن شهاب في مغازيه أن خيثمة وابنه سعد أنهما استهما في يوم بدر للخروج -كان لا بد من أن يخرج أحدهما ويبقى الآخر؛ لأن لهما من شئونهما ومن واجبهما تجاه أهلهما ما يحتاج إلى بقاء أحدهما- فاستهما قرعة، فجاء السهم لـ سعد الابن، فأراد أن يخرج، فقال له أبوه: ألا تؤثرني بذلك يا سعد؟! فرد سعد بكلام فيه التوقير والإجلال والاحترام: لو كان غير الجنة يا أبي.
فمضى سعد واستشهد في بدر، ومضى من بعده خيثمة في أحد ومضى شهيداً).
فاته بدر فلم تفته أحد.
فهل رأينا صورة أروع من هذه الصورة تصديقاً للإيمان وبرهاناً على اليقين ونصرة للدين؟! لم يكن أحدهما يتأخر والآخر يتقدم، بل كانا يتسابقان، فلم يجدا إلا قرعة تفصل بينهما، فلما خرجت القرعة للابن أراد الأب أن يستغل مكانه ومقامه وقدره واحترامه فقال: آثرني بها يا سعد! ولو كان الأمر في ميدان آخر لتأخر الابن وقدم أباه، لكنه قال: لو غير الجنة يا أبي لآثرتك بها.
أي أن هذا ميدان لم يعد فيه مجال لإيثار، وأي ميدان هذا؟ إنه ليس ميدان صف الأقدام في القيام، ولكنه ميدان قعقعة السيوف وضرب السهام، ميدان إزهاق الأرواح وإفضائها إلى ربها ومولاها سبحانه وتعالى، فكم نحن في حاجة ونحن نستبق إلى مرضاة الله ونطلب جنانه في عشرنا الأواخر إلى أن ندرك أن دورنا جميعاً ودور أمتنا أن ترفع راية الجهاد في سبيل الله والذود عن دين الله، وأن تكون جبهة واحدة في وجه أعداء الله عز وجل، ليس مجرد تلك العبادات وحدها، فإن من هذه العبادات ما نعلم أنه ذروة سنام الإسلام، ألا وهو الجهاد في سبيل الله.(130/4)
ارتباط النصر والتمكين والعزة بحسن الصلة بالله عز وجل
ننظر إلى مواقف أخرى لنرى مرة ثانية وثالثة كيف تكون الموازنات كاملة في دين الإسلام في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وهديه، صلة بها مدد الرحمن، ألسنا اليوم نرفع أكفنا؟! ألسنا اليوم نسجد بجباهنا؟! ألسنا اليوم نلهج بألسنتنا في دعائنا؟! أي شيء نريد؟! إنما نريد التعرض لرحمة الله، إنما نستمد العون من الله، إنما نطلب مغفرة الله عز وجل، وينبغي أن نوقن أن صلتنا بالله عز وجل هي نور طريقنا، وهي مفتاح مغاليق أمورنا، وهي -بإذن الله عز وجل- عوننا في مواجهة خطوبنا وتيسير أمورنا إن شاء الله تعالى.
في يوم بدر يوم تعين القتال بعد أن كان أمر الغنيمة وأمر الثروة السهلة التجأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه ومولاه ورفع يديه يدعو الله سبحانه وتعالى: (اللهم! أنجز لي ما وعدتني، اللهم! نصرك الذي وعدتني.
حتى قال له أبو بكر رضي الله عنه بعد أن رأى شدة إلحاحه: حسبك يا رسول الله! فإن الله منجز لك ما وعدك) فاستبشر النبي صلى الله عليه وسلم، وعين مصارع المشركين، فما أخطأ أحد الموضع الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما كانت القلوب كلها موصولة بالله عز وجل، وعندما كان الصحب الكرام رضوان الله عليهم يمثلون الصفوة المختارة من أهل الإيمان تغيرت أحوال الكون، وتغيرت معطيات الحياة لأجل أولئك النفر الذين أمدهم الله سبحانه وتعالى بكل شيء: {إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11] أنزل عليهم النعاس في الوقت الذي كان قد خالط القلوب رهبة من هول ذلك الموقف ولقاء جيش هو ثلاثة أضعاف العدد، أفاض الله عليهم الأمان، وأنزل عليهم الأمطار تطهرهم، وتثبت أقدامهم، وتربط على قلوبهم، عجب! مطر هنا وليس هناك مطر في الجانب الآخر، إنها عناية إلهية، إنها أمداد ربانية يمكن أن تخص الواحد الفرد بذاته فضلاً عن الصفوة المختارة، فضلاً عن الأمة كلها إذا كانت مع ربها وعلى هدي رسولها صلى الله عليه وسلم، وهكذا رأينا {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9] تنزلت ملائكة السماء تقاتل مع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وثبت في ذلك من الروايات والأحاديث كثير وكثير، وصدقته قبل ذلك وأثبتته الآيات، ثم كل الصور التي يمكن أن نتصورها قد وقعت من ذلك التأييد الرباني الذي كان مما ذكره الله عز وجل ومما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126] ونحن نطلب مدد الرحمن، ونرفع أيدينا نريد عزه ونصره وتأييده، فلا شك أن هذا المدد هو مبني على حسن تلك الصلة بالله عز وجل في سائر الميادين، وفي كل المجالات التي وردت فيها أوامر الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.(130/5)
وقفة مع زعماء الكفر
لعلنا ندرك ذلك -أيضاً- في وقفة رابعة مهمة نربطها بواقع عصرنا لنرى صورة الأعداء في ذلك الزمان وهذا الزمان، لنرى أننا إذا نظرنا بعين البصيرة، وإذا قرأنا الأحداث بقلب المؤمن وجدنا فيها جلاء ووضوحاً لكل ما يمر بنا أو يقع حولنا في عصرنا هذا، كان مما ذكر أهل السير أن عاتكة بنت عبد المطلب قبل أن تكون المعركة وقبل أن يصل ذلك الرسول الذي أرسله أبو سفيان ليستنجد قريشاً ويستحثها لإنقاذ ثرواتها رأت رؤيا، ورأت في هذه الرؤيا مقتل عدد من الصناديد الذين كانوا من زعماء الكفر في قريش، وأن صخرة تفتت فما بقي دار إلا وصل إليها منها حجر.
ثم من بعد ذلك كانت رؤيا لـ جهيم بن الصلت من بني هاشم قبيل المعركة، وكان فيها أن رجلاً أقبل فما زال يقول: قتل فلان وفلان وفلان.
وسمى من سمى من صناديد قريش، ثم قال: فنظرت إليه فإذا به يطعن لبة بعيره ثم يكون من دمه ما أصاب كل أحد.
وهذا أبو جهل زعيم الكفر في بدر، ويمكن أن نصوره في عصرنا بألد الأعداء وأشرسهم ممن يناوئون دين الله عز وجل ويحاربون أهل الإسلام، تأمل فيما قال أبو جهل وهو ينكر هذا، وهو يستعظمه، وهو يتندر به في شأن عاتكة للعباس: ما كفانا منكم -بني عبد المطلب - حين تنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم.
يستهزئ ويسخر، ثم قال عندما روجع في ذلك حتى يرجع عن هذا القتال وقد مضت قافلتهم وسلمت أموالهم وانقضى السبب الذي لأجله خرجوا قال: والله لا نرجع حتى نرد بدراً -وكانت بدراً موسماً يجتمع فيه العرب في بعض الأوقات- فنقيم عليها ثلاثاً فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا ومقامنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها، فامضوا واثبتوا.
ويقول في موضع آخر سعى حكيم بن حزام إلى عتبة وقال له: قد نجت القافلة، وإنما نطلب محمداً بدم ابن الحضرمي، وإنه حليفك فتحمل عنه دمه.
فقال: أفعل.
اذهب بهذا إلى ابن الحنظلية -يعني أبا جهل - وقل له.
فقال أبو جهل في هذا الأمر ما قال.
ثم كذلك جاء موقف ثالث في أحداث السيرة يبين لنا صورة أخرى سنربط بها واقعنا هذا فعندما تعين القتال وأصر عليه أبو جهل وساق الناس إليه سوقاً وحشدهم إليه حشداً وثبتهم فيه رغماً عنهم استفتح أبو جهل كما ورد في الصحيح وظل يدعو الله عز وجل، وهذا من العجائب أن يكون كافراً بالله محارباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعادياً للدين الحق ثم يدعو فيقول: اللهم! أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة.
أي: من كان منا أقطع للرحم، ومن جاء بما لا نعرف وأساء إلينا فاجعل هلكته اليوم.
وفي ذلك تنزلت الآيات: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ} [الأنفال:19] فما الحكمة وما السر في دعاء أبي جهل هذا؟ إنه يريد أن يقول لمن معه: ليس محمد صلى الله عليه وسلم وحده متصلاً بالله، بل نحن كذلك موصولون بالله، ولأن كان محمد يستنجد ويستنصر بربه فنحن كذلك نستنجد ونستنصر بالله.
يريد أن يجعل للمسألة بعداً دينياًًً ومفاضلة عقدية، كما يقول زعماء الكفر في عصرنا: إن الله أمره اليوم بأن يقاتل هنا أو هناك.
وهو لا يعلم أنه على ضلال كبير وكفر عظيم، بل هو رأس من رءوس الكفر، بل ربما رأسه الأكبر الذي تولى كبر حرب الإسلام والمسلمين، نسأل الله عز وجل أن يجازيه بما يستحق.
عندما نتأمل في هذا المعنى نضيف إليه -أيضاً- مقالة ووقفة أخرى مع أبي جهل تربطنا بواقعنا لنرى كيف كان الأمر، فعندما جاء خفاف بن إيماء الغفاري -وقيل: أبوه- ومر قريباً من مكة قبيل مسير الكفار إلى بدر وقد علم بالخبر، فأرسل إليهم جزائر -أي: بعض الجزور والإبل هدايا لهم- وقال: إن شئتم أن أمدكم بسلاح ورجال فعلت.
فردوا له مع ابنه شاكرين له، وقالوا: وصلت الرحم، ولئن كنا نقاتل محمداً بالناس فإنا لمنتصرون، ولئن كنا نقاتل الله مع محمد كما يزعم فما لأحد بالله من طاقة.
لقد كان أبو جهل أعقل من كفار اليوم الذين تحدوا حتى الرب سبحانه وتعالى في مقالتهم وأفعالهم.
صحيح أنهم قالوا ذلك تهكماً وقالوه إنكاراً وجحوداً لما كان يقوله محمداً صلى الله عليه وسلم، ولكنه في الوقت نفسه دلالة على شيء من التوازن الذي أراد به أبو جهل وغيره أن يسوقوا الناس إلى المواجهة والقتال بنوع من الحمية الجاهلية ونوع من الإسناد المعنوي العقدي الديني ليحشدوا الناس في مواجهة خاسرة، مواجهة الباطل مع الحق والشر مع الخير، والعاقبة للمتقين، ولتعلمن نبأه بعد حين، فقد وعد الله سبحانه وتعالى أن ينصر من نصروه، وأن يكون مع من آمنوا به، وأن ينجي الذين آمنوا بإذنه سبحانه وتعالى، فمن قدم العهد وصدق الوعد جاءه بإذن الله عز وجل نصر الله سبحانه وتعالى {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال:48] فغرهم الشيطان بحشدهم وبجمعهم وبقوتهم وبتزيينه لهم أنهم ينصرون، ثم تخلى عنهم فكانت الهزيمة ماحقة؛ لأن الصف الآخر كان مؤمناً، ولأن القلوب كانت بالله معلقة، ولأن النصر استمد من الله لا من قوة الأرض ولا من أسباب المادة ولا من كثرة العدد ولا من حسن الأسلحة بحال من الأحوال، وذلك فقه الإيمان الذي ينبغي أن نعرفه وأن نتقنه.(130/6)
ما يستفاد من معركة بدر الكبرى
هذه بعض معالم من بدر تدلنا على أن المسألة ليست مجرد معركة، وليست مجرد وقفة في السيرة، بل هي خلاصة حقيقة الإيمان، وخلاصة مواقف المسلمين، وخلاصة المواجهة بين الحق والباطل، وفرقان ما بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، كما سمي يوم بدر بيوم الفرقان، ونحن اليوم نقبل على طاعة الله عز وجل، ونحن بعد ذلك سندخل في العشر، فنحن نقوي صلتنا بالله بالطاعة والعبادة لأجل أن نستمد بها مدده، ونحن نفعل ذلك مخالفة للكفرة الذين لا صلة لهم بالله عز وجل ولا يؤمنون بنصره ولا يثقون بالأمور الغيبية من وراء المحسوس والمادة.
وكل هذا في سباق إلى الجنان، وإلى طاعة الرحمن سبحانه وتعالى.
إذاً لنعلم أن الميادين كلها في دين الله عز وجل تنتظم هذه المعاني، فلا ينبغي أن نغض الطرف عن بعضها وأن ننسى الحديث عنها، بل يجب علينا أن نذكر من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه الدعاء إلى الفداء والتضحية ورفع راية الإسلام ومواجهة أعدائه وإعزاز دين الله سبحانه وتعالى كما كان ذلك في يوم بدر.
لندرك تلك المعاني الإيمانية، ولندرك النواحي الروحية، ولندرك آثار العبادات والطاعات، لكن مع ترجمتها إلى سلوكيات، وإلى منهج تغييري في الحياة تمثل ذلك الشمول الذي كان في سيرة وهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.(130/7)
صور من حياة النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان(130/8)
إحياؤه صلى الله عليه وسلم ليالي العشر
روت عائشة رضي الله عنها (أن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وشد المئزر) وما كانت أم المؤمنين لتذكر هذه الكلمات لو كان هذا أمراً دائماً بوصفه وحاله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، إنما ذكرت قولاً له خصوصية في هذه العشر دون غيرها، فهي صور موجودة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنها هنا مميزة.
قال بعض أهل العلم في قولها: (أحيا ليله): أحيا ليله كله فلا ينام.
وقال أكثر أهل العلم: المقصود ما غلب على الليل.
فكان غالب ليله في هذه العشر قائماً ذاكراً عابداً.
وقولها (وأيقظ أهله) قالوا: كان يخص هذه العشر بتقصد الإيقاظ لإدراك الفضيلة العظمى وإدراك ليلة القدر وما فيها من عظيم الأجر.
قولها (وشد المئزر) قالوا: إنه كناية عن اعتزال النساء مع إباحة ذلك في ليالي رمضان؛ لأنها أيام وليالٍ خصها النبي صلى الله عليه وسلم بمزيد من الطاعة والعبادة، فهي مختلفة عن غيرها من أيامه ولياليه المملوءة بطاعة الله عز وجل وعبادته، فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم ما ترك قيام الليل في سفر ولا حضر منذ أن خوطب بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2] لأن كل أمر في حقه يستمر ولا ينقطع، وكل سنة يبتدئها يداوم عليها ولا يتركها صلى الله عليه وسلم، فالأمر هنا فيه خصوصية زائدة، فلئن كنت تصلي بالليل فأنت تزيد التهجد، ولئن كنت تخرج وترتاح فأنت تقيم وتعتكف.
إذاً ثمة صور مختلفة، أيام غير تلك الأيام، وليال غير تلك الليالي، وأحوال غير تلك الأحوال التي نكون فيها في رمضان، فضلاً عما نكون فيه في غير رمضان.(130/9)
اعتكافه صلى الله عليه وسلم وهديه فيه
روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فلما كان العام الأخير اعتكف عشرين صلى الله عليه وسلم) والاعتكاف معروف، وهو سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل واعتكف نساؤه من بعده، واعتكف أصحابه رضوان الله عليهم، انقطعوا عن الدنيا لله سبحانه وتعالى، كما قال بعض أهل العلم في تعريف هذا الاعتكاف: إنه قطع العلائق بالخلائق والتفرغ للصلة بالخالق سبحانه وتعالى.
أيام نقتطعها من عامنا كله، عشرة أيام من ثلاثمائة وخمسة وخمسين يوماًَ نجعلها لله عز وجل لنحقق هذه الصلة، ولنرجو الله عز وجل أن يفيض علينا من الخير وأن يحقق لنا ما وعد من الأجر، وليكون لنا ذلك زاداً لنصحح مسيرتنا في هذه الحياة وفق أمر الله وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال سفيان الثوري رحمه الله: أحب إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أن يجتهد المسلم في الطاعات.
أي أن يتهجد فيها، وأن يوقظ أهله إلى الصلاة؛ لأن ذلك أمر مؤكد خاص، فقد ورد فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرت فيه عائشة صفته.
وكانت امرأة حبيب بن زيد تقول في مثل تلك الليالي: قد ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد، وزاد قليل، وقوافل الصالحين سارت قدامنا، وبقينا ونحن وحدنا.
ثم كان ذلك النداء الذي يحثنا ويحضنا على أن يكون حظنا من تلك الليالي مختلفاً عن غيرها: يا نائم الليل كم ترقد قم يا حبيبي قد دنا الموعد وخذ من الليل وأوقاته ورداً إذا ما هجع الرقد من نام حتى ينقضي ليله لم يبلغ المنزل أو يجهد قل لذوي الألباب أهل التقى قنطرة العرض لكم موعد وكانت عائشة رضي الله عنها تحرص على ذلك وتبينه، وتبين حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الشأن.
قال ابن رجب في فعل النبي صلى الله عليه وسلم واعتكافه والحكمة من هذه السنة: فيه قطع لأشغاله، وتفريغ لباله، وتخلَّ لمناجاة ربه وذكره ودعائه، وكان صلى الله عليه وسلم يحتجر حصيراً فيتخلى فيه عن الناس، فلا يخالطهم ولا يشتغل بهم.
ولهذا ذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس، حتى ولا تعليم علم أو إقراء قرآن؛ لأن الغرض هو أن ينفرد بنفسه لمناجاة ربه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يمن علينا في هذه العشر بالقيام بحقها وإدراك ليلة القدر ومحو الوزر؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(130/10)
خصائص العشر الأواخر من رمضان والحث على استغلالها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم وسار على دربهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.
ولا شك أن من خصائص وغرر هذه العشر ليلة القدر التي أخبر الحق جل وعلا أنها خير من ألف شهر، وأن الملائكة تتنزل فيها، وأن الخير فيها من الله عز وجل عظيم، كما أخبر به أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) ليلة واحدة تغفر ذنوب عمر مضى بإذنه عز وجل وفضله سبحانه وتعالى، فما بالنا لا ندرك عظمة مثل هذه الأجور والإقبال على الطاعات؟! وللأسف فإن واقعنا الذي ذكرناه مخالف لما عليه أهل بدر في الجملة فداء وتضحية وجهاداً ونصرة، كذلك في جانب الطاعة والعبادة والذكر والتلاوة ثمة صور مناقضة ومعارضة ومخالفة ومحزنة ومؤلمة، فبدلاً من أن تمتلئ في هذه الليالي المساجد بالناس نجد الامتلاء في الأسواق، وبدلاً من الانشغال بالأذكار والدعوات يكون الانشغال بالصفق في الأسواق، وبدلاً من قطع العلائق بالخلائق تزداد هذه العلائق وتمتد، إلا ممن رحم الله، وبدلاً من صور الطاعات نجد صوراً جديدة من المعاكسات والمغازلات وغيرها تنتشر، خصوصاً في هذا الشهر الكريم، وللأسف الشديد أن بعضها يكون ملاصقاً لبيوت الله، بل لبيت الله الحرام، وفيما يحيط به من تلك الأسواق وغيرها، يعجب المرء كيف يصلي الناس في الحرم في الليل في هذه الليالي العشر وفي الوتر التي يبتغى فيها ليلة القدر وهناك من لا يسمع صوتاً ولا يصيغ سمعاً ولا يحرك قلباً ولا يتحرك بقدم ولا يلتفت إلى شيء مطلقاً، وبينه وبين البيت الحرام أذرع أو خطوات يسيرة، إنه الحرمان الذي -والعياذ بالله- من وقع فيه حرم الخير الكثير.
نقول: عجباً! إذا جاء موسم طاعة وعبادة وموسم دنيا وتجارة أيهما نغلب؟! لا أقول هذا في أعيان الأفراد، بل أقوله للمجتمع كله، ولأهل الحكم والسلطان، ألا يجعلون حداً حتى يفرغ الناس لتلك العبادات، بدلاً من أن نغير أوقات أعمالنا ثم لا يكون لنا حظ من طاعتنا ولا حظ من قيامنا بأمر دنيانا كما يجب.
صورة عظيمة نجد فيها غفلة للقلوب، ونجد فيها انصرافاً عن الخير الذي يتعاظم ويتكاثر من الناس.
إننا كلما مضى الشهر ينبغي أن نزداد من الخير، وأن تعظم الهمم، وأن تزداد الأعمال، لكننا نرى عكس ذلك، وخير شاهد على هذا أنه كلما مضى الشهر رأينا الناس يتخلفون وينامون، فيبدأ الخطيب في آخر جمع رمضان وليس في المسجد إلا أقل من ربعه، والناس يسرعون خطاهم كأنما قد ضرب الشيطان على آذانهم فناموا، كيف يكون ذلك وهم في يوم جمعة أغر؟! كيف يكون ذلك وهم يستقبلون العشر؟! كيف يكون ذلك وهم يريدون أن يستزيدوا من الخير؟! أختم بمقالة ابن رجب، وهي نداء إيماني تذكيري، يقول فيها: إخواني! المعول على القبول لا على الاجتهاد، والاعتبار بعمل القلوب لا بعمل الأبدان، رب قائم حظه من قيامه السهر، كم من قائم محروم وكم من نائم مرحوم، هذا نام وقلبه ذاكر، وهذا قام وقلبه فاجر.
فلنحرص على أن نجمع الخيرين، وعلى أن نطابق ما بين أعمالنا في ظاهرها وقلوبنا وما تنطوي عليه في باطنها، وأن لا نجعل للشيطان فرصة ليسرق من أوقاتنا الثمينة الغالية، بل من دقائقنا وثوانينا في هذه الليالي؛ فإنها معدودة، وإن كل واحدة منها إذا مرت وانقضت لا ترجع إلا أن يشاء الله إذا أحيانا لعام قادم، فكيف نفرط؟! وكيف نضيع؟! وكيف نمضي لنشتري حذاء أو كساء ونترك تضرعاً ودعاء، ونترك إصابة وموافقة لوقت عظيم وفضل عميم من الله سبحانه وتعالى؟! لا يفعل ذلك إلا من قل عقله أو حرم الخير، أو انصرف إلى دنيا فضلها وآثرها على الأخرى.
نسأل الله عز وجل كما بلغنا الشهر أن يبلغنا العشر الأواخر من منه، وأن يعظم لنا فيها الأجر، وأن يبلغنا ليلة القدر، وأن يمحو عنا فيها الوزر.
ونسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يعيننا على ما بقي من رمضان، وأن يختمه لنا بالمغفرة والقبول والرحمة والرضوان والعتق من النيران، وأن يدخلنا الجنة من باب الريان؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم! إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم! طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأحسن أقوالنا، وهذب أخلاقنا، وأصلح أعمالنا، وأخلص نياتنا، وضاعف أجورنا، وامح أوزارنا، وارفع درجاتنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه.
اللهم! مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد.
اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم عدداً، واقتلهم بدداًًًً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم! لطفك ونصرك وعزك وتأييدك لعبادك المؤمنين المضطهدين المعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاًً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء.
اللهم! اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء سخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح! اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
اللهم! احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم! احفظ عليها سلمها وإسلامها، وأمنها وإيمانها، وسعة رزقها ورغد عيشها.
اللهم! يا أرحم الراحمين! انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، خصوصاً على أجلهم قدراً وأرفعهم ذكراً، ذوي المقام العلي والقدر الجلي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
اللهم! صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(130/11)
القرآن والحياة [1]
القرآن الكريم هو أعظم كتاب في الوجود، وله فضائل عديدة، ولقراءته أجور كثيرة، ولحافظه فضل وميزة يقدم بها على غيره، ولقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن غاية الاهتمام، وكذلك كان دأب صحابته والتابعين لهم بإحسان؛ لأنه نزل ليحكم الحياة في كل شئونها، وليكون منهاجاً تسير عليه الأمة.(131/1)
أهمية الاعتناء بموضوع القرآن الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه.
وبعد: فهذا درس عنوانه (القرآن والحياة)، حديثنا فيه عن القرآن الكريم المنزل في شهر رمضان، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].
وذلك لبيان صلة القرآن بالحياة في حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حياة أصحابه وحياة الأمة الإسلامية، سيما في القرون الأولى الفاضلة، وما آلت إليه الأحوال في آخر هذه الأزمان من انفصام بين الحياة وبين تسييرها بكتاب الله عز وجل.
ولذلك فإن لهذا الموضوع أهمية كبرى فيما يتعلق بتقويم الإنسان بحياته ومعرفة موقفه من كتاب ربه ومن نهج المصطفى صلى الله عليه وسلم، وحتى ننتفع في إيجاز نبدأ بأول عنوان في هذا الموضوع، وذكر بعض ما يتعلق بالقرآن في أول نزوله.
نزل القرآن على رسولنا صلى الله عليه وسلم، وفي هذا النزول وفي تلك الطريقة وفيما لابسها وشاكلها وصاحبها دروس وعبر وفوائد تنبهنا على طبيعة هذا القرآن وصلته بالمسلم وتسييره لهذه الحياة.
أخرج البخاري وصفاً لأول مرة نزل فيها جبريل عليه السلام على المصطفى صلى الله عليه وسلم بالقرآن العظيم عن النبي عليه الصلاة والسلام في هذا السياق عندما نزل عليه جبريل: (قال له: اقرأ.
قال: ما أنا بقارئ.
قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ؟ قلت: ما أنا بقارئ - أي: لا أعرف القراءة، وليس نفياً أو اعتراضاً- قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: أقرأ؟ قلت: ما أنا بقارئ.
فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: أقرأ؟ قلت: ما أنا بقارئ.
قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5]).
أيها الأخ الكريم! الذي يتبادر إلى الذهن أن أول نزول لهذا القرآن يكون نزولاً لطيفاً هيناً حتى يكون البدء بما هو أسهل، ثم يأتي ما هو أشق منه، ولكننا نرى هذا النزول الأول على المصطفى صلى الله عليه وسلم فيه هذه الصورة من الشدة ومن التكرار ومن القوة ومن مفاجأة النبي عليه الصلاة والسلام.
وكل ذلك تدليل على أن هذا القرآن ونزوله ليس بالأمر الهين ولا بالشيء العارض، وليس هو أمراً أو كلاماً يُتلى أو تُحسن به الأصوات أو يُتخذ للبركة، بل نزل في هذه الشدة ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتلقى وحي الله، وأنه يحمل رسالة الله، وأنه يتلقى أمانة الله عز وجل ليدرك منذ الوهلة الأولى أنه أمام مهمة عظمى وأمام رسالة كبرى.
وذلك حتى يتهيأ المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله جل وعلا خاطبه بقوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، فليس الأمر بالأمر الهين ولا بالسهل، إنما هو الأمر الذي قضاه الله عز وجل والنهج الذي أراده وارتضاه للأمة المسلمة وللبشرية جمعاء إلى أن يرث الأرض ومن عليها.
فالكتاب الذي ما ترك فيه الله عز وجل شاردة ولا واردة إلا جاء بها وكان فيها ذكر هو كتاب الله عز وجل القرآن، ولذلك كان هذا النزول في حد ذاته دليلاً وتنبيهاً للمسلمين على أن تلقي هذا القرآن وأن نزوله إلى هذه الدنيا وأن تحمل المصطفى صلى الله عليه وسلم له إنما كان تحمل رسالة ودعوة ومنهج وأمانة حتى يدركوا أنه ليس كما يتصور كثير من الناس أو يتعامل كثير منهم مع كتاب الله عز وجل.(131/2)
وصف القرآن بأنه روح
عندما ننظر إلى الوصف الأساسي الرئيسي الذي ذكره الله عز وجل عن هذا القرآن وعن طبيعة ارتباطه في الحياة وعن طبيعة دوره في هذه الدنيا نجد قول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ} [الشورى:52].
فلبيان أثر القرآن في هذه الحياة وصف الله عز وجل القرآن بأنه روح فقال: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) ولا قيمة للأجساد بلا أرواح، فالقرآن هو روح هذه الحياة، وبدونه تفسد الحياة، وبدونه تضل وتموت القلوب، وتنطمس البصائر، وتفسد النفوس، نسأل الله عز وجل السلامة.
وكذلك قال الله عز وجل في الآية ذاتها: (ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء) أي: نوراً يبدد الظلمات.
فإنه لا قيمة للأجساد بلا أرواح؛ لأنها لا يكون فيها حياة، كما أنه لا قيمة للحياة ولا للقوة إذا لم يكن هناك نور تستضيء به.
إن الإنسان إذا كان جسداً هامداً وجثة لا روح فيها لا قيمة له، وإذا كان جسماً حياً متحركاً بقوة وبفتوة ولكنه يسير في الظلماء لاشك أنه يتعثر وأنه تصيبه الكوارث وأنه تعترضه العوارض وهو لا يملك معرفتها ولا كشفها، فضلاً عن أن يملك الحذر أو الواقية منها.
ولذلك هذا القرآن في حقيقته بالنسبة للإنسان المسلم هو روحه التي بين جنبيه، فإذا سلبت منه هذه الروح وإذا نزعت منه آيات القرآن العظيم فحاله كما قال الله عز وجل في وصف الإنسان قبل القرآن وبعده: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122].
فهذا القرآن هو حياة القلوب الميتة، وهو طمأنينة النفوس، وهو سكينة القلوب، لذلك جعل الله عز وجل هذا الوصف منبهاً لعظمة هذا القرآن ودوره وأهميته في الحياة.(131/3)
إعجاز القرآن الكريم وبلاغته
ننظر من وجه آخر إلى تعظيم القرآن ولفت الأنظار إليه وربط الناس به عندما جعله الله عز وجل معجزة خالدة ما دامت السماوات والأرض، كما في البخاري من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة).
لقد نزل القرآن في العرب الذين كانوا أرباب الفصاحة وأهل البلاغة وأهل اللسان، فجاء هذا القرآن معجزاً في بلاغته وفصاحته ودقة معانيه وغزارتها، فأعجز الناس عن أن يضاهئوه أو أن يأتوا بمثله، وقد تحداهم الله عز وجل أن يأتوا بمثله أو بعشر سور مثله مفتريات أو بسورة واحدة فعجز القوم كلهم.
فهذا الوليد بن المغيرة عندما سمع بعض آيات القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني لأعرفكم بالكهان وسجعهم، والسحرة وهمهمتهم، والشعر قريضه ورجزه ومبسوطه، لا والله ما يقول محمد شيئاً من ذلك، إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمغدق، وإن أسفله لمثمر، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه.
والحق ما شهدت به الأعداء.
ثم كذلك ننظر إلى معنىً آخر فيما يتعلق بنزول القرآن، وهو معنى يهز القلوب هزاً، وينور البصائر التي تتدبر وتتأمل، فقد جاء من حديث عائشة وابن عباس في البخاري قالا: (لبث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن، وبالمدينة عشر سنين).(131/4)
القرآن الكريم فيه حل لجميع شئون الحياة
لقد كان هذا القرآن هادياً للأمة الإسلامية وقت حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فما كان يقع في المجتمع من حادث ولا يأتي سؤال ولا تعرض معضلة إلا ويتنزل القرآن، فتشعر الأمة المسلمة باطلاع الله عليها وبتأييده لها، وبتبصيره لمسيرتها، وهذا أوثق في تعلق القلوب بكتاب الله واستشعارها بأن القرآن إنما جاء ليعالج مشكلات هذه الحياة، وليكون دوره وطيداً وأكيداً في صميم هذه الحياة.
فانظر على سبيل المثال إلى ما وقع عندما جاء هلال بن أمية رضي الله عنه يرمي زوجته بـ شريك بن سحماء، أي: يتهم زوجته بالخيانة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم على ما كان عنده من الحكم المبلغ له من الله عز وجل: (البينة أو حد في ظهرك) أي: إما أن تقدم البينة -والبينة أربعة شهود يشهدون شهادة صريحة واضحة- أو حد في ظهرك؛ لأنك تستوجب حد القذف فقال الرجل قولة الغيرة الإيمانية: (أيجد أحدنا السوء في أهله فيذهب يلتمس الشهداء؟) أي: هذا أمر لا يطيقه الإنسان أن يرى الفاحشة فيذهب ويلتمس الشهداء حتى يقيم الحجة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك)، وهذا الحكم هو المبلغ عن الله عز وجل حينذاك.
فاشتد الأمر وتعقد وتأزم، فرجل إذا قال: إنه رأى السوء في أهله فإنه لا يتوقع كذبه؛ لأنه يتهم زوجه ويهتك عرضه، ولو لم يكن صادقاً لما تجرأ على ذلك، وعندما اشتد الأمر صارت هناك أجواء متوترة، عند ذلك نزلت آيات اللعان تبين حكم الله عز وجل فيما يتعلق بالقذف بين الأزواج، فنظر الناس إلى ذلك ورأوا أن الله عز وجل مطلع عليهم، وأن القرآن علاج للمشكلات وحل للمعضلات، وأنه رعاية لمسيرة هذه الحياة.
وعندما نتأمل القرآن وهو يتنزل عبر عشر سنين نجد أن هناك من كان يقول القول من المنافقين ومن يدبر الكيد من الكافرين فيتنزل الوحي يفضح كل تلك المؤامرات، ويبين كل تلك المقالات، وعندما يتساءل بعض الصحابة عن الأحكام يتنزل الوحي بذلك، وعندما تقع المشكلة أو المعضلة وعندما تقع القسوة أو المعركة يتنزل الوحي بذلك.
فإذا بالقرآن يتقدم مسيرة الأمة المسلمة، ويبين لها حلول مشكلاتها ومعضلاتها، وينور قلوبها، ويزكي نفوسها، ويهدي عقولها، ولذلك كان القرآن في نزوله منهجاً بحد ذاته يعلم الأمة المسلمة أن القرآن لم ينزل ليُوضع في أعالي البيوت، ولم ينزل ليُتبرك به فحسب، ولم ينزل ليُتلى في المحاريب فقط، وإنما ليكون هو المهيمن والمسيطر على هذه الحياة كلها.
وقد وصف الله عز وجل كتابه الكريم فقال: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48]، ولذلك جاء فيه خلاصة الهدايات والخيرات التي كانت فيما مضى من الكتب.(131/5)
بيان ربط المنهج النبوي الأمة بكتاب ربها
ثم ننتقل إلى نقطة أخرى، وهي المنهج النبوي الذي ربط من خلاله رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة بكتاب الله عز وجل.
فإن المصطفى عليه الصلاة والسلام جعل كل شيء مما يهتم به المسلم ومما تنتفع به نفسه ويرغب في تحصيله كل ذلك جعله مرتبطاً بكتاب الله عز وجل.
ونبدأ أولاً بتلقي المصطفى عليه الصلاة والسلام لهذا القرآن بعد أن انتقل إلى عظمته وإلى رسالته وإلى دوره في الحياة.
لقد كان النبي عليه الصلاة والسلام ينتظر نزول الوحي انتظار الأرض القاحلة للقطر من السماء، ولقد كان يتشوق إلى هذا القرآن ويتوق إليه ويحرص عليه ويبالغ في حفظه ورعايته وصيانته.
ولذلك كان من شدة تلهفه عليه الصلاة والسلام أنه كان يسابق الوحي إذا نزل به جبريل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يردد وراءه خوفاً من تفلت القرآن؛ حتى نزل قول الله عز وجل: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16 - 19].
وكذلك جاء قوله عز وجل: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه:114]، فتلقاه عن جبريل بهذا الشغف وتلك المحبة والإقبال، ولقد كان عليه الصلاة والسلام هو قائد الجيوش، وهو حاكم البلاد، وهو الذي يرعى المصالح، وهو الذي يجيب السائلين، وهو الذي يعلم الجاهلين، وهو المنشغل بأمور كثيرة ومع ذلك لم يشغله ذلك عن أداء مهمة عظمى ورسالة كبرى رأى عليه الصلاة والسلام أنها من أوجب واجباته، وأراد أن يورثها لأمته من بعده، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بنفسه بتلقين الصحابة كتاب الله عز وجل وتعليمهم تلاوته، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه -كما في صحيح البخاري - يقول: (تلقيت من فيَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة من القرآن).
لم يكتف عليه الصلاة والسلام بهذا التلقي ولا بذاك التعليم، فقد كان حبه للقرآن وتعلقه به أعظم من ذلك، فكما يلهج به لسانه وكما يعلم به إخوانه طلب أن يسمع القرآن منهم، كما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اقرأ علي القرآن.
فقال ابن مسعود: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم؛ فإني أحب أن سمعه من غيري).
فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يحب أن تشارك جوارحه كلها في كتاب الله عز وجل، فينطق به لسانه، ويتدبره بعقله، وينفعل به بقلبه، ويسمعه بأذنه، لقد ملك القرآن كل جوارحه وكل مشاعره، فكان عليه الصلاة والسلام في سيرته التي نقلت لنا يعبر لنا ويصور لنا ما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم وارتباطه بكتاب الله عز وجل.
ولذلك قرأ عليه ابن مسعود من أول النساء حتى بلغ قول الله عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:41 - 42] قال: (حسبك حسبك! قال ابن مسعود: فنظرت فإذا عيناه -صلى الله عليه وسلم- تذرفان).
فهكذا كان في حياته صلى الله عليه وسلم، ثم ربط الأمة كلها بهذا النهج القويم، فما هو الذي يرتبط به المسلم في هذه الحياة؟ وما الذي يرجوه المؤمن الذي يفكر في العاقبة؟ إن أهم ما تندفع إليه النفوس المؤمنة هو طلب الأجر والمثوبة من الله عز وجل، وطلب الرفعة والعلو عند الله سبحانه وتعالى، وطلب الجنة ومنازلها العالية.
هذا هو الذي تتوق إليه قلوب المؤمنين، وهذا هو الذي يبذلون من أجله الغالي والرخيص، فأين طريقه؟ وأين سبيله؟ لقد جعل المصطفى عليه الصلاة والسلام الطريق إلى كل ذلك عبر القرآن العظيم.(131/6)
ذكر بعض فضائل تعلم القرآن الكريم وتلاوته
جاء عنه عليه الصلاة والسلام جملة من أحاديث الفضائل التي تبين عظمة الأجر في هذا القرآن العظيم، وفي الوقت نفسه يرتبط المسلم ارتباطاً وثيقاً بكتاب الله عز وجل إذا أراد أن يغنم الأجر، وإذا أراد أن يمحو الله عنه السيئات، وإذا أراد أن تُرفع له الدرجات.
فهذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
ومن أعظم هذه الأحاديث التي وردت ما جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه: (أيحب أحدكم أن يغدو إلى بطحان أو إلى العقيق فيأخذ ناقتين كوماوين -أي: سمينتين- زهراوين من غير إثم ولا قطيعة رحم؟ فقال الصحابة: يا رسول الله! كلنا يحب ذلك -لقد شوقهم وعلقهم بالأجر، ثم رسم لهم طريقهم- فقال: لأن يغدو أحدكم إلى بيت من بيوت الله فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع، ومن أعدادهن من الإبل).
ونأخذ هذا الحديث لنقدمه في واقعنا، فلو قيل للناس: من ذهب إلى مكان كذا فسيأخذ سيارتين فارهتين من الطراز الحديث والموديلات الجديدة من غير إثم ولا قطيعة رحم ولا مال، ويرجع وهو غانم لهاتين السيارتين كل يوم وكل لحظة كلما أراد، لو قيل ذلك لانصرف الناس إلى ذلك انصرافاً عظيماً، ولتقاتلوا قتالاً عجيباً.
فالنبي شوق النفوس وعلقها بهذا الأجر، وقد كانت الناقة الكوماء عندهم ثروة، فقد كانت ثروة الرجل في ذلك الوقت تقدر بما عنده من النوق والجمال، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يحثهم ويرغبهم ويعلقهم، ثم يرسم لهم الطريق في حديثه عبر الارتباط بهذا القرآن.
هذا فيما يتعلق بشأن الأجر، أما شأن المراتب العالية فقد ورد حديثه عليه الصلاة والسلام: (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: إقرأ وارق - أي: ارتفع- ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)، فمن أراد الأجر والمثوبة ومن أراد الرفعة في الجنة فطريقه كتاب الله عز وجل، هذا بالنسبة للآخرة.(131/7)
ذكر بعض فضائل صاحب القرآن
وقد ربط المصطفى عليه الصلاة والسلام أمر الدنيا والتقدم فيها والجاه والشرف بالإيمان بكتاب الله عز وجل.
ففي صحيح البخاري عن عثمان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، فمن أراد أن تكون له الخيرية في هذه الأمة في مجتمعات المسلمين التي تقوم بتنظيم ميزان الإسلام والإيمان فطريقه أن يكون مرتبطاً بهذا الكتاب تعلماً وتعليماً.
ولذلك ورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه ما يدل على أن الصحابة كان صاحب القرآن فيهم معظماً وصاحب شرف ومنزلة، فهو يقول: (كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في أعيننا) أي: صار ذا منزلة عالية، وصارت نظرة الناس إليه محترمة وموقرة، وصار هو الذي يُقدم على غيره.
وهذا يبين أن الشرف في الدنيا والشرف في الآخرة طريقه موصول بكتاب الله عز وجل.
ثم ننظر إلى وجه آخر، فبالقرآن يكون التقدم في أمر الدين والتقدم في أمر الدنيا والتقدم في أعظم فريضة بعد التوحيد والركن الثاني من أركان الإسلام وهو الصلاة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله)، فأعظم مؤهل في التقدم لأعظم فريضة جامعة مكررة في اليوم والليلة خمس مرات هو حفظ كتاب الله عز وجل.
ولذلك يروي أحد الصحابة أنه روى لبعض القوم هذا الحديث ثم قال: (فأقيمت الصلاة وليس في القوم أقرأ مني، فصليت بهم إماماً وأنا ابن سبع)، وفي رواية عند البخاري: (أن أحد صغار القراء تقدم فصلى إماماً، وكان ثوبه قصيراً، فقال قائل: غطوا عنا است قارئكم).
وسأضرب أمثلة واقعية حية كثيرة من حياة المجتمعات الإسلامية لتقدم حفظة القرآن في أمر الدين وفي أمر الدنيا ومسألة الولايات والحكم والقضاء وغير ذلك.
جاء في صحيح مسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقي عامله على مكة في الحج فقال: من خلفت على أهل مكة -أي: من جعلته نائباً لك-؟ قال: خلفت عليهم ابن أبزى.
فقال عمر: ومن ابن أبزى؟ فقال: مولى من موالينا.
فقال عمر كالمستنكر: أخلفت على أهل مكة مولى؟! وفي رواية البخاري: أخلفت على أهل الوادي مولى؟! يعني: ما وجدت في الأمة من هو مؤهل حتى تدع هذا يتولى هذا الأمر.
فتكلم العامل بالمؤهل الأعظم الذي تأهل هذا الرجل به لنيل هذه المنزلة، فقال كلمات قصيرات موجزات، قال: يا أمير المؤمنين! إنه قارئ لكتاب الله.
فقال عمر رضي الله عنه في تتمة هذا الحديث: أما إني سمعت رسولكم صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين).
فهذا هو التقدم في شأن الدين والتقدم في شأن الدنيا، فقد ربطهم النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب الله، فمن أراد هذا أو ذاك فطريقه أن يرتبط بكتاب الله حفظاً وتلاوة وتدبراً وعملاً.
ثم كذلك نلمح منهج النبي عليه الصلاة والسلام في ربط الأمة بكل صورة من الصور بكتاب الله، فهذا البخاري يروي لنا قصة فريدة جميلة عجيبة فيها أن امرأة جاءت إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض نفسها ليتزوجها رسول الله عليه الصلاة والسلام، جاءت تهب نفسها للرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم في مجلس مع أصحابه، وكانت جريئة وصاحبة أيمان، ولم يكن للرسول عليه الصلاة والسلام بها حاجة، فسكت حياءً أن يرد عليها، وطال الصمت، وتأزم الموقف، ودخل الإحراج، فانتهز رجل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرصة، وأراد أن يقتنص الغنيمة الباردة، فقال: يا رسول الله! زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، وكان متأدباً في سؤاله وطلبه، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (اذهب فالتمس شيئاً -أي: بعض المهر- فذهب ثم عاد فقال: يا رسول الله! لا أجد شيئاً.
قال: التمس ولو خاتماً من حديد.
قال: ولا خاتماً من حديد.
فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ولى الرجل، فقال: ردوه عليَّ.
فلما رجع قال: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم.
معي سورة كذا وكذا.
فقال: زوجتكها على ما معك من القرآن).(131/8)
الاستشفاء بالقرآن الكريم
والحياة الاجتماعية يربطها النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً بالقرآن، بل يربط أمور الناس كلها به، حتى في مسألة الاستشفاء والعلاج من الأمراض، قال الله عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} [الإسراء:82].
وهذا أبو سعيد الخدري -وحديثه في البخاري - يقول: (مررنا على حي من إحياء العرب، فطلبنا أن يضيفونا فأبوا.
قال: فذهبنا، فلدغ سيد القوم، فجاءوا إلينا وقالوا: هل منكم من راقٍ؟ قال: قلنا لهم: لا نرقي لكم حتى تعطونا أجراً.
قال: فذهب أحدنا فقرأ عليه الفاتحة فبرأ كأنما نشط من عقال.
قال: فلما أخذنا ما أعطونا من الغنم ورجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سألناه عن ذلك فقال: وما أدراك أنها رقية؟! إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله عز وجل).(131/9)
تقديم الأحفظ للقرآن في الدفن في قبر واحد
بل قد ذهب النبي عليه الصلاة والسلام في ربط الأمة بالقرآن مذهباً بعيداً لا تتصوره العقول، فلما كان ما كان في يوم أحد وجاء النبي عليه الصلاة والسلام يدفن الشهداء كان يدفن الاثنين والثلاثة والأربعة في القبر الواحد، فكان يسأل: (أيهم أحفظ لكتاب الله؟) فيقدمه في قبره ولحده؛ ليبين لهم النبي عليه الصلاة والسلام أن هذا القرآن هو شرف هذا المؤمن وعزه، وأن طريقه إلى الله عز وجل موسومة مرسومة بكتاب الله عز وجل وبارتباطه به.
ولذلك عندما ننظر إلى هذه الصور نجد أن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يكون هو القدوة لهم عندما كان يقرأ ويسمع ويطلب السماع عليه الصلاة والسلام، ثم جعل خير الدنيا والآخرة ورفعة الدنيا ورفعة الآخرة والتقدم في أمر الدنيا وفي أمر الآخرة كل ذلك جعله مربوطاً بكتاب الله عز وجل؛ ليعلم كل فرد في هذه الأمة أنه إذا أراد الفلاح والنجاح والأجر والمثوبة والتقدم والخيرية فإن طريقه عبر كتاب الله سبحانه وتعالى.(131/10)
صور من حياة الصحابة في تأثرهم بالقرآن وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم
انتقل إلى نقطة ثانية، وهي صور من مجتمعات الصحابة والمجتمعات الإسلامية الأولى المتعلقة بأثر هذا النزول القرآني وبأثر ذلك المنهج النبوي، وكيف كان انعكاسه على الصحابة رضوان الله عليهم، إنها صور عجيبة فريدة تبين لنا كيف كان القرآن هو الحياة وكانت الحياة هي القرآن في مجتمعات المسلمين في القرون الفاضلة.
فهذا عمر بن الخطاب - كما في صحيح البخاري - يقول: (كنت أنا وجار لي من الأنصار نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرد إلى المسجد وأرد إلى السوق ليستمع ما ينزل من الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان آخر اليوم أخبرني بما نزل من القرآن) فإذا كان اليوم الثاني غير كل موقعه.
هذه الصورة تبين لنا أن الصحابة قسموا الحياة نصفين: فنصف جعلوه للعمل وكسب الرزق والقوت بما ييسر الله عز وجل.
ونصف جعلوه لئلا يفوتهم من القرآن ومن سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام شيء أبداً.
وكان بالإمكان أن يُجعل ذلك على تراخٍ وتهاون، وأن يسأل عنه عندما يفرغ من عمله إذا وجد الفرصة المناسبة، أو لا يسأل حتى يأتي من يخبره.
لقد كان أثر ذلك المنهج من الرسول عليه الصلاة والسلام منعكساً، فجعلوا الأهمية العظمى لتلقي هذا القرآن وفهمه وتدبره وحمله والعمل به.
وننظر إلى صورة أخرى في البخاري -أيضاً- عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار)، والأشعريون قوم أبي موسى الأشعري من أهل اليمن، وكانوا إذا جاءوا في الليل يعرف النبي عليه الصلاة والسلام أن القوم قد وصلوا، وأنهم نزلوا في شرق المدينة أو غربها، فلقد كان القرآن هو الذي يُحيا به الليل، وتعمر به المحاريب، وتلهج به الألسنة، وتُستجاش به مشاعر القلوب والنفوس.
وهناك صورة أخرى، فـ سعد رضي الله عنه عندما فتح الله عليهم في القادسية أرسل إلى عمر يبشره بالفتح، وكان في ضمن كتابه أنه قال: ذهب من الناس فلان وفلان -يعني استشهدوا- ممن لا تعلمهم -أي: ولا تعرفهم ولا تعرف أسماءهم؛ لأنهم مجهولون مغمورون، لكنهم مؤمنون مجاهدون- الله بهم عالم، كانوا يدوون بالقرآن كدوي النحل في الليل.
ومتى هذا؟ إنه في السفر والحرب، فكيف إذا كانوا في الحضر وإذا كانوا في الأمن؟! فكان هذا دأبهم وهم في المعارك على صهوات الجياد، وهم في الخوف في حراسة الثغور كان هذا دأبهم، كما عند البخاري من غير تسمية الأسماء، وعند غيره بتسمية عباد بن بشر ورفيق له أنهما كانا مكلفين بحماية المسلمين في ليلة من الليالي، فنام أحدهما وقام الآخر يصلي ما شاء الله له أن يصلي ويقرأ ما شاء الله له أن يقرأ، فأصابه سهم وهو واقف يصلي، فنزعه ومضى في صلاته، فأصابه الثاني فنزعه ومضى في صلاته، فأصابه الثالث فقال لصاحبه لما أنكر عليه أنه لم يوقظه: لولا خشية أن يؤتى المسلمون من قبلي ما أيقظتك كراهة أن أقطع صلاتي.
كان هذا هو وصف القوم وارتباطهم بكتاب الله عز وجل، وكان معلوماً في صفوف الجيوش الإسلامية وراياتها أن في كل فرقة وكتيبة قارئاً، وإذا التحمت الصفوف وحمي الوطيس كان القارئ يقرأ سورة (الأنفال) يهيج بها على الجهاد، ويقوي بها العزائم، ويثبت بها الأقدام، ويشوق إلى لقاء الله عز وجل، فكانت القلوب حينئذ تطير من صدورها وتهفوا إلى لقاء ربها، وتتوق إلى نعيم الله عز وجل.
ولذلك كان هذا القرآن يتقدم مسيرة الأمة في كل منحىً من مناحي حياتها، وعندما نرى الشرف والمنزلة والتقديم والتعظيم يأتينا أمر ابن عباس ذلك الغلام الصغير والفتى الذي لم يكن عمره عندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجاوز الخامسة عشرة، وفي بعض الروايات أنه كان ابن ثلاث عشرة سنة، وفي بعضها أنه كان ابن عشر سنين.
ذلك الشاب كان يدخل مجلس عمر رضي الله عنه، وكان مجلس عمر يضم كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار من البدريين المتقدمين في الإسلام، فقال بعض الأنصار: يا أمير المؤمنين! إن عندنا من أبنائنا من هو في مثل سن هذا، فلماذا تقدمه عليهم؟ فسكت عمر حتى إذا ضمه المجلس سأل فقال: ما تقولون في قول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]؟ فأجاب بعض الصحابة وقال: بشر الله رسوله بالفتح وبدخول الناس في دين الله أفواجاً، ومنَّ عليه بذلك، وأمره أن يسبح إزاء هذه النعمة.
وكل قال قولاً.
فالتفت إلى ابن عباس الغلام الصغير فقال: ما تقول فيها يا ابن عباس؟! قال: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي إليه) يعني أنه قد أراد الله عز وجل أن يشير إلى رسوله أنه قد اقترب أجله وانتقاله إلى ربه ومولاه؛ لأنه إذا بلغ الرسالة وفتح الله عليه ودخل الناس في دين الله أفواجاً فقد أكمل ما عليه، وأوشك أن ينتقل إلى خالقه ومولاه، فقال عمر: (والله! ما أعلم منها إلا ما قلت يا ابن عباس!)، وبهذا شرفه عمر وقدمه، فكان أهل القرآن هم المقدمون والمستشارون والمعظمون في مجتمع المسلمين.(131/11)
اهتمام الصحابة بعدم الاختلاف في القرآن
وانظر كذلك إلى مواقف أخرى كثيرة تبين لنا هذا الشأن، فقد كان القرآن هو الذي يلفت الأنظار، وهو الذي يحدد المواقف، ففي صحيح الإمام مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وعمر له قصص كثيرة فيها مزية الغيرة لدين الله والاهتمام بشرع الله وبدين الله- قال: (سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان، فإذا هو يقرأها على غير ما أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وتأمل في كون الذي أقرأه إياها هو الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فإنه كان هو الذي يعلم الصحابة القرآن، إنها مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (سمعته فإذا هو يقرأها على غير ما أقرأنيها رسول الله عليه الصلاة والسلام - وكان هشام يصلي ويقرأ- قال عمر: فكدت أساوره في الصلاة) يعني: كاد أن يقطع عليه صلاته لينكر عليه هذه القراءة؛ لأنه تلقاها عن الرسول وعنده منها علم وبينة، قال: (فانتظرته حتى سلم فلببته بردائه وانطلقت به أجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم).
هكذا كان عمر، وهكذا كان حرصهم على القرآن أن لا يحرف وأن لا يغير وأن لا يُدخل فيه ولا يزاد عليه، وفي هذا قصص عجيبة وأمثلة كثيرة، قال: (فلببته بردائه وأخذته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتني.
فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: أرسله يا عمر.
اقرأ يا هشام!).
فقرأ هشام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هكذا أُنزلت.
وقرأ عمر فقال: هكذا أُنزلت، إن القرآن أُنزل على سبعة أحرف).(131/12)
اعتناء الصحابة رضي الله عنهم بجمع القرآن الكريم
ولعل من أعظم المواقف في حياة مجتمع الصحابة وارتباطهم بكتاب الله عز وجل ذلك الموقف الذي كان لـ عمر رضي الله عنه.
في الصحيحين أن عمر قال لـ أبي بكر رضي الله عنه: (إني رأيت القتل قد استحر بالقراء يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحر بهم القتل في المواطن فيضيع كتاب الله عز وجل، وإني أرى أن تجمع القرآن).
هذا هو الاهتمام، وهذه هي المهمات، وهذه هي المشاغل، وهذا هو الذي كان يحرك العقول ويشغلها، فقال أبو بكر: (كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان عند القوم منهج، هو أن لا مخالفة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فما زال عمر يراجعه حتى شرح الله صدر أبي بكر للذي شرح له صدر عمر.
فانظر بعد ذلك للمهمات والشرف! فبعث أبو بكر إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه وقال له: (إنك كنت تكتب القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر ما كان من القرآن فاجمعه) ومن الذي يحدثه؟ أبو بكر خليفة المسلمين ومعه عمر وزيره الأول، وأبو بكر وعمر هما صاحبا الحكم هنا، وهما صاحبا السابقة في الإسلام، وهما صاحبا الفضل، وهما صاحبا العلم، ومع ذلك لم يمنع هذا كله زيد بن ثابت أن يؤكد لنا المنهج الذي رُبي عليه الصحابة، وذلك أنه قال: (كيف تفعلا شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!) أي: وإن كنتما الحاكمين والسابقين والفاضلين والمقدمين فإن هناك ما هو أفضل وأكثر تقديماً، وهو نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فما زالا به حتى شرح الله صدره للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فماذا قال بعد ذلك؟ قال: (فوالله! لو كلفني نقل جبل من مكانه لكان أهون عليَّ) أي أنه رأى أنها مهمة عظمى، وأنها قضية خطيرة؛ لأن فيها أنه يحفظ على الأمة كتاب الله عز وجل، فماذا صنع؟ وكيف نفذ؟ قال: (فجعلت أتتبع القرآن في الجلود واللحاف والعظام) وكان لا يقبل آية إلا بشاهدين أنها كتبت بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (وآخر سورة التوبة ما وجدتها إلا عند أبي خزيمة وحده) وبعض الناس يظنون أنه لم يكن أحد يحفظها إلا هو، وليس كذلك، إنما المقصود أنه لم يكن أحد شاهد كتابتها بأمر الرسول إلا هو، ومن عظمة وإعجاز ونبوة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان قد جعل شهادة أبي خزيمة بشاهدة رجلين، فكان هذا مغنياً، فما وجدها إلا عنده، ثم وجد أن الرسول قد حكم بأن شهادته بشهادتين قبل أن يموت عليه الصلاة والسلام.
وكذلك ما جاء في شأن حذيفة لما كانوا في بلاد الأرمن في جهة المشرق يفتحون البلاد، ورأى الناس يختلفون في القراءة، خاصة الداخلين في دين الله حديثاً، فرجع إلى عثمان وقال: (أدرك أمة محمد قبل أن يختلفوا في كتابهم كما اختلفت اليهود والنصارى) فجمع عثمان رضي الله عنه الأمة على مصحف واحد، وفرق منه في الأمصار سبع أو تسع نسخ، فاجتمعت الأمة، وكانت كلها متوافرة جهودها منشغلة أفكارها بكتاب الله عز وجل.(131/13)
تحكيم الصحابة رضي الله عنهم للقرآن الكريم في جميع أحوالهم
جاءت امرأة إلى أبي بكر رضي الله عنه وهي جدة تسأله ميراثها، وذلك بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، فقال أبو بكر: (لا أجد لك شيئاً في كتاب الله) أي: نحن عندنا القرآن نبحث فيه ونحكم به.
فقام رجل وقال: (إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل لها السدس) قال: (ومعك من يشهد بذلك؟) فشهد رجل فأمضى أبو بكر رضي الله عنه ذلك.
ومن ذلك تعليم الرسول عليه الصلاة والسلام، كما في حديث معاذ لما بعثه النبي عليه الصلاة والسلام إلى اليمن فإنه قال له: (بمَ تقضي؟ فأجاب: بكتاب الله.
قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله.
قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأي ولا آلو.
فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم).
هكذا كان القرآن هو ديدنهم، وهو مشغلتهم، وهو مهمتهم، وهو حاكمهم، وهو الذي به يتشرفون ويشرفون، ويقدمون ويؤخرون، ولذلك كانت هذه الصور العظيمة في حياة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(131/14)
اهتمام الأمة الإسلامية بالقرآن الكريم
وليس هذا الأمر مرتبطاً بسيرة أو بحياة الصحابة فحسب، بل كان هذا شأن الأمة في صور كثيرة من أحوالها، وإن كان من ذلك عبر العصور ما يزيد وما ينقص، لكن لابد من أن نعرف أن الأمة مرتبطة بكتابها ارتباطاً وثيقاً عبر قرون متتابعة، وإن كانت هناك مخالفات، لكن الهيمنة الأولى والحكم والتشريع لكتاب الله عز وجل.
ولذلك نجد صوراً كثيرة واحتفاءً واهتماماً عظيماً من الأمة المسلمة عبر القرون بكتاب الله عز وجل، ولعلي أضرب أمثلة أشير بها إلى ما مضى على سبيل المثال: انظر إلى اهتمام الأمة بالقرآن من خلال العلوم القرآنية والمؤلفات فيها! فكم من التفاسير ألفت منذ عهد المصطفى عليه الصلاة والسلام! والنقل عنه إلى هذا اليوم وإلى ما شاء الله، وعد فإنك لن تحصي، وانظر كم ألفوا في مبهمات القرآن، وفي علوم القرآن، وفي إعجاز القرآن، وفي بلاغة القرآن، وفي نواسخ القرآن، وفي مشكلات القرآن، وفي كل ضرب من الضروب، بل حتى ربما كأن الإنسان يتصور أن لكل حرف اهتماماً ورعاية ودراسة وتحليلاً، وهناك من يدرس في الأوقات المعاصرة بعض هذه القضايا، فهناك رسالة علمية عنوانها (الفاء في القرآن الكريم) أي: مواقعها الإعرابية من الناحية اللغوية.
فالقرآن بحر لا ينضب، ولذلك توجه الاهتمام بهذا القرآن العظيم، وانصبت إليه جهود الأمة بصورة لم يُسبق إليها ولم يكن لها مثيل مطلقاً، فما لقي كتاب من التوثيق والرعاية والدلالة والصيانة ثم من الشرح والعناية والتفصيل ما لقي القرآن العظيم؛ لأن الأمة شغلت وارتبطت به، وكان هو الذي يسيرها في كل شأن من شئون الحياة.
ولذلك قصص كثيرة جداً ووقائع متفرقة عبر التاريخ، حيث نجد فيها أن القرآن كان هو الذي يهيمن على حياة المجتمعات الإسلامية، خاصة فيما يتعلق في الحكم بالقرآن.
وعندما نقول ذلك نقول: إن الدول الإسلامية من الخلافة الراشدة والأموية والعباسية وما جاء بعدها كالعثمانية كلها كانت في الأصل لا تحكم إلا بكتاب الله، ولم يكن هناك شيء آخر، ولا حكم ولا قانون وضعي، ولا مبدأ بشري، وإنما جاء ذلك -كما سأحكي في آخر الحديث- في الواقع المعاصر الذي استُبدلت فيه شريعة الله بقوانين بشرية وضعية ابتُليت بها الأمة دهراً طويلاً.(131/15)
الشمول في كتاب الله عز وجل
أنتقل إلى نقطة مهمة قبل أن أعرج على الواقع المعاصر وإلى الصورة التي نريد أن تكون لنا في ذواتنا وفي أفرادنا.
أريد أن أشير إلى قضية الشمول التي جاءت في كتاب الله عز وجل؛ لأن لها ارتباطاً وطيداً بعلاقة القرآن بالحياة، لقد جاء هذا القرآن شاملاً شمولاً متعدد الجوانب، فإذا نظرنا فإننا نجد هذا القرآن شاملاً من حيث ما يتعلق بالمعاني التي يحتاج الناس إليها في حياتهم الدنيا في قضايا الإيمان والنفوس والقلوب.
والله عز وجل يقول: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء:9] ففيه الهداية، وكذلك يقول الله عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] فهو الشفاء والرحمة، ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57] فهو الموعظة للقلوب والمهيء للنفوس إلى ابتغاء رضوان الله عز وجل، وهو كذلك العاصم، كما قال عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وقد ذكر أهل التفسير أن حبل الله هو القرآن، وكما قال الله عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر:23] فتوافر الشمول والهداية والطمأنينة والسكينة والرحمة والموعظة والتذكرة في هذا القرآن.
ثم انظر إلى الشمول من وجه آخر لتجد أن هذا القرآن خاطب كل شيء في هذا الإنسان.
ففيه خطاب للعقول بالتدبر والتأمل، وفيه خطاب للقلوب بالموعظة والتذكير، وفيه خطاب للجوارح بتعليمها ما أراد الله عز وجل منها من البصر وغضه، والسمع وكفه عن الحرام، وفيه ذكر الجبال الساجدة والألسن الذاكرة، كل ذلك مذكور في كتاب الله عز وجل، فهو شامل لكل شيء في حياة الإنسان.
وانظر كذلك إلى الشمول من وجه ثالث، فهو الذي يشمل كل أصناف الإنسان.
فهو الذي يخاطب الرجال، ويخاطب النساء، ويذكر منهج الصغار والأطفال، ومنهج الرجال الكبار، فلا يخرج عن هذا القرآن شيء أو صنف من الناس مطلقاً، فلهم جميعاً خطاب، ولهم تنبيه، ولهم آداب، ولهم تعليم وهداية.
ثم انظر إلى الشمول من وجه رابع، فإنك تجد شمول القرآن ينتظم سائر مناحي الحياة.
ففيه منهج متكامل في الحكم والسياسة، ومنهج متكامل في العسكرية والجيش، ومنهج متكامل في المال والاقتصاد، ومنهج متكامل في الحياة الاجتماعية، ومنهج متكامل في سائر ما تحتاج إليه هذه الحياة، فأنت ترى منهجاً كاملاً في الأسرة المسلمة، وفي تربية الأبناء، وفي رعاية المجتمع، وفي الحقوق بين الزوجين وغير ذلك في أصول كلية جامعة، وأنت ترى كذلك منهج الحكم والسياسة الذي يتمثل بأن الحكم لابد من أن يكون بما أنزل الله، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47].
ثم يؤسس القرآن في منهج الحكم أساس العدل الذي لا قيام لحكمه إلا به، ثم يذكر بعد ذلك في ثنايا هذا ما يتعلق بنزعات الأهواء واستبدال شرع الله عز وجل اتباعاً لهوى النفوس، ويبين ملامح عامة في كل ذلك، ثم يذكر الله عز وجل في شأن الاقتصاد قوله سبحانه وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، وينهى عن أكل أموال اليتامى وأكل أموال الناس بالباطل، ويبين الله سبحانه وتعالى التجارة التي تكون عن التراضي، ويبين أوجه الرزق والزراعة والثمار وما يلحق بذلك وما يترتب عليه من الزكاة في الأموال والشفقة على الفقراء والمساكين.
إنه منهج متكامل للمال والاقتصاد في كنزه وفي إنفاقه وفي تشغيله واستثماره، منهج متكامل لا يخرج عنه صغير ولا كبير مطلقاً.
وانظر كذلك إلى سائر الجوانب فإنك واجد هذا واضحاً بيناً، ولقد ذكر الله عز وجل لنا من قصص الأنبياء والمرسلين ما يبين فيه تقويم هذه المناحي في الحياة، فقد قص الله عز وجل علينا نموذجاً للحكم الفاسد الجائر الظالم في قصة فرعون، وبين فيها مغبة الاستبداد السياسي والحكم الدكتاتوري كما يسمى اليوم، وبين لنا كيف عالج موسى عليه السلام هذا الفساد السياسي بالعلاج الإيماني الذي نقضه من أساسه، وقوض بنيانه، وهد أركانه، وأزاله من هذه الأرض ليكون حكم الله عز وجل وشرع الله سبحانه وتعالى هو المسيطر.
وبين الله عز وجل كذلك في قصة لوط المفاسد الأخلاقية في تلك الرذيلة التي ذكرها الله عز وجل على لسان لوط عندما خاطب قومه فقال: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:165]، وبين كيف عالج لوط عليه السلام بالإيمان وبالعقيدة والتوحيد هذا الفساد الأخلاقي، وأسسه بعد ذلك على المنهج الإيماني.
وذكر لنا الله عز وجل في قصة شعيب نقض قومه للمكيال والميزان، وما يتعلق بهذا الانحراف في مجال الاقتصاد والمعاملات المالية، وكيف قوَّم ذلك شعيب صلى الله عليه وسلم بالمنهج الإيماني وبالرسالة الربانية، كل ذلك ليبين للأمة أن كل شأن من شئون حياتها لابد أن ترجع فيه إلى كتاب ربها.
وهذا الشمول -كما قلت- يتناول ما يتعلق بالنفس الإنسانية من ألوان تغيراتها، ويتناول بعد ذلك ما يحتاجه الناس على اختلاف أجناسهم صغاراً وكباراً رجالاً ونساءً، ويتناول كذلك ما يتعلق بنواحي الحياة، وما يتعلق كذلك بجوارح الإنسان.
ولذلك حق لهذا الكتاب أن يكون هو كتاب الحياة، وأن تكون الحياة منبثقة منه وراجعة إليه؛ لأنه كما قال الله عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، فما من شيء إلا له أصل، حتى قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ترك لنا منه خبراً).
وقال سلمان رضي الله عنه حين قيل له: علمكم نبيكم كل شيء؟ قال: (أجل، علمنا كل شيء حتى الخراءة)، يعني: كيف يقضي الرجل حاجته.
فكل شيء مذكور في كتاب الله بأعجز لفظ وبأدق معنىً وبأحكم هداية وبأشمل توجيه، فإنك تجد ما يتعلق بالعلاقة بين الرجل والمرأة، وما يتعلق بحيض النساء، وما يتعلق بالأطفال، وما يتعلق بالاستئذان، وما يتعلق بأدق أمور تفاصيل الحياة، كل ذلك مذكور له أصل وكليات في كتاب الله عز وجل.
وحق لأمة هذا كتابها أن لا تستبدل به شيئاً، وأن لا تطلب في غيره هداية، وقد نبه على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رأى في يد عمر بن الخطاب صحفاً من التوراة يقرأها وينظر فيها فأخذه الرسول عليه الصلاة والسلام - وعمر هو الشديد القوي- فهزه وقال: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! والله لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).(131/16)
القرآن وواقعنا المعاصر
لماذا تغيرت الأحوال وتبدلت الأوضاع؟ هذا هو آخر ما أتحدث عنه في هذا الموضوع، وهو ما يتعلق بالواقع المعاصر، أو القرآن وواقعنا المعاصر.
ولاشك أنه حديث جدير بأن يفرد مستقلاً، ولكني أوجز فيه المهمات، وأذكر فيه من الأمثلة ما يغني عن غيره، وأقسم الحديث فيه بالنسبة لعموم المسلمين وبالنسبة لأوضاع الحكم والدول.
فأول ما يتعلق بالمسلمين نجد أن الانعكاس الأول والأكبر كان عندما نُحي القرآن من منصة الحكم، وأُقصي تشريع الله عز وجل من الهيمنة على حياة الناس، وما زال ذلك التشريع يُطارد ويُطارد ويُختزل حتى ما بقي إلا في أضيق دائرة من الدوائر التي يسمونها الأحوال الشخصية، والأحوال الشخصية نفسها تدخلوا فيها، وشرعوا من عند أنفسهم مالم يأذن به الله عز وجل، فانعكس ذلك على المجتمعات الإسلامية؛ لأنها لم تر حكم الله، ولم تر شرع الله عز وجل مطبقاً.
ولكن هناك معالم ثلاثة رُكزت في نفوس الناس، وصُبت عليهم صباً، ووجهت إليهم توجيهاً، وكان لها آثار سلبية كبرى(131/17)
دور أعداء الإسلام في إبعاد القرآن عن واقع المسلمين
أولها: ما يتعلق بالمفاهيم أو الغزو الفكري، فأملي على المسلمين أن هذا القرآن للبركة، وأن هذا القرآن إنما هو ليطرد الشياطين، وليس له بالحياة علاقة، فاذهب واعمل واكسب وعاشر الناس وخالط من تحب وافعل ما تشاء، وهذا القرآن بعد ذلك خذه للبركة لتتصور أنه سيغفر لك ما مضى، وأنك عندما تضعه في جيبك أو تعلقه في سيارتك أو تضعه في صحن بيتك أو في صدر بيتك فهذا كافٍ ومغنٍ.
وجعلوا فهم القرآن أنه هو الذي يجلب على الحياة فهماً غريباً متشدداً متطرفاً بعيداً عن مراعاة الواقع، فإذا قال القائل: نريد أن نحكم الحياة بشرع الله وبكتاب الله قالوا: لا يمكن هذا؛ لأن هذا لا يتناسب مع الواقع، ولا يمكن أن نطبق هذه الآيات التي نزلت قبل ألف وأربعمائة عام على واقعنا اليوم! هذا ما يتعلق بالمفاهيم، وقد تسلطت هذه المفاهيم على الناس كثيراً، ونرى صورها في واقع الناس، فكثير من الناس اليوم ليس لهم صلة بالقرآن إلا البركة، حتى إذا جاء حافظ القرآن قالوا: بركة.
وما عندهم إلا كلمة (البركة)، فإذا وضع المصحف قبله أو وضعه على رأسه قال: هو للبركة.
ولا يفهم إلا هذا المعنى، فمسخ الفهم والارتباط الكامل الشامل بكتاب الله من هذا الجانب.(131/18)
أهمية اللغة العربية في فهم القرآن الكريم
الجانب الثاني -وهو خطير جداً- جانب اللغة.
جانب اللغة العربية التي أُضعفت، والتي غزتها العامية بكل لهجاتها، حتى أصبح العربي في بلاد الشام لا يعرف العربي الناطق بالعربية في بلاد العراق، والذي في العراق والشام لا يفهم من يتكلمون في مصر، حتى صار العرب يحتاجون إلى مترجم بينهم.
ومن لطائف ذلك أن الشيخ الطنطاوي رحمه الله تعالى ذكر قصة عراقي جاء إلى مطعم فيه مصري، وإلى جواره شاب، ودار هناك حوار، وكل واحد لا يفهم الآخر، فقال الأول كلمة طيبة هي في لهجة الثاني سيئة، وإذا به يغضب، وإذا بهما يتشاحنان، وحصل ما لا تحمد عقباه.
فهذه اللغة عندما ضعفت وعندما أقصيت إلى حد ما عن خطاب الناس صار الناس بعيدين عن القرآن؛ لأن القرآن هو باللغة، واللغة هي التي جاء بها القرآن، فصار الناس يقرءون كلاماً لا يفهمونه، وكأن العرب صاروا أعاجم، وفي السابق كان الأعاجم عرباً كـ سيبويه، فـ سيبويه أعجمي، وهو الذي أصبح أشهر نحوي، وهكذا ابن درستويه من كبار النحاة، وابن جني، وكثيرون من النحاة أصلهم أعاجم، بل ومن المحدثين البخاري، وهو من بخارى، والترمذي من ترمذ، وغيرهم كثير.
والأمر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما العربية اللسان)، فهم تعلموا العربية ففهموا هذا الدين، وجهلنا العربية فبعدنا عن هذا الدين، وهذا أيضاً مكمن خطر وقع للأمة المسلمة في عصورها المتأخرة.(131/19)
محاربة أعداء الإسلام وعملائهم لجانب التعليم القرآني
الجانب الثالث: جانب التعليم القرآني.
فتعليم القرآن حُورب في كثير من بلاد الإسلام، سيما في أوائل هذا القرن مع هجمة الاستعمار، فحصة القرآن في آخر الدوام، وحصة واحدة تكفي في الأسبوع، ولماذا حصة واحدة؟! كتب بعضهم: لماذا نرهق عقول الصغار بحفظ السور القصار! وقال: من يقول: إن السور القصار سهلة؟! فالسور القصار سور صعبة، فسورة (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) يبقى فيها سنة حتى يحفظها مثل ذلك الكاتب الذي ذكر ذلك.
وقال: لماذا نعقد الناس؟! ولماذا كذا؟ فنقول: هل أنت تقول كلاماً منطقياً واقعياً أم أنك تتخيل؟! سآتيك بصغار ما تجاوزوا السابعة وهم يحفظون القرآن، فأين التعقيد؟! التعقيد في العقل الذي فسد أو التصور الذي انحرف.
فهذا التعليم القرآني أُضعف، حتى إن القرآن لم يعد منهجاً أساسياً، وفي بعض الدول درجة القرآن لا تدخل في التقدير، فمن رسب في القرآن فهو ناجح، وتقدير درجة القرآن بممتاز أو ضعيف ليس له قيمة! ولذلك لم ترتبط الأجيال بالقرآن، وما يزال منهج القرآن يُقص منه ويُقص منه ويُقص منه حتى ما بقي إلا أقل القليل من الآيات البسيطة القليلة، والحفظ غير مهم، حتى إنهم يأتون بمدرسين غير مؤهلين، لذلك انتشر الجهل بالقرآن في تلاوته، وفي فهمه، وفي الالتزام به، وهذا حال سرى في الأمة وقتاً طويلاً، ولا تزال له آثار عظيمة.(131/20)
أثر إقصاء كتاب الله عز وجل عن الحكم
وفيما يتعلق بجانب الحكم وبجانب الدول أُقصي القرآن رسمياً، وبإعلان صارخ -بل فاضح بشع- أن القرآن لا يحكم، وجيء بالقوانين الفرنسية والإنجليزية وغيرها، وحكمت بها أمة الإسلام، ولا تزال تحكم بها كثير من الدول التي تُسمى إسلامية.
ثم قالوا: نحن لسنا كافرين، ولسنا ننكر القرآن! فما صلتهم بالقرآن؟ يفتتحون به أول البث التلفزيوني والإذاعي ويختتمون به! وما من حفل رسمي إلا وأول شيء القرآن، ولا بأس بأن يكون هناك مسابقات للقرآن وبعض الجوائر، ولا بأس -أيضاً- بأن يُطبع من نسخ القرآن كذا وكذا.
هذا الذي أوهموا الناس أنه يكفي فيما يتعلق بالقرآن والحكم والسلطان في بلاد المسلمين، إلا ما رحم الله.
ولذلك هذه الصورة لاشك أنها أبعدت الأمة عن القرآن بصورة تظهر فيها أمثلة عجيبة جداً، وعندما يتأمل الإنسان وينظر يرى حملة شهادات الدكتوراة وأصحاب مناصب عالية ورفيعة لا يحسن أحدهم قراءة الفاتحة! ولقد لقيت مرة في ملتقىً عدداً من الشباب من بلاد عربية مختلفة، فرأيت طلبة الطب والهندسة وهم أجسام طويلة وعريضة، وأصحاب ألسنة منطلقة، وأصحاب عقول وأفكار، ولكن والله لقد كان الواحد منهم لا يحسن قراءة غير ثلاث سور: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) و ((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)) و ((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)) وأما غير ذلك فلا يحسن، وكانوا كما أشرت على هذه الصورة!(131/21)
الخير باقٍ في الأمة
تلك الصورة أرادها أعداء الله عز وجل ومن كان معهم من العملاء، لكن كما قال سبحانه وتعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]، فإن لهذا القرآن طريقاً إلى القلوب لا يمكن أن توصد أبداً، وإن الآذان لتشتاق إليه، وإن العيون لتتلهف إلى رؤيته، ويكفينا مثال صارخ على ذلك، وأن كل من حرَّف كتاب الله عز وجل لم يفلح، والخاسر هو الذي يحارب كتاب الله عز وجل.
فانظر إلى الشيوعية! سبعون عاماً من الحرب الشعواء والتشريد والقتل والتهجير ومنع اللغة العربية ومنع المصاحف إلى آخر ذلك، ثم سقطت الشيوعية، وظهر حفظة للقرآن العظيم لا يعرفون من العربية كلمة واحدة! واسأل من ذهب إلى تلك البلاد، وانظر إلى أشرطة الفيديو، فستجد أنه ظهر في الجمهوريات الإسلامية حفظة لكتاب الله عز وجل كانوا يحفظون في الأقبية وتحت الأرض، واليوم تعم أرجاء العالم الإسلامية أوبة صادقة إلى كتاب الله عز وجل، ونسمع دوي القرآن عاد من جديد في بيوت الله عز وجل، ونسمع أشرطة القرآن تملأ الدنيا شرقاً وغرباً، ونرى كتاب الله عز وجل يغزو الأقطار الكافرة قبل المسلمة، ونرى الأجيال وهي تتربى -بحمد الله عز وجل- على كتاب الله تحفظه وتترنم به قراءة صحيحة فصيحة، وهي في الصغر، ونرى الإقبال على معاني كلمات القرآن، وعلى تفسير كلام الله عز وجل، وعلى الدروس القرآنية، إنها نهضة قرآنية عظيمة بحمد الله عز وجل، والذي يتأملها يدرك أن الأمر كما قال عز وجل: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، فلابد من أن ندرك هذا، والحمد لله فهذه ظواهر إيجابية.(131/22)
أهمية تعلم القرآن الكريم وفهمه
أحب أن أشير إلى أمرين اثنين مما يتعلق بالشباب وبعموم الملتزمين والصالحين، فهناك أمران مهمان: أولهما: إعطاء القرآن حقه من حيث العلم به والفهم لأحكامه قبل أن تتشعب بك الاهتمامات؛ فإن من الشباب من ينصرف عن رغبة صادقة وعن توجه جيد إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحفظها، ويقول: السنة والأحكام بالسنة.
وهو لم يهتم بكتاب الله عز وجل، فكيف يفهم السنة وهو لم يفهم القرآن؟ وكيف يعرف دلالاتها وارتباطها بكتاب الله وهو لم يفقه كتاب الله من قبل؟! وانظر إلى حكمة عمر رضي الله عنه، كان ينهى الصحابة عن أن يكثروا من رواية الأحاديث في البلاد التي تفتح حديثاً، فقال: (لا تشغلوهم بالسنن عن القرآن حتى يعرفوا كتاب الله عز وجل).
فلابد من أن يُعرف أن القرآن هو الأول، فبعض الناس من حماسهم يندفعون إلى علم من علوم الإسلام، لكن لا يربطونه بالقرآن، ولا ينطلقون إليه بعد القرآن.
وهذا الأمر لاشك أنه أساء كثيراً في فهم هؤلاء، وأوجد عندهم خلطاً، وأوجد عندهم سوء ظن بكثير من الأمور وعدم فهم لها، بل نجد اليوم من يتكلم على حفظة القرآن ومن يتفرغون للحفظ ومن يجودونه، بل يتهمون بعض من يهتمون بالقرآن وحفظه وتلاوته بأنهم لا يفقهون الدين، وبأنهم لا يتبعون الرسول الكريم! فعجباً لهؤلاء القوم كيف عكسوا الأمور وكيف قلبوا الآية! ولذلك ينبغي أن نتنبه لهذا الجانب.(131/23)
ذكر بعض آداب حملة القرآن
الجانب الآخر أنقل فيه نصوصاً تبين مهمة أن القرآن وحمله ليس حفظاً وليس تجويداً وليس تنغيماً بالأصوات، وليس معرفة بالتفاسير فحسب، وإنما القرآن سلوك يغير القلب، ويغير نطق اللسان، فلا يتكلم بفاحش القول، ويغير سمت الإنسان كله، ولذلك أهم شيء في حامل القرآن خُلُقُ القرآن الذي قالته عائشة في وصف الرسول عليه الصلاة والسلام: (كان خلقه القرآن).
ولذلك ينبغي أن نعيب وأن نشدد النكير على حملة القرآن إذا خالفوا نهج القرآن؛ لأن المطلوب منهم أعظم، والواجب في حقهم أكبر.
وأسوق بعض ما ذكره العلماء فيما يتعلق بآداب وأخلاق حملة القرآن، وأكتفي بذكرها، فإن كل جملة منها جديرة -والله- بأن تكون منبهة وفيها ما يهز الإنسان المؤمن المرتبط بكتاب الله أو بحفظه أو بتلاوته؛ لأننا في الحقيقة قد نخطئ ونجرم ونكون قدوات سيئة عندما نقدم للناس من يحفظون القرآن ويجودونه ولكنهم لا يلتزمون أحكامه ولا يتأدبون بآدابه.
يقول صاحب كتاب (آداب حملة القرآن): أول ما ينبغي له -أي: حامل القرآن- أن يستعمل تقوى الله في السر والعلانية باستعمال الورع في مطعمه ومشربه، وملبسه ومسكنه، وأن يكون بصيراً بزمانه وفساد أهله، فهو يحذرهم على دينه، مقبلاً على شأنه، مهموماً بإصلاح ما فسد من أمره، فلا ينشغل بعيوب الناس قبل عيب نفسه، حافظاً للسانه، مميزاً لكلامه، إن تكلم تكلم بعلم إذا رأى الكلام صواباً، وإن سكت سكت بعلم إذا كان السكوت صواباً، قليل الخوض فيما لا يعنيه، يخاف من لسانه أشد مما يخاف من عدوه، يحبس لسانه كحبسه لعدوه؛ ليأمن شره وشر عاقبته، قليل الضحك مما يضحك منه الناس لسوء عاقبة الضحك، إن سُرَّ بشيء مما يوافق الحق تبسم، يكره المزاح خوفاً من اللعب، فإن مزح قال حقاً، باسط الوجه، طيب الكلام، لا يمدح نفسه بما فيه، فكيف بما ليس فيه؟ يحذر نفسه أن تغلبه على ما تهوى مما يسخط مولاه، لا يغتاب أحداً، ولا يحقر أحداً، ولا يسب أحداً، ولا يشمت بمعصية، ولا يبغي على أحد ولا يحسده، ولا يسيء الظن بأحد إلا لمن يستحق.
ثم قال: فالمؤمن العاقل إذا تلى القرآن استعرض القرآن، فكان كالمرآه يرى بها ما حسن من فعله وما قبح منه، فما حذره مولاه حذر منه، وما خوفه به من عقابه خافه، وما رغبه فيه مولاه رغب فيه ورجاه، فمن كانت هذه صفته أو ما قارب هذه الصفة فقد تلاه حق تلاوته، ورعاه حق رعايته، وكان له القرآن شاهداً وشافعاً وأنيساً وحرزاً، ومن كان هذا وصفه نفع نفسه، ونفع أهله وعاد على والديه وعلى ولده كل خير في الدنيا والآخرة.
ومن قول عمر: (ولقد أتى علينا حين وما نرى أحداً يتعلم القرآن يريد به إلا الله، فلما كان بأخرة خشيت أن رجالا يتعلمونه يريدون به الناس وما عندهم، فأريدوا الله بقرآنكم وأعمالكم، وإنا كنا نعرفكم من لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ينزل الوحي، وإنما أعرفكم اليوم بما أقول: من أعلن خيراً أجبناه عليه وظننا به خيراً، ومن أظهر شراً بغضناه عليه وظننا به شراً، سرائركم فيما بينكم وبين الله عز وجل).
ويقول ابن مسعود: (ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبتواضعه إذا الناس يختالون، وبحزمه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يصوتون) إنه رجل حمل كلام الله في قلبه، وحوى أعظم كنز في الوجود في صدره، فلا ينبغي له أن يخوض مع الخائضين، ولا أن يلعب مع اللاعبين، ولا أن يتصف بأخلاق الفاسدين، فالله أسأل أن يجعلنا من أهل القرآن.(131/24)
قصيدة تبين واقع الأمة مع القرآن الكريم
وأختم بقصيدة أخينا الشاعر الدكتور عبد الرحمن العشماوي، وقد صور لنا فيها ما بين كتاب الله وواقع الأمة، وهو يخاطب قارئ القرآن في حفل تخريج دفعة من الجماعة الخيرية في جدة، يقول: يا قارئ القرآن داو قلوبنا بتلاوة تزدان بالتجويد اقرأ فأمتنا ترقع ثوبها بالوهم تخفض رأسها ليهود اقرأ فأمتنا تعيش على الربا تنسى عقاب الخالق المعبود اقرأ لينجلي الظلام عن الربَى وليسمع الغاني زواجر هود اقرأ لينجلي القتام عن الذي أمسى أسير تخاذل وصدود اقرأ ليرجع من بني الإسلام من أصغى مسامعه إلى تلمود اقرأ لعل الله يوقظ غافلاً من قومنا ويلين قلب عنيد اقرأ ليرجع ظالم عن ظلمه ويقر بالإيمان كل جحود اقرأ ليسكت مطرب مترنح قتل الحياء على رنين العود ذبحوا مشاعرنا بكل قصيدة مسكونة بخيال كل بليد إبليس باركهم وسار أمامهم متباهياً بلوائه المعقود اقرأ ليهدأ قلب كل مروع من قومنا وفؤاد كل شريد اقرأ ليسمع كل من في سمعه وقر من الأقصى إلى مدريد اقرأ لتفهم أمتي معنى الهدى معنى بلوغ مقامها المحمود اقرأ ليخرج جيلنا الحر الذي يبني جوانب صرحنا المهدود بالدين بالقرآن لا بثقافة غربية ذو مبدأ مردود يا قارئ القرآن إن قلوبنا عطشى إلى حوض الهدى المورود شنف مسامعنا بآيات الهدى وافتح منافذ دربنا المسدود وأقم من الإخلاص قصراً شامخاً يدني إلى عينيك كل بعيد يا قارئ القرآن لا تركن إلى مدح العباد ومنطق التمجيد قل للذين تنكبوا درب الهدى جهداً ولم يستمسكوا بعهود قل للطغاة ومن مشوا في ركبهم من طامع ومنافق ومريد إن الذي منع الحرام هو الذي شرع الحلال لنا وكل مفيد هذا هو القرآن دستور الهدى فيه الصلاح لظارف وتليد وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(131/25)
الأسئلة(131/26)
تفسير قوله تعالى: ((ما فرطنا في الكتاب من شيء))
السؤال
يقول بعض الشيوخ: إن الناس يفسرون: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] تفسيراً خاطئاً، فالقرآن فيه عمومات، أما التفصيلات فهي جهود عقلانية اجتهادية، فما تعليقكم؟
الجواب
قول الله عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] مقصود به الكليات دون التفصيلات، والتفصيلات ليست مطلقة لعنان العقول المفكرة بلا قيد ولا ضابط، بل لابد من أن يُفهم القرآن أولاً بفهم وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم في ضوء القواعد الكلية، ثم في ضوء اللغة العربية، ثم في ضوء إجماع الصحابة، فلابد من أن يكون مؤسساً على أسس الاجتهاد الصحيح الذي لابد لصاحبه من أن يكون عالماً بكتاب الله عالماً بسنة رسول الله عالماً بلغة العرب عالماً بأسباب القياس عالماً بإجماع الأمة من قبله؛ فليس الأمر مطلقاً هكذا.(131/27)
حكم الخوض في الفتن وذكر بعض أخبار أفغانستان
السؤال
هناك بعض الشباب يخوضون في الفتن ولا يأبهون بها، فمثلاً: أفغانستان وما حدث فيها إذا سُئل أحدهم أجاب وجرح وانتقد، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهل من كلمة لهؤلاء -خاصة حفظة كتاب الله- أن يبتعدوا عن الخوض في الفتن، وأن يدعوا الله أن ينصر المجاهدين؟ وهل هناك أخبار جديدة بشأن اختلاف المجاهدين؟
الجواب
لاشك أن الخوض في الفتن من الأمور المطلوب البعد عنها، لكن إن كان للإنسان علم أو بصيرة أو كلمة مسموعة يرى أن لكلامه أثراً ونفعاً فلاشك أنه يتكلم بموجب ما يرضي الله عز وجل، وبموجب ما يتفق مع شرع الله سبحانه وتعالى.
وأما الأخبار الجديدة فنرجو الله عز وجل أن تكون الاتفاقات الأخيرة خاتمة لكل خلاف وصراع وشحناء وبغضاء في القلوب وفي العقول وفي التصرفات بين إخواننا المجاهدين، وأن تجتمع -إن شاء الله- كلمتهم، وأن تتفق جهودهم لتعلو كلمة الله عز وجل، ولئلا يفجعوا الأمة بعد هذا الجهاد الطويل بهدم هذه المكتسبات، وقد صُرح بوجود الاتفاق على أن يكون رباني رئيس الحكومة، وأن تُعطى للحزب رئاسة الوزراء، ويوقف إطلاق النار، والاتفاق الآن مجمع عليه، ونسأل الله عز وجل أن يثبت، وأن لا يكون هناك من ينقضه، ولا ننسى كذلك أن هناك منتفعين بهذه الفتنة، وأن هناك من يؤججون نارها.
وفي الداخل هناك فئتان: الشيعة والشيوعيون وبقاياهم، ويوجد هناك في الخارج من يدعمون هذه التوجهات بطرف خفي، بالأسلحة وبعض المنشورات، وعلى رأس أولئك الأمم المتحدة ومن يدعمها أو من يوجهها من القوى الغربية، لكن نسأل الله عز وجل أن يكون في هذا الاتفاق ما يمنع وقوع بعض الفتن، ونسأل الله عز وجل أن يحقن الدماء.
والحقيقة أن الأسى قد خالط القلوب، وأن الحزن قد عصر القلوب عصراً شديداً، وكاد كثير من الناس أن يفقدوا الأمل، ولكن المؤمن لا يفقد الأمل، كما قال تعالى: {لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87].
ولاشك أن هذه الفتن هي دروس وعبر، وأن الأمة لم تكن بالقدر من التربية والمقاصد والنوايا الخالصة التي تستحق بها نصر الله، بل عندها قصور، فجعل الله عز وجل لها من البلاء ما يكفر عنها بعض الذنوب ويلقنها بعض ما أخطأت فيه عن المسيرة الإسلامية.(131/28)
حكم وصف الصحابي بالفقر
السؤال
هل يصح أن نقول عن الصحابي بأنه فقير؟ أليس في هذا إساءة أدب مع الصحابة؟
الجواب
إذا لم يذكر ذلك على سبيل التنقص، ولم يذكر أصلاً في وصف الصحابي، وإنما ذكر في وصف الحال وكون الصحابي فقيراً من الدنيا، وأنه غني بالإيمان والتوحيد وصحبة الرسول عليه الصلاة والسلام فليس في هذا بأس، وهذا لا يحتاج إلى مزيد تعليق.(131/29)
حكم وصل الآيات ببعضها أثناء القراءة
السؤال
قرأت في كتاب (مخالفات الطهارة) أن من مخالفات الصلاة وصل الآيات أثناء القراءة في الصلاة، فما مدى صحة ذلك؟
الجواب
السنة النبوية في القراءة -سيما في الصلاة- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف على رءوس الآيات، وأنه كان يفصل القرآن تفصيلاً، وقد قال ابن مسعود -كما في صحيح مسلم - (لا تقرءوا القرآن هذاً كهذ الشعر، ولا يكن همُّ أحدكم آخر السورة).
فينبغي أن يقرأ وأن يفصل، والسنة الوقوف على رءوس الآيات.(131/30)
الخروج من الحرم لتكرار العمرة
السؤال
سمعنا من بعض الإخوة أن كثرة أداء العمرة ليس من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل هذا صحيح أم لا؟
الجواب
تكرار العمرة بحيث يخرج المرء إلى خارج مكة ثم يدخل إليها مرة أخرى وردت فيه الكراهة عند المالكية، وقد نص على ذلك في نص قوي الإمام ابن القيم في (زاد المعاد)، فالإنسان إذا اعتمر فجاء من خارج الميقات بعد أن كان داخله فإنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كرر العمرة في مقام واحد أو من غير أن يكون جاء من خارج الحرم.
وهذا قول المالكية، وذكره ابن القيم، وهو مقتضى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كان في تكرارها والخروج للحل والعودة مرة أخرى فضيلة وخير عظيم لكان الرسول عليه الصلاة والسلام قد فعله وأرشد إليه، فالتزام سنة النبي أولى وأتم وأكمل.(131/31)
علاج قسوة القلب
السؤال
أجد في قلبي قسوة حتى عند قراءة القرآن وعند سماعه، فما توجيهكم؟
الجواب
كلنا ذاك الرجل، ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا لين القلوب والخشية فيها، ولابد من أن الإنسان يستحضر المعاني عند قراءة القرآن وسماعه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن لم تبكوا فتباكوا)، فليستحضر الإنسان هذه المعاني حتى يكون في هذا الجانب خاشعاً مع كلام الله عز وجل.(131/32)
ترتيب سور القرآن وآياته توقيفي
السؤال
على أي أساس رتبت سور القرآن؟
الجواب
القول الذي فيه إجماع أن القرآن رتب ترتيباً بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الترتيب توقيفي لا اجتهاد فيه، ولذلك لم يحصل اختلاف في ترتيب آية ولا سورة ولا موضع كلمة في كتاب الله عز وجل.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(131/33)
القرآن والحياة [2]
هناك مهمات ينبغي على المسلم أن يعلمها وهو يسير إلى الله تعالى، أهمها معرفة عظمة هذا الدين، ومعرفة عظمة النبي المرسل صلى الله عليه وسلم، ومعرفة حسن الصلة بالله جل جلاله، ومعرفة حقارة الدنيا؛ كل هذه الأمور يصل العبد بإدراكها إلى القوة في الدين وبلوغ أعالي التربية الإيمانية الحقة.(132/1)
أهمية معرفة عظمة الدين
الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، وعظمت صفاته، بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، من سأله أعطاه، ومن التجأ إليه كفاه، ومن توكل عليه حماه.
نحمده سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا جميعاً لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن الوحي والرسالة والدين والإيمان خطب جليل، وحمل ثقيل لابد من أخذه بقوة ومن حمله بأمانة ومن أدائه بكفاءة، ولذلك الخطاب للرسل والأنبياء وأقوامهم وأممهم أن يأخذوا دين الله بقوة، وأن يكون الدين عظيماً في القلوب والنفوس، مقدماً في الواقع والممارسة.
وهذا الحديث له أهميته بالنسبة لنا جميعاً، لا يختلف في ذلك رجل عن امرأة، ولا شاب عن شيخ، ولا عالم عن عامي؛ لأننا جميعاً مسلمون، ولأننا جميعاً مكلفون، ولأننا جميعاً من بعد بين يدي الله محاسبون كل بحسبه وكل وفق طاقته وقدرته، كما قال جل وعلا: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
إنها الطريق إلى القوة في الدين، فكيف نصل إلى هذه المرتبة؟ وكيف نعالج ضعف اهتمامنا بديننا وقلة غيرتنا عليه وعدم استنفاد طاقتنا في سبيله؟ هذه معالم أحسب أن فيها شيئاً من الذكرى والعظة.
أولاً: معرفة عظمة الدين: إن كل أمر يكون اهتمامك به بقدر عظمته، وبقدر كماله، وبقدر ما فيه من النفع والفائدة المعنوية والحسية، فهل هناك ما هو أعظم من دين الإسلام؟! قال عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] فهذه آية عظيمة سبقها إشهاد الله سبحانه وتعالى ملائكته، وإقراره جل وعلا بشهادته سبحانه وتعالى بوحدانيته، ثم بالتثبيت والتوكيد على أن الدين عنده هو الإسلام، والمقصود أن الدين المقبول عند الله عز وجل هو الإسلام، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، هذا الدين أكمله الله سبحانه وتعالى وأتم به النعمة، كما قال عز وجل: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فهل هناك أعظم مما أكمله الله جل وعلا وأحكمه؟ وهل هناك أفضل وأنفع وأصلح مما اختاره الحق سبحانه وتعالى ورضيه؟ فما بال القلوب والعقول لا تلتفت إلى هذا التعظيم؟ قال عز وجل حاكياً عن يعقوب عليه السلام: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، فهذا الدين هو اختيار الله لنا، وهو هدايته إلينا، وهو الذي أراد به فلاح دنيانا ونجاة أخرانا، فذلك أعظم نعم الله على الإطلاق، وذلك أجل وأكمل وأبلغ فضل من الله عز وجل علينا؛ لأن هذا الدين هو الدين الخاتم الذي أراد الله عز وجل به لنا كل ما يبحث عنه غيرنا ممن ضل عن هذا الدين أو ممن فرط في التمسك به وتعظيمه وتقديمه، قال عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125].
ولا تعرف النعم إلا بأضدادها، فانظر إلى الناس من حولك، وانظر إلى الكفرة والفجرة البعيدين عن حياض الإيمان وظلال الإسلام، أليسوا قد ملكوا متع الدنيا وشهواتها؟! أليس بأيديهم أسباب السعادة الدنيوية بكل ألوانها؟! ثم من بعد ألا ترى ضيق صدورهم؟! ألا ترى كدر وجوههم؟! ألا ترى شقاء حياتهم؟! ألا ترى فقدان أمنهم؟! ألا ترى انحلال أخلاقهم؟! ألا ترى ضياع أبنائهم؟! ألا ترى سواد وجوههم وحياتهم؟! قال عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126].
إنها مسألة مهمة؛ لأن الله جل وعلا قد ساقها لنا في سياق المقارنة فقال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22] فانتبه لهذا المعنى، وتدبر هذه المقارنة، قال سبحانه: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22] إن نعمة الإسلام انشراح الصدر، وطمأنينة القلب، وسكينة النفس، ونور البصيرة، ومعرفة الحق، واكتشاف التباس الباطل، إنه كل ما يريده الإنسان من راحة باله، وسعادة نفسه، ولذة روحه، إنه الذي يبحث عنه كل إنسان حي في هذه الحياة الدنيا ليجد ما تسكن به نفسه ويطمئن به قلبه.
ثم انظر إلى المقابلة التي جاءت في سياق عطف مباشر في قوله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] فمن لم يأخذوا هذا الإسلام فهم قساة قلوب غلاظ أكباد، لا يعرفون حقيقة حقوق الإنسان، ولا يقيمون العدل ولا يلتفتون إليه، تتكشف بذلك الحقائق، وتتعرى هذه الحقائق عن بهارجها وزخارفها وأقوالها الباطلة ودعاياتها المضللة، ثم يخبرنا الحق سبحانه وتعالى بأن هذا المصير وهذا المسلك هو الضلال المبين الواضح، فكم نحن في نعمة من الله سبحانه وتعالى، بل قد جاء المثل القرآني بأبلغ تصوير وأجل وأدق تشبيه في قوله عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] ذلك هو مثل ما من الله به علينا، ومثل العظمة والمنة التي ساقها الله إلينا، يوم شرح صدورنا بالإسلام، فأصبحنا أحياء قلوب ونفوس، وغيرنا أحياء بالأجساد والأشباح، وقلوبهم مظلمة، ونفوسهم ميتة، ولذلك يسيرون متخبطين في ظلمات بعضها فوق بعض، لا يرون الحق والهدى، ولا تنكشف لهم أنوار البصر والبصيرة.
إذا أدركنا ذلك فإننا نستحضر المزيد والمزيد من عظمة ديننا، ومن عظمة منة الله عز وجل علينا بهدايتنا لهذا الدين.
أفلا يستحق هذا الدين العظيم أن نعلق به قلوبنا، وأن نجعله نصب أعيننا، وأن نجعله قائدنا في مسيرتنا، وحاكمنا وضابطنا في تصرفاتنا كما ينبغي أن يكون الدين الحق في حياة أمة الإسلام والمسلمين؟! فالأمر أوسع من أن تحيط به كلمات.
ولنقف مع عظمة القرآن، وكلام رب الأرباب وملك الملوك جبار السموات والأرض، قال عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] وقال عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} [الإسراء:82] فالقرآن شفاء حيرة العقول، وشفاء اضطراب القلوب، وشفاء شقاء النفوس، وشفاء أمراض الأبدان، كل ذلك في القرآن الذي هو بين أيدينا مطبوع في أحسن الحلل، مسموع بشتى الأصوات، لكن أين مكانه؟! وأين وجوده في واقع حياتنا؟! وأين تعظيمه إذا تلي علينا وإذا سمعنا أمره ونهيه؟! ألم نستمع لقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إذا سمعت (يا أيها الذين أمنوا) فأرعها سمعك فإنها إما أمر تؤمر به أو نهي تنهى عنه)؟! ألم نعرف ما قاله الحسن البصري رحمه الله: (إن القرآن رسائل من الله إليكم، فاقرءوا رسالته وعظموها حق قدرها)؟! وهذا باب واسع.(132/2)
أهمية معرفة عظمة النبي صلى الله عليه وسلم
ثم لابد من معرفة عظمة خير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، النعمة المسداة، والرحمة المهداة، خير خلق الله، وخاتم رسل الله صلى الله عليه وسلم، أليست هذه منة عظمى من الله علينا أن بعث فينا ولنا محمداً صلى الله عليه وسلم الذي اصطفاه من خلقه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (فأنا خيار من خيار من خيار)، والذي قال الله عز وجل في حقه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]؟! ألا نقدر جهاد رسولنا قدره؟! ألا نعرف كيف بلغنا دينه وكيف نقل لنا كلام الله عز وجل؟! وكيف كانت شفقته العظيمة، وقلبه الرقيق الرحيم، كما قال عنه عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]؟! أفليست عظمة رسولنا صلى الله عليه وسلم جديرة بأن نعظم أمره ونهيه وسنته ودينه الذي حمله إلينا وقرآن الله جل وعلا الذي بلغه إيانا، أم أننا نريد الانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجرد ذكره أو مدحه، أو بمجرد ذكر بعض مناقبه ومآثره عليه الصلاة والسلام؟! إن الأمر أعظم من ذلك، وإن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وإن آل بيته الأطهار عندما كانوا معه فعلوا الأعاجيب، ذادوا عنه بصدورهم، وجعلوها دروعاً وتروساً تتلقى الرماح والسهام والسيوف، وأحدهم يقول: نحري دون نحرك يا رسول الله.
كذلك فعلوا، ولقد شرقوا وغربوا وبلغوا دينه وحملوا رسالته وأقاموا سنته وحاربوا كل من نقض دينه، أليس هذا هو الذي فعله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟! فهذا تابعي يخاطب حذيفة بن اليمان أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين: كيف كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أي: كيف كانت حياتكم معه.
قال: (كنا -والله- نجهد) أي: نتعب.
فلم تكن المسألة سهلة، ولم يكن غرضهم وفرحهم بمجرد وقوفهم إلى جانبه صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا يبحثون عن فخر ظاهري، بل كانوا يعلمون أن صحبته لها ضريبة، وأن الانتساب إلى أمته له شرف لابد من أدائه، قال: (كنا نجهد) فقال ذلك التابعي بغلبة حب وفيض عاطفة: (والله لو كنا معه ما تركناه يمشي على الأرض) أي: لحملناه على أعناقنا.
لقد كان يعبر بصدق، فقال له حذيفة: (لو كنت معنا يوم الأحزاب، يوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يأتيني بخبر القوم.
فلم يقم أحد، وفي القوم أبو بكر وعمر، فقال: من يأتيني بخبر القوم وأضمن له الجنة.
فلم يقم أحد، وفي القوم أبو بكر وعمر، حتى قال رسول الله: قم يا حذيفة.
فلم أجد بداً من ذلك) إنها مراحل عصيبة وأوقات رهيبة ومحن ممحصة دخل فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا معه، وكان في مقدمتهم.
وهذه العظمة كلها في دين الله، وفي كتاب الله، وفي ذات وشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا تستحق أن تكون أعظم شيء في حياتنا، وأن تكون هي شغلنا الشاغل ومحور حياتنا الذي تدور فيه كل مجالات حياتنا وخواطر عقولنا ومشاعر نفوسنا وجهدنا في أبداننا وأوقاتنا وغير ذلك؟!(132/3)
أهمية معرفة حقارة الدنيا وحقيقتها
أنتقل إلى أمر ثانٍ، وهو معرفة حقارة الدنيا وحقيقتها، فما الذي ينافس ديننا؟ وما الذي يشغلنا عن قرآتنا؟ وما الذي يصرفنا عن هدي وسنة وسيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم؟ أليس الصفق في الأسواق؟! أليس اللهو والبحث عن الشهوات؟! أليس التنافس على فتات الدنيا؟! قال عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد:20] ثم ماذا من بعد ذلك كله؟ {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد:20] ثم ما هو الأمر من بعد الدنيا كلها؟ آخرة وحساب وثواب أو عقاب، جنة أو نار، فهل تساوي هذه الدنيا أن تكون هي المقدمة وهي التي سكنت النفوس وتربعت على عروش القلوب؟ وهل يصح عندك -أيها المؤمن! يا من سمعت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) - أن تكون الدنيا أوكد همك وأعظم شغلك؟ ألم تستمع لحديث المستورد بن شداد رضي الله عنه عندما يخبره النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا كلها ومتاعها لو أن الله أعطاها كل من سألها من بر وفاجر لا تنقص من ملك الله إلا كما يغمس أحدكم المخيط في ماء البحر ثم يخرج به)؟ أليس الرسول صلى الله عليه وسلم قد ضرب المثل لأصحابه من نفسه وضربه في المواقف المتنوعة فقال: (ما لي وللدنيا؟ إنما أنا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم قام وتركها)؟! أليس هو الذي صلى فتعجل في صلاته صلى الله عليه وسلم، ثم سلم وانفتل وخرج مسرعاً وغاب شيئاً من الوقت، ورجع فرأى السؤال على وجوه أصحابه، فقال: (ذكرت شيئاً من تبر -أي: من ذهب- فخشيت أن يحبسني، فأنفقته في سبيل الله)؟! أليس هو الذي مات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي؟! فهل هناك من هو أعظم أو أشرف من محمد صلى الله عليه وسلم.
وهو الذي لو أراد أن يدعو الله فيحيل له الصفا والمروة ذهباً لاستجاب الله له؟! أليس هو الذي قد جاء فيما صح في لحظات وفاته قوله: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى)؟! ألم يخير بين هذه الدنيا وزينتها واللحاق برفيقه الأعلى سبحانه وتعالى فاختار أن يكون إلى جوار خالقه ومولاه سبحانه وتعالى؟! فما بال الأمور تغيرت؟! وما بال الأحوال تبدلت؟! ألسنا نحتاج إلى مثل هذه المحاكمة النفسية والعقلية والقلبية لنتدبر أمورنا ونلتفت إلى أحوالنا؟! ولو أردنا أن نفيض لوجدنا الكثير، ولرأينا كيف بكى عمر رضي الله عنه في موقف من المواقف المؤثرة المعبرة، يوم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم خير خلق الله قاطبة، فإذا به مضطجع على حصير ليس بينه وبينه شيء، فلما قام إذا الحصير له أثر في جنبه، فبكى عمر رضي الله عنه -أي: لأن هذا العظيم على هذه الحالة- فقال صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك يا عمر؟! قال: ملوك فارس والروم في النعيم المقيم والدنيا المزينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير يؤثر في جنبه!)) -لقد رأى ذلك عمر فعز عليه مع عظمة المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يكون هذا حاله- فقال له عليه الصلاة والسلام: (أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم) فهو المعلم الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولم يكن شيء عنده عظيماً إلا أمر الله ودين الله ورسالة الله، وما وراء ذلك قيمته متأخرة، وحقيقته كما شبه ونبه وذكر أصحابه عندما مر بجدي ميت أسك -أي: مقطوع الأذن- فقال: (من يشتري هذا بدرهمين؟ فلم يتكلم أحد، فقال: من يشتريه بدرهم؟ فتكلم بعض الصحابة وقالوا: يا رسول الله! لو كان حياً لكان عيبه مانعاً من شرائه.
فقال: والله للدنيا على الله أهون من هذا على أحدكم) لقد صور النبي ذلك تصويراً بليغاً بلسان الحال ولسان المقال وبضرب المثال، وبعد ذلك كله احسب كم من أوقاتنا لدنيانا؟! وكم من فكرنا وشغلنا لدنيانا؟! وكم من همنا وغمنا وحزننا لدنيانا؟! وكم في مقابل ذلك لديننا وأمتنا ودعوتنا؟! أحسب أنها قسمة ليست عادلة، وأنها مرجوحة إلى ما لا ينبغي أن يكون راجحاً.(132/4)
أهمية معرفة سنن الله عز وجل الكونية
ننتقل إلى أمر ثالث، وهو معرفة سنن الله سبحانه وتعالى.
فلا ينبغي أن يدب اليأس إلى النفوس بحال من الأحوال إذا تعلقت القلوب بالله وإذا عرفت سنته الماضية، قال عز وجل: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] فليس هناك لأمة الإسلام هزيمة ماحقة ولا استئصال تام أبداً قطعاً ويقيناً، فقد قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء الذي دعا به لربه ومولاه أن لا يستأصل أمته بسنة بعامة، ثم كذلك الشرط مربوط بمشروطه، وذلك في قوله عز وجل: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، وقوله سبحانه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]، وقوله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17].
فنحن نستطيع أن نغير وجه الدنيا كلها، ونستطيع أن نقيم أعلام ديننا وننشر راياته في شرق الأرض وغربها، ونستطيع أن نواجه كل الأعداء مهما بلغت قواهم إذا أخذنا بهذه السنن، قال عز وجل: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43] وقال سبحانه: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62] إنها مسألة مهمة تجعلنا أقوى ارتباطاً بديننا، وأشد تمسكاً به، وأعظم يقيناً بنصره وعزه وانتشاره، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى لا يكون بيت شجر ولا حجر ولا مدر إلا ودخله الإسلام، بعز عزيز أو بذل ذليل) ذلك هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يقول: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] وهذه مسألة مهمة في قوة ديننا ويقيننا بديننا بإذن الله سبحانه وتعالى.(132/5)
أهمية معرفة سير الأنبياء والعلماء والدعاة والصالحين
الأمر الرابع -وهو مهم جداً- معرفة سير الأنبياء والعلماء والدعاة والصالحين.
أولئك الذين جعلوا أرواحهم على أكفهم، أولئك الذين سخروا أموالهم لدينهم، أولئك الذين جعلوا حياتهم كلها نموذجاً مثالياً لأمر الله ولأمر وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى رسل الله وإلى أنبيائه، ألم يقف موسى عليه السلام وأمامه البحر ومن خلفه فرعون وجنوده في لحظة من اللحظات التي سدت فيها الأبواب وأظلمت الدنيا وانقطعت الأسباب؟ فقال قومه وهم ليسوا على مثل إيمانه ويقينه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] وجاءوا بالصيغة المؤكدة، أي أنه لا مجال للنجاة مطلقاً، فجاء جواب اليقين ولسان الإيمان: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] أي: لن تكون هذه هي النهاية؛ لأن وعد الله لم يتم، ولأن سنته لا تكون كذلك، فأي شيء كان بعد؟ قال عز وجل: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63] فنجا موسى ومن معه، وغرق وهلك فرعون ومن معه في لحظات؛ لأن القوة الإيمانية واليقينية عند موسى عليه السلام كانت تمثل هذه القوة التي نبحث عنها وندعو إليها ونتواصى بها ليعود البحر من جديد فينفلق؛ لأن سنة الله واحدة، وإن تغيرت الصور والأشكال.
وهذه قضية مهمة، وليس ذلك في شأن الرسل والأنبياء فقط، لكننا نأخذ العبرة الأولى منهم، قال عز وجل عن نوح عليه السلام: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات:75] فلمَ كانت الإجابة؟ لأن نوحاً عليه السلام دعا ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولأن نوحاً دعا سراً وجهاراً، ولأن نوحاً لقي العناء وصبر، ولأن نوحاً عليه السلام لم يكن معه إلا قلة قليلة، وثبت على دين الله ونسي دنياه، ومع ذلك جاءته النتيجة الخاتمة لهذا كله كما قضى الله سبحانه وتعالى، وهكذا نمضي فنرى هذا على ما هو عليه.
نسأل الله عز وجل أن يعظم الإيمان واليقين في قلوبنا، وأن يجعل ديننا وإسلامنا أوكد همنا، وأعظم شغلنا، وأعظم ما نُعنى به؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(132/6)
أهمية حسن الصلة بالله عز وجل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أجل وأبرز صور التقوى أن يكون الدين مقدماً على كل شيء معتنىً به، وهو الذي ينبغي أن يكون كذلك في واقع حياتنا، ولعلي أشير إشارة خاتمة في هذا المقام هي بمثابة ما يذكرنا بما مضى كله، ويعيننا عليه بإذن الله عز وجل كله، إلا وهو حسن الصلة بالله إخلاصاً وتجريداً لتوحيده سبحانه وتعالى، وصدقاً في التوكل عليه، ودواماً في الإنابة إليه، واستحضاراً لمراقبته إيانا، وحياءً من مخالفتنا إياه، كل هذه المعاني هي التي تجعل الدين والقرآن والسنة في قلوبنا حية حاضرة، فإذا جاءت النقمة أو حلت الفتنة فلا صارف لها إلا الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل عن يوسف عليه السلام: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} [يوسف:34] وكلما عظمت الخطوب أو اشتدت الكروب فلا فارج لها إلا الله، كما قال عز وجل: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] وقال سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62] كلا والله! فينبغي أن نعظم الإيمان به سبحانه وتعالى، وأن نجرد التوحيد له جل وعلا، فلا تعلق بغيره، ولا دعاء ولا استعانة ولا استغاثة بغيره، ولا تعويل ولا توكل ولا اعتماد ولا ثقة بغيره سبحانه وتعالى، ولا خوف ولا رهبة ولا رجوع إلا من خوفه سبحانه وتعالى، ويوم نجاهد أنفسنا في ذلك ونستعين الله عز وجل فيه يكون لنا أثر عظيم في كل ما سبق، ولا شك أن من حسن الصلة بالله حسن عبادته، فلماذا المساجد قد خوت من المصلين؟! ولماذا المصاحف قد جانبها القارئون والتالون؟! وهكذا لعلنا نراجع أنفسنا ونحن نعلم اشتداد الخطوب وتعاظم الكروب، ولكننا نوقن أن التغيير لا يكون إلا وفق منهج الله عز وجل، ووفق ما جاء وفعله رسوله صلى الله عليه وسلم يوم ربى وغرس الإيمان في القلوب، واصطفت وراءه الصفوف بالصلاة، وصبر وكظم غيظه يوم لم تكن عنده قوة، ثم أنزل الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]، فانبرى النبي صلى الله عليه وسلم لإعلاء كلمة الله ونشر دين الله ورفع راية الجهاد في سبيل الله، ففتح الله عز وجل له القلوب، كما فتح له الدور والبلاد.
وهكذا تدور الدورة مرة أخرى، وهي تبدأ حقيقة من الأم التي ترضع ابنها وتغذيه وتعلمه وتربيه على معاني الإيمان والإسلام، إنها حينئذ تعد أسلحة أقوى من الأسلحة الذرية التي يخوفوننا بها؛ لأنها تعد أسلحة الإيمان واليقين، وأسلحة الإسلام والخلق، وأسلحة العمل الصالح، وأسلحة الدعاء المستجاب، إنها حينئذٍ تجعل لنا في كل بيت ثكنة إيمانية إسلامية عظيمة لا يمكن بحال من الأحوال أن تهزم في مواجهة أو ميدان.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعظم الإيمان في قلوبنا، وأن يعيد اليقين في نفوسنا، وأن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب.
اللهم! طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، واهد بصائرنا، وحسن أقوالنا، وأصلح أعمالنا، وخلص نياتنا، واجعلنا من عبادك الصالحين، واكتبنا في جندك المجاهدين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم! اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم! اجعل آخر كلامنا من الدنيا (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وأحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا رب العالمين.
اللهم! إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، وان تجعلنا هداة مهديين.
اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وأقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا يا رب العالمين.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه.
اللهم! إنا ندرأ بك في نحور أعدائنا، ونعوذ بك -اللهم- من شرورهم.
اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميراً عليه.
اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك.
اللهم! اقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، وفرق كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، ورد كيدهم في نحرهم، واجعل بأسهم بينهم.
اللهم! يا رب العالمين! انزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، أرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك، وانتقم لنا منهم، واشف فيهم صدور قوم مؤمنين، عاجلاً غير آجل يا رب العالمين.
اللهم! أقر أعيننا بنصر الإسلام والمسلمين.
اللهم! رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين والمضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في العراق وفي فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين.
اللهم! امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، وقو وحدتهم، وأعل رايتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
اللهم! اجعلنا من عبادك الصالحين، واكتبنا من ورثة جنة النعيم.
اللهم! اجعل بلدنا آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، أخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(132/7)
القرآن والحياة [3]
الدين الإسلامي دين عظيم، وأمانته جسيمة ورسالته ثقيلة، ولا يمكن لأحد أن ينال شرف حمل الأمانة ونشر الرسالة وهو نائم ملء عينيه، آكل ملء بطنه، غارق في شهواته، بل لابد من صبر وتحمل للمشاق والمصاعب، وبذل للغالي والنفيس في سبيل هذا الدين.(133/1)
أهمية القوة في الدين
الحمد لله الذي أسبغ علينا نعمه، وأسدل علينا ستره، وأعاننا على ذكره، ووفقنا لشكره، له الحمد سبحانه وتعالى ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، وله الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبينا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أرسله إلى الناس كافة أجمعين, وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا جميعاً لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن القوة في الدين مسألة مهمة نحتاج إلى بيانها والتذكير بها والتواصي على العمل بموجبها؛ لأن واقعنا اليوم يدعونا إلى ذلك بأعظم وأكثر الدعوات إلحاحاً وقوة، فينبغي لنا -أولاً- أن نفهم المراد بالقوة في الدين، وأن نعرج على صور ومجالات هذه القوة في ميادينها المختلفة، ثم نأخذ الوسائل المعينة على ذلك والموصلة إليه بعون الله سبحانه وتعالى.
فدين الإسلام هو الدين العظيم، الدين الخاتم الذي أنزله الله على الرسول الكريم العظيم صلى الله عليه وسلم، فختم به الرسالات، وأتم به النعمة، ورضيه للبشرية ديناً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلابد من أن ندرك عظمته، وأن نعرف قيمته، وأن نستشعر أهميته، وأن نوقن بفائدته وبثمرته وبحاجتنا إليه في دنيانا وبنفعه وخيره في أخرانا، ليكون من بعد هو قطب رحى حياتنا، ومحور خفقات قلوبنا ومشاعر نفوسنا وكلمات ألسنتنا وخواطر عقولنا وحركات جوارحنا، وليكون هذا الدين هو الذي يظهر في واقعنا في كل حركة وسكنة في مواقفنا مع إخواننا وأحبابنا، ومع خصومنا وأعدائنا، وليكون الدين -كما أراد الله سبحانه وتعالى- هو جوهر هذه الحياة، وهو المؤهل للنجاة فيما وراء هذه الحياة.(133/2)
ثقل الدين وعظمته
ليس الدين أمراً سهلاً أو تافهاً والعياذ بالله! فأين مكانه من اهتمامنا؟! وأين وضعه في سلم أولوياتنا؟! وأين هو من همنا وغمنا؟! وأين هو من فكرنا وشغلنا؟! وأين هو من وقتنا وجهدنا؟! وأين هو من بذلنا ومالنا؟! وأين هو من أرواحنا ونفوسنا؟! أما إن الدنيا ومشاغلها والأهواء وجواذبها قد نازعت الدين فأخرته حتى جعلته وراءنا ظهرياً، فنحن اليوم لا نهتم أو نغتم به ولا نفكر أو ننشغل في أموره وأحواله، ذلك أمر أحسب أن الحق فيه واضح جلي، وأن المصارحة لكل أحد فيما بينه وبين نفسه تكشف حقيقة تحتاج إلى مراجعة وتقويم لننطلق إلى تصوير هذه القوة في الخطاب القرآني لسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم أشرف الناس نفساً وأثبتهم قلباً وأقواهم يقيناً وأعظمهم إيماناً، الذي خاطبه الله جل وعلا فقال: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5] فليس الأمر بالهين، وليس مسألة عارضة ولا مهمة خفيفة.
قال ابن عطية في تفسيره عند هذه الآية: قال حذاق العلماء: ثقل المعاني من الأمر بالطاعات والتكاليف الشرعية من الجهاد ونحوه، ومزاولة الأعمال الصالحة دائماً.
ثم نقل عن الحسن البصري قوله: الهذ خفيف، ولكن العمل ثقيل.
أي أن تهذ بلسانك، وأن تدعي بقولك، وأن تتشدق بكلماتك، وأن تغر الناس بمظهرك، كل ذلك سهل، وللأسف أن كثيراً من أبناء أمتنا اليوم يحسنون القول ولا يجيدون العمل، فالعمل ثقيل.
ونقل البغوي عن الفراء في قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5] قال: هو ثقيل ليس بالخفيف والسفساف؛ لأنه كلام ربنا.
أليس الدين هو كلام الله؟! فهل هناك ما هو أعظم وأثقل وأجل من كلام رب الأرباب وملك الملوك سبحانه وتعالى؟! لو جاءتنا رسالة من أمير أو مسئول لفرحنا بها، ولعظمنا أمرها، ولرفعنا من شأنها، ولكن كلام ربنا وآياته المنزلة وأحكامه المشرعة لا تنزل من القلوب منزلها، ولا تنال من التشريف والتعظيم حقها! ونقل ابن الجوزي عن الزجاج أنه قال: قول ثقيل أي: له وزن في صحته وبيان نفعه، كقولك: قول رصين.
أي: ثقيل له مضمون وله نفع وفائدة وله مغزى وله قيمة.
فقوله سبحانه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، أي: أن العمل به ثقيل في فروضه وأحكامه.
وكذلك أراد الله جل وعلا في شأن نبينا صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين الأمرين: الثقل المعنوي الذي سنجليه ونوضحه، وكذلك الثقل الحسي، فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي علته الرحضاء، كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (إن كان لينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد وإن جبينه ليتفصد عرقاً) وقد روى زيد بن ثابت: (أنه نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذه، قال: فكادت فخذه أن ترض فخذي)، وكان صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي وهو على ناقته بركت به الناقة من ثقل الوحي، وكان يرى ثقل الوحي عليه صلى الله عليه وسلم، وعندما نزل جبريل لأول مرة بالوحي هل كان نزوله خفيفاً هيناً؟! وهل كان سهلاً؟! إنه نزل عليه وهو في خلوة وحده، ثم راعه بمفاجأته، ثم قال له: (اقرأ) فلما قال: ما أنا بقارئ قال عليه الصلاة والسلام: (فأخذني فغطني -أي: ضمني- حتى بلغ مني الجهد -أي: التعب والشدة- ثم أرسلني فقال: اقرأ.
قلت: ما أنا بقارئ.
قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، ثم الثالثة كذلك) لأن أمر الدين عظيم، ولأن رسالته ثقيلة، ولأن أمانته عظيمة، فلا يمكن أن تتلقاه وأنت تريد ركوناً إلى دنياك، واستمتاعاً بشهواتك، ورضوخاً إلى أهوائك، واستسلاماً لضعفك، واستمساكاً بحياتك.(133/3)
تعريف الأمانة وأقسامها
انظر إلى الصورة القرآنية الأخرى والعظمى في قوله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] فأي أمانة أعظم من هذه الأمانة التي تخلت عن حملها السماوات السبع والأرضون السبع والملائكة المسبحة بحمد الله، والجبال الراسخة وحملها الإنسان؟! إنها أمانة التكليف بالأوامر والنواهي، والأخذ بدين الله، والقيام بأمره، وترتب على ذلك الشرط ثواب على الإحسان، وعقاب على الإساءة، ورفعة عند الرحمن لمن قام بذلك وأدى واجبه، أو دنو وسفل وسخط وغضب من الجبار لمن خالف وأخلف، نسأل الله عز وجل السلامة.
وابن كثير بعد أن سرد أقوالاً من أقوال السلف في شأن هذه الأمانة قال: أقوالهم متفقة وراجعة إلى أنها التكليف بقبول الأوامر والنواهي بشرطها.
وقال السعدي مؤكداً هذا المعنى: الأمانة التي ائتمن الله عليها المكلفين هي امتثال الأوامر واجتناب المحارم في حال السر والخفية كما في العلانية.
ثم بين ما يتعلق بالآية التي بعدها فقال: فانقسم الناس بحسب قيامهم بها -أي: بهذه الأمانة- إلى ثلاثة أقسام: منافقون أظهروا أنهم قاموا بها ظاهراً لا باطناً، ومشركون تركوها ظاهراً وباطناً، ومؤمنون قائمون بها ظاهراً وباطناً، ومن هنا جاءت الآية التي بعدها: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:73]؛ لأن الذين قبلوا الأمانة واجتهدوا فيها قد يقصرون، وقد يخطئون، وهذه من طبيعة البشر، فمنَّ الله عليهم بتوبته لما صدقوا في أداء أمانته وأخلصوا دينهم ونيتهم في القيام بواجبهم لربهم سبحانه وتعالى.(133/4)
أوامر الله عز وجل وخطابه الأمم السابقة
ثم انظر إلى ما يقص علينا القرآن وما يبسطه لنا من شأن الأمم السابقة، وكيف كانت أوامر الله لهم، وكيف كان خطابه للرسل والأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم، كقوله سبحانه: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12] فليس في دين الله هزل ولا لعب، ولا يليق بمسلم تتنزل عليه آيات القرآن التي بلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون لاهياً عابثاً غارقاً في شهواته ليس لديه أمانة يحملها ولا مهمة يؤديها ولا رسالة يبلغها ولا دعوة ينشرها ولا إيمان ينافح عنه ولا يقين يستمسك به، فذلك أمر مهم (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) أي: بجد واجتهاد.
وذلك بالاجتهاد في حفظ ألفاظه وفهم معانيه والعمل بأوامره ونواهيه، فهذا هو تمام أخذ الكتاب بقوة.
وانظر إلى هذه الكلمات: حفظ ألفاظه، وفهم معانيه، والعمل بأوامره.
ذلك هو الواجب، وتلك هي الأمانة.
قال ابن عطية: العلم به والحفظ له والعمل به والالتزام بلوازمه.
فأين نحن من ذلك؟! هل أخذنا الدين بقوة؟! هل حملنا الكتاب بقوة؟! هل أوجدنا في أنفسنا تهيؤاً نفسياً لتحظى آيات الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأوامر الدين وشرائعه ومهماته وقضاياه بالأولوية في حياتنا والتأثير الأبلغ في نفوسنا وقلوبنا والانشغال الأكبر في عقولنا وأفكارنا؟! ثم انظر كذلك إلى الخطاب الذي كرره الله جل وعلا في غير ما آية في قصة بني إسرائيل، وهم الذين جعلهم الله لنا عبرة نرى مواطن الخلل التي كانوا عليها لنجتنبها، ونرى بعض ما وفق الله عز وجل له المخلصين والصالحين منهم لنكون على أثرهم وعلى أثر الكمال الأعظم الذي جاء به بعد ذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم.
ألم يخاطب الله جل وعلا بني إسرائيل بقوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63]؟! وقد خاطب قبل ذلك موسى عليه السلام بقوله: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ} [الأعراف:144] أي: بقوة.
وقوله: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) قال ابن عباس: بجد واجتهاد.
وقيل: كثرة درس.
وقال ابن زيد: معناه: بتحقيق وتصديق.
وقال ابن عطية: بعزم ونشاط وجد.
وقال البغوي: بجد واجتهاد ومواظبة.
وزاد السعدي: وصبر على أوامر الله.(133/5)
وجوب الصبر في تحمل الدين
إنه أمر العمل، وقبله أمر الفهم والعلم، ومعه أمر الاستقامة والمواظبة، ويحدو ذلك كله الصبر والمصابرة والمجاهدة، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:1 - 7].
فلنصبر في حمل دين الله، ولنثبت في المواقف الممحصة، أما أن نختار الذي هو أدنى ونرضى بالركون إلى الأرض والخلود إلى الدنيا فهذا لا ينبغي، قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] فما الذي ترضاه لنفسك؟ وأين أنت من نبيك صلى الله عليه وسلم وأشراف أمتك من علمائها وقوادها وأخيارها ودعاتها وصلحائها؟ فهل نريد أن نكون مع العابثين المغنين الراقصين؟! وهل نريد أن نكون مع اللاعبين المحترفين والمحترقين؟! وهل نريد أن نكون مع السادرين الغافلين النائمين؟! إن أمتنا تذبح كل يوم ألف مرة، وأعراضها تنتهك في كل قطر، وأحوالها تدعو إلى أن تتحرك القلوب وأن تحيا النفوس وأن تستيقظ العقول وأن تتحرك الهمم وأن ترتفع وتشحذ العزائم، فأين أنت من ذلك؟ تأمل أخي المسلم حالنا لو أننا أخذنا ديننا بقوة، ولو أننا حملنا أمانتنا بعزم، ولو أننا تأسينا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ألا نعرف ما كان يقوله، بل ما كان يفعله، بل ما تجلى في مواقف سيرته يوم خرج مهاجراً طريداً من مكة، ويوم كسرت رباعيته وسال الدم على وجهه الشريف وهو يقول: (اللهم! اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) ويوم ربط حجرين على بطنه من شدة الجوع في يوم الأحزاب؟! أما رأينا كيف مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشدائد المعنوية والحسية؟ أما رأينا قوة يقينه وعظمة إيمانه وشدة ثباته وزهده في دنياه وتعلقه بأخراه؟! أما رأينا كيف حمل الصحابة من بعده الأمانة، وكيف استشعروا ثقل المسئولية؟! أما سمعنا في سيرة أبي بكر رضي الله عنه قوله: (كيف ينتقص هذا الدين وأنا حي؟! والله لو منعوني عقال بعير كان يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم ولو كنت وحدي)؟ أما عرفنا ما كان يقول عمر رضي الله عنه في آخر لحظات حياته: (ليتني أموت كفافاً لا لي ولا علي)؟! فما الذي صنعت يا عمر؟! ألم تكن تهتم وتغتم إذا عثرت بغلة في العراق خشية أن يسألك الله عنها؟! فمن هو المسئول أمام الله عز وجل عن المئات التي تقتل اليوم في العراق؟! ألسنا مسئولين بكثرة أو بقلة؟ ألسنا معنيين بالأمر مباشرة؟! ومع ذلك عمر رضي الله عنه يقول: (ليتني أموت كفافاً لا لي ولا علي).
أما سمعنا من التابعين من يقول: (ليتني كنت شجرة تعضد)؟ لأنهم عرفوا ثقل الأمانة وعظمة المسئولية، أما عرفنا ابن تيمية -رحمه الله- وهو الذي فعل ما فعل يوم يقول: ما أنا شيء، ولا مني شيء، ولا بي شيء، وما زلت أجدد إيماني وإسلامي كل يوم! هؤلاء هم الذين قاموا بشرف حمل الرسالة والأمانة، ثم استقلوا أعمالهم ولم يروا أنهم أدوا واجبهم, واليوم تخلى كثير منا عن الأمانة وترك أداء الواجب ثم كلامنا يملأ الدنيا صراخاً وادعاءً وكذباً وزوراً وبهتاناً، نسأل الله عز وجل السلامة.(133/6)
مثال في أقسام بني إسرائيل في حمل الدين
خذ هذا المثل القرآني الذي هو بحد ذاته كافٍ في الموعظة والعبرة، ولا يحتاج إلى مزيد تعليق، ساقه الله لنا من قصص الأمم السابقة قبلنا، ومن حال بني إسرائيل على وجه الخصوص، قال عز وجل: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:168 - 170] فالقصة كاملة، والصورة واضحة، والتفاوت هو الذي يقع في حال أمتنا اليوم، كما في قوله سبحانه: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} [الأعراف:168]، والناس مراتب في الأخذ بدين الله والاستمساك به والحرص على الفرائض والاستكثار من النوافل والتقصير في جانب آخر.
قال سبحانه: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} [الأعراف:168] أي: الفتن والامتحانات، وقال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] فمنهم من سقط ووقع، ومنهم من امتنع وارتفع، ثم جاءت الصورة: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} [الأعراف:169].
قال ابن كثير: من جاء بعدهم لم يكن فيهم صلاح {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} [الأعراف:169]، استبدلوا كتاب الله وشرع الله ودين الله، وأخذوا الدنيا، واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، وتخلوا عن دينهم وعن أمانتهم وعن كتاب ربهم وعن تكليف ربهم وأوامره ونواهيه، وركنوا إلى دنياهم، وفضلوا هذا على ذاك، وأخذوا واختاروا الذي هو أدنى.
ثم ماذا بعد ذلك؟ بين الحق سبحانه وتعالى الأماني والحيل الشيطانية والأوهام النفسية التي يعللون بها أنفسهم: {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:169] ورحمة الله واسعة، لكن انظر إلى حقيقة العمل: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف:169]، تدور الدائرة مرة أخرى، ويقدمون غير الدين، ويفضلون الدنيا، ويسيرون مع الأهواء ويتركون دينهم وراءهم ظهرياً، ولذا قال سبحانه: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف:169] ذلك حالهم، قال سعيد بن جبير: يعملون الذنب ثم يستغفرون الله، وإن عرض لهم ذلك الذنب أخذوه.
وقال مجاهد: لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه حلالاً كان أو حراماً، ويتمنون المغفرة.
فخاطبهم الله بقوله: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف:169] فأين الميثاق؟ وأين الأمانة؟ وأين القوة؟ وأين الثقل الذي أنزل عليهم؟ {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف:169] وأن يثبتوا عليه وأن ينطقوا به وأن يكونوا معه وأن يجعلوا علائقهم مبتوتة أو موصولة استناداً إليه؟ لكنهم كما قال عز وجل: {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف:169] ولم يفعلوا ذلك عن جهل، بل هم عالمون بكتاب الله، عارفون بأحكامه، دارسون لتشريعاته، وهل اليوم العلم في أمة الإسلام منعدم؟ وهل المعرفة بكتاب الله معدومة وتفاسيره بالمئات مطبوعة ومسموعة ومنشورة؟ فهل هناك جهل؟ وهل أحد لا يعرف أن مواجهة الأعداء واجبة وأن نصرة الأولياء لازمة؟ وأن الأمر في الأخذ بدين الله أمانة في عنق كل فرد؟ هل مثل هذا غائب؟! ثم ذكر الوصف للناجين المستثنيين من ذلك كله فقال: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} [الأعراف:170] وهي القراءة التي نقرأها، وهذا التشديد كما تقول العلماء: زيادة المبنى دليل على زيادة المعنى.
فهم لا يُمسِكُون بالكتاب بل يُمَسِّكُون، أي -كما قال ابن كثير: اعتصموا به واقتدوا بأوامره وتركوا زواجره.
ذلك هو الاستمساك القوي في كل حال وفي كل آن، على نفس الإنسان قبل أن يكون على غيره، وتلك هي النجاة وحدها، وبدونها لا نجاة.
نسأل الله عز وجل أن يجعل الدين في قلوبنا أعظم شيء، وأوكد هم، وأكبر شغل، وأن يجعلنا مسخرين لنصرة دينه عاملين به، ونسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ إيماننا وديننا.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(133/7)
وجوب الجد في حمل أمانة الدين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، وإن القوة في الدين أمرها عظيم، وحسبنا في مقامنا هذا أن نصل إلى فائدة واحدة وهدف واحد، هو أن نقرر هذا المعنى، وهو أن الدين عظيم وأن أمانته جسيمة وأن رسالته ثقيلة، وأنه لا يمكن لنا أن ننال شرف حمل الأمانة ونشر الرسالة ونحن نائمون ملء عيوننا آكلون ملء بطوننا غارقون في شهواتنا لاهون بدنيانا منشغلون بأزواجنا وأبنائنا، بل لا بد من أن ننتدب إلى حقيقة القوة في أخذ ديننا، وليس ذلك فيه ترك لدنياك، ولا توقف عن عملك، ولا قطع لكسبك ورزقك، فما ذلك في دين الله عز وجل، ولكنه الهم الذي يستولي على القلب، والفكر الذي يشغل العقل، والعمل الذي يستنفذ الوقت والجهد، والطاقات التي تسخر كلها بنية صادقة خالصة لنشر دين الله, ولو بكلمة تقولها، ولو بموقف تقفه.
فما هي هذه القوة التي نريدها؟ إنها قوة اليقين والإيمان، قوة الطاعة والامتثال، قوة الغيرة والدعوة.
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً.
اللهم! إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى.
اللهم! إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم! أنطق ألسنتنا بذكرك، واملا قلوبنا بحبك، واستعمل جوارحنا في طاعتك، وسخرنا لنصرة دينك، واجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين، واجعل -اللهم- أيدينا منفقة في سبيلك، وأقدمنا سائرة إلى طاعتك، وجباهنا خاضعة لعظمتك.
اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم! إنا نسألك أن توفقنا للصالحات، وأن تصرف عنا الشرور والسيئات، وأن تغفر لنا ما مضى وما هو آتٍ، برحمتك يا رب الأرض والسماوات.
اللهم! اجعل بلدنا آمناًً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، واصرف -اللهم- عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع -اللهم- بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين.
اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك.
اللهم! إنهم قد انتهكوا الحرمات، واغتصبوا الأراضي، وأذلوا عبادك المؤمنين، ودنسوا مقدسات المسلمين، اللهم! فأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين.
اقذف -اللهم- الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، وزلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين.
اللهم! استأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، وفرق كلمتهم، ولا ترفع اللهم لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، ولا تبلغهم غاية.
اللهم! ردهم على أعقابهم خاسرين، وسود -اللهم- وجوههم، وأذل أعناقهم، اللهم! أرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك، واشف فيهم -اللهم- صدر قوم مؤمنين، عاجلاً غير آجل يا رب العالمين.
اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في أرض العراق وفي فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين.
اللهم! زد إيمانهم، وعظم يقينهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين.
اللهم! إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، جائعون فأطعمهم، خائفون فأمنهم، مشردون فسكنهم.
اللهم! أعنهم على أمور دينهم ودنياهم، وردنا وإياهم إلى دينك رداً جميلاً، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، أخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
اللهم! صلِّ وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(133/8)
المرأة بين الرعاية والجناية [1]
للحجاب أهمية بالغة في حياة المرأة المسلمة، وفي حياة المجتمع بأسره، فهو سد منيع في وجه الفساد، وهو كالحجر يلقم به كل فاسق، وهو دليل على الإيمان الصادق، فرحم الله امرأة أخذت بهذه الشعيرة، فسترت زينتها، وحفظت نفسها.(134/1)
الحجاب وأهميته في حفظ المرأة والمجتمع
الحمد لله الكبير المتعال، ذي العزة والجلال، الموصوف بصفات الكمال، المنزه عن كل نقص وإخلال، منه المبتدأ وإليه المرجع والمآل، نحمده سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال، وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، كثرنا الله به من بعد قلة، وأعزنا من بعد ذلة، وأرشدنا من بعد غواية، وهدانا من بعد ضلالة.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! موضوعنا هو: [المرأة بين الرعاية والجناية]، فنبدي فيه حال وأحكام المرأة بين الرعاية الإلهية والجناية البشرية، وبين رعاية الأحكام الربانية وجناية الأهواء الإنسانية، ذلك أن أمر المرأة في وقتنا هذا كثرت فيه الشبهات، واستعر به أوار الشهوات، وعظمت به فتنة الأهواء والإغواء، وتفاقمت به شبهات الاعتراض والتبديل والتغيير لأحكام وشرائع الإسلام، وقد مر بنا حديث في الصورة الكاملة، والنظرة الشاملة للمرأة في ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
واليوم نشرع بذكر بعض التشريعات الإسلامية الخاصة بالمرأة، ونتعرف عليها من مصادرها الأصلية في كتاب الله، وسنة الهادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنقف على دلالاتها من كلام الأئمة الربانيين، والعلماء الفقهاء، لا من أصحاب الصحف وأهل الأهواء، ولا من الأميين الذين لا يعرفون لغة العرب، ثم يرجمون بالغيب، ويقولون في القرآن بغير علم، ثم بعد ذلك نقف مع الحكم والتعليلات التي رمزت إليها الآيات؛ لندرك عظمة التشريعات، ونرى ما فيها من السلامة والوقاية من المنزلقات.
فأول وأظهر التشريعات الخاصة بالمرأة: تشريع الحجاب، وهو الأمر الذي يتعرض اليوم لهجوم شديد من قبل أعداء الإسلام، وذلك أمر متوقع وبدهي، ومن قبل بعض أبناء الإسلام، وذلك أمر مؤلم ومحزن، وتشريع الحجاب تنزلت فيه آيات من القرآن تتلى، ووردت فيها أحاديث من سنة النبي صلى الله عليه وسلم تروى، ونطقت به مسيرة تاريخ الأمة الإسلامية عبر قرون متطاولة في بقاع الإسلام المترامية الأطراف، ومع ذلك كأن الأعين رمداء لا تبصر، وكأن الآذان صماء لا تسمع، وكأن العقول خاوية لا ترشد ولا تدرك.(134/2)
الحجاب: تعريفه وتشريعه
يقول الحق سبحانه وتعالى في آيات الحجاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59].
الحجاب: في لغة العرب معناه: الستر، يقولون في كل ما حال بين شيء وشيء: إنه حجاب.
ومن معاني الحجاب أيضاً: المنع، وسمي الحجاب حجاباً لمنعه رؤية ما وراءه، ومنه الحاجب الذي يمنع الناس من الدخول إلا بإذن.
فالحجاب أصلاً في لغة العرب: الستر الذي يحول بين شيء وآخر، ويمنع الشيء من البلوغ إلى الشيء، وهذا القرآن العظيم تنزل بلغة العرب كما قال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195].
وهذه الآية من أظهر الآيات الدالة على تشريع الحجاب، وعمومه على جميع نساء المؤمنين.
وهي الآية التي اشتهرت عند أهل العلم عموماً والمفسرين خصوصاً بأنها آية الحجاب، قال القرطبي في تفسيره في بيان معنى الجلابيب: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ) قال: والصحيح أنه -أي: الجلباب- الثوب الذي يستر جميع البدن، وقال ابن حزم في المحلى: هو ما غطى جميع الجسم لا بعضه، وقال ابن كثير في تفسيره: الجلباب: هو الرداء فوق الخمار، ونقل في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب، وقال السعدي في تفسيره: أي: يغطين وجوههن وصدورهن.
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) لفت إلى الخطاب الأعظم للرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما كانت التشريعات توجه بالصيغة المباشرة بالتوجيه والنداء الرباني: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، ولكنها في آية الحجاب جعلت الأمر بهذا الحكم موكولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ)، فلماذا؟ لأن الله جل وعلا أراد أن يكون مثل هذا الأمر مباشراً وقريباً ومطبقاً ومراعاً؛ لأنه يدخل في صلب الحياة الاجتماعية، وهو وإن كان تشريعاً خاصاً بالمرأة إلا أنه سمة للمجتمع، ولذلك أوكل هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته حاكماً وولياً لأمر المؤمنين، وراعياً لشئونهم، وقائماً على أمور الإسلام والتشريع في حياتهم الاجتماعية، ثم جاء الأمر بالأولى والأعظم؛ ليكون أكثر تأثيراً في القدوة التي أمرنا بها في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ)؛ لتكون القدوة أعظم، وهو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وأعظم الأمة التزاماً بشرع الله وحري وبدهي أن يكون إلزامه لأهله ولآل بيته بتشريع الله عز وجل أسبق وأعظم وأظهر.
قوله تعالى: (وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) وذلك للتأكيد على هذا العموم، وعلى أن القدوة في هذا تكون للرسول صلى الله عليه وسلم بما يكون في أهله وبيته، وليظهر أيضاً أن أمر الحجاب في نساء المؤمنين دلالة إيمان وتقوى، إذ لما أمر به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته -وهن الأسمى والأعلى من نساء المؤمنين- دل ذلك على أن التزام ذلك هو دليل على أنه رتبة أعلى في الأخذ بأمر الله عز وجل، وفي الالتزام بهذا الدين، والاقتداء بالرسول الكريم وأزواجه أمهات المؤمنين.
إن هذه الآية واضحة الدلالة، وصريحة الألفاظ، وأهل العلم من المفسرين والفقهاء قد بينوا مثل هذه الدلالة، وجاءت الأحاديث تبين لنا كيف كان الالتزام والعمل بهذه الآية، فروى عبد الرزاق في تفسيره وابن أبي حاتم في تفسيره عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان، وعليهن أكسية سود يلبسنها.
وذكر السيوطي أن ابن مردويه روى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: رحم الله نساء الأنصار! لما نزلت هذه الآية شققن مروطهن فاعتجرن بها، فصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن على رءوسهن الغربان.
قولها: (شققن مروطهن) وذلك أنه لم يكن لديهن ألبسة وأكسية كثيرة، فلم يكن هناك لباس للظهيرة ولباس للسهرة كما هو حالنا، لكن لما تنزلت الآيات بالحجاب، وأن يدنين عليهن جلالبيبهن، عمدن إلى المروط فشققنها، واعتجرن بها وأسدلنها؛ امتثالاً لأمر الله، فهكذا تكون المرأة المؤمنة سريعة الاستجابة، وترى ذلك تحقيقاً لإيمانها، وتأكيداً لإسلامها، وإظهاراً لفضيلتها، وإعلاناً لعفتها، وبياناً لشرفها ورفعتها، ولا تراه -كما يرجف به المرجفون- تقييداً لحريتها، وغمطاً لشخصيتها، وكبتاً لحركتها وحريتها.
علينا أن نمتثل لهذا الأمر لأننا قوم نرجع إلى كتاب الله وسنة رسول الله، ولا نلتفت لمن يخالف قوله قولهما، مهما كان ذكره أو عظمته؛ لأن كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فوق كل أحد.
ويقول الله جل وعلا في آية أخرى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53]، والآية في سياق خطاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا جاء بعض الجهلة وأهل الأهواء: إما عن غفلة وعدم علم وبصيرة، وإما عن مكر وخبث وكيد، فقالوا: إنما جاء تشريع الحجاب خاصاً بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لمكانتهن وشرفهن دون بقية وسائر نساء المسلمين! وقبل أن نطيل القول في هذا فقد مرت بنا الآية من قبل: (قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ)، فهل بعد هذا أمر أوضح في العموم والشمول؟!(134/3)
كلام أهل العلم على الحجاب
انظر إلى ما يقوله العلماء لا الجهلاء: فقد نقل الشنقيطي في تفسيره كلاماً نفيساً في بيان شمول معنى هذه الآية لجميع النساء المؤمنات المسلمات، فقال رحمه الله: وجوب الحجاب حكم عام على جميع النساء، لا خاص بأزواجه صلى الله عليه وسلم، وإن كان اللفظ خاصاً بهن؛ لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه)، فالله جل وعلا قد ذكر في هذه الآية العلة فقال: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ).
إذن فالعلة التي أمر من أجلها بالحجاب وأن يسألن من ورائه هي طلب طهارة قلوب الرجال؛ لئلا يكون فيها فتنة وإغواء في أمر النساء، وطهارة قلوب النساء؛ لئلا يكون فيها ميل أو شهوة في أمر الرجال، فهل هذا خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم؟! وهل هذا لا يوجد إلا في أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام أم أن هذه العلة موجودة في كل النساء وفي كل الرجال؟!
الجواب
أنها كذلك، فالحكم كذلك.
ومن كلام أهل العلم: أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، ومع ذلك وضح الشنقيطي قوله، فقال في تتمة كلامه: وضابط ذلك: هو أن يقترن وصف بحكم شرعي على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علة لذلك الحكم لكان الكلام معيباً، فهذه العلة مربوطة بالحكم، فلو لم نلتفت للعلة فكأننا لم نلتفت لذلك الحكم، وإذا كان حكم هذه الآية عاماً بدلالة القرينة القرآنية، فاعلم أن الحجاب واجب بدلالة القرآن على جميع النساء.
وقال الطبري في تفسيره: (مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) أي: من وراء ستر بينكم وبينهن، ولا تدخلوا عليهن بيوتهن.
وقال بعض أهل العلم كلاماً نفيساً: إن كان هذا الأمر مخصوصاً بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم أنهن أعظم نساء الأمة إيماناً، وأتقاهن قلباً، وأزكاهن نفساً، وأعفهن مسلكاً، فإذا أمرن -وهن على هذا الوصف- بهذا، فكيف بمن دونهن من النساء، ولسن على مرتبتهن في الإيمان والتقى والحياء والعفة؟! أفلا يكون ذلك الأمر أوجب؟! وهذا ما يعرف عند العلماء بالقياس الجلي، وقياس الأولى، فإن كنا نطلب من العفيف الشريف أن يلتزم بهذا الأدب والتشريع فمن باب أولى من دونه، فإن كان الخطاب موجهاً إلى الثلة المباركة والصفوة المختارة من المؤمنين المتقين من مدرسة النبوة التي كان فيها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضوان الله عليهم، فإن خوطب أولئك لئلا تتعكر طهارة قلوبهم، فكيف بالذين تلم بقلوبهم الأهواء، وتمتلئ نفوسهم بالشهوات، ولا تجول خواطرهم إلا حول المحرمات، أفلا يمنعون من ذلك؟! بلى والله! إن العاقل يدرك هذا ويبصره، إلا أن الأهواء الخبيثة، والمكر الذي يراد به إفساد المرأة المسلمة ومن ورائها مجتمع المسلمين يدعي -عن غباء وجهل أو عن خبث ومكر- أن هذا تشريع خاص بأزواج محمد صلى الله عليه وسلم، وليس عاماً لنساء المسلمين.
ويأتينا أيضاً قول الحق جل وعلا: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:32 - 33]، والخطاب مرة أخرى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، والقول فيه ما قلناه من قبل، إلا أن هذه الآية أشمل، وتبين لنا قضية مهمة وهي: إظهار تلك العلل العظيمة، والحكم الجليلة التي لأجلها فرضت هذه التشريعات، لتبقى القلوب سليمة، ولتظل النفوس طاهرة، ولينصرف الناس إلى جوانب العمل في التقوى والعبادة، وميادين العمل في الحياة، بعيداً عن هذه الشهوات التي عندما سلطت على المجتمعات المسلمة وغير المسلمة رأينا الانصراف عن التقوى والعبادة والتدين، ورأينا الانحراف عن العمل والعمران وأسباب الحياة الدنيوية.
هذه الآية قال ابن كثير في أول تفسيرها: هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي، ونساء الأمة تبع لهن في ذلك، وهذا من القياس الجلي الذي قال فيه العلماء: ما علم فيه إلغاء الفارق، أي: بين هذه التي وردت فيها نصوص الآيات وغيرها مما لا فرق بينه وبينها.
وقال القرطبي: التبرج: التكشف والظهور للعيون، وقال في تفسير هذه الآية في سورة الأحزاب: وحقيقته إظهار ما ستره أحسن.
وقال ابن كثير في التبرج: إنها تلقي الخمار على رأسها، ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها.
وإذا نظرنا إلى مثل هذه المعاني مع النظر إلى الآية التي ذكرناها سابقاً في ذكر الجلباب أدركنا أن الحجاب يقتضي ستر المرأة في لباسها، ويقتضي إدناء الجلباب، وهو: الستر لما تلبسه من لباس محتشم ساتر، وهذا يدلنا عليه ما ذكره أهل العلم من الصور العملية المأثورة المنقولة فيما جاء في وصف حال المجتمع المسلم في عهد النبوة، وفي عهود وعصور كثيرة مختلفة.
والآيات كثيرة، ومنها قوله جل وعلا: {وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60]، وهذه الآية وإن كانت دلالتها على أمر الحجاب بالاستنباط وببيان المعنى إلا أنها قوية فيه، فالآية واضحة في أن المقصود بها: القواعد من النساء، والتعليل جاء في نص القرآن دون حاجة إلى اجتهاد بشري في بيان المعنى، وقوله تعالى: (اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا) أي: اللائي قد بلغن من السن مبلغاً كبيراً لا يتعلق بهن أحد لأجل النكاح والمتعة والشهوة، فهؤلاء النساء يجوز لهن أن يضعن ثيابهن، أي: يتخففن، فلا يكون لهن ذلك الحجاب الكامل الذي يرتبط بمن يتعلق بها القلب لنكاحها من سائر النساء في كل الأعمار، ومع ذلك قال: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ)، فإن بعض العجائز ربما تتشبب، وربما تكون عجوزاً كما نرى في أيامنا هذه فتعمل العمليات الجراحية والتجميلية حتى تبدو للناس وكأنها صبية في الثلاثين من العمر فلو كانت من هذا الصنف فلها التخفف بشرط عدم التبرج وإظهار الزينة.
فلا تجد عاقلاً -بعد وضوح مثل هذه الآية- لا يدرك أن الحجاب والستر والتعفف وعدم إبداء الزينة وإظهارها لغير المحارم، أمر مشروع، فقد دلت عليه الآيات نصاً، ودلت عليه الآيات أمراً لرسوله صلى الله عليه وسلم وأزواجه وبناته، ودلت عليه الآيات حكمة وتعليلاً، ودلت عليه الآيات تخصيصاً ببعض النساء دون بعض، مما يدل على وضوح وشمول هذا التشريع.
ومع ذلك كله فإننا نقرأ اليوم، ونسمع ونرى في المقابلات الصحفية والفضائية كلاماً لبعضهن وكأنهن لا يعرفن قرآناً يتلى، ولا سنة تروى، ولا إسلاماً يشرع ويحكم، وكأن أهواء نفوسهن، وآراء عقولهن مقدمة على كل ذلك، فتلك تقول لك: أرى كذا وكذا، وتلك تقول لك: ليس هناك ما يدل على أن الحجاب واجب، وذلك يقول لك: هذا خاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم! وحسبنا في هذا كتاب الله، وسنة رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، ولو قال أولئك ما قالوا، فلن تصغي لهم أذن مؤمنة، ولن تلتفت إليهم امرأة مسلمة، وذلك مما يغيض قلوبهم، وذلك مما يطيش عقولهم، فنرى منهم ونسمع ما لا يكاد يقبله عاقل، وهو دليل على نزق وعلى حمق، نسأل الله عز وجل أن يصرفه عنهم، وأن يهدينا وإياهم سواء السبيل، وأن يلزمنا شرعه القويم ودينه العظيم وهدي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(134/4)
الحكمة من تشريع الحجاب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من التقوى أخذ أسباب العفة والستر والحجاب حتى لا تفتن القلوب، ولا تنصرف النفوس إلى الشهوات، وحتى نسلم من غوائل الفتن والإغراء والإغواء الذي نزع به الحياء، واغتيلت به العفة، وظهر به ما صار -والعياذ بالله- يرى في البيوت رأي العين ويسمع من خلال هذه القنوات والفضائيات التي أصبحت تمثل قمة -في أكثرها- في الفسق والفجور والدعوة إلى الخنا والزنا، فإنه يؤتى بالمرأة لا يكاد يستر جسمها شيء، ثم تتلوى وتترقص وتتغنى، ثم تأتي بالقول الذي فيه تأنث وتكسر وإغراء وإغواء، ثم يقال لك بعد ذلك: إن هذا فن وثقافة، وتنمية للذوق، وإسهام في رفع مستوى الأمة! ولست أفيض في هذا، فكلنا -سواء من كان ملتزماً بدينه، ومن كان غير ملتزم بدينه- يعلم أن كل ذلك من الحرام، وأنه لا يقصد به إلا الإغواء والإغراء والإلهاء والإبعاد عن دين الله عز وجل، ونزع السمة المحافظة عن المجتمع.
ووقفتي الأخيرة مع بعض علل القرآن التي جاءت في هذه الآية: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ)، فعلة الحجاب صيانة المرأة، ومنع الأذى عنها، وحفظها من أعين الذئاب البشرية، وصون أذنها من الكلمات البذيئة الفاحشة، وصون حيائها وعفتها من الاعتداء والاغتصاب وغير ذلك.
فهل ترون هذه العلل واقعة في دنيا الناس اليوم؟ كلكم يدرك ويسمع ويعلم ما تلقاه كل امرأة متبرجة، مما يلهب جسمها من نظرات تكاد تلتهمها، ثم ما يخدش حياءها إن كان باقياً في نفسها، ومما يحزن نفسها -إن كان فيها بقية خير- من الأقوال البذيئة، والكلمات التي فيها المعاكسات والإغواء، ثم بعد ذلك قد تجد يداً تمتد لتلمسها أو لتخطفها، ولسنا نحن الذين نقول هذا، بل يقوله الذين عاشوا حياة الحرية المزعومة في الغرب، حتى لم يجدوا بداً من أن تكون لديهم عشرات الجمعيات التي تتخصص في الدفاع عن النساء، أو منع الاغتصاب أو غير ذلك، وبيئات العمل تشهد نسباً عالية تصل إلى نحو من (80%) من النساء العاملات يتعرضن لما يعرف بالتحرش الجنسي لفظياً أو عملياً، حتى أننا نسمع عن كبار القوم من الرؤساء والزعماء وما يحكى من فضائحهم الجنسية، وانحطاطاتهم الأخلاقية التي لا تليق بسفلة الناس فضلاً عن شرفائهم في قومهم، ثم بعد ذلك يأتينا قوله جل وعلا: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يخبرنا فيقول: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء).
فهل كان محمد صلى الله عليه وسلم مبالغاً؟! وهل كان عليه الصلاة والسلام -معاذ الله- متشدداً كما يقولون؟! وهل كان فكره -كما يدعي المرجفون- منحصراً في الجنس فقط، ولا يرى من المرأة إلا ذلك والعياذ بالله؟! يقول عليه الصلاة والسلام: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، فإنك إذا قلت ذلك الكلام السابق قالوا لك: إنك غير متحضر، ولا تنظر إلى المرأة إلا في الجنس، ولا تحاول أن تستمع إلى علمها وأدبها، وتنظر إلى عقلها وفكرها، فيقال لهم: كل الذي تخاطبوننا به خاطبوا به سيد الخلق صلى الله عليه وسلم إن كنتم صادقين، الصادق المصدوق المعصوم الذي لا {يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، فهو الذي قال لنا وأخبرنا بذلك، وهو الذي صدق بذلك قول الحق جل وعلا: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
أخبرونا عن رجل يخلو بامرأة ثم يدعي أنه يفكر في علمها، ورجاحة عقلها، وحسن تفكيرها ونحو ذلك، إنه أحد رجلين إما رجل ليست فيه رجولة ولا فحولة، وإما رجل خبيث ماكر يدعي ذلك ويبطن غيره؛ لأن الله خلق الإنسان: رجلاً وامرأة منجذباً بعضهما إلى الآخر، والشهوة نداؤها طبيعي غريزي، فإذا وجد الإنسان الطعام وهو جائع، فهل تراه يفكر في قيمته الغذائية؟! وهل يفكر في معان أخرى أم أنه سيفكر في التهامه وسد جوعة بطنه؟! وكذلكم ذلك كذلك.
وهذه العلل التي جاءت بها الآيات القرآنية إنما كشفت لنا عن المساوئ والمخاطر والمشكلات التي تنشأ عن عدم الالتزام بهذه التشريعات، وانظر إلى قوله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] فما الذي يسمعه الناس اليوم من الغناء الماجن؟! وأي شيء يفعل بقلوبهم عموماً وبقلوب الشباب والفتيات خصوصاً؟! آهات الغرام، وكلمات الحب التي تنطق بها امرأة لعوب، بألفاظ تذوب ميوعة، فهل يشك أحد أن لها فتكاً في القلب والنفس، وأثراً وخيماً في التعلق بالشهوة والانصراف عن الخير والتقى والطهارة والعفاف؟! وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر تلك هي الحقائق، وقد عبر عنها أصحاب العقول، وأصحاب المعرفة الحقة بمآلات الأمور: نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء، وذلك الذي نراه، والذي تؤكده الوقائع في بلاد المسلمين، وفي غير بلاد المسلمين.
فالله الله! في صون المرأة المسلمة وعفافها، وسلامة المجتمع المسلم من أن تستبد به الأهواء، وأن تستعر فيه نيران الشهوات، وأن يعظم فيه الابتلاء بمثل هذه الملهيات والمغريات.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا ديننا، وأن يحفظ على نسائنا عفتهن وحيائهن، ونسأل الله أن يجمل نساء المسلمين بالستر والحشمة والحياء والعفة، وأن يحفظ قلوبنا وقلوب نسائنا من الشهوات المحرمة، والإغراءات الآثمة.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا بكتابك مستمسكين، ولهدي نبيك صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار السلف الصالح مقتفين، نسألك اللهم أن تعصمنا بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
اللهم رد عنا كيد الكائدين، وادفع عنا شرور المفسدين.
اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، وأن تجعلنا هداة مهديين.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وطهر قلوبنا، وأخلص نياتنا، وأحسن أقوالنا، وأصلح أعمالنا، وضاعف أجورنا، وارفع مراتبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، يا رب العالمين! اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، خذ اللهم بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه، يا سميع الدعاء! اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل شر وضر وأذىً يا رب العالمين! اللهم احفظ عليها أمنها وأمانها، وسلمها وإسلامها، ورغد عيشها واستقرارها.
اللهم رد عنا كيد الكائدين وادفع عنا شرور المعتدين، وسلم ديار المسلمين، واحقن دماءهم، واحفظ أعراضهم وأموالهم، يا رب العالمين! اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
اللهم رد كيدهم في نحورهم، وأشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، وخالف كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، وأنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم اشف فيهم صدور قوم مؤمنين، عاجلاً غير آجل، يا رب العالمين! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين، والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان، يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك، يا رب العالمين! ووفق اللهم ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.(134/5)
المرأة بين الرعاية والجناية [2]
لقد اهتم الشرع الحنيف بالمرأة، فرفعها وكرمها، وجعلها في المكان الذي يناسبها خلقة وفطرة وقوة، فلم يحمّلها ما لا طاقة لها به، ولم يضعها في المكان الذي يجلب لها شراً وفتنة، ولا في الموضع الذي تمتهن فيه، وقد حث الشارع على حسن تربيتها إن كانت بنتاً صغيرة، ورتب على ذلك الأجور الكثيرة، وحث على الإحسان إليها إن كانت زوجة، وحث على طاعتها وبرها إن كانت أماً، وجعل لها ثلاثة أرباع البر، وأمر بالصبر عليها إذا صارت عجوزاً، فنهى عن التأفف والتبرم منها، فما أسعدها من حياة للمرأة في ظل الإسلام.(135/1)
رعاية الشرع للمرأة واهتمامه بها
الحمد لله الذي أمر الخلق بعبادته، واتباع شريعته، ووعدهم برضوانه وجنته، له الحمد سبحانه وتعالى جعل الأمن أماناً بلا خوف، والإسلام سلامة بلا جناية، شرع لنا الدين، وأوصانا بالاستمساك به، فله الحمد جل وعلا حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، حمداً على آلائه ونعمه التي لا تعد وتحصى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم التقى، ومنار الهدى، بصرنا الله عز وجل به من بعد ضلالة، وهدانا من بعد غواية، وكثرنا من بعد قلة.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! [المرأة بين الرعاية والجناية] موضوع نتمم به حديثاً قد سلف، ونؤصل به ما سبق، ونتوسع فيه بما يكشف لنا حقائق إسلامنا، وعظمة ديننا، وبما يبين لنا من جهة أخرى مدى تفريطنا، ومدى مخالفتنا، وفي الوقت نفسه يكشف لنا هذا الحديث عن أسباب المشكلات الاجتماعية لعصرنا هذا.
فنحن اليوم نرى تجاذباً وتنازعاً بين الرجل والمرأة في النظرة والفكرة والمقالة، ونرى بعضاً من النفرة والخصومة والنزاع في واقع المعايشة والمعاشرة والحياة اليومية، ونرى تزايداً في نسب الطلاق، ونرى كذلك تزايداً في نسب العنوسة، وكثيرة هي الأمور التي تطرح وتناقش، غير أنها في كثير من الأحوال لا يرجع بها إلى أصولها الكاملة العظيمة في شرع الله عز وجل، حتى نعرف من هذه الأصول ما نقوم به أخطاء سلوكياتنا، وما ننفي به الصور السلبية التي تلصق بديننا، ومن جهة أخرى: لنتيقن بأعظم يقين وأوثقه وأثبته أنه ليس للمرأة ولا للرجل ولا للمجتمع ولا للحياة الإنسانية كلها من سعادة وهناء إلا في ظلال الإيمان، وعلى قاعدة تشريع الإسلام.
إن حضارة الغرب، وأفكار الشرق، ومدنية العصر، وتقنيات التنكولوجيا لا تغني شيئاً ما لم توجد تلك القاعدة الإيمانية، والتشريعات الإسلامية، وذلك يثبته واقع الأمر، وتثبته حقائق التجارب قبل أن ننطق به مستشهدين بآيات القرآن، وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.
الفصل الأول من حديثنا هو: النظرة إلى المرأة: ما هي شخصيتها، ودورها، ووظيفتها؟ فننظر إلى ذلك في رعاية الإسلام وإكرامه وإجلاله وحسن تكامل تشريعاته في الأدوار بين الرجل والمرأة.(135/2)
رعاية المساواة
المساواة صارت كلمة تصم آذاننا كل يوم صباح مساء، لكنها لا تذكر إلّا ومعها معركة، إلّا ومعها استلاب حقوق، وتجاذب أدوار، ونحن نراها أصلاً ثابتاً، ومنهجاً متكاملاً في دين الله عز وجل، فرعاية المساواة جاء بها الإسلام في جانبها التماثلي على أكمل وأتم الوجوه.
فهناك مساواة بين الرجل والمرأة في أصل الخلقة كما ذكر الله عز وجل، ونذكره دائماً في مقدمة كل خطبة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء:1].
قال ابن عطية في تفسيره: (مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) أي: من جنسها.
وقال السعدي في تفسيره: (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) أي: ليناسبها، فيسكن إليها، وتتم بذلك النعمة، ويحصل به السرور، وفي الإخبار بأنه خلقهم من نفس واحدة، وأنه بثهم في أقطار الأرض مع رجوعهم إلى أصل واحد؛ ليعطف بعضهم على بعض، وليرق بعضهم لبعض.
وفيها -أي: في الآية- دلالة على أنه كما يلزم القيام بحق الله، كذلك يجب القيام بحق الخلق والأقرب فالأقرب ممن تربطنا به صلة الرحم.
فهذه آية عظيمة في أصل مساواة الخلقة، فالكل من نفس واحدة، والمراد هنا: أن الله جل وعلا خلق حواء من آدم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: (إن المرأة خلقت من ضلع آدم) قال بعض أهل العلم: أي: أن أصل خلقة آدم من تراب، وأصل خلقة حواء -من حيث الجسد- من ضلع آدم، وأما من حيث النفس والروح فهما أصل واحد، فلا خالق للروح إلا الله عز وجل، وهو الذي جعل هذه الروح بعد ذلك في ذرية آدم وحواء بقدره وقدرته سبحانه وتعالى، فليس ثمة فرق بين روح رجل وامرأة من حيث الحياة، ومن حيث أصل الخلقة.
وذلك ما شهدت به الآيات، وبينته الأحاديث النبوية، فالله جل وعلا يقول: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النجم:45 - 46]، وذلك فيما تناسل به البشر من بعد آدم وحواء وذريتهما إلى قيام الساعة.
وهناك أيضاً مساواة في غاية الخلق، فإذا كانت هناك مساواة في أصل الخلق بين الرجل والمرأة، فأظهر منها وأجل المساواة في غاية الخلق: لِمَ خلق الرجل؟ ولِمَ خلقت المرأة؟ فليس هناك للرجل غاية أشرف ولا أعظم ولا مخالفة لغاية المرأة، قال الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فما خلق الجنس البشري ذكوراً وإناثاً إلّا لتحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2]، فالغاية من الحياة هي الابتلاء والامتحان والتمحيص؛ ليظهر الأعظم والأجل في عبادة ربه، وإحسان عمله، وإخلاصه لمولاه سبحانه وتعالى، رجلاً كان ذلك أو امرأة.
وكذلك خلافة الأرض وعمارتها هي مسئولية وغاية مشتركة بين الرجل والمرأة، قال الله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، والمقصود بذلك آدم عليه السلام، لكنه يشمل ما هو أعم من ذلك وهم ذريته رجالاً ونساءً، فهم الذين يقومون بعمارة الأرض وذلك بإقامة شرع الله، وتحقيق مراده من خلقهم في هذه الحياة الدنيا، كما تظهره هذه الآيات العظيمة، وكما تبينه الآيات الأخرى الكثيرة في هذا الشأن، وكما في قوله جل وعلا: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية:13] والخطاب يعم البشر جميعاً رجالاً ونساء.
فنحن في مبدأ الإسلام ومنهجه لا نعرف للمرأة دوراً يستثنيها من أن تكون عابدة لله عز وجل، وقائمة بعمارة الأرض، ومنتفعة بما ذلله الله عز وجل وسخره من الأسباب مع شريكها الرجل لقيام العمران، ولإقامة الحياة الدنيا على أساس من القيم، وعلى ارتباط بالمبادئ والفضائل التي تكسب الحياة حينئذ جمالين وكمالين: في الناحية المادية الدنيوية الحضارية المدنية، وفي الناحية الإيمانية العقدية المبدئية المعنوية؛ فيحصل حينئذ كمال هذه الحياة في جانب الروح والقلب والفكر، وفي جانب البدن والشهوة واللذة المباحة بإذنه سبحانه وتعالى.
ومن أصول المساواة أيضاً تكريم الخلق، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70]، والتكريم هنا يشمل جنس بني آدم ذكوراً وإناثاً، ثم إن الله جل وعلا أظهر ذلك وبينه في أن النفس البشرية -وخاصة المؤمنة- معظمة محترمة، ولذا جاء الإسلام بأعظم تشريع في الحفاظ على الحياة الإنسانية، وعلى رعاية حقوق الإنسان ونفسه المعصومة في أصل الخلقة ابتداءً، إلا أن يجنح إلى المخالفة بترك الإيمان ومعارضة أهله وحربهم، فالله جل وعلا يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31]، وخص الله جل وعلا النظر إلى الأنثى نظرة دونية بمزيد من العناية والرعاية؛ لمنع ما تميل به الفطر المنحرفة، وما تمليه الوقائع الجاهلية في شأن المرأة، فقال سبحانه وتعالى في وصف يشتمل على معنى الذم: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:58 - 59].
وينكر الله جل وعلا ذلك ويذمه ويحرمه ويمنعه؛ ليبقي أصل كرامة الخلقة والفطرة والإنسانية فيما جعله الله عز وجل لها بصفة عامة، وما جعلها لها في مراتب أعلى وأسمى بسمت الإيمان والإسلام الذي تأخذ وتتفق به مع أصل الخلقة في الفطرة السوية.
ومساواة أخرى كذلك في المسئولية والتكليف، فليست المرأة دون الرجل في ذلك، قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] وهذه الآية عظيمة، وهي تبين أن المسئولية في التكليف، وأن العمل والقيام بالواجبات والفرائض، أمر يستوي فيه الرجال والنساء معاً، وأن الحساب ثواباً وعقاباً يترتب على عمل الرجل والمرأة على حد سواء، فليس للرجل تكليف خاص به إلا ما سيأتي من تخصيص يتناسب معه، لكنه ليس له تكليف لكونه رجلاً مكرماً، أو مرفوع القدر عن المرأة، وليس العكس كذلك.
وهذه مسألة مهمة أوجز النبي صلى الله عليه وسلم -فيما أوتيه من جوامع الكلم- تصويرها في قوله: (النساء شقائق الرجال) فالأمر بينهم شقان معتدلان، وكفتان متساويتان فيما سبق من أصل الخلقة والغاية من الخلق وفي أصل المسئولية والتكليف، فكل مطالب بالإيمان، وأداء الفرائض، والقيام بالواجبات، وذلك بحسبه، والله سبحانه وتعالى قد ذكر في سياق آيات كثيرة الرجال والنساء فقال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب:35] إلى آخر ما ذكر الله عز وجل من أوصاف وعبادات ذكر فيها الذكور والإناث، ثم ختم الآية بأنه أعد لهم الأجر العظيم على ذلك كله، وقد ورد في سبب نزولها أن بعض النساء كـ أم سلمة رضي الله عنها جاءت تسأل وتقول: (يا رسول الله! ما بال الله جل وعلا يذكر الرجال ولا يذكر النساء؟)! فنزلت هذه الآية، وإن كان معلوماً في لغة العرب أن الخطاب قد يأتي بصيغة المذكر ويكون للتغليب، وهو يعم الذكر والمرأة معاً، وشاهد ذلك قوله عز وجل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] فذكر هنا الذكر والأنثى، ثم قال من بعد: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} [آل عمران:195]، وذكر صيغة المذكر بعد أن ذكر المؤنت والمذكر معاً، مما يدل على أن صيغة التذكير تعود عليهما معاً.
وأصل آخر في المساواة أيضاً وهو المتعلق بالحدود والعقوبات، وهذا يدل على المساواة في التكليف، قال الله جل وعلا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، وقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ} [المائدة:38]، فتظهر هنا في أمر الإخلال بالواجبات وارتكاب المحرمات المسئولية والتكليف على قدم المساواة.
وكذلكم فيما يتعلق بالشأن المالي قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4]، {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء:21]، فتلك أصول عامة في المساواة.(135/3)
رعاية المراعاة
ننتقل إلى رعاية أخرى وهي: رعاية المراعاة، ولابد لنا أولاً أن ننتبه إلى أنه إذا كان هناك اختلاف بين صنفين أو نوعين، فإن التسوية بينهما تسوية كاملة يعد ظلماً، ويعد إخلالاً واختلالاً لا يمكن أن تقوم به الأمور على وجه يحسن به الانتظام في الحياة، وخذوا مثالاً على ذلك قبل أن نشرع في مقصودنا: إن كان ثمة رجل قوي في بنيته وعضلاته، وآخر ضعيف متهالك لا يكاد يستقيم في مشيته، فهل يكون من المساواة العادلة أن نقول لهذا وذاك: احملا حملاً واحداً ثقيلاً في وزنه؟! هل نقول لهما: خذا هذا الحمل الذي وزنه خمسين كيلو جرام واحملاه؟! فإذا قال الضعيف: لا أستطيع، نقول له: كلا، هذا من باب المساواة، فأنت رجل وهو رجل، وأنت ذكر وهو ذكر، فلابد أن تكون المساواة في كل شيء، فتحمل مثلما يحمل، سيقول: كلا، إن بيني وبينه اختلافاً: فأنا أضعف منه، ولا أقوى على مثل ذلك، والعاقل حينئذ يقول: احمل أنت كذا، واحمل أنت دونه، فهل يعد ذلك ظلماً أو إخلالاً؟ كلا، فإن مراعاة الاختلاف هي المساواة التكاملية، وهي التي تحصل بها الفوائد والمنافع العظيمة.
ونحن جميعاً نعلم أن الله عز وجل خلق الذكر مختلفاً عن الأنثى من حيث الخلقة الفطرية والظاهرية، فالمرأة مهيأة للحمل والولادة والإرضاع، والرجل على غير ذلك، والمساواة المطلقة تعني: أن نغمض العين عن هذا الاختلاف، وإذا أغمضت العين عن ذلك فهل سنغير في الواقع شيئاً؟ وهل سيأتينا يوم يمكن للرجل أن يقوم بالدور الذي نريده في المساواة، فنقول له: احمل وضع وأنجب ثم أرضع؟! وقد ترون ذلك مضحكاً ولكنه يلزم الغلاة في هذه المساواة، فقد جاءوا بعجب عجيب، حتى إنهم قالوا: إنه بالإمكان أن يكون ذلك مع تطور العلم.
وما يزعمونه وما يقولونه إنما هو ألفاظ ليس لها أثر عملي.
أما ديننا العظيم الذي هو من عند الله عز وجل القائل: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فليس الفرق في الخلقة الظاهرية فقط، بل وفي الخلقة الباطنية، فعاطفة المرأة أرق من عاطفة الرجل، وشدة الرجل أقوى من شدة المرأة, وتركيز المرأة في تفكيرها على جوانب معينة يكون أكثر دقة في ملاحظة خفاياها، وتفكير الرجل أعم وأشمل، فلا ينظر إلى الدقائق، لكنه أقدر على معرفة بعض الأمور من المرأة.
والأم تعرف أن عند ابنها مشكلة، أو أن عنده شيء قد أحزنه أو نحو ذلك من أقل القليل في تغير وجهه، أو كلمات لسانه، أو حتى طريقة نومه، وأما الرجل فلا يلحظ من ذلك شيئاً، بل ربما يأتيه الابن فيلمح له، أو قد يصرح له، وهو لا ينتبه لشيء؛ لأن دقائق الأمور ليست في طبيعة تفكيره في بعض الجوانب العاطفية والنفسية.
وقال سبحانه وتعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] أي: جعل الهداية مناسبة لأصل الخلقة، أي: هدى ووفق وفطر وجعل المسار في الحياة الدنيا يتناسب مع طبيعة الخلقة في هذا الكون.
ولو نظرنا بعيداً عن الإنسان لرأينا ذلك في التكامل الفطري البشري الإنساني، أليس الإنسان يتنفس: فيأخذ الأكسجين ويخرج ثاني أكسيد الكربون، والنبات على عكسه: يأخذ الكربون ويخرج الأكسجين؛ لتكتمل منظومة الحياة؟ فإذا قلنا بالمساواة، وطلبنا أن يكون النبات كالإنسان فسيموت الاثنان وتنعدم الحياة، فهذا المثل الذي أقوله ينطبق تماماً على الذين يريدون المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، فإنهم يجنون بذلك جناية عظيمة على كلا الطرفين: رجلاً أو امرأة، ويجنون جناية كبيرة على الحياة الإنسانية والبشرية في هذه الدنيا قطعاً وجزماً، ونرى ذلك فيما تعلمونه من أحوال الذين ساروا شوطاً بعيداً في مثل هذه الجوانب، فلم تعد المرأة امرأة، ولم يعد الرجل رجلاً، وظهر الشذوذ، وخرجت علينا البدع العجيبة الغريبة التي لا يستطيع بعض الناس أن يصدقها بعقله، حتى إننا رأينا أموراً منكرة وشذوذاً تعف عنه الحيوانات والبهائم -أعزكم الله-، وكان حالهم كما قال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179].
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ميسر لما خلق له)، ويدخل في عموم هذا القول البليغ منه عليه الصلاة والسلام: أن المرأة ميسرة لما خلقت له وفطرت عليه، والرجل كذلك، ولو بدلنا الأدوار لم تكن المرأة رجلاً، ولم يكن الرجل امرأة، ولم يعد عندنا لا هذا ولا ذاك، وصار عندنا أنماط وأنواع غريبة، فنحن نرى اليوم امرأة مسترجلة، ونرى رجلاً متأنثاً، فلم نعد نستطيع أن نعتمد على هذا الرجل إذا تأنث، ولا أن نركن ونسكن إلى تلك المرأة إذا استرجلت، فحينئذ تنقلب الحياة إلى شقاء وجحيم؛ لأنها خرجت عن أصل خلقة الله عز وجل، وصدق الله القائل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، وذلك كثيراً ما يظهر لنا.
يقول ابن عاشور رحمه الله في شأن هذه الموافقة والمواءمة والمراعاة بحسب ما يكون عليه اختلاف الخلقة: وملاك الأحكام التي ثبت فيها التفرقة بين الرجال والنساء هو الرجوع إلى حكم الفطرة، فإذا كان بين الصنفين فوارق جبلية من شأنها أن تؤثر تفرقة في اكتساب الأعمال أو إتقانها فإنها تؤثر تفرقة في أسباب الخطاب بالأحكام الشرعية بحسب غالب أحوال الصنف، أليست المرأة في طبيعتها رقة وضعفَ بدنٍ لا تتساوى مع الرجل؟ فجعل تكليف الجهاد، وواجب النفقة والكدح والعمل على الرجل؛ مناسبةً لخلقته وفطرته، وأما المرأة فليست مكلفة بالجهاد وجوباً، وإن أسهمت فيه كان لها فيه دور، وأيضاً ليست مسئولة عن النفقة، وإن أسهمت فيها كان لها ذلك وفي إطار معين لا يفسد طبيعة هذا التكامل في خلقة الحياة البشرية بين الرجال والنساء، ومن أخل بذلك جاءه ما لا تحمد عقباه.
وتنوع الوظيفة ليس فيه معنى الدونية أو الأفضلية، فليس الرجل -لكونه مكلفاً بالعمل- أفضل من المرأة؛ لأنها من جهة أخرى مكلفة بإنتاج وإنجاب البشر، ورعايتهم وتربيتهم، فإذا فضلناه لذلك فضلناها لهذا، والله عز وجل يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]، وهي درجة القوامة، وقد ذكر ابن جرير عن ابن عباس ورجحه أنه قال: إن هذه الدرجة أن الرجل مطالب بأن يغض الطرف عن أخطاء الزوجة، ويحتمل منها من الهفوة والنسيان ما لا يجب أن تحتمله منه على قدم المساواة، فالمطلوب حينئذ أن يكون هو أوسع صدراً، وأكبر عقلاً، وأكثر احتمالاً لما قد تقصر فيه الزوجة أو تغفل عنه، وهي لن تكون كذلك بحكم طبيعتها، ولذلك لم تجعل هذه الدرجة درجة تفضيل لاستعراض العضلات، أو لذكر المناقب والمزايا، بل جُعلت لتحمل المسئولية، والقيام بواجب الرعاية.(135/4)
رعاية التجانس
إنّ رعاية التجانس تكمل ما سبق، ويتضح ذلك من خلال معرفة العلاقة بين الرجل والمرأة، إنها اليوم حقوق وواجبات، وقد صدعت رءوسنا ونحن نستمع إلى هذه الكلمات، فنسمع اليوم أن المرأة أخذت حقوقها، أو وصلت إلى كذا، أو ما زالت تحارب، فجعلنا الحياة كلها ميدان صراع وحرب بين رجل وامرأة، وما معنى ذلك؟! لقد صارت الحياة كلها صراع؛ لأنه ليس فيها إلّا رجال ونساء، ذكور وإناث، إذاً أوجدنا ما يشق هذه الحياة، ويمنع التئامها، ويحول دون تجانسها، ويقف دون تكاملها، ويمنع من أن تكون صورة متكاملة شقها الأول يكتمل مع الثاني ويتجانس معه، لتبدو الحياة كما أرادها الله عز وجل، وكما اقتضتها تشريعاته: حياة متوائمة ومتلائمة ومتجانسة ومتكاملة، ليس فيها شذوذ ولا تباعد ولا تناقض ولا تحارب ولا اختصام، كما صورتها لنا الحضارة الحديثة، وأدخلتها علينا الأفكار الدخيلة، فقد صرنا اليوم نتحدث عن قضية المرأة وللأسف من منطلق المدافع، وكأن تلك القضايا قد أصبحت مقررة ومثبتة في الأذهان، بل وقد مالت إليها نفوس كثيرة من الرجال أكثر من النساء، حتى صار تقرير أصل الخلقة وأصل الدين أمراً يحتاج إلى جهد ومشقة وإثبات وتدليل وبيان وبرهان، وهذه مسألة مهمة أوجبت علينا مثل هذا الحديث.
انظروا إلى الصورة النموذجية المشرقة الوضيئة الفياضة بالحب والود والحنان، الراسمة لأجمل صورة يمكن أن تكون عليها هذه الحياة الدنيا وهي قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] فهذا هو الرجل، وتلك هي المرأة.
إنّ هذه الخلقة المتباينة بين الطرفين تكاملاً وتجانساً من آيات الله عز وجل، ومن عظمة خلقه سبحانه وتعالى، ومن دلائل إعجازه وقدرته جل وعلا: (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ)، سبحان الله! كيف يكون الذي خُلق من النفس شيئاً مبايناً ومخالفاً؟! وكيف يكون مصارعاً ومغالباً؟! ولم لا يكون متجانساً ومتوائماً؟! (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا)، وكلكم يعرف معنى السكن، فقد تكدح في الأرض، وقد تسافر شرقاً وغرباً، لكنك تعود إلى بيتك، وإلى سكنك، وإلى المأوى الذي ترتاح وتسكن فيه من تعب الحياة.
وانظروا إلى الرجل في طبيعة التكامل مع المرأة، إنه يسكن رحم المرأة أماً له، ويبقى فيه تسعة أشهر، ويسكن حضن المرأة رضيعاً بين يدي أمه، ويسكن حضن زوجته وصدرها محبة ومودة ومعاشرة وشهوة ولذة، ويسكن حضن ابنته وهي ترعاه في كبره، وهي تحنو عليه مع تقدم سنه، إن هذا المعنى يدلنا على عظمة دور المرأة، ولا يقصر في حق الرجل، لكن الرجل يتعب ويحتاج إلى السكن، ولن يجد سكناً إلا في ذلك.
ثم قال: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) نقل القرطبي عن ابن عباس أنه قال: المودة: محبة الرجل لزوجته، والرحمة: الشفقة عليها أن يصيبها منه مكروه، فإذا كان هذا هو الأصل في الخلقة والتجانس والتكامل، فهل ترون مجالاً لشقاق ينشأ من الفكر والتصور، أو تجاذباً واحتراباً ينشأ من واقع الفهم لهذه الخلقة، أم أننا في هذا نرى ذلك النموذج القرآن الذي أخبر الله عز وجل في غير ما آية من كتابه جل وعلا: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا).
ثم انظر إلى التصوير القرآن البليغ المعجز في قوله جل وعلا: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187]، فأي شيء أقرب إلى جسدك؟ إنه لباسك.
وأي شيء يحسّن مظهرك؟ إنه لباسك.
وأي شيء لا تستطيع أن تستغني عنه وإلا بدت سوءتك؟ إنه لباسك.
فهذه المعاني وغيرها تعني: أن تكون المرأة بالنسبة للرجل زينته ولصيقته وجماله وستره، وتعني: أن يكون الرجل للمرأة كذلك، فليس ثمة صورة أقرب وأظهر في الامتزاج والتكامل والتجانس والمحبة والمودة من هذه الصورة.
ثم استمعوا لقوله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19]، واستمع لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (لا يفرك مؤمن مؤمنة -أي: لا يبغض مؤمن مؤمنة- إن ساءه منها خلق رضي منها آخر).
ذلك هو التوجيه القرآني والنبوي بأن يغض الرجل الطرف عن بعض النقائص، وأن يغلب الأصل، وهو ذلك الامتزاج والتلاحم والمودة والمحبة، وما يجري في الحياة من أسباب الشقاق تظلله تلك المحبة، فيصبح كسحابة صيف عابرة، ويصبح كما هو في طبيعة الحياة اختلاف يمر، وحديث يعرض، وهكذا تعود الأمور إلى أصولها؛ لأن الأصل أثبت من العوارض التي تمر بالإنسان.
وإذا نظرنا إلى ذلك وجدنا هذه الصورة المشرقة الوضيئة في إسلامنا وإيماننا تبين لنا أصل رعاية الإسلام بعيداً عن جناية من خالفوه من أبنائه، ومن ناقضوه من أعدائه.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا ديننا، وأن يبصرنا بكتاب ربنا، وأن يلزمنا نهج نبينا، وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(135/5)
رعاية الإكرام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم ما يلزم فيه تقوى الله عز وجل: الرعاية والعناية وحسن الصلة بالأزواج والأبناء وذوي الأرحام كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
وأختم هذه الصور من الرعاية: برعاية الإكرام، لما كانت المرأة بطبيعة خلقتها فيها ضعف لا تستطيع معه أن تغالب الرجل أو تغلبه: لا في قوة البدن، ولا في قوة الحيلة والدهاء، ولا في قوة القدرة على ملامسة أسباب الحياة، كان الظن أن تجنح بعض النفوس، وتميل بعض الأهواء إلى عدوان على المرأة، أو إجحاف بحقها، أو استلاب لحقها أو نحو ذلك.
ومن هنا جاء التشريع الإسلامي برعاية خاصة ومزيد من الإكرام والإجلال للمرأة في جميع جوانب صور حياتها في هذه الحياة البشرية، أما الأم فقد أسلفنا القول فيها، ورأينا كيف جعل لها الشرع من البر ثلاثة أرباع، والرابع للأب؛ لبيان ما لها من أثر في هذا البر بحسب حملها وإنجابها، وما لاقت كرهاً على كره، ووهناً على وهن كما بُيَّن في آيات الله عز وجل، ونحن نعلم كم في بر الأم من أجر وفضل ومثوبة.
أما الزوجة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)، وأخبر عليه الصلاة والسلام بأن بعض الرجال يضرب النساء فقال: (ليس أولئك بخياركم، ليس أولئك بخياركم).
وعندما نرى معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه إصغاءً لمشورتهن، وإتياناً بما يحببه إليهن، وملاحظة ومراعاة لمشاعرهن؛ ندرك كم كان تقديره وإجلاله ومحبته وإعزازه لهن، ألم يكن صلى الله عليه وسلم إذا شربت عائشة رضي الله عنها أخذ الإناء ووضع فمه موضع فمها؛ إشعاراً بلفتات الحب التي تغزو قلب المرأة ونفسها؟! ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يسابق عائشة ليظهر نوعاً من الترفيه والمرح الذي يجعل الحياة بين الزوجين حياة ندية وأخوية، وليست حياة أمر واستجابة، وحياة عسكرية وجندية؟! أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي استمع وأصغى لمشورة أم سلمة رضي الله عنها في أعقاب الحديبية يوم أن قالت: يا رسول الله! قد علمت ما دخل على الناس في نفوسهم من هذا الأمر، فلو خرجت وأمرت حالقك أن يحلق لحلقوا؟! فلم يقل لها عليه الصلاة والسلام: مالك ولهذا الشأن؟ ولم يقل لها: اصمتي فإنك امرأة، ولم يقل لها: اعرضي عني، فإني أحسن تدبير أموري.
بل استجاب وخرج وفعل مشورتها، وكانت تلك المشورة صائبة، وغير ذلك من الصور التي تعرفونها.
وهكذا البنت التي قد يجار عليها تفضيلاً لأخيها عليها، أو نظراً لما قد يكون في العقول والنفوس من الآثار الجاهلية في غمط حقها، فقد جاء التشريع وجاء الهدي النبوي بمزيد من التخصيص في تربية البنات فقال صلى الله عليه وسلم: (من عال ثلاث بنات فأحسن إليهن، وأحسن تأديبهن، كن له ستراً من النار)، وفي رواية: (قيل: واثنتين؟ قال: واثنتين).
فلماذا لم يذكر الأبناء؟
الجواب
لأن البنت قد يفرط فيها، وقد لا يلتفت إليها، وقد يكون هناك غمط لحقها، أو انقاص لقدرها، ولأنها أيضاً تحتاج من التربية والرعاية والعناية ما تكون به أعظم وأقدر على أن تنشئ وتربي جيلاً جديداً يستأنف حياة الإيمان والإسلام على أتم وأكمل وجه، وذلك نجده كثيراً في تشريعات الإسلام.
هذه بعض صور الرعاية، ومن ورائها أمور واقعية في حياة المسلمين من صور الجناية، ومبادئ وأفكار كلها قائم أو مؤد إلى الجناية على المرأة خارج تشريع الإسلام، وذلك ما قد نكمل به حديثنا.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا ديننا، وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب، وأن يجعلنا بارين بأمهاتنا، محسنين إلى أزواجنا، قائمين بحقوق أبنائنا وبناتنا.
ونسأل سبحانه وتعالى أن يحفظ على مجتمعنا أمنه وأمانه، وسلمه وسلامه، ورغد عيشه ووئامه، إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، زلزل اللهم الأرض تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، واشف فيهم صدور قوم مؤمنين، عاجلاً غير آجل، يا رب العالمين! اللهم أقر أعيننا بهزيمتهم واندحارهم وردهم على أعقابهم، يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين، والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يارب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية.
اللهم احفظ علينا أمننا وإيماننا، وسلامنا وإسلامنا، يا رب العالمين! واجعل اللهم خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا.
وانصر اللهم عبادك وجندك المجاهدين في أرض العراق وفي فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، وأعل رايتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك، يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي: أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(135/6)
المرأة بين الرعاية والجناية [3]
تشريع الحجاب فيه حكم عظيمة جداً، فقد حفظ الله تعالى به المرأة من الفتنة والتعدي، وحفظ به جمال المرأة وأنوثتها وحياءها، وبه يحفظ الرجل من فتن كقطع الليل المظلم، وبه يحفظ كثير من المال، ويتحقق الأمن والأمان، فسبحان من شرع الشرائع والأحكام، وجعل الدين عنده الإسلام.(136/1)
الحجاب: أهميته وفوائده
الحمد لله الذي أكرمنا بالإيمان، وأعزنا بالإسلام، وشرع الشرائع وأحكم الأحكام، وجعل فيها الخير والمصلحة للأنام، ووعد من التزمها بالجنة دار السلام، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، فهو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما شاء من شيء بعد، له الحمد حتى يرضى، وله الحمد بعد الرضا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيع عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الأخوة المؤمنون! ما زلنا نتواصل معكم في موضوع [المرأة بين الرعاية والجناية] كي نستوفي به ما ابتدأناه من الحديث في شأن تشريع الحجاب على وجه الخصوص، وأحب ابتداءً أن أشير إلى أن الخطبة الماضية في هذا الموضوع كانت لهدفين أساسيين مهمين: أولهما: الارتباط بكتاب الله، وسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم، فنحن ندرك ونوقن ونؤمن بأنّ ما يلزمنا من الأوامر، وما ينبغي علينا الابتعاد عنه من النواهي، إنما هو من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: بيان ضلال وفساد الأقوال المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الذين دعوا إلى تحرير المرأة -كما يزعمون-، وإن الذين ضاقوا بتشريع الحجاب للمرأة المسلمة -كما يظهرون-؛ لم يتحدثوا ولم يكن شأنهم أن يتحدثوا عن كشف الوجه والكفين، فتلك مسألة خلافية، وفيها لأهل العلم قديماً وحديثاً أقوال، ولم يكن مقصد حديثي أن أشير إلى ذلك، ولا يصلح في خطبة الجمعة ذكر الأقوال وترجيحها في مسائل دقيقة أو مختلف فيها، ولكن حديثنا كان -كما نعلم من الواقع اليوم- عن كشف النحر، والصدر، والذراعين، والساقين، بل وما هو أكثر من ذلك مما تعلمون وترون وتسمعون وتقرءون.
وحديثنا اليوم استكمال لهذا الجانب، ويؤكد مثل هذه المعاني، فنحن نتحدث اليوم عن رعاية الحجاب للمرأة والمجتمع، وأن مخالفة هذا التشريع في الحجاب على الوجه المعروف جناية عظيمة تشقى بها المرأة أولاً، ويشقى بها المجتمع كاملاً ثانياً.(136/2)
الرعاية التربوية في الحجاب
إن الحجاب رعاية تربوية، ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى التربية، وإلى الأخلاق الفاضلة، وإلى السلوك المستقيم، وإلى التصرفات التي تنم عن سمو في القيم والمبادئ، وكم نشكو اليوم من التهتك والتسكع، ورقة الدين، وضعف الأخلاق، وانحلال السلوك.
إن الحجاب في حقيقة أمره تشريع من الله سبحانه وتعالى، وعندما نتأمل حكَمه تتجلى لنا وجوه من الرعاية العظيمة، فهناك شئون تربوية كثيرة تكتسبها المرأة المسلمة المتحجبة: أولها: تأكيد وإظهار لإيمانها المطلق وتسليمها التام لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7]، فلسان حال المرأة المتحجبة وكأنها من الراسخين في العلم، فتراها تضع الأمر بالقرآن أو الهدي من السنة فوق رأسها، فتلتزمه وتظهره وتبدي أنه ليس لها من توجيه في أمر ولا نهي إلا من هذين المصدرين.
وسلوا المرأة المسلمة غير المتحجبة من أين أخذت هذا الأمر؟ ومن أي جهة أخذت هذا اللباس؟ لن تستطيع أن تنسب نفسها إلى كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو أرادت أن تنتسب فسوف تنتسب إلى شذاذ في آفاق الأرض من اليهود أو غيرهم، أو إلى فساق من أهل الإسلام ممن سمعتهم وسيرتهم يعف اللسان عن ذكرها، فهم الذين قالوا لها: انزعي حجابك، واكشفي ذراعيك، وحرري ساقيك، وأبرزي نهديك إلى غير ذلك.
وهنا أيضاً أمر آخر في شأن التربية وهو: احتساب الأجر والمثوبة، فإن هذا البعد له أثر في تربية المرأة المسلمة، فهي عندما تتحجب حتى في وقت شدة الحر فإنها تعرف وتوقن أن لها بذلك أجراً وثواباً، وأنها تدخر عند الله جل وعلا حسنات كثيرة، وأنها تفعله -كما هو حال المسلم في كل شيء يفعله- استجابة لأمر الله وتقرباً إليه سبحانه، ولو كان ذلك من أمور الحياة العادية فإنها تؤجر عليه كما قال صلى الله عليه وسلم: (حتى اللقمة يضعها الرجل في فم زوجته له بها أجر)، بل قد قال صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة؛ فتعجب الصحابة قائلين: أو يقضي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟! فقال: أرأيتم إن وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال).
إن ذلك التعليم النبوي يدلنا على أن امتثال الأمر أو اجتناب النهي سببه ذلك الارتباط المنهجي بالقرآن والسنة، وهو أمر يؤجر عليه صاحبه، فكم من أجر لهذه المرأة! فإنها كلما خرجت لحاجتها وهي ملتزمة حجابها، مستجيبة لأمر ربها، ومقتفية لهدي رسولها صلى الله عليه وسلم فإنها تؤجر على ذلك.
وهذه تربية مهمة؛ لأننا نريد أن نربي المسلم عموماً على أن ينوي في كل عمل نية صالحة في استجابته لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وأمر ثالث مهم في التربية وهو: أمر الحياء، فالحياء خلق يبعث على فعل الجميل وترك القبيح كما يقول أهل العلم، والحياء سمة وخلق رفيع سام، من تحلى به عف لسانه، وغض بصره، وكان بعيداً عن فاحش القول وسوء الفعل، وهذا الحجاب يحافظ على حياء المرأة محافظة عظيمة، ونحن نعلم أن الحياء صفة للإنسان رجلاً وامرأة، لكنه عند المرأة أعظم، والحجاب يرعى هذا الخلق وينميه، ولو رأيتم المرأة المتحجبة كيف يكون حالها إذا هبت الريح فرفعت ثوبها أو جاء إنسان فجأة ودخل عليها، فإنها تكون متغيرة ومتأثرة، بل عندما يأتي الشاب إلى الفتاة المتحجبة ليخطبها يحمر وجهها خجلاً، وانظر إلى امرأة ليست متحجبة، واقرأ سطور الحياء فلن تستطيع أن تراها في ذلك الوجه الذي ضج بالمكياج وسبل التجميل، والشعر الذي فرد، والأيدي والأذرع المكشوفة وغير ذلك، فأين ذهب الحياء؟! سترى أن نزع الحجاب هو نزع للحياء، ولقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الحياء وصلته بالإيمان فقال -كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق) فلم يكتف صلى الله عليه وسلم بذكر الأعلى والأدنى ولكنه قال: (والحياء شعبة من الإيمان).
وعند الحاكم في مستدركه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإيمان والحياء قرنا جميعاً، فإذا نزع أحدهما نزع الآخر)، وانظروا إلى النساء اللائي قد نزعن حجابهن كيف ضاع حياؤهن، فإنك تأتي إلى المرأة فترخي بصرك حتى لا تنظر إليها، وهي مسلطة بصرها إليك، وتحدثها حديثاً غير مباشر، وهي تتحدث بكل وضوح وصراحة، وقد تجتنب الجلوس إلى جوارها، وهي تكاد تلتصق بك! إن معنى الحياء مرتبط بالحجاب، وإن نزعه ولا شك سوف يغيض هذا الخلق، وسوف يضعف هذه السمة في المرأة حتى وإن كانت لا تقصد ذلك، فإن طبيعة الإنسان التأثر والتغير، ونحن جميعاً نشهد ذلك ونعلمه من واقع الحال.
وفي التربية أمر مهم: وهو الأنوثة في المرأة، ونحن نعرف أن المرأة فيها أنوثة تتمثل في جمالها، ورقتها، وفيض عاطفتها، وتدفق مشاعرها، وإن الحجاب يجعل لها ذلك الصون وتلك السمة في محافظتها على أنوثتها التي هي من نعم الله عز وجل.
وانظروا إلى المرأة التي نزعت حجابها وتبرجت: أين أنوثتها؟ لقد عرضتها على قارعة الطريق وامتهنتها، وكأنها تتسول من ينظر إليها، وتدعو من يلتفت إلى جمالها.
إن البضاعة العظيمة لدى صاحبها لا يعرضها إلا للفت النظر إليها، ولترغيب الناس فيها، أما إن كانت بضاعة تخصه فإنه لا يعرضها، بل يحفظها؛ لينتفع بها وحده، فإن عرضها فإن الناس كلهم سوف يأتون ليأخذوا حظهم منها أو ليدفعوا ثمنها، وأعجب من رجل مؤمن مسلم يسير ومعه امرأته وقد تبرجت وأظهرت زينتها! ولو سألتها: لم تبرزين مفاتنك؟ ألستِ متزوجة؟ ستقول: بلى.
ألست عفيفة؟ ستقول لك بملء فيها: بلى.
ولن نكذبها في ذلك، لكننا نقول: لماذا تبرزين هذه الزينة وذلك الجمال؟! ولماذا تمتهنين هذه الأنوثة؟! وما الذي بقي للزوج من امرأته إذا كانت على شاطئ البحر بلباس البحر، وكل عورتها مكشوفة إلا السوءتين؟! أليست عاملاً مشتركاً لكل هؤلاء الرجال؟! فما الذي خُص به زوجها؟! كل الحواجز تنهار إذا تكشفت المرأة، وتصبح حتى تلك الخصوصية بينها وبين زوجها مهددة، واقعاً لا مثالاً، وحقيقة لا خيالاً! إذاً: هذه المرأة تضيع أنوثتها، وذلك أيضاً ماسخ لفطرتها، وكلكم يعلم شأن المرأة المسترجلة، فتراها إذا مشت تمشي وكأنها عسكري، وتبدي كل ما لديها من جسمها، وتخالط الرجال وتتحدث معهم، وتخرج إلى الأسواق، وتذهب إلى الأعمال، وتعيش حياتها خارج بيتها، فما الذي يبقى من أنوثتها؟! وما الذي يبقى من السر الذي ينجذب إليه الرجل منها؟! وذلك أيضاً شأن تربوي خطير.(136/3)
الحجاب والرعاية النفسية
إن كثيراً من الأخطار والأمراض والأحوال النفسية التي تصيب المرأة عموماً، والفتاة المراهقة عند بلوغها خصوصاً مردها إلى شأن الحجاب، وليس ذلك تخرصاً أو كلاماً ساذجاً، بل هو أمر أثبتته الدراسات العلمية، فهناك دراسة أجريت في أمريكا عاصمة بلاد الحرية كما يزعمون، وهذه الدراسة أجريت على الفتيات بعد سن الثانية عشرة في إحدى المناطق، فوجد أن الفتيات بعد هذا السن أكثر كآبة من الفتيان، ووجد أن الفتيات بعد البلوغ والمراهقة أكثر كآبة منهن قبلها، ووجد أن الفتيات الأقل جمالاً أكثر كآبة ممن هن أحسن جمالاً، فلماذا؟! ومن أين جاءت هذه الكآبة؟! يدرك الجميع أن الفتاة في مقتبل عمرها رأس مالها وأكثر ما يشغل بالها هو جمالها، فإذا كانت ستخرج غير متحجبة فستعلم حينئذ أن جمالها موضع النظر، والخلق متفاوتون في ذلك، فما رأيكم بفتاة عندها عيب خلقي في رجلها أو في يدها أو في عينها؟ وما رأيكم في فتاة شعرها مجعد أو في وجهها نمش أو غير ذلك؟ كيف سيكون حالها؟ إنها ستحمل من الهم والغم -لأجل ذلك- ما لا يوصف، وإذا جئنا إلى المقارنة في ميادين الفتيات والنساء، فإن المرأة قليلة الجمال إذا رأت غيرها من الجميلات في معرض من الرجال وحضور منهم فسترى أن الميزان يتأرجح، وأن الكفة تهبط بها، فتفكر في نظر الناس إلى تلك المرأة الجميلة، والتفاتهم إليها، وجلوسهم معها، وحديثهم إليها، وهي على هامش الأحداث، فكل هذه الجوانب ناتجة عن عدم الحجاب.
وأما الفتاة والمرأة إذا تحجبت فإن ذلك كله يزول؛ لأن جمالها تحت ستار الحجاب، ولا يبقى ذلك الشأن إلا في دائرة محدودة، وذلك عندما تكون الفتاة مع النساء من مثيلاتها، والأمر هنا أهون وأخف وأقل وأدنى، وقد أثبتت هذه الدراسة العلمية أن ذلك له أثره في الجانب النفسي للنساء عموماً، وللفتيات خصوصاً.
ومن هنا ننظر كذلك إلى صفة الحجاب في اللباس، فقد ذكر العلماء أن المرأة يحرم عليها أن تلبس ثياباً رقيقة تشف عن جسمها، أو أن تلبس ثوباً ضيقاً يصف حجم عظامها وهيئة جسمها، وذلك كله إذا التزمت به المرأة لم تظهر تلك العيوب، ولم تظهر تلك الاختلافات، وكانت في راحة نفسية، وكان لديها من الرضا النفسي ما يجعلها لا تتأثر بمثل هذا التأثر الذي يعلم الجميع غوره وعمقه في نفس المرأة والفتاة، وتأثيره في تصرفاتها وأفعالها.
وللحجاب تأثيره على المظهر الخارجي أيضاً، فالمرأة غير المتحجبة إذا أرادت أن تخرج فهي تحتاج إلى أنواع من الزينة في الوجه وغير الوجه، وتحتاج إلى حلي وإلى لباس، وإلى أن يكون ذلك اللباس متغيراً في كل يوم، وغير ذلك، وأما إذا تحجبت فهي تنتقل من هنا إلى هناك، ثم تصل إلى البيت الذي تريد، أو إلى المجمع النسائي الذي تريد ولا تحتاج إلى مثل هذا، وإن كانت ذاهبة إلى عمل ليس فيه إلا النساء لم تحتج إلى مثل هذا كله، وذلك كله من الآثار المهمة المفيدة.
وهكذا نجد تأثير هذا في أمور كثيرة، وسأنقل لكم هنا شيئاً طريفاً، وخبراً قد يكون في ظاهره مضحكاً، لكنه يعبر عن حقيقة واقعة، هذا الخبر عن امرأة كانت قبل سنوات قليلة تحكم دولة من الدول الأسيوية الكبرى، وقد حصل في بلادها محاولة انقلابية فتقول وهي تخبرنا عن الواقع: إن بوسع الرجل أن يستيقظ من الفراش، ويمشط شعره، ويكون مستعداً لمباشرة عمله في لحظات، غير أن الأمر يختلف بالنسبة للمرأة، فلا يمكنني أن أسمح بالتقاط صور لي حال استيقاظي مباشرة من الفراش، وعندما جاءت حادثة الانقلاب استيقظت على هذا الحادث، وأخبرت به، ومع ذلك انصرف اهتمامي إلى مظهري الذي سأخرج به، ولو كنت رئيساً فما كان عليَّ إلا ارتداء الملابس بسرعة، وأن أكون في الموقع المناسب! فإذا كانت الرئيسة امرأة فإن الأمر يحتاج إلى الاهتمام بالمكياج، وهذا أمر بدهي، فالمرأة إذا كانت ستخرج متبرجة فالزينة شرط لازم لا تستطيع أن تتجاوزه، ولذلك فإن هذا التشريع يحررها من هذه القيود والضغوط.(136/4)
الحجاب والرعاية الأمنية
ثم ننتقل إلى الحجاب كرعاية أمنية، فنحن نعلم أنه بقدر التهتك وترك الحجاب تكون أسباب إمكانية الاعتداء على المرأة، سواءً كان اعتداءً لفظياً، أو كان اعتداءً يدوياً، أو كان اعتداءً جنسياً، والإحصاءات في هذا في عالم الغرب يشيب لهولها الرأس.
ففي إحصائيات لا يتجاوز عمرها البضع سنوات أقيمت في أمريكا تقول: إن هناك ثلاثمائة ألف وسبعة آلاف حالة اغتصاب، وهي تمثل ثلث ما يمكن أن يكون في الواقع، وهذه الإحصائية إذا قسمناها وجدنا أنه في كل ساعة تحدث ست وثلاثون حادثة اغتصاب، وأنه بمعدل هذا التزايد يصبح الأمر في أخطر أحواله.
وهذه الشرطة البريطانية قبل بضع سنوات وزعت منشوراً أمنياً يطالب النساء بأن يلبسن لباساً ساتراً، وأن يجتنبن الملابس القصيرة المثيرة، فما دخل هذا في الأمن؟ إن الشرطة قد ملئت مخافرها بالمشكلات الناتجة عن الاعتداءات الناشئة من مثل هذا التبرج والإغراء والإثارة، وليس كما يقول المرجفون: بأن هذا سوف يزيل الكبت، ويطبّع العلاقة بين الرجل والمرأة، ولو كان الأمر كذلك لرأينا القوم الذين لم يعد عندهم شيء اسمه حجاب، وصار العري عندهم في بعض المناطق مطلوباً، وفي بعض السواحل والشواطئ لا يجوز أن يدخلها الإنسان وهو يلبس أي قطعة من الملابس، فهل انتهى ذلك الكبت عندهم أم أنه قد تزايد أوار الشهوة وسعارها حتى أصبحت في أوج مراتب الجريمة؟! ودعوني أنتقل بكم إلى جانب أمني طريف، وهو: أن مسألة الحجاب لها أثر أمني على المجتمع في جانب آخر ألا وهو: جانب الحوادث المرورية! ولا تتعجبوا من ذلك، فهناك من دعا في تلك البلاد إلى طلب رسمي من مدير شرطة مدينة جورج تاون في أمريكا إلى مناشدة النساء بعدم لبس الملابس المثيرة، يقول بالنص: وإلا فإنه سيكون العالم مهدداً تهديداً عظيماً، بل ويجعل ذلك -على سبيل المبالغة- أخطر من تهديد القنبلة الذرية، ويقول في كلمات لطيفة: عندما تكون عين السائق تتركز على تلك المرأة التي يرى محاسنها فإن مقدمة سيارته ستكون متركزة في عمود كهرباء، أو عابر سبيل، أو في سيارة أخرى! وهناك دراسة أقيمت على أحد التقاطعات في عاصمة أوروبية، فوجدوا أن الحوادث تزداد في فترة الصيف، فقامت إدارة المرور بدراسة ذلك فوجدت أن السبب هو: أن بعض الفتيات يبعن الماء البارد للناس عند تقاطع الإشارات وهن يلبسن اللباس المناسب للجو الحار، فكلما جاء إنسان إلى هذا التقاطع نظر إلى تلك الفتاة وصدم في السيارة التي أمامه، فتزداد الحوادث، فقاموا بنقل هؤلاء الفتيات من هذه المنطقة فقل عدد الحوادث! قد يقول بعض الناس خاصة من الذين لا يحبون الالتزام، ولا يحبون أن يدركوا عظمة هذا الإسلام: إن هذه مبالغات، وهذه أقاصيص سمجة، وهذا نوع من الحديث العاطفي تقررونه لتثبتوا مثل هذه الأمور، وما رأينا شيئاً من ذلك.
فأقول: ارجعوا واقرءوا وتابعوا، فإن الذي نذكره غيض من فيض.
وبعض إدارات الشرطة طلبت أن يفصل النساء عن الرجال في المواصلات العامة، خاصة في الأوقات المتأخرة من الليل.
وإذا جئنا إلى القضية الأمنية وجدنا أموراً كثيرة لا يتسع المقام لذكرها.(136/5)
الحجاب والرعاية الصحية
ثم في الحجاب أيضاً رعاية صحية، وهذه مسألة مهمة، فهناك دراسة أجريت على الفتيات والنساء اللائي يأخذن حمامات الشمس بلباس البحر، فأثبتت الدراسة أنهن أكثر عرضة للإصابة بسرطان الجلد بـ (13) ضعفاً عن غيرهن ممن يلبسن لباس البحر دون أن يكون مكشوف الظهر، فكيف بالمرأة المسلمة المتحجبة؟! وتقول هذه الدراسة: إن هناك سرطانات جلدية معينة كسرطان الخلية القاعدية وبعض أنواع السرطان تزداد بكثرة في النساء اللاتي يتكشفن ويتعرضن للشمس لمدة طويلة، ففي بريطانيا تزداد في كل سنة (2600) حالة من حالات سرطان الجلد بمعدل زيادة سنوي متنام بـ (50%).
ثم انظروا إلى الناحية الطبية، فقد درس بعض العلماء في أمريكا أيضاً بعض أنواع اللباس، وهو اللباس الضيق الذي يضيق على الساقين والرجلين، فقيست سيقان بعض الفتيات قبل لباسهن هذا اللبس ثم بعد لباسهن إياه بفترة، فوجد أنه يسبب تضخماً غير طبيعي وغير صحي في حجم الساقين وحجم الأرجل، وذلك بنسبة (5%)، ويغير لون الجلد بنسبة (7%).
وأضافت المجلة الطبية البريطانية: أن السرطان الخبيث الذي يصيب الجلد في المناطق المكشوفة من جسد المرأة أصبح في تزايد مستمر حسب الملابس العارية التي تكشف أجزاء من الجسم؛ بسبب التعرض الطويل للشمس في هذه المناطق المشكوفة من الجسم.
لذلك عندما يأتي أحد ويقول: نريد أن نمنع شيئاً؛ لأنه ضار صحياً، وعندما يأتي نظام من الدولة ويقول: امتنعوا عن كذا وكذا، أو لا تشربوا كذا وكذا، فماذا سيقول الناس؟ سيقولون: جزى الله هؤلاء خيراً؛ فإنهم يحافظون على الصحة العامة.
ونحن نقول للذين لا يفقهون شأن الحجاب في كتاب الله وسنة رسوله: سنصدر لكم تعليمات بشأن هذا الحجاب؛ لغرض المحافظة فحسب، وهذا غيض من فيض، وتشريع الله عز وجل حكمته أعظم، ومنفعته أجل.
نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بديننا، وأن يلزمنا كتاب ربنا وهدي نبينا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(136/6)
الحجاب والرعاية الاقتصادية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الأخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن تقوى الله عز وجل هي التزام أمره، واجتناب نهيه في كل شأن من شئون الحياة.
ومع الحجاب أيضاً نمضي لنعرف أن وراء ذلك أموراً كثيرة، ففي الحجاب رعاية اقتصادية، إذ يقل عند المرأة المحجبة استهلاك الكماليات من أمور التجميل والملابس بقدر ظاهر عن غيرها من اللاتي لم يلتزمن بالحجاب، فترى الواحدة منهن تخرج في كل وقت، فتحتاج إلى لباس جديد، وزينة جديدة وغير ذلك.(136/7)
الحجاب وشخصية المرأة
وهناك صور أخرى ينبغي أن نتنبه لها منها: قضية شخصية المرأة، وهنا يتحدث إلينا كثيرون من الذين يزعمون أنهم متحررون فيقولون: إنكم لا تنظرون إلى المرأة إلا من الجانب الجنسي، وترون أن المرأة عورة؛ وما ذلك إلا لأنكم تنظرون بمنظار الشهوة، فنقول لهم: ما هي نظرتكم أنتم معاشر القوم المتقدمين؟! فيقولون: نحن ننظر إلى المرأة بثقافتها وفكرها وشخصيتها وعلمها، فنقول: كلامكم حسن معسول، لكن في داخله السم، وهو غير واقعي، والأمثلة تشهد بذلك، فعندما تأتي إلى بعض الوظائف وخاصة الوظائف التي في الواجهة كما يقولون، فالمطلوب سكرتيرة تجيد كذا وكذا وكذا، فإذا تساوت -ولا نقول دون ذلك- امرأتان في المهارات اللازمة للوظيفة، وكانت إحداهما أعلى من الأخرى بقليل إلا أن الثانية أجمل وأكثر غنجاً ودلالاً، فأيهما يتم اختيارها من قبل الرجال والمدراء؟
الجواب
في الغالب الأعم، والذي تشهد به الإعلانات -كما سأشير الآن- هي تلك، فنقول: فأين شخصية المرأة وعلمها؟! بل قد يقدم من ليس لها تلك المهارات، ولا تلك المؤهلات؛ لأن هناك لفت نظر إلى جانب آخر.
وعندما تقرأ إعلانات طلب توظيف المضيفات على الطائرات فإنك تقرأ وقد قرأت ذلك بعيني: أن يكون السن من كذا إلى كذا، فما فائدة هذا السن في المهمة والوظيفة؟! لا شيء، ثم أن تكون جميلة حسنة المظهر، فما فائدة ذلك أيضاً في نفس الخدمة ذاتها؟! ليس هناك شيء مقبول، إلا أن هناك شيئاً آخر يفرض نفسه وهو: أن المرأة ينظر إلى جمالها وإلى أنوثتها، وهذه هي الحقيقة شاء من شاء وأبى من أبى.
ثم ننظر كذلك إلى الحضور العقلي والعلمي، والحضور الأنثوي والجمالي، إن المرأة إذا تحدثت إلى الرجال أو اختلطت بهم في أي أمر من الأمور المحمودة، وفي جو نظيف، فهناك حضوران: حضور علمي فكري، وحضور أنثوي جمالي، فإذا تركنا المرأة غير محجبة انصرف الناس عن علمها وعملها، ونظروا إلى دقة ساقيها، وإلى جمال عينيها، وإلى بياض بشرتها، وذلك واضح أيضاً في أجواء العمل كما سنشير إليه، وإن حجبناها بقي علمها، وأما من قال: إننا إذا حجبناها لم تعد عالمة، ولم تستطع أن تكتب، أو أن تتحدث، أو أن تقوم بأي عمل من الأعمال، فنقول: ليس هذا بصحيح، فنحن منعنا الناس أن ينشغلوا بجمالها عن علمها وعملها، وكما يقول أحد الكتاب في غير بلادنا: نحن إذا جئناك -أيتها المرأة- وأنت في وظيفة من الوظائف فإنما نريد الخدمة، ونريد العمل، ونريد إنجاز المهمة، فإذا كشفت شعرك وذراعيك شغلنا عن ذلك بهذا.
فالمرأة إذا سُترِتْ أدت دورها، وبقي جمالها، وبقيت أنوثتها لبيتها وزوجها وأسرتها وأبنائها، وهذه هي فلسفة الحجاب من وجه صحيح.
إحدى الشركات البريطانية الكبرى أصدرت تعميماً لموظفيها تقول فيه: إنها تطلب من النساء عدم لبس الملابس القصيرة والمثيرة، لماذا؟ لأنهم وجدوا أن هناك انشغالاً عن العمل من قبل الرجال؛ بسبب طريقة لبس بعض زميلاتهم، وهذا بدهي وواضح كما قلنا.
وهكذا نرى أن الحجاب تشريع يحفظ شخصية المرأة، ويربي فيها المعاني السامية، ويحفظ نفسيتها مستقرة، ويوفر شيئاً من مالها، ويحمي عرضها ونفسيتها من عدوان المعتدين: بنظرات آثمة أو بكلمات نابية أو باعتداءات جنسية والعياذ بالله! وهنا يبقى المجتمع كله فيه نوع من الأمن والاستقرار.
تلك بعض وجوه الرعاية في تشريع واحد من تشريعات المرأة ألا وهو: والحجاب، وما وراء ذلك أكثر.
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يصرف عنا ما لا يحب ويرضى.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واهدنا اللهم لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأخرجنا من الظلمات إلى النور.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأصلح أعمالنا، وحسن أقوالنا، وهذب أخلاقنا، وضاعف أجورنا، وارفع درجاتنا، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على البلاد والعباد، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أرنا اللهم فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، أنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين، والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، واصرف اللهم عنا الفتن والمحن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين، اللهم احفظ أمن بلاد الحرمين وأمانها، وسلمها وسلامها، ورزقها ورغد عيشها، اللهم اجعل ذلك دائماً مستقراً مستمراً يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تولي علينا خيارنا، وألا تولي علينا شرارنا، وفق اللهم ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، أخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي: أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(136/8)
المرأة والدعوة [1]
المرأة نصف المجتمع، ولها دور عظيم في تربية الأجيال وإصلاح المجتمع، وقد بذل أعداء الإسلام كل جهودهم لإفساد المرأة حتى يتسنى لهم بذلك إفساد المجتمعات الإسلامية، وقد نجحوا كثيراً في ذلك، فلذلك يجب على دعاة الإسلام الاهتمام بإصلاح المرأة، وتبيين مكانتها في الإسلام، والاستفادة من خصوصياتها لبنات جنسها، وتربيتها لتكون قدوة في وسط النساء لتسهم في الإصلاح والتربية.(137/1)
بين يدي الموضوع
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارض -اللهم- عنهم وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد: فحديثنا بعنوان: (المرأة والدعوة)، وهذا الموضوع سينقسم إلى قسمين: قسم مختص بالمرأة.
وقسم آخر يتعلق بالمرأة وصلتها بالدعوة.
وحتى لا يطغى جانب على جانب، وحتى يأخذ هذا الموضوع حقه من الوقت والعرض فإنه سينقسم إلى قسمين في درسين، سيكون الشق الأول هو موضوع درسنا، وأما الشق الثاني المتصل بتفصيلات أمر الدعوة في حياة المرأة المسلمة فهو -بإذن الله عز وجل- موضوع درس قادم.
وسينصب الحديث في هذا الموضوع على نقاط قليلة، لكنها مركزة وتهدف إلى ما يتصل بكليات مهمة بالنسبة للنظرة والتعامل والعمل للمرأة المسلمة.
فسيكون أول أمر ينصب عليه الحديث: لماذا المرأة والدعوة؟ ثانياً: المرأة في التصور والمنهج والإسلامي.
ثالثاً: صور حية للمرأة في عصر النبوة.
ثم نختم بما يربط هذه النقاط جميعاً بإذن الله عز وجل.(137/2)
أسباب الحديث عن المرأة والدعوة(137/3)
المرأة نصف المجتمع
لماذا الحديث عن المرأة والدعوة على وجه الخصوص؟ ولأي أمر وسبب يكون الاهتمام بالمرأة؟ أولاً: لأنها نصف المجتمع حساً ومعنى، وهذه عبارة تتكرر كثيراً، وهي عبارة كل يستخدمها كما يرى، غير أن الأمر من الناحية المادية ظاهر، فالتعداد السكاني غالباً ما يكون عدد النساء فيه أكثر من الرجال، وعلى أقل تقدير يكون مساوياً للرجال، ومن حيث المعنى فإن المرأة سكن للزوج لا يتم استقرار حياته ولا بناء أسرته ولا تكامل آماله وطموحاته وتغذية شهواته وغرائزه إلا من خلال وجود الزوجة معه، ثم كذلك هي نصف المجتمع من حيث الإعداد والتربية والتهيئة للأجيال، فهي تتولى الشطر الأساسي المهم لإعداد الأجيال المسلمة في مرحلة الطفولة حتى تسلمهم إلى الآباء وإلى الرجال عند بدايات البلوغ والتكليف والمراهقة، مع مشاركتها -أيضاً- في هذه المرحلة، وإضافة إلى ذلك فإن الصورة تكاد تكون مطردة في كون المرأة نصف المجتمع على أكثر من صعيد، فحق علينا أن يكون لنا اهتمام يتناسب مع كون المرأة نصف المجتمع.(137/4)
الاستفادة من خصائص المرأة
الأمر الثاني: للمرأة خصوصيات كثيرة لا يمكن أن يستفاد منها إلا بتوجيهها وإرشادها ودعوتها، ولا يتم ذلك إلا لمن يكون أبصر بها وأعلم بها وأكثر معرفة وخبرة ومعايشة لها، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال المرأة نفسها، فإن للمرأة عواطف وطبيعة فطرية مهما عرف الرجل عنها من خلال قراءة أو اطلاع أو معاشرة عدد محدود من النساء يتمثل في المحارم من أم أو أخت وكذا الزوجة فإنه لا يمكن أن يكون ذلك الخبير العارف بالطبيعة الفطرية والجبلة الغريزية التي طبعت وجبلت عليها المرأة.
ومن الخصوصيات أيضاً ما يتعلق ببعض الأحكام الفقهية التي هي من خواص النساء، كأحكام الطهارة من الحيض والنفاس والحمل وما يتعلق بذلك من تفصيلات كثيرة لا يعرفها الرجال إلا من خلال العلم فحسب، ودائرة العلم التي يضبطها الرجال ليست بالكثرة الكافية، إضافة إلى أن في ملابسة المرأة للرجال ومساءلتهم في مثل هذه الأمور وافتقارها الدائم إليهم حرجاً غير قليل، وكذلك لا يلتفت الرجل في الغالب إلى بعض تلك التفصيلات وتفريعاتها، ولا يخطر على باله أنه لابد من أن يطرقها وأن يعرضها حتى تنتفع بها النساء.
فالمرأة أبصر ببنات جنسها في طبعهن وفطرتهن، وكذا فيما يتعلق بالأحكام الخاصة بهن في أمور كثيرة، كأمور الطهارة والحجاب وما يلحق بهذا، ولذلك فإن لسان المرأة في هذا أبلغ، وعلمها -إن كانت متعلمة- أكثر قدرة على الوصول والبلوغ والإفهام والتفصيل والتبيين للنساء حتى يكن على بصيرة من أمرهن وعلى علم من دينهن.(137/5)
استهداف الأعداء للمرأة
الأمر الثالث: أن المرأة المسلمة اليوم مستهدفة استهدافاً عظيماً من قبل الأعداء، والمراهنة في الحقيقة إنما هي على المرأة ليتم صرفها عن صلتها بدينها واعتزازها بقيمها وارتباطها بتاريخها، لتكون مستغربة في أفكارها، متحللة في سلوكها، متبرجة في هيئتها، ويقع بذلك إفساد لها عظيم، ثم من خلالها تقوض الأسرة المسلمة، فلا يكون هناك ذلك الرباط الشرعي الوثيق، ولا ذلك التصون العظيم الذي فيه أبلغ صور المحافظة، ولا يعود هناك تلك التربية للجيل الصاعد الناشئ على منهج هذا الدين.
ومن هنا فإن إهمال المرأة المسلمة وعدم توجيه الجهود العلمية والتربوية لصياغة المرأة المسلمة على النحو المطلوب يكون هذا التقصير سبباً عظيماً من أسباب تمكن الأعداء، ولا شك أننا نعلم يقيناً أن الفترة التي سلفت -سيما في أوائل هذا القرن- كانت المعركة فيها واضحة في إخراج المرأة من بيتها، ونزع حجابها، وسلخها من حيائها، وتجردها من أنوثتها، وجر ذلك على المجتمعات الإسلامية ويلات كثيرة وشروراً عظيمة، مازال الناس يجأرون منها ويشكون منها، وهذه الآثار لست بصدد التفصيل فيها، لكنها آثار في الإيمان تضعفه وتذهب حيويته وقوته في نفوس الرجال والنساء، وهي كذلك آثار أخلاقية تفسد قيم المجتمع، وتذهب الموازين الصحيحة التي جاء بها شرع الله عز وجل، وهي -كذلك- آثار اقتصادية تضعف من اقتصاد الأمة بما يقع من سرف، وبما يقع من تفويت لكثير من المصالح بحجج كثيرة واهية، وهي -كذلك- آثار بالنسبة للمجتمع من الناحية الأمنية، حيث يكثر الاعتداء على الأعراض، ويرتبط ذلك الإفساد الأخلاقي والتحلل الذي يقع في صفوف المجتمع من خلال إفساد المرأة المسلمة؛ يرتبط بالمسكرات والمخدرات وجرائم القتل، وحسبنا ما سمعنا من الحدود التي أقيمت في أكثر من مدينة عندنا، ورأينا أن المرأة عامل مشترك، لا أقول: إنها مؤاخذة في تلك الحوادث.
لكن أقول: إن إفساد نظام المرأة من الناحية الإسلامية وعدم اكتمال التزامها بشرع الله سبحانه وتعالى يؤدي إلى كثير من هذه المفاسد.(137/6)
النظرة الخاطئة للمرأة من قبل بعض المسلمين
السبب الرابع: أن النظرة عند بعض المسلمين للمرأة نظرة خاطئة من الناحية الإسلامية، فإن كثيرين من الرجال في مجتمعات غير قليلة ينظرون نظرة خاطئة من الناحية الشرعية، فهم ينظرون إليها نظرة دونية فيها احتقار وازدراء، وأنها سبب للعار والشنار، وأنه ينبغي أن لا تكون لها أدنى مشاركة ولا أية صورة إيجابية في هذه الحياة الاجتماعية وحياة الأمة المسلمة.
وللأسف أن هذه النظرة موجودة عند بعض الأخيار الصالحين، بل ربما عند بعض المشتغلين بأمر الدعوة والدين، فإن بعضاً منهم ينطلق ليصاحب الناس ويخالطهم، ويعظهم ويذكرهم، ويربيهم ويقيمهم على أمر الله عز وجل وهو مهمل لزوجته وأبنائه، بل ناظر إلى المرأة والزوجة على أنها لا يمكن أن تفهم ولا أن تتعلم، فضلاً عن أن تكون داعية، أو أن تكون ذات أثر إيجابي فعال في المجتمع المسلم.
وهذه النظرة في كثير من الأحوال نظرة مرتبطة بالتقاليد وبالعادات، وببعض الرسوم التي بعضها قد يكون قبلياً، وبعضها قد يكون موروثاً تاريخياً، هذه النظرة في حد ذاتها هي التي أوجدت ردة فعل عندما داعب أعداء الإسلام من أهل التغريب والعلمنة خيالات وعواطف المرأة لينتشلوها من هذا الوضع باعتباره وضعاً إسلامياً، يقولون لها: إن هذا الوضع إسلامي لا يمكن أن يكون مقبولاً ولا مناسباً، وينبغي أن تخرجي منه إلى الوضع الذي فيه الحرية الشخصية.
وغير ذلك من الأحلام التي يداعبون بها خيالات المرأة، فتظن الأمر صحيحاً، ولا تعلم هي أنها ليست في وضع إسلامي، بل في وضع اجتماعي فيه كثير من المخالفات لمنهج الإسلام.
وردة الفعل هذه هي التي جنحت ببعض النساء بعد أن كن مستعبدات مقهورات إلى أن يتمردن تمرداً لم يكن أربابهن وأولياؤهن من الآباء أو الأزواج يتصورونه منهن، ولابد من أن نعلم أن كل فعل له رد فعل مساو له في القوة ومضاد له في الاتجاه كما يقول أهل الفيزياء.(137/7)
الحاجة إلى المرأة الداعية
السبب الخامس: أننا بحاجة إلى المرأة الداعية على وجه الخصوص لتربية بناتنا وأخواتنا وزوجاتنا عندما لا يكون عندنا القدرة على تعليمهن وتربيتهن، أو عندما نحتاج إلى مزيد من هذا الجانب في التعليم والتربية والدعوة للاختلاط ببنات جنسها ممن لهن حظ في العلم وقدم في الدعوة وخبرة في التربية، فلذلك عندما نتحدث عن المرأة لابد من أن نشعر بأن الحديث يمسنا مساساً مباشراً، فأنت تريد لزوجتك أن تتعلم وأن تتفقه في الدين، وأنت تريد لها أن تكون مرتبطة بدين الله عز وجل غيورة عليه، وأنت تريد لابنتك أن تنشأ نشأة إسلامية، وتريد لها أن تعيش في بيئة إسلامية، ونحن نعلم اليوم أن الفتن محيطة من كل جانب، وأن الإغراءات تدعو بكل قوة في كل مجال وعلى كل مستوى حتى غزتنا في عقر دارنا عبر شاشات التلفاز، وعبر أوراق المجلات الملونة، وعبر البث المباشر.
فإذا لم نستطع أن نوجد المرأة الداعية التي تساعد على هذه المهمة العظمى فإن كثيرين منا لشغلهم وانشغالهم، أو لجهلهم وعدم علمهم، أو لعدم قدرتهم على التوجيه والتربية، أو لكثرة ما يحتاج إليه من وقت وجهد بالنسبة للزوجة وعدد من البنات فحينئذ سنكون كلنا متضررين إذا لم يوجد في مجتمعاتنا المرأة المسلمة الداعية.(137/8)
توجيه طاقات المرأة إلى ما هو نافع
ومن الأسباب أيضاً: أن للمرأة طاقات عندما لا يكون هناك توجه نحو إرشادها وطلب مشاركتها لتنفع نفسها وتنفع غيرها فإن هذه الطاقات توأد وتموت، ولا يمكن أن نقبل التصور الذي يعتبر المرأة ليس عندها قابلية الحفظ ولا الفهم، فإن بعض الناس يفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن ناقصات عقل ودين أنه ضعف عقلي لا يتيح لها أن تتعلم، ولا أن تحفظ، ولا أن تفهم، ولا أن تحسن التصرف والتدبير.
أقول: وهناك صور أخرى معاكسة، فإننا نجد في بعض الرجال بلادة في الأذهان وضعفاً في العقول، بينما نجد من النساء من يكن على ذكاء مفرط وعلى حافظة واسعة، وحسبنا ما ذكر في سيرة عائشة رضي الله عنها أعظم راوية من النساء لسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وحسبنا كثير من المواقف من أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، وما سأذكر من الوقائع والأحداث التالية.
فلذلك هذه الطاقات لابد أن تستثمر، ولا تعجب عندما ترى أن أئمة من شيوخ الإسلام كان من بين شيوخهم نساء، فهذا ابن الجوزي من مشايخه ثلاث من النساء، وذكر الذهبي في مشيخته -وهو كتاب عن شيوخ الذهبي - عدداً من النساء ممن أخذ عنهن العلم، وهناك أعداد هائلة من النساء في تاريخ الإسلام كن راويات للسنة، عالمات بالأخبار، محدثات، أو مؤرخات، أو أديبات، أو مشاركات، مع التزام النهج الإسلامي وتوجيه هذه الطاقات فيما ينفع الأمة المسلمة بوجه عام والمرأة المسلمة بوجه خاص.
ومن هنا رأينا عائشة رضي الله عنها راوية للحديث، ورأينا خديجة رضي الله عنها مثبتة للداعية الأول صلى الله عليه وسلم، ورأينا فاطمة رضي الله عنها وهي تنشئ على يديها الحسن والحسين اللذين أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنهما سيدا شباب أهل الجنة، وسأذكر فيما يأتي كثيراً مما يتعلق بهذا الجانب، وهناك أسباب أخرى كثيرة وعديدة فيا يتصل بسبب الحديث عن المرأة والدعوة.(137/9)
المرأة في التصور الإسلامي
أنتقل إلى النقطة الثانية، وهي المتعلقة بالتصور العام للمرأة المسلمة في الإسلام، أو المرأة المسلمة في التصور والمنهج الإسلامي، وذلك لنعالج ما أشرت إليه في أثناء الأسباب من قصور النظرة أو عدم وضوحها، حتى إن بعض الناس قد يكون مبالغاً في أمور هي من العادات، أو هي من الأعراف التي قد يكون بعضها لا حرج فيه من الناحية الشرعية.
فنحن نجد -على سبيل المثال- من الناس من يرى ذكر اسم المرأة في حد ذاته عيباً أو أمراً محرجاً مخزياً، أو نحو ذلك، بل قد يرى أن من يذكر اسم امرأة لسبب أو لآخر -أماً كانت له أو زوجة- أنه قد خرج من دائرة الحياء، وأنه ربما يعتبر من المتساهلين المفرطين، ولكن هذا غير صحيح.
والنصوص في ذكر أسماء كثير من الصحابيات بين النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه كثيرة، أذكر منها انصراف النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءت إليه صفية فخرجها معها ليقلبها -أي: ليعيدها إلى بيتها- فمر رجلان من الأنصار ثم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (على رسلكما؛ إنها صفية بنت حيي).
ولما خرجت سودة بنت زمعة رضي الله عنها -وهذا الحديث في البخاري - لقضاء الحاجة وكن لا يخرجن لقضاء الحاجة إلا في الليل، وكان عمر رضي الله عنه شديد الغيرة على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما خرجت قال: قد عرفتك إنك سودة.
حتى يبين أنه يود أن لا يعرف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرض عليهن الحجاب.
واستأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة رضي الله عنها -والحديث متفق عليه عند البخاري ومسلم - فحدث ارتياع من خديجة لهذا، أو لقدومها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! هالة بنت خويلد).
وفي حديث أنس المتفق عليه أيضاً أنه قال: (إن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام، وكان بلال يستأذن للناس على رسول عليه الصلاة والسلام، فدخل مرة وقال: يا رسول الله! امرأة من الأنصار وزينب -يعني: تستأذنان- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أي الزيانب؟ فقال بلال: زينب امرأة ابن مسعود) والأحاديث في ذلك كثيرة.(137/10)
التساوي في أصل الخلقة مع الرجل
أقول: أول نقطة في التصور الإسلامي العام أن أصل الخلقة واحد، وأن الرجل والمرأة ليس بينهما في أصل الخلقة فرق مطلقاً، أما النظرات السابقة في غير هذا الدين فقد كانت على غير هذا، فبعض كتب أهل الكتاب المحرفة تقول: إن أصل المرأة غير أصل الرجل من حيث الخلقة، وإنها شيطان.
وبعضهم يصفها بأوصاف ومراتب مرذولة أو تدل على أنها مجمع الشر كله، وكانت كثير من الديانات والأمم السابقة تنظر نظرة غير هذا.
أما دين الله عز وجل فقد جاء واضحاً في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء:1] وهذا فيه فوائد شتى، منها أن يكون هناك أصل المساواة، فلا تفاوت ولا احتقار ولا ازدراء.
ومنها أن هذا من أعظم أسباب الوفاق والمودة، خلق منها زوجها فهي منه وهو منها، وبينهما تكامل في أصل الخلقة وفي طبيعة الحياة الفطرية، ولذلك يكاد يكون إجماعاً بين أهل التفسير أن قوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1] يتعلق بآدم وحواء، وقد أغرب صاحب تفسير المنار إغراباً عجيباً في هذا الموطن ولم يوافق أكثر أهل التفسير فيما ذهبوا إليه.
ومما يدل على هذا -أيضاً- حديث أبي داود بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما النساء شقائق الرجال)، والله سبحانه وتعالى قد ذكر هذا بشكل واضح كما أشرت.(137/11)
المنزلة الواحدة للرجل والمرأة
الأمر الثاني: المنزلة الواحدة.
فإن الخطاب القرآني في أمر الرجل والمرأة جاء مشيراً إلى تساوي المنزلة والرتبة في الإطار العام، فالله عز وجل يقول: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117].
وكذلك يقول الله عز وجل: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء:32].
ويقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} [الحجرات:11].
ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
فالمسألة أن المرأة والرجل في منزلة واحدة، وفي صحيح البخاري -وأصل الحديث متفق عليه- عن عمر رضي الله عنه قال: والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمراً حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم.
وفي رواية البخاري: كنا في الجاهلية لا نعد للنساء شيئاً، فلما جاء الإسلام وذكرهن الله رأينا لهن بذلك علينا حقاً.(137/12)
التكليف الواحد للرجل والمرأة
الأمر الثالث: التكليف الواحد.
فالمرأة مكلفة مثل الرجل تماماً بكل أمر من الأوامر التي جاءت عامة ليس فيها خصوصية للرجال، فالله سبحانه وتعالى قال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195] وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] وقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء:124] وهذا الأمر يدلنا على ضرورة فهم هذا التصور، لنعرف أن على المرأة تكليفاً وواجباً، فكما كلف الرجل بالعلم فالمرأة مكلفة به، وكما كلف الرجل بالدعوة فالمرأة مكلفة بها، وكما كلف الرجل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالمرأة مكلفة بهذا، وكل أمر فيه تكليف للرجل فهو على الاشتراك مع المرأة إلا ما ورد الدليل بتخصيص الرجل فيه دون المرأة، أو بتخصيص المرأة فيه دون الرجل.(137/13)
إكرام المرأة بعد ذل
والأمر الرابع: إكرامها بعد ذل.
أي أن هذا الدين جاء بإكرام المرأة بعدما كانت في أوضاع كثيرة فيها ذل لها، كما قال عز وجل في وصف ما كان من شأن الجاهلية: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:58 - 59] أين هذه المرأة بعد أن جاء الإسلام؟ لقد صارت معززة مكرمة، بل ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أنَّ: (من عال جاريتين وأحسن تأديبهما وتربيتهما كن وقاية أو ستراً له من النار) وذكر في شأن القيام على أمر البنات وحسن تربيتهن من الفضل ما الله سبحانه وتعالى به عليم في أحاديث كثيرة جداً.
وقد كانت المرأة فيما سلف متاعاً موروثاً، لكن الله عز وجل حفظها بهذا الدين، كما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء:19].
وكانت المرأة متعة مشاعة لكل طالب شهوة ومتعة، فلما جاء هذا الدين لم يجعل المرأة مباحة إلا وفق ضوابط، وبين المحرمات من النساء بتفصيل دقيق كما في سورة النساء: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22] إلى آخر الآيات، وكذا حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يجمع الرجل بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها) مراعاة لمشاعرها وحفظاً لحقها.(137/14)
التفضيل المقبول بين الرجل والمرأة
الأمر الخامس: تفضيل مقبول.
فإن التفضيل الذي جُعل للرجال على النساء مقبول ونافع للمرأة نفسها، فإن الله عز وجل قال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] فما هي هذه الدرجة؟ هي درجة القوامة للرجل على المرأة، لكنها ليست قوامة التسلط، وليس حقاً بلا مقابل، بل المقابل هو عز وخير ونفع للمرأة، فهي ملكة في بيتها يؤتى لها بنفقتها وتطلب من الرجل حاجتها، وهو يكدح ليوفر لها المسكن والملبس والمأكل، ويحفظها ويحوطها ويحميها مما قد تتعرض له من الأذى، ويكون قيماً على شأنها كله في مقابل أن تكون له القوامة والطاعة وتسيير دفة الحياة في الأسرة المسلمة، فهذا التفضيل ليس فيه احتقار، بل فيه منفعة ومصلحة، ولعل بعض الرجال يود أن يكون في البيت، وأن يكون هناك من يسعى ويعمل ليأتيه في آخر الشهر بمصاريف البيت ليأكل ويشرب وينام وهو مرتاح، وفي الحقيقة هذا إعزاز للمرأة وتكريم لها، أن تُخدَم وأن يكون هناك من يرعى مصالحها ويحفظ حقوقها ويحوطها من ورائها.(137/15)
حفظ حقوق المرأة
الأمر السادس: حقوق محفوظة.
فالمرأة في التصور والمنهج الإسلامي ليس لها حق ضائع أبداً إذا استعرضنا المنهج الإسلامي تفصيلاً، وهذا موضوع طويل جداً يستحق أن يفرد بحديث خاص؛ لأن فيه من التفصيلات ما يدل على عظمة هذا الدين، وعلى عظمة منزلة المرأة في دين الإسلام، لكني أقول على سبيل الإيجاز: للمرأة المشورة والرأي في أمر زواجها، فليست مغلوبة على أمرها، وقد ورد الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الثيب تستأمر وأن البكر تستأذن).
وعند زواجها لها الحق في المهر والصداق، وهو أمر واجب بدليل الكتاب والسنة والإجماع، كما قال الله عز وجل: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4].
وعندما يكون هناك تعدد وتظن بعض النساء أن في هذا انتقاصاً أقول: كلا، فإن حقوقها مع ذلك محفوظة؛ إذ أمر الرجال بالعدل والإحسان عند التعدد، فليس الأمر متروكاً للهوى، ولا للتصرف الفردي، بل هو مضبوط بشرع الله عز وجل بحيث يحفظ للمرأة حقها في القسم بينها وبين ضرائرها وزوجات زوجها، وكذلك لابد له من العدل الواضح في كل ما يتعلق بالنفقة وأمور الحياة العامة، فليس لها حق مهضوم في هذا، بل حتى عندما يحصل الانفصال بالطلاق فإن لها العدة والمتعة والنفقة والصيانة، فليس الأمر في الطلاق نوعاً من إطلاق رصاصة الإعدام على المرأة، وليس هو إلغاء لوجودها، فهي عندما تتزوج ما تزال فلانة ابنة فلان، وليس كما يقول التقدميون المتأخرون: عندما تتزوج المرأة ينسى نسبها ويلغى ذكر أهلها وأبيها وتصير فلانة الفلانية نسبة إلى زوجها.
فهذا هو الحق المهضوم والشخصية الضائعة والتبعية الكاملة، أما المرأة في ظل الإسلام فحقوقها محفوظة، وحتى إذا مات زوجها فإن عليها الوفاء له بهذه العدة التي شرعها الله سبحانه وتعالى عليها، ولها -كذلك- حق الميراث فيما ترك هذا الزوج وخلف من مال ومتاع، فهي على كل الأحوال لها حقوق محفوظة وأحكام ترعى لها مصلحتها.(137/16)
استقلالها المحمود
الأمر السابع: استقلالها المحمود.
فإن الله عز وجل قد ذكر لنا من قصص المؤمنات ما يدل على أن المرأة مستقلة بشخصيتها، وأن هذا الاستقلال في كثير من المواضع يكون محموداً، إذ لو قلنا: إن المرأة لا شخصية لها مطلقاً بل هي تابعة.
فإن هذه التبعية قد تؤدي بها إلى ما لا تحمد عقباه، فإن كانت بنتاً لأب وكان الأب كافراً كانت تبعاً له، أو كان فاسقاً كانت تبعاً له، وكذا إن كانت تابعة لزوج.
لكن الله عز وجل ضرب لنا الأمثلة بقوله سبحانه وتعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] فامرأة فرعون وسط الطغيان في بيئة الكفر استقلت بشخصيتها وبرأيها، واهتدت إلى الإيمان والتوحيد والإسلام وسط بيئة الكفر والجحود والنكران.
وذكر الله سبحانه وتعالى لنا من شأن النساء في القرآن صوراً كثيرة جداً تتصل بتميز شخصية المرأة، فهناك أمر طاعتها لربها واستجابتها لمولاها يتجسد في قصة أم موسى عليه السلام عندما أمرها الله عز وجل أن تضع وليدها في التابوت وأن تقذفه في اليم فاستجابت لهذا الإلهام الرباني.
وتبدي لنا الآيات القرآنية صورة المرأة ذات الفطنة والحيلة والذكاء تتجسد في قصة أخت موسى عليه السلام لما أرادت أن تحتال لتعيد موسى إلى أمه حتى يرضع منها، قالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12] فالتمسته بذكائها وفطنتها، وبأسلوب غير مباشر وغير لافت للنظر، في وقت كان التهديد عظيماً، والقتل مستحراً في كل من يولد ذكراً من أبناء بني إسرائيل، لكن هذه المرأة كان عندها من الفطنة ما أوصلها إلى حصول بغيتها كما قضى الله عز وجل وقدر.
ويعرض لنا صورة المرأة بشخصيتها المتميزة في الموقف العظيم لـ أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي عليه الصلاة والسلام وأم المؤمنين رضي الله عنها لما جاء أبو سفيان ليوثق العهد ويطيل المدة بعد أن أخلت قريش بصلح الحديبية، فقصد بيت ابنته أم حبيبة لتكون شفيعة له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء ليجلس طوت عنه الفراش، فقال: لا أدري -يا بنية- أرغبت عني بالفراش أم رغبت بالفراش عني؟! فقالت له: إنك امرؤ مشرك نجس، وإن هذا فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم! عجيبة هذه الشخصية للمرأة المؤمنة! فمن أين جاءت؟! لقد جاءت من توافر كل ما يؤيد وجودها وتقويتها في منهج هذا الدين.
وكذلك نجد هذه الصورة في صورة البذل والفداء التي يعرضها لنا الله عز وجل في القرآن الكريم من خلال قصة امرأة عمران التي نذرت ما في بطنها أن يكون نذراً ووقفاً لله عز وجل كما هو معروف في القصة بطولها.
كذلك يبين لنا شخصية المرأة من حيث شكواها بالنسبة للاعتداء على حقها واعتراضها لما قد يقع عليها من أذى، يتجسد ذلك في الآيات القرآنية في أول سورة المجادلة في قصة خولة بنت ثعلبة لما ظاهر منها زوجها، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشكت له حالها بعد طول عشرتها، قالت له: نثرت له كنانتي، وربيت له أبناءه، ثم بعد ذلك قال: أنت علي كظهر أمي.
وإني أخاف فتية إن تركتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا.
فكان لها في شخصيتها وتميزها ما جعلها تبدي هذا الرأي وتشكو هذه الشكوى، والأمر في ذلك -أيضاً- طويل جداً.(137/17)
المرأة درة مصونة
الأمر الثامن: أن المرأة في منهج الإسلام درة مصونة.
فأحكام الشرع تدفعها إلى الصيانة والحفظ بحيث لا يوصل إليها، فهي كالدرة أو اللؤلؤة المخبوءة في الصدف في قاع البحر لا يصل إليها إلا من يبذل الجهد ويغوص ويبحث ثم يخرج هذه اللؤلؤة أو الجوهرة، فلا يخرجها إلا وقد سعى إليها وأخذها بحقها، ولذلك كان في تشريعات الإسلام الحجاب والستر وعدم الاختلاط بالرجال، كل ذلك يجعلها محفوظة وليست متاعاً رخيصاً يشترى ويباع كما هو حال المرأة في غير منهج الإسلام، وكما هو حال المرأة المستغربة في شرق الأرض وغربها ومن تبعها من بنات الإسلام، تجدها اليوم كأنها بضاعة تعرض، وإذا زاد العرض -كما يقولون- قل الطلب، وللأسف أنها تمتهن كرامتها ويعتدى عليها حساً ومعنى؛ لأنها خرجت عن دائرة هذا الإسلام.
فالله عز وجل قد قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] ومنع المرأة من أن تأتي من الأمور ما قد يكون سبباً في الاعتداء عليها، فقال جل وعلا: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] حتى في أدق الأمور، قال عز وجل: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] وجعل للمرأة أن لا تنكح إلا أن تطلب وأن تمهر، فجعلت على هذه الصورة المشرقة الوضيئة التي فيها حفظها وصيانتها وكمالها بإذن الله عز وجل.
ومن تصورات المرأة في ظلال الإسلام أن لها مزايا ممنوحة، فليست هي شيئاً عارضاً أو هامشياً في حياة المجتمع المسلم، بل لها كل الحقوق والمزايا الممنوحة، فلها حق التعليم، كما في الحديث المتفق عليه عند البخاري من حديث أبي بردة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران) هذا حق لها، وكذلك ما توجه به النبي صلى الله عليه وسلم من وعظ النساء وتذكيرهن.(137/18)
المشاركة المضبوطة في الحياة الاجتماعية
الأمر الأخير: أن للمرأة مشاركة مضبوطة في الحياة الاجتماعية.
فليست مشاركة المرأة متسيبة فوضوية، بل هي مشاركة إيجابية مضبوطة على غرار ما قالت عائشة رضي الله عنها: (كن النساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمرطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس) أي: ينصرفن مسرعات.
فهذه مشاركة في أمر العبادة، ومشاركة في أمر المناسبات كصلاة العيد، كما في حديث أم عطية رضي الله عنها: (كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى نخرج الحيض وذوات الخدور فيكن خلف الناس فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم) وهكذا كانت مشاركتها في سائر المجالات مضبوطة.
فعندما ننظر إلى هذا التصور بشكل عام نرى كيف تكون المرأة المسلمة في ظلال الإسلام، فليست مغايرة للرجل في خلقة، ولا هي في منزلة أدنى منه، ولا تغايره بتكليف بعيد عنه، ولا بانعدام للمشاركة، ولا بحرمان من المزايا، ولا بأية صورة من الصور التي تؤدي إلى وأد إمكاناتها وقصور شخصيتها وضعف تكوينها، بل على العكس من ذلك.(137/19)
صور حية للمرأة المسلمة
أنتقل إلى النقطة الثالثة، وتتعلق بصور حية للمرأة المسلمة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذه النماذج هي أمثلة قليلة لصور كثيرة توجه إلى الرجال الذين ينظرون إلى المرأة نظرة دونية لا يرون أن عندها أهلية لتعلم أو لدعوة، أو أن تكون بصيرة بأمر دينها أو عابدة لربها، بل نظرهم لها نظرٌ محدودٌ.
وكذلك للنساء ليعلمن كيف كان نساء المسلمين في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا من وجهين: لتعلم الملتزمات الخيرات الصينات كيف كانت النساء على المراتب العالية في وجوه الخير.
وأيضاً للنساء المفرطات المقصرات، عل ما يذكر في هذه القصص ينبههن إلى قصورهن وتفريطهن فيرجعن إلى الله عز وجل.
فالحديث مقصود به الرجال ليعرفوا كيف كانت المرأة، وللنساء ليعرفن -أيضاً- كيف كانت أختهن من قبلهن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.(137/20)
المرأة العابدة
الصورة الأولى: المرأة العابدة.
لقد كانت المرأة كالرجل في ميدان التنافس على طاعة الله عز وجل، وهذا الحديث الصحيح يبدي لنا صورة مشرقة من هذه الصور، وهو حديث زينب (لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم ورأى حبلاً معلقاً، قال: ما هذا؟ قالوا: حبل لـ زينب تصلي، فإذا فترت أو تعبت تعلقت به.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ليصل أحدكم نشاطه، فإذا تعب فليرقد) وفي بعض الروايات عنه عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يمل حتى تملوا).
الصورة هي ذلك الحرص العجيب من زينب رضي الله عنها في عبادتها لله عز وجل، وقيامها الليل، ومبالغتها في أمر العبادة حتى على حساب راحتها، فهذا درس للمرأة التي تقضي ليلها في السهرات والزيارات، وربما مشاهدة الأفلام والتمثيليات، وربما في الغناء والرقصات، وكذلك ذكرى للرجل الذي قد ينظر إلى المرأة أحياناً نظرة احتقار وينام هو وإذا بزوجته قد قامت لتتوضأ وتصلي صلاتها وتؤدي وترها، وهذا يقع كثيراً، فإن كثيراً من الرجال الصالحين يرجع إلى بيته وقد ذهب هنا وهناك في بعض أمور الخير وفي بعض الأمور التي فيها تفريط وضياع للأوقات، فيأتي وينام والمرأة هي التي تقوم وتصلي في كثير من الأحوال، فلا ينظر إليها نظرة احتقار مع تقصيره هذا.
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم الرجل والمرأة ليكونا شريكين في هذا، كما في سنن أبي داود: (رحم الله امرءاً قام من الليل فصلى ثم أيقظ امرأته، فإن لم تستيقظ نضح عليها شيئاً من الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت ثم أيقظت زوجها، فإن لم يستيقظ نضحت عليه من الماء).
هذه الصورة هي صورة المشاركة ومعرفة منزلة المرأة وسبقها في كثير ممن أبواب الخير وحرصها عليه، والذي يغلب على النساء -إن كن على خير وصلاح- أنهن في شأن العبادة أكثر سبقاً من الرجال، فإن البيئات التي فيها التزام نجد المرأة في غالب الأحوال أكثر قراءة للقرآن، وأكثر حرصاً على النوافل والرواتب، وأكثر توجهاً للبذل والإنفاق، وأكثر حرصاً على الذكر والدعاء.(137/21)
المرأة المنفقة
الصورة الثانية: المرأة المنفقة.
والإنفاق في حد ذاته دليل على طبيعتها وفطرتها الطيبة، وعلى عاطفتها الرقيقة ومشاركتها الإيجابية في مشكلات المجتمع وفي نصرة الإسلام والمسلمين، وفي حديث مسلم لما ذكر في قصة بلال ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء أن يتصدقن قال في آخر الحديث: (وكان أكثر من يتصدق النساء) والحديث -أيضاً- عند البخاري بلفظ آخر، وقد قال ابن حجر رحمة الله عليه قولة جميلة لعلها مما يفرح النساء، ولكنها -أيضاً- توجب عليهن أن يكن مبادرات متأسيات بنساء الصحابة؛ لأنهن في ذلك الوقت بذلن حتى كان شأنهم كما ذكر في الرواية: (فكانت إحداهن تضع الفتخ والقرط) يعني: تضع شيئاً من الذهب والحلي التي تتجمل به المرأة.
قال ابن حجر: وفي مبادرة تلك النسوة إلى الصدقة بما يعز عليهن من حليهن مع ضيق الحال في ذلك الوقت دلالة على رفيع مقامهن في الدين وحرصهن على امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأقول: فيه دليل على ترفع المرأة عن الزينة وكونها ليست أسيرة للزينة والحلية وإن كان من طبعها أنها تحبها، لكنها إذا جد الجد ودعا داعي الخير فإنها تقدم دينها على حليها، وتقدم نصرة دين الله عز وجل على تجملها واستكمال ما يتعلق بحليتها.(137/22)
المرأة المتوكلة
والمرأة المسلمة أيضاً متوكلة، وهذه صورة جميلة جداً تبين لنا أن المرأة.
وإن كنا نعرف أن لها عاطفة رقيقة وطبيعة لينة لكنها بإيمانها تكون ذات توكل واعتماد على الله عز وجل عظيم.
جاء عند البخاري ومسلم قصة جابر في غزوة الخندق، فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما على النبي عليه الصلاة والسلام من شدة الجوع والتعب، فذهب إلى بيته فوجد عناقاً وشيئاً من الشعير، فقال لزوجته: لو أعددت طعاماً فأدعو رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: طعيم لنا يا رسول الله.
يعني أنه قليل من الطعام، فإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يدعو المهاجرين والأنصار إلى هذه الوليمة التي لا تكفي إلا لعدد قليل.
هذه الرواية جاء فيها أن جابراً جاء إلى زوجته وقال: ويحك! جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معه.
وفي الرواية الأخرى قال: فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، وقلت: جاء الخلق على صاع من شعير وعناق.
قال: فدخلت على امرأتي وقلت: افتضحت جاءك رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل الخندق أجمعين، فقالت: هل كان سألك كم طعامك؟ فقلت: نعم.
قالت: الله ورسوله أعلم، ونحن قد أخبرناه بما عندنا.
قال الرجل: فكشفت عني غماً شديداً.
لما كانت متوكلة مؤمنة فهي تعلم أن الأمر مادام من عند رسول الله عليه الصلاة والسلام فسيكون على صورة لا تعرفها، ولذلك قال: فكشفت عني غماً شديداً.
واليوم نحن نعلم أن طبيعة المرأة أنه يكشف عنها الغم، لكنها إن كانت مؤمنة متوكلة كانت على غير ذلك، قال ابن حجر معلقاً على هذا: ودل ذلك على وفور عقلها وكمال فضلها.(137/23)
المرأة الصابرة المحتسبة
ونعلم جميعاً أن المرأة كذلك محتسبة تصبر وتتحمل، وحسبنا في ذلك الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال: (أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يك في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تك الأخرى لترين ما أصنع -وفي رواية: اجتهدت عليه في البكاء- فقال: ويحك! أَوَهبلت؟! أوجنة واحدة هي؟! إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس).
والشاهد أنها قالت: ما جزاؤه عند الله؟ فإن عرفت أنه في الجنة صبرت واحتسبت.
ولابد من أن تكون المرأة المسلمة متأسية بهذا الجانب، فنحن نرى في كثير من نسائنا هلعاً وفزعاً لا يليق بإيمان المرأة المسلمة، فهي تخاف على ابنها من نسيم الهواء أن يخدش خده، كما قال القائل مبالغاً: أغار عليك من إدراك طرفي وأخشى أن يذيبك لمس كفي فأجتنب اللقاء حذار هذا وأعتمد التلاقي حين أغفي هذا الأمر الذي فيه نوع مبالغة في التحوط لا شك أنه لا يليق بالمرأة المسلمة، نعم قد يقال: طبيعتها محبة ابنها وخوفها على بنيها أو زوجها.
لكنه لا يبلغ ذلك المبلغ؛ لأن عندها عصمة من الإيمان.
وحسبنا -أيضاً- أم سليم وزوجها أبو طلحة، وقصتها معلومة حين كان ابن أبي طلحة مريضاً، وجاء إليها في الليل يسألها وكان ابنها قد مات، فقال: ما حاله؟ قالت: قد هدأت نفسه.
وتعني أنه قد فاضت روحه، ثم تهيأت لزوجها وتصنعت له حتى عاشرها في ليلتها، فلما أصبح قالت له: ما رأيك في بني فلان كان عندهم عارية لقوم فلما جاءوا وطلبوها غضبوا؟ قال: العارية مستردة.
فقالت: فإن ابنك كان عارية عندك وإن الله قد استرد عاريته.
فغضب وذهب إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام يشكو صنيع هذه المرأة، فأثنى النبي عليه الصلاة والسلام على صنيعها، ودعا لها وله بالبركة، فرزق ذرية كثيرة صالحة طيبة كثر خيرها وطال عمرها، فهذا نموذج للمرأة المسلمة المحتسبة.(137/24)
المرأة الداعية
وهذا نموذج للمرأة الداعية، وأذكر موقفين عجيبين ذكرا في الأحاديث الصحيحة: أولهما: ما يتعلق بقصة امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان خرج مع بعض أصحابه -كما قال عمران بن حصين - في سفر أو غزو، وأرادوا أن يأخذوا بعض الماء، فإذا هم بامرأة ومعها مزادتان تحملهما فيهما ماء، فسألها بعض الصحابة عن الماء، فقالت: إنه بعيد.
أي: مسافته بعيدة.
وهي كانت تحمل الماء، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بمائها ثم دعا فيه ففاض الماء حتى سقى القوم، ثم لما رجعت إلى قومها جعل الصحابة إذا أغاروا يغيرون على من حولهم ويتركون رهط هذه المرأة، وفي بعض الروايات أنها قالت لقومها لما رجعت: إني قد أتيت أسحر الناس، أو هو نبي كما زعموا.
وهذه رواية البخاري، فهدى الله ذلك الصرم بتلك المرأة، فأسلمت وأسلموا.
وفي رواية أوضح أنها قالت: ما أرى هؤلاء -تعني المسلمين- يدعونكم عمداً، فهل لكم في الإسلام؟ تعني: يدعون غزوكم وهم يغزون هنا وهنا، ويغيرون على جيرانكم.
فأطاعوها فدخلوا في الإسلام بدعوتها هي، ولا شك أن هذا أمر مهم.
ونعلم -أيضاً- قصة أم سليم حين جاءها أبو طلحة يطلب الزواج منها وهو مشرك، فعرض عليها مهراً فأبت لأنه مشرك، ثم حضته فقالت: إن أسلمت تزوجتك.
فجعل مهرها إسلام زوجها، فجعلت الزواج الذي كان يطلبه لحظ نفسه سبباً لإسلام هذا الرجل ودعوته إلى هذا الإسلام.(137/25)
المرأة التي تطلب العلم
والمرأة أيضاً كانت طالبة علم.
وهنا مواقف كثيرة، لكني أقتصر منها على القليل، فمن ذلك الحديث الصحيح الذي فيه: (أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت له: غلبنا عليك الرجال -أو قالت كما في بعض الروايات: يا رسول الله! ذهب الرجال بحديثك- فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله).
فانظر إلى حرص طالبة العلم، وهذا للنساء وللرجال، فبعض الرجال لا يرى أن المرأة تطلب العلم أبداً، ولا تحتاج إلى أن تتعلم ولا تعرف أن تتعلم؛ لأن بعض الناس لا يتصور أن تكون هناك امرأة لها فقه وعلم ومعرفة بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأن الأمر حكر على الرجال، مع أنني قد ذكرت أن من شيخات كثير من الأئمة نساء فضليات عالمات، فقالت هذه المرأة: (غلبنا عليك رجال -أو: ذهب الرجال بحديثك- فاجعل لنا من نفسك يوماً تأتينا فتعلمنا مما علمك الله.
فجعل لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، وقال: اجتمعن في يوم كذا.
فأتاهن وعلمهن عليه الصلاة والسلام) قال ابن حجر معلقاً على هذا الحديث: وفيه ما كان عليه نساء الصحابة من الحرص على تعلم أمور الدين.
وصورة أخرى تذكرها عائشة في الحديث الصحيح، قالت: نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين.
وليس الأمر كذلك فحسب، بل عند المرأة -وهي من سمات طالبة العلم- نوع من التمييز الذي يجعلها على أقل تقدير- إن لم تعرف خطأ القول فإنها لا تراه على الصحيح أو على الصواب، فتلتمس له تصويباً وتصحيحاً، وذلك ظاهر في حديث سبيعة بنت الحارث لما كانت تحت سعد بن خولة وتوفي في حجة الوداع وهي حامل، فلما طهرت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابك بن بعكك فقال: مالي أراك تجملت للخطاب، ترجين النكاح؟! والله لا يكون لك ذلك حتى تقضي أربعة أشهر وعشراً عدة المتوفى عنها زوجها.
فما قنعت بقوله، وما كانت صاحبة عقل ضعيف، بل أخذت ثيابها فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفتاها بأن لها أن تتزوج، قال ابن حجر مشيراً إلى هذه الفائدة: فيه ما كان في سبيعة من الشهامة والفطنة، حيث ترددت فيمن أفتاها حتى حملها ذلك على استيضاح الحكم من الشارع، وهكذا ينبغي لمن ارتأى أنه لا يستيقن بصحة فتوى من استفتاه.
قال: وفيه مباشرة المرأة السؤال فيما ينزل بها ولو كان مما يستحيي النساء من مثله.(137/26)
المرأة والسياسة
وصورة أخيرة: المرأة ومشاركتها السياسية أو في الأمور المهمة العامة.
وأذكر هذه الواقعة لـ خولة مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لقيها عمر في الطريق فسلم عليها فردت عليه السلام واستوقفته تقول له: هيه يا عمر! عهدتك وأنت تسمى عميراً في سوق عكاظ تروع الصبيان بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفوت.
فقال الجارود: قد أكثرت على أمير المؤمنين أيتها المرأة.
فقال عمر: دعها، هذه خولة امرأة أوس بن الصامت، قد سمع الله قولها من فوق سبع سماوات.
وحسبنا موقف أسماء رضي الله عنها من الحجاج وقد دخل عليها بعد قتل ابنها عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، فقال لها: ما رأيت فيما فعلت؟ قالت: قد باعك دنياه بآخرتك.
فأعجم وأحصر، ثم لم يعد إلى خطابها ولا إلى مواجهتها، ومعنى كلامها أنه قد ذهب ومضى وقتل، ولكن ذلك على حساب آخرة الحجاج، فكانت له واعظة.
وفي الصحيح -أيضاً- مشاركة عظمى لـ حفصة، حيث دخل ابن عمر على حفصة وقال لها: أرأيت أمير المؤمنين لا يستخلف! وذلك لما طعن عمر قالت: فإنه سيستخلف.
قال: لا أرى ذلك.
قالت: فإنه ليستخلف.
فهذه أيضاً مشاركة أو صورة من الصور المهمة.(137/27)
المرأة المجاهدة
والمرأة كما أنها داعية وطالبة علم وغير ذلك هي -أيضاً- مجاهدة، فإن أحاديث كثيرة قد وردت في مشاركة المرأة المسلمة في الجهاد من خلال كثير من الأعمال التي تقوم بها، كما ورد في حديث أم عطية ومشاركتها في الجهاد، وكذلك حديث الربيع بنت معوذ قالت: كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة.
وفي حديث أم عطية: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى.(137/28)
المرأة البليغة القوية في الحجة
وأخيراً المرأة بليغة قوية الحجة، يظهر ذلك في الحديث الطويل والقصة التي وردت في حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها لما جاءت إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو بين أصحابه وقالت: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله أنا وافدة النساء إليك) هذه المبعوثة الرسمية من النساء، وهذا يدل على أن للنساء رأياً، فقد اجتمعن وتشاورن ورأين حاجتهن إلى أمر أو افتقارهن إلى إجابة سؤال، فبعثن من تقوم بهذا الأمر.
وقد قالت هنا أسماء: أنا وافدة النساء إليك، ثم خاطبت الرسول عليه الصلاة والسلام وهو بين أصحابه، فقالت: (إن الله عز وجل بعثك إلى الرجال والنساء كافة، فآمنا بك وبإلهك، إننا معشر النساء مقصورات محصورات، قواعد بيوتكم وحاملات أولادكم، وإنكم معشر الرجال فضلتم علينا بالجمع والجماعات، وشهود الجنائز والحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل، وإن أحدكم إذا خرج حاجاً أو معتمراً أو مجاهداً حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، أفنشارككم في هذا الأجر والخير؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال: هل سمعتم مسألة امرأة قط أحسن من مسألتها في أمر دينها؟ فقالوا: يا رسول الله! ما ظننا أن امرأة تهتدي لمثل هذا -كأنهم رأوا في ذلك تميزاً وعقلاً واعياً ولفظاً جامعاً وحجة قوية وأدباً جماً في الوقت نفسه- فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم وقال: افهمي -أيتها المرأة- وأعلمي من ورائك من النساء أن حسن تبعل المرأة لزوجها يعدل ذلك كله.
فانصرفت المرأة وهي تهلل).
هذه صور حية هي عظة وقدوة لنساء اليوم، وهي كذلك تذكرة للرجال أن من بين النساء من تكون على قدم سابقة في الدعوة، وعلى قدم راسخة في العلم، وعلى إيمان واحتساب وتوكل وعبادة وخير عظيم ينبغي أن لا ينكر، بل ينبغي أن يذكر وأن يشكر، وكلنا أبناء لأمهات قمن بتربيتنا وبتوجيهنا وبتأديبنا، فلما شببنا عن الطوق وكبرنا نسينا أننا تخرجنا من مدرسة الأمومة، ثم بعد ذلك فئنا إلى ظلال الزوجة نحتاج منها إلى قضاء الوطر، ونحتاج منها إلى تهيؤ المستقر، ونحتاج منها إلى حفظ الأولاد والأموال، وننطلق بعد ذلك ونغفل عنها ولا نذكر لها فضلاً أو لا نعرف لها قدراً.
وأيضاً تأتينا بعد ذلك بناتنا وهن من زهرة الحياة الدنيا، وكل ذلك ينبغي أن يكون مذكراً لنا بفضل المرأة ومكانتها.
وأختم الحديث بأن أقول: إن الأمر المهم هو أن ندرك وأن نفهم تصور الإسلام ومنهجه للمرأة المسلمة، وأن نعرف أن هذا التصور أخرج لنا هذه الأمثلة، وقد رأيت واطلعت على صور كثيرة من مشاركة المرأة المسلمة مشاركة إيجابية في كثير من مناحي الحياة ونفعها للمجتمع المسلم، ليس من مجرد قصص وأخبار تأريخية، بل من الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم وغيرهما، وهذا ما كان إلا لهذا المنهج الإسلامي الكامل الشامل، وجاءت بعده هذه الصور، فنحن بين أمرين: لابد من أن نفهم المنهج، وأن نحسن التطبيق.
وعدم فهم المنهج واختلال التصور فيه اختلالاً كبيراً يؤدي إلى عدم وجود أمثلة صحيحة نافعة، وفي الوقت نفسه فإن ضمور الأمثلة وعدم وجودها بين صفوف النساء إنما هو لعدم التزام المنهج، فإنه قد يفهم ولكنه لا يلتزم، ولذلك لابد من الأمرين.
وكما قلت: إن حديثنا عن المرأة والدعوة سيستكمل -إن شاء الله تعالى- بذكر ما يتعلق باحتياجنا للمرأة الداعية، وسنتحدث عن مواصفات المرأة الداعية، وعن مجالات الدعوة النسائية، وعن العوائق التي تعوق المرأة في طريق دعوتها، وما يتعلق بأمور عملية ومشاريع وأفكار ينبغي لنا أن نطبقها وأن نحسن تطبيقها حتى ينتفع النساء وينتفع المجتمع بشكل عام.
فإنه -على سبيل المثال- لابد من أن يحرص كل رجل على زوجته وبناته أن يحضرن مجامع الخير، وأن يسمعن الذكر عبر الشريط، وعبر حضور خطبة الجمعة في المسجد، وعبر حضور الدرس أو المحاضرة إن أمكن ذلك ولم يكن هناك مانع شرعي.
وكذلك يسعى إلى أن يكون للنساء ارتباط بالأنشطة النسائية ومشاركة فيها، وأن يكون حريصاً على تفقيه أهله وتعليمهم، فإن لم يكن عنده القدرة أو العلم أو الوقت فإنه يسعى إلى أن يكون لهن صلة بنساء لهن حظ من العلم وخبرة وقدم في التربية والدعوة، فيحصل الخير بذلك إن شاء الله، وينفع بذلك نفسه وأهله.
والله أسأل أن يوفق ويسدد.(137/29)
الأسئلة(137/30)
صلاح المرأة صلاح للمجتمع
السؤال
إن العلمانيين والذين يهدفون إلى تحرير المرأة وخروجها إلى العمل ومنافسة الرجال يقولون: إذا فسدت المرأة المسلمة فسدت أسرة كاملة، فما هو التفسير؟ وهل عكس العبارة مفيد للإسلام والدعوة الإسلامية؟
الجواب
نعم، إذا صلحت المرأة فإننا نكون قد أعددنا لبنة صالحة لإنشاء أسرة صالحة أيضاً.(137/31)
معاونة المرأة لزوجها في الدعوة
السؤال
لا يخفى أن جزءاً من قيام المرأة بالدعوة أن تكون عوناً لزوجها الداعي على دعوته، فهذه مساهمة منها في الدعوة بطريق غير مباشر، ولنا في أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها أسوة حسنة؟
الجواب
أقول: هذا جيد، لكن في التطبيق بعض الخلل، عندما تكون الزوجة داعية فهل يقف الزوج ليكون معيناً لها في دعوتها؟! سؤال يحتاج إلى إجابة عملية، فإن هذا جزء من العوائق.
فإن كان عندها إمكانية أن تقوم بالدورين فهي تثبت زوجها وعندها قدرة أن تؤثر في بنات جنسها وأن تقوم بالدعوة بينهن فهذا أمر طيب.
فإن الزوج إذا لم يكن ناظراً بالنظرة الصحيحة والتصور الذي أشرت إليه فإنه يقول: يكفيها أن تكون عوناً لي في الدعوة، ويعني بالعون هذا أموراً يتصورها هو، فلابد من أن تتزين له، ولابد من أن تقدم له طعامه، وأمور أخرى كلها من الأمور المادية وقليل من الأمور المعنوية اليسيرة، ولا ينظر إلى ما قد يمكن أن تفيد به نفسها وبنات جنسها من جانب آخر.(137/32)
معنى حديث: (ناقصات عقل ودين)
السؤال
نريد تفسير الحديث: (النساء ناقصات عقل ودين)؟
الجواب
ذكر أهل العلم هذا الأمر بشكل واضح، أما نقصان الدين فذلك أنهن يمكثن الأيام والليالي لا يصلين ولا يصمن وذلك في فترة الحيض، وأما نقصان العقل فشهادة اثنتين من النساء بشهادة رجل واحد، وليس في هذا نوع من الاحتقار، وإنما هو نوع مراعاة للفطرة، فإن المرأة بطبيعتها وبما شرع الله لها تقعد عن الصلاة والصيام في وقت الحيض، وتمتنع من قراءة القرآن ومن اللبث في المسجد وغير ذلك من الأمور المعروفة، وبالنسبة للشهادة فذلك لغلبة عاطفتها، وربما غلبة العاطفة يكون لها أثر في بعض الأحوال في ضعف الذاكرة، ومعروف أن المرأة تغلبها عاطفتها في كثير من الصور والأحوال.
وصل -اللهم- وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(137/33)
المرأة والدعوة [2]
وجود المرأة الداعية بين بنات جنسها لا يقل أهمية عن وجود الرجل الداعية في المجتمع، وذلك لأن المرأة أعرف بهموم المرأة ومشاكلها واهتماماتها وما يؤثر عليها، وبالتالي تكون أجدر من الرجل في معالجة قضايا النساء ودعوتهن إلى الله، وينبغي للداعية المسلمة أن تعرف أهداف دعوتها، وما قد يعوقها، والصفات التي ينبغي أن تتحلى بها كداعية، وغير ذلك مما يجعل لدعوتها الأثر الأكبير ويزيل ما يعترضها من عوائق وعقبات.(138/1)
أهداف الدعوة النسائية
الحمد الله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونصلي ونسلم على خير خلق الله وخاتم رسل الله نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه، وعلينا وعلى سائر عباد الله الصالحين من العاملين والدعاة.
أما بعد: فحديثنا هو عن الدعوة بالنسبة للمرأة المسلمة، أي: ما يتعلق بالأسس والأهداف، وبالفوائد والعوائد، وبالمواصفات والسمات، وبالعوائق والعقبات، وبالميادين والمجالات، وبما يتعلق أيضاً بذلك من الموضوعات.
وأول هذه الأمور: أسس وأهداف، أي: الأسس والأهداف المهمة والرئيسة للدعوة بالنسبة للمرأة المسلمة.
وهذا أمر تهم معرفته، سيما للنساء الداعيات على وجه الخصوص؛ لأن تحديد الأسس والركائز والأهداف هو المنطلق الذي يمكن بعد فهمه وإدراكه تعيين الأساليب وتحديد الخطط التي توصل إلى تحقيق هذه الأهداف.
ولا شك أن الأهداف كثيرة من حيث التفريع، ولكنني أجملها في أصول تجمعها بإذن الله عز وجل.(138/2)
إحياء الإيمان وتصحيح العقيدة
الأصل الأول: إحياء العقيدة والإيمان وتصحيح ما قد يكون من الانحرافات الشائعة والبدع الذائعة في صفوف المسلمات.
ولا نشك أبداً في أن ضعف الإيمان سمة قد غلبت على كثير من المسلمين ذكوراً وإناثاً، وأن ألواناً من الانحراف قد سرت إلى مجتمعات المسلمين، ولذلك يعد هذا التصحيح وهذا التحريك والزيادة للإيمان هو أهم الأهداف والأسس والمنطلقات.
ونرى في واقعنا أن هناك أموراً تفشو وتسري بين النساء أكثر من الرجال، سيما فيما يتعلق بالمعتقدات التي تتصل بالضر والنفع، فنجد بعض النساء -سيما الكبار منهن- ربما تعتقد في الحروز أو التمائم، وقد سرى -أيضاً- بين الناس أمر خطير بدأ ينتشر ويفشو، وهو ما يتعلق بالتعلق بالسحرة أو الكهنة ونحو ذلك.
وهنا -أيضاً- صور من إفراط وتفريط متعلقة بمسائل الإيمان ينبغي مراعاتها وتصحيحها، وكذلك ما يتعلق بتقوية هذا الإيمان وزيادته وإحيائه وربطه بآثاره، فإن الإيمان ليس مجرد معرفة فحسب، وليس هو العلم المجرد، بل هو مرتبط بالعمل ارتباطاً وثيقاً، وقد جعل العمل جزءاً من الإيمان، كما في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بعض وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى من الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) أي: جزء منه لا يتجزأ.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة نفي الإيمان عمن لم يقم ببعض الأعمال، وذكر أهل العلم أن هذا النفي يعني نفي كمال الإيمان عمن لم يقم بمثل هذه الأعمال.
ومن أهم ما يمكن أن يعين على ذلك الترغيب والترهيب بالنسبة للمرأة على وجه الخصوص، فتأثيره فيها أكبر ووقعه على نفسها أعظم، وهذا ميدان رحب واسع وأساس مهم عظيم.(138/3)
تقوية الصلة بالله
الأصل الثاني: تقوية الصلة بالله عز وجل من خلال العبادة مع رعاية تصحيحها وخلوها من الأخطاء، وتعلم أحكامها، وفهم مقاصدها، وكذلك طرائق استغلال الوقت فيما هو عائد على القلب والإيمان بالحياة والزيادة في الخير، وما هو عائد على الأجر بالزيادة عند الله سبحانه وتعالى.
فلابد من أن يكون هناك تذكير للنساء المسلمات بأن عندهن من الوقت والفراغ ما ليس عند الرجال بحكم طبيعة أعمال الرجال وانشغالهم وكثرة عوارضهم ومشكلاتهم، فالمرأة في بيتها أقدر -وربما أكثر وقتاً وأكثر فسحة- على أن تقوم بتلاوة القرآن، والمواظبة على الأذكار، والمحافظة على السنن الرواتب وصلاة الضحى وصلاة الليل، فإن لها من فراغها ما يعينها على ذلك بشكل أكبر.
ولا شك أن ركيزة العبادة من أهم الركائز، ولها آثارها السلوكية في حياة الفرد وفي حياة المرأة على وجه الخصوص، فالله عز وجل قد ذكر أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
وقال في شأن الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103].
وقال في شأن الحج: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197].
وقال عز وجل في شأن الأضحية والفدية في الحج: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37].
وذكر في شأن الصيام أنه مفض إلى التقوى ومحقق لها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
فالعبادة تهذيب للنفس وتطهير لها من أوضارها، وغرس للفضائل فيها، وانعكاس لكثير من الخيرات والفضائل على سائر الجوارح من نظر وسمع ونطق، وممارسة بكل جارحة من الجوارح.(138/4)
الحث على فضائل الأخلاق
الأصل الثالث: الحث والتشجيع على فضائل الأخلاق المتصلة بالمرأة المسلمة على وجه الخصوص.
وهذا ميدان مهم وأساس ركين فيما يتعلق بالدعوة في صفوف المسلمات، ولابد من أن يكون هناك جهد لرسم الصورة المشرقة للمرأة في المنهج الإسلامي، وبيان أنها درة مصونة محفوظة لها شخصيتها المستقلة ومشاركتها المنضبطة وحقوقها المحفوظة ورأيها المعتبر، وكل ذلك ينبغي أن يحاط بشأن الأخلاق من الحجاب والبعد عن الاختلاط والترفع عن كل ما نهى الله سبحانه وتعالى عنه بعداً واجتناباً وحيطة وحذراً، فإن هذا الجانب الأخلاقي يعد من أهم الركائز أيضاً.(138/5)
تقويم طرائق التفكير وترتيب سلم الأولويات
الأصل الرابع: تعديل وتقويم طرائق التفكير، وترتيب سلم الأولويات، وتوضيح المهمات وغير المهمات.
فإن الفكر والتوجه العقلي هو الذي ينبني عليه كثير من الأعمال، ونحن نعلم أن المرأة بفطرتها وطبيعتها قد تغلب عليها عاطفتها، ثم نعلم كذلك أن هناك غزواً مكثفاً لأفكار المرأة ينشأ عن هذا الغزو تلك الأنماط من الانحرافات السلوكية.
فإذا كان هناك تركيز في الدعوة النسائية على تعديل طرائق التفكير وترتيب سلم الأولويات ومعرفة المهم وغير المهم فلا شك أن صياغة هذه العقلية وتشكيلها في ضوء منهج الإسلام ومن خلال ضرب الأمثلة من سير الصحابيات والمسلمات الصالحات في تاريخ الأمة المسلمة، لا شك أن هذا سيكون له أثر كبير في التوجه النفسي، فضلاً عن أثره العظيم فيما يتعلق بالممارسة السلوكية.
ولا شك أن هذا أمر مهم جداً لابد فيه من التركيز على ضرورة تميز المرأة المسلمة ولفت نظرها إلى أن ما يشاع حولها من قضايا حرية المرأة أو شخصيتها أنه في الحقيقة مسخ لتفكيرها، فإن ما يشاع اليوم وما يمنح ويقدم للمرأة المسلمة عبر مجلات ثقافية أو نواد أدبية معظمه الأكبر يتعلق بأمور تافهة، فهو يجعل المرأة لا هم لها إلا أدوات التجميل وخطوط الموضة والأزياء، وما يتعلق بالأمور الطبية من عيادات التجميل أو شد الوجه أو غير ذلك.
وليس هذا أمراً تتميز به المرأة في عقلها وتفكيرها، بل ينبغي أن يرقى تفكيرها إلى أمور أهم، ولذلك فإن صياغة هذا الجانب من الأمور المهمة أيضاً.(138/6)
التعريف بالأحكام الشرعية
الأصل الخامس: التعليم والتعريف بالأحكام الشرعية المتعلقة بالنساء على وجه الخصوص، ومعرفة دقائقها ومنافعها، والتوعية بقضايا المرأة التي تنتشر في مجتمعات المسلمين، كقضية تحديد النسل، وتأخير الزواج، وتعارض الدراسة مع الزواج، والتنبيه على موقع الأسرة في بناء المجتمع المسلم وأهميتها.
هذا التعليم والتثقيف بهذه الأحكام هو من أعظم أسس الدعوة في مجال المرأة المسلمة؛ لأنه في الوقت نفسه من أعظم أسباب غزوها وتشكيكها في دينها أو ضعف صلتها بمنهج ربها.
فلابد من رعاية هذا الجانب والتعليم لهذه الأحكام التفصيلية في نواح شتى ليس هذا مجال ذكرها.(138/7)
تعرية المنكرات وبيان مفاسدها
الأصل السادس: تعرية المنكرات وبيان مفاسدها الاجتماعية وآثارها السلبية على المرأة نفسها.
فإنه لابد من أن توجه الأضواء لكشف المعايب على المنكرات التي فشت في مجتمعات المسلمين، وإظهار أن لها آثاراً سلبية تنتقص من شخصية المرأة ومن قيمتها ومن كرامتها، إضافة إلى ما يترتب عليها بعد ذلك من آثار مادية وحسية تنال من راحتها وهدوئها، بل تنال من شرفها وعفتها، بل تنال من حياتها وأمنها.
ونحن نعلم ما تلقاه المرأة التي أعرضت عن أمر الله عز وجل، سواء في مجتمعات كافرة -غربية كانت أم شرقية- أو في مجتمعات إسلامية أعرضت عن أمر الله عز وجل نرى فيها كيف كثر الاعتداء على النساء، وكيف كثرت الجرائم.
فهذه التعرية والتوعية من أهم ركائز وأسس الدعوة في صفوف النساء، ويستعان في ذلك بالإحصاءات وأحوال المجتمعات الغربية، ويركز على قضايا التبرج والاختلاط والسفر إلى الخارج، ونحو ذلك من هذه الموضوعات.(138/8)
كشف مخططات الأعداء في المكر بالمرأة
الأصل السابع: كشف مخططات الأعداء واستهدافهم للمرأة المسلمة وتوفير جهودهم وتكثيفها للمكر بها.
وهذا جانب مهم، وعندما يثار من خلال دعوة النساء يكون له أثره المحمود، فإن بعض النساء تمارس كثيراً من الأخطاء وهي لا تدرك أنها تحقق مخططات الأعداء.
ولذلك -أيضاً- مجال واسع في نصوص كثيرة، وفي تجارب عملية يمكن للمرأة الداعية أن تضرب بها الأمثلة، وأن تذكر الصور الحية التي حلت ووقعت في مجتمعات المسلمين لتنبه المرأة إلى هذه المخططات.(138/9)
إحياء روح المشاركة والاهتمام بأحوال المسلمين
الأصل الثامن: إحياء روح المشاركة والاهتمام بأحوال المسلمين وأوضاعهم، واستشعار الواجب نحو النصرة لهم والإصلاح لمجتمعاتهم، ومعرفة ضرورة العمل وإيجابيته وعموم متطلباته للرجل والمرأة.
فلابد من أن يكون هناك ربط للمرأة بهموم مجتمعها وأمتها المسلمة، وإذا ترسخ هذا الاهتمام فإنه بالمقابل تضمر الاهتمامات التافهة السخيفة التي ليست جديرة بأن تكون مشغلة لوقت المرأة ولا مضيعة لجهدها أو مالها.
فإن هذا الجانب عندما يسلط الضوء عليه، وعندما تذكر حقائقه، وعندما تتابع أخباره، وعندما تتجسد من خلاله المأساة المتعلقة بأحوال المسلمين وما يلقون من المعاناة والأذى والإجرام وتسلط الأعداء عليهم، ثم من خلال بيان ما وقع في هذه المجتمعات من مخالفات لشرع الله عز وجل، وتنكب عن الصراط المستقيم، وإعراض عن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه الصورة تجسد عند المرأة المسلمة توجهاً نحو المشاركة، وأن تدرك أن عليها واجباً، وأنه لا يكتفى في هذه الأمور بدور الرجل وحده، بل لابد للمرأة من أن يكون لها دورها في صفوف بنات جنسها.(138/10)
التركيز على رسالة المرأة في تربية الأبناء
الأصل التاسع: التركيز على الرسالة الكبرى للمرأة في بيتها وتربية أبنائها وصيانة أسرتها ورعاية زوجها.
وهذا وإن كان قد يندرج في بعض ما مضى إلا أنه مستقل بذاته؛ لأنه يشكل الركيزة المهمة لتلافي كثير من الأخطاء في المجتمع المسلم، والإعداد لتغيير إيجابي جذري مستمر في مستقبل الأمة المسلمة، كما أنه هو الركيزة التي استهدفها الأعداء واستطاعوا من خلال إخراج المرأة ومن خلال قضايا تحديد النسل وغيرها أن يزعزعوا هذا البنيان وهذه اللبنة والوحدة الأساسية، فتزعزعت كثير من أركان المجتمع.
ولذلك لابد من أن نعرف أن الأسرة ركن أساسي من أهم أهداف الدعوة في صفوف النساء.(138/11)
العمل لمواجهة التيار الغربي
الأصل العاشر: ضرورة مواجهة التيار من خلال العمل والدعوة، وتشكيل رأي عام مواجه.
فلابد من أن تدرك المرأة أن عليها واجباً في العمل والدعوة إلى الله، وأن التيار الجارف في شأن المرأة المسلمة على وجه الخصوص هو تيار تغريبي يعارض ويخالف تعاليم هذا الدين.
وتدرك المرأة ذلك من خلال ضخامة هذه الموجة، فهي تعلم أن الموجة الإعلامية عبر الإذاعة المسموعة، والصورة المنظورة، والكلمة المكتوبة، والصور المطبوعة في المجلات؛ أنها كلها تشكل تياراً عنيفاً عاصفاً قوياً متعدد الوسائل عظيم الإمكانيات، لمسخ شخصية المرأة المسلمة وإبعادها عن دينها.
هذا التيار لابد من أن تستشعر المرأة، وأن تركز أثناء دعوتها على أنه لابد من مواجهة هذا التيار، ولا تمكن مواجهة هذا التيار من خلال جهد الرجال أو دعوتهم فحسب، بل لابد من أن يكون للمرأة الدور الرائد في هذا؛ لأن لها تميزاً خاصاً في هذا الميدان تتفوق فيه من ناحية التأثير على المرأة والتغيير في أعمالها وتصوراتها أكثر من الرجل، فإنها أبصر بطبيعة بنات جنسها، ولسانها أبلغ في التأثير فيهن.
فهذه أسس وأهداف الدعوة بين النساء.(138/12)
الفوائد العائدة من وجود المرأة الداعية عليها وعلى المجتمع
الأمر الثاني: فوائد وعوائد.
أي: الفوائد التي تعود على المرأة وعلى المجتمع وعلينا جميعاً من خلال وجود المرأة الداعية وممارستها لدورها.
إن كثيراً من الرجال ينظرون إلى مشاركة المرأة في ميدان الدعوة نظرة قاصرة فيها كثير من الخلل، ويمنعونها من قيامها بهذا الدور، أو يكونون سبباً من أسباب إضعاف هذا الدور، ولو كان ذلك من خلال موازنة معتدلة أو تقديم للأولويات لكان مقبولاً، لكنه في كثير من الأحوال يكون إعاقة ليس لها مقابل يفيد وينفع، وليست إعاقة في مجال ليركز الجهد في مجال آخر، بل إعاقة في مجال دون أن يكون هناك استثمار لطاقة المرأة.
ونحن نريد بناتنا أن يكن ملتزمات صالحات، ونريد زوجاتنا أو زوجات أبنائنا في المستقبل أن يكن كذلك، ونريد أن يشيع الصلاح في صفوف المجتمع النسائي واللقاءات النسائية والمناسبات النسائية، وأن تكون مناسبات لمجتمعات إسلامية، فكيف يمكن أن يتحقق ذلك إذا لم يكن هناك المرأة المسلمة الداعية.
وهذه الفوائد نجملها في عشر نقاط، بعضها متعلق بالمرأة الداعية نفسها وبعضها بالمجتمع.(138/13)
شعور المرأة بالقيمة والفعالية
أولاً: القيمة والفعالية.
تشعر المرأة التي تقوم بواجب الدعوة أن لها قيمة وأن لها فعالية يمكن من خلالها أن تشارك في الإصلاح، وأن تسهم في حل المشكلات وعلاج الأمراض، إن الحركة والدعوة تشعرها بأنها يمكن أن تقدم شيئاً، وعندما تقدم شيئاً وترى آثاره الإيجابية لاشك أن مردود هذا في ثقتها بنفسها وشعورها بقيمتها، وإحساسها بأن لها تأثيراً من أهم العوائد والفوائد التي تعود على المرأة الداعية.(138/14)
اكتساب المرأة للعلم والثقافة
ثانياً: العلم والثقافة.
إن ميدان الدعوة يتطلب من المرأة اطلاعاً دائماً وتزوداً ثقافياً مستمراً، وعندما تريد أن تعد لدرس أو تلقي محاضرة في المجتمع النسائي فإنها تحتاج إلى أن تستحضر الآيات والأحاديث والأحكام وسير النساء الصالحات، وهذا يدفعها إلى مزيد من التحصيل، ولا تبقى منشغلة في كل وقتها بسفاسف الأمور، أو بالقراءة في مجلات، أو بحل الكلمات المتقاطعة، أو غير ذلك مما يشغل كثيراً من النساء اللاتي لا يرتبطن بالدعوة ولا يبذلن شيئاً من جهودهن ووقتهن فيها، فإن ذلك يجعلهن بعيدات عن ذلك التحصيل.(138/15)
اكتساب المرأة للحيوية والنشاط
ثالثاً: الحيوية والنشاط.
إن الحركة في الدعوة تبعد عن المرأة الكسل والخمول، وبعض النساء بطبيعة المجتمعات -خاصة التي ليس لها ارتباط بعمل في تدريس وغير ذلك- تقضي سحابة نهارها طريحة الفراش كأنما أقعدها المرض، فلا تستيقظ إلا قرب الظهر، ثم لا يكون عندها إلا قليل من العمل، خاصة إذا كانت تعتمد على الخادمة، فتبقى في كسل دائم وضعف مستمر كأنها شلاء عاجزة لا يمكن أن تتحرك ولا أن تنشط، بينما عملها في ميدان الدعوة يكسبها الحيوية والنشاط.
كما أنها تدفع الملل عن حياتها الرتيبة التي لا تتجاوز حدود اهتماماتها، فهي عندما تشارك في الدعوة تحضر درساً في وقت، وفي وقت آخر تناقش مشكلة، وفي مرة ثالثة تدرس حالة من الحالات، وفي مرة رابعة تجمع المعلومات عن بعض المشكلات الاجتماعية، فيكون هناك حيوية ونشاط ودفع للملل، لا ذلك الكسل والخمول والرتابة التي تقتل شخصيتها وتطمر إمكانياتها وتهدد طاقاتها.(138/16)
اكتساب المرأة للجدية والطموح
رابعاً: الجدية والطموح.
إن العمل الدعوي إذا خاضته المرأة وشاركت في بعض ميادينه ومجالاته يدفعها إلى استثمار الأوقات والجد في الحياة، فليس عندها وقت تضيعه؛ لأن عندها متطلبات، فهناك شيء يحتاج إلى تحضير، وهناك نساء يحتجن إلى أن تزورهن وأن تذكرهن بأمور دينهن، وهناك ما يستدعي منها بذل جهد أو وقت أو تفكير أو كتابة، فهذا يجعلها جادة.
ويغلب علينا وعلى كثير من النساء في المجتمع أن النظرة للمرأة أنها ليست جدية في أمر من الأمور مطلقاً، وأنها لا تهتم إلا بالأمور التافهة، وأنها قد تبذل وقتاً طويلاً وفكراً عميقاً لتفكر في ابتكار تسريحة لشعرها أو لتمزج بين موضة وأخرى أو نحو ذلك.
لكن عندما يكون هناك عمل دعوي تكون هناك جدية وارتفاع في الطموح، فلا تكون نظرتها في سفاسف الأمور، بل تكون نظرتها في قضايا الأمة وأحوالها وما نخر في مجتمع المسلمين من البلاء والفساد، وما سرى إلى بنات جنسها من الانحراف والتلوث الفكري والممارسة السلوكية البعيدة عن شرع الله عز وجل، ذلك كله يكون عندما تكون مرتبطة بالدعوة.
فليس عندها الوقت للمبالغة في الزينة أو متابعة مستجداتها أولاً بأول ولحظة بلحظة، وكذلك ليس عندها حزن على ما يفوتها من هذه الأمور، بل تحزن إذا فاتتها فرصة الإسهام في نصرة هذا الدين والدعوة إليه.(138/17)
محافظة المرأة على دينها وتنمية حسناتها
خامساً: المحافظة والنماء.
إن محافظة المرأة على إيمانها أمر مهم، ونحن نعلم أن المرأة بحكم طبيعتها لا تشهد كثيراً من الجماعات، ولا تحضر كثيراً من الجمع، وقد لا تستطيع حضور كثير من الدروس، وفترة حيضها تحول بينها وبين الصلاة والصيام، فإذا كانت في ميدان الدعوة منشغلة به فإنها تبقى على ذكر من دينها، وتبقى محافظة على إيمانها وصلتها بربها، بل هي في نماء وزيادة؛ لأن معاناة الدعوة والغيرة على دين الله والحرقة على حرمات الله من أعظم الأسباب التي تغذي الإيمان وتزيده وتحافظ عليه.(138/18)
تميز المرأة الداعية ومقاومتها للعادات الخاطئة
سادساً: المقاومة والتميز.
عندما ترتبط المرأة بالدعوة يدفعها ذلك إلى مقاومة العادات والتقاليد الاجتماعية الخاطئة، ويجعلها أيضاً متميزة، فلا تكون مرتبطة بكل ما ترتبط به النساء من الأعراف والتقاليد، مثل أن لا تزور فلانة من الناس إلا إذا زارتها.
فالمرأة عندما تنشغل بالدعوة وتعرف أن الناس غافلون، وتستحضر حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما ضرب لنفسه المثل وللمعرضين فقال: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الفراش والهوام يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم من النار) وكما قال الله عز وجل في وصفه عليه الصلاة والسلام: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6] أي: أنت مهلك نفسك وأنت تتبع آثار القوم، وتغشى مجالسهم، وتذهب إلى بلادهم وديارهم، كأنك أنت المنتفع دونهم.
عندما تستحضر ذلك لا تقيدها العادات والتقاليد عن الحركة والنشاط الدعوي.
فالداعية من الرجال أو النساء عندما يتشرب مبدأ الدعوة يعلم حاجة الناس، فلا تنتظر المرأة أن لا تزور فلانة حتى تزورها، أو إذا أخطأت في حقها امرأة تقول: لابد من أن تعتذر.
فعندما تتشرب المرأة فهم الدعوة وأهميتها يجعلها تتجاوز عن مثل هذه الأمور وتكون متميزة في شخصيتها.
فإننا نعلم من طبائع بعض النساء في الأوضاع الاجتماعية المعاصرة أن عندهن أموراً عارضة تافهة تحول بينهن وبين كثير من الخير لأجل قضية بسيطة، مثل أن فلانة لم تسلم عليها أو لم تبتسم لها، ويمكن أن تقاطعها مقاطعة أبدية، أما الداعية فإنها تتجاوز مثل هذه الأمور.(138/19)
الإقناع والإشباع
سابعاً: الإقناع والإشباع.
وهذه مسألة مهمة، فوجود المرأة الداعية يقنع اللواتي ينظرن إلى المرأة في ظل الإسلام نظرة خاطئة ويغير هذه النظرة عندهن، ويثبت لهن أن منهج الإسلام يشبع حاجات الإنسان، ويحقق كيان المرأة، ويمكن من خلال منهج الإسلام أن تتعلم المرأة وأن تنشط، وأن تمارس دوراً في المجتمع.
فهذا يكون له دوره الأكبر في إقناع هؤلاء النساء؛ لأن بعض النساء يغلب على أذهانهن أن الإسلام جعل المرأة مقيدة تقييداً كاملاً وليس لها أدنى مشاركة، وأنه حجر على عقلها ومنع مشاركتها برأيها ووأد طموحاتها.
فعندما تتحرك المرأة في ميدان الدعوة فيراها النسوة امرأة متعلمة متكلمة متحركة إيجابية، تسعى إلى التغيير، وتبذل وتضحي؛ يكون هناك إقناع عملي وإشباع لهؤلاء النساء، فيتبين لهؤلاء النساء أن الإسلام جاء بالمنهج الكامل الذي يخدم جميع جوانب الحياة على جميع المستويات، للرجال والنساء، للصغار والكبار، للمادة والروح، وفقاً لما ذكر الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].(138/20)
الحجة والإفحام
ثامناً: الحجة والإفحام.
هناك مقولة يشيعها من ليسوا راغبين في المنهج الإسلامي وتطبيقه، يقولون: أنتم تتحدثون عن المرأة وعن حقوقها وعن حجابها، فمن الذي جعلكم أوصياء عليها؟ لماذا تتحدثون باسمها؟ نريد أن نسمع كلمتها ورأيها.
وقد يتجاوزون الحد فيقولون: إن المرأة التي تريدونها أن تتحجب هي لا تريد ذلك، بل ترغب في التحرر والانفتاح.
ولذلك إذا وجدت المرأة الداعية كان هذا إقامة للحجة وإفحاماً لهؤلاء الخصوم، فإن الرجل عندما يدعو المرأة إلى تطبيق الآداب فذلك يختلف عما إذا كانت المرأة نفسها تطلب وتؤكد أنها مقتنعة بهذا الحجاب، وأنها متدينة لله عز وجل بذلك، وأنها ترغب في عدم الاختلاط، وأن ذلك فيه مصلحتها، فعندما تتكلم بلسانها تقطع حجة أولئك القوم وتفحمهم.
ولذلك فوجود المرأة الداعية من أبلغ أسباب إقامة الحجة على العلمانيين والمتكلمين بغير منهج الإسلام؛ لأنهم -كما أشرت- يدَّعون أننا نتحدث بلسان المرأة بغير رأيها، وبغير ما تريد وما ترغب، فلنسكت نحن ولتنطق المرأة الداعية، ولتتكلم بلسانها ولسان بنات جنسها، ولتجعل هذا الكلام والمطالبة بتطبيق شرع الله هو الذي يجري على لسان كل امرأة مسلمة، حتى تخرس ألسن أولئك المستغربين والعلمانيين.(138/21)
القوة والانتشار
تاسعاً: القوة والانتشار.
إن الفساد الذي سرى في مجتمعات المسلمين فساد عريض كبير، وتراكم عبر سنوات طويلة، فإذا أردنا تغييره فلابد من أن يكون التغيير قوياً، ولابد من أن يكون منتشراً، فاقتصار هذا التغيير على أن يكون من مهمة الرجل وبدعوته فقط يجعل قوة التغيير وانتشاره محدودة، لكن عندما تشترك المرأة ويكون هناك الرجل الداعية والمرأة الداعية يعطي ذلك للتغيير قوة ومدىً في الانتشار أوسع، فإن الرجل لا يستطيع أن يتعامل في كثير من الأوقات مع الطفولة في مراحلها الأولى، بينما المرأة تستطيع، والرجل لا يستطيع أن يشبع الحاجات الدعوية والتعليمية والتوجيهية للمرأة؛ لأن لسانه واختلاطه بها لا يمكن أن يكون مثل لسان المرأة واختلاطها ببنات جنسها، ولأنه توجد صور من الانحراف بين النساء لا يمكن أن يعرفها الرجل، ولا أن يدرك غورها وتأثيرها وانتشارها وتغلغلها بين النساء كما تدرك ذلك المرأة، فإذا أردنا قوة في التغيير وانتشاره ومواجهته لذلك الانحراف العظيم الذي تراكم عبر السنين فلندرك أن من مصلحة المجتمع أن تكون المرأة مشاركة فيه بالدعوة إلى الله عز وجل بين بنات جنسها.(138/22)
الإبداع والإصلاح
عاشراً: الإبداع والإصلاح.
فهناك -من خلال الحركات التحررية النسائية التي جاءت في أوائل هذا القرن، والاتحادات النسائية في كثير من البلاد العربية- ظن هناك وتوهم أن القدرات والإبداعات والأقلام السيالة والألسن الفصيحة ليست إلا عند هؤلاء النساء من غير الملتزمات من متبرجات أو متحللات أو منحرفات في فكرهن، ولذلك انظر اليوم لترى يميناً وشمالاً، فربما لا تجد من تكتب في الصحافة أو تنظم الشعر أو تشارك في بعض الميادين إلا من غير الملتزمات بدين الله.
فوجود المرأة الداعية وظهور إمكاناتها يدل على أن هناك إبداعاً عند المرأة المسلمة، وإمكانية لتطوير فكرها وإعطائها صورة من القدرة على التخطيط والتنفيذ، والتنظيم، وإقامة المشروعات الإسلامية، وإيجاد الصور الاجتماعية الإيجابية، كل ذلك يمكن أن يوجد، فبدلاً من أن يكون في ظل غير الإسلام يمكن أن يوجد أيضاً في ظل الإسلام! فهذا إبداع يكون هدفه الإصلاح؛ لإن هناك في الطرف المقابل بعض صور الإبداع، لكنه إبداع انحرافي وليس إبداعاً إصلاحياً.
فهناك -مثلاً-: نساء أديبات شاعرات عندهن قوة في الكلمة وقوة في البيان، وربما ممن يكتبن القصص، لكنهن يجعلن ذلك موجهاً إلى الانحراف والبعد عن دين الله عز وجل، فعندما توجد المرأة المسلمة وتتبلور شخصيتها من خلال مشاركتها ستوجد الكاتبة المسلمة والشاعرة المسلمة والمخططة المسلمة والإدارية المسلمة، وهذا سيجعل هناك إبداعاً لا يتعارض مع الإسلام، بل يكون في إطاره وضمن حدوده، ويتوجه نحو الإصلاح.
وقد رأينا شاعرات مسلمات، فأين الكاتبات المسلمات؟ وأين القاصات المسلمات؟ أين ذلك الخطاب النسائي بلسان المرأة وكتابتها لبنات جنسها؟ غالب هذا الموجود في مجتمعاتنا لا يمثل وجهة الإسلام ولا يدعو إلى أهدافه وأحكامه.
فهذه بعض الفوائد والعوائد التي تعود على المرأة والمجتمع من وجود المرأة الداعية، فلا يظنن ظان أننا يمكن أن نستغني عن وجود المرأة الداعية، وإذا استغنينا فإننا سنفقد كثيراً من هذه الصور، ولن نجد من يعلم بناتنا ولا من يكون قدوة لهن، ولا من تحسن التخطيط والتدبير والقدرة على التغيير، إلى غير ذلك مما أشرت إليه سابقاً.(138/23)
صفات المرأة الداعية
الأمر الثالث: مواصفات وسمات.
أي مواصفات وسمات تتعلق بالمرأة الداعية، لتحاول المرأة التي تسير في نهج الدعوة أن تلتزم هذه المواصفات، وهذه الأمور فيها تفريعات كثيرة، لكنني أحاول أن أذكر أصولاً تجمع ما يتفرق من هذه الفروع.(138/24)
الإيمان والالتزام
أولاً: الإيمان والالتزام.
لابد من أن يكون عند المرأة الداعية إيمان صحيح لا تشوبه شوائب الابتداع ولا تنقضه بعض صور الشرك والانحراف، وأن يكون عندها إخلاص صادق ونية خالصة ابتغاء وجه الله عز وجل، وليس هناك رياء ولا سمعة ولا طلب لحظوظ الدنيا، وأن يكون عندها صدق توكل على الله، والتجاء إليه سبحانه وتعالى عندما تمر بها بعض المشكلات أو العوائق، فإن من مستلزمات الإيمان ومن صوره المشرقة صدق التوكل على الله وعظمة الثقة بالله سبحانه وتعالى.
وأن يكون لها صورة الالتزام بالأحكام الشرعية وعلى رأسها العبادة من الفرائض والنوافل والصلة الدائمة بالله سبحانه وتعالى، فلا شك في أن هذا الأمر هو الأساس، وفكر بدون هذا الالتزام، أو علم بدون هذا الالتزام، أو تحرك بدون هذا الالتزام لا يمكن أن يكون له قيمة ولا أثر؛ لأن هذا هو الأصل الذي يبنى عليه ما بعده.(138/25)
التصون والاحتشام
الأمر الثاني: التصون والاحتشام.
وقد يندرج فيما سبق، لكن تمييزه مهم جداً، فإن المرأة الداعية منظور إليها من قبل النساء، فكما أن الرجل الذي يدعو هو تحت المجهر فينظر إليه في كلامه وأفعاله كيف يكون، فإن أحسن كان لذلك أثر إيجابي، وإن أخطأ وجد أثر ذلك في انصراف الناس عنه، إذا كان ذلك حال الرجل فإن المرأة كذلك، وأعظم سمة ينبغي أن تتميز بها المرأة في ظل هذه الحملات التغريبية والصورة الانحرافية لبعض نساء المسلمين أن تكون حريصة على حجابها وتصونها واحتشامها، وأن لا تخرجها دعوتها عن حد الاحتشام، ولا تسلبها صفة الحياء، ولا تفقدها سمة الأنوثية، ولا يطغى هذا الجانب الدعوي فيجعلها تترخص في بعض هذه الأمور، بل ينبغي أن يكون هذا الأمر آكد أمر عندها وألزم واجب في حقها.(138/26)
التفقه والمؤاخاة
الأمر الثالث: التفقه والمؤاخاة.
لابد للمرأة الداعية من أن تكون على علم بشرع الله عز وجل، سيما ما يتعلق بشئون المرأة والأسرة، والأحكام المتعلقة بذلك من أحكام الحيض والنفاس والحجاب والطهارة وحقوق الزوجة على زوجها والزوج على زوجته، وأحكام الطلاق والعدة والإحداد.
فهذا لابد للمرأة الداعية من أن تحرص قدر استطاعتها على أن تحوز أكبر قدر ممكن من العلم به، لأن سؤال النساء عنه كثير، فإذا كان عندها حظ من العلم فإنها كلما سألتها سائلة وجدت عندها جواباً، فيكون ذلك أدعى إلى ارتباط النساء بها وجعلها قدوة بينهن، وشعورهن بأن عندها من العلم ما يستحق أن يلجأن بسببه إليها إذا تعلمن على يديها.
وهذا التفقه أساس يكمله الفهم والبصيرة في مقاصد الدين وكلياته، وكذلك الإدراك للواقع والوعي به، فإن هذا جانب والجانب الثاني يكمله وهو مهم.
فلابد للمرأة المسلمة من أن تحيط قدر المستطاع بأخبار المسلمين وما يحل بهم، وكذلك ما يتعلق بالمرأة المسلمة على وجه الخصوص في هذه الأحداث، وليس من المقبول أن تكون المرأة منعزلة عن واقع المجتمع وما يجري في بيئة ودول الإسلام، بل ينبغي أن تكون محيطة بذلك ولو بحده الأدنى، لتحرك النساء وليشعرن أيضاً أن عندها من التميز والمتابعة ما ليس عندهن.
ولو ركزت على جانب النساء فهو أفضل أيضاً، فعلى سبيل المثال: في محنة البوسنة والهرسك وفلسطين صور شتى، لكن يمكن أن تركز على صور العناء الذي يقع على النساء، وما وقع لهن من الاغتصاب وما جرى عليهن من الاعتداء، إلى غير ذلك من الأمور.
ولابد أيضاً من أن يكون عندها نوع من الإدراك والمعرفة بواقع المرأة في المجتمعات الغربية والأوروبية والأمريكية، حتى يمكن أن تستثمر ذلك وأن توظفه في مجال الدعوة، ولابد من أن تدرك بعض الآثار التي وقعت للمرأة المسلمة من جراء الغزو التغريبي والعلمنة التي سرت في بيئات المسلمين، وتحرص في ذلك على أن يكون عندها متابعة للدراسات والإحصاءات والأخبار التي تنشر في بعض الصحف والمجلات، فإن هذا من أهم الأمور التي إذا حصلتها قد يكون لها تأثير في صفوف النساء كبير.
وهذا أمر واسع جداً، ويمكن أن تكتسبه المرأة من خلال مطالعتها لبعض الكتب أو متابعتها لبعض الصحف، والأرقام والإحصاءات كثيراً ما تكون ذات تأثير بالغ، فإن هناك أرقاماً وإحصاءات عن الاعتداء على النساء في المجتمعات الغربية، وعن مناداتهن بالرجوع إلى البيت، وعن بعض الآثار من شيوع الفواحش ومن كثرة الاغتصاب ومن أولاد الزنا، هذا كله له أثره في ثقافتها وتفقهها ومعاصرتها لواقعها، مما يجعل لها شخصية يمكن أن تكون أكثر تأثيراً في النساء.(138/27)
التميز والاستعلاء
رابعاً: التميز والاستعلاء.
لابد أن تكون المرأة الداعية متميزة على غيرها، مستعلية على سفاسف الأمور التي تشيع بين الناس، وأعني بذلك صورة التميز في الجانب الاجتماعي على وجه الخصوص، فينبغي أن لا تكون مرتبطة بكل العادات والتقاليد التي فيها كثير من ضياع الأوقات، وبعض المخالفات أيضاً، فلا تكون منشغلة بمظهرها وزينتها، وإن كان هذا من حق المرأة، لكن هناك مبالغة بين صفوف النساء.
فالمرأة الداعية لابد لها من أن تتميز في هذا الجانب، وأن تأخذ بحد مقبول أو حد أدنى، ولا يشغلها ذلك بصورة كبرى، فتكون عندما تنظر إليها الأخريات يقلن: إن فلانة -في الحقيقة- متميزة بجديتها مستعلية على هذه الأمور زاهدة في دنياها.
فهذا بصورة أو بأخرى يعطيها قدراً من التميز.
ولابد مع التميز من القدرة على الاستيعاب، لابد من أن تبتعد عن الحساسية المفرطة التي تقع بين النساء، فإذا سمعت كلمة أو رأت موقفاً ينبغي أن يكون عندها من سعة الأفق ورحابة الصدر ما تتعالى به عن هذه الأمور، ويكون عندها قدرة على الاستيعاب، فيكون عندها الابتسامة المشرقة الدائمة، والنفس التي تتلقى المشكلات وتمتصها، فإن هذا مهم جداً، ولا تكون ذات تدقيق في الأمور التي لا داعي لها، فلابد من أن يكون عندها بعد عن حظوظ النفس، وقدوة في الكلام والمظهر، وبعد عن الغضب والانفعال والقضايا العاطفية التي تقع في بعض المواقف النسائية.(138/28)
البذل والعطاء
خامساً: البذل والعطاء.
من أهم السمات التي تتميز بها المرأة المسلمة بذلها من جهدها ووقتها ومالها في سبيل الله عز وجل نصرة للمسلمين ودعوة لبنات جنسها، فعندما تنظر النساء إلى امرأة تبرعت بحليها تكون صورتها بينهن صورة القدوة التي تحتذى، وكذلك عندما يجدن أن المرأة قد تركت بعض زينتها لتبذل ذلك الوقت للدعوة إلى الله عز وجل وعندما يجدن أنها تشارك أحياناً مشاركة عملية مع زوجها أو مع محرم لها فتنجد المسلمات وتتفقد أحوالهن في بعض الميادين، ويكون ذلك على سبيل راحتها، وعلى سبيل سعادتها الدنيوية، فإن هذا مهم جداً في شخصيتها لتكوينها النفسي والإيماني والعملي، وكذلك هو مهم في صورتها التي تجعلها قدوة بين النساء.(138/29)
الموازنة والاعتدال
سادساً: الموازنة والاعتدال.
من أهم هذه الصفات صفة الموازنة والاعتدال، فإن على المرأة حقوقاً تجاه زوجها، وتجاه أبنائها وتجاه بيتها، وتجاه دعوتها، فينبغي أن لا تفرط في جانب على حساب جانب؛ لأن ذلك سيربك حياتها كلها، وسيعطل جميع مناحي مشاركتها، فإذا اندفعت مع دعوتها وأهملت زوجها، فلاشك أنه سيطالب بحقه وسيكون محقاً في منعها أو في معارضتها في هذا المجال الذي تكون فيه، وإذا اعتنت بشأن بيتها وزوجها، وقصرت وامتنعت ولم تشارك من قريب ولا من بعيد، ولا بقليل ولا بكثير في أمر دعوة النساء وتذكيرهن وتعليمهن، وعندها الإمكانات وعندها العلم وعندها الفهم والإدراك فلا شك أنها تكون قد قصرت في ذلك.
لذلك لابد للمرأة الداعية من ترتيب الأولويات، ولابد لها من استغلال الأوقات، ولابد لها من التنظيم والتخطيط، فلا تكون المرأة الداعية عفوية، ولا عاطفية، ولا تجعل نفسها دون ترتيب، فإذا اتصلت بها امرأة لتدعوها إلى دعوة أجابت مباشرة، فينبغي أن تكون عندها أولويات وتخصيص وترتيب للأوقات، وموازنة في هذا الجانب، فهي إذا رتبت أمرها بحيث يكون عندها درس في الأسبوع، ومحاضرة في الشهر، فإذا جاءتها دعوة من غير ترتيب مسبق، ومن غير وقت كاف، فإنها ترفض هذه الدعوة ولو كانت مهمة في بعض الأحيان؛ لأنها ينبغي أن تكون عندها أولويات وتخصيص وترتيب للأوقات، وموازنة في هذا الجانب.
فإذا رتبت أمرها ثم جاءتها دعوة من غير ترتيب مسبق، ومن غير وقت كاف فإنها ترفض هذه الدعوة ولو كانت مهمة في بعض الأحيان؛ لأنها سوف تربك أولوياتها، وتخلط أوراقها، بل قد تجعلها تقصر في بعض حقوقها، وهذه مسألة قد يقع فيها تجاوز نظراً للحالة بعينها، لكن في الإطار العام لابد من هذا الترتيب؛ لأن المرأة ليست مثل الرجل يمكن أن تخرج في أي وقت، ويمكن أن تشارك في أي عمل، فلابد من أن ترتب نفسها وأن تعد برنامجها بالموازنة والاعتدال، حتى تستطيع أن تشارك وأن تؤدي الدور من دون حيف ولا تقصير.(138/30)
المعرفة والمبادرة
سابعاً: المعرفة والمبادرة.
وأعني بالمعرفة معرفة الأوضاع النسائية على وجه التفصيل والدقة، فلا ينبغي للمرأة الداعية أن تكون بعيدة غير مختلطة ولا عارفة بما يجري في مجتمعات النساء، والمصطلحات اللاتي يتداولنها، والمسميات التي يستخدمنها، والعادات التي تجري بينهن، فإن علمها بهذا من أعظم أسباب قدرتها على التوجيه والإصلاح.
ولابد من أن يكون عندها روح المبادرة، فإن الطبيعة التي تغلب على بعض النساء من الحياء أو الإحراج أو غير ذلك، قد تمنعها من أن تؤدي دورها وأن تقوم بواجبها في الدعوة، ولا يعني ذلك أن تكون مندفعة أو متهورة، لكن ينبغي أن لا يكون عندها ذلك التحسس والإحراج الذي يمنع كثيراً من النساء من العمل الدعوي والقيام بواجب الدعوة.(138/31)
التعقل والاتزان
ثامناً: التعقل والاتزان.
أعني به التفكير والتخطيط والبعد عن الاندفاع العاطفي، ومعرفة الاستعدادات والإمكانيات، فينبغي أن تعرف استعدادات النساء وإمكانياتهن، وأن تجعل لكل فئة من النساء أسلوباً معيناً وخطاباً محدداً، فالكبيرات في السن من النساء لهن خطاب وإمكانات غير ما للصغيرات من طالبات المدارس والجامعات، واللواتي سبقن إلى الصلاح لَسْن مثل غيرهن من اللواتي انحرفن أو انجرفن في بعض مجاري ومسالك الفساد.
فلذلك لابد من أن يكون عندها تعقل فيما تطرح من أمور الدعوة، ولابد من أن يكون عندها معرفة بأنه لابد من التدرج في بعض أساليب الدعوة، سيما في التنفيذ والتغيير، ولابد من أن يكون عندها تعقل في النظرة المستقبلية ودراسة للسلبيات والإيجابيات المتوقعة أثناء مسيرتها في عمل الدعوة، وهذه أمور تخضع لجوانب كثيرة تحتاج إليها المرأة المسلمة الداعية تستكمل من خلال ما سلف من الأمور.
فإذا كانت مؤمنة ملتزمة وعالمة مدركة للواقع، وكانت متميزة متابعة مستوعبة بطبيعتها النفسية والفطرية قادها ذلك إلى أن تكون متعقلة قادرة على ترتيب وتخطيط الأمور.(138/32)
التجديد والابتكار
تاسعاً: التجديد والابتكار.
فإن المرأة عندها قدرة على التجديد والابتكار والتنويع، فلتجعل هذه القدرة في الدعوة، وبدلاً من أن يصرف التجديد والابتكار في الموضة والأزياء وديكور المنزل فحسب، فليصرف في أساليب الدعوة، فمرة عبر بطاقات، ومرة عبر شريط، ومرة عبر حوار، ومرة عبر مشهد، ومرة عبر أسلوب آخر من أساليب الإهداء، فهذا التجديد والابتكار يجعل للدعوة قبولاً عند النساء، ويجعل هناك الحيوية التي لا تجعل الملل يتسرب إلى العمل الدعوي في صفوف النساء.(138/33)
ميادين ومجالات الدعوة للمرأة
رابعاً: ميادين ومجالات: وأعني بها ميادين ومجالات الدعوة للمرأة المسلمة.
فهناك مجالات كثيرة جداً، وهذه المجالات تجعل حديثنا إلى المرأة المسلمة حديث من يعتب عليها في عدم استغلالها لهذه المجالات، ومن لا يعذرها في أن تقوم بواجبها في هذه الميادين.(138/34)
المجال التعليمي
أولاً: المجال التعليمي.
تكتظ المدارس بالطالبات، وتمتلئ الجامعات بهن أيضاً، وهذه الفئة من الشابات هن أمهات المستقبل القريب، وهذا المجال التعليمي من أهم المجالات التي ينبغي أن تطرقها المرأة المسلمة الداعية، فالمُدرِّسةُ التي حباها الله عز وجل علماً وإيماناً والتزاماً لابد من أن تستشعر أن هؤلاء البنات أمانة في عنقها، وأن توجيههن وإرشادهن إلى الخير واجب لازم عليها، وأنها لابد من أن تستغل كل صورة ممكنة وكل وقت متاح للتأثير عليهن، سيما مدرسات التربية الإسلامية اللواتي يدرسن مواد الدين من توحيد وفقه وحديث وثقافة إسلامية، لابد من أن يكون هناك استغلال لهذا المجال، وأنشطة إسلامية توجه الفتيات المسلمات في مجال التعليم.
وهناك -بحمد الله عز وجل- قنوات متاحة، فهناك وحدات للتربية الإسلامية، أو مجالات لأنشطة الدعوة الإسلامية، مثلما يكون هناك جمعيات علمية وغيرها، فهناك -أيضاً- نشاط الدعوة الإسلامية في المدارس وفي الجامعات ينبغي بذل الجهد والطاقة بكل وسيلة ممكنة لاستغلاله واستثماره، فنحن نشكوا ويشكو غيرنا من وجود صور من الانحراف وتبادل الصور والرسائل وغير ذلك في مدارس الطالبات، وكذا في الجامعات، فهؤلاء سوف تنتشر هذه الممارسات الخاطئة والسيئة إلى غيرهن إن لم تقم المرأة الداعية من مدرسة أو طالبة بدورها الإيجابي في الدعوة، ويمكن أن نذكر هنا بعض الأمور: أولاً: القدوة، سيما في المُدرِّسة، فالمُدرِّسة وشخصيتها لها أثر كبير في الدعوة في هذا المجال، ونحن نعلم أن الجانب العاطفي في المرأة يجعلها إذا أعجبت تعلقت، فالطالبة التي تعجب بالمدرسة وترى فيها تميزاً في علمها وسمتاً وحرصاً من هذه المعلمة على الإرشاد والتوجيه تتعلق بها، وإذا تعلقت بها فإنها في غالب الأمر تتقبل منها وتجعلها مستودع سرها، وتجعلها المرجع لحل مشكلاتها، وتجعلها المستشار لرأيها عندما تعرض لها أية قضية تحتاج فيها إلى رأي أو إلى قرار، وهذا يجعل المدرسة قادرة على التوجيه والتربية، فلتحرص المدرسة على أن تكون قدوة وأن تكون متحببة متقربة إلى الطالبات مختلطة بهن حتى تكسب قلوبهن، وتستطيع أن تؤثر على عقولهن، وأن تغير من سلوكهن، ولا بأس في هذا الصدد أن يكون للمدرسة علاقة بأم تلك الطالبة، حتى تعرف منها بعض الأخبار، وأن تتعرف على أسرتها إذا استطاعت، ولو من خلال المحادثة الهاتفية، فإن ذلك يعمق القدرة على التأثير في هذا الجانب.
الجانب الثاني: استغلال الأنشطة والقيام بها من خلال بعض الدروس والمحاضرات وتوزيع الأشرطة والكتيبات والمشاركات الاجتماعية من خلال أمور أخرى سيأتي ذكرها، فيمكن أن تمارس في المدارس وفي الجامعات، وهذا مهم جداً، ويكفي أن نعلم أن عدد الطالبات في المدارس الثانوية أكثر من عدد الطلاب، وعلى سبيل المثال: يبلغ عدد الطالبات في المرحلة الثانوية -فقط- في مدينة جدة وحدها أكثر من ثماني عشرة ألف وخمسمائة طالبة، فانظر إلى هذا الكم لو أحسنت المدرسات أو الداعيات من غير المدرسات عبر بعض الأنشطة الرسمية من المحاضرات والندوات، لو أحسن وبذلن الجهد في التحضير والإعداد وفي المشاركة والإلقاء وفي المتابعة والتقويم، فلاشك أن هذا التأثير سيؤتي -إن شاء الله عز وجل- ثماراً جيدة وحسنة.(138/35)
المجال الدعوي
ثانياً: الميدان أو المجال الدعوي.
وأعني به مؤسسات من طبيعة عملها الدعوة، مثل قسم النساء في الإغاثة، أو قسم النساء في الندوة، أو القسم النسائي في جماعة تحفيظ القرآن، فإن هذه الأقسام من طبيعة عملها أن تقدم المحاضرات والندوات، وأن توزع الأشرطة والكتيبات، وأن تقيم الأنشطة التي تعرف بأوضاع المسلمين وما جرى لهم، والأحداث الواقعة في مواقع ومواطن شتى، هذا كله ينبغي أن تستنفذ الداعيات الجهد فيه، خاصة في مجال تحفيظ القرآن ونشره بين النساء وبذل الجهد لأن يكن مدرسات في هذه المدارس، وأن يقمن بإعداد برامج للمحاضرات والدروس العلمية، والدورات التخصصية من خلال هذه الميادين النسائية وما يلحقها من أنشطة أخرى، مثل بعض المراكز الصيفية، أو المدارس التي تعد بعض الدورات الخاصة بالنساء، والبرامج الثقافية المستمرة مثل المحاضرات الأسبوعية أو الشهرية، فهذا ميدان رحب خصب لابد من أن تبذل النساء الداعيات فيه جهداً مضاعفاً قدر المستطاع.(138/36)
المجال الاجتماعي
ثالثاً: المجال الاجتماعي.
وأعني به بعض جمعيات النفع العام، وهذا خطاب إلى المرأة المسلمة الداعية على وجه الخصوص، فلابد من أن تشارك في هذا المجال، والجمعيات النسائية يغلب عليها أنها تهتم ببعض الظواهر البسيطة وبعض المعارض الخيرية، مثل ما يسمونه (يوم الطفولة).
فينبغي للنساء المسلمات أن يشاركن في هذه الجمعيات، وأن يكون لهن دور في تقديم المنهج الإسلامي عبر الكلمة وعبر المشاركة في بعض هذه البرامج، إضافة إلى مناسبات اجتماعية كثيرة فيها صور شتى لممارسة الدعوة، مثل الأفراح، ونحن نرى اليوم -بحمد الله عز وجل- بعض الصور الإيجابية بدلاً مما كان فيما سلف، فقد كان هناك مغنية أو راقصة أو غير ذلك، وأصبح هناك اليوم كلمة من امرأة داعية وإنشاد إسلامي وبعد عن المحرمات، فهذه المشاركة -أيضاً- من أهم المشاركات؛ لأنها تتصل بقطاع عريض من النساء، وتنبههن إلى خطر تلك المخالفات الشرعية، مع التركيز وانتهاز الفرصة لبيان مزايا الأسرة المسلمة وواجباتها، إلى غير ذلك من الصور التي يمكن استغلالها.
أيضاً من المناسبات الاجتماعية العزاء، وقد يجتمع النساء في العزاء أكثر من اجتماع الرجال، وجلوسهن أكثرُ وقتاً من جلوس الرجال، ووقتهن يكون أنسب أحياناً، فاستغلال هذا من الداعيات لتذكير النساء بالموت وبالآخرة وتنبيههن إلى واجباتهن وغير ذلك أمر مهم محمود، وهو -بحمد الله عز وجل- بدأ يشكل ظاهرة في كثير من مجالس أو مجامع النساء في العزاء، فأصبحت الداعيات -بحمد الله- يبذلن جهداً في هذا لمجال.
هذا إضافة إلى صور أخرى من صور الدعوة غير المباشرة من خلال أمور اجتماعية، مثل الأسواق الخيرية أو الطبق الخيري أو المعارض الإسلامية، أو استغلال المناسبات الأسرية على مستوى العائلة كلها، فهذا -أيضاً- مجال واسع وخصب.(138/37)
المجال الإعلامي
رابعاً: المجال الإعلامي.
لابد من أن تشارك المرأة في مجال الكتابة، سيما في الصحافة الإسلامية النسائية، فإن كتابة المرأة عن موضوعات المرأة أبلغ، والنساء يقرأن ما تكتبه النساء أكثر مما يقرأن ما يكتبه الرجال، فلماذا لا تشارك المرأة في هذا المجال؟ حتى من خلال تأليف الكتب والرسائل، فإن الكتابة أيضاً وسيلة إعلامية يمكن أن توصل بها المرأة الداعية كثيراً من الأفكار والتوجيهات والإرشادات إلى قطاع عريض من النساء.
وهنا تقصير غير قليل في هذا الجانب، فنحن لا نرى الكم الكافي ولا المشاركة الفعالة من النساء الداعيات في هذا الميدان، وتركت الساحة لغيرهن، وربما اشتهر بعضهن ممن كثرت مشاركاتهن وراجت بين كثير من النساء.
وهناك ميادين شتى، فكل مجلة إسلامية فيها قسم للمرأة المسلمة، بل بعض المجلات -مثل مجلة النور السعودية- نصفها مخصص للمرأة المسلمة والطفولة وغير ذلك، والمرأة أخبر بهذا، فلماذا لا تشارك ولا تكتب ولا تجعل مشاركتها في الدعوة متنوعة عبر اللسان ومن خلال القلم، وأيضاً من خلال الصورة العملية؟!(138/38)
المجال الأسري
خامساً: المجال الأسري.
وهو من أهم المجالات، وما أخرته لأنه أقل أهمية، لكن لأنه من الأمور البدهية التي نعتبر أن ممارستها لا تحتاج إلى التنصيص عليها، فالمرأة يمكن أن تكون داعية لزوجها، وكثير من النساء الصالحات ربما كان أزواجهن من المقصرين ومن الذين يضيعون أوقاتهم في السهر واللعب ومن المقصرين في أداء العبادات، ويمكن للمرأة بأسلوبها الحسن وبطريقتها الحكيمة أن تكون داعية لزوجها.
ولاشك أن أبناءها هم أهم ميدان لدعوتها من خلال تربيتهم وتحفيظهم لكتاب الله عز وجل، وتحفيظهم للأذكار من صغرهم، وتعليمهم الآداب الإسلامية، وتحذيرهم من المخاطر المترتبة على الانحراف والبعد عن دين الله عز وجل، سيما النساء أو الفتيات أيضاً، فالمرأة عندما يكبر الأطفال ويصيرون شباناً ربما يكون دورها معهم أقل، ويكون دورها مع الفتيات أكبر، فلتعتن بهذا الجانب.
حتى المنزل يمكن أن تجعله المرأة صورة من صور الدعوة، فلماذا لا تجعل في مجلس الضيوف حاملاً توضع فيه بعض الكتيبات وبعض النشرات المطوية، فإذا جاء الرجال إلى زوجها وجدوا هذا؟! وأحياناً يكثر الانتظار في بعض المناسبات، أو يمكن أن يكون هناك مجال للمشاركات، فلماذا -أيضاً- لا تعمل في موضع ضيافة النساء بعض الآيات أو بعض اللوحات والتذكيرات؟! ولتستخدم في ذلك بعض الأساليب مثل اللوحات الحائطية، وليست مجلة حائطية، حتى لا يقال: إنها ستحول البيت إلى مدرسة! لكن هناك صور شتى يمكن أن تلفت النظر، كأن تجعل البيت ليس فيه شيء من المحظورات الشرعية مثل التماثيل أو الصور المعلقة أو غير ذلك، فهذا كله له أثر وانطباع في كون بيتها يمثل الدعوة أو يعكس صورة الدعوة على الآخرين.(138/39)
المجال العملي
أخيراً: المجال العملي الذي تمارس فيه المرأة مع النساء مشروعات عملية تنفيذية، ويمكن أن تشارك في هذا من خلال إعداد بعض البحوث والدراسات والإحصاءات للظواهر المتعلقة بالنساء كظاهرة الطلاق، فهي تنتشر وتزيد، والمرأة هي الأقدر على أن تقوم بعمل ميداني في معرفة هذه الظاهرة واستفتاء النساء فيها وإعداد الدراسات حولها، ويمكن أن تشكل مع بعض أخواتها جمعية أو مشروعاً عملياً لتشجيع الزواج المبكر، أو لمنع أسباب الطلاق، أو لغير ذلك من صور عملية أخرى.
ويمكن أن تشكل -أيضاً- أعمالاً اجتماعية خيرية فتدعو أخواتها لمشاركة في كفالة الأيتام، أو لمشاركة في طباعة الكتب ونشر الأشرطة بين النساء، أو غير ذلك من الصور العملية الإيجابية التي تتركز في الجوانب السابقة التي أشرت إليها، ولا بأس بأن نلحق بذلك الموضوعات التي يمكن أن تطرقها المرأة الداعية في أثناء دعوتها، وربما لها تعلق بما سبق، ولذلك لا أذكرها إلا على سبيل السرد فحسب، لأنها من الموضوعات التي لو أحسنت المرأة الداعية تحضيرها فيها لأمكن أن تفيد الأخريات معها إن شاء الله عز وجل.
فمن ذلك: قضايا المرأة الشخصية والاجتماعية والنفسية والتربوية، وموضوعات تربية الأبناء، وموضوعات العلاقات الزوجية، وقضية تعليم المرأة، وقضية عمل المرأة، وقصص النساء في القرآن الكريم، وقصص الأبناء في القرآن الكريم، وموضوعات إيمانية، وموضوعات المناسبات كرمضان والحج وغيره، والموضوعات التربوية، والحقائق والأرقام فيما يتعلق بالعفة، ودور المرأة في تكوين الأمة، وما يتعلق بحكم الدعوة بين النساء.
فهذه بعض الموضوعات التي يمكن أن تطرقها المرأة.(138/40)
عوائق وعقبات تعترض الداعية المسلمة
وآخر نقاط هذا الموضوع الأساسية: عوائق وعقبات تعترض طريق المرأة الداعية.
وهذه أيضاً نقطة مهمة لابد من تسليط الضوء عليها؛ لأن هذه العوائق مشتركة بين المرأة والرجال متمثلين في الأزواج والمجتمع -أيضاً- بشكل عام.(138/41)
عائق الضعف
هناك عوائق متعددة، منها ما يتعلق بالمرأة نفسها، ومن أهم هذه العوائق الضعف.
وأعني بذلك صوراً كثيرة من الضعف سأسردها سرداً دون تفصيل، فهناك ضعف في الإيمان عند بعض النساء اللواتي يرغبن في الدعوة وربما ينبعثن لها، يتمثل هذا الضعف في الركون إلى الدنيا والخوف على المصالح والوظائف، والحرج من الخروج عن المألوف.
وهناك جانب آخر وهو ضعف الثقة في النفس.
وهذا من أهم المعوقات، فإن بعض النساء عندهن قدرة وعلم، وقد تخرجن من جامعات في كليات شرعية وغير ذلك، لكنها تهضم نفسها حقها وتحتقر نفسها، وترى أنها لا يمكن أن تقوم بواجب، ولا شك أن هذا الشعور وأد لكل طاقة وإيجابية، ونحن لا نريد الاعتداء في مجال الدعوة، لكن لاشك أن البدء يكون صعباً، فلتكن المرأة مبادرة ولتعل همتها وسوف يفتح لها إن شاء الله عز وجل.
وكذلك الضعف في الشعور بالمسئولية.
فبعض الداعيات تجعل الدعوة أمراً عارضاً ولا تعطيه الأهمية الكبرى، وترى أن غيرها قد كفاها، وأن الرجال لابد من أن يوسعوا الدائرة وأن يقوموا بالواجب بشكل أكبر، وهي معفية في ذلك إلا في صور محدودة ودائرة ضيقة، وهذا أيضاً له أثره في هذا الجانب.
ومن الصور المتعلقة بالضعف ضعف الهمة.
فبعض النساء تريد أن تقوم بالدعوة، لكن دون أن تتعب ولا أن تجهد ولا أن تبذل وتضحي، وهذا لاشك أنه ضعف في الهمة، فينبغي أن تكون همتها وطموحها أعلى وأوسع.
وهناك -أيضاً- ما يتعلق بصور أخرى من الأمور الذاتية المتعلقة بعدم الحرص على التحصيل العلمي المطلوب، إضافة إلى نقطة ثالثة مهمة، وهي قلة وجود الداعيات اللواتي يمكن أن يكن قدوة ومعلمات ومربيات للداعيات، فنحن نعلم أن في صفوف الرجال من يسمون رموز الدعوة، ومن يسمون قادة العمل الإسلامي، وهناك شخصيات من العلماء العاملين والدعاة المصلحين بارزين وجهودهم مذكورة مشكورة تجعل الاقتداء بهم والتأسي بهم بين الشباب والراغبين في خدمة هذا الدين أمراً له إيجابياته وتحققه في الواقع، بينما لا نجد ذلك بين النساء بالكثرة اللازمة والموجودة، وهذا عائق من العوائق؛ لأن المرأة في غالب الأمر تحتاج إلى ممهد للطريق، فإذا وجد بين النساء من انتدبت للدعوة وبذلت جهدها وساعدتها ظروفها فإنها عندما تكون في هذا الميدان سيكون هناك وجود لعدد من النساء الداعيات المتميزات في العلم الشرعي والمعرفة المعاصرة والمخالطة والقدرة على التأثير والعقلية المنظمة، وغيرها من المواصفات التي ذكرناها، عندئذ سيكون أولئك النساء محط أنظار الملتزمات اللواتي عندهن خير في أنفسهن وصلاح في بيوتهن لكنهن لم يبدأن خطوة الانتقال من الصلاح الذاتي إلى الإصلاح للأخريات، فالحرص على وجود هذه القيادات النسائية والقدوات النسائية في ميدان الدعوة لعله يعطي ثماراً مهمة ونافعة في هذا الجانب.(138/42)
العوائق الأسرية
وقسم آخر من العوائق متعلق بالعوائق الأسرية، ويمكن أن نسلط الضوء عليها من جانبين: الجانب الأول: جانب الوالدين، فكثير من الآباء والأمهات لا ينظرون إلى المرأة النظرة الإسلامية المتكاملة الصحيحة، وبالتالي لا يحرصون على تعليمها وتوعيتها، وتربيتها وتثقفيها بحيث تكون مؤهلة لتؤسس أسرة ولتمارس دعوة، فإن بعض الآباء -إن لم نقل: كثيراً منهم- ينظرون إلى الفتيات نظرة يغلب عليها صورة الامتهان والاحتقار، أو عدم إيجاد أي فرصة لها لتشكل شخصيتها أو لتنتفع بعملها أو شيء من ذلك، وبالتالي تهمل هذه الفتاة فلا تكون حينئذ مؤهلة للالتزام والدعوة.
ونحن نرى من الآباء الصالحين من يعنى بأبنائه فيحضهم على حضور المحاضرات والمشاركة في الدروس والانخراط في الأنشطة الإسلامية، ولا نجد عنده مثل هذا الاهتمام ولا قريباً منه ببناته، وهذا يشكل عائقاً أولياً يمنع وجود الخامات التي تصلح لأن أن تكون ميداناً للعمل الدعوي، ومن ثم وجود الداعيات.(138/43)
العوائق الزوجية
وهناك عائق آخر، وهم الأزواج.
فإن الزوج له دور مهم في تيسير أمر الدعوة لزوجته، وتجيئني بعض الأسئلة ممن يشير إلى أن هذه القضية واردة بشكل كبير.
وقد سبق أن ذكرت أنه لابد للمرأة من موازنة واعتدال، وأن لا يطغى جانب على جانب، وأن لا يدفعها انشغالها بدعوتها إلى إهمال حق زوجها أو رعاية أسرتها، وفي الوقت نفسه لابد للرجل من أن يدرك دور المرأة الداعية -وقد أسلفنا تفصيلاً واسعاً فيه- وأن يدرك الأثر الإيجابي الذي يدُرُّ عليه أجراً من عند الله عز وجل وإصلاحاً لهذا المجتمع الذي في آخر الأمر تتكامل دوائره، فإن الإصلاح إذا اتسعت دوائره سيصل إلى بيتي وبيتك، وإلى أختي وأختك، وإلى والدتي ووالدتك، وزوجتي وزوجتك، والفساد إذا انتشر فسيصل إلى بيتك حتى ولو كنت من الصالحين؛ فإن بنتي التي تدرس في المدرسة أو التي تذهب إلى الجامعة أو زوجتي التي تختلط بالنساء إذا توسعت دوائر الفساد فإنه سيلحقها لعدم وجود الدعوة بين صفوف النساء، أفلا يكون عند الرجل المسلم توجه إلى أن ينفع أخواته ومجتمعه المسلم من خلال إتاحة الفرصة لزوجته لأن تمارس بعض صور الدعوة ما دامت مؤهلة لذلك؟! ولذلك قد نجد بعض النساء يطالبن بأن يكون هناك دروس للنساء في المساجد، أي: تقوم بها النساء.
فالدروس للنساء من الرجال موجودة، ولكن فائدتها قد لا تكون كاملة كما لو كانت المرأة هي التي ستدرس النساء.
فنريد أن يكون هناك دروس في تجمعات النساء في العزاء أو في الأفراح، ونريد أن يكون هناك اجتماعات عائلية في البيوت، وأن تلقى فيها بعض الدروس والمحاضرات والمواعظ والتذكير، فمن أين ستأتي هذه المرأة التي ستقوم بهذا الدور؟ إنها ابنة لأب، أو زوجة لزوج، أو أخت لأخ، فإذا لم يكن هذا الرجل مدركاً لمهمتها وأنه يشاركها في هذا الأجر، ويكون عند الناس تقدير لدور هذه المرأة وما حصل من صلاح على يديها وما وجد من خير بجهودها فكيف يمكن أن تمارس هذا الدور؟ إذاً لابد من أن ندرك أن هناك عقبات من خلال الزوج على وجه الخصوص، فمن هذه العقبات: أولاً: قصور فهم الزوج وعدم وضوح رؤيته لشخصية المرأة ودورها، أو عدم إدراكه لأهمية الدعوة بالنسبة للمرأة، وهذا لا شك أنه يحول دون أية ممارسة دعوية، وأكرر: نحن نريد لزوجاتنا طبيبات ولا نريد أن يكشف عليهن الأطباء، ونريد لبناتنا في المدارس وفي الجامعات مدرسات ولا نريد أن يدرسهن الرجال، ولا نريد أن نقدم أو أن نشارك بجزء! فكيف يتم لنا ما نريد؟! فلو شارك هذا بجزء من خلال مشاركة زوجته وهذا بجزء، فستكتمل الدائرة.
ولا يستطيع حمل الأعباء عدد محدود من النساء، فإنه إذا منع هذا زوجته ومنع هذا زوجته فلن يكون هناك إلا قلة من النساء، وسيكون العبء عليهن كبيراً، ولو أردن أن يقمن بهذا العبء فسيكون ذلك على حساب بيوتهن وأزواجهن.
حتى أنظمة التعليم والطب الآن لو نظرنا فيها لوجدنا أنه يمكن للمرأة أن تدرس في المدارس فترة معينة من الزمن، حتى إذا شغلت بأبنائها تركت هذا المجال وجاءت غيرها، فإذا سمح الرجل في ذلك الوقت فإنه يكون قد بذل وضحى، ثم يأتي غيره ويشارك، وهكذا، أما هذه الصورة فيمكن أن تكون معيقة لهذا الجانب.
ثانياً: عدم التعاون مع المرأة.
فهو قد يسمح لها لكنه عملياً لا يحقق الصورة التنفيذية، فيقول: لا مانع من أن تعطي درساً.
لكنه لا يوصلها بسيارته، أو لا يقوم بمشاركة إيجابية في بعض الأحوال، وهو أن يأخذ الأبناء في ذلك الوقت إلى نزهة -مثلاً- أو يعللهم بأمر ما في تلك الفترة القصيرة، فالنساء ليس عندهن مشاركات دعوية طويلة المدى، إنما هو درس في حدود ساعة أو ساعة ونصف ثم ترجع إلى بيتها، ولذلك فإن المحدودية هنا من قبل المرأة ينبغي أن يقابلها تعاون من قبل الزوج.
ونجد أن بعض الأزواج لا يقدر الظروف التي تكون للمرأة، فهي إذا شاركت وسمح لها بالمشاركة لا شك أن ذلك يتعبها، وقد يجعلها تقصر بعض التقصير في أمور يحتملها الزوج إن كان مدركاً، وإن كان راغباً فيما يصلح المجتمع وفيما يعود بالأجر عليه وعلى زوجته، فلو كان هناك تقصير في الأمور العادية قد يقع أحياناً من المرأة غير الداعية -كتقصير في الطبخ أو في الكنس- فينبغي له أن يتجاوز عن مثل هذه الأمور في سبيل ما قد احتملته المرأة في هذا الميدان من ميادين الدعوة والقيام بها.
وينبغي أن لا يكون مطالباً بكل الحقوق؛ لأن المرأة لو طالبت بكل الحقوق فكذلك سيكون هناك تقصير، ألسنا نشكوا من أن الرجال أو الشباب الدعاة يخرجون من بزوغ الفجر الأول أو مع أول انبثاق نوره ولا يعودون حتى ينتصف الليل، فأين حق الزوجة؟ وأين حق الأبناء؟ فالمرأة تغتفر ذلك؛ لأنها تعلم أن زوجها يقوم بمهمة ورسالة، فليكن من الزوج -أيضاً- نوع من هذا التعاون، فلا يطلب أن تكون زوجته قائمة بتمام الزينة، ويريدها أن تكون دائماً في أبهى حلة وأن تتابع كل جديد من الأزياء.
نعم إنَّ التزين مطلوب منها، لكنه إذا أراد أن تكون داعية فكيف يسوغ له أن يلفت نظرها عن أمر الدعوة إلى أمر الزينة والموضة كما قد يحصل أحياناً؟! أيضاً هناك أمور أخرى بالنسبة للمجتمع، فقد يُنظر أحياناً إلى المرأة التي تقوم بواجب الدعوة وتذهب إلى درس هنا، وإلى محاضرة هناك، وتشارك في برنامج هنا وبرنامج هناك -ينظر إليها أنها امرأة متفلتة متسيبة، وهذه النظرة غير صحيحة، سيما إذا التزمت المرأة بالضوابط التي أشرنا إليها من مراعاة حق زوجها وأبنائها، ومشاركتها المعدة مسبقاً حتى لا تحيف على شيء من واجباتها، أقول: هذه النظرة تعود علينا بالسلبية، فنحن نريد -كما قلنا- أن يكون في صفوف البنات في المدارس دعوة حتى يحفظن من التيار الجارف الذي يفسدهن ويغريهن بكثير من الإثارات، فمن ستقوم بهذه المهمة إلا المرأة الداعية، فإذا نظرنا إلى المرأة التي تكون مدرسة ثم تلقي محاضرة في مدرسة ومحاضرة في مدرسة من خلال برامج التوعية، إذا نظرنا إليها نظرة ازدراء فمن سيقوم بهذه المهمة بين فتياتنا وبناتنا؟! وهناك عوائق مادية تقع بالنسبة للمرأة، والحق أن التفهم والإدراك لطبيعة المرأة وموقعها في التصور والمنهج الإسلامي، والنظر إلى صورتها الحقيقية في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم يجعلنا نعرف أهمية الدعوة النسائية وما تعود به من منفعة للمجتمع وننظر إليها النظرة التي ستشكل صورة التعاون الإيجابي.(138/44)
واجبات ومحاذير
تبقى هناك أمور أخرى هي واجبات ينبغي أن ننتبه لها، ومحاذير ينبغي أن نتوقى منها.
فمن الواجبات: أن يكون هناك عناية من العلماء والدعاة بشئون النساء، وأن يخصصوا من أوقاتهم دروساً ومحاضرات للنساء كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما خصص لهن يوماً يسألنه ويعلمهن أمر دينهن، وينبغي أن يوجد اهتمام -أيضاً- بالكتابة والتأليف في شئون المرأة المسلمة، ينبغي أن يكون هناك اهتمام في بإيجاد المحاضن والمؤسسات التي يمكن للمرأة أن تمارس من خلالها أنشطة إسلامية تربوية حتى تتهيأ هذه الجوانب، بدءاً من الصغار والفتيات في أوائل السن، ثم مروراً بالشابات، وبعد ذلك النساء المتزوجات، فإن لكل مرحلة متطلبات.
وكذلك هناك واجبات أخرى فيها قصور شديد، بل فيها معارضة أكيدة لهذا التيار، وهي الصور التي تمارسها كثير من وسائل الإعلام، فنحن نرى المجلات وهي تعنى بالموضات وتجعل المشكلات متعلقة بهذا الجانب، وتبرز شخصيات الفنانات اللاتي لهن سمعة سيئة في مجال الانحراف، ولا تمارس دوراً في المحافظة على المجتمع، أو في المحافظة على المرأة وفي المحافظة على عفتها وكرامتها، فهذا جانب -أيضاً- مهمل، بل هو جانب فيه تيار معاكس.
ومن المحاذير التي ينبغي للنساء الداعيات أن ينتبهن لها ما يتعلق بقضية مهمة، وهي التعلق العاطفي الزائد عن الحد بين المرأة الداعية ومن تدعوهن، سيما الطالبات في سن الشباب، فإن هناك علاقات قوية وطيدة تجعل الأمر فيه مضيعة للوقت، فلابد في كل يوم من أن تتصل بها، وإذا غابت عنها يوماً كتبت لها تلك الرسالة التي تشكو فيها أنها هجرتها! وغير ذلك من الأمور والعواطف الزائدة عن الحد.
فهذه صورة أرى أنها موجودة، وهي سلبية من السلبيات ينبغي للداعيات أن ينتبهن لها.
وهناك صورة أخرى من المحاذير التي ينبغي على الداعيات الالتفات إليها، وهي عدم قصر حديثهن على أمور معينة في حياة المرأة مثل الحجاب والصيانة والعفة، بل ينبغي أن يذكرن هذه الأمور ويركزن عليها، وأن يذكرن أموراً أخرى مما سبقت الإشارة إليه، سيما في مجال مشاركة الحياة العامة وقضايا الأسرة والمجتمع.
وأمر ثالث أختم به الحديث من هذه المحاذير، وهو التوتر بين النساء الداعيات، عندما يختلف بعضهن مع بعض في أسلوب طرح أو عرض الموضوعات الدعوية، بل ينبغي التعاون والتكامل في هذا الأمر.
والله أسأل أن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(138/45)
تفاعل دائم لا تعاطف مؤقت
ما حدث للمسلمين من مآسٍ وأحداث مؤلمة لا يمكن لمسلم أن ينساه ما دام في صدره قلب ينبض، وبين جوانبه نفس تتحرك، وفي رأسه عقل يدرك، وإن العداء اليهودي للمسلمين والحقد المستمر على الإسلام ما زال قائماً ومتأججاً في صدورهم، وما حصل للمسلمين من مآس فأغلبها بتدبيرهم وكيدهم ومكرهم، وما حصل ويحصل في فلسطين والبقاع المقدسة هناك خير شاهد على عداوتهم وحقدهم الدفين على أبناء الأمة المحمدية، فهل يمكن أن ننسى هذا العداء العقدي على مر العصور؟! تلك إذاً كرة خاسرة.(139/1)
الصراع مع اليهود على بيت المقدس صراع ديني متأصل
الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، وعظم عطاؤه، وعم نواله.
له الحمد قدّر الأقدار، وكتب الآجال، لا يخلف وعده، ولا يهزم جنده، ولا يعز أعداؤه، ولا يذل أولياؤه، له الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه.
له الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ما دامت السماوات والأرض، حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ويكافئ فضله وإنعامه، ويقينا سخطه وعذابه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، المبعوث رحمة للعالمين، المرسل إلى الناس كافة أجمعين.
أشهد أنه عليه الصلاة والسلام، قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمّة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإننا سنتحدث عن أرض الإسراء لنبقى على صلة وطيدة مستمرة، فإن القضية ليست أمراً عابراً أو حدثاً طارئاً أو جريمة بشعة يمكن أن نسمع بعدها ما نسمع من الملهيات التي تعود بنا إلى ما كنا عليه، بل إلى ما وراءه، حيث يكون هدوء نسبي، وانسحاب جزئي، وحل سياسي، ودعم مادي، وتطوى الصفحة، وتعود الغفلة، وتنطفئ الجمرة، وكأن شيئاً لم يكن.
وهذه صورة قد وقعت لها مثيلات في أمتنا الإسلامية، اللاتي ربما كان كثير من أصداء تحركها رد فعل وقتي، وتحرك شعور عاطفي، ثم ينتهي الأمر إلى قطيعة ونسيان، وبعد أن يحصل ما يحصل مما يقال: إنه تهدئة الأوضاع أو تسوية القضايا، كأن ذلك سوف يزيل كل الآثار الواقعية المادية فضلاً عن الآثار المعنوية الإيمانية.
ألسنا نعرف حجم المآسي التي وقعت في هذه الكارثة الأخيرة؟! أليست هي امتداداً لعقود متطاولة من الزمان زادت على الخمسين عاماً؟! إنه حدث يهز عقلاء الناس، ويدمع عيونهم، ويدمي قلوبهم، ثم يأتي بعد ذلك من يلطف بكلمات عابرة، وأمور ليست مما يقدم أو يؤخر، فإذا بنا ننسى الأشلاء الممزقة، والجثث المحترقة، والبيوت المتهدمة، والمدن المدمرة، والأسر المشردة، والطفولة المروعة، والحياة المتوقفة، بل ننسى ما هو أعظم من ذلك، ننسى الحرمات المنتهكة، والمقدسات المدنسة، والدين الذي يهان، والأمة التي تذل، وكل معاني العجز والضعف التي لا يمكن أن يقبل بها حر أبداً.
هل يمكن لهذه الجروح الغائرة أن تندمل؟! هل يمكن لتلك الدماء النازفة أن تسكن وأن تتوقف؟! إنه لا يكون ذلك إلا إذا ماتت النفوس وقتلت معاني الحياة في القلوب، وأشبعت العقول ضلالاً وزيغاً وانحرافاً.
أما من كان في صدره قلب ينبض، وبين جوانحه نفس تتحرك، وفي رأسه عقل يدرك فإنه لا يمكن بحال أن ينسى أو أن يغير أو أن يعود إلى ما كان؛ لأن قضيتنا مختلفة اختلافاً كاملاً، فهي قضية لا تنتهي بمثل هذه الألاعيب والأكاذيب الصهيونية الصليبية الإجرامية.
إننا نعرف أصولاً ثابتة تجعل هذا الصراع دائماً وقوياً وفاجراً وإجرامياً إلى أقصى حد، إنهم اليهود أصحاب الفساد والانحراف العقدي، الذين لم تسلم منهم ذات الإله سبحانه وتعالى، ولم تسلم منهم أرواح ودماء رسل الله صلى الله عليهم وسلم، ولم تسلم منهم البشرية في قرونها وعصورها المتعاقبة، إنهم أصحاب الحقد النفسي الذي رأينا صوره متجسدة في أمور وتصرفات ليس لها ما يفسرها إلا التشوه النفسي والانحراف الإنساني الذي ينشأ في تلك النفوس المنحرفة عن منهج الله عز وجل.
وهناك إجرام عسكري وحلم توراتي متأصل في عروقهم وفي قلوبهم وفي أفكارهم، إنه هدم الأقصى وقيام الهيكل، إن إسرائيل الكبرى لا تنتهي بهذه الألاعيب والأكاذيب التي يضحك بها على كثير من المسلمين، فتنطلي عليهم الحيل، وينسون ثوابت القرآن، وينسون قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، وينسون قوله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة:33]، وينسون: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة:64]، بل وينسون كل ما جاء في القرآن، وينسون الشريط الأسود الكالح الذي كان لليهود مع خير خلق الله صلى الله عليه وسلم.
وعبر تاريخ أمتنا كله لا تنسخ الأحداث، ولا يمكن قطعاً أن تنسخ الآيات، ولا يمكن بحال أن يلغى من السيرة وأحداثها شيء، شاء من شاء وأبى من أبى، غيّر في المناهج من غيّر وأثبت من أثبت، قال في الإعلام من قال وصمت من صمت، فإن حقائق القرآن ثابتة ثبوت الجبال إلى قيام الساعة، وإن حقائق الإيمان التي في قلوب المؤمنين لا تنتزع منهم إلا يوم تنتزع أرواحهم، ويخرج آخر نفس من أنفاسهم، إن كانوا مؤمنين حقاً وإن كانوا مسلمين صدقاً.(139/2)
ضرورة التفاعل الدائم مع مآسي المسلمين وعدم نسيانها
وقفتنا هنا نقفها لئلا نكرر المآسي السابقة، فإن لنا فيها عبراً، ولعلي أقف وقفة سريعة لأذكر بها، فهل ما زلنا نذكر البوسنة والهرسك؟! قد نسخت من عقولنا، ومُسحت من واقعنا، وطويت صفحتها وكأن قضيتها انتهت؟! فهل انتهت فعلاً؟! وأين هي كوسوفا؟! وهل ما زلنا نذكر أحداثها ونستعيد فظائعها؟! وهل انتهت آثارها واندملت جراحها؟! ما حال الثكالى اللائي فقدن أزواجهن؟ ما حال الأيتام الذين فقدوا أهلهم؟ ما حال المعاقين؟! ما حال الذين تشوهت أجسادهم؟! ما حال أوضاعهم المادية؟! ما حال المدارس التي دمرت والمساجد التي محيت؟! ما حال أوضاع إخواننا الإسلامية والإيمانية؟! أليس يدمي قلوبنا أن نعرف أن بعض تلك البقاع أصبحت اليوم مرتعاً للغرب المسيحي يصول فيها ويجول ويجعل بعض بلادها الأولى في قائمة تصدير البغايا؟! لقد بكينا لأجلها كثيراً، وأنفقنا في سبيلها مالاً وفيراً، ثم سكنوها فسكنا، وسكتوا عنها فسكتنا، وأزالوا صورها من الإعلام فنسينا.
إن ردود الأفعال لا تكفي، إن اليقظة اللازمة في حياة الأمة ينبغي أن تكون يقظة دائمة، وحركة دائبة، وتصوراً واضحاً، ومشاعر مستمرة متأججة، إن قضايا أمتنا أعظم من أن نتكلم عليها جميعاً ثم نجففها ونمسحها، وهي أكبر وأضخم في ميزان الحق والإيمان والإسلام من أن ننفق لأجلها دريهمات ثم نمسك، إن إيماننا وإسلامنا هو المستهدف، إن تاريخنا وأمتنا هما المهاجمان، إن وجودنا هو الذي يراد له أن يمحى إما باجتثاثه وإما بتمييعه ومسخه كما فعل بتلك الديار والبلاد.
كم هي الجرائم الفظيعة التي ظن كثيرون أنه لا يمكن أن تبقى! وشراذم اليهود وما وقع لهم أقل بكثير مما وقع للمسلمين في الاتحاد السوفيتي الشيوعي الاشتراكي أول ما بدأ وقام.
بضعة يهود -مع أكاذيب وتدليس- يُذكر أنهم قتلوا على يد النازية الألمانية، ولا تزال ذكرى حادثتهم وقضيتهم ومجزرتهم -إن صحت- تملأ سمع الزمان كله، وتقام لها المحافل والمشاهد، وتركع لأجلها الدول، وتدفع الأموال، وتصبح راية مرفوعة يهدد كل من يشكك فيها أو يعترض عليها أو يستهين بها، وهل دماؤهم أعز من دماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ وهل هم أشرف وأبر وأطهر من أولئك الأبرار في أرض فلسطين؟ وأولئك الأحرار المجاهدين في الشيشان، وأولئك الأبرياء المجاهدين الذين قُتلوا قتل الخراف وذُبحوا ذبح النعاج في البوسنة والهرسك وكوسوفا؟!(139/3)
فتح عمر بن الخطاب القدس وحررها صلاح الدين ولابد من السير على دربهم لتحريرها
كم نحن في حاجة إلى أن نكون صادقين مع أنفسنا، كفانا كذبا ً على أنفسنا، كفانا ضحكاً على واقعنا، كفانا تخديراً لأنفسنا وإماتة لقلوبنا وتضليلاً لعقولنا، قد تكون الكلمات قاسية، لكنها هي اللازمة لتوقظنا، لكنها هي اللازمة لنعرف الحقيقة وندرك واقعنا، ولئن كانت تلك القضايا كلها مهمة وعظيمة فإن أكثرها أهمية وأعظمها عظمة وأعمقها تجذراً في صلتها بالدين وكيان الأمة وحضارتها وتاريخها قضية فلسطين (أرض الإسراء مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الفاتح فيها عمر، والمحرر لها صلاح، وتاريخ أمتنا يمر عبرها وخلالها منذ تلك الرحلة العظيمة التكريمية لرسولنا صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي أن يكون حالنا مع غيرها -وإن كان مؤسفاً مؤلماً- لا ينبغي بحال أن يكرر معها ولا أن يستعاد فيها.
إنه لا بد من أن نعلن لأنفسنا أنه لا وقوف بعد الحركة، ولا فتور بعد النشاط، ولا انقطاع بعد الصلة، ولا غموض ولا ركون بعد الحديث والغضب والانتصار لدين الله عز وجل، فلنبق الجذوة مشتعلة في القلوب، والقضية حية في النفوس، ولا ننس ذكرها على الألسنة، ولا نقطع عنها الإعانة، فإن كل قضية لها جذور تدوم أعواماً وأعواماً وجراحها لا تندمل.
فإن فيهم أيتاماً ماذا يصنعون؟ وثكالى ماذا يصنعن؟ وأحوال من التغيير العظيم الذي يدمر بنيان تلك المجتمعات ويريد أن ينال من إيمان وعزة إخواننا، فلئن نسيناهم فيوشك أن يغتال إيمانهم، وأن يصاد صمودهم بالتصدع، وإن كنا نرى أنهم أعظم منا صبراً وأكثر شموخاً وثباتاً وإيماناً وصدقاً، ونحن نحتاج إلى أن نستمد منهم قوة الإيمان وعزة الإسلام وشموخ المسلمين وشجاعة المؤمنين، ولكننا أيضاً نحتاج إلى أن نذكر أنفسنا بذلك.
ولكي تبقى القضية حية فلابد من أن نرجعها إلى أصولها، ليس إلى الأحداث العارضة، ولا إلى الأمور التي تأتي وتنتهي وتنقضي، إنها أولاً قضية عقيدة ودين.
قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1]، فهل نسخت هذه الآية؟ هل ستنتهي تلاوتها من المحاريب؟! وكلما مرت على مسلم يقرأها ألا يذكر أين مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم؟! ألا يتذكر بغي اليهود؟! ألا يعرف أنه وغيره من أمة الإسلام مقصرون -وربما آثمون- ومؤاخذون إن لم يكن لهم جهد دائم وصلة مستمرة بحسب حالهم وإمكانياتهم؟! ألسنا نعرف حديث أبي ذر -وهو صحيح-: (قلت: يا رسول الله! أي مسجد بني أولاً؟ قال: المسجد الحرام.
قلت: ثم أي؟ قال: بيت المقدس.
قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً)؟ أليس هذا دليلاً على هذه الصلة العظيمة؟! نحن -أمة الإسلام- الذين أنشأنا النور والعدل والخير والبر والإحسان في تلك البقاع، ونحن أولى بها ديناً وعقيدة، وليس حقاً تاريخياً، ولا قانوناً دولياً، وليس تفاوضاً سياسياً، إنه ديننا، إنه قرآننا، إنها سنة نبينا، إنه تاريخ أمتنا، إنها قضية أعظم من أن تختزل في تلك الحركات أو تلك المداولات أو تلك الأوراق التي يوقع عليها هنا أوهناك، إنها أعظم من ذلك كله، ولكي تستمر لا بد من أن نعرف -أيضاً- أنها تاريخ مجدنا وفخارنا وعزنا.
يوم جاء عمر رضي الله عنه يعبر عن عزة الإسلام، يوم كان الإيمان حياً في القلوب، يوم حاصرها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وبُهت القوم وأسقط في أيديهم أرادوا أن يروا من هو وراء هذه العظمة، فأبوا أن يسلموا مفاتيحها إلا إلى الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجاء عمر، ولم يأت في المواكب الفاخرة، ولم يأت بالجيوش المدجّجة، بل جاء ومعه غلام من غلمانه وهو يسير معه على دابة ليس فيها شيء من الزينة ولا سرج ولا شيء، ويخوض الماء رضي الله عنه وأرضاه، فيخرج ويسير على قدمه، ويلقاه أبو عبيدة والمسلمون وهو بهذه الحالة المتواضعة، لم يكن يحتاج إلى شيء يعظمه؛ لأنه عظيم في نفسه، ولم يحتج إلى جمع يكثره؛ لأنه كثير بنفسه وأصالته وإيمانه، فماذا صنع عمر؟ قال له أبو عبيدة: إن القوم كذا وكذا، فلو لبست واتخذنا لك بردوناً ونحو ذلك.
يريد أن يشاكل الأوضاع القائمة، ويواكب تلك المظاهر التي كانت عند القوم.
فضرب عمر بيده على صدره ثم قال وهو يبين مظهر العظمة رضي الله عنه: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومتى ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.
لقد جاء النصارى أذلاء إلى الفاروق عمر، وسلموه المفتاح، فدخل ونشر العدل، وأقام الملة، ثم جاء ما جاء من الأحداث العظام، وكان -ولا يزال- في تلك البقاع قبور عشرات ومئات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل نرضى أن يعيث اليهود بأرض في باطنها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشهداء الذين ضحوا بدمائهم، ومن الذين عاشوا لينشروا نور الإسلام ويرفعوا رايته.
وصلاح الدين، وما أدراك ما صلاح الدين! ونحن نعرف قصته وبؤسه وحزنه الذي لازمه، وغيرته وهمته وغضبه، ونصرته وعزيمته التي ظلت تؤرق ليله وتحرك حياته، فلم تكن حياته معركة حطين، بل كانت حياته كلها جهاداً وإصلاحاً وغيضاً وتحرقاً على بلاد المسلمين الضائعة، حتى كان قبل فتح بيت المقدس يمنع نفسه من الضحك ويقول: كيف أضحك وبيت المقدس في أيدي النصارى الصليبيين؟! فكيف بنا نضحك ونلعب وننام ونلهو وننسى رغم أننا رأينا أعظم مما رأوا؟! ولذلك نقول: لكي تبقى القضية لابد من أن نستعيد تاريخها، ولابد كذلك من أن نعرف الإجرام والبغي لدى اليهود عليهم لعائن الله، فلا ينتظر منهم خير، ولا يرجى منهم نفع أو مراعاة لحقوق دولية أو غير ذلك، كما في الحديث: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، والعاقل لا يتكرر عليه الأمر مرات ومرات، فإذا كسرت هذا القانون مرة، ووطئته مرة أخرى، ودست عليه ثالثة، وألقيته وراء ظهرك رابعة فكيف يمكن أن يقال: إنه سيأتي يوم تعظمه أو تحترمه أو تخافه أو ترهبه؟! وذلك دأبهم وديدنهم.
وأخيراً لكي نعرف القضية في حدودها الصحيحة يجب أن نعرف أنها تآمر وكيد، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51].
هل رأينا أكبر من هذا التآمر؟ هل رأينا أظهر من هذا التعاضد والتآزر؟ هل رأينا شيئاً يبقي لنا مجالاً لأن نضل في معرفة حقائق المتعاونين والمتآزرين والمتحالفين استراتيجياً كما يقولون؟! إذا عرفنا ذلك عرفنا أنه لابد من أن تبقى هذه القضية حية في قلوبنا، وأن لا ننسى منها شيئاً من الأحداث الجسيمة المؤلمة المحزنة، ولكنها قبل ذلك أساسها ديني عقدي تاريخي إجرامي تآمري يستهدف أمتنا كلها، ويطعن في خاصرتها، ويريد أن يغير كتابها ويبدل سنة نبيها صلى الله عليه وسلم ويمسخ تاريخها، فلابد من يقظة دائمة، وحياة في القلوب مستمرة، ومشاعر متأججة، ودعم متواصل.
هذا ما أردت أن أقوله، وهذه ليست مجرد أحداث عبرت، فإن الأمر أكبر من ذلك.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلق قلوبنا بمرضاته، وأن يسلك بنا سبيل الصالحين، وأن يكتبنا في جنده المجاهدين، وأن يسخرنا لنصرة هذا الدين، وأن يجعلنا من الباذلين في مواجهة المعتدين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(139/4)
أهمية التعاون والدعم والنصرة بين المسلمين(139/5)
الدعم بالدعاء والمال
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن قضية صراعنا مع اليهود قضية ليست مقتصرة على أرض فلسطين العزيزة، ولا على بيت المقدس العزيز على نفوسنا، بل هي أعظم من ذلك وأوسع، وهي أكثر تنوعاً وأعظم مكراً وأخفى كيداً مما يتصوره كثير منا، ولذلك ينبغي لنا أن نعرف أننا في معركة دائمة، وفي مواجهة مستمرة، فلا ينبغي أن تغمض أعيننا، ولا أن تسكن أنفسنا، ولا أن تتوقف حركتنا، ولا أن تخرس ألسنتنا، ولا أن تنكس رايتنا بحال من الأحوال.
أين الدعاء المستمر؟! لماذا لا ندعوا إلا إذا عظمت المصيبة؟! أفليست المصيبة بانتهاك الحرمات واستيلاء اليهود على بيت المقدس مصيبة ينبغي أن يكثر لها دعاؤنا وهمنا وغمنا ولو لم يقتل مسلم واحد؟! والعون هو الذي نريد أن يبقى مستمراً؛ لأن المآسي عظيمة، ولأن الجهاد والتثبيت يحتاج إلى مواصلة، ولأن اليهود ليسوا أصحاب موجة واحدة.
فقد رأينا وعرفنا كل الجرائم، وهذه ما هي إلا قطرة من بحر، فلابد من أن ندرك ذلك، فإن المجرم يبقى مجرماً لا يتغير ما دام سلاحه في يده، وما دام إمداده معه، وما دام اعتقاده الفاسد يسيطر على عقله وفكره، وعندما يرى الضعيف أمامه يغريه ذلك بمزيد من العدوان، فلا بد من أن يبقى عوننا مستمراً، كالدعم المادي، فاقتطع من مالك، ومن قوت يومك, ومن راتب شهرك شيئاً دائماً لا ينقطع أبداً، واجعل ذلك عزيمة ماضية وجهاداً مستمراً، فكيف نرضى أن نتوقف عن مثل هذا؟! اجعل القضية شعوراً نفسياً لا يفارقك، اجعله حاجزاً نفسياً يجذّر في قلبك بغض اليهود أعداء الله عز وجل وأعداء الرسل والرسالات والحضارة والإنسانية، اجعل ذلك أمراً لا يمكن أن يتغير في نفسك على المجرمين الحاقدين المغتصبين، واجعل في نفسك عزة الإيمان، وأنه وإن فقدنا بعض أسباب القوة المادية وإن كبلتنا بعض الظروف المحيطة فإن في قلوبنا دماء تنبض، وعروقاً تفيض بالعزة لا يمكن أن تسكن ولا أن تسكت.
إذا لم تزاحم لنيل الحياة أصبت فناءك في المزدحم ينبغي أن ندرك أنه يوم تفتر نفوسنا ونرضى بذلّنا، ويوم نقول: ما عسى أن نفعل يوم ذاك تكون هزيمتنا قد وصلت إلى مقاتلنا، فلنكبر على أنفسنا أربعاً وإن كنا نمشي على الأرض ونتحدث إلى الناس.(139/6)
الدعم بتربية الأبناء على نصرة إخوانهم المسلمين
ومن الدعم التربية الأسرية لأولادنا، فلنجعل هذه المعاني تربية نغذي بها أبناءنا ونعلمهم بها، ولنجعل بيوتنا معرضاً لهذه القضية، ومحفلاً لتناولها من كل الجهات، ومحراباً نتذكر بها معاني الجهاد، وثكنة نهيء فيها ظروف الاستعداد.
فلماذا أصبحنا نجعل بيوتنا للراحة والدعة والغفلة ومشاهدة الملاهي، ولا نشرك أبناءنا في الشعور بمآسي إخوانهم الأطفال في أرض فلسطين وفي الشيشان وفي البوسنة وفي كل مكان؟! إن عبرتهم ودماءهم لن ترقأ بمجرد مرور هذه الأحداث وانقضائها؛ لأن ذلك -كما قلت- هو أكبر، ولنجعل أنفسنا إذاعات متجولة ونشرات أخبار متحركة، نتحدث عن هذا الأمر وهذه الحقائق في كل مكان وفي كل مجلس، فلنكن دعاة توعية، وإذكاء حماسة، وبيان حق، وإعلان رفض للباطل والظلم، فلنكن كذلك، ولو فعل كل منا أقل القليل من هذا الواجب لرأينا له أثراً في واقعنا وفي تغيير أحوالنا.(139/7)
الدعم بالنظر إلى الأمور على ضوء النصوص الشرعية
وقبل ذلك كله التغيير المنهجي، أن نعطي الأمور حقائقها، وأن نردها إلى مصادرها، وأن لا نقول عن المجاهد الذي يضحي بنفسه في سبيل الله: إنه منتحر يمضي إلى جهنم وساءت مصيراً.
وأن لا نغير الحقائق فنجعل من يدافع عن حقه ظالماً ومعتدياً، ومن يغتصب الحق مسالماً وموادعاً.
ينبغي أن نجعل القضية راجعة إلى المنهجية التي ليس عندنا فيها أدنى شك، ولا يمكن لأحد أن يغيرها، فإن عندنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إن بلغ بنا الأمر أن نرى الحقيقة في القرآن أو الحقيقة في السنة ثم نقبل أن نرضى بغيرها أو أن يدخل إلى عقولنا وفكرنا شيء سواها فقد نقضنا شيئاً من أصل إيماننا بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
فلا بد من أن نعرف الأسماء وأن نضعها في مواضعها، وأن نسمي الأبطال أبطالاً، وأن نصف الجبناء بالجبن، وأن نبين أن أولئك الإخوة الكرام البررة - نسأل الله عز وجل أن يتقبلهم في الشهداء - هم الذين فعلوا ما لم تفعله كل القوى مجتمعة في شرقها وغربها، مسلمة وغير مسلمة، يوم أذلّوا اليهود وأدخلوا الرعب في صفوفهم وما أوقعوه في مجتمع اليهود أعظم مما أوقعته الحروب السابقة كلها، ويكفي أن نعرف الهجرة المعاكسة عند اليهود، والبنية الاقتصادية المدمرة، والرعب الشائع، والاختلاف المحتدم.
إذا استمر هذا العون وبقيت تلك الجذوة فإنها الشرارة التي تحرق هذه الدولة الغاصبة، وما ذلك على الله بعزيز، وما قوتهم بشيء، وإنما هو محض ضعفنا وذلنا وتفرقنا وانسلاخنا من دين ربنا.(139/8)
الدعم بالسعي في إصلاح أحوال المسلمين وردهم إلى التمسك بالكتاب والسنة
لكي نبقى متصلين بهذه القضية لنصرة أمتنا علينا أن نصلح أحوالنا، ولنغير من سلوكنا، ولنبادر إلى طاعة ربنا، ولنمنع المعاصي والمنكرات في أنفسنا وفي أسرنا وفي مجتمعاتنا وفي بلادنا؛ لان هذا الصلاح هو السلاح الحقيقي الذي نتهيأ به لمواجهة عدونا، وذلك ما نحتاج إليه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على الثبات على الحق، وأن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يبرئنا من معصيته ومخالفة منهجه.
نسألك -اللهم- أن تسلك بنا سبيل الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم، اللهم سخرنا لنصرة دينك، واستعملنا في نصرة عبادك وأوليائك.
اللهم! لا تجعلنا من الذين يتأخرون عن نجدة إخوانهم، ولا عن نصرة دينهم، ولا عن تحقيق إيمانهم، ولا عن الاعتزاز بإسلامهم.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك.
اللهم! عليك باليهود الغاصبين، ومن يعينهم من النصارى الحاقدين، اللهم! عليك بهم أجمعين، زلزل الأرض تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخُلف في صفوفهم، ودمر قوتهم، واستأصل شأفتهم، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، ولا تبلغهم غاية.
اللهم! يا قوي! يا عزيز! يا منتقم! يا جبار! أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وأحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم! إنهم قد طغوا وبغوا وتجبروا وتكبروا، اللهم! إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم! ثبت إخواننا في أرض الرباط في فلسطين، اللهم! أمدّهم بالصبر واليقين، اللهم! رضِّهم بالقضاء، وصبرهم على البلاء، وآنس وحشتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وتقبل في الشهداء قتلاهم، وأحفظ أيتامهم يا رب العالمين.
اللهم! أمدهم بحولك وقوتك ونصرتك وعزتك وتأييدك يا رب العالمين، اللهم! قل المعين الناصح، وكثر العدو القاهر، اللهم! فأمدهم بحولك وقوتك يا رب العالمين.
اللهم! أفرغ في قلوبهم الصبر واليقين، وثبت أقدامهم في مواجهة المعتدين، يا قوي يا عزيز يا متين.
اللهم! إنا نسألك أن تجعل بلدنا آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، أصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
اللهم! إنا نسألك لهذه الأمة وحدة من بعد فرقة، وقوة من بعد ضعف، وعزة من بعد ذل يا رب العالمين.
اللهم! ردّنا إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، اللهم! انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، اللهم! ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، وأعل رايتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(139/9)
شهر القلوب
شهر رمضان هو شهر القرآن، شهر المغفرة والرضوان، شهر النفحات والإيمانيات، شهر المعاني الإيمانية التي لا تدرك ولا تتحقق إلا فيه، ومن هذه المعاني التي نتعلمها من هذا الشهر: الرقة والرحمة التي تحل في القلوب، والطهارة والنقاء من الدنس والأحقاد، والخوف والخشية التي تنتاب النفوس فتخلص إلى بارئها، وتتعلق بحب مولاها.(140/1)
شهر رمضان وما فيه من المعاني العظيمة المهمة
الحمد لله الرحيم الرحمن، الكريم المنان، ذي الفضل والإحسان، اختص رمضان بنزول القرآن، وجعل صيامه من أسباب الغفران، وجعل له اختصاصاً بدخول عباده إلى الجنان، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ويوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فها نحن نتفيأ ظلال الإيمان ونسائم الجنان في رحاب رمضان، ولعلنا نشعر بهذه التغيرات التي هبت على قلوبنا فأحيتها، وعلى نفوسنا فطهرتها، ولا شك أننا في حاجة إلى مزيد من التنبيه والتركيز والتذكير الذي يعظم فوائدنا وعوائدنا من هذه الفريضة العظيمة وهذا الموسم الجليل.
رمضان شهر القلوب، والإنسان فيه ثلاث قوى: قوة العقل والفكر، وقوة البدن والجسد، وقوة القلب والروح، وكل منها يحتاج إلى غذاء ورعاية وعناية، وكل زيادة في جانب منها تعد حيفاً وظلماً ونقصاً في الجوانب الأخرى، ولا أعتقد أنك تخالفني الرأي في أن حظ أجسادنا وتفكير عقولنا في أمور حياتنا استغرق نصيباً وافراً من الأوقات والجهود، وأن حظ القلوب والأرواح أقل، بل ربما كان أقل من القليل، بل ربما غاض حتى كاد أن ينوي وينتهي، فتهب علينا هذه النسائم، وتمر بنا تلك النفحات، ويكرمنا الله عز وجل بمثل هذه المواسم حتى يتم الاستدراك ويكون التوازن، فحظنا في هذا الشهر أن نجعله شهر القلوب والأرواح لا شهر الأبدان والأشباح، أن نجعله الشهر الذي يؤكد لنا ما جاء به ديننا من أن الأعظم والأكثر أهمية في حياة المؤمن إنما هو قلبه وروحه، إنما هو إخلاصه وتجرده، إنما هو قصده ونيته، ليست الأمور بظواهرها، ولا الأعمال بأشكالها، بل كما قال الحق جل وعلا: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
قال القرطبي رحمه الله: خص القلب بالذكر لأنه الذي إذا سلم سلمت الجوارح، وإذا فسد فسدت الجوارح.
وكلنا يحفظ حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) وكلنا يدرك تماماً هذا المعنى وأن القلب السليم هو الخالص من الأوصاف الذميمة، والمتحلي بالأوصاف الجميلة، وكما بين ذلك الشعبي فقال: الذي يسلم من الشرك والشك، ومحبة الشر، والإصرار على البدعة والذنوب.
ويلزم من سلامته مما ذكر اتصافه بأضدادها -وتأمل الأضداد فإنها موضع حديثنا- من الإخلاص والعلم واليقين، ومحبة الخير وتزيينه في قلبه، وأن تكون إرادته ومحبته تبعاً لمحبة الله، وأن يكون هواه تبعاً لما جاء عن الله، وصدق الله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
أفلسنا حينئذ ندرك تماماً عظمة أهمية القلب والروح، وما يتعلق بهما من الأعمال من الإخلاص والمحبة والتوكل والإنابة والرضا وغير ذلك؟! تأمل حديث أبي هريرة عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) قلوبكم محل نظر الله عز وجل، ما فيها من خير تضمرونه ونية خالصة تنطوي عليها، قلوبكم تلك التي لها آثارها، وكلنا يعلم ذلك.
قال ابن القيم رحمه الله: لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العمل واحدة وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض، ذاك قلب ذاكر يصلي وهو معلق القلب بالله، وذاك قلب غافل ساه لاه، ذاك قلب مخلص وذاك قلب مرائي، فالعمل واحد والنتيجة مختلفة، بينها وبين الأخرى كما بين المشرق والمغرب.(140/2)